كتاب
الأربعين المغنية بعيون فنونها عن المعين
تصنيف
الإمام العلامة الحافظ
صلاح الدين أبي سعيد خليل ابن الأمير بدر الدين كيكلدي العلائي الشافعي
قرأه وقدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه
أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
الدار الأثرية
الطبعة الأولى
1429 هـ - 2008 م(1/290)
كتاب الأربعين المغنية بعيون فنونها عن المعين
اعتنى بتخريجها والكلام عليها الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ صلاح الدين أبو سعيد خليل ابن الأمير المرحوم بدر الدين كيكلدي العلائي الشافعي أثابه الله تعالى بمنه وكرمه آمين
رواية أم الهناء زينب الفصيحة بنت محمد بن أبي محمد علي المغيثي ووالدها عنه(1/291)
بسم الله الرحمن الرحيم
1- أخبرنا الشيخ الإمام، العالم الأوحد، الحافظ أبو سعيد صلاح الدين خليل ابن الأمير المرحوم بدر الدين كيكلدي العلائي الشافعي -أبقاه الله- بقراءة الإمام المحدث نور الدين أبي الحسن علي بن يوسف بن حسن الزرندي المدني بالمدرسة الشرابيشية من القاهرة في شهر ربيع الأول سنة خمس وأربعين وسبع مئة، قال:
2- الحمد لله رب العالمين، لا رب سواه، خلق الإنسان فسواه، وأمده وقواه، ووفق من شاء وهداه، فأسبغ عليه جزيل نعماه، وأفاض عليه ملابس رضاه. وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة تنجي قائلها في أخراه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اجتباه، ورسوله الذي اصطفاه، ختم به النبوة والرسالة، وهدى به من الفتن والضلالة، وعلم به من الغي والجهالة، وحرسه من أعدائه وحماه، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، الذين هم في الخير أشباه، صلاةً تبلغ قائلها مناه، وتجعل الجنة مثواه، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
3- فقد كثر من أئمة الحديث الأعلام، في القديم والحديث من الأعوام، تخريج أربعين حديثاً عن خير الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام، فمنهم من اعتبر ما يتعلق بمتونها من المعاني، إما في الفروع والأحكام، أو في الأصول والمباني، ومنهم من قصد الإسناد، وما يشتمل عليه من الأمور المعتبرة عند النقاد، فتباينت أغراضهم ومقاصدهم، وإن اتفقت مصادرهم ومواردهم، إذا لكل(1/293)
ناشئٌ عن الحديث الوارد في حفظ الأربعين، وما يترتب عليه من الثواب،(1/294)
وهو حديثٌ ضعيفٌ بجميع طرقه، كما بينته في غير هذا الكتاب، لكن ثم مأخذٌ آخر يرشد إلى ذلك، ويكون سبباً لسلوك هذه المسالك، وهو ما في عدد الأربعين من الخصوصيات المعنوية، وكثرة اعتباره في الأحكام الشرعية، كما قد بسطت ذلك في مقدمة ((الأربعين الكبرى))، وبينت هنالك أن هذا(1/296)
المأخذ هو الأولى بالتقديم والأحرى، فإذا انضم هذا المعنى إلى العمل بالحديث الضعيف في الترغيب كان ذلك باعثاً للقصد إلى التأسي بالأئمة المتقدمين، وكل منهم مصيبٌ.
4- وممن خرج الأربعين على وجهٍ يتعلق بالسند، وأتى فيه بما لم يسبقه إليه أحد: الإمام الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي رحمة الله عليه، فإنه خرج أربعين حديثاً عن أربعين شيخاً، سمع من كل واحدٍ منهم ببلدٍ مفردٍ، أبان بها عن رحلةٍ واسعةٍ، وتجواب آفاقٍ شاسعة.
5- ثم نسج على منواله عصريه الحافظ الكبير، الأوحد الشهير، أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي المعروف بابن عساكر، تغمده الله برحمته، وزاد عليه بأن أفرد لكل حديثٍ صحابياً غير ما في الأحاديث الأخر، وذلك من سعة مروياته التي بها عرف واشتهر.
6- ثم عمل صاحبهما الحافظ الزاهد أبو محمد عبد القادر بن عبد الله(1/297)
الرهاوي ((الأربعين الكبرى)) المشتملة على تباين أسانيدها من أول كل سند إلى منتهاه، مع سماع كل حديث منها ببلد منفرد، وكثر من الطرق والروايات، والشواهد والمتابعات، ولم يتأت لغيره قبله ولا بعده سلوك هذه الطريق، ولا ولج أحد هذا المجال المضيق، وإن كان قد تكرر عليه فيها اسمان غفل عنهما، ولم يحترز منهما.
7- وعمل قبله الإمام أبو الفتوح الطائي رحمه الله أربعين حديثاً لأربعين شيخاً عن أربعين صحابياً فقط، وزاد على من تقدم بتراجم مختصرة للصحابة الذين أخرج عنهم، وكلام يسير على متونها، ثم أردف كل حديث منها بحكايةٍ وإنشادٍ مرويين.
8- وقد وقع لي سماعها عالياً مع بقية الأربعينات المشار إليها إلى أعداد(1/298)
كثيرة من الأربعينات المخرجة، ولله الحمد والمنة.
9- وكنت قد أولعت بتخريج أربعينات مختلفة الأنواع في تعيينها، راجعٌ جميعها إلى ما يتعلق بمتونها، منها ((الأربعون الكبرى)) يسر الله إتمامها، و((الأربعون الصغرى)) و((الأربعون الطوال))، وكتاب ((الأربعين في أعمال المتقين))، وغير ذلك.(1/299)
فلما كان عام أربعين وسبع مئة تحركت الهمة إلى تخريج أربعين حديثاً لموافقة عدد السنة، فاستخرت الله تعالى، وخرجت في هذا الكتاب أربعين حديثاً على نحو ما تقدم من طريق الإمام أبي الفتوح الطائي، لكن زدت عليه بالتزام عدم التكرار في الشيوخ المروي عنهم الحكايات والأشعار، بحيث يتصحل من مجموع ذلك التخريج عن مائة وعشرين شيخاً. وبدأت قبل ذلك برواية حديث: ((إنما الأعمال بالنيات))، عن أربعين شيخاً آخرين أيضاً، لما روي عن جماعة من الأئمة من استحباب البداءة به في أوائل الكتب، كما فعل الإمام البخاري -رحمة الله عليه- أول ((صحيحه))، ولم يكن تقديمه أول الأحاديث لكونه(1/300)
ليس من رواية أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فبدأت به أولاً.
10- ثم ختمت الكتاب بأربعين حديثاً في الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن أربعين شيخاً آخرين أيضاً، لتتم الرواية بها عن مائتي شيخ في خمسة أعداد من الأربعين.
11- وربما تكرر ذكر بعض الشيوخ في أثناء بعض الأسانيد، إما لتعلية ما قبله، أو لاتصال السند، ولا يضر ذلك، لأن المقصود بالاعتبار إنما هو الشيخ المبدوء به ذلك المروي، إما من الحديث أو الدعاء أو الحكاية أو الإنشاد.
12- ولم أشتغل هنا بسياق حديث: ((من حفظ على أمتي أربعين حديثاً))؛ لأني استوعبت طرقه والكلام عليها في ((الأربعين الكبرى)) وغيرها.
13- ولم أستوعب الكلام على تراجم الصحابة المروي عنهم الحديث، ولا المباحث المتعلقة بمتنه لئلا يطول الكلام، ويخرج عن سنن النظام، بل اقتصرت على نبذٍ مختصرة، والإشارة إلى نكتٍ محبرة، ويسيرٍ من المباحث المعتبرة، ليكون الكتاب شاملاً للنوعين، وجامعاً للحسنين، فقد قال بعض الأئمة المتقدمين: ((الفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم)). والله تعالى المسؤول أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه، موجباً لمرضاته، مباعداً عن ناره، مقرباً إلى جنانه، بمنه وكرمه وفضله ونعمه.(1/301)
ذكر حديث: ((إنما الأعمال بالنيات))
14- أخبرنا شيخنا العلامة الرباني، طراز العلماء، شيخ المذهب، أبو إسحاق إبراهيم ابن شيخ الإسلام أبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري البدري، نضر الله وجهه، قراءةً عليه وسماعاً بانتقائي عليه، والفقيه أبو العباس أحمد ابن أبي بكر [بن] علي بن جعوان الديري الشافعي، والمقرئ أبو الفرج داود بن محمد بن عربشاه بن أبي بكر الهمداني، والعدل أبو القاسم بن عبد السلام ابن أبي عبد الله بن المصلي، وأبو القاسم سالم بن عبد الله الأغزازي سماعاً عليهم، قالوا: أنا أبو العباس أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي قراءةً عليه ونحن نسمع، قال: أنا أبو الحسن علي بن محمد بن يعيش البغدادي بقراءتي عليه، أنا أبو القاسم زاهر بن طاهر بن محمد الشحامي، أنا أبو سعد محمد بن عبد الرحمن بن محمد الكنجروذي، أنا الحاكم أبو أحمد محمد ابن محمد بن إسحاق الحافظ، أنا أبو عروبة الحسين بن أبي معشر السلمي، ثنا عبد الجبار بن العلاء، ثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد قال: سمعت يحيى بن سعيد -يعني الأنصاري- (ح).(1/302)
15- وقرأت على الإمام أبي الحسن علي بن إبراهيم بن داود الدمشقي المعروف بابن العطار، قلت له: أخبرك العلامة الرباني أبو زكريا يحيى بن شرف ابن مرا النواوي رحمة الله عليه، أنا الحافظ أبو البقاء خالد بن يوسف بن سعد النابلسي، أنا أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي، أنا محمد بن الباقي الأنصاري، أنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أنا أبو الحسين محمد بن المظفر الحافظ، أنا أبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الواسطي، أنا أبو نعيم عبيد بن هشام الحلبي، أنا ابن المبارك، عن يحيى بن سعيد (ح).
16- وأخبرناه عالياً من هذه الطريق أبو محمد حمزة بن عبد الله بن حمزة(1/303)
ابن أحمد بن عمر المقدسي، وأبو الحسن علي بن أحمد بن عسكر بن شهاب القصيري بقراءتي على كل منهما، قال الأول: أنا أبو الحسن علي بن يوسف ابن أبي الحسن الصوري، والثاني: أنا الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد ابن أبي الفضل المرسي قالا: أخبرتنا أم المؤيد زينب ابنة عبد الرحمن بن الحسن الشعري، قال الصوري أيضاً: أنا أبو الحسن المؤيد بن محمد بن علي الطوسي، قالا: أخبرتنا فاطمة بنت علي بن المظفر البغدادي، قالت: أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أنا أبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان، أنا أبو العباس الحسن ابن سفيان، ثنا حبان بن موسى، وعبد الله بن محمد بن أسماء قالا: ثنا عبد الله بن المبارك، عن يحيى بن سعيد (ح).
17- وأخبرنا أبو بكر يوسف بن محمد بن محمد بن عبد القاهر ابن النصيبي بقراءتي عليه بحلب قال: أنا أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصاري، أنا عبد الله بن أحمد ابن أبي المجد الحربي، أنا هبة الله بن محمد بن عبد الواحد، أنا أبو علي الحسن بن علي التميمي، أنا أبو بكر أحمد(1/304)
بن جعفر بن حمدان، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، ثنا سفيان -هو ابن عيينة-، عن يحيى-يعني ابن سعيد- (ح).
18- وأخبرنا قاضي القضاة أبو عبد الله محمد بن سليمان بن سومر الزواوي المالكي قراءة عليه وأنا أسمع قال: أنا شيخ الإسلام أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام ابن أبي القاسم السلمي، أنا الحافظ أبو محمد القاسم ابن علي بن الحسن، أنا أبي الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن(1/305)
عساكر، أنا هبة الله بن محمد بن الحصين، أنا محمد بن محمد بن غيلان، أنا محمد بن عبد الله الشافعي، ثنا عبد الله بن روح المدائني، ومحمد بن ربح البزار قالا: ثنا يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد (ح).
19- وأخبرنا الفقيه أبو العباس أحمد بن عمر بن عثمان الحنفي بقراءتي عليه قال: أنا العلامة أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الشافعي ابن الصلاح، أنا منصور بن عبد المنعم بن عبد الله الفراوي، أنا أبو المعالي محمد بن إسماعيل الفارسي، أنا الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، أنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو بكر ابن أبي إسحاق المزكي، وأبو القاسم عبد الرحمن بن محمد السراج قالوا: أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني، أنا إبراهيم بن عبد الله السعدي، ثنا يزيد بن هارون، ثنا يحيى بن سعيد (ح).(1/306)
20- وأخبرنا المشايخ الجلة الصالح أبو بكر [بن] محمد بن عبد الرحمن ابن محمد بن عبد الجبار المقدسي، وأبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم الصرخدي، والزاهد أبو عبد الله محمد بن أبي الزهر بن سالم ابن أبي الزهر الغسولي، والعابد أبو العباس أحمد بن المحب عبد الله بن أحمد بن محمد ابن إبراهيم المقدسي، والعابد أبو بكر أحمد بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف المقدسي، والفقيه أبو محمد عبد المحسن بن إبراهيم بن خولان الصالحي، والأمير أبو المعالي محمد بن عبد الملك بن إسماعيل ابن أبي بكر بن أيوب بن شاذي، وأبو البقاء محفوظ بن علي بن عمر بن أبي الحسن الموصلي، وأبو العباس أحمد بن النجيب بن سعيد بن الإخلاطي، وأحمد بن السيف محمد بن أحمد بن عمر ابن الشيخ أبي عمر المقدسي، وأبو محمد عبد الرحمن ابن أحمد بن محمد بن يونس الحداد، وأم محمد زينب ابنة عمر بن عباس بن عجرمة النحات، وأم عبد الله آمنة بنت إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل بن الواسطي، وأم محمد أسماء بنت محمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي، وأم محمد فاطمة بنت العز إبراهيم بن عبد الله ابن الشيخ أبي عمر(1/307)
المقدسي، وأم محمد سارة بنت العز عمر بن أحمد بن عمر المقدسي، وفاطمة بنت عبد الدائم بن أحمد بن عبد الدائم الفندقي رحمهم الله أجمعين قراءةً عليهم وأنا أسمع قالوا كلهم: أنا أبو العباس أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي سماعاً عليه، وقال الأولان وزينب بنت عمر أيضاً: أنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن أحمد المقدسي، وقال الأول أيضاً: أنا أبو عبد الله محمد ابن عبد الهادي المقدسي، وأبو إسحاق إبراهيم بن خليل الدمشقي حضوراً قالوا أربعتهم: أنا أبو الفرج يحيى بن محمود بن سعد الثقفي، أنا أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن المقدسي حضوراً، أنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن إسحاق الحافظ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري بمكة، ثنا أحمد بن يحيى الحلواني، ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، ثنا زهير بن معاوية، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي قال: سمعت علقمة بن وقاص يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ح).
21- وأخبرنا أعلى من هذه الروايات كلها أبو العباس أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن صصري التغلبي، وأبو محمد عبد الرحيم بن يحيى بن المفرج بن علي بن مسلمة الأموي سماعاً وقراءةً، قال الأول: أنا أبو المكارم عبد الواحد بن عبد الرحمن بن عبد الواحد بن هلال الأزدي سماعاً، والثاني: أنا أبو بكر عتيق بن أبي الفضل بن سلامة السلماني حضوراً قالا: أنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الدمشقي ابن عساكر (ح).(1/308)
22- وأخبرنا الإمام أبو الغنائم سالم بن عبد الرحمن القلانسي الشافعي، وأبو عبد الله محمد ابن شيخنا أبي بكر [بن] أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي، وأبو محمد عبد الرحمن ابن شيخنا محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الصالحي، وأبو الحسن علي بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الراحم القواس، وعتيق أبيه سنجر بن عبد الله الأنطاكي بقراءتي على الأول، وسماعاً على الباقين قالوا: أنا أحمد بن عبد الدائم المقدسي، أنا أبو أحمد عبد الوهاب بن علي بن علي بن سكينة الأمين (ح).
23- وأخبرنا العلامة أبو عبد الله محمد بن محمد ابن أبي العز الحنفي الحاكم، والإمام أبو بكر بن عبد اللطيف بن محمد بن محمد بن نصر الله الحموي الخطيب، والإمام أبو الحسن علي بن محمد بن سلمان بن حمايل الدمشقي الأديب بقراءتي على كل منهم بطريق الحج قالوا: أنا العلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي وغيره، أنا أبو حفص عمر بن محمد بن معمر بن طبرزد قالوا ثلاثتهم: أنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبد الواحد الشيباني، أنا أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان، أنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي قال: ثنا عبد الله بن روح المدائني، ومحمد بن ربح البزار قالا: ثنا يزيد بن هارون، ثنا يحيى بن سعيد الأنصاري (ح).(1/309)
24- وقرأت على أم محمد عز النساء بنت علي بن هبة الله بن خلدون، عن أبي إسحاق إبراهيم بن عثمان بن يوسف الكاشغري، وأبي محمد عبد اللطيف ابن محمد بن علي ابن القبيطي قالا: أنا أبو الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد ابن البطي، وقال الكاشغري أيضاً: أنا أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن تاج القراء قالا: أنا مالك بن أحمد بن علي البانياسي، أنا أبو الحسن أحمد بن محمد ابن الصلت المجبر، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، ثنا أبو سعيد الأشج، ثنا المحاربي - يعني عبد الرحمن بن محمد-، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه -زاد يزيد بن هارون: على المنبر- يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنية - وفي رواية بعضهم: ((بالنيات)) وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها .. .. )) -وعند بعضهم: ((ينكحها))- فهجرته إلى ما هاجر إليه)).
25- هذا حديث صحيح، جليل كبير، اتفق الأئمة قاطبة على صحته وتلقيه بالقبول، وإن كان قد انفرد بروايته علقمة بن وقاص عن عمر رضي الله عنه، ومحمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة، ويحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم، وإنما اشتهر عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو الأنصاري المدني، قاضي الهاشمية، فرواه عنه جمٌّ غفير، .. .. ..(1/310)
ولا يصح أيضاً عن صحابي غير عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو صحيح غريب في أول سنده، ثم مشهور أو متواتر عن يحيى بن سعيد.(1/311)
26- و[لهذا] بدأ به الإمام البخاري ((صحيحه))، فرواه عن أبي بكر الحميدي، عن سفيان بن عيينة.
27- ثم أخرجه في (الإيمان) عن القعنبي.
28- وفي (النكاح) عن يحيى بن قزعة، كلاهما عن مالك بن أنس الإمام.(1/312)
29- وفي (العتق) عن محمد بن كثير، عن سفيان الثوري.
30- وفي (هجرة النبي صلى الله عليه وسلم) عن مسدد بن مسرهد.
31- وفي (ترك الحيل) عن أبي النعمان محمد بن الفضل عارم، كلاهما عن حماد بن زيد.
32- وفي (الأيمان والنذور) عن قتيبة بن سعيد، عن عبد الوهاب الثقفي.
33- وأخرجه مسلم في (الجهاد) من ((صحيحه)) عن القعنبي، عن مالك، وعن محمد بن رمح، عن الليث بن سعد. وعن أبي الربيع الزهراني،(1/316)
عن حماد بن زيد. وعن أبي موسى محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب الثقفي. وعن إسحاق بن راهويه، عن أبي خالد الأحمر. وعن محمد بن عبد الله بن نمير، عن حفص بن غياث، ويزيد بن هارون. وعن أبي كريب محمد بن العلاء، عن ابن المبارك. وعن محمد بن يحيى بن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة.
34- ورواه أبو داود في (الطلاق) من ((سننه)) عن محمد بن كثير، عن سفيان الثوري.
35- والترمذي في (الجهاد) من ((جامعه)) عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب الثقفي.
36- وأخرجه النسائي في (الطهارة) من ((السنن)) عن يحيى بن حبيب بن عربي، عن حماد بن زيد. وعن سليمان بن منصور، عن ابن المبارك. وعن إسحاق بن راهويه، عن أبي خالد الأحمر. ونازلاً عن الحارث بن مسكين، عن عبد الرحمن بن القاسم، وعن عمرو بن منصور، عن القعنبي، كلاهما عن مالك.(1/317)
37- ورواه ابن ماجه عن محمد بن رمح، عن الليث بن سعد. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون.
عشرتهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري.(1/318)
38- فوقع لنا في رواية يزيد بن هارون الأخيرة بدلاً لمسلم وابن ماجه عالياً.
39- وعالياً عن طريقي النسائي النازلين بثلاث درجات، فلله الحمد والمنة.
40- والكلام على إسناده، وفوائد متنه طويل، وهو مستوفى في الحديث الأول من ((الأربعين الكبرى))، وبالله سبحانه التوفيق.
41- قال أبو يعقوب البويطي: سمعت الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: ((يدخل في حديث: الأعمال بالنيات، ثلث العلم)).
42- وروينا عن أبي الوليد ابن أبي الجارود المكي قال: حدثني أحمد ابن عبد الله بن قنبل قال: سمعت محمد بن إدريس -يعني الشافعي- رحمة الله عليه وذكر النية في الأعمال، فذكر حديث مالك، عن يحيى بن سعيد، ثم قال: على أهل العلم أن يحفظوا هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه معنى ما أمر الله به العباد من الإخلاص فقال: {ألا لله الدين الخالص}، وقال: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}، وكل الأعمال من الفرائض لا تكمل إلا بالإخلاص، وهو القصد والنية في العبادة، وكذلك أعمال النوافل لا تكمل إلا بالإخلاص.
43- وحكى الإمام البخاري عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: ((من أراد(1/321)
أن يصنف كتاباً فليبدأ بحديث: الأعمال بالنيات)).
44- وقال أبو داود السجستاني: أقمت بطرسوس عشرين سنة أكتب المسند، فكتبت أربعة آلاف حديث، ونظرت وإذا مدار الأربعة آلاف على أربعة أحاديث:
أحدها: حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)).
والثاني: حديث: ((الحلال بين والحرام بين)).
والثالث: حديث: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)).
والرابع: حديث: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)).
45- وقال الترمذي وقد ذكر هذا الحديث: ((ينبغي أن يدخل في كل باب)).
46- فهذا وجه المناسبة الباعثة على البداءة بهذا الحديث أمام الأربعين، والله تعالى الموفق والمعين، ومن هنا نشرع في المقصود، والله تعالى المشكور المحمود.(1/322)
الحديث الأول: عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه
47- أخبرنا الشيخ الإمام الرباني الكبير القدوة، أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الفزاري المكي إمام مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقراءتي عليه بمنى شرفها الله تعالى، ولم ألق شيخاً أجل منه قال: أنا العلامة أبو الحسن علي بن هبة الله بن سلامة بن المسلم اللخمي قراءة عليه وأنا أسمع قال: أخبرتنا الكاتبة شهدة بنت أحمد بن عمر بن الفرج الأبري سماعاً عليها قالا: أنا أبو علي الحسن بن أحمد بن سلمان الدقاق، أنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان البزار، أنا أبو محمد دعلج بن أحمد بن دعلج الحافظ قال: ثنا أبو جعفر محمد بن محمد بن حبان البصري التمار، ثنا عمرو بن مرزوق، أنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا نورث، ما تركنا صدقة)).
48- هذا حديث صحيح مقطوع بصحته من عدة طرق، ووقع في هذه الطريق مختصراً، وفيها أن عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كانوا حاضرين يومئذٍ، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لهؤلاء: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا نورث ما تركنا صدقة))؟ يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، فقال الرهط: قد قال ذلك، فأقبل عمر على علي، والعباس رضي الله عنهم فقال: أنشدكم بالله، هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك؟ فقالا: نعم، وذكرا بقية القصة.
49- أخرجها البخاري، عن إسحاق بن محمد الفروي، عن مالك.
50- ورواها مسلم، عن عبد الله بن محمد بن أسماء، عن عمه جويرية(1/323)
ابن طهمان، عن مالك، عن الزهري، عن مالك بن أوس به.
51- وانفرد مسلم في هذا الطريق برواية عمر رضي الله عنه لهذا المتن أيضاً عن أبي بكر رضي الله عنه كما سقناه، ذكره في أثناء القصة، فوقع لنا في هذه الطريق عالياً عنه، وهو في ((الصحيحين)) أيضاً من طريق ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا نورث ما تركنا صدقة)).
52- ومنها ما رواه مسلم عن أبي خيثمة وغيره، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، عن أسماء به.
53- فوقع لنا عالياً عن تلك الطريق بثلاث درجات.
54- وأخرجه الترمذي أيضاً من حديث محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن أبي بكر رضي الله عنه مختصراً أيضاً.
55- وقد وقع لنا أعلى من الطريق التي سقناها بدرجة.
56- أخبرناه أبو الربيع ابن قدامة الحنبلي بقراءتي، أنا محمد بن عبد الواحد الحافظ، أنا أبو جعفر -يعني الصيدلاني-، أنا أبو علي الحداد حضوراً، أنا أبو نعيم الحافظ، أنا أبو بكر بن خلاد، ثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا عبد الوهاب بن عطاء، أنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن فاطمة رضي الله عنها جاءت أبا بكر رضي الله عنه تطلب ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا، إنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنا لا نورث)).(1/324)
57- أبو بكر الصديق رضي الله عنه اسمه عبد الله ابن أبي قحافة، واسمه عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب.
58- أول الرجال إسلاماً بلا خلاف بينهم، وأول العالمين إسلاماً مطلقاً في قول جماعة منهم.
59- وأمه أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم.
60- أسلمت هي وأبوه أيضاً، وصحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف في الصحابة أربعة متوالدون صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم سوى أبي بكر الصديق، وأبيه أبي قحافة، وابنته أسماء بنت أبي بكر، وابنها عبد الله بن الزبير، فإن هؤلاء الأربعة صحبتهم ثابتة معروفة.
61- وقد ذكر بعضهم أن اسم أبي بكر رضي الله عنه عتيق، والصحيح أن عتيقاً لقبٌ له، قيل: لقب به لجمال وجهه، وقيل: لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب.
62- وأصح من ذلك ما روي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أبو بكر عتيق الله من النار))، فمن يومئذ سمي عتيقاً.
63- قال الزهري: ((كان أبو بكر رضي الله عنه أبيض أصفر لطيفاً جعداً مسترق الوركين، لا يثبت عليهما إزاره)).(1/325)
64- وقال غيره: ((كان أبيض نحيفاً خفيف العارضين، معروق الوجه مخضبٌ بالحناء رضي الله عنه))، وفضائله ومناقبه كثيرة، نحسبها أن تكون في ديوان مفرد.
65- قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: قلت: ((يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة: قلت: من الرجال؟ قال: أبوها)).
66- وقال صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)).
67- وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما نفعني مالٌ ما نفعني مال أبي بكر)).
68- وقال صلى الله عليه وسلم: ((سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر)).
69- وقال أبو سفيان: عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يبغض أبا بكر وعمر مؤمن، ولا يحبهما منافق)).
70- وقال صلى الله عليه وسلم في مرض موته: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس)).
71- وبهذا احتج علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة على تقديمه في الخلافة.
72- وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة قالت له: أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك يعني في العام المقبل -تعني الموت-، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأتي أبا بكر)).(1/326)
73- وبهذا احتج من قال إن الخلافة كانت بنص من النبي صلى الله عليه وسلم كابن حزم وغيره.
74- والصحيح أن ذلك كان باتفاق من الصحابة رضي الله عنهم لأفضليته عليهم، وأن أحداً منهم لم يكن يدانيه في فضله وسوابقه، على أنه قد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته لعبد الرحمن بن أبي بكر: ((ائتني بكتاب حتى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه من بعدي، فإني أخاف أن يقول قائل، أو يتمنى متمن، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)).
75- وقد اتفقت الصحابة على تسميته خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت خلافته ستة وعشرين شهراً.
76- وكان مولده بعد عام الفيل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ثلاث سنين تقريباً.
77- وتوفي رضي الله عنه في شهر جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، عن ثلاث وستين سنة، ودفن بالحجرة الشريفة النبوية.
78- ولا يحتمل هذا الموضع أكثر من هذه اللمعة اليسيرة، ويكفيه إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عنه أنه وزن بالأمة فرجح بهم رضي الله عنه وأرضاه.(1/327)
فصل
79- تقدم أن هذا الحديث أعلى درجات الصحة القوية، وأنه اتفق على روايته وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن ابن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، والعباس بن عبد المطلب، وأبو هريرة، وعائشة رضي الله عنهم، وكل ذلك في ((الصحيح))، فقل أن يوجد حديث مثله.
80- وبمضمونه قال جماعة علماء المسلمين سوى من لا يعتد به من الروافض، فإنهم رووا الحديث وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم يورث، وأن أبا بكر ظلم فاطمة رضي الله عنها في منعها حقها، وهي قولةٌ شنيعةٌ ناشئةٌ عن عناد محض ومكابرة.
81- وهذا علي رضي الله عنه قبض الأرضين المخلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم مدة خلافته من غير منازع، ولم يقسمها على ابنيه السبطين رضي الله عنهما، بل استمر يصرفها في الوجه الذي كان من قبله من الخلفاء الراشدين يصرفونها فيه، ثم كانت بعده بيد ابنه الحسن، ثم بيد أخيه الحسين رضي الله عنه، ثم في يد أولادهما من بعدهما، فلم يتملكها أحد منهم، ولا قسمها قسمة المواريث.
82- فلا وجه لعنادهم ومكابرتهم، وإنما طلبت فاطمة رضي الله عنها ميراثها أول الأمر لما لم تسمع قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا نورث ما تركنا صدقة))، ثم لما بلغها ذلك سكتت ولم تعد له تطلب، وكيف يسوغ لمسلم أن يظن بأبي بكر رضي الله عنه أنه كان يمنع فاطمة رضوان الله عليها ميراثها عن أبيها صلى الله عليه وسلم مع ما علم من أمره قطعاً أنه كان يسوي بين الناس في العطاء، ويوصل كل ذي حق إلى حقه.
83- ثم كيف يظن ببقية الصحابة رضوان الله عليهم وهم خير القرون أنهم(1/328)
يقربون على مثل ذلك في حق ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعهد قريب، والحق قائم، هذا ما لا يقوله إلا طاعن على الشريعة.
84- وقد حكى الإمام أبو سليمان الخطابي عن ابن الأعرابي أن أبا العباس السفاح لما قام بالأنبار أول ما ولي الخلافة وهو أول مقام قامه: ((حمد الله وأثنى عليه، فقام إليه رجل وفي عنقه مصحف فقال: أنشدك الله إلا ما قضيت لي على خصمي بما في كتاب الله، قال: ومن خصمك؟ قال: أبو بكر الذي منع فاطمة حقها من فدك، قال: وهل كان بعده أحد؟ قال: نعم، عمر. قال: وأقام على ظلمكم؟ قال: نعم. قال: فهل كان بعده أحد؟ قال: نعم، عثمان. قال: وأقام على ظلمكم؟ قال: نعم. قال: وهل كان بعده أحد؟ قال: نعم، قال: من؟ قال: علي بن أبي طالب. قال: فأقام على ظلمكم؟ فأسكت الرجل، وجعل يلتفت يطلب مخلصاً، فقال له أبو العباس [السفاح]: والله لولا أنه أول مقام قمته، ولم أكن تقدمت إليك فيه لأخذت الذي فيه عيناك، اجلس، فجلس ثم أخذ في خطبته)).
85- وقد كابر بعض علماء الشيعة فقال: الحديث إنما جاء بنصب ((صدقة)) على أنه معمول ((تركنا))، أي: ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقةً فليس بموروث عنه، ويكون الحديث كله جملة واحدة، وهذه مكابرة لا وجه لها، مع اتفاق الصحابة فمن بعدهم على خلافها، ومع صحة كثير من الروايات قال فيها صلى الله عليه وسلم: ((لا نورث، ما تركناه فهو صدقة))، وفي بعضها: ((ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة)).(1/329)
86- وكل ذلك في ((الصحيحين)) وبقية الكتب.
87- وقد حكى الإمام أبو العباس القرطبي إجماع الرواة على رواية المتن الذي سقناه برفع ((صدقةٌ)) دون نصبه.
88- وبهذا يرد قول العلامة أبي عبد الله ابن مالك حيث جوز في ((شواهد التوضيح)) روايته بالنصب، وأوله على أنه حال سد مسد الخبر، تقديره: ما تركناه مبذول صدقة، قال: ونظيره قراءة من قرأ في الشاذ: (ونحن عصبةً) بالنصب، وهذا الذي ذكره ضعيف نقلاً لما تقدم من الاتفاق على روايته بالرفع، وتوجيهاً من وجهين:
89- أحدهما: أن ابن مالك قال في غير موضع أن سد الحال مسد الخبر إنما يصح إذا لم يصلح جعل الحال خبراً، مثل: ضربي زيداً قائماً، وأكثر شربي السويق ملتوتاً، إذ لا يصح جعل ((قائم)) خبر الضرب، ولا ((ملتوت)) خبراً لأكثر.
قال: فأما ما جاء من ذلك وهو يصلح للخبرية كما في بعض الروايات: ((كانوا يصلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقدي أزرهم، وفي بعض روايات ((صحيح البخاري)) من قول صاحبة المزادتين: ((عهدي بالماء أمس هذه الساعة ونفرنا(1/330)
خلوفاً))، وكذلك القراءة التي تعزى إلى علي رضي الله عنه: (ونحن عصبةً) بالنصب، فكل ذلك مؤول، وتقدير الكلام: وهم مؤتزرون عاقدي أزرهم، ونفرنا متروكون خلوفاً، ونحن نحفظه عصبةً، وذلك كله شاذ لا يكاد يستعمل إلى سد الحال مسد الخبر، مع صلاحيتها للخبرية، وإذا كان شاذاً فكيف يؤول الحديث عليه مع عدم صحة الرواية بالنصب.
90- وثانيهما: أن المواضع التي يسد الحال فيها مسد الخبر يلزم فيها حذف الخبر، ولا يجوز الإتيان به كما في: ضربي زيداً قائماً وأمثاله، لأن الأصل فيه: إذا كان قائماً، ثم حذف الظرف الواقع خبراً، وأنيب الحال منابه، فلا يجوز إظهار الخبر لئلا يجمع بين العوض والمعوض، صرح بذلك جماعة من أئمة العربية، وهنا يصح الإتيان بالخبر الذي قدره، وهو مبذول، فلا يصح نصبه هنا على ما قدره.
91- وقد حكى ابن عبد البر عن قوم من أهل البصرة، منهم ابن علية أن هذا الحكم مما خص به نبينا صلى الله عليه وسلم زيادة في فضله، وكأن هذا القائل تعلق بقوله: {وورث سليمان داود}، وقوله تعالى: {يرثني ويرث من آل يعقوب}، والصحيح أن هذا الحكم عام في جميع الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وهو الذي عليه جمهور العلماء.
92- وقد روى الدارقطني الحديث الذي سقناه من طريق عبد الله ابن أبي أمية النحاس، عن مالك، ولفظه: ((إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة)).
93- وكذلك روى أبو بكر الحميدي في ((مسنده))، عن سفيان بن عيينة،(1/331)
عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو صدقة)).
94- وهذا الإسناد على شرط ((الصحيحين)).
95- فأما الآيتان، فكل منهما مطلق فيما يتعلق بالموروث، لا عموم له، وهذه الأحاديث تنبئ أن المراد بذلك ميراث النبوة، والعلم، والحكمة، لا ميراث المال، والله سبحانه وتعالى أعلم.
96- أخبرنا أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن محمد بن طرخان الصالحي بقراءتي عليه قال: أنا أبو العباس أحمد بن عبد الدائم المقدسي، أخبرنا بركات ابن إبراهيم القرشي، أنا أبو الحسن علي بن المسلم السلمي، أنا أبو القاسم علي بن محمد بن أبي العلاء، أنا أبو علي أحمد بن عبد الرحمن بن أبي نصر، أنا أبو سليمان محمد بن عبد الله بن زيد، ثنا أبو بكر أحمد بن محمد الباروذي بالرملة، ثنا حميد بن عياش السافري، ثنا مؤمل بن إسماعيل، ثنا عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة أرسل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ((إني أوصيك بوصية إن أنت قبلتها عني، إن لله عز وجل حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وإن لله عز وجل حقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإنه عز وجل لا يقبل النافلة حتى تؤدي الفريضة، ألم تر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه في الآخرة في اتباعهم الحق في الدنيا، وثقل ذلك عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا حق أن يتثقل. ألم تر أنما خفت موازين من خفت موازينه في الآخرة في اتباعهم الباطل، وخفة ذلك عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف. ألم تر أن الله أنزل آية الرخاء عند آية الشدة، وآية الشدة عند آية الرخاء؛ لكي يكون العبد راغباً راهباً، لا يلقي بيديه إلى التهلكة، لا يتمنى على الله غير الحق، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يكون غائب أحب إليك من(1/332)
الموت، ولا بد لك منه، وإذا أنت ضيعت وصيتي فلا يكون غائب أبغض إليك من الموت، ولن تعجزه)).
97- أنشدني العلامة الأوحد فريد عصره أبو الثناء محمود بن سليمان بن فهد الحلبي بقراءتي عليه لنفسه يمدح سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم:
عسى وقفةً بالركب يا حادي الركب ... لأسأل ما بين المحامل عن قلبي
فعهدي به لما استلقت ركابكم ... وقد قال للساري إلى طيبة سر بي
تناديتم عند الأصايل بالسرى ... سحيراً فلباكم على عجلٍ لبي
وخلفتم المضنى على وصف دمعه ... غراماً فقل ما شئت في الصب
ويممتم أرض الحجاز فحسبكم ... بلغتم مناكم والأسى بعدكم حسبي
كلانا سواء في السهاد وإنما تدانى ... بكم وولى السهاد إلى القرب
غداً يبلغ الساري مناه وينقضي ... عناه ويخلو بالأسى الوادع الجنب
وهل وادع في القوم من عقد الجوى ... لجفنيه ما بين الأساود والهدب
يقول لريح ظن أن قد سرت بهم ... أرحت الجوى هبي على كبدي هبي
وقد تعقد الأقدار من قل حظه ... على أنه وافى الهوى واقد الحب
ولكنني لم أتهم في تأخري على ... كثرة الأسباب شيئاً سوى ذنبي
ولولاه ما نادى المنادي إلى الحمى ... وما أنا في أولي الركائب والركب
فإن تعبت الأيام لم يبق لي إذا ... بلغت المنى منهم على الدهر من عتب
وأبسط آمالي وأوقن باللقا ... وأهتف من عجبي بحادي السرى عج بي(1/333)
فهل فيكم من حامل لي ضراعة ... إلى شافعي في يوم حشري إلى ربي
إلى خير مخلوق وآخر مرسل ... وأشرف مبعوث إلى العجم والعرب
إلى خير حافٍ في البرايا وناعل ... وأكرم واطئ في الأنام على الترب
إلى خير من تشدو الرفاق بذكره ... فيسري الهوى والشوق منهم إلى النجب
إلى شافع العاصين عند إلاههم ... ومنقذهم في الحشر من غمرة الكرب
ومن أنزل الرحمن ذكر صفاته ... وأمته الوسطى على ألسن الكتب
وصرح عيسى باسمه وكذلك الكليم ... مناجي الرب بالجانب الغربي
فبالله بلغه تحية قاصدٍ ... غدا من خطاياه على مركب صعب
وأد إليه شوق قلبٍ مدلهٍ ... وعين غدت بالدمع هامية الغرب
وكرر سلامي واسأل الله لي به ... لا تغني من أمر قبل أن ينقضي نحبي
عسى نفحة يصفو بها ظل جاعه ... علي ويصفو لي بموردها شربي
عليه صلاة الله ما هبت الصبا ... وما [ .. .. ] الثور من أديم السحب
الحديث الثاني: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
98- أخبرنا شيخنا العلامة المسند قاضي القضاة بركة العلماء رحلة الوقت أبو الفضل سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر ابن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد ابن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الحنبلي رحمة الله عليه بقراءتي عليه قال: أنا أبو المنجا عبد الله بن عمر بن علي بن اللتي قراءةً عليه وأنا أسمع، أنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب الصوفي، أنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداوودي، أنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي، أنا إبراهيم بن خزيم الشاشي، ثنا عبد بن حميد، أنا جعفر بن عون (ح).(1/334)
99- وقال شيخنا هذا أيضاً فيما قرئ عليه وأنا أسمع: أنا أبو الحسن علي ابن أبي عبد الله بن أبي الحسن ابن المقير البغدادي قراءةً عليه وأنا حاضر، أنا أبو الحسين عبد الحق بن عبد الخالق بن أحمد بن عبد القادر بن يوسف، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي العلاف، أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المقرئ، ثنا علي بن عبد الرحمن بن ماتي، ثنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة، ثنا جعفر بن عون، عن أبي عميس، عن قيس بن مسلم (ح).
100- وقال شيخنا هذا أيضاً فيما قرأت عليه غير مرة: أنا أبو الفضل جعفر ابن علي بن هبة الله المالكي سماعاً عليه، أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد السلفي، أنا أبو عبد الله القاسم بن الفضل بن أحمد الثقفي، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران، أنا أبو جعفر محمد بن عمرو ابن البختري الرزاز، ثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي (ح).
101- وقال شيخنا أبو الفضل أيضاً فيما سمعت عليه مرة أخرى، أنا عبد الله بن عمر ابن اللتي، أنا أبو المعالي محمد بن محمد بن محمد ابن اللحاس، أنا أبو عبد الله الحسيني بن محمد بن السراج، أنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان، ثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد ابن السماك، ثنا أحمد ابن عبد الجبار العطاردي، ثنا عبد الله بن إدريس، عن أبيه، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: قال يهودي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أما لو علينا معشر يهود نزلت هذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} نعلم اليوم الذين نزلت فيه، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال عمر رضي الله عنه: ((قد عرفت الموضع الذي نزلت فيه، واليوم والساعة، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بعرفة عشية جمعة)).(1/335)
102- هذا لفظ عبد الله بن إدريس.
103- وفي رواية جعفر بن عون: قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو أن علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأي آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية، فقال عمر رضي الله عنه: ((إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات يوم الجمعة)).
104- هذا حديث صحيح، رواه البخاري عن الحسن بن الصباح البزاز، ومسلم عن عبد بن حميد، كلاهما عن جعفر بن عون، كما رويناه عنه، فوقع بدلاً للبخاري، وموافقة لمسلم عاليين.
105- وأخرجه مسلم أيضاً عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وأبي كريب، كلاهما عن عبد الله بن إدريس، فوقع لنا في طريقه بدلاً له عالياً أيضاً، ولفظه في هذه الرواية: ((نزلت ليلة جمع ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات)).
106- ورواه مسلم أيضاً من طريق سفيان الثوري، عن قيس بن مسلم به.
107- عمر رضي الله عنه هو أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العدوي.
108- وأمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب.
109- وقيل: حنتمة بنت هشام بن المغيرة، والأول أقوى.(1/336)
110- فأبو جهل ابن هشام عدو الله هو ابن عم أمه.
وعلى القول الثاني يكون أخا أمه.
111- ولد عمر رضي الله عنه بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، وكان من أشراف قريش في الجاهلية، سفيراً بينهم وبين غيرهم.
112- وأسلم بعد أربعين رجلاً أو نحوهم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له أن يعز الله به الإسلام، فكان كذلك.
113- قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((كان إسلام عمر رضي الله عنه فتحاً، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمامته رحمة، ولقد رأيتنا ما نستطيع أن نصلي في البيت، فلما أسلم قاتلهم حتى تركونا فصلينا)).
114- وعن حذيفة رضي الله عنه قال: ((لما أسلم عمر رضي الله عنه كان الإسلام كالرجل المقبل لا يزداد إلا قرباً، فلما قتل عمر كان الإسلام كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعداً)).
115- وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها، وروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم خمس مئة حديث وسبعة وثلاثون حديثاً، اتفق البخاري ومسلم منها على ستة وعشرين حديثاً، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين، ومسلم بإحدى وعشرين.(1/337)
116- وروى عنه جلة الصحابة وأكابرهم، وأئمة التابعين وقدماؤهم ممن يطول الكلام بذكرهم، وفضائله ومناقبه ومآثره في الإسلام أولاً وآخراً متواترة مشهورة، يحتمل بسطها مجلدات عدة، ونزل القرآن بموافقته في أسرى بدر، وفي الحجاب، وفي تحريم الخمر، وفي مقام إبراهيم، وفي خطاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
117- وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)).
118- وقال له صلى الله عليه وسلم لما استأذنه في العمرة: ((لا تنسنا يا أخي من دعائك)).
119- وقال له صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك)).
120- وقال صلى الله عليه وسلم: ((لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب)).(1/338)
121- وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما)).
122- إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الصحيحة المشهورة، وعهد إليه أبو بكر رضي الله عنه بالخلافة، وقال: ((استخلفت عليهم خيرهم))، فقام بها قياماً لم يقم به غيره، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في المنام الذي أشار به إلى ذلك بقوله: ((فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه)).
123- فجيش الجيوش، ومصر الأمصار، وفتح البلدان، وأعز الله به الإسلام، وأذل الكفر، ففتح الشام، والعراق، ومصر، والجزيرة، وديار بكر، وأرمينية، وأذربيجان، وإران، وبلاد الجبل، وبلاد فارس، وخوزستان، وغيرها.
124- وهو أول من سمي أمير المؤمنين، وطعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة ابن شعبة، وهو قائم في صلاة الصبح يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وعشرين، وتوفي بعد ذلك بليلتين، أو ثلاث، ودفن(1/339)
بالحجرة الشريفة مع صاحبيه يوم الأحد هلال المحرم سنة أربع وعشرين، وقيل: قبل ذلك بيوم أو يومين.
وكانت مدة خلافته عشر سنين، وخمسة أشهر، وأحد وعشرين يوماً، و[نزل] الإسلام بموته درجة عظيمة، رضي الله عنه وأرضاه، وأرانا وجهه في جنات عدن بفضله.
فصل
125- قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: شرائع دينكم.
واختاره المحققون، لأنها نزلت نجوماً، وآخر ما نزل هذه الآية، ولم ينزل بعدها حكم.
وقيل: المراد بالإكمال رفع النسخ عنه، فإنه لم ينزل بعدها ما ينسخ شيئاً من الأحكام.
126- وعن قتادة: يعني أمر حجكم، إذ لم يحج في تلك السنة مشرك، ولا طاف بالبيت عريان، ووقف الناس كلهم بعرفة، فحمل الدين على بعض خصوصياته، والأول أقوى لحمله على العموم.
127- وقوله تعالى: {وأتممت عليكم نعمتي} أي: بإكمال الشرائع والأحكام، وإظهار دين الإسلام.
128- وأما قوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام ديناً}، فقيل: معناه أعلمتكم برضائي به لكم ديناً، فإنه تعالى لم يزل راضياً بالإسلام لنا ديناً، فلا يكون لاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة لو حملناه على ظاهره.(1/340)
129- وقيل: معناه ورضيت لكم الإسلام ديناً قائماً بكماله لا أنسخ منه شيئاً.
130- وقد تضمن هذا الحديث المراد بهذا اليوم يوم عرفة، وجاء عن مجاهد أنه فتح مكة.
وهذا الحديث الصحيح يرده.
131- ووقع في رواية عبد الله بن إدريس عند مسلم: ((نزلت ليلة جمع))، والمراد بذلك ليلة المزدلفة، وكان نزولها عشية عرفة، فأطلق على ذلك أنه ليلة جمع توسعاً، وإلا فقد صرح عمر رضي الله عنه أنها نزلت بعرفة.
132- وفي هذا الحديث من فضل يوم عرفة ما لا يكاد يخفى، والأصح من مذهب الشافعي أنه أفضل من يوم الجمعة، وليس هذا موضع بسط الكلام في ذلك.
133- ويوم نزول هذه الآية اجتمع الوصفان من يوم الجمعة ويوم عرفة، فكان أفضل الأيام على الإطلاق.
134- وقد أخذ السهيلي من هذا الحديث إشكالاً على ما ذهب إليه الجمهور من أنه صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، لأنه لا يمكن التوفيق بين كون يوم الجمعة يوم عرفة، وكون الثاني عشر من ربيع الأول الآتي بعده يوم الاثنين، سواء جعلنا الشهور كاملة كلها أو ناقصة، أو بعضها كاملاً، وبعضها ناقصاً، كما يدرك ذلك بالحساب، وقد رأيت في عبارة بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فيكون ذلك(1/341)
اليوم الثالث عشر، ويمكن مجيء يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الأول على بعض التقادير.
135- وذكر الطبري عن بعضهم أن وفاته صلى الله عليه وسلم كانت يوم الاثنين ثاني ربيع الأول، وهو صحيح أيضاً على بعض التقادير، والله سبحانه أعلم.
136- أخبرنا أبو المعالي أحمد بن محمد بن معالي بن عبيد الله بن حجر الرنداني، ثم الصالحي في آخرين قراءة عليهم وأنا أسمع، قالوا: أنا أبو عبد الله محمد ابن إسماعيل بن أحمد المقدسي، أنا هبة الله بن علي بن مسعود البوصيري، أنا يحيى بن المشرف بن علي التمار، أنا أحمد بن سعيد بن نفيس المقرئ، أنا علي بن الحسين بن بندار القاضي، ثنا أبو طاهر الحسن بن أحمد ابن فيل، ثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، ثنا أبو أسامة، ثنا عبد الله بن المبارك، عن عمر بن سعيد، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ((دخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طعن بعد ما وضع في أكفانه، فإذا رجل يزحمني، فتنحيت فإذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فتنحيت فزحمني عليه فقال: ما أحد أحب إلي من أن ألقى الله تعالى بما في صحيفته منك، وإن كنت لأرجو أن يلحقك الله عز وجل مع صاحبيك، فطالما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خرجت أنا وأبو بكر وعمر، وفعلت أنا وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما)).
137- وبه إلى ابن فيل قال: ثنا هارون بن داود، ثنا يزيد بن هارون، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: ((دعا عمر رضي الله عنه بلبن بعدما طعن، فخرج من جراحه فقال: الله أكبر، فجعل جلساؤه يثنون عليه، فقال: من غررتموه لمغرور، والله لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها، والله لو كان لي ما(1/342)
طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع)).
138- أخبرنا أبو العباس أحمد بن سلمان بن سالم الأرزوني بقراءتي عليه، عن أبي طالب عبد اللطيف بن محمد القبيطي، أنا محمد بن عبد الباقي الحاجب، أنا الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي الحافظ، أنشدنا أبو مروان عبد الملك بن سليمان الخولاني، أنشدنا أبو عبد الله محمد بن السري، أنشدنا الأنطاكي المغربي المناسكي:
أصبحت قد شف قلبي خوف عليه مقيم ...
خوفٌ تمكن مني والقلب مني سقيم ...
لولا رجائي لوعدٍ وعدته يا كريم ...
في سورة الحجر نصًّا لقابلتني الغموم ...
على لسان نبي قلبي لديه عليم ...
نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ...
فقد وثقت بهذا والقلب مني يهيم ...
من آيةٍ أذهلتني فيها وعيدٌ جسيم ...
هي التي قلت فيها والقول منك حكيم ...
ألا وإن عذابي هو العذاب الأليم ...
فالقلب بين رجاء وبين خوف يعوم ...(1/343)
الحديث الثالث عن عثمان بن عفان رضي الله عنه
139- أخبرنا الشيخ الزاهد أبو القاسم هبة الله بن محمود بن هبة الله بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن أبي الفضل بن قرناص الحموي بقراءتي عليه بمدينة حماة قال: أنا العلامة أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصاري سماعاً عليه، أنا أبو محمد عبد الله بن أحمد ابن أبي المجد الحربي، أنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبد الواحد، أنا أبو علي الحسن بن علي اليمني، أنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا شعبة، عن جامع بن شداد قال: سمعت حمران بن أبان يحدث عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أتم الوضوء كما أمره الله فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن)).
140- وأخبرناه أعلى من هذه الطريق بدرجة أبو الفداء إسماعيل بن يوسف السويدي سماعاً عليه، أنا أبو المنجا عبد الله بن عمر بن علي، أنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى، أنا عبد الرحمن بن محمد بن المظفر، أنا عبد الله بن أحمد ابن حمويه، أنا إبراهيم بن خزيم، ثنا عبد بن حميد، ثنا سليمان بن داود، عن شعبة به كما سقناه.
141- هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه.
142- وعن محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار كلاهما عن محمد بن جعفر، كلاهما عن شعبة به.
143- فوقع عالياً عنه في الرواية الثانية بدرجتين.(1/344)
144- عثمان بن عفان رضي الله عنه هو أمير المؤمنين أبو عمرو وأبو عبد الله أيضاً، ويقال: أبو ليلى عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي.
145- وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف.
146- وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم.
147- ويقال له: ذو النورين لتزوجه بابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية وأم كثلوم، تزوج أولاً برقية رضي الله عنها، وهاجرا جميعاً إلى الحبشة، ثم توفيت عنده أيام بدر، وبسببها تخلف عن غزوة بدر، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، ثم تزوج بعدها بأم كلثوم رضي الله عنها أختها إلى أن توفيت عنده سنة تسع.
148- ويقال: إنه لا يعرف أحد جمع ابنتي نبي غيره رضي الله عنه.
149- وهو قديم الإسلام، وهاجر الهجرتين؛ إلى الحبشة وإلى المدينة، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة في الحديث الصحيح.
150- روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة حديث وستة وأربعون حديثاً، اتفق الشيخان على إخراج ثلاثة منها، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بخمسة أحاديث.
151- روى عنه من الصحابة: ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وزيد بن خالد الجهني، وأنس بن مالك، وسلمة بن الأكوع، وغيرهم رضي الله عنهم.
152- ومن التابعين أولاده: أبان، وسعيد، وعمرو، ومولاه حمران، ومحمد ابن الحنفية، وعلقمة، وأبو عبد الرحمن السلمي، وآخرون.(1/345)
153- وفي ((الصحيحين)) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه حين استأذن عثمان: ((ائذن له وبشره بالجنة معها بلوى تصيبه)).
154- وأن النبي صلى الله عليه وسلم تجلل بثوبه حين دخل عليه عثمان رضي الله عنه وقال: ((ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة)).
155- وقال أنس رضي الله عنه: صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحداً ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنه، فرجف بهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اسكن فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان)) أخرجه البخاري.
156- ولما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم بيعة الرضوان كان قد بعث عثمان رسولاً عنه إلى أهل مكة، فبايع النبي صلى الله عليه وسلم عنه بإحدى يديه على الأخرى.
157- قال أنس: ((فكانت يدا النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان خيراً من أيديهم لأنفسهم)).
158- وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ((كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نفاضل بينهم)). أخرجه البخاري.
ومناقبه وفضائله كثيرة جداً.(1/346)
159- وقد جهز جيش العسرة بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما على عثمان ما عمل بعد هذه)).
160- واتفقت الأمة عليه خليفة بعد عمر رضي الله عنه، وبايعه الخمسة الآخرون من أهل الشورى، وجميع الناس.
161- وقال ابن مسعود رضي الله عنه يومئذ: ((بايعنا خيراً ولم نأل)).
162- ففتح في أيامه خراسان، وأرمينية، والنوبة، والبحر، وغزيت إفريقية، وكثر المال جداً، إلى أن حصره الخارجون المارقون بالمدينة في داره مدة شهرٍ أو أكثر، ثم قتلوه شهيداً رضي الله عنه يوم الجمعة لثمان عشرة خلون من ذي الحجة، سنة خمس وثلاثين، ودفن بعد يومين ليلاً بالبقيع في بستان يقال له: حش كوكب.
163- واختلف في سنه ما بين ثلاث وثمانين سنة إلى تسعين، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا ليالي رضي الله عنه.(1/347)
فصل
164- قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أتم الوضوء كما أمره الله))، أي: يفعل الواجب، وقد جاء ذلك مبيناً في ((صحيح مسلم)) من حديث عمرو بن عبسة بالتنصيص على طهارة كل عضو.
165- وفيه من رواية ابن خزيمة في ((صحيحه)): ((ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله)).
166- وظاهر هذا الحديث أن الصلاة هي المكفرة للذنوب، وفي الأحاديث الأخر في الصحيح أن الوضوء بمجرده يكفر الذنوب، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا غسل وجهه خرجت خطايا وجهه من فيه وخياشيمه حتى تخرج مع الماء أو مع آخر قطر الماء)) الحديث.
167- وقال في آخره: ((حتى يخرج نقياً من الذنوب)).
168- فقيل في الجمع بينهما بأن هذه الأحاديث المطلقة مردودة إلى المقيدة بالصلاة، وليس ذلك بالقوي، لأن كلاًّ منهما مقيد ليس بمطلق.
169- وقيل: إن ذلك يختلف بحسب اختلاف الأشخاص، فالذي اقتصر على فرائض الوضوء مثلاً يتوقف تكفيره الذنوب على فعل الصلوات، بخلاف من أتى فيه بالسنن، والآداب المشروعة، وحصل له من الحضور مراعاة الأدب فيه ما لم [يقم به] الأول، فهذا يكون وضوءه مستقلاًّ بالتكفير، وفي هذا أيضاً نظر،(1/348)
والحق أن الوضوء بمجرده يحتمل به التكفير، وكذلك الصلوات بمجردها، لكن إنما تكون مكفرة عند وجود الوضوء لها، وإلا لم تكن شيئاً لعدم شرطها، فلذلك اشترط في تكفير الصلاة في هذا الحديث إتمام الوضوء قبلها، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر في الصحيح: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إلا الكبائر)).
170- فلا منافاة بين أن يكون كل من الوضوء بمجرده والصلاة وحدها مكفراً.
171- فإن قيل: فإذا استقل الوضوء بذلك فماذا تكفره الصلاة، وكذلك القول في الجمعة مع بقية الصلوات، وفي رمضان مع البقية، وفي موافقة تأمين الملائكة، وكل ما روي في الحديث أنه مكفر مع البقية؟
172- قلنا: المقصود من جميع الأحاديث أن كل واحد من هذه صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر وإلا نرجو من فضل الله أن يخفف به من الكبائر، أو يكتب به حسنات إن لم يجد شيئاً يكفره من الذنوب، وعلى كل حال فهذا الحديث الذي سقناه وما أشبهه مما سبقت الإشارة إليه مخصوص بشيئين:
173- أحدهما: الكبائر كما صرح به في أحاديث صحيحة، لأن الكبائر لا يسقطها إلا التوبة منها، قال الله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} أي: جميع سيئاتكم من الكبائر والصغائر.
174- ومن العلماء من حمل هذا على ظاهره، وجعل تكفير هذه الأعمال التي جاءت في الأحاديث المتقدمة للصغائر مشروطاً باجتناب الكبائر، ومع الإتيان(1/349)
بالكبائر لا يكفر شيء من الصغائر، والصحيح أن هذه الأعمال تكفر الذنوب الصغائر وإن كان ثم كبائر، كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((مكفرات لما بينهن إلا الكبائر)).
175- وظاهر الآية المتقدمة محمولٌ على ما أشرنا إليه من العموم.
176- وللفرق بين الكبائر والصغائر موضع غير هذا، وقد بسطته في كتاب مفرد.
177- وثانيهما: ما كان من الذنوب متعلقاً بآدمي، إما في عرضه أو ماله، أو نحو ذلك، فإن تكفيره موقوف على تحليل صاحبه منه كما دلت عليه الأدلة الكثيرة، ولا خلاف فيه، وما عدا هذين القسمين فالحديث وما أشبهه شامل له، والله أعلم.
178- أخبرنا أبو المعالي محمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد ابن البالسي قراءةً عليه وأنا أسمع سنة عشر وسبعمائة قال: أنا أبو العباس أحمد بن المفرج بن علي الأموي سماعاً عليه، وأبو طالب عبد اللطيف بن محمد بن علي إذناً قالا: أنا محمد بن عبد الله بن العباس الحراني، الأول إجازة، والثاني سماعاً، أنا هبة الله بن عبد الرزاق الأنصاري (ح).
179- وأخبرنا متصلاً أبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم، أنا محمد بن إبراهيم الإربلي، أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، أنا طراد بن محمد الزينبي قالا: ثنا هلال بن محمد الحفار، ثنا الحسين بن يحيى بن عياش، ثنا أبو(1/350)
الأشعث، ثنا عبد الأعلى، عن هشام بن حسان، عن واصل، عن عمرو بن هرم، عن عبد الحميد بن محمود قال: ((كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما، فأتاه رجل فقال: أقبلنا حجاجاً حتى إذا كنا بالصفاح توفي صاحب لنا، فحفرنا له، فإذا أحد قد أخذ اللحد، ثم حفرنا قبراً آخر فإذا أسود قد أخذ اللحد، قال: فحفرنا قبراً آخر فإذا أسود قد أخذ اللحد، قال: فتركناه، وأتيناك نسألك ما تأمرنا قال: ذلك عمله الذي كان يعمل، اذهبوا فادفنوه في بعضها، فوالله لو حفرتم له الأرض كلها لوجدتم ذلك، قال: فألقيناه في قبرٍ منها، قال: فلما قضينا سفرنا أتينا امرأته فسألناها عنه فقالت: كان رجلاً يبيع الطعام، فيأخذ قوت أهله كل يوم، ثم يأخذ من قصب الشعير فيقطعه، فيخلطه في طعامه، وكان يأكل ما كان يأخذ)).
180- أنشدنا الشيخ الصالح أبو زكريا يحيى بن أحمد بن نعمة بن أحمد بن حسن المقدسي فيما قرئ عليه وأنا أسمع قال: أنشدنا أبو محمد عبد العزيز ابن محمد بن عبد المحسن الأنصاري، أنشدنا أبو زكريا يحيى بن القاسم بن درع لنفسه:
يا جامع المال ما أعددت للحفر ... هل يغفل الزاد من أضحى على سفر
أفنيت عمرك في دنياك تعمرها ... وا خيبة السعي بل وا ضيعة العمر
قف في ديار بني اللذات معتبراً ... وانظر إليها ولا تسأل عن الخبر
ففي الذي فعلت أيدي الشتات بهم ... من بعد ألفتهم مغنىً لمعتبر
180- وأنشدنا أيضاً قال: أنشدنا عبد العزيز هذا، أنشدنا أبي لنفسه:
اقنع بأيسر ميسورٍ من الزمن ... واشكر لربك ما أولاك من منن(1/351)
واذكر ملابس من عدنٍ يخص بها ... ذوو التقى واهجر الأبراد من عدن
إن شئت أن تدخل الجنان مجتنياً ... قطوفها فتوق النار بالجنن
وعاشر الناس بالمعروف مجتهداً ... وراقب الله في سر وفي علن
الحديث الرابع: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
182- أخبرنا العدل المرضي، الحبر أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن العسقلاني بقراءتي عليه قال: أنا أبو إسحاق إبراهيم ابن عمر بن مضر الواسطي، أنا أبو الحسن المؤيد بن محمد بن علي الطوسي، أنا أبو محمد هبة الله بن سهل بن عمر السيدي، أنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن أحمد البحيري، أنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي (ح).
183- وأخبرنا أعلا من هذا بدرجة شيخنا أبو الفضل سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر المقدسي بقراءتي وسماعاً أيضاً قال: أخبرتنا أم الفضل كرمة بنت عبد الوهاب بن علي القرشي سماعاً، والزاهد أبو حفص عمر بن محمد بن عموية السهروردي، وأبو عبد الله محمد بن عماد الحراني، وآخرون إذناً قالوا: أنا أبو الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد ابن البطي، -كريمة إجازة والباقون سماعاً-، أنا أبو عبد الله مالك بن أحمد بن علي البانياسي، أنا أبو الحسن أحمد ابن محمد بن الصلت المجبر، أنا إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، ثنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري، عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي، عن أبيهما، عن علي رضي الله عنه: ((أن(1/352)
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية)).
184- هذا حديث متفق على صحته من هذا الوجه، رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف في (الذبائح)، وفي (المغازي)، عن يحيى بن قزعة.
185- وأخرجه مسلم في (النكاح) عن يحيى بن يحيى، ثلاثتهم عن مالك ابن أنس الإمام به، فوقع بدلاً لهما عالياً.
186- وأخرجه مسلم أيضاً عن عبد الله بن محمد بن أسماء، عن عمه جويرية بن أسماء.
187- ورواه ابن ماجه عن محمد بن يحيى الذهلي، عن بشر بن عمر، كلاهما عن مالك به، فوقع لنا في الرواية الثانية عالياً عن هاتين الطريقين بثلاث درجات.
188- وأخرجه الترمذي والنسائي جميعاً عن محمد بن [بشار]، عن عبد الوهاب الثقفي، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن صاحبه مالك بن أنس به، فوقع لنا عالياً عنهما بأربع درجات.
189- وقد رواه النسائي في ((جمعه حديث مالك)) عن زكريا بن يحيى المعروف بخياط السنة، عن إبراهيم بن عبد الله بن حاتم، عن سعيد بن عمرو الأشعثي، عن عبثر بن القاسم، عن سفيان الثوري، عن مالك به.(1/353)
190- فباعتبار العدد إلى مالك كأن شيخي في الرواية الثانية رواه عن النسائي، وكأني سمعته من صاحبه.
191- وللحديث عندهم طرق أخر غير هذه إلى الزهري.
192- علي رضي الله عنه هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخوه بالمؤاخاة، وصهره على فاطمة سيدة نساء العالمين، وأبو السبطين، ورابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، والستة الذين قال عمر رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض.
193- وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف الهاشمية، أسلمت وهاجرت رضي الله عنها، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي، وعلي رضي الله عنه أول خليفة من بني هاشم، وهو أحد السابقين إلى الإسلام.
194- وذهب طائفة إلى أنه أسلم قبل أبي بكر رضي الله عنهما، قاله ابن عباس، وأنس، وزيد بن أرقم، وسلمان الفارسي رضي الله عنهم.(1/354)
195- واختلف في سنه حال الإسلام من ثمان سنين إلى خمس عشرة سنة، والأرجح أنه كان له نحو عشر سنين، رضي الله عنه.
196- وروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثاً، اتفق الشيخان منها على عشرين حديثاً، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر حديثاً.
197- روى عنه خلق كثير، منهم من الصحابة: ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وأبو موسى الأشعري، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن سمرة، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأبو أمامة، وابناه الحسن والحسين، وغيرهم رضي الله عنهم.
198- وأما من التابعين فمن يطول الكلام بذكرهم، كابنه محمد ابن الحنفية، والأحنف بن قيس، وزر بن حبيش، وشريح القاضي، ومسروق، وعلقمة، وعبيدة السلماني، ومن لا يحصى كثرة.
199- وفضائله، وعلمه، وشجاعته، وزهده أشهر من أن تذكر، ولم يتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في مشهد إلا في غزوة تبوك، فإنه خلفه في أهله، وقال له يومئذ: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)).
200- رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة.
201- وقال صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)).(1/355)
202- رواه أيضاً طائفة آخرون، وزاد بعضهم: ((اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه))
203- وقال صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ليس بفرار، يفتح الله على يديه، ثم دعا علياً رضي الله عنه وهو أرمد فتفل في عينيه، وأعطاه الراية، ففتح الله على يديه)).
204- وبعثه صلى الله عليه وسلم سنة تسع إلى الموسم بقراءة براءة على الناس، وقال: ((لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني)).
205- وكذلك خلفه بمكة يؤدي ودائعه لما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقام بعده ثلاثة أيام، ثم لحقه.
206- وبعثه صلى الله عليه وسلم أيضاً إلى اليمن ليقضي بينهم، فقال: يا رسول الله إني لا أدري ما القضاء، فضرب صدره، وقال: ((اللهم اهد قلبه، وسدد لسانه))، قال علي رضي الله عنه: فوالله ما شككت في قضاء بين اثنين.
207- وقال علي رضي الله عنه: ((والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق)).(1/356)
208- والأحاديث في هذا الباب كثيرة، يطول بها الكلام.
209- وقال عمر رضي الله عنه: ((علي أقضانا)).
210- وكان يقول: ((أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن)).
211- وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ((كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي رضي الله عنه)).
212- وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ((أعطي علي تسعة أعشار العلم، ووالله لقد شاركهم في العشر الباقي، وإذا ثبت لنا الشيء عن علي لم نعدل إلى غيره)).
213- وقال سعيد بن المسيب: ((ما كان أحد يقول سلوني غير علي رضي الله عنه)).
214- وكان له من الولد أربعون ولداً من الذكور والإناث، وبويع له بالخلافة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قتل عثمان رضي الله عنه، لكونه أفضل الصحابة(1/357)
حينئذ، فكانت مدة خلافته خمس سنين إلا شهراً، وقتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي أحد الخوارج، ضربه صبيحة ليلة الجمعة سابع عشر شهر رمضان سنة أربعين، وتوفي رضي الله عنه شهيداً ليلة الأحد تاسع عشر رمضان المذكور، وهو يومئذ أفضل من على وجه الأرض رضي الله عنه.
فصل
215- تضمن هذا الحديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن شيئين:
أحدهما: نكاح المتعة، وهو النكاح الواقع إلى أجل مشروط حالة العقد، وقد كان مباحاً أول الإسلام، وعليه دل قوله تعالى: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضةً} على أحد الأقوال في تفسيرها، وثبت في إباحتها أيضاً أحاديث صحيحة، ثم ثبت تحريمها في عدة أحاديث، منها هذا المقيد بزمن خيبر.
216- ومنها حديث سبرة الجهني في ((الصحيح))، وهو مقيد بزمن فتح مكة، وأصح طريق يجمع بها بين الأحاديث أن تحريم نكاح المتعة وإباحتها وقع مرتين، فكانت مباحة أولاً، ثم حرمت زمن خيبر، كما ثبت في هذا الحديث،(1/358)
ثم أبيحت عقيب فتح مكة بها ثلاثة أيام فقط، ثم حرمت تحريماً مؤبداً، واستقر عليه أقوال الصحابة رضي الله عنهم.
217- وقد كان من ابن عباس إباحته لها في وقت، ثم إنه رجع لما روى له علي رضي الله عنه هذا الحديث، كما رواه النسائي في ((جمعه حديث مالك)) الذي سبقت الإشارة إلى سنده أنه قال لابن عباس: ((إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة عام خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية)).
218- فاستقر الإجماع منعقداً على تحريم النكاح إلا شذوذاً من الرافضة لا يعتد بخلافهم.
219- وأجمعوا على أنه متى وقع نكاح المتعة الآن حكم ببطلانه، سواء دخل بها أم لا، إلا زفر فإنه يلغي الأجل، ويصحح العقد مؤبداً.
220- وقد اختلف العلماء فيما إذا وطئ في نكاح المتعة هل يحد أم لا؟ ومذهب الشافعي عدم وجوب الحد، وهو مشكل لأنهم خرجوا ذلك(1/359)
على أن الإجماع بعد الخلاف هل يرفع الخلاف، وليس صورة المسألة، بل صورتها اتفاق العصر الواحد بعد الخلاف، ورجوع المخالف إلى قول الآخرين، والصحيح أن ذلك إجماع، وقد ثبت رجوع ابن عباس رضي الله عنه عن إباحتها إلى قول الجمهور، فصارت المسألة الآن إجماعية، واعتبار صورة العقد شبهة تدرأ الحد، فيه أيضاً نظر لا يحتمل هذا الموضع بسطه.
221- وأما تحريم لحوم الحمر الأهلية فهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الاستفاضة القوية، إن لم يكن متواتراً، فقد اتفقا عليه في ((الصحيحين)) من حديث علي رضي الله عنه الذي أخرجاه، وجابر بن عبد الله، والبراء بن عازب، وعبد الله ابن أبي أوفى، وأنس بن مالك، وابن عمر، وأبي ثعلبة الخشني، وابن عباس.
222- ورواه البخاري أيضاً من حديث سلمة بن الأكوع، والحكم بن عمرو الغفاري.(1/360)
223- ورواه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو هريرة، والعرباض بن سارية، وأبو سعيد الخدري، وأبو أمامة الباهلي، والمقدام بن معدي كرب، [وثابت بن] وديعة، وأبو سليط البدري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وزاهر الأسلمي، وخالد بن الوليد رضي الله عنهم، كل ذلك بأسانيد صحيحة أو حسنة قد نسقتها بكمالها في جزء مفرد.
224- وجاء عن ابن عباس أنه أبى القول بتحريمها.
وعنه أيضاً أنه تردد في النهي عنها يوم خيبر هل كان لتحريم ذاتها أو لكونها يومئذ حمولة الناس، فيكون النهي على وجه الكراهة، ثم ثبت عنه الجزم بتحريمها.(1/361)
225- وفي بعض طرق الأحاديث المتقدمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي)).
رواه المقدام بن معدي كرب بسند صحيح.
226- وفي الصحيحين عن أبي ثعلبة الخشني قال: ((حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية)).
227- وفي رواية أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ألا وإن مما حرم لحوم الحمر الأهلية)).
228- وهذه الأحاديث كلها تفيد القطع بالتحريم، وترد قول كل من قال بخلاف ذلك، وقد جاء في إباحتها حديثان:
229- أخرج أبو داود في ((السنن)) أحدهما من رواية غالب بن أبجر، وكل منهما ضعيف، مضطرب، لا يحتج به لو انفرد، فكيف مع معارضته الروايات المتواترة، ثم كل منهما محتمل للتأويل لحالة الاضطراب، والله سبحانه أعلم.
230- أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن صالح بن هاشم ابن العجمي الحلبي قدم علينا قراءةً عليه وأنا أسمع قال: أنا الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل بن عبد الله الدمشقي سماعاً عليه، أنا أبو طاهر علي بن سعيد بن علي بن فاذشاه بقراءتي عليه، أنا أبو علي الحسن بن أحمد المقدسي، أنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ، ثنا عبد الله بن جعفر بن فارس، ثنا محمد بن عاصم، ثنا(1/362)
شبابة، ثنا الفضيل بن مرزوق قال: سمعت الحسن بن الحسن أخا عبد الله بن الحسن، وهو يقول لرجل ممن يغلو فيهم: ((ويحكم أحبونا لله عز وجل، فإن أطعنا الله فأحبونا، وإن عصينا الله فأبغضونا، فقال له الرجل: إنكم ذوو قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، فقال: ويحكم لو كان الله نافعاً بقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير عمل لنفع بذلك من هو أقرب إليه منا أباه وأمه، والله إني لأخاف أن يضاعف للعاصي منا العذاب ضعفين، والله إني لأرجو أن يؤتى المحسن منا أجره مرتين، ثم قال: لقد أساء بنا آباؤنا وأمهاتنا إن كان ما يقولون من دين الله، ثم لم يخبرونا به، ولم يطلعونا عليه، ولم يرغبونا فيه، فنحن والله كنا أقرب منهم قرابة منكم، وأوجب عليهم حقاً، وأحق بأن يرغبونا فيه منكم، ولو كان الأمر كما تقولون إن الله ورسوله اختارا علياً رضي الله عنه لهذا الأمر، وللقيام على الناس بعده إن كان علي لأعظم الناس في ذلك خطيئةً وجرماً إذ ترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم فيه كما أمره ويعذر فيه إلى الناس. قال: فقال له الرافضي: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه))؟ قال: والله إن لو يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الإمرة والسلطان والقيام على الناس لأفصح لهم بذلك كما أفصح لهم بالصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج البيت، ولقال لهم: أيها الناس إن هذا ولي أمركم بعدي فاسمعوا له وأطيعوا، فما كان من وراء هذا شيئاً فإن أنصح الناس كان للمسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم )).
231- أنشدنا أبو عبد الله محمد بن أيوب بن أبي بكر الكتبي فيما قرئ عليه وأنا أسمع قال: أنشدنا أبو بكر عتيق بن أبي الفضل السلماني سماعاً عليه، أنشدنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر الدمشقي لنفسه:
واظب على جمع الحديث وكتبه ... واجهد على تصحيحه في كتبه(1/363)
واسمعه من أربابه نقلاً كما ... سمعوه من أشياخهم تسعد به
واعرف ثقات رواته من غيرهم ... كيما تميز صدقه من كذبه
فتفهم الأخبار تعرف حله ... من حرمه مع فرضه من ندبه
فهو المبين للعباد بشرحه ... سير النبي المصطفى مع صحبه
وتتبع العالي الصحيح فإنه ... قربٌ إلى الرحمن تحظى بقربه
وتجنب التصحيف فيه فربما ... أدى إلى تحريفه بل قلبه
واترك مقالة من لحاك بجهله ... عن كتبه أو بدعةٍ في قلبه
فكفى المحدث رفعةً أن يرتضى ... ويعد من أهل الحديث وحزبه
الحديث الخامس عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه
232- أخبرنا الشيخ الصالح المسند أبو البركات عبد الأحد ابن أبي القاسم ابن عبد الغني بن محمد بن تيمية الحراني بقراءتي عليه قال: أنا أبو المنجا عبد الله ابن عمر بن علي بن اللتي قراءة عليه وأنا حاضر في الخامسة، وقرأته أيضاً على شيخنا أبي الفضل سليمان بن حمزة وغيره أن أبا المنجا بن اللتي أخبرهم سماعاً قال: أنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى السجزي، أنا أبو عاصم الفضيل بن يحيى الفضيلي، أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن أبي شريح، ثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي، ثنا مصعب بن عبد الله الزبيري، حدثني مالك بن أنس، عن عمه أبي سهيل بن مالك، عن أبيه أنه سمع طلحة بن(1/364)
عبيد الله رضي الله عنه يقول: ((جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفهم ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطوع، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وصيام رمضان، قال: فهل علي غيره؟ قال: لا؛ إلا أن تطوع، قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة قال: فهل علي غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطوع، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق)).
233- هذا حديث صحيح من هذا الوجه، رواه البخاري عن إسماعيل ابن أبي [أويس]، ومسلم والنسائي عن قتيبة بن سعيد، وأبو داود عن القعنبي، ثلاثتهم عن الإمام مالك به، فوقع لنا عالياً عنه بثلاث درجات.
234- وأخرجاه في ((الصحيحين)) أيضاً من حديث إسماعيل بن جعفر، عن أبي سهيل بن مالك بنحوه.
235- طلحة رضي الله عنه هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان أخي عامر جد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كلاهما عثمان وعامر ابنا عمرو بن كعب بن سعد بن تيم ابن مرة.
236- وأمه الصعبة بنت الحضرمي أخت العلاء ابن الحضرمي، أسلمت، وهاجرت.
237- وهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين(1/365)
أسلموا على يد أبي بكر رضي الله عنه، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الذين رجف بهم الجبل، وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة.
238- روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وثلاثون حديثاً، اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري باثنين، ومسلم بثلاثة.
239- روى عنه بنوه: موسى ويحيى وعيسى وعمران وإسحاق، وابن أخيه عبد الرحمن بن عثمان، وأبو عثمان النهدي، وقيس بن أبي حازم، ومالك بن أوس بن الحدثان، وآخرون.
240- ولم يشهد بدراً، كان يومئذٍ غائباً بالشام، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، وشهد أحداً وما بعدها من المشاهد، وكان له يوم أحد البلاء العظيم، والغناء الكريم.
241- قالت عائشة رضي الله عنها: ((كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ذكر يوم أحد قال: ذاك يوم كان كله لطلحة، كنت أول من فاء فرأيت رجلاً يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه، فقلت: كن طلحة حيث فاتني ما فاتني، وقلت: يكون رجل من قومي، قال: فإذا بطلحة رضي الله عنه بضع وسبعون أقل أو أكثر بين طعنة، ورمية، وضربة، وإذا قد قطعت يده، فأصلحنا من شأنه رضي الله عنه.(1/366)
242- وفي جامع الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد: ((أوجب طلحة)).
243- وروي من وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((طلحة ممن قضى نحبه)).
244- وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين الزبير بن العوام رضي الله عنهما.
245- وكان واسع المال، كثير الكرم.
قال قبيصة بن جابر: ((ما رأيت رجلاً أعطى الجزيل من غير مسألة منه)).
246- وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماه بطلحة الجود، وطلحة الخير.
247- قتل شهيداً يوم الجمل، جاءه سهم غرب في ركبته لعشر خلون من جمادى الأولى، سنة ست وثلاثين، ودفن بالبصرة، وقبره بها مشهود.
248- واختلف في سنه ما بين ثمان وخمسين إلى أربع وستين.
وذكر ابنه عيسى بن طلحة أن أباه قتل وهو ابن اثنتين وستين سنة رضي الله عنه.
فصل
249- ذكر جماعة من الأئمة أن النجدي السائل في حديث طلحة هذا هو:(1/367)
ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر المذكور سؤاله في حديث أنس المتفق عليه، وحديث ابن عباس وغيره، وفي ذلك نظر، لأن في حديث أنس: ((فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، ثم ذكر قصة ضمام بن ثعلبة، وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم على أحسن الوجوه، وقال في آخره: وأنا رسول من ورائي من قومي))، وهنا قال طلحة رضي الله عنه: ((نسمع دوي صوته، ولا نفهم ما يقول))، فالظاهر أن هذا غير ضمام، وكون كل واحد منهما قال: لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، لا يلزم منه أن يكونا واحداً، بل يجوز أن يكون كل واحد قاله، ولا بعد في ذلك.
250- قوله: ((فإذا هو يسأل عن الإسلام)) أي: عن شرائع الإسلام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجابه بها، فلو كان سؤاله عن حقيقة الإسلام لأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بما أجاب به جبريل عليه السلام في قصة سؤاله المشهورة بقوله: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله .. إلخ)).
251- وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((خمس صلوات في اليوم والليلة))، دليل على عدم وجوب ما عداها من وتر وغيره، لا سيما وقد صرح أن ما عداها تطوع، فانتفى بذلك الوجوب والفرضية عند من يفرق بين مسماهما، وكذلك الحديث يدل أيضاً على أنه لا واجب سوى شهر رمضان، واحتج بهذا الحديث من قال بأن التطوعات تلزم بالشروع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه لا واجب عليك إلا أن تطوع فيجب عليك حينئذ، فيكون على هذا التقدير الاستثناء متصلاً، وهو حقيقة(1/368)
الاستثناء المتفق عليه، وأما من يقول بأن التطوع لا يلزم بالشروع كالشافعي ومن وافقه، فالاستثناء في هذا الحديث عندهم منقطع، وقد اختلف فيه، والأرجح أنه مجاز، والأصل في الإطلاق الحقيقة.
252- والجواب عن هذا أن الأحاديث الكثيرة الصحيحة دلت على جواز الخروج من صوم التطوع من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره وتقريره، مما ليس هذا موضع ذكرها مفصلة، فيتعين حمل الاستثناء على المنقطع هنا للجمع بين الأحاديث كلها، ويكون التقدير: لكن لك أن تطوع، وفي هذا أيضاً دليل على صحة إطلاق التطوع على كل ما عدا الفرائض، سواء كان راتباً أو لا.
253- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أفلح إن صدق))، قيل فيه: إنما أتى بلفظة الماضي تحقيقاً للحال، لما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من خلوص نية هذا الأعرابي، وعقبه بقوله: ((إن صدق)) لئلا يتكل الناس، وقيل: هو ماضٍ أريد به الاستقبال، كما في قول الشاعر:
يقول له كفيتك كل شيءٍ ... أهمك عما تخطتني الحتوف
254- أي: أكفيك، والأحسن في ذلك أن يقال: إنه فعل تقدم حرف الشرط، والنية فيه التأخير، كما أن النية في ((إن صدق)) التقديم، والتحقيق فيه أنه ليس جواباً للشرط، بل دال عليه سد مسده، والجواب محذوف، ومثله قوله تعالى: {قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم}، وذلك حجة على من منع تقدم الفعل الماضي على الشرط إذا كان ما بعد الشرط ماضياً أيضاً.
255- وقد استشكل جماعة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا القائل بفلاحه من وجهين:
256- أحدهما: أن للإسلام فرائض غير ما طلب في الحديث، فكيف يقر على ترك ما لم يذكر له من الفرائض.(1/369)
257- وثانيهما: أن المواظب على ترك السنن الرواتب ترد شهادته، فكيف يقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ويجعله مفلحاً ناجياً؟!
258- والجواب عن الأول: أنه جاء في هذا الحديث عند البخاري في بعض رواياته: ((فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئاً))، فهذه الرواية تزيح الإشكال، لأن مقتضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بجميع الفرائض، واحترز هو بقوله: ((ولا أنقص مما فرض الله علي شيئاً)) عما لم يخبره به مما يجب بعد ذلك، فلم يبق إشكال حينئذ.
259- وعن الثاني: أن هذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه إذا كان مفلحاً بمجرد الاقتصار على الفرائض فلأن يكون كذلك إذا أتى بالسنن معها بطريق الأولى، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نبه على التطوع، ففيه إشارة إلى ترغيبه فيها، ولا شك أن من اقتصر على أداء الفرائض ولم ينقص منها شيئاً فهو مفلح ناجٍ إن شاء الله، لأنه لم يعص الله تعالى بترك ما فرض عليه، وأما كونه ترد شهادته فذاك لأمر خارجي، وهو ما تشعر به مواظبته على ترك التطوع من قلة رغبته في الخير، وتهاونه بالدين، فهو كمن ردت شهادته لقلة مروءته، أو تعاطيه الحرف الدنية، وهو مفلح عند الله ناجٍ، فلا ارتباط لأحدهما بالآخر.
260- أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن أبي محمد ابن أبي المجد الصالحي ابن الخياط في جماعة كثيرين قراءة عليهم وأنا أسمع قال: أنا أحمد بن عبد الدائم بن نعمة وغيره، أنا عبد الخالق بن فيروز الجوهري، والعلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي، والمكرم بن هبة الله الصوفي قالوا: أنا محمد بن عبد الباقي الفرضي، أنا إبراهيم بن عمر بن أحمد الحنبلي حضوراً، أنا(1/370)
عبد الله بن إبراهيم بن أيوب، ثنا إبراهيم بن عبد الله البصري، ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، ثنا ابن عون قال: أنبأني محمد بن محمد بن الأسود، عن عامر بن سعد قال: ((بينما سعد يعني ابن أبي وقاص رضي الله عنه يمشي إذ مر برجل وهو يشتم علياً وطلحة والزبير رضي الله عنهم، قال: فقال له سعد: إنك لتشتم أقواماً قد سبق لهم من الله ما سبق، والله لتكفن عن شتمهم أو لأدعون الله عليك، قال: يخوفني كأنه نبي، قال: فقال سعد رضي الله عنه: اللهم إن كان هذا يسب أقواماً قد سبق لهم منك ما سبق فاجعله اليوم نكالاً، قال: فجاءت بختية وأفرج الناس لها، فتخبطته، قال: فرأيت الناس يتبعون سعداً ويقولون: استجاب الله لك أبا إسحاق.
261- أخبرنا أبو عبد الله محمد ابن الخطيب أبي المعالي داود بن عمر بن يوسف المقدسي قراءةً عليه وأنا أسمع قال: أنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي وأنا حاضر عليه قال: أنبأنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي (ح).
262- وأخبرنا متصلاً أبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم بقراءتي عليه وسماعاً أيضاً قال: أنا أبو الفضل جعفر بن علي بن هبة الله المقدسي سماعاً عليه، أنا الحافظ أبو طاهر السلفي سماعاً، أنا أبو مطيع محمد بن عبد الواحد المصري، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن أحمد بن مسلمة، ثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان إملاء، حدثني الوليد بن أبان، أنشدنا أبو بكر إسحاق بن إبراهيم بن شاذان لأحمد بن روح:
جلالك يا مهيمن لا يبيد ... وملكك دائماً أبداً جديد(1/371)
وحكمك نافذٌ في كل شيء ... فليس يكون إلا ما تريد
إذا ناجاك مضطر غريقٌ ... وقال مؤملاً أنت الحميد
إليك شكوت مضطراً كروبي ... وضري إنك البر الودود
فكم من والهٍ غرقٍ كئيب ... ومضطر به جهدٌ شديد
وذي جهلٍ وسوءاتٍ وقبحٍ ... دعاك فقال إني لا أعود
أجبتهم مغيثاً يا مليكي ... وقلت لدي لا يشقى مريد
أجبت السائلين ولا أبالي ... وعندي كل ما سألوا عتيد
الحديث السادس: عن الزبير بن العوام رضي الله عنه
263- أخبرنا الشيخ المعدل أبو بكر بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن سعد المقدسي في جماعة كثيرين قراءة عليهم وأنا أسمع قالوا: أنا أبو العباس أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي، أنا أبو الفرج يحيى بن محمود بن سعد الثقفي (ح).
264- وأخبرنا سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر الحنبلي سماعاً عليه أيضاً قال: أنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي، أنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الصيدلاني قالا: أنا أبو علي الحسن بن أحمد ابن الحسن المقرئ حضوراً، الأول في الأولى، والصيدلاني في الثالثة، أنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن إسحاق الحافظ، ثنا عبد الله بن جعفر بن فارس، ثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات الرازي، أنا أبو داود -يعني الطيالسي-، ثنا شعبة، عن جامع بن شداد،(1/372)
عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: قلت للزبير رضي الله عنه: يا أبة ما لك لا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث غيرك؟ فقال: أما إني لم أفارقه منذ أسلمت، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)).
265- هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري عن أبي الوليد الطيالسي، عن شعبة به.
فوقع لنا بدلاً له.
266- ورواه النسائي عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث.
267- وابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، ومحمد بن بشار، كلاهما عن محمد بن جعفر غندر، كلاهما عن شعبة به، فوقع لنا عالياً عنهما.
268- وقد وقع لنا الحديث من طرق كثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أعلاها من طرق: سلمة بن الأكوع، وأنس بن مالك، وقع لنا كل واحد منهما أعلا مما سقناه بثلاثة رجال.
269- أخبرناه أبو بكر [بن] أحمد بن عبد الدائم بقراءتي، أنا محمد بن إبراهيم الإربلي قراءة عليه وأنا في الخامسة، أنا يحيى بن ثابت، عن بندار، أنا علي بن عمر بن أحمد بن الخل، أنا أحمد بن عبد الله المحاملي، ثنا محمد بن عبد الله الشافعي، ثنا محمد بن إسماعيل السلمي، ومحمد بن سليمان بن الحارث، قالا: ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، ثنا سليمان التيمي، ثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)).
270- وبه إلى الشافعي، حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث،(1/373)
ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، ثنا عيسى بن طهمان، سمعت أنس بن مالك يقول فذكره بمثله.
271- رواه الإمام أحمد في ((مسنده)) عن أبي نعيم الفضل بن دكين، وعن محمد بن عبد الله الأنصاري بالإسنادين، فوافقناه فيهما بعلو.
272- وأخرجه البخاري عن أبي نعمان القطيعي، عن عبد الرزاق.
273- ورواه مسلم عن أبي خيثمة -وهو ابن حرب-، عن إسماعيل ابن علية، كلاهما عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس به.
274- فوقع لنا عالياً عنهما.
275- ورواه النسائي عن علي بن حجر، عن ابن علية، عن سليمان التيمي به.
276- وأخرجه الترمذي من حديث الزهري، عن أنس، ووقع لنا عالياً عنهما أيضاً.
277- وأخبرنا أبو الفضل سليمان بن حمزة، وأبو عبد الله محمد بن أبي(1/374)
العز مشرف، وأبو محمد عيسى بن عبد الرحمن بن معالي، وأبو بكر ابن أحمد بن عبد الدائم المقدسيان، وأبو العباس أحمد ابن أبي طالب بن نعمة الصالحي، وأم محمد وزيرة بنت عمر بن أسعد سماعاً وقراءة عليهم قالوا: أنا أبو عبد الله الحسين بن المبارك الربعي، أنا عبد الأول بن عيسى أبو الوقت الصوفي، أنا عبد الرحمن بن محمد البوشنجي، أنا عبد الله بن أحمد بن حمويه، أنا محمد بن يوسف الفربري، ثنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ثنا مكي بن إبراهيم، ثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة -يعني ابن الأكوع- رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)).
278- كذا رواه البخاري في ((صحيحه)) منفرداً، وهو أحد ثلاثياته.
279- الزبير رضي الله عنه هو أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب الأسدي القرشي، ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها، وحواريه، وأحد السابقين الأولين إلى الإسلام، والعشرة المشهود لهم بالجنة، والستة المسمين في الشورى، وأول من سل سيفاً في سبيل الله، أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة أو نحو ذلك، وقيل: أسلم ابن ثمان سنين، وهو بعيد.
280- وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بينه وبين عبد الله بن مسعود، وبالمدينة بينه وبين طلحة كما تقدم، وقيل: بل بينه وبين سلمة بن سلامة بن وقش.(1/375)
281- وروي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وثلاثون حديثاً، اتفقا منها في ((الصحيحين)) على حديثين، أحدهما قوله: ((لقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم قريظة، فقال: فداك أبي وأمي)). وانفرد عنه البخاري بثلاثة أحاديث مرفوعة، وبأربعة أخر غير مرفوعة، -بل هي من مناقبه-، منها أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له يوم اليرموك: ألا تشد فنشد معك، فحمل عليهم يعني على الروم حتى شق صفوفهم، فجاوزهم وما معه أحد، ثم رجع مقبلاً فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضرب بها يوم بدر، قال ابنه عروة: ((فكنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير)).
282- وإنما لم يكثر الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم للتحرز كما أشار إليه في الحديث.
283- روى عنه ابناه عبد الله وعروة، ومالك بن أوس بن الحدثان، والأحنف بن قيس، وقيس بن أبي حازم، ونافع بن جبير بن مطعم، وآخرون.
284- ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن لكل نبي حوارياً، وحواري الزبير)).
أخرجاه في ((الصحيحين)) من حديث جابر رضي الله عنهما.
285- وفي ((صحيح البخاري)): ((أن عثمان رضي الله عنه قيل له: استخلف،(1/376)
قال: فلعلهم قالوا: الزبير، قيل: نعم، قال: أما والله إنه لخيرهم ما علمت، وإن كان لأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم )).
286- وفي جامع الترمذي عن هشام بن عروة قال: ((أوصى الزبير رضي الله عنه إلى ابنه عبد الله صبيحة الجمل فقال: ما مني عضو إلا وقد جرح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى فرجه)).
287- وعن عروة: ((إن الشيطان صرخ بمكة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ، قال: فخرج الزبير وهو ابن اثنتي عشرة سنة ومعه سيفه، فمن رآه لا يعرفه قال: الغلام معه السيف حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك؟ قال: أخبرت أنك أخذت، قال: فكنت صانعاً ماذا؟ قال: كنت أضرب من أخذك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسيفه، وكان أول سيف سل في سبيل الله)).
وفضائله كثيرة جداً.
288- قال مغيث بن سمي: ((كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الخراج ما يدخل بيته من خراجهم شيئاً، بل يتصدق)).
289- وقتل شهيداً عقيب وقعة الجمل في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، لحقه عمرو بن جرموز فقتله بوادي السباع من ناحية البصرة، وقبره هناك رضي الله عنه، وعمره سبع وستون سنة، وقيل: أقل من ذلك.
290- وقال علي رضي الله عنه لقاتله لما استئذن عليه: ((بشر قاتل ابن صفية بالنار)).(1/377)
291- وقال أيضاً: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غلٍ إخواناً .. .. } الآية، رضي الله عنهم أجمعين.
فصل
292- حديث: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))، لا يشبهه شيء من الأحاديث الجزئية، لأنه بالغ درجة التواتر، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو من ثمانين نفساً أو أكثر، وإن كان في بعض أسانيدها من قد تكلم فيه فلا يضر ذلك، لأن المتواتر لا يراعى فيه عدالة المخبرين، بل بلوغهم إلى حد ينتفي عليهم الغلط أو التواطؤ، ثم استواء طبقاته كلها على هذا الحد. وكذلك هنا، فإن حديث كل صحابي له سند مستقل، وبعضها رواه عن الصحابي جماعة من التابعين، وكذلك عن التابعين فيزداد انتشاراً، وقد اتفقا عليه في ((الصحيحين)) من حديث علي بن أبي طالب، وأبي هريرة، وأنس، والمغيرة بن شعبة، وانفرد به البخاري من حديث الزبير، وسلمة بن الأكوع، وعبد الله بن عمرو بن العاص. وانفرد به مسلم من(1/378)
حديث أبي سعيد الخدري، وأخرجه الترمذي، وابن ماجه من حديث ابن مسعود، وابن ماجه أيضاً من حديث جابر، وأبي قتادة، ورواه الإمام أحمد في ((مسنده)) من حديث عثمان بن عفان، وابن عمر، وزيد بن أرقم، وواثلة بن الأسقع.
293- وكل طرق هؤلاء صحيحة، وروي أيضاً كذلك في ((مسند البزار))، و((معجم الطبراني))، وغيرهما من حديث سعيد بن زيد، والسائب بن يزيد، وعقبة ابن عامر، وسلمان الفارسي، وعمران بن حصين، وأبي أمامة الباهلي، وعائشة، وطارق بن أشيم، وخالد بن عرفطة رضي الله عنهم.
294- فهؤلاء بضعة وعشرون صحابياً إسناد الحديث إلى كل واحد منهم إما صحيح أو حسن، وبقية الطرق إنما تفيد بلوغه إلى درجة التواتر لا أنها مستقلة بنفسها.
295- وفي تقييده صلى الله عليه وسلم الكذب بالتعمد في هذا الحديث دليل لقول الجمهور(1/379)
أنه لا واسطة بين الصدق والكذب، وأن كل ما كان على خلاف المخبر كان كذباً، سواء كان مع العلم أو لا، خلافاً للجاحظ وغيره من المعتزلة حيث قالوا: إن ما كان منه مع الجهل لا يسمى صدقاً ولا كذباً، ووجه الدلالة من الحديث أنه لولا أن الكذب يطلق على غير العمد لما كان في التقييد بالتعمد في الحديث فائدة.
296- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فليتبوأ))، أي: فلينزل، وأصله من مباءة الإبل، أي: أعطانها، قيل: هو دعاء بمعنى الأمر، وقيل: هو خبر بلفظ الأمر، أي: استوجب ذلك واستحقه.
297- وقد تضمن هذا الحديث المتواتر تحريم الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تعمده فاحشة كبيرة، وعلى هذا إجماع المسلمين سلفاً وخلفاً إلا ما يحكى عن شذوذ من الكرامية أنهم جوزوا وضع الحديث في الترغيب والترهيب، زاعمين أن هذا كذب للنبي صلى الله عليه وسلم لا عليه، وهو قول ساقط ظاهر الفساد، وتمسك بعضهم بما في طرق هذا الحديث من رواية ابن مسعود: ((من كذب علي متعمداً ليضل به الناس))، وهو تمسك باطل، لأن اللام هنا ليست للتعليل بل للعاقبة كما في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً}، وقول الشاعر:
لدوا للموت وابنوا للخراب ...
298- فإن قيل: إذا كان هذا الوعيد إنما هو لمن تعمد ذلك حملاً للأحاديث المطلقة على المقيدة، فلم تحرج الزبير رضي الله عنه من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟
299- قلنا: لخوفه من الوقوع في المحذور، أو مقاربته كما قال صلى الله عليه وسلم: ((كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه))، ثم إن المشهور من مذاهب(1/380)
العلماء أن متعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم لا يكفر بمجرد ذلك.
وقال الشيخ أبو محمد الجويني من أئمة أصحابنا: إنه يكفر بمجرد ذلك، وفي كلام القاضي أبي بكر ابن العربي من أئمة المالكية ما يقتضي هذا القول أيضاً، ولا خلاف في أن ذلك موجب للفسق ورد الرواية، ولو بالواحدة منه، ولكن إذا تاب تقبل روايته، وروي عن أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبي بكر الحميدي أنه لا تقبل روايته أيضاً بعد التوبة، وهو مجروح أبداً لسقوط الثقة لقوله، والجمهور على خلاف ذلك، والله سبحانه أعلم.
300- أخبرنا الشيخ الصالح أبو بكر أحمد بن محمد ابن أبي القاسم بن بدران الأنمي الدشتي بقراءتي عليه قال: أنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي سماعاً عليه، أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي كتابة أن أبا صادق مرشد بن يحيى المديني أخبرهم أن محمد بن الحسين ابن الطفال، أنا الحسن بن رشيق العسكري، ثنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا أبي، ثنا يحيى بن زكريا، ثنا الزبير بن أبي بكر الزبيري، حدثني عمي مصعب بن عبد الله، حدثني أبي عبد الله بن مصعب قال: ((قال لي أمير المؤمنين: يا أبا بكر ما تقول في الذين يشتمون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت: زنادقة يا أمير المؤمنين، قال: مع علمت أحداً قال هذا غيرك، قلت: إنما هم قوم أرادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجدوا أحداً من الأمة يتابعهم على ذلك، فشتموا أصحابه رضي الله عنهم، يا أمير المؤمنين ما أقبح بالرجل أن يصحب صحابة السوء، فكأنهم قالوا:(1/381)
رسول الله صلى الله عليه وسلم صحب صحابة السوء، فقال لي: ما أرى الأمر إلا كما قلت)).
301- وبه إلى الحافظ السلفي قال: سمعت أبا نصر أحمد بن محمد بن علوان التاجر الآمدي بضمير يقول: سمعت يحيى بن عطاف المعدل يقول: ((حكى لي شيخ دمشقي جاور بالحجاز سنين قال: جاوزت بالمدينة سنة مجدبة، فخرجت إلى السوق لأشتري برباعي دقيقاً، فأخذ الدقيقي مني الرباعي وقال: العن الشيخين حتى أبيعك الدقيق، فامتنعت من ذلك، فراجعني مرات وهو يضحك، فضجرت وقلت: لعن الله من لعنهما، فلطم عيني، ورجعت إلى المسجد والدموع تسيل منها، قال: وكان لي صديق من ميافارقين شاهد جاور بالمدينة سنين، فسألني عن حالي فذكرت له القصة، فقام معي إلى التربة الشريفة وقال: السلام عليك يا رسول الله، قد جئناك مظلومين فخذ بثأرنا، وتضرع كثيراً، ورجعنا، فلما جن الليل نمت، فحين أصبحت صادفت العين أحسن مما كانت، كأنها لم يصبها ضرب قط، ثم لم يكن إلا ساعة وإذا رجل مبرقع قد دخل من باب المسجد يسأل عني فدل علي، فجاء وسلم، وقال: ناشتدك الله إلا جعلتني في حل، فأنا الرجل الذي لطمتك، فقلت: لا، أو تذكر قصتك؟ فقال: نمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل ومعه أبو بكر، وعمر، وعلي رضي الله عنهم، فتقدمت وقلت: السلام عليكم، فقال علي رضي الله عنه: لا سلم الله عليك، ولا رضي عنك، أنا أمرتك أن تلعن الشيخين، وجعل إصبعه هكذا في عيني ففقأهما، فانتبهت وأنا تائب إلى الله تعالى، وأسألك التجاوز عن جرمي، فحين سمعت قوله قلت له: اذهب فأنت في حل من قبلي.(1/382)
قال أبو نصر: ثم إن هذا الدمشقي قدم علينا الموصل فدلني عليه يحيى بن عطاف، فمضيت إليه، وحكى لي القصة على وجهها، وكان شيخاً صالحاً متديناً)).
302- أنشدنا الإمام العلامة أبو العباس أحمد ابن العلامة أبي بكر بن أحمد بن سحبان الوائلي البكري الشريشي الشافعي من لفظه لنفسه يمدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
دعوا زفراتي والحنين المرددا ... ليغني مطايانا عن الرجز والحدا
ولا تعد لوافر فيض دمعي فإنني ... فقدت فؤادي جملةً لا التجلدا
إذا هبت الأرواح من نحو طيبة ... ذكت نار أشواقي فزادت توقدا
أأحبابنا إن راعكم فرقة النوى ... فما كبدي صلداً من الهجر جلمدا
ولكن سواد الشعر قد عاد أبيضاً ... وأبيض صحفي بالجرائم أسودا
ومن لاح صبح الشيب حان رحيله ... وما حال عبد راحل ما تزودا
فبادرت أستيفي لنفسي حياتها ... وأطلب في عتقي من النار مسعدا
إلى حرمٍ من حله كان آمناً ... ومن جاءه يبغي الهدى فقد اهتدى
إلى حرم الإيمان والأمن والتقى ... إلى منتهى الآمال والجود والندا
إلى كرم يعطي الجزيل ويكرم النزيل ... ويحبو بالأماني من اعتدى
إلى خاتم الرسل الكرام وسيد الأنام ... ومن لبى وضحى ووحدا
وذكر بقية القصيدة، وهذا ما علق بحفظي منها فإني لم أكتبها عندي.(1/383)
الحديث السابع: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
303- أخبرنا الشيخ المعدل أبو العباس أحمد بن سليمان بن مروان بن أبي علي البعلبكي المقرئ قراءة عليه وأنا أسمع وآخرون قالوا: أنا العلامة أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي المقرئ سماعاً عليه (ح).
304- وقرأت على الرباني أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطبري بمنى شرفها الله، أخبرك الإمام أبو الحسن علي بن هبة الله اللخمي سماعاً فأقر به قالا: أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي، أنا مكي بن منصور ابن علان الكرخي، أنا أحمد بن الحسن بن أحمد الحيري، ثنا محمد بن يعقوب ابن يوسف الأصم، ثنا زكريا بن يحيى المروزي، ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أن أباه أخبره: ((أنه مرض عام الفتح مرضاً أشفى منه على الموت، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، وهو بمكة، فقال: يا رسول الله إن لي مالاً كثيراً، وليس يرثني إلا ابنتي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قال: فبالشطر؟ قال: لا، قال: فبالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس، إنك لن تنفق نفقة إلا أجرت فيها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك، قلت: يا رسول الله أخلف عن هجرتي، قال: إنك لن تخلف بعدي فتعمل عملاً تريد به وجه الله إلا ازددت به رفعة أو درجة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة)) يرثي له أن مات بمكة.
305- هذا حديث صحيح متفق عليه من عدة طرق إلى سعد رضي الله عنه، فأما هذه الطريق فرواها البخاري عن الحميدي، ومسلم عن قتيبة وأبي بكر بن أبي(1/384)
شيبة، وأبو داود عن عثمان بن أبي شيبة، والترمذي عن محمد بن يحيى بن أبي عمر، والنسائي عن عمرو بن عثمان بن سعيد، وابن ماجه عن هشام بن عمار، والحسين بن الحسن المروزي، وسهل بن أبي سهل الرازي؛ تسعتهم عن سفيان بن عيينة الإمام أبي محمد الهلالي، كما رويناه، فوقع بدلاً لهم ستتهم عالياً، وهو قليل النظير.
306- ورواه مسلم أيضاً عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري به، فوقع لنا عالياً عنه بثلاث درجات.
307- سعد بن أبي وقاص هو أبو إسحاق سعد بن أبي وقاص مالك أخي نوفل جد المسور بن مخرمة بن نوفل، كلاهما ابنا وهيب أخي وهب جد النبي صلى الله عليه وسلم لأمه، كلاهما ابنا عبد مناف أخي عبد الحارث جد عبد الرحمن بن عوف، كلاهما ابنا زهرة بن كلاب بن مرة القرشي الزهري، أحد السابقين إلى الإسلام، والعشرة المشهود لهم بالجنة، والستة المسمين للشورى.
308- ثبت عنه أنه قال: ((ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام))، أخرجه البخاري.
309- وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وأول من أراق دماً في(1/385)
سبيل الله من هذه الأمة، وذلك في سرية عبد الله بن جحش قبل بدر، وشهد جميع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
310- وروي له من الحديث عنه صلى الله عليه وسلم مائتان وسبعون حديثاً، اتفق البخاري ومسلم منها على خمسة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بثمانية عشر حديثاً.
311- روى عنه عبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، وابن عباس، والسائب ابن يزيد رضي الله عنهم، وبنوه مصعب، وعامر، ومحمد، وعمر، وإبراهيم، وعائشة، وعمرو بن ميمون الأودي، وقيس بن أبي حازم، والأحنف بن قيس، وأبو عثمان النهدي، وسعيد بن المسيب، وعلقمة، ومجاهد، وشريح، وعروة بن الزبير، وآخرون.
312- وكان يقال له: فارس الإسلام.
313- قال ابن عبد البر: ((كان أحد الفرسان الشجعان الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيه، وهو الذي كوف الكوفة، وطرد الأعاجم، وتولى قتال فارس، أمره عمر رضي الله عنه على ذلك، وفتح الله على يديه أكثر فارس، وولي الكوفة لعمر رضي الله عنه مرتين، ثم ولاه عثمان أيضاً رضي الله عنه)).
314- وفي ((صحيح البخاري)) عنه قال: نثل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد وقال: ((ارم فداك أبي وأمي)).(1/386)
315- وقال صلى الله عليه وسلم يومئذ أيضاً: ((اللهم سدد رميه، وأجب دعوته))، فكان رضي الله عنه مشهوراً بإجابة الدعوة، وقصته في دعائه على الرجل الذي كذب عليه مشهورة في ((الصحيحين))، وتقدم استجابة دعوته على الرجل الذي كان يشتم الصحابة.
316- قال الزهري: ((رمى سعد رضي الله عنه يوم أحد ألف سهم)).
317- وقال صلى الله عليه وسلم وقد رآه مقبلاً: ((هذا خالي فليرني أمرؤ خاله)).
318- وقال عمر رضي الله عنه عند موته، وقد عين أصحاب الشورى: ((إن أصابت الإمرة سعداً فذاك، وإلا فليتسعن به من ولي، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة)).
319- وفضائله ومناقبه كثيرة جداً، وكان ممن قعد في الفتنة، ولزم منزله بعد قتل عثمان رضي الله عنه، وأمر أهله أن لا يخبروه بشيء من أمر الناس حتى يجتمعوا على إمام، واستمر كذلك إلى أن توفي رضي الله عنه بقصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، وحمل إليها على أعناق الرجال، فمر به على حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن حتى صلين عليه، ودفن بالبقيع، وهو آخر العشرة، بل آخر المهاجرين موتاً رضي الله عنهم أجمعين.(1/387)
320- واختلف في تاريخ وفاته، فقيل: سنة أربع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين، وقيل: ما بين ذلك.
321- وكذلك اختلف أيضاً في سنه، فقيل: بضع وسبعون، وقيل: بل كان له نيف وثمانون سنة، وهو الأشهر، رضي الله عنه.
فصل
322- قول سفيان بن عيينة في هذا الحديث: ((مرضت عام الفتح)) خالفه فيه عامة أصحاب ابن شهاب؛ مالك، ومعمر، ويونس، وغيرهم، فقالوا فيه: ((عام حجة الوداع))، وهذا هو الصحيح، لأن وفاة سعد بن خولة المذكور في الحديث كانت عام حجة الوداع، كذلك قاله يزيد بن أبي حبيب وغيره، ونسب الأئمة سفيان بن عيينة إلى الوهم في هذا التاريخ.
323- وفي هذا الحديث دليل على عدم جواز الوصية بالزائد على الثلث لمنع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وعلى أن التنقيص منه مستحب لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنه كثير))، ثم علله بحاجة الورثة، فلذلك قال العلماء: إن كانت ورثته أغنياء استحب أن تستوفى الوصية بالثلث، لأنها قربة، وإن كانوا فقراء فالمستحب أن ينقص عنه.(1/388)
324- وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ((لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الثلث كثير)).
325- وفيه دليل على أن التبرعات الواقعة في مرض الموت مجراها مجرى الوصية لقول سعد رضي الله عنه: ((أفأتصدق بثلث مالي .. .. )) إلخ.
326- ويحتمل أن يكون المراد بقوله: ((أفأتصدق)) الوصية بذلك بعد موته لما جاء في كثير من الروايات: ((أفأوصي))، فلا يكون فيه دليل لهذه المسألة، بل يؤخذ ذلك من حديث الذي ((أعتق ستة أعبد في مرض موته ليس له مال غيرهم، فأقرع النبي صلى الله عليه وسلم، فأعتق اثنين وأرق أربعة))
327- وفيه أن الثواب في الإنفاق مشروط بقصد ابتغاء وجه الله تعالى.
328- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك)) يمكن أن يستدل به على أن الواجبات المالية إذا أديت على قصد أداء الفرض، وابتغى بها وجه الله فإنه يثاب عليها، ولفظ ((حتى)) تقتضي المبالغة في تحصيل هذا الأمر بالنسبة إلى هذا المعنى، كما يقال: جاء الحاج حتى المشاة، ومات الناس حتى الأنبياء، ويجوز أن يكون المراد به دفع ما يتوهم من أن إنفاق الرجل على زوجته وإطعامه إياها واجباً أو غير واجب يعارض تحصيل الثواب، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يثاب على ذلك من غير تخصيص بنفل أو واجب. ثم إذا كان ذلك موقوفاً على قصد ابتغاء وجه الله فهل يحتاج إلى نية خاصة في الجزئيات، أم يكتفي بنية عامة؟ فيه نظر. ويظهر من قوة دلالة الحديث اعتبار النية الخاصة في الجزئيات، لكن حديث الخيل المعدة للجهاد يعارض هذا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولو مر بنهر وهو لا يريد أن يسقي(1/389)
منه فشربت كان له أجر))، فدل على الاكتفاء بالنية العامة، وهو إعداد الفرس للجهاد عليها في سبيل الله.
329- والهجرة تطلق على أمور، أعلاها هجرة الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وتركهم أموالهم وديارهم لله تعالى، فإن الله تعالى أوجب عليهم المداومة على ذلك وترك الرجوع إلى شيء منه، وحرم عليهم أن يستوطنوا مكة بعد ذلك ليتم أجرهم العظيم، ورخص النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام فقط، لأن صاحبها غير مستوطن.
330- وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم مكة قال: ((اللهم لا تجعل منايانا بها))، فلذلك أشفق سعد رضي الله عنه من موته بمكة أن لا تتم له هجرته، وأشفق النبي صلى الله عليه وسلم على سعد بن خولة لكونه مات بها.
331- وفي ((معجم الطبراني)) أن النبي صلى الله عليه وسلم خلف على سعدٍ رضي الله عنه في مرضه هذا رجلاً، فقال: ((إن مات بمكة فلا تدفنه بها)).
332- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام .. إلخ)) من ظنونه الصادقة التي وقعت كما ظن صلى الله عليه وسلم، فإن سعداً رضي الله عنه عمر بعد ذلك بضعاً وأربعين سنة.
333- قال بكير بن الأشج: ((سألت عامر بن سعد عن قوله صلى الله عليه وسلم لأبيه:(1/390)
((ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون))، فقيل: أمر سعد على العراق فقتل قوماً على الردة، فأضر بهم، واستتاب آخرين فانتفعوا)).
334- ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم لما جهز جيش مؤتة: ((أميركم زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة))، فقتل الثلاثة رضي الله عنهم على هذا الترتيب.
335- ومثل ذلك لا ينحصر من معجزاته صلى الله عليه وسلم .
336- أخبرتنا الشيخة الصالحة أم محمد ست القضاة بنت يحيى بن أحمد ابن محمد بن هبة الله ابن الشيرازي بقراءتي عليها قالت: أخبرتنا أم الفضل كريمة بنت عبد الوهاب بن علي بن الخضر القرشية سماعاً عليها قالت: أنبأنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى الصوفي، أنا أبو صاعد يعلى بن هبة الله الفضيلي، أنا عبد الرحمن بن أحمد بن أبي شريح، ثنا محمد بن عقيل البلخي، ثنا الحسن بن أبي الربيع، أنا عبد الرزاق، أنا جعفر -يعني ابن سليمان- عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: ((اشتكى سلمان فعاده سعد -يعني الفارسي- وابن أبي وقاص رضي الله عنهما - فرآه يبكي فقال له ما يبكيك يا أخي، ألست قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألست، ألست، فقال سلمان: واحدة من اثنتين ما أبكاني ضناً بالدنيا ولا كراهية الآخرة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهداً فما أراني إلا قد تعديت. قال: وما عهد إليك؟ قال: عهد إلينا أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب، ولا أراني إلا قد تعديت، وأما أنت يا سعد فاتق الله عند حكمك إذا حكمت، وعند قسمك إذا قسمت، وعند همك إذا هممت، قال ثابت: فبلغني أنه -يعني سلمان رضي الله عنه- ما ترك إلا سبعة عشر درهماً مع نفيقة كانت عنده)).(1/391)
337- رواه ابن ماجه في ((سننه)) عن الحسن بن أبي الربيع، فوقع موافقته له عالية.
338- وبه إلى ابن عقيل، ثنا الفضل بن عكرمة، ثنا هارون، ثنا ضمرة، عن ابن شوذب قال: ((اجتمع محمد بن واسع، ومالك بن دينار، فتذاكرا المعيشة، فقال مالك: ما من شيء أفضل من أن يكون لرجل غلة يعيش بها، فقال محمد بن واسع: طوبى لمن وجد غداء ولم يجد عشاء، ووجد عشاء، ولم يجد غداء، والله تبارك وتعالى عنه راض)).
339- أخبرنا الشيخ الأمين الكبير أبو اليسر شاكر ابن الإمام أبي محمد إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر شاكر التنوخي قراءةً عليه وأنا أسمع قال: أنا أبي، أنا أبو البركات بن إبراهيم القرشي، أنا هبة الله بن أحمد الأكفاني، أنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب، أنا الحسن بن أبي بكر، أنا عثمان بن أحمد الدقاق، ثنا إسحاق بن إبراهيم بن سنين قال: أنشدني عمر بن محمد بن أحمد:
أنت في غفلة الأمل ... لست تدري متى الأجل
لا تغرنك صحةٌ ... فهي من أوجع العلل
كل نفسٍ ليومها ... صبحة تقطع الأمل(1/392)
فاعمل الخير واجتهد ... قبل أن تمنع العمل
340- وبه إلى الحافظ الخطيب قال: أنا أحمد بن علي التوزي، أنا عبيد الله بن محمد الجرادي الكاتب، أنشدنا ابن دريد، أنشدنا عبد الرحمن -يعني ابن أخي الأصمعي-، عن عمه قال: أنشدني رجل من أهل البصرة:
فما لك يوم الحشر شيءٌ سوى الذي ... تزودته قبل الممات إلى الحشر
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ... ندمت على التفريط في زمن البدر
الحديث الثامن: عن سعيد بن زيد رضي الله عنه
341- أخبرتنا الشيخة الصالحة أم محمد زينب ابنة أحمد بن عمر بن أبي بكر بن شكر المقدسية بقراءتي عليها ببيت المقدس قالت: أنا أبو المنجا عبد الله ابن عمر بن علي بن زيد بن اللتي قراءة عليه وأنا أسمع، أنا أبو الوقت عبد الأول عيسى بن شعيب السجزي، أنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر، أنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه، أنا إبراهيم بن خزيم الشاشي، ثنا عبد ابن حميد الكشي، ثنا يعقوب بن إبراهيم -يعني ابن سعد-، ثنا أبي، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون(1/393)
ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)).
342- هذا حديث حسن صحيح، رواه الإمام أحمد بن حنبل في ((مسنده))، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، كما رويناه، فوافقناه فيه بعلو، وأخرجه أبو داود عن هارون بن عبد الله، عن أبي داود الطيالسي، وأبي أيوب سليمان بن داود، كلاهما عن إبراهيم بن سعد به.
343- ورواه الترمذي عن عبد بن حميد كما روينا، فوقع لنا موافقةً عاليةً له.
344- وأخرجه النسائي عن عمرو بن علي، عن عبد الرحمن بن مهدي، وعن محمد بن رافع، وغيره، عن سليمان بن داود، كلاهما عن إبراهيم بن سعد به، فوقع لنا عالياً عنه وعن أبي داود أيضاً.
345- وقال فيه الترمذي: حديث حسن صحيح.
346- وكذلك صححه أيضاً أبو حاتم ابن حبان في ((صحيحه))، والحاكم في ((مستدركه)).
347- ورواه الترمذي، والنسائي أيضاً، وابن ماجه من طريق الزهري، عن طلحة بن عبد الله بن عوف ببعضه: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)).(1/394)
348- وكذلك روي أيضاً من حديث أبي الطفيل، عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، وهذا الفصل أيضاً في ((الصحيحين)) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
349- سعيد رضي الله عنه هو أبو الأعور، وقيل: أبو ثور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح، وتقدم ذكر باقي نسبه، القرشي، العدوي، ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وصهره على أخته فاطمة بنت الخطاب، أسلما قديماً قبل عمر، وبسببهما كان إسلامه في القصة المشهورة.
350- وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي بن كعب رضي الله عنهما.
351- وذكره البخاري فيمن شهد بدراً، والأكثرون على أنه لم يشهدها، بل كان غائباً بالشام، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب له بسهمه وأجره، وقيل: بل بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وطلحة يتجسسان العير، فغابا عن الوقعة، فضرب لهما النبي صلى الله عليه وسلم بسهمهما وأجرهما.(1/395)
352- روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وأربعون حديثاً، اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بحديث واحد.
353- روى عنه عمرو بن حريث المخزومي، وقيس بن أبي حازم، وأبو عثمان النهدي، وعروة بن الزبير، وطلحة بن عبد الله بن عوف، وعبد الرحمن بن عمرو بن سهل، وطائفة.
354- وأمه خزاعية، لم تدرك الإسلام.
355- وأبوه زيد بن عمرو بن نفيل، اعتزل الأوثان في الجاهلية، ووحد الله إلى أن مات، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنه يبعث أمة وحدة)).
356- وروى الحاكم في ((المستدرك)) أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله سعيد بن زيد أن يستغفر لأبيه، فاستغفر له.
357- وشهد سعيد رضي الله عنه اليرموك، وحصار دمشق، وكان مجاب الدعوة، وقصته في دعائه على أروى التي استعدت عليه وغصبته حقه مشهورة في ((الصحيحين)) وغيرهما أنه قال: ((اللهم إن كانت كاذبة فيما تزعم فأعم بصرها، واقتلها في أرضها، فما ماتت حتى ذهب بصرها، وبينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت)).(1/396)
358- وكان أهل المدينة يقولون: ((أعماك الله كما أعمى أروى))، يريدون هذه المرأة التي دعا عليها سعيد، فذهب وهم من لم يعرف القصة أنهم يريدون الأروى التي كانت بالجبل، يظنونها شديدة العمى، وليس كذلك، وكان سعيد رضي الله عنه ممن اعتزل الفتن إلى أن مات بالمدينة سنة خمسين، أو إحدى وخمسين، وله بضع وسبعون سنة، وغسله عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص، ونزلا في حفرته رضي الله عنهم أجمعين.
فصل
359- قوله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل دون دينه فهو شهيد))، ((دون)) في أصلها ظرف مكان بمعنى ((أسفل))، و((تحت))، واستعملت في هذا الحديث بمعنى ((لأجل)) التي للتنبيه على وجه التوسع المجازي، لأن الذي يقاتل على دينه أو ماله كأنه يجعله خلفه أو تحته، ثم يقاتل عليه.
360- والشهيد إما فعيل بمعنى فاعل، لأنه يشاهد الملائكة أو الجنة، وما أعد الله له، أو يشهد يوم القيامة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو فعيل بمعنى مفعول، لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة.
361- ثم أصل ذلك إنما هو للمتقول في سبيل الله، وهو الشهادة الكاملة، ثم جعل الله تعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه التسمية لمن قاتل دون ما ذكر في هذا الحديث، فقيل: لأنه كان محقاً في القتال، ومظلوماً بطلب ذلك منه وبقتل الطالب له، فمعنى تسميته شهيداً أنه يعطى ثواب الشهيد في الآخرة لا أنه تجري عليه أحكام الشهيد في الدنيا من عدم التغسيل، والتكفين، والصلاة عليه، ونحو(1/397)
ذلك، ومثل هذا المطعون، والمبطون، والنفساء، ومن ورد في الحديث بتسميتهم شهداء دون قتال الكفار.
362- وقد دل هذا الحديث على جواز القتال دون الدين، والأهل، والمال، والنفس، وأن ذلك حق وإلا لم تثبت فيه الشهادة لصاحب ذلك إذا قتل.
363- ومقتضى هذا أن الطالب لذلك إذا أتى الدفع عليه فقتل يكون دمه هدراً، لا يترتب عليه قصاص، ولا دية، ولا كفارة، وكذلك لو كان بهيمة فلا ضمان على قاتلها عند مالك، والشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء، وعند أبي حنيفة أنها تكون مضمونة.
364- والحديث مطلق في جواز القتال دون المال من غير تفريق بين قليله وكثيره، وبهذا قال جمهور العلماء، وفي مذهب مالك قول له أن من طلب منه مال قليل كالثوب، والطعام الخفيف فلا يدافع عنه، ومأخذ ذلك عندهم أن الأمر بقتال هذا الطالب هل هو من باب تغيير المنكر، أو من باب دفع الضرر، فعلى الأول يقاتله عليه ولا يعطيه، وعلى الثاني لا يقاتله لأنه احتمال دفع المال الخفيف أخف من قتل المسلم، وهذا هو المأخذ الذي اعتبره الجمهور في القول بوجوب الدفع واستحبابه، واستحباب الاستسلام، فقال أصحابنا وغيرهم: إذا قصد الصائل أخذ الحريم أو الفجور بهن وجب الدفع، إذ لا مجال للإباحة فيه، وإن قصد قتل النفس؛ فإن كان الصائل كافراً وجب الدفع حينئذ، وكذلك إن كان بهيمة، لأنها تذبح عند الضرورة لاستبقاء المهجة.
365- فإن كان مسلماً ففيه خلاف، وهو قولان في المذهب، وأصحهما أنه(1/398)
لا يجب، لقوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الفتن: ((كن عبد الله المتقول، ولا تكن عبد الله القاتل))، ولأن عثمان رضي الله عنه استسلم ومنع القتال، وذلك بحضور الصحابة رضي الله عنهم.
366- ومن العلماء من زاد على ذلك، وقال: يستحب الاستسلام.
367- وأما المال فاتفق أصحابنا على أن الدفع عنه لا يجب؛ لأن إباحة المال للغير جائزة، وصرح كثير منهم بأنه يستحب له الاستسلام؛ تقديماً لأخف المفسدتين، وفيه نظر لما روى مسلم في ((صحيحه)) عن أنس رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك، قال: أفرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار)).
368- وهذا الحديث قال المالكية بوجوب الدفع عن المال أيضاً، وأنه لا ينبغي الاستسلام له، والكل متفقون على أنه لا يعدل إلى الأقوى في الدفع مع إمكان الأخف، فمتى كان الصائل يندفع بدون القتال فقاتله، كان مضموناً، بدليل ما في الحديث المتقدم، وفي رواية: ((أرأيت يا رسول الله إن عدى على مالي؟ قال: أنشد الله، قال: فإن أبوا علي؟ قال: أنشد الله، قال: فإن أبوا علي؟ قال: قاتل فإن قتلت ففي الجنة، وإن قتلت ففي النار))، والله أعلم.
369- أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي الفتح السخاوي فيما قرئ عليه وأنا أسمع قال: أنا أبو الفضل إسماعيل بن أحمد بن الحسين العراقي سماعاً عليه، عن الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد السلفي قال: سمعت أبا بكر أحمد(1/399)
ابن علي الطريثيثي يقول: سمعت أبا علي الحسن بن غالب الحربي الزاهد يقول: سمعت أبا الحسن بن سمعون يقول: سمعت الشبلي رحمه الله يقول: ((كنت في قافلة بالشام، فخرج الأعراب فأخذوها، وأميرهم جالس يعرضون عليه، فخرج جراب فيه لوز وسكر، فأكلوا منه إلا الأمير، فما كان يأكل، فقلت له: لم لست تأكل؟ قال: أنا صائم، قلت: تقطع الطريق، وتأخذ الأموال، وأنت صائم؟ قال: يا شيخ اجعل للصلح موضعاً، فلما كان بعد حين رأيته يطوف بالبيت وهو محرم كالشن البالي، فقلت: أنت ذلك الرجل؟ فقال: ذلك الصوم بلغ بي إلى هذا)).
370- وبه إلى الحربي قال: سمعت أبا الحسين السوسنجردي يقول: سمعت جعفر الخلدي يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: ((دخل لص على مالك بن دينار رحمه الله فما وجد في الدار شيئاً، ومالك يراه، فجاء ليخرج, فقال له مالك: سلام عليكم، فقال: وعليكم السلام، قال: أعلم أن شيئاً من الدنيا ما حصل لك، ترغب في شيء من الآخرة؟ قال: نعم، قال: تطهر من ذلك المركن وصل ركعتين، فصلى، ثم قال: يا سيدي أجلس إلى الصبح؟ فجلس، فلما خرج مالك إلى الصبح والرجل جالس معه قال أصحابه: من هذا الرجل؟ قال: هذا جاء ليسرق سرقناه)).
371- أخبرنا القاضي الإمام الصالح أبو زكريا يحيى بن إسحاق بن خليل ابن فارس الشيباني سماعاً عليه قال: أنا محمد بن أبي بكر بن سليمان العامري قراءة عليه، أنا قاضي القضاة أبو القاسم عبد الصمد بن محمد الأنصاري سماعاً عليه، عن أبي الأسعد هبة الرحمن بن عبد الواحد القشيري، وأبي الخير جامع بن أبي نصر، وغيرهما قالوا: أنا أبو سعيد محمد بن عبد العزيز الصفار، أنا أبو(1/400)
عبد الرحمن محمد بن الحسن السلمي، سمعت سعيد بن أحمد، سمعت علي بن محمد يقول: سمعت إبراهيم الخواص يقول: ورأيته وهو جالس في الشمس، فقلت له: تحول إلى الظل فهو أرفق بك، فأنشأ يقول:
لقد وضح السبيل إليك حقاً ... فما أحد أرادك يستدل
فإن ورد الشتاء فأنت صيفٌ ... وإن ورد المصيف فأنت ظل
372- وبه إلى السلمي قال: رأيت للشبلي في مجموع: هل يتحقق العارف بما يبدو له من الآثار، فقال: كيف يتحقق العارف بما لا يثبت، وأنشأ يقول:
فمن كان في طول الهوى ذاق سلوة ... فإني من ليلي لها غير ذائق
وأكبر شيء نلته من وصالها ... أماني لم تصدق كلمحة بارق
الحديث التاسع: عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
373- أخبرنا الشيخ الصالح المعمر أبو الفداء إسماعيل بن يوسف بن مكتوم بن أحمد بن محمد بن سليم القيسي قراءة عليه وأنا أسمع، وبقراءتي عليه أيضاً: قال أنا أبو المنجا عبد الله بن عمر بن علي بن اللتي قراءة عليه وأنا أسمع، أنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب الصوفي، أنا أبو عاصم الفضل بن يحيى الفضيلي، أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن محمد ابن أبي شريح، أنا أحمد بن سعيد -يعني الطبري- ثنا أحمد بن علي -هو الجرجاني-، ثنا عبد الرزاق،(1/401)
عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة أن رداداً أخبره أنه سمع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: أنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)).
374- هذا حديث صحيح المتن، رواه الإمامان أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه في ((مسنديهما))، عن عبد الرزاق، فوافقناهما فيه بعلو.
375- وأخرجه أبو داود، عن محمد بن المتوكل العسقلاني، عن عبد الرزاق به، فوقع لنا بدلاً له عالياً.
376- وهكذا رواه معمر منفرداً به، قال فيه: عن رداد، وخالفه سفيان ابن عيينة وغيره، وقد وقع لنا على الصواب أعلا من هذه الطريق.
377- أخبرناه أبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم سماعاً عليه، وأبو محمد القاسم بن مظفر بن محمود الدمشقي بقراءتي عليه، كلاهما عن أبي الوفاء محمود بن إبراهيم بن سفيان بن منده فيما أنبأهم ابن أصبهان قال: أنا أبو الخير محمد بن أحمد بن عمر الباغبان سماعاً عليه، أنا أبو عمرو عبد الوهاب بن محمد ابن إسحاق بن منده، أنا الحافظ أبو عبد الله، أنا أحمد يعني ابن محمد بن زياد، ثنا الحسن بن محمد بن الصباح، ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة قال: اشتكى أبو الرداد فعاده عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: خيرهم وأوصلهم ما علمت أبا محمد، فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: ((أنا الله الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها من اسمي .. .. ))، وذكر بقيته كما تقدم.
378- رواه أبو داود عن مسدد، وأبي بكر ابن أبي شيبة، والترمذي(1/402)
عن محمد بن يحيى ابن أبي عمر، وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي، أربعتهم عن ابن عيينة به، فوقع بدلاً لهما عالياً.
وقال فيه الترمذي: حسن صحيح.
379- وظاهر هذه الرواية أن أبا سلمة بن عبد الرحمن رواه عن أبيه، لأنه لم يسنده عن أبي الرداد.
380- وقد رواه محمد بن أبي عتيق، غيره، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي الرداد أخبره عن عبد الرحمن بن عوف.
381- وذكر الإمام أبو الحسن الدارقطني أن هذا هو الصواب.
382- والحديث الأول رواه أبو حاتم ابن حبان في ((صحيحه)) عن الحسن بن سفيان، عن حبان، عن عبد الله بن المبارك، عن معمر به، فوقع لنا عالياً عنه جداً.
383- عبد الرحمن رضي الله عنه هو أبو محمد عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب.
384- ومنهم من يقول: عبد عوف بن الحارث بن زهرة، ويسقط ((عبد))، القرشي الزهري.
385- وأمه زهرية أيضاً.
386- ولد بعد الفيل بعشر سنين، وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة،(1/403)
وقيل: عبد عمرو، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن.
387- وهو أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، والستة المسمين بالشورى، وممن لم يفته مع النبي صلى الله عليه وسلم مشهد أصلاً.
388- روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة وثلاثون، اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بخمسة.
389- روى عنه ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأنس بن مالك، وجبير ابن مطعم، والمسور بن مخرمة، وهو ابن أخته رضي الله عنه، وبنوه إبراهيم، وحميد، وأبو سلمة، ومصعب، ومالك بن أوس بن الحدثان، وبجالة بن عبد، وآخرون.
390- وقد صلى صلى الله عليه وسلم خلفه في غزوة تبوك، وجرح يوم أحد عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج، وكان من المتمولين الأجواد.
391- قال الزهري: ((تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله، أربعة آلاف درهم، ثم تصدق بأربعين ألف درهم، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمس مائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على(1/404)
خمس مائة راحلة، وكان عامة ماله من التجارة)).
392- وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وبعثه إلى دومة الجندل، وعممه بيده، وسدلها بين كتفيه، وقال: ((إن يفتح الله عليك فتزوج ببنت شريفهم))، ففتح الله عليه، وتزوج بتماضر بنت شريفهم الأصبغ، وهي أم ابنه أبي سلمة أحد أئمة التابعين.
393- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خياركم خياركم لنسائي من بعدي))، فأوصى لهن عبد الرحمن بن عوف بحديقة قومت بأربع مائة ألف درهم، وأوصى أيضاً لكل من شهد بدراً ممن هو حي بأربعة مائة دينار لكل واحد، فوجدوا عند وفاته مائة نفس رضي الله عنه، فأخذوها.
394- وقال طلحة بن عبد الله بن عوف: ((كان أهل المدينة عيالاً على عبد الرحمن بن عوف، ثلثٌ يقرضهم، وثلثٌ يقضي دينهم، وثلثٌ يصلهم)).
395- ولما كان أمر الشورى تنزه عن الولاية، وبايع عثمان رضي الله عنه، وقال: ((والله لأن توضع مدية على حلقي فتنفذ بها أحب إلي من أن أليها)).(1/405)
396- وعن عبد الرحمن بن أزهر: ((أن عثمان رضي الله عنه اشتكى رعافاً، فدعا حمران فقال: اكتب لعبد الرحمن بن عوف العهد من بعدي، فبلغه ذلك، وقام من بين القبر والمنبر فدعا فقال: اللهم أمتني قبل عثمان، فلم يمكث إلا ستة أشهر حتى توفي رضي الله عنه)). وكانت وفاته سنة اثنتين وثلاثين، وقيل سنة ثلاث، وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقيل: غير ذلك، وخلف أموالاً عظيمة بحيث إن إحدى نسائه الأربع صولحت على ربع الثمن نصيبها بثمانين ألفاً، فكان سعد بن أبي وقاص ممن حمل جنازته.
397- وقال علي رضي الله عنه: ((اذهب يا ابن عوف أدركت صفوها، وسبقت كدرها))، رضي الله عنهم.
فصل
398- ذكر جماعة من أهل اللغة أن الرحمة أصلها من الرحم الذي هو عضو المرأة، وأن الرحم لما كانت منعطفة على الولد اشتق منها لفظ الرحمة لما فيها من معنى التعطف، وظاهر هذا الحديث يرد هذا القول، وأن الرحم مشتقة من اسمه الرحمن سبحانه، وهذا هو الحق، وأيضاً فإن أسماء الله تعالى قديمة أزلية، فهو مسمى بالرحمن والرحيم أزلاً، وتسمية العرب للرحم حادث، فيكون مشتقاً من معنى القديم.(1/406)
399- وأصل الرحمة في حق البشر رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، ولكن تستعمل تارةً في الرقة المجردة دون الإحسان، كمن يرى ضعيفاً ولا يقدر على الإسداد إليه ولا إعانته. فيأوي له ويرق عليه، فإنه يقول: رحمت فلاناً، وتارة يستعمل في الإحسان المجرد عن الرقة كوصف الله سبحانه بالرحيم، لكن اختلف أهل الأصول في اتصاف الله سبحانه بذلك: هل هو من صفات الذات أو من صفات الأفعال؟ فمن جعل الرحمة إرادة الإحسان كانت صفة ذاتية، ومن جعلها نفس الإحسان كانت عنده من صفات الأفعال. فلما كانت الرحمة منطوية على هذين المعنيين: الرقة والإحسان، والله تعالى هو المنفرد بالإحسان التام والإفضال العام كما قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء}، وركز الله في طبائع البشر الرقة الحادثة التي ينشأ عنها إحسان من يحسن منهم إلى من يرحمه؛ صح اشتقاق أحدهما من الآخر، وخصوصاً ما تقتضيه القرابة من مزيد الحنو والتعطف.
400- وإنما قيل للقرابة رحم أخذاً من الرحم الذي هو منبت الولد، ولكونها مظنة الحنو والإحسان.
والحديث مقتضٍ لتأكد الاعتناء بصلتها.
401- وقد اختلف العلماء في حد الرحم التي يجب مواصلتها، فقال بعضهم: على كل رحم محرم لو كان أحدهما ذكراً والأخرى أنثى حرمت مناكحتها، فلا يدخل في ذلك على هذا القول بنو الأعمام والأخوال، ونحوهم.
402- وقيل: بل هو كل رحم ينطلق عليه ذلك من ذوي الأرحام في المواريث محرماً كان أو غير محرم، فيخرج منه رحم الأم التي لا يتوارث بها على هذا القول.
403- والصحيح الذي قاله المحققون أنهم كل من بين الشخص وبينهم(1/407)
قرابة، سواء كانت من جهة الأب أو الأم، وسواء كانت قريبة أو بعيدة، لقوله صلى الله عليه وسلم في أهل مصر: ((إن له ذمةً ورحماً)).
404- وقد ذكر بعض المفسرين في قوله تعالى: {وتقطعوا أرحامكم}، أن المراد به رحم الدين التي يجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله، ونصرتهم، والنصيحة لهم، والقيام بحقوقهم الواجبة على الكفاية أو العين، كتمريض المرضى، ودفن الموتى، وما أشبه ذلك. والظاهر أن المراد بالرحم في الآية والحديث أخص من هذا، وهو ما تقدم ذكره في القول الثالث الذي اختاره أهل التحقيق، وعلى هذا، فالمراد بالصلة قدر زائد على الحقوق المتعلقة بالعموم، كالنفقة عليهم، والإحسان إليهم، وتفقد أحوالهم، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، وبعضها أرفع من بعض، فمنها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، وأدناها ترك المهاجرة، وصلتها بالكلام أو بالسلام، وتفصيل ذلك يطول به الكلام. وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي القرابة اثنتان، صدقة وصلة))، ففي هذا أنه يثاب على صلة الرحم قدراً زائداً على ثواب الصدقة، والله سبحانه أعلم.
405- أخبرنا أبو عبد الله محمد ابن أبي بكر رزين بن عثمان بن مشرق الأنصاري قراءةً عليه وأنا أسمع قال: أنبأنا أبو الفضل يوسف بن عبد المعطي بن نجا المخيلي في كتابه أن الحافظ أبا طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي أخبرهم قراءةً عليه وهو يسمع قال: أنا أبو الخطاب نصر بن أحمد بن البطر، أنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان البزار، ثنا محمد بن يحيى بن عمر، ثنا جدي عمر بن علي بن حرب، ثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن عطاء، عن أبيه، عن كعب(1/408)
قال: ((نجد في كتاب الله عز وجل: ابن آدم اتق ربك، وبر والديك، وصل رحمك يمد لك في عمرك، وييسر لك يسرك، ويصرف عنك عسرك)).
406- وبه إلى محمد بن يحيى، ثنا جد أبي علي بن حرب، ثنا أبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو، ثنا شعبة، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله، عن حكيم بن قيس بن عاصم: ((أن قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنه أوصى بنيه فقال: اتقوا الله، وسودوا أكبركم، فإن القوم إذا سودوا أكبرهم خلفوا أباهم، وإذا سودوا أصغرهم أزرى ذلك بهم عند أكفائهم، وعليكم بالمال واصطناعه، فإنه منبهةً للكريم، ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم والمسألة فإنها آخر كسب الرجل، ولا تنوحوا علي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه، ولا تدفنوني بأرض تشعر بي بكر بن وائل، فإني كنت أغازيهم في الجاهلية)).
407- أنشدنا أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن مظفر الوزيري بقراءتي عليه قال: أنشدنا الحافظ العلامة أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، أنشدنا القاضي أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن علي الأسواني الكاتب لنفسه:
لله در ليالينا بذي سلم ... ومسرح الطرف من سلمٍ إلى إضم
وفي الزمان بوصل من معالمها ... وطايف البين قبل البين لم يحم
إذا تذكرت أياماً لنا سلفت ... برامتين قرعت السن من ندم(1/409)
لهفي على أربعٍ مأهولةٍ نحلت ... نحول جسمي من وجدٍ ومن سقم
وأكتم الوجد من خوف الرقيب وما ... سري بخافٍ ولا وجدي بمكتتم
408- وأنشدنا أيضاً قال: أنشدنا الحافظ عبد العظيم، أنشدنا عبد الباقي ابن الحسن الدميري المؤذن لنفسه:
يا طالب الدنيا تفكر واعتبر ... ماذا حوى معها بنو حواء
أما التراث فإنه تصحيفةٌ ... ومال بيت المال بيت الماء
الحديث العاشر: عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه
409- أخبرنا الشيخ الصالح أبو الحسن علي بن محمد بن ممدود بن جامع البندنيجي قراءةً عليه وأنا أسمع قال: أنا أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الصمد بن الهيثم البغدادي سماعاً عليه بها، أنا أبو محمد عبد العزيز بن محمود ابن الأخضر الحافظ، أنا أبو الفتح عبد الملك ابن أبي القاسم ابن أبي سهل الكروخي (ح).
410- قال شيخنا: وأنبأنا أبو محمد عبد الخالق بن أنجب بن المعمر النشتبري، عن الكروخي هذا، أنا أبو عامر محمود بن القاسم الأزدي، وأبو نصر عبد العزيز بن محمد بن علي الترياقي، وأبو بكر أحمد بن عبد الصمد الغورجي قالوا: أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي (ح).
411- وأخبرني أبو محمد القاسم بن مظفر بن محمود الدمشقي بقراءتي عليه غير مرة قال: أنا القاضي أبو نصر محمد بن هبة الله بن مميل ابن(1/410)
الشيرازي حضوراً، أنبأنا نصر بن سيار، ثنا صاعد اليساري، وأبو السعادات عبد الرحمن بن محمد المسعودي، قال الأول: أنا أبو عامر محمود بن القاسم الأزدي، والثاني: أنا أبو سعيد محمد بن علي ابن أبي صالح البغوي، قالا: أنا عبد الجبار الجراحي، ثنا محمد بن أحمد المحبوبي، ثنا محمد بن عيسى الحافظ أبو عيسى الترمذي، حدثنا عبد الله بن معاوية الجمحي، حدثنا حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن عبد الله بن سراقة، عن أبي عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه لم يكن نبي بعد نوح إلا قد أنذر قومه الدجال، وإني أنذركموه))، فوصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لعله سيدركه بعض من رآني أو سمع كلامي))، قالوا: يا رسول الله فكيف قلوبنا يومئذ؟ قال: ((مثلها -يعني اليوم- أو خير)).
412- وبه قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي عبيدة، لا نعرفه إلا من حديث خالد الحذاء.
413- وأخبرناه موافقةً أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن أبي الهيجاء الصالحي بقراءتي عليه، أنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن أحمد المقدسي، أخبرتنا فاطمة بنت سعد الخير بن محمد الأنصاري، أنا زاهر بن طاهر الشحامي حضوراً، أنا محمد بن عبد الرحمن الكنجروذي، أنا محمد بن أحمد بن حمدان، ثنا أبو يعلى أحمد بن علي الحافظ، ثنا عبد الله بن معاوية القرشي، حدثنا حماد بن سلمة، فذكره كما تقدم.
414- رواه أبو داود أيضاً عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة به.
415- ورواه الإمام أحمد بن حنبل في ((مسنده)) عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن خالد الحذاء به.(1/411)
416- وأخرجه أبو حاتم ابن حبان في ((صحيحه))، فرواه عن عبد الله بن محمد الأزدي، عن إسحاق بن إبراهيم، عن عفان عن حماد بن سلمة به، فوقع لنا عالياً عنه جداً.
417- أبو عبيدة رضي الله عنه هو عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب ابن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك القرشي، الفهري، أمين هذه الأمة، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد السابقين الأولين إلى الإسلام، وأحد زهاد الصحابة، وكبارهم رضي الله عنه.
418- وأمه أميمة بنت غنم بن جابر، وقيل: دعد بنت هلال بن أهيب ابن ضبة، وقيل غير ذلك.
419- قال خليفة بن خياط: ((أدركت أمه الإسلام، وأسلمت)).
420- أسلم أبو عبيدة رضي الله عنه قديماً مع عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن مظعون قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية في قول ابن إسحاق، وغيره لم يذكره في مهاجرة الحبشة، ولما هاجر إلى المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن معاذ، وقيل: بل بينه وبين [محمد] بن مسلمة، وقيل: بل بينه وبين سالم مولى أبي حذيفة.(1/412)
421- وشهد جميع المشاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل أباه يوم بدر كافراً، ونزل فيه قوله تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} الآية.
422- ونزع يوم أحد الحلقتين اللتين دخلتا في وجه النبي صلى الله عليه وسلم من المغفر بفمه، فانتزعت ثنيتاه، فقيل: ما رئي هتمٌ قط أحسن من هتم أبي عبيدة رضي الله عنه.
423- روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر حديثاً، ليس منها في ((الصحيحين)) شيء سوى قطعة في حديث جابر قصة العنبر، وله في السنن عدة أحاديث، وإنما عز حديثه لتقدم وفاته واشتغاله بفتح البلاد.
424- روى عنه العرباض بن سارية، وجابر، وأبو ثعلبة الخشني، وأبو أمامة، وسمرة بن جندب، رضي الله عنه.
425- ومن التابعين عبد الرحمن بن غنم، وقيس ابن أبي حازم، وأسلم مولى عمر، وميسرة بن مسروق، وناشرة بن سمي، وغضيف بن الحارث، وعبد الله بن سراقة، وغيرهم.
426- وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن لكل أمةٍ أميناً، وأمين هذه الأمة(1/413)
أبو عبيدة بن الجراح))، رواه عمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وحذيفة، وعبد الله بن مسعود، وخالد بن الوليد رضي الله عنهم بأسانيد ثابتة، وبعضها في ((الصحيحين)).
427- وقال عبد الله بن شقيق، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: قيل: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قيل: من الرجال؟ قال: أبو بكر، قيل: ثم من؟ قال: أبو عبيدة بن الجراح)).
428- وروى الحسن البصري مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما منكم أحد إلا لو شئت أخذت عليه بعض خلقه إلا ((أبو عبيدة بن الجراح)).(1/414)
429- وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية في ثلاثة مائة راكب القصة المشهورة في العنبر.
430- وبعثه أيضاً إلى البحرين، وأتي بجزيتها.
431- وقال أبو بكر رضي الله عنه يوم السقيفة: ((رضيت لكم أحد هذين الرجلين))، وأخذ بيد عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة رضي الله عنهما.
432- وقال عمر رضي الله عنه: ((إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته على أمة محمد، قلت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول]: إن لكل أمةٍ أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)).
433- وروي عنه أيضاً أنه قال يوماً لأصحابه: ((تمنوا، فتمنوا، فقال عمر رضي الله عنه: لكني أتمنى بيتاً ممتلئاً رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، فقال له رجل: ما ألوت الإسلام؟ قال: ذلك أردت)).
434- وجهزه أبو بكر رضي الله عنه إلى قتال الروم بالشام، ثم عزله وأمر خالد بن الوليد لخبرته بالحروب، وشجاعته المشهورة، فلما ولي عمر رضي الله عنه أعاد أبا(1/415)
عبيدة، فكان رأس الإسلام في وقعة اليرموك التي استأصلت الروم. ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام كان أبو عبيدة هو الأمير، فدخل خباءه فلم ير فيه شيئاً، فقال عمر: غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة.
435- وفضائله ومناقبه كثيرة جداً، وكانت وفاته بطاعون عمواس سنة ثمان عشرة، وله ثمان وخمسون سنة رضي الله عنه.
فصل
436- هذا الحديث أحد الأحاديث الكثيرة المفيدة للقطع بمجموعها أن الدجال خارج في هذه الأمة، أعاذنا الله من فتنته، وأنه شخص بعينه، ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى، من إحياء الميت الذي يقتله، واتباع كنوز الأرض له، والقدرة على زهرة الحياة الدنيا، وعلى إنزال المطر، واستصحاب الجنة والنار، وإن كان كل منهما على خلاف حقيقته كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من أسباب الفتن التي يرتاب بها من لا ثبات لإيمانه من رعاع الناس وعوامهم، ويثبت الله من سبقت له منه السعادة إلى أن يقتله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.(1/416)
437- ولعظيم فتنته اعتنى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بإنذار أمته منه، كما جاء في هذا الحديث وفي غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم فتعين أن يكون خارجاً فيكم)).
438- وقد خالف في وجوده وخروجه شذوذ من الخوارج، والجهمية، وبعض المعتزلة، وهو قول باطل ترده الأحاديث المفيدة للقطع، ورد بعض المعتزلة أمره إلى المخاريق التي لا حقائق لها بناء على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، وأن هذا لو كان له حقيقة، وهو من فعل الله وإيجاده لاشتبهت المعجزة بذلك، ولم يبق للنبوة دلالة قطعية، والقاعدة من أصلها فاسدة، ثم إن هنا لا يدعي الدجال النبوة حتى يلزم الاشتباه، بل إنما يدعي الإلهية، وصفاته الظاهرة اللازمة له من الحدوث، والنقص، والعور، وكتب كافر بين عينيه، وتجسده، وتحيزه، كل ذلك قاطع بكذبه، وعدم الإلهية. فلم يحصل هنا اشتباه إلا على من لا عقل به من رعاع الناس، لشدة حاجتهم في سد الرمق يومئذ، أو تقبسه، ونحو ذلك، مع سرعة مروره في الأرض، بحيث إنه لا يتمكن كل أحد من تأمل حاله، ولا شك أنه وإن كانت فتنته عظيمة جداً، تدهش العقول، وتحير الألباب، فذاته وصافته اللازمة والعارضة قاطعة بكذبه في دعواه، ولو ادعى النبوة(1/417)
لم يكن الله تعالى يخلف على يده شيئاً من ذلك، ولله سبحانه أن يفعل ما يشاء، ويبتلي عباده بما يريد.
439- وأصل الدجل التغطية والتمويه، يقال: دجل البعير بالقطران إذا طلاه به، ويقال للكذب: دجل لتغطية الحق به، والكذاب دجال لذلك، فأنواع الكذب والتمويه والتلبيس الحاصلة على يد الدجال كثيرة، فلذلك يسمى به، أعاذنا الله من فتنته.
440- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لعله سيدركه بعض من رآني أو سمع كلامي))، هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلمه الله بأن خروجه يتأخر زمناً طويلاً، كما قال يومئذ: ((إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج وليست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم)).
رواه مسلم في ((صحيحه)).
441- فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوقعه ويقربه ولم يكن يتبين له وقت خروجه، ثم بعد ذلك أخبر صلى الله عليه وسلم بقصة خروجه، وكيفيتها، وما قبلها، وما بعدها من الآيات إذ أعلمه الله تعالى بذلك، والله سبحانه أعلم.
442- أخبرنا أبو محمد إسحاق بن يحيى بن إسحاق بن إبراهيم الآمدي الحنفي قراءةً عليه وأنا أسمع غير مرة قال: أنا الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل بن عبد الله الدمشقي بحلب، أنا منصور ابن أبي منصور الجمال، وخليل ابن أبي الرجاء ابن أبي الفتح الرازي بأصبهان قالا: أنا أبو علي الحسن ابن أحمد المقرئ، أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر محمد ابن جعفر الأنباري، ثنا أحمد بن الخليل البرجلاني، ثنا أبو النضر هاشم(1/418)
ابن القاسم، ثنا سليمان بن المغيرة، عن سعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن أسير ابن جابر قال: ((كان محدث الكوفة يحدثنا، فإذا فرغ من حديثه تفرقوا، ويبقى رهط فيهم رجل يتكلم بكلام لا أسمع أحداً يتكلم بكلامه، فأحببته، ففقدته فقلت لأصحابي: هل تعرفون رجلاً يجالسنا كذا وكذا؟ فقال رجل من القوم: نعم أنا أعرفه، ذلك أويس القرني، قلت: أفتعرف منزله؟ قال: نعم، قال: فانطلقت معه حتى جئت حجرته، فخرج إلي، فقلت: يا أخي ما حبسك عنا؟ قال: العري، قال: وكان أصحابه يسخرون به، ويؤذونه، قال: فقلت: خذ هذا البرد فالبسه، قال: لا تفعل، إنهم يؤذوني إذا رأوه، قال: فلم أزل به حتى لبسه، فخرج عليهم، فقالوا: من ترون خدع عن برده هذا؟ قال: فجاء فوضعه، فقال: أترى؟ قال: فأتيت المجلس فقلت: ما تريدون من هذا الرجل، قد آذيتموه، الرجل يعرى مرة، ويكتسي أخرى، فأخذتهم بلساني أخذاً شديداً، قال: فقضى أن أهل الكوفة وفدوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فوجد رجل ممن كان يسخر به، فقال عمر رضي الله عنه: هل ههنا أحد من القرنيين، قال: فجاء ذلك الرجل، قال: فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: ((إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له: أويس، لا يدع باليمن غير أم له، وقد كان به بياض فدعا الله عز وجل فأذهبه عنه إلا مثل موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فأمروه فليستغفر لكم)). قال: فقدم علينا، قال: قلت: من أين؟ قال: من اليمن، قال: ما اسمك؟ قال: أويس، قال: فمن تركت باليمن؟ قال: أماً لي، قال: أكان بك بياضٌ فدعوت الله عز وجل فأذهبه عنك؟ قال: نعم، قال: استغفر لي، قال: أو يستغفر مثلي لمثلك يا أمير المؤمنين؟ قال: فاستغفر له، قال: قلت: أنت أخي لا تفارقني، قال: فانملس مني، فأنبئت أنه قدم عليكم الكوفة، قال: فجعل ذلك الرجل الذي كان يسخر به ويحقره يقول: ما هذا فينا ولا نعرفه، قال عمر رضي الله عنه: بلى إنه رجل كذا، كأنه يضع من شأنه، قال: فينا رجل يا أمير المؤمنين يقال له أويس، قال: أدرك ولا أراك تدرك، قال: فأقبل ذلك الرجل حتى دخل عليه قبل أن يأتي أهله، فقال له أويس رحمة الله عليه: ما هذه بعادتك؟ قال: فما بدا لك؟ قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: فيك كذا وكذا، فاستغفر لي يا أويس، قال: لا أفعل حتى تجعل لي عليك(1/419)
ألا تسخر بي فيما بعد، وأن لا تذكر الذي سمعته من عمر رضي الله عنه إلى أحد، قال: فاستغفر له، قال أسير: فما لبث أن فشا أمره بالكوفة، قال: فدخلت عليه فقلت: يا أخي ألا أراك العجب ونحن لا نشعر؟ قال: ما كان في هذا ما أتبلغ به الناس، وما يجزى كل أحد إلا بعمله. قال: ثم انملس عنهم فذهب)).
443- رواه مسلم مختصراً عن هذا، عن زهير بن حرب، عن هاشم بن القاسم به، فوقع بدلاً له عالياً.
444- أخبرنا الشيخ الجليل أبو المظفر غازي بن داود بن عيسى ابن أبي بكر بن أيوب بن شاذي الملوكي بقراءتي عليه قال: أنا أبو علي الحسن بن محمد ابن محمد البكري سماعاً عليه، أخبرتنا زينب بنت أبي القاسم بن الحسن الثغري، أنا إسماعيل ابن أبي القاسم ابن أبي بكر الفارقي، أنا عمر بن محمد بن مسرور، أنشدنا الإمام أبو سهل محمد بن سليمان بن محمد الصعلوكي، أنشدنا أبو بكر الأنباري، أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى -يعني ثعلباً-:
لقد هتفت في جنح ليلٍ حمامة ... إلى إلفها شوقاً وإني لنائم
كذبت و[بيت] الله لو كنت عاشقاً ... لما سبقتني بالبكاء الحمائم
وبه قال: أنشدنا الإمام أبو سهل الصعلوكي لنفسه:
أنام على سهوٍ وتبكي الحمائم ... وليس لها جرمٌ ومني الجرائم(1/420)
كذبت وبيت الله لو كنت عاقلاً ... لما سبقتني بالبكاء الحمائم
الحديث الحادي عشر: عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه
445- ومن هنا إلى آخر الكتاب رتبت الصحابة على ترتيب وفياتهم رضي الله عنهم.
446- أخبرنا أبو عبد الله منصور بن سليمان بن يوسف البعلبكي وغيره بقراءتي عليه بدمشق قال: أنا أبو الفضل إسماعيل بن أحمد بن الحسين العراقي سماعاً عليه، عن أبي طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي، وأبي الحسين عبد الحق بن عبد الخالق بن يوسف، والكاتبة شهدة بنت أحمد الأبري. قال الأولان: أنا أبو سعد محمد بن عبد الملك الأسدي. وقال السلفي: أنا أيضاً عبد الرحمن بن عمر السمرقندي، والمبارك بن عبد الله الصيرفي، والحسين بن الحسين الفانيذي. وقالت شهدة: أنا علي بن الحسين بن أيوب، قالوا خمستهم: أنا أبو علي الحسن بن أحمد بن شاذان، أنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، حدثنا يعقوب بن سفيان الفسوي، حدثنا عبيد الله بن موسى (ح).
447- وأخبرناه متصلاً أبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم، وأبو عبد الله محمد بن أبي العز بن مشرف، وأبو العباس أحمد بن أبي طالب بن نعمة، وأبو محمد عيسى بن عبد الرحمن بن معالي، وأم محمد وزيرة بنت عمر بن أسعد قراءةً وسماعاً، قالوا: أنا الحسين بن المبارك بن محمد الربعي، أنا عبد الأول ابن عيسى السجزي، أنا عبد الرحمن ابن المظفر البوشنجي، أنا عبد الله بن أحمد الحموي، أنا محمد بن يوسف، أنا الإمام محمد بن إسماعيل، ثنا عبيد الله بن(1/421)
موسى، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي مراوح، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: ((سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيله، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تدع الناس من الشر، فإنها صدقة تصدق بها على نفسك)).
448- هذا حديث متفق عليه، رواه البخاري في كتاب العتق من ((صحيحه))، عن عبيد الله بن موسى كما رويناه عنه، وهو من عوالي ((صحيحه)).
449- ورواه مسلم عن أبي الربيع الزهراني، وخلف بن هشام، كلاهما عن حماد بن زيد.
450- وأخرجه ابن ماجه عن أحمد بن سنان، عن أبي معاوية الضرير، كلاهما عن هشام بن عروة به، فوقع لنا عالياً عنهما.
451- وأخرجه النسائي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب بن الليث، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن عروة به، فوقع لنا عالياً عنه جداً.(1/422)
452- وأخرجه مسلم أيضاً عن عبد بن حميد، ومحمد بن رافع، كلاهما عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن حبيب مولى عروة، عن عروة به، فوقع لنا عالياً عنه بثلاث درجات، ولله الحمد والمنة.
453- أبو ذر رضي الله عنه اختلف في اسمه واسم أبيه على أقوال، وأصح ما قيل منها أنه جندب بن جنادة بن كعب بن صغير بن الوقيعة بن حرام بن سفيان بن عبيد ابن حرام بن غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر الغفاري.
454- أحد السابقين إلى الإسلام، والنجباء من الصحابة رضي الله عنهم، والزهاد القوالين بالحق.
455- أسلم قديماً خامس خمسة هو وأخوه أنيس وأمهما، وقصة إسلامه مشهورة في ((الصحيحين))، ثم انصرف إلى بلاد قومه فأقام بها إلى أن هاجر إلى المدينة بعد الخندق، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مات.
456- روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائتا حديث، وأحد وثمانون حديثاً، اتفقا منها على اثني عشر حديثاً.
457- روى عنه ابن عباس، وأنس بن مالك رضي الله عنهما، والأحنف بن قيس، وسويد بن غفلة، وقيس بن عباد، وجبير بن نفير، وأبو إدريس الخولاني، وعبد الله ابن الصامت، والمعرور بن سويد، وآخرون.
458- روى النزال بن سبرة، عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)).(1/423)
459- ورواه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً، وحسنه.
460- وعن عبد الله بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت بحب أربعة من أصحابي، وأخبرني الله بحبهم: علي، وأبو ذر، وسلمان، والمقداد)).
461- وقال عبد الله بن مليل، عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لكل نبي سبعة نجباء، وأعطيت أربعة عشر نجيباً رفيقاً))، فذكر منهم أبا ذر رضي الله عنه.
462- وقال علي رضي الله عنه: ((أبو ذر وعاء ملئ علماً، ثم أوكي عليه فلم يخرج منه شيء حتى قبض)).
463- مناقبه كثيرة جداً.
464- مات بالربذة سنة اثنتين وثلاثين، وصلى عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وتأسف عليه، ثم سار إلى المدينة فأقام بها عشراً ومات أيضاً رضي الله عنهما.(1/424)
فصل
465- أخرجا في ((الصحيحين)) عن أبي هريرة رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور)).
466- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)).
467- إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة المختلفة الدلالة في تعيين الأفضل، ولا شك أن الإيمان أفضل الأعمال مطلقاً، وأنه شرط في صحة كل عمل وقبوله، ولكن حيث أجاب النبي صلى الله عليه وسلم سائلاً منهم بغير الإيمان دل على أنه فهم منه أنه ما سأل إلا عن أعمال البدن فقط، أو عن الأعمال التي بعد الإيمان، وحيث أجاب صلى الله عليه وسلم بالإيمان كان لما فهم من السائل أن سؤاله عن الأعمال التي تعم أعمال القلب والجوارح، فقدم الإيمان الذي هو أصلحها وأفضلها مطلقاً.
468- وأما اختلاف الأحاديث في تعيين الأفضل فأحسن ما قيل فيه أن ذلك كان بحسب اختلاف حال السائلين، فكأن القرائن حينئذٍ مفهمة لمن حضر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد هذه الخصلة الخاصة أنها أفضل الأعمال على الإطلاق، بل بالنسبة إلى الحاضرين.
469- فقوله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث: ((ألا أخبركم بأفضل أعمالكم(1/425)
وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم))، ثم فسره بذكر الله؛ محمول على أن الذكر أفضل بالنسبة على المخاطبين بهذا، ولو خوطب به الشجاع الباسل الذي يحصل منه غناء عن الإسلام في القتال لقيل له الجهاد، أو الغني الذي ينتفع الفقراء بماله لقيل له الصدقة، أو القادر على السفر ولا غناء له في القتال لقيل له الحج، أو من له والدان لقيل له بر الوالدين، وكذلك الجميع، فبهذا الوجه يحصل الجمع بين الأحاديث كلها، ولا تتناقض، ويبقى ترجيح كل واحدة من هذه على غيرها عند الإطلاق إنما تؤخذ من أدلة خارجية لا من هذه الأحاديث، وذلك بعد الإيمان الذي هو الأصل
470- وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر الذي سقناه: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) لا يقتضي مساواة الجهاد للإيمان من كل وجه، فكما أن الواو لا تقتضي الترتيب بذاتها لا تنافيه إذا دلت الأدلة عليه. وقد قامت الأدلة القاطعة على أفضلية الإيمان على الجهاد وغيره، فتكون الواو هنا بمعنى ((ثم)) لدليلٍ من خارج، وهو حديث أبي هريرة المتقدم، الذي رتب فيه بعد الإيمان الجهاد بلفظ ((ثم))، ولكون الجهاد سبباً لإعلاء كلمة الإسلام، ودخول الناس فيه، وقمع الكفار وإذلالهم، وتمكن المسلمين من إظهار الإيمان، إلى غير ذلك من فوائده الجليلة؛ كان قريباً من الإيمان، فلذلك قرنه به، وإن كان مرتباً بعده.
471- وقول أبي ذر رضي الله عنه: ((أي الرقاب أفضل))، يريد به في العتق، كما جاء مصرحاً به في بعض الروايات، ولهذا أجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها)). والمراد بهذا الحديث والله أعلم: إذا أراد أن يعتق رقبة واحدة فلا ريب في أن الأكبر ثمناً والأفضل نفاسة عند أهله هو الأفضل، فأما إذا كان معه قدر معين وأراد أن يشتري به رقبة يعتقها، وقدر على أن يشتري رقبتين أو(1/426)
أكثر للعتق فإن التكثير حينئذٍ أفضل، لما فيه من تكثير تخليص الرقاب من الرق، بخلاف الأضحية فإن التضحية بشاة سمينة أفضل منها بشاتين دون تلك بثمنها، لأن المقصود من الأضحية اللحم، فكل ما كان أطيب كان أفضل، بخلاف العتق فإنه تخليص رقبة دون تخليص رقاب.
472- وقوله: ((تعين صانعاً))، روي هذا اللفظ على وجهين:
473- أحدهما: ((تعين ضايعاً)) بالضاد المعجمة، والياء آخر الحروف، وهي رواية هشام بن عروة في غالب طرقه، وهو صحيح المعنى، لأن الضايع محتاج إلى المعونة، لكن ذكر علي بن المديني، والدارقطني، وغيرهما أن هذا تصحيف وقع من هشام، وأن الصواب ما في رواية الزهري: ((تعين صانعاً)) بالصاد المهملة، والنون، وهذا هو الأشبه بالسياق، لقوله صلى الله عليه وسلم بعده: ((أو تصنع لأخرق))، لأن ((أو)) لأحد الشيئين، فدل على تقابلهما، والصانع هو الذي يحسن الصنعة، يقال: رجلٌ صنعٌ، بفتح النون، إذا كان حاذقاً، فإن لم يكن حاذقاً قيل له: صانع، وامرأة صناع، فحينئذٍ الصانع محتاج إلى المعنونة، لأنه يطلق على غير الحاذق، والأخرق الذي لا يحسن صنعة، يقال: رجل أخرق، وامرأة خرقاء، فمعنى الحديث: الحث على معونة ابن آدم، وقضاء حوائجه في كلا الحالين، والله سبحانه أعلم.
474- أخبرنا العالم المعمر أبو محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن عبد المنعم النابلسي بقراءتي عليه ببيت المقدس قال: أنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الخطيب وأنا في الرابعة (ح).
475- وأخبرني جماعة منهم محمد بن أبي بكر بن إبراهيم الأسدي قال: أنا يوسف بن خليل الحافظ قالا: أنا يحيى بن محمود الثقفي، أنا إسماعيل بن(1/427)
الفضل بن الإخشيد السراج، أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم، أنا عبد الله بن محمد الصريفيني، أنا عبد الله بن محمد البغوي، ثنا أبو خيثمة زهير ابن حرب، ثنا جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، قال: حدثني شيخ من عبس قال: ((صحبت سلمان، فأردت أن أعينه وأتعلم منه، وأن أخدمه، قال: فجعلت لا أعمل شيئاً إلا عمل مثله، قال: فانتهينا إلى دجلة، وقد مدت وهي تطفح، فقلنا: لو سقينا دوابنا، قال: فسقيناها ثم بدا لي أن أشرب، فشربت، فلما رفعت رأسي قال لي سلمان رضي الله عنه: يا أخا بني عبس عد فاشرب، قال: فعدت فشربت، وما أريده إلا كراهية أن أعصيه، قال: ثم قال: كم تراك نقصتها؟ قال: قلت: يرحمك الله وما عسى أن ينقصها شربي؟ قال: فكذلك العلم تأخذه ولا تنقصه شيئاً، فعليك من العلم بما ينفعك)).
476- أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن خضر الحداد في آخرين سماعاً عليهم قال: أنا أبو العباس أحمد بن عبد الدائم المقدسي، أنا بركات بن إبراهيم القرشي، أنا هبة الله بن أحمد بن محمد الأكفاني، ثنا الحافظ أبو بكر بن محمد بن علي الخطيب قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله الصوري لنفسه:
كم إلى كم أغدو إلى طلب العلم ... مجداً في جميع ذاك حفيا
طالباً منه كل نوعٍ وفن ... وغريب ولست أعمل شيا
وإذا كان طالب العلم لا ... يعمل بالعلم كان عبداً شقيا
إنما تنفع العلوم لمن كان ... بها عاملاً وكان تقيا(1/428)
477- وبه إلى الخطيب قال: قرأت على ظهر كتاب لأبي بكر محمد بن عبد الله بن أبان الهيتي:
إذا العلم لم تعمل به كان حجةٌ ... عليك ولم تعذر بما أنت حامل
فإن كنت أبصرت هذا فإنما ... يصدق قول المرء ما هو فاعل
الحديث الثاني عشر: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
478- أخبرنا الشيخ الإمام العلامة الرباني قاضي القضاة بركة المسلمين، أبو القاسم هبة الله بن عبد الرحيم بن هبة الله بن المسلم بن هبة الله البارزي الحموي الشافعي بقراءتي عليه غير مرة بطريق الحج، وقراءة عليه وأنا أسمع بدمشق قال: أنا جدي الإمام أبو طاهر إبراهيم بن هبة الله سماعاً عليه، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن المظفر بن إبراهيم الحربي، أنا الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد النحوي ابن الخشاب، وأبو الفتح يوسف بن محمد بن مقلد الدمشقي، قال الأول: أنا القاضي أبو عبد الله محمد بن الحسين السمناني، والثاني: أنا عمر بن إبراهيم التنوخي، قالا: أنا الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي المفسر، أنا أبو عبد الله بن أبي إسحاق، ثنا والدي محمد بن إسحاق الثقفي، ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، ومحمد بن الصباح قالا: حدثنا جرير (ح).
479- وأخبرنا أعلا من هذا بثلاثة رجال أبو محمد القاسم بن مظفر بن محمود الدمشقي سماعاً عليه، عن أبي الوفاء محمود بن إبراهيم بن سفيان(1/429)
الأصبهاني فيما كتب إليه منها أن أبا الخير محمد بن أحمد بن عمر الباغبان أخبرهم قراءة عليه وهو يسمع قال: أنا أبو عمرو عبد الوهاب بن محمد ابن منده، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد الطيان، وأبو بكر محمد بن أحمد السمسار، قالوا: أنا إبراهيم بن عبد الله بن خرشيد قوله: ثنا الحسين بن إسماعيل القاضي، ثنا يوسف -يعني ابن موسى-، ثنا جرير -وهو ابن عبد الحميد-، عن منصور بن المعتمر، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل أبي ميسرة، عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ .. .. )) -زاد يوسف: ((عند الله))- قال: ((أن تجعل لله نداً))- وقال يوسف: ((شريكاً وهو خلقك))-، قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك)).
480- هذا حديث صحيح، رواه البخاري ومسلم جميعاً، عن عثمان بن أبي شيبة، ومسلم أيضاً عن إسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن جرير بن عبد الحميد كما روينا، فوقع لنا في الرواية الثانية بدلاً لهما عالياً.
481- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود بن غافل بالمعجمة والفاء، ابن حبيب بن شمخ ابن فار بالفاء، ابن مخروم بن صاهلة ابن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد أخي لحيان ابني هذيل أخي خزيمة والد أسد وكنانة ابني خزيمة، كلاهما هذيل وخزيمة ابنا مدركة أخي طابخة وقمعة ثلاثتهم بنو إلياس -بالياء آخر الحروف- أخي إلناس -بالنون-، وهو قيس عيلان ابنا مضر أخي ربيعة ابني نزار بن معد بن عدنان الهذلي، حليف عبد الحارث بن زهرة بن كلاب.
482- وأمه أم عبد بنت عبد ود بن سواء من هذيل أيضاً، أسلمت وهاجرت.(1/430)
483- وكان إسلام عبد الله قديماً قبل عمر رضي الله بزمان، وفي ((معجم الطبراني)) عنه قال: ((لقد رأيتني سادس ستة ما على الأرض مسلم غيرنا))، وهاجر إلى الحبشة، ثم رجع إلى مكة، وهاجر إلى المدينة، وشهد جميع المشاهد لم يفته شيء منها، وأجهز يوم بدر على عدو الله ورسوله أبي جهل بن هشام فاحتز رأسه. وكان كثير الملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم والدخول عليه، ويلي نعل النبي صلى الله عليه وسلم يلبسه إياها، فإذا جلس أدخلها في ذراعه، فكان يقال له: صاحب سواد النبي صلى الله عليه وسلم -يعني سره-، وصاحب سواكه ووساده ونعله وطهوره أيضاً.
484- قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: ((قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثت حيناً وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لما ترى من كثرة دخوله ودخول أمه عليه صلى الله عليه وسلم )).
485- وجمع القرآن كله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم .(1/431)
486- وروي له من الحديث ثمان مائة حديث وثمانية وأربعون حديثاً، اتفق الشيخان منها على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين.
487- روى عنه ابن عمر، وابن عباس، وأبو موسى، وجابر، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعمران بن حصين، وعبد الله بن الزبير، وعمرو بن حريث، وغيرهم رضي الله عنهم.
488- ومن التابعين خلائق وأئمة كبار كعلقمة، ومسروق، والأسود، وزر ابن حبيش، وأبي وائل، وقيس بن أبي حازم، وعمرو بن ميمون، وزيد بن وهب.
489- وكان يقال لأصحابه بالكوفة: سرج البلدة.
490- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد)).
491- وقال صلى الله عليه وسلم: ((استقرؤوا القرآن من أربعة))، فذكر منهم ابن مسعود.
492- متفق عليهما!
493- وعند الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما حدثكم ابن مسعود فصدقوه)).
494- وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال بمكة: ((تمسكوا بعهد ابن أم عبد)).(1/432)
495- وقال عبد الرحمن بن يزيد: ((قلنا لحذيفة رضي الله عنه: أخبرنا برجل قريب السمت والهدي والدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ عنه، فقال: ما نعلم أحداً أقرب سمتاً وهدياً ودلاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد، ولقد علم المحظوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة)).
496- وكتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة: ((قد آثرتكم بعبد الله على نفسي)).
497- وقال فيه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: ((لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم))، ((ومجلس كنت أجالس فيه ابن مسعود أوثق في نفسي من عمل سنة)).
498- وفي ((الصحيحين)) عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((اقرأ علي القرآن، قال: فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ عليه سورة النساء)).
499- وقال: ((لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة))، ((وما من سورة إلا وأنا أعلم أين نزلت، وفيم نزلت)).(1/433)
500- ومناقبه وفضائله كثيرة جداً لا يسعها هذا المختصر.
501- قال الجمهور: توفي سنة اثنتين وثلاثين، وهو ابن بضع وستين سنة.
502- وقيل: مات سنة ثلاث وثلاثين، والأول أصح.
503- والجمهور على أنه مات بالمدينة، وصلى عليه عثمان، وقيل: الزبير، ودفن بالبقيع، وقيل: مات في الكوفة، والأول أثبت، رضي الله عنه.
فصل
504- دل هذا الحديث على أن هذه الثلاثة أعظم الذنوب الكبائر على الإطلاق، ولا دلالة فيه على انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر كما قد احتج به بعضهم على ذلك؛ لأن القائلين بأنه ليس في الذنوب صغائر كالأستاذ أبي إسحاق وإمام الحرمين يوافقون على [أن] بعض الذنوب أعظم من بعض.
505- قال الإمام: كحكمنا للأنبياء بالفضيلة، وعلو الرتبة، وبعضهم أعلى من بعض وأفضل.
506- ومأخذ هؤلاء أن أقدار الذنوب تعظم بعظم المعصي بها، فإن التجرؤ(1/434)
على الملك الكبير أعظم فحشاً من التجرؤ على من دونه بالعصيان، والله تعالى أعظم وأجل من كل شيء، فمعصيته تكون أكبر المعاصي، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأيضاً المعصية يعظم موقعها إذا كان المعصي بها له نعمٌ على من عصاه، ونعم الله تعالى على العبد لا تحصى، فمعاصيه كلها كبائر.
507- وهذا القول يعارضه قوله تعالى: {مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها} إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، وليس هذا موضع ذكر ذلك، إذ لا تعلق له بالحديث، وإنما المقصود أن هذه الثلاثة أعظم الكبائر.
508- أما الشرك، فلا خاف فيه أنه أكبر الكبائر على الإطلاق، وقد(1/435)
نبه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود هذا بقوله: ((وهو خلقك)) على عظم قبح الكفر؛ لأن الأدلة القاطعة دالة على أنه لا خالق إلا الله، ولا مدبر للعالم سواه، ولا موجد إلا إياه، فإذا عورض ذلك بعبادة غيره كان أعظم القبائح، ولذلك لم ينفع معه عمل، وكان موجباً للخلود في النار، نعوذ بالله منها.
509- وأما قتل النفس والزنى فمذهب الشافعي وكثير من الأئمة أن القتل أكبر الكبائر بعد الشرك بالله؛ لأن القتل يزيل الحياة بالكلية عمن كان يوحد الله ويعبده، فهو قاطع للتوحيد والعبادة الحاصلين من هذا المقتول، فكان قريباً من مرتبة الكفر، وذهب غيره إلى أن الزنى أكبر من القتل في الفحش والإثم؛ لأنه قطع للنسب، فيصير ولد الزنى كالمعدوم؛ إذ لا نسب له، ولما ينشأ عنه من التباغض والحمية والغيرة المفضية إلى القتال وإراقة الدماء.
510- وهذا الحديث حجة للشافعي رحمه الله في تقديم القتل على الزنا بلفظ ((ثم))، لكنه لم يتضمن القتل والزنا مطلقاً، بل نوع كل منهما الذي هو أفحش أنواعه، فإن قتل الإنسان ولده -كما كانت العادة جارية به في الجاهلية- أشد أنواع القتل وأفحشها؛ لما في ذلك من القسوة والغلظ وعدم الرحمة على من جبل الله الطباع على رحمته، فلذلك خصه النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر، ثم نبه فيه أيضاً على فحش السبب الباعث على ذلك، وهو مخافة أن يشاركه في ماله، فانضم إلى ما ذكرناه البخل المذموم على الشيء اليسير الذي لا يضر كالأكل.
511- وأفحش أنواع الزنا أيضاً الزنا بحليلة الجار، فلذلك خصه النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر في هذا الحديث؛ لأن الجار يطلب من جاره أن يذب عن حريمه ويحامي عنهم ويدفع من يقصدهم بسوء، كما كانت كرام العرب تفعل، وأكد الله تعالى ورسوله حق الجوار ليترتب عليه الألفة والتواصل والمحبة في الدين، ولا شك أن الزنى بامرأته ينافي ذلك كله، وأيضاً فالجار كالمخالط له في داره المطلع على حريمه وعوارته، وهو أقدر على الوصول إلى حريمه من البعيد، فخصه الشارع صلى الله عليه وسلم بالذكر ليكون مخصوصاً بمزيد النهي.(1/436)
512- وفي بعض روايات هذا الحديث في ((صحيح مسلم)) أن الله تعالى أنزل عقيب سؤال ابن مسعود قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} والتي بعدها.
513- وعند الترمذي والنسائي: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآيات عقيب سؤال ابن مسعود رضي الله عنه)).
514- وأيّاً ما كان، ففيه دلالة على أن المراد القتل والزنا على الإطلاق، ولكنه صلى الله عليه وسلم خص هذين النوعين بالذكر لعظم فحشهما، والله أعلم.
515- أخبرنا الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن بدران بن منصور القاهري المقرئ المعروف بابن الجرائدي بقراءتي عليه بدمشق قال: أنا أبو القاسم عبد الرحمن بن مكي بن عبد الرحمن بن الحاسب الإسكندري قراءة عليه وأنا أسمع بمصر، أنا جدي الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي بالإسكندرية، أنا أبو عبد الله القاسم بن الفضل بن أحمد الثقفي بأصبهان، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران السكري ببغداد، ثنا الحسين بن صفوان البرذعي، ثنا عبد الله بن محمد ابن أبي الدنيا، حدثني أبي والعباس بن هشام، عن هشام بن محمد، حدثني أبو نصر مالك بن نصر الدالاني قال: سمعت أعشى همدان الشاعر قال: ((سمعت رجلاً منا يحدث، قال: خرج مالك بن [حريم] الهمداني الشاعر في الجاهلية ومعه نفر من قومه يريدون عكاظاً، قال: فاصطادوا ظبياً في طريقهم وقد أصابهم عطش شديد، فانتهوا إلى مكان يقال(1/437)
له: أجيرة، فجعلوا يفصدون دم الظبي ويشربونه من العطش، حتى إذا نفد ذبحوه، ثم تفرقوا في طلب الحطب، فنام مالك في الخباء، فأثار أصحابه شجاعاً، فانساب حتى دخل خباء مالك، وأقبلوا فقالوا: يا مالك عندك الشجاع فاقتله، فاستيقظ مالك فقال: أقسمت عليكم إلا كففتم عنه، فكففنا وانساب الأسود، فأنشأ مالك يقول:
وأوصاني الحريم بعز جاري ... وأمنعه وليس به امتناع
وأدفع ضيمه وأذود عنه ... وأمنعه إذا منع المتاع
فداً لكم أبي عنه تنحوا ... [لشيء] ما استجار به الشجاع
ولا تتحملوا دم مستجيرٍ ... تضمنه أجيرة فالتلاع
فإن لما ترون غبي أمرٍ ... له من دون أعينكم قناع
ثم ارتحلوا وقد أجهدهم العطش، فإذا بهاتف يهتف بهم ويقول:
يا أيها الركب لا مأل أمامكم حتى ... تسوموا المطايا يومها التعبا
ثم اعدلوا شأمه فالماء عن ... كثب عين رواء وماء يذهب اللغبا
حتى إذا ما أصبتم منه ريكم ... فاسقوا المطايا ومنه فاملؤوا القربا
قال: فعدلوا شأمه، فإذا هم بعين خرارةٍ، فشربوا وسقوا إبلهم وحملوا منه ريهم، ثم أتوا عكاظاً، ثم انصرفوا فانتهوا إلى موضع العين فلم يروا شيئاً، وإذا بهاتف يقول:
يا مال جزاك الله عني صالحة ... هذا وداعٌ لكم مني وتسليم
لا يزهدن في اصطناع العرف من أحد ... إن الذي يحرم المعروف محروم(1/438)
أنا الشجاع الذي أنجيت من رهقٍ ... شكرت ذلك إن الشكر مقسوم
من يفعل الخير لا يعدم مغبته ... ما عاش والكفر بعد الغب مذموم
516- أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد ابن أبي القاسم العدوي المعدل فيما قرئ عليه وأنا أسمع، عن الحافظ أبي محمد عبد الخالق بن أنجب بن المعمر، عن أبي بكر وجيه بن طاهر بن محمد الشحامي في كتابه (ح).
517- وأخبرني متصلاً إسحاق بن يحيى الآمدي سماعاً أيضاً، أنا أبو طاهر الحسن بن العباس التميمي، أنا أبو سعيد عبد الواحد بن علي بن حمويه، أنا وجيه المذكور قال: أنشدنا الإمام والدي أبو عبد الرحمن طاهر بن محمد بن محمد الشحامي لنفسه:
حل المشيب وأنس القلب مرتحل ... والرأس مشتعلٌ والقلب مشتغل
يفني الشباب بلا ريثٍ إلى بدلٍ ... ليت المشيب له غير الردى بدل
لم ينزل الشيب داراً أنت ساكنها ... إلا ويخرب منه الدار والطلل
من لم يتب في شبابٍ من ضلالته ... فكيف والشيب داء النفس والعلل
518- وبه قال: أنشدنا أبي أيضاً لنفسه:
لا يحمدن فتىً أخاه في الهوى ... إن الهوى للمرء نارٌ لاهبه
وكذاك وعدٌ من لئيمٍ أنه ... وعد اللئيم له هباءٌ لا هبه(1/439)
الحديث الثالث عشر: عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه
519- أخبرنا الشيخ الصالح العابد أبو العباس أحمد بن الطنباء بن عبد الله القواس الحلبي ثم الصالحي قراءة عليه وأنا أسمع في جماعة آخرين قالوا: أنا [أبو] عبد الله محمد بن إسماعيل بن أحمد المقدسي سماعاً عليه، أخبرتنا أم عبد الله فاطمة بنت سعد الخير بن محمد الأنصاري سماعاً عليها، أنا أبو القاسم زاهر بن طاهر الشحامي حضوراً، أنا أحمد بن منصور المغربي وأحمد بن عبد الرحيم الإسماعيلي قالا: أنا أحمد بن محمد الخفاف، ثنا قتيبة بن سعيد: ثنا مالك (ح).
520- وأخبرنا متصلاً إسماعيل بن يوسف السويدي بقراءتي عليه، أنا مكرم ابن محمد بن أبي الصقر، أنا حمزة بن أحمد بن فارس، أنا الفقيه أبو الفتح نصر ابن إبراهيم، أنا محمد بن جعفر الميماسي المياسي، أنا علي بن العباس الغزي، ثنا الحسن بن الفرج الأزدي، ثنا يحيى بن بكير، ثنا مالك بن أنس، عن عامر بن عبد الله، عن عمرو بن سليم، عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء أحدكم المسجد، فليركع ركعتين قبل أن يجلس)).
521- هذا حديث متفق على صحته.
522- رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف.
523- ومسلم والترمذي والنسائي عن قتيبة بن سعيد، وزاد مسلم القعنبي ويحيى.
524- أربعتهم عن مالك.
فوقع لنا في الرواية الأولى موافقة للثلاثة، وبدلاً للبخاري.(1/440)
525- وأخرجه مسلم أيضاً عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن حسين الجعفي، عن زائدة، عن عمرو بن يحيى، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمرو بن سليم به.
526- فوقع لنا عالياً عنه في هذه الطريق بثلاث درجات.
527- وقد رواه سفيان بن عيينة أيضاً، ووقع لنا عالياً.
528- أخبرناه الرباني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الطبري بقراءتي عليه بمكة -شرفها الله- من أصله قال: أنا أبو الحسن علي بن هبة الله اللخمي، أخبرتنا شهدة بنت أحمد الآبري قالت: أنا الحسين بن علي بن البسري، أنا عبد الله بن يحيى السكري، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا سعدان بن نصر، ثنا سفيان بن عيينة، عن عثمان بن أبي سليمان ومحمد بن عجلان، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم، فذكره بنحو ما تقدم.
529- أبو قتادة رضي الله عنه اختلف في اسمه؛ فقيل: عمرو، وقيل: النعمان، والأصح أنه الحارث بن ربعي بن بلدمة بن خناس أخي خنساء جد البراء بن معرور بن صخر بن خنساء، والنعمان جد جابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان، ثلاثتهم أولاد سنان بن عبيد بن عدي أخي سواد وكعب ابني حرام، ثلاثتهم أولاد عم ابن كعب بن سلمة بكسر اللام أخي أدى، كلاهما ابنا سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد -بالتاء المثناة من فوق-، أخي غضب -بالغين والضاد المعجمتين-، كلاهما ابنا جشم أخي كعب وعون وعمرو والحارث وهما الخرطومان، خمستهم أولاد الخزرج الأكبر أخي الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء -الخارج بولده وولد ولده من اليمن أيام سيل العرم- ابن عامر بن(1/441)
حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن جماع غسان بن الأزد بن الغوث بن نبت ابن مالك بن زيد بن كهلان أخا حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان الأنصاري السلمي.
530- فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلف في شهوده بدراً، والأصح أنه لم يشهدها، بل شهد أحداً وما بعدها.
531- وروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة وسبعون حديثاً، اتفقا على أحد عشر حديثاً منها، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثمانية أحاديث.
532- روى عنه أبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك رضي الله عنهم، وابنه عبد الله، ومولاه نافع، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن كعب بن مالك، وعبد الله بن رباح، وعمرو بن سليم الزرقي وآخرون.
533- وفي ((صحيح مسلم)): عن سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم ذي قرد: ((خير فرسانها أبو قتادة)).
534- وفي ((الصحيحين)) في قصة غزوة حنين أن أبا بكر رضي الله عنه قال: ((لاها الله إذن لا يعمد -يعني النبي صلى الله عليه وسلم - إلى أسدٍ من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله -يعني أبا قتادة- هذا فيعطيك سلبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق)).
535- قال الهيثم بن عدي وغيره: مات بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، وصلى عليه علي رضي الله عنهما.(1/442)
536- وقال يحيى بن بكير وغيره: مات بالمدينة سنة أربع وخمسين، وله سبعون سنة والله أعلم، والذي عندي أنه مات بالمدينة رضي الله عنه.
فصل
537- تضمن هذا الحديث الأمر لمن دخل المسجد بركعتين تحيةً له، ولفظه في بعض طرقه في ((الصحيحين)): ((فلا يجلس حتى يصلي ركعتين))، فأخذ بدلالة الأمر في فعل الصلاة والنهي عن الجلوس في الرواية الأخرى داود الظاهري ومن وافقه، فقالوا بوجوب هاتين الركعتين وتحريم الجلوس قبلهما، والجمهور حملوا [الأمر] على الاستحباب والنهي على الكراهة، لما تقدم في حديث السائل من حديث طلحة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((هل علي غيرهن؟ فقال: لا، إلا أن تتطوع)).
538- [فبين أن ما عداها تطوع]، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((خمس صلوات كتبهن الله على العباد من جاء بهن لم يحجب عن الجنة))، رواه مالك في ((الموطأ)).
539- وللاتفاق على أن دخول المسجد والجلوس فيه لا يحرم على(1/443)
المحدث الحدث الأصغر، فلو كانت التحية واجبة لحرم الدخول والجلوس إلا بوضوء لأجلهما؛ فإن خصصوا الحديث بمن كان متوضئاً فقد خرجوا عن الظاهر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة الخمسة، وقال أيضاً: ((لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس)). فذهب أبو حنيفة ومالك وغيرهما إلى أن تحية المسجد لا تفعل في هذه الأوقات، وذهب الشافعي وأحمد بن حنبل إلى بقاء استحبابها، وقدموا حديث أبي قتادة على حديث النهي في تلك الأوقات، وهذا له تعلق بتعارض النصين، وكل واحد منهما عام من وجه وخاص من وجه، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين)) عام في جميع الأوقات، لكنه خاص بالنسبة إلى الصلوات، فلم يقتض إلا هذه الصلاة الخاصة، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة بعد الصبح .. .. )) الحديث عام في كل الصلوات، لكنه خاص بالنسبة إلى الأوقات، فمن قدم أحد الحديثين على الآخر -لما فيه من الخصوصية بالنسبة إلى عموم الآخر يعارض بمثله في عموم هذا وخصوص ذاك المؤخر- فلا بد من دليل خارجي يقتضي تقديم أحدهما على الآخر.
540- وأقوى ما يوجه به مذهب الشافعي أن هذين الحديثين لما بينهما من العموم والخصوص كالعامين إذا تعارضا ولا خصوص بينهما، ومتى تعارض(1/444)
العمومان وكان أحدهما دخله التخصيص في غير صورة التعارض والآخر لم يدخله التخصيص كان هذا الثاني أرجح وأولى بالتقديم، لسلامته عن المعارض بالنسبة إلى مدلوله.
541- وكذلك إذا كان أحدهما أقل تخصيصاً من الآخر؛ فإنه أرجح منه لقربه من الحقيقة وقلة المخالفة فيه لمدلوله، فإذا عرف ذلك فقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة بعد الصبح .. .. )) الحديث، وما شابهه دخله التخصيص بغير صورة التحية، فقد دل فعله صلى الله عليه وسلم بعد العصر الركعتين اللتين شغل عنهما بعد الظهر على جواز قضاء الفائتة بعد العصر، وكذلك إقراره الرجل الذي رآه يقضي سنة الصبح بعدها ولم ينكر عليه، واتفق الأئمة على أن من شغل عن الصبح أو العصر أو أخرها بغير شغل إلى وقت الطلوع أو الغروب فإنه يصليهما في ذلك الوقت.
542- فقد دخل عموم النهي في هذه الأوقات التخصيص (بعدة صلوات)، بخلاف حديث أبي قتادة في التحية، فإنه لم يقم دليلٌ على تخصيصه في غير الصورة المتنازع فيها، فيقدم حينئذ هذا العموم على ذلك عملاً بهذه القاعدة.
543- ثم يقوى هذا بحديث سليك الغطفاني ودخوله والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فأمره أن يصلي تحية المسجد، مع أن الصلاة في حالة الخطبة ممنوع منها.
544- ولا يقال: إن أمره صلى الله عليه وسلم لسليك كان ليراه الناس فيتصدقوا عليه، لأنا نقول: ثبت في ((صحيح مسلم)) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عقيب قصة سليك: ((إذا جاء(1/445)
أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين))، فهذا الحديث [يدل] أيضاً على شدة الاعتناء بتحية المسجد.
545- وهذا الحديث وإن كان عامًّا بالنسبة إلى المساجد فقد تخصص بالمسجد الحرام، فإن تحيته إنما هي الطواف نظراً إلى المعنى، وهو أن المقصود افتتاح الدخول في محل العبادة بعبادة تناسبه، والطواف من خصائص هذا المسجد فهو أنسب به من الصلاة.
546- ومن هذا المعنى قال أصحابنا: إنه لو صلى فرضاً أو سنة راتبة أو قضى فائتة أجزأه عن تحية المسجد وإن لم ينو التحية، وكذلك لو نوى بصلاته مقصودها الأول والتحية انعقدت صلاته وحصلا له لعدم المنافاة، وهو يرجع إلى تخصيص عموم الحديث بالقياس، ومن لا يجيزه يمنع هذا الحكم ويقول: الشارع ندب إلى ركعتين مخصوصتين فلا يحصل بغيرها، والله سبحانه أعلم.
547- أخبرنا الصالح الخير أبو العباس أحمد بن محمد بن الحسن بن سالم الحمصي الصواف بقراءتي عليه قال: أنا العلامة أبو الحسن علي بن محمد ابن عبد الصمد السخاوي، أنا أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي الحافظ، أنا أبو الحسن علي بن الحسن بن الحسين الموازيني بدمشق، عن القاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي، أنا أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن شاكر القطان بقراءتي عليه قال: حدثني إسماعيل بن عمر بن الحسن الخولاني، ثنا عبد الله بن محمد بن الخصيب القاضي، ثنا هارون بن عبد العزيز الوارجي، ثنا عبد الله بن محمد بن وهب، ثنا عبد الله بن محمد الفريابي قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ببيت المقدس يقول: سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا لجريء، ما تقول أصلحك الله في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: نعم، بسم الله الرحمن الرحمن، {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.(1/446)
548- وحدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما)).
549- وحدثنا سفيان بن عيينة، عن مسعر، عن قيس بن مسلم، عن طارق ابن شهاب: ((أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بقتل الزنبور)).
550- وبه إلى ابن شاكر: ثنا علي بن محمد بن إسحاق البزار، ثنا عثمان ابن شاذان القاضي، ثنا أبو الحسن أحمد بن عثمان، ثنا محمد بن الحسن الترمذي، ثنا يحيى بن عبد الباقي، ثنا محمد بن عامر، عن البويطي قال: سمعت الشافعي رحمه الله يقول: ((قد ألفت هذه الكتب، ولم آل فيها ولا بد أن يوجد فيها الخطأ لأن الله تعالى يقول: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة فقد رجعت عنه)).
551- أنشدنا الإمام الزاهد أبو محمد عبد الله بن أحمد بن تمام بن حسان الصالحي لنفسه فيما قرئ عليه وأنا أسمع سنة إحدى عشرة وسبع مئة:
دعها يحث بها المسير دليل ... وتئن من طول السرى وتميل
فإذا وصلت بها الأثيل مهجرا ... والظل فيه وارفٌ وظليل
أنخ المطي إذا نزلت بحاجر ... فأمامها العرب الكرام نزول
يا أهل سلع كيف أسلو إنما ... يسلو المحب وللحبيب بديل
وهواكم ما اعتضت عنكم ... أنى يكون وما إليه سبيل(1/447)
يا ساكني أرض الحجاز سقاكم ... وطناً عند نطاقها محلول
أترى يراكم ناظر يشتاقكم ... والقلب منكم عامر مأهول
يا أهل طيبة كل سؤلي عندكم ... ولديكم المطلوب والمأمول
يا من إلى أبوابه وجنابه ... أم العفاة وبره مبذول
إن عاقني عن قصد بابك مانع ... أو صد عنك وما إليك سبيل
فتوصلي بمحبتي لك دائماً ... وبعقد عهد فيك ليس يحول
يا خير من منح الجزيل مواهباً ... وله المواهب والنوال جزيل
أرجو شفاعتك التي وعدت لنا ... يوم المعاد ووعدك المفعول
صلى عليك الله ما نفحت صبا ... أو هب من أرض الحجاز قبول
الحديث الرابع عشر: عن سهل بن حنيف رضي الله عنه
552- أخبرنا الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد ابن التاج عبد الرحمن بن عمر بن عوض المقدسي الصالحي بقراءتي عليه بسفح قاسيون قال: أنا الحافظ الزاهد أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي قراءة عليه وأنا حاضر قال: أنا أبو جعفر الصيدلاني -يعني محمد بن أحمد بن نصر-، أنا فاطمة -وهي بنت عبد الله الجوزدانية- أخبرتهم قالت: أنا محمد -يعني ابن عبد الله ابن ريذة-، أنا سليمان بن أحمد الطبراني، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا عارم، ثنا حماد بن زيد، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد ابن عبيد بن السباق، عن أبيه عن سهل بن حنيف رضي الله عنه: ((أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المذي فقال: ((يكفيك منه الوضوء))، قال: فكيف أصنع بما أصاب ثوبي؟ قال: ((تأخذ كفاً من ماء، فتنضح من ثوبك حيث ترى أنه أصابه)).(1/448)
553- وأخبرنا أعلا من هذه الطريق أبو محمد عيسى بن عبد الرحمن بن معالي بقراءتي عليه وسماعاً عليه أيضاً مع غيره قالوا: أنا عبد الله بن عمر بن علي الحريمي، أنا عبد الأول بن عيسى، أنا عبد الرحمن بن محمد، أنا عبد الله بن أحمد، أنا عيسى بن عمر، ثنا عبد الله بن عبد الرحمن، أنا يزيد بن هارون، أنا محمد بن إسحاق، عن سعيد بن عبيد بن السباق، عن أبيه، عن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: ((كنت ألقى من المذي شدة، فكنت أكثر الغسل منه، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما يجزيك من ذلك الوضوء، قال: قلت: فكيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: خذ كفاً من ماء فانضحه حيث ترى أنه أصاب)).
554- هذا حديث حسن، رواه أبو داود عن مسدد بن مسرهد، عن إسماعيل ابن علية.
555- ورواه الترمذي عن هناد بن السري، عن عبدة بن سليمان.
556- وابن ماجه عن أبي كريب محمد بن العلاء، عن عبد الله بن المبارك وعبدة بن سليمان، ثلاثتهم عن محمد بن إسحاق به، فوقع لنا عالياً عنهم.
557- وقال فيه الترمذي: حديث حسن صحيح، وكذلك صححه أيضاً الحاكم في ((المستدرك))، ورواه ابن حبان في ((صحيحه)) عن أبي يعلى الموصلي، عن أبي خيثمة، عن ابن علية، عن ابن إسحاق به، فوقع لنا عالياً عنه جداً.
558- سهل رضي الله عنه هو أبو ثابت، ويقال: أبو سعيد، وقيل: أبو الوليد سهل ابن حنيف بن واهب بن العكيم بن ثعلبة بن الحارث بن مجدعة بن عمرو بن حنش أخا كلفة ومالك -والعدد في بنيه- ثلاثتهم أولاد عوف أخا ثعلبة وحبيب الوذان(1/449)
أربعتهم أولاد عمرو بن عوف وهم أهل قباء، والنبيت -بفتح النون وكسر الباء الموحدة- وهو جبل على بريد من المدينة نزلوا به وجشم وامرؤ القيس ومرة خمستهم أولاد مالك بن الأوس أخا الخزرج الأنصاري الأوسي.
559- شهد بدراً وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت معه يوم أحد حتى انكشف الناس، وبايعه يومئذ على الموت، وجعل ينضح بالنبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((نبلوا سهلاً فإنه سهل)).
560- قال الزهري: ((لم يعط النبي صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير أحداً من الأنصار إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة رضي الله عنهما)).
561- وروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعون حديثاً، اتفقا منها على أربعة، وانفرد مسلم بحديثين، روى عنه ابنه أبو أمامة أسعد بن سهل بن حنيف، وهو صحابي أنصاري رضي الله عنه، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبيد بن السباق، وبشير بن عمرو، وآخرون، وشهد صفين مع علي رضي الله عنه، وهو أحد البدريين الذين شهدوها، ولم يكن مع معاوية أحد من أهل بدر، وولاه علي رضي الله عنه فارس، فلم يقم بها، ورجع فمات بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، وصلى عليه علي رضي الله عنه، فكبر عليه ستاً، وقال: إنه بدري رضي الله عنه.(1/450)
فصل
562- المذي: فيه ثلاث لغات، وأفصحها بإسكان الذال وتخفيف الياء، وثانيها: بكسر الذال، وإسكان الياء المنقوص، وهي غريبة حكاها أبو عمر الزاهد في ((شرح الفصيح)) عن ابن الأعرابي، والثالثة: بكسر الذال وتشديد الياء كالمنسوب، وهي أشهر من التي قبلها، وهو ماء أبيض رقيق لزج يخرج عن الشهوة لا بشهوة ولا دفق، وربما لا يحس بخروجه، والإجماع منعقد على أنه لا يجب منه الغسل، إلا ما حكاه ابن حزم عن ابن عمر من وجوب الغسل، وهو شاذ، والذين حكوا الإجماع أكثر وأشهر، وعلى أنه ناقض للطهارة الصغرى ما لم يكن سلساً دائماً، وعلى أنه نجس يقتضي غسل ما أصاب البدن والثوب منه.
563- والمراد بالنضح في هذا الحديث إنما هو الغسل، كما جاء في حديث علي رضي الله عنه في المذي أيضاً من قوله صلى الله عليه وسلم: ((توضأ وانضح فرجك)).
564- قال العلماء: المراد بالنضح الغسل، كما جاء مصرحاً به في بعض الروايات، والقاعدة أن النجاسات لا يكتفى فيها بمجرد النضح إلا من بول(1/451)
الصغير الذي لم يأكل الطعام، ولكن يشكل على ذلك ما جاء في الرواية الأولى: ((تأخذ كفًّا من ماء فتنضح به حيث ترى أنه أصاب من ثوبك))، فيحتمل أن يكون (ترى) هنا بضم التاء بمعنى (تظن)، ويكون هذا لدفع الوسوسة لا مع تحقق الإصابة، ويمكن أن يستدل به من يفرق بين النجاسة المخففة والمغلظة بالنظر إلى كثرتها وقلتها، كأبي حنيفة حيث اكتفى هنا بالنضح، ويحمل الحديث على القليل من ذلك الذي نجاسته مخففة.
565- وقوله: ((كنت ألقى من المذي شدة)) يعني: من كثرته، لقوله بعد ذلك: ((فكنت أكثر الغسل منه))، فيحتمل أن تكون هذه الكثرة على السلس، فيؤخذ منه أن صاحب سلس المذي يجب عليه الوضوء منه، ويحتمل أن يكون كثيراً لا على وجه السلس، بل مع الصحة لغلبة الشهوة، وهو ينقطع كل وقت، ولعل هذا هو الأظهر، وتكون الشدة المشار إليها إكثار الغسل منه لما في ذلك من المشقة، ولا دليل حينئذ فيه على حكم السلس.
566- وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما يجزيك الوضوء)) دليل على أن (إنما) للحصر؛ لأن المقصود من السياق عدم وجوب الغسل، وذلك لا يتم إلا إذا كانت للحصر، ففيه وجوب الوضوء منه وعدم وجوب ما سواه، وهذا هو الذي فهمه ابن عباس رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الربا في النسيئة))، فلم يحرم ربا الفضل، ولم يعارضه الصحابة رضي الله عنهم في فهمه، بل عارضوه بالأحاديث المقتضية ربا الفضل،(1/452)
فدل على اتفاقهم على أنها للحصر، ومعناه إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، ولذلك قال الفرزدق:
أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
567- ثم هل إفادتها الحصر بطريق المنطوق أو المفهوم؟ فيه خلاف، منشأه أن (إنما) هل هي مركبة من (إن) المثبتة و(ما) النافية، أو هي كلمة مفردة موضوعة لهذا الحكم، أو هي بمعنى (ما) و(إلا)، فعلى القولين الأولين دلالتها بطريق النطق بخلاف القول الثالث، وفي هذا الموضع كلام طويل ليس هذا موضعه.
568- أخبرنا قاضي القضاة صدر الأعلام أبو العباس أحمد بن محمد بن سالم ابن الحسن بن هبة الله بن صصري التغلبي الشافعي رحمه الله قراءة عليه وأنا أسمع بانتقائي له قال: أنا أبو العباس أحمد بن عبد الدائم، أنا المبارك بن المبارك المعطوش، أنا محمد بن محمد بن المهدي، أنا عبيد الله بن عمر بن شاهين، ثنا أبو يحيى محمد بن الحسن البربهاري، ثنا علي -يعني ابن الفضل الواسطي- ثنا يزيد ابن هارون، أنا جرير بن حازم عن يعلى بن حكيم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجباً لك يا ابن عباس ترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترى منهم؟ فتركت ذلك وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه تسفو الريح علي من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم(1/453)
رسول الله ما جاء بك، ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأسأل عن الحديث. قال: فعاش الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس علي يسألوني فيقول: هذا الغلام كان أعقل مني)).
569- أخبرنا المسند المعمر أبو محمد عيسى بن عبد الرحمن بن معالي بن حمد بن أحمد ابن أبي عطاف المقدسي ثم الصالحي قراءة عليه وأنا أسمع قال: أنا أبو الفضل جعفر بن علي بن هبة الله الهمداني سماعاً عليه، أنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن يحيى العثماني قال: كتب إلي العلامة أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشري من مكة، وأنشدني عنه الفقيه أبو عبد الله محمد ابن عبد الله الأندلسي قال: أنشدنا أحمد بن محمد بن إسحاق الخوارزمي، أنشدنا أبو سعد المحسن بن محمد الجشمي قال: أنشدنا الحاكم أبو الفضل إسماعيل بن محمد بن الحسن قال: أنشدنا القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني لنفسه:
يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
ترى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس أكرما
وما كل برق لاح لي يستفزني ... ولا كل من لاقيت أرضاه منعما
وما زلت منحازاً بعرضي جانباً ... عن اللوم أعتد الصيانة مغنما
إذا قيل هذا موردٌ قلت قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما(1/454)
وإني إذا ما فاتني الأمر لم أبت ... أقلب كفي إثره متندما
ولكنه إن جاء عفواً قبلته ... وإن مال لم أتبعه هلا وليتما
وأقبض خطوي عن حظوظٍ كثيرة ... إذا لم أنلها وافر العرض مكرما
وأكرم نفسي أن أضاحك عابساً ... وأن أتلقى بالمديح مذمما
أنهنهها عن بعض ما قد يشينها ... مخافة أقوال العدا فيم أو لما
ولم أقض حق العلم إن كنت كلما ... بدا طمعٌ صيرته لي سلما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت إلا لأخدما
أأغرسه عزًّا وأجنيه ذلةً ... إذاً فاتباع اللهو قد كان أحزما
فإن قلت جد العلم كابٍ فإنما ... كبا حين لم يحمى حماه وأسلما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما(1/455)
الحديث الخامس عشر: عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه
570- أخبرنا الشيخ المعدل الرضى أبو عبد الله محمد بن عتيق بن عبد الجبار بن عبد الله الصقلي ثم الدمشقي بقراءتي عليه قال: أنا أبو البركات عمر بن عبد الوهاب بن محمد بن طاهر القرشي سماعاً عليه، أنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي، أنا أبو القاسم إسماعيل بن عمر بن الأشعث السمرقندي، أنا عبيد الله بن محمد الصريفيني، أنا عبيد الله بن محمد حبابة، ثنا عبد الله بن محمد البغوي، ثنا علي بن الجعد، أنا شعبة، ثنا إسماعيل بن رجاء قال: سمعت أوس -يعني ابن ضمعج- قال: ثنا أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله عز وجل وأقدمهم قراءة، فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانت هجرتهم سواء فليؤمهم أقدمهم سنًّا، ولا يؤم الرجل في سلطانه ولا في أهله، ولا تجلس على تكرمته إلا بإذنه، أو يأذن لك أحد)).
571- وبه إلى الحافظ أبي القاسم قال: أنا أبو القاسم هبة الله بن محمد الشيباني، أنا أبو علي الحسن بن محمد التميمي، أنا أحمد بن جعفر بن حمدان، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أوس بن ضمعج به.
572- وأخبرناه أعلا من هذه الطريق أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الطبري بمنى شرفها الله، أنا علي بن هبة الله بن سلامة، أنا يحيى بن يوسف السقلاطوني، أنا ثابت بن بندار البقال، أنا الحسن بن أحمد بن شاذان، ثنا عثمان بن أحمد الدقاق، ثنا يحيى بن جعفر، ثنا عمرو بن عبد الغفار، ثنا الأعمش وفطر -يعني ابن خليفة-، عن إسماعيل بن رجاء، عن أوس بن ضمعج، عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم(1/456)
بالسنة، فإن كانوا في العلم سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأكبرهم سناً، ولا يؤم الرجل في بيته ولا في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه)).
573- هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن أبي خالد سليمان بن حيان الأحمر، وعن أبي كريب محمد بن العلاء، عن أبي معاوية محمد بن خازم.
574- ورواه أبو داود عن الحسن بن علي، عن عبد الله بن نمير.
575- والنسائي عن قتيبة بن سعيد، عن الفضيل بن عياض.
576- أربعتهم عن الأعمش به.
577- ورواه مسلم عن محمد بن بشار بندار، عن محمد بن جعفر غندر.
578- وأخرج النسائي بعضه عن إبراهيم بن محمد التيمي عن يحيى بن سعيد كلاهما عن شعبة به، فوقع لنا عالياً عنهم في الروايتين.
579- أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه اسمه عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة بن عسيرة بن عطية بن خدارة بضم الخاء المعجمة، أخي خدرة رهط أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، كلاهما ابنا عوف بن الحارث بن الخزرج الأكبر الأنصاري الخزرجي، المعروف بالبدري قاله الجمهور؛ لأنه نزل ماء ببدر فنسب إليه، والبخاري عده فيمن شهد بدراً، وكذلك قال الحكم بن عتبة. وشهد العقبة مع السبعين بلا خلاف، وكان من أصغرهم يومئذ، وشهد أحداً وما بعدها فكان من جلة الصحابة رضي الله عنهم، ونزل الكوفة زمناً طويلاً، وروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة حديث(1/457)
وحديثان، اتفقا منها على تسعة أحاديث، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بسبعة أحاديث، هذا الذي أخرجناه أحدها.
580- روى عنه ابنه بشير وأبو وائل شقيق وقيس بن أبي حازم وهمام بن الحارث وعلقمة بن قيس وأبو عمرو الشيباني وأبو الأحوص الجشمي وأبو معمر الأزدي وآخرون، واستخلفه علي رضي الله عنه على الكوفة لما سار إلى صفين، وكان يفتي الناس في زمن عمر رضي الله عنهما.
581- ذكر الهيثم بن عدي وغيره أنه مات سنة أربعين، وقيل: إنه مات سنة إحدى واثنتين وأربعين رضي الله عنه.
فصل
582- الذي ذهب إليه أبو حنيفة ومالك والشافعي وجمهور أصحابهم والأوزاعي وأبو ثور وغيرهم أن الأفقه مقدم في الإمامة على الأقرأ؛ لأنه قد يعرض في الصلاة أمور لا يقدر على مراعاة الصواب فيها إلا العارف بالفقه والمتبحر فيه، وتأولوا هذا الحديث على أن الأقرأ في ذلك الزمن كان هو الأفقه؛ لما روي أنهم كانوا لا يتعدون الآية حتى يعلموا أحكامها. وهذا التأويل يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة))؛ فإنه فرق بين القرآن ومعرفة السنة، ولذلك قال بمقتضاها أحمد بن حنبل وأصحابه(1/458)
وإسحاق بن راهويه وبعض الحنيفة وابن المنذر وغيره من أصحابنا.
583- فأقوى ما اعتضد به الأولون أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة بالناس ولم يكن جمع القرآن، وكان في الصحابة جماعةٌ غيره جمعوا حفظ القرآن، هذا مع كونه صلى الله عليه وسلم نص على أن أقرأهم أبي، ولم يقدمه، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: ((استقرئوا القرآن من أربعة)) وسماهم، وقدم أبا بكر رضي الله عنه للإمامة.
584- ويمكن أن يجاب عن هذا بأن تقديم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في مرض موته للإمام إنما كان للتنبيه والإشارة إلى تقديمه في الإمامة الكبرى، لكن يعارض هذا تقديم بلال والصحابة رضي الله عنهم أبا بكر رضي الله عنه أيضاً في صلاة العصر لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، وكانت هذه القصة متقدمة، ولم يكن ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك تقديم الصحابة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في غزوة تبوك لما تأخر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء وصلى خلفه، ولم يقدموا الأقرأ، والمسألة محتملة من جهة تكافؤ الأدلة.
585- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة))، قصره أبو حنيفة على زمنه صلى الله عليه وسلم، قال: لأن الهجرة انقطعت بعده، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا هجرة بعد الفتح)).
586- ثم حمل معنى الهجرة بعده على الأورع، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((والمهاجر من(1/459)
هجر ما نهى الله عنه))، وجعل مالك معنى الحديث بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى أولاد المهاجرين، فيقدم أولاد من تقدمت هجرته إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ولد من أخرت هجرته عند التساوي في الفقه والقراءة، واعتبر الشافعي رحمه الله هذا المعنى وهجرة الإنسان بنفسه أيضاً حملاً للحديث على ظاهره، فإن حكم الهجرة باقية إلى يوم القيامة عندنا وعند جمهور العلماء، أي: يجب على من كان ببلاد الكفر مسلماً تجري عليه أحكام الكفار أن يهاجر إلى دار الإسلام.
587- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا هجرة بعد الفتح))، إنما أراد بها الهجرة الكاملة التي كانت واجبة على أهل مكة، ولذلك قال هذا يوم فتح مكة كما جاء مصرحاً به في الحديث.
588- وأما التقديم بكبر السن عند الاستواء فيما تقدم، فقد اعتبر أصحابنا فيه كونه في الإسلام، لما جاء في بعض طرق حديث أبي مسعود هذا في ((صحيح مسلم)): ((فأقدمهم سلماً))، فإن هذه الرواية تقتضي الترجيح بكبر السن؛ لأن صاحبه أقدمهم إسلاماً، ويقتضي اعتبار الإسلام أيضاً، فلا يقدم الكبير السن الذي هو متأخر الإسلام على من هو أصغر منه وقد تقدم إسلامه عليه.
589- وقد ذهب بعض أصحابنا إلى تقديم كبر السن على تقدم الهجرة وغيرها لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث مالك بن الحويرث: ((وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم)).
590- وأجاب الجمهور عن ذلك بأن هذا الخطاب كان لمالك ورفقته وهم مستوون في الإسلام والنسب والهجرة، والظاهر أنهم كانوا متساوين في الفقه والقراءة أيضاً؛ لأنهم هاجروا جميعاً؛ وأقاموا عند النبي صلى الله عليه وسلم عشرين ليلة فصحبوه(1/460)
صحبة واحدة، واشتركوا في المدة والسماع والرؤية، فالظاهر تساويهم في جميع الخصال إلا السن، فلهذا قدمه، وإن لم يكن هذا هو الظاهر فهو محتمل، وذلك يمنع عموم الحكم؛ لأنها قضية عين يؤثر فيها الاحتمال، بخلاف حديث أبي مسعود هذا.
591- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا يؤم الرجل في سلطانه))، حمله الشافعي والجمهور على عمومه، أي: في موضع سلطنته وهو ما يملكه أو يتسلط عليه بالتصرف كصاحب المنزل وإمام المسجد الراتب، ثم الإمام الأعظم مقدم على كل هؤلاء؛ لأن ولايته وسلطنته عامة، وكذلك نائبه وإن كان ثم من هو أفقه من هؤلاء وأقرأ لكن يستحب لصاحب المنزل ونحوه تقديم الأفقه والأقرأ إذا حضر.
592- والتكرمة هي الفراش المعد لجلوس الرجل في بيته، والله أعلم.
593- أخبرنا الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن أحمد بن منعة بن منيع ابن مطرف القنوي ثم الصالحي في خلق كثير قراءة عليهم وأنا أسمع قال: أنا أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي فهم اليلداني سماعاً، وأبو محمد عبد الحق بن خلف حضوراً، قال الأول: أنا عبد المنعم بن عبد الوهاب الحراني، والثاني: أنا أحمد ابن أبي الوفاء عبد الله البغدادي قالا: أنا علي بن أحمد بن بيان، أنا محمد بن محمد بن مخلد، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا الحسن بن عرفة، ثنا عبد الله بن إدريس، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي سبرة النخعي قال: ((أقبل رجل من اليمن فلما كان في بعض الطريق نفق حماره، فقام فتوضأ ثم صلى ركعتين ثم قال: اللهم إني جئت من الدثينة مجاهداً في سبيلك وابتغاء مرضاتك، وأنا أشهد أنك تحيي الموتى وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد علي منة، أطلب إليك أن تبعث لي حماري، فقام الحمار ينفض أذنيه)).(1/461)
594- نفق الحمار، أي مات.
595- أخبرنا الشيخ الصالح أبو العباس أحمد بن علي بن مسعود بن ربيع الكلبي الصالحي بقراءتي عليه قال: أنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الخطيب سماعاً عليه، أنا هبة الله بن الحسين بن حيدرة، أنا عبد الله بن رفاعة بن غدير السعدي، أنا علي بن الحسن بن الحسين الخلعي، أنا عبد الرحمن بن عمر بن النحاس، ثنا عبد الله بن جعفر بن الورد، ثنا عبد الرحيم بن عبد الله البرقي، ثنا عبد الملك بن هشام النحوي، عن زياد بن عبد الله البكائي، عن ابن إسحاق قال: وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه يبكي رسول الله فيما روى ابن هشام أيضاً عن أبي زيد الأنصاري:
بطيبة رسمٌ للرسول ومعهد ... منيرٌ وقد تعفو الرسوم وتهمد
ولا تمتحي الآيات من دار حرمة ... بها منبر الهادي الذي كان يصعد
وواضح آثارٍ وباقي معالمٍ ... وربعٌ له فيه مصلى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها ... من الله نور يستضاء ويوقد
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت ... بلادٌ ثوى فيها الرشيد المسدد
وبورك لحدٌ منك ضمن طيباً ... عليه بناءٌ من صفيح منضد
تهيل عليه التراب أيدٍ وأعينٌ ... عليه قد غارت بذلك أسعد
لقد غيبوا علماً وحلماً ورحمة ... عشية علوه الثرى لا يوسد
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم ... وقد وهت منهم ظهور وأعضد
يبكون من تبكي السموات يومه ... ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد
وهل عدلت يوماً رزية هالك ... رزية يوم مات فيه محمد(1/462)
إمامٌ لهم يهديهم الحق جاهداً ... معلم صدق إن يطيعوه يسعدوا
عفو عن الزلات يقبل عذرهم ... وإن يحسنوا فالله بالخير أجود
وإن ناب أمرٌ لم يقوموا بحمله ... فمن عنده تيسير ما يتشدد
فبينا هم في نعمة الله وسطهم ... دليل لهم نهج الطريقة يقصد
عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى ... حريص على أن يستقيموا ويهتدوا
فبينا هم في ذلك النور إذ غدا ... إلى نورهم سهم من الموت مقصد
فأصبح محموداً إلى الله راجعاً ... يبكيه حق المرسلات ويحمد
وأمست بلاد الحرم وحشاً بقاعها ... لغيبة ما كانت من الوحي تعهد
وما فقد الماضون مثل محمد ... ولا مثله حتى القيامة يفقد
أعف وأوفى ذمةً من محمدٍ ... وأقرب منه نائلاً لا ينكد
وأبذل منه للطريف وتالدٍ ... إذا ضن معطاءٌ بما كان يتلد
وأكرم صيتاً في البيوت إذا انتهى ... وأكرم جداً أبطحيًّا يسود
وأمنع ذروات وأثبت في العلى ... دعائم عز شاهقات تشيد
وأثبت فرعاً في الفروع ومنبتاً ... وعوداً غداة المزن فالعود أغيد
تناهت وصاة المسلمين بكفه ... فلا العلم محبوسٌ ولا الرأي يعتد
أقول ولا يلقى لما قلت عائب ... من الناس إلا عازب العقل مبعد
وليس هواي نازعاً عن ثنائه ... لعلي به في جنة الخلد أخلد
مع المصطفى أرجو بذاك جواره ... وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد
الحديث السادس عشر: عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه
596- أخبرنا الشيخ المعمر أبو عبد الله محمد ابن أبي بكر بن إبراهيم بن هبة الله بن سالم بن طارق الأسدي الحلبي النحاس قراءة عليه وأنا أسمع قال: أنا(1/463)
الإمام أبو الحسن علي بن هبة الله بن سلامة اللخمي ابن الجميزي سماعاً عليه، أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي، أنا أبو خطاب نصر بن أحمد بن عبد الله القارئ، أنا أبو محمد عبد الله بن عبيد الله البيع، ثنا الحسين ابن إسماعيل المحاملي إملاءً سنة ثلاثين وثلاث مائة، ثنا يعقوب -هو ابن إبراهيم الدورقي-، ثنا الطفاوي -يعني محمد بن عبد الرحمن- ثنا عوف -يعني الأعرابي-، عن زرارة بن أوفى، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لما قدم سول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال الناس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت إليه، فلما نظرت إليه عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب وكان أول ما سمعت من كلامه قال: ((أيها الناس أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)).
597- هذا حديث حسن ثابت، رواه عن عوف الأعرابي -وهو ابن جميلة البصري، والأعرابي لقب له- جماعة كثيرون، وقد أخرجه الترمذي في ((جامعه)) عن محمد بن بشار بندار، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، ومحمد بن جعفر، وابن أبي عدي، ويحيى بن سعيد القطان، كلهم عن عوف به، وقال فيه: ((حديث حسن صحيح))، فوقع لنا عالياً عنه.
598- عبد الله رضي الله عنه هو أبو يوسف عبد الله بن سلام -بالتخفيف- ابن الحارث الإسرائيلي، ثم الأنصاري الخزرجي بالحلف المدني، من بني قينقاع، وهو من ذرية يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلوات الله عليهم، كان اسمه في الجاهلية حصيناً، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، أسلم قديماً في أوائل(1/464)
مقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وقصة إسلامه مشهورة، نزل في فضله قوله تعالى: {وشهد شاهدٌ من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم}، وقوله تعالى: {قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}، وكان من علماء الصحابة وخيارهم رضي الله عنهم.
599- روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين حديثاً، اتفقا منها على حديث واحد وانفرد البخاري بآخر، روى عنه أبو هريرة وأنس بن مالك وعبد الله بن مغفل رضي الله عنهم وابنه يوسف -وقد ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فأقعده في حجره وسماه يوسف- وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو سعيد المقبري وزرارة بن أوفى وخرشة بن الحر وأبو بردة بن أبي موسى الأشعري وغيرهم، وشهد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية وفتح بيت المقدس.
600- وفي ((الصحيحين)) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ((ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحي يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام رضي الله عنه، قال: وفيه نزلت: {وشهد شاهدٌ من بني إسرائيل عليه مثله}، الآية.
601- وفيهما أيضاً عن قيس بن عبادة قال: ((كنت في حلقة فيها(1/465)
سعد بن مالك وابن عمر رضي الله عنهما، فمر عبد الله بن سلام فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة))، فذكر الحديث، وفيه قصة منامه -يعني عبد الله بن سلام-.
602- ورواه مسلم من حديث خرشة بن الحر بهذه القصة أيضاً، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في تأويل منامه: ((وأما العروة فهي عروة الإسلام، ولن يزال مستمسكاً به حتى يموت))، وفضائله كثيرة.
603- مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين بلا خلاف رضي الله عنه.
فصل
604- هذا الحديث متضمنٌ لما كان في النبي صلى الله عليه وسلم من الشواهد على صدقه وصحته، وأن المنصف الذي نور الله قلبه وفتح بصيرته إذا تأمل أحواله وسبر أقواله وأفعاله فإنه يجزم من أول الأمر بصحة دعوته وصدق نبوته، كما قال ابن رواحة رضي الله عنه:
لو لم تكن فيه آيات مبينة ... لكان منطقه ينبيك بالخبر
605- فلهذا قال ابن سلام رضي الله عنه: ((فلما نظرت إليه عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب))، ومثله حديث طارق رضي الله عنه في شراء النبي صلى الله عليه وسلم منهم البعير ولا يعرفونه، فأخذه ودخل المدينة، فقالت امرأة منهن: ((أنا ضامنةٌ لكم عن البعير، رأيت وجه رجل مثل القمر ليلة البدر لا يخيس بكم .. .. )) الحديث.
606- وحديث عبد الله بن سلام هذا مما تحمله عن النبي قبل إسلامه، ثم(1/466)
رواه بعد ما أسلم، هذا ظاهره، وأهلية الرواية إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمل.
607- وفي ((الصحيحين)) عن جبير بن مطعم رضي الله عنه: ((أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور))، ولما سمع جبير هذا كان كافراً، قدم في فكاك أسيرٍ له عقيب بدر، صرح بذلك في الحديث، ثم إنه رواه بعد ما أسلم، والإجماع منعقد على قبول رواية ما تحمله الصبي قبل بلوغه، كالحسن بن علي وابن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهم ممن مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير محتلم، وقبلت روايتهم اتفاقاً، فكذلك هنا أيضاً.
608- وهذه الخصال التي أقر بها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هي مجامع الخير وأسباب النجاح؛ لأن الأعمال إما قاصرة على الشخص أو متعدية عنه على غيره، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى القاصرة بقوله: ((وصلوا بالليل والناس نيام))؛ فإن الصلاة سبب لكل خير، ورادع عن كل سوء، كما قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، وهي مقتضية لحضور القلب بين يدي الله تعالى والخشوع له والخضوع ودوام المراقبة، ومشتملة من أعمال القلوب والألسن والجوارح فرضاً وندباً على ما لا يشتمل عليه غيرها، وقد نهي فيها عن أعمال وأقوال لم ينه عنها في غيرها، كل ذلك ليتوفر المكلف على الإقبال عليها، وإحضار قلبه بين يدي الله تعالى فيها، ولهذا كانت أفضل أعمال البدن عند الشافعي رحمه الله وكثير من أهل العلم، فمن أدمنها نفلاً، وخصوصاً في وقت الليل عند نوم الناس وغفلتهم ووقت تنزل الرحمة واستجابة الدعاء وقرب العبد من ربه عز وجل كان ذلك سبباً لتكثير الطاعات من غيرها أيضاً، وباعثاً على كل خير، ومانعاً من كل شر. وأما الأعمال المتعدية إلى الغير، فالغير إما قريب أو بعيد(1/467)
والقريب أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بصلة الرحم، وقد تقدم حكم ذلك وكل منهما، فإيصال النفع إليه إما بالقول أو الفعل، فنبه صلى الله عليه وسلم بإطعام الطعام على إيصال النفع الفعلي، ويدخل في حكمه كسوة العاري وسقي الظمآن وإركاب الماشي وأشباه ذلك. ونبه بإفشاء السلام على النفع القولي، فيدخل في معناه أيضاً كل ما في معناه من النفع بالقول، كالشفاعة له وتعليمه الخير ونحو ذلك، وفي الأمر بإفشاء السلام أيضاً معنى آخر، وهو ما يتضمن من التآلف واستجلاب المودة، وفي ذلك مصلحة عظيمة من اجتماع قلوب المسلمين وتناصرهم وتعاضدهم، وقد ورد إفشاء السلام مفسراً في حديث آخر صحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((أن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)).
609- وبسط الكلام على هذا الحديث ليس هذا موضعه، والله أعلم.
610- أخبرنا الشيخ الصالح الخير أبو زكريا يحيى بن محمد بن سعد بن عبد الله المقدسي بقراءتي عليه قال: أنبأنا العلامة أبو صالح نصر بن عبد الرزاق ابن الشيخ عبد القادر الجيلي، والخطيب أبو طاهر خليل بن أحمد بن علي الجوسقي قالا: أخبرتنا شهدة بنت أحمد بن محمد الكاتبة سماعاً عليها، أنا طراد ابن محمد الزينبي، أنا علي بن محمد بن جعفر الجوزي، ثنا عبد الله بن محمد القرشي ابن أبي الدنيا، أخبرني أبو زيد النميري، أخبرني أبو عاصم النبيل، أخبرني أبي قال: قال قيس بن سعد رضي الله عنهما: ((تمنيت أن أكون في حال رجل رأيته؛ أقبلنا من الشام فإذا نحن بخباء، فقلنا: لو نزلنا ههنا، فإذا امرأة في الخباء، قال: فلم نلبث إذ جاء رجل بذود له فقال لامرأته: من هؤلاء؟ قالت: قوم نزلوا بك، فجاء بناقة فضرب عرقوبيها ثم قال: يا هؤلاء انحروها، قال: فنحرناها، فأصابنا من أطايبها، فلما كان من الغد جاء بأخرى، فضرب عرقوبيها(1/468)
وقال: يا هؤلاء انحروها، فنحرناها فقلنا: اللحم عندنا، قال: إنا لا نطعم أضيافنا الغاب. فقلت لأصحابي: إذا أقمنا عنده لم يبق عنده بعير فارتحلوا بنا، وقلت لقيمي: اجمع ما عندك، قال: ليس إلا أربع مائة دينار، قلت: هات بها وهات كسوتي، فجمعناها فقلت: بادروه، فدفعنا به إلى امرأته ثم سرنا، فلم نلبث أن رأينا شخصاً فقلت: ما هذا؟ قالوا: لا ندري، فدنا فإذا رجل على فرسه يجر رمحه، فإذا صاحبنا، فقلت: واسوأتاه استقل والله ما أعطيناه. قال: فدنا فقال: دونكم متاعكم فخذوه، فقلت: والله ما كان إلا ما رأيت، قال: إني والله لم أذهب حيث تذهبون، فخذوه. قلنا: لا نأخذه، قال: والله لأميلن عليكم برمحي ما بقي منكم رجلٌ أو تأخذوه، قال: فأخذناه فولى، وقال: إنا قوم لا نبيع القرى)).
611- أخبرنا الرئيس المعدل أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن أحمد ابن محمد بن هبة الله بن مميل الشيرازي الدمشقي بقراءتي عليه قال: أخبرتنا أم الفضل كريمة بنت عبد الوهاب بن علي القرشي سماعاً عليها قالت: أنبأنا الخطيب أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن محمد الطوسي، قال: أنشدنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي لنفسه:
قل للذي نال علماً يستضيء به ... في دينه وله قوتٌ من المال
قد ضاق صدراً بذي جهلٍ له سعة ... يمسي ويصبح في حلٍّ وترحال
جمعاً ومنعاً ولا ينفك من تعبٍ ... في حاله ومخافات أهوال
ليس حالك فيما قد خصصت به ... أعلا وبالك فيها أنعم البال
فكم حسدت ذوي الأموال وهي على ... ما يتقى من أذاها عند جهال
أتشتري الجهل والأموال قاطبةً ... بالعلم لو كنت في ضنكٍ من الحال(1/469)
حظٌّ من الغبن لا يرضى به أحدٌ ... فاكفف فحظك فيما نلته عالي
واشغل مناك بأعمال تفوز بها ... يوم اشتغالك عن مالٍ بأعمال
612- وبه إلى الحميدي، وأنشد لنفسه أيضاً:
مناتي التي أبغي دوام اتصالها ... لذات قصدٍ هام في حبه قلبي
وما لذتي إلا الحديث وجمعه ... وتبليغه حسبي به أنه حسبي
فيا رب هب لي منه حظًّا يسرني ... إذا قلت في يوم القيامة يا ربي
الحديث السابع عشر: عن زيد بن ثابت رضي الله عنه
613- أخبرنا الشيخ الفقيه المفتي أبو محمد عبد الرحمن بن نصر بن عبيد ابن محمد بن عمران السوادي الحنفي بقراءتي عليه غير مرة قال: أنا العلامة أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل بن محمد بن عبد الله المرسي النحوي سماعاً عليه، أنا أبو روح عبد المعز بن محمد بن أبي الفضل وزينب بنت عبد الرحمن بن الحسن الشعري قالا: أنا أبو القاسم زاهر بن طاهر الشحامي، أنا أبو يعلى إسحاق بن عبد الرحمن الصابوني، أنا أبو سعيد عبيد الله بن محمد الرازي، أنا محمد بن أيوب بن الضريس، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، ثنا قتادة، عن أنس، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: ((تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة، قال: قلت: كم بين الأذان وبين السحور؟ قال: قدر خمسين آية)).(1/470)
614- هذا حديث متفق على صحته؛ رواه البخاري في ((صحيحه)) عن مسلم بن إبراهيم كما رويناه، فوقع لنا موافقة له.
615- وأخرجه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، والنسائي عن إسحاق ابن إبراهيم، وابن ماجه عن علي بن محمد ثلاثتهم عن وكيع بن الجراح.
616- ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى عن أبي داود الطيالسي والنسائي أيضاً عن إسماعيل بن مسعود عن خالد بن الحارث ثلاثتهم عن هشام ابن أبي عبد الله الدستوائي به.
617- ورواه مسلم أيضاً عن عمرو الناقد، عن يزيد بن هارون، عن همام بن الحارث، وعن محمد بن مثنى، عن سالم بن نوح، عن عمرو بن عامر، كلاهما عن قتادة بن دعامة السدوسي، عن أنس به، فوقع لنا عالياً عنهم.
618- وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس به قال: ((تسحر النبي صلى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت ثم قاما، فدخلا في الصبح. قلنا لأنس: كم بين فراغهما ودخولها؟ قال: قدر ما يقرأ الإنسان خمسين آية)). رواه النسائي كذلك عن أبي الأشعث، عن خالد بن الحارث، عن سعيد به، هكذا من مسند أنس، ثم أخرجه أيضاً من حديث معمر، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه بقصة تسحر النبي صلى الله عليه وسلم هو وزيد بن ثابت: ((ثم قاما فدخلا إلى الصلاة، وأن أنساً كان شاهد ذلك)).(1/471)
619- والجمهور لم يخرجوا هذا الحديث إلا عن زيد بن ثابت من مسنده، والله أعلم.
620- زيد بن ثابت رضي الله عنه هو أبو سعيد، وقيل: أبو خارجة، ويقال: أبو عبد الرحمن زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف أخي ثعلبة رهط أبي أمامة أسعد بن زرارة وسواد رهط معاذ ومعوذ بني عمرة، ثلاثتهم عوذ وثعلبة وسواد أولاد غنم أخي عمرو وعامر وهو مبذول، ثلاثتهم أولاد مالك أخي عدي ومازن ودينار، وهم جماعة بطون بني النجار، أربعتهم أولاد النجار، واسمه تيم اللات، وسمي النجار لأنه اختتن بقدوم، وقيل: لأنه ضرب وجه رجلٍ به، وهو ابن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج الأكبر، الأنصاري الخزرجي المدني الفرضي، كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد سادات الصحابة وقرائهم وعلمائهم. قتل أبوه يوم بعاثٍ في الجاهلية وزيدٌ صغير، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان عمره إحدى عشرة سنة، وقد حفظ يومئذ ست عشرة سورة أو سبع عشرة، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله هذا غلام من بني النجار قد قرأ مما أنزل عليك سبع عشرة سورة، قال: فقرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه، وقال: ((يا زيد تعلم لي كتاب يهود، فإني ما آمنهم على كتابي، قال: فتعلمته فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إذا كتب إليهم، وأقرأ له إذا كتبوا إليه)).
واستصغره رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فرده، وشهد أحداً، وقيل: إنه لم يشهدها، ثم شهد الخندق وما بعدها من المشاهد كلها، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم راية بني النجار(1/472)
يوم تبوك، وقال: ((القرآن مقدم وزيد أكثر أخذاً للقرآن)).
621- وروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم اثنان وتسعون حديثاً، اتفقا منها على خمسة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بحديث واحد، روي عنه ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وأنس وأبو سعيد الخدري وسهل بن أبي حثمة وعبد الله بن يزيد الخطمي وسهل بن سعد وغيرهم من الصحابة أيضاً رضي الله عنهم. ومن التابعين كبارهم منهم: سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وأخوه عطاء والقاسم بن محمد وقبيصة ابن ذؤيب وابناه خارجة وسليمان ابنا زيد وأبان بن عثمان وخلق كثير. وكتب لأبي بكر وعمر أيضاً في خلافتهما رضي الله عنهما، فكان أحد الثلاثة الذين جمعوا المصحف بأمر أبي بكر وعمر، ثم كتبه أيضاً لعثمان لما كتب المصاحف، وولاه عمر رضي الله عنه قسم غنائم اليرموك، وكان على بيت المال في زمن عثمان رضي الله عنه، وكان يستخلفه إذا حج، وكذلك عمر أيضاً، وعرض القرآن على رسول الله، وعليه عرضه ابن عباس وغيره.(1/473)
622- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذوا القرآن من أربعةٍ)) فذكره أحدهم.
623- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفرضهم زيد)).
624- وقال مسروق: ((انتهى العلم إلى ستة من الصحابة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وأبو موسى رضي الله عنهم)).
625- وقال الزهري: ((لو هلك زيد وعثمان في بعض الزمان لهلك علم الفرائض، ولقد أتى على الناس زمان وما يعلمه غيرهما)).
626- وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: أخذ ابن عباس بركات زيد بن ثابت وهو يريد أن يركب فقال له: تنح يا عم رسول الله، فقال ابن عباس: إنا هكذا أمنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا)).
627- وقال سعيد بن المسيب: ((شهدت جنازة زيد بن ثابت، فلما دلي في(1/474)
قبره قال ابن عباس: من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم فهكذا ذهاب العلم، والله لقد دفن اليوم علم كثير)).
628- وقال أبو هريرة لما مات زيد بن ثابت: ((مات حبر هذه الأمة)).
629- ومناقبه كثيرة جداً، وقد اختلف في سنة وفاته من سنة أربعين إلى سنة خمس وخمسين، والأكثر على أنه في سنة ثمان وأربعين وما يقاربها رضي الله عنه.
فصل
630- تضمن هذا الحديث استحباب تأخير السحور؛ لأن هذا الفعل إذا انضم إلى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور))؛ أفاد أن تأخيره صلى الله عليه وسلم السحور إلى الوقت الذي ذكره زيد بن ثابت رضي الله عنه إنما كان لبيان الاستحباب لا مجرد الإباحة.
631- ومشروعية السحور لها مأخذان: ديني ودنيوي.
632- فالديني: ما فيه من مخالفة أهل الكتاب، حيث يحرمون الأكل في السحر(1/475)
وبعد ما ينام الرجل، ويؤخرون الفطر إلى اشتباك النجوم، وإليه الإشارة في الحديث المتقدم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان يحب مخالفتهم.
633- وأما الدنيوي: فما فيه من التقوي على العبادة والتنشيط لها، وأن لا يضعف بسبب الصوم فيكسل عن بعض العبادات البدنية أو عن الاكتساب لنفسه، ونحو ذلك، ولهذا شرع تأخيره ليبقى أثره في مجموع النهار، وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((تسحروا فإن في السحر بركة))، وفي ((سنن النسائي)) عن المقدام بن معدي كرب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عليكم بالسحور فإنه الغداء المبارك)).
634- فاستعمال السحور مما خص الله به هذه الأمة، وخفف به عنهم رحمةً لهم، إلا أن هنا شيئاً أشار إليه بعض الأئمة؛ وهو أنه قد علم أن المقصود من شرعية الصوم كسر النفس بالجوع لتفعل الخيرات وتنيب إلى الله تعالى بالمسارعة إلى الطاعات، لما في الإكثار من الأكل والشرب من الامتلاء المقتضي لخثارة النفس وكسلها وتسلطها، وفي الصوم قمع لشهواتها، فمن لم تتغير عليه عادة الأكل لا يحصل منه المقصود من الصوم وهو كسر شهوتي البطن والفرج.
635- فإذا علم هذا فما زاد في مقدار السحور بحيث تعدم هذه الحكمة لا ينبغي أن يكون مترفاً كعادة المترفين في النأنق في المأكل وكثرة الاستعداد للسحور، وما لا ينتهي إلى ذلك فهو مستحب، ولكن تختلف مراتبه بمراتب الناس وأحوالهم ومقاصدهم ومقدار ما يحتملون.(1/476)
636- وقول زيد رضي الله عنه: ((ثم قمنا إلى الصلاة)) يعني به صلاة الفجر، فيؤخذ من هذا أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغلس بابتداء صلاة الفجر، وإن كان يخرج منها مسفراً حتى يعرف الرجل جليسه؛ لتطويله القراءة فيها.
637- ويدل الحديث على أنه كان يفرغ من السحور قبل طلوع الفجر، فأما قول حذيفة رضي الله عنها في وصف السحور: ((هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع))، فمحمول على التجوز والمبالغة في تقريب السحور من النهار.
638- وفي الحديث أكل الإمام مع رعيته، وقد روى النسائي في حديث معمر الذي تقدمت الإشارة إليه، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك عند السحر: ((يا أنس إني أريد الصيام أطعمني شيئاً))، فأتيته بتمر وإناء فيه ماء، وذلك بعدما أذن بلال فقال: يا أنس! انظر رجلاً يأكل معي، فدعوت زيد بن ثابت، فجاء فقال: إني قد شربت شربة سويق، وأنا أريد الصيام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أريد الصيام، فتسحر معه، ثم قام فصلى ركعتين، ثم خرج إلى الصلاة)). والظاهر أن هذه القصة غير القصة التي رواها عن زيد بن ثابت من تقدير ما بين السحور والصلاة.
639- أخبرنا الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الرحمن البجدي ثم الصالحي بقراءتي عليه، عن أبي طالب عبد اللطيف بن محمد بن علي الحراني، أنا أبو الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد الحاجب، أنا الحافظ أبو عبد الله محمد ابن أبي نصر الحميدي، ثنا الرئيس أبو العباس(1/477)
أحمد بن رشيق الكاتب -وكان من أفضل رئيس رأيناه في المغرب- قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن شجاع الصوفي رحمه الله قال: ((كنت بمصر أيام سياحتي فتاقت نفسي إلى النساء، فذكرت ذلك لبعض إخواني، فقال لي: ههنا امرأة متصوفة لها ابنة جميلة قد ناهزت البلوغ، قال: فخطبتها وتزوجتها، فلما دخلت علينا وجدتها مستقبلة القبلة تصلي، قال: فاستحييت أن تكون صبية في مثل سنها تصلي وأنا لا أصلي، فاستقبلت القبلة وصليت ما قدر لي حتى غلبتني عيني، فنمت في مصلاي ونامت في مصلاها، فلما كان اليوم الثاني كان مثل ذلك أيضاً. فلما طال علي ذلك، قلت: يا هذه! ما لاجتماعنا معنى، قال: فقالت لي: أنا في خدمة مولاي ومن له حق فلا أمنعه، قال: فاستحييت من كلامها وتماديت علي أمري نحو الشهر، ثم بدا لي في السفر، فقلت: يا هذه! قالت: لبيك، قلت: إني قد أردت السفر، قالت: مصاحباً بالعافية. قال: فقمت، فلما صرت عند الباب قامت، فقالت: يا سيدي كان بيننا عهد في الدنيا لم يقض بتمامه عسى في الجنة إن شاء الله، فقلت لها: عسى، فقالت: أستودعك الله خير مستودع، قال: فتودعت منها وخرجت، قال: ثم عدت إلى مصر بعد سنين فسألت عنها فقيل لي: هي على أفضل ما تركتها عليه من العبادة والاجتهاد)).
640- أخبرنا أبو عبد الله محمد بن خضر بن خليل المعدل قراءة عليه وأنا أسمع قال: أنا الخطيب داود بن عمر بن يوسف المقدسي، أنا بركات بن إبراهيم القرشي، أنا هبة الله بن أحمد بن محمد الأمين، ثنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب، أنا أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن عبيد الله النجار، أنا محمد ابن عبيد الله بن الفضل الكيال، ثنا محمد بن الهيثم المقرئ قال: قال أبو سعيد(1/478)
الجصاص، ثنا ابن عبد المؤمن بمصر، ثنا عبدان بن عثمان قال: سمعت ابن المبارك رحمه الله يقول:
اغتنم ركعتين زلفى ... إلى الله فارغاً مستريحا
وإذا ما هممت بالنطق ... في الباطل فاجعل مكانه تسبيحا
641- وبه إلى الخطيب أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله المعدل قال: أنبأ الحسين بن صفوان، ثنا عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا قال: أنشدني أبو عبد الله أحمد بن أيوب:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع ... فعسى أن يكون موتك بغته
كم صحيح رأيت في غير سلم ... ذهبت نفسه الصحيحة فلته
642- وبه قال: أنشدني أبو الوليد سليمان بن خلف بن [سعد] الأندلسي لنفسه:
إذا كنت أعلم علماً يقيناً ... بأن جميع حياتي كساعه
فلم لا أكون ضنيناً بها ... وأجعلها في صلاح وطاعه(1/479)
الحديث الثامن عشر: عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه
643- أخبرنا العلامة قاضي القضاة شيخ المذهب أبو الحسن علي بن أبي القاسم بن محمد بن عثمان البصروي الحنفي بقراءتي عليه في جماعة آخرين قالوا: أنا أبو العباس أحمد بن عبد الدائم المقدسي، أنا محمد بن علي بن صدقة، أنا محمد بن الفضل الصاعدي، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، ثنا الإمام مسلم بن الحجاج، ثنا شيبان بن فروخ، ثنا جرير بن حازم، ثنا الحسن، ثنا عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على أمر فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك، وأت الذي هو خير)).
644- وبهذا الإسناد إلى أبي أحمد بن عمرويه قال: ثنا أبو العباس الماسرجسي -يعني: أحمد بن محمد بن الحسين الفقيه النيسابوري-، ثنا شيبان بن فروخ به.
645- وأخبرناه عالياً أيضاً أبو العباس أحمد ابن أبي طالب الصالحي بقراءتي عليه غير مرة قال: أنا الشيخان أبو عبد الله الحسين بن المبارك الزبيدي وأبو المنجا عبد الله بن عمر بن اللتي سماعاً على كل منهما، أنا أبو الوقت عبد الله بن عيسى الصوفي، أنا عبد الرحمن بن محمد البوشنجي، أنا عبد الله ابن أحمد بن حمويه، قال في رواية ابن الزبيدي: أنا محمد بن يوسف الفربري، أنا محمد بن إسماعيل البخاري (ح).
646- وقال في رواية ابن اللتي: أنا عيسى بن عمر السمرقندي، أنا عبد الله(1/480)
ابن عبد الرحمن الدارمي قالا جميعاً: ثنا محمد بن الفضل يعنيان عارماً أبا النعمان.
647- وقال البخاري أيضاً: ثنا حجاج بن منهال قالا: ثنا جرير بن حازم، ثنا الحسن فذكره بنحوه.
648- هذا حديث متفق على صحته؛ رواه البخاري ومسلم عالياً كما رويناه عنهما.
649- وأخرجه مسلم أيضاً عن يحيى بن يحيى، عن خالد بن عبد الله.
650- ورواه الترمذي عن محمد بن عبد الأعلى، عن المعتمر بن سليمان.
651- كلاهما عن يونس بن عبيد.
652- ورواه النسائي عن عمرو بن علي، عن يحيى القطان، عن ابن عون كلاهما، عن الحسن البصري به.
653- وأخرجه مسلم أيضاً عن علي بن حجر.
654- ورواه أبو داود عن محمد بن الصباح.
655- والنسائي أيضاً عن زياد بن أيوب.
656- ثلاثتهم عن هشيم عن يونس ومنصور، زاد مسلم: وحميد الطويل، ثلاثتهم عن الحسن به.(1/481)
657- فوقع لنا عالياً عنهم في الروايات الأخيرة، والله أعلم.
658- عبد الرحمن رضي الله عنه هو أبو سعيد عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب القرشي العبشمي نزيل البصرة.
659- هكذا نسبه يحيى بن معين والبخاري وابن أبي حاتم وآخرون، وقال مصعب الزبيري: ونسبه الزبير بن بكار: حبيب بن ربيعة بن عبد شمس.
660- قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: الأول هو الصحيح، وكان اسم عبد الرحمن في الجاهلية عبد كلال، وقيل: عبد الكعبة، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن. وهو ممن أسلم يوم فتح مكة.
661- روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر حديثاً، اتفقا منها على هذا الحديث الذي رويناه، وانفرد مسلم بحديثين آخرين.
662- روى عنه ابن عباس رضي الله عنهما، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، والحسن البصري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وحيان بن عمير، وهصان بن كاهل، وآخرون.
663- وغزا خراسان في زمن عثمان رضي الله عنه بتأمير عبد الله بن عامر له،(1/482)
فافتتح سجستان وكابل، وغزا غزوات كثيرة، ثم رجع إلى البصرة فأقام بها إلى أن توفي سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، وقيل: إنه توفي بمرو، ودفن بها. وأنه أول من دفن بمرو من الصحابة رضي الله عنهم.
664- وكان متواضعاً، وإذا وقع المطر لبس برنساً وأخذ المسحاة فكنس الطريق رضي الله عنه.
فصل
665- تضمن هذا الحديث بحثين:
666- أحدهما: النهي عن طلب الإمارة، ومثلها القضاء، وكل حكم على الناس، وظاهر النهي التحريم إلا أن يقوم دليل على إرادة الكراهة فقط، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر في ((الصحيح)): ((إنا والله لا نولي على العمل أحداً سأله أو حرص عليه)).
667- والحكمة في ذلك أن سؤالها والحرص عليها مع العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها دليل على أنه يطلبها لنفسه ولأغراضه، ومن كان هكذا أوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك؛ لأن الولاية تفيد قوة بعد ضعف، وقدرة بعد عجز، والنفس مجبولة على الشر، أمارة بالسوء، فيتخذها ذريعة إلى الانتقام من العدو والنظر للصديق بغير حق، ويتبع الأغراض الفاسدة.
668- وأيضاً الغالب من حاله عند الطلب الوقوف بنفسه وهو لا يأمنها فيخذل من هذه الجهة، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((وكلت إليها))، وأما من عرف آفاتها(1/483)
وخاف من التقصير في حقوقها فلم يتعرض لها بطلب ولا تشوف إليها برغبة، ثم ابتلي بها، فإنه يرجى له أن لا تغلب نفسه عليه، للخوف الغالب عليه، وخصوصاً إذا أباها عند العرض عليه، أو فر منها ثم ابتلي، فهذا يتولاه الله بعنايته وإعانته، فيتخلص منها، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((أعنت عليها)).
669- ثم إن هذا الحديث مخصوص بما إذا تعين عليه ذلك ولم يكن هناك من يصلح لها غيره، ووثق من نفسه، والتحرز من الميل، فقد قال أصحابنا وغيرهم: يجب عليه أن يطلب في هذه الحالة ويشهر نفسه عند الإمام إن كان خاملاً، ويخبر بصفاته التي هي قائمة به من العلم والكفاية كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام للعزيز: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظٌ عليمٌ}.
670- وإذا تعين عليه ذلك وجب القبول أيضاً وحرم الامتناع وكان للإمام إجباره على الأصح عند أصحابنا.
البحث الثاني: فيما يتعلق باليمين:
671- أحدهما جواز التكفير قبل الحنث، فقد استدل بالحديث على ذلك لتقديمه صلى الله عليه وسلم التكفير أولاً، واعترض عليه بأن الواو لا تقتضي الترتيب، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأتها وليكفر عن يمينه))، أخرجه مسلم.
672- ولكن عند أبي داود في حديث عبد الرحمن بن سمرة: ((فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير))، وهذا صريح في جواز تقديم الكفارة على الحنث، ولا ينافيه الحديث الآخر، بل يجمع بينهما بجواز الأمرين جميعاً، وقد قال بهذا الحديث الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وغيرهم، ومنع أبو حنيفة جواز ذلك بناءً على أن سبب الكفارة الحنث فقط، وأما اليمين فهي سبب لتحريم الحنث، كاللبس في الإحرام؛ فإن الإحرام يحرم اللبس وغيره من محظوراته،(1/484)
وفعل تلك يوجب الفدية، وهذا المعنى لا يعارض الحديث الصحيح، ثم ما المانع أن تكون اليمين سبب الكفارة بشرط الحنث، بل هذا هو الظاهر لقوله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم}، فأضاف الكفارة إلى اليمين، ومثله: ملك النصاب؛ فإنه يوجب الزكاة بشرط انفصال الحول، أو أن يكون سبب الكفارة اليمين والحنث جميعاً، وهذا هو الأصح عند أصحابنا.
673- فيجوز التعجيل عند وجود أحد السببين، وهذه معانٍ استنبطت من الحكم بعد استقراره عملاً بدلالة الحديث، إلا أن أصحابنا خصصوا ذلك بشيئين:
674- أحدهما: إذا كان التكفير بالصوم؛ فإنه لا يجزي تقديمه على الأظهر عندهم، طرداً لقاعدة العبادات البدنية في أنه لا يجوز تقديمها على أوقاتها، وأيضاً فإنما يجزي التكفير بالصوم عند العجز عن الخصال المالية، وإنما يتحقق العجز بعد الوجوب، ولا شك أن الحديث لم يفرق بين كفارة وكفارة، فيرجع حاصل هذا إلى تخصيص العموم بالقياس.
675- وثانيهما: إذا كان الحنث بارتكاب معصية، كشرب الخمر ونحوه، قال جماعة من الأصحاب: إنه لا يجزئ تقديم الكفارة؛ لأن ذلك يكون وسيلة إلى ارتكاب المعصية، والذي مال إليه الأكثرون جوازه؛ لإطلاق الأحاديث، وقول أولئك أقوى؛ لأن الاستدلال على جواز التقديم إنما هو بحديث عبد الرحمن بن سمرة هذا، وهو مقيدٌ بما إذا رأى التزام الحنث أولى من التزام موجب اليمين، فلا يدخل فيه ما إذا كان التزام موجب اليمين أولى، فضلاً عما إذا كان واجباً.
676- والحنث بمعصية وهذا هو المسألة الثانية، واليمين إما أن يكون على فعل واجب أو ترك محظور أو على عكس ذلك، فحكمهما ظاهر أن الحنث في الأول معصية، وفي الثاني واجب، وكذلك إذا كانت على فعل محبوب كصلاة تطوع مثلاً، فالحنث مكروه هنا، أو كانت على ترك مستحب فالحنث مستحب، لدلالة الحديث.(1/485)
677- فأما إذا كانت على مباح لا يتعلق به غرض ولا يتضمن مستحباً ولا مكروهاً فلأصحابنا ثلاثة أوجه:
687- أحدها: أن الوفاء بموجب اليمين أولى؛ لمفهوم هذا الحديث؛ فإنه يقتضي أن الوفاء بمقتضى اليمين عند عدم رؤية الخير في غيرها أولى؛ لعموم قوله تعالى: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها}، وقيل: الحنث أولى لينتفع المساكين بإخراج الكفارة، وهو بعيد، وقيل: يستويان، والله سبحانه أعلم.
679- أخبرنا الفقيه أبو الحسن علي بن أبي بكر بن بحتر الحنفي بقراءتي عليه قال: أنا أبو العباس أحمد بن عبد الدائم المقدسي سماعاً عليه، أنا الحافظ أبو محمد عبد القادر بن عبد الله الرهاوي، أنا الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد الهمداني، أنا علي بن أحمد بن بيان، أنا عبد الملك بن محمد بن بشران، أنا محمد بن الحسين الآجري، حدثني أبو علي الحسين ابن مهدية الفحام، حدثني صدقة بن إبراهيم المقابري، ثنا النضر بن سهل، عن أبيه قال: ((بينا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ذات يوم جالس إذ قال لجارية له: يا جارية روحيني، قال: فأخذت المروحة فأقبلت تروحه، فغلبتها عينها فنامت، فانتبه عمر رضي الله عنه فإذا هو بالجارية قد احمر وجهها وقد عرقت عرقاً شديداً -يعني وهي نائمة-، قال: فأخذ المروحة فأقبل يروحها، فانتبهت فوضعت يدها على رأسها فصاحت، فقال لها عمر -رحمة الله عليه-: إنما أنت بشر مثل ما أصابك من الحر ما أصابني، فأحببت أن أروحك مثل الذي روحتني. قال: فقالت له: يا أمير المؤمنين إني لم أصح من ترويحك هذا ولكن رأيت في منامي رؤيا، فقال لها عمر: ما الذي رأيت؟ قالت: رأيت كأن القيامة قد قامت، وكأن الميزان قد علق، وكأن الصراط قد نصب، فإذا المنادي قد نادى: أين الخليفة الذي قبل عمر بن عبد العزيز؟(1/486)
قالت: فأتي به، والله يا أمير المؤمنين وأنا أنظر إليه ويده مشدودة إلى عنقه فوقف على شفير جهنم فنادى منادٍ: ألا إنه قد جار في الكتاب وفسق في العباد، ألقوه في النار، قالت: فسقط يا أمير المؤمنين على حر وجهه في جهنم. ثم نادى الثانية: أين الذي كان قبل ذلك؟ قالت: فأتي به، والله يا أمير المؤمنين وأنا أنظر إليه ويده مشدودة إلى عنقه، فأوقف به على شفير جهنم، فنادى منادٍ: إنه جار في الكتاب، وفسق في العباد، ألقوه في النار، قالت: فسقط يا أمير المؤمنين على حر وجهه في جهنم، قال: فشهق عمر بن عبد العزيز شهقة فمكث نهاره جميعاً وليلته يخور كما يخور الثور حتى بال، فعلمنا أن عقله قد ذهب، ثم أصابه برد السحر فأفاق، ثم قال لها: يا جارية، ثم ماذا؟ قالت: ثم أتي بك، والله يا أمير وأنا أنظر إليك ويدك مشدودة إلى [عنقك]، فأوقفت على شفير جهنم، فنادى مناد: ألا إنه حكم في الكتاب وعدل في العباد، أدخلوه الجنة، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه))، رحمه الله.
680- أخبرنا الشيخ الصالح أبو إسحاق إبراهيم بن أبي بكر بن أحمد بن عمر المقدسي ثم الصالحي الكهفي قراءة عليه وأنا أسمع، أنا أبو العباس أحمد ابن عبد الدائم سماعاً عليه، أنبأنا عبد الله بن أحمد الخطيب -يعني أبا الفضل الطوسي-، أنا نصر بن أحمد العازمي ببغداد، أنا مكي بن عبد الرزاق، ثنا إبراهيم بن محمد النيسابوري قال: سمعت أبا عمرو محمد بن جعفر، ثنا حمزة ابن داود الأيلي ثنا الهدادي، ثنا حلبس الكلبي، عن سعيد، عن قتادة قال: لقيني [عمران] بن حطان فقال لي: يا عم إني عالم بحال نفسك غير أنك رجل تحفظ، فاحفظ عني هذه الأبيات، ثم أنشد:
حتى متى تسقى النفوس بكأسها ... ريب المنون وأنت لاهٍ ترتع(1/487)
فقد رضيت بأن تعلل بالمنى ... وإلى المنية كل يوم تدفع
فتزودن ليوم فقرك دائباً ... واجمع لنفسك لا لغيرك تجمع
الحديث التاسع عشر: عن تميم الداري رضي الله عنه وهو قديم الوفاة ولكن أخر سهواً
681- أخبرنا الشيخ المعمر أبو الصبر أيوب بن نعمة بن محمد بن نعمة بن أحمد بن جعفر المقدسي بقراءتي عليه قال: أنا العلامة أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل المرسي سماعاً عليه، أنا أبو الفتح منصور بن عبد المنعم بن عبد الله الفراوي سماعاً، أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد بن أحمد الخواري سماعاً، ثنا الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ثنا محمد ابن الحسين العلوي إملاء، أنا أبو حامد بن الشرقي، ثنا أحمد بن حفص [حدثنا حفص] بن عبد الله، حدثني إبراهيم بن طهمان، عن سهيل بن أبي صالح، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة))، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المؤمنين)) أو قال: ((أئمة المسلمين وعامتهم)).
682- وأخبرناه أعلا من هذه الرواية بدرجة المشايخ المسندون أبو زكريا(1/488)
يحيى بن محمد بن سعد وأبو محمد عيسى بن عبد الرحمن بن معالي وأم محمد زينب ابنة أحمد بن عمر بن شكر المقدسيون وأبو بكر أحمد بن محمد ابن أبي القاسم الدمشقي وأبو محمد عبد القادر بن يوسف بن المظفر الحظيري، وأبو الفتح محمد بن عبد الرحيم بن عباس القرشي بقراءتي على كل منهم، قال الثلاثة الأولون: أنا أبو الفضل جعفر ابن المقرئ، وقال الرابع: أنا عبد الله بن الحسين ابن رواحة الأنصاري، والخامس: أنا عبد الوهاب بن ظافر بن رواج الأزدي، والسادس: أنا يوسف بن محمود بن الحسين الساوي، قالوا: أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي، أنا أبو عبد الله القاسم بن الفضل الثقفي، ثنا أحمد بن موسى بن مردويه، ثنا محمد بن محمد بن مالك، ثنا الحارث بن محمد ابن أبي أسامة، ثنا علي بن عاصم، عن سهيل ابن أبي صالح، عن عطاء بن يزيد، عن تميم رضي الله عنه به.
683- هذا حديث صحيح رواه مسلم، عن محمد بن حاتم.
684- والنسائي عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، كلاهما عن عبد الرحمن ابن مهدي، عن سفيان الثوري.
685- ورواه مسلم أيضاً عن أمية بن بسطام، عن يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، كلاهما، عن سهيل ابن أبي صالح به.
686- فوقع لنا عالياً عنهما في الرواية الثانية بثلاث درجات، ولله الحمد والمنة.
687- تميم رضي الله عنه هو: أبو رقية تميم بن أوس بن خارجة بن سود بن جذيمة ابن دارع بن عدي بن الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم، واسمه: مالك ابن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، الأكبر الداري منسوب إلى جده الدار المذكور، وقيل: منسوب(1/489)
إلى دارين -وهو مكان عند البحرين وهو محط السفن وإليه كان يجلب العطر من الهند-، فلذلك يقال: ((عطر دارين)).
688- ووقع في ((الموطأ)) من رواية يحيى بن بكير ويحيى بن يحيى وغيرهما في نسب تميم ((الديري)) بالياء، وهو صحيح أيضاً، نسبة إلى دير؛ كان تميم يتعبد فيه قبل الإسلام لما كان نصرانياً، وكان إسلامه سنة تسع من الهجرة.
689- روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر حديثاً، ليس منها في ((الصحيحين)) سوى هذا الحديث الواحد عند مسلم فقط، ولم يخرج له البخاري شيئاً.
690- وفي ((صحيح مسلم)) عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم روى قصة الجساسة والدجال عن تميم الداري رضي الله عنه للناس، وهي منقبة انفرد بها، لم يرو النبي صلى الله عليه وسلم عن أحد من أمته غيره، ولكن روى عن جبريل وملك الجبال الذي أرسل إليه وغيرهما من الملائكة عليهم السلام، وعن موسى قصة المراجعة في الصلاة، وعن إبراهيم الخليل حديث: ((أن الجنة طيبة التربة)) عليهما الصلاة والسلام.
691- وممن روى عن تميم الداري: أبو هريرة، وابن عباس، وأنس بن(1/490)
مالك رضي الله عنهم، [وروح بن زنباع الجذامي]، وزرارة بن أوفى، وعبد الله بن موهب، وعطاء بن يزيد الليثي، وقبيصة بن ذؤيب، وشهر بن حوشب وأظنه مرسلاً، وآخرون.
692- وكان من عباد الصحابة وذوي الكرامات منهم.
693- روى سعيد الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير، عن معاوية بن حرمل: ((أن تميماً الداري أضافه، وأن ناراً خرجت بالحرة، فجاء عمر رضي الله عنه إلى تميم فقال: قم إلى هذه النار، فقال: من أنا وما أنا، فما زال به حتى قام معه وتبعتهما، فانطلقا إلى النار فجعل تميم يحوشها بيده حتى دخلت الشعب فدخل خلفها، فجعل عمر رضي الله عنه يقول: ليس من رأى كمن لم ير)).
694- وفي ((سنن ابن ماجه)) عن أبي سعيد الخدري: ((أن أول من أسرج في المساجد تميم رضي الله عنه))، و((هو أول من قص على الناس؛ استأذن عمر رضي الله في ذلك فأذن له)).
695- وقال ابن سيرين: ((جمع تميم الداري القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ))، و((كان يختم القرآن في ركعة)).(1/491)
696- وروى مسروق: ((أن تميماً صلى ليلة حتى أصبح أو كاد، يقرأ آية يرددها ويبكي لا يتجاوزها: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} الآية)).
697- وعن محمد بن المنكدر: ((أن تميماً الداري نام ليلة إلى الصباح، فعاقب نفسه بأن قام سنة لم ينم فيها ليلاً)).
698- وجاء من وجوه عديدة أن تميماً رضي الله عنه طلب من النبي قرية بيت حبرون وهي بلد الخليل - عليه الصلاة والسلام فكتب له بها.
699- قال الواقدي: ((وذلك أول ما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم من الشام)).
700- ومناقبه كثيرة جداً، وقد تحول من المدينة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، فنزل بيت المقدس، وتوفي بأرض الشام قيل: سنة أربعين، والظاهر أنه توفي بعدها؛ لأن الحسن البصري روى عنه، وكذلك شهر بن حوشب، وقبيصة بن ذؤيب، فيحتمل أن تكون وفاته في حدود سنة خمسين، والله سبحانه أعلم.
701- وله عقب مشهور، وقد قيل: إنه لم يعقب إلا بنتاً، وإنما العقب لأخيه أبي هند، فالله أعلم.(1/492)
فصل
702- قال الخطابي: ((النصيحة كلمة جامعة معناها [حيازة] الحظ للمنصوح، يعبر بها عن جملة إرادة الخير له، ويقال: هو من وجيز الأسماء ومختصر الكلام، وأنه ليس في كلام العرب كلمة مفردة تستوفى بها العبادة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في الفلاح: إنه ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه، ثم ذكر قولين في اشتقاق لفظ (النصيحة):
703- أحدهما: أنه من الخلوص من قولهم: نصحت الود إذا خلصته، وناصح العسل: خالصه.
704- وثانيهما: أنه من قوهم: نصحت الجلد أو الثوب: إذا خطته، والناصح الخياط، فكأن الناصح لأخيه يلم شعثه ويضمه كما تضم الإبرة خرق الثوب)).
705- والقول الأول هو اختيار الجمهور، كالأزهري، والجوهري، وابن سيده، وغيرهم، ويتأيد بأن مصدر النصيحة: النصح بضم النون، وكذلك هو مصدر نصح بمعنى خلص، وأما نصحت الثوب بمعنى خطته فمصدره النصح بفتح النون.
706- ومعنى الحديث: أن عماد الدين وقوامه: النصيحة، كما في الحديث الآخر: ((الحج عرفة)) أي: عماده ومعظمه، لا أن الدين ليس إلا النصيحة، بل(1/493)
الحصر مؤول على ما ذكرناه، وقد ذكر جماعة من العلماء هذا الحديث أحد الأربعة التي عليها مدار الإسلام.
707- وقال الشيخ أبو زكريا النواوي -رحمه الله-: ((بل هو وحده مستقل بذلك، وعليه مدار الإسلام بكماله)).
708- وعلى هذا يكون الحصر على ظاهره من غير تأويل، وبيان ذلك بتفصيل وجوه النصيحة المذكورة في الحديث.
709- فنصيحة الله تعالى: اعتقاد وحدانيته، ووصفه بما هو أهله، وتنزيهه عما لا يجوز عليه، والرغبة في محابه، والبعد عن مساخطه، والإخلاص في عبادته، والحب فيه والبغض، وموالاة من أطاعه ومعاداة من عصاه، وجهاد من كفر به، والاعتراف بنعمه والشكر عليها بالقول والفعل، والدعاء إلى جميع هذه الأوصاف المذكورة والحث عليها، والتلطف في جميع الناس أو من أمكن منهم عليها.
710- وأما نصيحة كتابه: فالإيمان بأنه كلام الله وتنزيله، لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها، والخشوع عندها، والذب عنه من تأويل الغالين، وتحريف المبلطين، وطعن الملحدين، والتصديق بجميع ما فيه، والوقوف عند أحكامه، والتفقه فيه، والاعتبار بمواعظه وأمثاله، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه.
711- وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فتصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه، ومؤازرته ونصرته وحمايته حياً وميتاً، وإحياء سنته بالطلب لها والذب عنها ونشرها، وإثارة علومها والتفقه في معانيها، والدعاء إليها، والتلطف في تعلمها وتعليمها، وإجلال أهلها،(1/494)
والتخلق بأخلاقه الكريمة، وآدابه الجميلة، ومحبة أهل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته أو تعرض لأحد من أصحابه.
712- وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فمعاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق، وإعلامهم بما غفلوا عنه، وترك الخروج عليهم، والصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقة إليهم، وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح.
713- وهذا على أن المراد بأئمة المسلمين الولاة عليهم، وهو الذي فهمه جمهور العلماء من الحديث، ويحتمل أن يكون المراد به الأئمة الذين هم علماء الدين، كما قال جماعة من المفسرين في قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، أن المراد بأولي الأمر العلماء، فتكون نصيحتهم في قبول ما رووه، وتقليدهم في الأحكام لمن ليست له أهلية الاجتهاد، وإحسان الظن.
714- ويمكن حمل أئمة المسلمين على المجموع من الأمراء والعلماء بناء على القول بحمل المشترك على معنييه.
715- وأما نصيحة عامة المسلمين -وهم من عدا ولاة الأمر والعلماء على هذا الاحتمال-: فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتنبيه غافلهم، وتبصير جاهلهم، ورفد محتاجهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها.(1/495)
716- فبهذا التفصيل ظهر أن حصر الدين في النصيحة على ظاهره، وإن كان بعض ذلك فرض عين وبعضه فرض كفاية وبعضه سنة، كما هو الدين مشتمل على ذلك، والله سبحانه أعلم.
717- أخبرنا المسند المعمر رحلة الدنيا أبو العباس أحمد بن أبي طالب ابن أبي النعم نعمة بن حسن بن علي بن بيان الصالحي بقراءتي عليه غير مرة وقد جاوز المائة قال: أنا أبو المنجا عبد الله بن عمر بن علي بن اللتي سماعاً عليه، أنا أبو علي الحسن بن جعفر بن عبد الصمد الهاشمي، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي العلاف، أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر الحمامي، ثنا أبو محمد جعفر بن محمد الخلدي، ثنا إبراهيم بن نصر، ثنا إبراهيم ابن بشار قال: سمعت الفضيل -يعني ابن عياض- رحمه الله يقول: ((بلغني أن خالد بن صفوان دخل على عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه، فقال له عمر بن عبد العزيز: عظني يا خالد، فقال له: إن الله عز وجل لم يرض أحداً أن يكون فوقك، فلا ترض أن يكون أحد أولى بالشكر منك، قال: فبكى عمر حتى غشي عليه، ثم أفاق فقال: هيه يا خالد! لم يرض أن يكون أحدٌ فوقي، فوالله لأخافنه خوفاً، ولأحذرنه حذراً، ولأرجونه رجاء، ولأحبنه محبة، ولأشكرنه شكراً، ولأحمدنه حمداً يكون ذلك كله أشد مجهودي وغاية طاقتي، ولأجتهدن في العدل والنصيحة والزهد في فاني الدنيا لزوالها، والرغبة في بقاء الآخرة لدوامها، حتى ألقى الله عز وجل، فلعل أن أنجو مع الناجين، وأفوز مع الفائزين، وبكى حتى غشي عليه، قال: فتركته مغشياً وانصرفت)).
718- أنشدنا المعدل أبو العباس أحمد بن عبد الكريم بن عبد الصمد أنوشروان الحنفي الدمشقي بها لنفسه من قصيدةٍ يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم:(1/496)
أهيل نجدٍ ترى قبل انقضاء أجلي ... هل ينقضي أملي من ربة الحلل
ذات الستور التي في حبها انهتكت ... أستارٌ سرى هواها هتك مبتذل
بديعة الحسن كم أحيت وكم قتلت ... دلاًّ لمنفصلٍ عنها ومتصل
بدريةٌ وشهيدٌ كل من قتلت ... بحابة حميت بالبيض والأسل
محمي نزيل حماها حيث حل فيا ... طوبى لمن بات عنه غير منتقل
لما بدت وبأكناف الحمى سكنت ... وحركت بهواها ساكني الحلل
حنت إلى وصلها الأوصال قاطبةً ... حتى نفوس تقبيل لا يتق الذلل
وأذنت في نواحي الحي حي على ... كريمة الوصف والأضياف والنزل
فمن أجاب لداعيها الكريم غدا ... في باب حضرتها من أكرم الخول
واهاً على وقفةٍ في ظل معهدها ... تسقى النفوس والأوصاف العلل
الحديث العشرون: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه
719- أخبرنا الإمام العلامة أبو العباس أحمد بن محمد بن جبارة بن عبد الولي المقدسي بقراءتي عليه ببيت المقدس حماه الله قال: أنا أبو العباس أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي، أنا أبو الفرج يحيى بن محمود الثقفي، أنا أبو محمد حمزة بن العباس العلوي حضوراً، أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم، أنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن [حيان]، ثنا عبد الله بن محمد بن زكريا، ثنا إسماعيل بن عمرو البجلي، ثنا سفيان(1/497)
الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الساعة التي يرجى فيها يوم الجمعة عند نزول الإمام)).
720- كذا رواه [سفيان] الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي بردة.
721- ورواه بكير بن عبد الله بن الأشج، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: قال لي عبد الله بن عمر: أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ساعة الجمعة؟ قال: قلت: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((هي ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة)).
722- أخبرناه أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن أبي الهيجاء الصالحي سماعاً عليه قال: أنا أبو علي الحسن بن محمد بن محمد البكري، أنا عبد العزيز ابن محمد الهروي، أنا زاهر بن طاهر الشحامي، أنا محمد بن عبد الرحمن الكنجروذي، أنا محمد بن الفضل بن خزيمة، ثنا جدي الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، ثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، ثنا عمي، أخبرني مخرمة -يعني ابن بكير-، عن أبيه، عن أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري فذكره.
723- كذلك أخرجه مسلم عن أبي طاهر وعلي بن خشرم وهارون بن سعيد وأحمد بن عيسى المصري.
724- ورواه أبو داود عن أحمد بن صالح المصري، كلهم عن عبد الله ابن وهب به. فوقع بدلاً لنا عالياً في الرواية الأولى.
725- أبو موسى رضي الله عنه هو: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب(1/498)
ابن عامر بن عتز -بالتاء المثناة من فوق المفتوحة والزاي-، على وزن جمل، ابن بكير بن عامر بن عذر -بفتح العين المهملة والذال المعجمة-، ابن وائل بن ناجية بن جماهر بن الأشعر، واسمه نبت أخي طيء واسمه جلهمة ومذحج واسمه مالك، ومرة أولاد أدد بن زيد بن يشجب بن غريب بن زيد بن كهلان بن سبأ الأشعري.
726- أسلم بمكة قديماً، وحالف سعيد بن العاص ثم رجع إلى قومه، ثم هاجر من بلاده إلى الحبشة، فأقام بها حتى هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هو ونحو خمسين من قومه مع جعفر ابن أبي طالب ومهاجرة الحبشة، فيكون له على هذا ثلاث هجرات.
727- قال الحافظ أبو بكر بن أبي داود: وهذا شيء ليس لغيره من الصحابة رضي الله عنهم.
728- وقيل: إنما خرج هو وقومه من بلادهم مهاجرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سفينة، فألقتهم الريح إلى الحبشة، فأقام بها حتى قدموا مع جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم بعد فتح خيبر بثلاث، فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم منها.
729- قال أنس رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقدم قوم هم أرق أفئدةً منكم))، فقدم الأشعريون فيهم عبد الله بن قيس، فجعلوا يرتجزون:
غداً نلقى الأحبة ... محمداً وحزبه(1/499)
730- وكان أبو موسى رضي الله عنه من أحسن الناس صوتاً بالقرآن، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود))، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع معاذ إلى اليمن، فاستعمله على زبيد- وعدن وساحل اليمن، فأقام بها ثم وافى النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، واستعمله عمر رضي الله عنه على الكوفة والبصرة، فسار إلى الأهواز فافتتحها، وافتتح أصبهان سنة ثلاث وعشرين.
731- وروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة مائة حديث وخمسة أحاديث، وقيل: وستون حديثاً، اتفقا في ((الصحيحين)) منها على خمسين حديثاً، وانفرد البخاري بثلاثة أحاديث، ومسلم بخمسة عشر حديثاً.
732- روى عنه أنس بن مالك وغيره من الصحابة، وأولاده أبو بردة وأبو بكر وإبراهيم وموسى، وسعيد بن المسيب، وأبو عثمان النهدي، والأسود بن يزيد، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وربعي بن حراش، وأبو رافع الصايغ، وزهدم الجرمي وخلق.
733- وفضائله ومناقبه كثيرة جداً، وفي ((الصحيحين)) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً))، وأن(1/500)
النبي صلى الله عليه وسلم قال لأعرابي: ((أبشر))، فقال: قد أكثرت علي من أبشر، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى وبلال رضي الله عنهما كهيئة الغضبان فقال: ((إن هذا رد البشرى فاقبلا أنتما))، فقالا: قد قبلنا يا رسول الله، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح من ماء فغسل منه يديه ووجهه، ثم مج في الإناء، فقال: ((اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا))، ففعلا ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو وقل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بالسوية، فهم مني وأنا منهم)).
734- واختلف في سنة وافته من سنة اثنتين وأربعين إلى سنة ثلاث وخمسين، والأشبه أنه مات سنة خمسين وهو ابن بضع وستين سنة رضي الله عنه.
735- اختلفت الأحاديث في تعيين ساعة الإجابة الكائنة في يوم الجمعة؛ ففي هذا الحديث الصحيح أنها ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة، وفي حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف -وهو ضعيف جداً- عن أبيه، عن جده: أنها من حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها. ورواه الترمذي وابن ماجه، وفي حديث رواه أحمد بن حنبل في ((مسنده)): ((أنها عند مضي ثلاث ساعات من يوم الجمعة))، وفي عدة أحاديث أخر أنها بعد العصر آخر ساعة من ذلك اليوم.
736- منها: حديث الحلاج مولى عبد العزيز، عن أبي سلمة، عن(1/501)
جابر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة، فيها ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله شيئاً إلا آتاه إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر)). رواه أبو داود والنسائي، وإسناده على شرط مسلم.
737- وحديث موسى بن وردان عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((التمسوا الساعة التي في يوم الجمعة بعد العصر إلى غروب الشمس)). رواه الترمذي واستغربه.
738- ومثله أيضاً حديث إسماعيل ابن أبي أويس، عن أخيه، عن سليمان ابن بلال، عن أبيه، عن صفوان بن سليم، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة بعد العصر إلى غروب الشمس)). رواه الإمام أبو عمر بن عبد البر في ((التمهيد))، واستغربه.
739- وروى فيه أيضاً عن خالد بن مخلد، عن عبد السلام بن حفص، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الساعة التي يتحرى فيها الدعاء يوم الجمعة هي آخر ساعة من الجمعة)).
740- وعبد السلام هذا ثقة يغرب، والعلاء عن أبيه من شرط مسلم.
741- فمن العلماء من قدم حديث أبي موسى الذي رويناه على ما عداه لكونه في الصحيح دونها، ومنهم من قدم عليه هذه الأحاديث الدالة على كونها بعد العصر بتضافرها وتعدد طرقها؛ فإنها تفيد بمجموعها الصحة القوية، وهو(1/502)
ظاهر اختيار الإمام أحمد بن حنبل؛ فإنه قال: أكثر الأحاديث تدل على أنها بعد العصر، وهذا قول أبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن سلام رضي الله عنهم، وسعيد ابن جبير وطاوس ومجاهد وغيرهم.
742- وذكر لي شيخنا إمام الأئمة أبو المعالي رحمه الله أنه اختيار الإمام الشافعي، وقال به أيضاً إسحاق بن راهويه، واختاره ابن عبد البر وأبو بكر الطرطوشي، وهو اختيار شيخنا المشار إليه، وكان يرجحه بما أشار إليه عبد الله ابن سلام رضي الله عنه: ((أنها الساعة التي خلق الله فيها آدم))، كما ثبت في الحديث فناسب أن جعل الله هذه الساعة لذريته يستجاب فيها دعاؤهم.
743- وأصحاب هذا القول تأولوا قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصادفها عبدٌ مسلم وهو قائم يصلي فسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه))، على انتظار الصلاة كما قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة))، وحملوا لفظ القيام على المواظبة كما في قوله تعالى: {إلا ما دمت عليه قائماً} أي: مواظباً، ولا شك أنه لا يلزم منه إلغاء حديث أبي موسى بالكلية بالنسبة إلى خصوص يوم الجمعة؛(1/503)
لأنهم أولوا أن تلك الساعة بين أذانين، وبين كل أذانين ساعة إجابة، فيزول اعتبار خصوصية يوم الجمعة.
744- كما أن الشيخ محيي الدين النواوي رحمه الله ومن وافقه على القول بحديث أبي موسى رضي الله عنه ألغوا تلك الأحاديث الدالة على أنها بعد العصر، فالأولى حينئذ الجمع بين الأحاديث كلها على أنها تنتقل في أيام الجمع على الأوقات المذكورة فيها، كما قيل بمثله في ليلة القدر للجمع بين الأحاديث وليس هذا ببعيد، بل فيه فائدة استغراق يوم الجمعة بالدعاء رجاء إصابتها، والله سبحانه أعلم.
745- أخبرنا المحدث أبو المعالي محمد بن محمد بن علي بن إبراهيم الصيرفي الأنصاري قراءة عليه وأنا أسمع قال: أنا أبو بكر محمد بن علي بن المظفر ابن النشبي سماعاً عليه، أنا أبو طاهر بركات بن إبراهيم القرشي، أنا عبد الكريم بن حمزة بن الخضر السلمي، أنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران (ح).
746- وأخبرنا أعلا من هذا أبو نصر محمد بن محمد بن محمد بن هبة الله ابن الشيرازي وأبو بكر أحمد بن محمد ابن أبي القاسم الدشتي بقراءتي على كل منهما قالا: أنا أبو القاسم يحيى ابن أبي السعود ابن أبي القاسم البغدادي سماعاً عليه، أخبرتنا الكاتبة شهدة بنت أحمد بن عمر الآبري قالت: أنا أبو الفوارس طراد بن محمد الزينبي، أنا أبو الحسين علي بن محمد بشران، أنا الحسين بن صفوان البرذعي، ثنا عبد الله بن محمد القرشي، حدثني عيسى ابن أبي حرب الصفار والمغيرة بن محمد قالا: ثنا عبد الأعلى بن حماد، حدثني(1/504)
الحسن بن الفضل بن الربيع، حدثني عبد الله بن الفضل بن الربيع، عن الفضل بن الربيع، حدثني أبي قال: ((حج [أبو] جعفر -يعني المنصور- سنة سبع وأربعين ومائة، فقدم المدينة فقال: ابعث إلى جعفر بن محمد من يأتيني به تعباً قاتلني الله إن لم أقتله، فأمسكت عنه رجاء أن ينساه، فأغلظ لي في الثانية فقلت: جعفر بن محمد بالباب يا أمير المؤمنين، فقال: ائذن له، فأذنت له، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: لا سلم الله عليك يا عدو الله، تلحد في سلطاني وتبغيني الغوائل في ملكي، قتلني الله إن لم أقتلك. فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، إن سليمان أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر، وأنت [السنخ] من ذلك، قال: فنكس طويلاً ثم رفع رأسه، وقال: إلي وعندي يا أبا عبد الله البريء الساحة السليم الناحية القليل الغائلة، جزاك الله عن ذي رحم أفضل ما يجزي من ذوي الأرحام، ثم تناول يده فأجلسه معه على مفرشه، ثم قال: يا غلام علي بالمتحفة -والمتحفة مدهن كبير فيه غالية- فأتى به فغلفه بيده حتى خلت لحيته قاطرة، ثم قال له: في حفظ الله وكلائه، يا ربيع، ألحق أبا عبد الله جائزته وكسوته، فانصرف ولحقته، فقلت: إني قد رأيت قبل ذلك ما لم تر أنت، ورأيت بعد ذلك ما قد رأيت، وقد رأيتك تحرك شفتيك فما الذي قلت؟ قال: نعم إنك رجل منا أهل البيت، ولك محبة وود، قلت: اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام، واغفر لي بقدرتك علي، ولا أهلك وأنت رجائي، رب كم من نعمة أنعمت بها علي، قل لك عندها شكري، وكم من بلية ابتليتني بها قل لك عندها صبري، فيا من قل عند نعمه شكري فلم يحرمني، ويا من قل عند بليته صبري فلم يخذلني، ويا من رآني على الخطأ فلم يفضحني، يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبداً، ويا ذا النعم التي لا تحصى عدداً، أسألك أن تصلي على محمد وعلى آل محمد -هنا في بعض النسخ(1/505)
وليس من سماعنا: اللهم إنه من عبادك مثلي ألقيت عليه سلطاناً من سلطانك، فخذ بسمعه وبصره وقلبه إلى ما فيه صلاح أمري، انتهى ما ليس من سماعنا- وبك أدرأ في نحره، وأعوذ بك من شره، اللهم وأعني على ديني بدنيا، وعلى آخرتي بتقوى، واحفظني فيما غبت عنه، ولا تكلني إلى نفسي فيما حضرته، يا من لا تضره الذنوب، ولا تنقصه المغفرة، اغفر لي ما لا يضرك، وأعطني ما لا ينقصك، إنك أنت الوهاب، أسألك فرجاً قريباً، وصبراً جميلاً، ورزقاً واسعاً، والعافية من جميع البلاء، وشكر العافية)).
747- أنشدنا الصدر المسند أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن نوح المقدسي بقراءتي عليه، أنشدنا العلامة أبو محمد عبد العزيز بن عبد المحسن بن محمد الأنصاري الحموي لنفسه يمدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أنت المؤمل للعفاة اللوذ ... وإليك إعمال المطي الشمذ
بك يستجير المجتدي من فقره ... وبنور هديك يستجبر المجتذي
تحيي التقى في كل قلبٍ مثلما ... يؤذي بشيطان الهوى المستحوذ
ثقفت بالإسلام كل مؤود ... ووصلت بالأرحام كل مجذذ
جللت بالنعم السوابغ أمد ... بسوى مصابك قلها لم يوقذ
حسبي شفاعتك المفيدة جنةً ... حصباؤها من لؤلؤ وزمرذ
خير الأمام قريش ثم محمد ... من خير أصل منهم متفخذ
داعٍ إلى ترك الفواحش خاب من ... فينا بقصد سبيله لم يأخذ(1/506)
ذو المكرمات يروم كل ينيلها ... وتجل عن أن يحتذيها محتذي
رب الفضائل والفواضل والندى ... والبأس والأمر المطاع الأنفذ
زجرت عن الفعل الخنا أقواله ... ونهت سكينته عن القول البذي
سيف الإله المجتبى بمهندٍ ... عضبٍ لأكباد الطغاة مفلذ
طهر الشآم به فما من أسقفٍ ... وزكا العراق فما به من موبذ
ظهرت دلائله المبينة فاقتضت ... بعداً لكل منجم وموخذ
قد أنقذ الله البرية كلها ... من بحر حيرتها بأرأف منقذ
كمحمدٍ من رام فخراً فليكن ... ومن الذي كمحمدٍ ومن الذي
لله در محمدٍ من مرسلٍ ... تنفى الغذاة به عن الجفن القذي
من كالنبي الهاشمي الأبطحي ... الألمعي اللوذعي الأحوذي
نور الإله المستضاء بهديه ... والمستظل بظله المتلذذ
هو مصطفى الرحمن للمنح التي ... منها سقي وبها كسي ولها غذي
لا مرتقى لمنال مكرمةٍ كذا ... لا رتبة تحظى الكرام بها كذي
يلهي عن اللهو الشهي مديحه ... متحلياً بالعرف والعرف الشذي
الحديث الحادي والعشرون: عن عمران بن حصين رضي الله عنه
748- أخبرنا المعدل المكثر أبو عبد الله محمد بن عبد الله الشافعي الدمشقي بقراءتي عليه وأنا أسمع، قال: أنا العلامة أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد المرسي سماعاً عليه غير مرة قال: أنا أبو القاسم عربشاه بن أحمد بن عبد الرحمن العلوي وأبو الفتح منصور بن عبد المنعم بن عبد الله الفراوي قالا: أنا أبو محمد عبد الجبار بن أحمد بن محمد الخواري، قال في رواية عربشاه عنه: أنا إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني،(1/507)
أنا أبو سعد عبد الرحمن بن حمدان العدل، أنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن زياد، ثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه، ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أنا محمد بن عبيد الطنافسي، ثنا الأعمش (ح).
749- وقال الخواري في رواية منصور عنه: أنا الإمام أحمد بن الحسين البيهقي، أنا محمد بن عبد الله الحافظ، حدثني أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه، أنا بشر بن موسى، ثنا معاوية بن عمرو، ثنا أبو إسحاق الفزاري، عن الأعمش (ح).
750- وبه إلى البيهقي قال: أنا أبو الحسين بن الفضل القطان، أنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، ثنا يعقوب بن سفيان، ثنا عمر بن حفص بن غياث، ثنا أبي ثنا الأعمش، ثنا جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. .. )).
751- قال محمد بن عبيد: ((على ناقة فعقلتها بالباب، فجاءه نفر من بني تميم فقال: ((اقبلوا البشرى يا بني تميم))، قالوا: قد قبلنا فأعطنا، فأعرض عنهم، فأتاه ناس من اليمن فقال: ((اقبلوا البشرى ولا تقولوا كما قالت بنو تميم))، قالوا: قد قبلنا فما كان أول هذا الأمر؟)).
752- وقال البيهقي في طريقيه: ((فجاءه نفر من أهل اليمن فقالوا: يا رسول الله أتيناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر كيف كان، قال: ((كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، ثم كتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض)).(1/508)
753- وقال إمام الحرمين في روايته: ((كان ولا شيء غيره، وكان عرشه على الماء، قال: فجاء رجل فقال: يا ابن حصين أدرك ناقتك فقد ذهبت، قال: فقمت فلحقتها، فوددت أني كنت تركتها تذهب)).
754- وأخبرناه أعلا من هذه الطريق أبو عبد الله محمد ابن أبي العز بن مشرف وأحمد ابن أبي طالب المعمر ووزيرة بنت عمر بن المنجا قالوا: أنا الحسين بن المبارك الربعي، أنا عبد الأول بن عيسى، أنا عبد الرحمن ابن المظفر، أنا عبد الله بن حمويه، أنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل البخاري، ثنا عمر بن حفص بن غياث، ثنا أبي، ثنا الأعمش فذكره بتمامه، ولفظه: ((كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض)).
755- هذا حديث صحيح رواه البخاري في ((بدء الخلق)) عن عمر بن حفص كما رويناه عنه، وفي ((التوحيد)) عن عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش به، ورواه أيضاً في مواضع أخر من طريق سفيان الثوري، عن أبي صخرة جامع بن شداد به.
756- عمران رضي الله عنه هو: أبو نجيد -بضم النون وفتح الجيم-، عمران بن حصين بن عبيد بن خلف بن عبد [نهم] بن سالم بن غاضرة بن سلول بن كعب ابن عمرو بن ربيعة وهو لحي بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن الأزد ابن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان الخزاعي نزيل البصرة.
757- أسلم سنة سبع، أيام خيبر، هو وأبو هريرة رضي الله عنهما، واختلف في(1/509)
إسلام أبيه حصين، والراجح أنه أسلم أيضاً كذلك، رواه الترمذي في ((جامعه)) بإسناد حسن.
758- روى حاجب بن عمر عن الحكم بن الأعرج عن عمران بن حصين قال: ((ما مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم )).
759- روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة وثمانون حديثاً، اتفقا منها على ثمانية، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بتسعة.
760- روى عنه ابنه نجيد، وأبو رجاء العطاردي، وأبو الأسود الدؤلي، ومحمد ابن سيرين، والحسن البصري، ومطرف ويزيد ابنا عبد الله بن الشخير، وزرارة بن أوفى، وأبو السوار العدوي، وأبو نضرة العبدي، وزهدم الجرمي، وعامر الشعبي وآخرون.
761- وكان من علماء الصحابة وعبادهم، بعثه عمر رضي الله عنه إلى البصرة ليفقههم، وكان الحسن البصري يحلف ما قدم عليهم رجل خير لهم من عمران ابن حصين، وولاه عبد الله بن عامر القضاء بالبصرة فباشره أياماً إلى أن قال له(1/510)
رجل قضى عليه: ((والله لقد قضيت علي بجور، وما ألوت، قال: وكيف ذلك؟ قال: شهد علي بزور، قال: ما قضيت عليك فهو في مالي، والله لا أجلس مجلسي هذا أبداً، فاستعفى ابن عامر فأعفاه)).
762- وكان ممن اعتزل الفتنة فلم يشهد تلك الحروب، واستسقى زمناً طويلاً، قال ابن سيرين: سقي بطنه ثلاثين سنة، كل ذلك يعرض عليه الكي فيأبى، حتى كان قبل موته بسنتين فاكتوى.
763- وفي ((صحيح مسلم)) عن عمران رضي الله عنه أنه قال: ((قد كان يسلم علي حتى اكتويت فتركت ثم تركت الكي فعادوا))، أراد بهذا تسليم الملائكة عليه كما جاء مصرحاً به في رواية أخرى: ((أن الملائكة كانت تسلم علي ويراهم عياناً))، وكان مجاب الدعوة أيضاً، وأوصى لأمهات أولاده بوصايا، وقال: ((من صرخ علي منهن فلا وصية لها)).
764- توفي بالبصرة سنة اثنتين وخمسين رضي الله عنه.
فصل
765- تضمن هذا الحديث الصحيح أن جميع العالم حادث بعد أن لم يكن، وأن الله تعالى كان قبل جميع الأشياء، وعلى ذلك دلت الأدلة القاطعة(1/511)
أيضاً، والقرآن العظيم مشحون بالاستدلال على حدوث العالم والإشارة إلى طرف ذلك كقوله تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}، وقوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار} الآية، إلى قوله تعالى: {لآياتٍ لقوم يعقلون}، وإخباره سبحانه عن قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الكواكب والقمر والشمس حيث قال: {فلما أفل قال لا أحب الآفلين}، تنبيهاً منه عليه السلام على أن كل من أفل وتغير من حال إلى حال فليس بقديم، ثم نبه بعد ذلك على وجه الدلالة بقوله: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض}، فأخبر أن الفطرة التي هي الخلقة تشهد بدلالتها على صانعها. وحاصل هذه الطريقة أن التغير الكائن في المخلوقات يلزم منه جوازها، والجائز مفتقر في وقوعه إلى مخصص، وذلك المخصص لا بد وأن يكون مبايناً للجائزات جميعها بذاته وصفاته، وإلا لم يكن فعله فيها أولى من عكسه، وتلك المباينة منحصرة في قدمه على جميعها، وإثبات صفات بها يصح الاختراع والإحداث، قديمة أزلية كالعلم والقدرة والإرادة، وتنزيهه عن صفات الحديث وسمات النقص التي بها يستدل على حدوث من اتصف بها.(1/512)
766- فانحصرت مطالب هذا الطريق في ستة أصول:
أولها: العلم بحدوث العالم.
والثاني: العلم بافتقاره إلى فاعل.
والثالث: العلم بأن فاعله لا يشبهه.
والرابع: أن فاعله واحد.
والخامس: العلم بما يجب له.
والسادس: العلم بما يجوز من صفات أفعاله وما يستحيل عليه في ذاته وصفاته.
767- وكل أصل من هذه يستدعي مباحث طويلة ليس هذا موضعها.
768- وقد وقع في رواية عبدان عن أبي حمزة عند البخاري في الحديث: ((كان الله ولا شيء قبله))، فتعلق بذلك بعض المبتدعة في إثبات حوادث لا أول لها، وهو تعلقٌ باطلٌ ترده بقية الروايات في قوله(1/513)
صلى الله عليه وسلم: ((ولا شيء معه))، ((ولا شيء غيره))، وتبطله الأدلة العقلية القاطعة في استحالة حوادث لا أول لها، وأنه يلزم من هذه المقالة أن يكون الله سبحانه موجباً بالذات لا فاعلاً باختيار كما تقوله الفلاسفة، تعالى الله وتقدس عن ذلك.
769- وقد ثبت في القرآن تسميته سبحانه بالأول، ومتى كان معه شيء لا يصدق عليه هذا الاسم، فلا يكون أولاً على الإطلاق حتى يكون قبل كل شيء، ومتى كانت المخلوقات لازمة له، كالضوء عن الشمس، لم يكن قبل كل شيء ولا يكون أولاً، وفساد هذه المقالة وبطلانها أظهر من أن يطنب فيه، لكن(1/514)
العجب ممن يستدل لنزعة فلسفية بأحاديث نقلية، وهي لو كانت موافقة لمذهب أهل السنة لم تكن مفيدة لليقين، إذ هذه المطالب لا تثبت إلا بالأدلة العقلية، فكيف وهي منابذة لأصول الإسلام، ومعارضة للأدلة القاطعة العقلية.
770- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وكان عرشه على الماء)): (كان) هذه هي التامة، بمعنى: (حدث ووجد)، و(على الماء): في موضع الحال، وإن قدرت (كان) هي الناقصة، و(على الماء) خبرها، فتكون الواو هنا بمعنى (ثم)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: ((ثم خلق السماوات والأرض))، أي: بعد خلق العرش، ولا يجوز أن تكون (كان) هنا بمعنى القدم؛ لأنه على خلاف قوله صلى الله عليه وسلم أولاً: ((كان الله ولا شيء غيره))، ولا يصح إثبات شيء قديم مع الله تعالى أصلاً؛ لأنه سبحانه هو المنفرد بالقدم وما سواه حادث بإيجاده وتخصيصه إياه بحال حدوث.
771- والعرش خلق من مخلوقاته تعالى، أوجده بعد أن لم يكن، ومحال أن يكون الحادث قديماً، وبهذا يتقرر أن استواءه سبحانه على العرش ليس بمماسة ولا باستقرار ولا بصفة احتياج أصلاً، ولا يلزم على ذلك تأويل الاستواء بالاستيلاء، نثبت له هذه الصفة ونكل علمها إلى الله تعالى، مع القطع بأن الظاهر الموهم للحدوث والجسمية والافتقار غير مراد، والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق.
772- أخبرنا الشيخ الصالح المعدل أبو محمد عبد العزيز بن عمر بن أبي بكر الحموي بقراءتي عليه وسماعاً عليه أيضاً قال: أنا أبو العباس أحمد بن علي ابن يوسف الدمشقي سماعاً عليه، أنا هبة الله بن علي بن مسعود، أنا أبو الحسن علي بن الحسين الفراء، أنا عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل الضراب، أنا أبي محمد الحسن، ثنا أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري، ثنا(1/515)
عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال: ((خطب خالد بن عبد الله القسري وذكر الله وجلاله فقال: كنت كذلك ما شئت أن تكون لا يعلم كيف أنت إلا أنت، ثم خلقت الخلق فما جئت به من عجائب صنعك والكبير والصغير من خلقك والظاهر والباطن من ذرك، من صنوف أفراده وأزواجه، إلى ما هو أعظم من ذلك من الأشباح التي امتزجت بالأرواح)).
773- وبه إلى ابن مروان الدينوري، ثنا أبو بكر ابن أبي الدنيا، ثنا أبي، عن جعفر بن سليمان، عن عبد الواحد بن زياد قال: قال الحسن رحمة الله عليه: ((المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه، ولكن أخذه من قبل ربه، وإن هذا الحق قد جهد أهله وما يصبر عليه إلا من عرف فضله ورجا عاقبته، فمن حمد الدنيا ذم الآخرة، وليس يكره لقاء الله إلا مقيم على سخطه. وكان إذا قرأ {ألهاكم التكاثر} قال: عماذا ألهاكم؟ عن دار الخلود وجنة لا تبيد، هذا والله فضح القوم وهتك الستر وأبدى الهوان، رحم الله رجلاً خلا بكتاب الله فعرضه على نفسه، فإن وافقه، حمد ربه وسأل الزيادة من فضله، وإن خالفه أعتب نفسه وأناب وراجع من قريب، رحمه الله رجلاً وعظ أخاه وأهله فقال: يا أهلوه صلاتكم صلاتكم، زكاتكم زكاتكم، لعل الله يرحمكم، فإن الله أثنى على عبد من عباده فقال: {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً}، ابن آدم كيف تكون مسلماً ولا يسلم منك جارك، وكيف تكون مؤمناً ولم يأمنك الناس)).
774- أنشدنا الصدر أبو العباس أحمد بن إدريس بن مزيز بن محمد بن مزيز التنوخي بقراءتي عليه بدمشق وحلب أيضاً قال: أنشدنا أبو محمد مكي بن علان، أنشدنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر الدمشقي، أنشدنا(1/516)
أبو عبد الله لنفسه محمد بن الحسن بن منصور الموصلي لنفسه:
الله أكبر أن يكون لذاته ... كيفية كذوات مخلوقاته
أو أن تقاس صفاتنا في كل ما ... نبديه من أفعالنا بصفاته
تباً لذي سفهٍ يقول بأنه ... جسمٌ وأن سماتنا كسماته
حتى العقول ذوي عقول بأسرهم ... متحيراتٌ في دوام حياته
لبديع صنعته عليه شواهدٌ ... تبدو على صفحات مصنوعاته
ذرأ الأنام بقدرةٍ أزليةٍ ... وإرادةٍ فيهم لتقديراته
ورأى بعين العلم ما تأتي به ... لمحات أعينهم وما لم تاته
الحديث الثاني والعشرون: عن أسامة بن زيد رضي الله عنه
775- أخبرنا الشيخ الرئيس المعدل أبو محمد عبد القادر بن يوسف بن المظفر بن صدقة ابن الحظيري الكاتب بقراءتي عليه قال: أنا أبو محمد عبد الوهاب بن ظافر بن علي بن رواج الأزدي قراءةً عليه وأنا أسمع، أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي، أنا أبو عبد الله القاسم بن الفضل الثقفي، ثنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران، ثنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا سعدان بن نصر، ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن المسلم لا يرث الكافر، وإن الكافر لا يرث المسلم)).
776- هذا حديث متفق على صحته، رواه مسلم عن يحيى بن يحيى(1/517)
وأبي بكر ابن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، وأبو داود عن مسدد، والترمذي عن محمد ابن أبي عمر وسعيد بن عبد الرحمن، والنسائي عن قتيبة والحارث ابن مسكين، وابن ماجه عن هشام بن عمار ومحمد بن الصباح، عشرتهم عن سفيان بن عيينة به، فوقع بدلاً لهم عالياً.
777- وأخرجه البخاري عن سليمان بن عبد الرحمن، عن سعدان بن يحيى، ورواه مسلم أيضاً عن محمد بن حاتم، عن روح بن عبادة، كلاهما عن محمد بن أبي حفصة، عن الزهري به فوقع لنا عالياً عنهما جداً، وأعلا من ذلك مع ما أخرجه النسائي عن يوسف بن سعيد، عن حجاج بن محمد، عن الليث ابن سعد، عن عقيل بن خالد، عن الزهري به.
778- ولهم فيه طرق أخر أيضاً، وقد رواه هشيم، عن الزهري، عن علي ابن الحسين، عن أبان بن عثمان، عن أسامة، ولفظه: ((لا يتوارث أهل ملتين)). وحكم عليه بالغلط في متنه وفي قوله: أبان بن عثمان، نعم لهذا المتن طريق أخرى، يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
779- أسامة رضي الله عنه هو ابن زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى ابن زيد بن امرئ القيس بن عامر بن عبد ود بن كنانة بن عوف ابن زيد اللات بن رفيدة بن وبرة بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران ابن الحمان بن قضاعة الكلبي الهاشمي مولاهم، أبو محمد، وقيل: أبو زيد، وقيل: أبو خارجة.(1/518)
780- وأمه أم أيمن بركة الحبشية مولى النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً وحاضنته، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، ومولاه، ولجده أيضاً صحبة رضي الله عنهم.
781- روي لأسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة وثمانية وعشرون حديثاً، اتفق الشيخان منها على خمسة أحاديث، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بحديثين.
782- وروى أيضاً عن أبيه زيد وبلال وأم سلمة رضي الله عنهم، وروى عنه أبو عثمان النهدي وعروة بن الزبير وأبو وائل وأبو ظبيان الجنبي وإبراهيم بن سعد ابن أبي وقاص وكريب مولى ابن عباس وآخرون.
783- وروى عنه من الصحابة ابن عباس رضي الله عنهما وكان له لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة سنة، وأمره قبيل وفاته على جيش فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقال: ((إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه، وأيم الله إن كان لمن أحب الناس إلي بعده))، ولم ينفذ أسامة هذا في بعثه حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم فأنفذه أبو بكر رضي الله عنه، فأغار على ناحية البلقاء، ورجع مؤيداً.
784- وفي ((صحيح البخاري)): ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ أسامة والحسن رضي الله عنهما فيقول: ((اللهم إني أحبهما، فأحبهما)).
785- وفي ((الصحيحين)) عن عائشة رضي الله عنها في قصة المخزومية: ((فقالوا من(1/519)
يكلم فيها رسول الله؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم )).
786- وروى الشعبي عن عائشة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحب الله ورسوله فليحب أسامة)).
787- وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أسامة يقول: ((السلام عليك أيها الأمير، ثم يقول: لا أزال أدعوك الأمير ما عشت، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت علي أمير)).
788- ومناقبه كثيرة جداً، وقد شهد مؤتة مع أبيه، وسكن المزة بدمشق مدة، ثم رجع فتوفي بوادي القرى سنة أربع وخمسين على الصحيح، وقيل غير ذلك رضي الله عنه.
فصل
789- دل هذا الحديث على قطع التوارث بين المسلم والكافر مطلقاً، وبهذا قال الخلفاء الأربعة، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم، وجمهور العلماء من التابعين فمن بعدهم، واتفق عليه الأئمة الأربعة، إلا في بعض صور خصوه بها، يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
790- وروي عن معاذ بن جبل ومعاوية رضي الله عنهما: أن المسلم يرث الكافر(1/520)
دون العكس، وبه قال بعض التابعين، وهو إحدى الروايتين عن إسحاق بن راهويه، وهذا الحديث حجة عليهم ولا حجة لهم فيما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الإسلام يزيد ولا ينقص))؛ لأن في إسناده رجلاً مجهولاً، ثم لا تعلق له بالإرث لا صريحاً ولا ظاهراً حتى يعارض صراحاً حديث أسامة هذا، بل معناه: أن الإسلام يزيد بالداخلين فيه ولا ينقص بالمرتدين عنه، أو يزيد بما يفتحه الله من البلاد ولا ينقص بما يغلب عليه الكفار منها.
791- وأما الصور التي خص بها هذا الحديث فمنها المرتد، قال أبو حنيفة: إذ قتل على ردته ورث عنه ورثته من المسلمين ما اكتسبه في حال الإسلام دون ما اكتسبه في حال ردته؛ فإنه يكون فيئاً.
792- وقال أبو يوسف: يورث عنه كلاهما، والجمهور على أن جميع ذلك يكون فيئاً، ولا يورث؛ لعموم حديث أسامة، وما روي عن علي رضي الله عنه أنه قتل المرتد فجعل ميراثه لورثته من المسلمين، فهو محتمل لأن يكون أعطاهم ذلك لحاجتهم إليه لا توريثاً، ثم الاحتجاج به مبني على أن مذهب الصحابي يخصص العموم، وفيه الخلاف، ثم هو معارض بقول زيد بن ثابت رضي الله عنه: ((إن المرتد لا يورث)) أصلاً، وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول أحدهم حجة على غيره، ويعمل بعموم الحديث.
793- ومنها توريث المسلم من عتيقه الكافر وبالولاء، قاله أحمد بن حنبل(1/521)
في رواية احتجاجاً بما روى النسائي من حديث جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده أو أمته))، وهذا رواه بعضهم موقوفاً، وقيل: إنه المحفوظ. ثم فيه تجوز في العبد والأمة باعتبار ما كانا عليه إذ هما معتقان عند الموت على قول الجمهور، يحملان على حقيقتهما إذا كانا رقيقين حالة الموت، لكن فيه تجوز أيضاً في لفظ (الإرث)؛ فإن السيد في هذه الصورة إنما يقبض ملكه، وليس إرثاً حقيقياً، ولكنه مجاز مشهور، كما في قوله تعالى: {وكنا نحن الوارثين}، {إنا نحن نرث الأرض ومن عليها}، فهو أقوى من التجوز باعتبار ما كان عليه، ثم يتأيد بعموم الحديث.
794- ومنها أنه لا فرق بين أن يسلم القريب قبل قسمة الميراث أو يسلم بعده إذا كان حالة الموت، هذا قول الجمهور، وعن أحمد بن حنبل رواية: أن من أسلم قبل قسمة الميراث استحق، وقاله إسحاق بن راهويه أيضاً، وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ولكن بأسانيد منقطعة، وذكروا حديثاً مرسلاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أسلم على شيء فهو له)). ولا حجة فيه على تقدير الاحتجاج به؛ لأن المراد به الحربي إذا أسلم على ماله قبل انتزاعه منه(1/522)
والاستيلاء عليه، فإنه يحرزه، ومن أسلم بعد موت قريبه فلم يسلم على شيء.
795- وقد اختلف العلماء في توريث ملل الكفار بعضهم من بعض، وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى توريثهم؛ لأن حديث أسامة هذا إنما قطع التوارث بين المسلم والكافر لا بين الكافر، وقال مالك وأحمد: لا يرث أهل ملتين مختلفتين؛ لما روي من عدة طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتوارث أهل ملتين))، وقد أوله الشافعي على أن المراد به مدلول حديث أسامة هذا، وأن الكفر كله ملة واحدة، كقوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}.
796- وفي هذا الحديث مباحث طويلة لا يحتملها هذا الموضع، والله أعلم.
797- أخبرنا الشيخ أبو محمد القاسم بن مظفر بن محمود بن أحمد بن محمد بن الحسن بن عساكر الدمشقي قراءة عليه وأنا أسمع قال: أنا أبو عبد الله محمد بن غسان بن غافل الأنصاري وأنا حاضر، أنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر، أنا أبو القاسم علي بن العباس بن إبراهيم الحسيني، ثنا أبو بكر أحمد بن علي الخطيب، أنا الحسن بن أبي بكر بن شاذان، أنا الحسن بن محمد بن يحيى العلوي، حدثني جدي، ثنا إبراهيم بن محمد، ثنا عبد الصمد بن حسان السعدي، عن سفيان الثوري قال: دخلت على جعفر بن محمد -يعني الصادق رحمه الله- في بعض أيامه، فرأيت وجهه كأنه شقة قمر، وما رآه أحد إلا هابه، قال: فسألته عن بعض ما أردت وعنده جماعة من طلبة العلم، قال: فبينا نحن كذلك إذ سمع صراخاً في حجرة نسائه، فنهض فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقال لنا: مكانكم، فمكث هنيهة ثم عاد إلى مجلسه وهو أربد اللون، فقلت: جعلني الله فداك دخلت وكان وجهك شقة قمر، وعدت وأنت(1/523)
أربد اللون، فهل إلا خير؟ فقال: إني كنت نهيت الجواري أن يصعدن فوق، فصعدن فأنذرهن الخادم بدخولي فبادرت إحداهن بالنزول ومعها ابن لي، فتسلسل من الدرجة فسقط الصبي من يدها فمات، أما إنه ليس بي وفاة الصبي، وما بي إلا ذعر الجارية حين سقط الصبي من يدها، ثم دعا خادماً له فقال: أعلم الجارية أنها حرة، ولتعط ثمنها وأعطها ألف درهم وسبع مائة درهم. قال: فقلت له: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}، هذه الجارية كانت تستوجب من العقوبة كذا وكذا، فقال: جميع ما نحن فيه عوان من الملك المقتدر النافذ أمره علينا، متعنا بها على الوقت الذي وقته لنا، ثم يرتجعها منا عند السرور ليتضاعف الثواب والأجر لنا، فلله الحمد على الحالين كما يستحق ويرضى)).
798- أنشدنا الشيخ الإمام الزاهد أبو البركات أيمن بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد السعدي التونسي من لفظه لنفسه في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة عشرين وسبع مائة بالروضة الشريفة تجاه الحجرة المعظمة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام:
أحار حداة العيس حاروا ولم حاروا ... ومن أدمعي ماء وفي أضلعي نار
إذا أظلموا نار اشتياقي منيرة ... وإن ظمئوا صوب الصبابة مدرار
وعيشك ما حاروا ولكن بدت لهم ... بأعلا ربا نجدٍ شموسٌ وأقمار
فهاموا كما هام المحبون قبلهم ... وحاروا ولولا ما تبدى لما حاروا
ومن الركب عشاق تفانى قلوبهم ... إذا ذكر المحبوب والشيخ والغار(1/524)
فكيف إذا حلوا بأكنان طيبة ... وطاب لهم وقت وقرت بهم دار
تراهم سكارى حالة الصحو دائم ... وفي السكر الصحو حال للعقل إنكار
إذا حضروا غابوا دعوهم وشأنهم ... فللقوم عند الله شأن ومقدار
على قدر ما تصفو يدوم لك الصفا ... فهيهات أن يبقى مع الصفو أكدار
ألا غن لي يا سعد بالبان والحمى ... فلي بالحمى والبان يا سعد أوطار
ولي في نسيمات الأصايل والضحى ... أحاديث عن أهل الغدير وأخبار
معاهد جيران عزيز جوارهم ... وعزتهم ما ذل يوماً لها جار
إلى مكة أرحل فكم لي أومها ... ويقعدني عنها خطايا وأوزار
لي الأمن لا خوفٌ علي إذا بدت ... لعيني أعلامٌ كرامٌ وآثار
إلى الروضة الغراء وجهت وجهتي ... ففي الروضة الغراء لله أسرار
إلى السند الأعلى إلى سيد الورى ... إلى المصطفى سر بي فما لي أعذار
شفيعي إلى ربي إذا حوسب الورى ... وتخشع أصوات وتشخص أبصار
ولم يبق إلا جنة أو جهنم ... ولم يبق أمهات ولم يبق أنظار
رسول عظيم للنبوة خاتم ... شفيع وجيه للشفاعة مختار
محمد المحمود في الأرض والسما ... محامد لا تحصى وإن طال إكثار
وبالآل آل الهاشمي توسلي ... وبالصحب إن الصحب والآل أخيار
عسى عطفة يقضي بها الله حاجتي ... ويختار لي والله يقضي ويختار(1/525)
الحديث الثالث والعشرون: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه
799- أخبرنا الشيخ المؤرخ أبو الفتح موسى ابن الشيخ الفقيه أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله اليونيني البعلي بقراءتي عليه، عن أبي محمد عبد الوهاب بن ظافر بن علي الأزدي، أنا أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي، أنا أبو عبد الله القاسم بن الفضل الثقفي، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، أنا أبو بكر عبد الرحمن بن محمد الأبهري، ثنا جعفر بن محمد بن شاكر، ثنا الحسين بن محمد، ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عطاء ابن يزيد، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا ذهب أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة، ولا يولها ظهره وشرقوا أو غربوا)).
800- وأخبرناه أعلا من هذه الرواية برجل وأتم أبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم سماعاً عليه، عن أبي الوفاء محمود بن إبراهيم بن منده، أنا أبو الخير محمد بن أحمد بن عمر، أنا أبو عمرو عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق، أنا أبي الحافظ أبو عبد الله بن منده، أنا أحمد -يعني ابن إسماعيل العسكري-، ثنا يونس -هو ابن عبد الأعلى-، ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، سمع أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولكن شرقوا أو غربوا)) قال أبو أيوب رضي الله عنه: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو القبلة، فننحرف عنها، ونستغفر الله عز وجل)).
801- وهذا حديث صحيح، رواه البخاري عن آدم بن أبي إياس، عن ابن أبي ذئب كما رويناه أولاً.(1/526)
802- وأخرجه مسلم عن زهير بن حرب و[محمد] بن نمير ويحيى بن يحيى.
803- وأبو داود عن مسدد، والترمذي عن سعيد بن عبد الرحمن والنسائي عن محمد بن منصور المكي.
804- ستتهم عن سفيان بن عيينة به، فوقع بدلاً لهم عالياً.
805- ورواه ابن ماجه عن أحمد بن عمرو بن السرح، عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب به، فوقع لنا عالياً عنه عالياً.
806- وكذلك رواه به النسائي أيضاً عن يعقوب الدورقي، عن غندر، عن معمر، عن الزهري به، ولله المنة.
807- أبو أيوب رضي الله عنه اسمه: خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف ابن غنم بن مالك ابن النجار الأنصاري الخزرجي النجاري.
808- شهد العقبة وسائر المشاهد، واختص بمنقبة نزول النبي صلى الله عليه وسلم في علية بيته لما وصل إلى المدينة مهاجراً، فأقام صلى الله عليه وسلم عنده شهراً حتى بنى مساكنه ومسجده.
809- وروي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وخمسون حديثاً، اتفقا منها على سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة أحاديث.(1/527)
810- وروى عنه ابن عباس، والبراء بن عازب، وجابر بن سمرة، والمقدام بن معدي كرب، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن خالد، وبنو عبد الله بن يزيد الخطمي رضي الله عنهم، ومن التابعين جماعة كثيرون، منهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وسالم ابن عبد الله، وعبد الله بن حنين، وعطاء بن يزيد الليثي، وأبو عبد الرحمن الحبلي، وعبد الرحمن ابن أبي ليلى، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وآخرون.
811- وكان من سادات الصحابة رضي الله عنهم، كثير الغزو، وبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتخلف عن غزاة غزاها المسلمون إلا عاماً واحداً، وشهد مع علي رضي الله قتال أهل النهروان، وقدم على ابن عباس رضي الله عنهما وهو متوليها لعلي رضي الله عنه، فقال له ابن عباس: أخرج لك من مسكني كما خرجت عن مسكنك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر أهله فخرجوا، وأعطاه كل شيء أغلق عليه الباب، وأعطاه عند انطلاقه عشرين ألفاً وأربعين عبداً.
812- وآخر غزوة غزاها القسطنطينية مع يزيد بن معاوية، فمرض هناك ثم توفي والمسلمون على حصارها سنة اثنتين وخمسين، وأوصى بأن يقرب قبره إلى أرض العدو ما قدروا فدفن مع سورها، فلما أصبحوا أشرف عليهم الروم فقالوا: يا معشر العرب قد كان لكم الليلة شأن، فقالوا: مات رجل من أكابر أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم فدفناه عندكم، فكان الروم إذا قحطوا كشفوا عن قبره فأمطروا! رضي الله عنه.(1/528)
فصل
813- ثبت في ((الصحيحين)) عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ((ارتقيت على ظهر بيت لنا، فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته على لبنتين، مستقبل الشام مستدبر الكعبة)).
814- فاختلف العلماء في الأخذ بهذين الحديثين فجمع بينهما الشافعي ومالك وغيرهما بتخصيص حديث أبي أيوب هذا بفعله الذي حكاه ابن عمر بالنسبة إلى البنيان؛ لأن حديث أبي أيوب عام في الصحاري والبنيان، وما رواه ابن عمر خاص في البنيان، فبقي التحريم في الصحراء في حالتي الاستقبال والاستدبار على عمومه.
815- ورأى أبو حنيفة رحمه الله أن الذي حكاه ابن عمر إنما هو استدبار القبلة، فخصص به حديث أبي أيوب من غير فرق بين الصحراء والبنيان، وقال بالتحريم في الاستقبال فيهما.
816- وعن أحمد بن حنبل روايتان كالمذهبين، ولكل منهما وجه، لكن يرد على أبي حنيفة بحديث الاستدبار في الصحراء لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم، فيبقى النهي فيه على عمومه، وأنه يلزم من تجويز الاستدبار مطلق النسخ لا التخصيص؛ لأن الحديث مخصصٌ بالنهي، كل واحد منهما بخصوصه، لا شامل لهما بلفظ عام لهما حتى يقال بالتخصيص، فالقول بتجويز الاستدبار مطلقاً نسخ لا تخصيص، ويحتمل أن تكون رواية ابن عمر قبل حديث أبي أيوب، فلا يصار إلى النسخ بالاحتمال، بخلاف طريق الشافعي ومالك؛ فإن حديث أبي أيوب عام بالنسبة إلى الأمكنة، وحديث ابن عمر أخص منها، فيخص الأول به.(1/529)
817- بقي أن يقال: لا يلزم من التخصيص بحديث ابن عمر في الاستدبار في البيوت أن يتعدى ذلك إلى الاستقبال، لا سيما مع ما بينهما من الفرق؛ فإن الاستقبال أفحش، فينبغي أن يحرم وإن كان في البيوت.
818- وجوابه أن ابن ماجه روى بسند صحيح على شرط مسلم عن عراك بن مالك قال: حدثتني عائشة رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قول الناس في ذلك؛ أمر بمقعدته فاستقبل بها القبلة)).
819- فهذا ظاهر في جواب الاستقبال أيضاً في البيوت، فيكون حديث أبي أيوب مخصوصاً بها، ومن الناس من ذهب إلى إعمال حديث أبي أيوب في عمومه مطلقاً، ورأى فعل النبي صلى الله عليه وسلم مختصاً به لا يتعدى حكمه إلى الأمة، وهذا مذهب الثوري والأوزاعي، واختاره ابن حزم، ووجه بأن ابن عمر إنما رآه اتفاقاً، فلو كان فعله مخصصاً كنهيه بالنسبة إلى الأمة لبينه، فإن التخصيص بيانٌ والبيان ولا مبين له محال.
820- وجوابه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يختص في باب القربات والتعظيم بشيء من الرخص أبداً، ومن ادعى شيئاً من ذلك فعليه بيانه، وأيضاً حديث عائشة المذكور آنفاً يرد هذا؛ إذ لو لم يكن هذا الحكم متعدياً إلى الأمة لما كان في قوله بحضرتهم فائدة.
521- وقول أبي أيوب رضي الله عنه: ((فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو القبلة(1/530)
فننحرف عنها ونستغفر الله تعالى))؛ إما لأنه لم يبلغه فهو النبي صلى الله عليه وسلم ولا قوله الدالان على الجواز في البيوت، وإما لحمله النهي على الكراهة، وأرباب المناصب العلية في الدين يتنزهون عن المكروه، ويستغفرون منه.
822- وقد اختلف أصحابنا في علة هذا النهي، فذكر بعض المتأخرين أنه احترام الكعبة وتعظيمها؛ لأنه معنى مناسب ورد الحكم على وفقه، فيكون علة له.
823- وقد روي من حديث سراقة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أتى أحدكم البراز فليكرم قبلة الله ولا يستقبل القبلة))، وهذا ظاهر قوي في التعليل، والذي قاله جمهور الأصحاب أن العلة في ذلك كون القبلة لا تخلو من مصل من جن أو إنس، فربما يقع بصره على فرجه حالة الاستقبال أو الاستدبار، فيتأذى بذلك، فأما في البيوت فليست كذلك، وخصوصاً إذا كانت متخذة كذلك، وفي هذا التعليل نظر؛ لأن المصلي ممن ذكر ظهره إلى جهة من يقضي الحاجة؛ فالتعليل بهذا يقتضي أن يكون الاعتبار بالتستر من الجهة التي تقابل القبلة لا من جهة القبلة، والحديث إنما تعرض لاستقبال القبلة واستدبارها؛ فالتعليل الأول أقوى، لكن يرد عليه جواز ذلك في البيوت، والله أعلم.
824- أخبرنا أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن ابن أبي بكر بن أحمد الواني قراءة عليه وأنا أسمع قال: أنا أبو العباس أحمد بن عبد الدائم المقدسي سماعاً عليه، أنا أبو طاهر المبارك بن عبد الرحمن الزهري، ثنا أبو الفضل الشيرجي، ثنا عبيد الله بن أحمد النسناطيطي، حدثني أبو حفص، حدثني إبراهيم ابن عبد الله، حدثني محمد بن سهل، ثنا أبو عكاشة قال: ((كنت مع إبراهيم بن أدهم في البحر، فهبت ريح شديدة وهاج البحر، واضطربت الأمواج، وأشرفوا على الغرق، وجعل الناس يطرحون أمتعتهم في البحر، ويتضرعون إلى الله عز(1/531)
وجل، وإبراهيم ساكت فقيل له: يا رجل ما لك لا تدعو، فاستقبل القبلة ومد يديه فقال: يا أول قبل كل شيء، ويا آخر بعد كل شيء، يا من ليس لأوله عنصر، ويا من ليس لآخره فناء، ويا من بطشه شديد، وعفوه قديم، وملكه مستقيم، ونعمه لا تحصى، يا من أظهر الجميل، وستر القبيح، يا من لم يعجل بالعقوبة عند الإساءة، ويا متأني بعباده التوبة، أغثنا يا رب، ثم قال: عزمت عليك لما فعلت، قال: فسكن البحر وسكنت الريح وخرجنا)).
825- أنشدنا الشيخ الصالح المنفرد أبو محمد موسى بن علي بن محمد الكاتب المجود من لفظه لنفسه سنة ثلاث عشرة وسبع مائة:
يا خالقي ومصوري ومحسني ... ومحركي فيما أرى ومسكني
وجهت آمالي إليك وإن أرى ... وصح الصحيح فأنت قد وجهتني
وكشفت لي بين الكمال مشاهداً ... نظر العيان لذاك قد أوجدتني
أشهدتني هذا الوجود تكرماً ... بالفضل والإحسان إذ أنورتني
ووعدتني منك الوصال على الرضى ... فلي الهناء بما به بشرتني
فسعادتي وسيادتي بك في الورى ... لما لسر علاك قد أشهدتني
وخصصتني بمحبةٍ لك لا أرى ... إلاك لما بالطهور منحتني(1/532)
ما كنت أدري ما الكتاب حقيقةً ... كلا ولا الإيمان مذ أنشأتني
فقرأت رقم كتابك المرقوم والمسطور ... والمنشور إذ علمتني
قد كنت ميتاً غير مذكورٍ على ... مر الدهور فأنت قد أحييتني
عودتني منك الجميل فأجرني يا ... مالكي كرماً كما عودتني
الحديث الرابع والعشرون: عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه
826- أخبرنا الشيخ الصالح المعمر أبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي بقراءتي عليه قال: أنا أبو الغنائم سالم بن الحسن بن هبة الله بن صرصري سماعاً عليه، أنا أبو السعادات نصر الله بن عبد الرحمن بن محمد القزاز، أنا أبو علي محمد بن سعيد بن نبهان، أنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان، أنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك، ثنا يحيى -يعني ابن جعفر-، أنا محمد بن عبيد، ثنا إسماعيل بن خالد، عن قيس -يعني ابن أبي حازم-، عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: ((نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: ترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل أن تغرب)).
827- هذا حديث صحيح جليل القدر، رواه البخاري في ((الصلاة))، ومسلم أيضاً، كلاهما عن زهير بن حرب، عن مروان بن معاوية، وأخرجه البخاري أيضاً في ((التفسير)) عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير بن عبد الحميد، ورواه أبو داود عن عثمان ابن أبي شيبة، عن جرير ووكيع بن الجراح وأبي(1/533)
أسامة، والترمذي عن هناد عن وكيع، وابن ماجه عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، كلهم عن إسماعيل ابن أبي خالد به، فوقع لنا عالياً عنهم.
828- وأخرجه البخاري أيضاً عن يوسف بن موسى، عن عاصم بن يوسف اليربوعي، عن أبي شهاب الحناط، ورواه النسائي عن محمد بن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن شعبة، وعبد الله بن عثمان، ثلاثتهم عن إسماعيل بن أبي خالد به، فوقع لنا عالياً عنهما بثلاث درجات.
829- جرير رضي الله عنه هو: جرير بن عبد الله بن جابر وهو الشليل بن مالك ابن نصر بن ثعلبة أبو عمرو البجلي الأحمسي اليماني، من ولد أحمس بن الغوث ابن أنمار بن إراش بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ وبجيلة أم ولد أنمار هكذا نسبوا إليها، وهي بنت صعب بن سعد العشيرة، وقيل: إن بجيلة أم أنمار بن إراش نفسه.
830- وفد جرير على النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً سنة عشر في رمضان، فبايعه وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم على قومه أحمس إلى ذي الخلصة بيت كان لخثعم يسمونه الكعبة الثانية فهدمه.
831- وروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة حديث، اتفقا منها على ثمانية، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بستة.
832- روى عنه أنس بن مالك، وزيد بن وهب، وهمام بن الحارث، وأبو وائل وزياد بن علاقة، وأبو إسحاق السبيعي، وبنوه الثلاثة: إبراهيم، والمنذر،(1/534)
وعبيد الله، وحفيده أبو زرعة بن عمرو بن جرير، وآخرون.
833- وكان طويلاً جسيماً حسن الخلق، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسميه ((يوسف هذه الأمة)).
834- وفي ((سنن النسائي)): أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ قال: ((سيدخل عليكم من هذا الفج رجل من خير ذي عن، ألا وإن على وجهه مسحة ملك)) فدخل جرير رضي الله عنه وافداً.
835- وفي ((الصحيحين)) عنه أنه قال: احجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي، ولقد شكوت إليه أني لا أثبت على الخيل، فضرب بيده في صدري وقال: ((اللهم اجعله هادياً مهدياً)).
836- وروي عن أنس رضي الله عنه قال: ((كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل جرير بن عبد الله، فضن الناس بمجالسهم فلم يوسعوا، فرمى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردة كانت معه، فجاءه بها فقال: دونكها يا أبا عمرو فاجلس عليها، فتلقاها بصدره ونحره وقال: أكرمك الله يا رسول الله كما أكرمتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه)).
837- وثبت عنه أنه قال: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم))، فكان يبالغ في النصح للمسلمين، حتى روي عنه ((أن وكيله اشترى له فرساً بثلاث مائة درهم، فنظر إليها جرير بعد البيع، فقال لصاحبها: أتبيعها بأربع مائة؟ فقال ذاك: نعم، ثم تأملها فرآها تساوي أكثر، فما(1/535)
زال يزيده وذلك الرجل يجيب، حتى اشتراها بثمان مائة درهم.
838- وقال الشعبي: كان عمر رضي الله عنه في بيت، فوجد ريحاً، فقال: عزمت على صاحب هذه الريح لما قام فتوضأ، فقال جرير: أو يتوضأ القوم جميعاً، فقال عمر: ((يرحمك الله، نعم السيد كنت في الجاهلية، ونعم السيد أنت في الإسلام)).
839- ومناقبه كثيرة جداً، ونزل الكوفة زماناً حتى قتل عثمان رضي الله عنه، فتحول إلى قرقيسيا، واعتزل علياً ومعاوية، إلى أن توفي بها سنة أربع وخمسين في قول ابن الكلبي وغيره، وقيل: سنة إحدى وخمسين رضي الله عنه.
فصل
840- هذا الحديث أصل عظيم من أصول أهل السنة في إثبات رؤية المؤمنين ربهم عز وجل، منحنا الله ذلك بفضله، وعليه أجمع الصحابة، ولم يكن بينهم في ذلك خلاف أصلاً، وكذلك إلى أن حدثت الطائفة المعتزلة فأنكروا ذلك وتأولوه رداً لنصوص الكتاب والسنة إلى عقولهم الفاسدة، ظناً منهم أن المرئي لا بد أن يكون متحيزاً، ويلزم من ذلك الجسمية، وهي شبهة ضعيفة لا معول عليها؛ لأنها مبنية على اشتراط انبعاث الأشعة في الرؤية واتصالها بالمرئي، فهي إذاً أجسام ولا تتصل إلا بما كان محاذياً لها في جهة منها، وكل ذلك باطل. بل سبب الرؤية خلق الإدراك على قضية مطردة في العادة، ويجوز أن يتخلف الخلق عن العين تارة، وأن يخلق الله لها إدراكاً آخر غير الإدراك المعتاد أخرى، فتعلق الإدراك بالمدرك نوع كشف يخلقه الله تعالى لا يفتقر إلى انبعاث أشعة واتصالها،(1/536)
كما لا يفتقر الكشف العلمي إلى ذلك، وبسط الكلام في هذا المقام ليس هذا موضعه، بل هو مقرر في الكتب الأصولية. والمعتمد لأهل السنة أن رؤية الله تعالى ممكنة، بدليل سؤال موسى ربه ذلك، ولو لم تكن جائزة لما سألها موسى عليه السلام؛ إذ يستحيل أن يجهل موسى ما يجوز وما يستحيل في حقه، وإذا كانت ممكنة وقد دل الكتاب والسنة على أنها واقعة وأجمع عليه الصحابة؛ فلا وجه لردها وتأولها، إذ لا يتأول من السمعيات إلا ما كان ظاهراً يتطرق إليه التأويل، وقد قام الدليل العقلي على خلاف ظاهره. فأما النصوص التي لا تحتمل تأويلاً ولم يقم قاطع عقلي على استحالة مدلولها فإن تأويلها باطل، وحديث جرير هذا نص قاطع في أن المؤمنين يرون ربهم عز وجل يوم القيامة، وقد تابعه على ذلك عدد كثير من الصحابة رضي الله عنهما، بحيث يحصل من رواية جميعهم وأسانيدها المتصلة إلينا التواتر المفيد للعلم القطعي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك.
841- وممن رواه في ((الصحيحين)) أيضاً أو أحدهما أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأبو موسى الأشعري وصهيب وأنس بن مالك، وروي في غير ((الصحيحين)) من طريق أبي بكر وعلي وابن عمر، .. .. ..(1/537)
وجابر، وابن عباس، وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعدي بن حاتم، وعمار بن يسار، وأبي بن كعب، وكعب بن عجرة، وفضالة بن عبيد، وبريدة بن الحصيب، وأبي رزين العقيلي، وعبادة بن صامت، وأبي بردة الأسلمي وغيرهم رضي الله عنهم.(1/538)
842- ولم يرو عن أحد من الصحابة إنكار ذلك ولا نفيه ولا تأويله، بل اختلفوا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء، ولم يختلفوا في هذه، ودل اختلافهم على أن اختلافهم على أن الرؤية ممكنةٌ، إذ لو كانت مستحيلةً لما اختلفوا في وقوعها، بل عدلوا إلى كونها مستحيلة، ومن المحال أن يتفق الصحابة على جهل هذه الاستحالة وتعلمها المعتزلة، معاذ الله من ذلك. فهذا إذا انضم إلى ظاهر القرآن في قوله تعالى: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرة. إلى ربها ناظرة}، وقوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون}، وقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادةٌ}، وثبت في التفسير مرفوعاً وموقوفاً أن الزيادة هي النظر إلى وجه الله سبحانه، أفاد العلم القطعي بوقوع ذلك للمؤمنين جعلنا الله منهم بفضله وكرمه.
843- ثم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جرير وغيره: ((لا تضامون في رؤيته، أو لا تضارون في رؤيته)) يمنع تأويل ذلك على العلم، وقد روي كل من هذين اللفظين بضم التاء مع تشديد الميم والراء وتخفيفها، وبفتح التاء فيهما مع التشديد في الميم أو الراء، فيكون على هذه الرواية أصله ((تضامون وتضارون)) أي: لا ينضم بعضكم بعضاً، أي: لا تختلفون في رؤيته حتى يضم بعضكم بعضاً أو يضره ويجادله فيها، كما يفعل في رؤية الهلال ونحوه، ولأن انضمام بعض الرائين إلى بعض إنما يكون عند المرئي في جهة، والله سبحانه منزه عن ذلك.
844- وأما على رواية التخفيف، فهي من الضيم والضير، أي: لا يلحقكم في رؤيته ضيم ولا ضير، بل يستوي كلكم فيها، وهو بضم التاء مع التشديد راجع إلى ما تقدم أيضاً، ووقع في رواية أبي شهاب الحناط المتقدمة عند البخاري(1/539)
في حديث جرير: ((إنكم سترون ربكم عز وجل عياناً كما ترون القمر ليلة البدر))، والتشبيه هنا إنما هو للرؤية لا للمرئي بالمرئي؛ لأن الله سبحانه منزه عن ذلك، أي: ينزاح عنكم الشك في هذه الرؤية كما ينزاح عنكم في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب.
845- فأما ما تشبثت به المعتزلة من قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} فأقوى ما يجابون به أن الإدراك أخص من الرؤية؛ لأنه إحاطة وإبصار للشيء مع جوانبه وأطرافه، وهذا في حق الله محال، فالله تعالى يرى ولا يدرك، كما يعلم ولا يحاط به علماً، ولا يلزم من نفي الإدراك نفي الرؤية.
- وأما قوله تعالى لموسى عليه السلام: {لن تراني}، فالمراد بذلك في الدنيا؛ لأنه إنما سأل رؤيته تعالى في الدنيا، فأجيب عن ذلك، وصدر الآية حجة قاطعة في جواز الرؤية، وهو سؤال موسى عليه السلام، فمن زعم أن رؤيته تعالى مستحيلة لزم من قوله أن يكون أعلم بالله من صفيه وكليمه موسى صلاة الله عليه وسلامه، وأن موسى عليه السلام لم يكن عالماً بذلك، {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً}، والله سبحانه ولي التوفيق، ونسأله الهداية إلى سواء الطريق.
846- أخبرنا الشيخ الصالح أبو العباس أحمد ابن الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد الله الأرموي سماعاً عليه غير مرة في آخرين قالوا: أنا أبو العباس أحمد بن عبد الدائم، أنا عبد المنعم بن عبد الوهاب الحراني، أنا علي بن أحمد ابن بيان، أنا محمد بن محمد بن مخلد، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا الحسن بن عرفة، ثنا مروان بن شجاع الجزري، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء ابن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس رضي الله عنهما وهو ينزع في زمزم وقد ابتلت(1/540)
أسافل ثيابه، فقلت له: قد تكلم في القدر، فقال: أوقد فعلوها؟ قلت: [نعم]، قال: ((فوالله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم: {ذوقوا مس سقر. إنا كل شيء خلقناه بقدر}، أولئك شرار هذه الأمة، لا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم، إن أريتني أحداً منهم فقأت عينيه بأصبعي هاتين)).
847- وبه إلى ابن عمر قال: ثنا إسماعيل ابن علية، عن مخزوم، عن سيار قال: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في أهل القدر: ((يستتابون، فإن تابوا وإلا نفوا من ديار المسلمين)).
848- أنشدنا الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي بقراءتي عليه قال: أنشدنا الإمام أبو بكر عبد الله بن الحسن بن الحسن الأنصاري من لفظه قال: أنشدنا أبو الفتح نصر بن الخضر بن خليفة الأنصاري لنفسه:
أحبابنا إن سمحتم لي بوصلكم ... فقد سمحت لكم بالروح والمال
رخصت فيكم ولولا فرط حبكم ... لكنت بين الورى أغلى من الغالي
لا تحسبوا أن هجراني لكم مللٌ ... لكن ذلك خوف القيل والقال
كم قد أطاعكم قلبي وخالفني ... كأن قلبي لكم يا سادتي لا لي
إني لأعرض عن تذكاركم جلداً ... حتى يقول عذولي إنني سالي
يا من بتذكارهم أرجو النجاة غداً ... لأن تذكارهم من خير أعمالي
أملت أني إذا واصلت غيركم ... أسلو فجدد ذاك الوصل بلبالي(1/541)
قالوا تشاغل عنا وابتغى بدلاً ... من ذا يبيع زلال الماء بالآل
واستخبروني عن حالي وإنهم ... أدرى وأعلم من نفسي بأحوالي
الحديث الخامس والعشرون: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها
849- أخبرنا الشيخ الصالح أبو العباس أحمد بن علي بن الزبير بن سليمان ابن مظفر بن [أبي] قاسم بن خليفة الجبلي الصوفي بقراءتي عليه قال: أنا العلامة أبو عمرو عثمان ابن الصلاح عبد الرحمن بن عثمان الشافعي سماعاً عليه، أنا أبو الفتح منصور بن عبد المنعم بن عبد الله الفراوي، أنا أبو المعالي محمد بن إسماعيل الفارسي، أنا الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، أنا أبو بكر ابن فورك، أنا عبد الله بن جعفر، أنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً فأراد أن ينام أو يأكل توضأ)).
850- وأخبرناه أعلا من هذه الرواية بدرجتين إسماعيل بن يوسف بن مكتوم وجماعة قالوا: أنا عبد الله بن عمر ابن اللتي، أنا عبد الأول بن عيسى السجزي، أنا عبد الرحمن ابن المظفر، أنا عبد الله بن حمويه، أنا عيسى بن عمر، أنا عبد الله بن عبد الرحمن الحافظ، أنا أحمد بن خالد، ثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال: ((سألت عائشة رضي الله عنها كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع إذا أراد أن ينام وهو جنب؟ فقالت: كان يتوضأ وضوءه للصلاة ثم ينام)).(1/542)
851- وكذلك رواه عروة، عن عائشة، ووقع لنا عالياً أيضاً.
852- أخبرناه أبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم وعيسى بن عبد الرحمن الصالحيان بقراءتي قالا: أنا محمد بن إبراهيم الإربلي، أنا يحيى بن ثابت بن بندار، أنا طراد بن محمد الزينبي، أنا علي بن محمد بن بشران، أنا محمد بن عمرو الرزاز، ثنا محمد -يعني ابن الهيثم- ثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة)).
853- هذا حديث صحيح، رواه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة ومحمد ابن مثنى وابن [بشار]، ثلاثتهم عن محمد بن جعفر، زاد ابن أبي شيبة: وكيعاً وابن علية، وعن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، وأخرجه أبو داود، عن مسدد عن يحيى، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن وكيع وابن علية وغندر، ستتهم عن شعبة عن الحكم به، فوقع لنا في الروايتين الأخيرتين عالياً عنهم جداً.
854- وأخرج البخاري حديث عروة بن الزبير عن يحيى بن بكير عن الليث عن عبيد ابن أبي جعفر عن محمد بن عبد الرحمن عن عروة به، فوقع لنا عالياً عنه أيضاً، ولله المنة.
855- أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها، وقد تقدم نسبها في(1/543)
الحديث الأول، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الفقيهة الربانية، كنيتها أم عبد الله كناها بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن أختها عبد الله بن الزبير رضي الله عنها، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست سنين على الصحيح قبل الهجرة بسنتين، وقيل غير ذلك، وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع في شوال سنة اثنتين منصرفه صلى الله عليه وسلم من بدر.
856- روي لها عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف حديث ومائتا حديث وعشرة أحاديث، اتفقا منها على مائة وأربعة وسبعين حديثاً، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين حديثاً، ومسلم بثمانية وستين.
857- روى عنها خلق من الصحابة والتابعين من متأخريهم مسروق والأسود وسعيد بن المسيب وعروة ابن أختها والقاسم ابن أخيها وأبو سلمة بن عبد الرحمن والشعبي ومجاهد وعطاء وعكرمة وعمرة بنت عبد الرحمن ونافع مولى ابن عمر وآخرون، وكان مسروق إذا حدث عنها قال: ((حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، المبرأة من السماء)).(1/544)
858- وروي بسند حسن عن علي رضي الله عنه أنه ذكر عائشة فقال: ((خليلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ))، ولذلك قال عمار بن ياسر لرجل نال منها: ((اغرب مقبوحاً منبوحاً، أتؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ))؟
859- ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم [لها] أمر مقطوع به تواتر إذ قال صلى الله عليه وسلم: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، وقال لها: ((يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام))، وقال له عمرو بن العاص: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: ومن الرجال؟ قال: أبوها. صححه الترمذي.
860- ولها خصائص ليست لغيرها كانت تفتخر بها، منها: أن جبريل أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم في سرقة من حرير فقال: هذه زوجتك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً غيرها، وقبض رسول الله ورأسه في حجرها، ودفن في بيتها، وكان(1/545)
ينزل عليه الوحي في لحافها وهو معها دون غيرها من أزواجه، ونزلت براءتها قرآناً يتلى، وأنها بنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه.
وذكر أبو عمر ابن عبد البر أن عائشة رضي الله عنها كانت وحيدة عصرها في ثلاث علوم: علم الفقه، وعلم الطب، وعلم الشعر.
861- ولما ذكر ابن حزم أسماء الصحابة الذين رويت عنهم الفتاوى في الأحكام على ترتيب كثرة ما نقل عنهم قدم عائشة على سائر الصحابة.
862- وقال أبو موسى الأشعري: ((ما أشكل علينا -أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم - حديثٌ إلا وجدنا عندها منه علماً)).
863- وقال مسروق: ((رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض)).
864- وقال عطاء: ((كانت عائشة أفقه الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة)).(1/546)
865- وقال الزهري: ((لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل)).
866- وقال موسى بن طلحة: ((ما رأيت أحداً أفصح من عائشة)).
867- وقال عروة: ((ما رأيت أحداً أعلم بالشعر من عائشة وبالطب)).
868- وقال القاسم: ((كانت عائشة تصوم الدهر)).
869- وقال عروة: ((بعث معاوية مرة إلى عائشة بمائة ألف درهم، فوالله ما أمست حتى فرقتها، فقالت لها مولاتها: لو اشتريت لنا منها بدرهم لحماً؟
قالت: ألا قلت لي)).
870- وعنه أيضاً: ((أنه رأى عائشة رضي الله عنها تصدقت بسبعين ألف درهم، وإنها لترفع جانب درعها)).
871- ومناقبها وفضائلها كثيرة جداً، وفيما ذكر مقنع، توفيت رضي الله عنها ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان سنة سبع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه، ودفنت بالبقيع من ليلتها، أوصت بذلك رضي الله عنها وعن أبيها.(1/547)
فصل
872- تضمن هذا الحديث استحباب الوضوء للجنب عند إرادة النوم، وهو الذي ذهب إليه الجمهور، وروي عن مالك قول: أن ذلك واجب، واختاره ابن حبيب من أصحابه، وذهب إليه داود الظاهري وبعض أتباعه، إما احتجاجاً بمجرد الفعل بناءً أنه يقتضي الوجوب على الأمة فيما ظن فيه قصد القربة، وإما استدلالاً بالأمر في حديث عمر رضي الله عنه: ((أنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال: توضأ واغسل ذكرك ثم نم))، متفق عليه.
873- وأجاب الجمهور عن ظاهر هذا الأمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك هذا الوضوء أحياناً، فتبين بتركه أنه غير واجب وذلك فيما روى أبو إسحاق السبيعي، عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء)). وأخرجه أصحاب ((السنن الأربعة)) فيها، ولكن حكم جماعة على أبي إسحاق بالوهم في هذا الحديث، وقال فيه أحمد: ليس صحيحاً، وخالفهم البيهقي في ذلك والحاكم قبله فصححا الحديث؛ لأن الذي اعتل به الطاعنون كون أبي إسحاق مدلساً، وقد صح عنه في رواية هذا الحديث أنه قال فيه: ثنا الأسود، فزالت تهمة تدليسه.(1/548)
874- وأجاب عنه بعض الأئمة بأن معناه: لا يمس ماء للغسل، جمعاً بينه وبين أحاديث عائشة المتقدمة، والأقوى في الجمع بينها ما قدمناه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك ذلك مرة أو مرات، لبيان الجواز حتى لا يعتقد وجوبه.
875- وقد روي عن بعض العلماء عدم استحباب هذا الوضوء مطلقاً، والأحاديث المتقدمة حجة عليهم، وتأولها بعضهم على أن المراد الوضوء اللغوي وهو غسل الفرج واليدين، وصريح الحديث المتقدم يرده بقولها: ((وضوءه للصلاة)).
876- لكن اختلف في الوضوء عند الأكل والشرب، فمنهم من حمله على الشرعي، وإليه ذهب أصحابنا لكنهم قالوا في المريد للنوم: ويكره له ذلك قبل الوضوء للأمر الوارد فيه، وفي الآكل والشارب: يستحب له الوضوء قبلهما ولا يكره تركه؛ لأن مجرد الفعل يقتضي الاستحباب فقط، ولا يلزم منه كراهة الترك.
877- وقال آخرون: المراد بالوضوء قبل الأكل والشرب اللغوي لا الشرعي، وهو غسل اليدين لما يخاف أن يكون أصابها أذى، وقد جاء هكذا مفسراً عند النسائي بسند جيد من رواية أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ، وإذا أراد أن يأكل أو يشرب غسل يديه ثم يأكل أو يشرب)).
878- وقد اختلف القائلون باستحباب الوضوء عند النوم للجنب في علته فقال أصحابنا: العلة فيه تقليل الحدث وإزالته عن أعضاء الوضوء، فعلى هذا لا(1/549)
يستحب ذلك للحائض ما لم ينقطع حيضها، وأما المالكية فذكروا له تعليلين: أحدهما: التبييت على إحدى الطهارتين، والثاني: أنه قد ينشط إذا مس الماء فيغتسل، فيبيت على طهارة كاملة، وبنوا عليه مشروعية ذلك للحائض قبل انقطاع حيضها، فعلى التعليل الأول يستحب لها ذلك، وعلى الثاني لا؛ إذ لا فائدة في غسلها، والله سبحانه أعلم.
879- أخبرنا الشيخ المسند أبو الفتح محمد بن عبد الرحيم بن عباس القرشي بقراءتي عليه غير مرة قال: أنا أبو محمد بن عبد الوهاب بن ظافر الأزدي، أنا أبو طاهر أحمد بن محمد الحافظ السلفي، أنا أبو الفضل محمد بن عبد السلام الأنصاري، أنا أبو علي الحسن بن أحمد بن شاذان، أنا علي بن عبد الرحمن بن ماتي، ثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي، ثنا وكيع بن الجراح، عن الأعمش، عن سليمان بن ميسرة والمغيرة بل شبل، عن طارق بن شهاب الأحمسي قال: ((كان لي أخ أكبر مني، وكان يكثر ذكر سلمان -يعني الفارسي رضي الله عنه-، وكنت أشتهي ألقاه لكثرة ذكر أخي إياه، قال: فقال لي ذات يوم: هل لك في أبي عبد الله قد نزل القادسية؟ قال: وكان سلمان إذا قدم من الغزو نزل القادسية، وإذا قدم من الحج نزل المدائن غادياً، قلت: نعم، فانطلقنا حتى دخلنا عليه من بيت القادسية، فإذا هو جالس بين يديه خرقة وهو يخيط زنبيلاً، أو يدبغ إهاباً، قال: فسلمنا عليه وجلسنا فإذا عنده علجة تعاطيه، فقال لي: إني أصبت هذه العلجة من المغنم أمس، وقد أردتها على أن(1/550)
تصلي الصلوات الخمس فأبت، فأردتها على أربع فأبت، فأردتها على ثلاث فأبت، فأردتها على صلاتين فأبت، وإني الآن لا أزيدها على صلاة واحدة وهي تأبى. قال طارق: فعجلت لحداثة سني وقلة فهمي، فقلت: يا أبا عبد الله وما يغني عنها صلاة واحدة؟ فقال: يا ابن أخي إن مثل الصلوات الخمس كمثل سهام الغنيمة، ومن يضرب فيها بخمسة خير ممن ضرب فيها بأربعة، ومن يضرب بأربعة خير ممن يضرب فيها بثلاثة، ومن يضرب فيها بثلاثة خير ممن يضرب بسهمين، ومن يضرب فيها بسهمين خير ممن يضرب فيها بواحد، وما جعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، وإن الناس يصبحون يقترفون الذنوب، وإذا حضرت الظهر قام الرجل فتوضأ، فكفر الوضوء الجراحات الصغار، فإذا مشى إلى الصلاة كفر المشي أكبر من ذلك، فإذا صلى كفرت الصلاة ما كان قبلها، وذكر الصلوات كلها مثل ذلك، ومتى ما ترغب هذه في صلاة واحدة ترغب في سائر الصلوات، فإذا كان الليل كان الناس فيه على منازل، فمنهم من له ولا عليه، ومنهم من عليه ولا له، ومنهم من لا له ولا عليه. قال طارق: فعجلت لحداثة سني وقلة فهمي، فقلت: يا أبا عبد الله وكيف ذلك؟ قال: أما من له ولا عليه؛ فرجل اغتنم غفلة الناس وظلمة الليل فقام فتوضأ وصلى، فذاك له ولا عليه، ورجل اغتنم غفلة الناس وظلمة الليل فقام فمشى في معاصي الله عز وجل، فذاك عليه ولا له، ورجل قام حتى أصبح فذلك لا له ولا عليه. قال طارق: فقلت: لأصحبن هذا فلا أفارقه، قال: فضرب على الناس بعث فخرج فيه، فصحبته فكنت لا أفضله في عمل، إن عجنت خبز، وإن خبزت طبخ، فنزلنا منزلاً فبتنا فيه، وكانت لي ساعة من الليل أقومها قال: فكنت أتيقظ لها فأجده نائماً، فأقول صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مني وأنام ثم أقوم فأجده نائماً فأنام، إلا أنه كان إذا تعار من الليل قال وهو مضطجع: سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، حتى إذا كان قبيل الصبح قام فتوضأ ثم ركع ركعات، فلما صلينا الفجر(1/551)
قلت: يا أبا عبد الله كانت لي ساعة أقومها، فكنت أتيقظها فأجدك نائماً، قال: يا ابن أخي فأيش كنت تسمعني أقول؟ فأخبرته، فقال: يا ابن أخي تلك صلاة، إن الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت المقتل، يا ابن أخي عليك بالقصد فإنه أبلغ)).
880- أخبرنا الشيخ الصالح أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي محمد بن محمد القرامزي سماعاً عليه، أنا إسماعيل بن إبراهيم التنوخي، أنا بركات بن إبراهيم القرشي، أنا هبة الله بن أحمد الأكفاني، ثنا أحمد بن علي الحافظ، أنا محمد بن أحمد بن رزق، أنا عثمان بن أحمد الدقاق، ثنا محمد بن أحمد بن البراء قال: أنشدني عبد الله بن محمد الأشعري المديني لمحمود -يعني الوراق-:
مضى أمسك الماضي شهيداً معدلاً ... وأصبحت في يومٍ عليك شهيد
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءةً ... فثن بإحسانٍ وأنت حميد
ولا ترج فعل الخير يوماً إلى غدٍ ... لعل غداً يأتي وأنت فقيد
فيومك إن أعتبته عاد نفعه ... عليك وماضي الأمس ليس يعود(1/552)
الحديث السادس والعشرون: عن أبي هريرة رضي الله عنه
881- أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن المقدسي قراءة عليه وأنا أسمع قال: أنا أبو علي الحسن ابن محمد بن محمد بن محمد البكري سماعاً وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي الفضل المرسي حضوراً قالا جميعاً: أنا أبو روح عبد العزيز بن محمد الهروي وأبو الحسن المؤيد بن محمد الطوسي وأم المؤيد وبنت ابنه أبي القاسم الشعري، قال الأول: أنا تميم ابن أبي سعيد الجرجاني، والثاني: أنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي، والثالثة: أنا إسماعيل ابن أبي القاسم القارئ قالوا ثلاثتهم: أنا عمر بن أحمد بن مسرور، أنا إسماعيل بن نجيد السلمي، أنا يوسف ابن يعقوب القاضي، ثنا عمرو بن مرزوق، أنا شعبة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه، أو يخطب على خطبته)).
882- وأخبرناه أعلا من هذه الرواية برجل شيخنا أبو الفضل سليمان بن حمزة بن أحمد الحاكم بقراءتي وسماعاً قال: أنا أبو الحسن علي بن أبي عبد الله البغدادي حضوراً، أخبرتنا الكاتبة شهدة بنت أحمد الإبري، أنا طراد بن محمد الزينبي النقيب، أنا محمد بن أحمد بن رزقويه، أنا محمد بن يحيى بن عمر، ثنا جد أبي علي بن حرب، ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد -يعني ابن المسيب-، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تناجشوا، ولا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه)).
883- هذا حديث صحيح من عدة طرق عن أبي هريرة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم .
884- أما طريق العلاء بن عبد الرحمن التي سقناها أولاً فرواها مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عنه، ثم عن أحمد بن إبراهيم الدورقي، عن(1/553)
عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة، عن العلاء، عن أبيه، وشعبة أيضاً عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه كلاهما، عن أبي هريرة، إلا أنه قال: ((لا يسم الرجل على سوم أخيه)) بدل ((يبع))، فوقع عالياً عنه.
885- وأما طريق سعيد بن المسيب فأخرجها البخاري عن علي بن المديني، ومسلم عن عمرو الناقد وزهير بن حرب وأبي بكر ابن أبي شيبة، وأبو داود عن أحمد بن عمرو بن السرح، والترمذي عن قتيبة بن سعيد وأحمد بن منيع، والنسائي عن سعيد بن عبد الرحمن ومحمد بن منصور، وابن ماجه عن هشام بن عمار وسهل ابن أبي سهل، عشرتهم عن سفيان بن عيينة كما رويناه، فوقع لنا بدلاً عنهم كلهم عالياً، ويقل نظيره.
886- وأخرجه أيضاً البخاري عن مسدد، والنسائي عن محمد بن عبد الأعلى، كلاهما عن يزيد بن زريع، ومسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق، كلاهما عن معمر، عن الزهري به، فوقع لنا عالياً عنهم بثلاث درجات.
887- ورواه مسلم أيضاً من حديث محمد بن سيرين وأبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه.
888- أبو هريرة رضي الله عنه اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً يزيد مجموعه على ثلاثين قولاً، أشهرها: أنه عبد الرحمن بن صخر أو عبد الله بن صخر، قال ابن عبد البر: هذان الاسمان هما اللذان تسكن إليه النفس في اسمه في الإسلام.(1/554)
889- وذكر ابن إسحاق قال: حدثني بعض أصحابنا، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان اسمي في الجاهلية عبد شمس، فسميت في الإسلام عبد الرحمن، وكذا كنيت بأبي هريرة لأني وجدت هرة وحشية فحملتها في كمي فقيل لي: أنت أبو هريرة.
890- والأشبه عند ابن عبد البر أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كناه بهذه الكنية لهذا السبب.
891- وقال خليفة بن خياط وابن الكلبي وغيرهما: اسمه عمير بن عامر، واتفقوا على أنه دوسي، ودوس من الأزد فخذ من قحطان.
892- أسلم أبو هريرة رضي الله عنه في أوائل سنة سبع، وشهد خيبراً أول شيء، ثم صحب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم، وحفظ عنه علماً كثيراً، فهو حافظ الصحابة وأكثرهم رواية بلا شك.
893- والمروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف وثلاث مائة وأربعة وسبعون حديثاً، وهذا شيء لم يقاربه فيه أحد غيره، ومن ذلك في ((الصحيحين)) ثلاث مائة وخمسة وعشرون حديثاً، وتفرد البخاري بثلاثة وتسعين حديثاً، ومسلم بمائة وتسعين حديثاً، ومع هذا فقد قال: ((حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته)).
894- وفي ((الصحيحين)) عنه أنه قال: ((يزعمون أن أبا هريرة يكثر(1/555)
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الموعد، إني كنت امرءاً مسكيناً ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً: من يبسط رداءه حتى أقضي حديثي فلن ينسى شيئاً مما سمعه؟ فبسطت ردائي حتى قضى حديثه صلى الله عليه وسلم، فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئاً من مقالته)).
895- وفي ((صحيح البخاري)): ((أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم من أسعد الناس بشفاعتك؟ فقال: يا أبا هريرة لقد ظننت أنه لا يسألني أحد عن هذا الحديث قبلك لما رأيت من حرصك على الحديث)).
896- روى عنه خلق كثير يزيد عددهم على ثمان مائة نفس، منهم من الصحابة ابن عمر وابن عباس وأنس وغيرهم رضي الله عنهم، ومن التابعين سعيد بن المسيب وأبو سلمة وحميد ابنا عبد الرحمن بن عوف وحميد بن عبد الرحمن الحميري وعبد الله بن عبد الله بن عتبة وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار وأبو سعيد المقبري وابنه سعيد وأبو عبد الله الأغر وأبو إدريس الخولاني وأبو عثمان النهدي وأبو صالح السمان والشعبي وطاوس وهمام بن منبه ومحمد بن سيرين ومن يطول تعدادهم.
897- وفي ((صحيح مسلم)): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم حبب عبيدك أبا هريرة وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليه المؤمنين، قال: فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني)). وكان أحد [بيتي] بالمدينة مع ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، وولي المدينة لمعاوية غير مرة، وكان يسبح في اليوم والليلة اثني عشر ألف تسبيحة.(1/556)
898- وقال أبو عثمان النهدي: ((تضيفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ الآخر ويصلي)).
899- قال هشام بن عروة وطائفة: مات أبو هريرة وعائشة سنة سبع وخمسين، وقال الهيثم بن عدي وجماعة: مات سنة ثمان وخمسين، وقال الواقدي وأبو عبيد وغيرهما: سنة تسع وخمسين، ووفاته بالعقيق، وقبره بالمدينة بلا خلاف بين أهل النقل رضي الله عنهم.
فصل
900- تضمن هذا الحديث النهي عن ثلاثة أشياء:
901- أحدها: البيع على بيع أخيه، وقد فسر الشافعي رحمه الله بأن يشتري الرجل شيئاً فيدعوه غيره في مدة الخيار إلى أن يفسخ البيع ليبيعه خيراً منه بأرخص، وفي معناه الشراء على شراء الغير؛ بأن يدعو البائع إلى الفسخ ليشتريه منه بأكثر مما باعه، وفسره مالك وغيره بأن يجيء إلى المتبايعين قد ركن أحدهما إلى الآخر واتفقا على العقد فيقول للمشتري: لا تبيع فإني أبيعك خيراً منه بأرخص. وهذا في الحقيقة هو السوم على سوم الغير كما جاء مصرحاً به في الحديث أيضاً، ولا خلاف في تحريم كل من الصورتين، لكنه في الصورة(1/557)
الأولى أشد، وصورته في الثانية مشروطة باستقرار الثمن وركون المتساومين إلى العقد، فأما البيع فيمن يزيد فلا ريب في جوازه.
902- قال مالك: ((لو ترك الناس السوم عند أول من يسوم بها أخذت السلعة بشبه الباطل، ودخل على الباعة في سلعهم المكروه)).
903- وقد خص بعض الفقهاء النهي عن البيع على بيع الغير بما إذا لم يكن في الصورة غبن فاحش، فإن كان المشتري مغبوناً غبناً فاحشاً أو البائع فله أن يعلمه ليفسخ ويبيع أو يشتري منه بثمن المثل، وكأن هذا القائل نظر إلى ما في ذلك من النصيحة وأخذه من الأمر بها والحث عليها، وليس ذلك بالهين في مثل هذا المقام.
904- والذي ذهب إليه جمهور العلماء أن من باع على بيع الغير فإنه عاصٍ، وينعقد بيعه، وأهل الظاهر يفسخون هذا البيع، وعن مالك رواية كذلك.
905- وثانيها: النهي عن أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، وصورته المتفق عليها ما إذا صرح المخاطب بالإجابة، ولم يترك الخاطب، ومنهم من زاد على ذلك أن يسمى الصداق ويقدر أيضاً، وزاد آخر أن تأذن المرأة للولي في العقد، وكل ذلك تخصيص لعموم النهي بسبب قصة فاطمة بنت قيس رضي الله عنها لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا جهم ومعاوية خطباني، فقال النبي: ((أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، انكحي أسامة .. .. الحديث))، فكان سؤالها عن معاوية وأبي جهم سؤال مستشير في أحدهما، لم تركن إلى زوج معين، فلذلك خطب النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة.
906- وقد خص ابن القاسم من أصحاب مالك الحديث أيضاً بما إذا كان الخاطب الأول رجلاً صالحاً، قال: فإن كان رجل سوء فللخاطب الثاني أن يعرف(1/558)
بحاله ويخطب عليه وإن كان قد ركن إليه، وهو كما تقدم في البيع بالغبن.
907- واختلفوا فيما إذا تزوج الثاني في صورة النهي؛ فالجمهور على صحة نكاحه وإن كان عاصياً، وقال الظاهرية: يفسخ النكاح كما تقدم في البيع، وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه إن لم يدخل بها فرق بينهما وفسخ نكاحه، وإن دخل فقد مضى ذلك ولا يفسخ.
908- وقال ابن وهب من أصحابه: وإن دخل بها فليتحلل الذي خطب على خطبته، فإن لم يجعله في حل مما صنع فليطلقها.
909- واتفقوا على أن الخاطب الأول متى رغب عن الخطبة فإنه يجوز لغيره أن يخطب، وقد دل على ذلك الحديث الصحيح: ((لا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر)).
910- والذي ذهب إليه الجمهور أنه لا فرق في هذا النهي بين أن يكون الخاطب الأول مسلماً أو ذمياً، وذهب الأوزاعي إلى أنه إن كان ذمياً جاز للمسلم الخطبة على خطبته، واختاره الخطابي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((على خطبة أخيه))، وقد جاء في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن أخو المؤمن، لا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه حتى يذر، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر))، وهذا مما يقوي اختصاص ذلك بالمسلم.
911- وقد أجاب الجمهور عن التقييد بأخيه بأنه خرج مخرج الغالب وفيه نظر. وثالثهما: قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية: ((لا تناجشوا)): والنجش -بفتح النون وإسكان الجيم- أن يزيد في ثمن السلعة لا لرغبة فيها بل ليخدع غيره ويغره ليشتريها، قيل: إنه مأخوذ من معنى الإثارة للوحش من مكان إلى مكان، فكأن الناجش يثير همة(1/559)
من يسمعه للزيادة، وقيل أصل اللفظة: مدح الشيء وإطراؤه، فكأن بزيادته فيه يطريه ويرغب فيه، ولا شك بأن هذا حرام لما فيه من المكر والخديعة.
912- والبيع صحيح عند الجمهور، وعن مالك رواية: أنه باطل، وعلى القول بصحته فقال: يثبت الخيار للمشتري، وأما أصحابنا فقالوا: إن لم يكن من البائع مواطأة مع الناجش فلا خيار، وكذا إن كانت في الأصح؛ لأنه قصر في الاغترار فهو كما لو غبن من غير نجش، والله أعلم.
913- أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الولي بن عبد الرحمن البلداني بقراءتي عليه قال: أنا جدي للأم أبو محمد عبد الرحمن بن أبي الفهم البلداني سماعاً عليه، أنا المبارك ابن أبي المعالي بن المعطوش، أنا محمد بن محمد بن المهتدي بالله، أنا إبراهيم بن عمر البرمكي، أنا عبيد الله بن عبد الرحمن الزهري، ثنا محمد بن مخلد العطار، ثنا أبو بكر أحمد بن محمد المروزي قال: ((كتب إلينا ابن خشرم ابن عمر بشر بن الحارث نسخة كتاب بشر بن الحارث رحمة الله عليه إليه: من أبي نصر إلى أبي الحسن علي بن خشرم، سلام عليك أما بعد: فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإني أسأل الله أن يتمم ما بنا وبكم من نعمة، وأن يرزقنا وإياكم الشكر على إحسانه وأن يميتنا وإياكم ويحيينا على الإسلام والسنة، ففيه -إن سلم لنا ولكم- خلفٌ من كل تلف، وعوض من كل رزية، أوصيك بتقوى الله يا علي، ولزوم أمره، والتمسك بكتابه، واتباع آثار القوم الذين سبقونا بالإيمان، وسهلوا لنا السبيل، فاجعلهم نصب عينيك، وأكثر ذكر حالاتهم تأنس بهم في الخلاء، ويغنوك في الملأ، فلمثل حالتهم كن مشاهداً، هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوفق من مجالسة من دهره منك اتباع زلتك وسقطتك إن قدر عليها، فإن لم يقدر عليها رماك بما لم يره الله، واعلم -علمك الله الخير وجعلك من أهله- أن أكثر عمرك فيما أرى قد انقضى، ومن ترضى حاله فقد مضى، وأنت لاحق بهم ومطلوب، لا يعجز صاحبك أنت(1/560)
أسير في يديه، وكل الخلق في كبريائه صغير، وكلهم إليه فقير، فلا يشغلنك كثرة من يحيط بك، واضرع إليه تضرع ذليل إلى عزيز، وفقير إلى غني، وأسير لا يجد ملجأ، ولا عن مفزعه غنى خائف مما قدمته يداه، غير واثق بما يقدم عليه، لا يقطع الرجاء، ولا يدع الدعاء، ولا يأمن الغير والبلاء، فلعله إن رآك كذلك عطف عليك بفضله، وأمدك بمعونته، وبلغ بك ما تأمله من عفوه ورحمته، فافزع إليه في نوائبك، واستعنه على ما ضعفت عنه قوتك، فإنك إذا فعلت ذلك قربك بخضوعك، ووجدته أسرع إليك من أبويك، وأقرب إليك من نفسك، وبالله التوفيق، وإياه أسأل خير المذاهب لنا ولك)).
914- أنشدنا العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الجعبري ثم الخليلي رحمه الله لنفسه من قصيدة بقراءتي عليه غير مرة:
يا غاية الآمال يا كل المنى ... يا ذا العلا وملاذ كل أمان
أنت القديم السرمدي ولم تزل ... فلك البقاء وكل شيءٍ فاني
قد خاب من يرجو سواك وحاد عن ... قصد السبيل وباء بالخسران
أوليتني نعماً يقصر منطقي ... عن شكرها في السر والإعلان
أوجدتني بشراً بأكمل هيئةٍ ... ومننت بالإسلام والإيمان
أنقذت من ظلم الجهالة مهجتي ... وجعلتني في العالم الرباني
يا عدتي في شدتي يا مؤنسي ... في وحدتي إذ ناء كل مداني
ارحم عبيداً أم بابك راجياً ... ما يرتجى منك المسيء الجاني
وأعن وجد واصفح وسامح وأخبرن ... وتجاوزن ومن بالغفران(1/561)
والحمد منك عليك أنت كما روي ... أثنيت لا أحصيه بالحسبان
وعلى النبي محمدٍ خير الورى ... منك الصلاة تفوق نشر البان
الحديث السابع والعشرون: عن جبير بن مطعم رضي الله عنه
915- أخبرنا قاضي القضاة أبو محمد عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الحنبلي بقراءتي عليه غير مرة قال: أنا أبو محمد مكي بن المسلم بن علان القيسي سماعاً عليه، أنا أبو المعالي علي بن هبة الله بن خلدون، أنا أبو الحسن علي بن الحسن الموازيني، أنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي نصر، أنا يوسف بن القاسم الميانجي، أنا أبو العباس محمد بن شادل، ثنا إسحاق بن إبراهيم ابن الإمام ابن راهويه، أنا سفيان -يعني ابن عيينة-، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لي أسماءً: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحى به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي)) صلى الله عليه وسلم .
916- وأخبرناه أعلا من هذه الرواية بدرجة أبو الفداء إسماعيل بن يوسف ابن مكتوم وآخرون بقراءتي عليهم قالوا: أنا أبو المنجا عبد الله بن عمر اللتي، أنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى الصوفي، أنا أبو عاصم الفضيل بن يحيى الفضيلي، نا أبو محمد عبد الرحمن أحمد بن أبي شريح، ثنا محمد بن عقيل البلخي، ثنا علي بن خشرم، ثنا سفيان بن عيينة فذكره بنحوه.(1/562)
917- وأخبرناه أيضاً عالياً شيخنا أبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم، أنا علي بن أبي عبد الله بن المقير حضوراً، أخبرتنا الكاتبة شهدة بنت أحمد الإبري، أنا طراد بن محمد الزينبي، أنا محمد بن أحمد بن رزق، ثنا محمد بن يحيى بن عمر، ثنا علي بن حرب، ثنا سفيان بن عيينة به.
918- هذا حديث صحيح، رواه مسلم عن إسحاق بن راهويه وزهير بن حرب ومحمد بن أبي عمر، والترمذي عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، أربعتهم عن سفيان بن عيينة به، فوقع لنا موافقة لمسلم في الطريق الأول، وبدلاً عالياً له وللترمذي في الروايتين الأخريين.
919- وأخرجه البخاري عن إبراهيم بن المنذر، والنسائي عن علي بن شعيب، كلاهما عن معن بن عيسى، عن مالك، عن الزهري به. فوقع به لنا عالياً عنهما عالياً.
920- وأخرجه مسلم أيضاً عن عبد الملك بن شعيب بن الليث، عن أبيه، عن جده، عن عقيل بن خالد، عن الزهري به، فوقع لنا عالياً عنه بأربع درجات، بحمد الله ومنه.
921- جبير بن مطعم رضي الله عنه هو أبو محمد، ويقال: أبو عدي جبير بن مطعم ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي القرشي النوفلي.(1/563)
أسلم قبل خيبر، وقيل: بل هو من مسلمة الفتح، وحسن إسلامه.
922- وروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ستون حديثاً، اتفقا منها على ستة أحاديث، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث واحد.
923- روى عنه ابناه محمد ونافع ابنا جبير وسعيد بن المسيب وسليمان بن صرد وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبد الله بن باباه وطائفة.
924- وكان علامة بالنسب، حليماً وقوراً، أحد أشراف الصحابة وساداتهم.
925- قال ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة: ((كان جببر بن مطعم من أنسب قريش لقريش وللعرب قاطبة، وكان يقول: أخذت النسب من أبي بكر رضي الله عنه)).
926- وعن عثمان بن أبي سليمان: ((أن عمر رضي الله عنه لما أتي بسيف النعمان ابن المنذر سلحه جبير بن مطعم بعدما سأله عن نسبه)).
927- وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، عن عامر بن يحيى، عن علي بن رباح، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: ((كنت أكره أذى قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ظننت أنهم سيقتلونه خرجت فلحقت بدير من الديارات، فاجتمعت برأس الدير، فقصصت عليه أمري فقال: تخاف أن يقتلوه؟ قلت: نعم، قال: وتعرف شبهه لو رأيته مصوراً؟ قلت: نعم، فأراه صورة مغطاة، فقلت: ما رأيت شيئاً أشبه بشيء من هذه الصورة به، كأنه طوله وجسمه وبعد ما بين منكبيه، قال: فتخاف أن يقتلوه؟ قلت: أظنهم قد فرغوا منه، قال: لا والله لا يقتلوه، وليقتلن من يريد قتله، وإنه لنبي، وليظهرنه الله، ولكن قد وجب حقك فامكث ما بدا لك، فمكثت حيناً، ثم قلت: لو اطلعتهم، فقدمت مكة فوجدتهم قد أخرجوا(1/564)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلما قدمت قامت إلي قريش فقالوا: قد تبين لنا أمرك، فهلم أموال الصبية التي عندك استودعكها أبوك، فقلت: ما كنت لأفعل حتى تفرقوا بين رأسي وجسدي، ولكن دعوني أذهب فأدفعها إليهم، فقالوا: عليك عهد الله وميثاقه أن لا تأكل من طعامه، قال: فقدمت المدينة وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فدخلت عليه، فقال لي فيما يقول: إني لأراك جائعاً، هلموا طعاماً، قلت: لا آكل خبزك، فإن رأيت أن آكل أكلت، وحدثته بما أخذوا علي، قال: فأوف بعهدك)).
928- وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى وهو مشرك عقيب وقعة بدر فسمعه صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور قال: وهو أول ما وقع الإسلام في قلبي.
929- وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى جبيراً رضي الله عنه من غنائم حنين مائة من الإبل.
930- قال الهيثم بن عدي وخليفة بن خياط وغيرهما: مات سنة تسع وخمسين، وقيل غير ذلك رضي الله عنه.
فصل
931- قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن لي أسماء)): الظاهر أنه أراد بها الموجودة في الكتب المتقدمة وعند أولي العلم من الأمم السالفة، وإلا فله أسماء أخر سماه الله تعالى(1/565)
بها في القرآن، كالنور المبين، والسراج المنير، والمزمل، والمدثر، والمبشر، والبشير، والمنذر، والنذير، إلى غير ذلك مما هي أوصاف جارية مجرى الأسماء، كما في الماحي والحاشر والعاقب، ولم يعن صلى الله عليه وسلم بما في حديث جبير هذا استيعاب أسمائه، بل قد صح عنه في حديث أبي موسى أنه سمى أيضاً نفسه المقفي ونبي التوبة ونبي الملحمة، وقيل: المرحمة، ورواه مسلم.
932- وقد فسر بعضهم ((الماحي)) في هذا الحديث (1) بأنه الذي تمحى به ملة غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو بعيد بما صح في الحديث نفسه: ((وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر)) كما تقدم، ويكون المراد بمحو الكفر إما من مكة وبلاد العرب وما رئي له من مشارق الأرض ومغاربها، أو يكون المحو عامًّا بمعنى الظهور والغلبة.
933- ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((الذي يحشر الناس على قدمي))، أي: على زماني وعهدي ليس بعدي نبي.
934- وأما محمد وأحمد فهما أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم، وهما مشتقان من الحمد، فأحمد اسمه الذي سمي به على لسان موسى وعيسى عليهما السلام، وهو صيغة أفعل التفضيل، أي هو أحمد الحامدين لربه، ومحمد مفضل على صيغة المبالغة، وهو الذي يحمد حمداً بعد حمد، ولا يكون مفعلاً مثل مضرب ومقتل إلا لمن تكرر فيه الفعل مرة بعد أخرى، فهو صلى الله عليه وسلم محمود كل وقت ومن كل أحد، بما
__________
(1) [[ في المطبوع: حديث.]](1/566)
هدى إليه، وكان على يديه من النفع العام والهدى التام، ثم هو محمود في الأخرى بالشفاعات المنوعة.
935- ثم في هذين الاسمين من اللطائف الغريبة ما نشير إلى بعضها على وجه الاختصار، منها:
936- أن اسمه أحمد الذي جاء على لسان موسى وعيسى عليهما السلام لم يتسم به أحد من العالمين قبله البتة أصلاً، ولا دعي به مدعو قبله، حماية من الله تعالى؛ لئلا يدخل لبس على ضعيف القلب أو شك، وكذلك محمد أيضاً لم يسم به أحدٌ من العرب قبله ولا غيرهم إلى أن شاع قبيل وجوده أن نبيًّا يبعث من العرب اسمه محمد، فسمى جماعة قليلون أبناءهم بهذا الاسم رجاء أن يكون أحدهم هو، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، وهم: محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي، ومحمد بن سفيان بن مجاشع جد الفرزدق، ومحمد بن حمران بن ربيعة، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، ومحمد بن البراء البكري، ومحمد بن خزاعي السلمي، ومحمد بن اليحمد من الأزد، ومحمد بن سوادة، وهؤلاء مجموع من ذكر في كتب متفرقة أنه تسمى في ذلك العصر بهذا الاسم، ثم حمى الله حمى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن منع كل من تسمى بهذا الاسم أن يدعي النبوة أو يدعيها أحد له، ويظهر على يديه سبباً يشكك أحداً في أمره حتى تحقق ذلك فيه صلى الله عليه وسلم .
937- ومنها: أن اسمه أحمد كان قبل وجوده، وتسميته محمداً كان بعد ولادته، فذكر بأحمد قبل أن يذكر بمحمد، لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمداً بالفعل، ولذلك يوم القيامة يحمدونه بالمحامد التي يلهمه الله إياها يومئذ ثم يشفع فيحمد على شفاعته، فترتب اسم أحمد قبل(1/567)
اسم محمد في الذكر والوجود في الدنيا وفي الآخرة.(1/568)
938- ومنها أنه صلى الله عليه وسلم خص بلواء الحمد، وبالمقام المحمود، وبإنزال سورة الحمد عليه، وبأمة الحمادين، فكان ذلك أيضاً مناسباً لتسميته بهذين الاسمين.
939- وشرع لنا الحمد عند اختتام الأمور كالأكل والشرب، وقال عند العود من السفر: ((آيبون تائبون حامدون))، وقال تعالى: {وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين}، {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}، فكان اسمه محمداً وأحمد صلى الله عليه وسلم مناسباً لذلك لكونه خاتم النبيين ومؤذناً بانقضاء الأمور وقرب الساعة وتمام الدنيا، صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم.
940- أخبرنا الشيخ الصالح أبو العباس أحمد ابن أبي بكر محمد بن(1/570)
حامد الأرموي الصوفي بقراءتي عليه قال: أنا أبو القاسم عبد الرحمن بن مكي بن الحاسب سماعاً عليه، أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي، أنا أبو الفضل محمد بن عبد السلام الأنصاري وأبو سعيد محمد ابن عبد الكريم بن حشيش قال الأول: أنا عبد الرحمن بن عبيد الله الحراني، وقال الثاني: أنا الحسن بن أحمد بن شاذان قالا: أنا أحمد بن سليمان النجاد، ثنا أبو بكر عبد الله ابن أبي الدنيا القرشي، ثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثني عبد المؤمن بن عبيد الله السدوسي أبو عبيدة قال: ((كان الحسن رحمه الله إذا ابتدأ الحديث يقول: الحمد لله، اللهم ربنا لك الحمد بما خلقتنا ورزقتنا وهديتنا وعلمتنا وأنقذتنا وفرجت عنا، لك الحمد بالإسلام والقرآن، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، كبت عدونا وبسطت رزقنا وأظهرت أمتنا وجمعت فرقتنا وأحسنت معافاتنا ومن كل والله ما سألناك ربنا أعطيتنا، فلك الحمد على ذلك حمداً كثيراً، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث أو سر أو علانية أو خاصة أو عامة أو حي أو ميت أو شاهد أو غائب، لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت)).
941- وبه إلى ابن أبي الدنيا: حدثني حمزة بن العباس، ثنا عبدان بن عثمان، أنا عبد الله -يعني ابن المبارك-، أنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عبد الرحمن، -رجل من أهل صنعاء- قال: ((أرسل النجاشي ذات يوم إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم فدخلوا عليه وهو في بيت خلقان جالس على التراب، قال جعفر، فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلما رأى ما في(1/571)
وجوهنا قال: إني أبشركم بما يسركم، إنه جاءني من نحو أرضكم عين لي، فأخبرني أن الله قد نصر نبيه صلى الله عليه وسلم وأهلك عدوه، وأسر فلان وفلان، وقتل فلان وفلان وفلان، التقوه بوادٍ يقال له: بدر، كثير الأراك، كأني أنظر إليه، كنت أرعى به لسيدي -رجل من بني ضمرة- إبله، فقال له جعفر رضي الله عنه: فما بالك جالساً على التراب ليس تحتك بساط وعليك هذه الأخلاق؟ قال: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى عليه السلام: أن حقًّا على عباد الله أن يحدثوا له تواضعاً عندما أحدث لهم من نعمه، فلما أحدث الله لي نصر نبيه صلى الله عليه وسلم أحدثت له هذا التواضع)).
942- أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن مري بن ربيعة الجبتي ثم الصالحي بقراءتي عليه قال: أنا محمد بن إسماعيل الفقيه سماعاً، أنا هبة الله بن الحسين المصري، أنا عبد الله بن رفاعة الفرضي، أنا علي بن الحسن الخلعي، أنا عبد الرحمن بن عمر النحوي، ثنا عبد الله بن جعفر بن الورد، ثنا عبد الرحيم بن عبد الله البرقي، ثنا عبد الملك بن هشام، ثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق قال: وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه يبكي رسول الله:
ما بال عينك لا تنام كأنما ... كحلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعاً على المهدي أصبح ثاوياً ... يا خير من وطئ الحصا لا تبعد
وجهي يقيك الترب لهفاً ليتني ... غيبت قبلك في بقيع الغرقد
بأبي وأمي من شهدت وفاته ... في يوم الاثنين النبي المهتدي(1/572)
فظللت بعد وفاته متبلداً ... متلدداً يا ليتني لم أولد
يا بكر آمنة المبارك بكرها ... ولدته محصنةً بسعد الأسعد
نوراً أضاء على البرية كلها ... من يهد للنور المبارك يهتدي
يا رب فاجمعنا معاً ونبينا ... في جنة تثني عيون الحسد
فهي جنة الفردوس فاكتها لنا ... يا ذا الجلال وذا العلا والسؤدد
والله أسمع ما بقيت بهالكٍ ... إلا بكيت على النبي محمد
يا ويح أنصار النبي ورهطه ... بعد المغيب في سواء الملحد
والله أكرمنا به وهدى به ... أنصاره في كل ساعةٍ مشهد
صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد(1/573)
الحديث الثامن والعشرون: عن سمرة بن جندب رضي الله عنه
943- أخبرنا الصدر الرئيس أبو عبد الله محمد بن منصور بن إبراهيم بن منصور الجوهري الحلبي الأصل ثم القاهري قراءة عليه وأنا أسمع قال: أنا الشيخان أبو عيسى عبد الله بن عبد الواحد بن محمد وأبو العباس أحمد بن علي ابن يوسف سماعاً على كل منهما قالا: أنا هبة الله بن علي البوصيري، أنا مرشد ابن يحيى بن القاسم، أنا محمد بن الحسين الطفال، أنا محمد بن عبد الله بن حيويه، ثنا أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب الحافظ، أنا أبو الأشعث -يعني أحمد بن المقدام-، ثنا يزيد وهو ابن زريع، ثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)).
944- وأخبرناه أعلا من هذه الرواية بدرجة أبو محمد عيسى بن عبد الرحمن بن معالي بقراءتي عليه وآخرون قالوا: أنا عبد الله بن عمر السقلاطوني، أنا عبد الأول بن عيسى الصوفي، أنا عبد الله بن محمد البوشنجي، أنا عبد الله بن أحمد السرخسي، أنا عيسى بن عمر السمرقندي، أنا عبد الله بن عبد الرحمن الحافظ، أنا عثمان، ثنا همام، أنا قتادة، عن الحسن، عن سمرة بمثله.
945- هذا حديث حسن، رواه النسائي كما سقناه من طريقه أولاً، وأخرجه أبو داود عن أبي الوليد الطيالسي عن همام به، ورواه الترمذي عن محمد بن مثنى، عن سعيد بن سفيان الجحدري، عن شعبة، عن قتادة به، وقال فيه: حديث حسن.
946- سمرة رضي الله عنه هو أبو سعيد، ويقال: أبو سليمان وأبو عبد الرحمن وأبو(1/574)
محمد وأبو عبد الله، سمرة بن جندب بن هلال بن حريج بن مرة بن حزن بن عمرو بن جابر بن خشين أخي أخشن ومخاشن وخشان أولاد لأي بن عصيم بن شمخ بن فزارة واسمه عمرو بن دينار أخي عبس وأنمار، أولاد بغيض أخي أشجع ابني ريث بن غطفان بن سعد بن قيس غيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الفزاري.
947- أحد ربائب الصحابة، توفي أبوه وهو صغير، ((وكانت أمه جميلة فقدمت به المدينة فخطبت فجعلت تقول: لا أتزوج إلا رجلاً يكفل لها نفقة سمرة حتى يبلغ، فتزوجها رجل من الأنصار على ذلك، وكان رسول الله يعرض غلمان الأنصار كل عام فمر به غلام فأجازه في البعث، وعرض عليه سمرة فرده فقال: يا رسول الله قد أجزت غلاماً ورددتني، ولو صارعته لصرعته قال: فصارعه فصرعه سمرة، فأجازه صلى الله عليه وسلم ))، وشهد أحداً وكان أصغر من شهدها هو ورافع بن خديج، ثم غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوات أخر.
948- روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة وعشرون حديثاً، اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأربعة.
949- روى عنه ابناه سعيد وسليمان وعبد الله بن بريدة وأبو رجاء(1/575)
العطاردي وسوادة بن حنظلة والحسن البصري والشعبي وأبو نضرة العبدي وهلال ابن يسار ومحمد بن سيرين وعبد الرحمن بن أبي ليلى وآخرون.
950- قال ابن عبد البر: ((كان سمرة من الحفاظ المكثرين، سكن البصرة، وكان زياد يستخلفه عليها ستة أشهر، وعلى الكوفة ستة أشهر، ثم عزله، وكان شديداً على الحرورية -يعني الخوارج- إذا أتي بالواحد منهم قتله ولم يقله)).
951- وكان الحسن وابن سيرين وفضلاء أهل البصرة يثنون عليه.
952- قال عبد الله بن صبيح، عن ابن سيرين: ((كان سمرة فيما علمت عظيم الأمانة، صدوق الحديث، يحب الإسلام وأهله)).
953- وقال أيضاً: ((عليكم برسالة سمرة إلى بنيه، فإن فيها علماً حسناً)).
954- وفي ((صحيح البخاري)) عن ابن بريدة: أن سمرة رضي الله عنه قال: ((كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً، فكنت أحفظ عنه وما يمنعني من القول إلا أن ههنا رجالاً هم أسن مني)).
955- وروى محمد بن سيرين: ((أن ابن عباس رضي الله عنهما لما أمر أهل البصرة بزكاة الفطر أنكروها، فأرسل إلى سمرة فقال: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بها؟ قال: بلى، قال: فما منعك أن تعلم أهل البلد)).(1/576)
956- وقال الحسن عن سمرة: ((حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم سكتتين في الصلاة فكتبوا في ذلك إلى أبي بن كعب رضي الله عنه، فكتب يصدق سمرة ويقول: إن سمرة حفظ الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم )).
957- مات آخر سنة تسع وخمسين، وقيل: بل مات في سنة ستين، سقط في قدر مملوءة ماء حارًّا فمات فيها، وكان في ذلك تصديق للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قال لأبي هريرة وسمرة وثالث معهما: ((آخركم موتاً في النار)). فكان سمرة آخرهم موتاً رضي الله عنه.
فصل
958- قوله صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ فبها))، قال الأصمعي: ((معناه فبالسنة أخذ ونعمت السنة))، وقال الخطابي: ((ونعمت الخصلة، أو نعمت الفعلة))، فعود الضمير هنا إلى شيء معلوم عند المخاطب وإن لم يتقدم له ذكر، كقوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب}.
959- وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أتى الجمعة فليغتسل))، وقال في حديث أبي سعيد الخدري: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)) متفق عليه.(1/577)
960- فأخذ بظاهر هذين الحديثين جماعة من أهل الظاهر، وقالوا بوجوب غسل الجمعة، والذي ذهب إليه الجمهور أنه سنة ليس بواجب؛ بدليل حديث سمرة هذا؛ فإن اعترض عليه بأنه يحيى بن سعيد وجماعة من أئمة الحديث لم يثبتوا سماع الحسن من سمرة قلنا: قد ثبت في ((صحيح البخاري)) عن الحسن أنه سمع منه حديث العقيقة، وقد كان علي بن المديني وجماعة آخرون يثبتون سماعه منه كغيره، أيضاً. قال الترمذي: ((قلت للبخاري: قوله إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة؟ قال: قد سمع منه أحاديث كثيرة، وجعل روايته عن سمرة سماعاً وصححها، وفي ((مسند أحمد)) عن هشيم عن حميد الطويل قال: جاء رجل إلى الحسن البصري فقال: إن عبداً له أبق وإنه نذر إن قدر عليه أن يقطع يده، فقال الحسن: حدثنا سمرة قال: ما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمر فيها بالصدقة ونهى عن المثلة، فهذا سند صحيح يفيد سماع الحسن من سمرة لغير حديث العقيقة أيضاً، وهذا هو الراجح كما ذهب إليه إمام الصنعة البخاري.
961- وأما من لا يثبت سماعه منه لهذه الأحاديث فيقول: الذي رواه عنه(1/578)
بطريق الكتاب، وهذا لا يدفع الاحتجاج به؛ فقد احتج البخاري برواية بشر بن شعيب ابن أبي حمزة عن أبيه، وذكر أبو حاتم الرازي ((أن أحمد بن حنبل سأله: أسمعت من أبيك شيئاً؟ قال: لا، قال: فأجاز ذلك؟ قال: نعم))، واحتج مسلم بحديث مخرمة بن بكير بن الأشج، عن أبيه، وقد قال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين: ((لم يسمع مخرمة من أبيه شيئاً، إنما يروي من كتابه)).
962- وقد روى حديث سمرة من وجوه أخر منها رواية أسباط بن نصر عن السدي عن عكرمة عن ابن عباس بمثله مرفوعاً أخرجه البيهقي، ورواية شريك النخعي، عن عوف الأعرابي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكر مثله. رواه البيهقي أيضاً، ورواه ابن عبد البر في ((التمهيد)) من حديث الجريري عن أبي نضرة به، ثم قال: ((وهذا أبو سعيد قد روى الحديثين معاً: -يعني هذا مع حديثه- الأول: ((واجب على كل محتلم))، ففي هذا ما يدل على أن غسل الجمعة فضيلة لا فريضة، وأنه على الندب؛ لأنه(1/579)
قال: واجب بالأخلاق الكريمة وحسن السنة، كما تقول العرب: حقك واجب، أي: في كريم الأخلاق والبر بالصديق))، وبهذا أيضاً تأوله الإمام الشافعي وغيره، وهو متعين للجمع بين الأحاديث؛ لأن حديث سمرة وما تابعه قوي الدلالة على إجزاء الوضوء دون الغسل مع إمكان الغسل، فكان تأويل تلك الأحاديث أولى.
963- ويتأيد هذا بقصة عثمان رضي الله عنه لما دخل يوم الجمعة وعمر رضي الله عنه يخطب على المنبر فقال له: ((أية ساعة هذه؟ فقال عثمان رضي الله عنه: ما زدت حين سمعت النداء على أن توضأت ثم أقبلت، فقال عمر رضي الله عنه: والوضوء أيضاً؟ وقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل))، متفق عليه.
964- قال الشافعي: ((لما لم يترك عثمان رضي الله عنه الصلاة للغسل، ولم يأمره عمر بالخروج للغسل؛ دل ذلك على أنهما قد علما أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل على الاختيار)).
965- وذكر ابن عبد البر ((أن الكل أجمعوا على أنه ليس الغسل شرطاً في صحة الجمعة بل هي جائزة من غير غسل)).
966- وأصل مشروعية هذا الغسل ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم فيأتون في العباء، ويصيبهم الغبار فيخرج منهم الريح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو اغتسلتم ليومكم هذا)).
وبهذا تبين صحة ما ذهب إليه جمهور أصحابنا أن استحباب غسل الجمعة(1/580)
مخصوص بمن أراد حضورها، سواء كان ممن تجب عليه أو لا، وفيه وجوه أخر ضعيفة، والله أعلم.
967- أخبرني أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الله ابن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي بقراءتي عليه قال: أنا أبو إسحاق بن خليل الدمشقي وأنا حاضر، أنا أبو الفضل إسماعيل بن علي الجنزوي، أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن قبيس، أنا أحمد بن عبد الواحد بن أبي الحديد، أنا جدي محمد بن أحمد، ثنا محمد بن جعفر السامري، ثنا أبو يوسف الزهري -من ولد عبد الرحمن بن عوف-، ثنا الزبير بن بكار قال: يروى عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: أرسل عمر رضي الله عنه إلى الحطيئة الشاعر وأنا عنده وقد كلمه عمرو بن العاص وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأخرجه من السجن فقال:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخٍ ... زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمةٍ ... فاغفر هداك مليك الناس يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذا قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بك الإثر
فامنن على بيضة بالرمل مسكنهم ... بين الأباطح يغشاهم بها القرر
أهلي فداؤك كم بيني وبينهم ... من عرض داوية يعمى بها الخبر
قال فبكى عمر رضي الله عنه حين قال: ما تقول لأفراخ بذي مرخٍ، فقال عمرو(1/581)
ابن العاص رضي الله عنه: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركة الحطيئة، فقال عمر رضي الله عنه: علي بالكرسي، فوضع له، فجلس عليه وقال: أشيروا علي في الشاعر، فإنه يقول الهجو ويشبب بالحرم، ويمدح الناس ويذمهم بما ليس فيهم، ما أراني إلا قاطعاً لسانه، ثم قال: علي بالطست فأتي به، ثم قال علي بالمخضب، علي بالسكين، لا بل علي بالموسى، فقالوا: لا يعود يا أمير المؤمنين، وأشار إليه: قل: لا أعود يا أمير المؤمنين، فقال: لا أعود يا أمير المؤمنين، قال له: النجاة، فلما أدبر قال: يا حطيئة كأني بك وأنت عند فتى من فتيان قريش قد بسط لك نمرقة وكسر لك أخرى وأنت تغنيه بأعراض المسلمين، قال أسلم: فدخلت على عبيد الله بن عمر بعد أن توفي عمر رضي الله عنه وعنده الحطيئة وقد بسط له نمرقة وقد كسر له أخرى وهو يغنيه، فقلت: يا حطيئة أتذكر ما قاله عمر؟ فارتاع لها وقال: يرحم الله ذلك المرء، لو كان حياً ما فعلنا هذا، فقال عبيد الله: وما قال؟ قلت: كذا وكذا، فكنت أنت ذلك الفتى)).
968- أخبرنا أبو عبد الله محمد ابن أبي الفتح بن صديق التاجر بقراءتي عليه، أنا أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي الفهم اليلداني، أنا يحيى بن أسعد بن بوش، أنبأنا أبو القاسم علي بن محمد بن أحمد بن بيان الرزاز (ح).
وأخبرنا شيخنا أبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم سماعاً عليه، أنا جعفر ابن علي المقرئ، أنا أحمد بن محمد أبو طاهر السلفي، أنا علي بن بيان سماعاً، أنا طلحة بن علي بن الصقر، ثنا شاكر -يعني ابن عبد الله المصيصي-، ثنا عمران بن موسى قال: سمعت أحمد بن الحسن العوفي يقول: سمعت أبا العتاهية ينشد هذه الأبيات.(1/582)
إن كان يعجبك السكوت فإنه ... قد كان يعجب قبلك الأخيارا
ولئن ندمت على سكوتك مرةً ... فلقد ندمت على الكلام مرارا
إن السكوت سلامةٌ ولربما ... زرع الكلام عداوةً وضرارا
وإذا تقرب خاسرٌ من خاسرٍ ... زادا بذاك خسارةً وتبارا
الحديث التاسع والعشرون: عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنهما
969- أخبرنا قاضي القضاة وزاهدهم أبو عبد الله محمد بن المسلم بن محمد بن مالك الحنبلي بقراءتي عليه قال: أنا الزاهد أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد، أنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي، أنا محمد بن محمد ابن أبي القاسم القطان، أنا محمد بن محمد بن الجنيد، أنا محمد بن طاهر المقدسي الحافظ، أنا أبو طاهر محمد بن عبد الواحد البزار، أنا محمد بن أحمد بن حمدان، أنا محمد بن الهيثم الكشميهني، أنا محمد بن يوسف الفربري، ثنا محمد بن إسماعيل الإمام، ثنا محمد بن خالد، ثنا محمد بن وهب بن عطية، ثنا محمد بن حرب، ثنا محمد بن الوليد الزبيدي، ثنا إبراهيم بن محمد بن شهاب، عن عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة فقال: ((استرقوا لها فإن بها النظرة)).
970- هذا حديث صحيح عزيز، اجتمع في إسناده ستة عشر رجلاً على الولاء محمدون.
971- رواه البخاري هكذا نازلاً، وشيخه فيه هو محمد بن يحيى الذهلي نسبه إلى جده الأعلى.(1/583)
972- وقد أخبرناه أعلا من هذه الطريق بخمس رجال: محمد بن داود بن عمر المقدسي وأحمد بن محمد بن الحسن الصواف قراءة عليهما وأنا أسمع قالا: أنا عمر بن عبد الوهاب القرشي، أنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي، أنا أبو القاسم علي بن إبراهيم النسيب، أنا محمد بن عبد الرحمن ابن عثمان، أنا يوسف بن القاسم الميانجي، أنا أبو يعلى أحمد بن علي، أنا سليمان بن داود أبو الربيع الختلي، ثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري به.
973- أخرجه مسلم عن أبي الربيع الختلي هذا، فوافقناه فيه بعلو.
974- وقد رواه عقيل ويونس بن يزيد عن الزهري عن عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وكذلك رواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن سليمان بن يسار، عن عروة مرسلاً، وفي تخريج الشيخين له في ((صحيحهما)) من طريق الزبيدي متصلاً مع اطلاعهما على إرساله دليل لقول من يقول: إن الإسناد زيادة بالنسبة إلى الإرسال، فيقبل من الثقة، والله أعلم.
975- أم سلمة رضي الله عنها اسمها: هند على الصحيح بنت أبي أمية، واسمه حذيفة، ويقال: سهيل، وقيل: هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية.
976- كانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي سلمة بن عبد الأسد، وهاجرت معه الهجرتين إلى الحبشة والمدينة، وهما أول من هاجر إلى الحبشة، وولدت منه زينب -راوية هذا الحديث- وسلمة وعمر ودرة، ثم توفي أبو سلمة بعد غزوة(1/584)
أحد، فتزوج بها النبي صلى الله عليه وسلم وبنى بها لليال بقين من شوال سنة أربع، ولا يصح قول من قال غير ذلك.
977- وكانت رضي الله عنها من أجمل النساء، بارعة الجمال، وأبوها أحد الأجواد، وكان يلقب بزاد الراكب لجوده، وشهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر.
978- فقد روى بريدة بن الحصيب عنها: ((أنها سمعت وقع السيف في أسنان مرحب من ضربة علي رضي الله عنه)).
979- وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم علماً كثيراً، روي لها عنه من الحديث ثلاث مائة وثمانية وسبعون حديثاً، اتفقا منها على ثلاثة عشر حديثاً، وانفرد البخاري بثلاثة أحاديث، ومسلم بثلاثة عشر حديثاً.
980- وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: ((لا يصيب عبداً مصيبة فيسترجع ثم يقول: اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها إلا أخلفه الله خيراً منها. قالت أم سلمة رضي الله عنها: فلما توفي أبو سلمة قلت: من خير من أبي سلمة؟ وذكرت مآثره، ثم قالت ذلك، فلما انقضت عدتها خطبها أبو بكر ثم عمر، ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبها فتزوجته، وكانت قد اعتذرت بأنه مصبية، أي لها أولاد صغار، وأنها شديدة الغيرة وقد كبرت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما الصبية فأنا وليهم أو قال: الله، وأما الغيرة فأنا أدعو الله لها فتذهب، وأنا أكبر منها))،(1/585)
فلما دخل عليها قال: ((إن شئت سبعت عندك وسبعت لنسائي، وإن شئت ثلثت؟ قالت: بل ثلث)).
981- قال المطلب بن عبد الله بن حنطب: دخلت أيم العرب أم سلمة على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم أول العشاء عروساً، ثم قامت آخر الليل تطحن)).
982- وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة حزنت حزناً شديداً لما ذكروا لنا من جمالها، فتلطفت حتى رأيتها، فرأيتها والله أضعاف ما ذكروا من الحسن والجمال، فذكرت ذلك لحفصة -وكانتا يداً واحدة- فقالت: لا والله ما هي كما تقولين، وإنها لجميلة، قالت: فرأيتها بعد ذلك فكانت كما قالت حفصة، ولكنني كنت غيرى))، رضي الله عنهن.
983- وذكر الواقدي أنها توفيت سنة تسع وخمسين، وأن أبا هريرة صلى عليها، وهو غلط، لأنها أدركت خلافة يزيد بن معاوية، ورأت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة مقتل الحسين في منامها كما رواه الترمذي.
984- وفي ((صحيح مسلم)): أن عبد الله بن صفوان دخل عليها في خلافة يزيد، وكان مقتل الحسين رضي الله عنه في أول سنة إحدى وستين.
985- فالظاهر أنها ماتت سنة إحدى وستين، وقيل: سنة اثنتين.
986- وممن روى عنها ابناها عمر وزينب وأخوها عامر ومواليها -سفينة وعبد الله بن رافع وناعم ونافع- وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبو بكر بن(1/586)
عبد الرحمن و[أبو] عثمان (1) النهدي وسليمان بن يسار والشعبي ويزيد المقبري وابن أبي مليكة وعطاء ونافع مولى ابن عمر وخلق كثير.
987- وقيل: إنها آخر أمهات المؤمنين وفاة، وقيل: بل ميمونة، كما سيأتي رضي الله عنهن.
فصل
987/م- سفعة: بفتح السين المهمة على المشهور، وحكى القرطبي فيها الضم أيضاً، وهي سواد في الوجه مع لون آخر من صفرة أو حمرة، لكن السواد غالب، وأصله من السفع، وهو الأخذ بسفعة الفرس، وهو سواد ناصيته، وكذلك قيل في تفسير السفعة في هذا الحديث بأنها أخذ الشيطان، وهو الذي قاله الجمهور. وقال طائفة آخرون: المراد بها نظرة العين من بني آدم، وعلى هذا فلا تعارض بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا رقية إلا من عين أو حمة))، وهي بضم الحاء المهملة وفتح الميم المخففة، قيل: هي السم، وقيل: هي إبرة العقرب، بخلاف التفسير الأول. وفي ((السنن)) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل))، أو قال: ((لم يتوكل من اكتوى أو استرقى)).
__________
(1) [[ في المطبوع: [أبو] وعثمان]](1/587)
988- وهذا الحديث الذي سقناه يدل على إباحة الرقية، بل على الأمر بها أيضاً، فقيل في الجمع بينها: بأن النهي كان أولاً ثم نسخ؛ بدليل ما في ((صحيح مسلم)) عن جابر رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنها كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقى، قال: فعرضوها عليه، فقال: ما أرى بها باساً، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه.
989- وقيل: المراد بالنهي استعمالها قبل وقوع البلاء لئلا ينزل به شيء معتقداً أن ذلك يرد ما قدر، وفيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه بالمعوذات كل ليلة)).
990- والأقوى في ذلك أن النهي ليس عن كل رقية، بل عما هو بغير اللسان العربي مما يخاف منه أن يكون شركاً، أو كان فيه شيء ينافي الإيمان؛ ففي ((صحيح مسلم)) عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: ((كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك)).
991- فالحاصل أن الرقى على ثلاثة أقسام:
992- أحدها: ما كان من رقى الجاهلية بما لا يعرف من الألفاظ الأعجمية، فالواجب اجتنابه، وعليه تحمل أحاديث النهي كما ذكرنا.
993- وثانيها: ما كان بالقرآن والأذكار وأسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العلى، فلا ريب في جوازه، وأنه لا ينافي التوكل؛ إذ لا فرق بينه وبين سائر(1/588)
الأدعية المأمور بها، وعلى هذا يحمل سائر الأحاديث التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالرقية.
994- وقد قال ابن عبد البر: ((لا أعلم خلافاً بين العلماء في جواز الرقية من العين والحمة، وهي لدغة العقرب وما كان مثلها إذا كانت الرقية بأسماء الله تعالى وما يجوز الرقى به، فكان ذلك بعد نزول الوجع والبلاء)).
995- وثالثها: ما كان بأسماء النبيين والملائكة أو بالعرش والسماوات ونحو ذلك مما يفعله كثير من الراقين: قال القرطبي: ((فهذا القسم ليس من قبيل الرقى المحظور الذي يجب اجتنابه، وليس من قبيل الرقى التي هي التجاء إلى الله تعالى وتبارك اسمه، فهو ملحق بما يجوز فعله، غير أن تركه أولى، وربما تضمن تعظيماً للأنبياء المرقي بها، فينبغي أن يجتنب كما قيل في الحلف بغير الله))، ومثل ذلك يكون قادحاً في التوكل، ولعله المراد بحال السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ووصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم ((لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)).
996- قلت: ومن العلماء من حمل حال هؤلاء السبعين ألفاً على ترك الرقى بالكلية، سواء كان من القسم الثاني أو الثالث، وهي درجة الخواص المعوضين عن الأسباب بالكلية، واقفين مع المسبب، لا ينظرون سواه، فكمل توكلهم وتفويضهم من كل الوجوه، ولم يكن لهم اختيار لأنفسهم أصلاً حتى يسترقوا أو يتداووا.(1/589)
997- ولا يرد على هذا كون النبي صلى الله عليه وسلم استعمل الرقى والتعويذات الكثيرة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل، فلم تنقص هذه شيئاً من توكله البتة، وهذا أولى ما يحمل عليه حديث السبعين ألفاً، وفيه وجوه أخر يطول ذكرها، وبالله التوفيق.
998- أخبرنا الإمام الصالح أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن عبد الله ابن الشيخ أبي عمر المقدسي سماعاً عليه غير مرة في خلق كثير قالوا: أنا أبو العباس أحمد بن عبد الدائم، أنا يحيى بن محمود الثقفي (ح).
999- وأخبرنا سليمان بن حمزة، أنا محمد بن عبد الواحد الحافظ، أنا محمد بن أحمد بن نصر الصيدلاني قالا: أنا الحسن بن أحمد المقرئ حضوراً، أنا أحمد بن عبد الله الحافظ، ثنا عبد الله بن جعفر بن فارس، ثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات، أنا محمد بن عبد الله الرقاشي، ثنا يزيد بن زريع، عن محمد ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: ((رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإنه ليدعو بالإناء فيه الماء، فيعطيه معيقيباً -يعني الدوسي رضي الله عنه-، وكان رجلاً قد أسرع فيه ذلك الوجع -يعني الجذام-، فيشرب منه ثم يتناوله عمر رضي الله من يده، فيتيمم بفيه موضع فيه حتى يشرب منه، يعرف أنه إنما يصنع ذلك عمر رضي الله عنه فراراً من أن يدخل على نفسه شيء من العدوى. قال: وكان يطلب له المطببين كل من سمع منه بطبٍ حتى قدم عليه رجلان من أهل اليمن فقال: هل عندكما من طب لهذا الرجل الصالح؟ فإن هذا الوجع قد أسرع فيه؟ فقالا: أما شيءٌ يذهبه فلا نقدر عليه، ولكنا نداويه بدواء يقفه فلا يزيد، فقال عمر رضي الله عنه: عافية عظيمة إن كان يقف فلا يزيد. فقالا: هل نبتت أرضك هذه الحنظل؟ قال: نعم، قالا: فاجمع(1/590)
لنا، قال: فأمر عمر رضي الله عنه فجمع له منه مكتلين عظيمين، قال: فعمدا إلى كل حنظلة فقطعاها باثنتين ثم أضجعا معيقيباً، فأخذا كل واحد منها بإحدى قدميه ثم جعلا يدلكان بطون قدميه بالحنظلة حتى إذا انمحقت أخذا أخرى حتى رأينا معيقيباً يتنخمه أخضر مراً، ثم أرسلاه فقالوا لعمر: لا يزيد وجعه هذا أبداً، فوالله ما زال معيقيبٌ منها متماسكاً ما يزيد وجعه حتى مات رضي الله عنه)).
1000- أنشدنا الشيخ الصالح أبو الطاهر ابن أبي الطاهر المرداوي بقراءتي عليه بالمسجد الأقصى سنة سبع عشرة قال: أنشدنا العلامة أبو زكريا يحيى بن يوسف الصرصري رحمه الله فيما كتب لي بالإذن في روايته عنه لنفسه:
أغراه بنجدٍ لومه ... فبدا ما كان يكتمه
لو لاقى البعد معنفه ... ما لاقى أصبح يرحمه
أنى بلحى صبٍ قلق ... مشغوف القلب متيممه
إن آنس من نعمان سنا ... برقٍ بكاه تبسمه
وإذا ما لاح على فننٍ ... شادٍ أصباه ترنمه
وفصيح الحب إذ أعلنت ... بلواه شجاه أعجمه
لو لم يك وجدٌ أبأسه ... ما ارتاح لما لا يفهمه
هذا كلف بالنار وذا ... ببدور البان ترنمه
بهوى علمي سعد فإذا ... بعد لأي زاد تألمه(1/591)
إن المغرى بهمومي طللٌ ... لقتيلٍ مطلولٌ دمه
1001- ومنها:
يا صاح إذا ما جئت إلى ... نعمان وضمك موسمه
وبلغت القصد بخيف منى ... وأرتك البشرى أنعمه
وتجلت بالبطحاء ضحىً ... أقمار السعد وأنجمه
اركب أعمالك في حرم ... رضى الأملاك تعظمه
بلغ دنيا .. .. كلفي ... فلها عهدٌ لا أخرمه
وإذا أزمعت السير إلى ... حرم مستهود معلمه
فاحبس بالسفح العيس ترح ... منها ما أعيا منسمه
واحلل بحمى رحب عطر ... أنوار القدس مخيمه
تضحى زمر الأملاك به ... فوجاً فوجاً تتيممه
واذكر أشواق أخي شغف ... أعباء الفرقة تؤلمه
لم لا أرتاح إلى وطنٍ ... ورسول الله مقدمه
فتاح الخير وخاتمه ... وزعيم الدين وقيمه
هو مختار الرحمن به ... معوج الدين يقومه
هو أحمد هادي الناس إلى ... شرع محمود ميسمه
سهلٌ سمحٌ برٌ رؤوفٌ ... قد أفلح عبدٌ يخدمه
لا يقهره لا يزجره ... لا ينهره لا يشتمه
وإذا جاء البادي ملتمساً ... علماً في الدين يعلمه(1/592)
لا يكتمه ما يعلمه ... لا يسأمه بل يفهمه
وإذا ما أقبل سائله ... أولاه بشراً مبسمه
لا يجبهه لا يعضهه ... لا يكرهه لا يحرمه
وإذا لاذ المرغوب به ... من خصمٍ عاد يهضمه
لا يهمله لا يغفله ... لا يخذله لا يسلمه
يا من يبغي لمناقبه ... حصراً في شعرٍ ينظمه
إن القرآن لمعجزةٌ ... متشابهه أو محكمه
1002- ومنها:
يا من ينجي بشفاعته ... منا من أوبق ماتمه
سل ذا العرش العون على ... رمي من قد أصمت أسهمه
والرحمة في موتي وإذا ... بليت من جسمي أعظمه
لا زال يوافي نحوكم ... من تسليم إلهك أدومه
وأفاض الله النور على ... من جلى الكربة مخدمه
من آلك والأصحاب فهم ... أفلاك الدين وأنجمه
الحديث الثلاثون: عن أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها
1003- أخبرنا الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن أبي بكر محمد بن إبراهيم المقدسي الصالحي بقراءتي عليه قال: أنا الإمام أبو علي الحسن بن محمد بن محمد [بن محمد] البكري سماعاً عليه، أخبرتنا(1/593)
زينب بنت عبد الرحمن بن الحسن الشعري، أنا إسماعيل ابن أبي القاسم ابن أبي بكر القارئ، أنا أبو الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي، أنا بشر بن أحمد الإسفراييني، ثنا داود بن الحسين البيهقي، ثنا يحيى بن يحيى، أنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة رضي الله عنها: أن فأرة وقعت في سمنٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فماتت، فسئل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألقوها وما حولها وكلوه)).
1004- وأخبرناه أعلا من هذه الطريق بدرجة أبو الربيع بن قدامة الحنبلي بقراءتي (عليه)، أنا علي بن أبي عبد الله النجار حضوراً، أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، أنا طراد بن محمد الزينبي، أنا محمد بن أحمد ابن رزق، أنا محمد بن يحيى بن عمر، ثنا علي بن حرب، ثنا سفيان بن عينة، عن الزهري بمثله، ولم يقل: فماتت.
1005- هذا حديث صحيح، انفرد به البخاري دون مسلم، فرواه عن عبد الله بن الزبير الحميدي، وأخرجه أبو داود عن مسدد بن مسرهد، والترمذي عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي وأبي عمار الحسين بن حريث، والنسائي عن قتيبة بن سعيد، خمستهم عن سفيان بن عيينة به.
1006- فوقع لنا بدلاً لهم عالياً في الرواية الثانية، وأخرجه البخاري(1/594)
أيضاً عن علي بن المديني عن معن بن عيسى عن مالك عن الزهري به، فوقع لنا عالياً عن هذه الطريق بدرجتين.
ورواه أبو داود أيضاً عن أحمد بن صالح عن عبد الرزاق عن عبد الرحمن بن بوذويه عن معمر عن الزهري به، فوقع لنا عالياً عن هذه الطريق بأربع درجات.
1007- ولمعمر فيه طريق أخرى ستأتي الإشارة إليها إن شاء الله تعالى.
1008- وأخرجه النسائي أيضاً عن زكريا بن يحيى السجزي عن أحمد ابن حفص النيسابوري عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن مالك عن الزهري به، فوقع لنا (عالياً) في الرواية الثانية أيضاً عالياً عن هذه الطريق جداً، كأن شيخي سمعه من صاحب النسائي.
1009- ميمونة رضي الله عنها هي أم المؤمنين ميمونة أخت أم الفضل لبابة الكبرى ولبابة الصغرى وهزيلة وعزة، خمستهن بنات الحارث أخي صفية أم أبي سفيان بن حرب، كلاهما الحارث وصفية ابنا حزن بن بجير -بضم الباء الموحدة وفتح الجيم- بن الهزم -بضم الهاء وفتح الزاي- ابن رؤيبة بن عبد الله ابن هلال أخي ربيعة ونميرة وسواءة بني عامر بن صعصعة الهلالية. ولهؤلاء الأخوات الخمس ثلاث أخوات أخر لأمهن وهن: أسماء، وسلمى، وسلامة بنات عميس الخثعميات، وأمهن جميعاً هند بنت عوف الكنانية وهي التي يقال فيها: أكرم الناس أصهاراً، لأن ميمونة هذه أم المؤمنين زوج سيد البشر رسول الله صلى الله عليه وسلم،(1/595)
ولبابة الكبرى زوج العباس بن عبد المطلب أم بنية، ولبابة الصغرى أم خالد بن الوليد، وأسماء بنت عميس تزوجت جعفر بن أبي طالب فولدت له بنية، ثم تزوجت بعده أبا بكر الصديق فولدت له محمداً، ثم تزوجت بعده علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فولدت له يحيى، وأختها سلمى بنت عميس تزوجت حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فولدت منه أمامة، ثم خلف عليها شداد بن الهاد، فولدت له عبد الله، وعبد الرحمن، وعزة بنت الحارث أخت ميمونة هي أم برزة أم يزيد بن الأصم أحد الرواة عن ميمونة رضي الله عنها.
1010- وقد روى عنها [أيضاً] ابنا أختيها الأخرتين: عبد الله بن عباس وعبد الله بن شداد، ومولياها: عطاء وسليمان ابنا يسار، وإبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس، وكريب، وآخرون.
1011- وروي لها عن النبي صلى الله عليه وسلم ستة وسبعون حديثاً، اتفقا منها على سبعة أحاديث، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة أحاديث.
1012- وتزوج بها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة سبع، عقيب عمرة القضاء، زوجه إياها العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فكان يلي أمرها، وبنى بها بسرف بعد قفوله من مكة، وبهذا الموضع كانت وفاتها، وذلك على عشرة أميال من مكة،(1/596)
وقيل: أقل من ذلك، وقيل: أكثر، وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند مسعود بن عمرو الثقفي، ففارقها فتزوجت أبا رهم بن عبد العزى العامري، فتوفي عنها، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: بل كانت قبله صلى الله عليه وسلم عند حويطب بن عبد العزى، وكان اسمها برة فسماها النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة.
1013- وقالت عائشة رضي الله عنها، وذكرت ميمونة: ((كانت من أتقانا لله، وأوصلنا للرحم)).
1014- وقد اختلف في سنة وفاتها اختلافاً متبايناً، فقال الواقدي: توفيت سنة إحدى وستين عن ثمانين سنة، وهي آخر أمهات المؤمنين وفاةً رضي الله عنهن، وقيل: سنة ثلاث وستين، وقيل: سنة ست وستين، وذلك بعيد جداً، وقال خليفة بن خياط وغيره: ((ماتت سنة إحدى وخمسين))، وهذا هو الذي رجحه الحافظ ابن عساكر، فينبغي أن يقدم إلى ما قبل، والله أعلم.
فصل
1015- روى معمر لهذا الحديث سنداً آخر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وقعت الفأرة في السمن، فإن كان جامداً فألقوها وما حولها وإن كان مائعاً فلا تقربوه)).(1/597)
1016- هكذا رواه أبو داود في ((سننه)) عن أحمد بن صالح والحسن بن علي، عن عبد الرزاق قال الحسن: قال عبد الرزاق: وربما حدث به معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن [ابن عباس عن] ميمونة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
1017- ورواه إسماعيل بن إسحاق القاضي، عن محمد بن عبد الملك بن زنجويه، عن عبد الرزاق بسند أبي هريرة المذكور ولفظه، وفي آخره: قال عبد الرزاق: أخبرني عبد الرحمن بن عمر، أن معمراً كان يرويه أيضاً عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة.
1018- (قلت: طريق ميمونة رضي الله عنها إنما رواها معمر بالمتن الذي سقناه أولاً عن طريق سفيان، ليس فيه تفصيل بين الجامد والمائع)، وقد رواه عبد الواحد بن زياد عن معمر عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فأرة وقعت في سمنٍ؟ فقال: ((إن كان جامداً أخذت وما حولها فألقيت، وإن كان ذائباً أو مائعاً لم يؤكل)).
فأخذ بهذا التفصيل جمهور العلماء، بل عامتهم إلا شذوذاً منهم، كداود الظاهري ومن وافقه، والقول بالحديث على هذا التفصيل مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما، رواه أبو عبيد القاسم بن سلام عن هشيم عن معمر بن أبان، عن راشد مولى قريش، عن ابن عمر: أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن؟(1/598)
فقال: إن كان مائعاً فألقه كله، وإن كان جامساً فألق الفأرة وما حولها، وكل)).
1019- قال أبو عبيد: ((جامساً يعني: جامداً))، وبهذا التفصيل قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم، وأحمد في ذلك أشد؛ فإنه لم يجز الاستصباح به كما سنذكره عنه إن شاء الله تعالى.
1020- وقد خالفه بعض أتباعه المتأخرين، فقال بقول داود في أن المائع لا ينجس كله بموت الفأرة فيه، بل تلقى وما حولها، أخذاً بإطلاق حديث ميمونة، واسترواحاً إلى ما قيل في حديث معمر الذي جاء فيه بالتفصيل من طريق أبي هريرة.
1021- فإن الترمذي لما رواه في ((جامعه)) قال في عقيبه: ((هذا حديث غير محفوظ، وسمعت البخاري يقول: هو خطأ، والصحيح حديث ابن عباس عن ميمونة)).
1022- وكذلك حكى ابن أبي حاتم في كتاب ((العلل)) عن أبيه وأبي زرعة أنهما قالا: ((الصحيح حديث ميمونة، قال أبو حاتم: وحديث معمر وهم))، وذكر غيرهم أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة لما حدث من حفظه، وفي هذا كله نظر من وجوه:
1023- أحدها: أن معمراً حدث به هكذا بغير البصرة، بدليل رواية عبد الرزاق له عنه.
1024- وثانيها: أن معمراً لو انفرد بحديث أبي هريرة أمكن أن يحمل(1/599)
الوهم عليه لمخالفته بقية أصحابه، ولكنه روى معه حديث ميمونة بالسند الآخر (والمتن المطلق) كما تقدم من رواية أبي داود له من حديث عبد الرزاق عن عبد الرحمن بن بوذويه عن معمر، فدل على أنه حفظ الحديثين جميعاً.
1025- وثالثها: أنه لو لم يرو إلا حديث أبي هريرة لكان محتجاً به، وإن خالف فيه بقية أصحاب الزهري؛ لأن معمراً من متقدمي أصحابه، قال يحيى بن معين: ((أثبت الناس في الزهري مالك ومعمر، ثم عقيل ويونس))، وقال عثمان ابن سعيد الدارمي: ((سألت يحيى بن معين: ابن عيينة أحب إليك في الزهري أو معمر؟ قال: معمر))، وقال عبد الرزاق عن ابن المبارك: ((ما رأيت أحداً أروى للزهري من معمر)).
1026- وقال حنبل بن إسحاق: ((سمعت أبا عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل- يقول: ما أحد أعلم بحديثه -يعني الزهري- من معمر؛ إلا ما كان من يونس، فإنه كتب كل شيء هناك)).
1027- وقال حرب بن إسماعيل: ((قلت لأحمد بن حنبل: مالكٌ أحسن حديثاً عن الزهري أو ابن عيينة؟ فقدم مالكاً، قلت: فمعمر؟ فقدم مالكاً عليه، قال: إلا أن معمراً أكثر حديثاً عن الزهري)).(1/600)
1028- فهذه الأقوال كلها تفيد أن ما رواه عن الزهري يكون محتجاً به، وإن لم يروه غيره، وقد روى [أبو داود] هذا الحديث في ((سننه)) وسكت عنه، وقد ذكر في ((رسالته)): أن ما سكت عنه فهو حجة عنده، وأشار ابن عبد البر إلى أن الإمام أحمد احتج بحديث معمر هذا، وذلك يفيد كونه حجة عنده، وغاية الأمر أن يكون تفرد به معمر، فيحتج به لأنه ممن يقبل تفرده، كما [في] تفرد مالك وابن عيينة وغيرهما من نظرائه.
1029- وإذا تقرر أنه حجة فيحمل إطلاق حديث ميمونة على التقييد الذي رواه؛ عملاً بالقاعدة المستقرة من حمل المطلق على المقيد، مع تأيد ذلك بقاعدة المتنجسات كلها مما مات فيه شيء تنجس به.
1030- قال ابن عبد البر: ((أما السمن المائع والزيت المائع والخل والعسل وسائر المائعات، فقال جمهور العلماء وجماعة أئمة الفتوى بالأمصار: لا يؤكل شيء من ذلك كله إذا مات فيه شيء من الحيوان الذي له دم سائل، وشذت طائفة عن الجماعة منهم داود فقالوا: لا يؤكل الجامد المتصل بالفأرة من السمن، ويؤكل غير ذلك من مائع وجامد إذا لم تظهر فيه النجاسة ولم يتغير، (قال): ومن أهل البدع أيضاً من أجاز أكل الجامد وغير الجامد إذا وقعت فيه الفأرة)): انتهى كلامه.
1031- والذي حكى الخطابي عن داود اختصاص إلقاء ما حول الفأرة بالسمن دون الزيت وغيره من المائعات، جرياً على القاعدة المألوفة منه في الجمود وعدم الإلحاق.(1/601)
1032- ثم اختلف القائلون بنجاسته في أمور منها: جواز الاستصباح به، وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عمر رضي الله عنهما، وهو قول مالك وأبي حنيفة وسفيان الثوري، وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وقد روي فيه حديث مرفوع لكنه ضعيف، والصحيح أنه من قول ابن عمر.
1033- وقال أحمد بن حنبل: لا يجوز الاستصباح به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث معمر: ((وإن كان مائعاً فلا تقربوه))، ولحديث عبد الله بن عكيم: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب .. .. )) الحديث.(1/602)
1034- ومنها تطهير ما يمكن غسله بالغسل، فالمشهور من مذهب الشافعي أنه لا يطهر بالغسل، وهو مذهب مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة والليث بن سعد: يطهر الزيت ونحوه بالغسل إذا تنجس، وهو وجه في مذهب الشافعي قاله ابن سريج وأبو إسحاق المروزي، واختاره الروياني، وكان الشيخ تاج الدين الفزاري يفتي به، وكذلك ولده شيخنا العلامة الرباني برهان الدين تغمده الله برحمته.
1035- ومنها جواز بيعه قبل الغسل، ومنع منه الجمهور، وأجازه أبو حنيفة وأصحابه، وقد روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: ((لا تأكلوه وبيعوه، وبينوا لمن تبيعونه منه ولا تبيعوه من المسلمين)).
1036- وحجة الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم [في الحديث]: ((لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، وإن الله إذا حرم على قومٍ أكل شيءٍ حرم عليهم ثمنه))، والله أعلم.
1037- أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن أحمد بن موسى الصالحي في جماعة آخرين قراءةً عليهم وأنا أسمع قالوا: أنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل المقدسي، أنا أبو الفرج يحيى بن محمود الثقفي، أنا أبو علي الحسن بن أحمد المقرئ حضوراً، أنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ، ثنا(1/603)
أبو علي محمد بن أحمد الصواف، ثنا هارون بن يوسف البزار، ثنا الزبير بن بكار قال: ((كتب إلي أبي من خراسان: يا بني عليك بالعلم، فهو والله خير لك من ميراثك من أبيك، قال: فحدثت به عمي مصعب بن عبد الله فقال: صدق والله أبوك ونصحك، قال: يا بني عليك بالعلم؛ فإنك إن استغنيت عنه كان جمالاً، وإن احتجت إليه كان مالاً)).
1038- وبه إلى أبي نعيم الحافظ قال: (([سمعت أبا الحسين محمد بن المظفر يقول:] سمعت أبا الحسين بن قانع يقول: سمعت إسماعيل بن الفضل ابن طاهر البلخي يقول: رأيت سليمان الشاذكوني في النوم، فقلت: ما فعل الله بك يا أبا أيوب؟ قال: غفر لي، قلت: بماذا؟ قال: كنت في طريق أصبهان أمر إليها فأخذتني مطرة، وكانت معي كتب، ولم أكن تحت سقف ولا شيء، فانكببت على كتبي حتى أصبحت، وهدأ المطر، فغفر الله لي بذلك)).
1039- أنشدني العدل أبو العباس أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي عرف بابن غانم لنفسه تجاه الحجرة المعظمة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام سنة عشرين وسبع مائة من لفظه:
يا نفس قد حص المطلوب يهناكي ... وقد تدانى إلى المحبوب بشراك(1/604)
لا تجزعي لفراق الغائبين وإن عزوا ... فلا عز إلا حيث مسراك
إن كان توديعهم ألقى عليك عناءً ... ما بين باكيةٍ للبين أو باك
فإنهم يتمنون المسير إلى حيث ... تمنيت وهم أسرى لمسراك
فخل تذكار من ودعت بائنةً ... عنهم فهذا رسول الله مولاك
تأدبي وقفي بالباب خاضعةً ... لعل ربك أن يمحو خطاياك
وعفري الخد في بطحاء روضته ... فهي الشفاء اللذيذ الطيب الزاكي!
1040- فذكر بقيتها، وهذا ما علق بحفظي منها ليلتئذ ولم أكتبها.
الحديث الحادي والثلاثون: عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه
1041- أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الوهاب بن عمر بن عبد المنعم بن أمين الدولة الحلبي الصوفي بقراءتي عليه بمدينة حلب قال: أخبرتنا حبيبة بنت حمد بن نصر ابن العرب قراءةً عليها وأنا أسمع قالت: أنبأنا أبو العباس أحمد بن أبي منصور بن محمد الصوفي من أصبهان، أنا أبو مطيع محمد ابن عبد الواحد، ثنا أحمد بن موسى الحافظ -يعني ابن مردويه-، ثنا عبد الله ابن إسحاق بن إبراهيم، ثنا عبيد بن محمد بن يحيى الجوهري، ثنا بكر بن يحيى بن زبان، ثنا يعقوب بن مجاهد، عن أبي الطفيل قال: ((أتيت حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه فقلت: لقد سمعت اليوم عجباً، قال: وما هو؟ قال: سمعت ابن أم عبد يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، فأنكرت ذلك، فقال: وما تنكر من ذلك؟ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(1/605)
((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه خمسةً وأربعين يوماً ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةٌ مثل ذلك، ثم يبعث الله عز وجل [إليك] ملكاً فيقول: اكتب أجله ورزقه وعمله وشقياً أو سعيداً، ثم يختم ذلك الكتاب، فلا يزاد فيه ولا ينقص منه شيءٌ إلى يوم القيامة)).
1042- يعقوب بن مجاهد هو أبو حزرة -بفتح الحاء المهملة ثم الزاي ساكنة ثم راء مفتوحة-، القاص المدني، احتج به مسلمٌ في ((صحيحه))، والراوي عنه لم أعرفه.
1043- وقد أخبرنا بالحديث [من وجه] أصح من هذا أبو الفضل سليمان بن حمزة الحنبلي (الحاكم)، وأبو محمد القاسم بن مظفر الدمشقي بقراءتي عليه وسماعاً على الأول كلاهما، عن أبي الوفاء محمود بن إبراهيم العبدي، أنا محمد ابن أحمد بن عمر المقدر، أنا أبو عمرو عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق العبدي، أنا أبي الحافظ أبو عبد الله بن منده، أنا أحمد -يعني ابن إسماعيل العسكري- ثنا يونس -هو ابن عبد الأعلى-، ثنا سفيان -يعني: ابن عيينة- عن عمرو بن دينار، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدخل الملك على النطفة بعدما استقرت في الرحم أربعين ليلة فيقول: يا رب! ماذا أشقيٌ أم سعيدٌ؟ فيقول الله عز وجل ويكتبان، فيقول: أي رب! أذكر أم أنثى؟ فيقول الله عز وجل ويكتبان، فيكتبان رزقه وعمله وأثره ومصيبته، ثم تطوى الصحف، فلا يزاد على ما فيها ولا ينقص)).
1044- هذا حديث صحيح انفرد به مسلم دون الباقين،(1/606)
فرواه عن أبي خيثمة زهير بن حرب وابن نمير، كلاهما عن سفيان بن عيينة (به)، فوقع لنا في هذه الرواية الثانية بدلاً له عالياً.
1045- وأخرجه أيضاً من حديث أبي الزبير المكي، وعكرمة بن خالد، وكلثوم بن جبر عن أبي الطفيل من طرق.
1046- [و] منها ما رواه عن محمد بن أبي خلف، عن يحيى بن أبي بكير، عن زهير بن معاوية، عن عبد الله بن عطاء، عن عكرمة بن خالد، عن أبي الطفيل به، فوقع لنا عالياً عنه بأربع درجاتٍ، بحمد الله ومنه.
1047- حذيفة (هذا) رضي الله عنه هو أبو سريحة -بفتح السين المهملة وكسر الراء وإسكان الياء آخر الحروف ثم حاء مهملة- حذيفة بن أسيد -بفتح الهمزة وكسر المهملة- ويقال: ابن أمية بن أسيد بن الأغوس، وقيل: اسمه عمار ابن واقعة بن حرام بن غفار بن مليل -بلامين على وزان التصغير- ابن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة الغفاري، ممن دعا النبي صلى الله عليه وسلم لقبيلته، فقال: ((غفار غفر الله لها))، شهد بيعة الرضوان، وكان من أصحاب الصفة.
1048- روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر حديثاً، انفرد مسلم منها بحديثين هذا أحدهما، والآخر: [حديث] ((لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر(1/607)
آيات))، وله في ((السنن)) أحاديث يسيرة.
1049- وروى أيضاً عن أبي بكرٍ الصديق وأبي ذر الغفاري رضي الله عنهما، روى عنه أبو الطفيل عامر بن واثلة آخر من رأى النبي صلى الله عليه وسلم من الناس، وعامر الشعبي والربيع بن عميلة، وآخرون.
1050- وشهد فتح دمشق، ثم نزل الكوفة، ومات بها سنة نيف وستين، قال أبو نعيم: توفي حذيفة بن أسيد وصلى عليه زيد بن أرقم، فكبر عليه أربعاً، رضي الله عنهما.
فصل
1051- اختلفت ألفاظ [حديث] حذيفة بن أسيد هذا في ((صحيح مسلم))، فوقع في رواية ابن عيينة نحو ما قدمناه عنه: ((يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين [ليلة]، فيقول: يا رب! أشقيٌ أو سعيد .. .. )) إلى آخره، وفي رواية أبي الزبير، عن أبي الطفيل: ((إذا مر بالنطفة ثلاثٌ وأربعون ليلةً بعث الله إليها ملكاً، فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ .. .. )) إلى آخره، وفي رواية عكرمة بن خالد، عن أبي الطفيل: ((أن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلةً، ثم(1/608)
يتسور عليها الملك فيقول: يا رب أذكرٌ أم أنثى؟ فيجعله الله ذكراً أو أنثى، ثم يقول: يا رب! أسويٌ؟ أو غير سويٍ؟ فيجعله الله سوياً أو غير سويٍ، ثم يقول: يا رب! ما رزقه؟ ما أجله؟ .. .. )) إلى آخر الحديث. وفي رواية كلثوم عن أبي الطفيل: ((إن ملكاً موكلاً بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئاً بإذن الله لبضع وأربعين ليلة قال: .. .. )) ثم ذكر نحو حديثهم.
1052- ووقع في الرواية التي سقناها أولاً -وليست في ((كتاب مسلم))- مخالفة لهذه الروايات كلها، وهو أن كتب الأجل والرزق والسعادة والشقاء يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وكذلك ثبت في حديث ابن مسعود المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن خلق أحدك يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)).
1053- فمن العلماء من حمل حديث حذيفة بن أسيد على ظاهره، وأن كتب الملك لهذه الأربعة عقيب الأربعين الأولى، وتأول حديث ابن مسعود على أن قوله: ((ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك)) جملة معترضة، وأن قوله: ((ثم يرسل إليه الملك)) معطوف على قوله: ((يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً))، وهذا اختيار النواوي، وفيه نظر لما سيأتي.
1054- ومنهم من تأول حديث حذيفة بن أسيد ورده إلى حديث ابن(1/609)
مسعود، وهذا هو الظاهر؛ بدليل أنه جمع بين كتب هذه الأشياء ونفخ الروح في وقتٍ واحدٍ، ولا خلاف في أن نفخ الروح إنما يكون بعد أربعة أشهر، فعلى هذا قيل: وقع في روايات ((صحيح مسلم)) لحديث حذيفة بن أسيد اختصار [من الرواة]، وذلك مبين بكماله في رواية يعقوب بن مجاهد التي سقناها أولاً، فإنها موافقة لحديث ابن مسعود.
1055- وقال القرطبي في رواية سفيان بن عيينة: ((إن النطفة إذا استقرت في الرحم)) المعنى لهذا الاستقرار صيرورة النطفة علقةٌ ومضغةٌ، لأن النطفة قبل ذلك غير مجتمعة ولا مستقرة، بدليل ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه: ((إن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشراً طارت في بدن المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم يمكث أربعين ليلة، ثم يصير دماً في الرحم))، فذلك جمعها، وهذا هو وقت كونها علقة. والعلق: الدم، فإذا اجتمعت وصارت علقةً أو مضغةً فقد استقرت.
1056- وهذا أيضاً تأويل لا بأس به ويكون سمى النطفة باسم ما كانت عليه، وقد روى مسلم عن أنس رفع الحديث: ((إن الله [تعالى] قد وكل بالرحم ملكاً فيقول: أي رب نطفة؟ أي رب علقة؟ أي رب مضغة؟ فإذا أراد الله أن يقضي خلقاً، قال الملك: أي رب ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه)). وأخرجه البخاري أيضاً بنحوه.
1057- ففي هذا بيان أن للملك على ما يستقر في الرحم اطلاعات في أوقات متعددة، ويحصل من مجموع ذلك أن التصوير ونفخ الروح إنما يكون بعد تمام أربعة أشهر، وما ورد قبل ذلك فمتأول، والمراد بكتابة ما يقدره الله من(1/610)
الأجل والرزق وغيرهما إظهار ذلك للملك وأمره بكتابته، وإلا فقضاء الله وقدره أزلي سابق على كل شيء، كإحاطة علمه بجميع المعلومات.
1058- وفي هذا الحديث وما أشبهه مباحث طويلة لا يحتملها هذا الموضع، وقد بسطتها في ((الأربعين الكبرى))، والمقصود أن هذه الأحاديث دالة على أن جميع الأشياء (واقعة) بقضاء الله وقدره وما سبق به العلم الأزلي والقضاء الإلهي الذي لا يقبل التغيير ولا التبديل، وعلى ذلك دلت الأدلة القاطعة من آيات الكتاب والبراهين العقلية، والقدرية مخالفون لذلك إضلالاً من الله لهم.
1059- وقد قال الإمام الشافعي: ((القدرية إذا سلموا العلم خصموا))، ومعنى ذلك أن يقال لهم: هل تقرون بأن الله أحاط علمه الأزلي بما يكون أو لا؟ فإن أنكروا بذلك كفروا بالله، وعوملوا معاملة الكافرين، وإن اعترفوا به، فيقال لهم: فهل يجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم القديم؟ فإن جوزوا ذلك لزم منه نسبة الجهل إلى الله تعالى وتقدس عن ذلك، وإن لم يجوزه فلا معنى للقضاء والقدر إلا ذلك، ثبتنا الله على الكتاب والسنة، وأعاذنا من [الأهواء و] الفتن بحوله وقوته.
1060- أخبرتنا الشيخة الصالحة أم محمد هدية بنت علي بن عسكر البغدادي بقراءتي عليها قالت: أنا أبو الفضل جعفر بن علي بن هبة الله المقرئ سماعاً عليه قال: أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي، أنا أبو عبد الله القاسم بن الفضل الثقفي، أنا أبو عبد الله الحسين بن الحسن الغضائري، ثنا أحمد -يعني ابن سلمان النجاد-، ثنا أحمد بن علي بن(1/611)
المثنى، ثنا سويد -يعني ابن سعيد-، حدثني شهاب بن خراش أبو الصلت، عن خالد الحذاء، عن عبد الأعلى، عن عبد الله بن الحارث قال: ((خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجابية، فحمد الله وأثنى عليه وقال: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وعنده الجاثليق فقبض ثوبه مراراً، فقال عمر رضي الله عنه: ما يقول؟ قالوا: يزعم أن الله لا يضل أحداً، فقال له عمر رضي الله عنه: كذبت، [يا عدو الله]، بل الله خلقك، ثم أضلك، ثم يدخلك النار -إن شاء الله-، ولولا أن لك عهداً لضربت عنقك، ثم قال عمر رضي الله عنه: لما خلق الله الخلق، خلق أهل الجنة وما هم عاملون، وخلق أهل النار وما هم عاملون، وقال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه كلٌ بقدر، قال: فافترق الناس وما يختلفون في القدر)).
1061- وبه إلى سويد بن سعيد قال: ثنا مروان بن معاوية، عن عاصم قال: سمعت الحسن رحمه الله يقول في مرضه الذي مات فيه: ((إن الله عز وجل قدر أجلاً، وقدر معه مرضاً وقدر معافاة، فمن كذب بالقدر فقد كذب بالقرآن، ومن كذب بالقرآن فقد كذب بالحق)).(1/612)
1062- أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين الإربلي قراءة عليه وأنا أسمع قال: أنا قاضي القضاة أبو العباس أحمد بن يحيى ابن سني الدولة وأبو عبد الله الحسين بن إبراهيم الإربلي وآخرون سماعاً عليهم قالوا: [أنا] أبو طاهر بركات بن إبراهيم القرشي، أنا هبة الله بن أحمد بن محمد الأمين، ثنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ قال: أنشدني محمد ابن أبي علي الأصبهاني لبعضهم:
اعمل بعلمك تغنم أيها الرجل ... لا ينفع العلم إن لم يحسن العمل
والعلم زينٌ وتقوى الله زينته ... والمتقون لهم في علمهم شغل
وحجة الله يا ذا العلم بالغةٌ ... لا المكر ينفع فيها ولا الحيل
تعلم العلم واعمل ما استطعت به ... لا يلهينك عنه اللهو والجدل
وعلم الناس واقصد نفعهم أبداً ... إياك إياك أن يعتادك الملل
وعظ أخاك برفقٍ عند زلته ... فالعلم يعطف من يعتاده الزلل
وإن يكن بين قومٍ لا خلاق لهم ... فأمر عليهم بمعروفٍ إذا جهلوا
وإن عصوك فراجعهم بلا ضجرٍ ... واصبر وصابر ولا يحزنك ما فعلوا
فكل شاةٍ برجليها معلقةٌ ... عليك نفسك إن جاروا وإن عدلوا
الحديث الثاني والثلاثون عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما
1063- أخبرنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن موسى بن محمد بن خلف بن بلال بن راجح المقدسي بقراتي عليه غير مرة قال: أنا أبو القاسم يحيى ابن أبي(1/613)
السعود بن أبي القاسم البغدادي سماعاً عليه، أخبرتنا الكاتبة شهدة بنت أحمد ابن الفرج الإبري، أنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن طلحة، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران، أنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا محمد ابن عبد الملك بن مروان، ثنا يزيد بن هارون، أنا ابن عون، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا والله لا أسمع أحداً بعده يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (([إن] الحلال بينٌ والحرام بينٌ، وبين ذلك أمور متشابهات-، وربما قال: مشتبهة-، وسأضرب لكم في ذلك مثلاً: إن الله حمى حمىً، وإن حمى الله ما حرم، وإنه من رعى حول حمى يوشك أن يخالط الحمى-، وربما قال: يوشك أن يرتع - وإنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسر)).
1064- هذا حديث صحيح اتفق الأئمة عليه من عدة طرق من حديث أبي عون عبد الله بن عون البصري وأبي فروة عروة بن الحارث الهمداني وزكريا بن(1/614)
أبي زائدة ومطرف وعبد الرحمن بن [أبي] سعيد وعون بن عبد الله الكوفي ومجالد بن سعيد، سبعتهم عن عامر الشعبي، عن النعمان رضي الله عنه.
1065- فأما طريق ابن عون التي رويناها فأخرجها البخاري عن محمد ابن المثنى، عن محمد بن أبي عدي، وأبو داود عن أحمد بن يونس، عن أبي شهاب، واسمه عبد ربه بن نافع الحناط، والنسائي عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد بن الحارث وعن حميد بن مسعدة عن يزيد بن زريع، أربعتهم عن ابن عون به، فوقع لنا عالياً عنهم.
1066- وطريق زكريا ابن أبي زائدة رواها مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، والترمذي عن هناد بن السري، كلاهما عن وكيع، وأبو داود عن إبراهيم بن موسى الرازي عن عيسى بن يونس، وابن ماجه عن عمرو بن رافع عن عبد الله بن المبارك، ثلاثتهم عن ابن أبي زائدة به، فوقع لنا عالياً عنهم كذلك.
1067- وقد أخرجه مسلم أيضاً عن عبد الملك بن شعيب بن الليث ابن سعد عن أبيه عن جده عن خالد بن يزيد [عن] [سعيد] بن أبي هلال عن عون بن عبد الله الكوفي عن الشعبي به.
1068- فكأن شيخي سمعه من صاحب مسلم بالنسبة إلى هذه الطريق.(1/615)
1069- وهذا الحديث أحد الأحاديث الأربعة التي يدور عليها الإسلام.
1070- ووقع في طريق زكريا بن أبي زائدة زيادة في متنه على ما رويناه عن ابن عون، وقد وقع لنا عالياً أيضاً.
1071- أخبرناه الرباني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الطبري بقراءتي عليه بمكة شرفها الله قال: أنا أبو الحسن علي بن هبة الله بن سلامة سماعاً عليه، أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي، أنا أحمد بن عبد الغفار بن أشتة، أنا محمد بن علي بن عمر النقاش، أنا علي بن إبراهيم بن حماد، ثنا إسماعيل بن محمد المزني، ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، ثنا زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحلال بين والحرام بين، وبينهما متشابهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى فيوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمىً، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)).
1072- رواه البخاري عن أبي نعيم به على الموافقة، ورواه مسلم أيضاً عن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه عن زكريا بتمامه.
1073- النعمان رضي الله عنه أبو عبد الله النعمان بن بشير بن سعد بن(1/616)
ثعلبة بن خلاس، قيده بعضهم بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام، وقيده ابن ماكولا بفتح الخاء وتشديد اللام، وقيده الحافظ عبد الغني المقدسي بضم الجيم وتخفيف اللام، ابن زيد مناة بن مالك الأغر أخي النعمان رهط زيد بن أرقم وامرؤ القيس رهط عبد الله بن رواحة وغيره، ثلاثتهم: مالك والنعمان وامرؤ القيس أولاد ثعلبة أخي عدي ابني كعب بن الخزرج الأصغر أخي جشم وزيد، وهما التوأمان، ثلاثتهم أولاد الحارث أخي عمرو وهما الخرطومان، وكعب وعوف وجشم -بضم الجيم وفتح الشين المعجمة أيضاً- خمستهم أولاد الخزرج الأكبر أخي الأوس جماع الأنصار رضي الله عنهم.
1074- وأبوه بشير بن سعد-بفتح الباء- متقدم الإسلام، شهد بدراً وأحداً وسائر المشاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أول من بايع أبا بكر رضي الله عنه من الأنصار، وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، استشهد مع خالد بن الوليد بعين التمر سنة اثنتي عشرة بعد انصرافه من اليمامة.
1075- وأم النعمان عمرة بنت رواحة من الصحابيات أيضاً، وهي أخت عبد الله بن رواحة شاعر النبي صلى الله عليه وسلم أحد أمراء مؤتة الذين استشهدوا بها رضي الله عنهم.
1076- والنعمان أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة. قال الواقدي: ولد على رأس أربعة عشر شهراً من الهجرة.(1/617)
1077- روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة حديث وأربعة عشر حديثاً، منها في ((الصحيحين)) عشرة أحاديث، خمسة متفق عليها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بأربعة.
1078- وروى النعمان أيضا عن خاله عبد الله بن رواحة وعمر وعائشة رضي الله عنهم.
1079- روى عنه ابناه البشير ومحمد ومولاه كاتبه حبيب بن سالم وعروة ابن الزبير وحميد بن عبد الرحمن وأبو قلابة والشعبي وعبيد الله بن عبد الله بن عبسة وسالم بن أبي الجعد وأبو إسحاق السبيعي وسماك بن حرب وخلق غيرهم.
1080- قال يحيى بن معين: ((أهل المدينة يقولون: لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل العراق يصححون سماعه منه، وليس يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في حديث الشعبي: ((الحلال بين))، والباقي يقول: عن.
1081- وقال سماك بن حرب: ((استعمل معاوية النعمان بن بشير على الكوفة، وكان والله من أخطب من سمعت من أهل الدنيا يتكلم)).
1082- وقال أبو مسهر: ولي النعمان قضاء دمشق بعد فضالة بن عبيد رضي الله عنه، قال: ثم كان عاملاً على حمص لابن الزبير، كذا قال: والذي قال غيره: أن يزيد بن معاوية استعمل النعمان على حمص، فلما مات يزيد دعا إلى عبد الله بن الزبير، وقام الضحاك بن قيس أيضاً يدعو إلى ابن الزبير وحارب(1/618)
مروان بن الحكم، فسار إليه النعمان لينصر الضحاك فأتبعه خالد بن خلي في طائفة من أهل حمص فقتلوه رضي الله عنه، وذلك في سنة أربع وستين على الصحيح.
1083- ومن كلامه: ما رواه الهيثم بن مالك الطائي قال: سمعت النعمان ابن بشير يقول على المنبر: ((إن للشيطان مصالي وفخوخاً، وإن من مصالي الشيطان وفخوخه البطر بأنعم الله والفخر بعطاء الله والكبر على عباد الله واتباع الهوى في غير ذات الله)).
1084- وفي الصحابة أيضاً النعمان بن مقرن المزني أبو عمرو ويقال: أبو حكيم، كان حامل راية مزينة يوم فتح مكة، واستشهد في وقعة نهاوند سنة إحدى وعشرين، وكان أمير المسلمين يومئذ، فنعاه عمر رضي الله عنه للناس على المنبر وبكى، رضي الله عنهما.
فصل
1085- تقدم أن هذا الحديث أحد الأربعة التي يدور عليها الإسلام، قال ذلك [الإمام] أبو داود السجستاني وغيره.(1/619)
وفيه تقسيم الأشياء على ثلاثة أقسام:
1086- أحدها: حلال لا يخفى حله، فلا حرج في تعاطيه، وذلك كسائر المطعومات المتفق على حلها إذا دخلت في ملك الشخص بطريقٍ حلال، كبيعٍ صحيحٍ بثمنٍ مملوك، ونحو ذلك، ومثله الكلام والنظر والمشي والجماع المباحات وما أشبهها.
1087- وثانيها: الحرام البين تحريمه بالأدلة الشرعية؛ إما لذاته، كالخمر، والميتة، والخنزير، والبول، والدم المسفوح، ونحوها، وإما لعدم الملك فيه لمناوله مع عدم الضرورة إليه، ويدخل فيه المغصوب والمسروق ونحوهما مما لا شبهة في تحريمه، والمملوك بعقدٍ باطل ونحوه، وكذلك الزنى والكذب والغيبة والنميمة وما أشبهها.
1088- وثالثها: المشتبه (الذي) ليس بواضح الحل ولا الحرمة؛ فلهذا لا يعرفه كثيرٌ من الناس ولا يعلمون حكمه، وأما العلماء فيعلمون حكم ذلك بدخوله تحت عموم نص أو بقياس أو باستصحاب وغير ذلك.
1089- فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن فيه نصٌ ولا إجماعٌ اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا غلب على ظنه لحوقه به صار حلالاً في الظاهر له ولمن يقلده، وقد يكون الورع تركه؛ لكون دليله غير خال عن الاحتمال، فيدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن اتقى الشبهات (فقد) استبرأ لدينه وعرضه))، أي: سلم دينه مما يفسده أو ينقصه، وعرضه مما يشينه ويعيبه، فيسلم من عقاب الله وذمه، ويدخل في زمرة المتقين الفائزين بثواب الله وثنائه، وقد يقوى الاحتمال فتقوى حينئذ الشبهة ويتأكد الورع. وأما ما لم يظهر للمجتهد فيه شيء وهو مشتبه: فهل يؤخذ بحله أو بتحريمه أو يتوقف فيه؟ فيه(1/620)
ثلاثة مذاهب معروفة، والتوقف أقوى في الورع، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)).
1090- ومثارات الشبهة التي هي مقتضية للورع على مراتب كثيرة، ولا بد لكل منها من دليل يدل عليه، ثم ذلك الدليل قد يعارضه دليلٌ آخر، وقد يسلم من المعارض، وتقوى الشبهة، بحسب قوة ذلك وضعفه، فإذا كان أصل الشيء حلالاً وهو مستصحب، ثم وقع الشك في تحريمه، فإن دل عليه دليلٌ فهو مظنه الاجتناب والورع، وإن لم يقم عليه دليلٌ أصلاً فلا يلتفت إلى مجرد التجويز، بل يكون هذا الشك لا أصل له والورع عنه وسوسة.
1091- مثاله: أن يصيد ظبياً أو سمكةً فيتورع عنه؛ لاحتمال أن يكون قد وقع في صيد أحد ثم انفلت (منه)، فهذا وهمٌ مجردٌ ليس من الشبهة في شيء، فإن قامت قرينة تدل عليه، مثل: أن يجد في أنف الظبي أو في أذن السمكة حلقة، فهذا يدل قطعاً على أنه وقع في ملك أحد، ثم إنه ليس يدري كيف خرج من يده؛ فالورع ههنا متوجه.
1092- وقد تكون القرينة أضعف من ذلك، ويستحب الورع أيضاً، كما إذا كان في الظبي أثرٌ يحتمل أن يكون كياً لا يتأتى إلا ممن ملكه، وصار في يده، وأن يكون جرحاً أصابه من غير أن يقع في ملك أحد، والأصل هنا عدم وقوعه في الملك، ولكن الورع [ها] هنا ورع المتقين الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس)).(1/621)
رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه.
1093- ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأدخل بيتي فأجد التمرة ملقاةً على فراشي، فلولا أني أخشى أن تكون من الصدقة، لأكلتها)) متفق عليه؛ فإن الأصل في مثل هذه التمرة أن لا تكون من الصدقة، كيف وأن الصدقة لم تكن تؤكل في بيته صلى الله عليه وسلم، حتى تكون هذه التمرة منها؟ ولكن احتمال أن تكون من الصدقة ليس بعيداً جداً؛ لأن الناس كانوا يجيئون بصدقتهم إلى المسجد وكانت حجره صلى الله عليه وسلم متصلةٌ بالمسجد، فيمكن أن يدخل: إما صبيٌ أو من يعقل بتمرة [منه] إلى بيته صلى الله عليه وسلم، وليس هذا من باب الظبي الذي لا أثر فيه أصلاً.
1094- وأما إذا كان للشيء أصلٌ في التحريم، فالإمساك عنه واجب إلى أن يتبين الحل، فإن لم يقم [عليه] دليلٌ لم يحل تناوله لمجرد الاحتمال، كمن في يده شيء لمورثه، فغاب عنه، فتصرف فيه لاحتمال أن مورثه مات، وانتقل عنه إليه، فإن هذا إقدام على حرامٍ محضٍ، لأنه احتمال لا مستند له، وليس من الشبهة في شيء، وإنما الشبهة ما تعارض فيه اعتقادان، صدرا عن شيئين مقتضيين للاعتقادين، إما من الأدلة المقتضية للتحليل والتحريم، أو من اختلاط الحلال بالحرام مع عسر التمييز، أو لاتصال معصية بالسبب المحلل أو عوضه، إلى غير ذلك من الصور، ومدار الكل على أن الأسلم عند الاشتباه الاجتناب، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه)).
1095- وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام))، فذلك قد(1/622)
يكون بأن يعتاد التساهل ويتمرن عليه ويجسر على شبهةٍ ثم شبهةٍ أغلظ منها، وهكذا حتى يقع في الحرام عمداً، وقد يكون بكثرة تعاطيه الشبهات يصادف الحرام وإن لم يتعمده، وربما أثم بذلك إذا نسب إلى تقصيرٍ في التحفظ، فمن احتاط لنفسه وحاسبها على فعالها لم يقارب الحرام ولا تعلق بشيءٍ يقربه من المعصية، ولا يدخل في شيءٍ من الشبهات إذا عصمه الله تعالى.
1096- ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك مثالاً بقوله: ((ألا وإن لكل ملكٍ حمىً))؛ فإن عادة الملوك من العرب وغيرهم أن يكون لكل منهم موضع يحميه لنفسه يمنع الناس منه، فمن دخله عاقبه، والله سبحانه حماه محارمه التي نهى عنها، كالقتل، والزنى، والسرقة، وأكل المال بالباطل، ونحو ذلك، فمن دخل حمى الله تعالى منتهكاً بارتكابه شيئاً مما حرمه استحق العقوبة، ومن قاربه يوشك أن يقع فيه.
1097- وفي قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى: ((ألا وإن في الجسد مضغة .. .. )) إلى آخره؛ دليلٌ لما قاله أهل السنة أن القلب محل العقل، وعلى ذلك دل القرآن بقوله تعالى: {فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها}، ولا شك [أن] صورة القلب موجودةٌ في جميع الحيوانات، والذي اختص به الإنسان وتميز به عن سائر الحيوان أن هذا العقل الذي منحه الله تعالى الذي به يفهم القلب المفهومات، ويعرف الفرق بين الحلال والحرام، وبين المباح الخالي عن الشبهة والمشتبهات، فإذا وفق الله القلب لأن يعقل عن الله أمره ونهيه وقف عن الشبهات وكف عن الحرام، وكان ذلك سبباً لصلاح الجسد كله.
1098- وفي هذا الحديث من الفوائد الغزيرة، والمباحث الكثيرة ما لا يحتمله هذا الموضع وهي مبسوطة في كتاب أفردته لذلك، وبالله التوفيق.(1/623)
1099- أخبرتنا أم علي فاطمة بنت عبد الله بن عمر بن عوض المقدسي قراءةً عليها وأنا أسمع قالت: أنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل المقدسي، أنا هبة الله ابن علي بن مسعود، أنا علي بن الحسين الفراء، أنا عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل الضراب، أنا أبي، ثنا أحمد بن مروان المالكي، ثنا محمد بن عبد العزيز الدينوري، ثنا أبي، عن وكيع، عن عمرو بن منبه، [عن أوفى بن دلهم]، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ((تعلموا [العلم] تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه يأتي من بعدكم زمانٌ ينكر فيه من الحق تسعة أعشاره، وإنه لا ينجو منه إلا كل نؤومة ميت الداء، أولئك أئمة الهدى، ومصابيح العلم، ليسوا بالعجل المذاييع البذر)).
ثم قال: ((إن الدنيا قد ارتحلت مدبرةً، وإن الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، ألا وإن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطاً، والتراب فراشاً، والماء طيباً، ألا من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن الحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ألا إن لله عباداً كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين، وأهل النار في النار معذبين، شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، وأنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أياماً لعقبى راحة طويلة، أما الليل فصافون أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى ربهم، ربنا ربنا يطلبون فكاك رقابهم، وأما النهار، فعلماءٌ حكماء، بررةٌ أتقياء، كأنهم الذراح، ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى وما بالقوم من مرض، وخولطوا، ولقد خالط القوم أمرٌ عظيمٌ)).(1/624)
1100- أنشدنا العلامة أبو الحسن علي بن داود بن يحيى بن كامل القرشي الحنفي لنفسه من قصيدة قالها في الكعبة المعظمة لما حج سنة عشر وسبع مائة:
ليلة الوصل بالحبيبة أهلا ... بك يا غاية الأماني وسهلا
طال عمر الصدود دونك حتى ... كدت أقضي أسى وأعدم عقلا
وأشاب الفراق رأسي إلى أن ... ظنني الناس في الشبيبة كهلا
أترى هذه الربوع لمي عن ... يقين وهذه مي أم لا
يا ليالي الوصال لا صرم الدهر لنا ... بعد ما وصلناك حبلا
يا جفوني لك الهناء تقضى ... زمن الهجر والجفا وتخلى
فتملى بما تمنيت هذا ... ربع ميٍ وهذه مي تجلى
الحديث الثالث والثلاثون: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما
1101- أخبرنا الشيخ الصالح أبو الهدى أحمد ابن العلامة أبي محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي قراءة عليه وأنا أسمع في آخرين قالوا: أنا أبو العباس أحمد بن أبي بكر الفندقي سماعاً عليه، أنا أبو عبد الله محمد بن علي الحراني، أنا الإمام أبو عبد الله محمد بن الفضل الصاعدي، أنا سعيد بن محمد العدل، أنا زاهر بن أحمد الفقيه، أنا أبو القاسم ابن منيع، ثنا علي بن الجعد، أنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت أبا العباس المكي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الله بن عمرو! إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل، إنك إن فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس، لا صام من صام(1/625)
الأبد، صوم ثلاثة أيامٍ من كل شهر صوم الدهر كله. قلت: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: فصم صوم داود؛ كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى)).
1102- كذا وقع في هذه الرواية بعض اختصارٍ.
1103- وقد أخبرناه بتمامه الإمام أبو عبد الله محمد ابن أبي العز بن مشرف وأم محمد وزيرة بنت عمر بن أسعد سماعاً عليهما، وأبو العباس أحمد ابن أبي طالب الصالحي بقراءتي قالوا: أنا الحسين بن المبارك الربعي، أنا عبد الأول بن عيسى الصوفي، أنا عبد الرحمن بن محمد البوشنجي، أنا عبد الله بن أحمد السرخسي، أنا محمد بن يوسف، ثنا الإمام محمد بن إسماعيل، ثنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار، ولأقومن الليل ما عشت، فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي، قال: فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يوماً وأفطر يومين؛ قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يوماً، وأفطر يوماً، فذلك صيام داود، وهو أفضل الصيام، فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك)).
1104- هذا حديث صحيح، اتفق الأئمة الستة على روايته من عدة طرق من رواية جماعة عن عبد الله بن عمرو، منهم غير من سمينا: مجاهد، وعمرو بن أوس، وسعيد بن ميناء، وأبو المليح بن أسامة الهذلي، وأبو عياض عمرو بن الأسود العنسي وغيرهم.
1105- فأما طريق أبي العباس المكي واسمه السائب بن فروخ الشاعر فرواها البخاري عن عمرو بن علي، عن أبي عاصم النبيل. ومسلم عن(1/626)
محمد بن رافع عن عبد الرزاق، كلاهما عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن أبي العباس به.
1106- ورواها مسلم أيضاً عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة، وعن أبي كريب عن ابن نمير عن مسعر، ورواه الترمذي مختصراً عن هناد عن وكيع، عن مسعر وسفيان الثوري.
1107- وأخرجه النسائي بتمامه عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد بن الحارث عن شعبة، ثلاثتهم عن حبيب بن أبي ثابت به، فوقع لنا عالياً عنهم.
1108- وأما طريق أبي سلمة وسعيد بن المسيب فأخرجها البخاري كما سقناه من طريقه، وأخرجه مسلم عن حرملة بن يحيى، والنسائي عن الربيع ابن سليمان، كلاهما عن ابن وهب عن يونس بن يزيد.
1109- ورواه أبو داود عن الحسن بن علي عن عبد الرزاق عن معمر، كلاهما عن الزهري به، فوقع لنا عالياً عنهم أيضاً في الرواية الثانية، وطرقه يطول الكلام بذكرها، وبالله التوفيق.
1110- عبد الله رضي الله عنه هو أبو محمد، ويقال: أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمرو أخي هشام، وقد أسلم قديماً، كلاهما ابنا العاص بن وائل بن هاشم أخي(1/627)
هشام ومهشم، ثلاثتهم أولاد سعيد-على وزان التصغير- أخي سعد ابني سهم أخي جمح ابني عمرو بن هصيص أخي مرة جد النبي صلى الله عليه وسلم، وعدي رهط عمر بن الخطاب، ثلاثتهم أولاد كعب بن لؤي القرشي السهمي. وأمه ريطة أخت هند والحجاج وقد أسلموا ثلاثتهم، والحارث والعاص صاحب ذي الفقار، وقتلا يوم بدر كافرين، خمستهم أولاد منبه أخي نبيه، وكانا من المطعمين لقريشٍ أيام بدر، كلاهما ابنا الحجاج بن عامر أخي عدي ابني حذيفة -ويقال: حذافة- ابن سعد بن سهم.
1111- أسلم عبد الله قبل أبيه رضي الله عنهما، وكان بينهما في السن إحدى عشرة سنة، وروى الكثير عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وأبي الدرداء ومعاذ بن جبل وأبيه عمرو بن العاص.
1112- والمروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم سبع مائة حديث، اتفقا منها على سبعة عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين حديثاً.
1113- وقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ((ما كان أحد أكثر حديثاً مني عن رسول الله إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب)).(1/628)
1114- وقال شفي بن ماتع، عن عبد الله بن عمرو: ((حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف مثل)).
1115- وإنما قلت الرواية عنه مع كثرة ما حمل؛ لأنه كان يقيم بالطائف كثيراً، وسكن مصر مدةً، والواردون إليها قليل، بخلاف أبي هريرة رضي الله عنه، فإنه استوطن المدينة، وهي مقصد الناس من كل جهة.
1116- وممن روى عن عبد الله بن عمرو: أنس بن مالك، وعبد الله بن بريدة رضي الله عنهما، وسعيد بن المسيب، وأبو سلمة وحميد ابنا عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، ومسروق، وطاوس، وسالم بن أبي الجعد، والشعبي، وعطاء بن يسار، وجبير بن نفير، وابن ابنه شعيب بن محمد بن عبد الله والد عمرو بن شعيب، وأبو الخير اليزني، ووهب بن منبه، وخلائق آخرون.
1117- وكان رجلاً صالحاً مجتهداً في العبادة وتلاوة القرآن كثير العلم.
1118- قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله)).
1119- وشهد مع أبيه فتوح الشام، وكانت معه راية أبيه يوم اليرموك، وكان يلوم أباه على أيام الفتنة، ولكن برفق، وثبت عنه أنه قال: ((ما ضربت فيها بسيف، ولا رميت بسهم))، وقال: ((الخير أعمله اليوم أحب إلي من مثليه مع(1/629)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تهمنا الآخرة، ولا تهمنا الدنيا، وإنا اليوم مالت بنا الدنيا)).
1120- وقد اختلف في تاريخ وفاته؛ فقال أحمد بن حنبل ويحيى بن بكير وغيرهما: مات سنة خمس وستين، وفي رواية أخرى عن أحمد: مات ليالي الحرة، وكانت في ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وكذلك قال غيره، وقيل: سنة ثمان وستين، وقيل غير ذلك، والأكثر على أنه مات بالطائف، وقيل: بمصر، وقيل: بمكة، وقيل: بفلسطين رضي الله عنه.
فصل
1121- تضمن هذا الحديث رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأمته وإرشاده إياهم إلى مصالحهم وحثهم على ما يطيقون القيام به، ونهيهم عن التعمق في العبادات والإكثار مما لا يمكن المداومة على مثله، ويؤدي إلى إضعاف البدن والقوى، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس))، قيل: معنى ((هجمت)) غارت ودخلت، من قولهم: هجمت على القوم إذا دخل عليهم، وقيل معناه: هجمت العين على النوم فغلبته عليه؛ لكثرة السهر السابق، فينقطع عما التزم، فيدخل في ذم من ابتدع رهبانية ولم يرعها.
1122- ونفهت النفس: بفتح النون وكسر الفاء، أي: أعيت، وقيل: فنيت، كما في الرواية الأخرى عند مسلم: ((ونهكت)) أي: ضعفت وضنيت.
1123- واختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا صام من صام الأبد))؛ فقيل: هو خبر،(1/630)
أي: لا يجد من مشقة الصيام؛ لإدمانه عليه وكونه بقي عادة ما يجد من يصوم ويفطر، وقيل: بل هو دعاء خرج للنهي عن ذلك وبيان كونه مرجوحاً بالنسبة إلى فطر يوم وصيام يوم، وإلى هذا ذهب المتولي من أصحابنا أخذاً بظاهر هذا الحديث. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في صوم يوم وإفطار يوم: ((لا أفضل من ذلك))، وقيل: بل يدل على المنع من صوم الدهر وكونه محرماً أو مكروهاً وهو قول الظاهرية، والذي ذهب إليه الجمهور جوازه، وأنه راجح على غيره بسبب كثرة الأعمال وتضاعف الثواب على العمل، جرياً على القاعدة المعروفة.
1124- وتأولوا حديث عبد الله بن عمرو هذا على أن حقيقة صوم الأبد عدم الفطر بالكلية، فيدخل فيه صوم الأيام المنهي عنها، كالعيدين وأيام التشريق، ومن أفطر هذه الأيام فلم يصم الأبد، وهذا فيه نظر من وجهين:
1125- أحدهما: أن هذه الأيام غير قابلة للصوم الشرعي، فلا يبقى على هذا التأويل لفظ ((صام)) في الحديث محمولاً على حقيقته الشرعية، بل على مدلوله اللغوي من مجرد الإمساك، وهو مجاز بالنسبة إلى الحقيقة الشرعية، والحمل عليها في ألفاظ الشارع هو الأولى.
1126- وثانيهما: أن النهي عن الصوم في هذه الأيام لذاتها لا من حيث كونه صوم الأبد، بل لو أفردت بالصوم كانت منهياً عنها، والحديث إنما علق الذم بصوم الأبد (لا بصوم) هذه الأيام.
1127- وقال المحققون: هذا النهي كان بالنسبة إلى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه دون غيره من الأمة؛ فإن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إني أسرد الصوم أفأصوم في السفر؟ قال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر)). متفق عليه، وهذا لفظ مسلم، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على سرد الصوم ولم ينهه عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم من حال حمزة أنه يقوى على ذلك، ومن حال عبد الله [بن عمرو] (أنه)(1/631)
يضعف عن ذلك، ولهذا كان عبد الله يقول في آخر عمره: ((يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم ))، وذلك لما أسن وضعف، وهذا كما قيل مثله في الأحاديث المختلفة في أفضل الأعمال أنه بالنسبة إلى حال المخاطبين، كما تقدم.
1128- وعلى هذا فيكون قوله صلى الله عليه وسلم في صوم داود عليه السلام: ((لا أفضل من ذلك))، أي: بالنسبة إلى من حاله مثل حالك ممن يتعذر عليه الجمع بين سرد الصوم وبين القيام بالحقوق الدينية والدنيوية. ففي ((الصحيح)) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله: ((إن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً))، وأرشد صلى الله عليه وسلم إلى ذلك أيضاً بقوله عن داود عليه السلام: ((ولا يفر إذا لاقى)) (أي): لم ينهكه هذا الصيام ولم يذهب قوته، بل كان عند لقاء العدو على حاله المعهودة، وقد نص أصحابنا على أن استحباب صوم الدهر مشروط بما إذا لم يلحقه ضرر ولم يفوت به حقاً، فإن كان شيء من ذلك فهو مكروه.
1129- وقد ثبت سرد الصوم عن جماعة من الصحابة، منهم: ابن عمر وعائشة وأبو طلحة رضي الله عنهم.
1130- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله)) جارٍ على قاعدة تضعيف الحسنة بعشر أمثالها، كما صرح به في رواية البخاري، وهو محمول على أنه مثل صوم الدهر من غير تضعيف للحسنات؛ فإن ذلك التضعيف مرتب على الفعل الحسي الواقع في الخارج لا على الأمر الاعتيادي، فالمراد أصل الفعل في التقدير لا الفعل الذي يترتب عليه التضعيف.(1/632)
1131- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وقم ونم)) يقتضي نهيه عن قيام الليل بكامله، كما صرح به في بعض الروايات، وقد قال بظاهره جمهور العلماء، خلاف صوم الدهر، وفرقوا بينهما بأن سهر الليل كله دائماً لا بد فيه من إنهاك البدن وتفويت حقوق، لما يغلبه من النوم الذي لا بد منه طبعاً وعادة، فينام بالنهار فيفوت به مصالح، بخلاف ما إذا قام بعض الليل؛ فإنه ينجبر بنوم بعضه، والله سبحانه أعلم.
1132- أخبرنا أبو نصر محمد بن محمد بن محمد بن هبة الله بن مميل الشيرازي قراءةً عليه وأنا أسمع بانتخابي عليه قال: أنبأنا أبو الوفاء محمود بن إبراهيم بن منده من أصبهان، أنا الفقيه أبو عبد الله الحسن بن العباس الرستمي، أنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عمر الفقيه، أنا أبو بكر ابن أبي علي قال: ذكر أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جولة، ثنا القاسم بن محمد، ثنا أبو بكر أحمد ابن بطة، ثنا محمد بن إسحاق بن ماهان، ثنا أحمد بن ثابت الخزاز، ثنا الحسين ابن الخليل -كذا في الأصل، وفي نسخة قديمة من غير الرواية: الحسن بن عليل- ثنا الخضر بن محمد، عن المعافى بن عمران، عن الربيع، عن الحسن: ((أن قوماً أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين إن لنا إماماً شاباً إذا صلى لا يقوم من المحراب حتى يتغنى بقصيدة، قال عمر رضي الله عنه: فامضوا بنا إليه، إنا إن دعوناه يظن بنا أنا تجسسنا، يريد قبح أمره، فقام عمر رضي الله عنه والقوم معه حتى(1/633)
إذا قرعوا بابه عليه قال: يا أمير المؤمنين ما الذي جاء بك، إن كنت جئت في حاجتي فقد كان الواجب (علي) أن آتي، وإن تكن الحاجة لك فأحق -من عظمنا خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: بلغني عنك أمر وساءني، قال: [فإني] أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، ما الذي بلغك عني؟ قال: بلغني عنك أنك تتغنى في عبادتك. قال: يا أمير المؤمنين إنها عظة أعظ بها نفسي، فقال له عمر رضي الله عنه: قل، قال: إني أخاف الشنعة أن أقول بين يديك، قال: قل، فإن (كان) كلاماً حسناً قلت معك، وإن كان قبيحاً نهيتك عنه، فأطرق الفتى ثم أنشأ يقول:
وفؤادي كلما نبهته ... عاد في اللذات يبغي تعبي
لا أراه الدهر إلا لاهياً ... في تماديه فقد برح بي
يا قرين السوء ما هذا الصبا ... فني العمر كذا باللعب
وشبابٌ بان مني ومضى ... قبل أن أقضي منه أربي
ما أرجي بعده إلا الفنا ... ضيق الشيب علي مطلبي
ويح نفسٍ لا أراها أبداً ... في جميلٍ لا ولا في أدب
نفس لا كنت ولا كان الهوى ... راقبي الله وخافي وارهبي
فبكى عمر رضي الله عنه وقال: هكذا ينبغي لك، من يكره هذا؟ وأنا أيضاً أقول:
نفس لا كنت ولا كان الهوى ... راقبي المولى وخافي وارهبي))
1133- أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن محمد ابن أبي بكر بن عياش البلداني في آخرين سماعاً عليهم قال: أنا يوسف بن عمر بن يوسف المقدسي(1/634)
حضوراً، أنا بركات بن إبراهيم القرشي، أنا هبة الله بن أحمد الأمين، ثنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ قال: حدثت عن محمد بن عبد الله بن أخي ميمي، أنا جعفر بن محمد بن نصير، أنا أحمد بن محمد بن مسروق الطوسي قال: قرأت على محمود بن الحسن من قوله:
بادر شبابك أن يهرما ... وصحة جسمك أن يسقما
وأيام عيشك قبل الممات ... فما دهر من عاش أن يسلما
ووقت فراغك بادر به ... ليالي شغلك في بعض ما
وقدم فكل امرئٍ قادمٌ ... على بعض ما كان قد قدما
الحديث الرابع والثلاثون: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
1134- أخبرنا أبو عبد الله محمد ابن أبي العز بن مشرف بن بيان الدمشقي قراءةً عليه وأنا أسمع سنة أربع وسبع مائة قال: أنا أبو عبد الله الحسين بن المبارك ابن محمد الزبيدي سماعاً عليه، أنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى الصوفي، أنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر البوشنجي، أنا أبو محمد عبد الله بن أحمد السرخسي، أنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري، ثنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، عن زكريا بن إسحاق، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله(1/635)
افترض عليهم خمس صلوات في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)).
1135- وأخبرنا أتم من هذا أبو الفداء إسماعيل بن يوسف بن مكتوم وجماعة قالوا: أنا عبد الله بن عمر السقلاطوني، أنا عبد الأول الهروي، أنا عبد الرحمن الداودي، أنا عبد الله السرخسي، أنا عيسى بن عمر، أنا عبد الله بن عبد الرحمن الحافظ، أنا أبو عاصم -يعني النبيل- عن زكريا بن إسحاق، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن أبي معبد، عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن، قال له: إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .. .. )) فذكره كما تقدم، وقال في آخره: ((فإن هم أطاعوا لك في ذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس لها من دون الله حجاب)).
1136- هذا حديث صحيح رواه البخاري في ((كتاب الزكاة)) عن أبي عاصم كما رويناه من طريقه.
1137- وأخرجه مسلم عن عبد بن حميد عن أبي عاصم النبيل به، فوقع بدلاً له عالياً، ورواه أيضاً عن محمد بن أبي عمر عن بشر بن السري.
1138- وأخرجه أبو داود عن أحمد بن حنبل، والترمذي عن أبي كريب، كلاهما عن وكيع بن الجراح، والنسائي عن محمد بن عبد الله بن عمار عن المعافى بن عمران الموصلي، ثلاثتهم عن زكريا بن إسحاق به، فوقع(1/636)
لنا عالياً عنهم [أيضاً] وأعلا من ذلك عما أخرجه مسلم عن أمية بن بسطام عن يزيد بن زريع عن روح بن القاسم عن إسماعيل بن أمية عن يحيى ابن عبد الله بن صيفي به، ولفظه في هذه الرواية: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم .. .. ))، وذكره دون الفصل الأخير منه.
1139- عبد الله رضي الله عنه هو حبر هذه الأمة وترجمان القرآن، أبو العباس عبد الله ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، أبي الفضل العباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي.
1140- ولد بالشعب أيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو هاشم به، وذلك قبل الهجرة بأربع سنين أو نحوها؛ فقد ثبت عنه أنه قال في قصة في حجة الوداع: ((وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام)).
1141- وروى الكثير عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن خلق من الصحابة، منهم الخلفاء الأربعة وأبواه العباس وأم الفضل لبابة بنت الحارث، وقد تقدم ذكرها، وخالته ميمونة أم المؤمنين، ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب، وعليه قرأ القرآن، وغيرهم.
1142- والمروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف حديث وست مائة وستون حديثاً، من ذلك في ((الصحيحين)) مائتان وأربعة وستون حديثاً، منها خمسة وتسعون حديثاً متفق عليها،(1/637)
وانفرد البخاري بمائة وعشرين حديثاً،(1/638)
ومسلم بتسعة وأربعين [حديثاً].
1143- روى عنه خلق كثير، منهم: أنس بن مالك وأبو أمامة ابن سهل بن حنيف وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعكرمة مولاه، وعطاء بن أبي رباح وطاوس ومجاهد وعطاء بن يسار وأبو الشعثاء جابر بن زيد وأبو العالية الرياحي والحسن البصري وسليمان بن يسار وأبو صالح السمان والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير، ومن يطول الكلام بذكرهم.
1144- قال ابن منده: ((كان أبيض وسيماً طوالاً جسيماً)).
1145- وقال عطاء ابن أبي رباح: ((ما رأيت القمر ليلة البدر إلا ذكرت وجه ابن عباس)).
1146- وثبت من طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له فقال: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل))، وفي رواية: ((اللهم علمه الحكمة)).
1147- وثبت في ((الصحيحين)) أن عمر رضي الله عنه ((كان يدني ابن عباس ويستشيره)).(1/639)
1148- قال الزهري: ((قال المهاجرون لعمر رضي الله عنه: ألا تدعوا أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟ قال: ذلك فتى الكهول، إن له لساناً سؤولاً وقلباً عقولاً)).
1149- وقال علي رضي الله عنه: ((ويح ابن أم الفضل؛ إنه لغواص على الهنات)).
1150- وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ((ما رأيت أحضر فهماً ولا ألب لباً ولا أكثر علماً ولا أوسع حلماً من ابن عباس، ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، يقول: قد جاءتك معضلة، ثم لا يتجاوز قوله، وإن حوله لأهل بدر)).
1151- وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ((لو أن هذا الغلام أدرك ما أدركنا ما تعلقنا معه بشيء)).
1152- وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: ((كان ابن عباس رضي الله عنه قد فات الناس بعلم ما سبق، وفقه فيما احتيج إليه من رواية وحلم ونسب، وما رأيت أحداً أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بقضاء أبي بكر وعمر منه، ولا أعلم بشعر منه، ولا أفقه ولا أعلم بعربية ولا بتفسير ولا بحساب ولا بفريضة منه، ولا أعلم بما مضى ولا أثبت رأياً منه، ولقد كنا نحضر عنده فيحدثنا العشية(1/640)
كلها في المغازي، والعشية كلها في النسب، والعشية كلها في الشعر)).
1153- وقال مسروق: ((كنت إذا رأيت ابن عباس قلت أجمل الناس، فإذا نطق قلت أفصح الناس، فإذا تحدث قلت أعلم الناس)).
1154- وقال ابن أبي مليكة: ((صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة فإذا نزل قام شطر الليل، ويرتل القرآن، ويكثر في ذلك من التسبيح والتحنث)).
1155- وعن أبي رجاء: ((رأيت ابن عباس وأسفل عينيه مثل الشراك البالي من البكاء))، ومناقبه كثيرة رضي الله عنه.
1156- وقد كف بصره في آخر عمره، والأكثرون على أنه مات سنة ثمان وستين، وقيل: سنة سبع، وقيل غير ذلك، وكانت وفاته بالطائف، وصلى عليه محمد ابن الحنفية وقال: ((اليوم مات رباني هذه الأمة)).(1/641)
فصل
1157- قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب)) يعني بهم اليهود؛ لأن أكثر أهل اليمن كانوا يهوداً، وهو كالتوطئة والتمهيد للوصية باستجماع همته لمناظرتهم ودعائهم إلى التوحيد والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن أهل الكتاب أهل علمٍ، ومخاطبتهم لا تكون كمخاطبة المشركين وعبدة الأوثان.
1158- وفي الحديث دليلٌ لمن يقول: إن أول الواجبات التلفظ بكلمتي الشهادة مصدقاً بها؛ وفي المسألة خلافٌ كثيرٌ موضعه أصول الدين.
1159- وفيه أن النطق باللسان لا بد منه مع الاعتقاد بالقلب؛ ليترتب عليه حينئذٍ أحكام الإسلام.
1160- وقوله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات مسلم: ((فإذا عرفوا الله)) فيه حجةٌ لقول حذاق المتكلمين أن اليهود والنصارى ونحوهم ليسوا عارفين بالله تعالى، وهذا هو الحق؛ فإن من شبه الله تعالى بخلقه أو أجاز عليه البداء وجعل له ولداً أو صاحبة، أو أجاز عليه الحلول والانتقال، أو وصفه بما لا يليق به؛ فلا شك في أنه غير عارفٍ بالله تعالى.
1161- واحتج بهذا الحديث من يقول بأن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الأمر بالصلاة وفرضيتها على الإتيان بكلمتي الشهادة، ولا حجة في ذلك؛ لأن الترتيب في الدعاء لا يلزم منه(1/642)
الترتيب في الوجوب، وإنما مراد الحديث: أعلمهم أنهم مطالبون بالصلوات وغيرها في الدنيا، وهذه المطالبة لا تكون إلا بعد الإسلام؛ لكونه شرطاً في صحة الأعمال، ولو كان ما ذكر يقتضي الترتب في الوجوب لزم منه ترتب وجوب الزكاة على فعل الصلاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة .. .. )) إلى آخره، ولا قائل بذلك، فدل على أن المقصود بيان شرائع الإسلام أولاً فأولاً مع تقديم الأهم فالأهم.
1162- وأما اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على هذه القواعد الثلاث فيجوز أن يكون ذكر الصوم والحج وغيرهما ولم ينقله الراوي، ويحتمل أنه اقتصر على هذه، لأنها الأهم مع علمه صلى الله عليه وسلم بفقه معاذ رضي الله عنه، وإنه يدعوهم إلى بقية شرائع الإسلام ويطالبهم بها.
1163- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإن أطاعوا لك بذلك)): طاعتهم في الإيمان بالتلفظ بالشهادتين، وأما طاعتهم في الصلاة فالظاهر أن المراد به طاعتهم بالفعل كما في أداء الزكاة؛ فإن ذلك يتضمن الاعتراف بالوجوب أيضاً.
1164- واستدل جماعة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)) على أنه لا يجوز نقل الزكاة عن بلد المال، وضعفه طائفةٌ من جهة أن اللفظ يحتمل أن يكون عائداً على فقراء المسلمين، وأن يكون عائداً على فقراء أهل تلك البلدة والناحية، وفي هذا التضعيف نظرٌ، والظاهر أن الضمير عائدٌ إلى المخاطبين الذين تقدم عود الضمير إليهم مرات، ففي اللفظ قوة ظهورٍ باختصاص صدقتهم بفقرائهم.
1165- واحتج به المالكية أيضاً على جواز صرف الزكاة إلى بعض الأصناف دون استيعابهم، وفيه نظرٌ من جهة أن ذكر الفقراء هنا خرج مخرج(1/643)
الأغلب؛ فإنهم أعم من يدفع إليهم الزكاة، ولو كان ما ذكروه مراداً لكان الحديث مقتضياً تعين الفقراء دون غيرهم، ولا قائل به.
1166- واحتج به أيضاً على أن من ملك نصاباً لا يعطى من الزكاة، وهو مذهب أبي حنيفة وبعض المالكية من حيث إن المأخوذ منه غنيٌ وقابله بالفقير، ومن ملك النصاب فالزكاة مأخوذةٌ منه فهو غنيٌ.
1167- والغني لا يعطى من الزكاة إلا في المواضع المستثناه، وفيه نظر من جهة أن مقتضى هذا الاستدلال أن الذي يمنع إعطاء الزكاة ويجعله غنياً كونه ملك النصاب حولاً كاملاً حتى تؤخذ منه الزكاة، وهم لم يشترطوا ذلك، بل مجرد ملك النصاب يمنع من صرف الزكاة إليه.
1168- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإياك وكرائم أموالهم)) أي: جيدها ونفائسها، حذره من ذلك نظراً لأرباب الأموال ورفقاً بهم؛ لأن الزكاة وجبت مواساة للفقراء من مال الأغنياء، ولا يناسب ذلك الإجحاف بأرباب الأموال، فسامحهم الشارع بما يضنون به، ونهى المتصدقين عن أخذه.
1169- وفي الحديث دليل على تحريم الظلم وتعظيم أمره واستجابة دعوة المظلوم، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عقيب نهيه عن أخذ كرائم الأموال تنبيهاً على أن أخذها ظلم؛ لكنه جاء بلفظ عام يشمل تعظيم أنواع الظلم جميعها، والله سبحانه أعلم.
1170- أخبرنا الفقيه أبو عبد الله محمد بن عمر بن أحمد بن عبد الدائم المقدسي سماعاً عليه غير مرةٍ قال: أنا جدي وأبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم قالا: أنا عبد المنعم بن عبد الوهاب الحراني، أنا علي بن أحمد بن محمد الرزاز، أنا محمد بن محمد بن مخلد، أنا [أبو محمد] إسماعيل بن(1/644)
محمد الصفار، ثنا الحسن بن عرفة، ثنا مروان بن شجاع الجزري، (عن سالم) الأفطس، عن سعيد بن جبير قال: ((مات ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف، فجاء طائر لم ير على خلقته فدخل نعشه، ثم لم ير خارجاً منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يدرى من تلاها: {يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيةً. فادخلي في عبادي. وادخلي جنتي})).
1171- وبه إلى ابن عرفة، ثنا عبد الله بن المبارك، عن الحسن بن عمرو الفقيمي، عن منذر الثوري، عن محمد ابن الحنفية رحمه الله قال: (([ليس] بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بداً حتى يجعل الله له فرجاً أو قال: مخرجاً)).
1172- أنشدنا الشيخ العالم أبو بكر بن عمر بن بختيار الصالحي المعروف بابن السلار لنفسه:(1/645)
بسفح الصالحية لي غرامٌ ... قديم حديثه عندي تمام
بسلسلةٍ إذا حدثت دمعي ... ويسنده التوله والغرام
فخذه مجمل الإيضاح عني ... فتحصيل المفضل لا يرام
بدت أنوار ليلى فيه ليلاً ... فمذ نزلت بنا ارتفع الظلام
أتينا بعد بعدٍ طال حتى ... يئسنا أن يصورها المنام
وحيتنا فأحيت كل ميتٍ ... وأعطت فوق ما يعطي الكرام
وقد رضيت بنا وبها رضينا ... فلا عتبٌ يقال ولا ملام
فإن سفرت أتينا بالتهاني ... وإن حجبت لها منا السلام
الحديث الخامس والثلاثون: عن البراء بن عازب رضي الله عنه
1173- أخبرنا الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن بكتمر بن عبد الله العزي بقراءتي عليه قال: أنا أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم بن علي الحراني سماعاً عليه، أنا الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي، أنا الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر والحسين بن محمد بن الحسن وقالا: أنا أبو الحسن علي بن محمد بن محمد الأنباري ابن الخطيب، أنا عبد الواحد بن محمد بن مهدي، ثنا محمد بن مخلد الدوري، ثنا الحسن بن عرفة، ثنا عمار بن محمد، عن منصور بن المعتمر، عن طلحة بن مصرف، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا ونحن في الصلاة؛ فيمسح صدورنا ومناكبنا ويقول: لا تختلف صفوفكم فتختلف قلوبكم، وكان يقول: إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول، وكان يقول:(1/646)
زينوا القرآن بأصواتكم، وكان يقول: من منح ورقاً أو لبناً أو هدى زقاقاً كان كعدل رقبة، ومن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كان كعدل رقبة)).
1174- وأخبرناه أعلا من هذه الطريق بدرجة أبو الربيع بن قدامة وأبو زكريا يحيى بن محمد بن سعد وأبو محمد القاسم بن مظفر قراءةً وسماعاً، قالوا: أنبأنا الأنجب بن محمد الحمامي، أنا محمد بن عبد الباقي بن البطي، أنا علي بن محمد الأنباري (ح).
1175- قال شيخنا الأول أيضاً: أنبأنا عمر بن كرم الدينوري، أنا نصر بن نصر العكبري، أنا رزق الله بن عبد الوهاب التميمي قالا: أنا عبد الرحمن بن مهدي فذكره.
1176- وأخبرناه عالياً أيضاً متصلاً من وجه آخر أبو محمد عيسى بن عبد الرحمن الصالحي بقراءتي وآخرون قالوا: أنا عبد الله بن عمر، أنا عبد الأول بن عيسى، أنا عبد الرحمن بن محمد، أنا عبد الله بن أحمد، أنا عيسى ابن عمر، أنا عبد الله بن عبد الرحمن، أنا أبو الوليد، ثنا شعبة، أخبرني طلحة بن مصرف قال: سمعت عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء رضي الله عنه فذكره إلى قوله: ((الصفوف الأول)).
1177- هذا حديث حسن، رواه أبو داود، الفصل الأول منه المتعلق بالصلاة عن هناد بن السري وأبي عاصم بن جواس الحنفي.
1178- وأخرجه النسائي عن قتيبة بن سعيد، ثلاثتهم عن أبي الأحوص عن منصور عن طلحة بن مصرف الأيامي به.(1/647)
1179- روى أبو داود قوله: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش عن طلحة بن مصرف.
1180- وأخرج ابن ماجه قوله: ((إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول)) عن محمد بن بشار عن يحيى بن سعيد عن شعبة به، فوقع لنا عالياً عنهم كلهم.
1181- ومتن الحديث [الأول] المتعلق بالصلاة في ((الصحيح)) من حديث ابن مسعود وأبي مسعود رضي الله عنهما.
1182- وعبد الرحمن بن عوسجة لم يخرجا له في ((الصحيحين)) شيئاً وهو ثقة، وثقه النسائي وابن حبان، ولم يتكلم فيه، قتل مع ابن الأشعث سنة ثلاث وثمانين، والحديث صححه الحاكم وغيره.
1183- البراء رضي الله عنه هو أبو عمارة ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو الطفيل البراء أخو عبيد وله صحبة أيضاً، كلاهما ابنا عازب وهو صحابي أيضاً، ابن الحارث أخي عامر جد سهل بن أبي حثمة، كلاهما ابنا عدي بن جشم -بضم الجيم وفتح الشين المعجمة- أخي عدي جد محمد بن سلمة -قاتل كعب بن الأشرف-، كلاهما -جشم وعدي- ابنا مجدعة -بفتح الميم وإسكان الجيم وفتح الدال المهملة والعين المهملة-، أيضاً أخي جشم رهط رافع بن خديج وغيره وجويرية، (ثلاثتهم) أولاد حارثة أخي جشم رهط بني عبد الأشهل وغيرهم، كلاهما ابنا الحارث أخي ظفر واسمه كعب، كلاهما ابنا الخزرج بن(1/648)
عمرو -وهو النبيب: بفتح النون وكسر الباء الموحدة وإسكان الياء آخر الحروف، والنبيب هذا جبل نزلوه على بريدٍ من المدينة-، وهو أخو عوف، وولداه أهل قباء، وجشم وولده بنو خطمة وامرؤ القيس، وولده بنو واقف والسلم ومرة وولده أهل راتج - بالتاء ثالث الحروف المكسورة والجيم، -وهي أطم بالمدينة نزلوها-، وهؤلاء الخمسة أولاد مالك بن الأوس أخي الخزرج ابني حارثة بن ثعلبة، وهما جماع الأنصار رضي الله عنهم.
1184- روي للبراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مائة حديث وخمسة أحاديث، واتفق البخاري ومسلم منها على اثنين وعشرين حديثاً، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بستة أحاديث.
1185- وروى أيضاً عن علي بن أبي طالب وبلال وأبي أيوب وغيرهم رضي الله عنهم.
1186- روى عنه عبد الرحمن ابن أبي ليلى، ومعاوية بن سويد بن مقرن، وسعد بن عبيدة، وعدي بن ثابت، وإياد بن لقيط، والشعبي، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو عمر زاذان، وأبو المنهال سيار بن سلامة، وجماعة كثيرون.
1187- وشهد أحداً والحديبية وغيرهما.
1188- وفي ((صحيح البخاري)) عنه أنه قال: ((استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر)).
1189- وأنه قال: ((غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة)).(1/649)
1190- وأنه قال: ((تعدون الفتح فتح مكة ولقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة .. .. )) وذكر [بقية] الحديث.
1191- وأنه قال: ((ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى قرأت {سبح اسم ربك الأعلى} في سور مثلها من المفصل)).
1192- وشهد البراء أيضاً مع أبي موسى الأشعري غزوة تستر، ومع علي رضي الله عنه الجمل وصفين والنهروان، ونزل الكوفة إلى أن توفي بها سنة إحدى أو اثنتين وسبعين في أيام مصعب بن الزبير.
1193- ووالده عازب قال الواقدي: لم نسمع له بذكر في المغازي رضي الله عنهما.
فصل
1194- تضمن هذا الحديث جملاً تتعلق بها مباحث:
1195- أولها: الأمر بتسوية الصفوف، وقد دل على ذلك أيضاً عدة أحاديث في ((الصحيحين)) منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((سووا الصفوف فإن تسوية الصف من تمام الصلاة))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم))، وتسوية الصفوف هو اعتدال القائمين بها على سمتٍ واحدٍ، وقد يدل تسويتها أيضاً على سد الفرج [فيها] وتراص القائمين بناءً على التسوية(1/650)
المعنوية، وكذلك إتمام الصف الأول فالأول، كما جاء في الحديث: ((إن صفوف الملائكة هكذا عند ربها))، ففي هذه التسوية كلها التشبيه بالملائكة الكرام في صفوفهم، وذلك أمر مطلوب.
1196- وفيه من جهة المعنى أن تقدم الإنسان على من يليه أو [على] بقية الصف من غير أن يكون إماماً لهم قد يوغر صدورهم ويشوش عليه صلاتهم، وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم))، وعليه حمل بعض الأئمة قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: ((أو ليخالفن الله بين وجوهكم))؛ لأن اختلاف القلوب يستلزم اختلاف الوجوه، بأن يأخذ كل واحد غير جهة الآخر.
1197- ومنهم من حمل قوله: ((ليخالفن الله بين وجوهكم)) على التبديل الخلقي بالمسخ.
1198- وثانيها: فضل الصفوف الأول، كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول))، والصحيح الذي قاله المحققون أن الصف الأول هو الذي يلي الإمام، سواء جاء صاحبه متقدماً أو متأخراً، وسواء تخلله مقصورة ونحوها أم لا، وقال طائفة من العلماء: الصف الأول هو الذي يلي المقصورة ولا يتخلله شيء من طرف المسجد إلى طرفه، فإن لم تكن مقصورة فهو الذي يلي الإمام، وهذا اختيار القرطبي، وقال آخرون: الصف الأول عبارة عن مجيء الإنسان أولاً، وإن صلى في صف متأخر، وهو أبعدها.
1199- وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الصف الأول أحاديث كثيرة،(1/651)
والمعنى فيه ظاهر من المبادرة إلى الصلاة؛ لأن المقام فيه لازم غالباً للتبكير ومن القرب إلى الإمام وسماع التلاوة ومن عدم التشويش والنظر إلى ما يلهي، إلى غير ذلك.
1200- وثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) وقد حمله بعض العلماء على المقلوب، أي: زينوا أصواتكم بالقرآن، كما في قولهم: عرضت الناقة على الحوض وأشباهه، وقال آخرون: لا حاجة إلى تكلف ذلك، لأن القرآن الذي هو كلام الله صفة قديمة بذاته لا يلحقه نقص ولا تزيين، وأما العبارة عنه التي هي فعل القارئ فإنه وإن كان غير محتاج إلى التزيين، ولكن في أدائه بحسن الصوت وجودة الأداء وصحة الترسل بعثاً للقلوب على استماعه وتدبره والإصغاء إليه، وعلى هذا حمل المحققون قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن))، وقوله صلى الله عليه وسلم لما سمع قراءة أبي موسى رضي الله عنه: ((لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود))، وقال له أبو موسى: لو علمت أنك كنت تسمع لحبرتها تحبيراً، وهذا كله في رفع الصوت وتحسينه بالقرآن. فأما قراءته بالألحان فقد كرهه مالك وطائفة من السلف والشافعي في موضع من كتبه، وقال في موضع آخر: لا أكرهه، فقال الأصحاب: ليست على قولين بل هي على اختلاف حالين، فحيث كره أراد إذا مطط وأخرج الكلام عن موضوعه بزيادة أو نقص، وحيث لم يكره أراد إذا لم يكن فيه شيء [من ذلك]، ولا شك أن من أباح ذلك فلا بد من هذا الشرط، وإلا فالكراهة ظاهرة،(1/652)
وربما أدت إلى التحريم كما صرح به جماعة من العلماء عند حصول التغير للحروف. وأما من كره القراءة بالألحان وإن لم يكن فيه تغيير كمالك ومن وافقه، فمأخذهم أن الألحان نوع من الباطل الذي هو لهوٌ ولعبٌ، فينبغي أن ينزه القرآن عنها.
1201- ورابعها: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من منح ورقاً أو لبناً وهدى زقاقاً)) أصل المنحة العطية مطلقاً، لكن غلب على استعمال اللفظ في إعارة الشيء لينتفع بفوائده ثم يرد، كما قال صلى الله عليه وسلم ((المنحة مردودة))، فالمراد بمنحة الورق وهو الفضة: قرض الدراهم، وبمنحة اللبن ما جرت عادتهم به من إعطاء الناقة أو الشاة اللبون لغيره ينتفع بلبنها إلى أن يردها. والزقاق بالضم: الطريق، قال ابن الأثير: ((يريد من دل الضال أو الأعمى [على طريقه]، وقيل: أراد من تصدق بزقاقٍ من النخل، وهي السكة منها))، قال: ((والأول أشبه؛ لأن هدى من الهداية لا من الهدية)).
1202- وقد تضمن الحديث فضل هذه الأشياء، وأنها تعادل عتق الرقاب في الثواب المرتب عليها، وكذلك قول: لا إله إلا الله كما في الحديث، وذلك من فضل الله وكرمه حيث رتب على الأشياء الخفيفة المؤنة من الثواب ما يتوصل به إليه من لم يقدر على عتق الرقاب، ولله الحمد والمنة.
1203- أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن ابن محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق الأنصاري سماعاً عليه في آخرين قالوا: أنا أبو العباس أحمد بن عبد الدائم، أنا أبو الثناء حماد بن هبة الله الحراني، أنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي، أنا أحمد بن محمد بن النقور، أنا عيسى بن علي الوزير، ثنا عبد الله ابن محمد المنيعي، ثنا نعيم بن الهيصم، ثنا خلف بن تميم، ثنا أبو الحباب وهو(1/653)
عم عمار بن سيف الضبي قال: ((كنا في غزاة في البحر وقائدنا موسى بن كعب، ومعنا في المركب رجل من أهل الكوفة يكنى أبا الحجاج، قال: فأقبل يشتم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فزجرناه فلم ينزجر، ونهيناه فلم ينته، فأرسينا إلى جزيرة في البحر فتفرقنا فيها نتأهب لصلاة الظهر، فأتانا صاحب لنا فقال: أدركوا أبا الحجاج فقد أكلته النحل، فدفعنا إلى أبي الحجاج وهو ميت وقد أكلته الدبر -وهي النحل- قال خلف: فزادني من هذا الحديث ابن المبارك: فحفرنا لندفنه فاستوعرت علينا الأرض، قال: قلت: ما استوعرت؟ قال: صلبت فلم يقدروا على أن يحفروا له، فألقينا عليه ورق الشجر والحجارة وتركناه، قال (خلف): وكان صاحب لنا يقول: وقعت نحلة على ذكره فلم تضره فعلمنا أنها مأمورة)).
1204- أخبرنا أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن عبد الله المخزومي بقراءتي، أنا أحمد بن أبي بكر الهمداني، أنا عبد القوي بن عبد الله السعدي، أنا عبد الله بن أبي الخير الفرضي (ح).
1205- وقرأت على يحيى بن محمد الصالحي عن الحسن بن الصباح المخزومي، عن أبي الخير هذا قال: أنا علي بن الحسن الخلعي، أنا عبد الرحمن بن عمر النحوي، أنا عبد الله بن جعفر بن الورد، أنا عبد الرحيم ابن البرقي، أنا عبد الملك بن هشام، ثنا زياد بن عبد الله البكائي، ثنا محمد بن إسحاق .. .. وذكر قصة وفد بني تميمٍ على النبي صلى الله عليه وسلم وما أنشد شاعرهم الزبرقان بن بدر قال: فقال حسان بن ثابت رضي الله عنه يعارضه:(1/654)
إن الذوائب من فهرٍ وإخوتهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بهم كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وكل الخير يصطنع
قومٌ إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجيةٌ تلك منهم غير محدثةٍ ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبقٍ لأدنى سبقهم تبع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
إن سابقوا الناس يوماً فاز سبقهم ... أو وازنوا أهل مجدٍ بالندى متعوا
أعفةٌ ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يطبعون ولا يرديهم الطمع
لا يبخلون على جارٍ بفضلهم ... ولا يمسهم من مطمع طبع
لا يفخرون إذا نالوا عدوهم ... وإن أصيبوا فلا خورٌ ولا هلع
كأنهم في الوغى والموت مكتنعٌ ... أسدٌ بحليةٍ في أرساغها فدع
خذ منهم ما أتى عفواً إذا غضبوا ... ولا يكن همك الأمر الذي منعوا
فإن في حربهم فاترك عداوتهم ... شراً يخاض عليه السم والسلع
أكرم بقومٍ رسول الله شيعتهم ... إذا تفاوتت الأهواء والشيع
أهدى لهم مدحتي قلبٌ يوازره ... فيما أحب لسانٌ حائكٌ صنع
فإنهم أفضل الأحياء كلهم ... إن جد بالناس جد القول أو شمعوا(1/655)
الحديث السادس والثلاثون: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
1206- أخبرنا الشيخ الكبير شيخ الشيوخ أبو المجامع إبراهيم بن محمد بن المؤيد بن عبد الله بن علي بن محمد بن محمد بن حمويه الجويني -وهو أحد المشايخ الجلة الذين لقيتهم بقراءتي عليه بمنى شرفها الله- قال: أنا الشيخ أبو عمرو عثمان ابن الموفق الأذكاني بقراءتي عليه بإسفرايين، أنا أبو الحسن المؤيد ابن محمد الطوسي، أنا هبة الله بن سهل السيدي، أنا سعيد بن محمد البحيري، أنا زاهر بن أحمد السرخسي، أنا إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، ثنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر، ثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما (ح).
1207- وأخبرنا به أعلا من هذا بدرجة أبو الفضل سليمان بن حمزة وأبو محمد عيسى بن عبد الرحمن المقدسيان بقراءتي قالا: أنا عبد الله بن عمر السقلاطوني، أنا عبد الأول بن عيسى الصوفي، أخبرتنا بييى بنت عبد الصمد الهرثمية، أنا عبد الرحمن [بن أحمد] بن أبي شريح، ثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي، ثنا مصعب -يعني ابن عبد الله الزبيري-، حدثني مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أعتق شركاً له في عبدٍ، وكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة العدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)). لفظ رواية مصعب والأخرى بمعناه.
1208- هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف،(1/656)
ومسلم عن يحيى بن يحيى، وأبو داود عن القعنبي عبد الله بن مسلمة، ثلاثتهم عن مالك به، فوقع لنا بدلاً لهم عالياً في الرواية الثانية.
1209- ورواه النسائي عن الحارث بن مسكين عن عبد الرحمن بن القاسم، وابن ماجه عن يحيى بن حكيم المقوم عن عثمان [بن عمر] بن فارس، كلاهما عن مالك الإمام به، فوقع لنا عالياً عنهما بثلاث درجات.
1210- وأخرجه أيضاً البخاري ومسلم، وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أيوب ابن أبي تميمة السختياني، والبخاري وأبو داود والنسائي من حديث عبيد الله بن عمر العمري، والبخاري وأبو داود من حديث جويرية بن أسماء، ومسلم والنسائي من حديث الليث بن سعد، والبخاري وحده من حديث موسى بن عقبة وجرير بن حازم، ومسلم فقط من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري وابن أبي ذئب وإسماعيل بن أمية، وأبو داود والنسائي من حديث بكير بن عبد الله [بن] الأشج، عشرتهم عن نافع مولى ابن عمر به.
1211- وجميع هذه الطرق نعلوا فيها بحمد الله [عليهم]، ومن أعلاها(1/657)
عليهم ما رواه أبو داود عن أحمد بن صالح، والنسائي عن يعقوب بن عبد الوهاب، وابن ماجه عن حرملة [بن يحيى]، ثلاثتهم عن ابن وهب عن الليث وابن لهيعة، كلاهما عن عبيد الله بن أبي جعفر عن بكير بن عبد الله ابن الأشج [عن نافع]، ولم يذكر ابن ماجه الليث بل ابن لهيعة فقط.
1212- فباعتبار هذه الطريق كأن شيخي في الرواية الثانية سمعاه من أصحاب أبي داود والنسائي وابن ماجه.
1213- وقد اتفقا عليه في ((الصحيحين)) من حديث سالم عن ابن عمر.
1214- ورواه عن ابن عمر أيضاً: عمرو بن دينار وابن أبي مليكة وحبيب بن أبي ثابت وغيرهم ممن يطول بذكرهم الكلام.
1215- عبد الله [بن عمر] رضي الله عنه هو السيد الجليل الكبير الزاهد أبو عبد الرحمن عبد الله ابن السيد الكبير أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهو شقيق أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها، أمهما زينب ابنة مظعون، هاجر بعبد الله أبوه رضي الله عنهما، واستصغر يوم بدر، وكذلك أحد فلم يشهدها على الصحيح، ثبت ذلك في ((صحيح البخاري))، وأن أول مشاهده الخندق، وشهد ما بعدها من بيعة الرضوان وغيرها.
1216- وروى الكثير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه وعن أبي بكر وبلال وصهيب وطائفة.(1/658)
1217- والمروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف حديث وست مائة حديث وثلاثون حديثاً، أخرج من ذلك في ((الصحيحين)) مائتا حديث واثنان وثمانون حديثاً، منها مائة وسبعون حديثاً متفق عليها، وانفرد البخاري بأحد وثمانين حديثاً، ومسلم بأحد وثلاثين حديثاً.
1218- روى عنه أولاده السبعة: سالم، وحمزة، وعبد الله، وبلال، وزيد، وعبيد الله وعمر، وأحفاده [الثلاثة]: محمد بن زيد، وعبد الله بن واقد، وأبو بكر ابن عبيد الله، ومولاه نافع، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وأبو صالح السمان، وزيد بن أسلم، وعبد الله بن دينار، وعمرو بن دينار، وجبلة بن سحيم، وحبيب بن أبي ثابت، وخلائق كثيرون.
1219- وكان رضي الله عنه إماماً كبير القدر، كثير الإفتاء، واسع العلم، شديد الاتباع، وافر الصلاح والنسك، متين الديانة، عظيم الحرمة، بحراً في الكرم، قليل النظير.
1220- وفي ((الصحيحين)) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن عبد الله رجلٌ صالح)).
1221- وقال ابن مسعود: ((إن من أملك شباب قريش لنفسه عن الدنيا عبد الله بن عمر)).
1222- وقال جابر رضي الله عنه: ((ما منا أحدٌ إلا مالت به الدنيا ومال بها إلا ابن عمر)).(1/659)
1223- وعنه أيضاً: ((لم يكن أحد منهم ألزم لطريق النبي صلى الله عليه وسلم ولا أتبع من ابن عمر)).
1224- وقال سعيد بن المسيب: ((مات ابن عمر يوم مات وما في الأرض أحد أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منه)).
1225- وقال الزهري: ((لا يعدل برأي ابن عمر، فإنه أقام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستين سنة فلم يخف عليه شيء من أمره)).
1226- وقال ابن محيريز: ((والله إن كنت لأعد بقاء ابن عمر أماناً لأهل الأرض)).
1227- وقال نافع مولاه: ((كان ابن عمر إذا اشتد عجبه بشيءٍ من ماله تقرب به إلى الله، فكأن رقيقه قد عرفوا ذلك منه فربما لزم أحدهم المسجد، فإذا رآه ابن عمر على تلك الحالة الحسنة أعتقه، فيقول له أصحابه: إنهم يخدعونك، فيقول: من خدعنا بالله انخدعنا له، قال: ولقد رأيتنا ذات عشية وراح ابن عمر(1/660)
على نجيبٍ له، قد أخذه بمال، فلما أعجبه سيره أناخه بمكانه ثم نزل عنه فقال: انزعوا عنه زمامه ورحله وأشعروه وجللوه وأدخلوه في البدن))، وكان كثير الحج، ومناقبه كثيرة جداً.
1228- وقد ذكر للخلافة يوم الحكمين وعلي رضي الله عنه حي فقال: بشرط أن لا يجري فيه محجمة دم، ثم انزوى بنفسه، ولم يشهد شيئاً من الفتن، وعاش إلى زمن عبد الملك بن مروان.
1229- قال نافع: ((سمعت ابن عمر وهو ساجد في جوف الكعبة يقول: قد تعلم يا رب ما يمنعني من مزاحمة قريش إلا خوفك)).
1230- وكانت وفاته بمكة سنة ثلاث وسبعين بعد قتل ابن الزبير بأشهر، ودفن بالمحصب رضي الله عنه.
فصل
1231- هذا الحديث يشتمل على مباحث كثيرة، وفوائد غزيرة، يضيق عنها هذا الكتاب، ولكن نشير إلى مقاصد من ذلك:
1232- فمنها: أن ((من)) المصدر بها الحديث من صيغ العموم، فيقتضي ذلك دخول أصناف المعتقين في هذا الحكم وأنواع العتق بأي شيء كان، وقد(1/661)
خصص بعض العلماء من ذلك صوراً، كالمريض إذا أعتق نصيبه في مرض الموت، قال أحمد: لا يقوم عليه مطلقاً، وعند الشافعي أن نصيب الشريك يقوم من ثلث مال المريض، فإن احتمله الثلث سوى العتق وإلا نفذ بقدره، وقال: إذا كان المعتق كافراً والعبد كافراً فإنه لا يقوم عليه، وتردد قوله فيما إذا كان العبد مسلماً، وذكر أصحابنا وجهين فيما إذا كان نصيب الشريك مرهوناً أو أم ولد له هل يسري إليه ويقوم أم لا؟ وكذلك لو كان مدبراً، لكن الأصح في المدبر أنه يقوم ويسري، وفي المكاتب عكسه، وأم الولد أولى بالمنع، وكل هذه الصور تخصيصات للعموم، ويتصدى النظر في أدلتها، وأنها هل تتقدم على هذا أم لا؟
1233- وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: ((أعتق)) يقتضي صدور العتق منه باختياره، فلذلك قال أصحابنا: لو ورث بعض قريبه فإنه يعتق ولا يقوم عليه نصيب الشريك؛ لأنه لم يعتق باختياره، واختلفوا فيما إذا عجز السيد مكاتبه بعد أن اشترى المكاتب شقصاً ممن يعتق على سيده فعتق ذلك الشقص بملك السيد له، ووجه القول بأنه لا يقوم نصيب الشريك: أن الملك حصل ضمناً والمقصود كان التعجيز.
1234- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وله مال يبلغ ثمن العبد)) أي: ثمن نصيب الشريك، وقد خرج بهذا ما إذا أوصى أحد الشريكين بإعتاق نصيبه بعد موته أو دبر ذلك الشقص؛ فإنه لا يقوم نصيب الشريك كما صرح به أصحابنا، وإن كان الثلث يحتمل ذلك؛ لأن المال انتقل بالموت إلى الوارث، فلم يصادف العتق للميت مالاً.
1235- واختلف أصحابنا فيما إذا كان موسراً ببعض ثمن نصيب الشريك: هل يسري إلى ذلك القدر ويقوم عليه؟ والأصح أنه يقوم تحصيلاً للحرية بقدر الإمكان.
1236- واختلف العلماء في وقت حصول العتق عند وجود السراية إلى الباقي، وفي مذهب الشافعي ثلاثة أقوال:(1/662)
1237- أصحها: أنه يحصل بنفس الإعتاق، وهو مذهب الأوزاعي والثوري وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وبعض المالكية، فيقوم عليه نصيب شريكه بقيمته يوم الإعتاق، ولم يبق للشريك تصرفٌ فيه لا بعتقٍ ولا غيره، ولو مات المعتق أخذ ذلك من تركته.
1238- والقول الثاني: أنه لا يعتق إلا بأداء القيمة، وللشريك التصرف فيه قبل ذلك، وهو المشهور من مذهب مالك.
1239- والثالث: إن أدى القيمة بان حصول العتق من وقت الإعتاق، وإن لم يؤد القيمة بان أنه لم يعتق، ولا شك أن ألفاظ حديث ابن عمر هذا مختلفة، وفي بعضها ما يدل للراجح من مذهب الشافعي، كرواية حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر في ((الصحيحين)): ((من أعتق نصيباً له في عبد وكان له في المال ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل فهو عتيق))، وكذلك رواية بشر بن المفضل، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع: ((فقد عتق كله إن كان للذي أعتق نصيبه من المال ما يبلغ ثمنه))، وفي بعضها ما يقتضي ترجيح القول الثاني، كما جاء من رواية عمرو بن دينار، عن سالم، عن ابن عمر: ((فإنه يقوم عليه ثم يقوم لصاحبه حصته ثم يعتق)).
1240- وفيه بعد ذلك مباحث ليس هذا موضعها.
1241- وقد ذهب أبو حنيفة إلى أن الشريك بالخيار، إن شاء أعتق نصيبه، وإن شاء قومه على شريكه المعتق، وأخذ القيمة منه، وإن شاء استسعى العبد في نصيبه ويبقى حكمه حكم المكاتب حتى يعتق عليه، ويكون الولاء بينهما.
1242- وفي حديث ابن عمر هذا ما يقتضي خلاف هذا القول، وإنما جاء(1/663)
ذكر الاستسعاء في حديث أبي هريرة في حالة إعسار المعتق عن ثمن نصيب شريكه، فأخذ بذلك أبو حنيفة وأصحابه. والذي ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد أنه لا يجبر العبد والحالة هذه على السعاية في عتق ما بقي منه، بل يبقى [ذلك] رقيقاً كما دل عليه حديث مالك الذي سقناه: ((وإلا فقد عتق منه ما عتق))، وقد تابعه على هذا الفظ عبيد الله بن عمر، عن نافع، وبعض الرواة عن نافع أسقطه، وبعضهم تردد في أنه من الحديث المرفوع أو هو من قول نافع، والقائلون به رجحوا كونه مرفوعاً، بجزم مالك بروايته وناهيك بذلك؛ لأنه المقدم على أصحاب نافع كلهم في الحفظ والإتقان.
1243- وأما الاستسعاء الوارد في حديث أبي هريرة، فقد ذهب جمهور أئمة الحديث إلى أنه مدرج فيه، وأنه من قول أبي هريرة كما بينه بعض الرواة، والكلام في ذلك مبسوطٌ ليس موضعه هذا، وقد ذكرته في ((الأربعين الكبرى)) بجميع طرقه وما يتعلق به، وبالله التوفيق.
1244- أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سلامة بن ريحان الموصلي في آخرين قراءة عليهم وأنا أسمع قالوا: أنا أحمد بن إسماعيل الخطيب، أنا هبة الله بن علي الأنصاري، أنا علي بن الحسين الفراء، أنا عبد العزيز بن الحسن ابن إسماعيل، أنا أبي، ثنا أحمد بن مروان، ثنا محمد بن سليمان الواسطي، ثنا سعيد بن منصور، ثنا عطاف بن خالد، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم،(1/664)
عن أبيه أسلم: ((أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طاف ليلة فإذا هو بامرأة في جوف دار وحولها صبيان يبكون، وإذا قدرٌ على النار قد ملأتها ماء، فدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الباب فقال: يا أمة الله من أيش بكاء هؤلاء؟ فقالت: بكاؤهم من الجوع، فقال: فما هذه القدر التي على النار؟ فقالت: قد جعلت فيها ماء هو ذا أعللهم به حتى يناموا وأوهمهم أن فيها شيئاً، فجلس عمر رضي الله عنه فبكى. [قال]: ثم جاء إلى دار الصدقة، فأخذ غرارة وجعل فيها شيئاً من دقيقٍ وسمنٍ وشحمٍ وتمرٍ وثيابٍ ودراهم حتى ملأ الغرارة، ثم قال: يا أسلم احمل علي، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين أنا أحمل عنك، فقال: لا أم لك يا أسلم! [بل] أنا أحمله لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة، قال: فحمله على عنقه حتى أتى به منزل المرأة، قال: وأخذ القدر فجعل فيها دقيقاً وشيئاً من شحمٍ وتمرٍ، وجعل يحركه بيده وينفخ تحت القدر. قال أسلم: وكانت لحيته عظيمة، فرأيت الدخان يخرج من خللِ لحيته، حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده ويطعمهم حتى شبعوا، ثم خرج وربض بحذائهم كأنه سبعٌ، وخفت منه أن أكلمه، فلم يزل كذلك حتى لعب الصبيان وصحوا، ثم قام فقال: يا أسلم! تدري لم ربضت بحذائهم؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين، قال: رأيتهم يبكون فكرهت أن أذهب وأدعهم [حتى أراهم] يضحكون، فلما ضحكوا طابت نفسي)) رضي الله عنه.
1245- أخبرتنا أم محمد زينب بنت إسماعيل بن أحمد بن عمر ابن الشيخ أبي عمر المقدسي بقراءتي عليها بظاهر المدينة النبوية، عن أبي طالب عبد اللطيف ابن محمد بن علي الحراني، أنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد الحاجب، أنا(1/665)
الحافظ أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي، أنشدنا أبو محمد عبد الله بن عثمان القرشي بالمغرب وأملاه علي، ثنا محمد بن يعيش، ثنا ابن الطحان، عن أبي عبد الله محمد بن عبد السلام الخشني الإمام المحدث بالأندلس، وكانت له رحلة إلى المشرق، لقي فيها أحمد بن حنبل ونظرائه، وأقام خمساً وعشرين [سنة] متجولاً في طلب الحديث، فلما رجع إلى الأندلس تذكر محاله في الغربة فقال:
كأن لم يكن بينٌ ولم تكن فرقةٌ ... إذا كان من بعد الفراق تلاق
كأن لم تؤرق بالعراقين مقلتي ... ولم يمر كف الشوق ماء مآقي
ولم أزر الأعراب في خبت أرضهم ... بذات الكرى من رامةٍ وبراق
ولم أصطبح بالبيد من قهوة الندى ... وكأسٍ سقانيها الفراق دهاق
بلى فكأن الموت قد زار مضجعي ... فحرمني النفس بين تراق
أخي إنما الدنيا محلة فرقةٍ ... ودار غرورٍ آذنت بفراق
تزود أخي من قبل أن تسكن الثرى ... وتلتف ساقٌ للنشور بساق(1/666)
الحديث السابع والثلاثون: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
1246- أخبرتنا الشيخة الصالحة أم محمد وزيرة بنت عمر بن أسعد بن المنجا بن بركات بن مؤمل التنوخي بقراءتي عليها غير مرة وسماعاً أيضاً قالت: أنا أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد الزبيدي سماعاً عليه، أنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، أنا أبو الحسن مكي بن منصور بن علان الكرجي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، أنا الربيع بن سليمان المرادي، أنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، أنا مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز)).
1247- وأخبرناه أعلا من هذه الطريق بدرجة أبو الفضل سليمان بن حمزة وأبو محمد عيسى بن عبد الرحمن وأبو زكريا يحيى بن محمد وأم محمد زينب ابنة أحمد بن عمر المقدسيون، وأبو الفداء إسماعيل بن نصر الله وابن [ابن] عمه أبو محمد القاسم بن مظفر وأم محمد هدية بنت علي بقراءتي على كل منهم قالوا: أنا أبو المنجا عبد الله بن عمر الحريمي، وبعضهم حضوراً، أنا أبو المعالي محمد بن محمد بن محمد بن الجبان، أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد ابن البسري، أنا أحمد بن محمد بن الصلت، أنا إبراهيم بن عبد الصمد(1/667)
الهاشمي، ثنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب .. .. ))، فذكره كما تقدم، ولم يقل: ((يداً بيد)).
1248- هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى بن يحيى، والنسائي عن قتيبة بن سعيد، ثلاثتهم عن مالك، فوقع بدلاً لهم عالياً في الرواية الثانية.
1249- ورواه أيضاً مسلم عن محمد بن المثنى عن محمد بن أبي عدي، والنسائي عن حميد بن مسعدة وإسماعيل بن مسعود، كلاهما عن يزيد بن زريع كلاهما عن ابن عون، ومسلم أيضاً عن ابن المثنى عن عبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد الأنصاري، كلاهما عن نافع به، فوقع لنا عالياً عنهما بثلاث درجات.
1250- وأخرجه الترمذي عن أحمد بن منيع عن حسين الجعفي عن شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن نافع به، فوقع لنا في الرواية الثانية عالياً عنه بأربع درجات.
1251- وقد أخرجه مسلم أيضاً من حديث الليث بن سعد عن نافعٍ مولى ابن عمر: ((أن ابن عمر قال له رجلٌ من بني ليثٍ: إن أبا سعيد الخدري يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. .. )) فذكر الحديث، قال نافع: ((فذهب عبد الله(1/668)
وأنا معه والليثي حتى دخل على أبي سعيد فقال: إن هذا أخبرني أنك تخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الورق [بالورق] .. .. ))، وذكر الحديث، ((فأشار أبو سعيد إلى عينيه وأذنيه فقال: أبصرت عيناي، وسمعت أذناي رسول الله يقول: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب .. .. ))))، وذكر الحديث كما تقدم، فساق الليث القصة على أحسن وجه، وصرح فيها بالسماع، وسبب ذلك.
1252- أبو سعيد رضي الله عنه اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن [عبيد بن] الأبجر -بالباء الموحدة والجيم، وهو خدرة بضم الخاء المعجمة وإسكان الدال المهملة- أخو خدارة -بضم الخاء أيضاً- رهط أبي مسعود البدري -وقد تقدم ذلك- كلاهما خدرة وخدارة ابنا عوف أخي الخزرج الأصغر وجشم وزيد، وهما التوأمان، أربعتهم أولاد الحارث بن الخزرج الأكبر الأنصاري الخزرجي الخدري.
1253- وأبو مالك بن سنان من قدماء الصحابة، استشهد يوم أحدٍ رضي الله عنه، واستصغر أبو سعيد يوم أحدٍ، فرده النبي صلى الله عليه وسلم، ثم شهد ما بعدها من المشاهد.
1254- فعن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه قال: ((عرضت يوم أحدٍ على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فجعل أبي يأخذ بيدي، فيقول: يا رسول الله! إنه عبل العظام، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصعد في النظر ويصوبه، فقال: رده، فردني)).
1255- وعنه أيضاً قال: ((غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة غزوةً)).(1/669)
1256- روي الكثير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وأبي قتادة، وعبد الله بن سلام، وأخيه لأمه: قتادة بن النعمان، وأبي موسى الأشعري وغيرهم رضي الله عنهم.
1257- والمروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف حديث ومائة وسبعون حديثاً، اتفقا منها على ستة وأربعين حديثاً، وانفرد البخاري بستة عشر حديثاً، ومسلم باثنين وخمسين.
1258- روى عنه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم، ومن التابعين خلقٌ كثير، منهم: سعيد بن المسيب، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو سلمة وحميد ابنا عبد الرحمن، وعامر بن سعد، وعطاء بن يسار، وعطاء بن يزيد وطارق بن شهاب، وعامر الشعبي، وعبيد ابن حنين، وعطاء بن أبي رباح، وأبو جعفر محمد بن علي، وأبو نضرة العبدي، ومن يطول تعدادهم.
1259- وكان رضي الله عنه من فقهاء الصحابة وفضلائهم البارعين.
1260- روى حنظلة ابن أبي سفيان عن أشياخه قالوا: ((لم يكن أحدٌ من أحداث الصحابة أفقه من أبي سعيد الخدري)).
1261- وعن سهل بن سعد قال: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، وأبو ذر، وعبادة بن الصامت وأبو سعيد الخدري على أن لا يأخذنا في الله لومة لائمٍ)).
1262- قال الواقدي وجماعة: توفي بالمدينة سنة أربعٍ وسبعين، وقيل غير ذلك رضي الله عنه.(1/670)
فصل
1263- تضمن هذا الحديث النهي عن بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة متفاضلاً ونسيئة، وعلى ذلك استقر إجماع العلماء، وقد كان فيه خلافٌ متقدم عن ابن عباس فيما يتعلق بالتفاضل، لما روى له أسامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الربا في النسيئة))، فكان يقول بجواز التفاضل في بيع أحدهما بجنسه، وتبعه على ذلك بعض المكيين، ونسب هذا القول أيضاً إلى بعض الصحابة غير ابن عباس، ولا أراه يصح عنه.
1264- وقد روى جماعةٌ أن ابن عباس رضي الله عنه رجع عن ذلك لما أخبره أبو سعيد الخدري بهذا الحديث، كذلك روى أبو الجوزاء وغيره عنه، نعم قد كان معاوية رضي الله عنه في وقت جوز بيع الحلي بالذهب المسكوك متفاضلاً، فأخبره عبادة بن الصامت وأبو الدرداء أيضاً -كما جاء في رواية- بنحو حديث أبي سعيد هذا، ثم استقر الإجماع على تحريم التفاضل كما في تحريم النساء، وانقرض الخلاف بالكلية، كما دلت عليه الأحاديث الثابتة المستفيضة من روايات جماعة من الصحابة(1/671)
غير أبي سعيد رضي الله عنه، منهم عمر بن الخطاب [رضي الله عنه]، وأبو هريرة وفضالة ابن عبيد وعثمان بن عفان، وعبادة بن الصامت وغيرهم.
1265- وتأول الشافعي وغيره من العلماء حديث أسامة: ((إنما الربا في النسيئة)) على أن سائلاً سأل عن التفاضل في جنسين مختلفين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الربا في النسيئة))، فنقل الراوي الجواب دون ذكر سببه، وفي هذا جمع بين الأدلة.
1266- ومنهم من قال: هو محمولٌ على الجنس الواحد؛ يجوز التماثل نقداً ولا يجوز نسيئةً، وقد ذكر بعض الأئمة المحققين أن تحريم النساء والتفاضل في بيع أحد النقدين بالآخر تعبدي غير معقول المعنى، وغيره ذكر لذلك معنىً معقولاً، وهو ما يتضمن من الإجحاف بالفقراء وترك المعروف لأن الرجل إذا أعطى درهماً وأخذ درهمين عند التقاضي فربما أدى ذلك إلى زيادة دراهم كثيرةٍ، كما كانت الجاهلية تفعله؛ يقول أحدهم: إما أن تعطي وإما أن تربي، فورد الشرع بتحريم ذلك، ثم حرم التفاضل القليل والتأجيل اليسير حسماً للمادة وقطعاً للذريعة إلى الكثير، وهذا المعنى منقولٌ قديماً عن جعفر بن محمد الصادق رحمة الله عليه.
1267- واختلف العلماء في تعليل تحريم الربا في الذهب والفضة، فقال الظاهرية: لا علة لذلك؛ بناءً على أصلهم في نفي القياس، ومنع التعليل مطلقاً،(1/672)
وتبعهم على ذلك بعض القائلين بالقياس أيضاً، بناءً على أنه لم يجد لذلك علةً سوى ما نذكره من جوهرية الأثمان غالباً، وهي علةٌ قاصرة، ولا يعلل بها.
1268- وأما الجمهور؛ فإنهم عللوا ذلك، لكن اختلفوا في العلة، فذهب الشافعي وأصحابه أن العلة في ذلك كونهما قيم الأشياء، وجوهري الأثمان غالباً، وهي علةٌ قاصرةٌ لا تتعدى غير النقدين.
1269- وقالت الحنفية: العلة في ذلك الوزن، فيتعدى الحكم إلى كل موزونٍ كالنحاس والرصاص والحديد ونحوه.
1270- وذهب مالك إلى التعليل بكونها أثماناً، فيتعدى الحكم إلى الفلوس والجلود المطبوعة إذا تعومل بها، وعنه قول آخر كمذهب الشافعي.
1271- ومعتمد الجمهور في القول بالتعليل التمسك بالقاعدة الكلية، وهي: ((أن الشرع جاء باعتبار المصالح، والمصلحة لا تعدو أوصاف المحل، فقال كل طائفةٍ: قد سبرنا أوصافه فلم نجد أولى من هذا، فتعين أن يكون هو(1/673)
العلة، والحنفية اعترضوا على من علل بالقاصرة؛ بأنه لا فائدة فيها. وأجاب أصحابنا عن ذلك بأن الفائدة عدم الإلحاق بالقياس، ونقضوا عليهم بالإجماع على جواز سلم الذهب والفضة في النحاس والحديد ونحوه، فلو كانت العلة ما ذكروه لحرم ذلك كما يحرم سلم الذهب في الفضة وبالعكس، وبأنهم إنما يقولون بذلك فيما لم يكن مطبوعاً منه، فأما الأواني المطبوعة من النحاس والحديد، فإنه يجوز بيع ذلك بجنسه متفاضلاً، فلو كان ربويًّا لما اختلف كما في أواني النقدين، وبسط الكلام في ذلك ليس هذا موضعه.
1272- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشفوا بعضها عن بعض)): قال ابن الأثير: ((هذا الحرف من الأضداد، [يقال]: شفا الدرهم يشف: إذا زاد وإذا نقص أيضاً، وأشفه غيره يشفه)).
1273- قلت: لكن تختلف تعديته بحسب المراد به، فيقال في الزيادة: شف على كذا، كما جاء في [هذا] الحديث، وفي النقصان: شف عنه، كما يقال: نقص عنه، ثم الذي يظهر أنه إنما يقال في الزيادة اليسيرة (والنقصان اليسير) كما جاء في الحديث: ((وقد كادت الشمس تغرب ولم يبق منها إلا شف))، أي: شيء قليل، فيدل الحديث على تحريم أقل زيادةٍ تكون.(1/674)
1274- وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((إلا يداً بيدٍ)) مع قوله: ((ولا تبيعوا منها غائباً بناجزٍ)) تأكيد للتقابض وعدم النساء كنا جاء في الحديث الآخر: ((وإن استنظرك [إلى] أن يلج بيته فلا تنظره))، ولهذا شدد مالكٌ -رحمه الله- فلم يسامح بطول ما بين التقابض، وإن وقع في المجلس كما دل عليه حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب رباً إلا هاءً وهاء))، والشافعي -رحمه الله- رأى أن التقابض في المجلس محصلٌ لهذا المقصود ودافع للمحذور من الربا، والله سبحانه أعلم.
1275- أخبرنا العدل أبو القاسم بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي الرضا البعلبكي قدم علينا بقراءتي عليه قال: أنا عبد الرحيم بن أحمد بن الحسن ابن كتائب سماعاً عليه، أنا بركات بن إبراهيم القرشي، أنا هبة الله بن أحمد بن محمد الدمشقي، ثنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي، أنا أبو الحسين محمد بن عبد الرحمن بن عثمان الدمشقي (ح).
1276- وأخبرنا أعلا من هذه الطريق بدرجةٍ أبو العباس أحمد بن محمد ابن الحسن بن صرصري بقرءاتي قال: أنا أبو المكارم عبد الواحد بن عبد الرحمن ابن هلال سماعاً عليه، أنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر، أنا علي بن الحسن بن الحسين الموازيني، أنا محمد بن عبد الرحمن بن عثمان الدمشقي، أنا أبو بكر يوسف بن القاسم الميانجي، ثنا أبو عبيد محمد بن عبد الرحمن الناقد، ثنا أبو يحيى محمد بن سعيد العطار قال: سمعت نصر بن حماد الوراق قال: ((كنا قعوداً على باب شعبة نتذاكر، فقلت: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر قال: كنا نتناوب رعية(1/675)
الإبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت ذات يوم .. .. فذكر الحديث في فضل الوضوء وفضل الشهادتين، قال: فخرج شعبة فلطمني، ثم رجع فدخل، فتنحيت من ناحية، قال: ثم خرج فقال: ما له يبكي بعد؟ فقال له عبد الله بن إدريس: إنك أسأت إليه، فقال له شعبة: انظر ما يحدث! إن أبا إسحاق -يعني السبيعي- حدثني بهذا الحديث عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر؟! فقلت لأبي إسحاق: من عبد الله بن عطاء؟ قال: فغضب ومسعر بن كدام حاضر، قال: فقلت له: لتصححن لي هذا أو لأخرقن ما كتبت عنك، فقال لي مسعر: عبد الله ابن عطاء بمكة. قال شعبة: فرحلت إلى مكة لم أرد الحج، أردت الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء، فسألته فقال: سعد بن إبراهيم حدثني، فقال لي مالك بن أنس: سعد بالمدينة لم يحج العام، قال شعبة: فرحلت إلى المدينة فلقيت سعد بن إبراهيم فسألته فقال: الحديث من عندكم زياد بن مخراق حدثني، فلما ذكر زياد بن مخراق، قلت: أي شيء هذا الحديث، بينما هو كوفي، إذ صار مدنيًّا، إذ صار بصريًّا! قال: فرحلت إلى البصرة فلقيت زياد بن مخراق فسألته، فقال: ليس هو متنٌ يأتيك. فقلت: حدثني به، قال: لا تريده، قلت: حدثني به، قال: ثنا شهر بن حوشب، عن أبي ريحانة، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال شعبة: فلما ذكر شهر بن حوشب، قلت: دمر على هذا الحديث، لو صح لي مثل هذا كان أحب إلي من أهلي ومالي والناس أجمعين.
1277- وقال أبو يحيى: قدم علينا المثنى بن معاذ فسألته عن هذا الحديث فقلت: [هل] عندكم يعني له أصل بالبصرة؟ قال: نعم حدثني بشر بن المفضل، عن شعبة بمثل هذه القصة)).
1278- أنشدنا الفاضل أبو عبد الله محمد بن علي بن أيوب بن مكارم(1/676)
الدمشقي المعدل لنفسه مما نظمه بالديار المصرة وكتب به إلى دمشق:
ترى هل يعود الدهر يجمعنا كما ... فواأسفي أني أموت أسى وما
وتنظمنا دارٌ لنا بطويلع ... وترجع أيامي بنعمان مثل ما
وأختال في أطلال جلق منشداً ... أعيني يا ما طال ما قد سهرتما
وأسحب ذيلي في مقيل ظلالها ... وأرتشف الماء الزلال على الظما
وأجني جنى الورد من خد أرضها ... وألثم من ثغر الأقاحة مبسما
رياضٌ متى قابل الزهر زهرها ... رأيت السما كالأرض والأرض كالسما
أعلل نفسي بالقريض وبالمنى ... ومن لم يجد ماءً طهوراً تيمما
ولم يبق مني البين إلا بقيةً ... أعيش بها صبًّا وأقضي نسما
خليلي إن وافيتما ربع جلق ... سألتكما بالله إلا وقفتما
وبلغتما عني السلام أهيله ... وخبرتما ما قد لقيت وقلتما
محبكم ما حال عما عهدتم ... وعهدكم من حين فارقكم كما
وليس وإن طال البعاد بآيسٍ ... فقد يجمع الله الشتيتين بعدما
الحديث الثامن والثلاثون: عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه
1279- أخبرنا الخطيب الإمام العلامة أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري رحمه الله قراءةً عليه وأنا أسمع سنة ثلاث وسبع مائة قال: أنا العلامة أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشافعي ابن الصلاح وأبو عبد الله محمد بن علي العسقلاني وأبو الحسن محمد بن أبي جعفر القرطبي وأبو البركات عمر بن عبد الوهاب القرشي في آخرين قراءةً عليهم وأنا أسمع، قال الأول: أنا المؤيد بن محمد بن علي الطوسي، والثاني: أنا منصور بن عبد المنعم(1/677)
الفراوي، والثالث: أنا محمد بن علي الحراني، والرابع: أنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي قالوا أربعتهم: أنا محمد بن الفضل بن أحمد الفقيه، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أنا محمد بن عيسى بن عمرويه، أنا إبراهيم بن محمد الفقيه، ثنا الإمام مسلم بن الحجاج القشيري، ثنا عبد الله بن مسلمة القعني، ثنا سليمان -يعني ابن بلال-، عن يحيى بن سعيد، عن يزيد مولى المنبعث، أنه سمع زيد بن خالد الجهني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم و(رضي عنه) يقول: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة الذهب أو الورق، فقال: ((اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعةً عندك، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدها إليه)) وسأله عن ضالة الإبل فقال: ((ما لك ولها، دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها))، وسأله عن الشاة فقال: ((خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب)).
1280- وأخبرناه أعلا من هذه الطريق بدرجة أبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم والقاسم بن مظفر سماعاً وقراءةً، كلاهما عن أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المديني، أنا محمد بن أحمد بن عمر المقدر، أنا إبراهيم بن محمد الطيان، أنا إبراهيم بن عبد الله التاجر، ثنا عبد الله بن محمد بن زياد الإمام، ثنا يونس بن عبد الأعلى، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث ومالك وسفيان، أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حدثهم، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة؟ فقال: ((اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها)) قال: فضالة الغنم؟ قال: ((لك أو لأخيك أو للذئب))، قال: ((فضالة الإبل؟ قال: معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها)).(1/678)
1281- وأخبرناه متصلاً إسماعيل بن يوسف السويدي وعيسى بن عبد الرحمن المقدسي قالا: أنا عبد الله بن عمر العتابي، أنا عبد الأول بن عيسى، أنا عبد الرحمن بن محمد البوشنجي، أنا عبد الله بن أحمد السرخسي، أنا إبراهيم بن خزيم، ثنا عبد بن حميد، ثنا روح بن عبادة، ثنا مالك بن أنس، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد رضي الله عنه .. فذكره بمثله سواء.
1282- هذا حديث صحيح من وجوه عدة عن زيد بن خالد رضي الله عنه.
1283- فأما طريق يحيى بن سعيد عن يزيد مولى المنبعث التي رويناها أولاً فأخرجها مسلم كما سقناه من حديثه، ورواه البخاري من حديث سليمان بن بلال، وأخرجه النسائي مقطعاً عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، فوقع بدلاً له عالياً.
1284- وأما طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن فأخرجها البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث إسماعيل بن جعفر المدني عنه.
1285- ورواه أيضاً مسلم وأبو داود عن أبي طاهر أحمد بن عمرو ابن السرح، والنسائي في ((جمعه حديث مالك)) عن يونس بن عبد الأعلى،(1/679)
كلاهما عن ابن وهب، ولم يذكر أبو داود سوى مالك، فوقع لنا في الرواية الثانية موافقة عاليةً للنسائي، وبدلاً عالياً لمسلم وأبي داود.
1286- وأخرجه البخاري أيضاً عن عمرو بن عباس عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن ربيعة به، فوقع لنا عالياً عنه أيضاً، ولله الحمد والمنة.
1287- زيد بن خالد رضي الله عنه كنيته أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو طلحة، وقيل: أبو زرعة، سكن المدينة، وشهد بيعة الرضوان بالحديبية، وكان معه لواء جهينة يوم فتح مكة.
1288- روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد وثمانون حديثاً، اتفقا منها على خمسة أحاديث، وانفرد مسلم وحده بثلاثة أحاديث.
1289- وروى زيد أيضاً عن عثمان وأبي طلحة وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
1290- روى عنه السائب بن يزيد ومولاه أبو عمرة وسعيد بن المسيب وعطاء بن يسار وسعيد بن يسار وبسر بن سعيد وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعطاء ابن أبي رباح وجماعة.
1291- وكانت وفاته بالمدينة، وقيل: بالكوفة، وقيل: بمصر.
1292- قال ابن البرقي: مات سنة ثمان وسبعين، وله خمس وثمانون سنة، وقيل: إنه مات سنة ثمان وستين، ولعل هذا أصح إن كان عاش خمساً وثمانين سنة؛ لأنه على مقتضى التاريخ الأول يكون عام الحديبية ابن ثلاث عشرة سنة، وذلك بعيد، وقيل: مات سنة اثنتين وسبعين، وقيل غير ذلك رضي الله عنه.(1/680)
1293- وجهينة المنسوب إليه قبيلة زيد بن خالد هو أخو سعد هذيم أبي عذرة المنسوب إليه العذريون، كلاهما جهينة وسعد هذيم ابنا زيد بن ليث بن سود -بضم السين المهملة وإسكان الواو-، ابن أسلم -بضم اللام- أخي عمرو أبي بلي، وإليه ينسب البلويون، وعمران جد كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران، ثلاثتهم أسلم وعمرو وعمران أولاد الحاف بن قضاعة. وقد اختلف فيه اختلافاً كثيراً، فقيل: إنه ابن معد بن عدنان، والأكثرون على أنه من حمير، قالوا: واسمه عمرو بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ الأكبر، وقيل في نسبه غير ذلك، والله أعلم.
فصل
1294- اللقطة: بضم اللام وفتح القاف على المشهور هو الشيء الملقوط، وذكر الأزهري، أنه الذي سمعه من العرب وأجمع عليه رواة الأخبار، ثم حكى عن الخليل بن أحمد أنها بفتح القاف: اسم الرجل الملتقط، وبإسكانها اسم للشيء الملقوط، قال: وهذا هو القياس؛ لأن ما جاء على وزن فعلة -يعني بفتح العين- فهو اسم للفاعل، مثل همزة ولمزة وضحكة ولحنة، وما جاء وزن فعلة يعني بالإسكان فهو اسم للمفعول.
1295- وقال ابن السكيت: اللقطة من الأسماء التي جاءت على فعلة وفعلة بمعنى واحد.
1296- واختلفوا في اللقطة والضالة هل هما بمعنى واحد أم لا؟ فقال(1/681)
الأزهري وغيره: لا يقع اسم الضالة إلا على الحيوان كالبعير والشاة وهي الضوال، وما سوى الحيوان يقال له: لقطة، ولا يقال له: ضالة، ونحو منه قول أبي عبيد وغيره، وقد أنكر الطحاوي وغيره هذا وقالوا: هما سواء في المعنى، وقد جاء في بعض طرق حديث نزول آية التيمم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أمكم قد ضلت قلادتها)).
1297- العفاص: بكسر العين المهملة وبالفاء والصاد المهملة: هو الوعاء الذي يكون فيه النفقة، سواء كان من جلد أو غيره، وأصله الجلد الذي يكون على رأس القارورة لأنه كالوعاء لها.
1298- والوكاء: بكسر الواو وبالمد: الخيط الذي يشد به الوعاء.
1299- وقد جاء في بعض روايات الحديث: ((اعرف عفاصها ووعاءها ووكاءها)).
1300- والمراد بالعفاص في هذه الرواية الجلد الذي على رأسها؛ إذا كانت في وعاء، والمعنى بهذا الكلام تعرف ذلك وحفظ صفته حتى إذا جاء من يصف ذلك ويعرفه يغلب على ظنه أنه صاحبها، فيدفعها إليه، وذكر الإمام الشافعي فيه احتمالات أخر غير هذا.
1301- والحديث دل على جواز أخذ اللقطة بقوة إشارته، وليس فيه تعرض إلى أن ذلك واجب أو هو مستحب، وفي مذهب الشافعي طرق يرجع حاصلها إلى ثلاثة أقوال:
1302- أحدها: أن الالتقاط مستحب وليس بواجب، وهذا الذي رجحه المتأخرون.(1/682)
1303- والثاني: أنه واجب، وهو ظاهر نص الشافعي؛ فإنه قال: ولا يحل ترك اللقطة لمن وجدها إذا كان أميناً عليها.
1304- الثالث: أنه جائز وليس بمستحب أيضاً، واختلف أصحاب مالك أيضاً.
1305- ومن قال باستحباب الالتقاط فذاك بشروط، وروي عن مالك كراهية الالتقاط مطلقاً، وهذا مذهب أحمد، وروي عن جماعة من الصحابة منهم عمر وابن عباس رضي الله عنهم.
1306- وأما أبو حنيفة فقال في ضالة الغنم ونحوها: الأفضل له أن يأخذها بخلاف النفقات ونحوها؛ لأن في أخذها حفظ على صاحبها وعن تعرضها للضياع كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((هي لك أو لأخيك أو للذئب))، وجاء في بعض الروايات: ((خذها فإنما هي .. إلخ))، وأقل درجات الأمر الاستحباب.
1307- وأما الأمر بالتعريف فهو الوجوب بلا خلاف في الجملة، ولأصحابنا وجه: أن من لا يقصد التملك لا يلزمه التعريف، والأصح أنه يلزم لئلا يضيع على صاحبها.
1308- واختلفوا في القليل هل يجب تعريفه سنة أو لا؟ والأصح من مذهبنا أنه يعرف زمناً يظن أن فاقده لا يطلبه في العادة أكثر من ذلك.
1309- وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((فاستنفقها)) فهو إباحة بلا خلاف؛ لوروده بعد الحظر، وقد قال بذلك جمهور العلماء، ودلت عليه أحاديث عديدة، أعني جواز(1/683)
التملك بعد مدة التعريف الشرعية، نعم هو مخصص بما كان منه في الحرم، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا يحل لقطتها إلا لمنشد)).
1310- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولتكن وديعة عندك)) فيه مجاز في لفظ الوديعة؛ فإنها تدل على الأعيان الباقية، وإذا استنفق الملتقط اللقطة لم تكن عيناً، فتجوز بلفظ الوديعة عن كون الشيء بحيث يرد إذا جاء صاحبه كما يجب رد الوديعة، ويحتمل أن تكون الواو بمعنى ((أو))، أي: أنت مخير بين استنفاقها وبين تخليتها بحالها لصاحبها، فيكون حينئذ حكمها حكم الأمانات والودائع.
1311- والحديث دل على وجوب الرد على المالك، وهو يتضمن ردها إذا كانت باقية وضمانها إذا كانت تالفة إذا تبين كونه صاحبها، لكن اختلفوا في أنه هل يتوقف وجوب الرد على إقامة البينة أم ينشأ الوجوب عن مجرد الوصف بأمارتها التي عرفها الملتقط؛ فقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجب ذلك إلا إذا ثبت أنه صاحبها ببينة شرعية، ولكن يجوز له ذلك إلا إذا غلب على ظنه صدقه.
1312- ومذهب مالك: أنه يجب عليه الرد بمجرد وصف أمارتها، وقد قال حماد بن سلمة في رواية في هذا الحديث: ((فإن عرفها صاحبها فادفعها إليه))، لكن تكلم بعض الحفاظ في زيادة حماد هذه؛ قالوا: انفرد بها، وليس كذلك بل هي عند مسلم من رواية سفيان وزيد بن أبي أنيسة أيضاً، وفيه: ((فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فأعلمها إياه)).
1313- وقد أجمعوا على أنه ليس له التملك قبل التعريف المعتبر، وأنه إذا(1/684)
جاء صاحبها قبل التملك أخذها بزيادتها المنفصلة، بخلاف ما إذا جاء بعد التملك وهي باقية فإنه يأخذها بزيادتها المتصلة دون المنفصلة الحادثة بعد التملك، والجمهور على أنه إذا تصرف فيها ثم جاء صاحبها فإنه يضمنها إما بالمثل أو القيمة، وشذ داود فقال: لا ضمان عليه، وقد تقدم أن وجوب الأداء إليه يستلزم الضمان كما في سائر نظائره.
1314- وفي الحديث دليلٌ على المنع من التقاط ضالة الإبل، وجواز أخذ ضالة الغنم بل استحبابه، ونبه صلى الله عليه وسلم على الفرق -تنبيهاً- بقوله عن الإبل: ((معها حذاؤها وسقاؤها))، أي: أخفافها وبطنها الذي تملأه من الماء فتكتفي به أياماً، فهي مستغنية عمن يحفظها لاستقلالها بحذائها وبسقائها وورودها الماء والشجر، وامتناعها من الذئاب وغيرها من صغار السباع، بخلاف الغنم فإنها معرضة للتلف، وهي بين أن تأخذها أنت أو صاحبها أو غيركما أو تتلف بأكل الذئاب لها.
1315- وقد ذكر بعض العلماء أن هذا جاء في أرض العرب حيث لا سباع عادية تتمكن من الإبل، أما إذا كانت في موضع لا يأمن عليها من السباع الكبار فإنه يلتقطها كالغنم.
1316- وفي الحديث مباحث طويلة، وهو في ((الأربعين الكبرى))، وبالله التوفيق.
1317- أخبرنا الحسن بن عبد الرحمن بن محمد بن علي البكري ابن المراكشي في جماعة قراءةً عليهم وأنا أسمع قالوا: أنا أبو العباس أحمد ابن أبي(1/685)
بكر الفندقي، أنا أبو طاهر بركات بن إبراهيم، أخبرنا هبة الله بن أحمد الأكفاني، أنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي، أنا أبو العلاء الوراق، ثنا بكار بن أحمد المقرئ، ثنا الحسين بن محمد الأنصاري، حدثني محمد بن الحسن المديني، عن أبي الحسين البصري قال: حدثني عم أبي زحر بن حصن، ثنا إسماعيل بن داود بن أسد، حدثني أبي، عن مولى لبني سلامة قال: ((كنا في ضيعتنا بالنهرين ونحن نتحدث بالليل فقلنا: ما أحد ممن أعان على قتل الحسين رضي الله عنه خرج من الدنيا حتى تصيبنه بلية، ومعنا رجل من طيء فقال الطائي: وأنا ممن أعان على قتل الحسين فما أصابني إلا خير، قال: وعشا السراج فقام الطائي يصلحه فعلقت النار بسباحته فمر يعدو نحو الفرات فرمى بنفسه في الماء، فأتبعناه فجعل إذا انغمس في الماء رفرفت النار على الماء، فإذا ظهر أخذته حتى قتلته)).
1318- أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الواحد بن عبد الرحمن بن سلامة المقدسي بقراءتي عليه قال: أنا أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي الفهم اليلداني سماعاً عليه، أنا يحيى بن أسعد بن بوش، أنا بهرام بن بهرام البيع، أنا علي بن المحسن التنوخي، أنا محمد بن العباس بن حيويه، ثنا محمد بن خلف المرزبان، حدثني الحسن بن بشر الوراق، أخبرني محمد بن سلام الكاتب -وليس بالجمحي- أن الحسن بن سهل أنشد ولده إبراهيم فقال: يا بني أو ما سمعت قول الشاعر:
إنما العلم يا خليلي كنزٌ ... فاطلباه وأودعاه القلوبا
إنه خير شيءٍ اكتسب الناس ... فلا تعد إلى زيد مطلوبا
وادأب الدهر فيه ما دمت حيًّا ... إن ذا العلم لن يرى مغلوبا(1/686)
وله الفضل في السكوت وإما ... حاول المنطق قال قولاً عجيبا
يخرس الجاهل الغبي من القوم ... وتلقاه مفحماً مكروبا
قائلاً بئسما اكتسبت لنفس ... لم أنلها من العلوم نصيبا
وتعللت بالسفاهة قدماً ... وتندمت إذا رأيت المشيبا
وأقل الغنا عنه ومن ذا ... رد درًّا في ضرعه محلوبا
قال الحسن: ولقد أنشدني أبو الهذيل البصري العلاف مثل ذلك:
إذا لم يكن للمرء عقلٌ يزينه ... ولم يك ذا دينٍ قويمٍ ولا أدب
فما هو إلا ذو قوائم أربعٍ ... وإن كان ذا مالٍ كثيرٍ وذا حسب
الحديث التاسع والثلاثون: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه
1319- أخبرنا الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن محمد ابن غالب الأنصاري التاجر بقراءتي عليه غير مرة قال: أنا العلامة أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي سماعاً عليه، أنا الحافظ أبو طاهر أحمد ابن محمد بن أحمد السلفي، أنا أبو العلاء محمد بن عبد الجبار الفرساني، ثنا أبو الحسن علي بن يحيى بن عبد كويه إملاءً، أنا أبو الفضل بن شهريار، ثنا محمد بن أيوب الرازي، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا ليث -يعني ابن سعد-، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: ((إن الله عز وجل ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا؛ هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومها، جملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنه)).
1320- وأخبرناه أبو عبد الله محمد ابن أبي العز بن مشرف وأم محمد(1/687)
وزيرة بنت عمر بن المنجا سماعاً عليهما وأبو العباس أحمد ابن أبي طالب بقراءتي قالوا: أنا الحسين بن المبارك الربعي، أنا عبد الأول عيسى السجزي، أنا عبد الرحمن بن الحسن البوشنجي، أنا عبد الله بن أحمد السرخسي، أنا محمد بن يوسف، ثنا الإمام محمد بن إسماعيل، ثنا قتيبة ثنا الليث فذكره بمثله سواء، غير أنه قال: ((إن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حرم بيع الخمر .. .. )) إلخ.
1321- وبه إلى الإمام البخاري قال: وقال أبو عاصم: ثنا عبد الحميد، ثنا يزيد، كتب إلي عطاء، سمعت جابراً عن النبي صلى الله عليه وسلم .
1322- هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، جميعاً عن قتيبة بن سعيد أبي رجاء البغلاني الثقفي، -واسمه يحيى وقتيبة لقب له غلب عليه-، كما رويناه، فوقع لنا في الرواية الأولى موافقة لهم كلهم.
1323- ورواه ابن ماجه عن عيسى بن حماد المعروف بزغبة عن الليث ابن سعد به، فوقع بدلاً له في الطريقين.
1324- وأخرجه مسلم أيضاً عن أبي بكر ابن أبي شيبة وابن نمير، كلاهما عن أبي أسامة حماد بن أسامة، وعن محمد بن المثنى عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد، كلاهما عن عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب به، فوقع لنا عالياً عن طريقته هذه، وبدلاً في أبي عاصم الذي علق البخاري الحديث عنه عالياً أيضاً.
1325- ثم روى مسلم قصة: ((قاتل الله اليهود ..)) إلى آخره، من رواية عمر بن الخطاب وأبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم .(1/688)
1326- جابر رضي الله عنه أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو محمد جابر بن عبد الله بن عمرو أخي زيد جد عمرو بن الجموح بن زيد، كلاهما ابنا حرام -بفتح الحاء المهملة- ابن كعب أخي عدي رهط البراء بن معرور، وغيره وسواد رهط كعب بن مالك أحد الثلاثة الذين خلفوا ثلاثتهم -كعب وعدي وسواد- أولاد غنم بن كعب بن سلمة -بكسر اللام - أخي أدي - بضم الهمزة وفتح الدال المهملة وتشديد الياء- رهط معاذ بن جبل رضي الله عنه، كلاهما سلمة وأدي ابنا سعد بن علي بن أسد بن ساردة -بالسين المهملة وكسر الراء وفتح الدال المهملة - بن تزيد -بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الزاي- أخي غضب -بفتح الغين وإسكان الضاد المعجمتين ثم باء موحدة- رهط بني بياضة وبني زريق، كلاهما تزيد وغضب ابنا جشم بن الخزرج الأكبر الأنصاري الخزرجي السلمي -بفتح اللام نسبة على بني سلمة المتقدم أنه بكسر اللام، ولكن فتحت في النسب حذراً من توالي الكسرات-.
1327- وعبد الله بن عمرو أبو جابر من الصحابة أيضاً رضي الله عنه، عقبي بدري، استشهد يوم أحد، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ((أن الله أحياه وكلمه وقال: يا عبد الله ما تريد؟ قال: أرجع إلى الدنيا فأستشهد فيك مرة أخرى)).
1328- وفي ((صحيح البخاري)) عن جابر رضي الله عنه قال: ((دفنت أبي يوم أحد مع رجل ثم استخرجته بعد ستة أشهر فإذا كيوم وضعته غير أذنه)).
1329- وجاء عنه أيضاً أنه ((لما حفروا القناة بأحدٍ زمن معاوية ظهر أبوه عبد الله لم يتغير رضي الله [عنه])).(1/689)
1330- وأما جابر فإنه لم يشهد إلا ما بعد أحد على الصحيح، ولكن شهد العقبة مع السبعين، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذٍ، وكان أصغر من شهدها، وهو آخر من مات منهم.
1331- وقد روى أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: ((كنت أمنح أصحابي الماء يوم بدر)).
1332- قال الواقدي: هذا وهم.
1333- وفي ((صحيح مسلم)) من حديث أبي الزبير أنه سمع جابراً رضي الله عنه قال: ((غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، ولم أشهد بدراً ولا أحداً، منعني أبي، فلما قتل يوم أحد لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قط))، فهذا هو الصحيح.
1334- وروى جابر الكثير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى أيضاً عن أبي بكر وعمر وعلي وعمار ومعاذ وأبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد وأبي هريرة رضي الله عنهم.
1335- والمروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف وخمس مائة وأربعون حديثاً، اتفقا منها على ستين حديثاً، وانفرد البخاري بستة وعشرين حديثاً.(1/690)
1336- روى عنه بنوه محمد وعبد الرحمن وعقيل وسعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسالم بن أبي الجعد وطاوس وعطاء بن أبي رباح ومحمد ابن علي الباقر وعمرو بن دينار ومحمد بن المنكدر ومجاهد والشعبي ومحارب بن دثار وأبو الزبير المكي وأبو سفيان طلحة بن نافع ويزيد الفقير وخلائق غيرهم.
1337- وطال عمره وأضر بصره في آخر عمره.
1338- وفي ((الصحيحين)) عنه قال: ((قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: أنتم اليوم خير أهل الأرض، وكنا ألفاً وأربع مائة، قال: ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة)).
1339- وقال: ((استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمساً وعشرين مرة)).
1340- قال عروة بن الزبير: ((رأيت لجابر بن عبد الله حلقة في المسجد يؤخذ عنه))، ومناقبه كثيرة.
1341- قال عمرو الفلاس وجماعة: مات سنة ثمان وسبعين، وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: مات سنة تسع وسبعين، قال غيره: وهو ابن أربع وتسعين سنة رضي الله عنه.(1/691)
فصل
1342- ورد في الطريق الذي سقناه أولاً: ((إن الله ورسوله حرما)) بضمير التثنية على القاعدة في مثله، ولم يرد كذلك في شيء من الكتب الستة، بل اللفظ في جميعها عندهم: ((إن الله ورسوله حرم بيع الخمر)) مسنداً إلى ضمير الواحد، وهو متأول على أن النبي صلى الله عليه وسلم تأدب فلم يجمع بينه وبين اسم الله تعالى في ضمير الاثنين؛ لئلا يكون من باب قول الرجل الذي أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم: ((ومن يعصهما فقد غوى)).
1343- وقد تضمن الحديث تحريم بيع هذه الأعيان الأربعة، وذلك يستلزم بطلانه لو وقع، والإجماع منعقد على ذلك في الخمر والميتة والخنزير، لكن في جلد الميتة قبل الدباغ خلاف لأبي حنيفة في تجويزه بيعه، ومحل الإجماع إنما هو في اللحم.
1344- ثم اختلف العلماء في علة تحريم بيع هذه الأشياء، والعلة عند أصحابنا في الخمر والميتة والخنزير هي النجاسة، فيتعدى هذا الحكم إلى سائر الأعيان النجسة، سواء كانت نجاستها عينية أو تنجست بملاقاة نجس لها واتصالها به، وكذلك تحريم بيع الكلب بناء على القول بنجاسة عينه، وفي المنع من بيعه أحاديث خاصة ليس هذا موضع ذكرها.
1345- ويدخل في تحريم بيع الخمر والقول بنجاسته كل شراب أسكر لقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر خمر))، وكذلك يدخل في تحريم بيع الميتة جميع أجزائها حتى العظم والقرن والشعر الذي كان متصلاً بها عند الموت، وفيه خلاف معروف، وكذلك الجلد قبل الدباغ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عكيم: ((لا(1/692)
تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب))، والإهاب على الأظهر: جلد الميتة قبل الدباغ، والبيع نوع انتفاع.
1346- وقد طرد مالك في روايةٍ عنه المنع من بيعه بعد الدباغ أيضاً؛ بناءً على أن الدباغ إزالة لا إحالة، وهو قولٌ في مذهبنا مرجوح، والصحيح الذي عليه الجمهور صحة بيعه لزوال العلة المانعة منه وهي النجاسة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أيما إهاب دبغ فقد طهر)).
1347- ويدخل في المنع من بيع الميتة بيع جثة الكافر إذا مات، وفيه حديث خاص به في قصة الخندق: أن المشركين دفعوا للنبي صلى الله عليه وسلم في جسد نوفل ابن عبد الله المخزومي عشرة آلاف درهم فلم يأخذها، وقال: ((لا حاجة لنا في جسده ولا في ثمنه)).
1348- وإذا كانت العلة في تحريم بيع الخنزير كونه نجساً؛ كما دل عليه الكتاب أيضاً بقوله تعالى: {فإنه رجسٌ}؛ فيؤخذ من ذلك أنه لا يطهر جلده بالدباغ، كما ذهب إليه الجمهور خلافاً لأبي يوسف وداود الظاهري.
1349- وأما المنع من بيع الأصنام فقد علله بعضهم بالزجر عنها والمبالغة في التنفير عنها واجتنابها، وهي علة تطرد في كل ما يحرم اقتناؤه كآلات الملاهي المحرمة ونحوها، وعلله أصحابنا بعدم الانتفاع بها، وفي الحديث إشارة إلى ذلك من قولهم: ((أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود(1/693)
ويستصبح بها الناس؟)). فمعارضتهم عند النهي عن بيعها بذكر هذه المنافع دليل على أنهم فهموا أن علة النهي عدم المنفعة لعدم جواز الأمر الذي هو مقصود لأجله، وكان هذا الشرط علة لاعتبار شرط الطهارة، فإن النجس ممنوع من استعماله شرعاً، وعدم النفع الشرعي كعدم النفع الحسي، فليس في كل منهما منفعة يبذل المال في مقابلتها، فيكون ذلك إضاعة له وأكلاً للمال بالباطل في حق البائع، إلا أن بعض أصحابنا يستثني من ذلك ما إذا كان رضاض هذه الأشياء المحرمة يعد مالاً، فجوز بيعها نظراً إلى ذلك الرضاض بعد الكسر، وفرق بعضهم بين المتخذ من جوهر نفيس وغيره، فجوز في الأول دون الثاني. وحاصل هذين الوجهين يرجع إلى عود العلة على النص بالتخصيص، والأصح عند الأصحاب أنه لا يصح البيع ما لم تكسر وتخرج عن هيئتها، وإن كان رضاضها يعد مالاً أو كانت من جوهر نفيس؛ لأنها مع وجود هذه الهيئة لا تراد غالباً إلا للنفع المحرم، وإعمالاً لعموم الحديث وتعميم عليه.
1350- واحتج بهذا الحديث من منع الانتفاع بالنجاسات مطلقاً كلاستصباح ونحوه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ذلك: ((لا؛ هو حرام))، وفيه نظر؛ لأن أول الحديث مصدر بالمنع من البيع، فلم يسألوا عن جواز الانتفاع بهذه الوجوه، لكنهم ذكروا من المنافع ما يقتضي جواز البيع، فكأنهم قالوا: إن فاتت تلك المنفعة التي هي الطهارة فثم منافع أخر مقصودة، فلم لا يجوز بيعها لأجلها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا؛ هو حرام))، فيعود الضمير من قوله: ((هو)) على البيع، فكأنه أعاد تحريم البيع بعدما بين له أن فيها منفعة، إهداراً لتلك المنافع التي ذكرت.
1351- ثم قوله صلى الله عليه وسلم: ((قاتل الله اليهود .. .. )) إلى آخره: تنبيه على تعليل تحريم بيع هذه الأشياء؛ فإنه صلى الله عليه وسلم وجه اللوم على اليهود في أكل الثمن مع تحريم أكل الشحوم عليهم، وفي ((سنن أبي داود)) من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه))، وهذا لا بد فيه من(1/694)
تخصيص؛ فإن البغل والحمار وغير ذلك مما يحرم أكله يصح بيعه اتفاقاً، ولكن ذلك إنما هو فيما المقصود منه الأكل، والأكل أظهر ما يقصد من أجله.
1352- ومعنى جملوه، أي: أذابوه، يقال: جملت الشحم وأجملته واجتملته إذا أذبته، والجميل: الشحم المذاب، والله أعلم سبحانه.
1353- أخبرنا الشيخ الصالح الزاهد أبو البركات شعبان ابن أبي بكر بن عمر الإربلي رحمه الله قراءة عليه وأنا أسمع قال: أنا أبو العباس أحمد بن علي ابن يوسف الدمشقي، أنا هبة الله بن علي بن مسعود، أنا علي بن الحسن الفراء، أنا عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل الضراب، أنا أبي، ثنا أحمد بن مروان المالكي، ثنا أبو غسان عبد الله بن محمد، ثنا أبو سلمة يحيى بن مغيرة المخزومي بمكة، ثنا عبد الجبار بن عبد العزيز بن أبي حازم، حدثني أبي، عن أبيه أبي حازم -يعني سلمة بن دينار- قال: دخل سليمان بن عبد الملك المدينة فأقام بها ثلاثاً فقال: ما ههنا رجل ممن أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا؟ فقيل له: بلى ههنا رجل يقال له: أبو حازم، فبعث إليه فجاءه، فقال له سليمان: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ فقال له أبو حازم: وأي جفاء رأيت مني؟ فقال له سليمان: أتاني وجوه أهل المدينة كلهم ولم تأتني، فقال له: أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن، ما جرى بيني وبينك معرفة آتيك عليها، فقال سليمان: صدق الشيخ فقال سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال أبو حازم: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، قال: صدقت يا أبا حازم، فكيف القدوم؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، قال: فبكى سليمان، وقال: ليت شعري ما أنا عند الله يا أبا حازم؟ فقال أبو حازم: اعرض نفسك، على(1/695)
كتاب الله عز وجل تعلم ما لك عند الله، فقال: يا أبا حازم أين نصيب تلك المعرفة في كتاب الله عز وجل؟ قال أبو حازم: عند قول الله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم. وإن الفجار لفي جحيم}. فقال سليمان: يا أبا حازم من أعقل الناس؟ قال: من تعلم الحكمة وعلمها الناس، قال: فمن أحمق الناس؟ فقال أبو حازم: من حط في هوى رجل وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره، فقال: يا أبا حازم ما أسمع الدعاء؟ قال: دعاء المخبتين، قال: فما أزكى الصدقة؟ قال: جهد المقل، فقال سليمان: يا أبا حازم ما تقول فيما نحن فيه؟ فقال أبو حازم: أعفنا من هذه، فقال سليمان: نصيحة بلغتها فقال أبو حازم: إن ناساً أخذوا هذا الأمر من غير مشاورة من المؤمنين ولا إجماع من رأيهم فسفكوا فيها الدماء على طلب الدنيا ثم ارتحلوا عنها، فليت شعري ما قالوا وما قيل لهم. فقال بعض جلسائه: بئس ما قلت أيها الشيخ، فقال أبو حازم: كذبت، إن الله تبارك وتعالى أخذ على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فقال سليمان: يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح؟ قال: تدعون التكلف وتمسكون بالمروءة، فقال: يا أبا حازم كيف المأخذ لذلك؟ قال: تأخذه من حقه وتضعه في أهله، فقال سليمان: اصحبنا يا أبا حازم وتصيب منا ونصيب منك، فقال أبو حازم: أعوذ بالله من ذلك، قال سليمان: ولم؟ قال: أخاف أن أركن إليكم شيئاً قليلاً فيذيقني ضعف الحياة وضعف الممات. فقال سليمان: فأشر علي يا أبا حازم، فقال أبو حازم: اتق أن يراك حيث نهاك، وأن يفقدك من حيث أمرك، فقال سليمان: يا أبا حازم ادع لنا بخير، فقال أبو حازم: اللهم إن كان سليمان وليك فسيره لخير الدنيا والآخرة، وإن كان عدوك فخذ إلى الخير بناصيته، فقال سليمان: زد، قال: قد أوجزت إن كنت وليه وإن كنت عدوه فما ينفعك أن أرمي عن قوس بغير وتر، فقال سليمان: يا غلام هات مائة دينار، ثم قال: خذها يا أبا حازم، فقال: لا حاجة لي بها، إني أخاف أن يكون لما سمعت من كلامي إن موسى عليه الصلاة(1/696)
والسلام لما هرب من فرعون لما ورد ماء مدين وجد عليه الجاريتين تذودان قال: ما لكما عون؟ قالتا: لا، فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال: {رب إني لما أنزلت إلي من خيرٍ فقيرٌ}، فلما أعجل بالجاريتين الانصراف أنكر ذلك أبوهما، وقال: ما أعجلكما اليوم؟ قالتا: وجدنا رجلاً صالحاً فسقى لنا، قال: فما سمعتماه يقول: قالتا: سمعناه يقول: {رب إني لما أنزلت إلي من خيرٍ فقيرٌ}، قال: ينبغي أن يكون هذا جائعاً تنطلق إليه إحداكما فتقول له: {إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا}، فأتته تمشي على استحياء -أي: على إجلال- فقالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا، فجزع من ذلك موسى عليه السلام، وكان طريداً في فيافي الصحراء، فأقبل والجارية أمامه، فهبت الريح فوصفتها له، وكانت ذات حلق، فلما بلغ الباب دخل، فقال له شعيب عليه السلام -وإذا الطعام موضوع-: أصب يا فتى من هذا الطعام، فقال موسى عليه السلام: أعوذ بالله، قال شعيب عليه السلام: ولم؟ فقال موسى عليه السلام: لأنا من أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً، فقال شعيب عليه السلام: لا والله ولكنها عادتي وعادة آبائي؛ نطعم الطعام، ونقري الضيف، فجلس موسى عليه السلام فأكل. قال أبو حازم: فإن كانت هذه الدنانير عوضاً لما سمعت من كلامي فإن أكل الميتة والدم - في حال الضرورة - أحب إلي - من أخذها. قال: وقدم -هشام يعني ابن عبد الملك- المدينة أيضاً، فأرسل إلى أبي حازم فقال له: يا أبا حازم عظني وأوجز، فقال له أبو حازم: اتق الله وازهد في الدنيا؛ فإن حلالها حساب، وحرامها عذاب، قال: لقد أوجزت يا أبا حازم، ارفع حوائجك إلى أمير المؤمنين، فقال أبو حازم: هيهات هيهات، قد رفعت حوائجي إلى من لا تختزل الحوائج دونه، فما أعطاني منها قنعت، وما منعني منها رضيت، وقد نظرت في هذا الأمر فإذا هو بصفان: أحدهما لي والآخر لغيري، فأما ما كان لي فلو احتلت فيه حيلةً ما وصلت إليه قبل أوانه الذي قد ولى فيه، وأما الذي لغيري فذاك الذي(1/697)
لا أطمع نفسي فيما مضى ولم أطمعها فيما بقي، وكما منع غيري رزقي كذلك منعت رزق غيري، فعلام أقتل نفسي)).
1354- أنشدنا الإمام العالم المحدث أبو عبد الله محمد بن جابر بن محمد بن القاسم بن أحمد بن إبراهيم القيسي التونسي بقراءتي عليه غير مرة كلما قدم علينا قال: أنشدني قاضي الجماعة أبو العباس أحمد بن محمد ابن الغماز قال: أنشدني الحافظ أبو الربيع سليمان بن سالم الكلاعي لنفسه:
إذا برمت نفسي بحالٍ أحلتها ... على أملٍ ناءٍ فقرت به النفس
وأنزل أرجاء الرجاء ركائبي ... إذا رام إلماماً بساحتي اليأس
وإن أوحشتني من أماني نبوةٌ ... فلي في الرضى بالله والقدر الأنس
1355- وأنشدنا أيضاً قال: أنشدني الفقيه المحدث أبو القاسم خلف بن عبد العزيز بن محمد بن خلف الغافقي الإشبيلي لنفسه بتونس:
أجرني يا إلهي من ذنوبٍ ... أبت نفسي لها غير ارتكاب
وخذ بيدي فإني في مهاوي الهلاك ... الوقت بعد الوقت كابي(1/698)
الحديث الأربعون: عن أنس بن مالك رضي الله عنه
1356- أخبرنا الشيخ أبو الفداء إسماعيل بن نصر الله بن أحمد بن محمد ابن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الدمشقي المعروف بابن عساكر بقراءتي عليه في أوائل سنة إحدى عشرة وسبع مائة قال: أنا أبو المنجا عبد الله بن عمر بن علي اللتي، أنا أبو المعالي محمد بن محمد بن محمد بن اللحاس، أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد البسري، أنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصلت المجبر، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، ثنا أبو مصعب أحمد ابن أبي بكر الزهري، عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال)).
1357- وأخبرناه متصلاً -لكن أنزل من هذه الطريق بدرجة- أبو الحسين علي ابن يحيى بن [أبي] علي الشاطبي بقراءتي، أنا عبد العزيز بن عبد الوهاب الكفرطابي سماعاً، أنا يحيى بن محمود الثقفي، أنا زاهر بن طاهر الشحامي، أنا محمد بن عبد الرحمن الكنجروذي، أنا الحافظ أبو أحمد محمد بن محمد الحاكم، أنا محمد بن إسحاق الثقفي، أنا قتيبة بن سعيد، أنا مالك .. فذكره.
1358- هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري في ((الأدب)) عن عبد الله ابن يوسف التنيسي، ومسلم في ((البر والصلة)) عن يحيى بن يحيى، وأبو داود في ((الأدب)) عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثلاثتهم عن مالك به،(1/699)
فوقع لنا في الرواية الأولى بدلاً لهم عالياً، ورواه الترمذي في ((الأدب)) عن عبد الجبار بن العلاء وسعيد بن عبد الرحمن، كلاهما عن سفيان بن عيينة عن الزهري به، فوقع لنا عالياً عنه أيضاً بحمد الله ومنه.
1359- أنس رضي الله عنه كنيته أبو حمزة، كناه النبي صلى الله عليه وسلم ببقلة كان يجتنيها، وهو أخو البراء أحد زهاد الصحابة ورؤسائهم، كلاهما ابنا مالك أخي أنس المقتول يوم أحد شهيداً وبه بضع وثمانون ضربة، كلاهما ابنا النضر بن ضمضم -بضادين معجمتين مفتوحتين- أخي خالد جد أم سليم أم أنس بن مالك وإخوتها، كلاهما ضمضم وخالد ابنا زيد أخي زعوراء جد أبي زيد أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كلاهما زيد وزعوراء ابنا حرام بفتح الحاء المهملة، ابن جندب أخي عدي رهط هشام بن عامر أحد الشهداء يوم أحد وخداش جد سلمى أم عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، ثلاثتهم جندب وعدي وخداش أولاد عامر بن غنم بن عدي أخي مالك ومازن ودينار، أربعتهم أولا النجار، واسمه تيم اللات، -وسمي النجار لأنه اختتن بقدوم- [ابن] ثعلبة بن عمرو بن الخزرج الأنصاري الخزرجي النجاري، خادم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يفتخر بذلك وحق له، خدمه صلى الله عليه وسلم مدة إقامة بالمدينة عشر سنين.(1/700)
1360- وروى الكثير الطيب عنه وعن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي ذر وأبي بن كعب ومعاذ وطائفة غيرهم رضي الله عنهم.
1361- والمروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف حديث ومائتان وستة وثمانون حديثاً، اتفقا منها على مائة وثمانية وستين حديثاً، وانفرد البخاري باثنين وسبعين حديثاً، ومسلم بأحد وسبعين.
1362- فأنس رضي الله عنه أحد السبعة المكثرين من الصحابة، وقد ذكرناهم في هذا الكتاب، فأكثرهم أبو هريرة، ثم ابن عمر، ثم أنس، ثم عائشة، ثم ابن عباس، ثم جابر، ثم أبو سعيد الخدري، ولم يصل إلى رواية ألف حديث غير هؤلاء السبعة رضي الله عنهم على ما بينا في أسمائهم.
1363- وروى عن أنس بن مالك خلق كثير وجم غفير من التابعين لا يحصون، منهم بنوه موسى والنضر وأبو بكر وحفيداه ثمامة بن عبد الله وحفص بن عبيد الله والحسن البصري وثابت البناني وقتادة بن دعامة وعبد العزيز بن صهيب وعمرو بن أبي عمرو وشريك بن عبد الله بن أبي نمر وربيعة بن أبي عبد الرحمن ويحيى بن سعيد الأنصاري ومحمد بن شهاب الزهري وحميد الطويل وسليمان التيمي وسليمان الأعمش وعاصم الأحول وعيسى بن طهمان وموسى بن وردان وهؤلاء متأخرو أصحابه من الثقات.
1364- ثبت عنه أنه قال: ((قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين، ومات وأنا ابن عشرين سنة)).(1/701)
1365- وقال: ((لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جاءت أم سليم -يعني أمه رضي الله عنهما- فقالت: يا رسول الله هذا أنس غلام لبيب كاتب يخدمك، قال: فقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم )).
1366- وفي ((صحيح البخاري)): أن أم سليم قالت: ((يا رسول الله خويدمك أنس تدعو الله له، فقال: ((اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه، قال: فإني لمن أكثر الأنصار مالاً، وحدثتني بنتي أمينة أنه دفن لصلبي إلى مقدم الحجاج البصرة بضع وعشرين ومائة)).
1367- وفي غير البخاري: ((وإن نخلي لتحمل في السنة مرتين)).
1368- وقال جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له فقال: ((اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة))، قال: ((فقد رأيت اثنتين وأنا أرجو الثالثة)).
1369- وروي عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن مولى لأنس أنه قال لأنس: ((أشهدت بدراً؟ قال: لا أم لك وأين أغيب عن بدر)).(1/702)
1370- ولم يذكره أهل السير فيمن شهد بدراً ولا أحداً، لأنه كان صغيراً لم يبلغ الحلم، خرج ليخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة فيمن شهد الخندق وما بعدها.
1371- قال أبو هريرة: ((ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أم سليم يعني أنساً)).
1372- وروى ثابت البناني قال: ((كنت مع أنس رضي الله عنه فجاء قهرمانه فقال: يا أبا حمزة عطشت أرضنا، فقام فتوضأ وخرج إلى البرية فصلى ركعتين ثم دعا، فرأيت السحاب قد يلتئم، ثم مطرت حتى ملأت كل شيء، فلما سكن المطر بعث أنس بعض أهله فقال: انظر أين بلغت السماء، فنظر فلم يعد أرضه إلا يسيراً وذلك في الصيف)).
1373- وكانت وفاته بالبصرة سنة ثلاث وتسعين على الصحيح الذي قاله الجمهور، وقيل: سنة تسعين، وقيل: ما بينهما، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، وآخر من مات منهم بالمدينة سهل بن سعد، وبالكوفة عبد الله بن أبي أوفى، وبالشام عبد الله بن بسر، وبمصر عبد الله بن الحارث بن جزء، وآخر من مات ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً أبو الطفيل عامر بن واثلة، مات سنة مائة، وقيل: سنة عشر ومائة رضي الله عنهم.(1/703)
فصل
1374- قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تباغضوا)) أصله تتباغضوا، وكذا في الحرفين الأخيرين بعده، فحذفت إحدى التاءين كراهية اجتماع المثلين، لكن اختلفوا في المحذوف هل هي الأولى أو الثانية، فمن قائل المحذوف الأولى لأنها زائدة، ومن قائل الثانية لأن الأولى تدل على معنى هو المضارعة، وقد يجمع بين التاءين في بعض الألفاظ كما في قوله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعضٍ}، وقوله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}، والنهي عن التباغض يحتمل وجهين:
1375- أحدهما: أن يكون المراد: لا يبغض بعضكم بعضاً، وهذا وإن كان من الأمور الجبلية الحاصلة في القلب، فالمراد كسر دواعيه والتنفي عن أسبابه حتى يزول من القلب، لما يؤدي إليه ذلك من المنافرة والمقاطعة، ويتضمن ذلك الأمر بالمحبة والمودة في الله تعالى لما يترتب عليها من التعاضد والتناصر في الدين، أو يكون النهي عن التباغض نهياً عن أن يترتب على البغض أثره من القطيعة والسعي في الأذية.
1376- وثانيهما: أن يكون المراد النهي عن النميمة؛ لأنها تقتضي التباغض والتنافر بين الاثنين، فكأن الساعي بها أوجب تباغضهما، فيكون معنى الحديث: لا تبغضوا بعضكم إلى بعض، والنميمة من الكبائر العظيمة كما دل عليه الحديث في القبرين في قوله صلى الله عليه وسلم: ((بلى أما أحدهما فإنه كان يمشي بالنميمة)). والمعاصي يعظم قبحها بحسب ما يترتب عليها من المفاسد، ولا يخفى ما يترتب على النميمة من المقاطعة والمعاداة والتنافر.(1/704)
1377- وأما الحسد فإنه تمن يقع في القلب، وهو على قسمين:
1387- أحدهما: أن يكون في الدين، والآخر: أن يكون فيما هو من أمور الدنيا، فأما الذي في الدين فيعبر عنه بالغبطة إن كان لم يتمن زوال ذلك عمن رآه به، فإن تمنى زواله عن ذلك الغير وأن يكون هو المختص به فهو من الحسد المذموم، بخلاف الأول فإنه مطلوب لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار))، وإطلاق لفظ الحسد في هذا الحديث على وجه المجاز، والمراد به الغبطة بدليل ما في بعض روايات هذا الحديث: ((فرآه رجل فقال: ليت لي مثل هذا فأفعل مثله))، فهذا هو الغبطة لا الحسد.
1379- وأما الذي في الأمور الدنيوية فهو على أنواع:
1380- أحدها: أن يتمنى لنفسه مثلما لذلك الغير من غير تمني زواله عن الغير؛ فاختلفوا في أن هذا منهي عنه -وهو الحسد- أم لا؟ فمنهم من قال: إنه منهي عنه لقوله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} الآية، والنهي في الحقيقة إنما هو عن مسبباته، لما يؤدي إليه ذلك إذا لم يحصل له ما تمناه من البغضاء والمعاداة.
1381- وثانيها: أن يتمنى زوال تلك الدنيا عن الغير ووصولها إليه، فهذا هو الحسد المحرم باتفاق، ومن الناس من جعله هو المراد بقوله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضهم على بعضٍ}؛ فإن حقيقته أن يتمنى صيرورة عين ما لذلك الغير لنفسه.
1382- وثالثها: أن يتمنى زوال تلك النعمة عن المحسود وإن لم تصل(1/705)
إليه، وهو شر من النوع الذي قبله وأولى منه بالتحريم، وهما جميعاً مرادان بالنهي في هذا الحديث بالاتفاق، والعلماء مجمعون على تحريمهما، وتظاهرت عليه الأدلة المتضافرة من الكتاب والسنة.
1383- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تدابروا)) قيل فيه وجوه:
1384- أحدها: أن المراد به التقاطع وترك الكلام والسلام ونحوه؛ لأن من فعلت معه ذلك فقد وليته دبرك، فهو مشتق من الاسم لا من المصدر، مثل: فأدته: إذا أصبت فؤاده.
1385- وثانيها: أن معناه النهي عن التباغض والمعاداة وإن لم يكن بينهما مهاجرة؛ لأن المبغض يحول وجهه عمن أبغضه، كما قيل في الذي قبله، وفيهما نظر للجمع في الحديث بين النهي عن التباغض والتدابر، ولذلك جاء في رواية أخرى في ((الصحيح)): [لا] تقاطعوا ولا تدابروا، فهي متغايرة.
1386- وثالثها: أن معناه لا يغتب بعضكم بعضاً، أي: لا يتكلم أحد منكم في دبر الآخر بعد غيبته عنه، فهو نهي عن الغيبة المتفق على تحريمها، ورجحه جماعة من الأئمة لتضمنه معنىً زائداً على التباغض والتقاطع.
1387- ثم لما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الأخلاق أمر بعد ذلك بنقيضها فقال: ((وكونوا عباد الله إخواناً))، أي: ليكن حال بعضهم مع بعض حال الأخ مع أخيه، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره))، وفي رواية: ((ولا يجبهه ولا يعضهه))، ففي معاملة(1/706)
بعضهم بعضاً معاملة الإخوان الكف عن جميع ما يقتضي المنافرة والإتيان بكل ما يوجب المحبة والألفة، كما تقتضي الأخوة، التي هي النسب من ذلك.
1388- ثم لما كان النهي عن المقاطعة غير صريح في التحريم بل ظاهر فيه صرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بقوله: ((ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال))، وفيه أيضاً زيادة بيان هذا العدد، وأن ما دون ذلك ليس بقطيعة محرمة، ومن العلماء من لم يبح المهاجرة أقل من ثلاث أيضاً، ورأى أن التقييد بالثلاث خرج مخرج الغالب. وفي حديث أبي أيوب رضي الله عنه في ((الصحيحين)) أيضاً: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال؛ يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام))، وفي ((سنن أبي داود)): ((فإن مرت ثلاث فليلقه فليسلم عليه، فإن رد عليه فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم))، وهذا كله مخصوص بما إذا كان الهجران لغير سببٍ ديني، فإن كان لغرض ديني إما لبدعة أو إصرارٍ على معصية فليس محرماً، بل المهاجرة لهذا الغرض قربةٌ وطاعة؛ لأنها في الله تعالى، وقد بسطت الكلام على هذا وما يشبهه في ((النفحات القدسية))، وبالله التوفيق.(1/707)
1389- أخبرنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن أبي الهيجاء، ابن أبي المعالي الصالحي ابن المزراد بقراءتي عليه قال: أنا إبراهيم بن خليل الدمشقي سماعاً عليه، أنا إسماعيل بن علي الجنزوي، أنا علي بن أحمد بن قبيس، أنا أحمد بن عبد الواحد بن محمد، أنا جدي محمد بن أحمد بن أبي حديد، ثنا محمد بن جعفر السامري، ثنا أحمد بن منصور الرمادي، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، حدثني أنس بن مالك قال: ((كنا جلوساً يوماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة، قال: فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه في يده الشمال، فسلم، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مقالته الأولى، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقال: إني لاحيت أبي، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت، قال: نعم، قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه(1/708)
بات عنده ثلاث ليالٍ لم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعار من الليل لا يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحقر عمله قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثلاث مرات: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك، فلم أرك تعمل كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي على أحد من المسلمين غشًّا ولا أحسده على خير أعطاه الله تعالى إياه، قال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق)).
1390- أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى الصالحي بقراءتي عليه قال: أنا محمد بن إسماعيل المقدسي سماعاً عليه، أنا هبة الله بن علي بن حيدرة، أنا عبد الله بن رفاعة الفرضي، أنا علي بن الحسن الخلعي، أنا عبد الرحمن بن عمر النحوي، أنا عبد الله بن جعفر بن الورد، ثنا عبد الرحيم بن عبد الله البرقي، ثنا عبد الملك بن هشام، ثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن ابن إسحاق قال: وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/709)
نب المساكين أن الخير فارقهم ... مع النبي تولى عنهم سحرا
من ذا الذي عنده رحلي وراحلتي ... ورزق أهلي إذا لم يؤنسوا المطرا
أم من نعاتب لا نخشى جنادعه ... إذا اللسان عنى القول أو عثرا
كان الضياء وكان النور نتبعه ... بعد الإله وكان السمع والبصرا
فليتنا يوم واروه بملحده ... وغيبوه وألقوا فوقه المدرا
لم يترك الله منا بعده أحداً ... ولم يعش بعده أنثى ولا ذكرا
ذلت رقاب بني النجار كلهم ... وكان أمراً من أمر الله قد قدرا
1391- وبه إلى ابن إسحاق قال: وقال حسان رضي الله عنه أيضاً يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
آليت ما في جميع الناس مجتهداً ... مني ألية بر غير إفساد
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت ... مثل الرسول نبي الأمة الهادي
ولا برا الله خلقاً من بريته ... أوفى بذمة جارٍ أو بميعاد
من ذا الذي كان فينا يستضاء به ... مبارك الأمر ذا عدلٍ وإرشاد
يا أفضل الناس إني كنت في نهرٍ ... أصبحت منه كمثل المفرد الصادي
آخر الأربعين والله تعالى الموفق والمعين، ولنشرع بعدها في سياقة
الأربعين في الأدعية عن أربعين شيخاً آخرين تغمدهم الله برحمته أجمعين.(1/710)
الحديث الأول
1392- أخبرنا أبو العباس أحمد بن عبد الله بن الرضي عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار المقدسي في جماعة آخرين سماعاً عليهم قالوا: أنا أحمد ابن عبد الدائم بن نعمة، أنا يحيى بن محمود الثقفي، أنا عبد الواحد بن محمد الصباغ، أنا عبيد الله المقير النبيساري، أنا محمد بن الفضل بن خزيمة، أنا جدي الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق، ثنا علي بن حجر، ثنا إسماعيل بن جعفر، ثنا حميد، عن أنس رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الصلاة فسمع رجلاً يقول آنفاً الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، قال: فصلى رسول الله فانصرف فجلس، فقال: من المتكلم آنفاً؟ فسكت الناس، فقال: من المتكلم آنفاً؟ فإنه لم يقل بأساً، فقال الرجل: أنا أقبلت يا رسول الله مسرعاً حتى قمت فوجدت بهراً فقلت ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد رأيتها ابتدروها اثنا عشر ملكاً أيهم يرفعها)).
الحديث الثاني
1393- أخبرنا القاضي أبو محمد عبد الرحيم بن إدرس بن مزيز بن محمد مزيز الحموي النحوي قراءة عليه وأنا أسمع قال: أنا أبو محمد عبد العزيز ابن عبد المحسن الأنصاري، أنا عبد المنعم بن عبد الوهاب بن كليب، أنا علي ابن أحمد بن بيان، أنا محمد بن محمد بن مخلد، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا الحسن بن عرفة، ثنا هشيم بن بشير، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: ((لما نزلت: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً}(1/711)
قلنا: يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد)).
1394- قال ابن عرفة: قال هشيم: قال يزيد بن أبي زياد: وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول: وعلينا معهم.
الحديث الثالث
1395- أنا أسماء بنت محمد بن سالم بن الحسن بن صصري بقراءتي عليها قالت: أنا أبو محمد مكي بن المسلم بن علان، أنا الفضل بن الحسين بن إبراهيم البانياسي، أنا أبو الحسن علي وأبو الفضل محمد ابنا الحسن بن الموازيني، أنا محمد بن علي بن سلوان، أنا الفضل بن جعفر المؤذن، ثنا محمد بن عبد الله -يعني الجوهري-، ثنا العباس بن الوليد، أخبرني أبي، ثنا الأوزاعي، حدثني شداد أبو عمار، حدثني أبو أسماء الرحبي، ثنا ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينصرف من صلاته استغفر ثلاث مرات ثم قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)).(1/712)
الحديث الرابع
1396- أخبرنا أبو المعالي محمد بن إبراهيم بن أحمد بن عثمان بن عبد الله ابن غدير الطائي ابن القواس بقراءتي عليه، أنا يعقوب بن إسحاق بن عبد المحسن بن صدقة البصري قراءةً عليه وأنا حاضر، أنا المؤيد بن محمد بن علي الطوسي، أنا محمد بن الفضل الصاعدي، أنا عمر بن أحمد بن مسرور، ثنا إسماعيل بن نجيد السلمي أبو عمرو، أنا يوسف بن يعقوب القاضي، ثنا حفص ابن عمر، ثنا شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي)).
الحديث الخامس
1397- أخبرنا الزاهد أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أحمد بن عبد الرحمن بن سلطان القرشي بقراءتي عليه قال: أنا أبو العباس أحمد بن المفرج بن علي الأموي سماعاً عليه، أنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن ابن عساكر، أنا الحسن بن عبد الملك الخلال، أنا أبو طاهر أحمد بن محمود الثقفي، أنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي، أنا عبدان بن أحمد، ثنا عاصم بن النضر، ثنا معتمر بن سليمان، ثنا أبي -يعني التيمي-، عن مسعر، عن أبي بكر ابن حفص، عن عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما في شأن هؤلاء الكلمات: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش الكريم، الحمد لله رب العالمين، اللهم اغفر لي، اللهم تجاوز عني، اللهم اعف -يعني عني-(1/713)
فإنك عفوٌّ غفورٌ، أو غفورٌ عفوٌّ. قال عبد الله بن جعفر: أخبرني عمي -يعني عليًّا رضي الله عنه-: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه هؤلاء الكلمات)).
الحديث السادس
1398- أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن خواجا إمام [الدين] الفارسي بقراءتي عليه، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن مضر التاجر سماعاً عليه، أنا منصور بن عبد المنعم الفراوي، أنا جد أبي الإمام أبو عبد الله محمد بن الفضل، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أنا أحمد بن محمد بن عمرويه، أنا إبراهيم بن سفيان الفقيه، ثنا مسلم بن الحجاج الإمام، ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم ومحمد بن عبد الله بن نمير واللفظ لابن نمير قال إسحاق: أنا وقال الآخران: ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن عبد الله بن الحارث، وعن أبي عثمان النهدي، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: لا أقول لكم إلا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال: كان رسول الله يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)).(1/714)
الحديث السابع
1399- أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عثمان السلمي الدمشقي بقراءتي عليه، عن أبي القاسم عبد الرحمن بن مكي السبط، أنا جدي الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي، أنا نصر بن أحمد بن البطر، أنا عبد الله ابن عبيد الله بن البيع، ثنا الحسين بن إسماعيل القاضي، ثنا محمد بن إدريس أبو حاتم الرازي، ثنا عبد الله بن صالح بن مسلم، ثنا فضيل بن مرزوق، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن علي بن ربيعة قال: ((كنت ردفاً لعلي رضي الله عنه فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى على ظهر الدابة قال: الحمد لله ثلاث مرات، ثم قال: {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وإنا إلى ربنا لمنقلبون}، ثم قال: لا إله إلا أنت سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم قال: بإحدى شفتيه فضحك، ثم قال: إني كنت ردفاً للنبي صلى الله عليه وسلم فصنع كما صنعت، فقلت له كما قلت لي: فقال: ((إن الله عز وجل يضحك إلى عبده إذا قال: لا إله إلا أنت سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، قال: علم عبدي أن له ربًّا يغفر ويعاقب)).
الحديث الثامن
1400- أنا العدل أبو المحاسن يوسف بن محمد بن إبراهيم بن عيسى الكردي بقراءتي عليه قال: أنا جدي للأم أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم بن شاكر(1/715)
التنوخي، أنا بركات بن إبراهيم القرشي، أنا عبد الكريم بن حمزة السلمي، ثنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي البغدادي الخطيب (ح).
1401- وقرأت معه أيضاً على أبي عبد الله محمد ابن أبي بكر بن عثمان الدمشقي قال: أنبأنا علي ابن أبي عبد الله البغدادي، عن الفضل بن سهل الإسفرائيني، عن الخطيب هذا، أنا القاسم بن جعفر الهاشمي، أنا محمد بن أحمد اللؤلؤي، ثنا سليمان بن الأشعث أبو داود، ثنا مسدد، ثنا المعتمر قال: سمعت أبي قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والبخل والهرم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)).
الحديث التاسع
1402- أخبرنا أبو عبد الله محمد ابن أبي بكر بن قاسم الهمداني الشيعي وغيره بقراءتي عليه أيضاً، أنا أحمد بن المفرج بن علي بن مسلمة، أنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي، أنا إسماعيل ابن أبي القاسم القارئ، أنا عمر ابن أحمد بن مسرور (ح).
1403- وبه إلى الحافظ قال: أنا محمد بن الفضل بن أحمد وعبد المنعم ابن عبد الكريم وزاهر بن طاهر قالوا: أنا سعيد بن محمد البحيري قالا: أنا أحمد بن محمد بن جعفر البحيري، أنا محمد بن إسحاق السراج، ثنا قتيبة -يعني ابن سعيد-، ثنا الليث -هو ابن سعد-، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ((أنه قال: يا رسول الله! علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي(1/716)
ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)).
الحديث العاشر
1404- أخبرنا الحافظ أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن القضاعي الكلبي قراءةً عليه وأنا أسمع في آخرين قال: أنا العلامة الرباني أبو الفرج عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الحنبلي والمقدام بن هبة الله القيسي وغيرهما قال الأول: أنا عمر بن محمد الدارقزي، والثاني: أنا علي بن نصر ابن البناء قالا: أنا أبو الفتح عبد الملك بن أبي القاسم الكروخي (ح).
1405- وأخبرنا أعلا من هذا أبو الحسن علي بن محمد بن ممدود البغدادي، عن أبي محمد عبد الخالق بن الأنجب بن المعمر، عن أبي الفتح الكروخي هذا قال: أنا محمود بن القاسم الأزدي وغيره، أنا عبد الجبار بن محمد الجراحي، أنا محمد بن أحمد المحبوبي، ثنا محمد بن عيسى الترمذي، ثنا أبو كريب، ثنا محمد بن فضيل، عن محمد بن سعد الأنصاري، عن عبد الله ابن ربيعة الدمشقي قال: حدثني عائذ الله أبو إدريس الخولايي، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان من دعاء داود عليه الصلاة والسلام يقول: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر داود عليه السلام فحدث عنه قال: كان أعبد البشر)).(1/717)
الحديث الحادي عشر
1406- أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن عبد المنعم بن نصر الله ابن جوادي التنوخي الحنفي قراءةً عليه وأنا أسمع، أنا أحمد بن عبد الدائم بن نعمة، أنا محمد بن علي بن صدقة (ح).
1407- وأخبرنا إسماعيل بن يوسف القيسي، أنا إسماعيل بن ظفر الحنبلي، أنا عبد الله بن عمر بن منصور قالا: أنا محمد بن الفضل الفقيه، أنا أبو حفص عمر بن أحمد الزاهد، أنا بشر بن أحمد الإسفرائيني، أنا أبو بكر محمد بن يحيى المروزي، ثنا عاصم بن علي، ثنا عكرمة -يعني ابن عمار-، عن يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء كان يفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: ((كان يكبر، ويفتتح صلاته: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)).
الحديث الثاني عشر
1408- أخبرنا أبو الحسن علي بن يحيى بن [أبي] علي بن أبي بكر بن محمد بن موسى الشاطبي المعدل بقراءتي عليه، أنا أبو الفضل إسماعيل بن أحمد ابن الحسين العراقي سماعاً عليه، عن الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد السلفي، وأبي المحاسن محمد بن عبد الخالق الجوهري وعبد الرزاق بن إسماعيل القومساني وغيرهم قالوا: أنا عبد الرحمن بن حمد بن حسن الدوني، أنا أحمد ابن الحسين بن الكسار، أنا أحمد بن محمد السني، ثنا أحمد بن شعيب(1/718)
النسائي الحافظ، أنا قتيبة، ثنا سفيان، عن الأحول -يعني سليمان- بن أبي مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق، اللهم لك أسلمت وعليك توكلت وبك آمنت -ثم ذكر كلمة معناها- وبك خاصمت وإليك حاكمت، اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، ولا قوة إلا بالله)).
الحديث الثالث عشر
1409- أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي بن سالم بن رضوان المزي في جماعة آخرين قراءة عليهم وأنا أسمع قالوا: أنا محمد بن إسماعيل الخطيب أبو عبد الله، أنا أبو القاسم هبة الله بن علي، أنا أبو جعفر يحيى بن المشرف التمار، أنا أحمد بن سعيد بن نفيس، أنا علي بن الحسين بن بندار، ثنا الحسن بن أحمد ابن إبراهيم، ثنا هارون بن داود، ثنا يزيد بن هارون قال: وثنا المسعودي، عن إبراهيم بن عبد الله السكسكي، عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أقرأ فيما يجزيني منه؟ قال: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: يا رسول الله هذه لله فما لي؟ قال: قل اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني(1/719)
وارزقني، فخرج وهو قابض كفيه. قال يزيد: لا أعلمه إلا قال: قد ملأ يديه من الخير)).
الحديث الرابع عشر
1410- أخبرنا أبو محمد عبد الله بن الحسين ابن أبي التائب ابن أبي العيش الأنصاري سماعاً عليه، أنا إبراهيم بن خليل بن عبد الله الدمشقي، أنا يحيى ابن محمود الثقفي، أنا محمد بن أحمد ابن أبي نزار حضوراً وفاطمة بنت عبد الله الجوزدانية سماعاً قالا: أنا محمد بن عبد الله بن ريذة، ثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد الحافظ، ثنا محمد بن أيوب بن مرزوق البصري، ثنا كامل بن طلحة الجحدري، ثنا عبد الله بن لهيعة، ثنا خالد بن أبي عمران، عن نافع قال: ((ما جلس ابن عمر رضي الله عنهما مجلساً إلا تكلم فيه بكلمات، فسئل عنهن فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهن: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، اللهم ارزقني من طاعتك ما تحول به بيني وبين معصيتك، وارزقني من خشيتك ما تبلغني به رحمتك، وارزقني من اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، وبارك لي في سمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني، واجعل ثأري على من ظلمني، وانصرني على من عاداني، ولا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تجعل الدنيا أكبر همي ولا مبلغ علمي)).(1/720)
الحديث الخامس عشر
1411- وأخبرنا أخوه أبو الفداء إسماعيل بن الحسين ابن أبي التائب بقراءتي عليه، أنا إسماعيل بن أحمد العراقي سماعاً عليه، عن الكاتبة شهدة بنت أحمد الأبري، أنا أبو القاسم علي بن الحسين الربعي، أنا محمد بن محمد بن مخلد، أنا محمد بن عمرو ابن البختري، ثنا محمد بن إسماعيل بن يوسف السلمي، ثنا محمد بن الصلت، ثنا عمر بن مسكين -من ولد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه-، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: ((ما صليت وراء نبيكم صلى الله عليه وسلم إلا سمعته يقول: اللهم اغفر لي خطايا وذنوبي كلها، اللهم انعشني واجبرني واهدني لصالح الأعمال والأخلاق، إنه لا يهدي لصالحها ولا يصرف سيئها إلا أنت)).
الحديث السادس عشر
1412- أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن نوح المقدسي في طائفة قراءةً عليهم وأنا أسمع قالوا: أخبرنا أحمد بن عبد الدائم المقدسي، أنا يحيى بن محمود الثقفي، أنا الحسن بن أحمد الحداد حضوراً، أنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ، ثنا عبد الله بن جعفر بن فارس، ثنا أحمد ابن الفرات الرازي، أنا أبو أسامة، عن مسعر، عن زياد بن علاقة، عن عمه قطبة ابن مالك رضي الله عنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم جنبني(1/721)
منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء)).
الحديث السابع عشر
1413- أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن محمد بن محمد بن حامد الأصبهاني الكاتب سماعاً عليه، عن أبي بكر محمد بن سعيد بن الموفق البغدادي، أخبرتنا الكاتبة شهدة بنت أحمد الآبري، أنا الحسين بن أحمد ابن طلحة، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن بشران، أنا أبو جعفر محمد بن عمرو ابن البختري، أنا محمد -يعني ابن عبد الملك الدقيقي-، ثنا يزيد بن هارون، ثنا فضيل بن مرزوق، حدثني أبو سلمة الجهني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الله -يعني ابن مسعود رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أصاب مسلماً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله حزنه وأبدله مكان حزنه فرجاً، قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلم هذه الكلمات؟ قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن)).(1/722)
الحديث الثامن عشر
1414- أنا جدي للأم المحدث أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الكريم بن راشد بن نمر بن عبد الرحمن القرشي الهاشمي سماعاً عليه وبقراءتي أيضاً قال: أنا أبو محمد عبد الرحمن بن سالم الأنباري سماعاً عليه، أنا الحافظ أبو محمد عبد القادر بن عبد الله الرهاوي، أنا مسعود بن الحسن بن القاسم الثقفي، أنا أبو عمرو عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق بن منده (ح).
1415- وأخبرنا أعلا من هذا بدرجة أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن ابن أحمد بن محمد الشيرازي وابنة عمه أم محمد ست القضاة بنت يحيى بقراءتي على كل منهما قالا: أخبرتنا أم الفضل كريمة بنت عبد الوهاب القرشية سماعاً عليها، أنبأنا أبو الخير محمد بن أحمد بن عمر الباغبان، أنا أبو عمرو عبد الوهاب بن منده المذكور، أنا أبي الحافظ أبو عبد الله إملاءً، أنا محمد بن الحسين بن الحسن النيسابوري، أنا أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي، ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، ثنا يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك (1) وجميع سخطك)).
__________
(1) [[ في المطبوع: نعمتك]](1/723)
الحديث التاسع عشر
1416- أخبرتنا الشيخة الصالحة أم محمد ست الفقهاء بنت الزاهد الكبير أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل الواسطي بقراءتي عليها، عن أبي طالب عبد اللطيف بن محمد بن القبيطي إذناً، أنا أبو المعالي أحمد بن عبد الغني ابن حنفية، أنا أبو غالب محمد بن الحسن الباقلاني، أنا أبو العلاء محمد بن علي الواسطي، أنا أبو نصر أحمد بن محمد النيازكي، ثنا أبو الخير أحمد بن محمد بن الخليل العبقسي، ثنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ثنا أبو حفص، ثنا يحيى، ثنا سفيان، سمعت عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن الحارث يقول: سمعت طليق بن قيس، عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا: ((رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغي علي، رب اجعلني لك شكاراً، لك ذكاراً، راهباً لك، مطاوعاً لك، مخبتاً لك، أواهاً منيباً، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي)).
الحديث العشرون
1417- أخبرنا الحافظ المؤرخ أبو محمد القاسم بن محمد بن يوسف الحافظ أبي عبد الله محمد بن يوسف الإشبيلي سماعاً عليه، أنا أبو الحسن علي ابن أحمد المعمر وأبو المرهف المقداد بن أبي القاسم، قال الأول: أنا عمر بن(1/724)
محمد البغدادي، والثاني: أنا علي بن أبي الكرم الخلال قالا: أنا عبد الملك بن أبي القاسم الكروخي (ح).
1418- وأخبرنا علي بن محمد بن ممدود عن عبد الخالق بن الأنجب المارديني، عن الكروخي هذا، أنا أحمد بن عبد الصمد الغورجي وغيره، أنا عبد الجبار بن محمد الجراحي، أنا محمد بن أحمد بن محبوب، ثنا محمد بن عيسى الحافظ، ثنا محمود بن غيلان، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا سفيان، عن الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير، عن رجلٍ من بني حنظلة قال: ((صحبت شداد بن أوس رضي الله عنه في سفر فقال: ألا أعلمك ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نقول: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، وأسألك عزيمة الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك لساناً صادقاً، وقلباً سليماً، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأسألك من خير ما تعلم، وأستغفرك مما تعلم، إنك أنت علام الغيوب)).
الحديث الحادي والعشرون
1419- أخبرنا الصالح المعمر أبو سليمان داود بن يحيى بن داود الحريري بقراءتي عليه، أنا الحافظ أبو الحسين يحيى بن علي بن عبد الله القرشي سماعاً عليه، أنا هبة الله بن علي البوصيري، أنا مرشد بن يحيى المديني، أنا علي بن(1/725)
عمر بن محمد الحراني، ثنا حمزة بن محمد الكناني الحافظ إملاءً، أنا محمد بن إسماعيل البغدادي، ثنا ابن أبي صفوان، ثنا ابن أبي عدي، ثنا شعبة، عن عبد الله ابن [بشر] الخثعمي، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله إذا سافر فركب راحلته، قال بأصبعه هكذا، وقال: اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال، اللهم اصحبنا بنصحٍ واقلبنا بذمة، اللهم زو لنا الأرض وهون علينا السفر، أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب)).
1420- وأخبرناه أعلا من هذه الطريق بدرجة شيخنا الرباني أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن الفزاري نضر الله وجهه وأبو محمد القاسم بن مظفر بن محمود الدمشقي سماعاً، قال الأول: أنا أحمد بن عبد الدائم الصالحي سماعاً، عن أبي الفضل عبد الله بن أحمد الطوسي الخطيب، وقال شيخنا الثاني: أنبأنا محمد بن محمد السباك وعبد الله بن المظفر بن علي بن طراد، قال الأول: أنا محمد بن عبد الباقي الحاجب، والثاني: أنا محمد بن محمد بن علي بن السكن قالوا ثلاثتهم: أنا نصر بن أحمد القاري، أنا عبد الله بن عبيد الله ابن البيع، أنا الحسين بن إسماعيل القاضي، ثنا محمد بن عمرو الباهلي، ثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن عبد الله بن بشر الخثعمي فذكره مثله.
الحديث الثاني والعشرون
1421- أخبرنا الفقيه المعمر أبو محمد عيسى بن تركي بن فاضل الأموي(1/726)
في جماعة قراءة عليهم وأنا أسمع، قال هذا: أنا أبو الخطاب عمر بن محمد بن أبي سعد بن أبي عصرون سماعاً عليه، أنا عمر بن محمد الدارقزي سماعاً، أنا عبد الملك بن أبي القاسم بن أبي سهل سماعاً عليه (ح).
1422- وأخبرنا أعلا من هذا: علي بن جامع البندنيجي، عن عبد الخالق الأنجب عن ابن أبي سهل هذا، أنا عبد العزيز بن محمد الترياقي وغيره قالوا: أنا عبد الجبار بن محمد بن الجراح، أنا محمد بن أحمد [بن] محبوب، ثنا محمد بن عيسى بن سورة الحافظ، ثنا أحمد بن عبدة الضبي بصري، ثنا حماد بن زيد، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر يقول: اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب، ومن الحور بعد الكور، ومن دعوة المظلوم، ومن سوء المنظر في الأهل والمال)).
1423- وأخبرناه أعلا بدرجة أخرى متصلاً الرباني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطبري بقراءتي عليه بمكة شرفها الله تعالى والعابد أبو زكريا يحيى بن محمد بن سعد وشيخنا أبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم وأبو بكر [ابن] أحمد بن عبد الدائم وأبو محمد عيسى بن عبد الرحمن بن المعالي المقدسيون الصالحون بها سماعاً وقراءةً، قال الأول: أنا أبو الحسن علي بن هبة الله بن سلامة الشافعي سماعاً عليه، وقال الباقون: أنا أبو الفضل جعفر بن(1/727)
علي المالكي قالا: أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي، أنا القاسم بن الفضل الثقفي (ح).
1424- وقال شيخنا سليمان واللذان بعده أيضاً: أنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الإربلي حضوراً، أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة سماعاً، أنا طراد بن محمد الزينبي قالا: ثنا هلال بن محمد الحفار، ثنا الحسين بن يحيى بن عياش، ثنا أبو الأشعث -يعني أحمد بن مقدام العجلي-، ثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن سليمان فذكره بنحوه.
الحديث الثالث والعشرون
1425- أخبرتنا الصالحة المعمرة أم عبد الله زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن المقدسي الصالحية بقراءتي عليها قالت: أنبأنا المحدث أبو محمد عبد الخالق بن الأنجب ابن المعمر التستري عن أبي الأسعد هبة الرحمن بن عبد الواحد القشيري، أنا جدي الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، أنا الحسين أحمد بن محمد الخفاف، ثنا محمد بن إسحاق السراج، ثنا إسحاق -يعني ابن إبراهيم الحنظلي الإمام(1/728)
ابن راهويه-، أنا جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار، وفتنة القبر وعذاب القبر، وشر فتنة المسيح الدجال، وشر فتنة الغنى وشر فتنة القبر، الله اغسلني من خطاياي بماء الثلج والبرد، ونقني من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمغرم والمأثم)).
الحديث الرابع والعشرون
1426- أنا أبو العباس أحمد بن محمد بن حازم بن حامد بن حسن المقدسي في خلق سماعاً عليهم قالوا: أنا أبو العباس أحمد بن عبد الدائم المقدسي، أنا يحيى بن محمود الثقفي، أنا عبد الواحد بن محمد بن الهيثم، أنا عبيد الله بن المعتز بن منصور، أنا محمد بن الفضل بن خزيمة، ثنا جدي الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق، ثنا علي بن حجر، أنا إسماعيل بن جعفر، ثنا يزيد -يعني ابن خصيفة-، عن إبراهيم بن عبد الله بن عبد القاري، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقول: ((بت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، وكنت أسمعه إذا فرغ من صلاته وتبوأ مضجعه يقول: اللهم إني أعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، اللهم لا أستطيع أن أبلغ ثناء عليك ولو حرصت، ولكن أنت كما أثنيت على نفسك)).(1/729)
الحديث الخامس والعشرون
1427- أخبرنا أبو عبد الله محمد ابن أبي بكر بن محمد بن طرخان ابن أبي الحسن الصالحي بقراءتي عليه، أنا أبو العباس أحمد ابن أبي بكر الفندقي، أنا محمد بن علي الحراني، أنا محمد بن الفضل الفقيه، أنا عبد الغافر ابن محمد بن الحسين، أنا أحمد بن محمد بن عمرويه، أنا إبراهيم بن محمد الفقيه، ثنا مسلم بن الحجاج الإمام، حدثني زهير بن حرب، ثنا جرير، عن سهيل قال: ((كان أبو الصالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول: اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر ليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر، وكان أبو الصالح يروي ذلك عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم )).
1428- وأخبرناه أعلا من هذه الطريق بدرجة شيخنا أبو الفضل سليمان بن حمزة المقدسي سماعاً عليه، أنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي، أنا زاهر بن الطاهر الثقفي والمؤيد بن عبد الرحيم بن الأخوة قالا: أنا أبو نصر محمد بن حمد الكبريتي، أنا محمد بن علي بن مهربزد، أنا أبو بكر محمد بن علي بن المقرئ، ثنا أبو عروبة والحسين بن محمد الحراني، ثنا أبو كريب محمد بن العلاء، ثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي(1/730)
هريرة رضي الله عنه قال: ((جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً فقال لها: قولي اللهم رب السماوات السبع .. .. ))، وذكر الدعاء كما تقدم.
الحديث السادس والعشرون
1429- أخبرنا الصالح الخير أبو الفداء إسماعيل بن عمر ابن أبي الفضل ابن المسلم بن الحسن بن نصر الحموي ثم الدمشقي سماعاً عليه غير مرة قال: أنا العلامة أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصاري، أنا عبد المنعم ابن عبد الوهاب الحراني، أنا علي بن أحمد بن محمد الرزاز، أنا محمد ابن محمد ابن مخلد، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا الحسن بن عرفة العبدي، ثنا إسماعيل بن عياش، عن محمد بن زياد الألهاني، عن أبي راشد الحبراني قال: ((أتيت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقلت له: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى إلي صحيفة فقال: هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت فإذا فيها: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال: يا أبا بكر قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت، رب كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي [وشر الشيطان] وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم)).(1/731)
الحديث السابع والعشرون
1430- أخبرنا الصدر أبو الحسن علي بن محمد بن عمر بن عبد الرحمن ابن هلال الأزدي سماعاً عليه، عن الإمام أبي الحسن علي بن هبة الله بن سلامة اللخمي فيما كتب به إليه (ح).
1431- وأخبرني الكبيران أو أحمد إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطبري وأبو الفضل سليمان بن حمزة بن أحمد الحاكم بقراءتي على كل منهما قالا: أنا أبو الحسن هذا سماعاً عليه (ح).
1432- وأخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن المعدل وإبراهيم ابن علي التاجر وأبو المعالي محمد بن علي البالسي وأبو العباس أحمد بن سليمان البعلبكي قالوا: أنا العلامة أبو الحسن علي بن محمد السخاوي قالا: أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي، أنا مكي بن منصور بن علان، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، ثنا زكريا بن يحيى المروزي، ثنا سفيان بن عيينة، عن أبي إسحاق، سمع البراء بن عازب رضي الله عنهما يقول: ((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا أخذ مضجعه يقول: اللهم إليك أسلمت نفسي، وإليك وجهت وجهي، وإليك فوضت أمري، وإليك ألجأت ظهري، رغبة ورهبة، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبرسولك أو بنبيك الذي أرسلت، فإن مات مات على الفطرة)).(1/732)
الحديث الثامن والعشرون
1433- أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد الواني المؤذن بقراءتي، أنا أبو الثناء محمود بن أبي سعيد بن محمود بن الناصح القزويني سماعاً عليه، أنبأنا خالي الإمام الكبير أبو القاسم عبد الكريم بن محمد اليافعي قال: قرأت على الإمام أحمد بن إسماعيل قال: قرأت على هبة الرحمن القشيري، أخبركم عبد الرحمن بن منصور بن رامش، أنا عبد الرحمن بن محمد بن بالويه، ثنا محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنا المقرئ، ثنا حيوة، أنا أبو هانئ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي، أنه سمع عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن [قلوب] بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك)).
1434- وأخبرناه أعلا من هذه الرواية بدرجة أبو الفداء إسماعيل بن يوسف السويدي وأبو محمد عيسى بن عبد الرحمن الشجري قالا: أنا عبد الله بن عمر السقلاطوني، أنا عبد الأول بن عيسى الصوفي، أنا عبد الرحمن بن محمد البوشنجي، أنا عبد الله بن أحمد السرخسي، أنا إبراهيم بن خزيم الشاشي، ثنا عبد بن حميد الكشي، ثنا يحيى -يعني ابن عبد الحميد الحماني-، ثنا ابن المبارك، ثنا حيوة بن شريح، حدثني أبو هانئ الخولاني، فذكره كما تقدم،(1/733)
ولفظ الدعاء: ((اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا)).
الحديث التاسع والعشرون
1435- أخبرتنا الشيخة الصالحة أم عمر زينب بنت يحيى ابن شيخ الإسلام أبي محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي بقراءتي قالت: أنا أبو إسحاق إبراهيم بن خليل بن عبد الله وأنا في الخامسة، أنا يحيى بن محمود الثقفي، أنا محمد بن أحمد بن أبي نزار حضوراً وفاطمة بنت عبد الله الأصبهانية سماعاً قالا: أنا محمد بن عبد الله بن ريذة، ثنا سليمان بن أحمد الحافظ، ثنا جعفر بن محمد الرملي القلانسي، ثنا آدم بن أبي إياس العسقلاني، ثنا شيبان بن عبد الرحمن النحوي، عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من القسوة والغفلة والذلة والمسكنة، وأعوذ بك من الفسوق والشقاف والسمعة والرياء، وأعوذ بك من الصمم والبكم والجنون والجذام وسيء الأسقام)).
الحديث الثلاثون
1436- أخبرنا أخي أبو محمد قليج بن كيكلدي بن عبد الله العلائي تغمده الله برحمته ورضوانه بقراءتي عليه وتخريجي قال: أنا أبو الغنائم المسلم بن محمد بن المسلم القيسي سماعاً عليه، أنا أبو علي حنبل بن عبد الله الرصافي، أنا هبة الله بن(1/734)
محمد بن عبد الواحد الشيباني، أنا الحسن بن علي بن المذهب، أنا أحمد بن جعفر القطيعي، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، ثنا إسماعيل -يعني ابن علية-، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان ولا بد متمنياً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)).
1437- وأخبرناه أعلى من هذا بدرجة أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الطبري وأبو محمد عيسى بن عبد الرحمن السمسار وأبو زكريا يحيى بن محمد بن سعد وأبو بكر بن أحمد بن عمر المقدسيون، قال الأول: أنا علي بن هبة الله ابن الجميزي، والباقون: أنا جعفر بن علي بن هبة الله قالا: أنا أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد الحافظ، أنا القاسم بن الفضل المديني، ثنا محمد بن محمد بن محمش، أنا أبو طاهر محمد بن الحسن، أنا إبراهيم السعدي، أنا يزيد بن هارون، ثنا حميد، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: .. .. فذكره.
الحديث الحادي والثلاثون
1438- أخبرنا الفقيه المحدث أبو الحسن علي بن عثمان بن حسان الشاغوري سماعاً عليه، أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد، أنا أبو حفص ابن أبي بكر الحساني، أنا عبد الملك ابن أبي القاسم الكروخي (ح).
1439- وأخبرناه عالياً علي بن محمد البندنيجي فيما قرئ عليه وأنا(1/735)
أسمع، عن عبد الخالق بن الأنجب التستري إذناً، عن الكروخي هذا كذلك أيضاً قال: أنا عبيد الله بن علي بن ياسين الدهان وغيره قالوا: أنا عبد الجبار بن محمد الجراحي، أنا محمد بن أحمد المروزي، ثنا محمد بن عيسى الحافظ، ثنا أحمد بن الحسن، ثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((بينما ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: بأبي أنت وأمي تفلت هذا القرآن من صدري فما أجدني أقدر عليه؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الحسن أفلا أعلمك كلماتٍ وتنفع بهن من علمته وتثبت ما تعلمت في صدرك؟ قال: أجل يا رسول الله! فعلمني، قال: إذا كان ليلة الجمعة فإن استطعت أن تقوم في ثلث الليل الآخر فإنها ساعة مشهودة والدعاء فيها مستجاب، وقد قال أخي يعقوب عليه السلام لبنيه: {سوف أستغفر لكم ربي}، يقول: حتى تأتي ليلة لجمعة، فإن لم تستطع فقم في وسطها، فإن لم تستطع فقم في آخرها، فصل أربع ركعات تقرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وسورة يس، وفي [الركعة] الثانية بفاتحة الكتاب وحم الدخان، وفي الركعة الثالثة بفاتحة الكتاب والم تنزيل السجدة، وفي الركعة الرابعة بفاتحة الكتاب وتبارك المفصل، فإذا فرغت من التشهد فاحمد الله وأحسن الثناء على الله، وصل علي وأحسن وعلى سائر النبيين، واستغفر للمؤمنين والمؤمنات ولإخوانك الذين سبقوك بالإيمان، ثم قل في ذلك: اللهم ارحمني بترك المعاصي أبداً ما أبقيتني، وارحمني أن أتكلف ما لا يعنيني، وارزقني حسن النظر فيما يرضيك عني، اللهم بديع السماوات والأرض ذا الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام، أسألك يا الله يا رحمن بجلالك ونور وجهك أن تلزم قلبي حفظ كتابك كما علمتني، وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني. اللهم بديع السماوات(1/736)
والأرض ذا الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام أسألك يا الله يا رحمن بجلالك ونور وجهك أن تنور بكتابك بصري، وأن تطلق به لساني، وأن تفرج به عن قلبي، وأن تشرح به صدري، وأن تغسل به بدني، فإنه لا يعينني على الحق غيرك ولا يؤتيه إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. يا أبا الحسن تفعل ثلاث جمع أو خمساً أو سبعاً تجاب بإذن الله، والذي بعثني بالحق ما أخطأ مؤمناً قط. قال ابن عباس رضي الله عنه: فوالله ما لبث علي إلا خمساً أو سبعاً حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك المجلس فقال: يا رسول الله إني كنت فيما خلا لا أجد إلا أربع آيات ونحوهن، فإذا قرأتهن على نفسي ثقلن، وأنا اليوم أتعلم أربعين آية ونحوها، فإذا قرأتها على نفسي فكأنما كتاب الله بين عيني، ولقد كنت أسمع الحديث فإذا رددته تفلت وأنا اليوم أسمع الأحاديث، فإذا تحدثت بها لم أخرم منها حرفاً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: مؤمن ورب الكعبة أبا الحسن)).
الحديث الثاني والثلاثون
1440- أخبرنا أبو بكر [بن] محمد بن أبي بكر بن محمد بن عبد الواسع الهروي ابن العجمي قراءةً عليه وأنا أسمع قال: أنا أبو العباس أحمد بن عبد الدائم المقدسي، أنا محمد بن علي بن صدقة، أنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي، أنا أبو سعد محمد بن أبي بكر الأديب، أنا أبو أحمد الحسين بن علي التميمي، أنا أبو القاسم البغوي، ثنا هدبة بن خالد، ثنا حماد -يعني ابن سلمة-، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً قد صار مثل الفرخ فقال: هل دعوت بشيء(1/737)
فقال: نعم؛ قلت: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله لا طاقة لك بعذاب الله ثلاثاً، هلا قلت: {ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار})).
1441- وأخبرناه أعلا من هذه الرواية بدرجة إسماعيل بن يوسف المقرئ وعيسى بن عبد الرحمن الشجري وأحمد بن أبي طالب الصالحي وإسماعيل بن نصر الله الدمشقي بقراءتي قالوا: أنا عبد الله بن عمر، أنا عبد الأول ابن عيسى، أنا عبد الرحمن بن محمد، أنا عبد الله بن أحمد، أنا إبراهيم بن خزيم، ثنا عبد بن حميد، أنا يزيد بن هارون، عن أنس بمثله.
الحديث الثالث والثلاثون
1442- أخبرتنا أم عبد الله زينب بنت عبد الله بن الرضي عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار المقدسية بقراءتي عليها قالت: أنا الحافظ أبو عبد الله محمد ابن عبد الواحد بن أحمد المقدسي، أنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الصيدلاني، أنا أبو الخير عبد الكريم بن علي بن محمد بن فورجه، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي الأسواري، أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عيسى التاجر، ثنا علي بن الحسين بن معدان، ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أنا عبد الصمد ابن عبد الوارث، ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان، أن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤوا استغفروا)).(1/738)
الحديث الرابع والثلاثون
1443- أخبرنا أبو العباس أحمد بن حمود بن عمر بن حمود بن هامل ابن حمود الحراني بقراءتي، أنا أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم التنوخي سماعاً، أنا أبو القاسم عبد الملك بن زيد بن ياسين الدولعي، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن محمويه اليزدي، أنا أبو محمد عبد الرحمن بن حمد الدوني (ح).
1444- وأخبرنا أعلا من هذا بدرجة أبو الحسن علي بن يحيى المعدل، أنا إسماعيل بن أحمد العراقي، أنبأنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي وأبو العباس أحمد بن أبي منصور بن بيان وأبو الفتح عبد الله بن أحمد الخرقي وآخرون قالوا: أنا عبد الرحمن بن حمد الدوني، أنا أحمد بن الحسين الدينوري، أنا أحمد بن محمد ابن السني، ثنا أحمد بن شعيب الحافظ، أخبرني عبيد الله ابن فضالة بن إبراهيم، ثنا يحيى بن يحيى، ثنا الليث بن سعد، عن سعيد ابن أبي سعيد، عن أخيه عباد ابن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: كان صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع)).
1445- وأخبرناه أعلا بدرجة أخرى أبو بكر [بن] أحمد بن عبد الدائم، أنا محمد بن إبراهيم الإربلي، أنا عبد الله بن محمد بن النقور، أنا أحمد بن المظفر بن سوسن، أنا عبد الرحمن بن عبيد الله، ثنا حبيب بن الحسن القزاز، ثنا عمر بن حفص السدوسي، ثنا عاصم بن علي، ثنا ليث بن سعد، عن سعيد -يعني(1/739)
المقبري-، عن أخيه عباد، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من أربع: من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع)).
1446- وأخبرناه أعلا بدرجة أخرى أبو محمد القاسم بن مظفر الدمشقي سماعاً عليه، أنا أبو الوفاء محمود بن إبراهيم بن منده في كتابه إلينا، أنا الإمام أبو عبد الله الحسن بن العباس الرستمي، أنا أبو الحسن سهل بن عبد الله الغازي، أنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الجرجاني، أنا محمد بن الحسين بن علي بن الحسن الدارابجردي، ثنا عبيد الله بن موسى، أنا موسى -يعني ابن عبيدة-، عن محمد بن ثابت، عن أبي هريرة، فذكره كما تقدم.
الحديث الخامس والثلاثون
1447- أخبرنا الإمام أبو بكر [بن] يوسف بن أبي بكر بن علي المزي المعروف بالحريري قراءةً عليه وأنا أسمع بتبوك قال: أنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن أحمد الخطيب سماعاً عليه، أنا يحيى بن محمود بن أحمد الثقفي، أنا أبو عدنان محمد بن أحمد حضوراً وفاطمة بنت عبد الله بن أحمد سماعاً قالا: أنا محمد بن عبد الله التاجر، ثنا سليمان بن أحمد الطبراني، ثنا علي بن إبراهيم بن العباس المصري، ثنا الربيع بن سليمان الجيزي، ثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، ثنا يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: ((ألا أعلمك دعاء تدعو(1/740)
به لو كان عليك مثل جبل ديناً لأداه الله عنك؟ {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على شيءٍ قدير}، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطيهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء، ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك)).
الحديث السادس والثلاثون
1448- أخبرنا أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمود المرداوي في آخرين سماعاً عليهم، أنا أبو محمد عبد الوهاب بن محمد بن إبراهيم المقدسي سماعاً عليه قال: أنا بركات بن إبراهيم بن طاهر القرشي، أنا عبد الكريم بن حمزة بن الخضر، أنا الحسين بن محمد بن إبراهيم الحنائي، أنا عبد الوهاب بن الحسن الكلابي، ثنا أحمد بن عمير جوصا، ثنا كثير بن عبيد، ثنا بقية بن الوليد، عن الزبيدي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) فقالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ من المغرم والمأثم، فقال: ((لأن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف)).
1449- وبه إلى ابن جوصا، ثنا كثير بن عبيد، ثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري قال: بلغنا أن رسول الله كان يدعو في صلاته يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة(1/741)
المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم))، فذكر بقيته كما تقدم.
الحديث السابع والثلاثون
1450- أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسي ثم الصالحي سماعاً عليه غير مرة قال: أنا أبو عبد الله محمد بن سعد المقدسي وأبو إسحاق إبراهيم بن خليل الدمشقي وغيرهما قالوا: أنا يحيى بن محمود الثقفي (ح).
1451- وأخبرنا أبو الفضل سليمان بن حمزة الحنبلي سماعاً عليه معه، أنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد، أنا أبو جعفر محمد بن أحمد الصيدلاني قالا: أنا أبو علي الحسن بن أحمد المقرئ حضوراً، أنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ، ثنا عبد الله بن جعفر بن فارس، ثنا أحمد ابن الفرات الرازي، أنا محمد بن يوسف، عن سفيان، عن منصور، عن سالم ابن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن أحدكم حين يأتي أهله [قال]: اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فولد بينهما لم يضره الشيطان)).(1/742)
الحديث الثامن والثلاثون
1452- أخبرتنا أم محمد عائشة بنت محمد بن مسلم بن سلامة بن البهاء الحراني الصالحية بقراءتي عليها قالت: أنا إبراهيم بن خليل بن عبد الله الأدمي سماعاً عليه، أنا أبو الفضل منصور بن علي الطبري، أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الخواري، أنا الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، أنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، ثنا أبو محمد بن حيان الأصبهاني، ثنا محمد بن العباس، ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، وأعوذ بك من وسواس الصدر، وشتات الأمر، وفتنة القبر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر ما تهب به الرياح، ومن شر بوائق الدهر)).
الحديث التاسع والثلاثون
1453- أخبرنا الصالح أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن يوسف بن أبي نصر البعلبكي قراءةً عليه وأنا أسمع قال: أنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن أحمد المقدسي سماعاً عليه، أنا أبو الفرج يحيى بن محمود الثقفي، أنا محمد بن(1/743)
أحمد بن المطهر حضوراً وفاطمة بنت عبد الله بن عقيل سماعاً قالا: أنا محمد ابن عبد الله بن ريذة، ثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد الحافظ، ثنا عبد الملك بن يحيى بن بكير المصري، ثنا أبي، ثنا يحيى بن صالح الأيلي، عن إسماعيل بن أمية، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((مما كان دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة: اللهم إنك تعلم مكاني وتسمع كلامي وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وذل جسده، ورغم أنفه، اللهم لا تجعلني بدعائك شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين)).
1454- وبه إلى أبي القاسم قال: ثنا علي بن الهيثم المصري قال: سمعت ذا النون المصري العابد أبا الفيض رحمه الله يقول: ((اللهم اجعلنا من الذين جاوزوا دار الظالمين، واستوحشوا من مؤانسة الجاهلين، وشابوا ثمرة العلم بنور الإخلاص، واستقوا من عين الحكمة، وركبوا سفينة الفطنة، وأقلعوا بريح اليقين، ولججوا في بحر النجاة، وأرسوا بشط الإخلاص. اللهم اجعلنا من(1/744)
الذين سرحت أرواحهم في العلى، وحططت همم قلوبهم في عاليات التقى، حتى أناخوا في رياض النعيم، وجنوا من ثمار التسنيم، وخاضوا لجة السرور، وشربوا بكأس العيش، واستظلوا تحت فيء الكرامة. اللهم اجعلنا من الذين فتحوا باب الصبر، وردموا خنادق الجزع، وجازوا شدائد العقاب، وعبروا جسر الهوى. اللهم اجعلنا ممن أشارت إليهم أعلام الهداية، ووضحت لهم طريق النجاة، وسلكوا سبيل خلاص اليقين)).
الحديث الأربعون
1455- أخبرنا شيخنا العلامة شيخ الإسلام أبو المعالي محمد بن علي بن عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف بن نبهان بن سلطان الأنصاري الخزرجي السماكي سماك بن أوس بن خرشة أبي دجانة رضي الله عنه المعروف بابن الزملكاني تغمده الله برحمته ورضوانه بقراءتي عليه وانتخابي جزاه الله عني أفضل الجزاء قال: أنا العلامة أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عمر الواسطي سماعاً عليه، أنا أبو حفص عمر بن كرم الدينوري، أنبأنا أبو الفتح عبد الملك ابن أبي القاسم الكروخي (ح).
1456- وأخبرنا أبو الحسن البندنيجي، عن عبد الخالق بن الأنجب، عن الكروخي هذا إذناً أيضاً، أنا أبو عامر محمود بن القاسم الأزدي وغيره، أنا عبد الجبار الجراحي، أنا محمد المحبوبي، ثنا محمد بن عيسى الحافظ، ثنا(1/745)
عبد الله بن عبد الرحمن، أنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، حدثني أبي، حدثني ابن أبي ليلى، عن داود بن علي -يعني ابن عبد الله بن عباس-، عن أبيه، عن جده ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليلة حين فرغ من صلاته: ((اللهم إني أسالك رحمةً من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلم بها شعثي، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وترد بها الفتن، وتعصمني بها من كل سوء. اللهم أعطني إيمانًا صادقاً، ويقيناً ليس بعده كفر، ورحمةً أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك الفوز في القضاء، ونزل الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء. اللهم إني أنزل بك حاجتي، وإن قصر رأيي وضعف عملي، افتقرت إلى رحمتك، فأسألك يا قاضي الأمور، ويا شافي الصدور كما تجير بين البحور أن تجيرني من عذاب السعير، ومن دعوة الثبور، ومن فتنة القبور. اللهم ما قصر عنه رأيي ولم تبلغه مسألتي، ولم تبلغه نيتي من خيرٍ وعدته أحداً من خلقك أو خير أنت تعطيه أحداً من عبادك، فإني أرغب إليك فيه، وأسألك برحمتك رب العالمين. اللهم ذا الحبل الشديد والأمر الرشيد، أسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود، الركع السجود، الموفين بالعهود، إنك رحيم ودود، وإنك تفعل ما تريد. اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلماً لأوليائك، وعدوًّا لأعدائك، ونحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك. اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، اللهم اجعل لي نوراً في قلبي، ونوراً في قبري، ونوراً بين يدي، ونوراً من خلفي، ونوراً عن يميني، ونوراً عن شمالي، ونوراً من فوقي، ونوراً من تحتي، ونوراً في سمعي، ونوراً في بصري، ونوراً في شعري، ونوراً في بشري، ونوراً في لحمي، ونوراً في عظامي. اللهم أعظم لي نوراً، وأعطني نوراً، واجعل لي نوراً، سبحان الذي تعطف العز وقال به، سبحان الذي لبس المجد وتكرم به، سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له، سبحان ذي الفضل(1/746)
والنعم، سبحان ذي المجد والكرم، سبحان ذي الجلال والإكرام)).
1457- وأنشدنا شيخنا شيخ الإسلام أبو المعالي هذا نضر الله وجهه من لفظه وبقراءتي عليه، وقراءةً عليه وأنا أسمع أيضاً كل ذلك بالروضة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.
هذا المقام الذي لاذت به الأمم ... وأذعنت لعلاه العرب والعجم
هذا مقام رسول الله أكرم من ... جاءته من ربه الأنباء والحكم
هذا محمدٌ الهادي الذي محيت ... عنا بنور هداه الظلم والظلم
الفاتح الخاتم الماحي الرؤوف ... إمام المتقين نبي الرحمة العثم
هذا الذي قد سما فوق السماء إلى ... مقام عز تناهت دونه الهمم
هذا الذي ربه الرحمن خاطبه ... وقدست منه أذنٌ قد وعت وفم
هذا الذي كشف الله الحجاب له ... لو رام ذا غيره زلت به القدم
هذا الذي شهدت والنجم أن له ... هذا المقام بهذا أكد القسم
هذا الذي خص بالحوض الرواء به ... العذب النمير الرحيق الكوثر الشيم
هذا نبي الهدى المختار من مضرٍ ... هذا به أنبياء الله قد ختموا
هذا الذي خص فيهم بالوسيلة لا ... ينالها غيره منهم وإن كرموا
هذا الشفيع إذا ما أحجموا وجلاً ... إذا الشفاعة ليست أولاً لهم
هذا المجيز على متن الصراط وقد ... ماج الخلائق والنار تلتهم
هذا الذي يدخل الجنان قبلهم ... كذاك أمته والناس بعدهم(1/747)
هذا موقفه المحمود يغبطه ... كل النبيين إذا تعنو له القمم
هذا الذي عن يمين الله يحمده ... بكل حمدٍ تناهت دونه الهمم
وجل ربي عن التشبيه كل يدٍ ... له يمين فتبًّا للذي زعموا
هذا إمام النبيين الذين هدوا ... إلى الرشاد الورى هذا خطيبهم
هذا مبشرهم عند الإياس إذا ... قالوا لربهم سلم وقد سلموا
هذا الذي بلواء الحمد يقدمهم ... وهم له تبع والناس كلهم
هذا الذي خمدت نار المجوس له ... ولم تزل ألف عام قبل تضطرم
هذا الذي سبح الصخر الأصم بكفيه ... فأسمع إلا من به صمم
هذا الذي سلم الأحجار حين أتى ... عليه جهراً كذاك الضال والسلم
هذا الذي أحي العظم الرميم له ... إذ حدثته ذراع الشاة ما عزموا
هذا الذي أمر الأشجار فالتأمت ... ولم يكن بعد ذاك البعد تلتئم
هذا إليه حنين الجذع مشتهرٌ ... بمشهد الخلق حقًّا ليس ينكتم
هذا الذي رد عيناً بعدما فقئت ... فلم تزل بعد ذا بالحسن تتسم
هذا الذي نبع الماء الطهور له ... من كفه فسقاه الناس حين ظموا
هذا الذي أشبع الجيش العرمرم من ... صبابةٍ ليس تكفي من به نهم
هذا الذي انفرق البدر المنير له ... والكل يشهده إلا الذين عموا
هذا الذي أنزل القرآن معجزةً ... عليه تبقى بقاءً ليس ينصرم
هذا الذي أشرقت أنوار غرته ... بنورها وأضاء الحل والحرم
هذا الذي لو أردنا حصر معجزه ... وفضله انقطعت من دونه الكلم
هذا خلاصة سر الكون أجمعه ... له العناية موصولاً بها القدم
هذا المراد من الدنيا وساكنها ... لولاه لم تخلق الأشباح والنسم
هذا مقدمهم حقًّا وسيدهم ... فالعالمون هم الأتباع والخدم
يا سيدي يا سول الله يا أملي ... يا من ألوذ به إن زلت القدم(1/748)
يا عدتي في معادي عند معذرتي ... يا من به في صروف الدهر أعتصم
يا كل ذخري ومأمولي ومعتمدي ... ويا رجائي وقصدي إن عدا ألم
يا صاحب الجاه قبحاً للألى زعموا ... خلاف ذا أنت ذو جاهٍ وإن زعموا
إني قصدتك والآمال تطمعني ... إني لما رمت في قصديك أغتنم
بك اهتديت إلى الإيمان فاتصلت ... بذاك عندي من أفضالك النعم
سل لي إلهك عفواً ثم مغفرةً ... وعصمةً منك تكفي كل ما يصم
وأسأل الله علماً نافعاً وهدًى ... يبقى به عملٌ إذ تذهب الرمم
وأن أموت على التقوى وسنتك ... المثلى ويدفع عني السوء والألم
ومن أهم شكاياتي من البدع اللاتي ... ظهرن ومن قومٍ بها حكموا
فسل إلهي خذلانًا لهم ولمن ... والاهم واكف أهل الحق شرهم
فأنت خير مستعاذٍ يستعاذ به ... عند الشدائد منجاةً ومعتصم
صلى عليك إله الخلق ما سجعت ... ورقٌ وما هطلت من سحبها ديم
1458- أخبرنا شيخنا العلامة شيخ الإسلام أبو المعالي الأنصاري بقراءتي عليه برد الله مضجعه قال: أنا شيخنا العلامة شيخ الإسلام أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري، أنا أبو المنجا عبد الله بن عمر بن اللتي (ح).
1459- وأخبرنا جماعة من شيوخنا عن ابن اللتي هذا سماعاً قال: أنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى الصوفي أنا أبو الحسن عبد الكريم بن المظفر، أنا عبد الله بن أحمد بن حمويه، أنا إبراهيم بن خزيم، ثنا عبد بن حميد، ثنا علي بن عاصم، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((كان(1/749)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته قال: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلامٌ على المرسلين. والحمد لله رب العالمين})).
وصورة الأعلام بفراغ الأصل الذي بخط المؤلف:
آخر كتاب ((الأربعين المغنية بعيون فنونها عن المعين))، والحمد لله رب العالمين حمد الشاكرين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وقائد المتقين، وحبيب رب العالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
فرغ منها مصنفها خليل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي الشافعي غفر الله له ولطف به، في صبيحة يوم الأحد الحادي عشر من شهر رجب الفرد سنة إحدى وأربعين وسبع مائة ببيت المقدس حماه الله تعالى وسائر بلاد الإسلام، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قد من الله تعالى وأنعم بإتمام هذا الكتاب على يد العبد الفقير محمد بن محمد الشهير بالبحر المالكي غفر الله ذنوبه، وملأ من الخير ذنوبه في صبيحة يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر رجب الفرد سنة خمس وثلاثين ومائة وألف والحمد لله، تم.(1/750)