آداب الدعاء
المسمى
أدب المُرتَعى في علم الدعا
تأليف
الإمام يوسف بن حسن بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي
(841 - 909 هـ)
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد خلوف العبد الله
دار النوادر
الطبعة الأولى
1428 هـ - 2007 م(/)
[المقدمة]
[الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وإمام المرسلين، سيدنا محمد، المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى أنبياء الله أجمعين]، وعلى آل كلٍ، وسائر الصالحين، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين، ورضي الله عن الإمام المبجل، والحبر المفضل، الإمام الرباني، والصديق الثاني، الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، وعن موضح المسالك، الإمام الناسك أبو عبد الله مالكٍ، وعن الإمام الرافعي أبي عبد الله محمدٍ بن إدريسٍ الشافعي، وعن موضح البيان، ومظهر التبيان أبي حنفية النعمان، ورضي الله عن جميع التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فهذا كتاب مشتمل على الدعاء، وسميته كتاب: ((أدب المرتعى في علم الدعا))، والله أسأل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.(1/31)
فصل [فيما ورد من الدعاء في كتاب الله -عز وجل-]
وقد ورد الدعاء في كتاب الله -عز وجل- في أماكن، منها:
قوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان}.
قال البغوي: قال ابن عباس: سبب نزولها أن اليهود قالوا: كيف يسمع دعاءنا ربنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمس مئة عامٍ، وأن غلظ كل سماء مثل ذلك؟! فأنزل الله -عز وجل- هذه الآية.
وقيل: إن سبب نزولها أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أقريبٌ ربنا فنناجيه، أم بعيدٌ فنناديه؟! فنزلت.(1/33)
وقيل: إنه لما نزل: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} قالوا: أي ساعة؟! فنزلت.
وقيل: إن قوماً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: أين الله؟ فنزلت هذه الآية.
وقيل: إنه كان فرض على المسلمين في أول الصوم أن من صلى العشاء أو نام حرم عليه الطعام والشراب والجماع، فدنا عمر من زوجته، ونام رجلٌ قبل أن يأكل فأصبح مجهوداً، [واعترف] رجال من المسلمين بما [كانوا] يصنعون، فقالوا: فأتوا نبينا، فما علينا؟ فنزلت.(1/34)
وقوله: {قريبٌ}؛ أي: قريبٌ من سماع الدعاء، وقيل: قريبٌ من الإجابة.
وقوله: {أجيب} فيه قولان:
أحدهما: أنه بمعنى أسمع.
والثاني: أنه من الإجابة.
وقال الزجاج في هذه الآية: والدعاء على ثلاثة أضربٍ؛ فضربٌ توحيدٌ وثناءٌ على الله؛ كقوله: لا إله إلا [الله]، ولا إله إلا أنت، ونحوه، وضربٌ منها: أن يسأل الله العفو والمغفرة والرحمة، وما يقرب(1/35)
منه؛ كقوله: {اغفر لنا}،وضربٌ: مسألة الحظ من الدنيا؛ كقوله: ارزقني مالاً، وولداً، وما أشبه هذا.
وقوله تعالى: {إنه يعلم الجهر من القول}؛ معناه: إذا اشتدت الأصوات وتعالت؛ فإنه يسمع كل شخصٍ بعينه، ولا يشغله سمعٌ عن سمعٍ.
وقوله -عز وجل-: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفيةً}.
قال الزجاج: تضرعاً: تملقاً، وحقيقته -والله أعلم-: أن يدعوه خاضعين متعبدين، وخفية؛ أي: اعتقدوا عبادته في أنفسكم؛ لأن الدعاء معناه العبادة.
وقال تعالى مادحاً المتذللين في الدعاء والانكسار: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين}، فمدحهم الله -عز وجل- بدعائهم له رغباً راغبين فيه، ورهباً خشوعهم في الدعاء.
وقوله -عز وجل-: {وادعوه خوفاً وطمعاً}.
قال الزجاج: أي: ادعوه خائفين عذابه، وطامعين في رحمته.
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لن يدخل أحدٌ الجنة بعمله)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ((ولا أنا، إن لم يتغمدني الله برحمته)).(1/36)
قال تعالى: {قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون}، والصلاة قد صرح الله في كتابه أنها الدعاء في قوله: {وصل عليهم إن صلواتك سكنٌ لهم}؛ أي: ادع لهم.
وقيل: الخشوع في أفضل العبادات، وهي الصلاة.
وقوله -عز وجل-: {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}، هذه من أعظم الدعاء.
قال ابن عباس -رضي الله عنه-، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعا أخي يونس في الظلمات بهذه الدعوة؛ فأنجاه الله تعالى، فلا يدعو بها مؤمن مكروب إلا كشف الله -عز وجل- ذلك عنه، إنها عدةٌ من الله لا نكذبها)).
وقوله -عز وجل-: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله}.
قال الزجاج: سبب نزولها أن أم كلثومٍ قال لها زوجها: أنت علي(1/37)
كظهر أمي، وكانت هذه الكلمة مما يطلق بها أهل الجاهلية، فصارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أوساً تزوجني وأنا شابةٌ مرغوبٌ في، فلما خلا سني، ونثرت بطني، جعلني عليه كأمه، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ((ما عندي في أمرك شيءٌ))، فشكت إلى الله -عز وجل-، وقالت: اللهم إني أشكو إليك.
وروي -أيضاً- أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ليس صبيةً صغاراً، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا؛ فأنزل الله -عز وجل- هذه الآيات.
وقوله -عز وجل-: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}.
قال الرازي: هذا يدل على أن الإنسان لا يدعو الله -عز وجل- إلا بالأسماء الحسنى، نحو: يا الله، يا رحمن، يا منان، يا رحيم، يا ودود، يا خالق، يا بارئ، ولا يقول: يا صانع، ولا يا معلم، ولا نحو ذلك مما يشاركه فيه غيره مجازاً.(1/38)
وقوله -عز وجل-: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}.
سئل أبو الحسن القناد عنها، فقال: ادعوني بلا غفلةٍ، أستجب لكم بلا مهلةٍ، ادعوني بالتوبة، أستجب لكم بالمغفرة، ادعوني بالتذلل، أستجب لكم بالتفضل، ادعوني بالإقبال، أقبل عليكم بالإجابة، ادعوني دعوة العبيد، أستجب لكم بالمزيد، ادعوني في السراء والضراء، أصرف عنكم جميع البلاء.
وقال تعالى-وهو أعظم ما ورد في الدعاء والإجابة-: {هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذريةً طيبةً إنك سميع الدعاء}، هذا الدعاء من زكريا لما دعا به، استجاب له، فقال -عز وجل-: {فنادته الملائكة وهو قائمٌ يصلي في المحراب أن الله يشرك بيحيى}، فهذا أعظم شيء ورد في الإجابة.
قوله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي}.(1/39)
روى مسلم في ((صحيحه))، من حديث سعد بن أبي وقاص، قال: نزلت في، وفي ابن مسعودٍ، وصهيبٍ، وعمارٍ، والمقداد، وبلالٍ، قالت قريشٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نرضى أن نكون أتباعاً لهؤلاء، فاطردهم عنك، فدخل من ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله، فنزلت هذه الآية. والمراد بهما: الدعاء.
وقيل: الصلاة المكتوبة، قاله عمر، وابن عباس.
وقيل: ذكر الله، قاله النخعي.
وقيل: عبادة الله، قاله الضحاك.
وقيل: تعلم القرآن غدوةً وعشيةً، قاله أبو جعفرٍ.
وقيل: الدعاء بالتوحيد والإخلاص وعبادته، قاله الزجاج.(1/40)
وأمر الله في كتابه بالدعاء للغير، فقال جل ذكره: {وصل عليهم إن صلواتك سكنٌ لهم}، فأمره بالدعاء لقومه، ويونس لما دعا على قومه عاقبه على ذلك.(1/41)
فصل [فيما ورد من الدعاء في السنة الشريفة]
والوارد من ذلك في السنة كثيرٌ لا يحصى، ونذكر نبذةً منه:
فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((خير الدعاء [دعاء يوم عرفة]، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ)).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ليس شيءٌ(1/43)
أكرم على الله من الدعاء)).
وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-، قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا غلام! إني أعلمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، [احفظ] الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ، [لم] ينفعوك إلا بشيءٍ كتبه لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)).
قال ابن رجبٍ في ((شرح النواوية)) في قوله: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)).
قال: هذا مأخوذٌ من قوله تعالى:{إياك نعبد وإياك(1/44)
نستعين}؛ فإن السؤال لله هو دعاؤه، والرغبة إليه، والدعاء: هو العبادة.
وعن أنس -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((الدعاء مخ العبادة)).
وقد أمر الله بمسألته: {وسئلوا الله من فضله}.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً: ((من لا يسأل الله يغضب عليه)).(1/45)
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن بني فلانٍ أغاروا علي، فذهبوا بابني وإبلي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن آل محمدٍ كذا وكذا أهل بيتٍ ما لهم مدٌ من طعامٍ، أو صاعٌ، فاسأل الله))، فرجع إلى امرأته، فقالت له: ما قال لك؟ فأخبرها، فقالت: نعم ما رد عليك، فما لبث أن رد الله عليه إبله وابنه أوفر ما كانت، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وأمر الناس بمسألة الله -عز وجل-.
وفي ((الصحيحين)) عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله -عز وجل- يقول: ((هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من سائلٍ فأعطيه سؤاله؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟)).(1/46)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: من ذا الذي دعاني فلم أجبه؟ وسألني فلم أعطه؟، واستغفرني فلم أغفر له؟ وأنا أرحم الراحمين)).
قال ابن رجب في ((شرح النواوية)): والله يحب أن يسأل ويرغب إليه في الحوائج، ويلح في سؤاله ودعائه، ويغضب ممن لا يسأله، ويستدعي من عباده سؤاله.
وعن أبي ذر -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه -عز وجل- أنه قال: ((يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا، [يا عبادي! كلكم ضالٌ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم]، يا عبادي! كلكم جائعٌ إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لم تبلغوا ضري فتضروني، ولم تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجلٍ منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على(1/47)
أفجر قلب رجلٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوني فأعطيت كل إنسانٍ مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئاً، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تعالى: ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرةً)).
وفي الطبراني مرفوعاً: ((من أعطي الدعاء أعطي الإجابة؛ لأن الله -عز وجل- يقول: {ادعوني أستجب لكم})).(1/48)
وعن عبد الله بن عمر [و] -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذه القلوب أوعيةٌ، فبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله، فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبدٍ دعاء من ظهر قلبٍ غافلٍ)).
قال ابن رجب في ((شرح النواوية)): ولهذا نهي أن يقول العبد في دعائه: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم المسألة؛ فإنه لا مكره له، ونهي أن يستعجل ويترك الدعاء لاستبطاء الإجابة، وجعل ذلك من موانع الإجابة؛ حتى لا يقطع العبد رجاءه من الإجابة والدعاء، ولو طالت المدة؛ فإنه سبحانه يحب الملحين في الدعاء.
وجاء في الأثر: إن العبد إذا دعا ربه وهو يحبه، قال: يا جبريل! لا تعجل بقضاء حاجة عبدي؛ فإني أحب أن أسمع صوته.
وقال تعالى: {وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمت الله قريبٌ من المحسنين}.(1/49)
فما دام العبد يلح في الدعاء، ويطمع في الإجابة من غير قطع الرجاء، فهو قريبٌ من الإجابة، ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له.
وفي ((صحيح الحاكم))، عن أنسٍ مرفوعاً: ((لا تعجزوا عن الدعاء؛ فإنه لا يهلك مع الدعاء أحدٌ)).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، [قال]: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت ربي فلم يستجب لي)).
وعنه -أيضاً-، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقول أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم [و] ليعظم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيءٌ أعطاه)).
وعنه -أيضاً-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقولن أحدكم: اللهم(1/50)
اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم في الدعاء؛ فإن الله صانعٌ ما يشاء، لا مكره له)).
وعن صفوان بن عبد الله بن صفوان-وكانت تحته الدرداء-، قال: قدمت الشام فأتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده، فوجدت أم الدرداء، [فقالت: أتريد الحج العام؟ فقلت: نعم، قالت: فادع الله] لنا بخيرٍ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابةٌ؛ عند رأسه ملكٌ موكلٌ، كلما دعا لأخيه بخيرٍ، قال الملك الموكل به: آمين، ولك مثل ذلك)).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثمٍ، أو قطيعة رحمٍ ما لم يستعجل))، قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: ((يقول: دعوت فلم يستجب لي)).(1/51)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما استجار أحدٌ من النار سبع مراتٍ، إلا قالت النار: يا رب! إن عبدك فلاناً استجار مني فأجره، ولا يسأل عبدٌ الجنة سبع مراتٍ إلا قالت الجنة: يا رب! إن عبدك فلاناً سألني، فأدخله الجنة)).
وعنه -أيضاً-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال: أسأل الله الجنة سبع مراتٍ، قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة)).
وفي ((المسند))، والترمذي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الله لا يستجيب دعاء قلبٍ غافلٍ لاهٍ)).(1/52)
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يوم عرفة، فقال: ((اللهم إنك ترى مكاني، وتسمع كلامي، ولا يخفى عليك شيءٌ من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث، المستجير، الوجل، المشفق، المقر، المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، اللهم لا تجعلني بدعائك شقياً، وكن لي باراً رؤوفاً رحيماً، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين))
وخرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: ((اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)).(1/53)
وفي حديث معاذ -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في قصة المنام: ((أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين)).
وخرج البزار، والطبراني، والحاكم، من حديث ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو حديث المنام، وفي حديثه: ((اللهم إني أسألك حبك وحب حبك، وحب عملٍ يقربني إلى حبك، اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي، حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت، ورضني بما قسمت لي)).(1/54)
وخرج الترمذي -أيضاً- من حديث عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول في دعائه: ((اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أحب، فاجعله قوةً لي فيما تحب، اللهم وما زويت عني مما [أحب]، فاجعله فراغاً لي فيما تحب)).
وخرج ابن أبي الدنيا، وغيره، من رواية أبي بكر بن أبي مريم، عن الهيثم بن مالكٍ الطائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: ((اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك، وإذا أقررت عين أهل الدنيا من دنياهم، فأقر عيني من عبادتك)).
وخرج الإمام أحمد، والحاكم، من حديث زيد بن ثابتٍ -رضي الله عنه -: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه دعاء وأمره أن يتعاهد به أهله كل يومٍ، قال: قل حين تصبح: ((لبيك اللهم لبيك، وسعديك، والخير في يديك، ومنك، وبك، وإليك، اللهم ما قلت من قولٍ، أو نذرت من نذرٍ، أو حلفت من حلفٍ، فمشيئتك بين يديه، ما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بك، إنك على كل شيءٍ قديرٌ، اللهم وما صليت من صلاةٍ،(1/55)
فعلى من صليت، وما لعنت من لعنٍ، فعلى من لعنت، أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلماً، وألحقني بالصالحين، اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، وشوقاً إلى لقائك من غير ضراء مضرةٍ، ولا فتنةٍ مضلةٍ، أعوذ بك اللهم من أن أَظلم، أو أُظلم، أو أعتدي، أو يعتدى علي، أو أكتسب خطيئةً محبطةً، أو ذنباً لا تغفره، اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، ذا الجلال والإكرام؛ فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا، وأشهدك وكفى بك شهيداً: أني أشهد أن لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، لك الملك ولك الحمد، وأنت على كل شيءٍ قديرٌ، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك، وأشهد أن وعدك حقٌ، ولقاءك حقٌ، والجنة حقٌ، والنار حقٌ، والساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنك تبعث من في القبور، وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي، تكلني إلى ضيعةٍ وعورةٍ وذنبٍ وخطيئةٍ؛ فإني لا أثق إلا برحمتك، فاغفر لي ذنبي كله، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم)).
وخرج الإمام أحمد، والنسائي، من حديث عمار بن ياسرٍ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الدعوات: ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة(1/56)
خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرةٍ، ولا فتنةٍ مضلةٍ، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين)).
وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((أسألك الدرجات العلا، والنعيم المقيم)).
وسمع النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعودٍ وهو يقول: ((أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة نبيك في أعلى جنة الخلد))، فقال: ((سل تعطه)).(1/57)
وهذا بابٌ يقل أن يحيط به كتابٌ، وفي هذا الباب شيءٌ كثيرٌ لا يعلم حصره إلا الله تعالى، بعضه صحيحٌ، وبعضه ضعيفٌ، وقد اقتصرنا منه على هذا؛ تبركاً بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم.(1/58)
فصل في أوقات الإجابة
ليلة القدر، ويوم عرفة، وشهر رمضان، وليلة الجمعة، ويوم الجمعة، ونصف الليل، قيل: الأول، والأصح: الثاني، وثلث الليل الأول، وثلث الليل الآخر، وجوفه، ووقت السحر، وساعة الجمعة، وأرجى وقتها ما بين أن يجلس الإمام في الخطبة إلى أن تقضى الصلاة، وقيل: من حيث تقام الصلاة إلى السلام، قيل: والداعي قائمٌ يصلي، وقيل: بعد العصر إلى غروب الشمس، وهذا هو الصحيح من مذهب أحمد، وقيل: آخر ساعةٍ من يوم الجمعة، وقيل: بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس، وقيل: بعدها، وقيل: بعد ارتفاع الشمس، يسيراً إلى ذراعٍ، وقيل: عند قول الإمام آمين في الصلاة.(1/59)
فصل [أحوال الإجابة]
وأحوال الإجابة: عند النداء، وبين الأذان والإقامة، وبين الحيعلتين، وعند الصقين، وعند التحام الحرب، ودبر الصلوات المكتوبات، وفي السجود، وعقيب تلاوة القرآن، لا سيمان الختم، وخصوصاً من القارئ، وعند شرب ماء زمزم، والحضور عند الميت، وصياح الديكة، واجتماع المسلمين، وفي مجالس الذكر، وعند قول آمين، وعند تغميض الميت، وعند نزول الغيث، وعند رؤية الكعبة، والصائم حال يفطر.(1/61)
فصل أماكن الإجابة
قال الحسن البصري في ((رسالته إلى أهل مكة)): الدعاء(1/63)
مستجابٌ هناك في خمسة عشر موضعاً: في الطواف، وتحت الميزاب، وفي الركن، وعند زمزم، وعلى الصفا والمروة، والمسعى، وخلف المقام، وفي عرفات، ومزدلفة، ومنى، وعند الجمرات، وعند النبي صلى الله عليه وسلم، والملتزم، وعند المنبر من كل مسجدٍ، وعند صخرة بيت المقدس، والله أعلم.(1/64)
فصل الذين يستجاب دعاؤهم
المضطر، والمظلوم، قيل: ولو كان فاجراً، وقيل: ولو كان كافراً، والوالد، والإمام العادل، والرجل الصائم، والولد البار لوالديه، والمسافر، والصائم حين يفطر، والمسلم لأخيه بظهر الغيب، والمسلم ما لم يدع بظلمٍ، أو قطيعة رحمٍ، ولكل مسلمٍ في كل يومٍ وليلةٍ دعوةٌ مستجابةٌ.(1/65)
فصل [بعض الأدعية الواردة عن السلف]
وقد ورد في الآثار من الدعاء شيءٌ كثيرٌ لا يحصيه إلا الله -عز وجل-، فروي: أن جعفراً الصادق كان يدعو في آخر رمضان، فيقول: ((اللهم رب رمضان، منزل القرآن، هذا شهر رمضان، الذي أنزل فيه القرآن، وقد انصرم؛ أي رب! فأعوذ بوجهك الكريم أن يطلع الفجر من ليلتي هذه، أو يخرج رمضان ولك عندي ذنبٌ تريد أن تعذبني به يوم لقائك)).
وقال وهب بن منبهٍ لرجلٍ كان يأتي الملك: ويحك! تأتي من يغلق عنك بابه، ويظهر لك فقره، ويواري عنك غناه، وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار، ويظهر لك غناه، ويقول: ادعني أستجب لك؟!.
وقال طاوس لعطاءٍ: إياك أن تطلب حوائجك ممن أغلق دونك بابه،(1/67)
ويجعل دونها حجابه، وعليك بمن بابه مفتوحٌ إلى يوم القيامة.
وقال أبو مسلم الخولاني: ما عرضت لي دعوةٌ فذكرت النار، إلا صرفتها إلى الاستعاذة منها.
قال ابن عباس: من كان ذاكراً لله في الرخاء، ذكره الله في الشدة، واستجاب له، ومن يغفل عن الله في الرخاء، ويذكره في الشدة، لم يستجب له.
أخبرني الشيخ الصالح شهاب الدين بن هلال الأزدي بقراءتي عليه، قال: أخبرني ابن المحب سماعاً، عن النابلسي، عن الواسطي، قال: أخبرني الشيخ العلامة موفق الدين ابن قدامة المقدسي، قال: أخبرنا جماعةمن التوابين، قال: أخبرنا الشيخ أبو الحسن أحمد بن حمزة السلمي، وجماعةٌ قالوا: أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد المقري الأصبهاني، قال: أخبرنا أبو نعيمٍ الحافظ، أنبأ محمدٌ بن حميدٍ، ثنا عبد الله بن مسعودٍ الرقي، ثنايزيد بن محمدٍ بن سنانٍ، عن أبيه، عن جده، قال: حدثني الحسن بن علي -رضي الله عنه- قال: بينما أنا أطوف مع أبي حول البيت، في ليلةٍ ظلماء، وقد رقدت العيون، وهدأت الأصوات؛ إذ سمع [أبي] هاتفاً يهتف بصوت حزينٍ شجيٍ، وهو يقول:
يا من يجيب دعا المضطر في الظلم ... يا كاشف الضر والبلوى مع السقم(1/68)
قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا ... وأنت يا حي يا قيوم لم تنم
هب لي بوجودك فضل العفو عن جرمٍ ... يا من إليه أشار الخلق في الحرم
إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرفٍ ... فمن يجود على العاصين بالكرم
قال: فقال لي أبي: يا بني! ما تسمع صوت النادب لذنبه، المستقيل لربه؟ الحقه، فلعلك أن تأتي به، فخرجت أسعى حول البيت أطلبه، فلم أجده، حتى انتهيت إلى المقام، فإذا هو قائمٌ، فقلت: أجب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوجز في صلاته واتبعني، فأتيت أبي فقلت: هذا الرجل يا أبت، قال له أبي: ممن الرجل؟ فقال: من العرب، قال: وما اسمك؟ قال: منازل بن لاحقٍ، قال: وما شأنك؟ وما قصتك؟ قال: وما قصة من أسلمته ذنوبه، وأوبقته عيوبه، فهو مرتهنٌ في بحر الخطايا، فقال له أبي: علي ذلك، فاشرح خبرك.
قال: كنت شاباً على اللهو والطرب، لا أفيق عنه، وكان لي والدٌ يعظني كثيراً، ويقول: يا بني! احذر هفوات الشباب وعثراته؛ فإن لله سطواتٍ ونقماتٍ، ما هي من الظالمين ببعيدٍ، وكان إذا ألح علي بالموعظة، ألححت عليه بالضرب، فلما كان يومٌ من الأيام، ألح علي بالموعظة، فأوجعته ضرباً، فحلف بالله مجتهداً: ليأتين بيت الله الحرام، فيتعلق بأستار الكعبة، ويدعو علي، فخرج حتى انتهى إلى البيت، فتعلق بأستار الكعبة، وأنشأ يقول:
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا ... عرض المهامه من قربٍ ومن بعد
إني أتيتك يا من لا يخيب من ... يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد
هذا منازل لا يرتد عن عققي ... فخذ بحقي يا رحمن من ولدي(1/69)
وشل [منه] بحولٍ منك جانبه ... يا من تقدس لم يولد ولم يلد
قال: فوالله ما استتم كلامه حتى نزل بي ما ترى، ثم كشف عن شقه الأيمن فإذا هو يابسٌ، قال: فأبت ورجعت، ولم أزل أترضاه، وأخضع له، وأسأله العفو عني إلى أن أجابني أن يدعو لي في المكان الذي دعا علي، قال: فحملته على ناقةٍ عشراء، وخرجت أقفو أثره حتى إذا صرنا بوادي الأراك، طار طائرٌ من شجرةٍ، فنفرت الناقة، فرمت به بين أحجارٍ، فرضخت رأسه فمات، فدفنته هناك، وأقبلت آيساً، وأعظم ما بي، ما ألقاه من التعيير: أني لا أعرف إلا بالمأخوذ بعقوق والده.
فقال له أبي: أبشر فقد أتاك الغوث، فصلى ركعتين، ثم أمره فكشف عن شقه بيده، ودعا له مراتٍ يرددهن، فعاد صحيحاً كما كان، وقال له أبي: لولا أنه قد كان سبقت إليك من أبيك في الدعاء لك؛ بحيث دعا عليك، ما دعوت لك.
قال الحسن: وكان أبي يقول لنا: احذروا دعاء الوالدين؛ فإن في دعائهما النماء والانجبار، والاستصغار والبوار.
وكان عبيدة الخواص يبكي ويقول: قد كبرت، فأعتقني من النار.
وقال سفيان الثوري: رأيت رجلاً متعلقاً بأستار الكعبة، وهو يقول:(1/70)
اللهم سلم، قلت: ما شأنك، ولم تطلب السلامة؟ فقال: يا أخي! كنا أربعةً؛ تنصر أحدنا عند الموت، وتهود الآخر، وتمجس الآخر، وبقيت أنا خائفاً أرغب إلى الله تعالى في السلامة.
قال سفيان بن عيينة -رحمه الله-: سمعت أعرابياً يقول في الطواف: إلهي! من أولى بالتقصير مني، وقد خلقتني ضعيفاً؟ ومن أولى بالكرم منك، وقد سميت نفسك رؤوفاً؟ ولك المنة علي، وعصيتك بعلمك، ولك الحمد علي، فبانقطاع حجتي، ووجوب حجتك، وبفقري وغناك، إلا ما غفرت لي.
قال وهيب بن الورد: بينما امرأةٌ تطوف، وهي تقول: يا رب! ذهبت اللذات، وبقيت التبعات، يا رب! مالك عقوبةٌ إلا النار، أما في عفوك ما يسعني؟ قال: فما استتمت كلامها إلا وقائلٌ يقول: قد عفونا عنك، وغفرنا لك.
وقال بعضهم: دخلنا على عطاءٍ نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقلنا له: كيف ترى حالك؟ فقال: الموت في عنقي، والقبر بين يدي، وفي القيامة موقفي، وعلى جسر جهنم طريقي، ولا أدري ما يفعل بي، ثم بكى بكاءً شديداً، حتى غشي عليه، فلما أفاق، قال: اللهم ارحم وحشتي(1/71)
في القبر، ومصرعي عند الموت، وارحم مقامي بين يديك، يا أرحم الراحمين.
وقيل: إن محمد بن المنكدر بكى عند موته، فقيل له: ما يبكيك؟ فرفع طرفه إلى السماء، وقال: اللهم إنك أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت؛ فإن غفرت فقد مننت، وإن عاقبت فما ظلمت.
قال بعض الصالحين: بينا أنا أطوف بالكعبة، وإذا أنا بجاريةٍ تقول: يا كريم!، عهدك القديم؛ فإني على العهد مقيمٌ، فقلت: يا جارية! وما العهد الذي بينك وبينه؟ قالت: يا أخي! أمرٌ عجيبٌ، وذلك أني كنت في البحر، فهبت بنا ريحٌ، فدمرت كل من في السفينة، وغرق كل من فيها، فلم ينج منهم غيري، وهذا الطفل، وبقيت على لوحٍ، ورجلٌ أسود على لوحٍ آخر، فلما أصبح الصبح دخل الأسود إلي، وجعل يدافع الماء بذراعيه حتى وصل إلي واستوى معنا على اللوح، وجعل يراودني عن نفسي، فقلت له: يا عبد الله! نحن في بليةٍ لا نرجو السلامة منها بطاعةٍ، فكيف بالمعصية؟!
فقال: دعيني، فوالله لا بد من ذلك، ومد يده وأخذ الطفل مني، ورمى به في البحر، فرفعت طرفي إلى السماء، وقلت: يا من يحول بين(1/72)
المرء وقلبه، حل بيني وبين هذا الأسود بحولك وقوتك، إنك على كل شيءٍ قديرٌ، وإذا بدابةٍ من دواب البحر قد فتحت فاها والتقمت الأسود وغابت به في البحر، وبقيت الأمواج ترميني يميناً وشمالا، فرمتني إلى جزيرةٍ من جزائر العرب، فقصصت لهم قصتي وما جرى لي، فتعجبوا من ذلك، وأطرقوا رؤوسهم، وقالوا: لقد أخبرتنا بأمرٍ عجيبٍ، ونحن نخبرك بأمرٍ تعجبين منه، وذلك أنا كنا مسافرين في البحر؛ إذ اعترضتنا دابةٌ، ووقفت أمامنا، وإذا الطفل على ظهرها، ومنادٍ ينادي: خذوا هذا الطفل من على ظهري، وإلا أهلكتكم، فنزل واحدٌ منا على ظهرها وأخذه، وغاصت الدابة في البحر، وقد عاهدنا الله تعالى ألا يرانا على معصيةٍ أبداً، وأعطوني الطفل، وهذا بعض عجائب صنع الله تعالى.
وعن ابن عمر: أنه كان يدعو على الصفا والمروة، وفي منى، فيقول في دعائه: اللهم اجعلني ممن يحبك، ويحب ملائكتك، ويحب رسلك، ويحب عبادك الصالحين، اللهم حببني إليك، وإلى ملائكتك، وإلى رسلك، وإلى عبادك الصالحين، في دعاء كثير.
وعن سلام بن مسكين، قال: سمعت الحسن يقول: املأ قلوبنا إيماناً بك، ويقيناً بك، ومعرفةً بك، ومعرفةً لك، وتصديقاً بك، وحياءً لك، وشوقاً إلى لقائك.
وعن عبد الواحد بن زيد أنه كان يقول في دعائه: أسألك اللهم أركاناً(1/73)
قويةً على عبادتك، وأسألك جوارح مسارعةً إلى طاعتك، وأسألك همماً متعلقةً بمحبتك.
وعن مرثد بن أبي عامرٍ، عن الحسن بن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- أنه كان يقول في دعائه: اللهم ارزقني محبةً لك تقطع بها عني محبات الدنيا والآخرة ولذاتها، وارزقني محبةً لك تجمع لي بها خير الآخرة ونعيمها، اللهم اجعل محبتك أحب الأشياء عندي، وأقرها لعيني، واجعلني أحبك حب الداعين في محبتك، حباً لا يخالطه حبٌ هو أعلى منه في صدري، ولا أكثر منه في نفسي، حتى تشغل قلبي به عن السرور بغيره، حتى يكمل لي به عندك الثواب غداً في أعلى منازل المحبين لك يا كريم! قال: وكان من خيار أهل البيت، وكان يدعو بهذا الدعاء في آخر كلامه، ويبكي.
وعن عقبة بن فضالة، قال: كان أبو عبيدة الخواص يقول في دعائه، بعدما كبر: اللهم ارزقني حباً لك، وحباً لطاعتك، وحباً لمطيعيك، وحباً لأوليائك، وحباً لأهل محبتك، وخدامك، اللهم ارزقني حباً ترفعني به عندك في أعلى درجات العلا، في منازل المحبين للقاءك، وكان يبكي حتى يكاد يغمى، وكان قد كبر جداً.
قال أحمد بن أبي الحواري، ثنا أبو قرة، ثنا حميد بن قائد، قال: كان بعض التابعين يقول: إلهي! أعطيتني من غير أن أسألك، فكيف تحرمني وأنا أسألك، اللهم إني أسألك أن تسكن عظمتك في قلبي، وأن(1/74)
تسقيني شربةً من كأس حبك.
وكان من دعاء بعض التابعين: اللهم أمت قلبي بخوفك وخشيتك، وأحيه بحبك وذكرك.
وكان علي بن الموفق يقول: اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك خوفاً من نارك، فعذبني بها، وإن كنت تعلم أني أعبدك حباً مني لجنتك فاحرمنيها، وإن كنت تعلم أني أعبدك حباً مني لك، وشوقاً إلى وجهك الكريم، فأبحنيه [مرة]، واصنع بي ما شئت.
وقال بعض السلف لإخوانه: زهدنا الله وإياكم في الحرام، زهادة من قدر عليه في الخلوة، فعلم أن الله يراه، فتركه.
وختم آدم بن أبي إياس القرآن، وهو مسجى للموت، ثم قال: بحبي لك إلا رفقت بي في هذا المصرع، كنت أؤملك لهذا، كنت أرجوك، لا إله إلا الله، ثم قضى -رحمه الله-.
وكان عبد الصمد الزاهد يقول عند موته: سيدي! لهذه الساعة(1/75)
خبأتك، ولهذا اليوم اقتنيتك، حقق حسن ظني بك.
ولما دخلوا على عثمان وضربوه، جعل يقول -والدماء تسيل عليه-: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أستعديك عليهم، وأستعينك على جميع أموري، وأسألك الصبر على ما بليتني.
ومر أبو جعفر محمد بن علي بمحمدٍ بن المنكدر -وهو مغمومٌ-، فسأل عن سبب غمه، فقيل له: الدين قد قرحه، فقال أبو جعفر: أفتح له في الدعاء؟، قيل: نعم، قال: لقد بورك لعبدٍ في حاجةٍ أكثر فيها من الدعاء؛ كائنةً ما كانت.
وكان بعض السلف يقول في مرضه: اللهم أنقص من الوجع، ولا تنقص من الأجر.(1/76)
فصل ويدعو المأمومون مع الإمام
قال البخاري: باب: رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء، وذكر حديث الاستسقاء في الجمعة، ثم قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون.
قال ابن رجبٍ في ((شرح البخاري)): والمقصود من هذا الحديث في هذا الباب: أن المأمومين يرفعون أيديهم إذا رفع الإمام يديه، ويدعون معه، وممن قال إن الناس يدعون مع الإمام: مالكٌ وأحمد -رضي الله عنهما-.
وقال أصحاب الشافعي: إن سمعوا دعاء الإمام أمنوا عليه، وإن لم يسمعوا دعوا، وكذا قالوا في قنوت المأموم خلف الإمام.
وأما مذهب الإمام أحمد -رحمه الله-: فإن لم يسمع صوت إمامه(1/77)
المشروع دعا، وإن سمع، فهل يؤمن، أو يدعو، أو يخير بينهما، أو يتابعه في الثناء، ويؤمن على دعائه؟ حكي عنه فيه رواياتٍ.
قال ابن رجب في ((شرح الفاتحة)) الفصل الخامس: في التأمين على الدعاء في غير الفاتحة: فأما السامع للدعاء والمستمع له، فينبغي أن يؤمن على الدعاء، كما في القنوت.
وقال أصحابنا: يستحب للسامع أن يؤمن أو يدعو، خيروه بينهما.
ثم قال: فأما الداعي نفسه، فقال أصحابنا: لا يؤمن، وقالت طائفةٌ، منهم ابن عطية: يشرع لكل داعٍ أن يؤمن، واستدلوا بحديث: ((اختم بآمين)).
وعن معاذٍ: أنه كان إذا قرأ آخر البقرة قال: ((آمين)).
قال: وبالقياس على تأمين الإمام على دعاء العامة، وقد دل على استحباب التأمين للمستمع للدعاء أحاديث منها، حديث ارتقى المنبر، فقال: ((آمين)).(1/78)
وكان ابن مسعود إذا ختم القرآن جمع أهله، فأمنوا على دعائه، ولم يزل السلف والناس على ذلك إلى زماننا.(1/79)
فصل [استحباب الخضوع والخشوع في الدعاء]
ويستحب الخشوع في الدعاء والمسكنة والافتقار والخضوع والذل والانكسار، وترك التجبر والتكبر.
قال الشيخ شمس الدين بن عبد القوي في كتابه ((النظم الكبير))، في باب: صلاة الاستسقاء:
ويخضع نحو الأرض بالطرف خاشعاً ... ويرفع كف المستغيث المجهد
ويدعو دعاء المخبتين بقلبه ... دعاء غريقٍ في دجى الليل مفرد(1/81)
فإن الذي يدعوه يرزق من عصى ... وفاتح بابٍ للمطيع ومعتد
ولكنما صدق الرجاء مفاتح الخزائن ... فادع واسع للفضل واجتد
ولا تقنطن من رحمة الله إنما ... قنوط الفتى خسرانه فادع تهتد
وقل بانكسارٍ قارعاً باب راحمٍ ... قريبٍ مجيبٍ بالفواضل مبتد
إلهى أتى العاصون بابك ما لهم ... سواك يزيل الأزل في الحاصل العد
إليك فررنا من عذابك رهبةً ... فلا تطردنا من جنابك وتبعد
دعوناك للأمر الذي أنت ضامنٌ ... إجابته يا غير مخلف موعد
إليك مددنا بالرجاء أكفنا ... فحاشاك من رد الفتى فارغ اليد
وناد بقلبٍ خاشعٍ متضرعاً ... بما شئت من كل الدعا غير معتد(1/82)
فصل ويستحب رفع اليدين في الدعاء
وقد ورد في الحديث: ((أن المؤمن إذا رفع يديه في الدعاء استحيا الله أن يردهما صفراً خائبتين)).
وقد ورد رفع اليدين في الدعاء في أماكن.
قال ابن رجب: وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه في الدعاء، وأكثر ما روي عنه أنه كان يرفعهما في صلاة الاستسقاء؛ فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه.
وفي ((تجريد الأصول))، عن سلمان [قال]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حييٌ كريمٌ، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً)).(1/83)
وفي ((صحيح البخاري))، لما دخل الرجل وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستسقاء، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه.
وقال البخاري: باب: رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء.
ثم روى حديث أنسٍ، قال: أتى رجلٌ أعرابيٌ من أهل البدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله! هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون.
وعن أنسٍ: أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه.
ثم ذكر البخاري بعده، باب: رفع الإمام يديه في الاستسقاء، ثم ذكر حديث أنسٍ، وفي الحديث: أنه رفع يديه حتى رأينا بياض إبطيه.(1/84)
وعن أنس، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه، ولم يذكر في هذه الرواية الاستسقاء.
وعن سهلٍ بن سعدٍ، قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم شاهراً يديه قط، يدعو على منبرٍ ولا غيره، ما كان يدعو إلا يضع يديه حذو منكبيه، ويشير بإصبعه إشارةً.
وعن أبي موسى: لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين، بعث أبا عامرٍ على جيش فلقي دريد بن الصمة، فقتل دريد، وهزم الله أصحابه.
وقال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر، فرمي أبو عامر في ركبته، رماه جشميٌ بسهمٍ فأثبته في ركبته، فانتهيت إليه، فقلت: يا عم! من رماك؟ فأشار إلى أبي موسى، فقال: ذلك قاتلي الذي رماني، فقصدت له، فلحقته، فلما رآني ولى، فاتبعته، وجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألا تلبث؟ فكف، فاختلفنا ضربتين بالسيف، فقتلته، ثم قلت: أبا عامرٍ! قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السهم، فنزعته، فنزا منه الماء. قال: يا بن أخي! أقرئ لي النبي صلى الله عليه وسلم السلام، وقل له: استغفر لي، واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيراً ثم مات، فرجعت فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته على سريرٍ مرمل، وعليه فراشٌ، قد أثر رمال السرير(1/85)
بظهره، وجنبيه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامرٍ، وقال: قل له: استغفر لي، فدعا بماءٍ فتوضأ، ثم رفع يديه، فقال: ((اللهم اغفر للعبيد أبي عامرٍ))، ورأيت بياض إبطيه، ثم قال: ((اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثيرٍ من خلقك، من الناس)).
وعن أبي برزة الأسلمي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الدعاء.
وعن عمر بن الخطاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ استقبل القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه ماداً يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط [رداؤه عن منكبيه])).
وعن عمر: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قائماً يدعو، رافعاً كفيه قبل وجهه، ولا يجاوز بهما رأسه، مقبلاً ببطن كفيه إلى وجهه.(1/86)
وروي: أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا جعل باطن كفيه إليه، وإذا استعاذ جعل ظهرهما إليه.
وفي صفة الرفع خمسة أنواعٍ:
أحدها: أن الرفع لم يكن رفعاً، إنما كان إشارةً بالأصبع الواحدة إلى السماء، وفي هذا أحاديث تذكر، وليست بشيء، لكن في بعض المواضع وردت الإشارة بالأصبع، ولكن قد ورد الرفع غير الإشارة، فيكون الرفع شيءٌ، والإشارة شيءٌ.
النوع الثاني: رفع اليدين وبسطهما، وجعل بطنهما إلى السماء، وقد ورد في هذا أحاديث.
قال ابن رجب في ((شرح البخاري)): وهذا هو المتبادر إلى الفهم.
النوع الثالث: أن يرفع يديه، ويجعل ظهرهما إلى القبلة، وبطونهما مما يلي وجهه، وقد ورد فيه أحاديث، وتقدم بعضها. قلت: وهذا هو المتبادر إلى الفهم.(1/87)
الرابع عكس الثالث: وهو أن يجعل ظهورهما مما يلي وجه الداعي، وقد ورد فيه أحاديث أيضاً.
النوع الخامس: أن يقلب كفيه، ويجعل ظهورهما مما يلي السماء، وبطونهما مما يلي الأرض، مع مد اليدين ورفعهما إلى السماء، وفيه أحاديث أيضاً.
ويمسح بيديه بعد رفعهما وجهه، لما روى عمر بن الخطاب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء، لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه، وقال محمد بن المثنى في حديثه: ((لم يردهما))، رواه الترمذي، وقال: حديث غريب.(1/88)
واختلف كلام أحمد، هل يمسح وجهه بيديه بعد الفراغ من دعاء القنوت؟ على روايتين عنه -رحمه الله ورضي عنه-.(1/89)
فصل وتستحب الإشارة في الدعاء
ولهذا وردت الإشارة في التشهد.
وفي حديث سهل بن سعدٍ، قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم شاهراً يديه قط، يدعو على منبرٍ ولا غيره، ما كان يدعو إلا يضع يديه حذو منكبيه، ويشير بأصبعه إشارةً.
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه أشار بأصبعه بعرفة.
وروي أنه أشار بأصبعه لما ركب راحلته، وقال: ((اللهم أنت الصاحب في السفر)).(1/91)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: إذا دعا أحدكم فهكذا، ورفع أصبعه المشيرة، وهكذا، ورفع يديه جميعاً.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: الاستغفار أن تشير بأصبعٍ واحدةٍ.
وعن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: إن الله يحب أن يدعى هكذا، وأشارت بالسبابة.
وعن ابن الزبير -رضي الله عنه-، قال: إنكم تدعون، أفضل الدعاء هكذا، وأشار بأصبعه.
وعن ابن سيرين، قال: إذا أثنيت على الله، فأشر بأصبعٍ واحدةٍ.
وعن سمعان، قال: بلغنا أنه الإخلاص.(1/92)
فصل ويستحب الدعاء مستقبل القبلة وغير مستقبل القبلة
وقد بوب البخاري على كل منهما؛ فذكر في باب: الدعاء مستقبل القبلة، حديث عبد الله بن زيدٍ، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المصلى يستسقي [فدعا واستسقى]، ثم استقبل القبلة وقلب رداءه.
وذكر في باب: الدعاء غير مستقبل القبلة، حديث أنسٍ في الاستسقاء في خطبة الجمعة.
وكان أحمد الهمداني لا يدعو شيئاً إلا مستقبل القبلة.(1/93)
فصل والسؤال لا ينبغي إلا لله
ولا ينبغي للخلق، كما في حديث وصية ابن عباس -رضي الله عنهما-: ((إذا سألت فاسأل الله))، فأمر بإفراد الله -عز وجل- بالسؤال، ونهى عن سؤال غيره من الخلق، وقد أمر الله تعالى بسؤاله، فقال: {وسئلوا الله من فضله}.
وفي الترمذي، عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعاً: ((سلوا الله من فضله؛ فإن الله يحب أن يسأل)).
وفيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً: ((من لا يسأل الله يغضب عليه)).(1/95)
وفيه -أيضاً-: ((إن الله يحب الملحين في الدعاء)).
وفي حديث آخر: ((ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع)).
وفي المعنى أحاديث كثيرةٌ، وفي النهي عن سؤال الخلق أحاديث كثيرةٌ صحيحةٌ.
وفي حديث مسعود بن عمروٍ مرفوعاً: ((لا يزال العبد يسأل، وهو غني، حتى يحلق وجهه، فما يكون له عند الله وجهٌ)).
وفي ((صحيح البخاري)) عنه صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال العبد يسأل حتى يأتي يوم القيامة، وليس على وجهه مزعة لحمٍ))، وقال: ((إن الشمس تدنو من(1/96)
الناس .. ..))، وذكر بقية الحديث.
وفيه عنه صلى الله عليه وسلم: ((ليأخذ الرجل حبله فيغدو فيحتطب، خيراً من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)).
وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعةٌ من أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً، منهم: الصديق، وأبو ذرٍ، وثوبان، وكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته فلا يسأل أحداً أن يناوله -رضي الله عنهم-.
قال ابن رجبٍ في ((نور الاقتباس)): واعلم أن سؤال الله تعالى دون خلقه هو المتعين عقلاً وشرعاً، ودلل من وجوهٍ متعددة، منها:
أن السؤال فيه بذلٌ لماء الوجه، وذلةٌ للسائل، وذلك لا يصلح إلا لله وحده، فلا يصلح الذل إلا له بالعبادة والمسألة، وذلك من غايات المحبة الصادقة.
وكان الإمام أحمد -رضي الله عنه-، يقول: اللهم كما صنت وجهي(1/97)
عن السجود لغيرك، فصنه عن المسألة لغيرك.
وقال أبو [الخير] الأقطع: كنت بمكة سنةً، فأصابتني فاقةٌ وضرٌ، فكنت كلما أردت أن أخرج إلى المسألة هتف بي هاتفٌ يقول: الوجه الذي يسجد لي لا تبذله لغيري.
وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... بدلاً وإن نال [الغنى] بسؤال
وإذا السؤال مع النوال وزنته ... رجح السؤال وخف كل نوال
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلاً ... فابذله للمتكرم المفضال
ولهذا المعنى كانت عقوبة من أكثر من المسألة بغير حاجةٍ أن يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحمٍ، كما ثبت ذلك في ((الصحيحين))؛ لأنه أذهب عز وجهه وصيانته في الدنيا، فأذهب الله من وجهه في الآخرة جماله وبهاءه الحسي، فيصير عظماً بغير لحمٍ، ويذهب جماله وبهاؤه المعنوي، فلا يبقى له عند الله وجاهةٌ.(1/98)
ومنها: أن السؤال عبوديةٌ عظيمةٌ؛ لأنها إظهار الافتقار إليه، والاعتراف بقدرته على قضاء الحوائج، وفي سؤال المخلوق ظلمٌ؛ لأن المخلوق عاجزٌ عن جلب النفع لنفسه ودفع الضرر عنها، فكيف يقدر على ذلك لغيره، وسؤاله إقامةٌ له مقام من يقدر، وليس هو بقادرٍ.
ويشهد لهذا المعنى الحديث الذي في ((صحيح مسلم))، عن أبي ذرٍ -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني، فأعطيت كل إنسانٍ مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر)).
وفي الترمذي وغيره زيادةٌ في هذا الحديث: ((وذلك بأني جوادٌ واحدٌ ماجدٌ، أفعل ما أريد، عطائي كلامٌ، وعذابي كلامٌ، إذا أردت شيئاً، إنما أقول له: كن فيكون))، فكيف يسأل الفقير العاجز، ويترك الغني القادر، إن هذا لأعجب العجب؟!
قال بعض السلف: إني لأستحيي من الله أن أسأله الدنيا، وهو يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها -يعني: المخلوق-.
وحصل لبعض السلف ضيقٌ في معشيته، حتى هم أن يطلب من(1/99)
إخوانه، فرأى في منامه قائلاً يقول له: أيحسن بالحر المريد، إذا وجد عند الله ما يريد، أن يميل بقلبه إلى العبيد، فاستيقظ وهو من أغنى الناس قلباً.
وقال بعض السلف: قرأت في بعض كتب الله المنزلة: يقول الله -عز جل-: ((أتؤمل غيري للشدائد، والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم؟! وترجي غيري، وطرق بابه بالبكرات، وبيدي مفاتيح الخزائن، وبابي مفتوح لمن دعاني؟! من ذا الذي أملني لنائبة، فقطعت به؟! أو من ذا الذي رجاني لعظيم، فقطعت رجاه؟! أو من ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له! أنا غاية الآمال، فكيف تنقطع الآمال دوني؟! أبخيلٌ أنا فيبخلني عبدي؟! أليس الدنيا والآخرة، والكرم والفضل كله لي؟! فما يمنع المؤملين أن يؤملوني؟! لو جمعت أهل السموات والأرض، ثم أعطيت كل واحدٍ منهم ما أعطيت الجميع، وبلغت كل واحدٍ منهم أمله، لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرةٍ، فكيف ينقص ملكاً أنا قيمه؟! يا بؤساً للقانطين من رحمتي!، ويا بؤساً لمن عصاني، وتوثب على محارمي!)).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((ينزل ربنا كل ليلةٍ إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من(1/100)
يدعوني فأستجيب له؟! ومن يسألني فأعطيه؟! ومن يستغفرني فأغفر له؟!)).
وعنه -أيضاً-، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل الله إلى سماء الدنيا كل ليلةٍ حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟!، من ذا الذي يسألني فأعطيه؟!، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟!، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر)).
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه، ينزل الله-تبارك وتعالى- إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائلٍ يعطى؟!)) هل من داعٍ يستجاب له؟!، هل من مستغفرٍ يغفر له؟!، حتى ينفجر الفجر)).
وعنه -أيضاً-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل الله-عز وجل- إلى سماء الدنيا لشطر الليل، أو ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟!، أو يسألني فأعطيه؟!، ثم يقول: من يقرض غير عديم ولا ظلومٍ؟!)).(1/101)
ومن طريق آخر: ((ثم يبسط يديه -تبارك وتعالى-، فيقول: من يقرض غير عدومٍ، ولا ظلومٍ؟!)).
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله -تبارك وتعالى- يمهل، حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول نزل إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفرٍ؟! هل من تائبٍ؟! هل من سائلٍ؟! هل من داعٍ؟! حتى ينفجر الفجر)).
والله-عز وجل- يحب من يسأله، ويغضب على من لا يسأله؛ فإنه يريد من عباده أن يرغبوا إليه، ويسألوه، ويدعوه، ويفتقروا إليه، ويحب الملحين في الدعاء، والمخلوق غالباً مكره أن يسأل؛ لفقره وعجزه.
قال ابن السماك: لا تسأل من يفر منك من أن تسأله، وسل من أمرك أن تسأله.
وقال أبو العتاهية.
لا تسألن أخاك يوماً حاجةً ... وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب(1/102)
فاجعل سؤالك للإله فإنما ... في فضل نعمة ربنا تتقلب
وكان يحيى بن معاذٍ يقول: يا من يغضب على من لا يسأله، لا تمنع من قد سألك.
وأنشد بعضهم:
أبا مالكٍ لا تسأل الناس والتمس ... بكفيك فضل الله فآلله أوسع
ولو يسأل الناس التراب لأوشكوا ... إذا قيل [لهم] هاتوا أن يملوا ويمنعوا
والله -عز وجل- يستدعي من عباده سؤاله، وينادي كل ليلةٍ: ((هل من سائلٍ فأعطيه سؤاله؟!، هل من داعٍ فأستجيب له؟!))، كما ثبت في ((الصحيحين)).
وقد قال الله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان}، فأي وقتٍ دعاه العبد وجده أمامه، قريباً مجيباً، ليس بينه وبينه حاجبٌ، ولا بوابٌ.(1/103)
وأما المخلوق؛ فإنه يمتنع بالحجاب والأبواب، ويعسر الوصول إليه في غالب الأوقات.
قال طاوس لعطاءٍ: إياك أن تطلب حوائجك إلى من يغلق دونك بابه، ويجعل دونها حجابه، وعليك بمن بابه مفتوحٌ إلى يوم القيامة، أمرك أن تسأله، ووعدك أن يجيبك.
وقال وهب بن منبهٍ لبعض العلماء: ألم أخبر أنك تأتي الملوك وأبناء الملوك، تحمل إليهم علمك؟، ويحك! تأتي من يغلق عليك بابه، ويظهر إليك فقره، ويوراي عنك غناه، وتدع من يفتح بابه منتصف الليل، ومنتصف النهار، ويظهر لك غناه، ويقول: ادعني أستجب لك.
ورأى ميمون بن مهران الناس مجتمعين على باب بعض الأمراء، فقال: من كانت له حاجةٌ إلى سلطانٍ يحجبه؛ فإن بيوت الرحمن مفتحةٌ، فليأت مسجداً، فليصل ركعتين، ثم ليسأل حاجته.
وكان بكرٌ المزني، يقول: من مثلك يا ابن آدم! متى شئت تطهرت ثم ناجيت ربك، ليس بينك وبينه حاجبٌ، ولا ترجمان.(1/104)
وسأل رجلٌ بعض الصالحين أن يشفع له في حاجةٍ إلى بعض المخلوقين، فقال: أنا لا أترك باباً مفتوحاً، وأذهب إلى بابٍ مغلقٍ.
وفي هذا المعنى قال بعضهم:
وأفنية الملوك محجباتٌ ... وباب الله مبذول الفناء
وقال آخر:
قل للذين تحصنوا عن سائلٍ ... بمنازلٍ من دونها حجاب
إن حال دون لقائكم بوابكم ... فالله ليس لبابه بواب
وقال الشيخ موفق الدين -رضي الله عنه-، فيما نقله عنه أبو شامة -عفا الله عنه-:
لا تجلسن بباب من ... يأبى عليك دخول داره
وتقول حاجاتي إليه ... يعوقها إن لم أداره
اتركه واقصد ربها ... تقضى ورب الدار كاره(1/105)
وللشيخ موفق الدين-أيضاً-، فيما وجدته في ترجمته:
لا تسأل الناس واسأل رازق الناس ... واليأس منهم غنىً فاستغن باليأس
واسترزق الله مما في خزائنه ... فإن ربك ذو فضلٍ على الناس
فليس للناس أن يعطوك خردلةً ... ولا يعيذوك من فقرٍ وإفلاس
ومن كلام بعض المتقدمين: يا رب! عجيبٌ لمن يعرفك كيف يرجو غيرك! عجيبٌ لمن يعرفك، كيف يستغني بغيرك.
وما أحسن قول القائل:
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ ... وبيني وبيم العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هينٌ ... وكل الذي فوق التراب تراب
فمن تحقق أن كل مخلوقٍ فوق التراب فهو ترابٌ، فكيف يقدم طاعة شيءٍ من التراب على طاعة رب الأرباب؟! أم كيف يرضي التراب، ويسخط الملك الوهاب؟! إن هذا لعجاب.(1/106)
وقد قال الله تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمةٍ فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده}.
وقال: {وإن يمسسك الله بضرٍ فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخيرٍ فلا راد لفضله}.
وقال: {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضرٍ هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمةٍ هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون}.
وقال تعالى حاكياً عن نبيه -عليه السلام-، أنه قال لقومه:{إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمةً ثم اقضوا إلي ولا تنظرون}.
وقال حاكياً عن نبيه هود: {قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريءٌ مما تشركون. من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون. إني توكلت على الله رب وربكم ما من دابةٍ إلا هو آخذٌ بناصيتها إن ربي على صراطٍ مستقيم}.
وقال بعضهم:
ما قدر الله لي لا بد يدركني ... من ذا الذي يدفع المقدور بالحذر
الله أولى بنا منا بأنفسنا ... إن نحن إلا مماليكٌ لمقتدر
وشكا رجل إلى الفضيل الفاقة، فقال له الفضيل: أمدبراً غير الله تريد؟!.(1/107)
وسأل رجلٌ ثابتاً البناني أن يشفع له إلى قاضٍ في قضاء حاجةٍ له، فقام ثابتٌ معه، فكان كلما مر بمسجد في طريقه، دخل فصلى فيه ودعا، فما وصل إلى مجلس القاضي إلا وقد قام منه، فعاتبه طالب الحاجة في ذلك، فقال: ما كنت إلا في حاجتك، فقضى الله حاجته، ولم يحتج إلى القاضي.
وكان إسحاق بن عبادٍ المصري نائماً، فرأى في منامه قائلاً يقول له: أغث المهلوف، فاستيقظ فسأل: هل في جيرانه محتاجٌ؟ قالوا: ما ندري، ثم نام، فأتاه ثانياً وثالثاً، فقال له: تنام ولم تغث الملهوف؟! فقام وأخذ معه ثلاث مئة درهمٍ، وركب بغله وخرج به من البصرة، حتى وقف به على باب مسجدٍ، فصلى فيه على الجنائز، فدخل المسجد، فإذا رجلٌ يصلي، فلما أحس به انصرف، فدنا منه، فقال له: يا عبد الله! في هذا الوقت؟! في هذا الموضع؟! ما حاجتك؟ فقال: أنا رجلٌ كان رأس مالي مئة درهمٍ، فذهبت من بين يدي، ولزمني دينٌ مئتا درهمٍ، فأخرج له الدراهم، وقال: هذه ثلاث مئةٍ خذها، فأخذها، ثم قال له: أتعرفني؟ قال: لا، قال إسحاق بن عبادٍ: فإن نابتك نائبةٌ فائتني؛ فإن منزلي في موضع كذا، فقال له: رحمك الله، إن نابتنا نائبةٌ فزعنا إلى من أخرجك في هذا الوقت، حتى جاء بك إلينا.
وعن شقيقٍ البلخي، قال: كنت في بيتي قاعداً، فقالت لي أهلي:(1/108)
ما ترى ما بهؤلاء الأطفال من الجوع؟، ولا يحل لك أن تحمل عليهم ما لا طاقة لهم به، قال: فتوضأت، وكان لي صديقٌ لا يزال يقسم على الله إن تكن لي حاجةٌ أن أعلمه بها، ولا أكتمها عنه، فخطر ذكره ببالي، فلما خرجت من المنزل مررت بالمسجد فذكرت ما روي عن أبي جعفر، قال: من عرضت له حاجةٌ إلى مخلوقٍ فليبدأ فيها بالله -عز وجل-، فدخلت المسجد وصليت ركعتين، فلما كنت في التشهد أفرغ علي النوم، فرأيت في منامي أنه قيل: يا شقيق! أتدل العباد على الله، ثم تنساه!، فاستيقظت وعلمت أن ذلك تنبيه نبهني به ربي فلم أخرج من المسجد حتى صليت العشاء الآخرة، ثم انصرفت إلى المنزل فوجدت الذي أردت أن أقصده قد حركه الله، وأجرى لأهلي على يديه ما أغناهم.
وعن إبراهيم بن أدهم: أنه خرج إلى الغزو مع أصحابه، وأنهم تناهدوا، فوضع كل واحدٍ منهم ديناراً، ففكر فيمن يقصد من إخوانه ويستقرض منه، ثم استفاق فبكى، وقال: واسوأتاه! أطلب من العبيد وأترك مولاهم؟!، فيقول لي: من كان أحق أن يطلب منه؛ أنا أو عبيدي؟! ثم توضأ وصلى وخر ساجداً، وقال: يا رب! قد علمت ما كان مني، وذلك بخطأي وجهلي؛ فإن عاقبتني عليه فأنا أهلٌ لذلك، وإن عفوت عني فأنت أهلٌ لذلك، وقد عرفت حاجتي، فاقضها برحمتك، ثم رفع رأسه، فإذا هو بنحو أربع مئة دينارٍ، فتناول منها ديناراً واحداً وذهب.(1/109)
وجاء رجلٌ إلى أحمد بن عائشة، فقال: سل لي فلاناً في كذا، فقال: قم معي فصل ركعتين، والله الله؛ فإني لا أترك باباً مفتوحاً، وأقصد باباً مغلقاً.
وروى الشيخ أبو الفرج في ((تاريخه الكبير)) بإسناده عن الحسن بن سفيان النسوي الحافظ، أنه كان مقيماً بمصر مع جماعةٍ من أصحابه يكتبون الحديث، فاحتاجوا فباعوا ما معهم، حتى لم يبق لهم ما يباع، وبقوا ثلاثة أيامٍ جياعاً لم يجدوا شيئاً يأكلون، وأصبحوا في اليوم الرابع، وقد عزموا على المسألة؛ لشدة الضرورة، فاقترعوا على من يسأل لهم، فخرجت القرعة على الحسن بن سفيان، قال: فتحيرت ودهشت، ولم تسامحني نفسي بالمسألة، فعدلت إلى زاوية المسجد أصلي ركعتين طويلتين، وأدعو الله -عز وجل- لكشف الضر، وسياقة الفرج، فلم أفرغ من الصلاة حتى دخل المسجد رجلٌ معه خادمٌ في يديه منديلٌ، فقال: من بينكم الحسن بن سفيان؟ فرفعت رأسي من السجود، وقلت: أنا، فقال: إن الأمير ابن طولون يقرئكم السلام والتحية، ويتعذر إليكم في الغفلة عن تفقد أحوالكم، والتقصير الواقع في رعاية حقوقكم، وقد بعث إليكم بما يكفي نفقة الوقت، وهو زائركم غداً، ومعتذرٌ إليكم بلفظه، ووضع بين يدي كل واحد منا صرةًُ فيها مئة دينارٍ، قال: فتعجبنا وسألناه عن السبب، فقال: إنه كان اليوم نائماً، فرأى فارساً في الهواء يقول له: قم فأدرك(1/110)
الحسن بن سفيان وأصحابه؛ فإنهم منذ ثلاثة أيامٍ جياعٌ في المسجد الفلاني، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا رضوان صاحب الجنة، قال الحسن: فشكرنا الله -عز وجل-، وأصلحنا أحوالنا، وسافرنا تلك الليلة من مصر خشية أن يزورنا الأمير فيطلع الناس على أسرارنا، فيكون ذلك سبب ارتفاع اسمٍ، أو انبساط جاهٍ، ويتصل ذلك بنوعٍ من الرياء والسمعة.
وروى -أيضاً- بإسناد له عن محمد بن هارون الروياني: أنه اجتمع هو ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن علوية الوراق، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، فذكر معنى هذه الحكاية، وأن المصلي الداعي كان هو ابن خزيمة.
وبإسنادٍ آخر، أن الأربعة كانوا: محمد بن جريرٍ، ومحمد بن نصرٍ، ومحمد بن خزيمة، ومحمد بن هارون.(1/111)
فصل [الاستعانة لا تنبغي إلا بالله]
والاستعانة -أيضاً- لا تنبغي أن يستعان إلا بالله، كما في الحديث: ((وإذا استعنت فاستعن بالله))، وفي هذا قوله تعالى: {وإياك نستعين}، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((احرص على ما ينفعك)، واستعن بالله))، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يقولوا: ((الحمد لله نستعينه ونستهديه)).
وفي دعاء القنوت: ((اللهم إنا نستعينك ونستهديك)).(1/113)
وقيل: إن موسى -عليه السلام- لما ضرب البحر فانفلق [قال]: ((اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المتسعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك)).
وفي قصة يعقوب: أنه قال: {فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون}.
وقال موسى عليه السلام لقومه: {استعينوا بالله وأصبروا }، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون}.
ولما بشر عثمان بالجنة على بلوى تصيبه، قال: ((الله المستعان)).
فالعبد محتاجٌ إلى الاستعانة بالله -عز وجل- في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين [لما] لقي العدو: ((يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين)).(1/114)
وقال ابن الزبير في وصيته لابنه عبد الله بقضاء دينه: إن عجزت فاستعن بمولاي.
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في أول خطبةٍ خطبها على المنبر: ألا إن الفرية حمل أنفٌ، قد أخذت بخطامه، ألا وإني حامله على المحجة، مستعينٌ بالله عليه.
ولما حضر خالدٌ بن الوليد، قال رجل ممن حوله: والله إنه ليسوءه -يعني: الموت-، فقال خالدٌ: أجل، فأستعين بالله.
وبكى عامرٌ بن عبد الله بن الزبير عند موته، وقال: إنما أبكي على حر النهار، وبرد القيام؛ -يعني: الصيام والقيام-، قال: وإني أستعين الله على مصرعي هذا بين يديه.(1/115)
وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز -رحمهما الله-: لا تستعن بغير الله، يبكتك الله.
وقال بعضهم:
فاستغن بالله واستعنه ... فإنه خير مستعانٍ(1/116)
فصل [فضيلة الداعين والذاكرين]
وأهل الدعاء والخير والذكر في الدنيا ألذ من أهل اللذة، قال مالك بن دينارٍ: رأيت بالبحرين قصراً مشيداً طرياً، وعلى بابه مكتوبٌ:
طلبت العيش أسعد ناعميه ... وعشت من المعايش في نعيم
فلم ألبث ورب الناس طوراً ... سلبت من الأقارب والحميم
فقلت: ما هذا القصر؟ فقالوا: هذا أنعم أهل البحرين، مات فأوصى أن يدفن في قصره، وأن يكتب على بابه هذا الكلام. قال مالكٌ: فعجبت من معرفته، فهلا يستقبله الموت بتوبة، ثم بكى مالكٌ؛ إذ غمس أنعم الناس كان في الدنيا في العذاب غمسةً، قيل له: هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: [لا] يا رب!
ففي الحقيقة النعيم الذي لا ينفد هو طاعة الله وذكره ومحبته، والأنس به، والشوق إلى لقائه؛ فإن هذا نعيمٌ لأهله في الدنيا.(1/117)
قال مالك بن دينارٍ: في بعض الكتب يقول الله تعالى: أيها الصادقون! تنعموا بذكري؛ فإن لكم في الدنيا نعيماً، وفي الآخرة جزاءً.
وقال: ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله -عز وجل-.
وقال إبراهيم بن أدهم: لو يعلم الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وإنه ليمر على القلب أوقاتٌ يضحك فيها ضحكاً.
وكان بعض العارفين يقول: إنه لتمر بي أوقاتٌ أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه، إنهم لفي عيشٍ طيبٍ.
وقال بعضهم: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؛ -يعني: محبة الله وذكره ومعرفته-.(1/118)
وقيل:
أهل المحبة قومٌ شأنهم عجبٌ ... يقودهم حزنٌ يهتزهم طرب
العيش عيشهم والملك ملكهم ... ما الناس إلا هم بانوا أو اقتربوا
قال ابن رجب: فهذا نعيمٌ في الدنيا، فإذا انقلبوا إلى البرزخ فهم في نعيمٍ أزيد من ذلك، كما قال بعض السلف: أنعم الناس أجساداً في التراب، [قد] أمنت العذاب، وانتظرت الثواب.
قال ابن القيم في كتاب ((الوابل الصيب)): وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: إن في الدنيا جنةً، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
وقال مرة: ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوةٌ، وقتلي شهادةٌ، وإخراجي من بلدي سياحةٌ.
وكان في حبسه -في القلعة-، يقول: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً، ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، ونحن هذا.(1/119)
وقال مرةٌ: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.
وقال ابن القيم عنه: إنه صلى الفجر يوماً وقعد يذكر إلى قريب الظهر لا يتكلم، ثم قام، وقال: هذه غدوتي، ولولاها لسقطت قوتي، أو كما قال.(1/120)
فصل [محبته سبحانه وتعالى للدعاء]
والله-عز وجل- يحب الدعاء، كما تقدم، وكما روي عن صالح بن مسمارٍ، قال: بلغنا أن الله -عز وجل- أرسل إلى سليمان -عليه السلام- بعد موت أبيه -داود -عليه السلام- ملكاً من الملائكة -عليهم السلام-، فقال الملك -عليه السلام-: إن ربي -عز وجل- أرسلني إليك لتسأله حاجةً، فقال سليمان -عليه السلام-: فإني أسأل ربي -عز وجل- أن يجعل قلبي يحبه، كما كان قلب أبي داود يحبه، وأسأل الله -عز وجل- أن يجعل قلبي يخشاه، كما كان قلب أبي داود يخشاه، فقال الرب -عز وجل-: أرسلت إلى عبدي ليسألني حاجةً، فجعل حاجته إلي أن أجعل قلبه يحبني، وأجعل قلبه يخشاني، وعزتي لأكرمنه، فوهب له ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، ثم قال: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حسابٍ. وإن له عندنا لزلفى وحسن مئابٍ}.(1/121)
فصل ومن أعظم ما ينفع الميت الدعاء
قال شبيب بن شيبة: أوصتني والدتي عند موتها، فقالت: يا بني! إذا أنت دفنتني فقم علي، وقل: يا أم شيبة!، قولي: لا إله إلا الله، فقلت ذلك، ثم انصرفت إلى منزلي، فلما كان الليل رأيتها في المنام، فقالت: يا ولدي! جزاك الله خيراً، فلولا أنك أدركتني بقول: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله، لهلكت.
وقال الفضل بن الموفق: لما مات أبي جزعت عليه جزعاً شديداً، وكنت آتي قبره كل يومٍ، ثم إني قصرت عن ذلك ما شاء الله، ثم إني أتيته يوماً، فبينا أنا جالسٌ عند القبر غلبتني عيناي، فنمت، فرأيت كأن قبر أبي قد انفرج، وكأنه قاعدٌ في قبره متوشحاً أكفانه، عليه سحنة الموتى، قال: فكأني بكيت، فلما رأيته، قال: يا بني! ما بطأك عني؟ قلت: وإنك لتعلم بمجيئي! قال: ما جئت مرةً إلا علمتها، وقد كنت تأتيني فأسر بك، ويسر من حولي بدعائك، قال: فكنت آتيه بعد ذلك كثيراً.(1/123)
وعن عثمان بن سودة الطفاوي، قال: -وكانت أمه من العابدات، وكان يقال لها: راهبةٌ-، قال: لما حضرت رفعت رأسها إلى السماء، وقالت: يا ذخري وذخيرتي! ومن عليه اعتمادي في حياتي وبعد موتي، لا تخذلني عند الموت، ولا توحشني في قبري.
قال: فلما ماتت، فكنت آتيها في كل جمعةٍ، فأدعو لها، وأستغفر لها، ولأهل القبور، فرأيتها ذات يومٍ في منامي، فقلت: يا أمه! كيف أنت؟ قالت: أي بني! إن الموت لكربةٌ شديدةٌ، وإني بحمد الله لفي برزخٍ محمودٍ، يفرش فيه الريحان، ونتوسد فيه السندس والإستبرق إلى النشور. فقلت لها: ألك حاجةٌ؟ قالت: نعم، قلت: ما هي؟ قالت: لا تدع ما كنت تصنع من زيارتنا، والدعاء لنا؛ فإني لأسر بمجيئك يوم الجمعة، إذا أقبلت من أهلك يقال لي: يا راهبة! هذا ابنك قد أقبل، فأسر ويسر بذلك من حولي من الأموات.
وعن أبي قلابة، قال: أقبلت من الشام إلى البصرة، فنزلت منزلاً، فتطهرت، وصليت ركعتين بليلٍ، ثم وضعت رأسي على قبرٍ فنمت، ثم انتبهت، فإذا صاحب القبر يشتكي، يقول: قد آذيتني منذ الليلة، ثم قال: إنكم قوم تعملون ولا تعلمون، ونحن قوم نعلم ولا نقدر على العمل، ثم قال: إن الركعتين اللتين ركعتهما خيرٌ من الدنيا وما فيها، ثم قال: جزى الله أهل الدنيا خيراً، أقرئهم منا السلام؛ فإنه يدخل علينا من دعائهم نورٌ أمثال الجبال.(1/124)
وعن بشر بن منصور، قال: لما كان زمن الطاعون، كان رجلٌ يتخلف إلى الجبان، فيشهد الصلاة على الجنائز، فإذا أمسى وقف على باب المقابر، فقال: آنس الله وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز عن مسيئكم، وقبل حسناتكم، لا يزيد على هؤلاء الكلمات، قال: فلما كان ذات ليلةٍ، انصرفت إلى أهلي ولم آت المقابر فأدعو، كما كنت أدعو، قال: فبينا أنا نائمٌ إذا بخلقٍ كثيرٍ قد جاؤوني، قلت: من أنتم؟ وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر. قلت: ما حاجتكم؟ قالوا: إنك عودتنا منك هديةً عند انصرافك إلى أهلك، قلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعو بها، قلت: فإني أعود لذلك، فما تركتها بعد، وهذا الباب فيه شيءٌ كثيرٌ.(1/125)
فصل فليحضر الداعي والذاكر من يشهد له بالدعاء، ولو جماداً
قال بعض الصالحين: كان رجلٌ يصلي في الصحراء، فجعل في محرابه سبعة أحجارٍ، وكان يقول إذا فرغ من صلاته: يا أحجار! أشهدكم أني أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فلما مات رأيته في المنام، فسألته عن حاله، فقال: أمر بي إلى النار، فإذا حجرٌ من تلك الأحجار قد جاء وعظم حتى سد الباب الذي أمر بي إليه، فذهب بي إلى الباب الثاني، فإذا الباب قد سده حجرٌ آخر، فلم أزل من بابٍ إلى بابٍ حتى سدت السبع أبوابٍ.(1/127)
فصل ولا يحدث الداعي نفسه إلا بخيرٍ، ولا يقل إلا خيراً
روي أن بعض الصالحين قام ليلةً يتهجد، فسبقته مدامعه، فقال: يا رب! ما ترحم بكاءً! فنودي: إن شئت فابك، وإن شئت فلا تبك، لو بكيت الدماء ما صلحت لنا.
وفي الحديث الصحيح: ((يقول الله -عز وجل-: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني)).
وفي الترمذي، وغيره: ((إذا دعاني؛ فإن تقرب إلي شبراً، تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً، تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولةً)).
اللهم إنا لا نرجو رحمتك بأعمالنا، ولكن نرجوها بكرمك الزائد يا أرحم الراحمين.(1/129)
فصل في بعض أخبار من ألهم دعاءً
منه: قصة آدم -عليه السلام- لما تاب الله عليه، فقال له: قل: ((لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم وبحمدك، ظلمت نفسي، وعملت السوء، فتب علي، إنك أنت التواب الرحيم))، فقالها آدم، ثم قال له ربه، قل: ((لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم وبحمدك، ظلمت نفسي، وعملت السوء، فارحمني، إنك أنت أرحم الراحمين)).
وفي رواية أخرى: قل: ((لا إله أنت، سبحانك اللهم وبحمدك، ظلمت نفسي، وعملت السوء، فاغفر لي، إنك أنت الغفور الرحيم)).
هذا الدعاء الذي ألهمه آدم حين هبط من الجنة.
ومنه: قصة يوسف -عليه السلام-: أن جبريل علمه هذا الدعاء -لما أراد أن يذهب عنه، وذكر أنه يستوحش-: ((يا صريخ المستصرخين، ويا غياث المستغيثين، ويا مفرج كرب المكروبين، قد ترى مكاني، وتعلم(1/131)
حالي، ولا يخفى عليك شيءٌ من أمري))، قال: فلما قالها، حفت به الملائكة، فاستأنس.
ومنه قصة الشيخ أبي عمر -رحمه الله- قال: أتيت ليلة -وأنا فيما بين النائم واليقظان-، فألهمت دعاءً، ثم انتبهت سحراً، فدعوت بسراجٍ ودواةٍ وقرطاسٍ، فأثبته كيلا أنساه، وهو هذا: اللهم أمتني طاهراً من الأقذار والأنجاس، مخلصاً، من الذنوب والمظالم، سليماً من الذنوب والمعاصي، بريئاً من الشك والشرك والنفاق، حسن الظن بك، راجياً(1/132)
رحمتك، خائفاً من ذنوبي وسيئاتي، ناطقاً بشهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، أنطق بها عند الموت لساني، واجعلها آخر كلامي، وثبتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، مشروح الصدر بالإسلام، منور القلب بالقرآن، مبشراً بروحٍ وريحان، وربٍ غير غضبان، راضياً بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً ونبيا، مؤمناً بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والبعث، والنشور، وأن الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، مستشهداً في سبيلك، مراق الدم فيك، وفي رسولك، محباً للقائك، مبيض الوجه ببشرى رسلك، آمناً من الفزع الأكبر، غير خائفٍ ولا حزينٍ، ولا قائلاً: {رب ارجعون}، مناولاً كتابي باليمين، مرفوع الكتاب في عليين، ثقيل الميزان بالحسنات، مغفورةً لي جميع السيئات، رطب اللسان بذكرك، ناطقاً بحمدك، وشكرك، خفيف الظهر من المظالم والتبعات، نقي الكف من الغصوب والظلامات، خالي البطن من الحرام والشبهات، مبشراً ببشارة الصابرين؛ من الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، يقولون: {سلامٌ عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون}، من الذين {تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون}، مرفوع الدرجة، مكتوباً عندك في المحسنين، مغفوراً لي خيطئاتي يوم الدين، مخلوفاً في عقبي في الغابرين، محشوراً مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، برحمتك يا أرحم الراحمين، واللهم أيضاً: اللهم من بابك لا تطردني، وإلى غيرك لا تحوجني، وبغيرك لا تشغلني، وعن رحمتك لا تقطعني، ومن روحك لا تؤيسني، ومكرك لا تؤمني، وذكرك لا تنسني، والإيمان(1/133)
بك لا تسلبني، وعن وجهك الكريم فلا تحجبني، ومع الظالمين فلا تجعلني، وبسيئاتي فلا تفضحني، وبنارك فلا تحرقني، اللهم من دخول جنتك فلا تمنعني، ومن رزقك الواسع لا تحرمني.
وقيل: إن الحافظ إبراهيم كان يفتح له من الأدعية ما لم يفتح لغيره.
ومنه ما حكي عن الحسن البصري، قال: رأيت رجلاً كأنه قد نبش من قبرٍ، فقلت: مالك يا هذا؟! قال: اكتم علي أمري، حبسني الحجاج من ثلاث سنين في أضيق حالٍ، وأسوأ عيشٍ، وأنا مع ذلك كله صابرٌ لا أتكلم، فلما كان بالأمس أخرج جماعةً كانوا معي فضرب رقابهم، وتحدث أعوان السجن أن غداً يضرب عنقي، فأخذني حزنٌ شديدٌ، وبكاءٌ مفرطٌ، وأجرى الله على لساني قوله: إلهي اشتد الضر، ونفد الصبر، وأنت المستعان.
ثم ذهب من الليل أكثره، فأخذتني غشيةٌ وأنا بين اليقظان والنائم، ثم(1/134)
أتاني آتٍ فقال: قم وصل ركعتين، وقل مثلما أقول: يا من لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ، يا من أحاط علمه بما ذرأ وبرأ، أنت عالمٌ بخفيات غيوب الأمور، ومحصي وساوس الصدور، وأنت بالمتكبر الأعلى، وعلمك محيطٌ بالمنزل الأدنى، تعاليت علواً كبيراً، يا مغيث أغثني، وفك أسري، واكشف ضري، فقد نفد الصبر.
فقمت فتوضأت في الحال، وصليت ركعتين، وتلوت ما سمعته لم يختل علي منه كلمةٌ واحدةٌ، فلم أتم القول حتى سقط القيد من رجلي، ونظرت أبواب السجن فرأيتها قد فتحت، فقمت وخرجت ولم يعارضني أحدٌ، فأنا والله طليق الرحمن.(1/135)
فصل [ما ورد من الدعاء في القرون الماضية]
ولنذكر نبذةً مما ورد من الدعاء في القرون الماضية:
منه قصة داود -عليه السلام- لما ابتلي بالمصيبة، وخر ساجداً أربعين يوماً لا يأكل ولا يشرب، وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه -عز وجل- ويسأله، وكان يقول في سجوده: سبحان خالق النور، الحائل بين القلوب، سبحان خالق النور، إلهي خليت بيني وبين عدوي إبليس، فلم أقم لفتنته؛ إذ نزلت بي، سبحان خالق النور، إلهي لم أفارق الزبور، ولم أتعظ بما وعظت به غيري، إلهي أمرتني أن أكون لليتيم؛ كالأب الرحيم، وللأرملة؛ كالروح الرحيم، فنسيت عهدك، سبحان خالق النور، إلهي بأي عينٍ أنظر إليك يوم القيامة، وإنما ينظر الظالمون من طرفٍ خفيٍ، سبحان خالق النور، إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصاب، سبحان خالق النور، إلهي الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء، فيقال: هذا داود الخاطئ، سبحان خالق النور، إلهي أنت المغيث وأنا المستغيث، فمن يدعو المستغيث إلا المغيث، سبحان خالق النور، إلهي إليك فررت بذنوبي، واعترفت بخطيئاتي، فلا تجعلني(1/137)
من القانطين، ولا تخزني يوم الدين.
قال: فأتاه آت: أجائعٌ أنت فتطعم؟ أظمآن أنت فتسقى؟ أمظلومٌ أنت فتنصر؟ ولم يجبه في ذكر خطيئاته. قال: فصاح صيحةً هاج ما حوله، ثم نادى: يا رب! الذنب الذي أصبت، فنودي: يا داود! ارفع رأسك؛ فقد غفرت لك.
وعن وهبٍ: أن داود أتى قبر أوريا فقام عنده، وجعل التراب على رأسه، ثم نادى، فقال: الويل لداود، ثم الويل الطويل لداود، سبحان خالق النور، الويل لداود، ثم الويل لداود، إذا نصبت الموازين، سبحان خالق النور، الويل لداود، ثم الويل الطويل لداود، حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار، سبحان خالق النور، الويل لداود، ثم الويل الطويل لداود. قال: فأتاه نداءٌ من السماء: يا داود! قد غفرت لك ذنبك، ورحمت بكاءك، وأقلت عثرتك.
ومن ذلك قصة يونس، وقول الله تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}.
قال الله -عز وجل-: {فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين}.
يقول الله -عز وجل-: كذلك نفعل بالصالحين إذا وقعوا في(1/138)
الخطيئة، ثم تابوا إلي قبلت منهم.
قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعا أخي يونس بهذه الدعوة في الظلمات فنجاه الله تعالى، فلا يدعو بها مؤمنٌ مكروبٌ، إلا كشف الله -عز وجل- ذلك عنه، إنها عدةٌ من الله لا خلف لها)).
أخبرني الشيخ الفاضل المحدث شهاب الدين ابن هلالٍ الأزدي بقراءتي عليه بشهر ربيع الآخر، سنة سبعٍ وخمسين وثمان مئةٍ، قال: أخبرني الشيخ شمس الدين ابن المحب سماعاً سماعه من النابلسي، عن الواسطي، قال: أخبرني الشيخ موفق الدين ابن قدامة -رحمه الله-، قال: أخبرنا أبو العباس ابن المبارك، قال: أخبرنا أبو المعالي بن بندار، قال: أنبأ أبو علي النعال، قال: ثنا مخلد بن جعفر الباقرجي، أنبأ الحسن، أنبأ إسماعيل بن عيسى بن إسحاق بن بشر، أنبأ علي بن عصامٍ، عن داود بن أبي هندٍ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ.
ح: وأخبرني إجازةً الشيخ المتقن شهاب الدين ابن زينٍ الحنبلي، قال: أخبرني إجازةً ابن المحب، فذكره إلى ابن عباسٍ، قال: كان في بني إسرائيل عابدٌ قد أعجبوا به، فذكروه يوماً عند نبيهم، فأثنوا عليه، فقال: إنه لكما تقولون، لكنه تاركٌ لشيءٍ من السنة -يعني: بلغ العابد-، فقال: على ماذا أذيب نفسي؟، فهبط من مكانه، فأتى النبي وعنده الناس،(1/139)
والنبي لا يعرفه بوجهه، فسلم ثم قال: يا نبي الله! بلغني أني ذكرت عندك، فقلت: إنه كذلك لولا أنه تاركٌ لشيءٍ من السنة، أذيب نفسي بالليل والنهار، واعتزالي من الناس، وإنما طلبت سنة الله -عز وجل-. قال: أنت فلانٌ؟ قال: نعم، فقال: أما والله ما هو شيءٌ أحدثته في الإسلام، ولكنك لم تتزوج، قال له العابد: وليس إلا هذا؟! قال: نعم، فلما رأى النبي استهانته، قال: إنه لو فعل الناس مثل الذي فعلت، من كان ينفي العدو عن المسلمين! من كان يأخذ للمظلوم من الظالم! قال: وذكر الصلاة للعابد، فقال له العابد: صدقت يا نبي الله! ما أحرمه، ولكن أكره أن أتزوج امرأةً مسلمةً وأنا فقيرٌ، فأعضلها وليس عندي ما أنفق عليها، وأما الأغنياء فلا يزوجوني، فقال له النبي: وما بك إلا هذا! قال: ما بي إلا هذا. قال: أنا أزوجك ابنتي، قال: قد فعلت، قال: فزوجه. قال: فولدت له غلاماً.
قال ابن عباس: فوالله ما ولد في بني إسرائيل مولودٌ ذكرٌ قط كانوا أشد فرحاً به من ذلك الغلام، قال: قالوا: ابن نبينا وابن عابدنا، إنا لنرجو أن يبلغ بنا ما بلغ رجلٌ، قال: فلما بلغ الغلام انقطع إلى عبادة الأوثان، وانقطعوا إليه، وكثروا عنده، قال: فبينا هم عنده يوماً؛ إذ قال: إني أراكم كثيراً، فما بال هؤلاء القوم قاهرين لكم؟! قالوا: إن لهم رأساً يجمعهم، وليس لنا رأسٌ، قال: فما يمنعكم إلا هذا؟ قالوا: نعم، قال: فأنا رأسكم، قالوا: وتفعل؟! قال: نعم، قال: فخرج وخرجوا معه، قال: فبلغ ذلك النبي وبلغ أباه، فاجتمع بنو إسرائيل إلى النبي وأبيه، فأرسل إليه يذكره بالله، وأن يرجع إلى الإسلام، فأبى، فخرج إليه النبي، وخرج أبوه(1/140)
معه، فالتقى القوم فاقتتلوا، حتى كثرت الدماء فيهم، وقتل النبي، وقتل أبوه، وانهزم بنو إسرائيل، واتبعهم يفنيهم، ويبعث في آثارهم يقتلهم، قال: فلحق أحبارهم بالجبال، واستقام له الناس، قال: فجعلت نفسه لا تدعه-يعني: وظن أن ذلك الملك لا يستقيم معه حتى يفني بني إسرائيل-، قال: فجعل يبعث في طلبهم في الجبال يقتلهم، فاستقام له الناس، واشتد ملكه، فلما رأى أحبار بني إسرائيل ما يفعل بهم، قالوا: خلينا عن هذا الرجل وعن ملكه، وليس يدعنا، لقد بؤنا بغضبٍ من الله، فررنا عن نبينا وعابدنا حتى قتلا، وليس يدعنا! فتعالوا حتى نتوب إلى الله -عز وجل-، ونلقى هذا الرجل، ونقاتل ونحن تائبون، قال: فولوا رجلاً منهم أمرهم، وبايعوا له، وهبطوا، وقد وطنوا أنفسهم إلى الموت، وتابوا إلى الله -عز وجل-، قال: فخرج إليهم فاقتتلوا أول يومٍ من أول النهار حتى حال بينهم الليل، ثم عادوا فاقتتلوا حتى كثرت الدماء في الفريقين حتى حال بينهم الليل.
قال ابن عباس: فغدوا في اليوم الثالث، وقد صبروا أنفسهم لله تعالى، وقد اقتتلوا قتالاً شديداً، وقال لهم صاحبهم: إني لأرجو أن يكون الله تاب عليكم وقبل توبتنا؛ فإني أرى الصبر قد نزل علينا وصارت الريح لنا؛ فإن ظفرتم به؛ فإن استطعتم أن تأخذوه سالماً ولا تقتلوه، قال: فاقتتلوا إلى قريبٍ من الليل، لا هؤلاء يفرون، ولا هؤلاء يفرون، فلما كان في آخر النهار، وعرف الله منهم الصدق، أنزل عليهم الصبر، فهزموهم بإذن الله تعالى، وقتلوهم وأخذوه سالماً، فأتوا به، قال: فاجتمع بنو إسرائيل إلى صاحبهم، فقال: ما جزاء رجلٍ من أنفسنا، قتل(1/141)
نبينا، وقتل والده، وأدخل علينا عبدة الأوثان، حتى قتلونا وشردونا في البلاد؟ فقائلٌ يقول: احرقوه، وقائل يقول: قطعوه، وقائلٌ يقول: عذبوه، وكلما قالوا له شيئاً من هذا، قال: هذا يأتي على نفسه، قالوا: فأنت أعلم، قال: إني أرى أن تأخذوه فنصلبه حياً، ولا نطعمه، ولا نسقيه، ولا نقتله، وندعه حتى يموت، قالوا له: افعل، فصلب حياً، وجعلوا عليه الحرس، قال: فمكث يومه، ومن الغداة واليوم الثالث حتى أمسى، فلما أمسى رأى الموت، فدعا آلهته التي كان يعبد من دون الله -عز وجل-، قال: فبدأ بأفضلهم في نفسه، فيدعوه، فإذا لم يجبه جاوزه ودعا الآخر، فأتى على آلهته جميعاً يدعوهم، فلا يجيبونه، وذلك في جوف الليل، فقال: اللهم إلهي وإله جدي وأبي! إني قد ظلمت نفسي، ودعوت هذه الآلهة التي كنت أعبدها من دونك، فلو كان عندها خيرٌ لأجابتني، فاغفر لي، وخلصني مما أنا فيه، فتحللت عنه القيود، فإذا هو في أسفل الجذع.
وفي حديث آخر: فجعل يدعو صنماً لا يجيبه أحدٌ، قال: فنظر إلى السماء، وقال: يا حنان، يا منان، أشهد أن كل معبودٍ من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطلٌ، إلا وجهك الكريم أنت، فأغثني، قال: فبعث الله ملكاً، فحله من خشبته، فأنزله.
قال ابن عباس: فأخذه الحرس فأتوا به صاحبتهم، واجتمع، فقال: ما تأمرون في هذا؟ فقالوا: ما نرى فيه! الله -عز وجل- حله، وتقول لنا: ما تأمرون فيه؟! قال: صدقتم، ولكن أحببت أن أستأمركم، قال: فخلوا عنه.(1/142)
قال سعيد بن جبيرٍ: سمعت ابن عباسٍ يقول: والله ما كان في بني إسرائيل بعده رجلٌ خيرٌ منه، ولا أفضل.
وأخبرني -أيضاً- بقراءتي عليه بالسند إلى الشيخ موفق الدين قال: أخبرني الإمام أبو الحسن علي بن عساكر [بن] المرحب البطائحي المقرئ، ثنا أبو طالب اليوسفي، أنبأ ابن المذهب، أنبأ أبو بكر القطيعي، ثنا عبد الله بن أحمد، ثنا هدبة، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، وحميدٍ، عن بكر بن عبد الله المزني، قال: كان فيمن كان قبلكم ملكٌ، وكان متمرداً على ربه، فغزاه المسلمون؛ فأخذوه سليماً، قالو: بأي قتلةٍ نقتله، فاجتمع رأيهم على أن يجعلوا له قمقماً عظيماً، ويحشوا تحته النار، ولا يقتلوه حتى يذيقوه طعم العذاب، ففعلوا ذلك به، قال: فجعل يدعو آلهته واحداً واحداً، يافلان، بما كنت أعبدك به وأصلي لك، وأمسح وجهك، فأنقذني مما أنا فيه، فلما رآهم لا يغنون عنه شيئاً، رفع رأسه إلى السماء، وقال: لا إله إلا الله، ودعا مخلصاً من قلبه، فصب الله عليه غيثاً من السماء فأطفأ تلك النار، وجاءت ريح وحملت ذلك القمقم، فجعلت تدور بين السماء والأرض، وهو يقول: لا إله إلا الله، فقذفه الله إلى قومٍ لا يعبدون الله -عز وجل-، وهو يقول: لا إله إلا الله، فقالوا: ويحك! مالك؟ فقال: أنا ملك بني فلانٍ، كان من أمري، وكان من أمري، فقص عليهم القصة؛ فآمنوا.(1/143)
وأيضاً: من أعظم ما في هذا الباب، قصة قوم يونس، لما نزل عليهم العذاب خرجوا إلى تل الرماد، واستجاروا إلى الله -عز وجل-، ورفعوا أصواتهم بالبكاء والدعاء، فعلم الله منهم الصدق، فقالت الملائكة: يا ربنا! رحمتك وسعت كل شيءٍ، فهؤلاء الأكابر من ولد آدم تعذبهم، فما بال الأصاغر والبهائم؟! فقال الله -عز وجل-: يا جبريل! ارفع عنهم العذاب، فقد قبلت توبتهم.
يقول الله -عز وجل-: {فلولا كانت قريةٌ آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حينٍ}.
وأخبرني-أيضاً- بسنده إلى الشيخ موفق الدين -رحمه الله- قال: أخبرنا عبد الرحمن بن جامعٍ الفقيه، أنبأ أحمد بن أحمد المتوكل، أنبأ أبو بكر الطيب، أنبأ محمدٌ بن موسى بن الفضل، أنبأ محمدٌ بن عبد الله الصفار، أنبأ ابن أبي الدنيا، أنبأ سعيدٌ بن سنانٍ الحمصي، قال: أوحي إلى نبيٍ من الأنبياء أن العذاب حائقٌ بقومك.
قال: فذكر ذلك النبي لقومه، وأمرهم أن يخرجوا أفاضلهم فيتوبوا، قال: فخرجوا، فأمرهم أن يخرجوا ثلاثةً من أفاضلهم وفداً إلى الله، قال: فخرجت الثلاثة أمام القوم.
قال: فقال أحد الثلاثة: اللهم إنك أمرتنا بالتوراة التي أنزلت على عبدك موسى، ألا نرد السؤال إذا قاموا بأبوابنا، وإنا سؤالٌ من سؤالك، ببابٍ من أبوابك، فلا ترد سؤالك.(1/144)
ثم قال الثاني: اللهم إنك أمرتنا في التوراة التي أنزلت على عبدك موسى أن نعفو عمن ظلمنا، وإنا ظلمنا أنفسنا؛ فاعف عنا.
وقال الثالث: اللهم إنك أمرتنا في التوراة التي أنزلت على عبدك موسى أن نعتق أرقاءنا، وإنا عبيدك وأرقاؤك، فأوجب لنا عتقاً.
فأوحى الله إلى النبي أنه قد قبل منهم، وعفا عنهم.
وحكي أنه لحق قحطٌ لبني إسرائيل على عهد موسى، فاجتمع الناس إليه، فقالوا: يا كليم الله! ادع لنا ربك أن يسقينا الغيث، فقام معهم، وخرجوا إلى الصحراء، وهم سبعون ألفاً أو يزيدون، فقال موسى -عليه السلام-: اللهم اسقنا غيثك، وانشر علينا رحمتك، وارحمنا بالأطفال الرضع، والبهائم الرتع، والمشايخ الركع، فما زادت الشمس إلا تقشعاً وحرارةً.
فقال موسى: إلهي! إن كان خلق جاهي عندك، فبجاه النبي الأمي محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي تبعثه في آخر الزمان، فأوحى الله إليه: ما خلق جاهك عندي، وإنك عندي وجيهٌ، ولكن فيكم عبدٌ يبارزني منذ أربعين سنةً بالمعاصي، فناد في الناس حتى يخرج من بين أظهرهم، فبه منعتكم.
فقال موسى: إلهي وسيدي! أنا عبدٌ ضعيفٌ، وصوتي ضعيفٌ، فأين يبلغ وهم سبعون ألفاً أو يزيدون؟ فأوحى الله إليه: منك النداء، ومني البلاغ، فقام منادياً، وقال: يا أيها العبد العاصي، الذي بارز الله أربعين سنةً، اخرج من بين أظهرنا، فبك منعنا القطر، فقام العاصي، فنظر(1/145)
ذات اليمين وذات الشمال، فلم ير أحداً خرج، فعلم أنه المطلوب، فقال في نفسه: إن أنا خرجت من بين هؤلاء الخلق انفضحت على رؤوس بني إسرائيل، وإن قعدت معهم منعوا لأجلي، فأدخل رأسه في ثيابه، نادماً على فعاله، وقال: إلهي وسيدي! عصيتك أربعين سنةً، وأمهلتني، وقد أتيتك طائعاً، فاقبلني، فلم يستتم الكلام حتى ارتفعت سحابةٌ بيضاء، فأمطرت؛ كأفواه القرب، فقال موسى: إلهي وسيدي! معصيتك؟! لماذا سقيتنا وما خرج من أظهرنا؟! فقال: يا موسى! سقيتكم بالذي منعتكم، فقال موسى: إلهي! أرني هذا العبد الطائع، فقال: يا موسى! إني لم أفضحه وهو يعصيني، أفضحه وهو يطيعني؟!، يا موسى! إني أبغض النمامين، فأكون نماماً؟!
وقيل: إن عيسى -عليه السلام- استسقى يوماً لقومه، فأمر من كان من أهل المعاصي أن يعتزلوا، فاعتزلوا إلا رجلاً أصيب بعينه اليمنى، فقال له عيسى -عليه السلام-: ما لك لا تعتزل؟ فقال: وروح الله ما عصيته طرفة عينٍ، ولقد نظرت عيني اليمنى إلى قدم امرأةٍ من غير قصدٍ، فقلعتها، ولو نظرت الأخرى لقلعتها، فبكى عيسى -عليه السلام- وقال: ادع لنا، فقال: أنت أحق بالدعاء مني، فرفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم إنك خلقتني، وقد علمت ما تعلم من قبل خلقنا، فلم يمنعك ذلك ألا تخلقنا، فكما خلقتنا وتكفلت بأرزاقنا، فأرسل السماء علينا مدراراً، فأنزل الله عليهم الغيث حتى رووا.(1/146)
وفي دعاء داود -عليه السلام-: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي، ومن الماء البارد.
وكان من دعائه -أيضاً-: اللهم اجعلني من أحبابك، فإنك إذا أحببت عبداً غفرت ذنبه وإن كان عظيماً، وقبلت عمله وإن كان يسيراً.
وقال أحمد بن أبي الحواري، ثنا جعفر بن محمدٍ، عن أبيه، قال: كان من دعاء مريم أم عيسى -عليه السلام-: اللهم املأ قلبي بك فرحاً، وغش وجهي منك الحياء.
ومنه قول يوسف -عليه السلام-: {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين}.
قال ابن رجبٍ في ((شرح حديث لبيك)): قيل: إنه دعا لنفسه بالموت، وقيل: إنما دعا لنفسه بالموت على الإسلام عند نزول الموت، وليس فيه دعاءٌ بتعجيل الموت.
وقيل: أوحى الله إلى موسى -عليه السلام-: إن العبد ليعصيني حتى تقول الملائكة: إني لا أغفر له أبداً؛ فإن دعاني قلت له: لبيك عبدي،(1/147)
وإن العبد ليعرض عني حتى كأنه لن يعرفني، يا موسى! وعزتي وجلالي لأمهلن من عصاني حتى يلتذ بنعمائي؛ فإن استحيا مني استحييت منه، وإن أعرض عني نظرت إليه، وإن تاب إلي تبت عليه.
وفي هذا كفاية.(1/148)
فصل في إجابة الدعاء وعدمها
الدعاء يفعل الله لصاحبه ما يختاره، فتارةً الله -عز وجل- يغفر به ذنوب صاحبه، وتارةً يؤخره له إلى الآخرة، وتارةً يؤخره له لمصلحةٍ، وتارةً يعطيه خيراً منه، وتارةً يدخله به الجنة، وتارةً ينجيه به من النار، وتارةً يكون الله -عز وجل- يحب أن يسمع كلام الداعي فيؤخره؛ كحب سماع دعائه، وتارةً يعجله له في الدنيا، وتارةً يعجله له في وقته، وسيأتي الكلام على هذا كله مفصلاً.
قال ابن رجبٍ في ((شرح النواوية)): ومن رحمة الله بعبده أن العبد يدعوه لحاجةٍ من الدنيا، فيصرفها عنه، ويعوضه خيراً منها؛ إما أن يصرف عنه بذلك سوءاً، أو يدخرها في الآخرة، أو يغفر له ذنباً، كما في ((المسند))، و((الترمذي)) من حديث جابر -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما من أحدٍ يدعو بدعاءٍ، إلا آتاه الله ما سأل، أو كف عنه من السوء مثله، ما لم يدع بإثمٍ، أو قطيعة رحمٍ)).(1/149)
وفي ((صحيح الحاكم))، عن أبي سعيد -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما من مسلمٍ يدعو بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ، أو قطيعة رحمٍ، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يؤخرها له في الآخرة، وإما أن يكشف عنه من السوء مثلها))، قالوا: إذاً نكثر، قال: ((الله أكثر)).
وفي ((الصحيح))، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا دعا أحدكم، فليعظم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيءٌ)).
فتارةً لا يجيب العبد؛ لأنه يحب أن يسمع صوته، كما قال يحيى بن سعيد: رأيت رب العزة في النوم، فقلت: إلهي! أدعوك فلا تستجيب لي! فقال: أحب أن أسمع صوتك.(1/150)
وقال ذا النون المصري -رحمه الله-: رأيت في الطواف جارية حسناء، وهي تدعو وتقول: أنت قلت: {ادعوني أستجب لكم}، وأنا أدعوا ولا تستجيب لي؟! فهتف بها هاتفٌ يقول: لكن نحب دعاك؛ فلأجله أمهلناك؛ حتى لا تصرفي وجهك عنا.
وقال ثابت: إذا دعا الله المؤمن بدعوة، وكل الله جبريل بحاجته، فيقول: لا تعجل بإجابته؛ فإني أحب أن أسمع صوت عبدي المؤمن.
وفي بعض الكتب السابقة: إن الله ليبتلي العبد، وهو يحب أني سمع تضرعه.
وكان بعضهم إذا فتح له في الدعاء عند الشدائد، لم يحب تعجيل إجابته؛ خشية أن ينقطع عما فتح له.
وتارةً تكون مضرةً له، فيصرفها عنه؛ كما قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ما أبالي أصبحت على ما أحب أو على ما أكره؛ لأني لا أدري، الخير فيما أحب، أو فيما أكره.
وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت ومالي سرورٌ إلا في مواقع القضاء والقدر.(1/151)
وتارةً يعلم الله العبد بأنه قد أعطاه طلبته، ويخرجها من قلبه فلا يريدها؛ كما روى الترمذي، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، فقلت: لا يا رب! ولكن أشبع يوماً، وأجوع يوماً، فإذا جعت؛ تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك)).
وربما يكون الدعاء ينقصه مما في الآخرة؛ كما روي: أنه كان في بني إسرائيل شابٌ لم ير مثله، وكان يصنع المكاتل ويبيعها، ويتقوت به هو وامرأته، فبينما هو ذات يومٍ، وإذ خرجت عجوزٌ من بيت الملك فرأته، فرجعت فقالت لابنة الملك: هنا شابٌ ليس في بني إسرائيل مثله، فقالت: أدخليه، فأدخلته، وأغلقت الباب دونه، ثم أغلقت دونه باباً آخر ثم لقيته ابنة الملك كاشفةً عن وجهها، فقال لها: اشتري يرحمك الله، فقالت: لم ندعك لها، وراودته عن نفسه فأبى، فقالت: إن لم تفعل، وإلا صحت بك، وقلت: دخل يراودني عن نفسي، فقال: دعي لي وضوءاً، فقالت: وعلي تتعلل؟!، يا جارية! ضعي له وضوءاً في الجوسق، وكان مكانٌ مرتفعٌ لا يمكنه الذهاب منه، فوضعت له(1/152)
وضوءاً فيه، فلما صار في أعلاه، قال: اللهم إني قد دعيت إلى معصيتك، وقد اخترت أن أرمي نفسي من هذا الجوسق، ولا أعصيك، ثم قال: بسم الله، وألقى نفسه من الجوسق، فأرسل الله -عز وجل- ملكاً، فأخذ بضبعيه فأوقفه قائماً، فقال: اللهم ارزقني رزقاً أستغني به عن عمل هذا، فأرسل الله -عز وجل- عليه رجلاً من جرادٍ من ذهبٍ حتى ملأ ثوبه، ثم قال: اللهم إن كان هذا ينفعني مما عندك فارفعه، قال: فرفع.
وحدثني بعض شيوخنا: أنه وجد هذه الحكاية، وفيها: أنه ذهب بالذهب إلى زوجته وقص عليها القصة، ثم ناما تلك الليلة، فرأت المرأة كراسي لم ير مثلهم، فقالت: لمن هذه الكراسي؟ فقيل: كراسي الزهاد -أو كما قال-، فقالت: وأين كرسي زوجي؟ فقيل لها: هذا، فرأت فيه ثلمةً أو نقصاً -أو كما قال-، فقالت: ما هذا؟ فقالوا: عجل له، فلما أصحبت أخبرته، فدعوا الله، فرفع له -أو كما قال-.
وربما يبتلي الله العبد بالبلاء لأجلٍ، حتى يدعوه؛ كما قال داود -عليه السلام-: سبحان مستخرج الدعاء بالبلاء، ومستخرج الشكر بالرخاء.
ومر أبو جعفرٍ محمدٌ بن عليٍ بمحمدٍ بن المنكدر -وهو مغمومٌ-، فسأله عن سبب غمه، فقيل له: الدَّيْن، وقد قرحه، فقال أبو جعفر: أفتح له في الدعاء؟ قيل: نعم، قال: لقد بورك لعبدٍ في حاجةٍ أكثر منها من(1/153)
دعاء ربه، كائنةً ما كانت.
وتارةً يكون الدعاء؛ عدم إجابته خيرٌ لصاحبه؛ كما قال بعض الصالحين: يقول الله تعالى في بعض كتبه المنزلة: يا ابن آدم! تسألني فأمنعك؛ لعلمي بما يصلحك، ثم تلح في السؤال، فأجود بكرمي عليك، فأعطيك ما تسألني، وتستعين به على المعاصي، ثم أستر عليك، ثم تعاود المعصية فأستر عليك، فكم من جميلٍ أصنعه لك!، وكم من قبيحٍ تصنعه معي!، يوشك أن أغضب عليك، لا أرضى بعدها أبداً.
وفي الحديث: عن أنس بن مالكٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، عن الله -عز وجل-، قال: يقول الله -عز وجل-: ((من أهان لي ولياً، فقد بارزته بالمحاربة، وإني لأغضب لأوليائي، كما يغضب الليث الحرب، وما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي المؤمن يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً؛ فإن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وما ترددت في شيءٍ أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه، وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني من الصلاة فأكفه عنه؛ ألا يدخله عجبٌ فيفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته؛ لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته؛ لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة،(1/154)
ولو أسقمته؛ لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم، ولو صححته؛ لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم، إني عليمٌ خبير)).
وربما يكون عدم الإجابة؛ للاستكبار، فإذا انكسر العبد وخضع، أجيبت دعوته.
قال وهبٌ: تعبد رجلٌ زماناً، ثم بدت له إلى الله حاجةٌ، فقام سبعين سنةً، يأكل في كل سنةٍ إحدى عشرة تمرةً، ثم سأل الله حاجته، فلم يعطها، فرجع إلى نفسه، فقال: منك أتيت، لو كان فيك خيرٌ أعطيت حاجتك، فنزل إليه عند ذلك ملكٌ، فقال: يا ابن آدم! ساعتك هذه، خيرٌ من عبادتك التي مضت، وقد قضى الله حاجتك.
كما قيل:
أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولن تكرم النفس التي لا تهينها(1/155)
فصل [فيمن ترك الدعاء متعللاً بالقضاء]
وترك طائفةٌ الدعاء، وقالوا: ما كان مقدراً على العبد يصيبه، فلا دافع لقضاء الله -عز وجل-، والصحيح خلافه كما سبق.
قالوا: قد وجدنا من قضيت حاجته من غير دعاء منه، ما خرجه ابن أبي الدنيا في كتاب ((الفرج بعد الشدة)) بإسناده، عن وضاح بن خيثمة، قال: أمرني عمر بن عبد العزيز بإخراج من في السجن، فأخرجتهم إلا يزيد بن أبي مسلمٍ، فنذر دمي؛ فإني لبإفريقية؛ إذ قيل لي: قدم يزيد بن أبي مسلمٍ؛ يعني: أميراً على أفريقية، فهربت منه، وأرسل في طلبي، فأخذت وأتي بي إليه، فقال لي: والله لطالما سألت الله أن يمكنني منك، فقلت: والله وأنا، والله لطالما استعذت بالله من شرك، فقال: والله ما عاذك، لأقتلنك، ثم والله لأقتلنك، ثم والله لأقتلنك، لو سابقني ملك الموت إلى قبض روحك لسبقته، علي بالسيف والنطع، قال: فجيء بالنطع، فأقعدت فيه وكتفت، وقام قائمٌ على رأسي بسيفٍ مشهورٍ، وأقيمت الصلاة، فخرج إلى الصلاة، فلما سجد أخذته سيوف الجند،(1/157)
فقتل، فجاءني رجلٌ، فقطع كتافي بسيفه، وقال: انطلق.
وحكى أنه كان بالموصل رجلٌ يسافر، وكان تاجراً يدور بتجارته البلدان، فسافر مرةً بجميع ماله، وما يملكه إلى الكوفة، فرافقه في تلك السفرة رجلٌ خدمه، فأحسن خدمته، وأنس به حتى وثق به، ثم استغفله في بعض المنازل، وأخذ دابته وما عليها من المال والمتاع، ولم يبق له شيءٌ البتة، واجتهد في طلبه، فلم يقع له على خبرٍ، فرجع إلى بلده وجلاً جائعاً، فدخل إلى المدينة ليلاً، وهو على تلك الحال، فطرق بابه، فلما علم به أهله سروا، وقالوا: الحمد لله الذي جاء بك في هذا الوقت؛ فإن أهلك قد ولدت اليوم ولداً، وما وجدنا ما نشتري به ما تحتاج إليه النفساء، ولقد كانت هذه الليلة طاويةً، فاشتر لنا دقيقاً ودهناً؛ نسرج به، فلما سمع ذلك زاد في غمه وكربه، وكره أن يخبرهم بما جرى له فيحزنهم، فخرج إلى حانوت رجلٍ كان بالقرب من داره، فسلم عليه وأخذ منه دهناً وغيره مما يحتاج إليه، فبينا هو يخاطبه؛ إذ التفت فرأى خرجه الذي هرب به خادمه مطروحاً في ذلك الحانوت، فسأله عنه، فقال: إن رجلاً ورد علي بعد العشاء، واشترى مني عشاءه، واستضافني فأضفته، فجعل خرجه في حانوتي، ودابته في دار جارنا، والرجل بائتٌ في المسجد، فنهض إلى المسجد ومعه الخرج، فوجد الرجل نائماً، فرفسه،(1/158)
فاستيقظ مذعوراً، فقال له: أين مالي يا خائن؟! قال: هو ذا على عنقك، والله ما فقد منه ذرةٌ، واستخرج الدابة من موضعه، ووسع على أهله، وأخبرهم حينئذٍ خبره.
قال ابن رجبٍ في ((نور الاقتباس)): ذكر بعض العلماء في مصنفٍ له -وأظنه من المغاربة-، أنه سمع من أبي ذرٍ الهروي الحافظ يحكي أنه كان ببغداد يقرأ على أبي حفصٍ بن شاهين في دكان عطارٍ، وأنه جاء رجلٌ إلى العطار، فدفع إليه عشرة دراهم، وأخذ منه حوائج، وجعلها في طبقٍ، وجعله على رأسٍ، فزلق، ووقع طبقه، وتفرقت حوائجه، فبكى واشتد بكاؤه، وقال: لقد ضاع مني في قافلةٍ كذا وكذا هميانٌ فيه أربع مئة دينارٍ، أو قال: أربعة آلاف دينارٍ، ومعها فصوصٌ قيمتها أكثر من ذلك، فما جزعت لضياعها، ولكن ولد لي الليلة ولدٌ، فاحتجنا في البيت إلى ما تحتاج إليه النفساء، ولم يكن عندي غير هذه العشرة الدراهم، فلما قدر الله بما قدر، جزعت وقلت: لا أنا عندي ما أرجع به اليوم إلى أهلي، ولا ما أكتسب غداً، ولم يبق لي حيلةٌ إلا الفرار عنهم، وأتركهم على هذه الحالة، فيهلكون بعدي، فلم أملك نفسي أن جزعت هذا الجزع.
قال أبو ذرٍ: ورجلٌ من شيوخ الجند جالسٌ على باب داره، فسمع هذا كله، فسأل الجندي أبا حفصٍ أن يدخل هو وأصحابه والرجل المصاب معه إلى بيته، ففعل، وطلب من الرجل المصاب إعادة حكايته في الهميان، فأعاد ذلك عليه، وسأله عمن كان في تلك القافلة، وعن المكان الذي ضاع فيه الهميان، فأخبره، ثم سأله عن صفة الهميان(1/159)
وعلامته، فأخبره بذلك، فقال: لو رأيته كنت تعرفه؟ قال: نعم، قال: فأخرجه إليه، فلما رآه قال: هذا الهميان الذي سقط، وفيه من الأحجار ما صفته كذا وكذا، ففتح الهميان فوجد الأحجار على ما وصف، فدفعه إليه وخرج من عنده، وقد صار من الأغنياء، فلما خرج بكى الشيخ الجندي بكاءً شديداً، فسئل عن سبب بكائه، فقال:إنه لم يكن بقي لي في الدنيا أملٌ، ولا أمنيةٌ أتمناها، إلا أن يأتي الله بصاحب هذا المال فيأخذه، فلما قضى الله بذلك بفضله ولم يبق لي أملٌ، علمت أنه قد حان أجلي.
قال أبو ذر: فما انقضى شهر حتى توفي، وصلينا عليه -رحمه الله تعالى-.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصية ابن عباسٍ: ((جف القلم بما هو كائنٌ)).
وفي رواية أخرى: ((رفعت الأقلام، وجفت الكتب)).
قال الله -عز وجل-: {ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتابٍ من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير}.
ولما لقي جبريل إبراهيم، وهو يلقى في النار، قال: ألك حاجةٌ؟ قال: إليك فلا، فقال: سل ربك المتعالي، فقال: حسبي من سؤالي، علمه بحالي.(1/160)
وفي بعض الأشياء: رأيت زيادة: ((يغنيني عن سؤالي)).
وعن ابن عباسٍ: إن أول شيء خلقه الله القلم، فقال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: القدر، فجرى بما هو كائنٌ إلى أن تقوم الساعة.
وخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، من حديث عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن أول ما خلق الله القلم، ثم قال: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة)).
وخرج الإمام أحمد، والترمذي، من حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله كل نفسٍ، وكتب حياتها، ورزقها، ومصابها)).(1/161)
فإذا كان فرغ من الأشياء، فالدعاء لا فائدة فيه؛ لأن ما يصيبك، يصيبك وإن لم تدع، وما لا يصيبك، لا يصيبك وإن دعوت.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إليهم بالكتابين، فقال: ((في أحدهم أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم، وقبائلهم))، ثم قال: ((فلا يزاد فيهم ولا ينقص))، فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله! إن كان أمرٌ قد فرغ منه؟! فقال: ((سددوا وقاربوا؛ فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عملٍ، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أي عمل))، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما، ثم قال: ((فرغ ربك من العباد، فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير)).
وفي هذا الباب أحاديث كثيرةٌ جداً.(1/162)
فصل [الرضا عن الله بقضائه]
ولا يدعو ببلاءٍ؛ فإن النفس لا تصبر على شيءٍ، كما روي عن بعض الزهاد، أنه كان يسأل الغزو، فقيل له: في اليوم إن غزوت أسرت، وإن أسرت تنصرت.
وقال بعضهم:
وليس لي في سواك حظٌ ... فكيف ما شئت فامتحني
فابتلي بعسر البول، فلم يصبر، وجعل يطوف على المكاتب، ويقول للصبيان: ادعو لعمكم الكذاب.
وكذا قول من قال: لو أدخلني النار كنت راضياً، هو -أيضاً-(1/163)
عزمٌ على الرضا، ولا يدري هل يثبت أو ينفسخ.
فلا ينبغي للعبد أن يتعرض للبلاء، كان عمر بن عبد العزيز يقول: ما تركتني هذه الدعوات ولي سرورٌ في غير موقع القضاء والقدر: اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت.
وقال بعضهم: الراضي لا يتمنى غير منزلته التي هو عليها؛ لأنه قد رضي بها.
وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً، فقال: ((لا تتهم فيما قضاه لك)).
وفي الحديث: ((من رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)).
وقال بعضهم: لن يرد يوم القيامة أعظم أجراً من الراضي بقضاء الله -عز وجل-.(1/164)
وقال بعضهم: من وهب له الرضا، فقد بلغ أفضل الدرجات.
وقال بعضهم في قوله تعالى: {فلنحيينه حياةً طيبةً}، قال: الرضا والقناعة.
وقال عبد الواحد بن زيدٍ: الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين.
وقالت أم الدرداء: إن الراضين بقضاء الله، الذين ما قضى الله لهم رضوا به، لهم في الجنة منازل يغبطهم بها الشهداء.
وفي هذا المعنى يقول الشيخ تقي الدين ابن تيمية: في الدنيا جنةٌ، من لم يدخلها، لم يدخل جنة الآخرة.
كما قيل:
يا أيها الراضي بأحكامنا ... لا بد أن تحمد عقبى الرضا
فوض إلينا وارج مستسلماً ... فالرحمة العظمى لمن فوضا
وإن تعرضت لأسبابنا ... فلا تكن عن بابنا معرضا(1/165)
فإن فينا خلفاً باقياً ... من كل ما فات وما قد مضى
وإنما الرضى بعد القضاء؛ لأن الرضا قبل القضاء عزم على الرضا، والرضا بعد القضاء؛ لأنه إذا وقع القضاء قد تنسخ العزائم.(1/166)
فصل [في آداب الدعاء]
وربما تكون إجابة الدعاء متوقفةً على بعض الدعاء، أو على كلامٍ، وذكرٍ، مثل: ما شاء الله.
قال سعيدٌ القداح: بلغني أن موسى كانت له إلى الله حاجةٌ، فطلبها، فأبطأت عليه، فقال: ما شاء الله، فإذا حاجته بين يديه، فتعجب، فأوحى الله إليه: أما علمت أن قولك: ما شاء الله، أنجح ما طلبت به الحوائج.
وقال إبراهيم بن أدهم: قال بعضهم: ما سأل السائلون مسألةً هي أخف من أن يقول العبد: ما شاء الله، قال: يعني بذلك التفويض إلى الله.
وكان مالك بن أنسٍ كثيراً ما يقول: ما شاء الله، ما شاء الله، فعاتبه(1/167)
رجلٌ على ذلك، فرأى في منامه قائلاً يقول له: أنت المعاتب لمالكٍ على قوله: ما شاء الله، لو شاء مالكٌ أن يثقب الخردل بقول: ما شاء الله، فعل.
وقال حماد بن زيدٍ: جعل رجلٌ لرجل جعلاً على أن يعبر نهراً، فعبر، حتى إذا قرب من الشط، قال: عبرت والله، فقال له الرجل: قل ما شاء الله، فقال: شاء الله، أو لم يشأ، قال: فأخذته الأرض.
ولا ينبغي لعبدٍ أن يسأل، ولا يقول: إنه يفعل شيئاً، أو ينوي شيئاً، إلا يقول: ما شاء الله.
وخرج البخاري، عن عبد الرحمن بن هرمزٍ، قال: سمعت أبا هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((قال سليمان بن داود -عليه السلام-: لأطوفن الليلة على مئة امرأةٍ -أو تسعاً وتسعين-، كلهن يأتي بفارسٍ يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله، فلم تحمل منهن إلا امرأةٌ واحدةٌ، جاءت بشق رجلٍ، والذي نفس محمدٍ بيده لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله تعالى فرساناً أجمعون)).
وروى طلق بن حبيبٍ، قال: جاء رجلٌ إلى أبي الدرداء، فقال: احترق بيتك، فقال: ما احترق، لم يكن الله ليفعل ذلك؛ بكلماتٍ(1/168)
سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قالها أول نهاره لم تصبه مصيبةٌ حتى يمسي، ومن قالها آخر النهار لم تصبه مصيبةٌ حتى يصبح: ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، عليك توكلت، وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أعلم أن الله على كل شيءٍ قديرٌ، وأن الله قد أحاط بكل شيءٍ علماً، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابةٍ أنت آخذٌ بناصيتها، إن ربي على صراطٍ مستقيم)).
وعن ابن عباس -رضي الله عنه-: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابيٍ يعوده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريضٍ يعوده، قال: ((لا بأس، طهورٌ إن شاء الله))، قال: قلت: طهورٌ، كلا، بل هي حمى تفور -أو: تثور-، على شيخٍ كبيرٍ؛ تزيره القبور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فنعم إذن)).(1/169)
فصل [في إجابة دعاء الصالحين]
ولنذكر نبذةً ممن أجيب دعاؤه في الحال:
حكي أن امرأة شردت لها ناقةٌ، فأضلتها: فقيل لها: لو وجهت لها من يطلبها، فقالت: قد أخذت عليها بمجامع الطرق، فقيل لها: وما مجامع الطرق؟ قالت: الدعاء، فقيل: إن الناقة أصبحت مربوطةً ببعض أطناب بيتها.
وحكى أبو القاسم القشيري في كتاب ((التحبير))، عن عمرو بن عثمان المكي الزاهد، أنه قال: كان في أصحابي رجلٌ فقيرٌ، طال به المرض مدة، ولم يتكلم، فدخلت عليه أعوده، فقال لي: يا سيدي! معك من يقول شيئاً؟ فقلت: نعم، ثم أشرت إلى واحدٍ من أصحابي حسن الصوت، والإنشاد، فقلت له: قل شيئاً، فأنشد:
مالي مرضت فلم يعدني عائدٌ ... منكم ويمرض عبدكم فأعود
وأشد من مرضي علي صدودكم ... وصدود من أهوى علي شديد
فطرب الفقير، ولم يزل يستعيد المنشد الأبيات، وأخذه الوجد،(1/171)
فصاح، ورفع طرفه إلى السماء، وقال: إلهي! علمت صبري على ما قضيت، وصدقي في صبري، والآن فقد فني الصبر، وطالت المدة، وطلبت النفس الخروج مع شيخي وأصحابي إلى موطن عبادتك، فأزل عني المرض، وأعد لي عافيتي، [ثم] قام الشيخ، فقام الفتى، وخرج معنا إلى السياحة؛ كأنه ما كان مريضاً.
وأخبرني الشيخ شهاب الدين بن هلالٍ الأزدي، بسنده الأول إلى الشيخ موفق الدين، ذكر عن وهب بن منبه، قال: كان في زمن موسى -عليه السلام- شابٌ عاتٍ، مسرفٌ على نفسه، فأخرجوه من بينهم لسوء فعله، فحضرته الوفاة بخربةٍ على باب البلد، فأوحى الله -عز وجل- إلى موسى -عليه السلام-: أن ولياً من أوليائي حضره الموت، فاحضره وغسله وصل عليه، وقل لمن كثر عصيانه يحضر جنازته؛ لأغفر لهم، واحمله إلي؛ فإني لأكرم مثواه، فنادى موسى في بني إسرائيل، وكثر الناس، فلما حضروه عرفوه، فقالوا: يا نبي الله! هذا هو الفاسق الذي أخرجناه، فتعجب موسى من ذلك، فأوحى الله -عز وجل- إليه: صدقوا وهم شهداء، إلا أنه لما حضرته الوفاة في هذه الخرابة نظر يمنةً، ويسرةً، فلم ير حميماً، ولا قريباًُ، ورأى نفسه غريبةً، وحيدةً، ذليلةً، فرفع بصره إلي، فقال: إلهي! عبدٌ من عبادك، غريبٌ في بلادك، لو علمت أن عذابي يزيد في ملكك، وعفوك عني ينقص من ملكك، ما سألتك(1/172)
المغفرة، وليس لي ملجأٌ ولا رجاءٌ إلا أنت، وقد سمعت فيما أنزلت، قلت: {أني أنا الغفور الرحيم}، فلا تخيب رجائي. يا موسى! أفكان يحسن بي أن أرده، وهو غريبٌ على هذه الصفة، وقد توسل إلي بي، وتضرع بين يدي، وعزتي لو سألني في المذنبين من أهل الأرض جميعاً لوهبتم له؛ لذل غربته، يا موسى! أنا كهف الغريب، وحبيبه، وطبيبه، وراحمه.
وقيل لذا النون المصري -رحمه الله-: ما كان بدء أمرك؟ قال: كنت شاباً في اللهو واللعب، فخرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام، فبينا أنا راكبٌ في المركب، وقد توسطنا البحر فقد من بيننا كيسٌ، ففتش كل من في المركب، وكان فينا شابٌ لا نبات بعارضيه، فلما وصلوا إلى الشاب فتشوه، فوثب من المركب وثبةً حتى جلس على الأمواج، فقال: يا مولاي! إن هؤلاء فتشوني، وأنا أقسم عليك يا حبيب قلبي أن تأمر كل دابةٍ في البحر أن تخرج رأسها، وفي فم كل واحدةٍ منهن جوهرةٌ -وقد صح في الخبر: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره، ولو أقسم عليه في اليوم مئة مرةٍ))-، قال: ذا النون: فما استتم الشاب الكلام حتى رأينا دواب البحر وقد أخرجت رؤوسها، وفي فم كل واحدةٍ منهن جوهرةٌ تتلألأ وتلمع، ثم وثب على الماء يتبختر، وهو يقول: {إياك نعبد وإياك نستعين}.(1/173)
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أصبحنا ذات يومٍ، فقالت أمي لأبي: والله ما في بيتك شيءٌ يأكله ذو كبد، فقام فتوضأ، ولبس ثيابه، ثم صلى في بيته. قال: فالتفت إلي أمي، فقالت: إن أباك ليس يزيد على ما ترى، فاخرج أنت، فخرجت، فخطر ببالي صديقٌ لنا تمارٌ، فجئت إلى سوقه، فلما رآني صاح بي وذهب بي إلى منزله، وأطعمني، ثم أخرج لي صرةً فيها ثلاثون ديناراً من غير أن أذكر له شيئاً من حالنا، إلا ابتداءً منه، وقال: أقرأ أباك السلام، وقل له: إنا جعلنا له شركاً في كل شيءٍ من تجرنا، وهذا نصيبه منه.
قال أصبغ بن زيدٍ: جلست أنا ومن عندي ثلاثاً لم نطعم شيئاً، فخرجت إلي ابنتي الصغيرة، فقالت: يا أبت! الجوع، فأتيت الميضأة، فتوضأت وصليت ركعتين، وألهمت دعاءً دعوت به، وفي آخره: اللهم افتح علي منك رزقاً لا تجعل لأحدٍ علي فيه منة، ولا لك علي في الآخرة فيه تبعةٌ، برحمتك يا أرحم الراحمين، ثم انصرفت إلى البيت، فإذا ابنتي الكبيرة قد قامت إلي، وقالت: يا أبت! جاء عمي الساعة بهذه الصرة [من] الدراهم، وبحمالٍ وعليه دقيقٌ، وحمالٍ عليه من كل شيءٍ في السوق، وقال: أقرئوا أخي السلام، وقولوا له: إذا احتجت إلى شيءٍ، فادع بهذا الدعاء تأتك حاجتك، قال أصبغ: ولا والله ما كان لي أخٌ قط، ولا أعرف من كان هذا القائل، ولكن الله على كل شيءٍ قديرٌ.(1/174)
وعن الحكم بن موسى قال: أصحبت، فقالت لي المرأة: ليس عندنا دقيقٌ، ولا خبز، فخرجت، ولا أقدر على شيءٍ، فقلت في الشارع: اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تعلم أنه لا دقيق لي ولا خبز، وقال: ولا دراهم، فائتنا بذلك، فلقيني رجلٌ، فقال: خبزاً تريد ودقيقاً؟ فقلت له: أحدهما، ثم مشيت نهاري أجمع لا أقدر على شيءٍ، فرجعت، فقدم إلي أهلي خبزاً ولحماً واسعاً، فقلت: من أين هذا لكم؟ فقالوا: من الذي وجهت به، فسكت.
وعن الأوزاعي قال: رأيت رجلاً في الطواف، وهو متعلقٌ بأستار الكعبة، وهو يقول: يا رب! إني فقيرٌ كما ترى، وصبيتي قد عروا كما ترى، وناقتي قد عجفت كما ترى، مما ترى، فيما ترى، يا من يرى ولا يرى، فإذا هو بصوتٍ من خلفه: الحق أهلك بالطائف، وقد خلف ألف نعجةٍ، وثلاث مئة ناقةٍ، وأربع مئة دينارٍ، وأربع مئة عبدٍ، وثلاثة أسيافٍ يمانيةٍ، فامض فخذها، فليس له وارثٌ غيرك، قال: قلت له: يا عاصم! يا عاصم! يا عاصم! إن الذي دعوته لقد كان قريباً منك، قال: يا هذا! أما سمعت قوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ}.
وروى أبو الحسن بن جهضم بإسناده عن حاتم الأصم، قال: لقينا الترك، فكان بيننا جولة، فرماني تركيٌ، فقلبني عن فرسي، ونزل فقعد(1/175)
على صدري، وأخذ بلحيتي، وأخرج من خفه سكيناً ليذبحني، فما كان قلبي عنده ولا عند سكينه، وإنما كان عند سيدي، فقلت: سيدي! إن قضيت علي أن يذبحني هذا فعلى الرأس والعين، وإنما أنا لك وملكك، فبينا أنا على هذه الحال؛ إذ رماه بعض المسلمين بسهمٍ، فما أخطأ حلقه، فسقط عني، فقمت إليه وأخذت السكين من يده، فذبحته بها، فما هو إلا أن تكون قلوبكم عند السيد، حتى تروا من عجائب لطفه، ما لم تروا من الآباء والأمهات.
وبإسناده عن عمرو السرايا -وكان يغير في بلاد الروم وحده-، فبينا هو نائمٌ ذات يومٍ؛ إذ ورد عليه علجٌ منهم، فحركه برجله، فانتبه، فقال: يا عربي! اختر إن شئت مطاعنةً، وإن شئت مسايفة، وإن شئت مصارعةً، فنزل فصرعني وقعد على صدري، وقال: أي قتلةٍ أقتلك؟ فرفعت رأسي، وقلت: أشهد أن كل معبودٍ ما دون عرشك إلى قرار الأرضين باطلٌ غير وجهك الكريم، قد ترى ما أنا فيه، ففرج عني، قال: فأغمي علي، فأفقت، فإذا الرومي قتيل إلى جنبي.
وحكي: أن جباراً عمل قصراً وشيده وعلاه، وجعله قيد القلوب والنواظر، فجاءت عجوزٌ من السائحات إلى ظهر القصر، فعملت كوخاً في مكانٍ مباحٍ تعبد الله فيه، فركب يوماً، فطاف بفناء القصر، فرأى الكوخ، فقال: ما هذا؟ فقيل له: امرأةٌ هنا تأوي إليه، وتسيح، فأمر بهدمه، ولم تكن المرأة حاضرةً، فهدم، فجاءته، فوجدته مهدوماً،(1/176)
فقالت: من هدم هذا؟ قالوا لها: الملك، فرفعت طرفها إلى السماء، فقالت: يا رب! أنا لم أكن، فأنت أين كنت؟! قال وهب: فأمر الله -عز وجل- جبريل أن يهدم القصر على من فيه، فقلبه على من فيه، فأصبح عبرةً للناظرين.
وعن مطرف بن عبد الله الجرشي، قال: خرجنا إلى الربيع في زمانه، فقلنا: ندخل يوم الجمعة لشهودها، وطريقنا على المقبرة، قال: فدخلنا، فرأيت جنازةً في المقبرة، فقلت: لو اغتنمت شهودها- أو قال: شهود هذه الجنازة-، قال: فشهدتها، قال: ثم اعتزلت ناحيةً قريباً من قبرٍ، فركعت ركعتين خففتهما، لم أرض إتقانهما، ونعست، فرأيت صاحب القبر يكلمني، وقال: ركعت ركعتين لم ترض إتقانهما! قلت: قد كان ذلك، قال: تعملون ولا تعلمون، ولا نستطيع أن نعمل؛ لأن أكون ركعت مثل ركعتيك خيرٌ من الدنيا بحذافيرها، فقلت: من هاهنا أفضل؟ فأشار إلى قبرٍ، فقلت في نفسي: اللهم ربنا! أخرجه إلي فأكلمه، قال: فخرج من قبره فتىً شابٌ، فقلت: أنت أفضل من هنا؟ فقال: قد قالوا ذلك، قلت: فبأي شيءٍ نلت ذلك؟ فوالله ما أرى ذلك السن، فأقول: نلت ذلك بطول الحج والعمرة والجهاد في سبيل الله والعمل؟! قال: ابتليت بالمصائب فرزقت الصبر عليها، فبذلك فضلتهم.(1/177)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لكل نبيٍ دعوةٌ مستجابةٌ يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي؛ شفاعةً لأمتي في الآخرة)).
وعن أنسٍ -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((كل نبيٍ سأل سؤالاً -أو قال: لكل نبيٍ دعوةٌ قد دعا بها- فاستجيبت، فجعلت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة)).
وحكي: أن النيل زاد سنةً زيادة عظيمةً كادت مصر تغرق، وأقام حتى كاد وقت الزرع يفوت، فصاح الناس، فأتى عثمان بن مرزوقٍ إلى شاطئ النيل، وتوضأ منه، فنقص في الحال ذراعين، وزرع الناس في اليوم التالي.
وفي بعض السنين لم يطلع النيل، وفات وقت الزراعة، وغلت الأسعار، وظن الهلاك، وضجوا إليه، فجاء إلى شاطئ النيل، وتوضأ منه بإبريقٍ كان مع خادمه، فزاد النيل في ذلك اليوم، وتعاقبت زيادته إلى أن انتهت إلى حده، وبارك الله في زروع الناس تلك السنة.(1/178)
وعن أبي عكاشة، قال: كنت مع إبراهيم بن أدهم في البحر، فهبت ريحٌ شديدةٌ، وهاج البحر، واضطربت الأمواج، وأشرفوا على الغرق، وجعل الناس يطرحون أمتعتهم في البحر، ويتضرعون إلى الله -عز وجل-، وإبراهيم ساكتٌ، فقيل له: يا رجل! ما لك لا تدعو؟ قال: فاستقبل القبلة، ومد يديه، وقال: يا أولٌ قبل كل شيء، ويا آخر بعد كل شيء، ويا من ليس لأوله منتهى، ويا من ليس لآخره فناء، ويا من بطشه شديدٌ، وعفوه قديمٌ، وملكه مستقيمٌ، ونعمه لا تحصى، يا من أظهر الجميل، وستر القبيح، يا من لا يعجل بالعقوبة عند الإساءة، وما ينأى بعباده [عن] التوبة، أغثنا يا رب، ثم قال: عزمت عليك إلا فعلت، قال: فسكن الريح، وخرجنا.
وقد اقتصرنا على هذا.(1/179)
فصل [في اسم الله الأعظم]
ومن قيل إنه كان يحفظ الاسم الأعظم: حمزة بن الكيال، ومن قبل هذه الأمة التيمون، وعبد الله بن الثامر.
وقال ابن عقيل في ((الفنون)): قال وكيع بن الجراح: رأيت في المنام رجلاً بجناحين، فقلت: من أنت؟فقال: مالك بن دينارٍ، فقلت: ما اسم الله الأعظم؟ فقال: الله، قلت: وما الدليل على ذلك؟ قال: قوله -عز وجل- لموسى: {إني أنا الله}، ولو كان له اسمٌ أعظم منه، قال -تبارك وتعالى-: {أنا} وسمى بذلك الاسم.
وقال الحافظ إبراهيم: ما رأيت مثل هذا الدعاء، ولا أسرع إجابةٍ منه: يا الله، يا الله، أنت الله، بلى والله، أنت الله، لا إله إلا أنت، الله، الله، والله، والله، إنه لا إله إلا الله.
وقيل: اسم الله تعالى الأعظم: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}.
وقيل: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.(1/181)
وقيل: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد .. .. إلى آخره.
وقيل: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، الحنان، المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام.
وقيل: يا حي، يا قيوم.
وقيل: في هاتين الآيتين: {وإلهكم إلهٌ واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم}، وفاتحة آل عمران: {الم. الله لا إله إلا هو الحي القيوم}.
وقيل: في ثلاث سورٍ: البقرة، وآل عمران، وطه.
قال القاسم بن عبد الرحمن الشامي التابعي -صاحب أبي أمامة صدوقٌ-: فالتمستها: أنه الحي القيوم.
وقال ابن الجوزي: إنه لا إله إلا هو الحي القيوم.
وأسماء الله الحسنى معروفةٌ، وورد في الحديث: ((من أحصاها دخل الجنة))، و((من حفظها دخل الجنة)).(1/182)
فصل [في مواطن الإجابة]
وليتحر الأماكن التي ترجى فيها إجابة الدعاء، وقد ورد عن جماعةٍ، وروي عن شمس الدين ابن أبي عمر أنه كان يكثر الابتهال، لا سيما في الأماكن التي ترجى فيها إجابة الدعاء.
قال في ((الطبقات)): إن الدعاء عند قبر عثمان بن موسى الطائي مستجابٌ.
وكان الحافظ إبراهيمٌ المقدسي يواظب الدعاء يوم الأربعاء بين الظهر والعصر بمقابر الشهداء من باب الصغير.
وكان الشيخ أبو عمر يدعو في الاستسقاء في مغارة الدم، ويحضر النساء معه.(1/183)
وكان الحافظ إبراهيم إذا دعا جمع أهله وجيرانه ودعا وهم حضورٌ.
وقد تقدم الكلام على أماكن الإجابة وأحوالها.(1/185)
فصل [في موانع الإجابة]
وأعظم موانع الإجابة للناس اليوم، أكلهم الحرام، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في ((الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء، يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!)).
وقال الله -عز وجل-: {كلوا من طيبات ما رزقناكم}، والطيب لا يكون إلا حلالاً.
قال ابن رجب: ومن أعظم ما تحصل به طيبة الأعمال، طيب مطعمه، وأن يكون من حلالٍ.
وفي حديث أبي هريرة إشارةٌ إلى أن العمل لا يزكوا إلا أن يكون بأكل الحلال، وأن أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبوله.
وخرج الطبراني بإسنادٍ فيه نظرٌ، عن ابن عباسٍ، قال: تليت هذه(1/187)
الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً}، فقام سعد بن أبي وقاصٍ، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني من مستجابي الدعوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا سعد! أطب مطعمك؛ تكن من مستجابي الدعوة، والذي نفسي بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يقبل منه عملٌ أربعين يوماً، وأيما عبدٍ نبت لحمه من سحتٍ فالنار أولى به)).
وفي ((مسند الإمام أحمد)) بإسنادٍ فيه نظرٌ-أيضاً-، عن ابن عمر، قال: من اشترى ثوباً بعشرة دراهم، في ثمنه درهمٌ حرامٌ، لم يقبل الله له صلاةً ما كان عليه، ثم أدخل أصبعيه في أذنيه، وقال: صمتاً إن لم يكن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباسٍ، قال: لا يقبل الله صلاة امرئٍ في جوفه حرامٌ.
قلت: فكيف الدعاء؟!
وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف، من حديث أبي هريرة -رضي الله(1/188)
عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا خرج الرجل حاجاً بنفقةٍ طيبةً، ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلالٌ، وراحلتك حلالٌ، وحجك مبرورٌ غير مأزورٍ، وإذا خرج الرجل بنفقةٍ خبيثةٍ، فوضع رجله في الغرز، فنادى لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك، ولا سعديك، زادك حرامٌ، ونفقتك حرامٌ، وحجك غير مبرورٍ)).
قال أبو عبد الله النباجي الزاهد -رحمه الله تعالى-: خمس خصالٍ بها تمام العمل: الإيمان بمعرفة الله -عز وجل-، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال؛ فإن فقدت واحدةٌ لم يرتفع العمل؛ وذلك أنك إذا عرفت الله -عز وجل-، ولم تعرف الحق، لم تنتفع، وإذا عرفت الحق، ولم تعرف الله، لم تنتفع، وإذا عرفت الله -عز وجل-، وعرفت الحق، ولم تخلص العمل، لم تنتفع، وإن عرفت الله، وعرفت الحق، وأخلصت العمل، ولم تكن على السنة، لم تنتفع، وإن أتممت الأربع، ولم يكن الأكل من الحلال، لم تنتفع.
وقال وهيب بن الورد: لو قمت مقام هذه السارية، لم تنتفع حتى تنظر ما يدخل بطنك، حلالٌ أو حرامٌ.(1/189)
وعن الأصفر، قال: قيل لسعد بن أبي وقاص: تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟قال: ما رفعت إلى في لقمة، إلا وأنا أعلم من أين مجيئها، ومن أين خرجت.
وعن وهب بن منبه، قال: من سره أن يستجيب الله دعوته، فليطب مطعمه.
وعن سهل بن عبد الله، قال: من أكل الحلال أربعين صباحاً، أجيبت دعوته.
وعن يوسف بن أسباطٍ، قال: بلغنا أن دعاء العبد يحبس عن السموات بسوء المطعم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنى يستجاب لذلك))؛ أي: كيف يستجاب له مع أكل الحرام، وهو أفضل تعجب، واستبعادٌ للإجابة صريحٌ في عدم الإجابة؛ خلافاً لما قال ابن رجبٍ: إنه لفظ استفهامٍ، وليس صريحاً في منع الإجابة.
وعن ابن عمر، قال: بالورع عما حرم الله، يقبل الله الدعاء والتسبيح.(1/190)
وعن أبي ذر، قال: يكفي مع البر من الدعاء، مثل ما يكفي الطعام من الملح.
وقال محمد بن واسعٍ: يكفي من الدعاء مع الورع اليسير.
وقيل [لسفيان]: لو دعوت الله! قال: إن ترك الذنوب هو الدعاء.
وموانع الإجابة -أيضاً- الذنوب:
قال الليث: رأى موسى -عليه السلام- رجلاً رافعاً يديه، وهو يسأل الله مجتهداً، فقال موسى -عليه السلام- أي رب! عبدك دعاك حتى رحمته، وأنت أرحم الراحمين، فما صنعت في حاجته؟ فقال: يا موسى! لو رفع يديه حتى تنقطع، ما نظرت في حاجته حتى ينظر في حقي.
وخرج الطبراني بإسنادٍ فيه ضعفٌ، عن ابن عباسٍ مرفوعاً معناه.(1/191)
وقال مالك بن دينارٍ: أصاب بني إسرائيل بلاءٌ، فخرجوا مخرجاً، فأوحى الله إلى نبيه أن أخبرهم أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدانٍ نجسةٍ، وترفعون إلي أكفاً سفكتم بها الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن اشتد غضبي عليكم، ولن تزدادوا مني إلا بعداً.
وقال بعض السلف: لا تستبطئ الإجابة، وقد سددت طريقها بالمعاصي.
وقال الشاعر:
نحن ندعو الإله في كرباتنا ... ثم ننساه عند كشف الكروب
كيف نرجو إجابةً لدعاءٍ ... قد سددنا طريقها بالذنوب
ومن موانع الإجابة -أيضاً-: ترك الواجبات؛ كما في الحديث: أن ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يمنع من استجابة الدعاء.(1/192)
وقال شقيقٌ البلخي: مر إبراهيم بن أدهم في أسواق البصرة، فاجتمع الناس إليه، فقالوا: يا أبا إسحاق! إن الله تعالى يقول في كتابه الكريم: {ادعوني أستجب لكم}، ونحن ندعوه منذ دهرٍ، فلا يستجيب لنا؟!
قال إبراهيم: يا أهل البصرة! ماتت قلوبكم في عشرة أشياءٍ:
أولها:عرفتم الله ولم تؤدوا حقه.
الثاني: قرأتم كتاب الله -عز وجل- ولم تعملوا به.
الثالث: ادعيتم حب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتركتم سنته.
الرابع: ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه.
الخامس: قلتم: نحب الجنة، ولم تعملوا لها.
السادس: قلتم: نخاف النار، ورهنتم أنفسكم بها.
السابع: قلتم: إن الموت حقٌ، ولم تستعدوا له.
الثامن: اشتغلتم بعيوب إخوانكم، ونبذتم عيوبكم.
التاسع: أكلتم نعمة الله، ولم تشكروها.
العاشر: دفنتم أمواتكم، ولم تعتبروا.(1/193)
فصل [في بضع الأسباب التي ترجى بها إجابة الدعاء]
والأعمال الصالحة وسيلةٌ إلى إجابة الدعاء، كما في قضية أصحاب الغار.
وقال وهب بن منبه: مثل الذي يدعو بغير عملٍ؛ كمثل الذي يرمي بغير وتر.
وعنه قال: العمل الصالح يبلغ الدعاء، ثم تلا: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}.
ومن الوسيلة إلى إجابة الدعاء –أيضاً-: التذلل، والتواضع، وتكرار الدعاء.(1/195)
والمسافر ترجى إجابة دعائه؛ كما عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث دعواتٍ مستجاباتٍ لا شك فيهن؛ دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده)).
ومتى طال السفر، كان أسرع إلى الإجابة؛ لأنه مظنة حصول الانكسار بطول الغربة عن الأوطان، وتحمل المشاق، خصوصاً إذا كان السفر سفر عبادةٍ؛ كالحج، والجهاد، ونحوهما.
ومن الأسباب التي ترجى بها إجابة الدعاء: حصول التذلل في اللباس، والهيئة بالشعث والغبار، كما عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((رب أشعث أغبر، ذو طمرين، مدفوعٌ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره)).
ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم للاستسقاء، خرج متبذلاً، متواضعاً، متضرعاً.
وكان مطرف بن عبد الله قد حبس له ابن أخٍ، فلبس خلقاناً من ثيابه، وأخذ عكازاً بيده، فقيل: ما هذا؟ فقال: أستكين لربي؛ لعله أن يشفعني في ابن أخي.(1/196)
ومنها -أيضاً-: رفع اليدين ومدهما إلى السماء؛ كما تقدم،وفي حديث سلمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى حييٌ كريمٌ، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين)).(1/197)
فصل [في استحباب بدء الدعاء بالحمدلة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم]
وليبدأ في الدعاء بحمد الله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال فضالة بن عبيدٍ، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((عجل هذا))، ثم دعاه، فقال: ((إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله، والثناء عليه، ثم ليصل على النبي، ثم ليدع بما شاء)).
وعن عمر [قال]: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء موقوفٌ بين السماء والأرض، لا يصعد حتى يصلى علي، ولا تجعلوني كغمر الراكب، صلوا علي أول الدعاء وأوسطه وآخره)).(1/199)
وعن ابن مسعودٍ، قال: كنت أصلي والنبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ، وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله، ثم بالصلاة على النبي، ثم دعوت لنفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: ((سل تعطه، سل تعطه)).
وعن أبي بن كعبٍ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحدٍ بدأ بنفسه.(1/200)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((كل أمر ذي بالٍ، لا يبدأ فيه بذكر الله، فهو أقطع))، وفي روايةٍ: ((أجذم))، ومعناه: مقطوع الخير والبركة.
وفي الغالب عند العرب إذا ذكروا الله في شيءٍ، ذكروا معه النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما في التشهد، والأذان، والإقامة، والخطبة، وجميع هذا.
وقال حسان:
قرن الإله اسم الرسول إلى اسمه ... إذ قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمودٌ وهذا محمد(1/201)
فصل [في الجهر والإسرار بالدعاء]
ولا يجهر بالدعاء؛ لقول الله -عز وجل-: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها}.
قال البخاري، عن عائشة: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها}، قالت: أنزل ذلك في الدعاء.
قال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)): ويكره رفع الصوت بالدعاء مطلقاً.
قال المروزي: سمعت أبا عبد الله يقول: ينبغي أن يسر دعاءه؛ لقوله: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها}، قال: هذا في الدعاء.
قلت: فكأنه رأى ما رأت عائشة.(1/203)
قال: وسمعت أبا عبد الله، يقول: وكان يكره أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء، لا سيما عند الحرب، وحمل الجنازة، والمشي بها.
وقيل: يسن أن يسمع المأمومين الدعاء، قدمه ابن تميمٍ، وقيل: مع قصد تعليمه، ولا يجب الإنصات في أصح الوجهين، ذكره ابن تميم، وابن حمدان، وقيل: خفض الصوت بالدعاء أولى.
وقال في ((المستوعب)): يكره رفع الصوت بالدعاء، وينبغي أن يخفي ذلك.
وقال الله -عز وجل-: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفيةً}.
وعن سعدٍ مرفوعاً: ((خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي)) رواه الإمام أحمد.
وقيل: إن سبب نزول: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ}: أنهم كانوا في غزاة، فرفعوا أصواتهم بالتكبير، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ((إنكم لا تدعون أصم، ولا أبكم؛ إنه سميعٌ قريبٌ، وهو معكم)).(1/204)
وقيل سبب نزولها: أنه جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أقريبٌ ربنا فنناجيه، أم بعيدٌ فناديه؟ فنزلت هذه الآية.
وفي ((الصحيحين))، عن أبي هريرة مرفوعاً: ((أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني))، ولأحمد وابن ماجه: ((وأنا مع عبدي إذا ذكرني، وتحركت بي شفتاه)).
والحكمة في إسرار الدعاء -والله أعلم-: أنه سرٌ بين العبد وبين ربه -عز وجل-، وربما يدعو الإنسان بما يعاب عليه، أو يستحقر عند غيره.(1/205)
فصل [في إخلاص الدعاء لله -عز وجل-]
ولا يخطر بباله إلا الله تعالى، وليخلص قلبه من الدنيا.
قال بعضهم: كل ما يلهي عن الله، فهو عليك شؤمٌ.
وقيل: إن عيسى -عليه السلام- مكث سبعين صباحاً يناجي ربه -عز وجل-، فلم يأكل شيئاً، فخطر بباله الأكل، فانقطعت عنه المناجاة، فقعد يبكي، فإذا شيخٌ قد أقبل، فقال له عيسى -عليه السلام-: ادع الله تعالى لي؛ فإني كنت في حالة، فخطر ببالي الأكل، فانقطعت عني تلك المناجاة، فقال الشيخ: اللهم إن كان خطر ببالي الأكل منذ عرفتك فلا تغفر لي.
وقال عبد الله الكناني: جاءني فقيرٌ فسألته عن حاله، فقال لي: إني مكثت عشرة أيامٍ لم آكل فيها شيئاً، فشكوت إلى بعضهم الجوع، ثم إني مررت ببعض الأزقة، فوجدت درهماً مطروحاً، فرفعته، فإذا عليه(1/207)
مكتوبٌ: أما كان الله عالماً بجوعك حتى قلت: إني جائعٌ.
اللهم لا تجعل قلوبنا مشتغلةً إلا بك، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، يا أرحم الراحمين.(1/208)
فصل [المعاصي تمنع إجابة الدعاء]
وإذا دعوة وكانت أعمالك قبيحةً، فعلى أي وجهٍ ترجو الإجابة؟ فأخلص القلب، وطهر النفس، وادع، فإذا فعلت ذلك استجيب دعاؤك.
قال الحافظ إبراهيم لبعض أصحابه وقد دعا: دعاء بلا عمل لا ينفع.
وقال معروفٌ الكرخي -رضي الله عنه-: أخرجوا الدنيا من قلوبهم، ولو كان في قلوبهم منها مثقال ذرةً، ما تقبل الله لهم سجدةً واحدةً.
وسئل سليمان الداراني: بأي شيءٍ تنال معرفته؟ قال: بطاعته، قيل له: بأي شيءٍ تنال طاعته؟ قال: به.
وأنشد بعضهم:
يا حسرة العاصين عند معادهم ... هذا وإن قدموا على الجنات
لو لم يكن إلا الحياء من الذي ... ستر القبيح لأعظموا الحسرات(1/209)
فصل [في العزم على الدعاء]
وليعزم الدعاء، ولا يتملق؛ لما روى أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولن: اللهم إن شئت فأعطني؛ فإنه لا مستكره له)).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني إن شئت؛ ليعزم المسألة؛ فإنه لا مكره له)).
وعنه -أيضاً- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ)).
وقال أبو يزيد البسطامي -رضي الله عنه-: حججت سنةً من(1/211)
السنين إلى بيت الله الحرام، فجعلت أدعو وأتملق، وإذا بهاتفٍ يقول: يا أبا يزيد! لو دعوت بهذا الدعاء ألف سنةٍ، وحججت ألف حجةٍ، ما قبلنا منك، ولا ذرةً واحدةً، فقلت: لماذا؟ قال: لأنك ترى عملك، ولا ترى من استعملك، فقلت: يا رب! إذا لم تقبل مني عبادتي ولا عبرتي؛ لأقطعن الوصال بيني وبينك، فقيل له: يا أبا يزيد! إن كان بيدك فاقطعه، نحن أوصلناك، ولو شئنا لقطعناك، فقلت: وعزتك، لا أبرح من حرمك حتى أعلم رضاك عني، فقيل له: لو يعلم العالم ما أعلمه من باطنك؛ لرجموك، فقلت: وعزتك وجلالك: لو يعلم العالم ما أعلمه من كرمك ما عبدوك، وإذا بهاتفٍ يقول: يا أبا يزيد! لا تقول، ولا نقول، أنت عندنا مقبولٌ.
والله أعلم بصحة هذا، وكل ما في الكتاب.(1/212)
فصل [التذلل والمسكنة في الدعاء]
وأعظم ما تكون إجابة الدعاء لمن طرده لناس، ولقي الله بالذلة والمسكنة؛ كما في قصة الذي طرده بنو إسرائيل المتقدمة.
وقال الجنيد -رحمه الله-: كان بجواري شرطيٌ، فلما مات، حمل إلى مسجدي لأصلي عليه، فامتنعت من الصلاة عليه؛ لما أعرف من ظلمه، فقلت: اصرفوه عني، فصرفوه، وصلوا عليه، ودفنوه، فرأيته تلك الليلة في منامي، وهو في قبةٍ خضراء، فقلت له: أنت فلانٌ الشرطي! قال: نعم، فقلت له: بم نلت هذه المنزلة؟ قال: بإعراضك عني، أقبل علي الجليل، وقال: أنا أقبل المطرودين.
وقال مالك بن دينارٍ: كان لي جارٌ مسرفٌ على نفسه، كثير الخطايا، قد تأذى الجيران منه، فأخبرته بذلك، وقلت له: اخرج من البلد، فقال: أبيع منزلي؟! فقلت: بع منزلك، فقال: لا أبيع ملكي، فقلت له: أشكوك إلى السلطان، فقال: أنا من أعوانه، فقلت: أنا أدعو عليك، فقال: إن الله(1/213)
أرحم بي منك، فهممت أن أدعو عليه، فهتف بي هاتفٌ: لا تدع عليه، فإنه وليٌ من أوليائي، فجئت إلى باب داره، فنظر إلي وظن أني أخرجه، فقام إلي كالمعتذر، فقلت: ما جئت إلى هذا، ولكن سمعت كذا وكذا، فوقع عليه البكاء، وقال: إني تبت مما كان مني.
اللهم إنا مطرودون من الخلق، فاقبلنا، ومن بابك نطلب لا من غيره، فاغفر لنا وارحمنا؛ فإن كان جناب الخلق ضاق عنا، فجنابك وسعنا، يا أرحم الراحمين.(1/214)
فصل [ترك بعض الزهاد الدعاء خوفاً وحياءً]
ولنذكر نبذة من أخبار من لم يدع من الحياء والخوف:
ذكر عن مالك بن أنسٍ، قال: صحبت جعفر الصادق، فلما أراد أن يلبي تغير وجهه، وارتعدت فرائصه، فقلت: مالك يا بن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: أردت أن ألبي، فقلت: وما توقفك؟ فقال: أخاف أن أسمع غير الجواب.
ووقف مطرف بن عبد الله وبكرٌ، فقال مطرفٌ: اللهم لا تردهم من أجلي، وقال بكرٌ: ما أشرفه من مقامٍ لولا أني فيه.
وعن الفضيل بن عياضٍ: أنه وقف بعرفة، والناس يدعون، وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة، فلما كادت الشمس تسقط، قبض على لحيته، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: واسوأتا منك وإن عفوت.(1/215)
وعن محبوبٍ تلميذٍ أبي الأديان، قال: ما رأيت رجلاً خائفاً إلا رجلاً واحداً، كنت واقفاً فرأيت شاباً مطرقاً منذ وقف الناس إلى أن سقط القرص، فقلت: يا هذا! ابسط يديك للدعاء، فقال لي: ثم وحشةٌ، فقلت له: هذا يوم العفو عن الذنوب، قال: فبسط يديه، ففي بسط يديه وقع ميتاً.
وعن عبد الله بن الجلاء، قال: كنت بذي الحليفة، وشابٌ يريد أن يخرج، فكان يقول: يا رب! أريد أن أقول لبيك، فأخشى أن تجيبني بلا لبيك، ولا سعديك، يردد ذلك مراراً، ثم قال: لبيك اللهم، مد بها صوته، وخرجت روحه.
وقيل: إن عبيدة الخواص -رضي الله عنه- لم يضحك أربعين سنة، ولا رفع رأسه إلى السماء؛ حياءً من الله تعالى.
وقال بعض السلف: إني لأستحي من الله أن أسأله الدنيا، وهو يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؛ -يعني: المخلوق-.(1/216)
وقال ابن رجبٍ في ((نور الاقتباس)): وكان السلف كثيراً يحافظون على الأيمان؛ فمنهم من كان لا يحلف بالله البتة.
وفي قصة موسى لما سأل الله -عز وجل- النظر إليه، ورقى إلى الجبل، ومرت عليه الملائكة، ثم نزل جبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في السبع سموات.
قال في ((التوابين)): قال إسرافيل: يا موسى! والله إنا لنحن رؤساء الملائكة، ولم نرفع أنظارنا نحو العرش منذ خلقنا؛ خوفاً وفرقاً، فما حملك أيها العبد الضعيف على هذا؟!
وقد روي هذا -أي: ترك الدعاء من الحياء- عن جماعةٍ من الزهاد.(1/217)
فصل [في أدعية ورد بها الشرع، مؤقتةً بالزمان والمكان]
ولنذكر نبذةً من الدعاء المقيد بوقتٍ، أو مكانٍ، أو حالٍ:
عند المساء: ((أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٍ، رب أسألك خير ما في هذه الليلة، وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة، وشر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل، وسوء الكبر، وأعوذ بك من عذابٍ في النار، وعذابٍ في القبر)).
ويقرأ: {قل هو الله أحدٌ}، والمعوذتين، ثلاث مرات.(1/219)
((اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
((بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض، ولا في السماء، وهو السميع العليم)) ((ثلاث مرات)).
((اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، عليك توكلت، وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أعلم أن الله على كل شيءٍ قديرٌ، وأن الله قد أحاط بكل شيءٍ علماً، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابةٍ أنت آخذٌ بناصيتها، إن ربي على صراطٍ مستقيمٍ)).
وعند النوم: ((باسمك اللهم أموت وأحيا))، ويقرأ المعوذتين، و{قل هو الله أحدٌ}، ويمسح ما استطاع من جسده، وآية الكرسي،(1/220)
والفاتحة، وفاتحة البقرة إلى {المفلحون}، و{إذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ}، وخاتمة البقرة، و{قل اللهم مالك الملك}، و{إن ربكم} في الأعراف إلى: {قريبٌ من المحسنين}، وخاتمة {سبحان}، ودعاء ذا النون، وفاتحة الصافات إلى: {لازب}، ومن الرحمن {يا معشر الجن}، وخاتمة الحشر.
وليقل: ((باسمك ربي وضعت جنبي، وباسمك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)).
ويسبح ثلاثاً وثلاثين، ويحمد مثل ذلك، ويكبر أربعاً وثلاثين.
((اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت)).
وعند القلق: ((اللهم رب السموات السبع، وما أظلت، ورب الأرضين السبع وما أقلت، ورب الشياطين وما أضللن، كن لي جاراً من شر خلقك كلهم أجمعين، أن يفرط علي أحدٌ منهم أو يبغي، عز جارك،(1/221)
وجل ثناؤك، ولا إله غيرك، ولا إله إلا أنت)).
((أعوذ بكلمات الله التامة، ومن غضبه، وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون)).
وإذا رأى ما يكره: ينفث عن يساره، ويستعيذ ثلاثاً.
وما يحب: يحمد الله.
وعن الانتباه: ((الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره)).(1/222)
((الحمد لله الذي بعثني سالماً سوياً، أشهد أن الله يحيي الموتى)).
((الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)). ((أصبحنا وأصبح الملك لله)).
((رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً)).
((اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أعلم أن الله على كل شيءٍ قديرٌ، وأن الله قد أحاط بكل شيءٍ علماً، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابةٍ أنت آخذٌ بناصيتها، إن ربي على صراطٍ مستقيمٍ)).(1/223)
وعند الخروج من المنزل: ((بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله)).
((اللهم إني أعوذ بك أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أزِلَّ أو أُزَلَّ، أو أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ، أو أَجْهَلَ أو يجهل علي)).
وعند الدخول: ((بسم الله، اللهم إني أسألك خير المولج، وخير المخرج، بسم الله ولجنا، على الله توكلنا))، ويسلم.
وعند دخول المسجد: ((بسم الله، اللهم صل على محمدٍ، اللهم افتح لي أبواب رحمتك)).(1/224)
((أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)).
وعند الخروج: ((اللهم إني أسألك من فضلك)).
وعند الأذان: يجيبه بمثل ما يقول إلا في قوله: ((حي على الصلاة، حي على الفلاح))؛ فإنه يزيد عليه ((لا حول ولا قوة إلا بالله)).
وبعد فراغه: ((اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، إنك لا تخلف الميعاد)).
ويجيبه في الإقامة: ويقول عند قوله: ((قد قامت الصلاة)): ((أقامها الله وأدامها، مادامت السموات والأرض)).(1/225)
وعند استفتاح الصلاة بالتكبير: ((سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)).
وبعد الصلاة: يستغفر ثلاثاً، ويقول: ((اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)).
((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)).
((لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله(1/226)
الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
ويحمد ويسبح ثلاثاً وثلاثين، ويكبر أربعاً وثلاثين.
وعند الاستخارة: يركع ركعتين، ويقول: ((اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، وقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به)).
وعند الكرب والحزن والهم: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم)).(1/227)
((يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث)).
ويقول: دعاء ذو النون.
وعند لقاء العدو وذي السلطان: ((اللهم إني أجعلك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم)).
((اللهم أنت عضدي، وأنت ناصري، وبك أقاتل)).
وعند وسوسة الشيطان: ((أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم؛ من همزه، ونفخه، ونفثه)).
وعند الإعجاب بالشيء: ((اللهم صل على محمد، لا حول ولا قوة إلا بالله، الحمد لله)).(1/228)
وعند المصيبة: ((إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها)).
وعند كثرة الدين: ((اللهم اغنني بجلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك)).
وعند باكور الثمر: ((اللهم بارك لنا في ثمرنا، ومدينتنا، وصاعنا، ومدنا)).
وعند إماطة الأذى عنه: يقول لمن أماطه: ((أخذت يداك خيراً)).
وعند تعس الدابة: ((بسم الله)).
وعند دخول السوق: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك(1/229)
وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حيٌ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قديرٌ)).
وعند رؤية أهل البلاء: ((الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً)).
وعند الغضب: يتعوذ، ويتوضأ، ويغير حاله.
وعند [القيام من] المجلس: ((سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله أنت أنت، أستغفرك وأتوب إليك)).
وإذا أراد أن يقوم: ((اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله(1/230)
الوارث منا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا)).
وعند الحريق: يكبر.
وعند صياح الديكة: ((اللهم إني أسألك من فضلك)).
وعند نهيق الحمير: ونباح الكلاب: يتعوذ.
وعند النكاح: ((الحمد لله نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من أطاع الله ورسوله؛ فقد رشد، ومن يعصهما؛ فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً {يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً}.(1/231)
{يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
{يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً}.
وإذا تزوج فليقل: ((اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها، وشر ما جبلتها عليه)).
وكذا إذا اشترى شيئاً.
وإذا أتى أهله: ((بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا)).
وعند من تلد: يقرأ آية الكرسي، و{إن ربكم الله} إلى آخر الآية،(1/232)
والمعوذتين، ويؤذن في أذنه اليمنى، ويقيم في أذنه اليسرى إذا ولد.
وعند العطاس: ((الحمد لله))، ويقول له من سمعه: ((يرحمكم الله))، ويقول هو: ((يهديكم الله ويصلح بالكم، ويدخلكم الجنة عرفها لكم)).
ويتعوذ عند التثاؤب.
وإذا عشي قال: ((الحمد لله)).
[و] إذا أكل طعام قومٍ: ((الحمد لله، اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم)).
((أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، وذكركم الله فيمن عنده)).
وعند إرادة الأكل: ((بسم الله)).(1/233)
وعند الفراغ: ((الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، ورزقنا من غير حولٍ منا ولا قوةٍ، وجعلنا مسلمين)).
((الحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مكفيٍ ولا مودعٍ، ولا مستغنى عنه ربنا)).
وعند نزوله منزلاً: ((أعوذ بكلمات الله التامات، من شر(1/234)
ما خلق)). ((يا أرض! ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك، وشر ما فيك، وشر ما خلق فيك، وشر ما يدب عليك، أعوذ بالله من أسدٍ وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والدٍ وما ولد)).
وعند دخول بلدٍ: ((اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، أسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، [وخير ما فيها]، وأعوذ بك من شرها، وشر أهلها، وشر ما فيها)).
وعند تفلت الدابة: ((يا عباد الله احبسوا)).
وعند ركوب الدابة الصعبة: {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في(1/235)
السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه ترجعون}.
وعند ركوب السفينة: {وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفورٌ رحيمٌ}، {وما قدروا الله حق قدره}، الآية.
وعند ركوب الدابة: ((الحمد لله، {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وإنا إلى ربنا لمنقلبون}.
الحمد لله، ((ثلاثاً)).
والله أكبر، ((ثلاثاً)).
سبحانك إني ظلمت نفسي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.(1/236)
وعند السفر: ((اللهم إني أسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل)).
وإذا رجع قالهن، وزاد فيهن: ((آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون)).
وإذا ودع إنساناً: ((أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه)).
وإذا ودعه إنسان: قال له: ((أستودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك)).
((ويسر لك الخير حيث كنت)).(1/237)
وعند الإفطار من الصيام: ((الحمد لله، اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم تقبل مني، إنك أنت السميع العليم)).
وعند رؤية الهلال: ((الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله)).
وعند نزول الغيث: ((مطرنا بفضل الله ورحمته)).(1/238)
وعند زيادة المطر: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر)).
وعند القحط: ((اللهم اسقنا غيثاً، مغيثاً، مريئاً، هنياً، مريعاً، نافعاً غير ضارٍ، عاجلاً غير آجلٍ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمةٍ، ولا سقيا عذابٍ، ولا بلاءٍ، ولا هدمٍ، ولا غرقٍ، اللهم إن بالعباد والبلاد من الأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك، إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً)).(1/239)
وعند سماع الرعد: ((سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته)).
وعند الصواعق: ((اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك)).
وعند هبوب الريح: ((اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به)).
وعند دخول المقابر: ((السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين)).
((اللهم لا تفتنا بعد[هم]، ولا تحرمنا أجرهم)).(1/240)
واغفر لنا ولهم برحمتك، ((نسأل الله لنا ولكم العافية)).
وعند دخول الخلاء: ((بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، ومن الرجس النجس، الشيطان الرجيم)).
ويسمي عند الوضوء. وإذا فرغ منه ومن الغسل قال: ((أشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين)).(1/241)
وفي قنوت الوتر: ((اللهم إنا نستعينك، ونستهديك، ونستغفرك، ونتوب إليك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحقٌ)).
((اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك؛ إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت)).
((اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)).(1/242)
والدعاء على الميت: ((اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم متقلبنا ومثوانا، وأنت على كل شيءٍ قديرٌ، اللهم من أحييته منا، فاحيه على الإسلام والسنة، ومن توفيته منا، فتوفه عليهما)).
((اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، وأوسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، [وأهلاً خيراً من أهله]، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب النار، وعذاب القبر)).
((وافسح له في قبره، ونور له فيه)).(1/243)
ويقال للصبي: ((اللهم اجعله ذخراً لوالديه، وفرطاً وأجراً وشفيعاً مجاباً، اللهم ثقل موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح السلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم)).
ويقول: من يدخل الميت: ((بسم الله، وعلى ملة رسوله)).
ويقال في التعزية: ((أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر(1/244)
لميتك)).
وللكافر إذا كان ميته مسلماً: ((أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك)).
وإذا كان ميته كافراً: ((أخلف الله عليك، ولا نقص عددك)).
وللمسلم إذا كان ميته كافراً: ((أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك)).
وعند دفع الزكاة: ((اللهم اجعلها مغنماً، ولا تجعلها مغرماً)).
وعند أخذ زكاة: ((آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهوراً)).
وعند رؤية البيت: ((اللهم أنت السلام، ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تعظيماً وتشريفاٌ، وتكريماً ومهابةً وبراً، وزد من عظمه وشرفه، ممن حجه واعتمره، تعظيماً وتشريفاً وتكريماً ومهابةً وبراً)).(1/245)
و((الحمد لله رب العالمين كثيراً كما هو أهله، وكما ينبغي لكريم وجهه، وعز جلاله، والحمد لله الذي بلغني بيته الحرام، ورآني لذلك أهلاً، والحمد لله على كل حالٍ، اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام، وقد جئتك لذلك، اللهم تقبل مني، واعف عني، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)).
وإذا استلم الحجر: ((بسم الله، والله أكبر، إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم)).
وبين الركنين: ((ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار)).
ويقول في الطواف: ((اللهم اجعله حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً،(1/246)
وذنباً مغفوراً، رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم)).
وإذا رقى على الصفا ورأى البيت: يكبر ثلاثاً، ويقول: ((الحمد لله على ما هدانا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حيٌ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيٍ قديرٌ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، لا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون)).
وعند الصخرات وجبل الرحمة: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حيٌ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قديرٌ)).(1/247)
((اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، ويسر لي أمري)).
وعند المشعر الحرام: ((اللهم كما وقفتنا فيه، وأريتنا إياه، فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا، كما وعدتنا بقولك، وقولك الحق))، ثم يقرأ: {فإذا أفضتم من عرفاتٍ} إلى {غفورٌ رحيمٌ}.
وإذا شرب من زمزم: ((بسم الله، اللهم اجعله لنا علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، ورياً وشبعاً، وشفاء من كل داءٍ، واغسل به قلبي، واملأه من خشيتك ورحمتك)).
وفي الملتزم: ((اللهم هذا بيتك، وأنا عبدك وابن عبدك، وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك، حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني، فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا(1/248)
أوان انصرافي، إن أذنت لي غير مستبدلٍ بك ولا ببيتك، ولا راغب عنك، ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في بدني، والصحة في جسدي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خير الدنيا والآخرة، إنك على كل شيءٍ قديرٌ)).
وعند الخروج إلى الصلاة: يقرأ: بسم الله {الذي خلقني فهو يهدين} الآيات إلى قوله: {إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ}، ويقول: ((اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا؛ فإني لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا رياءً، ولا سمعةً، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
وإذا حضر عند المريض: قرأ الفاتحة، وقال: ((أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يعافيك ويشفيك)) ((سبع مرات)).(1/249)
وبعدها: يرقيه بالفاتحة، ومما يرقي به: ((اللهم رب الناس، أذهب الباس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً)).
((بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا)).
وقد ذكرنا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، في الفصل الأول.(1/250)
فصل في أدعية ورد بها الشرع، ليست مؤقتةً بوقتٍ
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار)).
وروي عنه صلى الله عليه وسلم، أنه كان يدعو بهذا -أيضاً-: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم، والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال)).
وفي رواية: ((وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)).(1/251)
وعن أبي بكر -رضي الله عنه-، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: ((قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)).
وعنه صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا يتمنى أحدكم الموت من ضرٍ أصابه؛ فإن كان لا بد فاعلاً، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)).
ومن الأدعية التي وردت عنه:
((اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرٍ)).
((اللهم إني أعوذ بك من الكسل، والهم، والغم، [والمغرم]، والمأثم، اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار، وفتنة النار، وفتنة القبر، وعذاب القبر، وشر فتنة الغنى، وشر فتنة الفقر، وشر فتنة المسيح(1/252)
الدجال، اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب)).
((اللهم إني أعوذ بك من القسوة، والغفلة، والعيلة، والذلة، والمسكنة، وأعوذ بك من الفقر، والكفر، والفسوق، والشقاق، والسمعة، والرياء، وأعوذ بك من الصمم، والبكم، والجنون [والبرص، والجذام]، وسيئ الأسقام)).
((اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر))، يا أرحم الراحمين.
((اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، وقلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوةٍ لا يستجاب لها))، يا أرحم الراحمين.(1/253)
((اللهم إني أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت تضلني، أنت الحي لا تموت، والجن والإنس يموتون)).
((اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء))، يا أرحم الراحمين.
اللهم إني أعوذ بك من شر ما علمت، وشر ما لم أعلم.
((اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، وشر ما لم أعمل)).
((اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وموجبات نقمتك، وجميع سخطك))، يا أرحم الراحمين.
((اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي))، يا أرحم الراحمين.(1/254)
((اللهم إني أعوذ بك من الفقر، والفاقة، والذلة، وأعوذ بك من أن أظْلِمَ أو أُظْلَمَ))، يا أرحم الراحمين.
((اللهم أعوذ بك من المغرم، وأعوذ بك من التردي، وأعوذ بك من الغرق، والحرق، والهدم، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً))، يا أرحم الراحمين.
((اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء))، يا أرحم الراحمين.
((اللهم إني أسألك من الخير ما سألك منه نبيك محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وأعوذ(1/255)
بك من الشر ما استعاذ منه نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك)).
((اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي))، يا أرحم الراحمين.
((اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة؛ فإن جار الدنيا يتحول)).
((اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، وغلبة العدو، وشماتة الأعداء))، يا أرحم الراحمين.
((اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن دعاءٍ لا يسمع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن الجوع؛ فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة، فبئست البطانة، ومن الكسل، والبخل، والجبن،والهرم، ومن(1/256)
أن أرد إلى أرذل العمر، ومن فتنة الدجال، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، اللهم إني أسألك عزائم مغفرتك، ومنجيات أمرك، والسلامة من كل إثمٍ، والغنيمة من كل برٍ، والفوز بالجنة، والنجاة من النار))، يا أرحم الراحمين.
((اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء، ومن ليلة السوء، ومن ساعة السوء، ومن صاحب السوء، ومن جار السوء في دار المقامة))، يا أرحم الراحمين.
((اللهم إني أعوذ بك من البرص، والجنون، والجذام، وسيئ الأسقام))، يا أرحم الراحمين.
((اللهم أعنا على شكرك، وذكرك، وحسن عبادتك)) إلى أن نلقاك(1/257)
وأنت راضٍ عنا.
((اللهم إنا نسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى)).
((اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل برٍ، والسلامة من كل إثمٍ، والفوز بالجنة، والنجاة من النار)).
((اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك)).
((اللهم أوسع علينا من الرزق الحلال، وأعتق رقابنا من النار، واصرف عنا فسقة الجن والإنس)).
اللهم قنعنا بما رزقتنا، وبارك لنا فيه، ويسر علينا تناوله، ولا تجعلنا في رزقنا خولاً لغيرك، ولا تحرمنا خير ما عندك، بشر ما عندنا، اللهم ارزقنا رزقاً حلالاً واسعاً، لا يكون لأحدٍ علينا فيه منةٌ، ولا لك علينا فيه تبعةٌ، يا أرحم الراحمين.(1/258)
اللهم فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به، ولا تخزنا ونحن نسألك، ولا تعذبنا ونحن نستغفرك، اللهم عافنا وعاف مرضانا، وعاف مرضى المسلمين، ونفس كربنا، وكرب المكروبين، وفرج همنا، وهم المهمومين، وأوف ديننا، ودين المدينين، واكتب السلامة على الحجاج، والغزاة، والمسافرين، في برك وبحرك أجمعين، يا أرحم الراحمين.
اللهم تب علينا، وعلى العصاة والمذنبين، واقبل توبتنا، وتوبة التائبين، وفك أسر المأسورين والمأسورات؛ من المسلمين والمسلمات، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وعساكر الموحدين، واخذل الكفرة، والمشركين، وأذلهم وانصرنا عليهم، واشف صدور قلب قومٍ مؤمنين، يا أرحم الراحمين.(1/259)
فصل في دعوة المظلوم
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ودعوة المظلوم، وإن كان كافراً)).
وفي الحديث: ((إياكم ودعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجابٌ)).
وروى البخاري، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له يدعى هنياً على الحمى، فقال: يا هني! اضمم جناحك عن المسلمين، واتق دعوة [المظلوم]؛ فإن دعوة المظلوم مستجابةٌ)) وذكر بقية الحديث.
وروى -أيضاً- عن أبي سلمة بن عبد الرحمن -وكانت بينه وبين(1/261)
أناسٍ خصومةٍ في أرضٍ-، فدخل على عائشة فذكر لها ذلك، فقالت: يا أبا سلمة! اجتنب الأرض؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من ظلم قيد شبرٍ، طوقه من سبعٍ أرضين)).
وفي البخاري -أيضاً- عنه صلى الله عليه وسلم، قال: ((من أخذ شيئاً من الأرض بغير حقه؛ خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين)).
وفي الترمذي، عنه صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه، حتى يسأل عن خمسٍ: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟)) قال: حديثٌ غريب.
وحكي في بعض الإسرائليات على زمن موسى -عليه السلام-: أنه كان رجلٌ صيادٌ يصيد السمك، ويقوت منه أطفاله وزوجته، فخرج يوماً،(1/262)
فوقعت في شبكته سمكةٌ كبيرةٌ؛ ففرح بها، وأخذها ومضى إلى السوق؛ ليبيعها، ويصرف ثمنها في مصالح عياله، فلقيه بعض العوانية، فرأى السمكة معه، فأخذها، فمنعه الصياد، فضربه بخشبةٍ كانت في يده ضربةً موجعةً على رأسه، وأخذ السمكة منه غصباً بغير عوضٍ، فدعا الصياد عليه، فقال: إلهي! خلقتني ضعيفاً، وخلقته قوياً عنيفاً، فخذ حقي منه عاجلاٌ، فقد ظلمني، ولا صبر لي إلى الآخرة، ثم إن ذلك انطلق بالسمكة إلى منزله، وسلمها إلى زوجته، وأمرها أن تشويها، فلما شوتها ووضعتها بين يديه على المائدة ليأكل منها، فتحت فاها ونكزت أصبعه نكزةً أطارت بها قراره، فقام وشكا إلى الطبيب ألم يده، وما حل به، فقال: دواها أن يقطع الأصبع؛ لئلا تسري إلى الكف، فقطعها وانتقل إلى اليد، فقال له الطبيب: ينبغي أن تقطع اليد فقطعها، فانتقل إلى الساعد، فخرج هائماً على وجهه، مستغيثاً إلى ربه، فرأى شجرةً فقصدها، فأخذه النوم، فنام تحتها، فرأى في منامه قائلاً يقول له: يا مسكين! إلى كم تقطع أعضاءك! امض إلى خصمك الذي ظلمته فأرضه، فانتبه من النوم، فقال: خصمي الصياد، فدخل المدينة وطلبه، واستحل منه وأرضاه، وتاب توبةً نصوحاً، وبات تلك الليلة، ففي اليوم الثاني، تداركه الله بلطفه ورحمته، فرد يده كما كانت، ونزل الوحي على موسى: يا موسى! لولا أن ذلك رضي عن خصمه؛ لعذبته ما امتدت به حياته.
ولابن نباتة -رحمه الله تعالى-:
ألا رب ذي ظلمٍ كمنت لظلمه ... فأوقعه المقدار أي وقوع(1/263)
وما كان لي إلا سلاح تركعٍ ... وأدعيةٌ لا تتقى بدروع
وهيهات أن ينجو الظلوم وخلفه ... سهام دعاءٍ من قسي ركوع
مريشةٌ بالهدب من جفن ساهرٍ ... منصلةٌ أطرفاها بنجيع
وسمعت أن الشيخ عبد الرحمن أبو شعرٍ -رحمه الله- كان يتمثل بهذه الأبيات، ويحض عليها.
قال ابن عقيلٍ في ((الفنون)): حكي أن بعض الوزراء ظلم رجلاً، فقال له الرجل: اتق الله، وكف عني، وإلا دعوت الله عليك، فقال له الوزير: ادع بما شئت، فما مضى إلا أيامٌ حتى قبض على الوزير وعذب، فكتب إليه الرجل بهذين البيتين:
سهام الليل لا تهدي ولكن ... لها أمدٌ وللأمد انتهاء
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ... تأمل فيك ما فعل الدعاء
قال مالك بن دينارٍ: من أراد السلامة، فلا يظلمن أحداً، فقيل له في ذلك، فقال: بينا أنا أمشي على الساحل، إذ رأيت صياداً ومع سبعة(1/264)
أنوان، فأخذت منه نوناً، وهو كارهٌ، بعد أن ضربته على رأسه، فعض النون على إبهامي، واتفقت الأطباء على قطعه، ووقعت الأكلة في كفي وسائر عضدي، فخرجت أسيح في الأرض، وأريد قطع يدي، فأويت إلى شجرةٍ، فنمت تحتها، فقيل لي: لأي شيءٍ تريد قطع يديك؟! رد الحق إلى أهله، فانتبهت وجئت إلى الصياد، وقلت: أخطأت، ولا عود، فقال لي: ما عرفك؟ فقصصت عليه قصتي، وتضرعت إليه، فأحلني، فقمت قائماً على قدمي، والدود يتناثر على عضدي، وسكن الوجع بإذن الله -عز وجل-، فقلت له: يا أخي! بأي شيءٍ دعوت علي؟ قال: لما ضربتني وأخذت السمكة مني، نظرت إلى السماء، وبكيت بكاءً شديداً، وقلت: يا رب! أسألك أن تجعله عبرةً لخلقك.
والتزق رجلٌ إلى الظلمة سنة إحدى وستين، وظلم الناس ظلماً زائداً، ففي سنة اثنتين وستين قبض عليه، وجرى له ما لم يجر لأحدٍ، من أخذ ماله ونفسه، وما أشبه ذلك.
وقيل: إن نملةً دبت على ذيل سليمان -عليه السلام-، فأخذها وألقاها، فنادت النملة بفرط الألم، فقالت: يا نبي الله! ما هذه السطوة؟ أظهرت القوة على ضعفي، وهو مطلعٌ على ما فعلت بي، فكن على أهبةٍ لجواب السؤال على ظلمي، أوهنت عظمي، فهبط الأمين جبريل -عليه السلام-، وقال: يا نبي الله! الحق يقرئك السلام، ويقول لك: وعزتي وجلالي؛(1/265)
لئن لم تطلب العفو من النملة؛ لأطالبنك بذنبها يوم القيامة!. وهذه الحكاية نقلتها من كتابٍ ليس يعتمد عليه.
وقيل: أوحى الله -عز وجل- إلى داود -عليه السلام-: يا داود! قل لبني إسرائيل: من ظلم امرأةً، أو صبيةً، أو من يعقل بحبةٍ في الميزان؛ كويته مقدارها في النار، يا داود! وعزتي وجلالي، لأوقفن الخصماء موقف الخصماء، ولأحضرنهم يوم القيامة، ولأسألنهم عن القليل، والكبير، والفتيل، والنقير، والقطمير، والأعمى من عمي عن حجته {ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ}، وما فرطت رسلي، ولقد بلغت ما وصيت إليها، وأنا شاهدٌ، وكفى بي أعظم الشاهدين.
وقال كهمس بن الحسن -رحمه الله- أذنبت ذنباً، وأنا أبكي عليه، فقيل له: وما هو؟ فقال: زارني أخٌ لي، فقدمت له سمكاً، فلما فرغ من أكله، قمت إلى حائطٍ لجاري، فأخذت منه قطعة طينٍ أغسل بها يدي، فأنا أبكي على ذلك أربعين سنةً.
وقيل: إن عيسى-عليه السلام- مر بمقبرةٍ فنادى رجلاً(1/266)
فأحياه الله تعالى، فقال له عيسى -عليه السلام-: ما كنت تعمل في دار الدنيا؟ فقال: كنت حمالاً أحمل على رأسي فأتقوت، فحملت ذات يومٍ لإنسانٍ حطباً، فكسرت منه خلالاً، فتخللت به، فلما مت أوقفني بين يديه، وقال: يا عبدي! أما علمت أني موقفك بين يدي؟ فلانٌ اشترى حطباً بماله، وأعطاك الكراء لتؤديه إلى منزله، فأخذت منه حطبةً لا تملكها، أستوهنت بأمري؟! فسألتك يا روح الله، بالله إلا ما شفعت لي عند الله -عز وجل-؛ فإني في الحساب منذ أربعين سنة.
وقال الحسن -رضي الله عنه-: إن الرجل ليتعلق بالرجل يوم القيامة، فيقول: بيني وبينك الله، فيقول: والله ما أعرفك، فيقول: أنت أخذت طينةً من حائطي، وآخر يقول: أنت أخذت خيطاً من ثوبي.
وقيل: إن حسان بن أبي سنانٍ كان لا ينام الليل، ولا يأكل سميناً، ولا يشرب بارداً، فلما مات، رئي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: أنا محبوسٌ عن الجنة، بإبرةٍ استعرتها، فلم أردها إلى صاحبها.(1/267)
فصل [فيما يفعل من أكل حراماً دون علمه]
وإذا أكل مالاً مغصوباً أو حراماً، ولم يعلم؛ فإن علم وهو في جوفه قاءه، وإن علم بعد ذلك استحل من صاحبه.
ففي ((صحيح البخاري))، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: كان لأبي بكرٍ غلامٌ يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ فقال: كنت تكهنت لإنسانٍ في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني، فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأخذ أبو بكر يده، فقاء كل شيءٍ في بطنه.(1/269)
ففي هذا الحديث: دليل على ما تقدم.
وفيه -أيضاً-: دليلٌ على أنه لا يضارب من أطعمه، ولا يضر به، ولا يشوش عليه الكلام، ولا غيره.(1/270)
فصل [في طيب المطعم، واجتناب الحرام، واتقاء الشبهات]
فإن شك في المال، هل هو حرامٌ أم لا؟ تركه، ولم يقربه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)).
وقال حسان بن أبي سنان: ما رأيت شيئاً أهون من الورع ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)).
قال شيخنا -رحمه الله- مرةً: صدق، هذا حلالٌ فكله، وهذا حرامٌ فلا تأكله، وما أرى أنا على كلمةٍ أشد منها، وذلك أن كل ما حصل للإنسان من ريبةٍ فلا يقربه.(1/271)
وفي ((صحيح البخاري))، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اشترى رجلٌ من رجل عقاراً له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرةً فيها ذهبٌ، فقال الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض، ولم أبتع الذهب، وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجلٍ، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولدٌ؟ قال أحدهما: لي غلامٌ، وقال الآخر: لي جاريةٌ، فقال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه، وتصدقا)).(1/272)
فصل [في الأخذ على يد الظالم]
قال بعض الحكماء: احفظ أربع خصالٍ، تنج بها من كل شيءٍ: فأولها عينيك، ولسانك، وقلبك، [وهواك]؛ فعينيك لا تنظر بهما إلى ما لا يحل لك، ولسانك لا تقل به شيئاً تعلم أن الحق بخلافه، وقلبك لا يكن فيه غلةٌ ولا عداوةٌ لأحدٍ من المسلمين، وهواك لا تنظر به إلى شيءٍ من الشر، فإن لم يكن فيك شيءٌ من هذه الخصال، وإلا فاجعل الرماد على رأسك، واعلم أنك هلكت.
وفي كتاب ((الزهد)) للإمام أحمد: أن رجلاً من إخوان فضيل بن عياض -من أهل خراسان- قدم مكة، فجلس إلى الفضيل في المسجد الحرام يحدثه، ثم قام الخراساني يطوف، فسرقت منه دنانير -ستين أو سبعين-، فخرج الخراساني يبكي، فقال له الفضيل: مالك؟ فقال: سرقت الدنانير، قال: عليها تبكي؟ قال: لا، مثلتني وإياه بين يدي الله -عز وجل-، فأشرف عقلي على إدحاض حجته، فبكيت رحمةً له.(1/273)
فهذا رحم الظالم، وممن رحم الظالم -أيضاً- أشياء كثيرة؛ كما روي عن بعضهم: أنه خطفت عمامته، فبقي بعدو خلفه ويقول: أبرأت ذمتك منها، فقل: قبلت، فقيل له: فقال: مني يأخذه حلالاً.
وجرى لآخر مثل هذا، فقيل له: فقال: لأن هذا منكر، فإذا أبرأته منها؛ فقد أزلت المنكر.
وسرق لبعض المتقدمين شيءٌ، فحزن عليه، فذكر ذلك لبعض العارفين، فقال له: إن لم يكن حزنك على أنه قد صار في هذه الأمة من يعمل هذا العمل، أكثر من حزنك على ذهاب مالك، لم تؤد النصيحة إلى الله -عز وجل- في عباده إليه-أو كما قال-.
وخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث أبي أمية المخزومي، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أتي بلصٍ قد اعترف، ولم يوجد معه متاعٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما إخالك سرقت!))، قال: بلى؛ فأعاد عليه مرتين، أو ثلاثاً، فأمر به فقطع، وجيء به، فقال: استغفر الله، وتب إليه، فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال: ((اللهم تب عليه)) ((ثلاثاً)).
وممن علم ظالمه، وقدر عليه، ولم يؤاخذه، ما جرى لشيخنا الشيخ(1/274)
زين الدين ابن الحبال: أنه كان في بعض بساتين الشام هو وأخوه، فجاء، فلقيهما أناسٌ، فعروهم، وأخذوا ما عليهما، ثم عرف واحداً منهم، ولم يقل له شيئاً واحداً، وأخبرني هو بهذا الخبر.
قلت له: عرفته؟ قال: نعم، هو في المجزرة، قلت له: وما قلت له؟ قال: قلت له: تب إلى الله تعالى، ولا تعد، وعرفته، قلت له: من هو؟ قال: ما كنت لأهتكه، وما أظنه دعا عليه، بل دعا له.
وأعجب من هذا: حكاية الوزير ابن هبيرة، قال ابن الجوزي، كنا بمجلس الوزير يملي علينا كتابه ((الإفصاح))، فبينما نحن كذلك؛ إذ قدم رجلٌ ومعه رجلٌ ادعى عليه أنه قتل أخاه، فقال له: أقتلته؟ قال: نعم؛ جرى بيني وبينه كلام، فقتلته، قال الخصم: سلمه إلي حتى أقتله، فقد أقر بالقتل، فقال: أطلقوه، قالوا: كيف ذلك، وقد قتل أخانا؟ فقال: أتبيعونه؟ فاشتراه منهم بست مئة دينارٍ، وسلم الذهب إليهم، وذهبوا، وقال للقاتل: اقعد عندنا لا تبرح، قال: فجلس عندهم، وأعطاه خمسين ديناراً، قال: فقلنا للوزير: لقد أحسنت إلى هذا، وعملت معه أمراً عظيماً، وبالغت في الإحسان إليه؟! فقال الوزير: منكم أحدٌ يعلم أن(1/275)
عيني اليمين لا أبصر بها شيئاً؟ فقلنا: معاذ الله، فقال: بلى والله، أتدرون سبب ذلك؟ قلنا، لا قال: هذا الذي خلصته من القتل، جاء إلي وأنا في الدور، ومعي كتابٌ في الفقه أقرأ فيه، ومعه سلة فاكهةٍ، فقال: احمل هذه السلة، قلت له: ما هذا شغلي، فاطلب غيري، فشاكلني ولكمني، فقلع عيني ومضى، ولم أره بعد ذلك إلى يومي هذا، فذكرت ما صنع لي، فأردت أن أقابل إساءته إلي بإحسانٍ مع القدرة.
وفي ((صحيح البخاري))، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي برجلٍ قد شرب، فقال: ((اضربوه))، فضربوه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقولوا هكذا، لا تعينوا الشيطان عليه)) -وفي رواية أيضاً-: ((لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم)).
وخرجه النسائي بمعناه وزاد: ((ولكن قولوا: رحمك الله)).
وخرجه أبو داود، وعنده: ((ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه)).(1/276)
وخرج البخاري -أيضاً-، من حديث عمر بن الخطاب: أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك منه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشرب، فأتي به يوماً، فأمر به فجلد، فقال رجلٌ من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تلعنوه، والله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله)).(1/277)
فصل [في الصبر على الظالم، واحتساب ظلمه]
ولا يدع على الظالم، والصبر عن الدعاء عليه أولى؛ كما في قصة الإمام أحمد لما ضرب، فقيل له: ألا تدعو عليهم؟ فقال: ليس بصابرٍ من دعا على ظالمٍ.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن سب السارق، والدعاء عليه.
وخرج أبو داود، من حديث عائشة -رضي الله عنها-: أنها سرقت ملحفةٌ لها، فجعلت تدعو على من سرقها؛ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: ((لا تسبخي عنه))، قال أبو داود: ((لا تسبخي))؛ يعني: لا تخففي.
وخرجه الإمام أحمد، من وجهٍ آخر، عن عائشة، قالت: سرقت لحفتي، فدعوت الله على صاحبها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبخي عليه، دعيه بذنبه)).(1/279)
وفي ((مسند الإمام أحمد)) -رضي الله عنه-، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً)).
فإن دعا على من ظلمه بالعدل جاز، وكان مستوفياً لبعض حقه منه، وإن اعتدى عليه في دعائه لم يجز.
وروى ابن عباسٍ في قوله: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم}، قال: لا يحب أن يدعو أحدٌ على أحدٍ، إلا أن يكون مظلوماً؛ فإنه قد رخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: {إلا من ظلم}، ((ومن صبر فهو خيرٌ)).
قال الحسن: قد رخص له أن يدعو على من ظلمه، من غير أن يتعدى عليه.
وروي عنه قال: لا تدع عليه، ولكن قل: اللهم أعني عليه، واستخرج حقي منه.
ومن العارفين من كان يرحم الظلمة، فربما دعا له.(1/280)
وسرق لبعضهم شيءٌ، فقيل له: ادع عليه، فقال: اللهم إن كان فقيراً؛ فأعنه، وإن كان غنياً؛ فأجمل بقلبه.
وقال إبراهيم التيمي: إن الرجل ليظلمني؛ فأرحمه، فقيل له: كيف ترحمه وهو يظلمك؟ فقال: إنه لا يدري لسخط من يتعرض.
وآذى رجلٌ أيوب السختياني وأصحابه أذىً شديداً، فلما تفارقوا، قال أيوب: إني لأرحمه، إنا نفارقه وخلقه معه.
وقال بعضهم: لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك؛ فإنما يسعى في مضرته ونفعك.
وقيل لبعض السلف الصالح: إن فلاناً يقع فيك، فقال: لأغيظن من أمره، يغفر الله لي وله، قيل: من أمره؟ قال: الشيطان.
وقال الحجاج بن فرافصة: بلغنا أن في بعض الكتب: من استغفر لظالمه، فقد هزم الشيطان.(1/281)
وقال الفضيل بن عياضٍ: حسناتك من عدوك، أكثر منها من صديقك، إن عدوك يغتابك، فيدفع إليك من حسناته الليل والنهار، فلا ترض، حتى إذا ذكر بين يديك، تقول: اللهم أهلكه، لا بل ادع الله له، اللهم أصلحه، اللهم راجع به، فيكون الله يعطيك أجر ما دعوت؛ فإن قال الرجل: اللهم أهلكه، فقد أعطى الشيطان سؤله؛ لأن الشيطان إنما يدور منذ خلق الله آدم على هلاك الخلق.
وقال بعض السلف: لولا أن الناس يدعون على ملكهم، لعجل لملوكهم العقاب -أو معنى هذا-. يشير إلى أن دعاء الناس عليهم استيفاءٌ منهم لحقوقهم من المظالم أو بعضها، فبذلك يدفع عنهم العقوبة.
وفي البخاري، عن شقيقٍ، قال عبد الله: ((كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون)).
وعن خبابٍ، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو متوسدٌ بردةً، وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدةً، فقلت: [يا رسول الله!] ألا تدعو الله؟! فقعد وهو محمرٌ وجهه، فقال: ((لقد كان من قبلكم يمشط بمشاط الحديد، ما دون عظمه من لحمٍ أو عصبٍ ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على فرق رأسه فيشق باثنتين، ما يصرفه ذلك عن دينه،(1/282)
وليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، ما يخاف إلا الله -عز وجل-)) زاد بيان: ((والذئب على غنمه)).(1/283)
فصل [في ذكر بعض ما ورد من التشديد في الظلم، والتحذير منه]
والظلم تارةً يكون في النفس، وأشده الدماء، وتارةً في المال، وتارةً في الأعراض، ولهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: ((إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرامٌ؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا)).
وفي رواية: ثم قال: ((ألا فاسمعوا مني تعيشوا، ألا لا تظالموا، ألا لا تظالموا، ألا لا تظالموا، إنه لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ، إلا عن طيب نفسٍ منه)).
وفي ((صحيح مسلم))، عنه صلى الله عليه وسلم، قال: ((كل المسلم على المسلم حرامٌ؛ دمه، وماله، وعرضه)).(1/285)
وفي حديث عمارٍ: ((أعوذ بك اللهم أن أظْلِمَ أو أُظْلَمَ)).
وخرج أبو داود، وغيره، من حديث أم سلمة، قالت: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء، فقال: ((اللهم إني أعوذ بك أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أَزِلَّ أو أُزَلَّ، أو أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ، أو أَجْهَلَ أو يجهل علي)).
وخرجه الترمذي وصححه، ولفظه: ((اللهم إني أعوذ بك أن نزل، أو نضل، أو نَظْلِمَ، أو نُظْلَم، أو نجهل، أو يجهل علي)).
قال ابن رجبٍ في ((شرح حديث لبيك)): من سلم من ظلم غيره، وسلم الناس من ظلمه؛ فقد عوفي، وعوفي الناس منه.
وكان بعض السلف يدعو: اللهم سلمني، وسلم مني.(1/286)
والظلم أعم من العدوان، وقد فرق الله -عز وجل- بين الظلم والعدوان في قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً. ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً}.
وفرق ابن رجب بينهما:
بأن الظلم: ما كان بغير حقٍ، أو استحقاق لشرٍ منه، وقتل نفسٍ لا يحل قتلها.
والعدوان: مجاوزة الحدود وتعديها فيما أصله مباحٌ؛ مثل: أن يكون له على أحدٍ حقٌ من مالٍ، أو دمٍ، أو عرضٍ؛ فيستوفي أكثر منه، فهذا هو العدوان، وهو تجاوز ما يجوز أخذه، وهو من أنواع الربا المحرمة، وقد ورد: ((السبتان بالسبة ربا)).
والظلم المطلق: أخذ ما ليس له أخذه، ولا أخذ شيءٍ منه من مالٍ، أو دم، أو عرضٍ، وكلاهما في الحقيقة ظلمٌ.
وقد حرم الله الظلم؛ ففي ((الصحيح))، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(1/287)
((يقول الله -عز وجل-: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)).
وفي ((الصحيحين))، عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((الظلم ظلماتٌ يوم القيامة)).
وفيهما، عنه صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته))، ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمةٌ}.
وفي ((صحيح البخاري)): عنه صلى الله عليه وسلم، قال: ((من كانت عنده مظلمةٌ لأخيه، فليتحلله [منها]؛ فإنه ليس ثم دينارٌ ولا درهمٌ، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته؛ فإن لم يكن له حسناتٌ، أخذ من سيئات أخيه، فطرحت عليه)).
وفي ((صحيح مسلمٍ)): عنه صلى الله عليه وسلم، قال: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس من لا درهم له، ولا متاع، قال: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ، وصيامٍ، وزكاةٍ، ويأتي وقد شتم هذا، [وقذف(1/288)
هذا]، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيقضي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من سيئاتهم فطرح عليه، ثم طرح في النار)).
وفي الحديث: ((لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)).
وفي حديث عبد الله بن أنيسٍ: ((وليسألن الحجر لم نكب الحجر، وليسألن العود لم خدش صاحبه)).
وقال بعضهم:
فخف القضاء غداً [إذا] وفيت ما ... كسبت يداك اليوم بالقسطاس
في موقف ما فيه إلا شاخصٌ ... أو مهطعٌ أو مقنعٌ للراس
أعضاؤهم فيه الشهود وسحتهم ... نارٌ وحاكمهم شديد الباس(1/289)
إن تمطل اليوم الحقوق مع الغنى ... فغداً تؤديها مع الإفلاس
ظلم العباد شر مكتسبٍ؛ لأن الحق لآدمي مطبوعٌ على الشح، فلا يترك من حقه شيئاً، لا سيما مع شدة حاجته يوم القيامة؛ فإن الأم تفرح يومئذٍ إذا كان لها حقٌ على ولدها لتأخذه منه، ومع هذا، فالغالب أن الظالم تعجل له العقوبة في الدنيا، وإن أمهل، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته))، ثم تلا: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمةٌ إن أخذه أليمٌ شديدٌ}.
كان بعض أكابر التابعين، قال لرجلٍ: يا مفلس! فابتُلي القائل بالدين والحبس بعد أربعين سنة. وضرب رجل أباه وسحبه إلى مكان، فقال رجل رآه: إلى هنا رأيت هذا مضروباً، قد ضربه الله فكبه.
وصادر بعض وزراء الخلفاء رجلاً وأخذ منه ثلاثة آلاف دينارٍ، فبعد مدةٍ غضب الخليفة على الوزير وطلب منه عشرة آلاف دينارٍ، فجزع أهله من ذلك، فقال: ما يؤخذ مني أكثر من ثلاثة آلافٍ، كما كنت ظلمت، فلما أدى ثلاثة آلاف دينارٍ، وقع الخليفة بالإفراج عنه.(1/290)
وقد سمعت من امرأة، وما أدري هل ذلك صحيحٌ أم لا، أن شيخاً كان ماراً، فجاء صبيٌ فقال له: بخ؛ ليفزعه، فتأخر، فوقع، فلما صار الصبي شيخاً جاءه صبيٌ، فعمل معه مثل ذلك، فقال: يا رب! حتى بخ لم تتركها لي؟!
وتارةً يعجل الله العقوبة للظالم، كما في قضية صاحب السمكة التي تقدمت، وجميع ما في القسم الأول.
وتارةً يؤخرها إلى الآخرة، فسبحان من هو قائمٌ على كل نفسٍ بما كسبت {إن ربك لبالمرصاد}، حكمٌ عدلٌ لا يجور، وإنما يجازي بالعدل، وميزان عدله لا يحابي أحداً، بل تتجوز فيه مثاقيل الذر، ومثاقيل الخردل، وكما تدين تدان، وكل ما فوق التراب ترابٌ.
وقال بعضهم:
فجانب الظلم لا تسلك طريقته ... عواقب الظلم تخشى وهي تنتظر
وكل نفس ستجزى بالذي عملت ... وليس للخلق من دنياهم وزر
وربما يكون الغصب يكفر الذنوب، قال ابن رجبٍ في كتاب ((ما يروى عن أهل المعرفة والحقائق)): والمراد: أن من ذهب له مالٌ(1/291)
بسرقةٍ ونحوها؛ فإن ذهابه من جملة المصائب الدنيوية، والمصائب كلها كفارةٌ للذنوب، والصبر عليها، يحصل به للصابر الأجر الجزيل، وفي حصول الأجر له بمجرد المصيبة، خلافٌ مشهورٌ بين العلماء.
فإذا كانت المصيبة من فعل آدميٍ ظالمٍ؛ كالسارق والغاصب ونحوهما؛ فإن المظلوم يستحق أن يأخذ يوم القيامة من حسنات الظالم؛ فإن لم تكن له حسناتٌ طرحت من سيئات المظلوم عليه؛ فإن دعا المظلوم على الظالم في الدنيا، فقد استوفى منه بدعائه بعض حقه، فخف وزر الظالم بذلك.
فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة في الحديث السابق: أن تصبر فلا تدعو عليه؛ فإن ذلك يخفف عنه.
وخرج الترمذي من حديث عائشة -رضي الله عنها-، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من دعا على من ظلمه فقد انتصر)).(1/292)
وروى الليث، عن طلحة: أن رجلاً ظلم رجلاً، فقال: اللهم إن كان ظلمني فأشقه، فقال له مسروقٌ: قد استوفيت.
وقال مجاهد: لا تسبن أحداً؛ فإن ذلك يخفف عنه، ولكن أحب لله بقلبك، وأبغض لله بقلبك.
وقال سالم بن أبي الجعد: الدعاء قصاصٌ.
وشكا رجلٌ إلى عمر بن عبد العزيز رجلاً ظلمه، وجعل يقع فيه، فقال له عمر: إنك أن تلقى الله ومظلمتك كما هي، خيرٌ لك من أن تلقاه وقد استقضيتها.
وقال -أيضاً-: بلغني أن الرجل ليظلم المظلمة، فلا يزال المظلوم يشتم الظالم، وينقصه حتى يستوفي حقه، ويكون للظالم الفضل عليه.
فالمسكين الظالم، يا ويحه يوم العرض، يوم لا يمكن الاستدانة، كلا! ولا القرض، يوم يحرقه تحريق الأرض، وقد صار على يديه يعض، فالدنيا دار فناء، وعبادةٍ وعناء، فلا تجعلوها دار ظلم، ومأمناً، فكأنك(1/293)
بالظالم، قد دفن في رمسه، وراح أمسه، ولا ينفعه ديناره ولا فلسه، كلا! ولا داره ولا غرسه، وقد طال تحت الأرض سجنه وحبسه، وضاق عليه قبره ورمسه.
قال بعضهم:
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا ... واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا ... لقطاً وتلحق أخرانا بأولانا
في كل يومٍ لنا ميتٌ نشيعه ... نرى بمصرعه آثار موتانا
يا نفس مالي وللأموال أتركها ... خلفي وأخرج من دنياي عريانا
أبعد خمسين قد قضيتها لعباً ... قد آن أن تقصري قد آن قد آنا
ما بالنا نتعامى عن مصائرنا ... ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا
نزداد حرصاً وهذا الدهر يزجرنا ... كأن زاجرنا بالحرص أغرانا
أين الملوك وأبناء الملوك ومن ... كانت تخر له الأذقان إذعانا
صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا ... مستبدلين من الأوطان أوطانا
خلوا مدائن كان العز مفرشها ... واستفرشوا حفراً غبراً وقيعانا
يا راكضاً في ميادين الهوى مرحاً ... ورافلاً في ثياب الغي نشوانا
مضى الزمان وولى العمر في لعبٍ ... يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانا
وقال غيره:
يا رب هيئ لنا من أمرنا رشداً ... واجعل معونتك الحسنى لنا مددا(1/294)
ولا تكلنا إلى تدبير أنفسنا ... فالعبد يعجز عن إصلاح ما فسدا
اللهم لولا أنك بالفضل تجود، ما كان عبدك إلى الذنب يعود، ولولا محبتك للغفران، ما أمهلت من يبارزك بالعصيان، وأسبلت سترك على من أسبل ذيل النسيان، وقابلت إساءتنا منك بالإحسان.
إلهي ما أمرتنا بالاستغفار، إلا وأنت تريد المغفرة، ولولا كرمك ما ألهمتنا المعذرة، أنت المبتدي بالنوال قبل السؤال، والمعطي من الأفضال فوق الآمال، ولا نرجو إلا أفضالك وغفرانك، ولا نطلب إلا إحسانك، وإن عصيتك رجعت إليك طالباً غفرانك.
اللهم ارحمنا، واعف عنا، وإلى غيرك فلا تكلنا، وارزقنا التوبة، والنظر إلى وجهك الكريم، وإذا أردت بالناس فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين، وأبرم لهذه الأمة أمراً رشداً تعز فيه أولياءك، وتذل فيه أعداءك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وأصلح لنا حكامنا، والولاة علينا، وأصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرٍ، واغفر لنا، ولوالدينا، ومشايخنا، ولمن علمنا، ولمن حضرنا، ولمن غاب عنا، ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء والأموات، إنك قريبٌ مجيب الدعوات وصل بجلالك على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى آل كلٍ، وسائر الصالحين وسلم، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين، وارحم التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.(1/295)
سبحان ربك رب العزة يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.
وكان فراغه ليلة الأربعاء، في آخر شهر ربيع الأول، سنة اثنتين وستين وثمان مئة على يد مؤلفه يوسف بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي بصالحية دمشق والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.(1/296)