كتاب
انتفاع الأموات بإهداء التلاوات والصدقات وسائر القربات
تأليف
الشيخ الإمام المحدث الفقيه الواعظ
أبي إسحاق إبراهيم بن المظفر بن إبراهيم الحربي الموصلي البغدادي الحنبلي
المعروف بابن البرني
(546 - 622 هـ)
تحقيق وتعليق
جاسم الفهيد الدوسري
دار ابن حزم
الطبعة الأولى
1419 هـ - 2008 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
يا فتاح يا عليم
كتاب (انتفاع الأموات بإهداء التلاوات والصدقات وسائر القربات) تأليف الشيخ الإمام العارف، محبي السنة، وقامع البدعة، أبو إسحاق إبراهيم بن المظفر بن إبراهيم الحربي -رحمة الله عليه-.
قال -رضي الله عنه-:
الحمد لله الذي أنبتنا من الأرض إنباتاً، ووهبنا في اتباع السنة رسوخاً وثباتاً، وتصرف فينا رفعاً ووضعاً وفخراً وإثباتاً، وأنزل من الناشرات من المعصرات عذباً فراتاً، فأخرج به حباً ونباتاً، وميزه مراعي وأقواتاً، ليدل على إحياء الموتى للعرض بما أحيا من الأرض مواتاً، كريمٌ لا يبخل، عظيمٌ لا يسأل عما يفعل، حليمٌ لا يعجل، ولا يخشى فواتاً، جعل البرية لمدرسة البرية كفاتاً، يعيش الأحياء عليها، ثم يسعون إليها أمواتاً، ثم يهدون إليهم صلاةً وصلاتاً، وإن كانوا(1/47)
رفاتاً، فيسمعون منهم سلاماً، ويعون منهم كلاماً، و [لا] يعجز عن إسماعهم بعد انحلال أسماعهم من يقدر على اختراعهم بعد أن أفنوا فتاتاً، حين تشقق الأرماس، ويتحقق الغنى والإفلاس، فينطرق الرجاء والياس، وينعرف الإيحاش والإيناسن، {يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً}.
أحمده إذ قدر أقواتاً ودبر أوقاتاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالق الفرع والأصل، وجاعل يوم الفصل ميقاتاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خطيب العرض والشفيع وقد أصبح الجمع إنصاتاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم صلاةً تتصل وتبقى ولا تلقى انبتاتاً، خصوصاً على صديقه الذي جمع شمل الإسلام وقد كان بالردة شتاتاً، وعلى فاروقه الذي شن في الشرك الغارات نهاراً وبياتاً، وعلى ذي النورين المقتول يوم الدار ظلماً وافتئاتاً، وعلى أبي السبطين الذي قطع طمع الدنيا ثلاثاً بتاتاً، وعلى أزواج النبي الطاهرات المتبوئات من العفاف والتقى أبياتاً، وعلى التابعين لهم بإحسانٍ صلاةً تكون كفاءً لما أنعم به وآتى، وسلم وشرف وكرم.
أما بعد:
فإن سبب تحرير هذه المسألة بـ: (انتفاع الأموات بإهداء التلاوات والصدقات وجميع أنواع القربات): أني كنت لقيت الأمير(1/48)
الكبير المبارك الموفق الناصح الصالح بهاء الدين ذي الرأي الأصيل والهمة والتحصيل -وفقه الله لمحابه، وجعله من صفوة أحبابه، وبلغه غاية أمنيته في نفسه ونفائسه وذريته-، ونحن على ظهر بظاهر محروسة الموصل - عمر الله بالعدل أوطانها، وحفظ ملكها وسلطانها: الملك المالك العالم العادل المؤيد المظفر المنصور نور الدنيا والدين، مد الله في مدة أجله، وبلغه في نفسه وذريته غاية رغبته ونهاية أمله، ونصره بما نصر به أنبياءه ورسله، وعمر عمر ملكه بعدله وفضله وسروره وجزله وإغناء رعيته عن التعرض للتعوض بعوضه وبدله، إنه سميعٌ قريبٌ.
فسألني عن قول الله تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}، ثم قال: ونحن الآن إذا تصدقنا وقرأنا وأهدينا إلى أهالينا وأصدقائنا من الأموات لا يصل ذلك إليهم، ولا تعود بركته عليهم! نظراً منه -وفقه الله تعالى- إلى ما تقتضيه عندنا من أن الأعمال لا تعدو عامليها نظراً إلى ظاهر الآية، فأخبرته أن هذه الآية مختلفٌ في نسخها وشرح معانيها وأحكامها المجتمع بها عند عاملٍ بظاهرها حتى يخصها، وذاك لأنه لا يمكنه القول بأن سعي الغير في الحج لا يقع عن المحجوج عنه، وكذلك وصول الصدقة إلى الميت المتصدق بها عنه. فذكرت له أخباراً وآثاراً في انتفاع الأموات من جانب الأحياء، إلى أن دخلت المدينة وأنا أذكر له من تتمة الجواب عن السؤال وهو يسر بما يسمع من ذلك -زاده الله سروراً، ولا يزال مؤيداً(1/49)
منصوراً-، فآثرت أن أجمع له في تحرير هذه المسألة متفرق الأقوال ليقف -موفقاً- على حقيقة الحال، فيأخذ بالسبب الأقوى إذ النفس بالدليل تقوى على لزوم التقوى، فأبدأ بخلاف المفسرين في الآية، ثم أتبع ذلك بخلاف الفقهاء في حكم المسألة، وأمزج ذلك بما يروح من ذكر الأخبار والآثار الدالة على صواب القول المختار، والله الموفق للصواب.
أما تفسير الآية فإنما يتضح العلم بحكم ما هي معطوفةٌ عليه، وذكرت أول القصة وهو قوله: {أفرأيت الذي تولى. وأعطى قليلاً وأكدى}:
اختلف العلماء بالتفسير في المراد في هذه الآية من هو؟
- فقيل: أبو جهل ابن هشام -لعنه الله-، والقليل الذي أعطى ثم قطعه وأعرض عنه إنما هو من القول لا من المال، وذلك أنه قال: والله ما يأمرنا محمدٌ قط إلا بمكارم الأخلاق. وهذا القول مرويٌّ عن محمد بن كعب القرظي.
- وقيل: هو العاص بن وائل السهمي، قاله السدي، قال: وكان ربما وافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال، وخالفه في بعضٍ، ثم انقطع إلى العناد والكفر.
- وقيل: هو النضر بن الحارث أعطى بعض فقراء المسلمين(1/50)
خمس قلائص ليرتد عن الإسلام، وشرط له أن يحمل عنه وزره يوم القيامة. قاله الضحاك.
- وقيل: هو الوليد بن المغيرة المخزومي، وهو أظهر الأقوال الأربعة، وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه وأظهر موافقته، فعيره بعض المشركين، وقال: تركت دين الأشياخ وضللتهم!. فقال: إني خشيت عذاب الله! فضمن له إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجع إلى شركه ودين آبائه أن يتحمل عنه عذاب الله. ففعل، فأعطاه بعض الذي ضمن له، ثم بخل ومنعه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وهذا قول مجاهدٍ وابن زيدٍ.
ومعنى قوله: (وأكدى)، قطع العطاء، وهو مأخوذٌ من الكدية وهي الصخرة الصلبة التي تعرض لحافر البئر فلا يعمل معوله فيها، فييأس من الماء، فيترك الحفر، كقول العرب: حفر فلانٌ فأنبط، وحفر فلانٌ فأكدى. ومنه الحديث الصحيح في الخندق: حتى عرضت كديةٌ لا تأخذ فيها المعاول، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم(1/51)
فأتاها فضربها بالمعول ضربةً صدعها، وبرق منها برقٌ أضاء ما بين لابتيها -يعني المدينة- حتى لكأن مصباحاً في جوف بيتٍ مظلمٍ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبر المسلون معه، ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانية فكسرها، وبرق منها برقٌ أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيتٍ مظلمٍ، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم تكبير فتحٍ، وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثالثةً، فكسرها وبرق منها برقٌ أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيتٍ مظلمٍ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتحٍ وكبر معه المسلمون، فقال له سلمان الفارسي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد رأيت شيئاً ما رأيت مثله قط! فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال: ((أرأيتم ما يقول سلمان؟))، قالوا: نعم يا سول الله، قال: ((ضربت الأولى فبرق الذي رأيتم فأضاء لي قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل -عليه السلام- أن أمتي ظاهرةٌ عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم فأضاءت لي قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل -عليه السلام- أن أمتي ظاهرةٌ عليهما، ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاء لي فيها قصور أرض الروم كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل -عليه السلام- أن أمتي ظاهرةٌ عليها، فأبشروا)). فاستبشر المسلمون وقالوا: صدق وعدنا، النصر بعد الحصر. فقال المنافقون: ألا تعجبون لمحمدٍ يعدكم ويمنيكم الباطل، ويخبركم أنه يرى من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا؟ قال: فنزل القرآن: {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً}. وأنزل الله تعالى في هذه القصة قوله تعالى: {قل اللهم(1/52)
مالك الملك تؤتي الملك من تشاء} يعني: محمداً وأصحابه، {وتنزع الملك ممن تشاء} يعني: فارس والروم.
وقوله تعالى: {أعنده علم الغيب فهو يرى}، أي: فهو يعاين أمر الآخرة، فيعلم حاله فيها من خيرٍ أو شرِّ؟!
{أم لم ينبأ بما في صحف موسى. وإبراهيم الذي وفى}، وقد صح في حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنزل الله -عز وجل- على إبراهيم -عليه السلام- عشر صحائف، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف)).
ثم بين ما أنزل في تلك الصحائف فقال: {ألا تزر وازرةٌ وزر أخرى. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}، أي: ليس كما توهم الكافر أنه يحمل وزر غيره، بل يمنعه من الانتفاع بسعي سواه لغيره.
وللمفسرين في مدح إبراهيم -عليه السلام- بالوفاء عشرة أقوالٍ:
الأول: ما رواه أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وفى عمل يومه بأربع ركعاتٍ من أول النهار)).(1/53)
الثاني: ما رواه معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ألا أخبركم لم سمى الله خليله وفيًّا؟ كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} حتى ختم الآية)).
الثالث: أنه وفى بالطاعة فيما فعل بابنه. رواه العوفي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وبه قال القرظي والسدي.
والرابع: أنه وفى ربه -عز وجل- جميع شرائع الإسلام. روى هذا القول عكرمة عن ابن عباسٍ.
والخامس: أنه وفى ما أمر به. قاله الحسن وسعيد بن جبير وقتادة، وقال مجاهد: وفى بما فرض عليه.
والسادس: وفى بتبليغ هذه الآيات: {ألا تزر وازرةٌ وزر أخرى} وما بعدها. وهذا مرويٌّ عن عكرمة ومجاهدٍ والنخعي.
والسابع: وفى شأن المناسك. قاله الضحاك.
والثامن: أنه عاهد الله أنه لا يسأل مخلوقاً شيئاً، فلما قذف في(1/54)
النار قال له جبريل: ألك حاجةٌ؟ فقال: أما إليك فلا!. فوفى بما عاهد. ذكره عطاء بن السائب.
التاسع: أنه وفى أداء الأمانة. قاله سفيان بن عيينة.
وقرأ سعيد بن جبير وأبو عمران الجوني وابن السميقع (وفى) بتخفيف الفاء. قال الزجاج: ((والتشديد أبلغ)).
ومعنى قوله تعالى: {ألا تزر وازرةٌ وزر أخرى}: لا تحمل نفسٌ حاملةٌ حمل أخرى، أي: لا تؤخذ بإثم غيرها.
{وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} قال الزجاج: ((هذا في صحفهما أيضاً، ومعناه: ليس للإنسان إلا جزاء سعيه: إن عمل خيراً جزي خيراً، وإن عمل شراً جزي شرًّا)).
وقد اختلف العلماء في هذه الآية على ثمانية أقوال:
أحدها: أنها منسوخةٌ بقوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم(1/55)
بإيمانٍ ألحقنا بهم ذريتهم}، فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء، قاله ابن عباس. وعليه للفقهاء اعتراضٌ من جهة أن الآية خبرٌ، والأخبار لا تنسخ إلا أن يكون الخبر في معنى الأمر والنهي.
والقول الثاني: أن ذلك كان لقوم إبراهيم وقوم موسى، فأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم. قاله عكرمة، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم للتي سألت: إن أبي مات ولم يحج؟ قال: ((حجي عنه)).
والثالث: أن المراد بالإنسان ها هنا الكافر، فأما المؤمن فله ما سعى وما سُعي له.(1/56)
قاله الربيع بن أنس.
والرابع: أنه ليس للإنسان إلا ما سعى من طريق العدل، فأما من طريق الفضل فجائزٌ أن يزيده الله -عز وجل- ما شاء. قاله الحسين بن الفضل.
والخامس: أن معنى {ما سعى}: ما نوى. قاله أبو بكر الوراق.
يدل على صحة هذا القول ما روي في الحديث أن الملائكة تقف كل يوم بعد العصر بكتبها في السماء الدنيا، فينادي الملك: ((ألق تلك الصحيفة! فيقول الملك: وعزتك وجلالك! ما كتبت إلا ما عمل. فيقول الله -عز وجل-: لم يرد بها وجهي. وينادى الملك الآخر: اكتب لفلانٍ كذا وكذا! فيقول: وعزتك! إنه لم يعمل ذلك! فيقول الله -عز وجل- إنه نواه)).(1/57)
والسادس: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله في الدنيا، فيثاب عليه فيها حتى لا يبقى له في الآخرة خيرٌ. ذكره الثعلبي.
والسابع: أن اللام في قوله: {للإنسان} بمعنى (على)، تقديره: ليس على الإنسان إلا ما سعى.
والثامن: أن ليس له إلا سعيه غير أن الأسباب مختلفةٌ: فتارةً يكون سعيه في تحصيل الشيء بنفسه، وتارةً يكون سعيه في تحصيل(1/58)
سببه، فيكون سببه مثل سعيه في تحصيل قرابةٍ وولدٍ يترحم عليه وصديقٍ يستغفر له، وتارةً يسعى في خدمة الدين والعبادة، فيكتسب محبة أهل الدين، فيكون ذلك سبباً حصل بسعيه.
حكى هذين القولين شيخنا ابن الجوزي -رحمه الله- عن شيخه علي بن عبيد الله الزاغوني -رحمه الله-.
[و] في معنى قوله: {وأن سعيه سوف يرى} قولان:
أحدهما: يرى بمعنى يعلم. قاله ابن قتيبة.
والثاني: سوف يرى العبد سعيه يوم القيامة، أي: يرى عمله في ميزانه. قاله الزجاج.
{ثم يجزاه} الهاء عائدةٌ على السعي {الجزاء الأوفى}، أي: الأكمل الأتم.
{وأن إلى ربك المنتهى}، أي: منتهى العباد ومرجعهم(1/59)
إلى الله -عز وجل- قال الزجاج: هذا كله في صحف إبراهيم وموسى.
فأما اختلاف الفقهاء وأهل العلم في هذه المسألة:
فإن مذهب الإمام أحمد بن حنبل وعامة أهل النقل والحديث أن القرب الدينية والعبادات المالية والبدنية إذا فعلت وأهدي ثوابها إلى الأموات وصل إليهم وانتفعوا بها، كالدعاء والصلاة والصدقة والقراءة والعتق والحج وكل ما يتقرب به إلى الله -عز وجل- لأجلهم. [و] ذهب أكثر الفقهاء إلى المنع من ذلك إلا ما سنذكره عنهم مما استثنوه من القرب المالية وكل ما تدخله النيابة.
واحتج أصحابنا في وصول ذلك الأموات وانتفاعهم به، بما رواه أبو بكرٍ النجاد في سننه بإسناده في كتاب الجنائز من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن العاص بن وائل كان نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنةٍ، وأن هشام بن العاص نحر حصته من ذلك خمسين بدنةً، أننحر عنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أباك لو كان(1/60)
آمن بالتوحيد فصمت عنه أو تصدقت أو أعتقت عنه بلغه ذلك)). فجعل النبي صلى الله عليه وسلم العلة في [عدم] وصول ذلك إليه: عدم التوحيد، وذلك يعم النذر وغيره، وليس للمخالف أن يقول: (هذا واردٌ في النذر ونحن نوافق على ذلك، وإنما خالفناكم إذا فعل ذلك مبتدئاً، ثم أهدى ثوابه، وليس في الخبر ما يدل عليه) فإنا نقول: نحن احتجاجنا باللفظ وهو أعم من السبب، وأقوى من العلة، لأنه قد ذكر الصدقة في الخبر، وعندهم أن الصدقة تنفعه من غير نذرٍ، فعلمنا أن النذر ليس بشرطٍ فيه.
واحتج أصحابنا أيضاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله! كان لي أبوان، وكنت أبرهما أيام حياتهما، فكيف بالبر بعد موتهما؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من البر بعد الموت: أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم [لهما] مع صيامك، وأن تتصدق لهما مع صدقتك)).
واحتجوا أيضاً بما روى القاضي أبو يعلى بإسناده عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من مر على المقابر فقرأ سورة {قل هو الله أحدٌ} إحدى عشرة مرةً ثم وهب(1/61)
أجرها للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات)).
واحتجوا أيضاً بما روى أبو بكرٍ بإسناده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دخل على المقابر فقرأ سورة (يس) خفف الله عنهم يومئذٍ، وكان له بعدد من فيها حسناتٌ)).
وبإسناده عن أبي بكرٍ الصديق -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زار قبر والديه أو أحدهما فقرأ عنده أو عندهما سورة (يس) غفر الله تعالى له)).(1/62)
واحتجوا أيضاً بـ: ما روى أبو حفص بن شاهين بإسناده عن أنسٍ بن مالكٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قال: (الحمد لله رب العالمين رب السماوات ورب الأرضين رب العالمين، وله الكبرياء في السماوات وفي الأرض وهو العزيز الحكيم، الحمد لله رب السماوات ورب الأرضين رب العالمين، [وله العظمة في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم، لله الملك رب السموات ورب الأرض رب العالمين]، وله النور في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) مرةً واحدةً، ثم قال: (اللهم اجعل ثوابها لوالدي) لم يبق لوالديه [عليه] حقٌّ إلا أداه إليهما)).
وذكر القاضي الإمام أبو الحسين ابن الفراء في كتابه الموسوم بـ (الرد على زائغ الاعتقادات في منعه سماع الأموات) أن أنس بن مالكٍ -رضي الله عنه- سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي وأمي أنت يا رسول الله! إنا نتصدق عن موتانا ونحج عنهم وندعو لهم، فهل يصل إليهم؟ قال: ((نعم! إنه ليصل إليهم، ويفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدي إليه)). رواه أبو حفصٍ العكبري -رحمه الله-.(1/63)
وروى بإسناده عن سعدٍ أنه قال: يا رسول الله! إن أمي توفيت أفأتصدق عنها؟ فقال: ((تصدق عن أمك)). قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: ((سقي الماء)).
وبإسناده عن عطاءٍ بن أبي رباحٍ أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم،(1/64)
قال: إن أبي مات، أفأعتق عنه؟ قال: ((نعم)).
وبإسناده عن أبي جعفرٍ محمد بن علي أن الحسن والحسين -رضي الله عنهما- كان يعتقان عن علي -رضي الله عنه-.
وروى مقاتل بن سليمان في أثناء [تفسير] الخمسمائة أنه قال: قال معاذ بن جبلٍ -رضي الله عنه-: يا رسول الله -صلى الله عليك-! كان لأمي نصيبٌ مما أعطى، فتتصدق منه وتقدمه لنفسها، وإنها ماتت ولم توص، وقد كنت أعرف البركة فيما تعطي. وبكى معاذٌ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يبكي الله عينك يا معاذٌ! أتحب أن تؤجر أمك في قبرها؟)) قال: نعم يا رسول الله!. قال: ((فانظر ما كنت تعطيها فأمضه عن الذي كانت تفعل، وقل: اللهم تقبل من أم معاذٍ)). قال: فقال من عند رسول الله: ألمعاذٍ خاصةً؟ قال: ((لمعاذٍ خاصةً ولجميع المسلمين عامةً)). قالوا: يا رسول الله! فمن [لم] يكن له منا رزقٌ به يتصدق عن أبويه، أيحج عنهما؟ قال: ((نعم، وتؤجرون عليه، ولن يصل رحم رحمه بأفضل من أن يتبعه بحجةٍ في(1/65)
قبره، فإذا كان عند الإحرام فليقل: (اللهم عن فلانٍ)، فإذا كان في سائر المواقف فليقل: (اللهم تقبل من فلانٍ). وأوفوا عنهم النذور والصيام والصدقة، [و] أفضل وأحق من قضى عن المرء والمرأة: ذو رحمٍ إن كان)).
روى البخاري في كتابه الصحيح بإسناده عن ابن عباسٍ أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أمي توفيت، أينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: ((نعم)) قال: فإن لي مخرافاً، فأشهدك أني قد تصدقت به عنها.
وروى الحافظ اللالكائي بإسناده في كتاب (شرح السنة) عن أبي أسيد وكان بدريًّا. قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم جالساً، فجاء رجلٌ من الأنصار، فقال: هل بقي لي من بر والدي شيءٌ بعدهما أبرهما به؟ قال: ((نعم! الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهذا الذي بقي عليك من برهما)).(1/66)
وروى أيضاً بإسناده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: يموت الرجل ويدع ولداً، فترفع له درجته. قال: يقول: يا رب! ما هذا؟ قال: يقول: استغفار ولدك لك.
وبإسناده عن معقل بن يسارٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤوا على موتاكم)) يعني: (يس).
وبإسناده عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه قال لولده: إذا مت فأدخلوني اللحد، فهيلوا علي التراب، وقولوا: (بسم(1/67)
الله، وعلى ملة رسول الله)، وسنوا علي التراب سنًّا، واقرؤوا عند رأسي بفاتحة سورة البقرة وخاتمتها، فإني سمعت عبد الله يقول: يستحب ذلك. قال الحافظ: هو عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-.
وأخرج الإمام أبو حاتم محمد بن حبانٍ في كتابه (المسند الصحيح) -كما حدثناه الشيخ الحافظ عبد المغيث بن زهيرٍ(1/68)
الحربي -رحمه الله-، قال: أنبأنا محدث خراسان زاهر بن طاهرٍ، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن علي البحاثي، قال: حدثنا محمد بن محمد بن هارون الزوزني، قال: أخبرنا إمام الأئمة أبو حاتم محمد بن حبان البستي، قال: أنبأنا [عمران بن موسى بن مجاشع، قال: حدثنا أحمد بن عيسى المصري، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثنا] ابن جريجٍ، عن أيوب بن هانئ، عن مسروقٍ الأجدع، عن ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً، فخرجنا معه حتى انتهينا [إلى] المقابر، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبرٍ منها، [فجلس إليه]، فناجاه طويلاً، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً، فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل علينا فتلقاه عمر -رضي الله عنه- فقال: ما الذي أبكاك يا رسول الله فقد أبكيتنا وأفزعتنا؟ فأخذ بيد عمر، ثم أقبل علينا فقال: ((أفزعكم بكائي؟)) قلنا: نعم، فقال: ((إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهبٍ، وإني سألت ربي الاستغفار لها فلم يأذن لي، فنزل علي: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} الآية، فأخذني ما يأخذ الولد للوالد من الرقة، فذلك الذي أبكاني. ألا وإني(1/69)
كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها، فإنها تزهد في الدنيا، وترغب في الآخرة)).
فموضع الاستدلال من هذا الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم منع هو وأمته من الاستغفار للمشركين الذين تبين لهم [من] موتهم على الشرك أنهم من أصحاب الجحيم، ولا معنى للاستغفار لقوم أخبر الله تعالى عنهم أنه لا يغفر لهم، لقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. ويشهد لصحة ما ذكرنا الآية الثانية: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدةٍ وعدها إياه فلما تبين له أنه عدوٌ لله تبرأ منه}. فدل على أن الاستغفار لأهل الإيمان مشروعٌ غير ممنوعٍ، قال الله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا} الآية، ولولا أن هذه الجملة نافعةٌ لقائلها وللمذكورين ما أثنى الله تعالى عليهم بقولها. ولا محيد عن تسليم هذا، وإن قال المسلم: إنما سلمت لأن هذا دعاء وهو قرآنٌ من غير خلافٍ، فإذا قرأها قارئٌ أجر بقراءتها السابقون بالإيمان إذ هي دعاءٌ وهي قرآنٌ.
ثم إن أفعال المكلفين قسمان:
- استغفارٌ لخوف العقاب.
- وفعل طاعةٍ طمعاً في الثواب.
ثم الاستغفار مؤثرٌ في الأموات دون الأحياء، وهو نوع قربةٍ واعتذارٍ، وقد نطق القرآن بصحته في الآي التي ذكرنا، وأن الحق(1/70)
سبحانه وتعالى إنما أبطله مع الكفر فيجب أن يصح مع الإيمان. وقد سلم أنه إذا حج عن الميت أو تصدق عنه أو أعتق عنه صح، ووصل إليه نفعه. وكذلك إذا صلى وصام وتلا وأهدى، فيقال: كل جهةٍ وصل الثواب إليها كالحج والصدقة والعتق: وصل إليها الصلاة والصوم كجهة نفسه، وقد قالوا: إنما قلنا بصحة الحج والصدقة عن الميت لأنهما تدخلهما النيابة حال الحياة فكذلك بعد الوفاة، وعكس ذلك الصلاة وقراءة القرآن فإن النيابة لا تدخلهما حال الحياة، بل لا تقع إلا عن فاعلها لو أهداها للغير حال حياته، كذلك إذا أهداها بعد وفاته.
ونحن نجيب عن ذلك فنقول: الحي لا حاجة له في أن تهدى له هذه التطوعات، لأن عمله ما انقطع ولا حيل بينه وبينه، فكان المهدي والمهدَى له سواءً في أن كل واحدٍ متطوعٌ لنفسه، بخلاف حالة الموت فإنها حالة ارتهان باكتساب وفاقةٍ إلى الأجر والثواب، فجاز أن يجعل ما يهديه إليه ولده وصديقه موصولاً به ونافعاً له لموضع انقطاع عمله كما نظر له الشرع فجعل له ثلث ماله عند وفاته، وكما جعل أبو حنيفة -رحمه الله- إحرام الرفقة عن رفيقهم المغمى عليه نائباً عن إحرامه بنفسه عن فرضه ونفله، وكما جعل إسلام الأب إسلاماً للطفل، وكما جعل فعل البعض مسقطاً عن جملة أهل البلد في فرض الكفايات، فوقع فعل البعض مجزئاً وكافياً عن الباقين بعد أن كان معرضاً أن يأثم الجميع بالترك لذلك(1/71)
الفرض، فجاز أن يجعل بعد الموت فعل بعضهم مثيباً للبعض عند وقت الحاجة إلى الثواب.
وكذلك ضمان دين الميت وقضاؤه عنه: أفاده الضمان جواز صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأفاده الأداء إلى الغريم عن ذمته بتبريد جلدته، كما في الحديث الصحيح في الذي مات وعليه ديناران وكان دعي للصلاة عليه فقال: ((صلوا على صاحبكم، وما تغني عنه صلاتي وذمته مرتهنةٌ بدينه؟!)) فلما ضمنها علي -كرم الله وجهه- تقدم صلى الله عليه وسلم، وقال: ((الآن بردت عليه جلدته، الآن فككت رهانه)). والضمان والأداء نوع نيابةٍ(1/72)
واتصال نفعٍ إلى الميت بفعل الحي، والله أعلم.
وقد احتج من خالفنا في ذلك بأشياء:
فبما احتجوا [به] من الكتاب:
- قول الله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}، وهذه الأفعال لم تحصل للميت فيما سعى، ولا يحصل له عليها جزاءٌ.
ومن السنة:
- قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثٍ: علم ينتفع به، وصدقةٍ جاريةٍ، وولدٍ صالحٍ يدعو له)). قالوا: وليس صلاة الغير وصومه وقراءته داخلةً تحت هذه الثلاث ولا تحت شيءٍ منها، فيجب أن لا يحصل له منها شيءٌ، لأن استثناء الشرع لا يتناول شيئاً منها.
- واحتجوا أيضاً بالحديث الآخر في معناه، وهو حديث أنسٍ -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سبعٌ تجري للعبد في قبره بعد موته: [من] علم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً،(1/73)
أو بنى مسجداً، أو ورث مصحفاً، أو ترك ولداً صالحاً يذكر به ويستغفر له بعد موته)). قالوا: وهذا يدل على أن [غير] هذه الجهات لا يحصل له منها ثوابٌ، وإلا فلا فائدة في هذا الحصر ولا يكون له معنىً.
- واحتجوا أيضاً بأن قالوا: هذه قراءةٌ وصلاةٌ ولا تصح النيابة فيها، فوجب أن يقع ثوابها لفاعلها كصلاة الفرض وصوم الفرض وحج الفرض.
- واحتجوا أيضاً بأن التكليف ابتلاءٌ وامتحانُ واستصلاحٌ للمكلفين، وجميع ذلك لا يقبل النيابة ولا البدل بما لم يضعه الشرع بدلاً، فصار ذلك بمثابة مريضٍ يحتاج إلى قطع عرقٍ أو شرب دواءٍ يصلح به بدنه، فيدخل غيره بدلاً منه ونائباً عنه، فإن المريض لا يصلح مزاجه بذلك. وكذلك استصلاح الأديان في حق كل شخصٍ بما يخصه، فإذا دخل غيره بدلاً منه ونائباً عنه لم يقع ذلك بموضع الإصلاح له.
- ومما اعترضوا به علينا أن قالوا: ليس قضاء الدين وتحمل(1/74)
الكل حال الحياة يؤثر ما يؤثره ضمان الميت وشهادة السنة الصحيحة في حديث عليٌّ -كرم الله وجهه-، فهلا سويتم في أصل الثواب بين الحي والميت كما سويتم في ضمان الدين ووصول ذلك إليه بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((الآن بردت عليه جلدته)). لما أخبره علي -كرم الله وجهه- بالقضاء عنه وتوفية الدينارين. وإذا صح هذا وجب أن تكون الذنوب أيضاً تكفر عن الميت بتوبة غيره واعتذاره واستغفاره عن ذنبه كما يصل ثواب عمل غيره اليسير بإهدائه إياه له.
- وقالوا لنا أيضاً: الذي ادعيتموه من وصول ثواب القراءة لا يصح على أصلكم، لأن الثواب عندكم غير مستحقٌّ وإنما هو منحةٌ وتفضلٌ، والهبات والمنح لا يحال بها، والباري مخيرٌ عندكم: إن شاء أثاب، وإن شاء لم يثب.
- وقالوا أيضاً: قد أجمع العلماء على المنع من الإيثار بأسباب(1/75)
الثواب، وندب الشرع إلى المسارعة إلى إحراز ذلك ومدح عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لاجتلدوا عليه بالسيوف)). وكذلك سئل الإمام أحمد عن الرجل يتأخر عن الصف الأول ويقدم أباه في موضعه، فقال: أما يقدر يبر أباه بغير هذا؟!. وإذا كره العلماء الإيثار بسبب الثواب، فكيف يجوز الإيثار بعين الثواب؟!
الجواب عن احتجاجهم واعتراضهم والله الموفق:
- أما الآية المصرحة بأن {ليس للإنسان إلا ما سعى}:(1/76)
فإن حملها على ظاهرها يمنع أن يكون للإنسان ما ليس من سعيه، والمخالف لا يقول بذلك بدلالة الحج والصدقة والعتق، فإنها تقع عنه وليست من سعيه، فسقط تعلق المخالف بظاهرها. وقد قدمنا الكلام في حكمها وسبب نزولها، ونقول هنا: هذه الآية وردت على سبب ونسخت على ما ذكر جماعةٌ من أهل العلم، منهم: أبو بكر بن عبد العزيز صاحب الخلال، فروى بإسناده في كتاب التفسير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنها نسخت بقوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمانٍ ألحقنا بهم ذريتهم} فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء.
وعلى ما ادعوه كان يقتضي أن لا يحكم لأحدٍ بالإسلام إلا بنفسه، فنسخ ذلك بحصوله بإسلام أبيه. وهذا الجواب عندي [غير] مرضيًّ، لأن هذه الآية لا يرفع حكمها بمثل هذا وإن كان مرويًّا عن ابن عباسٍ، لأن قول الصحابي الواحد لا ينسخ القرآن، ويؤيد هذا أن الآية خبرٌ، والخبر لا يدخله النسخ وإن ذهب إلى جوازه جماعةٌ من مفسري السلف، فإن الفقهاء على خلافه، وإذا أمكن الجمع بين الاثنين لم يبق لدعوى النسخ معنىً، وطريق الجمع بينهما أنا نقول: إنما دخل الأبناء الجنة على التبعية لآبائهم على الإسلام، لا أنهم دخلوها بأعمال آبائهم، لكن أكرم أبناؤهم بهم كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه(1/77)
قال: ((إن الله -عز وجل- ليرفع أبناء المؤمن يوم القيامة إلى درجته وإن قصروا عن عمله ليقر بهم عينه)). وقرأ هذه الآية: {واتبعتهم ذريتهم بإيمانٍ ألحقنا بهم ذريتهم}. فإذا أسلم الكافر صار ابنه الصغير مسلماً تبعاً لأبيه حكماً من غير نسخٍ لقوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}، وكذلك ولد الكافر الطفل كافرٌ بحكم التبعية لأبيه، ولا يكون ذلك ناسخاً لقوله: {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى}، بل الآيتان محكمتان، ومقتضى إحكامهما: العقل والحكمة، وهما الغاية(1/78)
القصوى في وصف الله تعالى بالعدل في الإنسان: لا يظلم فيما سعى، {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى}.
فكان معنى: {ليس للإنسان إلا ما سعى}، أي: لا يثاب إلا بسعيه، لكنه بحسن عشرته، وبموالاته المؤمنين، ونكاحه الأزواج، وإيلادهن الأولاد، وإرادة الفضل والتودد إلى الناس، واتخاذه الإخوان في الله تعالى، واعتقاده الأصدقاء في الدين: يترحم عليه بعد موته، وتهدى له العبادات، وكان ذلك الخير بسعيه. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: ((أولادكم أكسابكم، فكلوا من طيب أكسابكم)). وفي لفظٍ آخر: ((إن أحل ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه)). وقال تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما(1/79)
اكتسبت}. وكذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم عمل الأولاد من عمل الآباء الذي لا ينقطع بموتهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل عمل ابن آدم ينقطع بموته إلا من ثلاثة: ولدٌ صالحٌ يدعو له، وعلمٌ علمه الناس، وصدقةٌ)). ذكره، وروي: ((شجرة غرسها، أو بئر حفرها ليشرب من مائها، أو مصحف كتبه)). وكذلك قال الشافعي -رحمه الله-: إذا بذل له ولده طاعة الحج كان ذلك سبباً للزوم الحج، كما لو كان في ملكه زادٌ أو راحلةٌ.
ولا شك أن المؤمن بإيمانه وحسن خلقه يكتسب مودة أهل الإيمان وصحبتهم، فما لحقه من قربهم كان عين سابق سعيه، وأهله بمنزلة كسبه حملاً على صريح {ولكم ما كسبتم}. وجاء في الحديث: ((لكل مؤمنٍ شفاعةٌ))، وفي الصحيح: ((فيشفع(1/80)
الأنبياء والرسل والملائكة والمؤمنون، ويبقى أرحم الراحمين فيخرج من النار قوماً لم يعملوا خيراً قط، فيدخلهم الجنة)). وقال الله تعالى مخبراً عن أسف أهل النار على شفاعة الأصدقاء {فما لنا من شافعين. ولا صديقٍ حميمٍ}. جاء في الحديث: ((أن الرجل من أهل الجنة ليذكر صديقه من أهل النار، فيشفع فيه ويطلبه من الله -عز وجل-، فيقول الله -تبارك وتعالى-: أخرجوا له صديقه. فيخرج له، فيدخله الجنة. فحينئذٍ يستغيث أهل النار يقولون: {فما لنا من شافعين} الآية. فإذا أثرت شفاعة الأصدقاء في الإخراج من النار إلى الجنة لم يمتنع تأثيرها في إيصال الثواب إليهم وهم في حبوس القبور، لأنهم بمصادقتهم في الدين وموالاتهم في الله اكتسبوهم وكانوا لهم ككسبهم الأولاد، لأنهم سعوا في تحصيل برهم.
ثم طريق العلم بوصول الثواب إليهم لا مجال فيه للخبير، فلم يبق إلا تلقيه من جهة المطلع على الغيب المقطوع بصدق خبره، الذي كان يسمع ما لا يسمع من عنده، ويرى ما لا يرى من حوله، {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحيٌّ يوحى}، وقد أخبر بذلك، فكان المصير إلى تصديق خبره أولى.
- وجواب آخر، هو: أن الآية عامةٌ في حق الحي والميت من(1/81)
طريق المقتضى للتخصيص من حيث فتح الله لإتيانه باباً وهو الاستغفار له والصدقة عنه، وذلك لانقطاع عمله لطفاً به منه ورحمةً، فجعل الإهداء له كاتصال عمله الذي يبقى له بعده مثل الوقف والدعاء.
- وأما احتجاجهم بالحديث: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثٍ))، فلا حجة لهم فيه من الوجه الذي خالفونا به، لأنه قال: ((انقطع عمله)) ولم يقل: انقطع نفعه من عمل غيره، فإنه يدخل عليهم الحج والعمرة والعتق والصدقة على قولهم، وباقي القرب على ظاهر الحديث: ((وصل لهما مع صلاتك، وصم لهما مع صيامك))، وهو قولنا على ما قدمنا من الآثار والأخبار والقياس، فجاز هذا في البدنيات كالماليات، ولأن الشارع -عليه السلام- قال: ((صل لهما مع صلاتك)) فسوى بينهما.
- والجواب عن قولهم في النفع الذي يجري للعبد بعد موته: (أن ما عداها لا يتحصل له منه شيءٌ، وإلا فلا فائدة لهذا الحصر) هو أن نقول: إن هذا الخبر يفيد أن بقايا أعماله تنقطع، وليس فيه أن عمل غيره لا يصل كما قلنا في قوله: ((انقطع عمله إلا من ثلاثٍ))، ونحن نضيف إليها زيادةٌ بطريقٍ تصلح للزيادة والإضافة كما زدنا على قوله سبحانه وتعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعمٍ يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزيرٍ}: ((كل ذي نابٍ [من السباع] وكل ذي مخلبٍ من الطير))(1/82)
بخبرٍ، وقياساً على [ما] تضمنه خبر الواحد. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا وضوء إلا من صوتٍ أو ريحٍ)). زدنا فيه بأدلةٍ أخرى ما ينقض ويوجب الوضوء، كذلك هاهنا زدنا بعد الاستثناء جميع ما ورد عن الشارع في مثل خبر الاستثناء. وقد قال سبحانه: {من عمل سيئةً فلا يجزى إلا مثلها}، وقال في آية أخرى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}، وقال في الأخرى: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسناتٍ}، وكذلك الحديث في الصحيحين: ((إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنةً فأنا أكتبها له حسنةً ما لم يعملها، فإذا عملها كتبتها له بعشرة أمثالها، وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئةً فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها كتبتها له واحدةً أو أغفرها له)). والتبديل والتكفير وقوله: ((أو أغفرها)) خلافٌ ظاهر قوله: {من عمل سيئةً فلا يجزى إلا مثلها}، وهذا عدلٌ، وذلك فضلٌ، قال الله تعالى: {ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله}. وفي الحديث: ((إن الرجل ليرفع الله له الدرجة لا يبلغها عمله ويتوج بتاجٍ لا تقوم له الدنيا، فيقول: يا رب!(1/83)
أنى لي هذا؟ فيقال: هذا بأخذ ولدك القرآن)).
والجواب عن قولهم: (هذه قراءةٌ وصلاةٌ فلا تصح النيابة فيها،(1/84)
فوجب أن يكون ثوابها لفاعلها كصلاة الفرض وصوم الفرض) هو أنا نقول: لا تأثير لذلك عندكم، لأن ما صحت النيابة فيه لا تقولون بصحة ثواب إهدائه أيضاً. وأما الفرض فعلى الصحيح من المحكي عن المذهب: لا يمتنع أن يصح إهداؤه، لأن أكثر ما فيه تعري الفرض عن ثوابٍ، وذلك غير ممتنع على إحدى الروايتين عندنا في الصلاة في الدار المغصوبة والثوب المغصوب: يقع الفرض ولا ثواب فيه.
وأما قولهم: (التكليف امتحانٌ وابتلاءٌ واستصلاحٌ للمكلفين، فلا تدخله النيابة، ولا يقبل بدلاً لم يصفه الشرع بدلاً، فيكون كالمريض الذي يعالج بدوائه غيره، فلا يقع ذلك موقع الإصلاح له) فالجواب عنه: أن هذا خلاف وضع الشرع، وذلك أن المسيء لا تزال إساءته في اطراد العرف ومقتضى العقل إلا بتوبةٍ من ذنبه، ولا يمحو جريمته إلا اعتذاره بنفسه، ثم إذا أراد أن يعتذر لم يجز إذا جعل اعتذاره عن جنايات غيره، [و] كان اعتذاره قبيحاً، وصار الجاني متأبياً، ولم يقع موقع اعتذار المسيء. وكذلك لو كان ساخطاً سخط فعل عبدٍ من عبيده لتأخر خدمته عن محلها ووقتها، فجاء بعض العبيد وبذل فعل تلك الخدمة التي امتنع من فعلها المتخلف لم تقع موقعها عن المتخلف.
فأما أوضاع الشرع: فإنا لما رأينا الله -عز وجل- قد جعل استغفار المسلمين بعضهم عن بعض والأبناء عن الآباء نافعاً، وإن قام(1/85)
بعض المكلفين بصلاة جنازةٍ وأمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكر [كان] مسقطاً إثماً وكافياً عن الكل التاركين لذلك، وما أسقط عنهم إلا فعل ذلك مع أن الجماعة .. .. ..
.. .. (1)
غدوٌّ ولا عشيٌّ، وليس للقائل أن يقول: هذا معناه على مقدار الغدو والعشي كما قال في حق أهل الجنة: {ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشياً} وليس في الجنة بكرةٌ ولا عشيٌّ، ولكن على مقدار ذلك في الدنيا، لأن قوله: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}، فلم يبق إلا المنزلة الثالثة وهي الوسطى في القبر، وهو البرزخ الحاجز بين الدنيا والعقبى، وهو المشار إليه بقوله تعالى {سنعذبهم مرتين} مرةً بالقتل، ومرة في القبر {ثم يردون} في الآخرة {إلى عذابٍ عظيمٍ}. وقال صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون في ما نزلت هذه الآية {فإن له معيشةً ضنكا}. قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((هو عذاب القبر)). وجاء في حديثٍ آخر عنه صلى الله عليه وسلم: ((عامة عذاب
__________
(1) في الأصل بياض بقدر ورقتين.(1/86)
القبر من النميمة والبول)). يعني: إذا لم يتحفظ منه.
وحدثنا الحافظ ابن الخريف قراءةً من لفظه، قال: حدثنا(1/87)
الإمام أبو الحسين القاضي، قال: أنبأني الوالد السعيد، قال: حدثنا عيسى بن علي إملاءً، قال: قرئ على أبي بكرٍ محمد بن إبراهيم بن نيروزٍ وأنا أسمع، قيل: إنه حدثكم حمدون البزاز، قال: حدثنا عبد الله بن داود الواسطي، قال: حدثنا ثابت بن حمادٍ، عن المختار بن فلفلٍ، عن أنسٍ بن مالكٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى ركعتين في ليلة الجمعة وقرأ فيهما بفاتحة الكتاب و {إذا زلزلت الأرض} خمسين مرةً أمنه الله من عذاب القبر ومن أهوال يوم القيامة)).(1/88)
وفي حديث آخر: ((من زار قبر والديه أو أحدهما كل ليلة جمعةٍ غفر الله له وكتب له براءةً)).
حدثنا غير واحدٍ عن ابن أبي الحصين -رضي الله عنه-، عن ابن المذهب، عن ابن مالكٍ، عن عبد الله، [حدثني أبي: حدثنا يونس بن محمد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل] قال: أخبرني(1/89)
أسيد بن علي، عن أبيه علي بن عبيد، عن أبي أسيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان بدريًّا، وكان مولاهم-، قال: قال أبو أسيد: بينما أنا جالسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجلٌ من الأنصار فقال: يا رسول الله هل بقي عليٍّ من بر والدي شيءٌ بعد موتهما أبرهما به؟ قال: ((نعم! خصالٌ أربعةٌ: الصلاة عليهما، والاستغفار [لهما]، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهذا الذي يبقى عليك من برهما بعد موتهما)).
وفي المخرج في الثالث من المتفق عليه من حديث ابن عباسٍ، أنه قال: استفتى سعد بن عبادة الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذرٍ كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقضه عنها)). وفي رواية شعيبٍ، عن الزهري: فكانت سنةٌ [بعد].
وأخرجاه من حديث الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: جاءت امرأةٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أمي ماتت وعليها صومٌ نذراً، أفأصوم عنها؟ قال: ((أرأيت لو كان على أمك دينٌ فقضيته، أكان يؤدي ذلك عنها؟)) فقالت: نعم. قال: ((فصومي عن أمك)).
وفي أفراد مسلم البطين، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-، قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(1/90)
يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم شهرٍ، أفأقضيه عنها؟ قال: ((لو كان على أمك دينٌ أكنت قاضيه عنها؟)) قال: نعم. قال: ((فدين الله أحق أن يقضى)). وفي لفظٍ آخر لابن عباسٍ، قال: أتى رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو كان عليها دينٌ أكنت قاضيه؟)) قال: نعم. قال: ((فاقض دين الله، فهو أحق بالقضاء)). وفي لفظٍ آخر: ((فالله أحق بالوفاء)). فعلى هذا من مات وعليه صومٌ صام عنه وليه، وهذا مذهب أحمد وأحد قولي الشافعي -رحمهما الله تعالى-.
وذكر الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) -وهو من خيار كتبه ومحاسن تصنيفه-: ((ولا بأس بقراءة القرآن على القبر. قال: وروي عن علي بن موسى الحداد، قال: كنت مع أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- في جنازةٍ ومحمد بن قدامة الجوهري معنا، فلما دفن الميت جاء رجلٌ ضريرٌ فقرأ عند القبر، فقال له: يا هذا! إن القراءة عند القبر بدعةٌ. فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله! ما تقول في مبشرٍ بن إسماعيل الحلبي؟ فقال: ثقةٌ، فهل كتبت عنه شيئاً؟ قال: أخبرني مبشرٌ بن(1/91)
إسماعيل، عن عبد الرحمن بن اللجلاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر -رضي الله عنهما- يوصي بذلك. فقال أحمد: فارجع إلى الرجل فقل له يقرأ)).
وحكى الغزالي في كتابه أيضاً عن محمد بن أحمد المروذي، قال: سمعت أحمد بن حنبل -رحمه الله- يقول: إذا دخلتم المقابر فاقرؤوا بفاتحة الكتاب و {قل هو الله أحد}(1/92)
والمعوذتين، واجعلوا ثواب ذلك لأهل المقابر، فإنه يصل إليهم.
وحكى في كتابه: (الإحياء) عن أبي قلابة، قال: أقبلت من الشام إلى البصرة، فنزلت الخندق فتطهرت وصليت ركعتين بليلٍ، ثم وضعت رأسي على قبرٍ فنمت، فإذا صاحب القبر يشتكي يقول: لقد آذيتني منذ الليلة!. ثم قال: إنكم لا تعلمون ونحن نعلم ولا نقدر على العمل. ثم قال: الركعتان اللتان ركعتهما خيرٌ من الدنيا وما فيها. ثم قال: جزى الله عنا أهل الدنيا خيراً، أقرهم السلام، فإنه قد يدخل علينا من دعائهم نورٌ مثل الجبال.
وقال: قالت عائشة -رضي الله عنها-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من رجلٍ يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم)).
وقال: قال سليمان بن سحيم: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله! هؤلاء الذين يأتونك ويسلمون عليك: أتفقه سلامهم؟ قال: ((نعم، وأرد عليهم)).
وقال: قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: إذا مر الرجل بقبر(1/93)
الرجل يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبرٍ لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام.
وقال أيضاً: قال رجلٌ من آل عاصمٍ الجحدري: رأيت عاصماً بعد موته بسنتين، فقلت: ألست قد مت؟! قال: بلى، فقلت: أين أنت؟ فقال: أنا والله في روضةٍ من رياض الجنة، أنا ونفرٌ من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعةٍ وصبيحتها إلى أبي بكرٍ ابن عبد الله المزني، فنتلاقى أخباركم. قلت: أجسامكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات! بليت الأجساد، وإنما تتلاقى الأرواح. قال: فقلت: هل تعلمون بزيارتنا لكم؟ قال: نعلمها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس. قلت: وكيف ذلك دون الأيام كلها؟ قال: لفضل يوم الجمعة وعظمه.
وكان محمد بن واسعٍ يزور يوم الجمعة، فقيل له: لو أخرت إلى(1/94)
الإثنين؟ قال: بلغني أن الموتى يعلمون من زارهم يوم الجمعة ويوماً قبله ويوماً بعده.
وقال الضحاك: من زار قبراً يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته. قيل له: كيف ذلك؟ قال: لمكان يوم الجمعة.
وقال بشر بن منصورٍ: لما كان زمن الطاعون كان رجلٌ يختلف إلى الجبانة، فيشهد الصلاة على الجنائز، فإذا أمسى وقف على [باب] المقابر وقال: آنس الله وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز عن سيئاتكم، وقبل الله حسناتكم. لا يزيد على هذه الكلمات، قال الرجل: فأمسيت ذات ليلةٍ فانصرفت لأهلي ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو، فبينما أنا نائمٌ إذا خلقٌ كثيرٌ قد جاؤوني، فقلت: ما أنتم؟ وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر. قلت: وما جاء بكم؟ قالوا: إنك كنت قد عودتنا منك هديةً عند انصرافك إلى أهلك. قلت: ما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعو بها. قلت: فإني أعود إلى ذلك. فما تركتها بعد ذلك أبداً.(1/95)
قال: وقال بشار بن غالبٍ: رأيت رابعة العدوية في النوم -وكنت كثير الدعاء لها-، فقالت لي: يا بشار بن غالبٍ! هداياك تأتينا على أطباقٍ من نورٍ مخمرة بمناديل الحرير. قلت: وكيف ذلك؟ قالت: هكذا دعاء المؤمنين من الأحياء: إذا دعوا للموتى فاستجيب لهم جعل ذلك الدعاء على أطباقٍ من نورٍ وخمر بمناديل [الحرير]، ثم أتى به الميت، وقيل [له]: هذه هدية فلانٍ لك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما الميت في قبره إلا كالغريق المتغوث ينتظر دعوةً تلحقه من أبيه أو من أخيه أو من صديقه، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها، وإن هدايا الأحياء للأموات الاستغفار والدعاء)).(1/96)
وروى أبو نعيم في كتابه (الحلية): أن رجلاً مر بمقبرةٍ، فقرأ إحدى عشرة مرةً {قل هو الله أحدٌ} وأهدى ثوابها لأهلها، فرأى في تلك الليلة في منامه رجلاً -كان يعرفه- مغلولةً يده إلى عنقه، فسأله: ما له؟ فقال: ما كنت إلا مغلول اليدين جميعاً، فحين مررت بنا فقرأت وأهديت لنا أصابني من ثواب ذلك ما أطلق إحدى يدي، فبالله عليك إلا ما قرأت لنا ثانيةً. قال: فاستيقظت وقرأت وأهديت لهم، ثم رقدت، فرأيت الرجل يقول: جزاك الله عني خيراً، قد أطلقت يدي الأخرى.
وقال معروفٌ الكرخي: رأى رجلٌ أباه في النوم، فقال: يا بني! ما لك لا تأتينا هديتك؟! قال: كان يقول: يا مالك! يا قدير! يا من ليس له بديل! وربما قال: أسالك أن تصلي على محمدٍ وآل محمدٍ، وأن تغفر لي ولوالدي، إنك على كل شيءٍ قديرٌ. قال: فقالها: فرآه بعد فقال: يا بني! أتتنا هديتك.
هذا آخر ما راج مما يتعلق بمسألة الأموات -رحمنا الله تعالى وإياهم- من الإهداء والدعاء.
ونختم المسألة بأثرٍ عن الإمام الشافعي -رحمه الله- في نفع الأحياء، ويعود إلى موتاهم بالنفع والسناء، قال -رحمه الله-: ((ما علمت هذا الدعاء مريضاً لم يحضر أجله فدعا به إلا وجد نفعه: اللهم إنك عيرت أقواماً فقلت: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون(1/97)
كشف الضر عنكم ولا تحويلاً}، وأعلم أنك الله القادر على كشف ضري، فاكشف عني برحمتك، إنك على كل شيءٍ قديرٌ)).
وقال -رحمه الله-: دهمني في هذه الأيام أمرٌ أمضني وآلمني، ولم يطلع عليه غير الله -عز وجل-، فلما كان البارحة أتاني آتٍ في منامي، فقال: يا محمد! قل: (اللهم إني لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشرواً، ولا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني، ولا أتقي إلا ما وقيتني. اللهم وفقني لما تحب وترضى من القول والعمل في عافيةٍ يا أحرم الراحمين) فلما أصبحت أعدت ذلك، فلما ترجل النهار أعطاني الله -عز وجل- طلبي، وسهل لي الخلاص مما كنت فيه، فعليكم بهذا الدعاء لا تغفلوا عنه.
آخر المسألة المباركة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل
وكان الفراغ من تعليقها عند وقت أذان العصر يوم الثلاثاء سابع عشري جمادى الآخرة سنة إحدى وثمانين وثمانمائة(1/98)