محمد الأسلمي، عن رجل، عن عطاء بن قرة السلولي، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
فلم يذكر قتيبة أبا هريرة في حديثه.
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالدنيا هي هذه الدار التي دورت أرضها تدويراً بجبل قاف، وأحيط عليها بالجبل، وتلك دار أخرى، وهي آخرة، وهذه أولى، قال الله تعالى في تنزيله: {وإن لنا للآخرة والأولى}.
وسميت هذه دنيا؛ لأنها أدنى إليك، والآخرة تعقب هذه، إذا ذهبت هذه، جاءت تلك، فتلك اسمها عاقبة؛ لأنها تعقب هذه، قال الله تعالى: {والعاقبة للمتقين}.
وسميت هذه عاجلة؛ لأنها عجلت، وتلك آجلة؛ لأنها أجلت، وفي هذه الدار زينة وحياة، وفي تلك الدار زينة وحياة، فزينة هذه الدار أصلها(6/492)
من تلك الدار، ولكنها نبتت ونشأت من أرض هذه ذهبها وفضتها، وجواهرها، ومياهها، وثمارها، ورياحينها، وطيبها، وألوانها، ونعيمها، وحياة هذه في الروح المركب في هذا القالب الذي هو من اللحم والدم، والعظم والعصب، والعروق والشهوة، واللذة في هذا القالب.
واصل الشهوة من الفرج، وأصل اللذة من الذهن، وأصل القالب من التراب، والحياة مسكنها في الروح، والروح مسكنه في الدماغ، ثم هو متفشٍّ في جميع الجسد، وأصله معلق في الوتين عرق القلب مشدود هناك، وذلك العرق نياط القلب، والنفس مسكنها في البطن، وهي متفشية في جميع الجسد، وأصلها مشدود بهذا العرق، والشهوات في النفس، واللذة منها، وعملها في الذهن، فهذه الزينة والحياة التي في النفس تستعمل هذا القالب، فما كان من عمل العين، خرج إلى العين، وما كان من عمل السمع، خرج إلى السمع، وما كان من عمل المنطق، خرج إلى اللسان، وما كان من عمل اليد، خرج إلى اليد، وما كان من عمل الرجل، خرج إلى الرجل، وما كان من عمل البطن، خرج إلى البطن، وما كان من عمل الفرج، خرج إلى الفرج.
ومخرج هذه الأعمال أعمال الجوارح السبع؛ من الفرح الذي في(6/493)
القلب، ومن الزينة والحياة التي في النفس، فإذا حزن القلب، ذبلت النفس، وانطفأت نار الشهوة، وتعطلت الجوارح عن العمل، وسكنت الحركات، فإذا فرح القلب، هاجت النفس، وصارت قوية طرية، وأثارت نيران الشهوات، واستعملت الجوارح كلها؛ فإن كل نار إنما تستعمل الجارحة التي بحيالها.
فالفرح رأس مال أعمال الجوارح، والعبد مبلوٌّ بهذا الفرح، فإذا حيي القلب بالله، ففرح بشيء من زينة الدنيا تراءى بذلك النور الذي في قلبه، وتلك الحياة التي لقلبه صنع الله تعالى في تلك الزينة، وخلقه لها، ورحمته فيها، ورأفته على عبده بذلك، فقبلها من ربه، واستبشر بها، وصير ذلك الفرح لله، ونطق بالحمد لله، وأضمر على الطاعة شكراً لله، وإظهاراً لعلمه بأني أعلم أن هذا لي من الله، حتى يأخذ ذلك الفرح بمجامع قلبه، ويملأ صدره من ذلك الفرح، وينتشر سلطان ذلك الفرح من صدره في جميع جوارحه، فيذهب كسله، ويقوى عزمه، وتتجدد نيته، وتطيب نفسه.
فهذا عبد حامد لله، شاكر لله، قد صدق علمه بأنه من الله؛ بقوله بلسانه: الحمد لله، ثم يصدقه بفعل جوارحه شكراً لله تعالى، وإذا هاج الفرح بتلك(6/494)
الزينة من قلبه، وكان قلبه محجوباً عن الله تعالى، وصدره مظلماً بغيوم الهوى، ودخان الشهوات، ورين الذنوب، لم يتراء لعيني فؤاده في صدره صنع الله في تلك الزينة، ولا خلقه لها، ولا رحمته فيها، ولا رأفته عليه، فجاء الهوى بكبره، والنفس بعلوها وتجبرها، وصار الفرح للنفس، والفرح بالدنيا، ولمراءاة الأشكال والأضداد؛ ليناطح بتلك الزينة الأضداد، ويباهي بها الأشكال، فظهر الفساد من الجوارح، وخرجت السيئات من الجسد، كل سيئة من معدنها؛ من قلة الرحمة، وقلة الرأفة، وقلة المبالاة، وترك النصيحة، وظهرت الفظاظة، واليبوسة، والغلظة، والقسوة، ومدانئ الأخلاق، حتى صارت الجوارح إلى الغش والمكر والمخادعة، وإلى أفعال الحسد، وإلى سوء النيات والمقاصد، حتى خرج إلى الفرعنة والتجبر، كل على قدره، يتنعمون بنعم الله تعالى، ويتلذذون بتلك الزينة، وتلك اللذات فرحاً، وأشراً، وبطراً في هيئة أهل الكفر بالله، والجحود له.
فقد تبين الآن: أن أصل هذا الأمر كله من الفرح، فمن قدر أن يصرف هذا الفرح منه إلى الله في كل عمل، وفي كل أمر دنيا وآخرة، تنور قلبه، وإلا، فقد وقع في الوبال، فإن كان فرحه في أمر الدنيا، أشر وبطر وهلك، وإن كان في أمر الآخرة، أعجب وتكبر وصار مرائياً، فمن صرف ذلك(6/495)
إلى الله تعالى، لم يزدد لربه إلا خشوعاً وخضوعاً وحياءً، فحمده، ودعاه ذلك إلى شكره بجميع جوارحه، وذلك حفظ الجوارح السبع على أمر الله، وإقامة فرائض الله، والقيام بحقوق الله، ومن لم يقدر على ذلك، سباه فرحه، فصار سبياً من سبي النفس، وإذا نالت النفس الفرح، كانت بمنزلة رجل متغلب وجد كنزاً وأموالاً جمة، فاحتوى عليها، وفرقها فيمن اجتمع إليه من الغوغاء، حتى صاروا أعوانه وتباعه، فخرج بتلك القوة على أمير البلد، وعمد إلى الأمير فسجنه، فالأمير في الوثاق في السجن، والخارجي يدوس البلد دوساً، فإن تداركه أمير المؤمنين بمدد وجيش وكنز، فقد نصره، وإن تركه مخذولاً، فقد ذهبت الإمرة.
فهذا شأن القلب مع النفس، وقد حذر الله تعالى عباده في تنزيله في قصة قارون قوله: {لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين}.
وقال تعالى: {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاعٌ}، وقال تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون}.
فدلك على الفرح بفضله؛ ليصرفك عن الفرح بجمعه، فإن فرح الجمع هلاك الدين والقلب، وفرح الفضل والرحمة يؤديك إلى الله؛ لأن من فرح(6/496)
بشيء، أقبل عليه، وطلبه، فإذا رأى الله من عبده إقبالاً على هذه الدنيا الدنية، وعلى هذه الشهوة الرديئة، أعرض عنه، وردها عليه حتى يكون همه دنياه، ونهمته شهوات نفسه، وطلبه العلو فيها، حتى يضاد أقضيته وتدبيره، ويقطع بها عمره، خاب عن الله، وخسر الدنيا والآخرة، وإذا رأى إقباله على ربه، صنع له جميلاً، وهيأ له تدبيراً ينال به فوز العاجل والآجل، وسعادة الدارين.
1547 - أنا أحمد بن مصرف اليامي، قال: أنا محمد ابن بشر العبدي، عن جنيد بن العلاء بن أبي وهرة، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم، فما أقبل عبدٌ بقلبه إلى الله تعالى إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين تفد إليه بالود والرحمة، وكان الله بكل خيرٍ إليه أسرع)).(6/497)
قال أبو عبد الله:
فإذا نظر إلى عبد بالرحمة، وقلبه مأسور في إسار النفس، أمده من عنده، ثم إذا صار إليه المدد، تاب، وتاب الله عليه، ومن توبة الله على العبد: إقباله عليه، فإذا أقبل عليه، تلظت جمرة الإيمان في القلب، فتوردت أشجار الخيرات وأينعت، كما تتورد بساتين الدنيا وتينع أشجارها إذا ظهر الحر، فإذا وجد القلب هذه القوة، أقبل على النفس بالزجر لها بسلطان قوي حتى يقمعها؛ بمنزلة ما ضربنا له المثل بدءاً: أن هذا الخارجي إذا سمع أن جيش أمير المؤمنين قد أقبلوا، هرب من الكورة، وتخلى عنها، وخرج الأمير من السجن، وقعد في إمرته، واحتوشته الجنود، وفرق الأموال والكنوز التي جاءته من أمير المؤمنين في جنده، وقصد الخارجي يحاربه.(6/498)
فما زال الخارجي يحاربه، ويتباعد قليلاً قليلاً، والأمير خائف مع هذا الجند، لا يأمن بياته وافتراضه، فهو مشغول بالحراسة يحرس جنوده ونفسه، ويسأل أمر المؤمنين زيادة مدد، فلا يزال يمده حتى إذا أمده بغاية المدد أخذه أسيراً، أو يكون الخارجي قد نظر إلى كثرة المدد، فعلم أنه لا يقاوم أمير المؤمنين، فألقى بيديه سلماً، وأسلم، وتاب على يدي أمير المؤمنين، فعندها يأمن الأمير، ويتربع في ولايته، ويتفرغ لصلاح أمور البلد، وأمور أمير المؤمنين.
فهذه صفة التائب إذا تاب، احتاج إلى محاربة النفس ومجاهدتها في كل أمر، فلا يزال كذلك، فيزاد مدداً، وهو لا يأمنها مع ذلك المدد، فخاف أن تثب وثبةً من زوايا جوفه فتأخذه؛ لأن مكرها أعظم من أن يوصف، حتى إذا تجلى لقلبه شأن الملكوت، وأشرق في صدره أنواره، فامتلأ صدر العبد من جلال الله وعظمته، فبسلطان الجلال تستأنس النفس ويسبيها، وبالعظمة يولهها، فإما أن يأخذها بتلك القوة، فيحبسها حتى(6/499)
تموت في سجن القلب غماً، وإما أن تلقي بيديها سلماً، فتذعن للقلب، وتنقاد له، وتصير في يدي القلب كالأسير، وحتى إذا وجدت تلك اللذات التي وردت على القلب من الملكوت من تلك العطايا، اعتصمت بالقلب، وتركت لذاتها الفانية الدنيئة، فعندها وصل العبد إلى أوائل العبودة.
ثم للعبودة شأن أعظم من هذا، فوضع في هذا القالب الحياة، والحياة في الروح والنفس، وهما ريحان: إحداهما أرضية، والأخرى سماوية، ووضع في هذا القالب.
الرحمة في موضع، والرأفة في موضع، والعلم في موضع، والفهم في موضع، والحفظ في موضع، والعقل في موضع، والشهوة في موضع، واللذة في موضع، والقوة في موضع، والفرح في موضع، والحزن في موضع، والرضا في موضع، والسخط في موضع، والغضب في موضع، والحياء في موضع، والهوى في موضع، والحب في موضع، والبغض في موضع، والنور في موضع، والظلمة في موضع، والكبر في موضع، والعظمة في موضع، والفقر في موضع، والغنى في موضع، والسلطان في موضع، والعجلة في موضع، والسكينة في موضع، والحاجة في موضع، والوقار في موضع، والتؤدة في موضع، والأناة في موضع.
فهذه الأشياء لا تدرك إلا بالاسم، ولا تأخذها الحواس، ولكن(6/500)
يعرف بمعاملتهن، فتمتاز هذه الأشياء كل شيء بعمله الذي يظهر منه، فيعرف بالأسماء التي سميت بها، ووضع فيه الذهن وهو متفشٍّ في جميع الجسد، ومعدنه في الصدر، وهو أزكى شيء في الجسد، وأحده، وأدركه للأشياء.
فبالذهن يدرك عمل هذه الأشياء التي وصفنا، وماذا تعمل الحياة؟ وماذا تعمل الرأفة؟ وماذا تعمل الرحمة؟ وماذا يعمل العلم؟ وماذا يعمل الحفظ؟ وماذا تعمل القوة؟ وماذا يعمل الفرح؟
فهي كلها غائبة عن حواسك، لا تنالها بلمس يد، ولا ببصر عين، ولا بمذاقة طعم، ولا بشم أنف، ولا بسماع أذن، وأصل هذه التي فيك كلها من عند رب العالمين، فأعطاك الحياة من حياته، والرحمة من رحمته، والرأفة من رأفته، والعلم من علمه، وكل شيء من هذه الأشياء هو عنده، فالتي فيك هي كلها مخلوقة، وكل شيء من هذه الأشياء التي هي ممدوحة، والتي تليق به أبرزها صفة لنفسه، وهي أنوار:
نورٌ منها للحياة، ونورٌ منها للرحمة، ونورٌ للرأفة، ونورٌ للفرح، ونورٌ للرضا، ونورٌ للكبر، ونورٌ للعظمة، ونورٌ للمحبة، ونورٌ للسلطان، ونورٌ للغنى، ونورٌ للصبر.(6/501)
فهي كلها أنوار، كل نور صار ملكاً على حدته، ومن كل ملك منه خرج ذلك الشيء الذي ظهر في الخلق، وذلك كله خرج من ملكه الأعظم، ومن ملك الملك من باب القدرة من الوحدانية، فهو واحد فرد أحد، تفرد عن الصفات، وتوحد عنها.
فالصفات أبرزها للعباد، ليجري من تلك الأنوار إلى العباد ما يظهر على أجسادهم، وعلى دنياهم، من خلق الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، والرياح والسحاب والمياه، ما في السماء والأرض، فإنما جرى خلق هذه الأشياء المخلوقات من تلك الأنوار، ثم كشف الغطاء عن قلوب الأنبياء والأولياء والأصفياء بأنوار الصفات حتى عاينوا بعيون الأفئدة في تلك الصدور آثار صنعه في جميع الأشياء؛ في كل نملة وذرة وبعوضة وحمامة، وفيما جل من خلقه؛ من الفيلة والعقبان والأسدان والتنين، وفي كل شيء نجم من الأرض، فنبت في ألوانها وطعومها، ومقاديرها، وحرها وبردها، وهيئاتها، ومنافعها، ثم صير لتلك الأنوار التي هي الصفات أسماء بحروف مؤلفة، فيكون اسم تلك الصفة؛ لتدور الألسنة بذلك، كي(6/502)
إذا أشرقت الصفات على قلوب الأولياء والأصفياء، ودارت ألسنتهم بتلك الحروف نطقاً من تلك الصدور المشرقة فيها تلك الأنوار، حتى تخرج من ألسنتهم في الأرض غائبة عن العيون.
فإذا دخلت أبواب السماء، انتشرت أنوار دوران تلك الألسنة، فصارت كالبروق الخاطفة تأخذ سماءً سماء، فتملأ السماوات نوراً إلى العرش حتى تغمض الملائكة عيونها في صفوفها حياءً مما قالوا يوم الخصام، حيث قال تعالى: {إني جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}، وأبرزوا أفعالهم، فقالوا: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون}.
ليظهر بتلك الأنوار في السماوات العلا ما علم الله في الغيب منهم؛ ليباهي بما يخرج من ألسنتهم وأفواههم من النور الذي جرى من معدنه في ملائكته، ويريهم فضل تلك الأنوار على سائر الأنوار، ويريهم أن هذه الأنوار خرجت من قالب التراب من بين الشهوات والهوى، والتي خرجت منكم من أجوافٍ نورانية ليس فيها هوًى ولا شهوات ولا وسوسة عدوٍّ، فهناك يعلمون حب الله تعالى لهذا الآدمي وكرامته له، فكل ناطق إنما(6/503)
يدور لسانه من معدن نوره، وعلى حسب ذلك ينتشر في السماوات إلى العرش.
فهذه الصفات التي جاءت عن الله في التنزيل، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هي للعباد، ومن أجلهم؛ ليعامل العباد من هذه الصفات، ثم هو في الباطن الذي لا يدرك، ولا كيفية له، فالحياة هاهنا في الروح والنفس، والجسد قالب، فإذا خرجا، بقي القالب لحماً مواتاً، وحياة الآخرة في كل شيء منه، فكل شيء منه حي من قرنه إلى قدميه، وكل شعرة وكل ظفر حيٌّ بحياته، وذلك إذا شربوا ماء الحياة بباب الجنة، قال الله تعالى: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}.
أخرجه على قالب فعلان؛ لبلوغ الغاية في التكثير والتوفير؛ كقوله: رحمن ورحيم، وعريان وعارٍ، فالعريان بقشره، والعاري في ثياب خلقة؛ كقول النابغة حيث أنشد:(6/504)
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي ... على خوفٍ تظن به الظنونا
فالذي يشرب ماء الحيوان في الآخرة يجد اللذة والنعيم كل شعرة فيه على حدتها، ويقوى على نعيم الجنة بقوة تلك الحياة، بجميع ما في هذه الدار التي سميت دنيا، كل ذلك متاع هذه الحياة، والمتاع: المنفعة والبلغة.
قال الله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} إلى قوله: {ذلك متاع الحياة الدنيا}، ثم قال سبحانه: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ بينكم وتكاثرٌ في الأموال والأولاد}، ثم ضرب المثل بالغيث؛ ليريكم عاقبتها، ثم قال: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}، ثم قال: {إنا جعلنا ما على الأرض زينةً لها}.
ثم أخبرك لأي شيء جعل هذا، فقال: {لنبلوهم أيهم أحسن عملاً}، ثم ضرب المثل، فقال: {إنما مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء}، ثم قال في آيةٍ أخرى: {والله يدعو إلى دار السلام}، ثم قال: {قل أؤنبئكم بخيرٍ من ذلكم}، ثم بين ذلك الخير ما هو، فقال: {جناتٌ تجري من تحتها الأنهار}، ثم بين لمن هي، فقال: {للذين اتقوا}، ثم قال: {الصابرين والصادقين والقانتين والمنافقين والمستغفرين بالأسحار} الآية.
فإنما صارت الدنيا مذمومة ملعونة من أجل أنها غرت النفوس بنعيمها(6/505)
وزهرتها ولذتها، والشهوة واللذة في النفوس، فلما ذاقت النفس طعم النعم، اشتهت ولذت، ومالت عن العبودة إلى هوى النفس، وإنما جعلها زينةً في نفوس العباد، وأعطي من تلك الزينة العدو؛ ليوسوس بتلك الزينة، ويمازج بها تلك الزينة التي وضعها الله تعالى في العباد، وحبها وشهوتها؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملاً في هذه الزينة، أيتواضع لله فيما أعطاه من الزينة، ويشكره عليها؟ أو يتكبر عليه ويكفره؟
كما قال سليمان عليه السلام حيث قال: {أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين}، فقال ذلك الجني: {أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك}، فاستبطأه، وقال الإنسي الذي عنده علمٌ من الكتاب، وهو اسم الله الأعظم: {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك}.
فلما رآه مستقراً عنده؛ أي: السرير، قال: {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر}؛ أي: قدر هذا الإنسي على ما لم أقدر عليه، وأعطي ما لم أعط، فابتلاني برؤية ما أعطي؛ ليبلوني أأشكر فأعتد بما أعطاه من نعمة الله علي؛ لأنه من خولي؟ أو أحسده فأكفر النعمة؟.
فهذه الأشياء إنما غرت المفتونين الذين لما تناولوها من الدنيا، عميت(6/506)
عيونهم عن تدبير الله وتقديره وسياقته إليهم، {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً}، فوضع الله الدنيا مع زينتها وبهجتها، وخلقنا فيها، فحرم وأحل، وأمر ونهى، وافترض وأسقط، فمن انتهى عن المحرمات، وأدى الفرائض، وتناول من الدنيا، فعبده بتناولها، لأنه أخذها على الحاجة، ومن السبيل الذي أطلق له، فقد خرج من الذم، وبرئ من الدنيا.
وإن تناول شهوة ونهمة، في غفلة عن الله، فقد أخذته الدنيا المذمومة، ولا يصل إلى هذه المرتبة التي تبرأ من عارها وذمها ووبالها إلا من وصل إلى الله قلباً، فعظمته على قلبه، وخشيته في صدره، فذكره دائمٌ على قلبه، لا يتناول من الدنيا شيئاً إلا تعبداً؛ لأنه إنما أباح له ذلك؛ لتربية جسده؛ ليقوي جسده على عبودته وخدمته، فهو زاهدٌ في كل شيء يتناول من الدنيا، زاهد في عمره؛ لأنه مشتاق إلى ربه، والمشتاق لا يريد الحياة، والمتناول من الدنيا على العبودة لا يأخذها إلا من أجله، وأينما يأخذها، فإنما يقبلها عن الله، فهو يأخذها منه شاكراً، ويأخذها من أجله عبداً، فإن أعطاه(6/507)
منها شيئاً عفواً، تناوله منه، ومن أجله، وإن أعطاه بسعيه وكده، فهو يدور في سبيل السعي والكد ووجوه المطالب، وهو في ذلك يراقب الله تعالى ماذا يخرج له من هذا السعي من فضله، فيقبله منه، فهذا قد برئ من الدنيا.
وأما ما سوى هذه الطبقة، فقد جرحتهم الدنيا، فتلك دنيا مذمومة، وإنما وقع الذم عليها من أجل فعل العباد، وأما الذي يأخذ هولاً، فليست هذه دنيا مذمومة، وإنما هو رزق ومعاش وتزود، يأخذ العبد من مولاه ليقوم بخدمته؛ لأنه تعالى خلقه للخدمة، وجعل هذه الأشياء كلها له سخرة، فهو يأخذ من السخرة للخدمة، والآخر يأخذ من هذه السخرة؛ لقضاء الشهوة والنهمة؛ ليفرح بها أيام الحياة، ليلهيه ذلك الفرح عن الله، ويورثه الغفلة حتى يهتاج منه الكبر، وينظر إلى نفسه وهيئته، وما أعطي من الدنيا على الاستدراج، فيعجب به، فبذلك العجب يفاخر الناس، وبذلك الكبر يسفه على الخلق؛ حتى يصير طالباً للعز والعلو والشرف على الخلق، فيحقر من دونه، ويناطح أشكاله حسداً وبغياً، فبالبغي والحسد تصير عبودته للهوى، فهو عبد بطنه، عبد فرجه، عبد هواه، قد دخل في لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((لعن عبد الدينار، وعبد الدرهم)).(6/508)
ثم قال: ((بئس العبد عبدٌ نسي المبتدأ والمنتهى، وبئس العبد عبدٌ سها ولها، ونسي المقابر والبلى، وبئس العبد عبدٌ تجبر واعتدى، ونسي الجبار الأعلى وبئس العبد عبدٌ هوًى يضله، وبئس العبد عبدٌ طمعٌ يقوده، وبئس العبد عبدٌ يختل الدنيا بدينه)).
فهذا كله جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته.
وقال سبحانه: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادًا}.
وروي عن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-: أنه قال: إن الرجل ليعجبه شراك نعله، يريد به أن يكون أجود من صاحبه، فيدخل في هذه الآية.
فمن أراد العلو، إنما يطلبه بهذه الأشياء التي في الدنيا حتى ينالها، فيفخر بها، فقد أخذ المذموم، وزال عن ذكر الله تعالى، وما أوى إلى ذكر الله تعالى، فقد أخذ ملعونة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والملعونة لا بركة فيها، وكل شيء نزع منه البركة، فقد صار وبالاً على صاحبه.
1548 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا سعيد بن أبي مريم الجمحي، عن ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة،(6/509)
عن أبيه، قال: كان عمرو بن العاص ينظر إلى مكة وهو بمكة، فيقول: لعنك الله، لا أعني ما حرم الله منك، ذهب الناس بخير الدنيا والآخرة، واغتررنا بك.
فإنما وقعت اللعنة منه على تلك الأشياء التي غرته منها، وهو: هواه وشهوته ونهمته؛ لأنهم كانوا يفاخرون الناس برحم الله وكعبته، فإنما وقع اللعن منه على فخره وهواه وما غره منها، لا على الكعبة والحرم، فكذلك إنما وقع اللعن على ما غرك من الدنيا، لا على نعيمها ولذتها، فإن النعيم واللذة قد تناولها الرسل والأنبياء والصديقون، فردهم تناولهم إلى الله ذكراً وشكراً، ثم أووا منه إلى المأوى، وهو: حفظ الحدود، والقيام بحقوق الله وفرائضه.
فذلك الذي استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها، إلا ذكر الله، وما أوى إليه، وهو العالم والمتعلم)).
وقال الله في تنزيله: {وغرتكم الحياة الدنيا}، فنسب فعل الغرور إلى الحياة؛ لأن الهوى والشهوات إنما عملت في هذا القالب المتجبر بهذه الحياة التي ركبت في الجسد، والله أعلم.(6/510)
الأصل الخامس والثمانون والمئتان
1549 - أنا قتيبة بن سعيد، عن ابن وهب، عن عمرو ابن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل حرفٍ ذكر الله في القرآن [من] القنوت، فهي الطاعة)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فإنما صرفه إلى الطاعة؛ لأنها أكشف الأسماء، وأشهرها عند الناس، والعام إنما يعرف الطاعة والمعصية، فكل ما أمر الله به، فهو الطاعة، وكل ما نهى الله عنه، فهو معصية.(7/5)
فأما حاصل الاسم:
فالطاعة: بذل النفس لله فيما أمر ونهى، والمعصية: امتناع النفس واستبدادها؛ لأن الله تعالى دعا العباد للوقوف بين يديه كالعبيد.
فالمؤمنون أجابوا دعوته، وقبلوا العبودة، ثم دعاهم بعد ذلك إلى شيء بعد شيء من الأمر والنهي؛ ليأتمروا بأمره، وينتهوا عن نهيه، فمن ائتمر بأمره، وانتهى عن نهيه، فقد وفى بتلك الإجابة في المبتدأ، وبذلك القبول، فقيل: قد أطاع، فهو مطيع؛ أي: قد أعطى ذلك البذل الذي قبله في المبتدأ، فقوله: أعطى وأطاع، معناهما من حيث ما ذكرناه واحد، مشتق بعضها من بعض، وحروفهما في العدد سواءٌ وفي التأليف مختلفة، قدم العين هاهنا، وأخر العين هناك؛ لتباين المعنيين؛ ليستعمل هذا في عطاء العبودة، ويستعمل ذلك في عطاء الأشياء المملوكة.
والمعصية: من التعيص، وهو اشتداد النفس وامتناعها، ومنه سمي العصا، يقال في اللغة: تعيص عليه؛ أي: امتنع وتشدد.
وأما القنوت: فهو الركود، وكل شيء استقر في مكانه فلم يتحرك، فهو راكد، ومن ذلك سمي الماء راكداً: إذا أمسك عن الجري، والسفن(7/6)
رواكد: إذا سكنت الريح، ركدت السفينة، قال الله تعالى في تنزيله: {إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره}.
ويقال: قنت ونتق، فالنتوق: أن يقابل الشيء بالشيء راكداً عليه، وذلك قوله تعالى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلةٌ}.
ومنه قول علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- حيث سئل عن البيت المعمور، فقال: هو بيت في السماء السابعة نتاق هذا البيت.
أي: بحذائه وقبالته مطلاً عليه.
فالنتوق: مقابلة الشيء بالشيء بحذائه.
والقنوت: مقابلة قلبك عظمة من وقفت له، وبين يديه؛ فإنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إذا صلى العبد، أقبل الله عليه بوجهه)).
قال أبو عبد الله:
فمن حق إقباله عليه: أن يقبل العبد بقلبه على عظمته وجلاله، فهذه مقابلة العبد بقلبه قبالة ربه، وهو القنوت، ومرجعه إلى ما كشفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((هو الطاعة)).(7/7)
لأنه إذا قابله بقلبه، فقد أعطاه بذل النفس، وقد أطاعه، وإنما صار إذا قابله باذلاً لنفسه؛ لأن القلب إذا لاحظ ببصر فؤاده جلاله وعظمته، خلص إلى النفس هول الجلال والعظمة، فانقبضت، وانقمعت، وانخشعت، وذهلت عن هشاشتها، وخمد تلظي نيران شهواتها؛ لما أحست به من ملاحظة الفؤاد، وخلص إليها من الهول.
1550 - نا إبراهيم بن يوسف، قال: أنا حماد ابن زيد، عن ليث، عن مجاهد في قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين}، قال: القنوت: الركوع والخشوع.
قال أبو عبد الله:
فجاد ما غاص مجاهد صار على الأصل.
وأما السدي عن ابن عباس، قال: {قانتين}؛ أي: مطيعين.(7/8)
فقول ابن عباس: ظاهر التفسير، وقول مجاهد: باطن التفسير.
وأما قوله سبحانه: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين}، فروي في التفسير: أنه قال: قومي لربك.
فالقيام غير القنوت، ولو كان القنوت قياماً؛ لاستحال أن يقول: قوموا لله قانتين، ألا ترى أنه أمرهم بالقيام، ثم بالقنوت، فالقنوت صفة فعل يحدث عن القيام.
فقوله لمريم: {اقنتي لربك}؛ أي: أطيعي لربك، فهذا تفسير الظاهر، ولكن أريد من مريم القنوت في الباطن، وهو أن تقبل بقلبها على الله مظلة على النفس، مشتملة على شهواتها؛ لئلا تتحرك ويتفرق غليانها، وتجيش حتى يفور دخانها إلى الصدر إلى محل إشراق نور الألوهية؛ فإنه ليس من حق عطايا ربنا أن يعطي عند إشراق نور عظمته في صدره، فيهمل العبد حراسته ورعايته حتى تفور حرارة شهواته؛ كفوران القدر التي تغلي إلى صدره، كالدخان بين يدي نور العظمة في صدره، فإذا(7/9)
فعل ذلك، حجب؛ لأن ذلك الفوران كالدخان، فإذا هاج من النفس، وتأدى إلى الصدر، امتنع الإشراق، واحتجب، وبقي العبد محجوباً كأنه صار خالياً من الزكاء.
فأمرت مريم بالقنوت؛ أي: بالدوام، وبالركود بمقابلة القلب قبالة عظمة الله؛ حتى يدوم لها التعظيم لجلال الله، ولذلك سمي دعاء الوتر: قنوتاً؛ لأن الصلاة وقوفٌ وتخشعٌ، وتذللٌ يؤدي فرضه؛ لوفارة أعماله، وتقصيره وذنوبه، فإذا قنت، فإنما خرج من صلاته التي افترض عليه، وقام له معترضاً على ربه إلى موقف آخر؛ برغبة ورهبة، فسمي قنوتاً؛ لأن ذلك مقام خرج من فعل صلاته إليه، ودخل فيه بتكبيره، فقابل بقلبه محل الرغبة والرهبة، ومن قبل التكبير كان في محل التذلل والتخشع بين يدي عظمته، والآن في محل الرهبة والرغبة بين يدي جوده وكرمه، فتباين التقابلان والموقفان. والله سبحانه أعلم.(7/10)
الأصل السادس والثمانون والمئتان
1551 - أنا قتيبة بن سعيد، قال: أنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حليم إلا ذو عثرةٍ، ولا حكيم إلا ذو تجربةٍ)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالحلم: يعطي العبد من نور الجود، فإذا خلص إلى القلب نور الجود، انحلت عقد النفس، وكلت مخاليبها، وتخلص القلب من رق النفس، ومن سجونها، ووثاقها، واتسعت النفس بما نالت من نور الجود، فتولدت السماحة، فظهر الحلم، وهي في تلك السعة -سعة الحلم- غير عالمة بالتمسك بتلك السعة والسماحة، فإذا عثرت، فوقعت في الذنب،(7/11)
فهنا تبصر، وينفسح علمها بالسعة، لما رأت عثرتها، اتستعت لغيرها في تلك العثرة، وأبصرت أن العاثر هو كمثله، إما مفتونٌ، وإما مخذول، وإما معاقب، أو جاهل؛ لما رأى نفسه في وقت العثرة أنه مخذولٌ، أو مفتون، أو معاقب، أو جاهل.
فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حليم إلا ذو عثرةٍ))؛ أي: بعد العثرة وصل إلى حقيقة الحلم وكنهه، فأما قبل العثرة، فقد يكون حليماً، ولكن ليس على كنهه؛ كأنه لم يكمل حلمه بعد؛ لأن نفسه لم تتسع بعد في الحلم الذي أعطي، فإذا جاءت العثرات، اعتبر بها، ورأى غيره فيما رأى نفسه في وقتها، فهناك يجد الحلم.
وهذا كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: ((ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس، وليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، وإنما المسكين الذي قعد في بيته وقنع)).
فذاك الذي يكثر عرضه، فهو أيضاً الغني، ولكن الغنى -على كنهه(7/12)
وحقيقته- هو غنى النفس، والمسكنة -على الحقيقة، وعلى كنهها- لمن قعد في بيته، وقنع بما أوتي.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا حكيم إلا ذو تجربةٍ)).
فالحكمة: من نور الجلال، فإذا أعطي العبد، انفجرت ينابيع الحكمة على قلبه، فهذه الحكمة ينبوعها على قلبه، فهي جاثمة متراكمة، وما لم تأخذه التجارب، لم تقدر النفس على مطالعة الحكمة؛ لأن النفس بلهاء غتمية، مشغولة بالشهوات، فكيف تدرك الحكمة؟ والحكمة باطن الأمور وأسرار العلم، فهي تعاين الظاهر ولا تدركه، فكيف تدرك الباطن؟.
فإذا جرت الأمور، صارت هذه التجارب له كالمرآة ينظر فيها؛ لأنها صارت معاينة، ولذلك قال ابن عباس: ينتهي عقل الرجل إلى ثمانٍ وعشرين، ثم من بعد ذلك التجارب.
فالعقل للقلب، والتجارب للنفس؛ لأن العقل باطن، والتجارب ظاهرة، تبصر العين، وتسمع الأذن، ويشم الأنف، وتلمس اليد، وتذوق اللسان واللهاة، فالتجارب -هاهنا-، وهي مسالك هذه الأشياء إلى النفس، وشعور النفس من هذه المسالك الظاهرة، فعندها تشعر النفس بذلك العقل الذي أعطي؛ لأن العقل إنما مسكنه في الدماغ، وفي الصدر يشرق بين(7/13)
عيني الفؤاد، والنفس لا تعلم بشيء من ذلك إلا ما يعلمها القلب، ويفطنها، ويدعو إليه، فإذا نالتها التجارب، عرفت وأيقنت؛ لأنها صارت معاينة ما كان أدى إليها القلب من الحكمة، ودلالة العقل.(7/14)
الأصل السابع والثمانون والمئتان
1552 - أنا الحسن بن قزعة البصري، قال: أنا سفيان بن حبيب التمار، قال: أنا شعبة، عن ثوير، عن أبيه، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها}، قال: لا إله إلا الله)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
وإنما سميت هذه الكلمة: كلمة التقوى؛ لأنها صارت وقاية لتوحيده؛ لأنه أثبت عقد المعرفة بإلهه قلباً، وباللسان نطقاً أنه إلهه، فلما أحدث الأعداء هذا الحدث، وهو الشرك، فأشركوا في ملكه غيره، وذهبوا بوَلَهِ قلوبهم في الضر والنفع إلى ذلك الذي قصدوه بالعبودة؛ رجاءً وتأميلاً(7/15)
لنوال نفعٍ ودفع ضرٍّ، اقتضى الله من المؤمنين كلمة التقى لنفي ذلك الحدث، وهو قوله: ((لا))، فنفوا بقولهم (لا) هذا الحدث الذي أحدثته الفجرة الغواة الظلمة.
فصار قوله: ((لا)) نزاهة لرجاسة ما أتوا به، وطهارة لنجاسته، ووقاية لذلك العقد الذي عقده، وحصناً كثيفاً لما في ذلك العقد، وهو: التوحيد، ونور المعرفة، فنسبت هذه الكلمة إلى التقوى.
وإنما هو في الأصل: وقوى؛ مأخوذ من الوقاية؛ أي: صار وقاية لعقدة التوحيد أن لا يمازجه شرك يأتي معه؛ فإنه واحد لا ثاني له، واحدٌ لا نظير له، وهذه الكلمة في قالب الافتعال، لا في قالب فعل؛ لأن فعل هو قالب الظاهر، وافتعل قالب الباطن، فقيل: اتقى، وكان حقه أن يكون اوتقى لأن الواو في أصل الكلمة موضوعة لا أصلية من قوله: وقى يقي وقاية، فلما صار إلى افتعل، كان حقه أن يكون اوتقى، فثقلت على الألسن؛(7/16)
لاجتماع الواو والتاء، فأدغمت الواو في التاء، وشددت، فقيل: اتقى يتقي اتقاءً، والاسم منه: تقوى.
وقوله: ((لا إله)) نفيٌ، وقوله: ((إلا الله) استثناءٌ؛ لئلا يقع النفي على الجميع، ولو قال: ((لا إله))، ثم اقتصر عليه، لكان قد نفى الجميع، فابتدأ بنفي الحدث بقوله: ((لا إله))، ثم استثنى فقال: ((إلا الله))؛ لئلا يقع النفي على هذا الاسم الآخر، وهو قوله: ((الله))؛ فإنما هما كلمتان: نفى بقوله: ((لا))، وأثبت بقوله: ((إلا الله))، فقوله: ((لا)) حرفان: لام، ثم ألف، و ((إلا)) أربعة أحرف: ألف، ثم لامان مدغمة إحداهما في الأخرى، ثم ألف، فمبتدأ ظهور القوة من اللام؛ لأن عظم القوة فيها.
فلذلك ابتدأ بها في النفي، وكانت كلمة النفي عموماً للجميع، فلما استثنى، فكأنه رد ما نفي؛ لئلا يقع النفي على الذي هو ثابت، فاحتيج إلى ذي لامين متضاعفين، فأدغمت إحداهما في الأخرى، فقيل: ((إلا))، وإنما هو ألف مخفوضة، ولامٌ مضاعفة مشددة، وألفٌ(7/17)
مفتوحة، وإنما خرجت هذه الكلمة على صورة إشارات القلوب وقصدها؛ لأن القلب لما حيي بنور الحياة، وانفتحت عينا الفؤاد بالنور، وجاء نور الهداية، وجاء نور المعرفة، فتراءى لعيني الفؤاد، انزعج القلب مرتحلاً عن وطنه إلى ذلك النور الذي عاين، حتى لقيه فاطمأن، وسكن إلى معبوده، وبذل النفس للعبودة، ثم خطر بقلبه بال إلهه، وأنه قد أشرك في ملكه غيره، وأن قلوباً ولهت إلى غيره افتقاراً، فهاجت منه المحبة التي هي منطوية في نور التوحيد، والهداية، والمعرفة، فحمي القلب من حرارة المحبة، فمن تلك الحرارة قوي القلب حتى قام على الذنب منزعجاً بعضلاته وعروقه، فنفى ولههم وافتقارهم إلى من دونه، وأبطله.
فلما احتاج إلى إبراز تلك القوة للنفي، أبرز باللام ثم بالألف، وإنما ابتدئ باللام؛ لأن عظم القوة فيها، وهي نزيع الألف؛ فإنه كان أولاً ألفاً، ثم نزع منها لام، وعظم القوة في اللام، فنفى القلب كل رب يدعي(7/18)
العباد له ربوبية، وولهت قلوبهم إليه دونه، فابتدأ هذا القلب الذي وصفنا في النفي لأرباب الأرض، ثم سما عالياً حتى انتهى إلى الرب الأعلى، فوقف عنده، وتذلل وخشع له، واطمأن ووله إليه، وقال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {سبح اسم ربك الأعلى}.
أي: إن هذه أربابٌ متفرقون، والرب الله الواحد القهار، فهداه إلى الرب الأعلى، وقال تعالى: {وأن إلى ربك المنتهى}.
فهذه صورة فعل القلب، فلما احتاج إلى النطق والإبراز باللسان، أعطي تلك الحروف، ففي النفي لام وألف، وفي المستثنى الذي هو المنتهى ألف مخفوضة ولامان وألف؛ لاجتماع قوة اللامين على صورة فعل القلب، يدلك على ذلك من قولنا: كسر الألف وخفضها؛ لأن القلب من السفول ينزعج، نافياً للأرباب، ويصعد إلى الرب الأعلى بالألف الأخير من قوله: ((إلا))؛ ليثبته رباً لا شريك له، وواحداً لا ثاني له، ولا نظير له، وفرداً لا ند له، وصمداً لا شبه له، وحياً لا موت له، وقيوماً لا زوال له، وإلهاً لا وله إلا إليه.
فأما قوله سبحانه: {وألزمهم كلمة التقوى}، ثم قال:(7/19)
{وكانوا أحق بها وأهلها}؛ فإنه ألزم قلوبهم هذه الكلمة بنور المحبة، حتى نطقوا بها، وذلك أنهم أعطوا المعرفة مع المحبة، وأعطوا العقل، والعقل من نور البهاء، ووجد القلب حلاوة المحبة، ووجدت النفس حلاوة زينة نور البهاء، فسكن القلب واطمأن إلى الحلاوة، واستقرت النفس للزينة، فتيسر عليه التكلم بقول: لا إله إلا الله، وهو قوله تعالى: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم}.
فبحلاوة الحب، وزينة البهاء، صارت الكلمة لازمة لقلوبهم، حتى خرجت إلى اللسان، فذلت الألسنة بها، ودارت بحروفها التي نطقت بمعناها، فصارت منطقاً أحاط بمعناها، ولزمها، وشددها، كما أحاطت المنطقة بوسط الرجل، وشددت قوته، فهو الذي ألزمهم هذه الكلمة بما من عليهم بحلاوة الحب، وزينة البهاء.
وأما قوله: {وكانوا أحق بها وأهلها}، فإنما صاروا كذلك؛ لأن الله تعالى خلق المقادير قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام، فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وكان الله ولا شيء، فخلق المقادير، وخلق الخلق في ظلمةٍ، ثم رش عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور، اهتدى، ومن أخطأه، ضل)).
فقد علم من يخطئه ممن يصيبه.(7/20)
1553 - أنا سليمان بن نصير، قال: أنا عبد الله بن يزيد المقرئ، عن حيوة، وابن لهيعة، عن أبي هانئ حميد بن هانئ الخولاني، قال: سمعت أبا عبد الرحمن الحبلي، يقول: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنةٍ)).
1554 - أنا الفضل بن محمد، قال: أنا إبراهيم بن موسى، قال: أنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن جامع بن(7/21)
شداد، عن صفوان بن محرز، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقبلوا البشرى يا بني تميمٍ))، قالوا: قد بشرتنا، فأعطنا، قال: ((اقبلوا البشرى يا أهل اليمن))، قالوا: قد بشرتنا، فأخبرنا، قال: ((كان الله ولا شيء، ثم خلق العرش، فجعله على الماء، وكتب في الذكر كل شيءٍ)).
1555 - أنا نصر بن محمد الغنوي، قال: أنا أبو عمير بن النحاس الرملي، قال: نا ضمرة بن ربيعة، قال: أنا يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن ابن الديلمي،(7/22)
عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمةٍ، ثم رش عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور، اهتدى، ومن أخطأه، ضل)).
1556 - أنا أبي، قال: أنا الحماني، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا الأوزاعي، قال: أخبرني ربيعة بن يزيد، قال: حدثني عبد الله بن الديلمي، قال: دخلت على عبد الله ابن عمرو بالطائف، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمةٍ، ثم ألقى عليهم نوراً من نوره، فمن أصابه من ذلك النور، اهتدى، ومن أخطأه، ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم الله)).(7/23)
1557 - أخبرني الجارود، قال: أنا معن القزاز، قال: أنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، قال: سمعت ابن الديلمي يقول: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله تعالى خلق الناس في ظلمةٍ، فأخذ نوراً من نوره، فألقاه عليهم، فأصاب من شاء، وأخطأ من شاء، فقد عرف من يخطئه ممن يصيبه، فمن أصابه من نوره، اهتدى، ومن أخطأه، ضل)).
1558 - أنا علي بن حجر، قال: أنا عثمان بن حصين بن علاق، قال: أنا عروة بن رويم، عن ابن(7/24)
الديلمي، قال: قلت لعبد الله بن عمرو: بلغنا أنك تقول: جف القلم بما هو كائن؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله تعالى خلق خلقه، ثم جعلهم في ظلمةٍ، ثم أخذ من نوره ما شاء، فألقاه عليهم، فأصاب النور من شاء الله أن يصيبه، وأخطأ من شاء الله أن يخطئه، فمن أصابه النور يومئذٍ، اهتدى، ومن أخطأه، ضل))، فلذلك ما أقول: ((جف القلم بما هو كائنٌ)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فيوم المقادير خلقهم، وهم كالنجوم الدراري، ثم سلبهم الضوء، فوضعهم في تراب التربة التي أراد منها إنشاء خلق آدم، وقد طمس ضوءهم، فلبثوا في تلك الظلمة ملياً على أن قضى من المدة مقدار خمسين ألف سنة، أو نحوه، فصاروا في طول ذلك اللبث في تلك الظلمة ثلاثة أصناف:
1 - فصنفٌ منهم: زعم أن الذي ملكنا لم يدم له ملكه، فعجز عنا، ولو لم يكن كذلك، لم يتركنا هاهنا كالمنسي.
2 - وقال صنفٌ آخر: تركنا هاهنا، فنحن ننتظر ما يكون، وما يظهر لنا من أمره.(7/25)
فالأول: كفر، والثاني: نفاق وشك.
3 - وقال الصنف الثالث: تركنا هاهنا، وهو دائم، ونحن له، فجعلنا حيث شاء.
فأما الصنف الأول: فإنهم لما تكلموا بما ذكرنا، صارت تلك الترابية في أفواههم، وقال لهم: ما الذي رأيتم مني حتى نسبتموني إلى العجز وانقطاع الملك؟.
فصارت هذه الكلمة ختماً على أفواههم على تلك الترابية، وهو قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم}، فالختم غير مرفوع أبداً.
وأما الصنف الثاني: فشكوا، فهم في الزندقة ينتظرون ما يكون، ولم يستيقنوا، ولا استقرت قلوبهم، فتناثرت تلك الترابية عن أفواه القوم وعن قلوبهم؛ لتذبذبهم، مرة إقبالاً، ومرة إعراضاً، ومرة إقبالاً على بال النفوس، فلم يصر ختماً، ولكنه صار قفلاً، والقفل قد يرفع، وقد يفتح إن شاء، والختم لا يرفع أبداً، وذلك قوله تعالى: {أم على قلوبٍ أقفالها}.
وأما الصنف الثالث: فقالوا: ربنا الذي يملكنا دائمٌ أبداً، يجعلنا(7/26)
حيث شاء، إن شاء جعلنا في ظلمة، وإن شاء جعلنا في نور، ثم مدوا أيدي القلوب نحوه كالتعلق به، فضرب بيده على قلوبهم، فقال: أنتم لي، عملتم لي أو لم تعملوا، فصارت هذه الكلمة مكتوبة على قلوبهم، فمن أصابته يمينه، فهم الأولياء، ومن أصابتهم يده الأخرى، فهم عامة الموحدين، ثم تناولهم، فصيرهم في قبضته، وصارت تلك الكلمة مكتوبة بين أعين الفؤاد على قلوبهم، وذلك قوله تعالى: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان}، وقال في الأخرى: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم}.
فالطبع: هو الختم، اتبعوا بال أنفسهم، فقالوا: تركنا هاهنا في الظلمة، فلو كان دائماً، لم يتركنا، فهذه كانت صفتهم في البدو، فلم يزل ينقلهم من حالٍ إلى حال حتى ظهروا في الروح، وهو أول خلقٍ خلقه، ثم نقلهم إلى الهوى، ثم نقلهم إلى النور، ثم نقلهم إلى الماء، ثم نقلهم إلى التراب، ثم نقلهم إلى الطينة المعجونة طينة آدم عليه السلام، وأعطاهم كلهم الصورة، وظهر في الطينة طيب المتعلقين به، وسنة حمأة المعرضين عنه، وهو الذي قال تعالى في تنزيله: {من حمإٍ مسنونٍ}.(7/27)
ثم لما نفخ الروح فيه، أخرج المتعلقين في كتفه الأيمن كهيئة الدر في صفاءٍ وتلألؤٍ، وأصحاب الشمال كالحممة السوداء من كتفه الأيسر، والسابقون أمام الفريقين المقربون، وهم الرسل والأنبياء والأولياء، فقررهم كلهم، وأخذ عهدهم، وميثاقهم على الإقرار له بالعبودة، وأشهدهم على أنفسهم، وشهد عليهم بذلك، ثم ردهم إلى الأصلاب؛ ليخرجهم تناسلاً من الأرحام، أرحام الأمهات.
1559 - أنا عمر بن أبي عمر، قال: أنا عبد الله بن يزيد القرشي، عن خالد بن يزيد المري، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الله تعالى خلق آدم، فضرب بيمينه على كتف آدم اليمنى، فأخرج ذريةً بيضاء كالفضة، ومن اليسرى سوداً كالحممة، ثم قال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي)).(7/28)
معنى قوله: ((هؤلاء في الجنة ولا أبالي)) -عندنا، والله أعلم- أي: لا أبالي بما يعملون من خير أو شر، فأقبل خيرهم، وأغفر شرهم.
وذلك قوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً} إلى قوله: {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنةً قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك}.
إلى قوله: {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون}.
وهو الوعد الذي وعدهم؛ حيث ضرب بيده إليهم تناولاً، ثم قال لهم: أنتم لي، عملتم أو لم تعملوا، فإنما صاروا بيضاً كالفضة من أجل ذلك النور الذي أصابهم، والآخرون سوداً من أجل الظلمة التي خلقهم فيها.
1560 - أنا عبد الرحيم بن حبيب، قال: أنا بقية ابن الوليد، قال: أنا مبشر بن عبيد، عن الزهري، عن سعيد ابن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما خلق الله تعالى آدم، ضرب بيده على شق آدم الأيمن، فأخرج ذرواً كالذر، ثم قال: هؤلاء ذريتك من أهل(7/29)
الجنة، ثم ضرب بيده على شق آدم الأيسر، فأخرج ذرواً كالحمم، ثم قال: هؤلاء ذريتك من أهل النار)).
1561 - أنا الجارود، قال: أنا معن بن عيسى، قال: أنا معاوية بن صالح، عن راشد الحمصي، عن عبد الرحمن ابن قتادة السلمي -وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم-، قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله خلق آدم، وأخذ الخلق من ظهره، فقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي))، فقال رجل: يا رسول الله! صلى الله عليك، فعلى ماذا إذاً نعمل؟ قال: ((على مواقع القدر)).(7/30)
قوله: ((هؤلاء في الجنة ولا أبالي)) ماذا عملوا، ((وهؤلاء في النار ولا أبالي)) من نفوسهم أين ذهبوا.
1562 - أنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أبي أنيسة: أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره، عن مسلم بن يسار الجهني، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه سئل عن هذه الآية: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم}، فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله تعالى خلق آدم، فمسح بيمينه ظهره، فاستخرج منه(7/31)
ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذريةً، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون))، فقال رجل: يا رسول الله! ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا خلق العبد للجنة، استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلقه للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت وهو على عمل أهل النار، فيدخله به النار)).
1563 - أنا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب، قال: أنا عبد الله بن مسعود، قال: نا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، قال: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلةً(7/32)
نطفةً، ثم علقةً مثل ذلك، ثم مضغةً مثل ذلك، ثم يبعث الله الملك بأربع كلماتٍ، فيقول له: اكتب أجله، وعمله، ورزقه، وشقيٌّ أو سعيدٌ؛ فإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيغلب عليه كتابه الذي سبق، فيختم له بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراعٌ، فيغلب عليه الكتاب الذي سبق، فيختم له بعمل أهل الجنة، فيدخله الله الجنة)).
1564 - أنا سفيان بن وكيع، قال: أنا أبي، قال: أنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.(7/33)
1565 - نا علي بن حجر، عن شريك، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
فهذه قصة هذا الخلق، سبق لهم من الله ما سبق، فقال الله تعالى في تنزيله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون. لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون}؛ أي: في الجنة.
فشكر الله لهم ما كان منهم في تلك الظلمة من الطمأنينة إلى الله في وقت مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وعرفه مننه عليهم، فقال: {وألزمهم كلمة التقوى}، ثم شكر لهم تقديمهم في تلك الظلمة، فأثنى عليهم، فقال: {وكانوا أحق بها وأهلها}؛ أي: أحق بهذه الكلمة، وأهلاً لهذه الكلمة؛ بما تقدم منهم، وإنما استقروا هناك في تلك الظلمة، ونطقوا؛(7/34)
بما نطقوا بما رش عليهم من نوره هناك، فأوجب لهم يومئذٍ محبته، وجعل لهم ذلك النور حظهم من ربهم، وأصحاب الختم لم يصبهم النور، فلم يكن لهم حظٌّ، وأصحاب القفل منهم من لا حظ له، فهو لاحق بأصحاب الختم، ومنهم من له حظ في الغيب مكنون، وحظهم أدنى الحظوظ.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار}، ثم قال: {إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا} الآية، فشرط عليهم أربع شرائط، ثم قال: {فأولئك مع المؤمنين}.
ولم يقل: من المؤمنين، فهؤلاء: لاحقة بهم، فهم في عداد المؤمنين، وحظهم من المحبة قليل، وهم من أصحاب القفل، أدركتهم رحمته الواسعة، فصاروا متخلصين من النفاق، ورفع القفل عنهم حتى انفتحت عيون أفئدتهم مع هذه الشرائط الأربع:
1 - التوبة إلى الله تعالى.
2 - والإصلاح لما خرب من العمارة وهدم البنيان.
3 - والاعتصام بالله.
4 - والإخلاص لله.(7/35)
فحينئذٍ ألحقهم بالمؤمنين؛ ليعلم أنهم لم يكونوا من المؤمنين الذين كتب في قلوبهم الإيمان يومئذٍ بقوله: ((أنتم لي، عملتم أو لم تعملوا))، فهؤلاء يعتريهم ذلك النفاق -بعد إيمانهم- في أعمالهم، فهم الذين يدلون على الله بأعمالهم في الشريعة، ويعجبون بشأن أنفسهم، ويكبون على أحوالهم في عامة عمرهم، يتكبرون بها، ويتعالون على الخلق، ويعاملون الله في السر بخلاف العلانية، ويراؤون بأعمالهم، ويتناحرون على طلب الدنيا وجاهها وعزها، وفخرها وخيلائها، ويضاهون الله في مدائحه، والعزة لله جميعاً، والعلو لله، والكبرياء لله.
فهم في شهرهم ودهرهم طالبون لعز الدنيا؛ ذهاباً بأنفسهم عن الخلق، ولعلوها؛ تعالياً عن أحوال الخلق، وتكبراً عن الانقياد للحق؛ لكبرياء نفوسهم، ساخطين لأقدار الله في الخلق، وفي أنفسهم، حاسدين لعباد الله في نعمهم، مضادين لأقضيته وتقديره وتدبيره فيهم، فهؤلاء أصحاب الأقفال الذين كانت لله فيهم مشيئة أن تدركهم رحمته وجوده؛ فإن للجود -بعد انقضاء الرحمة المئة المقسومة يوم القيامة بين أهل الجنة- عملاً وشأناً عظيماً؛ جاد الله على من بقي في النار آلافاً من السنين، وليس عنده مثقال ذرة خير، إلا توحيداً خرج له أيام دنياه من باب الجود والرحمة العظمى، وهم أصحاب الأقفال الذين كانت لله فيهم مشيئة إن أدركتهم الرحمة العظمى، فلم يبال بما صنعوا، فرفع عنه القفل في الدنيا، حتى(7/36)
نطقوا بالكلمة العليا، وهي كلمة التقوى، وأدخلهم الجنة بلا عمل، ولا خيرٍ قدموه، نالوا هذا من باب الجود في محل القدرة، ونال المؤمنون المحبة من الذات، وولهت قلوبهم بالذات حباً له.(7/37)
الأصل الثامن والثمانون والمئتان
1566 - نا الجارود، قال: نا جرير، ووكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لما نزلت: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ}، شق ذلك على المسلمين، فقالوا: وأينا لم يظلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس بذلك، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: {إن الشرك لظلمٌ عظيمٌ}؟)).
1567 - نا أبو سعيد الأشج، قال: نا ابن إدريس،(7/39)
قال: نا أبو إسحاق الشيباني، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن الأسود بن هلال، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه سأل أصحابه عن هاتين الآيتين: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ}، وقوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}، فقالوا: استقاموا ولم يذنبوا، ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ؛ أي: بذنب، فقال: لقد حملتموها على غير المحمل، إنما هو: استقاموا، فلم يشركوا، {ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ}؛ أي: بشركٍ.
1568 - نا صالح بن محمد، قال: نا أبان بن البختري، عن عباد بن العوام، عن زياد بن ميمون، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}، فقال: ((أمتي ورب الكعبة! مرتين أو ثلاثاً))، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! ما ذكرك هذه الآية؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((إن اليهود(7/40)
قالوا: ربنا الله، فلم يستقيموا، فقالوا في عزيرٍ ما قالوا، وإن النصارى قالوا: ربنا الله، ثم لم يستقيموا، فقالوا في المسيح ما قالوا، وإن أمتي قالت: ربنا الله، ثم استقاموا، فلم يشركوا)).
قال أبو عبد الله:
فهاتان كلمتان إنما هما اسمان لازمان لفعل، ولكل فعل حدان، فحدٌّ منه مبتدؤه، والحد الآخر منتهاه.
فالاستقامة: مبتدؤها: انتصاب القلب له رقًّا وتذللاً، وإلقاءً باليدين سلماً، فهذا أول العبودة والاستقامة، ثم من بعد انقضاء هذا الوقت يأتي عليه وقتٌ آخر، وقد مالت شهوته بتلك الاستقامة عن الله، فزاغ يميناً وشمالاً عن الانتصاب لله تذللاً وخشعةً، وناله تجبر الكبرياء، ثم تاب، فرجع إلى الله، وعاد إلى مقامه من التذلل والرق، وصار إلى الاستقامة في مقامه، فلا يزال هذا دأبه، مرةً هكذا، ومرة هكذا، يقطع عمره على هذه الصفة، فيختم له بإحدى المنزلتين.(7/41)
ومن أيد في الاستقامة حتى يمر إلى الله تعالى، ولا يروغ في سيره يميناً وشمالاً، فإذا وصل إلى الله، فقد ذهب الروغان، واستقام على الباب.
ورأيت فيما يرى النائم: كأن سائلاً سألني عن قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}، فأردت أن أجيبه بما عندي من ظاهر العلم، فرأيت قبالتي شخصاً بيده صحيفة يقابل بها وجهي، فيها مكتوب: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} أي: اشتاقوا إلى لقائه، ثم انتبهت، فقلت في نفسي: هذا عين التفسير.
وإذا نزل العبد منزلة المشتاقين، فنهمته وشهوته اللحوق بربه، فقلبه بالباب عاكف، والعاكف على الله لا تزول استقامته، فالناس فيما بين الحدين من مبتدئه إلى أعلاه، كلٌّ قد أخذ من هذا بحظ، فالديان يحاسبهم، فيعطيهم من ثواب هذه الاستقامة كلاًّ على قدر ثباته، وانتصابه لله، وتوقيه للروغان عنه، وكذلك قوله تعالى: {ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ}.
فالإيمان: هو طمأنينة القلب إلى الله، واستقرار النفس بما استقر القلب، وإنما صار ذلك كذلك بالنور، فذلك النور اكتساب القلب، به يكرم، وبه يثاب، وبه يجوز الصراط إلى دار السلام، فإذا أذنب، فالذنب ظلمة، فقد ألبس ذلك النور ظلمة، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أذنب العبد، نكتت في قلبه نكتةٌ سوداء، فإذا عاد، نكتت أخرى، فلا يزال كذلك حتى يسود القلب، فإذا تاب ونزع، صقل قلبه)).(7/42)
قال أبو عبد الله:
يعني: ترفع تلك النكت، فينجلي القلب بنوره؛ بمنزلة شمس خرجت عن كسوفها، فتجلت، فأقل الظلم: ترك أصغر شيء من أمر الله، وأعظم الظلم: الشرك، فذاك مبتدؤه، وهذا منتهاه، فترك أدنى أمر الله هو ظلم، ويقدر ذلك أطبق على نور الإيمان، وأظلم الصدر منه بقدر ذلك؛ لأنه افتقد إشراق ذلك النور على قدر ما أطبق، فكلما ازداد ذنباً، ازداد افتقاراً للإشراق، وازداد ظلمة، حتى يطبق عليه كله إذا انتهى إلى منتهاه، وهو رأس الذنوب وأعلاها، والخلق فيما بين الحدين: كلٌّ قد ألبس إيمانه؛ يعني: من هذا الظلم، مثل ذلك مثل الشمس إذا انكسفت، فعلى قدر ما ينكسف منها، يفتقد الخلق إشراقها من الأرض، فإذا انكسفت كلها، صار نهارهم كالليل.
فأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلق منتهاه في حديث، ومبتدأه في حديث آخر، وكذلك أبو بكر، وعمر، فقال أبو بكر: استقاموا فلم يشركوا، وقال عمر: استقاموا فلم يروغوا، روغان الثعالب، فقصد أبو بكر لأدناه، وعمر لأعلاه.(7/43)
وأما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1569 - فحدثنا يوسف بن موسى القطان الكوفي، قال: نا مهران بن أبي عمر الرازي، قال: نا علي بن عبد الأعلى، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ ساره، إذ عرض له أعرابي على بكرة له، فدنا يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاه المهاجرون والأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلوا عنه))، فقال: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق! لقد جئتك من بلادي وتلادي ومالي؛ لأهتدي بهداك، وآخذ من قولك، فما بلغتك حتى ما لي طعام إلا من خضر الأرض، فاعرض علي، فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل، فازدحمنا عليه، فدخل خف بكرته في بيت جرذان، فتردى الأعرابي، فانكسرت عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدق والذي بعثني بالحق! لقد خرج من بلاده وتلاده وماله؛ ليهتدي(7/44)
بهداي، ويأخذ من قولي، فما بلغني حتى ما له طعامٌ إلا من خضر الأرض، كما قال، أسمعتم بالذي عمل قليلاً، وجزي كثيراً؟ هذا منهم، أسمعتم بـ {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}؟ فإن هذا منهم، والذي بعثني بالحق! ما بلغ الأرض قط حتى ملئ شدقه من ثمر الجنة، اغسلوا أخاكم، وكفنوه، وصلوا عليه))، قالوا: يا رسول الله! أنشق أم نلحد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللحد لنا، والشق لغيرنا)).
1570 - نا عبد الكريم، عن محمد بن مهران الرازي، قال: نا محمد بن المعلى، عن زياد بن خيثمة، عن أبي داود، عن عبد الله بن سخبرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(7/45)
((من أعطي فشكر، وابتلي فصبر، وظُلم فغفر، وظَلم فاستغفر))، ثم سكت، فقيل: ما له يا رسول الله؟ قال: (({أولئك لهم الأمن وهم مهتدون})).
قال أبو عبد الله:
فهذا أعلاه، وحديث علقمة عن عبد الله أدناه، فوعد الله تعالى في تنزيله للمستقيم الأمان من الخوف والحزن، والبشرى بالجنة، ولمن لم يلبسوا إيمانهم بظلم الأمن والاهتداء، فكلٌّ إنما ينال من ذلك الوعد بقدر ما يأتي به من الاستقامة، وقلة اللبس.
فالمؤمن لما آمن، فقبل الله إيمانه، دخل في أمانه، فله الأمن في(7/46)
الدنيا والآخرة من كل آفة، فلما أذنب، خرج من أمان الله بقدر ذلك الذنب، ونقص من الأمن بقدر ذلك، واستحق العقوبة بقدر ذلك، وهو أن تزول نعمة من نعمه عنه بقدر ذلك، وإن شاء، تفضل وعفا، وإن عاقب، زال عنه من النعمة بقدر ذلك.
وذلك قوله تعالى: {ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمةً أنعمها على قومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم}.
فالنعمة: اسم جامع لهذا الآدمي في بدنه ودينه ودنياه، فإن لم يذنب، لم يأخذ منه شيئاً، وكان على هيئته؛ فإنما جاءت الأسقام، والأمراض، والنوائب، والأحوال المتغايرة؛ لمكان الخطايا والذنوب والزلل، غيروا، فغير الله ما بهم، وعفا عن كثير، وقال في تنزيله: {وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثيرٍ}.
فالاعتبار في هذا الأمر: قصة أبينا آدم عليه السلام، وأن الله تعالى خلقه بيده، وأسجد له الملائكة، وبوأه الجنة مع زوجته، وعهد إليه عهداً أن هذا الذي أبى أن يسجد لك هو: {عدوٌّ لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى}، وعرض {الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها}، فنظر آدم إلى إباء هؤلاء، فأخذته الغيرة، وهاج منه الحب لله، فاحتملها، وتقلدها، وبقيت قلادةً في عنقه، فقيل له:(7/47)
هذه الجنة مسكنك، فانظر أن لا يخرجنك وزوجك هذا العدو من هذا المسكن؛ أي: يغرك حتى تحدث فيها حدثاً يكون خيانة للأمانة.
وقيل له: {إن لك} فيها؛ أي: في هذه الجنة {ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى}.
وبهذه الأربعة قوام الآدمي ومعاشه، يعرفك: أنك إن أحدثت، أخرجت منها، وإن أخرجت، شقيت؛ أي: صرت بمعزل من النعيم، ولحقتك الشدة، والتعب، والنصب في هذه المعيشة، فتحتاج أن تتكلف لجوعك وعريك، وظمئك، وضحاك -وهو حر الشمس-؛ لجوعك طعاماً، ولعريك لباساً، ولظمئك ماءً، ولضحاك مسكناً وكنًّا، فلما أحدث، وأخرج منها؛ ألقى عليه هذا النداء: احذر من الشقاء، دون حواء، فقيل: تشقى، ولم يقل: تشقيا.
ومن هاهنا علمنا: أن نفقة المرأة على الزوج.
فبقي ولده في هذا الشقاء إلى انتهاء الدنيا، فكل من كان من ولده أحفظ لهذه الأمانة، كان أوفر حظاً من أمان الله تعالى في الدنيا والآخرة؛(7/48)
لأنه إنما قبل الله منه إيمانه بقبوله للأمانة.
فأوفرهم حظاً من وفاء الإيمان، وحفظ الأمانة: وأوفرهم حظاً من قبوله لعهده: أوفاهم، فإذا قبله، فهو في أمانه في الدنيا والآخرة.
وذلك قوله تعالى: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوانٍ كفورٍ}.
وكان داود صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: اللهم دافع عني من كل جانب، فكان يسأل الدفاع.
وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم من شأنه أن يقول: ((أعوذ بك من كذا)).
وبذلك أمر في التنزيل، وهو قوله تعالى: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين}. وعليه أنزلت المعوذتان.
والدفاع: سؤال من بعد في القربة، والتعوذ: تعلق به في القرب من القربة.(7/49)
الأصل التاسع والثمانون والمئتان
1571 - نا سفيان بن وكيع، قال: نا ابن نمير، عن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة: أن ابن كعب بن مالك حدثه عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنمٍ بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)).(7/51)
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فوضع الله الحرص في الآدمي، ثم زمه في المؤمنين بزمام التوحيد واليقين، وقطع علائق الحرص بنور السبحات، فمن كان حظه من نور اليقين، ونور السبحات أوفر، كان وثاق حرصه أوثق، وحنه أحصن، والحرص يحتاج إليه الآدمي، ولكن بقدرٍ معلوم، فإذا لم يكن لحرصه وثاق، وجاءت رياحه بأهبوبها، استقرت النفس، فتعدى القدر الذي يحتاج إليه، فأفسد.
قال له قائل: ما الحرص؟ وما حاجة الآدمي إليه؟.
قال: إن الحرص مدد القوة الموضوعة في الآدمي، ومثيرها، وعمادها، وهي نارٌ تتقد، ولها خشعة وغليان، وأصلها من نور الحياة، فبقدر ما تتلظى نار الحرص يطير لهبانها في الجوارح، فإذا استعمل تلك الجارحة، استعملها باستفزاز وخفة، وإذا سكن الحرص، فترت القوة، فبالحرص يقوى على بعث الأركان في أعمال البر، وبالحرص يصابر على طاعة الله تعالى، وبالحرص يسمو إلى معالي الدرجات، ومن شأن الحرص الترقي في الدرجات، وطلب الازدياد من كل شيء يناله في الدنيا والآخرة.(7/52)
فحريق الحرص وتلظيه يحرق شهوة كل شيء يناله، لا حرق تلاشي، ولكن يأتي بحريق أشد منه؛ كالنار التي تأكل بعضها بعضاً، فتزداد قوة، فكلما ازداد تناولاً من نهمة شيءٍ من أمر الدين والدنيا، ازداد حريقه تلظياً، وازدادت النار قوةً.
ولذلك قيل في الحديث: ((ما أعطي العبد شيئاً من الدنيا إلا زيد مثله في الحرص)).
والحرص والصرح: مشتقٌّ بعضه من بعض.
فالصرح: البناء العالي المشرف والناتئ على البنيان، وهو قوله: {يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب}.
فهذا في الظاهر صرح، وذاك في الباطن على تقليب الحروف سمي حرصاً؛ لأنه به يطلب الازدياد، ويترقى في درجات المزيد عتواً وعلواً، كلما نال درجةً من درجات الدين والدنيا؛ سما به حرصه إلى درجة أعلى منها، فلا يزال يترقى حتى يبلغ درجة تكون له منظراً، فإذا نظر إلى من هو دونه من درجات الدين، اعتراه العجب، فأعجب بنفسه، فصال بتلك الدرجة(7/53)
على الخلق، واستطال، فرمي به من ذلك العلو، فلا يبقى منه عضو إلا تكسر وتبدد، وكذلك في درجات الدنيا، إذا رمى ببصره إلى من دونه في الدرجات، تكبر عليهم، فتاه عن الله بكبره، وتجبر على عباده، فخشي تزيده، ففي درجات الدين يقال له: أعجب، وفي درجات الدنيا: يزبر ويزجر.
فأعطي الآدمي هذا الحرص؛ ليتقوى به على الازدياد من أعمال البر، كلما نال درجةً، سما إلى ما هو أعلى منها؛ سيراً إلى الله تعالى، وشوقاً إليه، فحرصه مزموم بالخوف والخشية، مشحون بأثقال السكينة والوقار، مقبوض، فصاحب هذا طالب للعلو في الدين، قد عصمه الله من التعدي والإعجاب، وترك الأدب في الدين.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكرة حيث دخل المسجد والناس ركوع، فركع، ومشى في ركوعه حتى وصل إلى الصف، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((زادك الله حرصاً، ولا تعد))، وقد كان تقدم إليهم، فقال: ((إذا أتيتم الصلاة، فأتوها بالسكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا،(7/54)
وما فاتكم فاقضوا)).
وقال في حديث آخر: ((التأني من الله، والعجلة من الشيطان)).
1572 - نا محمد بن مقاتل، قال: نا أبو زهير، عن الحسن بن دينار، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استعجل، أخطأ)).
فالعجلة: من الخفة، والخفة من هيجان الحرص، يزيد في قوتك ويمددها حتى تصير به مذموماً، وتزول عنك السكينة والوقار، فهذا(7/55)
صاحب الدين.
وأما صاحب الدنيا: فحرصه حمله على أن يكون طالباً للازدياد من الدنيا، طالباً لعلو الدرجات.
قال الله تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فساداً}.
فزجر عن طلب العلو في درجات الدنيا، وحرم طالبه الدار الآخرة، وهي الجنة؛ لأن الدنيا مقدرة في اللوح، مقسومة بين العباد، لن ينال عبد منها إلا ما قدر له وكتب، وهي درجاتٌ بعضها فوق بعض؛ ليبلونا فيما آتانا.
وكذلك قال سبحانه في تنزيله: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعضٍ درجاتٍ ليبلوكم في ما آتاكم}؛ أي: من يشكر نعمتي، ومن يكفرها.
ثم قال: {إن ربك سريع العقاب}؛ كي يخاف العباد عقوبته، ثم قال: {وإنه لغفورٌ رحيمٌ}؛ كيلا يقنط العباد من رحمته بما تقدم من وعيده أنه سريع العقاب.
وقال تعالى: {وما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها}، ثم قال: {كلٌّ في كتابٍ مبينٍ}.
فإنما ضمن بيان مقداره وكيفيته ومواقتته في الكتاب؛ كي تسكن نفوسهم إلى ما قدر وكتب، ويتفرغ القلب لما خلق له من العبودة؛ فإنه(7/56)
خلق عبداً؛ ليكون له عبداً كما خلق، فيثيبه غداً على كونه عبداً في دار السلام، ملكاً محبوراً، واليوم عبداً مربوباً مهموماً محزوناً، على خطرٍ عظيم في ذل العبودة مع الهوى، والشهوة، والعدو، فإذا حرص العبد، وهاج حرصه حتى خرج من الحصن، وانحل من الوثاق الذي وصفنا بدءاً، لم تقنع نفسه بما أوتي، وكتب له في اللوح، وأخرجه ذلك إلى السخط على رب العالمين.
1573 - نا أبي، قال: نا عمرو بن خالد الأعشى، عن زياد بن منذر، عن أبي جعفر محمد بن علي، قال: أصبت أربعة أسطر، وأربعة أسطر تتبعها:
فأما الأول: فمن لا يستشر يندم، وكما تدين تدان، ومن يملك شيئاً يستأثر، والفقر الموت الأكبر.
وأربعة أسطر تتبعها: من أصبح على الدنيا ساخطاً فإنما يسخط على ربه، ومن نزلت به مصيبة فشكاها، فإنما يشكو ربه، ومن جالس غنياً، فتضعضع له؛ ليصيب من عرض دنياه، ذهب الله بثلثي دينه، ومن قرأ القرآن، ثم مات(7/57)
فدخل النار، فلم يكن يقرأ القرآن، إنما كان يتخذ آيات الله هزواً.
وروي لنا في التوراة: أنه قال: من أصبح حزيناً على الدنيا، أصبح ساخطاً على ربه.
وإنما حزن؛ لأن حرصه قواه، وهيجه على طلب ما اشتهى، ولا يرجع بقلبه إلى ما قدر له، فيطمئن إلى حسن تدبيره له وتقديره، ويسكن إلى علمه فيه كم يزاد له من دنياه، فإذا لم يرجع قلبه إلى ذلك، لم تطمئن نفسه، فطلبت النفس ذلك، فلم تجد، حزنت، فأداه الحزن إلى السخط على ربه، فذلك الداء العضال المستقبح للآدمي.
والحرص حمل أبانا آدم صلى الله عليه وسلم على أن طلب الأكل من الشجرة؛ ليبقى فيها، فلم ينظر إلى تقدير الله تعالى، فذهبت عنه المراقبة لمشيئة الله، والحرص في الطاعات، وأعمال البر إذا خرج من الوثاق والحصن، أضر به، وأفسد الأمر؛ لأنه تجاوز بالعبد إلى التعدي عن المقدار في دينٍ كان أو دنيا.(7/58)
ألا ترى إلى قوله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}، وقال تعالى: {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين}.
فكان يؤيسه من هداهم إلا بإذنه، ويقتضيه أن يدعوهم إليه، ومع ذلك مراقبة الإذن والهداية، وقد أخبره في تنزيله، فقال: {وما كان لنفسٍ أن تؤمن إلا بإذن الله}.
وقال تعالى: {ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}. فكان حرصه يغلبه على الطلب منهم الاهتداء والقبول حتى قال تعالى: {لعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً}.
وقال تعالى: {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآيةٍ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين} الآية.
فالحرص على قبولهم ما جاء به عن الله تعالى، حمله على ذلك، وهيجه، حتى خرج إلى الحال التي ردعه عنها، فقال: {فلا تكونن من الجاهلين}؛ أي: لا تشاء أنت إلا ما أشاء، فعليك البلاغ، وعلينا الهدى، و {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}.
فردد هذه الكلمة، وما أشبه هذا في القرآن في نحوٍ من خمسين(7/59)
آية، أو أقل أو أكثر؛ ليعلم أن خروج هذا وسكون هذا الحرص من الآدميين في مدة طويلة، وتزداد موعظة على موعظة، وزجراً على إثر زجر، حتى يسكن هذا الحرص؛ ليعلم أن هذا أقوى شيء في الآدميين، وأعظم ضرراً، فاقتضاه صلى الله عليه وسلم مراقبة مشيئته في كل أمر، ديناً ودنيا، فرفض جميع مشيئاته في الدين والدنيا لمشيئته، وهذا منتهى العبودة، فعندها يصل العبد إلى الله تعالى إلى منتهى منازل القربة.
وهذا خالص العبودة لمن سار إلى الله عبداً؛ ليصل إليه، فلا يزال يرفض مشيئاته لمشيئته في كل أمر، ديناً ودنيا، حتى يزول عنه جميع مشيئاته، فعندها فارق الهوى الذي اتخذه الآدمي إلهاً من دون الله، وصارت القلوب والهةً بالهوى إلى الشهوات دون الوله إلى الله، فصارت قلوبهم دنسةً بالهوى والتجبر، مزجورة عن بابه، فكل من كان أوفر حظاً من الهوى، كان قلبه من الله تعالى أبعد، حتى ينحط من بابه بزيادة استعمال الهوى، حتى يقع في الكبائر ينهمك فيها حتى يصير إلى عبادة الأوثان؛ فإنهم عبدوا الأوثان بأهواء النفوس، كلما زين الشيطان في قلوبهم شجراً أو حجراً، نصبوه وثناً يعبدونه، وحرصوا على ذلك حرصاً؛ حتى كانوا إذا رأوه، ابتدروه(7/60)
أيهم يستلمه أولاً، قال الله تعالى: {كأنهم إلى نصبٍ يوفضون. خاشعةً أبصارهم}. والوفض: السرعة في المشي.
1574 - نا الفضل بن محمد، عن مسلم بن إبراهيم، عن قرة بن خالد، عن الحسن في قوله تعالى: {كأنهم إلى نصبٍ يوفضون}، قال: يبتدرون إلى آلهتهم أيهم أسرع ..
فلم يزل هذا شأن الله مع الأنبياء، يردع إراداتهم، ومشيئاتهم؛ ليقفوا على مراقبة مشيئته حتى استقاموا، فرضي الله عنهم؛ لموافقتهم إياه، والتخلي عن الجبرية؛ فإن الجبار واحد قهار، وليس للعبيد أن يتجبروا، فيضاهون الله، وإنما سمي الجبار جباراً؛ لأنه مستبد بكبره، يجبر الخلق على مشيئته، فالجبار مضاهٍ لله، مضادٌّ لحكمه وأقضيته.
وقال تعالى في تنزيله: {كذلك يطبع الله على كل قلبٍ متكبرٍ جبارٍ}، فالجبروت لله، والكبر لله، ليس للخلق منه شيء إلا ما يعطيهم.(7/61)
1575 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا عبد الوهاب بن نافع، عن ابن المبارك، عن الحسن، قال: قال الله تعالى: ((يا داود! تريد وأريد، ويكون ما أريد، فإن أردت ما أريد، كفيتك ما تريد، وإن أردت غير ما أريد، غيبتك فيما تريد، ويكون ما أريد)).
فلم يزل يهذب نبينا صلى الله عليه وسلم بالزجر عن التحارص في الدين، حتى يكون بمقدار، ومقداره: أن يراقب أمر الله، ما يبدو له من مشيئاته في كل أمر، فيطمئن إليها حتى استقام، فأثنى عليه فقال: {وإنك لعلى خلقٍ عظيم}.
فسئلت عائشة -رضي الله عنها- عن خلقه، فقالت: ((كان يرضى برضاه، ويسخط بسخطه))؛ أي: برضا الله وسخطه؛ كأنه لم يبق له مشيئة.
وبلغ من استقامته: أنه روي لنا: أنه لما قبض، جاءه جبريل عليه السلام، فقال له: إن ربك يخيرك بين لقائه وبين الخلد، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا أختار حتى يختار لي ربي)).(7/62)
فهذا غاية رفض المشيئة، لم يحمله الشوق إلى ربه تعالى على اختيار اللقاء، ولم يحمله الكون بين الأمة في خالص العبودة لله تعالى، ولذة الطاعات له، وتربية الأمة، فيختار الكون بين ظهرانيهم، فألقى الاختيار إلى ربه، فرجع جبريل، وقد كان قال لملك الموت عليه السلام: لا تنزعن محمداً صلى الله عليه وسلم حتى آتيك، فرجع وملك الموت ينتظره، فقال: يا محمد! إن الله اختار لك لقاءه، فقال: ((تقدم يا ملك الموت))، فما زال يقول: ((لقاء ربي، لقاء ربي)) حتى خرجت نفسه.
1576 - نا بهذه القصة: أبي، قال: نا صالح بن عبد الله، قال: نا عبد الوهاب الثقفي، قال: نا المهاجر، عن أبي العالية، أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه، فقال: إن ربي يخيرك بين أن تعيش ما شئت، وتعطى نهمتك من الدنيا، وأنت عبده، ورسوله، أو الرفيق الأعلى؟ فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم له: ((فأنت رسولي إلى ربي، فليختر لي))، فخرج جبريل، فرأى ملك الموت على باب الحجرة، فقال له جبريل: لا تدخل الحجرة، ولا تنزعن محمداً صلى الله عليه وسلم حتى آتيك، فحدث رسول الله أصحابه، فقال: ((إن ربي أرسل إلي يعرض علي كذا وكذا))، فقال له(7/63)
أصحابه: يا نبي الله! وما كان عليك أن تختار أن تعيش، فتعطى نهمتك من الدنيا، وأنت عبد الله ورسوله، ويأتيك خبر السماء غدوةً وعشية؟ فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((كلا، خيرة ربي))، فلبث جبريل ساعةً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أراني إلا مقبوضاً))، فجاء جبريل بعد ذلك، فقال: إن ربي أرسلني إليك يخيرك زيادةً أن تعيش ما شئت، فتعطى نهمتك من الدنيا، وأنت عبد الله ورسوله، أو الرفيق الأعلى؟ قال: فإن الله خار لك أن تلقاه، فخرج جبريل، ودخل ملك الموت، فما زال نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لقاء ربي)) حتى قبض -صلوات الله عليه-.
فلم نسمع أحداً من الرسل قبله إلا تردد واضطرب في وقت وفاته.
فروي لنا عن إبراهيم عليه السلام: أنه لما أتاه ملك الموت، فقال له: أنت مقبوض، فكره ذلك، وقال: هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فرجع ملك(7/64)
الموت بما قال إلى ربه، فقال له: قل له: هل رأيت حبيباً يكره لقاء حبيبه؟ ومثل له في كرمه شيخ، فقرب إليه عنباً، فجعل يأكل بفيه، ويخرج من أسفله، فقال له: كم أتى لك يا شيخ؟ فذكر عدد سني إبراهيم، فكره الحياة، وقال: اللهم اقبضني إليك.
وروي: أن ملك الموت أتى موسى عليه السلام، فأعلمه أنه ميت، فقال الآن وقد قرت عيني؟! فأوحى الله إليه: أما ترضى أن ألبس وجهك مثل نور الشمس وأضعافه ثنتي عشرة مرةً؟
فروي في حديث آخر: أنه كره الموت كراهية، رفع يده، فلطم عين ملك الموت حتى فقأ عينه، وما زال يخاصمه: من أين تأخذ روحي؟ أمن سمعي، وقد سمعت كلام ربي؟ أمن فمي وقد كلمت ربي؟ أمن يدي وقد تناولت التوراة منه بيدي؟ أمن قدمي وقد وقفت بهما بين يدي ربي في المناجاة؟ فما زال يخاصمه حتى بقي ملك الموت وهو يرتقي، أو رجع إلى ربه.
فاضطربت الرسل في شأن الموت.(7/65)
فروي لنا عن داود صلى الله عليه وسلم: أنه وافاه ملك الموت وهو يرتقي المحراب، فقال: دعني لأرتقي، قال: ليس إلى ذلك سبيل، قال: دعني أنزل؟ قال: ليس إلى ذلك سبيل، قد نفدت الآثار، فما أنت بمؤثر أثراً، فقبض نفسه على تلك الحال.
فكان نبينا صلى الله عليه وسلم مهذباً، أدبه ربه بهذه الآيات في التنزيل حتى استقام، ورفض مشيئاته لمشيئة الله، ووقف على حدود المراقبة، فبرز بها على الرسل، وكذلك فعل حيث خير بين أن يكون عبداً نبياً، أو ملكاً نبياً، فلم يختر حتى أشار إليه جبريل عليه السلام، وقد صار جبريل كالحلس الملقى ميتاً من الفرق، فأشار إليه بيده: أن: تواضع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نبيًّا عبداً))، فقيل له: إن لك بأن تواضعت: أنك أول من تنشق عنه الأرض، وأول خطيب، وأول شفيع، ولواء الحمد بيدك، ومفاتيح الكرم بيدك؛ فإنما وقف جبريل فلم يختر له، حتى ينظر ما يتجلى له من ربه من ملكه، فلما تجلى له ما تجلى، صار كالميت من الفرق، فذلك ملك الجلال.(7/66)
فاستدل بذلك جبريل في ذلك الوقت: أنه لم يتجلى له من ملكه إلا بملك الجلال: أنه اختار له التواضع، فحل بجبريل ما حل، وأشار إليه بالتواضع، ولو أراد أن يختار له نبياً ملكاً، لكان عسى أن يتجلى له ملك الجمال والبهجة، فكان ينبسط جبريل، ويأنس بما يتجلى له، ويستدل به على ما يختار له ربه، فهذا شأن نبي الله صلى الله عليه وسلم، ما زال يردعه عن التحارص حتى طهره من التعدي، وزم حرصه بمشيئة ربه، فإذا كان الحرص في الدين يضر كل هذا الضرر، فكيف بمن حرص على دنيا دنيئة، يطلب بها العلو على الخلق، والتجبر، ويطمئن في نوائبه إلى دنياه معتمداً عليها ومقتدراً؟.
فمن فعل ذلك في دينه، سمي جاهلاٌ؛ كما قال له: {فلا تكونن من الجاهلين}. ومن فعل هذا في دنياه، عمي عن الله تعالى.
وقال في تنزيله: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}.
فروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((ليس الأعمى من يعمى بصره، إنما الأعمى من تعمى بصيرته)).
وقال في تنزيله: {قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي(7/67)
الظلمات والنور}.
فالذي عمي قلبه عن الله في ظلمات المعاصي؛ جمعاً من غير حق، ومنعاً من حق، وإنفاقاً في غير حق، فهذا كله في النار.
وقال تعالى: {ولا تبذر تبذيراً. إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين}. فانظر إلى من نسبه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: ((حبك الشيء يعمي ويصم)).
فإنما حرص على حبه بحبه إياه، فأعماه وأصمه عن أمر الله فيه، وعن حقوقه فيه، وعن حدوده، وألهاه تكاثره به عن ذكر الموت، حتى زار المقابر أصم أعمى، قد لحقته حقوق المال كالزنابير تلسعه، وكالعقارب تلدغه، وكالحيات تنهشه.
وقال تعالى: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرٌّ لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة}.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن الذي جمع [المال] من غير حله، ومنع الحقوق منه، يمثل له ماله حيةً يطوق بها عنقه يوم القيامة، فتقضقض(7/68)
بأسنانها شؤون رأسه، تأكل دماغه، ثم يعود كما كان، ثم يفعل به مثل ذلك، فما زال هذا حاله في الموقف حتى يقضي الله بين العباد، ثم مصيره إلى ما شاء الله من النار أو غيرها)).
وهذا كله ثمرة الحرص، فالحرص على الدنيا يذهب القناعة، ويكون ساخطاً على ربه، والحرص في الدين يطمس العلم، ويكون صاحبه جاهلاً إذا خرج الحرص من الوثاق، وإذا كان في وثاقٍ، انتفع به صاحبه؛ لأن الله تعالى وضعه في الآدمي؛ ليكون عوناً له وقوة على ما يحتاج إليه في الدين والدنيا، وإذا كان الحرص مفقوداً، أداه إلى العجز والكسل في أمر الله وفي عبودته.
فالحرص على الدنيا إذا كان في وثاق، يقفه على القناعة بما قسم الله له من دنياه، فلكما آتاه شيئاً منه من حله من غير طمع ولا إشراف نفس، قبله من ربه، وحمده عليه، وقنع به.
والحرص في دينه إذا كان في وثاق، يقفه على حدود مراقبة المشيئة، وتدبير الله تعالى.
وروي لنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه(7/69)
هدية، فكأنه امتنع عن قبولها، فقال له: ((يا عمر! ما آتاك الله من هذا المال من غير مسألةٍ ولا إشراف نفسٍ، فخذه، إنما هو رزقٌ ساقه الله إليك)).
ومن أدبه الله وهذبه، كان حرصه على هذه الصفة التي وصفنا. والله أعلم.(7/70)
الأصل التسعون والمئتان
1577 - نا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك، عن عتيك بن الحارث ابن عتيك: أنه أخبره: أن جابر بن عتيك أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت، فوجده قد غلب عليه، فصاح به، فلم يجبه، فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ((قد غلبنا عليك يا أبا الربيع))، فصاح النسوة، وبكين، فجعل ابن عتيك يسكتهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعهن، فإذا وجب، فلا تبكين باكيةٌ))، قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات))، قالت ابنته: والله! إني كنت لأرجو أن تكون شهيداً، فإنك قد كنت قضيت جهادك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته))(7/71)
-ثم قال-: ((ما تعدون الشهادة فيكم؟)) قالوا: القتل في سبيل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشهادة سبعٌ سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيدٌ، والغريق شهيدٌ، وصاحب ذات الجنب شهيدٌ، والمبطون شهيدٌ، وصاحب الحريق شهيدٌ، والذي يموت تحت الهدم شهيدٌ، والمرأة تموت بجمعٍ شهيد)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فالشهادة لها مرتبة عظيمة عند الله، والصدق أعظم مرتبة، وقد ذكر الله في تنزيله الصنفين، فقدم الصدق على الشهادة، فقال: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين}.(7/72)
فبدأ بالأول فالأول؛ ذكر النبوة، ثم الصدق، ثم الشهادة، ثم الصلاح.
فالصديق: صدق الله في بذل نفسه له في جميع عمره.
والشهيد: صدق الله في بذله نفسه له في وقت الوفاة.
وإنما نالوا الكرامة -كل هذه الأصناف- في بذل النفس، ومن بذل نفسه لله، فقد آثر الله على نفسه، وذلك أن العبد إذا وضع له في هذا القالب -أعني: الجسد- روحاً به حيي، وبالنفس التي في جوفه، وهي الأمارة بالسوء، المحبة للحياة في الدنيا، فأعطي الآدمي هذه الحياة هاهنا؛ ليلتذ الأشياء بقوتها، وعظم الحياة عنده في الدار الآخرة.
وقال في تنزيله: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}.
فالحيوان في الجنة، والحياة في الدنيا، وكل شيء على قالب فعلان، فهو أكثر من قالب فعيل وفاعل؛ كقوله: الرحمن الرحيم، وعريان وعارٍ، وحسان وحسن، وندمان ونديم.
فالعريان: هو الذي بقشره، والعاري: الذي خلق ثوبه وبلي، فهو عارٍ من الكسوة.(7/73)
حيث سأل عمر: من أشعر شعرائكم؟ قال: النابغة، وأنشده هذا البيت:
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي ... على خوفٍ تظن به الظنونا
1578 - نا بذلك الجارود، قال: نا أبو أسامة، عن مجالد، عن عامر، عن ربعي بن حراش، عن عمر رضي الله عنه.
وعظم الحياة، وحياة الحياة عند الله الحي الذي لا يموت، فمن حيي قلبه بالله، سعد، وللحياة بين العباد درجات، فالكافر ميت القلب، حي الجسد بحياة الروح، وحياة النفس الأمارة بالسوء. والمؤمن حي القلب، حي الجسد، فحياة قلبه بالله، وحياة جسده بالروح والنفس، فنال بتلك الحياة التوحيد، ثم لم يزل يعمل الطاعات يتقرب بها إلى ربه، فكلما ازداد قرباً، زاده الله حياة قلب به.
وكلما ازداد من الله قربةً، ازداد حياؤه حتى ينال فرصة الشهادة،(7/74)
فيبذل نفسه لله، ويؤثر الله على نفسه عند كل أمر؛ لأن المؤمن ممتحنٌ بالشهوات، فإذا عارضته شهوة، آثر الله على تلك الشهوة، فرفضها، ولم يذق نفسه طعمها، عادى نفسه في ذات الله، فهذا عبدٌ قد أراد الله، فرفض نفسه، فحق على الله أن يؤيده ويؤثره، وإن للشهوات حلاوة ولذة، ولوجود الله تعالى بالقلب لذة وحلاوة، ووجوده: أن يتراءى لفؤاده نور من أنواره، فيهيج من قلبه حبه له، وشوقه إلى لقائه، فكلما كان ذلك النور أنضر وأعلى، كان هيجان القلب، وفوران الشوق أقوى وأشد سلطاناً، فمن عارضته شهوةٌ من شهوات الدنيا، فأعطى نفسه حلاوتها ولذتها، فقد آثر نفسه على الله، فهو محجوب عن الله بقدر ما آثر؛ لأن قلبه قد صار والهاً عن الله بتلك الشهوة، فبقدر ما صار والهاً عن الله، صار محجوباً، وصار ولهه إلى الشهوة، فنقص ولهه الذي يوله إلى الله، وبقدر ذلك نقص نور كلمة لا إله إلا الله؛ فإن نور كلمة لا إله إلا الله أثقل في الميزان من سبع سماوات، وسبع أرضين، وجميع ما فيه من الخلق.
وكذلك روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((قال موسى: يا رب! دلني على عملٍ أعمله؟ قال: يا موسى! قل: لا إله إلا الله، قال: يا رب! دلني على عملٍ أعمله؟ قال: يا موسى! قل: لا إله إلا الله، قال: يا رب!(7/75)
دلني على عملٍ أعمله؟ قال: يا موسى! قل: لا إله إلا الله، قال: فأراد نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يعمل عملاً ينهك منه بدنه، فقال سبحانه: يا موسى! لو أن السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيهن من الخلق وضعت في كفةٍ ووضعت لا إله إلا الله في كفةٍ، لرجحت بهن)).
1579 - نا عبد الله بن أبي زياد، قال: نا سيار، قال: نا جعفر، قال: نا حمزة بن نجيح، قال: حدثني مسلمة، عن محمد بن عليٍ: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمسى في الأنصار بقباء عشية خميس، وأمسى صائماً، فأتاه أوس بن خولة -رجل من الأنصار- لما أمسى بقدح، فذاقه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما شرابك؟))، قال: ماء وعسل، ولبن وعسل، قال: فوضعه وعافه، وقال: ((أما إني لا أحرمه، ولكن أتركه تواضعاً لله؛ فإنه من تواضع لله، رفعه الله، ومن اقتصد،(7/76)
أغناه الله، ومن بذرن أفقره الله)).
فهذا يحقق لك ما قلنا بدءاً: أن من آثر الله على شهوته، فقد بذل نفسه لله، ومن آثر الشهوة، لقي ما لقي الخضر حيث عوتب على فعله، وإنما يعاتب الأحباب والخواص من العباد، والأباعد لا يعاتبون، ولا يبتغى منهم ذلك.
1580 - نا عبد المنعم، عن أبيه، عن جده وهب بن منبه، قال: بينما الخضر قاعد على شاطئ البحر، إذ أتاه سائل، فوقف عليه، فقال له: أيها القاعد! أسألك بوجه الله أن تعطف علي بخير، فغشي على الخضر ساعةً من مقال السائل بوجه الله، فأفاق، ثم قال: أيها السائل! سألتني بوجه الله، لا أدري ما أكافئك به، وليس من الأشياء شيء أكرم علي من نفسي، فقد بذلت لك نفسي لعزة وجه الله، فدونك نفسي فبعها، وانتفع بثمنها، فذهب به السائل، فعرضه على البيع، فباعه من رجل غني يقال له: ساحم بن أرقم، فذهب به إلى منزله، وله بستان صغير في داره، بجنبه(7/77)
جبل كبير، فدفع المسحاة إليه، وأمره أن ينحت شيئاً من ذلك الجبل الذي في البستان، قدر ما يغرس فيه شيئاً، وغاب ساحم إلى حاجته، فأقبل الخضر على النحت من ذلك الجبل، وأبطأ مولاه في حاجته، وجاء ممسياً، فقال لمن في البيت: أطعمتم هذا الغلام؟ قالوا: أيما غلام؟ قال: الذي اشتريته اليوم وجعلته في البستان، قالوا: لا علم لنا به، فاسترجع، وأخذ الطعام، ودخل عليه، فإذا قد فرغ من ذلك الجبل وهده، وذلك الجبل فرسخ في فرسخ، قد سواه في ذلك البستان، وأصلحه، وفرغ منه، وقام إلى الصلاة، فنظر ساحم إلى أمر عظيم، ففزع من ذلك وتعجب، وكاد أن يغشى عليه، فدنا منه وقال: من أنت؟ قال: أنا عبدك، قال: نعم، فما قصتك؟ وما جنسك؟ وممن أنت؟.
فقال: أما القصة: فعبد بيع، وآخر اشتراه، وأما الجنس: فمن آدم،(7/78)
وآدم من تراب، قال: فمن أين لك هذه القوة التي أرى؟ قال: من الله، قال: فأسألك بوجه الله لما صدقتني من أنت؟ فغشي على الخضر، وسقط ساعة مغشياً عليه، فلما أفاق، قال: أنا الخضر المذنب، فغشي على ساحم ساعة علم أنه الخضر، فأفاق، ثم غشي عليه، ثم أفاق وهو يقول:
سبحان خالق النور! أعتقت عبدك، ووليك، وحبيبك، وصفيك خضراً لوجهك، وأسألك التوبة مما كان من استعمالي إياه، فسجد خضر سجدة وهو يقول: يا رب! لوجهك بذلت نفسي، ولوجهك أقررت بالرق، ولوجهك بعت رقبتي، ولوجهك رددت نفسي، فمن الذي رجاك فخيبته؟ ومن الذي خافك فلم تؤمنه؟ ومن الذي دعاك فلم تجبه؟ يا رب! أدعوك دعاء الخاطئين، يا رب! أعتقني ساحم، فمن يعتقني من ذنوبي الموبقة؟ خلصني ساحم من عبودته، فمن يخلصني من سيئاتي ووقوفي عند ذي العرش؟.
فقال له ساحم: أقسمت عليك بعزة الله أن تخبرني سببك كيف صرت عبداً؟ ومن الذي صيرك إلى أن بعت نفسك؟.
قال: الوجه الذي أعتقتني لوجهه، قال: ثم قص عليه القصة، قال: وقد عظمت علينا منتك يا ساحم، فإن رأيت أن أقيم فأؤدي بعض ما يجب علي من حقك، أقمت، وإن أذنت لي بالرجوع بعد إذ أعتقتني، فأنت المأجور فيه، فقال ساحم: قد أذنت لك يا ولي الله، فارجع بسلام،(7/79)
واذكرني في دعائك، فقال: اللهم اغفر لساحم، وارحمه رحمةً لا عذاب بعدها أبداً، قال: فنودي: قد أجبت يا خضر.
قال: ومضى حتى أتى البحر، فإذا هو برجل قائم على وجه الماء، شاخص ببصره إلى السماء يدعو وهو يقول: يا من قامت السماوات بأمره، ولا يسقط بعضها على بعض! يا من دحا الأرض ومن فيها، وأحصى عدد ما فيها من مثاقيل رملها، وحصبائها! يا من عاقب الخضر بذنبه! تب عليه توبة مقبولة بوجهك يا أكرم الوجوه.
فدنا منه الخضر فقال: السلام عليك يا عبد الله، من أنت الذي تسأل التوبة للخضر؟ قال: أنا الذي آمنت بجلال ربي، واشتغلت بأدائي شكر إيمان ربي، وإن الخضر لم يزل معصوماً حتى رغب إلى الدنيا، وأدخل في قلبه حبها، فابتلي، فرحمته، وأخلصت له دعائي، فقال له: أنا الخضر، فقال: إليك إليك أيها المذنب، لا تخالطني أيها الميال إلى الميالة، والذيال إلى الذيالة، والمغرور إلى المغرورة، أنسيت نعيم الآخرة، فجرك النسيان إلى طلب نعيم الدنيا؟ أوَقد نسيت شدة الآخرة وبؤسها، فطلبت راحة الدنيا وسرورها؟ أليس الله ابتلاك بما ابتلاك عقوبة منه عليك؟ فلو قد نجوت(7/80)
مما قد رأيت لربحت يا خضر الخاطئ، تبوأت لنفسك مكاناً كأنك مخلد فيها، وغرست لراحتك ظلاً كأنك باق فيها، أوَما علمت أن أمكنتها مبدلة؟ وأن أغراسها مقلعة؟ وأن عمرانها مخربة؟ وأن نعيمها زائل بمن فيها؟.
يا خضر الخاطئ! أين كان قلبك ساعة غرسها؛ حتى فرغت قلبك لغرسها؟ أين كانت فكرتك عن الآخرة؟ أليس قد خلا قلبك عن ذكر الآخرة بذكر الدنيا ساعة؛ فإن الساعة في ذكر الآخرة لبلاغاً للعاقلين، يا خضر الخاطئ! قد أشغلتني، وقد ابتليت بالدعاء لك من عبودة الرحمن.
قال: وذلك أن الخضر كان له موضع معلوم على بعض شاطئ البحر، فإذا خرج إلى البر، عبد الله فيه.
قال: فغرس في ذلك الموضع شجرة يعبد الله في ظل أغصانها، إذا اشتهى العبادة فيها، استتر بها في عبادته، فعلم الله منه حب الدنيا بقدر ما اشتهى من تنزهه بها، وإن كان ذلك في طاعته، فعاقبه الله بذلك السائل، حتى صارت عبادته في عبودة عبدٍ من عباد الله، ولم يدر الخضر أنه ابتلي بذنب حتى سمع ما سمع من العابد القائم على ظهر الماء، وكان اسمه(7/81)
سادون بن آشى، فلما سمع الخضر بذلك، خر ساجداً وهو يقول: يا رب! ما طلبت بذلك إلا وجهك ورضاك.
فنودي: يا خضر! آثرت الدنيا على الآخرة، وفرغت قلبك لحبها دون حب الآخرة، ثم تمتن علي بها؟! وعزتي! مالي في حبها رضاً، ولا أكرم من أحبها، ولو كان لي في حبها رضاً؛ لخصصت بها أوليائي، ولكن أزويها عنهم؛ لهوانها علي، وكرامتهم لدي.
يا خضر! وعزتي! لو كانت طاعتي وطلب مرضاتي بها، لأفنيتها، ولخلقت خلقاً تكون به طاعتي ومرضاتي، اذهب، فلا حاجة لي فيمن احتاج إلى الدنيا، وأمكنها من قلبه، فلولا ما أدركك دعاء سادون، لأنزلت عليك بوائقي، ولتابعت عليك عقوباتي.
قال: وذلك أن الخضر طلبه سادون في مكانه الذي كان يراه فيه، فلم يره في مقعده، ولم يجده، فدعا الله أن يدله على الخضر، ويعلمه مكانه، وكان يعرف الخضر، والخضر لا يعرفه.
قال فأري أن الخضر أحب الدنيا وزهرتها، عوقب بعقوبة كذا وكذا، فوقف بين يدي الله قائماً على الماء، شاخصاً بصره إلى السماء، وهو يقول: يا رب! إن أنت أهنت عبدك الخضر بعد كرامتك، فمن(7/82)
يكرمه؟ يا رب! ارتكب عظيماً، وحمل ثقيلاً، وخان نفسه، ونسي العهد، يا من لا ينسى كل ما كان ويكون من أمر عباده! اذكر عند ذنوب الخضر ما مننت عليه من أنواع طاعتك، وعظيم عبادته إياك، يا من ناصية الخضر بيده! ليس له حراك نفسٍ، ولا عصمتها، ولا طرفة عين إلا بأمرك وبمشيئتك، وقدرتك، يا رب! فاغفر له ما قدَّرت عليه من معصيتك، فقدر عليه طاعتك؛ فإنها تذهب معصيتك، يا مقدر الذنوب يا رب! فاستجاب الله له، وخلص الخضر مما كان ابتلي به من العقوبة.
قال: فرفع الخضر رأسه، وأتى من ساعته سادون وهو يقول: يا سادون الممنون علي به بمنة الله وجلاله! كيف عرفتني ولم أعرفك يا أخي؟.
فقال له سادون: يا خضر! إن قلوب أولياء الله زاهرة نائرة، لها شعاع كشعاع الشمس، تطلع على قلوب أولياء الله.
ألا ترى إلى الشمس ما أصغر قدرها، وأكبر ضوءها، فلو غشيتها الظلمة القليلة، لذهبت بأكثر ضوئها، وكذلك قلب ولي الله، صافٍ طاهر، فلو غشيه حب الدنيا بقدر ذرة، لكدر ضوءه، ولأضعف شعاعه، فإذا خلص القلب من حب الدنيا، تراه ينظر إلى أولياء الله في مظانهم، وقد(7/83)
عرفك قلبي، فوالله! لو كان قلبك للدنيا مثل قلبي، لعرفني قلبك كما عرفك قلبي.
فقال له الخضر: وكيف قلبك للدنيا يا سادون؟
قال: قد بلغ من بغض الدنيا في قلبي ما لو أن الله عرض علي الدنيا والجنة، لأبيت قبولهما، ولست أريد الجنة مع ما أبغضها الله، وذلك أني أوثر رضا الله تعالى على رضائي، فإن رضا الله ترك الدنيا، ورضائي؛ دخول الجنة، ولو أن الله خيرني بين أن أبقى في الدنيا ونعيمها خالداً مخلداً أبداً لا أموت فيها، وبين أن يقبضني ويدخلني النار الساعة، لاخترت أن يقبضني ويدخلني النار الساعة، وذلك أني أوثر سخط الله على سخطي، وإن حب الدنيا يسخط الله، ودخول النار يسخطني، أفتجد ذلك في قلبك يا خضر؟ قال: لا.
قال: لو كان ذلك في قلبك، لكان يراني قلبك، اذهب، فليكن أكثر عبادتك بغض ما يبغضه الله، وهي الدنيا، ليس حب الدنيا بجمع أموالها وشهواتها وزهواتها، ولكن حب الدنيا أن تشغل قلبك عن حب(7/84)
الآخرة ولو طرفة عين، أبغضها بغضاً لا يكون شيء أبغض إليك منها، فإنك لا تطيق أن تحب الآخرة إلا على قدر ما تبغض الدنيا.
فقال: يا سادون! ادع الله أن يتوب علي مما ارتكبت؛ فإني أستحي من ربي أن أدعوه، وقد حاربته مع عدوه.
فقال سادون: يا رب! قدَّرت على عبدك الذنب، إن ارتكب من الذنب ما ارتكب، وكان أهلاً لذلك، وهو عدل منك، يا رب! ثم قدرت عليه الخلاص من عقوبتك، يا رب! ثم قدرت عليه وألهمته طلب التوبة من ذنوبه، يا رب! فتب عليه؛ فقد عرف ذنبه، توبة مصرٍّ غير عائد، يا رب! إن الخضر سألني أن أدعوك، فقد دعوتك مدلاً عليك بما وعدتني من حسن إجابتك في أوليائك.
فنودي: مر الخضر أن يزهد في الدنيا، فإذا زهد في الدنيا، اشتاق إلي، ومن اشتاق إلي، اشتقت إليه، ولا أشتاق إلى من لا أريد مغفرته، ولم أرض عنه، فأخبره سادون، فزهد بعد ذلك الخضر زهداً لم يزهد أحد مثله.
وكان سادون رجلاً ملاحاً، فكان ذات ليلة نائماً على شط البحر، إذ خرجت سمكتان، فوقفتا حذاءه، فسكت عنهما سادون رجاء أن تخرجا إلى البر فيأخذهما، فنادته إحداهما: يا سادون! أبلغ من حبك الدنيا حتى تطمع في برها وبحرها، والله! إنك طمعت أن تصطاد من هو أعبد لله(7/85)
منك، فنادتها صاحبتها فقالت: يا هذه! أتمنين على سادون بعبادتك ربك، ولم تؤدي شكر نعمةٍ أنعمها الله عليك؟!.
قال: فقلت: من أنتما فقالت الأخيرة: أما التي نادتك بالكلام الأول، فمنت على الله، فمسخها الله الآن، فها هي ذي ممسوخة خرساء، وأما أنا، فإني من جنس السمكة التي كان يونس بن متى في بطنها.
فقال سادون: كيف خصها الله بيونس من بين دواب البحر؟ قالت: كانت تعبد الله في البحر بزهدها، قال: فكيف كان زهدها؟ قالت: كانت لا تبرح، فإن أوتيت صيداً عفواً، أكلته، وإلا، صبرت، فكانت دواب البحر تسميها: السمكة الزاهدة، فأكرمها الله تعالى بنبيه عليه السلام إكراماً لها بزهدها، فزهد سادون من مكانه زهداً، وأخلص لله عبادته، فقام من ساعته، فمر على الماء، فلما توسط البحر، وقف، فلم يزل إلى أن صار إلى الخضر في مكان واحد يعبد الله ويدعوه.
قال أبو عبد الله:
فبنور هذه الكلمة بلغ هذا المبلغ، وإنما بلغ بصدق المقال، ولو(7/86)
كان بغير الصدق؛ لكان المنافق قد قاله، واليهود والنصارى قد قالوها، فأصدقهم في المقال: أعظمهم نوراً، والصدق في المقال: إنما يظهر من العبد ببذل النفس لله، وإيثاره ربه على نفسه في كل مشيئةٍ، وإرادةٍ، وشهوةٍ، فإذا آثر الله، فقد صدق الله في إرادته ربه، ورفضه نفسه.
والنبي صلى الله عليه وسلم بفضل نبوته أراد الله بزيادة الحياة التي في قلبه بالله تعالى.
والصديق دون النبي، والشهيد دونهما، وهو أقل حياة من الصديق، والصديق أقل حياة من النبي، والصالح أقل حياة من الشهيد، ومن حيي بالله، نال نور اليقين.
فهؤلاء الأصناف على درجاتهم على ما وصفنا في الحياة بالله، واليقين به، فأوفرهم حظاً من الحياة واليقين: أشدهم شوقاً إليه، وإرادة له، وإيثاراً له على شهوات نفسه.
فالنبي عليه السلام رأس الشهداء، ثم الصديق من بعده، ثم القتيل في سبيل الله، ثم من بعد ذلك هذه الأصناف التي ذكرها في الحديث، وأصناف آخرون مذكورون في غير هذا الحديث.
وإنما قال في هذا الحديث: ((الشهادة سبعٌ)): ولم يقل: ولا يكون شهيد من وراء السبع، إنما ذكر السبع في ذلك الموطن، ثم ذكر بعد ذلك:
أن الغريب إذا مات فهو شهيد.(7/87)
ومن خرج في طلب العلم فمات؛ فهو شهيد.
ومن داوم على الطهارة متوضئاً؛ فهو شهيد.
ومن مات مرابطاً؛ فهو شهيد.
ومن مات يوم الجمعة؛ فهو شهيد.
1581 - نا عبد العزيز بن منيب، قال: نا محمد بن كثير العبدي، وابن أبي شيبة، والهيثم بن أيوب، قالوا: نا أبو المنذر هذيل بن الحكم الأزدي، قال: نا عبد العزيز بن أبي رواد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((موت الغريب شهادةٌ)).(7/88)
1582 - نا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي، قال: نا بشر بن عمر، قال: نا هشام بن سعد، عن سعيد ابن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف الإسكندراني، عن عياض ابن عقبة الفهري، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات يوم الجمعة، أو ليلة الجمعة، وقاه الله فتنة القبر)).(7/89)
1583 - نا الجارود، قال: نا حفص بن عبد الله السلمي، قال: نا عبد القدوس، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله، وزاد فيه: ((وغدي وريح عليه من الجنة)).
أي: برزقه.
فأما تفسير الشهادة:
فإنه روي لنا في الخبر: أن الله تعالى لما خلق الموت، فزعت الملائكة منه، وعظم شأنه عندهم، فقالوا: من يقوم لهذا؟ فقال تعالى فيما روي عنه: ((إن لي عباداً يتمنونه حبًّا للقائي، يتجرعون مرارته، ويهون ذلك عليهم اشتياقاً إلي، ويرفضون حياة الدنيا طالبين لي، فعجبت الملائكة من شأن هؤلاء العبيد، وحنت إلى رؤيتهم، قال: فعرضت تلك الأرواح يومئذٍ عليهم، فمن شهد ذلك العرض يومئذٍ، أثبت اسمه، وسمي شهيداً)).
أي: شهد العرض، وكان من أهل هذه الصفة، فإذا خرج الروح منه،(7/90)
صار إلى ذلك المعرض، وكان من الأحياء المرزوقين، فلما صارت تلك الأرواح إلى الأجساد في الدنيا، وكانت قلوبهم حية بالله على الصفة التي وصفنا بدءاً، فمنهم الصديقون أولياء الله يتمنون الموت لحب الله.
قال الله تعالى في تنزيله حين ادعت اليهود ولايته، فقال: {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين}، ثم قال: {ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم}.
فأعلم العباد: أنهم بما قدمت أيديهم من نقض العهد، ونكث البيعة التي بايعوا الله يوم الميثاق، والمعاصي التي قدموها، لا يحبون لقاء الله، ولا يتمنون الموت، فأوفى العباد لتلك البيعة: أشدهم شوقاً إلى الله، وأحرصهم على الموت؛ فقد كانوا يوم العرض شهوداً في ذلك المحل، فلزمهم اسم الشهادة، فقيل: شهيد، فهم أيام الحياة في الدنيا على درجاتهم.
فأول الدرجات هم: النبيون، وهم رأس المشتاقين إلى الله، وفيهم تفاوت، ثم من بعدهم: الأولياء الصديقون، وفيهم تفاوت، ثم من بعدهم: من جاهد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، وهو لا يدري من هو، وهو محب للحياة، وكان في ذلك اليوم في ذلك العرض، فرزقه الله عند لقاء العدو شوقاً إليه، فلما آثر لقاء الله على الحياة في الدنيا، فأراد الله،(7/91)
أراده الله، فقتل، فتبين في عاقبة أمره أن هذا كان من هذا الصنف يومئذ، وإنما وجد القلب في هذه الساعة التي لقي فيها العدو، فصدق الله في بذل النفس، وإيثار لقاء الله.
ثم هؤلاء الأصناف الذين ذكرهم في الحديث هم في الغيب في ذلك العرض قد أثبتت أسماؤهم في الشهداء بذلك المحل والعرض، فوفق الله لهم هذه الأحوال.
فمن غرق، فأخذ الماء بنفسه، كانت موتته موتة وحية بلا لبث، فبذل نفسه لما أيس من الحياة، واختار لقاء الله.
وكذلك صاحب الحريق، وصاحب الهدم، والنفساء بجمع إذا نشب الولد في البطن، أيست من الحياة، فآثرت لقاء الله، وكذلك المطعون.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فقال: ((وخز أعدائكم من الجن)).
فذلك قتيل الجن يائس صاحبه من الحياة، وكذلك المبطون، وصاحب(7/92)
ذات الجنب، -وهو السل-، قد أيسا من الحياة؛ لأن قوة الحياة قد ذهبت عن المبطون، والمسلول، وقد أحست نفوسهما بالموت، وكذلك الغريب إذا أشرف على الموت، فلم ير أهله وولده، ولا أحبابه، تمنى الموت، وبذل نفسه؛ لأن هؤلاء إذا كانوا بالحضرة، واشتد على النفس فراقهم، فأحب الحياة، ففي هذا نقصان.
ولذلك تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أعوذ بك من حب العيش عند حضرات الموت)).
وإذا أحب أن يعيش في ذلك الوقت الذي دعاه الله إليه، فتلكأ وتردد، فذاك عيب ونقص، فأصحاب الفرش في هذا الغيب لا يتمنون الموت إذا حضر؛ لحب العيش، وفتنة قلوبهم بالأهل والولد، وحطام الدنيا، فذاك عيب ونقص.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشهداء أمناء الله؛ قتلوا أو ماتوا على فرشهم)).
1584 - نا بذلك محمد بن يحيى، عن علي بن الحسن، عن عبد الله بن المبارك، عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني، عن راشد بن سعد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(7/93)
وقال النبي عليه السلام: ((ليس كل قتيلٍ شهيداً، ورب قتيلٍ بين الصفين الله أعلم بنيته)).
فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراشه، وهو رأس الشهداء، ثم من بعده أبو بكر كذلك، فإنما صاروا شهداء؛ بأنهم أمناء الله، جعل الله أرواحهم في أجسادهم عارية، فيقتضيهم عند نفاد آجالهم، فكانوا في أيام الحياة يعدونها عارية، وكانت أعينهم مادة إلى الدعوة، متى يدعون فيجيبون بلا تلكؤ، ولا تردد، فمن أحب العيش في الدنيا، لم يكن له حب لقاء الله تعالى، فحضره الموت، تلكأ، وتردد في بذل الروح، فخرج من أن يكون من أمناء الله، فكذلك وضع فيما بين العباد، لو أن رجلاً أعطي شيئاً عارية، أو أودع وديعة، ثم استردها صاحبها، فتلكأ هذا في ردها على مالكها، فقد خان، وضيع الأمانة، فإنما تؤخذ منه بعد ذلك قهراً.
فأمناء الله: هم الذين أرواحهم عندهم عارية بأمانة الله، فهم يتمنون الموت حباً للقاء الله، فإذا جاءهم الموت؛ تجرعوا مرارته حباً للقائه، ولم يتلكؤوا في رد العواري، فلذلك صاروا أمناء الله.(7/94)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هم الشهداء)).
لأنهم كانوا يومئذ شهدوا ذلك العرض، واليوم حين خرجت منهم الأرواح صارت إلى المحل، وشهدوا القربة، فهم شهود عند الله في القربة أحياء.
وهذا يحقق ما قلنا بدءاً.
فقد صير في حديثه: القتيل: والذين ماتوا على فرشهم بمنزلة، وسماهم: شهداء، يعلمك: أن الشهادة ليست عن القتل حدثت، إنما اسم الشهادة لزمهم لما وصفنا، والكرامة نالوها من أجل أنهم رفضوا الحياة، وآثروا لقاء الله، وأرادوه، فأرادهم.
وكذلك الذي لا يزال على وضوء أيام الدنيا؛ لأن الله تعالى قال: {وأنزلنا من السماء ماءاً طهوراً}؛ أي: فعولاً للطهر؛ {لنحيي به بلدةً ميتاً}.
فالأرض تحيا بذلك الماء، وتنبت، والآدمي خلق من الأرض، فإذا أذنب، مات قلبه عن الله، على قدر ذنبه، فإذا توضأ، كان ذلك الماء الذي أنزله طهوراً، يطهر جوارحه، ويزيل عنه المعاصي، فيعود القلب إلى الحياة التي كانت، فإذا دام وضوءه، وتتابع، كانت حياة قلبه دائمة، فإذا دامت حياة قلبه، تمنى الموت.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه لأنس: ((إن حفظت وصيتي،(7/95)
فلا يكونن شيءٌ أحب إليك من الموت)).
1585 - نا عبد الكريم بن عبد الله، عن محمد بن معاوية، عن ليث بن سعد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ابن شهاب، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده الشهداء، فقال: ((إن أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش، ورب قتيلٍ بين الصفين الله أعلم بنيته)).
1586 - نا عبد الكريم، عن خالد بن صبيح أبو أنس المدائني، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر،(7/96)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس من أحدٍ إلا وله كرائم من ماله يأبى بهن الذبح، وإن لله خلقاً من خلقه يأبى بهم الذبح، أقوامٌ يجعل موتهم على فرشهم، ويقسم لهم أجور الشهداء)).
1587 - نا سهل بن العباس، قال: نا عبد الرحمن ابن مغراء، عن عبد الرحمن بن زياد، عن أبي عبد الرحمن المعافري، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أضن بدم عبده المؤمن من أحدكم بكريمة ماله حتى يقبضه على فراشه)).
فهذه صفة عبد مؤمن قد اطمأنت نفسه إلى ربه، ولها عن الدنيا، وأحوال الناس والنفس، وأناب قلبه إلى ربه، وجاد بنفسه على ربه، فقبل أحكامه وأقضيته على نفسه قبول مهتش مشتاق إلى لقائه، محب له بكل قلبه، فكما جاد بنفسه على ربه، ضن به ربه عن أحوال البلاء، فلم يدفعه(7/97)
إلى تلك الأحوال، فكذلك يأبى به عن القتل في سبيله حتى يقبضه على فراشه، ويقسم له أجر الشهداء؛ لأن الشهيد إنما بذل نفسه ساعة من نهار حتى قتل، وهذا بذل نفسه في جميع عمره، فالله تعالى يضن بدمه؛ كما يضن أحدنا بنجيبته؛ فإن النجيبة من كرائم ماله، فلا تسخو نفسه أن يذبحها، فكذلك ربنا يضن به عن البلاء أن يعرض نفسه الكريمة للبلاء.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث:
1588 - نا أحمد بن مصرف اليامي، قال: نا محمد ابن بشر العبدي، عن عباد بن كثير، عن حوشب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله عباداً يضن بهم عن الأمراض والأسقام، يحييهم في عافيةٍ، ويميتهم في عافيةٍ، ويدخلهم الجنة في عافيةٍ)).
قال له قائل: فأين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس بلاءً: الأنبياء، ثم الصالحون))؟
قال: هذا إذا ابتلاهم، فمن ابتلي من الأنبياء، فهو أشد الناس بلاء،(7/98)
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث دخلوا عليه وبه حمى، قال أبو سعيد: فما كادت يدي تقاربه من شدة الحر حين وضعت يدي عليه، فقلت له، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم؛ فإن أشد الناس بلاءً الأنبياء)).
فهذا إذا ابتلي، فهو أشدهم بلاء، والذي قلنا باب آخر، إنما ذلك في التتابع، والتواتر، فكثير من الأنبياء -عليهم السلام- تتابعت عليهم، وتواترت، حتى قتلوا بأنواع القتل.
وأما الخواص من الأنبياء والأولياء؛ فقد عوفوا، منهم: إبراهيم الخليل عليه السلام إنما ابتلي بثلاث من البلوى، ثم لم يزل معافى، وإسماعيل، وإسحاق، وموسى، وهارون، ومحمد -صلى الله عليهم- فقد عرضوا(7/99)
للبلاء، ثم دفع عنهم، ولم يبتلهم، فشملهم البلاء، إنما البلاء لمثل أيوب، ويحيى حيث قتل صبراً، ولزكريا حيث نشر بالمنشار في الشجرة، وجرجيس، وأشباههم.
1589 - نا عمر بن أبي عمر، قال: نا الربيع بن روح الحمصي، عن إسماعيل بن عياش، عن مسلم بن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن لله ضنائن من خلقه يغذوهم برحمته، محياهم في عافيةٍ، ومماتهم إذا توفاهم إلى جنته، أولئك الذين تمر عليهم الفتن كقطع الليل المظلم، وهم منها في عافيةٍ)).(7/100)
الأصل الحادي والتسعون والمئتان
1590 - نا محمد بن علي الشقيقي، قال: نا أبي، قال: نا عبد الله، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: نا أبو سلام، قال: نا خالد بن يزيد، عن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس من اللهو ثلاثةٌ: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته امرأته، ورميه بقوسه ونبله)).(7/101)
1591 - نا صالح بن محمد، قال: نا نصر بن عبد الكريم، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن عبد الله بن زيد، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل لهوٍ للمؤمن باطلٌ إلا ثلاثةً؛ فإنهن حقٌّ: رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله)).
قال أبو عبد الله رحمه الله:
فاللهو: ما يلهي قلب المؤمن عن الله، وهو كله مذموم، إلا في هذه الثلاثة الأنواع؛ لأن في هذه الثلاثة عوناً على الدين، وقواماً له.
يرمي بقوسه: لئلا تذهب عادته للرمي، ولا تتشنج أعضاؤه ومفاصله وكتفاه، ولا يكون مستولياً على النزع منه.
ويؤدب فرسه: لئلا يجمح، ولا يكون مستولياً على الشرع منه.
والفروسية: لئلا تنقطع شجاعته، ويكون جريئاً ذا قلب، فإذا ترك ذلك، ضعف قلبه، وجبن.(7/102)
وملاعبة أهله: ليسكن ما به وبها، فهذا كله -وإن كان ملهياً-، فهو في الأصل حق، وإنما رخص للمؤمن في التلهي بهذا؛ لأن قلبه في أثقال العظمة، فإذا دامت عليه، ضاق به والتمس تفرجاً وتخفيفاً، فيلجأ إلى هذه الأشياء التي هي في الأصل حق حتى تكون مزاجاً للمؤمن.
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسري به، رأى السدرة، وغشيها ما غشيها، قال: ((رأيت نوراً، ثم حال دونه فراشٌ من ذهبٍ عرورٌ، وأخذني كالسبات)).
فذاك مزاج؛ ليحمل رؤية ذلك النور؛ كأنه لم يقدر على احتمال ذلك النور، حتى مازجه بذلك الفراش، فأطاق احتماله.
فكذلك المؤمن البالغ إذا تراكمت على قلبه أثقال العظمة، التمس متنفساً؛ ليقوى على احتمالها، فصير رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه هذا اللهو الملهي لقلبه حقاً؛ تخفيفاً عنه.
وإنما صارت هذه الأشياء ملهية؛ لأن الرجل إذا رمى عن قوسه، توخى بقلبه تسديد السهم، وإصابته الهدف، فهو يجتهد في علم ذلك، ووضعه يده حيث يضع، ففي ذلك مشغلة عظيمة تلهي قلبه، ولا يخلو من ذلك، وفي إصابته حيث وقع شفاء للنفس، وقوة للقلب، فسمي لهواً؛ لأنه يلهيه،(7/103)
وذلك اللهو حق.
وكذلك تأديبه فرسه حتى لا يحرن، ولا يجمح، ويفهم شأن العنان، ويتعلم السير والوثبان، والوقوف والاستدارة، ففي ذلك مشغلة ملهية، وذلك حق.
وكذلك ملاعبته امرأته، يريد بذلك تسكينها، وعفتها عن الرجال، ففي ذلك ما يهيج عليه من الشهوة ما يلهيه.
ففي هذه الأشياء تفرج وخفة على أثقال العظمة على قلب المؤمن، فيكون مزاجاً، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(7/104)
الأصل الثاني والتسعون والمئتان (1)
1592 - حدثنا إبراهيم بن عبد الحميد التمار: ثنا عثمان بن صالح المقرئ، قال: حدثني ابن لهيعة، قال: حدثني عبد الرحمن بن جساس، عن عمرو بن حريث، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((النائم الطاهر كالصائم القائم)).
قال أبو عبد الله:
فالصائم بترك الشهوات يطهر، وبقيامه بالليل يرحم، فيحيا، والنائم نوم العدة محتسباً إذا نام على طهارة، فنفسه تعرج إلى الله، فإذا كان طاهراً، قرب، فسجد تحت العرش.
1593 - حدثنا بذلك قتيبة بن سعيد: ثنا ابن لهيعة،
__________
(1) هذا الأصل جاء في النسخة (ن) برقم: الأصل التاسع والثلاثين والمئتين، وهو غير موجود في النسخة الأصل، ألحقناه هنا لتمام الفائدة.(7/105)
عن واهب بن عبد الله المعافري، عن عبد الله بن عمرو، قال: تعرج الأرواح إلى الله في منامها، فما كان منها طاهراً، سجد تحت العرش، وما كان غير طاهر، سجد قاصياً.
فلذلك: يستحب ألا ينام الرجل إلا وهو طاهر.
قال قتيبة: سألني جرير عن هذا الحديث، فحدثته به، فقال لابنه إسماعيل: اكتب هذا الحديث.
1594 - حدثنا عمر بن أبي عمر، ثنا عبد الغفار بن داود، عن ابن لهيعة، عن عثمان بن نعيم، عن أبي عثمان الأصبحي، عن أبي الدرداء، قال: إذا نام الإنسان، عرج بنفسه حتى يؤتى بها تحت العرش، فإن كان طاهراً، أذن لها في السجود، وإن كان جنباً، لم يؤذن لها في السجود.
قال أبو عبد الله:
فالأول: ذكر الأرواح تعرج في منامها، وهي لفظة قد يستعملها أهل اللغة، فينسب الشيء، فيسموه باسم قرينه؛ كالقلب والفؤاد، وأشباه ذلك كثير، فالنفس والروح قرينان، إلا أن الروح مسكنه في الرأس، وهو يدعو إلى الطاعة؛ لأنه سماوي، والنفس تدعو إلى الشهوات؛ لأنها أرضية،(7/106)
وكلاهما ريحان، قد وضع في كل واحد منهما شيء من الحياة، فيعمل بتلك الحياة، فبالنفس يأكل ويشرب، ويسمع ويبصر، وبالروح يعف، ويستحيي، ويتكرم، ويتلطف، ويعبد ربه، ويطيع.
والنفس هي أمارة بالسوء، وبذلك أثنى عليها، وهي حارة، والروح باردة، فإذا نام العبد، خرجت النفس بحرارتها، فعرج بها إلى الملكوت، والروح باقٍ معلق بنياط القلب، وهو الذي يحرس القلب بما فيه من التوحيد، فأصل النفس باق مقيد بالروح، وقد خرج شعاعها، وعظم خلقها وحرارتها، وهو قول الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمّى}.
ولذلك تجد النائم إذا استيقظ، يجد في أعضائه برداً في أيام الصيف، فذاك خروج حرارة النفس.
فإنما استجاز عبد الله بن عمرو أن قال: إن الأرواح تعرج؛ لأن استجاز أن يسميها باسم قرينها؛ كالقلب والفؤاد، واللهو واللعب، وأشباه ذلك.
والنفوس تكون للبهائم، وفضل الآدمي بالروح السماوي؛ ليكون داعياً لنفسه إلى الطاعة، ولكن إذا نام، خرجت النفس، فلقيت من أمر الملكوت وأخبار الغيب ما ترجع إلى صاحبها بالعلم الشافي، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رؤيا المؤمن جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة)).
وقال في حديث آخر في مرضه يوم توفي صلى الله عليه وسلم: ((إنه لم يبق بعدي من النوبة شيءٌ إلا المبشرات، رؤيا المؤمن.(7/107)
فالقول ما قال أبو الدرداء؛ حيث أتى باسمه، الذي هو اسمه، فقال: عرج بنفسه إلى الله، ومقالة عبد الله بن عمرو صحيح، إنه سماه باسم قرينه.
فإذا عرجت النفس، صارت إلى فناء العرش، فطهرت بقرب الله، وطهرت بالسجود الذي أذن لها، فرجعت إلى صاحبها طاهرة بالقرب، محبوة بكرامة السجود، فصار بمنزلة الصائم الذي يتطهر بترك الشهوات، حيي بقيام الليل، فهذه منزلة الصادقين، استوى نومه على طهارة بقيامه وصيامه.
ولذلك قال معاذ لأبي موسى: إني أنام نصف الليل، وأقوم نصفه، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.
لأنه قد عرف ما ثمرة هذه النومة، وما ترجع النفس من الله إليه بتلك النومة.
فأما منزلة خاصة الله؛ فهي أرفع من هذا، فربما كان النوم آثر عندهم من القيام؛ لأن نفوسهم قد قلقت بين الأحشاء، فهي تطلب الانقلاب إلى فسحة التوحيد في فحص العرش، وطلبت العقول الوصول إلى الله -فاغتنم ما تطلب النفس- فافترقا، فخرج العقل بحظه من القلب اشتياقاً إلى الله، وخرجت النفس اشتياقاً إلى فسحة العرش، والروح الذي هناك، فإذا رجعا إلى البدن، أوردا على الروح من الطهارات والكرامات ما لا يخطر على قلب بشر، حتى ترتاح وتطهر، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوخى نوم السحر.(7/108)
1595 - حدثنا محمد بن الحسن الليثي: ثنا إبراهيم ابن سعد، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: ((ما ألفاه السحر عندي إلا نائماً)) -تعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم-.
قال: فالسحر ساعة نزول الرب -تبارك اسمه- إلى السماء الدنيا، واطلاعه إلى خلقه، والعطف عليهم، ويناديهم: ألا هل من داع فأستجيب له؟ ألا هل من تائب فأتوب عليه؟ ألا هل من سائل فأعطيه؟ ألا هل من مستغفر فأغفر له؟ وهو باسط يده لمسيء النهار أن يتوب بالليل، ثم يقول: من يقرض غير عدوم، ولا ظلوم؟.
فانظر أي وقت هذا حين يظهر كلامه وإقباله من فوق رؤوس أهل الأرض، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوخى النوم في ذلك الوقت؛ لعروج نفسه إلى الله، فيلقاه في سمائه، فكان ذلك عنده أفضل من قيامه؛ لأنه في حال القيام إنما يعرج إليه بعقله، وهاهنا في حال النوم تعرج النفس مع القلب والعقل، فاجتماع الثلاثة عنده أفضل في ذلك المحل من توحد العقل.(7/109)
فخاصة الله قد نالوا من هذا الحظ، فإذا ناموا، توخوا بنومهم هذا الذي وصفنا، فلذلك صاروا أفضل من الصائمين القائمين.
وأما الصادق الذي وصفنا بدءاً، فقد اعتدل نومه بصومه، ومكثه في نومه بقومته، فالحديث للصادقين، فأما الخاصة، فقد جازوا هذه المرتبة.
1596 - حدثنا محمد بن سعيد بن سويد الحكمي: حدثني أبي سعيد بن سويد، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، قال: أبطأ عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة الفجر حتى كادت الشمس تدركنا، ثم خرج فصلى بنا، فخفف في صلاته، ثم انصرف، فأقبل علينا بوجهه، فقال: ((على مكانكم، أخبركم ما بطأني عنكم اليوم في هذه الصلاة: إني صليت في ليلتي هذه ما شاء الله، ثم ملكتني عيني فنمت، فرأيت ربي تعالى في أحسن صورةٍ وأجملها، فقال: يا محمد! قلت: لبيك يا رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب، ثم قال: يا محمد! قلت: لبيك يا رب قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب، قال: فوضع كفه بين كتفي، فوجدت برد أنامله بين ثديي، فعلمت من كل شيءٍ، وبصرته، ثم قال: يا محمد! قلت:(7/110)
لبيك يا رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال: وما هن؟ قلت: في المشي على الأقدام إلى الجماعات، وفي إسباغ الوضوء في السبرات، وفي القعود في المساجد بعد الصلوات، قال: ثم فيم؟ قال: قلت: وفي إطعام الطعام، وفي إفشاء السلام، ولين الكلام، والصلاة بالليل والناس نيامٌ، قال: سل، قال: قلت: اللهم إني أسألك حب الحسنات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنةً بين خلقك، فنجني منها غير مفتونٍ، اللهم وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عملٍ يقرب إلى حبك))، ثم أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((تعلموهن، وادرسوهن؛ فإنهن حقٌّ)).(7/111)
1597 - حدثنا الجارود بن معاذ: ثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثني خالد بن اللجلاج، قال: حدثني عبد الرحمن بن عائش الحضرمي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
1598 - حدثنا أبو سنان البلخي: ثنا عبد الله بن صالح:(7/112)
ثنا معاوية بن صالح، عن سليم بن عامر، عن أبي يزيد، عن أبي سلام الأسود، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
1599 - حدثنا أبي رحمه الله، عن رجاء بن نوح، عن سعيد بن سالم، قال: حدثني عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي مليح بن أسامة، قال: حدثني أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
قال: فقد ذكر في هذا الحديث: أنه قام في ليلة ما قام، ثم نام، فقال ما قال، فانظر كم بين القومة والنومة، فهذا قصد المشتاقين إلى الله للمنامات، يتوخون بها تجدد أحوال النفوس، ويتوقعون من الله المنن.(7/113)
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: ((لأن أسمع برؤيا صالحة، أحب إلي من كذا وكذا)).
1600 - حدثنا الفضل بن محمد الواسطي: ثنا إبراهيم بن موسى الطرسوسي: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن سعيد بن زيد، قال: حدثني أبو سلمة [بن] عبد الرحمن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وكل بالنفوس شيطانٌ يقال له: اللهو، فهو يخيل إليها، ويتراءى إلى أن تنتهي إذا عرج بها، فإذا انتهت إلى السماء، فما رأت، فهو الرؤيا التي تصدق)).
قال: فقد أخبرني بهذا الحديث من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحقق قول أبي الدرداء: التي تعرج في منامها هي النفوس، لا الأرواح، فهذا الحديث(7/114)
الذي ابتدأنا فيه من قوله: ((النائم الطاهر بمنزلة الصائم القائم)).
هو نظير الحديث الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر)).
فهذا شكر الصادقين، عدل شكره على طعامه بصبره في صيامه.
فأما شكر الصديقين أولياء الرحمن؛ فقد فاق، وبرز على صبر الصائمين؛ لأن الصبر ثبات العبد في مركزه عن الشهوات، يرد ما يحتاج إليه من الشهوات في يومه إلى المساء في وجه النفس، والشاكر من الصديقين يطعم، فيفتتح طعامه باسم الله الذي تملأ تسميته ما بين السماء والأرض، ويطفئ حرارة الشهوة، ويرد كل سم في كل شهوة من طعامه، ويرى لطف الله في ذلك الطعام، ويرى رأفة الله في سياقه إليه، وحزنه عن جميع خلقه، ويحمد الله على ما يرى من صنائعه إليه في ذلك الطعام حمداً لا ينتهي، ولا ينهنهه شيء؛ حتى يلحق بالحمد الذي حمد الله بنفسه في عش الحمد، فقد بان عند أولي الألباب تفاوت ما بين هذين الحالين.(7/115)
الأصل الثالث والتسعون والمئتان (1)
1601 - حدثنا أبي رحمه الله: ثنا محمد بن حفص البلخي: ثنا العلاء بن الحكم، عن الربيع بن صبيح، عن الحسن: أنه قال: من لم يحفظ هذا الحديث، كان نقصان في مروءته وعقله، قلنا: وما ذاك يا أبا سعيد؟ قال: فبكى، وأنشأ يحدثنا، فقال: لو أن رجلاً من المهاجرين الأولين اطلع من باب مسجدكم هذا، ما أدرك شيئاً مما كانوا عليه إلا قبلتكم هذه، ثم قال:
هلاك الناس ثلاثٌ: قولٌ ولا فعلٌ، ومعرفةٌ ولا صبرٌ، ويقينٌ ولا صدقٌ، مالي أراكم رجالاً، ولا أرى عقولاً، وأرى أجساماً، ولا أرى قلوباً، دخلوا في الدين ثم خرجوا،
__________
(1) هذا الأصل جاء في النسخة (ن) برقم: الأصل الثاني والستين والمئتين، وهو غير موجود في النسخة الأصل، ألحقناه هنا لتمام الفائدة.(7/117)
وحرموا ثم استحلوا، وعرفوا ثم أنكروا، إنما دين أحدهم على لسانه، ولئن سألته: هل يؤمن بيوم الحساب؟ قال: نعم، وكذب ومالك يوم الدين!
((إن من أخلاق المؤمن: قوةً في دين، وحزماً في لينٍ، وإيماناً في يقينٍ، وحرصاً في علمٍ، وشفقةً في معةٍ، وحلماً في علمٍ، وقصداً في غنًى، وتجملاً في فاقةٍ، وتحرجاً عن طمعٍ، وكسباً من حلالٍ، وبرًّا في استقامةٍ، ونشاطاً في هدًى، ونهياً عن شهوةٍ، ورحمةً للمجهود، وإن المؤمن -عياذاً لله- لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب، ولا يضيع ما استودع، ولا يحسد، ولا يطعن، ولا يلعن، ويعترف بالحق، وإن لم يشهد عليه، ولا يتنابز بالألقاب، في الصلاة متخشعاً، إلى الزكاة مسرعاً، في الزلازل وقوراً، في الرخاء شكوراً، قانعاً بالذي له، لا يدعي ما ليس له، ولا يجمع في القيظ، ولا يغلبه الشح عن معروفٍ يريده، يخالط الناس كي يعلم، ويناطق الناس كي يفهم، وإن ظلم وبغي عليه، صبر، حتى يكون الرحمن هو الذي ينتصر له)).(7/118)
ثم قال الحسن: وعظني بهذا الحديث: جندب بن عبد الله، وقال جندب: وعظني بهذا الحديث: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبد الله:
فهذه الخصال كلها من أخلاق المعرفة، فمن ترقى في درجات المعرفة، احتظى من كل درجة خلقاً من أخلاقها.
قوله: ((قوة في دين)).
فالدين: خضوع القلب، وذبول النفس، وكل شيء اتضع لشيء، فقد دان له، ومنه سمي الدون، يقال: هذا دون ذاك؛ أي: تحته، وأوضع منه، وانقياد القلب، وتوضيع النفس للحق هو الدين.
فقلب الآدمي كثيف غليظ، ونفسه شفيفة، ممتنعة بما فيها من الكبر، فإذا جاءت المعرفة بأنوارها؛ أذابت تلك الكثافة، وانتشفت تلك الشفافة والفظاظة، فلان القلب، ورق الفؤاد، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاكم أهل اليمن ألين قلوباً، وأرق أفئدةً)).
وهذا مدح رفيع اختص به أهل اليمن، وقد كتبنا شأنه العظيم في مسألة جليلة في كتاب ((النقائص))، فاقتصرنا عليه.
فإنما تلين القلوب؛ لرطوبة الرحمة التي جاءت مع المعرفة؛ لأن المعرفة لا ينالها العبد إلا برحمة الله، فإذا لان القلب برطوبة الرحمة، ورق الفؤاد بحرارة النور؛ ضعف القلب، وذبلت النفس، فاحتاجت إلى صلابة،(7/119)
فكان من صنع الله للعبد أن أعطاه الله من هذه الأنوار الثلاثة، حتى دان القلب لله، وهو: نور الرحمة، ونور الحياة، ونور العظمة.
فبنور الرحمة يلين القلب وينقاد، وبنور الحياة ينتصب لله عبودة، وبنور العظمة يتصلب، ويثبت إذا جاءته أمواج الشهوات؛ لتزيله عن مركزه ومقامه؛ لأن العبد دعي إلى العبودية، فمن أجاب، ولان قلبه، فإنما لان وأجاب بنور الرحمة الذي ناله، والذي لم ينله ذلك؛ قسي قلبه، وعسى أن ييبس؛ بمنزلة غصن شجرة يابسة إذا مددته، تكسر، فإذا كان رطباً، فمددته؛ انقاد، وانمال.
لما أمر هذا العبد أن يكون قلبه منتصباً بين يدي خالقه لأموره وعبودته، وأيد بالحياة في كبده؛ حتى يتكبد، ويقوى للانتصاب، وذلك قوله: {لقد خلقنا الإنسان في كيدٍ}، قال: منتصباً.
فقوة الحياة في الكبد، ومن تلك القوة ينتصب قلبه لله، ثم يحتاج إلى ثبات عند الزلازل؛ لأن الشهوات إذا هاجت بأمواجها، وهبوب رياحها في عروق النفس؛ وقعت الرجفة في النفس، والزلزلة في القلب؛ بمنزلة سفينة في بحر قد علت أمواجه، فصارت السفينة تتكفأ بما فيها.
فكذلك يصير القلب، فإذا صار القلب هكذا؛ وهن، وذل، فيحتاج هذا القلب إلى ثبات، فإذا أيد بنور العظمة، صلب وثبت.
ولذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال:
((ما رزق عبدٌ شيئاً أفضل من إيمان صلبٍ)).
1602 - حدثنا أبي رحمه الله: ثنا صالح بن محمد،(7/120)
عن النضر بن شميل، عن عوف، عن أبي السليل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
1603 - حدثنا صالح بن محمد: ثنا سليمان بن عمرو، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله في الأرض أواني، ألا وهي القلوب، وأحبها إلى الله: أرقها، وأصفاها، وأصلبها: أرقها للإخوان، وأصفاها من الذنوب، وأصلبها في ذات الله.
قوله: ((حزماً في لين)).
فإن اللين يظهر على الأركان، فإذا كان أصله من القلب؛ كان من السكينة، وإذا كان أصله من النفس؛ كان من الكسل، وإذا كان من الكسل؛ انتشرت أمور دينه ودنياه، وتبددت، وضاعت، وإذا كان من السكينة؛ ثقل القلب بثقل السكينة، فسكنت الجوارح، وإذا سكنت الجوارح من ثقل(7/121)
القلب؛ ظهر الحزم في الأمور.
والحزم: هو اجتماع الأمور له، فترى أمور دينه ودنياه كلها محكمة قد جمعت له حزمة.
قوله: ((وإيماناً في يقين)).
فإن الموحدين قد من الله عليهم بنور التوحيد، فوحدوه، ثم للنفس في الأسباب مرتع، فإذا تعلقت بسبب من الأسباب، لم تنقض عقدة التوحيد؛ لأنها معقودة بالعقدة العظمى، وهي العروة الوثقى التي ذكرها الله عز وجل في تنزيله بأنها: {لا انفصام لها}.
ولكن دخل النقص في نوره المشرق في صدره، فصار محجوباً عن الله، وبقي مع الأسباب، فتراه الدهر من خوف الرزق مضطرباً، ومن خشية الخلق ذاهلاً، ومن الطمع فيما لديهم أسيراً، ولا يعمل لله إلا كأجير السوء.
فهذا موحد دنيٌّ سفل، لا يقدر على الوفاء والتوقير لما نطق، لسانه.
يقول: الحمد لله على نعمه، ثم تراه في الفعل كفوراً.
ويقول: الله أكبر، ثم يتكبر على حق الله.
ويقول: لا إله إلا الله، ثم يوله قلبه إلى الأسباب، فتراه عبيد أهل الدنيا.
ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم يقتدر في الأمور.
ويقول: صلى الله على محمد، ثم يوهن عرا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأقامه بالسيف؛ بأفعال السوء، والسيرة المذمومة.
ويقول: يا رب! ثم ينازعه في تدبيره في ربوبيته.
ويقول: توكلت على الله، ثم يتخذ من دونه أولياء، فيتعلق بهم لنوائبه وحوائجه.(7/122)
ويقول: فوضت أمري إلى الله، ثم يعرض عن تدبيره، ويشتغل بتدبير نفسه.
ويقول: اللهم خر لي، فإذا خار له، تسخط وتلوى.
ويقول: حسبي الله، ثم تراه في خلو من الحسب، قد ركن إلى كل ظلوم، قال الله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}.
فهذا مع هذه العقائد قد يتسمى باسم الإيمان؛ لتوحيده واعترافه بالكلمة العليا، وقبوله الإسلام، ولكن حساب طويل، وعذاب أليم في القبر، والقيامة، وعلى الجسر، فيحتاج مع هذا الإيمان إلى يقين، فإذا نال القين؛ تخلص من هذه العقائد، وصار موحداً شاكراً لله، خالصاً له، متواضعاً والهاً إليه في كل حاجة، مفوضاً، ملقياً بيديه سلماً، قد تولى الله، وتولاه الله، قد عزز رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقره، ونصره، واتبع النور الذي معه؛ أولئك هم المفلحون.
وقال الحسن البصري: إن عمر رضي الله عنه لم يغلب الناس بالصوم والصلاة، ولكن بالزهد واليقين.
وقال بكر بن عبد الله المزني: إن أبا بكر لم يفضل الناس بكثرة صوم ولا صلاة، وإنما فضلهم بشيء كان في قلبه.
وفيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال في خطبته: ((خير ما ألقي في القلب اليقين)).(7/123)
وقال: ((ما أعطيت أمةٌ من اليقين ما أعطيت أمتي)).
وقال: ((صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، وفساد آخرها بالبخل والأمل)).
فالبخل والأمل لا يظهران إلا من فقد اليقين، ساء ظنهم بربهم؛ فبخلوا، وتلذذوا بشهوات الدنيا، فحدثوا أنفسهم بطول الأمل، تلك أماني كاذبة.
قوله: ((حرصاً في علم)).
فهذا حرص قد اتجه على وجهين:
فوجه منه: أن العلم بحر؛ فإذا دخل طالبه، فتوسطه، فلم ير له ساحلاً، ولا منتهى، مل وسئم، فيحتاج إلى حرص يعينه على ذلك، ويذهب بملالته وسآمته وبيعته في كل وقت؛ لأن العلم درجات، وبدوه من العالم العليم، فلما كان ذلك النوع أقرب إلى العالم، كان أغمر وأضيق مدخلاً.
والحرص: هو الرقي إلى العالي من أمر الدين والدنيا، وإنما صار الحرص مذموماً في أمر الدنيا؛ لأن النفس كلما أعطيت درجة من الدنيا، نزعت إلى أعلى منها، فلا تقنع أبداً، كلما نالت درجة، تاقت إلى درجة أعلى منها.(7/124)
فهذا إذا كان في طلب الدنيا مذموماً؛ لأنه لا يقنع بما قدر له في اللوح من الرزق الذي قد فرغ الله منه لكل نفس، فهو في حرصه في طلب العلم محمود؛ لأنه يترقى بعلمه بقلبه إلى علام الغيوب، فكلما نال درجة، قربت منزلته عند ربه، قال الله تعالى: {والذين أوتوا العلم درجاتٍ}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن يوماً لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله، لا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم)).
فالحرص في العلم يرقى بصاحبه، والحرص في الدنيا يحط بصاحبه.
والوجه الآخر من الحرص: أنه يحرص على البر والتقوى، فيحتاج ذلك الحرص إلى العلم؛ لئلا يتعدى به حرصه في بره وتقواه إلى السقوط في الهلكة، فيبر بما يصير عقوقاً، ويتقي بما يصير وسوسة، ويعمل البر وهو غير مصيب للحق؛ كما فعل جريج الراهب في بره، وكما فعلت بنو إسرائيل في تقواهم.
فأما جريج:
1604 - فحدثنا عبد الوهاب بن فليح المكي: ثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن الحسن بن عمرو، ثنا(7/125)
عبد الرحمن بن سعد بن ذئاب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((عن جريجٍ الراهب: أنه كان متعبداً في صومعةٍ زمان بني إسرائيل، وكانت له أمٌّ، فتأتيه فتناديه، فتقول: يا جريج! فيقطع صلاته، ويكلمها، فأتته يوماً، فجعلت تناديه: يا جريج! فجعل لا يكلمها، ولا يقطع صلاته، ويقول: يا رب! أمي وصلاتك، فلا يكلمها، فلما رأت العجوز ذلك، جزعت، وقالت: اللهم إن كان جريج يسمع كلامي ولا يكلمني، فلا تمته حتى ينظر في أعين المومسات، وكانت راعيةٌ وراعٍ يأويان إلى ديره، فوقع بها الراعي، فحملت، وكان أهل القرية يعظمون الزنا إعظاماً شديداً، فلما ولدت، أخذها أهل القرية فقالوا: ممن ولدت؟ قالت: من جريجٍ الراهب، نزل فوقع بي، فحملت، فأتاه قومه فنادوه: يا جريج! فجعل يقول: يا رب! قومي وصلاتك، وجعل لا يكلمهم، فلما رأوا ذلك، ضربوا صومعته بالفؤوس، فلما رأى ذلك، نزل إليهم، قال: ما لكم؟(7/126)
قالوا: ذكرت هذه أنها ولدت منك، فضحك، ثم صلى ركعتين، ثم وضع يده على رأس المولود، فقال: من أبوك؟ فقال: الراعي الذي كانت تأوي معه إلى ديرك، فلما رأى ذلك قومه، جزعوا بما صنعوا به، وقالوا له: دعنا نبني صومعتك، ونعيدها لك من ذهبٍ، قال: لا، أعيدوها على ما كانت، فقال له قومه: لم ضحكت ونحن نريد ما نريد من القتل والشتم؟ قال: ذكرت دعوة والدتي: لا أموت حتى أنظر في أعين المومسات))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده! لو دعت الله أن يخزيه، لأخزاه، ولكنها دعت أن ينظر، فنظر)).
فقال مجاهد: فكان المولود أحد الثلاثة الذين تكلموا في المهد.
1605 - حدثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي: أنبأنا الحكم بن الريان اليشكري، قال: حدثني الليث بن سعد، قال: حدثني يزيد بن حوشب الفهري، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو كان جريج الراهب فقيهاً(7/127)
عالماً؛ لعلم أن إجابته أمه من عبادة ربه)).
1606 - حدثنا صالح بن محمد: ثنا القاسم بن عبد الله العمري، عن عمه عبيد الله بن عمر، عن علي بن زيد ابن جدعان القرشي، عن سعيد ابن المسيب، قال: جاء عثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! غلبني حديث النفس، فلم أر أن أحدث شيئاً حتى أذكر ذلك لك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((وما تحدثك به نفسك يا عثمان؟))، قال: تحدثني نفسي بأن أختصي؟ قال: ((مهلاً يا عثمان؛ فإن خصاء أمتي الصيام))، قال: يا رسول الله! فإن نفسي تحدثني بأن أترهب في رؤوس الجبال؟ قال: ((مهلاً يا عثمان؛ فإن ترهب أمتي في الجلوس في المساجد انتظاراً للصلاة))، قال: يا رسول الله! فإن نفسي تحدثني أن أسيح في الأرض؟ قال: ((مهلاً يا عثمان؛ فإن سياحة أمتي الغزو في سبيل الله، والحج والعمرة))، قال: يا رسول الله! فإن نفسي تحدثني بأن أخرج من مالي كله؟ قال: ((مهلاً يا عثمان؛ فإن صدقتك يوماً بيومٍ، وتكف(7/128)
نفسك وعيالك، وترحم المسكين واليتيم، فتطعمه، أفضل من ذلك))، قال: يا رسول الله! فإن نفسي تحدثني بأن أطلق خولة امرأتي؟ قال: ((مهلاً يا عثمان؛ فإن الهجرة في أمتي من هجر ما حرم الله عليه، أو هاجر إلي في حياتي، أو زار قبري بعد مماتي، وإن مات وله امرأتان، أو ثلاثٌ، أو أربعٌ)).
قال: يا رسول الله! فإن نهيتني أن أطلقها، فإن نفسي تحدثني بأن لا أغشاها؟ قال: ((مهلاً يا عثمان؛ فإن الرجل المسلم إذا غشي أهله، أو ما ملكت يمينه، فلم يكن من وقعته تلك ولد، كان له وصيفٌ في الجنة، وإن كان من وقعته تلك ولدٌ، فمات قبله؛ كان له فرطاً وشفيعاً يوم القيامة، وإن مات بعده؛ كان له نوراً يوم القيامة))، قال: يا رسول الله! فإن نفسي تحدثني بأن لا آكل اللحم؟ قال: ((مهلاً يا عثمان؛ فإني أحب اللحم وآكله إذا وجدته، ولو سألت ربي أن يطعمنيه في كل يومٍ، لأطعمنيه))، قال: يا رسول الله! فإن نفسي تحدثني بأن لا أمس الطيب؟ قال: ((مهلاً يا عثمان؛ فإن جبريل أتاني بالطيب من الجنة غبًّا،(7/129)
وقال: يوم الجمعة لا تتركه، يا عثمان! لا ترغب عن سنتي، فمن رغب عن سنتي، ثم مات قبل أن يتوب، ضربت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة)).
1607 - حدثنا أبي رحمه الله: أنبأنا أحمد بن يونس، عن عباد بن كثير، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه، وزاد فيه: أنه قال: يا رسول الله! إن نفسي تحدثني أن أخرج من جميع ما أملك؟ قال: ((مهلاً يا عثمان، صدقةٌ على اليتيم والمسكين والأرملة، فكذلك حتى يأتيك الموت)).(7/130)
وأما تقوى بني إسرائيل:
1608 - فحدثنا إسماعيل بن نصر: ثنا الحسن بن قتيبة المدائني، عن جامع بن شداد، قال: أتيت أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بمكة، فقلت: يرحمك الله! إنا خرجنا، فأكل بعضنا الجبن، وتركه بعضنا كراهية له، فكيف ترى؟ فقال: يا أيها الناس! لا تغلوا في دينكم -مرتين- حدثني أبو هريرة: أن عيسى بن مريم -صلاة الرحمن عليه- ندب قومه لخبز ولحم وشراب، ثم أرسل إليهم، فدعاهم، فأقبلوا يمسحون أيديهم بملاء الكتان باغين، فقالوا: لا نأكل من هذا اللحم؛ لأن كبشه رضع من كلبة، ولا نأكل من هذا الخبز؛ لأن سنبله نبت في مزبلة، ولا نشرب من هذا الشراب؛ لأن حبلته نبتت في مقبرة، قال: فلم يرموا بخبز حتى حبب إليهم اللحم، حتى إنهم ليأكلون الخصي؛ من حبهم اللحم، وإن الفويسقة تقع في إناء أحدهم، فيخرجها، ويشرب من حبه الشراب، وإنه لا يصلح شيء إلا بمزبلة، ثم التفت إلى مولى له، فقال: أو لم يكن من أحب زادنا إلينا الخبز؟.(7/131)
1609 - حدثنا هارون بن حاتم الكوفي: أنبأنا عبيدة الحذاء، عن الأعمش، عن جرير بن حازم، عن أبي قلابة، قال: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم: أن ناساً من أصحابه احتموا النساء واللحم، فأوعد النبي صلى الله عليه وسلم فيه وعداً شديداً، حتى ذكر القتل، فقال: ((لو كنت تقدمت فيه، لقتلت))، ثم قال: ((إني لم أرسل بالرهبانية، إن خير الدين عند الله الحنيفية السمحة، وإنما هلك من قبلكم من أهل الكتاب بالتشديد يشدد على أنفسهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار، اعبدوا لله، ولا تشركوا به شيئاً، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجوا، واعتمروا، واستقيموا، يستقم بكم)).
فيحتاج الحريص على البر والتقوى إلى العلم؛ حتى يمسك حرصه على التعدي، وذلك صدق الحرص الذي قال عبد الله بن مسعود لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين! إن في هذه الأمة من يبلغ عمله في الميزان ما يكون عمل يوم وليلة أثقل من سبع سماوات، قال: بم ذاك يا ابن أم [عبد]؟ قال: بصدق اليقين، وبصدق الورع، وبصدق الحرص على البر والتقوى.(7/132)
قوله: ((شفقةً في معةٍ)).
فالشفقة: تحنن الرأفة، والإكباب على من يشفق عليه، فإنما يصير مكباً بشدة الرأفة؛ فتلك الشفقة.
والمعة: هي الحاوية، مشتقة من المعى، معاء البطن، فإذا كانت الشفقة بغير معة، انتشرت؛ فأفسدت، وإذا كان في معة؛ كانت الشفقة في حصنٍ، فلم تنتشر، ولم تفسد؛ لأن هناك شيئاً يحويها.
قال له قائل: وما ذاك الشيء؟.
قال: تعظيم حق الله، فإذا أشفقت على حق الله، كانت تلك الشفقة حاوية لهذه الشفقة؛ لأن النفس تأخذ بنصيبها من الشفقة، فإذا كان الغالب على العبد الشفقة على حق الله، كانت تلك الشفقة تجري على هذه الشفقة، حتى لا تنتشر وتنبثق، فيتعدى إلى الفساد.
ألا ترى أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جزعوا عند إقامة الحدود في مبتدأ أمرهم؛ فأنزل الله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}، فجعل علامة إيمانهم في إقامة حق الله: الرمي برأفة النفس.
وجلد عمر ابنه الحد، فقال: يا أبت! قتلتني! فقال: إذا لقيت ربك، فأخبره أنا نقيم الحدود.(7/133)
وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في فاطمة المخزومية حيث أراد قطعها في سرقة، فغضب، وقال: ((والله! لو كانت فاطمة بنت محمدٍ، لقطعتها)).
ثم نزل عن اليمين، فقطعها.
قوله: ((حلماً في علمٍ)).
فالحلم: سعة الأخلاق، فإذا توسع المرء في أخلاقه، ولم يكن له علم؛ افتقد الهدى، وضل؛ لأن توسعه يرمي إلى نهمات النفس، فيحتاج إلى علم يقف به على حفظ الحدود، وإذا كان له علم، ولم يكن هناك حلم؛ ساء خلقه، وتكبر بعلمه؛ لأن العلم له حلاوة، ولكل حلاوة بشرة، فإذا ضاقت أخلاقه، ولم ينتفع بعلمه؛ لأن ضيقه يرمي به إلى شره النفس وحدتها، فيكون صاحب عنف وخرق في الأمور، فعندها ضاع علمه.
ولذلك قال الشعبي، أو غيره من التابعين: ما أضيف شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم.
ولذلك قال ابن شوذب: الحلم أرفع من العقل؛ لأن الله تعالى تسمى بالحلم، ولم يتسم بالعقل.(7/134)
1610 - حدثنا أحمد بن عبد الرحيم الحراني، ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن يونس، عن الحسن، قال: ما سمعت الله نحل عباده شيئاً أقل من الحلم، قال: {إن إبراهيم لحليمٌ}، وقال: {فبشرناه بغلامٍ حليمٍ}.
فالحلم: سعة الخلق، والعقل: عقال عن التعدي، فالواسع في أخلاقه حرٌّ عن رق النفس.
ولذلك قال عيسى -صلوات الله عليه- لبني إسرائيل: فلا عبيد أتقياء، ولا أحرار كرماء.
فاعلم أن هاهنا صنفين: رجل عبد نفسه وأخلاقه؛ فهو بتقواه ينجو، وعبدٌ حرٌّ من أخلاق النفس ورقها؛ فهو كريم، أينما قدته انقاد؛ فهذا صفته الحليم.
فالحليم يحتمل أثقال الأمر والنهي بلا كبد ولا مجاهدة.
وكان إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ممن احتمل الأثقال: ابتلي(7/135)
بالنار، وابتلي بالغربة والهجرة، وابتلي بسارة، وابتلي بالختان، وابتلي بذبح الولد، فجاد بنفسه وبولده على الله تعالى، فأثنى الله سبحانه عليه، فقال: {إن إبراهيم لحليمٌ}.
قوله: ((قصداً في غنًى)).
فالقصد والقسط بمعنى واحد، وهو العدل، إلا أن القصد مستعمل في نوع، والقسط مستعمل في نوع.
فالقصد: في الأفعال والأعمال، والقسط: في الأوزان.
قال الله تعالى: {واقصد في مشيك}، وهو المشي الوسط، لا الوهن الكسلان، ولا السريع العجلان، وقال: {وأقيموا الوزن بالقسط}.
فمعنى قوله: ((قصداً في غنًى)).
أي: إذا كان غنياً، لم يتدرع في الإنفاق، فيقع في الإسراف، ويكون وسطاً، حتى لا يجحف بماله؛ فإنما هو رزق.
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه ضيف، فبينما هو قاعد عنده، إذ جاء الراعي على يده بهمة قد ولدها، فقال له: ((اذبح شاةً))، ثم قال للضيف: ((لا تحسبن أنا من أجلك ذبحنا، ولكن لنا شياهٌ مئةٌ، فإذا ولد الراعي بهمةً، ذبحنا مكانها شاةً)).(7/136)
فهكذا القصد؛ أن الله إذا رزقه، اقتصد في إنفاقه، وذكر الله في كتابه منازل الخلق، فقال: {فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيرات}، فالمقتصد يسير إليه على طريق العدل، والسابق على طريق الفضل.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال في قوله: {اعملوا آل داود شكراً}، قال: ((من كن فيه ثلاث خصالٍ، فقد أوتي ما أوتي آل داود: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، وكلمة العدل في الرضا والغضب)).
قوله: ((تجملاً في فاقةٍ)).
والفاقة: هو الخلاء من الشيء، وهو الفقر، فدل على التجمل، وأن لا يلقي بيديه إلى التهلكة، فإذا وسخت ثيابه؛ صبر على الأوساخ، وقلت مبالاته، وإذا تشوه شعره، ودرن جسده؛ صبر على الفضول والأدران، ورفع باله عن أحوال نفسه، وهيئته، وهيئة مسكنه، حتى يصير بحال يوحش الناظرين إليه.
وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه رأى رجلاً ثائراً شعره، فقال: ((لم يشوه أحدكم نفسه؟))، ورأى آخر في ثياب وسخة، فقال: ((أما يملك هذا ما يغسل ثيابه؟)).(7/137)
وقال: ((إن الله نظيفٌ يحب النظافة))، وقال: ((نظفوا أفنيتكم؛ فإن اليهود لا ينظفون)).
فالفقير وصاحب الفاقة إذا كان حي القلب، صاحب تقوى؛ وجدته في نظافة وهيئة، من نظر إليه، لم يوحشه، ومن جالسه، لم يثقل عليه، ولم يتأذ به، يأخذ شعره، ويقلم أظفاره، ويغسل أدرانه، ويبيض أثوابه، ويتطيب، ويتوقى على أحزابه.
وكذلك في مسكنه، يهيئ كل شيء على حياله مما لا يحتاج فيه إلى كثير نفقة، يقول: إن لم يكن له مال، فإن هذه الأحوال التي تتجمل بها لا يحتاج صاحبها إلى كثير نفقة؛ فإن الأنهار جارية، والغسول من ورق الأشجار موجودة، فأخذ الشعر والأظفار ليس فيه كبير مؤنة، وتنظيف المجالس التي يجلس فيها في مسكنه ليس في كنسها ونظافتها كبير مؤنة، فليس يترك هذا صاحبه، ويهمله من أجل أنه لا يجد، ولكنه يتركه؛ لنذالة النفس ودناءتها، وموت قلبه؛ فإن القلب إذا مات، لم يلتمس الطهارات والنظافات.
((وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربط الحجر على بطنه من الجوع)).(7/138)
ولا يترك الطيب، ويعاهد أحوال نفسه، وكان لا تفارقه المرآة والسواك والمقراض في السفر والحضر.
وكان إذا أراد أن يخرج إلى الناس، نظر في ركوةٍ فيها ماء، فيسوي من لحيته، وشعر رأسه، ويقول:
((إن الله جميلٌ يحب الجمال)).
1611 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله: ثنا أبو نعيم النخعي، عن العلاء بن كثير، عن مكحول، عن عائشة -رضي الله عنها-، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا تجمل في فاقة، يتجمل في الناس على قدر ما يجد، ولا يرفع باله عن نفسه وأحوالها؛ لأنه إذا أهمل ذلك، ورفع البال؛ ساء منظره، ووحشت هيئته، فأدخل على إخوانه من المؤمنين الغم والهم من أجله، وكان ذلك منه كالشكوى إلى العباد، ومن ربه، وإذا تجمل في فاقته؛ كان ذلك كالكاتم مصيبته، والشاكر لربه، والمتحمد إلى خلقه منه.
وروي عن عمران بن حصين: أنه لبس الخز، فقيل له: تلبس(7/139)
الخز؟! فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا أنعم الله على عبدٍ نعمةً، أحب أن يرى أثر ذلك عليه)).
فصاحب هذه الصفة كأنه إذا رأى الناس ذلك من فعله، كأنه يقول لهم: أحمد إليكم ربي؛ فإن نعمته علي هكذا كما ترون؛ فإن الله يحب هذا الفعل من عبده؛ لأنه يشكره بهذا الفعل.
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لبس ثوباً جديداً، فقال: ((الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في الناس))؟
فهذا التجمل في الناس لا للناس، إنما هو لله، وإنما صار لله؛ لأنه نوى أن يرى العباد نعمه عليه، فيكون ذلك منه شكراً، ونشر الجميل من ربه، وإذا أصابته مصيبة، كتمها وسترها.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من كتم مصيبته أربعين يوماً؛ خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه)).(7/140)
وروي عن علي بن الحسين رضي الله عنه: أنه لدغته عقرب، فصبر في ذلك الوجع ليلته إلى الصباح كاتماً له؛ لئلا يعلم به أحدٌ، فلما أصبح، أعتق رقبة؛ شكراً لله أن طوقه ذلك الصبر حتى قدر على كتمانه.
فالعبد الحي القلب إذا أنعم الله عليه نعمةً؛ نشرها عند خلقه قولاً وفعلاً، يريد بذلك أن يريهم حسن صنيعه إليه، وإذا نكب نكبةً، كتمها وسترها، ويقول: أنعم علي بما لا يحصى عدده، فلم أبلغ كنه شكره، فإن أصابتني مصيبة، لم أبثها وأكتمها؛ حتى لا أري العباد أنه أصابني من قبله سوء، فإنما حمله على كتمان المصائب، وعلى التجمل في الفاقة؛ لئلا يرى العباد من أحوال نفسه ما يتحير العباد فيه من سوء الحال؛ لأن الله تعالى -جل ذكره- معروف بالمعروف، فإذا رأوا سوءاً، تحيروا، حتى يرجعوا إلى إيمانهم به أنه عدلٌ لا يظلم، ولا يجور.
ولذلك استرجع أهل المصيبة؛ لأنهم عندما يصابون تأخذهم الحيرة في أول الصدمة، فإذا ذكروا ربهم، استرجعوا معنى قولهم: ((إنا لله وإنا إليه راجعون))؛ أي: رجعنا إليك من حيرتنا، وعلمنا أن ذلك لك، وأن فعلك هذا بنا خيرٌ كله.
قوله: ((تحرجاً من طمع)).
فالطمع: فيما في أيدي الخلق، وهو انقطاع عن الله، ومن انقطع عن الله، فهو المخذول الخائب؛ لأنه عبد بطنه، وفرجه، وشهوته.
والطمع والرجاء مقترنان، إلا أن الرجاء: صفة فعله من القلب: أن يمد القلب عنقه إلى شيء، فيكاد يزول عن مكانه، والطمع: وجود القلب طعم ذلك الشيء الذي رجاه؛ فهذه فتنة.(7/141)
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعوذوا بالله من طمعٍ يهدي إلى طبعٍ)).
فهذا الطمع إذا عمل في قلب العبد، فتمكن فيه، طبع على قلبه؛ لأنه يوله قلبه إلى الخلق عن الله، فهذا مدبر، فتراه يتملق هذا، ويمدح ذلك في وجهه، ويتبع هذا، فيصير في متابعته كالعبد له، فكم من حق يضيعه في جنب هذا! وكم من أمرٍ يسكت عن الحق فيه! فإذا نطق؛ نطق بالهوى، فهذا قلب قد خرب.
ولذلك قال: ((يا داود! ما من عبدٍ يعتصم بخلقٍ دوني، إلا أسخطت الأرض من تحت قدميه، وقطعت أسباب السماء من فوقه)).
وقال لموسى فيما روي عنه: ((من رجا غيري، وكلته إليه، ومن وكلته إليه، فليستعد للفتنة والبلاء)).
فمن أخلاق المعرفة: التحرج عن المطامع.
قوله: ((كسباً من حلالٍ)).
لأن كل نفس قد فرغ الله من رزقها، وأثبته في اللوح، ثم أنزل بذلك قرآناً، فقال: {وما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كلٌّ في كتابٍ مبينٍ}.(7/142)
فالمؤمن الموقن قد صار هذا الضمان، والإثبات في الكتاب المبين الذي قصه الله في تنزيله له معاينةً، فاطمأن إلى ذلك، وسكن إلى إتيانه بفضل يقينه، وقنع بما أوتي، وقال: قد أيقنت بالمقدار، ولا أدري أبطلبي أوتى أم بقعودي، فمرة أطلب، فإذا رأى أنه قد أوتي بغير طلب، قعد، فإذا رأى أنه انقطع، طلب على هيئة وسكينة وسكون قلب على ما أثبت له في اللوح.
والذي ضعف يقينه، وغلبته شهوات نفسه، طلب، فجد في الطلب، ولم يصر له معاينة، فهو يطلب من وجوه المكاسب، فإذا طلب كسبه من حلال؛ فإنما منعه تقواه أن يتعدى ذلك إلى الحرام، وقواه ضمان ربه، وإثباته في اللوح، وأحسن الظن بربه، ووثق به؛ فقدر على كسب الحلال، والمفتون بنهمات الدنيا وشهواتها قد غلبته نفسه، فحرصه وشدة طلبه لا يفارقه، فلا يقدر على حفظ الحدود، والتورع عن الشبهة، فهذا من أجل أن أخلاق الفرقة مفقودة من إيمانه، فهو في الجملة يقول: إن الله يرزق، ولكن شهوته تغلبه حتى يفتتن، فيتعدى إلى الحرام والشبهة.
قوله: ((برًّا في استقامةٍ)).
فإن المؤمن إذا كان لين القلب، رقيق الفؤاد؛ عطف على الأهل والولد، وذوي الأرحام، والناس كلهم، فإذا بر، وكان بهذه الصفة، لم يؤمن أن يزول عن الحق والصواب، وتذهب استقامته، فإذا زال، ذهبت استقامته؛ لأن لكل مؤمن مقاماً عند ربه للعبودة، فتلك استقامته، فإذا مال عن الحق، صار معلقاً كالمتدلي، كهيئة طائر على غصن شجرة، فطار من عشه، فهو المستقيم، فإنما اشترط على البار أن يكون بره في استقامته، لا بر هوى، ولكن بر مع صلابة؛ لأن النفس إذا كانت سلسلة، والقلب ذا لين، والفؤاد(7/143)
رقيق، فجاء الهوى؛ تعدى بره إلى غير الحق والصواب، بر أهله بين يدي والدته، فهيج غيرتها، وأدخل على والدته مكروهاً، فصار عقوقاً، فسبيله إذا أراد ذلك: أن يبرها من حيث لا ترى، وربما بر أحد أولاده بما لا يبر غيره، فصار ذلك جوراً، وقد نهي عن ذلك، فأمر بالتسوية بينهم.
1612 - حدثنا الجارود بن معاذ: ثنا عبد العزيز بن أبان، عن مالك بن مغول، عن أبي معشر، عن إبراهيم: أنه يستحب أن يسوي الرجل بين ولده، حتى في القبلة.
1613 - حدثنا سفيان بن وكيع: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((اعدلوا بين أولادكم في النحلة كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف)).(7/144)
1614 - حدثنا سفيان، ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن النعمان بن بشير: أن أباه نحله غلاماً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يشهده، فقال: ((كل ولدك نحلته؟))، قال: لا، قال: ((فاردده)).
1615 - حدثنا سفيان، نا جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: حدثني النعمان بن بشير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.(7/145)
وربما بر إخوانه، فإذا لم يتفقد ذلك من أقدارهم حتى يبرهم على ذلك، دخل فيه الضرر الكثير، والجور عن الحق.
فقوله: ((برٌّ في استقامةٍ)).
شرط وثيق، وهو أن لا يمازجه هوى، والبر والملق قرينان، وهما مشتبهان، فكم من متملق يرى أنه يبر، وليس ذلك ببر، إنما هو ملق، فلذلك شرط الاستقامة.
قوله: ((نشاطاً في هدًى)).
فالنشاط: هو انحلال النفس وانتشاطها.
والأنشوطة: هي العقد الذي إذا مددته، انحل من غير أن تحله، فإذا عمل العبد عملاً، كان من النفس انقباضٌ للكسل والهرب من الأثقال، فإذا مال بها الهوى والشهوة، نشطت، وانحلت العقد عن الانقباض، وإذا قواها القلب بالمعرفة، نشطت، وانحلت العقد عن الانقباض، وأمر صاحب هذا أن يتفقد حتى يكون نشاط نفسه وانحلالها في هدًى لا في ضلالة؛ فإنه إذا مال بها الهوى، ضلت؛ فإن مثلها كمثل الصبي إذا رأى معلمه، انقبض وتطأطأ، فإذا افتقد شخص معلمه، انبسط وانتشر، فما دام انبساطه وانتشاطه في صلاح، عذر، فإذا تعدى إلى الفساد، عزر ووبخ، فلذلك اشترط أن يكون نشاطه في هدى؛ لأن النفس ربما نشطت، فإن تركها صاحبها ونشاطها، تعدت إلى الفساد وضلت.
وكان السلف الصالحون ينتشطون إلى أهاليهم وأولادهم، وإلى إخوانهم، ويظهرون النشاط في الأمور، ويتفقدون من أنفسهم الوقوف(7/146)
على الحدود، ويحذرون المجاوزة، ويتوقون الخفة وسوء الأدب حتى لا يرتطموا في النهي.
وقال إبراهيم النخعي: يعجبني أن يكون الرجل في أهله كالصبي، فإذا بغي منه، وجد رجلاً.
معناه: إذا طولب بما لا يجوز في الحق، وجد صلباً في دينه، فهو في رأي العين كالصبي انبساطاً ونشاطاً مع أهله وعياله وتواضعاً، وفي مواضع الحق مهيباً لا يرام.
قوله: ((ونهياً عن شهوةٍ)).
فإن النفس ذات شهوات، فإذا أطعتها في واحدة، طمعت في أخرى، ثم لا تزال كذلك حتى تستمر، فتشرد عن صاحبها شراد البعير، هكذا شأن النفس، فكان القوم يحذرون ذلك، وينهون النفس عن الشهوات.
وروي: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت)).
1616 - حدثنا بذلك حفص بن عمرو.
ومعناه عندنا: أن النفس إذا اعتادت هذا من صاحبها، استمرت، فإذا منعها، لم يقدر على ذلك، فإذا فعل ذلك، عودها نوال كل شيء اشتهت، فقد أسرف؛ أي: جاوز حد الأدب، وترك أدبها.(7/147)
وروي عن عكرمة: أنه قال: إن النفس إذا أطعتها، طمعت، وإن آيستها، يئست، وإن فوضت إليها، ضيعت.
قوله: ((رحمةً للمجهود))، فالمجهود على أصناف، فمجهود في العبادة، ومجهود في المعاش، ومجهود في البلاء، فمن شأنه أن يرحم كل هؤلاء؛ لأنه إذا نظر إلى ذلك الجهد، رزق قلبه، واشتد على سوء الحال))، وتقلب ذلك البدن، فرق فؤاده، وفزعت نفسه لذلك الحال.
قوله: ((المؤمن عياذاً لله)).
فالعوذ لله: هو الذي يعيذ العباد من السوء، فالمؤمن البالغ في إيمانه يعيذ العباد بفضل إيمانه من جوره وظلمه وعيبته، فقد أمنه الخلق، وصاروا منه في معاذٍ.
ثم وصفه فقال: ((لا يحيف على من يبغض)).
أي: بغضه إياه لا يحمله على أن يحيف عليه، ويجور ويظلم.
وذلك قول الله تعالى: {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.
قوله: ((لا يأثم فيمن يحب)).
أي: لا يحمله حبه إياه أن يأثم في جنبه؛ فإنه إذا كان على غير ذلك، كان بغضه لغير الله، وحبه لغير الله.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((لن يبلغ العبد ذروة الإيمان(7/148)
حتى يحب في الله، ويبغض في الله)).
فمن كان حبه في الله، وبغضه في الله؛ لم يحمله البغض على أن يجور عليه، ولا حبه إياه أن يأثم في جنبه، ومن أحب وأبغض لهوى نفسه، جار على المبغض، وأثم في جنب المحبوب، ولذلك قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوًّا لكم فاحذروهم}.
وذلك أنهم لما أرادوا الهجرة، امتنع منهم بعض أزواجهم وأولادهم، فافتتن بعضهم بالأزواج والأولاد، فأقاموا، وتركوا الهجرة، ومنهم من مضى، وتركهم، فنزلت الآية فيمن أثم في جنب محبوبهم من الأهل والولد.
قوله: ((ولا يضيع ما استودع)).
لأنه يشفق على ما تودعه وتأتمنه عليه كشفقته على مال نفسه؛ لعظيم قدر الأمانة عنده.
قوله: ((ولا يحسد ولا يطعن)).
لأن من أخلاق المعرفة: إذا رأى لأخيه المؤمن حالاً حسنا في دين أو دنيا، سره ذلك، واعتده في النعم عنده، فكيف يحسده، ومن عرف الله، عرف أنه هو الذي قسم الدنيا بين أهلها بحكمة بالغة، وبين حصصهم بمقادير معلومة في اللوح، ثم أعلمهم في تنزيله، فقال: {وما من دابةٍ في الأرض إلى الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كلٌّ في كتابٍ مبينٍ}.
فقد فصل أرزاق البرية كلها، حتى البعوضة والنملة، ولا تعدو مقاديره(7/149)
خردلة ولا حبة، ولن تموت نفس حتى تستوفي ما كتب لها، والأرزاق جارية من الرحمة إلى العباد، وقال تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمةٍ فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده}.
وقال تعالى: {وإن يمسسك الله بضرٍ فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخيرٍ فلا راد لفضله}.
فمن أيقن في إيمانه بهذه الكلمات، لم يحسد الناس على فضلٍ أوتوا، وقنع بما أوتي، فهذا من أخلاق المعرفة.
وروي عن وهب بن منبه: أن الله تعالى كتب التوراة بيده فيها عشر كلمات أمر بهن:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب الله -تبارك وتعالى- كتبه بيده لعبده موسى -عليه الصلاة والسلام-:
تسبحني وتقدسني، يا موسى! إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني، ولا تشرك بي شيئاً؛ فإنه حق القول مني؛ لتلفحن وجوه المشركين النار.
واشكر لي ولواديك إلي المصير، أنسأ لك في عمرك، وأقيك المتالف، وأحييك حياة طيبة، وأقلبك إلى خير منها.
ولا تقتل النفس التي حرمت إلا بالحق؛ فتضيق عليك الأرض برحبها، والسماء بأقطارها، وتبوء بسخطي والنار.
ولا تحلف باسمي كاذباً ولا آثماً؛ فإني لا أطهر ولا أزكي من لم ينزهني ويعظم أسمائي.
ولا تشهد بما لم يع سمعك، ولا يحفظه عقلك، ولم يعقد عليه(7/150)
قلبك؛ فإني أوقف أهل الشهادات على شهاداتهم، ثم أسائلهم عنها سؤالاً خفياً.
ولا تحسد الناس على ما آتيتهم من فضلي؛ فإني أنا الجواد بالعطية؛ أعطي من شئت، وأمنع من أردت، ولا تنفس عليهم نعمي ورزقي، ولا تمدن إلى ذلك عينيك، ولا تتبعه نفسك؛ فإن الحاسد عدو لنعمتي، مضادٌّ لقضائي، ساخط لقسمي الذي أقسم بين عبادي، ومن يك كذلك؛ فلست منه، وليس مني، وأنا منه بريء، ولا تزن، ولا تسرق؛ فأحجب عنك وجهي، وتغلق دون دعوتك أبواب السماوات، ولا تغدر بحليلة جارك؛ فإنه كبر مقتاً عندي، وأحبب للناس ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ولا تذبح لغيري؛ فإنه فسق، ولا يصعد إلي قربان أهل الأرض إلا ما ذكر عليه اسمي، وتفرغ للسبت، وفرغ له آنيتك، وأسقيتك، وثورك، وحمارك، ودوابك، وجميع أهل بيتك.
وذكر وهب: أن هؤلاء الكلمات العشر التي كتب الله تعالى لموسى عليه السلام في الألواح مكتوبات في القرآن.
وذلك أن الله تعالى يقول: {من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصارٍ}.
وقال في الوالدين: {أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير}.
وفي القاتل: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً}.(7/151)
وقال في الحلف: {ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم}.
وفي الشهادة: {ولا تقف ما ليس لك به علمٌ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً}.
وقال في الحسد: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله}.
وقال في الزنا: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً وساء سبيلاً}.
وقال في السرقة: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله}.
وقال في حليلة الجار: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم}.
وقال في التحابب بين الناس: {إنما المؤمنون إخوةٌ}، وقال: {محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}.
وقال في الذبائح: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسقٌ}.
وقال في السبت: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين}.
قال أبو عبد الله:
فمن عادى نعمة الله بحسده، وسخط أمره، وضاد قضاءه، فمعرفته في سجن مظلم في سويداء قلبه، ولا أدري أتبقى عليه حتى يختم له بها، أم يسلب فيموت كافراً عدواً لله؟ وإن تفضل عليه بأن تركها عليه، وختم له بها لا أدري متى ينجو من النار؟
قوله: ((لا يطعن)).(7/152)
فالطعن: قد يكون من الحسد، ويكون من الغيرة، والغيرة من إبليس في صدر الآدمي كالعذرة من الآدمي، فحق على كل مؤمن أن يخاف من الغيرة، فإذا طعن؛ فقد هتك الستر، وإنما يطعن في ستر الله، ولو أن رجلاً طعن في ستر ملك من عظماء ملوك الدنيا؛ لخاطر بنفسه وأهلكها، فكيف بستر الله؟ لأن المؤمن في سبعين ستراً من الله.
1617 - حدثنا محمد بن عيسى، عن موسى بن محمد ابن عطاء مولى عثمان بن عفان، عن عبيد الله بن راشد، عن الحسن البصري، عن سلمان، قال: المؤمن في سبعين حجاباً من نور، فإذا عمل خطيئة، ثم تناساها حتى يعمل أخرى، هتك عنه حجاباً من تلك الحجب، فلا يزال كلما عمل خطيئة، ثم تناساها حتى يعمل أخرى، هتك عنه حجاباً، فإذا عمل كبيرة، هتك عنه تلك الحجب كلها، إلا حجاب الحياء، وهو أعظمها حجاباً، فإن تاب تاب الله عليه، ورد تلك الحجب كلها، فإن عمل خطيئة بعد الكبائر، ثم تناساها حتى يعمل أخرى قبل أن يتوب، هتك عنه حجاب الحياء، فلم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً، فإذا كان مقيتاً ممقتاً؛ نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة، لم تلقه إلا خائناً مخوناً، فإذا كان خائناً مخوناً، نزعت منه الرحمة، فإذا(7/153)
نزعت منه الرحمة، لم تلقه إلا فظاً غليظاً، فإذا كان فظاً غليظاً، نزعت منه ربقة الإيمان، فإذا نزعت منه ربقة الإيمان، لم تلقه إلا لعيناً ملعناً شيطاناً رجيماً.
1618 - حدثنا الجارود: ثنا: حدثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن عمرو بن أسامة الهمداني، عن ابن مسعود، قال: ما من رجلين مسلمين إلا بينهما من الله ستر، فإذا قال أحدهما لصاحبه: هجراً، هتك ستر الله.
قوله: ((لا يلعن شيئاً)).
فإن اللعنة إذا خرجت من العبد، استأذنت ربها، فإذا صارت إلى من وجهت إليه، فلم تجد مساغاً، رجعت إلى ربها، فقالت: رب! إني لم أجد مساغاً، أمرت بالرجوع إلى صاحبها.
قوله: ((يعترف بالحق وإن لم يشهد عليه)).
فالمؤمن: أسير الحق، يعلم أن الشاهد عليه علام الغيوب، وقد أيقن بما أنزل عليه من قوله: {ولا تعملون من عملٍ إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه}، فقد اجتمع على قلبه أمران اثنان: العلم، والشهادة، فأخذ هيبة العلم، وحياء الشهادة.(7/154)
وقال في تنزيله: {والله يعلم متقلبكم ومثواكم}، وقال: {ألم يعلم بأن الله يرى. كلا}، فلا يحوج الموقن بهذا إلى أن يشهدوا عليه، وهو معترف بالحق أبداً له وعليه.
1619 - حدثنا محمد بن يحيى القطعي: ثنا بشر بن عمر الزهراني، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن القاسم بن محمد، عن عائشة -رضي الله عنها-، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((هل تدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم؟ قال: ((الذين إذا أعطوا الحق، قبلوه، وإذا سئلوا، بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم)).
قوله: ((ولا يتنابز بالألقاب)).
فالتنابز: من شأن البطالين، وأهل الخفة الذين قد رفعوا عن أنفسهم البال، ورموا بها في كل وادٍ من شره النفس، فإذا شرهت النفس، طلبت التفسخ، والتوزع في الأمور، والتلذذ بالبطالات، فلذلك تجترئ على تغيير أسماء قد تسمى بها أهلها، وفي ذلك حقارةٌ للمؤمنين، إذا دعوا بالألقاب.
وروي عن أبي أمامة: أنه قال له رجل: يا أصلع! فقال: لقد كنت(7/155)
غنياً عن لعنة الملائكة.
وبلغ من تعظيم حق المؤمن وإجلاله أن يكنى، ويدعى بالكنية؛ لأن الاسم قد نالته البذلة، فلم يزل يسمى ويدعى به في صغره، فلما حل محل الإجلال، جعل له دعوة طرية من نوعه عن البذلة، فكني عن الاسم بشيء آخر تعظيماً له؛ لأن الاسم قد امتهن وابتذل في أيام صغره، فصار كالشيء الخلق بالامتهان، فأجل بالكنية، وكانت الأعراب -لجفائهم- ينادون: يا محمد! يا محمد! فنهي العباد عن ذلك، ونزلت: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً}.
فعلموا أن يقولوا إذا دعوا: يا رسول الله! يا نبي الله! وقد كانت كنيته أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فلو دعي بتلك الكنية؛ لكان مدعواً بما قد كان ابتذل قبل النبوة، وامتهن، فجعلت مرتبته أعلى بين الأمة، فدعي بالنبوة والرسالة؛ لئلا يسوى به سائر الناس.
قوله: ((في الصلاة متخشعاً)).
فالخشوع: من فعل القلب، فإذا علم القلب أين قام، ولمن قام، تخشع، وهذا لمن ذلت نفسه في العبودة، وقد شهد الله لهم بالفلاح في تنزيله، فقال: {قد أفلح المؤمنون}، ثم نعتهم فقال: {الذين هم في صلاتهم خاشعون}، فإذا استقام القلب لله، ذلت النفس، وإذا ذلت النفس، هدأت الجوارح.(7/156)
1620 - حدثنا صالح بن محمد: أنبأنا سليمان بن عمرو، عن محمد بن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يعبث بلحيته في صلاته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو خشع قلبه، خشعت جوارحه)).
قوله: ((إلى الزكاة مسرعاً)).
فالسرعة: من حياة القلب، يعلم أن المال ميالٌ بالقلوب عن الله تعالى؛ لما فيه من حلاوة المنافع، ودرك الشهوات والمنى، ولذلك سمي مالاً، فإذا مالت القلوب بسبب شيء؛ نزعت البركة من ذلك الشيء، فأمر بالتصدق منه؛ ليظهر صدق إيمانه.
فإني لما ملت إلى هذا المال، فأحببته، وفرحت به، ملت عنه إلى الله بهذه العطية، وبمفارقة قلبي إياه؛ بأن أخرجته من ملكي، وودعت نفسي تلك الحلاوة التي كانت تجدها من درك المنى والشهوات، فهذه العطية صدق إيماني، فسميت صدقة.
ثم سميت زكاة؛ لأنها لما صارت إلى الله، احتشت من إقباله، فاحتشى القلب من دنوه منه؛ لأن العبد تقرب بها إلى الله، فلما قبلت منه، قرب.
فالصدقة: تطهر العبد من السباب، فيصير العبد زاكياً، فإنما سميت زكاة؛ لأن المال عادت البركة إليه، وزكي، وطهر العبد من الميل عن الله، فزكي، فلذلك قال: {والذين هم للزكاة فاعلون}؛ أي: أسرعوا لما علموا ميل القلوب عن الله بحبهم ذلك المال، وبادروا ففعلوا تزكية القلوب(7/157)
والنفوس، فأثنى الله عليهم، فسماهم: فاعلين للزكاة، وقال في آية أخرى: {وآتى المال على حبه}، ثم قال في آخر الآية: {أولئك الذين صدقوا}؛ أي: في إيمانهم، {وأولئك هم المتقون}؛ أي: دخلوا في وقاية الإيتاء فراراً من حبه؛ لأن ذلك الحب يضر بهم.
قوله: ((في الزلازل وقوراً)).
فالوقار: يثقل قلب العبد؛ فإنما نالته الزلزلة من بلوى وشدة، فلم يكن وقوراً، استفزته الشدة، فتكفأت به يميناً وشمالاً، فإذا توقر، ثقل، فأصاب الثبات في وقت الشدائد، والوقار: إكليل الإيمان.
ولذلك قال زيد بن أسلم، أو غيره من التابعين: إن على الحق نوراً، وعلى الإيمان وقاراً.
وأوفر المؤمنين حظاً من الوقار: أوفرهم حظاً من القربة.
1621 - حدثنا الفضل بن محمد الواسطي: ثنا أحمد ابن أبي الحواري: ثنا مروان بن محمد بن الفضل الكندي، عن خالد بن يزيد بن صبيح، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس الخولاني، قال: قال داود عليه السلام: إلهي! دلني على عمل إذا أنا عملته، نلت به وقارك، فأوحى الله إليه: يا داود! أحبب المؤمنين من أجلي، ولا يزال لسانك رطباً(7/158)
من ذكري، واعمل لي حتى كأنك تراني.
قوله: ((في الرخاء شكوراً)).
لأن وقت الرخاء النفس ساكنة في مستقرها، والقلب مفتوح الباب، مشرق النور، منكشف الغطاء، فإذا تناول النعمة على نور من ربه على انكشاف الغطاء؛ كان شكوراً، فهو على بصيرة من ربه، ومن كان في هذه الحال شكوراً، كان في البلاء صبوراً؛ لأن الغطاء منكشف، والستر مرفوع.
قوله: ((قانعاً بالذي له، لا يدعي ما ليس له)).
فالقناعة: طيب النفس، وهي الحياة الطيبة، وهي من الله ثواب عاجل للعبد بما أطاعه؛ فإن ربنا شكور، وله ثواب في العاجل لعبيده، وثواب في الآجل، وهو الأولى؛ لمعرفة الحقوق، وأقدار الأمور، وشكر العبيد، وكنه الأشياء، وقال في تنزيله: {من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أثنى وهو مؤمنٌ فلنحيينه حياةً طيبةً}.
وروي عن وهب بن منبه: أنه قال: الحياة الطيبة: القناعة.
1622 - حدثنا بذلك صالح بن محمد: ثنا سليمان بن عمرو، عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي، عن وهب بن منبه في قوله: {فلنحيينه حياةً طيبةً}، قال: القناعة.
والجبن: والحرص غريزة واحدة يجمعها سوء الظن بالله.(7/159)
فهذه القناعة ثواب الله العاجل لعبده، إذا صلحت سريرته وعلانيته، يملأ قلبه غنًى حتى يكون غنياً بالله، فيقنع بما يؤتى ويقسم له من الدنيا.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استغنى بالله، أغناه الله)).
وقال: ((ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس)).
1623 - حدثني أبي رحمه الله: ثنا إسماعيل بن صبيح اليشكري: ثنا صباح بن واقد الأنصاري، عن إسماعيل بن رافع المديني، عن دويد بن نافع المديني، رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إن الله أنزل في بعض ما أنزل الله من الكتب قسماً يقسمه، يقول: وعزتي وجلالي، وجمالي وعلوي ودنوي وارتفاع مكاني! لمن آثر هواي على هواه، لأجمعن له شمله، ولأكفينه ما أهمه، ولأجعلن غناه في نفسه، ولأضمنن السماوات والأرض رزقه، ولأتجرن له من رواء تجارة كل تاجرٍ، ولمن آثر هواه على هواي، لأشتتن -أو قال: لأشككن- عليه أمره، ولأجعلن فقره(7/160)
بين عينيه، ولأحضرنه همومه، الحاضر منها والغائب، والقديم منها والحديث، حتى لا يدري من أين تجيئه، ومن أين تأخذه، فإذا ملأ قلبه غنًى، قنع)).
وكان حق هذه الكلمة في الإعراب أن يقول: ((قنعاً بالذي له))، وهؤلاء الرواة ربما لحنوا في الأداء حتى يحرفوا الكلمة عن موضعها؛ من جهلهم باللغة؛ لما دخلهم من اللكنة في لسانهم.
ولذلك قال الحسن البصري: أهلكتهم العجمة.
وقيل للحسن: إنك لا تلحن؟ فقال: إني قد سبقت اللحن.
وإنما هو قانع، وقنع، فالقانع: السائل، قنع يقنع قناعة؛ أي: رضي يرضى رضًى، وهذه من الأضداد.
وقال القائل:
لمال المرء يصلحه عفافاً ... أعف من القنوع(7/161)
أي: من السؤال.
وروي عن ابن عباس: أنه ذكر هذا البيت.
وقال تعالى في تنزيله: {وأطعموا القانع والمعتر}.
فالقانع: الذي يسأل، والمعتر: الذي يعتريك ولا يسأل.
قوله: ((لا يجمع في القيظ)).
فالقيظ: حرارة الحرص؛ فإنه إذا جمعه كذلك، لم يدعه الحرص أن يتورع في مكاسبه، حتى ينغمس ويتغمض في مكاسب السوء والزيف، ثم يؤديه ذلك إلى التقحم في جراثيم الحرام، ولكن يجمعه في تؤدة وهيبة، ونظر ومراقبة، يعبد الله بذلك الجمع، فمن كان جمعه عبودة لله، كان كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1624 - حدثنا بذلك صالح بن محمد: ثنا سليمان ابن عمرو، عن أبان، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن كيسٌ فطنٌ حذرٌ، وقافٌ متثبتٌ، لا يعجل، عالمٌ ورعٌ، والمنافق همزةٌ لمزةٌ حطمةٌ كحاطب ليلٍ، لا يبالي من أين اكتسب، وفيما أنفق)).(7/162)
1625 - حدثنا أبي رحمه الله: ثنا عثمان بن زفر الكوفي: ثنا حصين بن عمر الأحمسي، عن مخارق، عن طارق بن شهاب، قال: سئل ابن عباس عن أبي بكر الصديق، قال: كان كالخير كله من رجل كان فيه حدة، وسئل عن عمر، فقال: كان كالطير الحذر الذي يرى أن له في كل طريق شركاً يأخذه.
فإذا جمع المال ليعف عن المسألة، ويسعى على عياله، ويعطف على جاره، فهي عبودة لله.
كذلك جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال:
((من طلب الدنيا حلالاً، واستعفافاً عن المسألة، وسعياً على عياله، وتعطفاً على جاره، جاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا حلالاً، مفاخراً مكاثراً مرائياً، لقي الله وهو عليه غضبان)).(7/163)
1626 - حدثنا بذلك أبي رحمه الله: ثنا ثابت بن محمد الزاهد: ثنا سفيان الثوري، عن حجاج بن فرافصة، عن مكحول، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: ((لا يغلبه الشح عن معروفٍ يريده)).
فالشح: أصله من الحرص، وهو الذي يجمع الحرام والحلال، فإذا عوفي من الشح، صفا ماله، وإذا عوفي من البخل، ظهر المعروف من دأب يده، وقال في تنزيله: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
وروي لنا عن عبد الرحمن بن عوف: أنه كان يطوف بالبيت ودعاؤه: ربي! قني شح نفسي.
فالشح والبخل متولدان عن الحرص، والشح أقوى من البخل؛ لأن الشح يدعو إلى أن يأخذ مال غيره، وما حرم عليه، ويمنع حقوق الله في ماله، والبخل يدعو إلى أن يمنع المعروف من ماله.
1627 - حدثنا قتيبة بن سعيد: ثنا حبيب بن غالب(7/164)
اليشكري، عن العوام بن حوشب، عن مجاهد، قال: الشح: منع حقوق الله في ماله، والبخل: منع المعروف.
قال أبو عبد الله:
والشح إنما هو شح يشح شحاً، والحاء منه مضاعفة، إنما هو: شاح يشوح، أدغمت الألف في الحاء، فشددت، فقيل: شح يشح.
وقوله: حاش يحوش، وهو أن يطرد الصيد ليجمعه إلى الصائد ويقول: حش عليه، أي اطرد الصيد من النواحي إلى الصائد، ويقول: حش عليه؛ أي: أطرد الصيد من النواحي إلى الصائد، وكذلك صورة عمل الحرص في الآدمي، وهو أن يجمع أسباب المنالات، ويطردها ويسوقها من نواحي الضأن؛ ليجمعها إلى ملكه، فذاك مستعمل في ذلك النوع، وهذا مستعمل في هذا النوع.
فالحوش في فعل الظاهر، والشح في فعل الباطن، وأحدهما مشتق من الآخر، والبخل والخلب بمعنى واحد.
فالخلابة: أن يخادع الناس في بيعه ومعاملاته، والبخل: أن يخادع ربه في معاملته وبيعته في ماله، فإنه قد بايع الله على المعروف.
قوله: ((يخالط الناس كي يعلم)).
أي: يعلم فضل الله عليه، ويعرف أحوال الناس، ويعلم ما يبقي وما يذر، فليس مخالطته مخالطة استرواح إليهم، وأنس بهم، وطمأنينة(7/165)
إليهم، ولكن مخالطة خبرة واعتبار وحذرٍ، وأخذٍ بالحزم في أمره معهم.
روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جميع بن عمر في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنه كان يسأل الناس عما في الناس)).
فكان سؤاله عن هذه الجهة فيما يرى، وهو صلى الله عليه وسلم نهى عن التجسس، وكان للأمة أباً يهتم لهم همة الآباء، فيخير الناس، ويأخذ حذره منهم، ويأخذ بالحزم في أمورهم.
قوله: ((يناطقهم كي يفهم)).
أي: يفهم أحوالهم في أمورهم؛ لأن الأسرار وما في الغيوب إنما تظهر بالمناطقة، فلذلك قيل: إنما المرء بأصغريه، وهو القلب واللسان، هذه بضعة صغيرة، وتلك بضعة صغيرة، وإحداهما ترجمان لما في الأخرى، والأخرى وعاء علم الأشياء، فإذا نطق، فهم أين هم، وعرف كلاًّ على درجته، فهو يناطقهم عن حاجة إلى ذلك؛ كي يهتدي لمعاشرتهم كلاًّ على قدره. يقول: ليس به أنس اللقاء، ولا شهوة الكلام، وخرافة الحديث، بل هو منهم وحش، ومن حديثهم في تقية، وأنسه بالله، وبمن يلقاه في الله، ويناطق الحكماء إذا ناطق؛ ليزداد بالله علماً، وإذا نطق العامة، ناطقهم ليفهم أحوالهم.(7/166)
قوله: ((وإن ظلم أو بغي عليه، صبر، حتى يكون الرحمن هو الذي ينتصر له)).
فالصبر: مركز المؤمن بين يدي الله، فإذا ترك الصبر، ترك مركزه بين يدي الله، وانتكست رايته، وتلك راية الهدى، ففي نكس راية الهدى الضلالة، وإنما سمي صبراً؛ لثباته على المركز، ومشتقه من المصبور، وهو أن ينصب طائراً غرضاً، فيرميه، فكذلك النفس إذا صيرها صاحبها غرضاً لنائبات رميات القضاء، فيثبت، ولا يزول، فكذلك الصبر.
فالمؤمن المحق قد عرف أن الله عدل، يأخذ من الظالم للمظلوم، فإذا ظلم، وجد الله ملياً أملأ منه في الانتصار.
وأما البغي: فإن صبر، فقد أخذ بباب السلامة، وإن انتصر، فقد أثنى الله على المنتصر في تنزيله، فقال: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}.
فالمنتصر أقوى من التارك، والتارك أسلم، ومن ترك الانتصار، فإنما تركه بضعفه، ولما خاف أن تشركه النفس، فأخذ بحظها؛ لأن المنتصر إنما ينتصر بحق الله، لا لنفسه.
فالدين محتاجٌ إلى القوة، فقوته من هذه الثلاث خصال التي ذكرناها في مبتدأ الحديث، واللين محتاج إلى الحزم، فقوته من السكينة، والسكينة ثواب من الله في عاجل الدنيا لمن آثر هوى ربه على هوى نفسه.
ولذلك ما روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه -تبارك وتعالى- قسماً يقسمه: أنه قال: ((وعزتي وجلالي! لمن آثر هواي(7/167)
على هواه، لأجمعن له شمله، فلأفعلن ولأفعلن)).
تركنا بقية الحديث، وذكرنا منه ما احتجنا إليه.
فالإيمان: محتاج إلى اليقين، فقوته من نور العظمة، وإنما ينالها إذا وله القلب بالله عن الأشياء.
والعلم: محتاج إلى الحرص، فقوته من الصدق، وإنما ينال الصدق إذ لها عن نفسه وأحوالها، فهناك يبذل نفسه لله.
والحلم: محتاج إلى العلم، فقوته من الهيبة، وإنما ينال الوصول إليها: إذا هدأت جوارحه، وسكنت نفسه، وانقاد قلبه تذللاً.
والغنى: محتاج إلى القصد، فقوته من العدل، وإنما ينال العدل: إذا حرس ساحة صدره من وساوس النفس.
والفاقة: محتاجة إلى التحمل، فقوتها من التقوى، وإنما ينال التقوى: إذا وصل إلى القربة، فقرب.
والطمع: يحتاج إلى التحرج، فقوته من الانفراد، فإذا انفرد العبد بالله، خرج من الطمع.
والكسب: محتاج إلى الحلال، فقوته من الخوف، فإذا نال الخوف، قدر على مجاهدة النفس في الكسب حتى يطيبه.
والبر: محتاج إلى الاستقامة، فقوته من انفتاح الطريق، فإذا فتح له، استقام، ولم يعرج.
والنشاط: محتاج إلى الهدى، فقوته في الحذر، فإذا حذر من(7/168)
الذات، انقبض، ولم يجترئ على النشاط؛ لأن النشاط انحلال الجوارح.
قال الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه}؛ فإنما حذرك ذاته.
وقال: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه}؛ أي: احذروا أن لا يتلظى عليكم شعاعٌ من نور العظمة، فتصير السماوات والأرض جمرة واحدة.
والشهوة: محتاجة إلى النهي، فقوتها من الوجل، فإذا ولج قلبه، لم يدع له تهنياً بشهوته، وإنما ينال الوجل: إذا خشي ربه، وإنما ينال الخشية: إذا تردد قلبه في علم الملكوت، والله أعلم.(7/169)
الأصل الرابع والتسعون والمئتان (1)
تفسير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنزل القرآن على عشرة أحرف)).
1628 - حدثتني أم عائشة بنت سهل، عن أبيها سهل ابن سالم، عن خلاد بن محمد، عن أبي حمزة السكري، عن زكريا بن حكيم، عن الشعبي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنزل القرآن على عشرة: بشيراً، ونذيراً، وناسخاً، ومنسوخاً، ومحكماً، ومتشابهاً، وعظةً، ومثلاً، وحراماً، وحلالاً، فمن ابتشر ببشيره، وانتذر بنذيره، وعمل بناسخه، وآمن بمنسوخه،
__________
(1) هذا الأصل جاء في النسخة (ن) برقم: الأصل السابع والستين والمئتين، وهو غير موجود في النسخة الأصل، ألحقناه هنا لتمام الفائدة.(7/171)
واقتصر على محكمه، ورد أمر متشابهه إلى عالمه، واتعظ بعظته، واعتبر بمثله، وأحل حلاله، وحرم حرامه؛ فأولئك هم المؤمنون حقًّا، لهم الدرجات العلا مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، وهو وارثي، ووارث الأنبياء قبلي.
ولولا قسم أنه لا نبي بعدي؛ لكان نبياً من أنبياء الله، ولا يزال في ضمان الله وكنفه، وحيثما تلا القرآن، غشيته الرحمة، وتنزلت عليه السكينة، وكان بعين الله منوراً له قلبه إلى يوم القيامة، ويحشر يوم القيامة في زمرتي، وتحت لوائي، ولوائي أبيض العود، أخضر الرقعة، أفيح الريح، وله لسانان: لسان يرى بالمشرق، ولسان يرى بالمغرب، يظل حملة القرآن، والمتحابين في الله، فمن ضيع واحدة منهن؛ فقد ضيع كلهن، ويلقى الله تعالى غداً ظمآن، محول الخد، نادم القلب، مرتعد الفؤاد، حاسر القدم، مستحيياً من الرب -جل وعز-، مغفوراً له، أو معذباً)).(7/172)
قال أبو عبد الله:
فأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ابتشر ببشيره)).
فالبشرى: خبر عن الغيب، وذلك أن العبد في دار المحنة والبلوى متعرضٌ للنعمة والآفات، ممزوج بها، مسؤول عن الشكر عليها، ومقتضٍ الصبر على مزاجها من الآفات، وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يظهر له من غيب الله تعالى غداً.
فالخيرة كائنة للعبد؛ فأيد الله المؤمنين بخطابه وكلامه، فبشرهم، وإنما سمي بشراً؛ لأنه أنبأهم في هذا الخطاب عن خبر نفى حيرتهم، حتى قويت القلوب، واطمأنت النفوس؛ فإن النفس إذا اطمأنت، فقد تخلص القلب من وساوسها، وصار حراً، والحر قويٌّ مالكٌ، والعبد ضعيفٌ عاجز في رتبة، فإذا اطمأنت النفس، قوي القلب، انتشر السرور في الصدر، فإذا انتشر السرور؛ نضرت الوجوه، فتلك النضرة تورث البشر، وضد النضرة: الكسوف، وضد البشر: العبوس.
قال الله تعالى: {ولقاهم نضرةً وسروراً}، قال: نضرة في الوجوه، وسروراً في القلب.
فالسرور يفيض [على] القلب من الفرح الذي حل بالنفس، فالفرح في النفس، والسرور تولده في القلب، وسلطانه وانتشاره في الصدر، ثم يتأدى ذلك من مجمع العروق التي على القلب إلى العروق التي في الوجوه، فتشرب جلدة الوجه من ذلك؛ بمنزلة شجرة شربت عروقها من ماء في أصلها، فأدت عروقها إلى الأوراق، فنضرت، فيقال: أشجار(7/173)
ناضرة كأن الماء يقطر من ورقها، وخضرتها تبرق بروقاً من نضرتها وطراوتها، فكذلك هذا يتأدى إلى الوجه، فينضر بشرة الوجه، وهو جلدتها، فإذا كان ذلك، علم أن في الباطن خبراً ساراً.
فقوله: ((ابتشر)) على قالب افتعل؛ أي: صار هذا البشر الذي ظهر على وجهه من ذاته؛ أي: عمل ذلك الكلام في قلبه وصدره، حتى اختلط بذاته، فاختلط بسمعه، وبصره، ومخه، وجميع جوارحه؛ فهذا لمن استمع قلبه إلى خطابه، فوعاه بأذني قلبه، فاستقر في قلبه علم ذلك، وورد العقل على قلبه ببهاء ذلك الخطاب، والفهم بمكنون لطائفه في ذلك الخطاب، والفطنة بكشف الغطاء عن صور تلك اللطائف، فطابت النفس لذلك، وازدهرت، وأينعت عن الذبول والخمول، فإذا كان بهذه الصفة؛ فقد ابتشر بالبشرى.
وأما قوله: ((وانتذر بنذيره)).
فكذلك أيضاً، وهو أن العبد قد شرهت نفسه من الفرح بأحوالها، وبسبب نمائها، ونضرت، فإذا جاءها الوعيد من الله تعالى، ذبلت، وسكن تلظي تلك الأفراح، وانقمعت، فتنغصت عليه حلاوة الأفراح، وتكدر عليه صفو النعم بما جاءه من الوعيد، فظهر في صدره من كدورة دخان الوعيد، ومرارة التنغيص، فتأدى ذلك إلى الوجه، فظهر على وجهه الكسوف، فأورثه العبوس، فتجد صاحب هذه الصفة مرة ذا بشر ونضرة، ومرة ذا عبوس وكسوف، فإذا وردت عليه البشرى؛ أقمر وجهه بتلك النضرة، فظهر البشر والكشر، وزال عنه الكسوف، فإذا ورد عليه الوعيد، انكسف القمر الذي بوجهه وانعبس، والعبوس يقبض أسارير الوجه والجبين،(7/174)
والبشر انطلاق تلك الأسارير، وذلك قوله: {يوماً عبوساً قمطريراً}، وهو أن يتقلص الجبين، وتنقبض أسارير وجهه، فمن ابتشر ببشر الله، وانتذر بنذيره، فإنما يفعل ذلك بقلب عامر، ومحال إن وجد أحدهما عنده أن يفقد الآخر؛ لأن ذلك فعل القلب.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((وعمل بناسخه، وآمن بمنسوخه)).
فإن الناسخ آية قد أمر الله بالعمل بها، وقد كان قبل ذلك أمر العبد بغير ذلك في آية نزلت قبلها، فالناسخ ما قد جاء، فدفع الأول، وحل بمكانه، فهو ناسخ للأول، والأول منسوخ؛ أي: مدفوع عن مكانه، ولذلك سمي: نسخة الكتاب؛ لأنه يدفع عن الكتاب مثاله وصور الحروف.
فالناسخ والمنسوخ: بلوى من الله لعبده، أمره بالتوجه إلى الكعبة، ثم صرفه إلى بيت المقدس، ثم صرفه إلى الكعبة، لينظر أيعبد الله؟ أم يعبده في الظاهر، ويعبد هواه في الباطن؟.
ثم قال: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرةً إلا على الذين هدى الله}، وقال: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين}.
أي: حتى نعلم من يجاهد نفسه في ذاتي، ويصبر عما حرمت عليه، وعلى ما افترضت عليه، وعلى ما حكمت عليه من الأحوال المكروهة؛ مثل: الفقر، والذل، والبؤس، والمرض.
ثم قال مع هذا بعد مجاهدة النفس والصبر: {ونبلوا أخباركم}؛ أي: أنتم مني مع هذه المجاهدة والصبر أعلى طيب النفوس، أم على خبثها وترددها، والأركان صابرة؟ فإذا آمن بالمنسوخ، وعمل بالناسخ؛ فهذا عبد(7/175)
منقاد لربه، قد ألقى بيده سلماً.
وأما قوله: ((واقتصر على محكمه، ورد علم متشابهه إلى عالمه)).
فالمحكم خرج إلى العباد من الحكمة البالغة، وهو مثل الآيات التي في سورة الأنعام: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم}، ومثل قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً} إلى قوله: {ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة}.
فأعلم العباد أنه لم يأمر بشيء، ولا نهى عن شيء جزافاً، أمرهم ونهاهم بالحكمة البالغة، فظاهر الحكمة في أيدي علماء الظاهر، وباطن الحكمة في أيدي علماء الباطن حكماء الله ونصحائه، وهو علل الأمر والنهي.
وقد نفر علماء الظاهر من هذه المقالة، وقالوا: ليس لأمره ونهيه علة، وإنما هو تعبد، خافوا على ذلك من قبل أهل كياد الدين، وقالوا: متى أطلقنا هذه المقالة، لم نأمن أن يطلب ذلك منا من يروم كيد الدين من أهل الزيغ، فيعجز عن علم تلك العلة، فتسقط الحجة عن نفسه، فحسموا هذا الباب.
فقال أهل الباطن: هذا تعبد، وقد لزم العباد العمل به، ولكنا نستيقن أنه لم ينه عن شيء، ولا أمر بشيء إلا بالحكمة، تعالى الله عن الجزاف المهمل عن التدبير والتقدير، فنحن نطلب تلك الحكمة في معادنها، فإذا وجدناها، حمدنا الله، وإن افتقدناها، انقدنا لله تعالى عبودة وذلة لرقها، فإن تلك الحكم تبعثك على إقامة الأمر والنهي إذا رأيت حسن تلك الأمور وبهجتها، ونزاهة النهي عن طهارته، وسنذكر واحدة من تلك الحكم:
افترض الله تعالى الصلاة على عباده، فرجلٌ أداها تعبداً، وآخر طالع(7/176)
الحكمة ببصيرته، فوجد العبد موكلاً بحفظ الجوارح السبع، وهي: السمع، والبصر، واللسان، والبطن، والفرج، واليدين، والرجلين، وهو بمنزلة عبد وكل بسبعة أغنام ليرعاها في مراعيها، ولكل شاةٍ مرعى على حدة، وهو على مكان مشرف على هذه الأودية، ويورد عليهم من مكانه الماء، فيسقيهم كلاًّ على حياله في واديه، وقيل له: متى ترد في جرف أو بئر، فبادر في إخراجه منه، وإن أنكر، فأجبره، ومتى ما وقع في سموم الكلأ؛ مثل: الدفلى وأشباهه، فبادر بالترياق.
ومتى وقع الذئب فيه؛ فأرسل الكلاب عليه لاستلابه من الذئب، فإن ذهب هذا الراعي، فجعل هذه الأغنام في باله، وعني بشأنهن ورعايتهن؛ نال الكرامة، وعوض عن تعبه وكده، يا لك من عوضٍ! وإن أهمل الرعاية، وضيع الغنم، فواحدة في بئر قد تردت فيها، وواحدة في أنياب السبع، وواحدة في السموم قد تهرأ لحمها وعظمها، فأول ما يقال له: يا راعي السوء! أكلت اللحم، وشربت اللبن، ولبست الصوف، ولم تؤو الضالة، ولم تجبر الكسيرة، ولم ترها في مرعاها، وعطشتها في مراعيها، حتى يبست وماتت هزلاً، بؤساً لك من راعٍ! ما اكتسبت بفعلك إلا مقتاً وبعداً، توقع الرق مستقبلاً، والعقوبة العظيمة في هذا الرق.
فهذا المؤمن في غفلاته كالراعي في نعساته، فإذا نعس الراعي حتى تردت واحدة منهن في البئر، بادر إليها فاستخرجها، وإذا وقعت في سموم الكلأ، عالجها بالترياق والبادزهر، حتى يردها إلى الحالة الأولى، والمؤمن إنما سمي مؤمناً؛ لأنه اطمأن إلى الله تعالى عبودةً له، واستقر قلبه، وسمي مسلماً؛ لتسليم جوارحه إليه في أمره ونهيه، وعليه الوفاء(7/177)
بذلك إلى يوم القيامة، فمتى ما ضيع شيئاً من أمره ونهيه، دخل في وفاء تسليمه نقصٌ بقدر ما ضيع، وترك الوفاء، فقد علم الله عز وجل من العباد أنهم سيخلفون هذا التسليم تضييع أموره، فافترض عليهم القيام بين يديه عبودة وتذللاً، معتذرين مما ضيعوا، فقد قام العبد مقاماً جمع جوارحه المنتشرة في مراعيها بين يديه، قد أزال سمعه عن الناس والأمور، وأزال بصره عن النظر إليهم، وأزال لسانه عن خطاب الخلق، ويده عن القبض والبسط، ورجله عن المشي، وبطنه عن الطعام، وفرجه عن الاعتماد.
فهذا من العبد تسليمٌ إلى الله مستقبلاً معتذراً بالثناء والركوع والسجود، مرضياً له، حتى يرجع من عنده على تجديد إسلامه، ومزيد من فضل الله ورحمته، فعبد أدى فرائضه على هذه الصفة من المطالعة، والعلم، واليقظة، والانتباه، وعبدٌ أداها تعبداً، وهذا كله مستور عنه، فمتى يلحق هذا ذاك؟
ولهذا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجلين ليكونان في صلاةٍ واحدةٍ في سقفٍ واحدٍ، ولما بين صلاتيهما أبعد ما بين السماء والأرض)).
فقد ذكرنا هذا في الصلاة، وفي الوضوء موجود مثل ذلك، وفي الغسل من الجنابة مثله، وفي الصوم مثله، وفي الزكاة مثله، وفي سائر الأعمال التي عللها قائمةٌ لا يعقلها إلا أهلها، أولئك قوم قد تخلصت قلوبهم من ظلمة الشهوات، وخرجوا إلى البرهان العظيم الواضح، وإلى(7/178)
النور الأعظم، وهو قوله: {يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً} إلى قوله: {إلى النور}.
فإنما نالوا هذا الخروج بصلاته عليهم، وإنما نالوا صلاته عليهم بكثرة ذكره، ويتلاقى ماؤها من ذلك الذكر بالتسبيح بكرة وأصيلاً.
وأما المتشابه، فأسرار الله التي طواها عن العباد، وأسرار الرسل التي أفضاها إليهم، وطواها عن العباد، وأسرار الأولياء التي أفضاها إليهم، وطواها عن سائر الموحدين، فهذه أشياء قد اشتبهت على الخلق؛ لعجزهم عن احتمالها.
فالمقتصر على محكمه لا يتعدى إلى ما شبه عليه، بل يقتصر على المحكم؛ فإن الحاجة به إلى المحكم، والمتشابه رتبة المحكم، طواها الله تعالى عن العباد؛ لعجزهم عن احتمالها، ثم إذا تنحنحوا في دار الملك، وانكشف الغطاء، وزال عنهم رق العبودة، وصار الأمر جهراً، وزاروا الله تعالى في داره، طوقهم النظر إليه، واحتمال لذة كلامه، أفضى إليهم الأسرار التي طواها عنهم.
1629 - حدثنا محمد بن رزام الأبلي: ثنا أحمد ابن عطاء الهجيمي، قال: حدثني محمد بن نصير، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {قال رب أرني أنظر إليك}، فقال: ((يا موسى! إنه لا يراني حيٌّ إلا مات، ولا يابسٌ إلا تدهده، ولا رطبٌ إلا تفرق، إنما يراني(7/179)
أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم، ولا تبلى أجسادهم)).
فقد أعلمك سبب عدم الرؤية في دار الفناء، وألقى عذره إلى عبده موسى حيث قال: {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني}.
فحل بموسى من الصعق ما حل، وبالجبل من الدك ما حل، يعلمه أنه لا يطيقه احتماله، وأن الجنة خلقت، فزينها ببهائه، فاحتملت الجنة تجليه، والدنيا خلقت من كدورة وزبدة، فذللها بسلطانه، وزينها بنثاره من الجنة، مستورة عن الأرض زينتها، ومزجها بالشهوات التي حفت بالنار، وذلك حظ إبليس، فلا الجبل احتمل تجليه، ولا موسى.
ولذلك قال: {تبت إليك}؛ لأنه سأل ذلك في دارٍ دنيةٍ فانية خربة، قد قذرت بالشرك والمعاصي، ذهبت رؤيته في ذلك الوقت بشغوفه بربه، وزلة عقله، فلطف الله له أن ألقى إليه عذره في ترك إجابته، وألجأه إلى التوبة، إذ تدين له، حتى فزع إلى التنزيه، وإلى التوبة، ومن هاهنا عقلنا قوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض}: أن هذه الأرض بدلت بها أرض طاهرة لم تدنس بمعصية لنور الله تعالى، وهو قوله: {وأشرقت الأرض بنور ربها}.
فلم تكن الأرض النجسة بالمعاصي بمستحقة لذلك، فبدلت بها أرض طاهرة لكلام الله وجنته، وإشراقها بنوره.
وقد أبت هذه الطبقة الغالية المعطلة احتمال هذه الخطة من جود ربنا(7/180)
سبحانه وكرمه، فقالوا: إن هذه صفة من صفاته؛ أي: لا ترى في الدنيا، ولا في الآخرة.
واحتجوا بقوله: {لا تدركه الأبصار}.
وزعمت أن هذه صفة من صفاته، فلا تنسخ، ولا تتغير صفته، فتكون في الدنيا بخلاف الآخرة.
فلما قيل لهم: فمن عطل صفة من صفاته، أليس قد انقطع نظام توحيده؛ لأن العباد وحدوا رباً بجميع صفاته، فإذا عطلت صفة، فقد خرجت من توحيده؟ أفتزعمون أنه حين سأل الرؤية قطع النظام، وعطل صفة من صفاته؟ ففزعوا من هذا القول، والتجؤوا إلى أن موسى -عليه الصلاة والسلام- لم يسأل رؤية العين، إنما سأل مشاهدة القلب.
فلما قيل: فإنما قال موسى: {رب أرني أنظر إليك}، ولم يقل: أر قلبي ينظر إليك، فإن كان هذا السؤال للقلب، فلم تجلى للجبل؟
فأنكروا هذا، وقالوا: إنما جعل في الجبل آية من آياته، فتجلت الآية للجبل، فقلنا: يا ممسوخ القلب! يقول الله تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل}، وأنت تقول: إنما تجلت آية من آياته! كفى بذلك خزياً، وحدثنا عن الآية! التي احتجيت بها في قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}، وأن هذه صفة من صفاته، هل عقلت أي شيء هو؟ وأين هذا من ذاك؟
إنما قال: لا تدرك، فقد تم الكلام، ثم قال: هو، فـ ((هو)): اسمٌ، لا صفةٌ له، ومن الهوية خرجت الصفات، وإلى ((هو)) إشارة القلب إلى(7/181)
المعروف الموصوف.
ألا ترى إلى قوله: {هو}، ثم قال: {الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة}، ثم قال: {هو الرحمن الرحيم}، ثم قال: {هو}، ثم قال: {الملك القدوس}، ثم قال: {هو}، ثم قال: {الخالق البارئ المصور}؛ فـ ((هو)) أصل الأسماء، وإليه يشير القلب؛ لأنه الباطن الذي لا يدري كيف.
فكذلك الله تعالى وصف نفسه، وسمى صفاته، فإنما وصف وسمى صفاته لدرك العباد، وأما هو فلا تدرك العباد منه معنًى ولا صفةً، ولا تدرك الأبصار ذلك المعنى والإشارة، فأين هذا من التجلي بصفةٍ من صفاته؛ بجلال، أو بعظمة، أو بهاء؟ ما أحسب أن الله تعالى صرف قلوبهم عن هذا، إلا أنه حبسهم عن ذلك في دار البقاء، وأشقاهم، جعل لصفاته أسماء بحروف مؤلفة دارت الألسن عليها نطقاً بما تراءت في القلوب هذه الصفات، فصير عينا يوم الموقف التي كانت على القلوب، وللصفات معنى، ولا تدرك ألوهيته؛ لأنه لا معنى له، ولا يحاط به علماً.
فأما قوله: ((إن المتشابه زينة المحكم)).
مثل قوله في مبتدأ السورة: {الم}، فإنما ذكر حروف المعجم مؤلفة شبه بها عن العامة، وطوى علمها عنهم، وأوصلها إلى أهلها، يعلمهم حشو ما في السورة للعباد من زاد الإيمان، وإنما ظهر عندهم وعنهم الإيمان.
ومثل قوله: {طسم} يعلمهم بهذه الحروف حشو ما في هذه السورة.
ومثل قوله: {يس} يعلمهم حشو ما في هذه السورة -بالياء والسين-،(7/182)
فهذا لا يدركه إلا حكماء الله في أرضه، وأوتاد أرضه وصلوا إليه، فبه نالوا هذه الحكمة؛ لأن هذه حكمة الحكمة، وكما أن للعلم باطن، كذلك للحكمة باطن، فهذا باطن الحكمة.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((العلم علمان: فعلمٌ في القلب، فذاك العلم النافع، وعلمٌ على اللسان، فذلك حجة الله سبحانه على ابن آدم)).
فالعلم الذي على اللسان هو العلم الظاهر، والعلم الذي على القلب فهو الباطن، وهو الحكمة.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((ما من آيةٍ إلا ولها ظهرٌ وبطنٌ)).
فهذا تحقيق ما قلنا بدءاً.
كما أن العلم علمان، فكذلك الحكمة حكمتان:
حكمة ظاهرة يعلمها الحكماء، وحكمة باطنة يعلمها نجباء الحكماء، من وصلت قلوبهم إلى فردانيته، فتناولوا هذا العلم من الفردية، وهو علم حروف المعجم، وبهذه الحروف تعرف العلوم كلها، وبالحروف ظهرت أسماؤه، حتى عبروها بالألسنة، وفهموا معانيها من قبل الحروف، فهذه حكمة العلماء من الفردية خرجت إلى العباد، فإنما شبه علمه على العباد؛(7/183)
لأن قلوبهم لا تحتمل ذلك، وعقولهم لا تهتدي لذلك، إنما يهتدي لذلك من وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن الله: أنه قال: ((ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ثم إنه يتقرب إلي بعد ذلك بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه وبصره، ويده، ورجله، ولسانه وفؤاده، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، وبي ينطق، وبي يعقل)).
فالمتشابه زينة المحكم؛ لأن المحكم في السورة، وفي المحكم لطائف، وتأديب، وتنبيه، ومعاريض، وندبة، وتشويق، وحداثة، فأجمل ذلك كله في مفتتح السورة؛ ليعلم أهله ما في حشو هذه السورة، وهو كالبشرى لهم، تبتهج [به] قلوبهم، وتتورد نفوسهم، وتزدهر وتينع ثمراتها.
فالعباد محتاجون إلى ذلك؛ لأنهم يسيرون إليه في مفازة جرداء؛ أعني: دنياهم، فزادهم فيها الأعمال بالجوارح، ويسيرون إليه بقلوبهم في بحر عميق مظلم، فقليل منهم يخلص من هذا البحر.
فالعامة قد غرقت فيه، وانكسرت سفائنهم، فمتعلق بحبل، ومتعلق بلوح منها، هذه أحوالهم في البحر، وأكثرهم غرقى هلكى أموات، فهم قتلى هذا البحر، وهم المشركون، والمنافقون، والموحدون قد تعلقوا بمثل ما وصفنا.
وأما القليل المتخلصون من هذا البحر، فهم الصديقون، جاهدوا نفوسهم في الله حق جهاده، حتى أمطروا، فأدركتهم رحمة الله تعالى حين(7/184)
جأروا إلى الله عز وجل، فاستجاب لهم، واجتباهم، وهداهم إليه، فمن بين واصل إليه، وبين منقطع موقوف به على مقام من تلك المقام.
قال الله تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض}.
فهذا سر لا يقدر العبد في جهده أن يكشف عن نفسه، حتى يتولاه فيكشفه عنه، ويجعله من خلفاء الأرض، فخاصة الله من الصديقين هم الذين وصلوا إلى ملك الملك، حتى نالوا علم هذه الأشياء من الفردية، فهذا نوع من المتشابه، ونوع آخر قد حازت خطته أن يصل إليه أحد من الرسل فمن دونهم، وهو ستر القدر، لا ينكشف لهم ذلك إلا في داره، وذلك عندما زالت العبودية عنهم؛ لأن علم القدر لا يستقيم لهم مع العبودة، ولو كشف، لفسدت العبودة عليهم، فطواه عن الرسل، وعن الملائكة؛ لأنهم في العبودة، فإذا زالت العبودة، احتملوه؛ فإن ذلك من جهاز الإيمان.
ألا ترى أن الله تعالى وصف الراسخين في العلم أنهم قالوا: {آمنا به كلٌّ من عند ربنا}، وذلك أنهم تلوا آية العبودية، ثم تلوا آية القدر، فاستحال عندهم في تدبيره الذي وصفه لهم، فسلموا ذلك إليه، فقالوا: {آمنا به كلٌّ من عند ربنا}، فردوا علم ذلك الذي شبه لهم إلى عالمه.
ثم خافوا شره النفس لطلبها؛ لأن العلم لذيذ، وفتنة تلك اللذة لها شره، ففزعوا إلى ربهم، فقالوا: {ربنا لا تزغ قلوبنا} الآية، علموا أن الرحمة تطفئ تلك الفتنة من نفوسهم، ثم قالوا: {ربنا إنك(7/185)
جامع الناس ليومٍ لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد}.
يتساءلون بمجيء ذلك اليوم، وانكشاف ستر القدر؛ لأن فيه الفرج كل الفرج لقلوبهم، وإنما طوي عنهم؛ لأنهم لم يحتملوا ذلك هاهنا، فكانت الفتنة تفسدهم، فأولئك الطبقة إذا بلغوا من التلاوة تلك المواضع؛ وجدوا حرقات تلك الأسرار على قلوبهم، ولا يجترئون على أن يلاحظوه بقلوبهم على جهة التفتيش، فيردون علمه إلى عالمه، ويسألونه السلامة من الزيغ في فتنة اللذة، ويتسلون بجمع الناس في ذلك اليوم وميعادهم؛ لانكشاف ذلك، فيبرز الله عز وجل مكرمة الموحدين وجاههم وإقرارهم هناك.
وفي القرآن آيات كثيرة عجزت علماء العامة عن دركها، ونالتها الحكماء؛ أعني: خاصة الله تعالى، وآيات عجز الحكماء أيضاً عنها؛ مثل: القدر، ونحوه.
1630 - حدثنا الجارود: ثنا يونس بن محمد، عن شيبان، عن قتادة، قال: كان ابن عباس يكتم تفسير آيات من القرآن؛ مثل قوله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معادٍ}، ومثل قوله: {ويسألونك عن الروح}،ومثل قوله: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم}.(7/186)
1631 - حدثنا صالح بن عبد الله بن ذكوان، عن محمد بن بكر، عن هشام، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من القرآن آيةٌ إلا ولها ظهرٌ وبطنٌ، وما من حرفٍ إلا وله حدٌّ، ولكل حدٍّ مطلعٌ)).
وزاد فيه عمر بن عبيد: قال: قلت للحسن: ما ظهرٌ وما بطنٌ؟ قال: سرٌّ وعلانية.
قال: فما المطلع؟ قال: منتهى ينتهي إليه.
وأما قوله: ((واتعظ بعظته، واعتبر بمثله)).
فالاتعاظ: أن يشتمل على القلب، فيجعلها من ذاته كالشيء يتشرب في الشيء، حتى يأخذه سلطانه، ويكون أملك به.
وأما الاعتبار بمثله: فإن الأمثال نموذجات الآخرة، وكل شيء غاب عن عينك، فوصف لك؛ احتجت إلى مثاله في الشاهد، فتعتبر بالشاهد إلى الغائب الموصوف، واشتقاقه من العبور، إذا رأيت هذا الحاضر، عبرت بعقلك وقلبك إلى شكله في الغائب، وإنما قيل: عبور؛ لأنك عبرت بعقلك في سفينة الذهن على بحر العلم، ولأن فهمك غواصٌ يغوص في هذا البحر، فإذا كان الفهم ذكياً، غاص على الدر، وأيد العقل بالفهم والحفظ.
فالذهن يشتمل على العلم، والعقل يميزه ويزينه، والفهم يستخرج(7/187)
الدرة منه غوصاً، والحفظ يمسكه مستودعاً إلى وقت الحاجة إليه، فيخرجه إلى عيني الفؤاد في الصدر صورةً، فإذا كان كذلك، اطمأنت النفس إلى ما تصور في الصدر، ووضح، وانكشف الغطاء.
وأما قوله: ((وأحل حلاله، وحرم حرامه)).
فهو المتمسك به أن ينبسط في حلاله الذي أطلق عن وثاقه كهيئة المحرم، فإنه لكل شيء حريماً، والحريم: حمى الله الذي حمى عباده عن الدنيا.
وأما قوله: فـ {أولئك هم المؤمنون حقًّا}.
فهذه صفة عبد قد بلغ حقيقة الإيمان، وحقيقة الإيمان: هو الإيمان الذي أحاط بجميع خصال الإيمان، فجمعه في صدره على قلبه، فذاك عبدٌ نور الله بالإيمان قلبه، فهو الذي ينتظم هذه الخصال التي ذكرت في الحديث.
ولذلك قال: ((من ضيع واحدةً منهن، فقد ضيعهن كلهن))؛ لأن ذلك كله على القلب، فإذا خرب القلب عن واحدة منهن؛ فهو عن سائرهن كذلك.
وأما قوله: ((لهم الدرجات العلا)).
فهي جنات الفردوس، وهي سرة الجنة.
كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الفردوس أعلى الجنة سمواً، وأوسطها محلاًّ، وأقربها إلى العرش)).(7/188)
وهي سرة الجنة، وهي مسكن النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وهم أهل الوفاء بعهده،
فإن العهد للأمراء؛ فهم أمراء على سائر أهل الجنان، ألا ترى أنه ليس لهم أن يرتقوا في الزيارة إلى درجاتهم، حتى ينزل أهل الدرجات في الزيارة إلى منازل هؤلاء، وإذا نزل، تحول نعيمهم في ذلك الوقت إلى تلك الهيئة في ذلك الطعم.
قال الله تعالى: {ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات} إلى قوله: {وذلك جزاء من تزكى}، فنسب الفردوس إلى عدن؛ لأنها حول عدن، وعدن دار الرحمن.
وأما قوله: ((وهو وارثي، ووارث النبيين قبلي)).
فإن ميراث الأنبياء ذلك التنزيل الذي نزل به الروح الأمين وحياً، فإذا قبضوا؛ ورثهم خلفاؤهم، ومن طهر مكانه لاحتماله.
وأما قوله: ((ولولا قسم أن لا نبي بعدي؛ لكان نبياً من أنبياء الله)).
فإن النبوة مضمنة سيرة الحق، وذلك أن النبوة رفعت من العدل والحق، وبعث الله النبيين بالحق والعدل، وجعل لهم وزراء على ذلك في حياتهم وبعد وفاتهم، فقال: {ومن قوم موسى أمةٌ يهدون بالحق وبه يعدلون}.
فلما أعطي موسى -عليه الصلاة والسلام- هذا، رضي من الله عز وجل كل الرضا، وذلك لأنه قرأ في التوراة صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فسأل ربه، فأعطي ما رضي به من قوله: {يهدون بالحق وبه يعدلون}.(7/189)
ثم أعطيت هذه الأمة ذلك، فقال: {وممن خلقنا أمةٌ يهدون بالحق وبه يعدلون}، فهذه مكرمة أكرم الله عز وجل بها موسى عليه السلام يوم الوفادة، ثم جعل لهذه الأمة مثلها.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ القرآن، فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه، غير أنه لا يوحى إليه)).
وأما قوله: ((لا يزال في ضمان الله وكنفه)).
فإن القرآن ذمة الموحدين، فمن دخل في ذمته، وقي شر الدنيا والآخرة، وذلك قوله: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى}.
فروي في الخبر عن الشعبي، قال: أجار الله تابع القرآن من الضلالة والشقاء.
والشقاء على وجهين:
وجه منهما: شقاء العيش في الدنيا.
والوجه الآخر: شقاء العيش في سجون النيران.(7/190)
فتابع القرآن قد أجير من الوجهين جميعاً، فنعيمه في الدنيا: راحة القلب من غموم الدنيا وظلماتها، ويسره في الأمور، فقلبه في راحة؛ لأنه ميسر عليه أمور الدنيا، مهيَّاً له في يسر، فإذا ضمن الله عبداً، واكتنفه، كانت صفته هكذا، وهو قوله: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات} إلى قوله: {ساء ما يحكمون}.
أي: من طمع من عمال الفاسدات أن يجعل محياه ومماته كمحيا وممات من عمل الصالحات؛ فقد ساء ما حكم، فأكذب الله عز وجل ظنه وأمانته.
وأما قوله: ((وحيثما تلا القرآن، غشيته الرحمة، وتنزلت عليه السكينة)).
فذلك لأن كلام الله عز وجل خرج من اللطف، وجرت به الرحمة، حتى تضمنته الرحمة، فنزل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، جاد بكلامه على العباد، ورفع قدرهم بأن خاطبهم خطاب اللطف والكرم والشرف، ثم أوصل إليهم كلامه، وجعل لكلامه كسوة من نور، فقال: يا أيها الناس {قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبينٌ}.
والكتاب: هو الحروف، قد بان وانفصل، ثم اتصل بالمنطق بالأدوات، والنور كسوته، ثم قال: {وهدىً وموعظةً}.
فالهدى: هو الذي يمدك ويميل به إليك، والموعظة: ما يعصمك به، وشفاء لما في الصدور؛ فإن في الصدور وساوس النفس، ولذات الشهوات، فكذلك سقم القلب بما فيه من الإيمان.
فالقرآن شفاءٌ من ذلك السقم، إذا حل بالقلب مع كسوته، فاستنار الصدر، فأما إذا صار الصدر كالمروج والغياض الملتفة شوكاً وقصباً وبردياً(7/191)
وثماماً؛ من كثرة الأشغال، أشغال النفس؛ لم يجد القلب سبيلاً إلى الله تعالى؛ لأن عمل ذلك على عيني الفؤاد في الصدر، فإذا صارت عينا الفؤاد في هذه الغياض، لم يستبن فيه شيء، فهذه تلاوة عبد قد فرغ قلبه وصدره، حتى صار كبقعة من الأرض جرداء.
وقلب أزهر، فإذا ازدهر القلب، [أو] حل الضوء بالصدر، استبانت مواعظ الله، وهداية الله في نصائحه ولطائفه، وصار شفاء لما في الصدور.
وأما قوله: ((وتنزلت عليه السكينة)).
فالسكينة من الله لعبيده، بها تطمئن القلوب في الأمور؛ لثقلها إذا تنزلت، وأعطيت بنو إسرائيل، فعرفوا ثقلها، فأبوا قبولها، وسألوا أن يجعل ذلك في التابوت؛ لينطق عن التابوت بما تطمئن إليه القلوب في الأمور، وذلك قوله: {أن يأتيكم التابوت فيه سكينةٌ من ربكم}، وذلك أن التابوت كان استلبه العدو يوم الهزيمة، فحملته الملائكة إلى محلة بني إسرائيل، فجعل الله ذلك لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: {هو الذي أنزل السكنية في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم}؛ أي: طمأنينة في الأمور إلى طمأنينتهم بالله.
وبالسكينة بوأ لإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مكان البيت، وذلك أنها وقفت وانزوت، حتى وقفت على مقدار الكعبة، ونادت: أن ابنِ على ظلي، فإنما تحل السكينة بقلوب أهل الصفوة.
وقال أسيد بن حضير: يا رسول الله! كنت أصلي البارحة، فغشيني شيء(7/192)
حتى نفر فرسي؟ قال: ((اقرأ أسيد، تلك السكينة جاءت تستمع القرآن)).
وأما قوله: ((وكان بعين الله)).
فهذه كلمة قد أتت على النوال كله، وهذه أعلى كلمة في هذا الحديث، ومن كان بعين الله؛ كان من خاصة الله في أرضه، ومن أصفيائه ومقربيه يوم القيامة.
وأما قوله: ((منوراً له قلبه إلى يوم القيامة)).
فهذا نور الحظ؛ لأن الأنوار ثلاثة: نور التوحيد، ونور الطاعة، ونور الحظ؛ فمن كان بعين الله، كان له نور الحظ.
وأما قوله: ((يحشر يوم القيامة في زمرتي، وتحت لوائي)).
فزمرته: السابقون المقربون، وهم تحت لوائه، واللواء بيد أمير السابقين، وذلك أن لكل أمة لواء، ولواء الأمة بيد رسولها، ولواء هذه الأمة بيد أمير السابقين؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم بيده لواء الرب -تبارك وتعالى-، وهو لواء الحمد، آدم فمن دونه تحت ذلك اللواء.
ثم وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لواءه، فقال: ((لوائي أبيض العود، أخضر الرقعة، أفيح الريح، له لسانان: لسانٌ يرى بالمشرق، ولسان يرى بالمغرب)).
فبياض العود من الغمام، والغمام حجاب الرحمة، وخضرة الرقعة من ملك الهيبة، وفيح الريح من ملك الرأفة، وله لسان قد بلغ المشرق(7/193)
والمغرب؛ لأنه بعث إلى أهل المشرق والمغرب كافةً، فلواؤه من نبوته.
وأما قوله: ((يظل حملة القرآن، والمتحابين في الله)).
فهؤلاء صفوة الأمة أولياؤه، والعمال كلٌّ في ظل عمله، والسابقون في ظل العرش، وهو ظل الله سبحانه وتعالى.
وأما قوله: ((ومن ضيع واحدة منهن، فقد ضيع كلهن)).
لأن هذه خلال معتملها على القلب، فإذا عمر القلب، انتظم هذه الخلال كلها، وإذا خرب، كانت بمنزلة خرزات في نظام واحد، إذا انقطع السلك، سقطت الخرزات، ويلقى الله غداً ظمآن؛ لأنه خرج من الدنيا عطشان؛ لأنه اتخذ القرآن مهجوراً، ولقي الله مفتوناً، لاهٍ عن ذكر الله، وذكر آلائه، وذكر مننه، وذكر لطائفه، وذكر وعده ووعيده.
وفتنة النفس على وجوه:
فمفتون برياسة نالها من علم على اللسان قد تزين به، واتخذ به جاهاً عند الخلق، واكتسب الحطام لقوته.
ومفتون بملك قد زاحم جبابرة أهل الدنيا، حتى نال ناحية من زواياها يتجرأ فيها على أهلها.
ومفتون بزهدٍ قد ملك الخلق وما في أيديهم بظاهر تركه، فهو يحكم فيهم بزهده حكم السادة على العبيد، وفي قلبه من الرغبة أمثال الجبال.
ومفتون بعبادةٍ ونسكٍ وتقوى يتحلب من ضروع شبابكه ما يمتلئ به عليه.
ومفتون بالجمع والمنع.
ومفتون بسعة العيش، وقضاء النهمات، قد أملى له ذلك مستدرجاً،(7/194)
يجري في مكر الله سبحانه وتعالى.
وأما قوله: ((محول الخد)).
فمن أجل أنه وحد الله، ثم بايعه على قبول العهد والوفاء به، فلما بدل، حول الله خده عنه، ورمى به إلى العدو.
قال الله تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرينٌ} إلى آخر الآية، ثم قال: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون}.
وأما قوله: ((نادم القلب)).
فإنه ندم حين لا تنفعه الندامة، وأنى له التوبة، وقد انكشف الغطاء؟!
وأما الندم العزم على رفض مساخط الله، وأي شيء رفض، وقد زالت الأشياء التي أمر برفضها؟ فليس له هناك عزم، إنما العزم في دار الامتحان، لا في دار كشف الغطاء.
وأما قوله: ((خاسر القدم)).
فلأنه دعي إلى أن يعامل الله بهذا العهد، ويتاجره، فيكون ربحه جنته، وهديته رضوانه الأكبر، فاكتسب مساخطه، قال الله تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم}.
وأما قوله: ((مرتعد الفؤاد)).
فذاك للأهوال التي ركبته، فانخلع فؤاده واضطرب؛ للخصام الذي يتوقع من القرآن، فإنه ماحلٌ مصدقٌ، ويشرف الرجل على النار، فيقال له:(7/195)
((زخ في قفاه في النار))، فيفعل.
وأما قوله: ((مستحيياً من الرب)).
فلأنه نبذ لطائفه وبره وعطفه وراء ظهره، وآثر شهوات نفسه في دنياه، على ما هيأ له ومهد رب العالمين برأفته ورحمته، فهذا حياؤه من بعد ذلك، مغفوراً له، أو يعذبه على قدر ذنوبه، والله سبحانه وتعالى أعلم أعلم.
مسألة في الإجازة
قال أبو عبد الله:
سألتَ عن إجازة العلماء هذه الكتب التي قيد فيها العلم: ما وجهها؟.
واعلم: أن العلم جملة، والمعرفة متولدة من العلم المجمل، فهذا التخطيط، وهذه السطور في هذه الكتب قيود العلم، حتى لا يدرس؛ لأن النسيان داخل على الحفظ، وكأن دروس العلم عن الصدور بما يحدث من النسيان، فأودعوه الكتب.
وبذلك أدبهم الله عز وجل في تنزيله فقال: {يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمىً فاكتبوه}.
ثم قال: {ولا تسئموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا}.
فجعل الكتاب لهذا الدين المؤجل: صفة هذا الدين، وكميته، ونحله،(7/196)
وتقويماً للشهادة، ونفياً للريبة.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((قيدوا العلم بالكتابة)).
والصدور وعاء العلم، والكتابة وعاءٌ من أوعيته؛ فكما كان في الصدور تصوير المعاني التي في ذلك الكلام، فكذلك صار تصوير ذلك الكلام في الكتاب تخطيطاً، فهو علائم ذلك المعنى، فإذا ناولني صاحبه، أو أعلمني: أن هذا الذي فيه هو كلامه، فينبغي أن أقول: هذا كلام فلان.
وإذا قال: هذا قولي على معنى أني قلته، أو على معنى أني إن سئلت عنهن، فإني أقول بهذا، فهو جائز؛ لأن ذلك التخطيط هو كلام، وهو قول، فإذا ناولني صاحبه، فقال: هذا كتابي، فاروه عني؛ جاز لي أن أروي عنه، وإن قال: هذا خطي، وهذا علمي بهذه المسألة؛ جاز لي أن أقول: هذا خط فلان، وهذا علم فلان.
فإذا قال: هذا كلامي، وهذا قولي؛ لشيء لم ينطق به، وإنما كتبه وناوله؛ جاز أن يقول: هذا قوله، وهذا كلامه؛ لأن هذا يقع على معنى كلامي أن لو تكلمت به، وقولي أن لو قلت به، فكما جاز لي أن أقول: هذا قول فلان على معنى أنه قوله أن لو قاله، وكلامه أن لو تكلم به.
وكذلك قوله: اشهد بكذا، ولم يكن شهد قبل ذلك، ولا بعد ذلك.
وجاز للمستمع أن يقول: حدثني، وأخبرني؛ لأن الحديث هو أن يحدث إليه شيئاً من علم ذلك الأمر محدثاً، فكذلك الشيء هو حديث، وهو المحدث لذلك، وكذلك الخبر، وهو إلقاؤه علم ذلك إليه، وتأتي(7/197)
جهة إلقائه إليه؛ فهو خبر.
وقد سمى الله سبحانه وتعالى تنزيله: كلاماً، وحديثاً، فقال: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً}.
قال أبو عبد الله رضي الله عنه:
ووجدنا الأحكام جارية أن تمضي العقود فيما بين الناس بالكتب، فيلزمهم الحكم في ذلك.
فمن ذلك: أن الرجل يكتب إلى امرأته بطلاقها من غير أن يلفظ به، فينزل به الطلاق، وإلى عبده بالعتق، فيصير حراً إذا وصل الكتاب، وكذلك البيع والشراء والإقرار بالمال، كل هذا لازم حكمه، فإذا كانت الأحكام جارية، كان في الخبر هكذا، وإذا كتب إلى القاضي بأن لفلان علي كذا وكذا؛ ألزمه القاضي ذلك، وأحله محل الإقرار.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب إلى أمرائه، فكان يجوز لهم أن يقولوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.
وإنما على العلماء الأداء، وتبليغ العلم، فإذا أدوه، وتلقت الأسماع منهم، ووعوه لفظاً ومعنًى، ثم أدوه إلى من بعدهم من القرون، فلو كان اللازم لهم أن يؤدوا تلك الألفاظ التي وعوها بأعيانها بلا زيادة ولا نقصان، ولا تقديم، ولا تأخير؛ لكانوا استودعوها الصحف؛ كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن، كان إذا نزل الوحي، دعا بالكاتب فكتبه.
وقال تعالى في تنزيله: {إن علينا جمعه وقرآنه}، وقال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.(7/198)
فكان الوحي محروساً، ومع الحرس يكتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كانت هذه الأحاديث شأنها كذلك؛ لكتبها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل جاء عن أحد منهم أنه فعل ذلك إلا من كان ضعيف الحفظ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قيده بالكتابة)).
وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله عبداً سمع منا مقالاً، فأداه كما سمعه)).
فإنما معناه: أن يؤديه أداءً لا يتغير معناه بزيادة ما يزيد فيه وينقص، وإلا، فمن يقدر أن يؤدي مقالة لا يزيد فيها حرفاً، ولا ينقص منها حرفاً؟ وإنما ذلك في الزيادة والنقصان الذي يغير المعنى، والله سبحانه أعلم.(7/199)