عليّ، وادخار الشكر لديّ، ومتقربا به إلى سيّدي أمير المؤمنين، فرأيك في الامتنان عليّ بقبولها موفّقا إن شاء الله.
فلما قرأ الكتاب أنفذه إلى المعتصم، فوقّع فيه: ضيم فصبر، وسلب فعذر، فليقابل بالشكر على صبره، وبالإحسان على عذره. وتردّ عليه ضياعه، ويرفع عنه خراجه. ولا أؤامر فيه إن شاء الله.
قال كاتب العباس بن المأمون: لما تقلّد المعتصم الخلافة عرضت له، فترجّلت، فلما بصر بي، قال: هذا المجلس الذي لم تزل أكره الناس بحلولي به. قال: فتحيرت، ولم أدر ما أقول، ثم عنّ لي أن قلت: يا أمير المؤمنين أنت تعفو عمّا تتيقّنه، فكيف تعاقب على ما تتوهمه؟ قال: فقال: لو أردت عقابك لتركت عتابك.
وكان سبب خروجه إلى «سرّ من رأى» أنّ غلمان الأتراك. كثروا ببغداد فتولّعوا بحرم الناس وأولادهم، فاجتمع إليه جماعة منهم فقالوا: يا أمير المؤمنين ما أحد أحبّ إلينا مجاورة منك لأنك الإمام والمحامي عن الدّين، وقد أفرط غلمانك، فإما منعتهم منّا، وإما نقلتهم عنّا. فقال: نقلهم لا يكون إلا بنقلي، ولكني أفتقدهم، وأزيل ما شكوتم.
فنطر فإذا الأمر قد زاد وعظم، وخاف أن يقع بينهم حرب، وعاودوه بالشكوى، وقالوا: إن قدرت على نصفتنا، وإلّا فتحول عنا. فقال: أتحوّل وكرامة فرحل إلى سرّ من رأى، واتخذها دارا.
وكان يقول: الفضل بن مروان عصى الله عزّ وجلّ وأطاعني، فسلّطني الله عليه.
وذكر أنه كان معه غلام في الكتّاب يتعلم معه، فمات الغلام، فقال له الرشيد: يا محمد مات غلامك. قال: نعم يا سيدي، واستراح من الكتّاب فقال الرشيد: وإن الكتّاب ليبلغ منك هذا المبلغ، دعوه إلى حيث انتهى، ولا تعلّموه شيئا فكان يكتب كتابا ضعيفا، ويقرأ قراءة ضعيفة.
حكيّ عن الفضل بن مروان أنه قال: والله لقد كان المعتصم مؤيدا من عند الله في أموره كلّها لقد رجع يوما من محاربة الروم، وقد سهر ليلته وبقي
إلى العشاء، ولم يطعم ولم يشرب فدخل إلى المأمون فعرّفه خبره، فبينما هو يخاطبه إذ صيح: السلاح السلاح، واستفحل أمر الروم فقال له المأمون:(3/83)
حكيّ عن الفضل بن مروان أنه قال: والله لقد كان المعتصم مؤيدا من عند الله في أموره كلّها لقد رجع يوما من محاربة الروم، وقد سهر ليلته وبقي
إلى العشاء، ولم يطعم ولم يشرب فدخل إلى المأمون فعرّفه خبره، فبينما هو يخاطبه إذ صيح: السلاح السلاح، واستفحل أمر الروم فقال له المأمون:
ارجع يا أبا إسحق إلى موضعك. فقال: نعم يا أمير المؤمنين. أمضي إلى مضربي وأركب من ثمّ فكأنّ المأمون كره هذا منه، ونكّس رأسه، واشتدّ عليه تأخيره لأمره، ففطن المعتصم فقال: يا أمير المؤمنين إنّ الله عزّ وجلّ يقول:
{كَلََّا إِنَّ الْإِنْسََانَ لَيَطْغى ََ (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ََ} (7) [العلق: الآيتان 6، 7] والله لقد رأيتني ومالي من الدوابّ إلا أربع، ومن الغلمان إلا أربعة، وإني لأقف على باب الحسن بن سهل سائر يومي، أتمنّى أن يأمرني بأمر أنفذ فيه، ولي من كلّ هذا اليوم ألوف بتفضّل أمير المؤمنين، وهو يأمرني بأمر فيه شرفي فأشترط عليه. أنا أمضي من وجهي هذا على هيئتي هذه.
فضحك المأمون وقال: ادن إليّ فدنا إليه، فقبّل بين عينيه، ودعا له بالظفر، وخرج.
قال بعضهم: سمعت المعتصم يقول: إذا نصر الهوى بطل الرّأي.
وقال لأحمد بن أبي دواد لما كان من لتياث العباس بن المأمون ما كان:
يا أبا عبد الله أكره أن أحبسه فأهتكه، وأكره أن أدعه فأهمله. فقال: الحبس أصلح الله أمير المؤمنين فإنّ الاعتذار خير من الاغترار.
وقيل: ما رئي أشدّ تيقظا في حرب من المعتصم كانت الأخبار ترد عليه من أرض بابل إلى «سرّ من رأى» في ثلاثة أيام على عتاق مضمّرة، قد أقام على كل فرسخ فرسين. واحتاج الناس في حصار عمّورية إلى ماء فمدّ لهم حياضا من أدم عشرة أميال وغير ذلك، مما سنذكر ذلك بعون الله.
وقال الفضل بن مروان: كان المعتصم يختلف إلى عليّ بن عاصم المحدّث، وكنت أمضي معه إليه فقال يوما: حدّثنا عمرو بن عبيد وكان قدريّا (1) فقال له المعتصم: يا أبا الحسن أما تروي: «أنّ القدرية مجوس هذه
__________
(1) القدرية: هم المعتزلة لقبوا بالقدرية لقولهم بالقدر خيره وشره من العبد ونفوا ذلك عن الله تعالى، واستدلوا ببعض الأحاديث الواردة في هذا المجال، وكانت لهم آراء كثيرة، وقد انقسمت المعتزلة القدرية إلى عشرين فرقة، وكل فرقة انقسمت بدورها إلى عدة فرق، وقد ذكر أصحاب(3/84)
الأمة»؟ قال: بلى. قال: فلم تروي عنه؟ قال: لأنه ثقة في الحديث صدوق.
قال: فإن كان المجوسيّ ثقة في الحديث صدوقا فيما يقوله أتروي عنه؟ فقال له عليّ: أنت شغّاب يا أبا إسحق.
وقال: كتبنا إلى المأمون عن المعتصم بفتح مدينة فلما قرأنا الكتاب عليه قال: قل في أوله: وكتابي كتاب منه لخبر، لا معتدّ بأثر فزدنا فيه.
وقالوا: كان المعتصم من أشدّ الناس وكان يسمّى ما بين إصبعيه:
السبّابة، والوسطى: المقطرة. واعتمد بها مرة على ساعد إنسان فدقّه.
وكتب إليه ملك الروم كتابا يتهدده فيه فأمر أن يكتب جوابه، فلما قرىء عليه لم يرضه، وقال للكاتب: اكتب.
بسم الله الرّحمن الرّحيم أما بعد فقد قرأت كتابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع. {وَسَيَعْلَمُ الْكُفََّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدََّارِ} [الرّعد: الآية 42].
ولما دخل إليه المازيار وكان شديد الغيظ عليه قيل له: لا تعجل عليه فإن عنده أموالا جمة، فأنشد بيت أبي تمام (1): [البسيط]
إنّ الأسود أسود الغاب همّتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السّلب
ولما قبض على عجيف، وقتله بعد قتل العباس بن المأمون بمديدة، وقد كان المأمون قال لعجيف: قد خفت على نفسي فاكتم عليّ. فوشى به إلى المعتصم فلما حبسه قال له: اصطنعك المأمون فأفشى إليك كلمة، فلم تحفظها عليه، حتى نممتها إليّ.
قال ابن أبي داود: كان المعتصم يقول لي: يا أبا عبد الله عضّ ساعدي بأكثر قوتك. فأقول: والله يا أمير المؤمنين ما تطيب نفسي بذلك فيقول: إنه لا يضرّني. فأروم ذلك، فإذا هو لا تعمل فيه الأسنّة فكيف الأسنان.
__________
كتب الفرق والمقالات أخبارهم بالتفصيل (انظر: الملل والنحل ص 43، الفرق بين الفرق ص 114، التبصير في الدين ص 63).
(1) البيت في ديوان أبي تمام 1/ 45، وبلا نسبة في تاج العروس (سلب).(3/85)
ويقال: إنّه طعنه بعض الخوارج، وعليه جوشن (1) فأقام المعتصم ظهره فقصف الرّمح.
قال إسحق الموصلي: سمعته يقول: من طلب الحق بما هو له وعليه أدركه.
الواثق (2)
قيل: إنه لما مات إبراهيم بن المهديّ ركب المعتصم حتى صلّى عليه، ثم قال للواثق: أقم يا بني حتى تجنّه. وقيل: بل لم يصلّ عليه تحرّجا، وأمر الواثق بالصلاة عليه فسأل عن وصيته، فوجده قد أمر بمال عظيم أن يفرّق على أولاد الصحابة كلهم، إلا أولاد عليّ رضي الله عنه فقال الواثق: والله لولا طاعة أمير المؤمنين لما وقفت عليه، ولا انتظرت دفنه. ثم انصرف وهو يقول: ينحرف عن شرفه وخير أهله! والله لقد دلّيته في قبره كافرا وأمر ففرّق في ولد عليّ رضي الله عنه مالا فاضلا فأصاب كلّ رجل منهم ضعف ما أصاب غيرهم من وصيته.
نظر الواثق إلى أحمد بن الخصيب يمشي فتمثّل (3): [الطويل]
من الناس إنسانان ديني عليهما ... مليّان لو شاءا لقد قضياني
خليليّ، أمّا أمّ عمرو فمنهما ... وأمّا عن الأخرى فلا تسلاني
قال: فبلغ ذلك سليمان بن وهب فقال: إنّا لله، أحمد بن الخصيب أمّ عمرو، وأنا الأخرى فنكبهما بعد أيّام.
غنّى مخارق في مجلس الواثق (4): [الكامل]
أظليم، إنّ مصابكم رجل ... أهدى السّلام بحبكم؟ ظلم
__________
(1) الجوشن: الدرع.
(2) الواثق بالله العباسي: هو هارون بن محمد المعتصم، ولد سنة 200هـ، وتولى الخلافة سنة 227هـ، ومات بسرّ من رأى سنة 232هـ (البداية والنهاية 10/ 330327).
(3) البيتان لابن الدمينة في كتاب الأغاني 21/ 162).
(4) يروى البيت بلفظ:
أظليم إن مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحية ظلم
والبيت للحارث بن خالد المخزومي في ديوانه ص 91، وللعرجي في ديوانه ص 193، ولأبي(3/86)
فغنّاه «رجل» فتابعه بعض، وخالفه آخرون، فسأل الواثق عمن بقي من رؤساء النحويين بالبصرة، فذكر له أبو عثمان المازنيّ (1)، قال: فأمر بحملي، وإزاحة علّتي فلما وصلت إليه وسلّمت قال: ممّن الرجل؟ قلت: من بني مازن. قال: أمن مازن قيس، أم مازن تميم، أم مازن ربيعة، أم مازن اليمن؟
فقلت: من مازن ربيعة. فقال لي: با اسمك؟ يريد: ما اسمك؟ قال: وهي لغة كثيرة في قومنا، فقلت على القياس: مكر، أي: بكر، يا أمير المؤمنين فضحك وقال: اجلس واطبئنّ. فجلست فسألني عن البيت، فأنشدته (2):
[الكامل]
أظليم، إنّ مصابكم رجلا
فقال: أين خبر إنّ؟ قلت: ظلم. أما ترى يا أمير المؤمنين أنّ البيت كلّه متعلق به، لا معنى له حتّى يتم بهذا الحرف، إذا قال:
«أظليم إنّ مصابكم رجلا أهدى السلام إليكم».
فكأنه ما قال شيئا، حتى يقول: ظلم. قال: صدقت. ألك ولد؟ قلت:
بنيّة. قال: فما قالت حين ودّعتها؟ قلت: أنشدت شعر الأعشى (3):
[المتقارب]
تقول ابنتي حين جدّ الرّحيل ... أرانا سواء ومن قد يتم
أبانا فلا رمت من عندنا ... فإنّا بخير إذا لم ترم
قال: فما قلت لها؟ قال: قول جرير (4): [الوافر]
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
__________
دهبل الجمحي في ديوانه ص 66.
(1) المازني: هو أبو عثمان بكر بن محمد بن عدي بن حبيب بن عثمان المازني البصري النحوي، توفي سنة 249هـ، من تصانيفه: «تفسير كتاب سيبويه» في النحو، «الديباج على خليل من كتاب أبي عبيدة»، «علل النحو»، «كتاب الألف واللام»، «كتاب التصريف»، «كتاب العروض»، «كتاب القوافي»، «كتاب ما يلحن فيه العامة». (كشف الظنون 5/ 234).
(2) انظر الحاشية ما قبل السابقة.
(3) البيتان في ديوان الأعشى ص 91، ولسان العرب (ريم)، وتاج العروس (ريم).
(4) البيت في ديوان جرير ص 98.(3/87)
فقال: ثق بالنجاح إن شاء الله. ثم أمر لي بألف دينار وكسوة وطيب.
وكان الواثق عالما بكلّ شيء، وله صنعة حسنة في الغناء، وكان يسمّى المأمون الصغير لأدبه وفضله، وكان المأمون يجلسه، وأبوه المعتصم واقف.
وكان يقول: يا أبا إسحق لا تؤدّب هارون، فأنى أرضى أدبه، ولا تعترض عليه في شيء يفعله.
قال حمدون: ما كان في الخلفاء أحلم من الواثق، ولا أصبر على أذى وخلاف. كان يعجبه غناء أبي حشيشة الطنبوريّ، فوجد المسدود من ذلك.
فكان يبلغه عنه ما يكره، فيتجاوزه. وكان المسدود قد هجاه ببيتين كانا معه في رقعة، وفي رقعة أخرى حاجة له يريد أن يرفعها إليه، فناوله رقعة الشعر، وهو يرى أنها رقعة الحاجة، فقرأها الواثق، فإذا فيها: [الهزج]
من المسدود في الأنف ... إلى المسدود في العين
أنا طبل له شقّ ... فيا طبلا بشقّين
فلما قرأ الرقعة علم أنها فيه، فقال للمسدود: قد غلطت بين الرقعتين فاحذر أن يقع مثل هذا عليك. ما زاده على هذا القول شيئا، ولا تغيّر له عمّا كان عليه.
دخل هارون بن زياد مؤدّبه عليه، فأكرمه وأظهر من برّه ما شهّره به، فقيل له: يا أمير المؤمنين: من هذا الذي فعلت به ما فعلت؟ قال: هذا أول من فتق لساني بذكر الله، وأدناني من رحمته.
قال يحيى بن أكثم: لم يحسن أحد من خلفاء بني العباس إلى آل أبي طالب إحسان الواثق ما مات وفيهم فقير.
قال بعضهم: كنّا في دار الواثق، فرفع إليه أنّ رجلا ممّن يعطي الجند أرزاقهم سأل بعض الجند أن يقدمه، وألحّ عليه فأبى وقال: إني أستشفع عليك. فقال: لو شفع لك النبيّ محمد صلى الله عليه وسلّم ما شفّعته. قال: فرأيت الواثق يرتعد غيظا، وأمر بإحضار الرجل فأدخل. فقال للذي قرفه: قل له ما قلت في وجهه، فأعاد، فتلوّى الرجل ساعة وأنكر، فقال الواثق: لولا أن في خطأ لفظك إشارة إلى صواب معناك في الإقرار بالنّبوّة، واستعظامك، ووضعك
رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غاية التمثيل لمثّلت بك، ولكن ابطحوه فضربه إيتاخ بيده ثمانين سوطا، فقال له وهو يضربه: يا أمير المؤمنين، أتضربني بشهادة واحد؟ فقال: والله لو شهد عليك اثنان لقتلتك، والله لا عملت لي عملا أبدا.(3/88)
قال بعضهم: كنّا في دار الواثق، فرفع إليه أنّ رجلا ممّن يعطي الجند أرزاقهم سأل بعض الجند أن يقدمه، وألحّ عليه فأبى وقال: إني أستشفع عليك. فقال: لو شفع لك النبيّ محمد صلى الله عليه وسلّم ما شفّعته. قال: فرأيت الواثق يرتعد غيظا، وأمر بإحضار الرجل فأدخل. فقال للذي قرفه: قل له ما قلت في وجهه، فأعاد، فتلوّى الرجل ساعة وأنكر، فقال الواثق: لولا أن في خطأ لفظك إشارة إلى صواب معناك في الإقرار بالنّبوّة، واستعظامك، ووضعك
رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غاية التمثيل لمثّلت بك، ولكن ابطحوه فضربه إيتاخ بيده ثمانين سوطا، فقال له وهو يضربه: يا أمير المؤمنين، أتضربني بشهادة واحد؟ فقال: والله لو شهد عليك اثنان لقتلتك، والله لا عملت لي عملا أبدا.
قال الواثق لابن أبي دواد، وقد رجع من صلاة العيد: هل حفظت من خطبتي شيئا؟ قال: نعم، قولك يا أمير المؤمنين: «ومن اتّبع هواه شرد عن الحقّ منهاجه، والناصح من نصح نفسه، وذكر ما سلف من تفريطه، فطهّر من نيّته، وثاب من غفلته، فورد أجله، وقد فرغ من زاده لمعاده، فكان من الفائزين».
المتوكّل (1)
قال يزيد المهلبي: أنس بي أمير المؤمنين في سبعة أيام فوق أنس محمد كان بي في سبع سنين. فقال: إنما أنست بك في سبعة أيام لأنس محمد كان بك في سبع سنين.
قيل للمتوكل: لم لا تقلّد الحسن بن وهب ديوان الرسائل. قال: أخاف أن يحيض في الديوان.
قال عليّ بن يحيى: تغدّيت مع المتوكل، فقدّم لون كان اشتهاه، فوجد فيه دبابة، فألقاها وأكل، ثم وجد أخرى وأخرى فلما رفع من بين يديه قال:
أعيدوا علينا هذا اللّون غدا، وليكن أقل ذبابا مما هو اليوم!!.
وكان ولد له تسعة بنين قد سمّاهم بأسماء الصحابة فولد له مولود آخر فقالوا: ما تسميه؟ قال: سمّوه عبد الرحمن بن عوف.
وذكر عنده أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فقال: لا والله ما ينزل من حلقي. فقال له بعض ندمائه: ولم ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: يقال والله أعلم: إنه كان رافضيّا.
__________
(1) المتوكل على الله العباسي: هو جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور العباسي، ولد سنة 207هـ، وبويه له بالخلافة بعد أخيه الواثق سنة 232هـ، اغتاله أحد الأتراك سنة 247هـ (البداية والنهاية 10/ 374372).(3/89)
حكى عنه أحمد بن يزيد المهلّبي، قال: قال يوما: يا مهلبي إنّ الخلفاء كانت تتصعب على الرعيّة لتطيعها، وأنا ألين لهم ليحبّوني ويطيعوني.
قيل: أقبل المتوكل يوما فقام الناس من بعيد، ولم يقم المنتصر حتى قرب منه ففكر المتوكل وتمثّل (1): [الطويل]
هم سمّنوا كلبا ليأكل بعضهم ... ولو أخذوا بالحزم لم يسمن الكلب
وقال أحمد بن يزيد: حضرت المتوكّل يوما وعبيد الله بن يحيى يقول له: قد قدمت رسل الطاغية بكتابه، وهو يعظّم أمير المؤمنين، ويسمّيه إذا ذكره السيّد، وسأل وضع الحرب أربع سنين، وأهدى بقيمة خمسمائة ألف درهم فبأي شيء تجيبه؟ قال: أجبه بأنّ رسولهم نهاهم عن الحرب، وأن رسولنا أمرنا بالحرب، ولا سبيل إلى وضعها إلا بإعطاء الجزية، فإن أحبّ أن أخفّفها عنهم فعلت. وأعلمه بأنّي أرقّ عليه لأنه بلغني أنه في سنّ محمد يعني المنتصر وأضعف له الهديّة، وأكثر له مما يستطرف في بلاده.
كان يقول: إني لأكون غضبانا على إنسان، فيبلغني أنّ الفتح راض عنه فأرضى، وكذلك إن كنت راضيا فبلغني أنه غضبان غضبت.
وقال أحمد بن يزيد، قال لي المتوكل يوما: يا أحمد ثيابك في رزمة لا في تخت، قلت: كذاك هي. قال: لا تفعل فإنها في التخت أبقى وأنقى، بان ذلك لي في تكسيرها.
قال إبراهيم بن المدبّر، قال المتوكل: إذا خرج توقيعي إليك بما فيه مصلحة للناس، ورفق بالرعية فأنفذه، ولا تراجعني فيه، وإذا خرج بما فيه حيف على الرعية فراجعني فإنّ قلبي بيد الله عزّ وجلّ.
بلغ المتوكل أنّ أحمد بن حمدون النّديم يحمل رقاع الفتح إلى خادمه فائز فأعدّ له حجّاما، وأوصاه بما يريد فلما جلس أحمد مع الجلساء قال: يا أحمد ما جزاء من أفسد غلام فتى؟ قال: تقطع أذنه فدعا بالحجام فقطع من
__________
(1) البيت لمالك بن أسماء في ثمار القلوب ص 315، وكتاب الحيوان 1/ 191.(3/90)
أذنه قطعة، وإنما قال له هذا لأنه كان يحدثه كثيرا بحديث الفتيان والعيارين ويتنادر بذلك بين يديه، ثم نفاه إلى بغداد إلى أن كلمه الفتح فيه، فرضي عنه.
المنتصر (1)
قال: لذّة العفو أطيب من لذّة التشفّي وذلك لأنّ لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفّي يلحقها ذمّ النّدم.
ولمّا تمت له البيعة كان أول شيء عمله أن عزل صالح بن عليّ عن المدينة، وولّاها علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد، وقال له:
إنما وليتك لتخلفني في برّ آل أبي طالب، وقضاء حوائجهم، ورفعها إليّ فقد نالتهم جفوة وخذ هذا المال ففرّقه على أقدارهم.
فقال له علي بن الحسين: سأبلغ بعون الله رضا أمير المؤمنين فقال: إذا تسعد بذلك عند الله وعندي.
قال بعضهم: سمعته يوما وهو يناظر قوما: والله لا عزّ وفر باطل، ولو طلع من جبينه القمر، ولا ذلّ ذو حقّ، ولو كان العالم عليه.
قال بعضهم: سمعت بغا الكبير يقول: ما مشيت بين يدي خليفة أهيب من المنتصر، وقد كان مشيي بين يدي المأمون، والمعتصم، والواثق والمتوكّل.
قال أحمد بن الخصيب: سمعت المنتصر لمّا عفا عن الشاريّ (2) يقول:
أحسن أفعال القادر العفو، وأقبحها الانتقام.
المستعين (3)
قيل: لما جيء بكتاب الخلع إليه، وقيل له: وقع بخطك فيه، أخذ
__________
(1) المنتصر بالله العباسي: هو محمد بن جعفر المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور، ولد سنة 223هـ، تولى الخلافة بعد قتل أبيه سنة 247هـ، وتوفي بعد ستة أشهر من خلافته سنة 248هـ (البداية والنهاية 10/ 377374).
(2) الشاري: نسبة إلى الشراة وهم فرقة من الخوارج.
(3) المستعين بالله العباسي: هو أبو العباس أحمد بن محمد المعتصم، ولد سنة 220هـ، ولاه الترك الخلافة يوم مات المنتصر سنة 248هـ، ثم خلعوه وقتلوه سنة 250هـ، وكان عهده عهد(3/91)
الكتاب فابتدأ ابن أبي الشّوارب يملي عليه فقال له المستعين: أمسك عافاك الله، ثم كتب:
أقرّ أحمد بن محمد ابن أمير المؤمنين المعتصم بالله: «أنه قد بايع أبا عبد الله المعتز بالله، هذه البيعة المنسوخة في هذا الكتاب موجبا على نفسه كلّ ما فيه من الشرائط المثبتة فيه، والعهود المؤكّدة. وأشهد الله وملائكته على جميع ذلك، وأشهد من حضر، وكفى بالله شهيدا».
قال: فعجب الناس من فهمه وبلاغته.
وقال له الحسن بن أبي الشوارب: يا أمير المؤمنين أشهد عليك بما في هذا الكتاب؟. قال: نعم خار الله لك يا أبا العباس.
المعتزّ (1)
قال الزبير: لما وفدت على المتوكل قال لي: ادخل إلى أبي العباس يعني: المعتز فدخلت إليه وهو صبيّ فحدّثته وأنشدته فسألني عن الحجاز وأهله، ثم نهضت لأنصرف فعثرت فسقطت فقال لي المعتزّ: يا زبير (2):
[الطويل]
كم عثرة لي باللسان عثرتها ... تفرّق من بعد اجتماع من الشمل
يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرّجل
قال أحمد بن وزير البصري: ما رأيت أحسن وجها من المعتزّ ولا أبلغ خطابا، قال لي لما ولّاني القضاء: يا أحمد قد ولّيتك القضاء، وإنما هي الدماء والفروج والأموال ينفذ فيها حكمك ولا يردّ أمرك فاتّق الله، وانظر ما أنت صانع.
__________
فتن واضطراب (البداية والنهاية 11/ 113).
(1) المعتز بالله العباسي: هو محمد المعتز بن جعفر المتوكل ابن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، وقيل: إن اسم المعتز أحمد، وقيل: الزبير، ولد سنة 248هـ بسرّ من رأى، وبايعه الأتراك بالخلافة سنة 251هـ، كثرت الفتن في أيامه واضطره القواد الأتراك أن يخلع نفسه، وعذبوه حتى مات سنة 255هـ (البداية والنهاية 11/ 1913).
(2) البيتان بلا نسبة في عيون الأخبار 2/ 180، والعقد الفريد 2/ 473.(3/92)
لمّا جيء إليه بأمان وصيف وبغا من بغداد على دمائهم وأموالهم وأجاز ذلك، وقّع بخطّه بين الأسطر: خلا ما فيها من حقّ لمسلم أو لمعاهد.
المهتدي (1)
كان يقول: لو لم يكن الزّهد في الدنيا، والإيثار للحقّ، مما لطف الله تعالى لي فيهما، ووفّقني لهما، وإنّي أرجو بذلك الفوز يوم القيامة لتصنّعت بما أفعله للناس لئلا يكون مثل عمر بن عبد العزيز في خلفاء بني أمية، ولا يكون في خلفاء بني هاشم بعدهم مثله، وهم من رسول الله صلى الله عليه وسلّم أقرب.
قال بعضهم: سمعته يوما يقول لعيسى بن فرخانشاه: عاون على الخير تسلم، ولا تجزه فتندم. فقيل له: إنّ هذا بيت شعر. قال: ما تعمّدت ذلك، ولكنّي رويت قول الشاعر: [الطويل]
تعاون على الخيرات تظفر، ولا تكن ... على الإثم والعدوان ممّن يعاون
وجلس يوما للمظالم، فرفع إليه في الكسور فسأل الكتاب عنها، فأخبر بها، فقال: معاذ الله أن ألزم الناس ظلما تقدّم العمل به أو تأخّر.
أسقطوا هذا الظلم، وهذه الكسور عن الناس فقام الحسن بن مخلد.
فقال: إن أسقط أمير المؤمنين هذا ذهب من مال السلطان في السنة اثنا عشر ألف ألف درهم ومدّ بها صوته فقال له المهتدي: قد عرفت مذهبك في هذا، وتحريضك الموالي بما ينقص من أموالهم، وما أمتنع من أن أقيم حقّا لله، وأزيل مظلمة قد تقدمت بها الأيّام، ولو كان في ذلك كلّ حيف على بيوت الأموال، ولو نظر الموالي أمرك، وأمر نظرائك لأخذوا منك ما خوّفتهم أن يذهب مقداره من مالهم. فارتعد الحسن وأبلس، ثم كلم المهتدي بعد ذلك فيه فترجع إليه.
وتظلّم إليه رجل من بعض أسبابه، فأحضره، وحكم عليه بما صحّ عنده فقام الرجل وشكر، وقال: أنت والله يا أمير المؤمنين كما قال
__________
(1) المهتدي بالله العباسي: هو محمد المهتدي بالله بن الواثق بن المعتصم بن هارون الرشيد، ولد سنة 227هـ، بويع له بالخلافة سنة 255هـ، بعد خلع المعتز بالله نفسه، وكان حميد السيرة زاهدا، خلعه الترك وقتلوه سنة 256هـ (البداية والنهاية 11/ 2619).(3/93)
الأعشى (1): [السريع]
حكمتموه، فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الباهر
لا يقبل الرّشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
فقال المهتدي: أمّا أنت فأحسن الله جزاءك، وأما شعر الأعشى فما رويته، ولكني قرأت اليوم قبل خروجي إلى المجلس قول الله عزّ وجلّ: {وَنَضَعُ الْمَوََازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيََامَةِ فَلََا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كََانَ مِثْقََالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنََا بِهََا وَكَفى ََ بِنََا حََاسِبِينَ} (47) [الأنبياء: الآية 47] فما بقي أحد في المجلس إلّا بكى.
المعتمد (2)
قال محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان: بعثني أبي إلى المعتمد في شيء فقال لي: اجلس. فاستعظمت ذلك فأعاد، فاعتذرت بأنّ ذلك لا يجوز فقال لي: يا محمد إنّ أدبك في القبول مني خير من أدبك في خلافي.
وقال يوما لبعض ندمائه: إذا عدم أهل التفضّل، هلك أهل التجمّل.
قال بعض جلسائه: كنّا بين يديه ليلة فحمّل عليه النبيذ، فجعل يخفق نعاسا. وقال: لا تبرحوا أنتم، ثم نام مقدار نصف ساعة، وانتبه كأنه ما شرب شيئا فقال: أحضروني من الحبس رجلا يعرف بمنصور الجمّال. فأحضر، فقال: مذ كم أنت محبوس؟ فقال: مذ ثلاث سنين. قال: فاصدقني عن خبرك.
قال: أنا رجل من أهل الموصل، كان لي جمل أحمل عليه، وأعود بأجرته على عيلتي، فضاق المكسب بالموصل عليّ فقلت: أخرج إلى سرّ من
__________
(1) البيتان في ديوان الأعشى ص 189.
(2) المعتمد على الله العباسي: هو أحمد بن المتوكل على الله، ويعرف بابن فتيان، ولد سنة 229هـ، بويع له بالخلافة قبل خلع المهتدي بأيام، سنة 256هـ، طالت أيام ملكه، وعاونه أخوه الموفق معاونة كبيرة على قهر أعدائه، ثم استبد بالأمر، توفي سنة 279هـ (البداية والنهاية 11/ 71).(3/94)
رأى، فإنّ العلم ثمّ أكثر، فخرجت، فلما قربت منها إذا جماعة من الجند قد ظفروا بقوم يقطعون الطريق قد كتب صاحب البريد بخبرهم، وكانوا عشرة، فأعطاهم واحد من العشرة مالا على أن يطلقوه، فأطلقوه، وأخذوني مكانه، وأخذوا جملي فسألتهم بالله، وعرّفتهم خبري، فأبوا، وحبسوني معهم، فمات بعضهم وأطلق بعضهم، وبقيت وحدي.
فقال المعتمد: أحضروني خمسمائة دينار، فجاؤوا بها فقال: ادفعوها إليه. فأخذها، وأجرى له ثلاثين دينارا في كل شهر، وقال: اجعلوا إليه أمر جمالنا.
ثم أقبل علينا، فقال: رأيت الساعة النبيّ صلى الله عليه وسلّم في النوم فقال: يا أحمد وجّه الساعة إلى الحبس، فأخرج منصورا الجمّال فإنّه مظلوم، وأحسن إليه، ففعلت ما رأيتم، ونام.
المعتضد (1)
حدّث العلاء بن صاعد قال: لما حمل رأس صاحب البصرة ركب المعتضد في جيش لم ير مثله، فاشتقّ أسواق بغداد، والرأس بين يديه فلما صرنا بباب الطاق صاح قوم من درب من تلك الدروب: رحم الله معاوية، وزاد حتّى علت أصواتهم فتغيّر وجهه وقال: أما تسمع يا أبا عيسى؟ ما أعجب هذا! ما ذكر معاوية في هذا الأمر؟ والله لقد بلغ أبي الموت، وما أفلتّ أنا منه إلّا بعد مشارفته، ولقينا كل جهد وبلاء، حتى أرحناهم من عدوّهم، وحصّنّا حرمهم وأموالهم. تركوا أن يترحّموا على العباس، أو عبد الله بن العباس، أو من ولد من الخلفاء، وتركوا الترحّم على أمير المؤمنين عليّ، وحمزة وجعفر والحسن والحسين، والله لا برحت أو أؤثّر في تأديب هؤلاء أثرا لا يعاودون بعده مثله.
__________
(1) المعتضد بالله العباسي: هو أحمد المعتضد ابن الأمير أبي أحمد الموفق الملقب بناصر دين الله، واسم أبي أحمد محمد، وقيل: طلحة بن جعفر المتوكل على الله، ولد سنة 242هـ، تولى الخلافة سنة 279هـ، وكان مهيبا حازما، توفي سنة 289هـ (البداية والنهاية 11/ 92 101).(3/95)
ثم أمر بجمع النفّاطين لتحريق الناحية فقلت: أيّها الأمير هذا من أشرف أيام الإسلام فلا تفسده بجهل غلمة لا أخلاق لهم، ولم أزل أداريه وأرفق به حتى سار.
لمّا ولي المعتضد حسنت آثاره، وأمر بالزيادة في المسجد الجامع بالمدينة، وأمر بتسهيل عقبة حلوان. وأنفق ليها نيّفا وعشرين ألف دينار، وأمر بردّ المواريث على ذوي الأرحام، وأخّر النّيروز، واستبدّ الخراج إلى وقت إدراك الغلّات، وعمّر الدّنيا، وضبط الأطراف، وأحسن السياسة. وقيل: إنّه أفضت إليه الخلافة وليس في الخزانة إلا سبعة عشر درهما زائفة ومات وخلّف ما يزيد على عشرين ألف ألف دينار.
لمّا مات عبيد الله بن سليمان وزيره استعان ابنه القاسم ببدر ليولّيه مكان أبيه فسأل المعتضد في بابه وألحّ فقال: يا أبا النجم، هذه عشرة آلاف ألف دينار من تركته، خذ نصفها فقال: يا مولاي إذا فعلت ما أريد فقد أعطيتني كلّها. فقال: قد أجبتك، فاغد به غدا فو الله لا يقتلك غيره، فلست أعرف بالقوم مني، فكان الأمر على ما ظنّه وقاله.
وقال مرة: يتحدث الناس بأنّي بخيل، وقد نصبت لهم بدرا يفرّق عليهم ما أجمع، وقد وهبت له منذ أيام عشرة آلاف ألف درهم، لو أردتها ما تأخر عنّي منها درهم واحد، ولكني والله لا أحبّ أن أهب قليلا ولا يحتمل الحال الذي دفعت إليه الكثير.
قال: كان الحسن بن زيد يوجه من طبرستان في كلّ سنة بمال يفرّق على الطالبين سرّا، واحتذى ذلك بعده محمد بن زيد أخوه، فبلغ ذلك المعتضد، فوجّه إلى عليّ بن محمد القطان الذي كان المال يصل إليه، وقال:
لم يبعث هذا سرّا؟ الصواب أن يشهر ليرغب الناس في فعل مثله، ويكثر الدعاء لفاعله.
لمّا قصد المعتضد الأعراب فصار في وسط بيوتهم، وهو في عدد يسير حتى لحقه بدر قيل له: لو عرفك الأعراب فأقدموا عليك كيف كانت تكون حالك، وحال الناس؟ فقال: لو عرفوني لتفرّقوا، أما علمتم أنّ الرصافية وحدها عشرون ألفا.
قال بعضهم: أنشد المعتضد: [الطويل](3/96)
لمّا قصد المعتضد الأعراب فصار في وسط بيوتهم، وهو في عدد يسير حتى لحقه بدر قيل له: لو عرفك الأعراب فأقدموا عليك كيف كانت تكون حالك، وحال الناس؟ فقال: لو عرفوني لتفرّقوا، أما علمتم أنّ الرصافية وحدها عشرون ألفا.
قال بعضهم: أنشد المعتضد: [الطويل]
وما الأدب الموروث لا درّ درّه ... إذا لم تؤيده باخر مكتسب
فكان بعد ذلك إذا رأى هاشميّا لا أدب له ينشد البيت، ويقول: الآداب خير من الأنساب، والأعمال خير من الأموال.
ولمّا أخرج راعيا إلى الثّغر قال: يا سيدي: أنا أرغب الناس في خدمتك على بابك. فقال: أنا فيك ضدّ اسمك.
وقال مرة: عجائب الدنيا ثلاث: اثنان لا يريان، وواحدة ترى، فأما اللتان لا تريان فعنقاء مغرب، والكبريت الأحمر، وأما التي ترى فابن الجصاص.
حدّث بعض الكتّاب قال: حضرت يوما دار الموفّق فرأيته، وبين يديه أبو العباس ابنه المعتضد بالله، وهو يقول: قد فرقت الرجال من المستأمنة وغيرهم على راشد، ووصيف، وراغب، ويأنس، وتركتني لم تضمم إليّ منهم أحدا.
فقال له الموفّق: إنّ من معك من الرجال فيه كفاية لك، ولست تحتاج إلى أكثر منهم. فقال له: كأنّك استكثرت لي من معي. والله ما ولد العباس بن عبد المطلب مثلي، ولا يولد له أيضا. فقال له أبوه: صدقت. إنك كذلك، ولهذه العلة لم أزدك على ما معك من الرّجال.
المكتفي (1)
نظر إلى رأس صاحب الزنج، وقد أخرج إليه من الخزانة فقال: لعنه الله! فإنه عدا على الأنساب، كما عدا على الأسلاب.
المقتدر (2)
حكي أنّ علي بن عيسى الوزير كتب عنه كتابا إلى ملك الروم فلما
__________
(1) المكتفي بالله العباسي: هو أبو محمد علي بن المعتضد ابن الأمير أبي الموفق بن المتوكل على الله، ولد سنة 263هـ، وتولى الخلافة سنة 289هـ، وتوفي سنة 295هـ (البداية والنهاية 11/ 112111).
(2) المقتدر بالله العباسي: هو أبو الفضل جعفر بن المعتضد بالله، ولد سنة 282هـ، بويع له بالخلافة سنة 295هـ بعد موت أخيه، وعمره إذ ذاك 13سنة، خلعه الناس وبايعوا المعتز، ثم خلع المعتز وأعيد هو ثانية، كثرت الفتن في أيامه، قتله مؤنس الخادم سنة 320 (البداية والنهاية 11/ 183182).(3/97)
عرض عليه. قال: فيه موضع يحتاج إلى إصلاح، فسألوه عن ذلك وكان قد كتب في الكتاب: «إن قربت من أمير المؤمنين قرب منك، وإن بعدت بعد عنك» فقال: ما حاجتي إلى أن أقرب منه؟ كتبوا: «إن قربت من أمير المؤمنين قرّبك، وإن بعدت بعّدك».
ولم يعرف للمقتدر مثل هذا الكلام، ولا مثل هذه الفطنة، وقد ذكرناه على ما حكي، وهو بكلام غيره من الخلفاء أشبه.
الراضي (1)
لما استوزر ابن البريديّ، وهو غائب عن حضرته، وأجابه إلى مقترحاته، قال الراضي كالآنف من طرحه الوزارة على من يشترط فيها: إنّ الوزارة قطعة من الخلافة، ووهنها وهن الخلافة.
واستكتبت الفضل بن جعفر وكان كاتبا من بيت كتابة وكان نائبا عنّي فحسن أثره، وما نالته مهنة من أصحاب بجكم تضع من الوزارة فلما توفّى نظرت إلى من بالحضرة، فإذا هم من قد عرفت، وإن علقت هذا الاسم بواحد منهم لم يمض عليه أسبوع حتى يسأل ما لا يقدر عليه، ويمتهن كلّ الامتهان.
فنظرت إلى أن أرفع من أعلمه في الزمان، ممن يسلم من هذا، ويبعد عنه، فلم أجد غير ابن البريديّ، فاستكتبته لهذه العلّة، وليبقى اسم الوزارة على حال صيانة ورفعة.
إبراهيم بن المهدي (2)
كتب إليّ أحمد بن يوسف الكاتب: لعن الله زمانا أخّرك عمّن لا يساوي كلّه بعضك.
__________
(1) الراضي بالله العباسي: هو أبو العباس أحمد بن المقتدر بالله جعفر بن المعتضد بالله أحمد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد العباسي، ولد سنة 297هـ، وتولى الخلافة بعد عمه القاهر سنة 322هـ، تفككت في عهده الدولة العباسية، ولم يعد تحت يديه إلا بغداد، توفي سنة 329هـ (البداية والنهاية 11/ 214210).
(2) إبراهيم بن المهدي: أخو هارون الرشيد، ولد سنة 162هـ، كان أديبا شاعرا حاذقا في الغناء، خرج على المأمون عند ما ولّى علي بن موسى الرضا ولاية العهد، وانتصر عليه المأمون وعفا عنه، توفي سنة 213هـ (البداية والنهاية 10/ 309308).(3/98)
وقال محمد بن راشد: سألني إبراهيم بن المهديّ عن رجل فقلت:
يساوي فلسين. فقال: زدت في قيمته درهمين.
وكتب إليّ صديق له: لو عرفت فضل الحسن لتجنّبت القبيح وأنا وإياك كما قال زهير (1): [الطويل]
رذي خطل في القول يحسب أنّه ... مصيب، فما يلمم به فهو قائله
عبّأت له حلمي، وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه، وهو باد مقاتله
ومن إحسان الله إلينا، وإساءتك إلى نفسك أنّا صفحنا عمّا أمكننا وتناولت ما أعجزك.
فصل له
لم يبق لنا بعد هذا الحبس شيء نمدّ أعيننا إليه إلا الله، الذي هو الرّجاء قبله ومعه وبعده.
فصل آخر له
أمّا الصبر فمصير كلّ ذي مصيبة غير أنّ الحازم يقدم ذلك عند اللّوعة، طلبا للمثوبة والعاجز يؤخّر ذلك إلى السّلوة، فيكون مغبونا نصيب الصابرين ولو أنّ الثواب الذي جعل الله لنا على الصبر كان لنا على الجزع لكان ذلك أثقل علينا لأن جزع الإنسان قليل، وصبره طويل والصبر في أوان الجزع أيسر مؤونة من الجزع بعد السلوة، ومع هذا فإنّ سبيلنا في أنفسنا على ما ملّكنا الله منها ألا نقول ولا نفعل ما كان مسخطا لله، فأما ما يملكه الله من حسن عزاء النفس، فلا نملكه من أنفسنا.
وكتب إلى طاهر: زادك الله للحق قضاء، وللشكر أداء. بلّغني رسول عنك ما لم أزل أعرفه منك، والله يمتعني بك، ويحسن في ذلك عني جزاءك ومع ذلك فإني أظنّ أنّي علّمتك الشوق لأني ذكرته لك، فهيّجته منك.
والسلام.
__________
(1) البيتان في ديوان زهير بن أبي سلمى ص 139.(3/99)
فصل آخر
وما الحقّ إلّا حقّ الله، فمن أدّاه فلنفسه، ومن قصّر عنه فعليها. نسأل الله أن يعمرنا بالحق، ويصلحنا بالتوفيق ويخصّنا بالتقوى.
فصل آخر له
وصلني كتابك السارّ المؤنس فكان أسرّ طالع إليّ، وأحسنه موقعا منّي إذ كنت أستعلي بعلوّك، وأرى نعمتك تنحطّ إليّ، ويتصل بي منها ما يتّصل بالأدنين من لحمتك، وحملة شكرك ومظانّ معروفك، والمقيمين على تأميلك، فلا أعدمني الله ما منحني منك، ولا أزال عني ظلّك، ولا أفقدني شخصك.
وكتب إلى المأمون: لولا أنّ يدي أشجع عليه من لساني لشافهته بحاجتي.
ولما أدخل على المأمون عند الظفر به سلّم عليه، وقال: يا أمير المؤمنين وليّ الثأر محكّم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن مدّ له في الأناة حسن عنده الذّنب، وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب كما جعل كل ذي ذنب دونك، فإن عاقبت فبحقّك، وإن عفوت فبضلك.
فقال المأمون: يا إبراهيم إنّي شاورت العباس ابني، وأبا إسحق أخي في أمرك فأشارا عليّ بقتلك إلا أني وجدت قدرك فوق ذنبك، فكرهت القتل للازم حرمتك.
فقال: يا أمير المؤمنين قد نصح المشير لما جرت به العادة في السياسة، وحياطة الخلافة إلا أنك أبيت أن تطلب النصر إلّا من حيث عوّدته من العفو فإن عاقبت فلك نظير، وإن عفوت فلا نظير لك فإن جرمي أعظم من أن أنطق فيه بعذر، وعفو أمير المؤمنين أجلّ من أن يفي به شكر.
فقال المأمون: مات الحقد عند هذا العذر.
فاستعبر إبراهيم فقال المأمون: ما شأنك؟ قال: الندم إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته في الإنعام عليّ، ثم قال: يا أمير المؤمنين إنه وإن بلغ جرمي
استحلال دمي فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلغاني عفوه، وإنّ لي لشفعة الإقرار بالذنب وحقّ العمومة بعد الأب فلا يسقط عن كرمك عمّك، ولا يقع دون عفوك عندك.(3/100)
فاستعبر إبراهيم فقال المأمون: ما شأنك؟ قال: الندم إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته في الإنعام عليّ، ثم قال: يا أمير المؤمنين إنه وإن بلغ جرمي
استحلال دمي فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلغاني عفوه، وإنّ لي لشفعة الإقرار بالذنب وحقّ العمومة بعد الأب فلا يسقط عن كرمك عمّك، ولا يقع دون عفوك عندك.
فقال له المأمون: لو لم يكن في حقّ نسبك حقّ الصفح عنك لبلّغك ما أمّلت حسن تنصّلك، ولطف توصّلك.
ثم أمره بالجلوس، وقال له: ما البلاغة يا إبراهيم؟ قال: أن يكون معناك يجلّي عن مغزاك.
فقال المأمون: هذا كلام يشذّر بالذهب لقد أذهب به وغرا كان في صدري عليه.
عبد الله بن المعتز (1)
كتب إلى بعض إخوانه: لو كنت أعلم أنك تحبّ معرفة خبري لم أبخل به عليك، ولو طمعت في جوابك لسألت عن خبرك، ولو رجوت العتبى منك لأكثرت عتابك، ولو ملكت الخواطر لم آذن لنفسي في ذكرك. ولولا أن يضيع وصف الشوق لأطلت بي كتابي، ولولا أن عزّ السلطان يشغلك عني لشغلت به سروري، والسلام.
وكتب يذمّ رجلا: ذكرت حاجة أبي فلان المكنى ليعرف، لا ليكرم، فلا وصلها الله بالنجاح، ولا يسّر بابها للانفتاح، وذكرت عذرا نضح به عن نفسه فو الله ما نضح عنها لكنه نضح عليها، وأنا والله أصونك عنه، وأنصح لك فيه فإنه خبيث النية، متلقّف للمعايب مقلّب للسانه بالملق، شائن بالتّخلّق وجه الخلق، موجود عند النعمة، مفقود عند الشدة، قد أنس
__________
(1) عبد الله بن المعتز: هو عبد الله بن المعتز بالله محمد بن المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بالله محمد بن الرشيد، ولد سنة 247هـ، بويع بالخلافة سنة 296هـ، وبقي بها يوما واحدا، ثم خلع وقتل، كان شاعرا مطبقا فصيحا بليغا له من المصنّفات: «أرجوزة في ذم الصبوح»، «أشعار الملوك»، «حلى الأخبار»، «طبقات الشعراء»، «فصول التماثيل في تباشير السرور»، «كتاب الآداب»، «كتاب البدايع»، «كتاب الجامع في الغناء»، «كتاب الجوارح والصيد»، «كتاب الزهر والرياض»، «كتاب السرقات»، «مكاتبات الإخوان بالشعر». (كشف الظنون 5/ 443، البداية والنهاية 11/ 116).(3/101)
بالمسألة، وضري بالرّد فلا تعقّ عقلك باختياره، ولا توحش النعمة بإذلالها به.
وقال ابن المعتز: الخضاب من شهود الزّور.
ولعبد الله بن المعتز آداب مجموعة، ومواعظ. وحكم تمرّ أكثرها في كلام المتقدمين، وفيها نوادر من كلام أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه وغيره، وقد اخترت بعضها، وأوردته هذا المكان فمنها:
إعادة الاعتذار تذكير بالذنب في العواقب شاف أو مريح. العقل غريزة تربيها التجارب. النصح بين الملإ تقريع. أقم الرغبة إليك مقام الحرمة بك، وعظّم نفسك عن التعظّم، وتطوّل ولا تتطاول.
الأمل رفيق مؤنس إن لم يبلغك فقد استمتعت به. لا يقوم عزّ الغضب بذلّ الاعتذار. الشفيع جناح الطالب. إن بقيت لم يبق الهم. لا تنكح خاطب سرّك. من زاد أدبه على عقله كان كالرّاعي الضعيف مع غنم كثيرة. الدار الضيقة العمى الأصفر.
إذا هرب الزاهد من الناس فاطلبه، وإذا طلبهم فاهرب منه. النمام جسر الشرّ. لا تشن وجه العفو بالتّقريع. إذا زال المحسود عليه علمت أنّ الحاسد كان يحسد على غير شيء.
العجز نائم، والحزم يقظان. من تجرّأ لك تجرّأ عليك. ما عفا عن الذنب من قرّع به. أمرّ المكاره ما لم يحتسب. عبد الشهوة أذلّ من عبد الرقّ. لا ينبغي للعاقل أن يطلب طاعة غيره، وطاعة نفسه عليه ممتنعة. الناس نفسان:
واجد لا يكتفي، وطالب لا يجد. ذلّ العزل يضحك من تيه الولاية. كلما كثر خزّان الأسرار ازدادت ضياعا، بشّر مال البخيل بحادث أو وارث.
الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له، بخيل بما لا يملكه. من أكثر المشورة لم يعدم عند الصواب مادحا، وعند الخطإ عاذرا. من كثر حقده قلّ عتابه، وما أكثر من يعاتب ليطلب علّة للعفو!.
الحازم من لم يشغله البطر بالنعمة عن العمل للعاقبة، والمهمّ بالحادثة عن الحيلة لدفعها. كلما حسنت نعمة الجاهل ازداد قبحا فيها. بالمكاره تظهر حيل العقول.
من قبل عطاءك فقد أعانك على الكرم، ولولا من يقبل الجود لم يكن من يجود. العالم يعرف الجاهل لأنه قد كان جاهلا، والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن عالما.(3/102)
الحازم من لم يشغله البطر بالنعمة عن العمل للعاقبة، والمهمّ بالحادثة عن الحيلة لدفعها. كلما حسنت نعمة الجاهل ازداد قبحا فيها. بالمكاره تظهر حيل العقول.
من قبل عطاءك فقد أعانك على الكرم، ولولا من يقبل الجود لم يكن من يجود. العالم يعرف الجاهل لأنه قد كان جاهلا، والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن عالما.
حسبك من عدوّك ذلّه في قدرتك. إخوان السوء كشجرة النار يحرق بعضها بعضا. كفى بالظّفر شفيعا للمذنب إلى الحليم. زلّة العالم كانكسار السفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير. أوهن الأعداء كيدا أظهرهم لعداوته.
من مدحك بما ليس فيك فحقيق أن يذمّك بما ليس فيك. أبق لرضاك من غضبك، وإذا طرت فقع قريبا. لا تلتبس بالسلطان في وقت اضطراب الأمور عليه، فإنّ البحر لا يكاد يسلم صاحبه في حال سكونه، فكيف لا يهلك مع اختلاف رياحه، واضطراب أمواجه؟ النفس المتفردة بطلب الرغائب وحدها تهلك. فساد الرعية بلا ملك كفساد الجسم بلا روح. إذا خلّي عنان العقل، ولم يحبس على هوى نفس أو عادة دين أو عصبية لسلف، ورد بصاحبه على النجاة.
لا تسرع إلى أرفع موضع في المجلس فالموضع الذي ترفع إليه خير من الموضع الذي تحطّ عنه. إذا زادك الملك تأنيسا فزده إجلالا. العضب يصدىء العقل حتى لا يرى صاحبه فيه صورة حسن فيفعله ولا قبيح فيجتنبه.
من تكلّف ما لا ينيه فاته ما لا يعنيه. الحاسد يظهر ودّه في اللقاء، وبغضه في المغيب، واسمه صديق، ومعناه عدوّ، السامع للغيبة أحد المغتابين. لا راحة لحاسد، ولا حياء لحريص. المسؤول حرّ حتى يعد، ومسترقّ بالوعد حتى ينجز.
لو تميّزت الأشياء كان الكذب مع الجبن، والصدق مع الشجاعة، والراحة مع اليأس، والتعب مع الطمع، والحرمان مع الحرص، والذلّ مع الدّين.
المعروف إليك غلّ لا يفكّه عنك إلّا شكر أو مكافأة. لم يكتسب مالا من لا يصلحه كثرة مال. الميت يعزّى ورثته عنه.
من كرمت عليه نفسه هان عليه ماله. من كثر مزاحه لم يسلم من استخفاف به، أو حقد عليه. كثرة الدين تضطرّ الصادق إلى الكذب، والمنجز
إلى الإخلاف. لن يستطيع أحد أن يشكر الله تعالى على نعمة بمثل الإنعام بها.(3/103)
من كرمت عليه نفسه هان عليه ماله. من كثر مزاحه لم يسلم من استخفاف به، أو حقد عليه. كثرة الدين تضطرّ الصادق إلى الكذب، والمنجز
إلى الإخلاف. لن يستطيع أحد أن يشكر الله تعالى على نعمة بمثل الإنعام بها.
عار النصيحة يكدّر لذّتها. ربّ صديق يؤتى من جهله لا من نيّته.
أول الغضب جنون، وآخره ندم. انفرد بسرّك، ولا تودعه حازما فيزلّ، ولا جاهلا فيخون.
علم الإنسان ولده المخلّد. المعروف رقّ، والمكافأة عتق ليكن الأنس أغلى أعلاق مودتك، وأبطأها عرضا على صديقك.
لا تقطع أخاك إلا بعد عجز الحيلة عن استصلاحه، ولا تتبعه بعد القطيعة وقيعة فيه فتسد طريقه عن الرجوع إليك، ولعل التجارب أن ترده إليك، وتصلحه لك.
من أحسّ بضعف حيلته عن الاكتساب بخل. الأمانة رأس مال الجاهل.
الجاهل صغير وإن كان شيخا، والعالم كبير وإن كان حدثا.
الميت يقلّ الحسد له، ويكثر الكذب عليه. الحرص ينقص من قدر الإنسان، ولا يزيد في حظّه. إذا نزلت بك النعمة فاجعل قراها الشّكر.
الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود. أبخل النّاس بماله أجودهم بعرضه. لا تعاجل الذنب بالعقوبة، واجعل بينهما للاعتذار طريقا. احرس منزلتك من الفساد عند سلطانك بمثل ما اكتسبتها به من الجدّ والمناصحة، واحذر أن يحطّك التهاون عمّا رقّاك إليه التحفّظ.
اذكر عند الظّلم عدل الله فيك، وعند القدرة قدرة الله عليك. لا يحملنّك الحنق على اقتراف إثم، فتشفي غيظك، وتسقم دينك.
الملك بالدّين يبقى، والدين بالملك يقوى. اقبل نصح الثيب وإن عجل.
أهل الدنيا كركب يسار بهم، وهم نيام. غضب الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله. كأنّ الحاسد إنما خلق ليغتاظ. أغن من وليته عن السرقة فليس تكفيك من لم تكف. عقل الكاتب في قلمه. يشفيك من الحاسد أنه يغتمّ في وقت سرورك. اقتصّ من شهوة خالفت عقلك بالخلاف عليها.
التواضع سلّم الشرف. السخاء حارس العرض من الذم، لا تستقلّ شيئا من زيادة الله لك فتنفّر بقيّتها عنك، وقليل يترقّى منه إلى كثير خير من كثير ينحطّ عنه إلى قليل. لا ترى الجاهل إلا مفرطا أو مفرّطا.(3/104)
أهل الدنيا كركب يسار بهم، وهم نيام. غضب الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله. كأنّ الحاسد إنما خلق ليغتاظ. أغن من وليته عن السرقة فليس تكفيك من لم تكف. عقل الكاتب في قلمه. يشفيك من الحاسد أنه يغتمّ في وقت سرورك. اقتصّ من شهوة خالفت عقلك بالخلاف عليها.
التواضع سلّم الشرف. السخاء حارس العرض من الذم، لا تستقلّ شيئا من زيادة الله لك فتنفّر بقيّتها عنك، وقليل يترقّى منه إلى كثير خير من كثير ينحطّ عنه إلى قليل. لا ترى الجاهل إلا مفرطا أو مفرّطا.
الكتاب والج الأبواب، جريء على الحجّاب، مفهم لا يفهم، وناطق لا يتكلم.
ما كلّ من يحسن وعده يحسن إنجازه. وربما أورد الطمع ولم يصدر، وضمن ولم يف. وربما شرق شارب الماء قبل ريّه. ومن تجاوز الكفاف لم يغنه إكثار. وكلّما عظم قدر المنافس فيه عظمت الفجيعة به. ومن ارتحله الحرص أنضاه الطّلب. والأماني تعمي أعين البصائر. والحظ يأتي من لا يأتيه.
وأشقى الناس بالسلطان صاحبه كما أنّ أقرب الأشياء إلى النار أسرعها احتراقا.
ولا يدرك الغنى بالسلطان إلّا نفس خائفة، وجسم تعب، ودين منثلم وإن كان البحر كثير الماء فإنه بعيد المهوى، ومن شارك السلطان في عزّ الدنيا شاركه في ذلّ الآخرة، وما أحلى تلقّي النعمة، وأمرّ عاقبة الفراق. ومن لم يتأمل الأمر بعين عقله لم يقع سيف حيلته إلا على مقاتله، والتّثبّت يسهّل طريق الرّأي إلى الإصابة، والعجلة تضمن العثرة.
كلّ مكروه ختم بمحبوب، وانتهى إلى السّلامة، فالهمّ به زائل، والأجر عليه حاصل. والحوادث لممضّة مكسبة لحظوظ جزيلة منها: ثواب المدخّر، وتطهير من ذنب، وتنبيه من غفلة، وتعريف بقدر المنعم ومرون على مقارعة الدهر، وفي الشكر درك المزيد وقضاء حق المنعم، ومواقع أقدار الله لك خير من مواقع آمالك.
بعد العسر يسر، والصّبر إلى تفريج. ربما أعقبت السابقة وأدرك المنضى (1) ومن ولج في النائبة صابرا خرج منها مثقّفا. إياك والتقصير، وتمنّي كلّ التيسير، ولا تدع الظّلم يستمرّ بك إذا أظلّك، واعلم أنّ الظالم سريع الوثبة قريب العثرة. ومن لم يعدل عدل الله فيه، ومن حكم لنفسه حكم الله عليه.
__________
(1) المنضى: المهزول، يقال: أنضى السفر الإبل، فهي منضاة.(3/105)
لما عرف أهل النقص حالهم عند أهل الكمال استعانوا بالكبر ليعظّم صغيرا، ويرفع حقيرا وليس بفاعل. إنّ الله يمتحن بالإنعام عليك فأفد من فائدته، واستمدّ فضلك من فضله.
بكرم الله نبلغ الكرم، ومن نعمه حمد المنعم، وهو المتغمّد للذنوب في عفوه، والناشر على الخطّائين جناح ستره، الكاشف الضرّ بيده التي بالعدل عاقبت، والمجيب للدعاء برحمته التي بالتوفيق أنطقت، والجواد بما كان في قدرته، والمنعم قبل الاستحقاق لنعمته، كم سيّئة قد أخفاها حلمه حتى دخلت في عفوه، وحسنة ضاعفها فضله حتى عظمت عليها مجازاته.
إنما يعرف اليقين بالله من التقوى.
الناس وفد البلى، وسكان الثّرى، ورهن المنايا. أنفاس الحيّ خطاه إلى أجله، وأمله خادع له عن عمله، والدنيا أكذب واعديه، والنفس أقرب أعاديه، والموت ناظر إليه وينتظر فيه أمرا لا يعييه.
على قدر إخلاصك الشكر تزيد عندك النّعم، ويسرع إليك المرجو.
إنّ أمر الله ونهيه ما وقعا إلّا على خير في الدنيا قبل الآخرة ندب إليه، أو شرّ في الدنيا قبل الآخرة حذّر منه، ثم وعد بالثواب على طاعتهم له، فيما فيه صلاح أحوالهم تفضّلا منه وامتنانا، ولو كان الله تبارك وتعالى لم ينزل كتابا ولم يرسل رسولا، ثم أجمع أهل الأرض على اختيار الأمور تصلحهم، وتشدّ نظامهم، وتنفي مكروه العواقب عنهم، وتجمع الكلمة، وتديم الألفة ليكون آية لأفعالهم لا يخالفونها، ولا يستبدلون بها، لم يكن إلّا ما أمر الله ورسله، ولو أجمعوا على الاجتناب لأمور تدعو إلى الفرقة، وترشح أطفال الضّغائن، وتدبّ عقارب الشّرّ، وتسفك الدماء، وتشظّي العصا، وتنقض الحبل، وتشتّت الشّمل، لم يكن إلّا ما نهى الله عنه ورسله.
لا يزال الإخوان يسافرون في المودّة حتى يبلغوا الثقة فتطمئنّ الدار، وتقبل وفود التناصح، وتؤمن خبايا الضمائر، وتلقى ملابس التخلق، وتحلّ عقد التحفظ. لولا الخطايا أشرق نور الفؤاد.
هي الدنيا تعير وتستعير، ومن لم يصبر اختيارا صبر اضطرارا. العاقل لا يستقبل النعمة ببطر، ولا يودعها بجزع.(3/106)
لا يزال الإخوان يسافرون في المودّة حتى يبلغوا الثقة فتطمئنّ الدار، وتقبل وفود التناصح، وتؤمن خبايا الضمائر، وتلقى ملابس التخلق، وتحلّ عقد التحفظ. لولا الخطايا أشرق نور الفؤاد.
هي الدنيا تعير وتستعير، ومن لم يصبر اختيارا صبر اضطرارا. العاقل لا يستقبل النعمة ببطر، ولا يودعها بجزع.
الدنيا تطرق بطرقة نقمة، وتنبّه برائع نجعه، وتجرّع ثكلها كأسا مرة، تقتل معترضة، وتعترض متنكرة، وتقفّي بالرضاع، وتنشىء العظام، وتلدح الأعمار (1)
وتنشر الآمال، وتفيد لتكيد، وتسرّ لتغر، وبهذا الخلق عرفت، وعلى هذا الشرط صوحبت.
الأمور وإن كانت مقدّرة فمن تقدير الله في أكثر ما جرّبنا أن يكون المحتال أقرب إلى المأمول، وأبعد من المحذور، من المفرّط في الأمور، المستسلم للخطوب، المؤخّر لاستعمال الحزم.
إن الله يبتدىء بمواهب الدنيا، فإذا استرجعها كانت مواهب الآخرة. من عظمت النعمة عليه كثرت الرغبة إليه، فاستجلب بالإنعام منك إنعام الله عليك، واستزد بما تهب ما يهب لك، وعجّل إن نويت جودا، وتأنّ إن أردت تمنّعا ولا تكن ممّن ولايته مواعيد، وصرفه اعتذار.
العقل كشجرة أصلها غريزة، وفرعها تجربة، وثمرتها حمد العاقبة، وما أبين وجوه الخير والشر في مرآة العقل إن لم يصدئها الهوى.
ما ذلّ قوم حتى ضعفوا، وما ضعفوا حتى تفرّقوا، وما تفرّقوا حتى اختلفوا، وما اختلفوا حتى تباغضوا، وما تباغضوا حتى تحاسدوا، وما تحاسدوا حتى استأثر بعضهم على بعض.
تناول الفرصة الممكنة، ولا تنتظر غدا، ومن لغد من حادث بكفيل؟ ما أقل من يحمده المطالب، ويستقلّ به العاثر، ويرضى عنه السائل! وما زالت أمّ الكرم نزورا، وأمّ اللؤم ولودا. وأكثر الواجدين من لا يجود، وأكثر الأجاود من لا يجد. وما كل من يورق بوعد يثمر بإنجاز.
ولا بدّ لمن افتقرت حياته إلى المادة، وعهد بقاؤه إلى المطعم والمشرب من أن يضطر إلى السعي، ويحفز إلى الطّلب، فينجح مرة،
__________
(1) تلدح الأعمار: من لدح: أي خبط بشدة، ولدحه: إذا خبطه باليد بشدة.(3/107)
ويكدي (1) أخرى، وقد قرن الرزق بسببه، والعيش بالتماس مصلحته وبذل الافتقار.
ما كلّ هفوة تعدّ ذنبا، ولا كل إنكار يستحق أن يسمى عتبا.
إخوان السوء ينصرفون عند النكبة، ويقبلون مع النعمة، ومن شأنهم التوسل بالإخلاص والمحبة، إلى أن يظفروا بالأنس والثقة، ثم يوكّلون الأعين بالأفعال، والأسماع بالأقوال فإن رأوا خيرا ونالوه لم يذكروه ولم يشكروه، وعملوا على أنهم خدعوا صاحبهم عنه وقمروه (2) وإن رأوا شرا أو ظنّوه أذاعوه ونشروه فإذا أدمت مواصلتهم فهو الداء المماطل، المخوف على المقاتل وإن استرحت إلى مصارمتهم (3) ادّعوا الخبرة بك لطول العشرة فكان كذب حديثهم مصدّقا، وباطله محقّقا.
إنما يقتل الكبار الأعداء الصغار، الذين لا يخافون فيتّقون. ولا يؤبه لهم وهم يكيدون.
ما ينفع ولد الملك من تأذيب المؤدبين إياه؟ وهو يغدو ويروح فيراه على خلاف ما يأمره به المؤدبون، ولم يزل الباطل على نفوس الرجال أخفّ محملا، وأحلى طعما فكيف الصبيان؟. المؤدب يأمر الغلام بألّا يشتم أحدا، ويتجنب المحارم، ويحسّن خلائقه، ويعلمه من الفقه الأبواب التي لا غنى بمسلم عن معرفتها، ومن الشعر الشاهد والمثل، ومن الإعراب ما يصلح به لفظه، ومن الغزل أعفّه. وهو يرى أباه في كل ساعة بخلاف ما يؤمر به، وتاركا لما خصّ عليه حتى إنه ليستثقل اللفظة تجري في مجلسه بإعراب ويصدّ عن منشد لبيت شعر، ولا يخاطب غلامه ولا يمازح جليسه إلا بالشتم واللعنة، ولا يحتشم من ورود محرّم، ولا يتقي كبيرة ثم يراه مع ذلك وقد بلغ غاية آماله من الدنيا فيوشك أن يحدّث نفسه بأنّ أباه لا يخلو من أن يكون علم ما يسام فاطّرحه، ورأى أنه لا خير فيه، أو لم يعلم شيئا من ذلك فلم يضره جهله إياه، ولا صرف عنه حظّا من دنياه، وكلا المعنيين مزهّد له في قبول الأدب، ومزيّن له ترك عنائه، وربح تعبه فيه.
__________
(1) أكدى: افتقر بعد غنى.
(2) قمروه: خدعوه.
(3) المصارمة: المقاطعة.(3/108)
لا تكاد تصحّ لكذّاب رؤيا لأنه يخبر عن نفسه في اليقظة بما لم ير فتريه في النوم ما لا يكون.
لا يفسدك الظنّ على صديق قد أصلحك اليقين له. من المحدّثين من يحسن أن يسمع ويستمع، وينفي الإملال ببعض الإقلال، ويزيد إذا استملى من العيون الاستزادة، ويعرف كيف يفصل ويصل، ويحكي ويشير، فذاك يزين الأدب كما يتزيّن بالأدب.
ربّ ذنب مقدار العقوبة عليه إعلام المذنب به، ولا يجاوز به حدّ الارتياع إلى الإيقاع.
إن للأزمان المذمومة والمحمودة أعمارا وآجالا كأعمار الناس وآجالهم فاصبروا لزمان السّور حتى يفنى عمره، ويأتي أجله.
أسباب فتن النساء ثلاثة: عين ناظرة، وصورة موافقة، وشهوة قادرة فالحكيم من لم يردد النظرة حتى يعرف حقائق الصورة، ولو أنّ رجلا رأى امرأة فوافقته ثم طالبها فتأبّت عليه، هل كان إلّا تاركها؟ فإن تأبّى عليه عقله في مطالبتها كتأبّيها عليه في مساعفتها، وقدع نفسه عن لذته، قدع الغيور إياه عن حرمته سلم.
ينبغي للعاقل أن يغني أولاده في حياته ليؤدّبهم في حال الغنى، ويعلمهم سياسة النعمة، وإلّا ظفروا بالغنى بعده وهم جهال به، فلم يكتسبوا حمده، وأسرعوا للتعرّي، وحصلوا على ذم الصاحب، وندم العواقب.
اجهل ممّن لا يكتسب الإخوان من ينفقهم. مشاورة الحازم المشفق ظفر، ومشاورة المشفق غير الحازم خطر. لا يكن فقرك كفرا، وغناك طغيانا.
المشورة راحة لك، وتعب على غيرك.
ما تكاد الظنون تزدحم على أمر مستور إلا كشفته. ينبغي للعاقل أن يكتسب ببعض ماله المحمدة، ويصون ببعضه نفسه عن المسألة.
من أكثر مذاكرة العلماء لم ينس ما علم، واستفاد ما لم يعلم. خير المعروف ما لم يتقدمه المطل، ولم يتبعه المنّ. المعروف كنز فانظر من تودعه.
من ترك العقوبة أغرى بالذّنب.(3/109)
من ترك العقوبة أغرى بالذّنب.
الباب الرابع كلام جماعة من بني أمية
قال سعيد بن العاص: لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فيجترىء عليك.
ودخل عمرو بن سعيد إلى معاوية فقال له: إلى من أوصى بك أبوك؟
قال: إنّ أبي أوصى إليّ، ولم يوص بي. قال: فبأيّ شيء أوصاك؟ قال:
أوصاني ألا يفقد إخوانه منه إلا وجهه. فقال معاوية لأصحابه: إن ابن سعيد هذا لأشدق.
قال عتبة بن أبي سفيان لمعلم ولده: ليكن أوّل إصلاحك لولدي إصلاح نفسك فإنّ عيونهم معقودة بعينك فالحسن عندهم ما استحسنته، والقبيح عندهم ما استقبحته علّمهم كتاب الله، وروّهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفّه، ولا تكرههم على علم فيملّوه، ولا تدعهم فيهجروه، ولا تخرجهم من علم إلى علم حتى يتقنوه فإنّ ازدحام العلم في السمع مضلّة للفهم وعلّمهم سير الحكماء، وهدّدهم بي. وأدبهم دوني ولا تتكل على عذر منّي فإني اتكلت على كفاية منك.
أطعم أبو سفيان الناس في حجّة الوداع، فقصّر طعامه، فاستعان برسول الله صلى الله عليه وسلّم فأعانه بألف شاة فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي لقد حاربناك فما أجبنّاك، وسألناك فما أبخلناك.
قال سعيد بن العاص موطنان لا أعتذر من العيّ فيهما: إذا سألت حاجة لنفسي، وإذا أكملت جاهلا.
وكان سعيد بن العاص واليا على المدينة من قبل معاوية، وكان معاوية يعاقب بينه وبين مروان في ولايتها، وكان يغري بينهما فكتب إلى سعيد: أن
اهدم دار مروان، فلم يهدمها، وأعاد إليه الكتاب بهدمها، فلم يفعل، فعزله، وولى مروان، وكتب إليه: أن اهدم دار سعيد فأرسل الفعلة، وركب ليهدمها فقال له سعيد: يا أبا عبد الملك أتهدم داري؟ قال: نعم، كتب إليّ أمير المؤمنين، ولو كتب إليك في هدم داري لفعلت. فقال: ما كنت لأفعل. قال:(3/110)
وكان سعيد بن العاص واليا على المدينة من قبل معاوية، وكان معاوية يعاقب بينه وبين مروان في ولايتها، وكان يغري بينهما فكتب إلى سعيد: أن
اهدم دار مروان، فلم يهدمها، وأعاد إليه الكتاب بهدمها، فلم يفعل، فعزله، وولى مروان، وكتب إليه: أن اهدم دار سعيد فأرسل الفعلة، وركب ليهدمها فقال له سعيد: يا أبا عبد الملك أتهدم داري؟ قال: نعم، كتب إليّ أمير المؤمنين، ولو كتب إليك في هدم داري لفعلت. فقال: ما كنت لأفعل. قال:
بلى، والله لو كتب إليك لهدمتها. قال: كلّا يا أبا عبد الملك وقال لغلامه:
انطلق فجئني بكتاب معاوية فجاء به، فقال مروان: كتب إليك يا أبا عثمان في هدم داري، فلم تهدمها ولم تعلمني؟ قال: ما كنت لأهدم دارك، ولا أمنّ عليك، وإنما أراد معاوية أن يحرّض بيننا فقال مروان: فداك أبي وأمي، أنت والله أكثر مني ريشا وعقبا، ورجع فلم يهدم دار سعيد.
وقدم سعيد على معاوية، فقال له: يا أبا عثمان كيف تركت أبا عبد الملك؟ قال: تركته ضابطا لعملك، منفّذا لأمرك. قال: إنه كصاحب الخبزة كفي نضجها فأكلها. قال: كلا والله يا أمير المؤمنين، إنّه لمع قوم يحمل بهم السّوط، ولا يحلّ لهم السيف، يتهادون كوقع النبل، سهما لك وسهما عليك. قال: ما باعد بينك وبينه؟ قال: خافني على شرفه، وخفته على شرفي.
قال: فما ذاله عندك؟ قال: أسرّه غائبا، وأسوءه شاهدا؟. قال: تركتنا يا أبا عثمان في هذه الهنات. قال: نعم يا أمير المؤمنين، فتحملت الثقل وكفيت الحزم، وكنت قريبا لو دعوت أجبت، ولو وهيت رفعت.
خطب عتبة بن أبي سفيان بمصر فقال: يا حاملي ألأم آناف ركّبت بين أعين، إني إنما قلّمت أظفاري عنكم ليلين مسّي إياكم، وسألتكم صلاح أمركم إذ كان فساده راجعا عليكم فإذا أبيتم إلّا الطعن على الولاة، والتعرّض للسلف فو الله لأقطّعنّ على ظهوركم بطون السياط، فإن حسمت داءكم وإلا فالسيف من ورائكم. فكم من موعظة منا لكم مجّتها قلوبكم، وزجرة صمّت عنها آذانكم، ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم لنا بالمعصية، ولا أويسكم من مراجعة الحق، إن صرتم إلى التي هي أبرّ وأتقى.
كتب زياد إلى سعيد بن العاص يخطب إليه أمّ عثمان ابنته، وبعث إليه بمال وهدايا كثيرة، فلما قرأ كتابه أمر حاجبه بقبض المال والهدايا وقسمها بين
جلسائه فقال الحاجب: إنها أكثر من ذلك، فقال: أنا أكثر منها. ففعل ثم كتب إلى زياد.(3/111)
كتب زياد إلى سعيد بن العاص يخطب إليه أمّ عثمان ابنته، وبعث إليه بمال وهدايا كثيرة، فلما قرأ كتابه أمر حاجبه بقبض المال والهدايا وقسمها بين
جلسائه فقال الحاجب: إنها أكثر من ذلك، فقال: أنا أكثر منها. ففعل ثم كتب إلى زياد.
بسم الله الرّحمن الرّحيم {كَلََّا إِنَّ الْإِنْسََانَ لَيَطْغى ََ (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ََ} (7) [العلق: الآيتان 6، 7].
كان أبو سفيان إذا نزل به جار قال له: يا هذا إنك قد اخترتني جارا واخترت داري دارا فجناية يدك عليّ دونك، وإن جنت عليك يد فاحتكم حكم الصبيّ على أهله.
ولّى أبو بكر رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان ربعا من أرباع الشام، فرقي المنبر فتكلّم، فأرتج عليه، فاستأنف، فأرتج عليه فقطع الخطبة ثم أقبل على الناس فقال: «سيجعل الله بعد عسر يسرا، وبعد عيّ بيانا، وأنتم إلى أمير فعّال أحوج منكم إلى أمير قوال». فبلغ كلامه عمرو بن العاص فقال: هنّ مخرجاتي من الشام! استحسانا لكلامه.
ذكر العتبيّ: أنّ معاوية بن أبي سفيان أسرّ إلى عمرو بن عنبسة بن أبي سفيان حديثا، قال عمرو: فجئت إلى أبي، فقلت: إنّ أمير المؤمنين أسرّ إليّ حديثا، أفأحدّثك به؟ قال: لا لأنّه من كتم حديثه كان الخيار إليه، ومن أظهره كان الخيار عليه، فلا تجعل نفسك مملوكا، بعد أن كنت مالكا. فقلت: أو يدخل هذا بين الرجل وابنه؟ قال: لا، ولكن أكره أن تذلّل لسانك بإفشاء السرّ.
قال: فرجعت إلى معاوية، فذكرت ذلك له. فقال: أعتقك أخي من رقّ الخطأ.
خطب عنبة بن أبي سفيان الناس بالموسم في سنة إحدى وأربعين، وعهد الناس حديث بالفتنة، فاستفتح، ثم قال:
أيّها الناس إنا قد ولّينا هذا الموضع الذي يضاعف الله عزّ وجلّ للمحسنين فيه الأجر، وعلى المسيء الوزر، فلا تمدّوا الأعناق إلى غيرنا، فإنها تنقطع دوننا، ورب متمنّ حتفه في أمنيته. اقبلوا العافية ما قبلناها منكم وفيكم، وإياكم و «لو»، فقد أتعبت من كان قبلكم، ولن تريح من بعدكم. أسأل الله أن يعين كلّا على كلّ.
فنعق أعرابي من مؤخّر المسجد، فقال: أيها الخليفة فقال: لست به ولم تبعد. قال: فيا أخاه. قال: قد أسمعت فقل. قال: والله لئن تحسنوا وقد أسأنا خير لكم من أن تسيئوا وقد أحسنّا فإن كان الإحسان لكم، فما أحقكم باستتمامه! وإن كان لنا فما أحقكم بمكافأتنا! رجل من بني عامر يمتّ إليكم بالعمومة، ويختصّ إليكم بالخؤولة، وقد وطئه كيد زمان، وكثرة عيال، وفيه أجر، وعنده شكر. فقال عتبة: أستعيذ بالله منك، وأستعينه عليك، قد أمرت لك بغناك، فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك.(3/112)
أيّها الناس إنا قد ولّينا هذا الموضع الذي يضاعف الله عزّ وجلّ للمحسنين فيه الأجر، وعلى المسيء الوزر، فلا تمدّوا الأعناق إلى غيرنا، فإنها تنقطع دوننا، ورب متمنّ حتفه في أمنيته. اقبلوا العافية ما قبلناها منكم وفيكم، وإياكم و «لو»، فقد أتعبت من كان قبلكم، ولن تريح من بعدكم. أسأل الله أن يعين كلّا على كلّ.
فنعق أعرابي من مؤخّر المسجد، فقال: أيها الخليفة فقال: لست به ولم تبعد. قال: فيا أخاه. قال: قد أسمعت فقل. قال: والله لئن تحسنوا وقد أسأنا خير لكم من أن تسيئوا وقد أحسنّا فإن كان الإحسان لكم، فما أحقكم باستتمامه! وإن كان لنا فما أحقكم بمكافأتنا! رجل من بني عامر يمتّ إليكم بالعمومة، ويختصّ إليكم بالخؤولة، وقد وطئه كيد زمان، وكثرة عيال، وفيه أجر، وعنده شكر. فقال عتبة: أستعيذ بالله منك، وأستعينه عليك، قد أمرت لك بغناك، فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك.
قال داود بن علي لإسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص، بعد قتله من قتل من بني أمية: أساءك ما فعلت بأصحابك؟ قال: كانوا يدا فقطعتها، وعضدا ففتّتها، ومرة فنقضتها، وجناحا فنقته. قال: إنّي لخليق أن ألحقك بهم. قال:
إني إذا لسعيد.
قيل لأبي سفيان: بم سدت قومك؟ قال: لم أخاصم أحدا إلّا تركت للصّلح موضعا.
خطب عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان إلى عتبة بن أبي سفيان ابنته، فأقعده على فخذه، وكان حدثا فقال: أقرب قريب خطب أحبّ حبيب، لا أستطيع له ردا، ولا أجد من تشفيعه بدا قد زوّجتك، وأنت أعزّ عليّ منها، وهي ألوط بقلبي منك، فأكرمها يعذب على لساني ذكرك، ولا تهنها فيصغر عندي قدرك، وقد قرّبتك مع قرابتك، فلا تباعدنّ قلبي منك.
رأى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال للعباس: يا أبا الفضل ما رأيت كاليوم طاعة قوم، ولا فارس الأكارم، ولا الروم ذات القرون.
وقال أبو سفيان: إن محمدا لم يناكر أحدا قطّ إلّا كان معه الأهوال.
يناكر: يحارب، وقيل: يخادع، وقوله: الأهوال مثل قول النبيّ عليه السلام: «نصرت بالرّعب».
وقال أبو سفيان في غزوة السّويق: أما أخذت سيفا ولا نبلا إلّا تعسّر علي، ولقد قمت إلى بكرة قحدة (1)، أريد أن أعرقبها (2)، فما استطبعت سيفي لعرقوبها، فتناولت القوس والنّبل لأرمي ظبية عصماء (3) نردّ بها قرمنا (4)، فانثنت على سيتاها وانمرط قذذ السهم وانتصل فعرفت أنّ القوم ليست فيهم حيلة.(3/113)
يناكر: يحارب، وقيل: يخادع، وقوله: الأهوال مثل قول النبيّ عليه السلام: «نصرت بالرّعب».
وقال أبو سفيان في غزوة السّويق: أما أخذت سيفا ولا نبلا إلّا تعسّر علي، ولقد قمت إلى بكرة قحدة (1)، أريد أن أعرقبها (2)، فما استطبعت سيفي لعرقوبها، فتناولت القوس والنّبل لأرمي ظبية عصماء (3) نردّ بها قرمنا (4)، فانثنت على سيتاها وانمرط قذذ السهم وانتصل فعرفت أنّ القوم ليست فيهم حيلة.
وفد ابن عامر على عثمان فدخل عليه وعنده أبو سفيان فقال له أبو سفيان: من استخلفت على أهل البصرة؟ قال: زيادا. قال: جدّ ثديا أمّك.
استخلفت عليهم رجلا من الفرس.
وخطب عمرو بن سعيد في فتنة ابن الزّبير، فقال: يا أهل المدينة أبنا تضربون سيوفكم؟ أما إنكم فعلتم فعلتكم الأولى فأقالكم، ولو انتقم بالأوّل لم تعودوا إلى الثانية، ولكنكم صادفتم مسنّا رحيما، قد فني غضبه، وبقي حلمه فقد وليناكم بالشابّ المقتبل الطويل الأمل، البعيد الأجل، حين خرج من الصّغر، ودخل في الكبر رفيق عنيف، رقيق كثيف، إن عضّ نهس، وإن سطا فرس، لا يقعقع له بالشّنان، ولا يقرع له بالعصا، يرى ما غاب عنه كما يرى ما حضر.
ورأى عمرو بن عتبة بن أبي سفيان رجلا يشتم رجلا، وآخر يستمع له فقال للمستمع: نزّه نفسك عن استماع الخنا كما تنزه لسانك عن الكلام به فإن السامع شريك القائل، وإنما نظر إلى شرّ ما في وعائه فأفرغه في وعائك، ولو ردّت كلمة جاهل في فيه لسعد رادّها، كما شقي قائلها.
قال أبو سفيان عند ما بلغه تزويج النبيّ عليه السلام أمّ حبيبة ابنته.
وقيل لأبي سفيان: مثلك تنكح نساؤه بغير إذنه فقال: ذاك الفحل لا يقدع أنفه.
قال أبو سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم استعملني، فاستعمله على سوق عكاظ، فأتاه رجلان يتنازعان، فقال أحدهما: إن هذا سرق مني مائة دينار، وقال
__________
(1) القحدة: العظيمة السنام.
(2) عرقب الدابة: أي قطع عرقوبها، والعرقوب في رجل الدابة بمنزلة الركبة من الإنسان.
(3) الظبية العصماء: التي في يدها بياض.
(4) القرم: شدّة الشهوة إلى اللحم.(3/114)
الآخر: ليس كما قال، ولكني استسلفته مائة دينار فأبى أن يسلفنيها، فلما خرج من البيت، جئت برجلين، فأشهدتهما أني آخذ من عيبته مائة دينار، وأنها عليّ له فقال أبو سفيان: أول ما أقضي به أنك لئيم، وأن هذا لا قطع عليه.
قال: فأبى المدّعي حتى ارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: قد قضيت بقضاء أبي سفيان.
استعمل عبد الملك نافع بن علقمة بن صفوان على مكة فخطب ذات يوم وأبان بن عثمان تحت المنبر، فشتم طلحة والزّبير فلما نزل قال لأبان:
أرضيتك في المدهنين في أمير المؤمنين؟ قال: لا والله، ولكن سؤتني، حسبي أن يكونا شركاء في أمره. قال أبو عثمان الجاحظ: فما أدري أيّهما أحسن: كلام أبان بن عثمان هذا أم كلام إسحق بن عيسى، فإنه قال: أعيذ عليّا بالله أن يكون قتل عثمان، وأعيذ عثمان بالله أن يقتله عليّ. قال:
وذهب إلى معنى الحديث في قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أشدّ أهل النار عذابا من قتل نبيّا أو قتله نبيّ».
قالوا: لما استتبّ الأمر لمعاوية قدم عليه عبد الله بن عباس، وهي أول قدمة قدمها عليه، فدخل وكأنه قرحة يتبجّس، فجعل عتبة بن أبي سفيان يطيل النظر إلى ابن عباس، ويقلّ الكلام معه. فقال ابن عباس: يا عتبة إنك لتطيل النظر إليّ، وتقلّ الكلام معي. ألموجدة فدامت، أو لمعتبة فلا زالت؟ قال له عتبة: ماذا أبقيت لما لا رأيت؟ أمّا طول نظري إليك فسرورا بك، وأما قلة كلامي معك فقلّته مع غيرك، ولو سلّطت الحقّ على نفسك لعلمت أنه لا ينظر إليك عين مبغض.
فقال ابن عباس: أمهيت (1) يا أبا الوليد، أمهيت! لو تحقق عندنا أكثر ممّا ظننّاه لمحاه أقلّ مما قلت.
فذهب بعض من حضر أن يتكلم، فقال معاوية: اسكت. وجعل معاوية يصفق بيديه ويقول: [الرجز]
جندلتان اصطكّتا اصطكاكا ... دعوت عركا إذ دعوا عراكا
__________
(1) أمهيت: أي بلغت ما تريد، وأصله: بلغ في حفره الماء.(3/115)
إنّ الداخل بين قريش لحائن (1) نفسه.
كتب عمرو بن سعيد إلى عبد الملك:
استدراج النّعم إياك أفادك البغي، ورائحة القدرة أورثتك الغفلة، فزجرت عمّا واقعت مثله، وندبت إلى ما تركت سبله، ولو كان ضعف الأسباب يوئس الطّالب ما انتقل سلطان ولا ذلّ عزيز وعن قريب يتبين من صريع بغي، وأسير غفلة، والرّحم تعطف على الإبقاء عليك، مع أخذك ما غيرك أقوم به منك.
وقال سعيد بن العاص: قبح الله المعروف إذا لم يكن ابتداء من غير مسألة، فأمّا إذا أتاك ترى دمه في وجهه، مخاطرا لا يدري أتعطيه أم لا، وقد بات ليلته يتململ على فراشه، يعاقب بين شقّيه مرة هكذا، ومرة هكذا، من لحاجته، فخطرت بباله أنا وغيري، فميّل أرجاهم في نفسه، وأقربهم من حاجته، ثم عزم عليّ وترك غيري، فلو خرجت له مما أملك لم أكافه، وهو عليّ أمنّ مني عليه.
قالوا: لمّا ولي عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك دمشق، ولم يكن في بني أمية ألبّ منه في حداثة سنة، قال أهل دمشق: هذا غلام شابّ، ولا علم له بالأمور، وسيسمع منا فقام إليه رجل فقال: أصلح الله الأمير، عندي نصيحة. قال له: ليت شعري ما هذه النصيحة التي ابتدأتني بها، من غير يد سبقت منّي إليك؟ قال: جار لي عاص متخلف عن ثغر. فقال له: ما اتقيت الله، ولا أكرمت أميرك ولا حفظت جوارك. إن شئت نظرنا فيما تقول، فإن كنت صادقا لم ينفعك ذلك عندنا، وإن كنت كاذبا عاقبناك، وإن شئت أقلناك.
قال: أقلني. قال: اذهب حيث شئت لا صحبك الله. إني أراك شرّ جيل رجلا.
ثم قال: يا أهل دمشق أما أعظمتم ما جاء به الفاسق؟ إن السعاية أحسب منه سجيّة، ولولا أنه لا ينبغي للوالي أن يعاقب قبل أن يعاتب كان لي في ذلك رأي، فلا يأتينّي أحد منكم بسعاية على أحد بشيء، فإنّ الصادق فيها فاسق، والكاذب فيها بهّات.
__________
(1) الحائن: الهالك. أي أتاه الحين وهو الهلاك.(3/116)
قال: وقع ميراث بين ناس من آل أبي سفيان، فتشاحّوا فيه، وتضايقوا فلما قاموا أقبل عمرو بن عتبة على ولده، فقال:
إنّ لقريش درجا تزلّ عنها أقدام الرجال، وتخشع لها رقاب الأموال، وألسنا تكلّ عنها الشّفار المشحوذة، وغايات تقصر عنها الجياد المنسوبة فلو كانت الدنيا لهم لضاقت عن سعة أخلاقهم، ولو احتلفت الدّنيا ما تزينت إلّا بهم.
ثم إنّ ناسا منهم تخلّقوا بأخلاق العوامّ، فصار لهم رفق باللؤم، وخرق في الحرص، فلو أمكنهم قاسموا الطير أرزاقها، إن خافوا مكروها تعجّلوا له الغم، وإن عجلت لهم نعمة أخّروا عليها الشكر، أولئك أنضاء فكر العجز، وعجزة حمل الشكر.
قال: وقطع عبد الملك أشياء كان يجريها عليهم لتباعد كان بينه وبين خالد بن يزيد بن معاوية فدخل عليه عمرو بن عتبة فقال: يا أمير المؤمنين أداء حقّك متعب، وتقصّيه فادح، ولنا مع حقّك حقّ عليك لقرابتنا منك، وإكرام سلفنا لك، فانظر لنا بالعين التي نظروا بها إليك، وضعنا بحين وضعتنا الرّحم منك، وزدنا بقدر ما زادك الله.
فقال عبد الملك: أفعل. وإنما يستحق عطيتي من استعطاها، فأمّا من ظنّ أنه يستغني بنفسه فسنكله إلى ذلك.
فبلغ ذلك خالد بن يزيد، فقال: أبا الحرمان يتهدّدني؟ ويد الله فوقه مانعة، وعطاؤه دونه مبذول. فأما عمرو بن عتبة فقد أعطى من نفسه أكثر مما أخذ.
وكان عبد الملك قد أقطع عمرا نهرا بالبصرة يقال له: هوادر.
خطب سعيد بن العاص أم كلثوم بنت علي عليه السلام وبعث إليها مائة ألف درهم، فشاورت الحسن في ذلك، فقال: أنا أزوّجك. واتّعدوا، ولم يحضر الحسين. فقال سعيد: أين أبو عبد الله؟ فقال الحسن: لم يحضر، وأنا أكفيك. فقال: ولعله كره شيئا مما نحن فيه. قالوا: نعم. فقال سعيد: لم أكن لأدخل في شيء كرهه أبو عبد الله فتفرقوا عن غير تزويج، وردّت المال، فلم يقبله سعيد.
كان أبو سفيان يبني بيتا، فمرّ به عمر، فقال: يا أبا سفيان احذر أن تأخذ من الطريق شيئا، فلما ولّي عمر قال أبو سفيان: في است أم دين أذلّني لك.(3/117)
خطب سعيد بن العاص أم كلثوم بنت علي عليه السلام وبعث إليها مائة ألف درهم، فشاورت الحسن في ذلك، فقال: أنا أزوّجك. واتّعدوا، ولم يحضر الحسين. فقال سعيد: أين أبو عبد الله؟ فقال الحسن: لم يحضر، وأنا أكفيك. فقال: ولعله كره شيئا مما نحن فيه. قالوا: نعم. فقال سعيد: لم أكن لأدخل في شيء كرهه أبو عبد الله فتفرقوا عن غير تزويج، وردّت المال، فلم يقبله سعيد.
كان أبو سفيان يبني بيتا، فمرّ به عمر، فقال: يا أبا سفيان احذر أن تأخذ من الطريق شيئا، فلما ولّي عمر قال أبو سفيان: في است أم دين أذلّني لك.
قال سعيد بن العاص لابنه عمرو: إنّ الولاية تظهر المحاسن والمساوىء.
وسئل أبو سفيان: بم سدّت قومك؟ قال: لم يقع بيني وبين رجل منازعة إلا تركت للصلح بيني وبينه موضعا.
وقال سعيد بن العاص: ما شاتمت رجلا منذ كنت رجلا لأني لا أشاتم إلّا أحد رجلين: إما كريم فأنا أحقّ من احتمله، وإما لئيم فأنا أولى من رفع نفسه عنه.
قال عبد العزيز بن مروان: ما تأمّلني رجل قط إلا سألته عن حاجته، ثم كنت من ورائها.(3/118)
قال عبد العزيز بن مروان: ما تأمّلني رجل قط إلا سألته عن حاجته، ثم كنت من ورائها.
الباب الخامس نكت لآل الزبير
قدم فضالة بن شريك، على عبد الله بن الزبير فقال: إني سرت إليك الهواجر يا أمير المؤمنين. قال: ولم؟ أما كان لك في البردين (1) ما تسيرهما؟ كأنك تبادر نهبا، لا أبا لك، فقال: إنّ ناقتي قد نقب خفّها فاحملني. قال: ارقعها بجلد، واخصفها بهلب (2)، وأنجد بها، وسر بها البردين. قال: إنما أتيتك مستحملا، ولم آتك مستوصفا. لعن الله ناقة حملتني إليك. قال: إن وراكبها، فانصرف وهجاه بالأبيات التي يقول فيها (3): [الوافر]
أرى الحاجات عند أبي خبيب ... نكدن، ولا أميّة في البلاد
كان مصعب يقول: المرأة فراش فاستوثروا.
نازع ابن الزبير مروان في مجلس معاوية، فرأى أن ضلع معاوية مع مروان، فقال: يا أمير المؤمنين إنّ لك حقّا وطاعة علينا، وإنّ لنا سطة وحرمة، فأطع الله يطعك فإنه لا طاعة لك علينا إلّا في حقّ الله، ولا تطرق إطراق الأفعوان في أصول السّخبر.
وقال له مرة: يا معاوية لا تدع مروان يرمي جماهير قريش بمشاقصه ويضرب صفاتهم بمعوله، لولا مكانك لكان أخفّ على رقابنا من فراشة، وأقل في أنفسنا من خشاشة. وأيم الله لئن ملك أعنّة خيل تنقاد له ليركبنّ منك طبقا تخافه.
__________
(1) البردان: الغداة والعشي لبرود الجو فيهما.
(2) الهلب: الشعر أو الخصلة منه.
(3) البيت في الأغاني 1/ 8.(3/119)
فقال معاوية: إن يطلب هذا الأمر فقد طمع فيه من هو دونه وإن يتركه يتركه لمن فوقه وما أراكم بمنتهين حتى يبعث الله عليكم من لا يعطف عليكم بقرابة، ولا يذكركم عند ملمّة، ويسومكم خسفا، ويوردكم تلفا.
قال ابن الزبير: إذا والله نطلق عقال الحرب، بكتائب تمور كرجل الجراد، تتبع غطريفا من قريش لم تكن أمّه براعية ثلّة.
قال معاوية: أنا ابن هند، أطلقت عقال الحرب، فأكلت ذروة السنام، وشربت عنفوان المكرع، وليس للآكل إلّا الفلذة، ولا للشارب إلا الرّنق.
ليم مصعب بن الزّبير على طول خطبته عشية عرفة فقال: أنا قائم وهم جلوس وأتكلم وهم سكوت ويضجرون!.
وكان عبد الله بن الزّبير يقول: لا عاش بخير من لم ير برأيه ما لم ير بعينه.
لما تواقف عبد الملك بن مروان، ومصعب بن الزبير، أرسل عبد الملك إلى مصعب أن انصرف، ولك ولاية العراق ما عشت فأرسل إليه: إنّ مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا ظالما أو مظلوما.
قال عروة بن الزبير: التواضع أحد مصايد الشرف.
لما قال عبد الله بن الزبير: أكلتم تمري، وعصيتم أمري. قال فيه الشاعر (1): [الطويل]
رأيت أبا بكر وربّك غالب ... على أمره يبغي الخلافة بالتمر
قال عمر بن شبّة. وقف ابن الزبير على باب ميّة مولاة كانت لمعاوية، ترفع حوائج الناس إليها فقيل له: يا أبا بكر تقف على باب ميّة! قال: نعم.
إذ أعيتك الأمور من رؤوسها فأتها من أذنابها.
كان عبد الله بن الزبير يسبّ ثقيفا إذا فرغ من خطبته بقدر أذان المؤذن، وكان فيما يقول: قصار الخدود، لئام الجدود، سود الجلود، بقية قوم ثمود.
__________
(1) البيت بلا نسبة في عيون الأخبار 2/ 31.(3/120)
قال عروة: لعهدي بالناس، والرجل منهم إذا أراد أن يسوء جاره سأل غيره حاجته، فيشكوه جاره، ويقول: تجاوزني بحاجته، أراد بذلك شيني. لما أتى عبد الله بن الزبير قتل مصعب خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
إنه أتانا خبر مقتل المصعب فسررنا واكتأبنا فأمّا السرور فلما قدّر له من الشهادة، وخير له من الثواب، وأمّا الكآبة فلوعة يجدها الحميم لفراق حميمه. وإنّا والله لا نموت حبجا (1) كميتة آل أبي العاص. إنما نموت قتلا بالرماح، وقعصا (2) تحت ظلال السيوف، فإن يهلك المصعب فإنّ في آل الزبير خلفا.
وقال لما أتاه قتله: أشهده المهلّب؟ قالوا: لا. كان المهلب في وجوه الخوارج. قال: أفشهده عبّاد بن الحصين الحبطي؟ قالوا: لا. قال: أفشهده عبد الله بن خازم السّلمى؟ قالوا: لا، فتمثل عبد الله بن الزبير (3): [الطويل]
فقلت لا عيثى جعار، وجرّري ... بلحم امرىء لم يشهد اليوم ناصره
كان عروة بن الزبير إذا ذكر مقتل عثمان يقول: كان على أتقى لله من أن يقتل عثمان، وكان عثمان أتقى لله من أن يقتله علي.
قالوا: أقحمت السنة النابغة الجعديّ، فلم يشعر به عبد الله بن الزبير حين صلى الفجر، حتى مثل بين يديه يقول (4): [الطويل]
حكيت لنا الصّدّيق حين وليتنا ... وعثمان والفاروق، فارتاح معدم
فقال له ابن الزّبير: هوّن عليك أبا ليلى، فأيسر وسائلك عندنا الشعر. أما صفوة مالنا فلبني أسد، وأما عفوتها فلآل الصّدّيق، ولك في بيت المال حقّان:
حقّ لصحبتك رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحقّ لحقّك في فيء المسلمين. ثم أمر له
__________
(1) الحبج: أن تنتفخ بطون الإبل من أكلها العرفج، وقد تموت من ذلك.
(2) مات قعصا: إذا أصابته ضربة ورمية فمات مكانه.
(3) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص 220، والكتاب 3/ 273، وبلا نسبة في لسان العرب (جرر)، (جعر)، والمقتضب 3/ 375.
(4) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص 204، ولسان العرب (روح).(3/121)
بسبع قلائص وراحلة وخيل، ثم أمر أن توفّر له حبّا وتمرا فجعل أبو ليلى يأخذ التمر، فيستجمع به الحبّ فيأكله، فقال له ابن الزّبير: لشدّ ما بلغ منك الجهد يا أبا ليلى! فقال النابغة: أما على ذلك لسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما استرحمت قريش فرحمت، وسئلت فأعطت، وحدّثت فصدقت، ووعدت فأنجزت فأنا والنّبيّون على الحوض فرّاط القادمين.
قال عروة بن الزبير: ليمنك لئن كنت ابتليت لقد عافيت، ولئن كنت أخذت لقد أبقيت.
وكان عروة يقول لبنيه: يا بنيّ إنّ أزهد الناس في عالم أهله، هلمّوا إليّ فتعلموا، فإنه يوشك أن تكونوا كبار قوم، إني كنت صغيرا لا ينظر إليّ. فلما أدركت من السن ما أدركت جعل الناس يسألونني. فما أشد على امرىء أن يسأل عن شيء من أمر دينه فيجهله!.
ونادى أهل الشام عبد الله: يا ابن ذات النطاقين. فقال: إيه والإله، أو:
إيها والإله (1): [الطويل]
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وخطب يوما، فحضّ على الزهد، وذكر أن ما يكفي الإنسان قليل، فنزغه (2) إنسان من أهل المسجد بنزيغة، ثم خبّأ رأسه، فقال: أين هذا؟ فلم يتكلم أحد، فقال: قاتله الله! ضبح ضبحة الثعلب (3)، وقبع قبعة القنفذ.
وقال: لما قتل عثمان قلت: لا أستقيلها أبدا، فلما مات أبي انقطع بي، ثم استمرّت مريرتي.
ودخل الحجاج إلى عبد الملك، فرأى عنده عروة، فقال: يا أمير المؤمنين أتقعد ابن العمشاء معك على سريرك؟ لا أمّ له فقال عروة: أنا لا أمّ
__________
(1) صدره:
وعيّرها الواشون أنّي أحبها
والبيت لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 70، ولسان العرب (ظهر)، (شكا)، وتاج العروس (ظهر).
(2) نزغه بنزيغة: رماه بكلمة سيئة.
(3) ضبحة الثعلب: صوته.(3/122)
لي؟ وأنا ابن عجائز الجنّة، ولكن إن شئت أخبرتك من لا أمّ له يا ابن المتمنية فقال عبد الملك: أقسمت عليك ألّا تفعل، فكفّ عروة أراد بقوله:
يا ابن المتمنية، قول أمّ الحجاج، وهي الفارعة بنت همّام (1): [البسيط]
ألا سبيل إلى خمر فأشربها ... أم لا سبيل إلى نصر بن حجاج؟
لمّا أخرج ابن الزبير ابن العباس من مكة إلى الطائف، مرّ بنعمان. فنزل فصلّى ركعتين، ثم رفع يديه يدعو، فقال: اللهم إنك تعلم أنّه لم يك بلد أحبّ إليّ أن أعبدك فيه من البلد الحرام، ولا أحبّ إليّ من يقبض فيه روحي منه، وإن ابن الزّبير أخرجني عنه ليكون أقوى له في سلطانه، اللهمّ فأوهن كيده، واجعل دائرة السّوء عليه.
فلما دنا من الطائف تلقّاه أهلها فقالوا: يا ابن عمّ رسول الله، أنت والله أحبّ إلينا وأكرم علينا ممّن أخرجك، هذه منازلنا، تخيّر فانزل منها حيث أحببت، فنزل منزلا، فكان يجلس لأهل الطائف في مسجدهم بعد الفجر وبعد العصر، فيتكلّم فيحمد الله، ويذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويذكر الخلفاء فيقول:
ذهبوا فلم يدعوا أمثالهم، ولا أشباههم، ولا مدانيهم ولكنه بقي أقوام يريغون الدّنيا بعمل الآخرة، يلبسون جلود الضأن لتحسبوهم من الزاهدين في الدنيا، يراؤونكم بأعمالهم، ويسخطون الله بسرائرهم، فادعوا الله أن يقضي لهذه الأمة بالإحسان، فيولّي أمرها خيارها وأبرارها، ويهلك شرارها وفجّارها. ارفعوا أيديكم إلى ربّكم، وسلوه ذلكم. فيفعلون.
فبلغ الخبر ابن الزبير فكتب إليه:
أما بعد فقد بلغني أنك تجلس لأهل الطائف العصرين، تفتيهم بالجهل وتعيب أهل الحلم والفضل، وإنّ حلمي عنك، واستدامتي فيك جرّاءك عليّ، فاكفف لا أبا لغيرك من غربك. واربع على ظلعك، واعقل إن كان لك
__________
(1) يروى البيت بلفظ:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
والبيت لفريعة بنت همام في خزانة الأدب 4/ 8480، 88، 89، ولسان العرب (منّي)، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب ص 271، وشرح المفصل 7/ 27.(3/123)
معقول، على نفسك، فإنك إن تهنها تجد بها على النّاس هوانا، ألم تسمع قول الشاعر (1): [الطويل]
ونفسك فاكرمها فإنك إن تهن ... عليك فلن تلقى لها الدّهر مكرما
وإني لأفسم لك لئن لم تنته عما يبلغني عنك لتجدنّ جانبي خشنا، ولتجدنّي إلى ما يردعك عجلا فر رأيك ممكّنا لك، فإن أشفى بك على الردى فلا تلم إلّا نفسك والسلام.
فكتب إليه ابن عباس: أما بعد، فقد بلغني كتابك، تذكر أني أفتي الناس بالجهل، وإنما يفتي بالجهل من لم يوت شيئا من العلم، وقد والحمد لله آتاني الله من العلم ما لم يؤته أباك ولم يؤته إيّاك.
وذكرت أنّ حلمك عنّي هو جرّأني عليك، وتقول: اكفف من غربك واربع على ظلعك، وتضرب لي الأمثال أحاديث الضّبع استها. فمتى رأيتني لعرامك هائبا، وعن حدّك ناكلا؟ وتقول: إن لم أكفف عما يبلغك عني وجدت جانبك خشنا، ووجدتك إليّ عجلا، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت، ولا أرعى إن أرعيت. فو الله لا أنتهي عن قول بالحق، وصنعة أهل العدل والفضل، وذمّ الأخسرين أعمالا: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (104) [الكهف: الآية 104] والسلام.
خرج عروة بن الزبير إلى الوليد، فوطىء عظما، فلم يبلغ دمشق حتى ذهب به كلّ مذهب فجمع الوليد الأطباء، فأجمع رأيهم على قطعها، فقالوا له: اشرب مرقدا فقال: ما أحبّ أن أغفل عن ذكر الله، فأحمي له منشار، وكان قطعا وحسما، فما توجع، وقال: ضعوها بين يديّ لئن كنت ابتليت في عضو لقد عوفيت في أعضاء.
فبينا هو على ذلك أتاه نعي ابنه محمد، وكان قد اطّلع من سطح على دواب للوليد، فسقط بينها فخبطته فقال عروة: الحمد لله لئن أخذت واحدا لقد أبقيت جماعة ولئن ابتليت في عضو لقد أبقيت أعضاء.
__________
(1) البيت لحاتم الطائي في ديوانه ص 25.(3/124)
ثم استأذن الوليد في الرحيل. فلما قرب من المدينة مال إلى ضيعة بالفرع فقيل له: تدع المدينة! فقال: ما بقي بها إلا حاسد لنعمة، أو شامت بمصيبة. ويقال: قال: يا أهل المدينة، مجالسكم لاغية، ونفوسكم لاهية، وتقواكم واهية، والبعد منكم عافية.
وأتاه المعزّون وفيهم عيسى بن طلحة فقال: يا أبا عبد الله، ما كنّا نعدّك للسباق، وما فقدنا منك إلا أيسر ما فيك، إذ أبقى الله لنا سمعك وبصرك وعقلك.
فقال عروة: {لَقَدْ لَقِينََا مِنْ سَفَرِنََا هََذََا نَصَباً} [الكهف: الآية 62].
ويقال: إنه لم يظهر منه مع ما أصابه جزع غير هذا اليسير.
وتنقّص بعض آل الزبير عليّا رضي الله عنه فقال له أبوه: والله ما بنى الناس شيئا قط إلا هدمه الدين، ولا بنى الدين شيئا قط فاستطاعت الدّنيا هدمه، ألم تر إلى عليّ، كيف تظهر بنو مروان عيبه وذمّه، فلكأنّما يأخذون بناصيته رفعا إلى السماء؟ وترى ما يندبون به موتاهم من المديح، فو الله لكأنما يكشفون عن الجيف.
ذكر معاوية لابن الزبير بيعة يزيد، فقال ابن الزبير: أنا، أناديك ولا أناجيك إن أخاك من صدقك، فانظر قبل أن تقدم، وتفكّر قبل أن تندم، فإنّ النظر قبل التقدّم، والتفكّر قبل التندّم فضحك معاوية وقال: تعلمت، أبا بكر الشجاعة عند الكبر.
مرّ عبد الله بن حسن بن حسن رضي الله عنهم بعامر بن خبيب بن عبد الله بن الزبير وهو بمرّ، فقال له: نزلت مرّا فمرّر عليك عيشك فقال: بل نزلت مرّا في مال طاب لي أكله إذ أنت متلوث في أدناس بني مروان. فقال عبد الله: أما والله لولا عمتي يعني: صفية بنت عبد المطلب كنت كبعض بني حميد يعني: حميد بن أسد بن عبد العزّى في شعاب مكة. فقال له عامر: فمنّة عمتي عليك أعظم، لولا عمتي كنت كبعض بني عقيل بالأبطح يعني: بعمته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
قال عبد الله بن عروة: انطلقت مع عبد الله بن الزبير حتى قعدت بين يدي الحسن بن عليّ رضي الله عنهما فحمد الله، وأثنى عليه، وخطب إليه
ابنته، قال: فجعل يغمز يدي غمزا شديدا فلما قمنا قلت له: لقد تصعّدك اليوم الكلام تصعّدا ما رأيت مثله. قال: إنه الحسن ابن فاطمة. لا والله ما قامت النساء عن مثله.(3/125)
قال عبد الله بن عروة: انطلقت مع عبد الله بن الزبير حتى قعدت بين يدي الحسن بن عليّ رضي الله عنهما فحمد الله، وأثنى عليه، وخطب إليه
ابنته، قال: فجعل يغمز يدي غمزا شديدا فلما قمنا قلت له: لقد تصعّدك اليوم الكلام تصعّدا ما رأيت مثله. قال: إنه الحسن ابن فاطمة. لا والله ما قامت النساء عن مثله.
ولما قتل مصعب قال عبد الله: إن مصعبا أنفذناه إلى العراق فأغمد سيفه، وسلّ أيره فبلغ ذلك عبد الملك، فقال: لكن أبا خبيب أغمد سيفه وخيره وأيره.
قال قدامة: لما جاءنا قتل الوليد بن يزيد أتيت عبد الله بن عروة، فأخبرته بقتل الوليد وقيام يزيد بن الوليد فقال عبد الله: أو قد فعلوها؟ أنا أبو بكر.
والذي نفسي بيده لخروجها من أيديهم أسرع من سير ذكوان.
قيل: وكان ذكوان مولى لقريش، سار من مكة إلى المدينة في ليلة فقال:
[الطويل]
إنّ الذي كلّفتها سير ليلة ... من أهل منى نصّا إلى أهل يثرب
لما قتل عبد الملك عمرو بن سعيد قال ابن الزّبير: قتلت بنو أمية حيّتها فقال عبد الله بن صفوان: الحية والله القاتل.
قالوا: لما همّ عبد الله بن الزبير بما همّ به من أمر بني هاشم وإحراقهم وأنه كان ذلك من ولايته على رأس خمس سنين، لم يذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهن بحرف في خطبة، فعوتب على ذلك فقال: والله ما تركته علانية إلّا أن أكون أقوله سرّا، وأكثر منه، ولكن رأيتني إذا ذكرته طالت رقاب بني هاشم، واشرأبّت ألوانهم، ولم أكن لأذكر لهم سرورا وأنا أقدر عليه.
ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني حاظر لهم حظيرة، فمضرمها عليهم نارا، فإني لا أقتل إلا آثما كفّارا أفّاكا سحارا، والله ما رضي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم خفرا. ولا ترك فيهم خيرا ولا رضيهم لولاية، أهل كذب استفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم صدقهم.
فقام إليه محمد بن سعد بن أبي وقاص فقال: وفقك الله يا أمير المؤمنين، فأنا أول من أعانك عليهم. وقام عبد الله بن صفوان فقال: يا ابن
الزبير، أيم الله ما قلت صوابا، ولا هممت برشد، أرهط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعيب، وإياهم تقتل؟ والعرب حولك، والله لئن لم ينصرهم الناس لينصرنّهم الله منك.(3/126)
فقام إليه محمد بن سعد بن أبي وقاص فقال: وفقك الله يا أمير المؤمنين، فأنا أول من أعانك عليهم. وقام عبد الله بن صفوان فقال: يا ابن
الزبير، أيم الله ما قلت صوابا، ولا هممت برشد، أرهط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعيب، وإياهم تقتل؟ والعرب حولك، والله لئن لم ينصرهم الناس لينصرنّهم الله منك.
قال: فقال ابن الزبير: اجلس يا أبا صفوان فإنك لست بناموس.
وبلغ الخبر عبد الله بن العباس فخرج يتوكأ على يد ابنه حتى دخل المسجد، فقصد قصد المنبر، فقال:
أيّها الناس، إن ابن الزبير يقول: أن لا أوّل ولا آخر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فو الله إنّ أول من ألّف الإلف، وأجاز عيرات قريش لهاشم، وما شدّت بعيرا لسفر، ولا أناخت بعيرا لحضر إلا بهاشم، وإنّ أوّل من سقى بمكة عذبا، وجعل باب الكعبة ذهبا لعبد المطلب، ثم لقد نشأت ناشيتنا مع ناشيتهم، فإن كنّا لقالتهم إذا قالوا، وخطباؤهم إذا نطقوا، وما عددت مجدا كمجد أوّلنا، ولا كان فيها مجد لغيرنا، إلا في كفر ماحق، ودين فاسق، وضلة ضالة في عشواء عمياء، حتى اختار لها الله نورا، وبعث لها سراجا، فأخذه طيبا من طيب، لا يسبّ بمسبّة، ولا تغوله غائلة. فكان أحدنا وولدنا وعمّنا وابن عمّنا، ثم إنّ السابقين إليه لمنّا اللسان، ثم إنا لخير الناس بعده صلّى الله عليه وسلّم أظهرهم أدبا، وأكرمهم حسبا، والعجب عجبا، أنّ ابن الزبير يعيب أوّلا وآخرا من كان له لسان نطق. كذب أو صدق. متى كان عوّام بن عوام يطمع في صفيّة، لقد جلست الفرس بغلا، أما والذي لا إله غيره إنه لمصلوب قريش، وإنه لأم عفّي تغزل من استها، ليس لها سوى بيتها. من أبوك يا بغل؟ قال:
أمّي الفرس.
قالوا: صلّى عبد الله بن الزّبير بالناس، ثم التفت إليهم فقال: لا يبعدن ابن هند إنه كانت فيه مخارج لا نجدها في أحد بعده، والله إن كنّا لنفرّقه فيتفارق لنا، وما الليث الحرب على براثنه بأجرأ منه. وإن كنا لنخدعه، وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منه فيتخادع لنا. والله لوددت أنا متّعنا به ما دام من هذا الجبل حجر وأشار إلى أبي قبيس لا يتخوّن له عقل، ولا ينقص له مرّة.
قال عروة: ما برّ والديه من أحدّ النظر إليهما.
قال مصعب بن عبد الله، قال لي أبي: يا بنيّ من استغنى عن الناس احتاجوا إليه فأصلح مالك، وأقلّ من مجالسة الناس، فإني قد رأيت رجالا يقتبس منهم، ولا جاه يدفعون به عنهم، ولا جود يفضلون به عليهم. استغنوا بأموالهم، وجلسوا فأتاهم الناس.(3/127)
قال عروة: ما برّ والديه من أحدّ النظر إليهما.
قال مصعب بن عبد الله، قال لي أبي: يا بنيّ من استغنى عن الناس احتاجوا إليه فأصلح مالك، وأقلّ من مجالسة الناس، فإني قد رأيت رجالا يقتبس منهم، ولا جاه يدفعون به عنهم، ولا جود يفضلون به عليهم. استغنوا بأموالهم، وجلسوا فأتاهم الناس.
بلغ عروة أن ابنه بعد الله يقول الشعر، فدعا به يوما. فقال: أنشدني، فأنشده فقال: إنّ العرب تسمّي الناقص. الناقص: الذي يمشي على ثلاث قوائم الهزروف، فشعرك هذا هو الهزروف (1).
لما قطعت رجل عروة، ومات ابنه حمد الله. ونظر إلى رجله، ثم قال:
أما والله إني لأرجو ألّا أكون مشيت بها إلى معصية لله قطّ، ثم قال: أيمنك لئن كنت أخذت لقد أعطيت، كان لي أربع جوارح فأخذت واحدا وتركت ثلاثا وكان لي أربعة بنين، فأخذت واحدا وتركت ثلاثة.
قالوا: كان عبد الله بن الزبير يسجد ليلة، ويركع ليلة، ويقوم ليلة.
روى الزّبير بن بكّار عن عمه مصعب، قال: لما صار عليّ رضي الله عنه بالقرب من البصرة بعث ابن عباس، فقال: إيت الزبير فاقرأ عليه السلام، وقل له: يا أبا عبد الله كيف عرفتنا بالمدينة وأنكرتنا بالبصرة؟. فقال ابن عباس: أفلا آتي طلحة؟ قال: إذا تجده كالثور عاقصا قرنه في الحزن يقول هذا سهل.
قال: فأتيت الزبير، فوجدته في بيت حارّ يتروّح، وعبد الله بن الزبير في الحجرة. فقال: مرحبا بك يا ابن لبابة، أجئت زائرا أم سفيرا؟ قلت: كلّا
أحببت إحداث العهد بك، وابن خالك يقرأ عليك السلام ويقول لك: عرفتنا بالمدينة، وأنكرتنا بالبصرة، فقال (2): [الرجز]
علقتهم، إنّي خلقت عصبة ... قتادة تعلّقت بنشبه
فلن أدعهم حتى ألّف بينهم.
__________
(1) الهزروف: السريع.
(2) الرجز للزبير بن العوام في تهذيب اللغة 2/ 49، ولسان العرب (عصب)، وتاج العروس (عصب).(3/128)
فأردت منه جوابا غير ذلك، فقال: غدا نرفع المصاحف، ونحاكمك إليها، فخرجت، فقال عبد الله: قل بيننا وبينك دم خليفة، ووصية خليفة، واجتماع اثنين وانفراد واحد، وأم مبرورة فعلمت أنه ليس مع هذا الكلام لين.
قال الزّبير بن بكار: فقدمت العراق فرأيت عمّي مصعبا ترك هذا الحديث، فقلت له: لم تركته؟ قال: إني رأيت الزبير في المنام يتعذّر من أمر الجمل «فقلت له: كيف تتعذّر من أمر الجمل» وأنت القائل: [الرجز]
علقتهم، إنّي خلقت عصبة ... قتادة تعلّقت بنشبه
فلن أدعهم حتى ألّف بينهم؟ فقال: لم أقله.
حدّث وهب مولى آل الزبير أنه قال: كنت مع عبد الله بن الزّبير بمكة في ولايته فكتب إليه رجل كتابا يعظه فيه:
أما بعد فإنّ للتقوى في أهلها علامات يعرفون بها، ويعرفونها من أنفسهم من صبر على البلاء ورضي بالقضاء، وشكر للنعمة، وذلّ لحكم القرآن، وإنما الإمام كالسوق، يحمل إليها ما زكا فيها، فمن كان من أهل الحقّ أتاه أهل الحق بحقّهم، ومن كان من أهل الباطل أتاه أهل الباطل بباطلهم فانظر أيّ الإمامين أنت. والسلام.
قال: فكان عبد الله يعجب من بلاغة هذه الرسالة وإيجازها، ويضعها تحت فراشه، ويتعاهد قراءتها.
كان لعبد الله بن عروة مولاة يقال لها: شهدة، ففزعت ليلا فسمعها تقول: اللهمّ إن أحسنت فأحسن إليّ، وإن أسأت فأسيء إليّ. فقال: أي شهاد، عتق ما يملك إن لم يكن هذا أقلّ ما لك عند ربّك.
قال عبد الله بن عروة بن الزبير: إلى الله أشكو عيبي ما لا أدع، ونعتي ما لا آتي، وإنما يبكى للدنيا بالدين.
نازع عبد الله بن الزّبير أخاه عمرا، والأمير بالمدينة سعيد بن العاص، فاستعلى عبد الله في القول فأقبل سعيد على عمرو، فقال: إيّها يا ابن أبي فأقبل عليه عبد الله فقال: هيها يا ابن أبي أحيحة، فو الله لأنا خير منك،
ولأبي خير من أبيك: ولأمّي خير من أمّك، ولخالي خير من خالك، ولجدّي خير من جدّك. ثم، الله رفع بالإسلام بيوتا ووضع به بيوتا، فكان بيتي من البيوت التي رفع، وكان بيتك من البيوت التي وضع، وإن خنس أنفك، وانتفخت لغاديدك.(3/129)
نازع عبد الله بن الزّبير أخاه عمرا، والأمير بالمدينة سعيد بن العاص، فاستعلى عبد الله في القول فأقبل سعيد على عمرو، فقال: إيّها يا ابن أبي فأقبل عليه عبد الله فقال: هيها يا ابن أبي أحيحة، فو الله لأنا خير منك،
ولأبي خير من أبيك: ولأمّي خير من أمّك، ولخالي خير من خالك، ولجدّي خير من جدّك. ثم، الله رفع بالإسلام بيوتا ووضع به بيوتا، فكان بيتي من البيوت التي رفع، وكان بيتك من البيوت التي وضع، وإن خنس أنفك، وانتفخت لغاديدك.
اختصم رجلان في حدّ بينهما بالأعوص، فتهاترا وتخاصما، فأتيا الزّبير بن هشام بن عروة، وجعلاه حكما بينهما. قال: فقال لهما: كان رجلان من بني إسرائيل اختصما في أرض، فأذن الله للأرض، فكلّمتهما فقالت: لقد ملكني سبعون أعور، وليس منهم الآن أحد على ظهر الأرض. قال: فتفرّقا. وقال كل منهما: لا حاجة لي بها، وترادّاها.
قيل لعروة الزبيريّ حين حمل إلى الرشيد مقيدا: اختضب. فقال: حتى أعلم أرأسي لي أم لكم؟ فأدخل عليه في سلسلة، فقال: كنت أشتهي أن أراك فيها، اخلعوا عليه. فقال: يا أمير المؤمنين خلعة شتاء لا خلعة صيف.(3/130)
قيل لعروة الزبيريّ حين حمل إلى الرشيد مقيدا: اختضب. فقال: حتى أعلم أرأسي لي أم لكم؟ فأدخل عليه في سلسلة، فقال: كنت أشتهي أن أراك فيها، اخلعوا عليه. فقال: يا أمير المؤمنين خلعة شتاء لا خلعة صيف.
الباب السادس نوادر أبي العيناء (1) ومخاطباته
حمله بعض الوزراء على دابّة، فانتظر علفها، فلما أبطأ عليه قال: أيها الوزير هذه الدابة حملتني عليه أو حملته عليّ.
قال له المتوكل يوما: إلى كم تمدح الناس وتذمّهم؟ فقال: ما أحسنوا وأساؤوا فقد رضي الله عن عبد فمدحه فقال: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوََّابٌ} [ص:
الآية 30] وغضب على آخر فزنّاه. قال: «ويلك أيزنّي الله أحدا»؟ قال: نعم.
قال الله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذََلِكَ زَنِيمٍ} (13) [القلم: الآية 13]، والزّنيم: الدخيل في القوم وليس منهم.
وقال أبو العيناء: قال لي المتوكل يوما: هل رأيت طالبيّا قطّ، حسن الوجه؟ قلت: نعم، رأيت ببغداد منذ ثلاثين سنة واحدا. قال: تجده كان يؤاجر وكنت أنت تقود عليه. فقلت: يا أمير المؤمنين، قد بلغ هذا من فراغي، أدع الموالي مع كثرتهم وأقود على الغرباء. فقال المتوكل للفتح: أردت أن اشتفي منهم فاشتفى لهم مني.
قال: وقال لي يوما: لا تكثر الوقيعة في الناس. فقلت: إنّ لي في بصري شغلا عن ذلك. فقال: ذاك أشد لحقدك على أهل العافية.
وقال له يوما المتوكل: إنّ سعيد بن عبد الملك يضحك منك، فقال:
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كََانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} (29) [المطفّفين: الآية 29].
__________
(1) أبو العيناء: هو محمد بن القاسم بن خلاد بن ياسر الهاشمي، ولد سنة 191هـ، أديب فصيح، من ظرفاء العالم ومن أسرع الناس جوابا، اشتهر بنوادره، كاتب شاعر، ولكنه خبيث اللسان، كف بصره في الأربعين، وتوفي بالبصرة سنة 287هـ (الأعلام 6/ 334).(3/131)
وقال يوما بحضرته لخراشة: ابن كم أنت؟ قال: ابن نيّف وخمسين. قال أبو العيناء: زانية.
ودخل يوما إلى ابن ثوابة فقال: بلغني ما خاطبت به أمس أبا الصقر، وما منعه من استقصاء الجواب إلا أنّه لم يجد عرضا فيضعه، ولا مجدا فيهدمه، وبعد فإنه عاف لحمك أن يأكله، وسهك دمك أن يسفكه. فقال: ما أنت والكلام يا مكدي (1)؟ فقال أبو العيناء: لا تنكر على ابن ثمانين، وقد ذهب بصره، وجفاه سلطانه، أن يعوّل على إخوانه، فيأخذ من أموالهم، ولكن أشدّ من هذا من يستنزل ماء أصلاب الرجال، يستفرغه في جوفه فيقطع أرزاقهم، ويعظم إجرامهم.
فقال ابن ثوابة: ما تشاجر اثنان إلّا غلب ألأمهما. فقال له: بها غلبت أبا الصقر.
وقال ثوابة يوما: كتبت أنفاس الرجال. قال: حيث كانوا وراء ظهرك.
وقال له يوما نجاح بن سلمة: ما ظهورك وقد خرج توقيع أمير المؤمنين في الزنادقة؟ فقال: نستدفع الله عنك وعن أصهارك.
ودخل على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وهو يلعب بالشّطرنج، فقال:
في أي الحيّزين أنت؟ فقال: في حيّز الأمير أيده الله.
وغلب عبيد الله فقال: يا أبا العيناء قد غلبنا، وقد أصابك من النّدب خمسون رطلا ثلجا. فكن أنت في حيلتها. قال: فقام ومضى إلى ابن ثوابة، وقال: إن الأمير يدعوك فلما دخلا قال: أيّد الله الأمير، قد جئتك بجبل همذان وماسيذان، فخذ منه ما شئت.
وقال يوما لولد حجاج بن هارون: في أي باب أنت من النحو؟ قال: في باب الفاعل والمفعول. فقال: أنت في باب أبويك إذا.
ومرّ على دار عدو له فقال: ما خبر أبي محمد؟ فقالوا: كما تحبّ.
قال: فما بالي لا أسمع الرنّة والصّراخ؟.
__________
(1) المكدي: الشحاذ.(3/132)
ووعده ابن المدبّر بدابّة، فلما طالبه قال: أخاف أن أحملك عليه فتقطعني ولا أراك. فقال: عدني أن تضمّ إليه حمارا لأواظب مقتضيا.
ووعده أن يحمله على بغل، فلقيه في الطريق فقال: كيف أصبحت يا أبا العيناء؟ قال: أصبحت بلا بغل فضحك من قوله، وبعثه إليه.
وحمله بعضهم على دابّة، فاشتراها ابن الرجل منه بثمن أخّره، ولقيه بعد أيام فقال: كيف أنت يا أبا العيناء؟ قال: بخير يا من أبوه يحمل وهو يرجل.
وقالت له قينة: هب لي خاتمك أذكرك به. فقال: اذكريني بالمنع.
وقالت له قينة: أنت أيضا يا أعمى! فقال لها: ما أستعين على وجهك بشيء أصلح من العمى.
وقال لصاعد: أنت خير من رسول الله فقال: ويلك! كيف؟ قال: إنّ الله تعالى قال له: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: الآية 159] وأنت فظ ولسنا ننفضّ.
وقال له ابن السّكّيت يوما: تراك أحطت بما لم أحط به. قال: ما أنكرت فو الله لقد قال الهدهد، وهو أخسّ طائر لسليمان: {أَحَطْتُ بِمََا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النّمل: الآية 22].
وقال: وقدّم إلى مائدة عليها أبو هفّان وأبو العيناء فالوذج، فقال أبو هفّان: لهذه أحرّ من مكانك في جهنم. فقال أبو العيناء: إن كانت هذه حارّة فبرّدها بشعرك.
وقال له صاعد يوما: ما الذي أخّرك عنا؟ قال: بنيّتي. قال: وكيف؟
قال: قالت: يا أبه قد كنت تغدو من عندنا فتأتي بالخلعة السّريّة، والجائزة السنيّة، ثم أنت الآن تغدو مسدفا، وترجع معتما، فإلى من؟ قلت: إلى أبي العلاء ذي الوزارتين. قالت: أيعطيك؟ قلت: لا. قالت: أيشفّعك؟ قلت: لا.
قالت: أفيرفع مجلسك؟ قلت: لا. فقالت: يا أبه، {لِمَ تَعْبُدُ مََا لََا يَسْمَعُ وَلََا يُبْصِرُ وَلََا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم: الآية 42].
وقال له عبيد الله بن سليمان: إنّ الأخبار المذكورة في السخاء وكثرة العطاء أكثرها تصنيف الورّاقين، وأكاذيبهم قال: ولم لا يكذبون على الوزير أيده الله.(3/133)
قالت: أفيرفع مجلسك؟ قلت: لا. فقالت: يا أبه، {لِمَ تَعْبُدُ مََا لََا يَسْمَعُ وَلََا يُبْصِرُ وَلََا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم: الآية 42].
وقال له عبيد الله بن سليمان: إنّ الأخبار المذكورة في السخاء وكثرة العطاء أكثرها تصنيف الورّاقين، وأكاذيبهم قال: ولم لا يكذبون على الوزير أيده الله.
وقال له محمد بن مكرّم: لهممت أن آمر غلامي بدوس بطنك.
فقال: الذي تخلفه على عيالك إذا ركبت، أو الذي تحمله على ظهرك إذا نزلت؟.
وقال يوما لقينة: كم تعدّين؟ قالت: ثلاثين سنة. قال: أنت ابنة ثلاثين سنة منذ ثلاثين سنة.
وقيل له: إلى من تختلف اليوم؟ قال: إلى من يختلف عليه.
وأكل عنده سائل فأكثر فقال: يا هذا أطعمناك رحمة فصيّرتنا رحمة.
وقال له بعض من ناظره: أبلعني ريقي فقال: قد أبلعتك دجلة والفرات.
وقيل له: ما تقول في ابني وهب؟ قال: {وَمََا يَسْتَوِي الْبَحْرََانِ هََذََا عَذْبٌ فُرََاتٌ سََائِغٌ شَرََابُهُ وَهََذََا مِلْحٌ أُجََاجٌ} [فاطر: الآية 12] سليمان أفضل. قيل: وكيف؟
قال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى ََ وَجْهِهِ أَهْدى ََ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)}
[الملك: الآية 22].
وقيل له: ما تقول في محمد بن مكرّم والعباس بن رستم؟ قال: هما الخمر والميسر وإثمهما أكبر من نفعهما.
وقال يوما لرجل دخل من النصرانية في الإسلام: أتشرب الخمر؟ قال:
بلى. قال: لقد أصبت عين الرأي، إذ دخلت في عزّة هذه الدعوة، وثبتّ على شرائط تلك النّحلة.
ولما استوزر صاعد بعقب دخوله من النصرانية في الإسلام صار أبو العيناء إلى بابه، فقيل: يصلّي. فعاد فقيل: يصلّي. فقال: معذور لكلّ جديد لذّة.
وقال يوما لرجل سلّم عليه: من أنت؟. قال: رجل من ولد آدم. قال:
ادن مني عانقني، فما ظننت أنه بقي من هذا النّسل أحد.
وقال له أحمد بن سعيد الباهليّ: إني أصبت لباهلة فضيلة لا توجد في سائر العرب. قال: وما هي؟ قال: لا يصاب فيهم دعيّ. فقال: لأنه ليس فوقهم من يقبلهم، ولا دونهم أحد فينزلون إليه.(3/134)
ادن مني عانقني، فما ظننت أنه بقي من هذا النّسل أحد.
وقال له أحمد بن سعيد الباهليّ: إني أصبت لباهلة فضيلة لا توجد في سائر العرب. قال: وما هي؟ قال: لا يصاب فيهم دعيّ. فقال: لأنه ليس فوقهم من يقبلهم، ولا دونهم أحد فينزلون إليه.
وحضره يوما ابن مكرّم فأخذ يؤذيه فقال له ابن مكرّم: الساعة والله أنصرف. فقال: ما رأيت من يتهدّد بالعافية غيرك.
وقال له يوما ما يعرّض به: كم عدد المكدين بالبصرة؟ قال: مثل عدد البغّائين ببغداد.
وقدم ابن مكرّم من سفر، فقال له أبو العيناء: ما أهديت لي؟. قال:
قدمت في خفّ. قال: لو قدمت في خفّ لخلّفت نفسك.
وقال له ابن مكرّم: مذهبي الجمع بين الصّلاتين. قال: صدقت، ولكن تجمع بينهما بالتّرك.
وقال له ابن بدر يوما وهو على بابه: أهذا المنزل؟ قال: نعم، فإن أردت أن ترى سوء أثرك فانزل.
قال له أبو الجمّاز: كيف ترى غنائي؟ قال: كما قال الله عزّ وجلّ: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوََاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: الآية 19].
ولقي أبا الحمار يوما على حمار صغير فقال: لقد ساءني حين اضطرك الدهر إلى ركوب أصغر أولادك.
وقال له يوما: هل تذكر سالف معاشرتنا؟ قال: إذ تغنّينا ونحن نستعفيك.
وقال لعليّ بن الجهم: إنما تبغض عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لأنه كان يقتل الفاعل والمفعول، وأنت أحدهما. قال له: يا مخنّث. فقال:
{وَضَرَبَ لَنََا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: الآية 78].
وقيل له: إنّ ابن نوح النّصرانيّ عاتب عليك فقال: {وَلَنْ تَرْضى ََ عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصََارى ََ حَتََّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: الآية 120].
وقال له بعضهم: إني لا أرتضي نيّتك. فقال: أجل لأني أعتقد الإسلام.
وقال له عبيد الله بن يحيى بن سليمان: اعذرني، فإني مشغول. فقال:(3/135)
وقال له بعضهم: إني لا أرتضي نيّتك. فقال: أجل لأني أعتقد الإسلام.
وقال له عبيد الله بن يحيى بن سليمان: اعذرني، فإني مشغول. فقال:
إذا فرغت لم أحتج إليك.
وسلّم نجاح بن سلمة إلى موسى بن عبد الملك ليستأديه مالا، فتلف في المطالبة فلقي بعض الرؤساء أبا العيناء، وقال له: ما عندك من خبر نجاح؟
قال: {فَوَكَزَهُ مُوسى ََ فَقَضى ََ عَلَيْهِ} [القصص: الآية 15] فبلغت كلمته موسى بن عبد الملك فلقيه فقال: أبي تولع؟ والله لأقوّمنّك. فقال: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمََا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ} [القصص: الآية 19].
وقال يوما لابن مكرّم: ألست عفيفا؟ قال: بلى، ولكنّك عفيف الفرج زاني الحرم. فقال: إنما ذاك منذ تزوجت بأمك. وغداه ابن مكرّم فقدم إليه عراقا، فلما جسّه قال: قدركم هذه طبخت بالشّطرنج.
وقدّم إليه يوما قدرا فوجدها كثيرة العظام فقال: هذه قدر أم قبر؟.
وأخبر أنّ ابنه أعتق عبده فقال: إن جاز له هذا فليطلق على أمه الزانية.
وقال له رجل من بني هاشم: بلغني أنك بغّاء. قال: ولم أنكرت ذاك مع قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مولى القوم منهم»؟. قال: إنك دعيّ فينا. قال: بغائي صحّح نسبي فيكم.
وسأل الجاحظ كتابا إلى محمد بن عبد الملك في شفاعة لصاحب له فكتب الكتاب، وناوله الرجل، فعاد به إلى أبي العيناء، وقال: قد أسعف.
قال: فهل قرأته؟ قال: لا لأنه مختوم. قال: ويحك، فضّ طينة أولى من حمل ظنّة، لا يكون صحيفة المتلمّس ففضّ الكتاب فإذا فيه: موصل كتابي سألني فيه أبو العيناء، وقد عرفت سفهه وبذاء لسانه، وما أراه لمعروفك أهلا، فإن أحسنت إليه فلا تحسبه عليّ يدا، وإن لم تحسن لم أعتده عليك ذنبا والسلام.
فركب أبو العيناء إلى الجاحظ. وقال له: قد قرأت الكتاب يا أبا عثمان، فخجل الجاحظ، وقال: يا أبا العيناء، هذه علامتي فيمن أعتني به. قال: فإذا بلغك أنّ صاحبي قد شتمك فاعلم أنه علامته فيمن شكر معروفه.
وأكل عند ابن مكرّم، فسقي على المائدة ثلاث شربات باردة، ثم استسقى فسقى شربة حارة فقال: لعل مزمّلتكم تعتريها حمى الرّبع.(3/136)
فركب أبو العيناء إلى الجاحظ. وقال له: قد قرأت الكتاب يا أبا عثمان، فخجل الجاحظ، وقال: يا أبا العيناء، هذه علامتي فيمن أعتني به. قال: فإذا بلغك أنّ صاحبي قد شتمك فاعلم أنه علامته فيمن شكر معروفه.
وأكل عند ابن مكرّم، فسقي على المائدة ثلاث شربات باردة، ثم استسقى فسقى شربة حارة فقال: لعل مزمّلتكم تعتريها حمى الرّبع.
وممّن انتصف من أبي العيناء محمد بن مكرم، فإنه صادفه ساجدا وهو يقول: يا ربّ سائلك ببابك. فقال: تمتنّ على الله بأنك سائله وأنت سائل كلّ باب!!.
وسمع محمد بن مكرم رجلا يقول: من ذهب بصره قلّت حيلته. فقال له: ما أغفلك عن أبي العيناء!.
وولد لأبي العيناء ابن فأهدى إليه حجرا. يريد قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «وللعاهر الحجر».
ومنهم العباس بن رستم فإنه قال يوما لأبي العيناء: أنا أكفر منك.
فقال: ولم؟ قال: لأنك تكفر ومعك خفير مثل عبيد الله بن يحيى وابن أبي دواد، وأنا أكفر بلا خفارة.
صحب رجل مفلس جماعة فقسموا له قسمة، فاشترى دابّة وكسوة، فكان إذا حلف يقول: وإلّا فدابّتي حبيس وثيابي صدقة. ثم قسموا له قسمة أخرى فاشترى دارا وخادما، فكان إذا حلف يقول: وإلّا فدابّتي حبيس وثيابي صدقة وغلامي حرّ، وداري مقبرة. فقال أبو العيناء: طالت أيمانه ابن الزانية.
كان لمحمد بن مكرّم غلام يتعشّقه، وكان يرمى به فدخل أبو العيناء يوما إليه؟ فقال له: يا أبا العيناء، أما ترى غلامي سديفا (1) مع إكرامي له، وفعلي به ومحبتي له، وكثرة ما أصله به من الأموال، وينتفع بجاهي، ولا يشكر لي ذلك، ولا تظهر عليه النعمة، ولا يرى عنده دينار ولا درهم!. قال أبو العيناء: نعم يا سيدي كسب الكنّاسين لا يكون له بركة.
وقال له أبو علي البصير يوما: ويلك إن لم تغضب لي بالصناعة فاغضب لي وتعصّب بالعمى! فقال أبو العيناء: كذبت يا عاضّ بظر أمه. أنا من عميان الحمير، وأنت من عميان العصا.
__________
(1) السديف: المغتم والمهتم.(3/137)
وقال الكافي له: كيف أكتب «اللؤم»، بلام أو لامين؟ فقال: صوّر نفسك.
ودخل إلى المتوكّل، فقدّم إليه طعام فغمس أبو العيناء لقمته في خلّ كان حامضا، فأكلها وتأذّى بالحموضة، وفطن المتوكل فجعل يضحك فقال: لا تلمني يا أمير المؤمنين، فقد محت الإيمان من قلبي.
وقال له السّدريّ: أشتهي أن أرى الشيطان. فقال: انظر في المرآة.
قال أبو العيناء: رأيت محمد بن مكرم يصلي صلواته كلّها ركعتين ركعتين فقلت: يا محمد، ما هذا الذي أراك تفعله؟ قال: عزمت وحياتك على الخروج إلى قم إلى عند أبي.
قيل لأبي العيناء: لم اتخذت خادمين أسودين؟ فقال: أما أسودان فلئلا أتّهم بهما، وأما خادمان فلئلّا يتّهما بي.
ونطر إلى رجل قبيح الوجه فقال: كأنما خلق هذا الرجل ليعلم الناس نعمة الله عليهم.
وقدم صديق له من بعض الأعمال السلطانية فدعاه إلى منزله وأطعمه وجعل الرجل يكثر الكذب، فالتفت أبو العيناء إلى من كان معه فقال: نحن كما قال الله تعالى: {سَمََّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكََّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: الآية 42].
وقيل: ابن كم أنت؟ فقال: قبضة، يعني: ثلاثا وتسعين.
وقيل له: كيف حمدك لفلان؟ فقال أحمده للؤم الزمان، فأمّا عن حسن اختيار فلا.
وقال أبو العيناء: قلت لغلام ابن مكرّم ومعه دراهم: من أين لك هذه الدراهم؟ فقال: إلي تقول هذا ودار الضّرب في سراويلي؟.
قال ابن مكرم لأبي العيناء: أحسبك لا تصوم شهر رمضان!. فقال:
ويحك!. وتدعني امرأتك أن أصوم.
قال أبو العيناء: مررت يوما في درب بسرّ من رأى. فقال لي غلام: يا مولاي في الدرب حمل سمين، والدرب خال، فأمرته أن يأخذه، وغطيته بطيلساني، وصرت به إلى منزلي فلما كان الغد جاءتني رقعة من بعض رؤساء
ذلك الدرب مكتوب فيها: جعلت فداك، ضاع لنا بالأمس في الدرب حمل فأخبرني صبيان دربنا أنك أنت سرقته فتأمر بردّه متفضّلا.(3/138)
قال أبو العيناء: مررت يوما في درب بسرّ من رأى. فقال لي غلام: يا مولاي في الدرب حمل سمين، والدرب خال، فأمرته أن يأخذه، وغطيته بطيلساني، وصرت به إلى منزلي فلما كان الغد جاءتني رقعة من بعض رؤساء
ذلك الدرب مكتوب فيها: جعلت فداك، ضاع لنا بالأمس في الدرب حمل فأخبرني صبيان دربنا أنك أنت سرقته فتأمر بردّه متفضّلا.
قال أبو العيناء: فكتبت إليه: يا سبحان الله! ما أعجب هذا الأمر مشايخ دربنا يزعمون أنك بغّاء وأكذّبهم أنا، ولا أصدقهم، وتصدق أنت صبيان دربكم أني أنا سرقت الحمل!.
قال: فسكت وما عاودني بشيء.
قال أبو العيناء: أنا أؤاكل الناس منذ ثلاثين سنة، ما آثرني إنسان على نفسه بباذنجانة مضيرة قط.
وأكل مرة ديكبراكة، وغسل يده عدة مرات فلم تنق فقال: كادت هذه القدر أن تكون نسبا وصهرا.
قال يوما لابن ثوابة: إذا شهدت على الناس ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون شهد عليك أنتن عضو فيك.
قال بعض الهاشميين لأبي العيناء: بلغني أنّك تخبأ العصا. قال: وهوذا تدعونها تظهر حتى أخبأها أنا!.
ودقّ عليه إنسان الباب فقال: من هذا؟ قال: أنا. قال: هذا والدقّ سواء.
وقال أبو العيناء: أدخل على المتوكل رجل قد تنبأ فقال له: ما علامة نبوّتك؟ قال: أن يدفع إليّ أحدكم امرأته فإني أحبلها في الحال. فقال يا أبا العيناء: هل لك أن تعطيه بعض الأهل؟ فقلت: إنّما يعطيه من كفر به فضحك وخلّاه.
ولقيه رجل من إخوانه فقال له: أطال الله بقاءك، وأدام عزّك وتأييدك وسعادتك، فقال أبو العيناء: هذا العنوان، فكتاب من أنت؟.
وقال له يوما عبيد الله بن يحيى الوزير في أمر شهد عليه فيه بشهادة فقال أبو العيناء: لو كان هذا في غير دولتك لتمنيت له دولتك. فقال: إن الشهود عليك كثير. قال: أكثر منهم الذين شهدوا عليك بإغلاء السّعر والزيادة فيه فإن صدّقتهم عليّ فصدّقهم عليك.
وقال له يوما: أعزّ الله الوزير نحن في عطلتك مرحومون، وفي وزارتك محرومون. ويوم القيامة كلّ نفس بما كسبت رهينة.(3/139)
وقال له يوما عبيد الله بن يحيى الوزير في أمر شهد عليه فيه بشهادة فقال أبو العيناء: لو كان هذا في غير دولتك لتمنيت له دولتك. فقال: إن الشهود عليك كثير. قال: أكثر منهم الذين شهدوا عليك بإغلاء السّعر والزيادة فيه فإن صدّقتهم عليّ فصدّقهم عليك.
وقال له يوما: أعزّ الله الوزير نحن في عطلتك مرحومون، وفي وزارتك محرومون. ويوم القيامة كلّ نفس بما كسبت رهينة.
ولما تقطّر بعبيد الله فرسه قال أبو العيناء: قتل الجواد الجواد (1).
واستجفى بعض الرؤساء أبا العيناء فقال له: أنا والله على بابك أوجد من الكذب على أبواب بني خاقان.
وصار يوما إلى باب عبيد الله فقال له سعد حاجبه: هو مشغول يا أبا عبد الله. فقال: ففي شغله أريد لقاءه. قال: ليس إلى ذلك سبيل. فقال له:
رزقكم الله العود إلى البيت الحرام وانصرف. فقال سعد: دعا علينا لعنه الله، والله إن كنّا بمكة إلّا حيث نفينا.
قال أبو العيناء، هنأت عبيد الله بن يحيى يوما بالعيد، ودعوت له دعاء طويلا فقال لي الحسن بن مخلد: حسبك يا أبا عبد الله فقلت: يا أبا الحسن، أعزّك الله. إن أبا محمد يستثقل الدعاء لأنه لا يثق بالمدعوّ.
وقال له عبيد الله: ما دعاك إلى الوقيعة في موسى بن عبد الملك بحضرة أمير المؤمنين؟ فقال: إني والله ما استعذبت الوقيعة فيه حتى ذممت لك سريرته.
ودخل عليه يوما وعنده نجاح بن سلمة، وأحمد بن إسرائيل وهما يسارّانه فقال: يا أبا الحسن: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتََّى} [الحشر: الآية 14] فقال نجاح: كذبت يا عدوّ الله فقال: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (67) [الأنعام: الآية 67].
ودخل إلى نجاح بن سلمة فقال: لا تدنّس حصير صلاتي قبحك الله.
فقال أبو العيناء له: لا. ولكن متمرّغ فسقك.
وسقط نجاح عن دابّته فوثبت إليه إبراهيم بن عتاب، فأخذه من الأرض فقال أبو العيناء: يا أبا الفضل، لميتة مجهزة أصلح من عافية على يد ابن عتّاب.
__________
(1) الجواد الأولى: هو الفرس، والثانية: الكريم.(3/140)
وقيل له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت والله من المملقين الذين لا يطمع فيهم نجاح بن سلمة.
وقال يوما لابن ثوابة: يحتاج عقلك إلى صمت يستره، ونطقك إلى عقل يسدّده.
وقال له ابن مكرّم: كان ابن الكلبي صاحب البريد يحبّ أن يشمّ الخراء فقال: لو رآك لترشّفك.
وقال ابن مكرّم يوما: ما في الدنيا أعقل من القحبة لأنها تطعم أطايب الطعام، وتسقى ألذّ الشراب وتأخذ دراهم وتتلذّذ. فقال له أبو العيناء: فكيف عقل والدتك؟ قال: أحمق من دغة (1) يا عاضّ كذا.
وعرضت له حاجة إلى بغا، فلقيه، فقال: ألق الفتح بن خاقان فلقيه فوعده، ثم لقيه فوعده فلما كان في المرة الثالثة ألقاه على سبيل ضجر فقال:
أما علمت أنّ من طالب السلطان احتاج إلى ثلاث خلال؟ فقال: وما هنّ؟ أعز الله الأمير. قال: عقل وصبر ومال. فقال أبو العيناء: لو كان لي عقل لعقلت عن الله أمره ونهيه، ولو كان لي صبر لصبرت منتظرا لرزقي أن يأتيني، ولو كان لي مال لاستغنيت به عن تأميل الأمير، والوقوف ببابه.
وسأل أحمد بن صالح حاجة فوعده، ثم اقتضاه إياها فقال: حال دونها هذا المطر والوحل فقال أبو العيناء: فحاجتي إذا صيفيّة.
ودخل على عبد الرحمن بن خاقان وكان شاتيا فقال له عبد الرحمن:
كيف ترى هذا البرد يا أبا عبد الله؟ فقال: تأبى نعماك أن أجده.
وكان بحضرة عبيد الله بن سليمان فأقبل الطائي فعرف مجيئه، فقال:
هذا رجل إذا رضي عشنا في نوافل فضله، وإذا غضب تقوّتنا بقايا برّه.
وسأل إبراهيم بن ميمون حاجة فدفعه عنها، واعتذر إليه وأعلمه أنه قد صدقه فقال له: قد والله سرّني صدقك لعوز الصدق عنك، فمن صدقه حرمان فكيف يكون كذبه؟.
__________
(1) انظر مجمع الأمثال 2/ 193.(3/141)
وقال لبعضهم: أعطيتني برّك تفاريق، وعقوقك جملة!.
وقال: رأيت حمّالا قد حمل على رأسه شيئا بنصف درهم فلما أراد الرجوع اكترى إلى ذلك الموضع حمارا بأربعة دوانيق.
وقال له رجل: كان أبوك أكمل منك فقال: إنّ أبي كنت أنا به، ولم يك بي، فهو أولى بالكمال مني.
وقال في رجلين فسد ما بينهما: تنازعا ثوب العقوق، متى صدعاه صدع الزجاجة ما لها من جابر.
قال: قال لي المتوكل: امض إلى موسى بن عبد الملك. واعتذر، ولا تعرّفه أنّي وجّهتك. فقلت له: تستكتمني بحضرة ألف؟ قال: إنما عليك أن تنفّذ كما تؤمر به. قلت: وعليّ أن أحترس ممّا أخاف منه.
وقال له المتوكل: أكان أبوك مثلك في البيان؟ قال: والله يا أمير المؤمنين لو رأيته لرأيت عبدا لك لا ترضاني عبدا له.
ووعده أبو الصقر شيئا وقال له: غدا فقال أبو العيناء: إن الدهر كله غد، فهل عندك موعد مخلّى من المعاريض؟. قال له رجل قد حضر: قد استعمل المعاريض قوم صالحون: حدّثنا فلان عن فلان، فقال أبو العيناء:
من هذا المتحدث في حرماننا بالأسانيد؟.
وداس رجل نبتا له وقال: باسم الله. فقال: لم ترض بذبحها حتى تذكيتها.
وداس آخر يده، وقال: باسم الله. فقال: البقرة تذبح ويقول ذابحها:
باسم الله.
وشكا إليه رجل ابنه فقال أبو العيناء: لقد دخل في العدد وخرج من العدد.
ولقيه بعض الكتاب في السّحر فقال له متعجّبا منه ومن بكوره: يا أبا عبد الله، أتبكر في مثل هذا الوقت؟ فقال: أتشاركني في الفعل، وتفردني في المتعجّب؟.
ودخل على محمد بن عبد الملك، فجعل لا يكلمه إلا بأطرافه فقال:(3/142)
ولقيه بعض الكتاب في السّحر فقال له متعجّبا منه ومن بكوره: يا أبا عبد الله، أتبكر في مثل هذا الوقت؟ فقال: أتشاركني في الفعل، وتفردني في المتعجّب؟.
ودخل على محمد بن عبد الملك، فجعل لا يكلمه إلا بأطرافه فقال:
إن من حقّ نعمه أن تجعل البسطة لأهل الحاجة إليك، فإنّ من أوحش انقبض عن المسألة، وبكثرة المسألة مع النّجح يدوم السرور. فقال له محمد: أما إني أعرفك فضوليّا كثير الكلام وأمر به إلى الحبس فكتب إليه:
قد علمت أنّ الحبس لم يكن من جرم تقدّم إليك، ولكن أحببت أن تريني مقدار قدرتك عليّ لأنّ كلّ جديد يستلذّ، ولا بأس أن ترينا من عفوك حسب ما أريتنا من قدرتك.
فأمر بإطلاقه، ثم لقيه بعد أيام، فقال: يا أبا العيناء، ما تزورنا حسب نيتنا فيك؟. فقال: أمّا نيتك فمتأكّدة، ولكن أرى أن الذي جدّد الاستبطاء فراغ حبسك، فأحببت أن تشغله بي.
واعترضه يوما أحمد بن سعيد، فسلّم عليه فقال أبو العيناء: من أنت؟
قال: أحمد بن سعيد فقال: إني بك لعارف، ولكن عهدي بصوتك يرتفع إليّ من أسفل، فماله ينحدر عليّ من علو؟ قال: لأني راكب. قال: لا إله إلا الله.
لعهدي بك وأنت في طمرين لو أقسمت على الله في رغيف لأعضّك بما تكره.
وقال يوما لعبيد الله بن سليمان: إلى كم يرفعني الوزير، ولا يرفع بي رأسا؟.
وقال له يوما: كيف حالك؟ فقال: أنت الحال، فإذا صلحت صلحت.
وقربه يوما فقال: تقريب الوليّ وحرومان العدو.
وقيل له: أتشرب النبيذ؟ فقال: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرََاهِيمَ إِلََّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: الآية 130].
وقال يوما لعبيد الله بن يحيى: أيها الوزير، قد برّح بي حجّابك فقال له: ارفق. فقال: لو رفق بي فعلك رفق بك قولي.
وقال يوما لعيسى بن فرخانشاه، وقد بالغ أحمد بن المدبر: أتبالغه، وشطر اسمك عنّي، وما بقي فثلثا مسيّ؟.
وقيل له: لا تعجل، فإنّ العجلة من الشّيطان فقال: لو كان كذلك لما قال موسى عليه السلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى ََ} [طه: الآية 84].
قال ابن وثّاب لأبي العيناء يوما: أنا والله أحبّك بكلّيتي. فقال أبو العيناء:(3/143)
وقيل له: لا تعجل، فإنّ العجلة من الشّيطان فقال: لو كان كذلك لما قال موسى عليه السلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى ََ} [طه: الآية 84].
قال ابن وثّاب لأبي العيناء يوما: أنا والله أحبّك بكلّيتي. فقال أبو العيناء:
إلا عضو واحد منك أيّدك الله فبلغ ذلك ابن أبي دواد، فقال: قد وفّق في التحديد عليه.
وقال: أنا أوّل من أظهر العقوق بالبصرة. قال لي أبي: يا بني إن الله قرن طاعته بطاعتي فقال: {اشْكُرْ لِي وَلِوََالِدَيْكَ} [لقمان: الآية 14]. فقلت: يا أبت إنّ الله ائتمنني عليك، ولم يأتمنك عليّ فقال: {وَلََا تَقْتُلُوا أَوْلََادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلََاقٍ} [الإسراء: الآية 31].
وقبّل يد سليمان بن وهب فقال: أنا أرفعك عن هذا. فقال أبو العيناء:
أترفعني عمّا يرتفع الناس إليه؟.
وقيل له: ما تقول في مالك بن طوق؟ فقال: لو كان في زمان بني إسرائيل، ثم نزلت آية البقرة ما ذبحوا غيره.
وقال لبعض الكتّاب: والله ما هو إلا أن يزيلك القدر عن القدرة حتى تحصل على المذمّة والحسرة.
وقال: فلج بعض المجّان، فرأيته وهو يأكل سمكا ولبنا، فعاتبته على ذلك فقال: آمن ما يكون الطريق إذا قطع.
وقال: ما لقى إبليس من المبلّغين! كلّما نسوا لعنوه.
ودخل على المتوكل وهو يبني الجعفريّ فقال له: يا أبا العيناء كيف ترى دارنا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، الناس يبنون الدور في الدنيا، وأنت تبني الدنيا في دارك.
وسأله المتوكل عن ميمون بن إبراهيم صاحب البريد فقال: يد تسرق، واست تضرط، مثله مثل يهوديّ سرق نصف جزيته، فله إقدام بما أدّى، وإحجام بما أبقى، إساءته عمد، وإحسانه تكلّف.
وتكلم ابن ثوابة يوما فتقعّر ثم لحن فقال له أبو العيناء: تقعّرت حتى خفتك، ثم تكشفت حتى عفتك.
وقال له أبو الصّقر: ما أخّرك عنا؟ قال: سرق حماري، وكرهت منّة العواري، وذلّة المكاري.
قال يوما لجارية مغنية: أنا أشتهي أن أييكك، قالت: ذاك يوم عماك.(3/144)
وقال له أبو الصّقر: ما أخّرك عنا؟ قال: سرق حماري، وكرهت منّة العواري، وذلّة المكاري.
قال يوما لجارية مغنية: أنا أشتهي أن أييكك، قالت: ذاك يوم عماك.
قال: يا ستّي فالساعة بالنقد فقد سبق الشّرط يعني: العمى.
قال: قلت لغلامي وقد رأيت في السوق مشجبا: اشتر لنا هذا المشجب.
فقال: يا سيدي فما تلبس إذا ألقيت ثيابك على المشجب؟.
بات أبو العيناء عند ابن مكرم، فجعل ابن مكرم يفسو عليه، فقام أبو العيناء وصعد السرير، فارتفع إليه فساؤه، فصعد السطح فبلغته رائحته، فقال: يا ابن الفاعلة، ما فساؤك إلا دعوة مظلوم.
وذكر أبو العيناء للعباس بن رستم. فقال: ليس تهضمه معدتي، وتأدّى (1)
ذلك إلى أبي العيناء فقال: قل له: إن كان من تحبّ يجب أن تهضمه معدتك فيجب أن تكون قد سلحت أباك وأمك منذ ثلاثين سنة.
وكان أبو العيناء في مجلس، وإلى جنبه مغنّ بارد، فأقبل على أبي العيناء وقال: يا سيدي كم بيننا وبين الشتاء؟ قال: هذه المسورة. دعا أبو العيناء بعض أصدقائه، فقال: أتوضّأ وأجيئك. فقال: أخشى ألّا ترجع إن ذهبت تتوضأ.
قال: ولم؟ قال: لأنّك كما أنت وضوء.
وقال له يوما ابن مكرم: يا أبا العيناء، كلّ شيء لك من الناس حتى أولادك.
وقال أبو العيناء في ابن مكرم: هو إذا غزا فمطيّة جنده، وإذا قفل فظعينة عبده.
أهدى أبو علي البصير إلى أبي العيناء كيرينجات، وكتب عليها: {ادْخُلُوهََا بِسَلََامٍ آمِنِينَ} (46) [الحجر: الآية 46] فردّها وكتب عليها: {فَرَدَدْنََاهُ إِلى ََ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهََا} [القصص: الآية 13].
وقال لرجل: ما بال الأحمق يرزق والأديب يحرم؟ فقال: إنّ هذه الدنيا لدار اختبار، فأحبّ الرّازق أن يعلّمهم أنّ الأمور ليست إليهم.
وقال أبو العيناء: غلّات السّواد كلها تباع بكف المودح فهلا اكتفى من ذلك بنقر يسير.
__________
(1) تأدّى القول إليه: انتهى إليه ووصل.(3/145)
قيل له: كيف تركت فلانا مع قومه؟ قال: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمََا يَعِدُهُمُ الشَّيْطََانُ إِلََّا غُرُوراً} (120) [النّساء: الآية 120].
وقال له أبو عليّ البصير: في أيّ وقت ولدت؟ قال: قبل طلوع الشمس، قال: لذلك خرجت سائلا لأنه وقت انتشار السؤال.
وقال أبو العيناء لرئيس كان عنده وهو يخفض كلامه: كأنك قد طفّل بك في منزلك.
وقدّم إليه ابن مكرم جنب شواء. قال: ليس هذا جنبا، هذا شريحة قصب.
وذكر ولد عيسى بن موسى، فقال: كأن آنفهم قبور نصبت على غير القبلة.
ودخل على إسماعيل القاضي، وجعل يردّ عليه إذا غلط، اسم رجل وكنية آخر، فقال له بعض من حضر: أتردّ على القاضي أعزّه الله؟، كأنك أحطت بما لم يحط به، فقال: نعم، لم لا أردّ على القاضي؟، وقد ردّ الهدهد على سليمان فقال: {أَحَطْتُ بِمََا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النّمل: الآية 22] وأنا أعلم من الهدهد، وسليمان أعلم من القاضي.
وقال رجل: ما أنتن إبطك! قال: نلقاك أعزك الله بما يشبهك.
وقال له رجل من ولد سعيد بن مسلم: إنّ أبي يبغضك. فقال: يا بني إنّ لي أسوة بآل محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقال لرجل: والله ما فيك من العقل شيء إلا مقدار ما تجب به الحجة عليك، والنّار لك.
قال أبو العيناء: وصفت الحمّامات بحضرة ابن عتاب، فقال: دعوني من هذا. ما قامت النساء عن حمام أطيب من حمام أصحاب الخنا.
قال المتوكل: لولا ذهاب بصر أبي العيناء لأردت منادمته، وبلغه ذلك، فقال: قولوا له: إنّي إن أعفيت من قراءة نقوش الخواتم، ورؤية الأهلّة صلحت لغير ذلك. وأنهي ذلك إلى المتوكل فضحك وأمر بمنادمته.
قال أبو العيناء: سمعت جارا لي أحمق وهو يقول لجار له: والله لهممت أن أوكّل بك من يصفع رقبتك، ويخرج هذه الجفون من أقصى حجر بخراسان.
ودخل إلى ابن مكرم فقال له: كيف أنت؟ قال: كما تحبّ فقال: فلم أنت مطلق؟.(3/146)
قال أبو العيناء: سمعت جارا لي أحمق وهو يقول لجار له: والله لهممت أن أوكّل بك من يصفع رقبتك، ويخرج هذه الجفون من أقصى حجر بخراسان.
ودخل إلى ابن مكرم فقال له: كيف أنت؟ قال: كما تحبّ فقال: فلم أنت مطلق؟.
ومن رسائل أبي العيناء وكلامه المستحسن
كتب إلى أبي الوليد بن أبي داود: جعلت فداك، مسّنا وأهلنا الضرّ، وبضاعتنا المودة والشكر فإن تعطنا أكن كما قال الشاعر: [البسيط]
أنا الشّهاب الذي يحمي دياركم ... لا يخمد الدهر إلّا ضوءه يقد
وإن لم تفعل فلسنا ممّن يلمزك في الصّدقات {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهََا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهََا إِذََا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: الآية 58].
قال ابن مكرّم: من زعم أن عبد الحميد أكتب من أبي العيناء إذا أحسّ بكرم أو شرع في طمع فقد وهم.
كتب إلى عبيد الله بن سليمان وقد نكبه وأباه المعتمد، وهما مطالبان بمال، يبيعيان له ما يملكان من عقار وأثاث، وعبد وأمة. وأعطي بخادم أسود لعبيد الله خمسون دينارا فكتب إليه أبو العيناء.
قد علمت أطال الله بقاءك أنّ الكريم المنكوب أجدى على الأحرار من اللئيم الموفور لأن اللئيم يزيد مع النعمة لؤما، ولا تزيد محنة الكريم إلّا كرما، هذا متكل على رازقه، وهذا يسيء الظن بخالقه. وعبدك إلى ملك كافور فقير، وثمنه على ما اتّصل به يسير فإن سمحت فتلك منك عادتي، وإن أمرت بأخذ ثمنه فمالك منه مادّتي. أدام الله لنا دولتك، واستقبل بالنعمة نكبتك، وأدام عزّك وكرامتك.
فوهب الخادم إليه.
قال أبو العيناء: قال ملك لبنيه: صفوا لي شهواتكم من النساء. فقال الأكبر: تعجبني القدود والخدود والنهود. وقال الأوسط: تعجبني الأطراف والأعطاف والأرداف. وقال الأصغر: تعجبني الشعور والثغور والنحور.
كان بين أبي العيناء وبين إبراهيم بن رباح خلّة ومودة وصداقة قديمة فلما نكب مع الكتّاب في أول خلافة الواثق أنشأ أبو العيناء كلاما حكاه عن
بعض الأعراب فلما وصل إلى الواثق وقرىء عليه. قال: واضع هذا الكلام ما أراد به غير إبراهيم بن رباح، وكان أحد أسباب الرّضا عنه. ونسخة الكلام:(3/147)
كان بين أبي العيناء وبين إبراهيم بن رباح خلّة ومودة وصداقة قديمة فلما نكب مع الكتّاب في أول خلافة الواثق أنشأ أبو العيناء كلاما حكاه عن
بعض الأعراب فلما وصل إلى الواثق وقرىء عليه. قال: واضع هذا الكلام ما أراد به غير إبراهيم بن رباح، وكان أحد أسباب الرّضا عنه. ونسخة الكلام:
قال:
لقيت أعرابيّا من أهل البادية، فقلت: ما عندك من خبر البلاد؟ قال: قتل أرضا عالمها. قلت: فما عندك من خبر الخليفة؟ قال: تبحبح في عزّة فضرب بجرانه، وأخذ الدّرهم من مصره، وأرعف كل قلم خيانته.
قلت: فما عندك من خبر ابن أبي دواد؟ قال: عضلة لا تطاق، وجندلة لا ترام، ينتحى بالمدى لنحره فتحور، وتنصب له الحبائل حتى يقول: الآن، ثم يضبر (1) ضبرة الذئب، ويتملّس تملّس الضّب، والخليفة يحنو عليه، والعراق يأخذ بضبعيه.
قلت: فما عندك من خبر عمر بن فرج؟ فقال: ضخام حضجر (2)
وغضوب هزبر، قد أهدفه القوم لبغيهم، وانتضوا له عن قسيّهم، وأحر له بمثل مصرع من يصرع منهم!.
قلت: فما عندك من خبر ابن الزيات؟ قال: ذاك رجل وسع الورى بشرّه، وبطن بالأمور خبره. فله في كل يوم صريع لا تظهر فيه آثار مخلب ولا ناب، إلا بتسديد الرأي.
قلت: فما عندك من خبر إبراهيم بن رباح؟ قال: ذاك رجل أوبقه كرمه، وإن يفز للكرام قدح فأحر بمنجاته، ومعه دعاء لا يخذله، وفوقه خليفة لا يظلمه.
قلت: فما عندك من خبر نجاح بن سلمة؟ قال: لا درّه من خافض أوتاد، يقد كأنّه لهب نار، له في الفينة بعد الفينة جلسة عند الخليفة كحسوة طائر، أو كخلسة سارق، يقوم عنها، وقد أفاد نعما، وأوقع نقما.
قلت: فما عندك من خبر الفضل بن مروان؟ قال: ذاك رجل حشر بعدما قبر، فله نشرة الأحياء، وفيه خفوت الموتى.
__________
(1) يضبر: يثب. والضبر أصله نوع من سير الفرس.
(2) الحضجر: العظيم البطن الواسعة.(3/148)
قلت: فما عندك من خبر أبي الوزير فقال: إخاله كبش الزنادقة. ألا ترى أنّ الخليفة إذا أهمله خضم فرتع، حتى إذا أمر بنقضه أمطر فأمرع؟.
قلت: فما عندك من خبر أحمد بن الخصيب؟ فقال: أحمد أكل إكلة نهم فأخلف خلفة بشم.
قلت: فما عندك من خبر المعلّى بن أيوب؟ قال: ذاك رجل قدّ من صخرة، فصبره صبرها، ومسّه مسّها.
قلت: فما عندك من خبر أحمد بن إسرائيل؟ قال: كتوم غرور، وجلد صبور، له جلد نمر، كلّما قدّوا له إهابا أنشأ الله له إهابا.
قلت: فما عندك من خبر عبد الله بن يعقوب؟ قال: {أَمْوََاتٌ غَيْرُ أَحْيََاءٍ وَمََا يَشْعُرُونَ أَيََّانَ يُبْعَثُونَ} (21) [النّحل: الآية 21].
قلت: فما عندك من خبر سليمان بن وهب؟ فقال: ذاك رجل اتّخذه السلطان أخا، فاتّخذ نفسه للسلطان عبدا.
قلت: فما عندك من خبر أخيه الحسن؟ فقال: شد ما استنوقت مسألتك! ذاك حرمة حبست بجريرة المجرم، ليس في القوم في خلّ ولا خمر، هيهات (1): [الخفيف]
كتب الحبس والخراج عليهم ... وعلى المحصنات جرّ الذّيول
قال: قلت: أين منزلك فأؤمك؟ قال: ما لي منزل. إنما أستتر في الليل إذا التبس، وأظهر في النهار إذا تنفّس.
وهذا كلام لأبي العيناء، نسبه إلى جماعة من كتاب الحضرة وغيرهم في ذم أحمد بن الخصيب وزير المستعين، قال:
ذكر عند أبي العباس محمد بن عبد الله بن طاهر أحمد بن الخصيب فقال: ما زال يخرق ولا يرقع، وما زلت منذ ارتفع، أتذكّر الذي فيه وقع.
__________
(1) مأخوذ من البيت:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جرّ الذيول
والبيت لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص 359.(3/149)
وذكر بغا فقال: أبطرته النعمة، فعاجلته النقمة.
وذكر جعفر بن عبد الواحد فقال: أحسن حسناته سيئة، وأصغر سيئاته كبيرة.
وذكر هارون بن عيسى فقال: كانت دولته دولة المجانين خرجت من الدنيا والدين.
وذكر عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي المعروف بأترجّة، فقال: بعد من الشرف فتحامل عليه، وقرب من ضلّ فمال إليه.
وذكر إسحق بن إبراهيم المصعبي فقال: ما كان أتمّ شرّته (1)، إن دنوت منه غرّك، وإن بعدت منه ضرّك.
وذكره وصيف فقال: ترك العقلاء على يأس من مرتبته، والجهال على رجاء لدرجته.
وذكره موسى بن بغا فقال: لولا أنّ القدر يغشي البصر ما نهى بيننا ولا أمر.
وذكره صالح بن وصيف فقال: تجبّر وتكبّر وتذمّر ودبّر فدمّر.
وذكره سليمان بن يحيى فقال: لم تتمّ له نعمة لأنه لم تكن في الخير همة.
وذكره الفضل بن عباس فقال: إن لم يكن تاريخ البلاء فما أعظم البلوى!.
وذكره الفضل بن مروان قال: فما أجهل من يستجهله! أو لم يخبر بأمر يجهله؟.
وذكر عيسى بن فرخانشاه فقال: أعقل منه مجنون، وأحسن منه معلوم.
وذكره إسحق بن منصور فقال: لو طلب العافية لوجدها، ما أدبرت عنه حتى أدبر عنها.
__________
(1) الشرّة: الجهل والتعدي.(3/150)
وذكره الحسن بن مخلد، فقال: لئن كان دخل مدخلا لا يشبهه لقد خرج مخرجا يشبهه.
وذكره أحمد بن إسرائيل فقال: كنّا إذا عصيناه عرضنا بأنفسنا، وإذا أطعناه فسد تدبيرنا.
وذكره داود بن محمد الطوسي. فقال: ما أحسن قط إلا غلطا، ولا أساء إلا تعمدا.
وذكره المعلّى، فقال: ما أعجب ما نكب! ونعمته أعجب من نكبته.
وذكره ميمون بن إبراهيم، فقال: لو تأمّل رجل أفعاله فاجتنبها، لاستغنى عن الآداب أن يطلبها.
وذكره ابن أبي الشوارب، فقال: كان يحمد المحسنين، ويجتنب أفعالهم، ويذمّ المسيئين، ويعمل أعمالهم.
وذكره خالد بن صبيح، فقال: هو كما قال فلان: ملأ يساره سلحا، وبسط يمينه سطحا، وقال: انظروا في سطحي، وإلا لطّختكم بسلحي.
وذكره شجاع بن القاسم، فقال: الحزم ما فعلنا، ولو لم نعاجله لعاجلنا.
وذكره داود بن الجراح، فقال: كان لا يرضى أحدا ولا يرضاه أحد، فضرّوه إذ لم يرضوه، ولم يضرّهم إذ لم يرضهم.
وذكره أحمد بن صالح، فقال: كان لا يغتمّ إلا لما فاته من الشرّ ولا يسرّ إلا بما فاته من الخير.
وذكره محمد بن نحاح، فقال: لئن كانت النعمة عظمت على قوم خرجت عنهم، لقد عظمت المصيبة على قوم نزلت فيهم.
وذكره علي بن يحيى، فقال: لم يكن له أول يرجع إليه، ولا آخر يعوّل عليه، ولا عقل فيذكر عاقل لديه.
وذكره علي بن الحسن الإسكاف، فقال: كان الجاهل يغبطنا بتكرمته، والعاقل يرحمنا من سوء عشرته.
وذكره ابن محمد بن فيروز، فقال: حظّ في السحاب، وعقل في التراب.
وذكره محمد بن موسى بن شاكر المنجم، فقال: قبحه الله! إن ذكرت له ذا فضل تنقّصه لما فيه من ضدّه، أو ذكرت ذا نقص تولّاه لما فيه من شكله.(3/151)
وذكره ابن محمد بن فيروز، فقال: حظّ في السحاب، وعقل في التراب.
وذكره محمد بن موسى بن شاكر المنجم، فقال: قبحه الله! إن ذكرت له ذا فضل تنقّصه لما فيه من ضدّه، أو ذكرت ذا نقص تولّاه لما فيه من شكله.
وذكره يزيد المهلبي، فقال: كانت يده تمنع، ونفسه لا تشبع، ويرتع ولا يرتع.
وذكره ابن طالوت، فقال: كان العقل مأسورا في سلطانه، فلما سيّره أطلق من لسانه.
وذكره محمد بن علي بن عصمة، فقال: ما كان أقرب وليّه مما يكره، وعدوّه مما يحب!.
وذكره ابن جبل فقال: ما زال ينقص ولا يزيد، ويتوعّد حتى حلّ به الوعيد.
وذكره عبد الله بن محمد فقال: لو أقام لسرنا فأما إذ سار فقد أقمنا.
وذكره ابن حمدون فقال: لئن فضحته القدرة لقد جمّلته النكبة.
وذكره ابن أبي الأصبع، فقال: ما علمت خدمة الشياطين، إلا أيسر من خدمة المجانين كان غضبه علينا إذا أطعناه أشدّ من غضبه إذا خالفناه.
وذكره إبراهيم بن رباح فقال: كان لا يفهم ولا يفهم، وينقض ما يبرم.
وذكره سعيد بن حميد فقال: كان إذا أصاب أحجم، وإذا أخطأ صمّم.
وذكره سعيد بن عبد الملك، فقال: كان يخافه الناصح، ولا يأمنه الغاشّ، ولا يبالي أن يراه الله مسيئا.
وقال المتوكل يوما لأبي العيناء: كيف شربك النبيذ؟ قال: أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيرة. فقال: دع هذا عنك ونادمنا. فقال: يا أمير المؤمنين إن أجهل الناس من جهل نفسه، ومهما جهلت من الأمر فلن أجهل نفسي، أنا امرؤ محجوب، والمحجوب مخطوف؟ إشارته، ملحود بصره، وينظر إلى من لا ينظر إليه وكل من في مجلسك يخدمك، وأنا أحتاج أن أخدم، وأخرى، فلست آمن أن تنظر إلي بعين غضبان وقلبك راض، أو بعين راض وقلبك
غضبان، ومتى لم أميز بين هاتين هلكت. ولم أقل هذا جهلا بما لي في المجلس من الفائدة فأختار العافية على التّعرض للبلية.(3/152)
وقال المتوكل يوما لأبي العيناء: كيف شربك النبيذ؟ قال: أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيرة. فقال: دع هذا عنك ونادمنا. فقال: يا أمير المؤمنين إن أجهل الناس من جهل نفسه، ومهما جهلت من الأمر فلن أجهل نفسي، أنا امرؤ محجوب، والمحجوب مخطوف؟ إشارته، ملحود بصره، وينظر إلى من لا ينظر إليه وكل من في مجلسك يخدمك، وأنا أحتاج أن أخدم، وأخرى، فلست آمن أن تنظر إلي بعين غضبان وقلبك راض، أو بعين راض وقلبك
غضبان، ومتى لم أميز بين هاتين هلكت. ولم أقل هذا جهلا بما لي في المجلس من الفائدة فأختار العافية على التّعرض للبلية.
قال أبو العيناء، قال لي المتوكل يوما: بلغني أنك رافضي. فقلت: ألدين أم لدنيا؟ فإن أك للدين ترفّضت فأبوك مستنزل الغيث، وإن أك للدنيا ففي يدك خزائن الأرض. وكيف أكون رافضيّا، وأنا مولاك، ومولدي البصرة، وأستاذي الأصمعي، وجيراني باهلة؟ فقال: إن ابن سعدان زعم ذلك. قلت: ومن ابن سعدان؟ والله ما يفرّق بين الإمام والمأموم، والتابع والمتبوع إنما ذاك حامل درّة، ومعلّم صبية، وآخذ على كتاب الله أجرة. قال: لا تقل فإنه مؤدّب المؤيد. قال: قلت: يا أمير المؤمنين: لم يؤدبه حسبة، إنما أدّبه بأجرة، فإذا أعطيته حقّه فقد قضيت ذمامه.
عزّى أبو العيناء ابن الرّضا رضي الله عنهما عن ابنه فقال له: أنت تجلّ عن وصيتنا، ونحن نقلّ عن عظتك. وفي علم الله ما كفاك، وفي ثواب الله ما عزّاك.
وكتب إلى عبيد الله بن سليمان: أنا وولدي وعيالي زرع من زرعك إن سقيته راع وزكا، وإن جفوته ذبل وذوى. وقد مسّني منك جفاء بعد برّ، وإغفال بعد تعهّد، حتى شمت عدوّ، وتكلم حاسد، ولعبت بي ظنون رجال (1):
[الرمل]
وشديد عادة منتزعة
وعزّاه عن أبيه، فقال: عقم والله البيان، وخرست الأقلام، ووهى النظام.
وكتب إلى عيسى بن فرخانشاه: أنا أحمد الله على ما تأتّت إليه أحوالك ولئن كانت أخطأت فيك النعمة، لقد أصابت فيك النقمة، ولئن أبدت الأيام مقابحها بالإقبال عليك، لقد أظهرت محاسنها بالانصراف عنك.
__________
(1) صدره:
لا تهني بعد إكرامك لي
والبيت لأبي الأسود الدؤلي في ملحق ديوانه ص 350، وبلا نسبة في عيون الأخبار 3/ 195.(3/153)
وكتب إلى صديق له تولى ناحية:
أما بعد فإنّي لا أعظك بموعظة الله لأنك غنيّ عنها، ولا أرغّبك في الآخرة لمعرفتي بزهدك فيها. ولكني أقول كما قال الشاعر (1):
[الطويل]
أحاربن عمر قد وليت ولاية ... فكن جرذا فيها تخون وتسرق
وكاثر تميما بالغنى، إنّ للغنى ... لسانا به المرء الهيوبة ينطق
واعلم أنّ الخيانة فطنة، والأمانة خرق، والجمع كيس، والمنع صرامة، وليست كلّ يوم ولاية، فاذكر أيام العطلة، ولا تحقرنّ صغيرا، فمن الذّود إلى الذّود إبل، والولاية رقدة، فتنبّه قبل أن تنبّه، وأخو السلطان أعمى، عن قليل سوف يبصر. وما هذه الوصية التي أوصى بها يعقوب بنيه، ولكني رأيت الحزم أخذ العاجل، وترك الآجل.
وكتب إلى عيسى بن فرخانشاه: أصبحت منك بين أمرين عجيبين، إن غبت عنا ولا يغيّبنّك الله لزمنا الخوف، واستخفّ بنا النّاس، ولا حظونا بالوعيد، وسدّوا علينا أبواب المنافع فإذا ظهرت ففقر حاضر، وأمل كاذب، وحرمان شامل، كنت أسألك كذا فاستكثرته، وما ظننتك تستكثر. هذا الولي مؤمل بي إليك، فكيف لولدك الذي غذّي بنعمتك وتخرّج في دواوينك، فو الله ما كان أمل سواك، ولا خطر من مكاره الدنيا شيء فأخطرتك بقلبي إلّا هان وخفّ عندي.
وكتب إلى بعضهم: نحن أعزّ الله الأمير إذا سألنا الناس كفّ الأذى سألناك بذل الندى، وإذا سألناهم العدل، سألناك الفضل، وإذا سررناهم ببسط العذر سررناك باستدعاء البرّ.
__________
(1) البيت الأول لأنس بن زنيم في ديوانه ص 114، ولسان العرب (سرق)، والمقاصد النحوبة 4/ 296، وله أو لأنس بن أبي أنيس في الدرر 3/ 54، ولأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص 177، والعقد الفريد 3/ 60، ولأنس بن أبي أنيس أو لابن أبي إياس الديلي، أو لأبي الأسود الدؤلي في أمالي المرتضى 1/ 384، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 6/ 44، وشرح الأشموني 2/ 469، وهمع الهوامع 1/ 183.(3/154)
وكتب في فصل: قد آمن الله خائفك من ظلمك، وسائلك من بخلك، والعائذ بك من مالك، والمستزيد لك من علمك، وإن الله لم يزل يعطيك إذا أعطيت، ويزيدك إذا زدت.
أخبرنا الصاحب رحمة الله عليه أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل قال: أخبرنا أبو العيناء، وقال مرة أخرى أحمد بن خلف قال أبو العيناء: أتيت عبد الله بن داود الخريبي فقال: ما جاء بك؟ فقلت: طلب الحديث، قال:
اذهب فتحفّظ القرآن، قلت: قد حفظت القرآن. قال: فاقرأ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قََالَ لِقَوْمِهِ} [يونس: الآية 71]. قال: فقرأت العشر، قال: فاذهب الآن وتعلم الفرائض. قال: قلت: قد تعلّمت الجدّ والصّلب والكبد، قال: فأيّما أقرب إليك: ابن أخيك أو ابن عمّك؟ قال: قلت: ابن أخي، قال: ولم؟
قلت: لأنّ أخي من أبي، وعمّي من جدّي. قال: اذهب الآن وتعلم العربية.
قلت: علّمت ذاك قبل هذين. قال: فلم؟ قال عمر بن الخطاب: يا لله، يا للمسلمين. قال: قلت فتح تلك للاستغاثة، وكسر هذه للاستنصار. قال: لو حدثت أحدا حدثتك.
سبّ رجل من العلوية أبا العيناء، فقال له أبو العيناء: ما أحوج شرفك إلى من يصونه حتى تكون فوق من أنت دونه.
وكتب إلى بعضهم: ثقتي بك تمنعني من استبطائك، وعلمي بشغلك يدعوني إلى إذكارك. ولست آمن مع استحكام ثقتي بطولك، والمعرفة بعلوّ همّتك احترام الأجل فإن الآجال آفات الآمال، فسح الله في أجلك، وبلغك منتهى أملك.(3/155)
وكتب إلى بعضهم: ثقتي بك تمنعني من استبطائك، وعلمي بشغلك يدعوني إلى إذكارك. ولست آمن مع استحكام ثقتي بطولك، والمعرفة بعلوّ همّتك احترام الأجل فإن الآجال آفات الآمال، فسح الله في أجلك، وبلغك منتهى أملك.
الباب السابع نوادر مزبد (1)
صبّ مزبّد يوما الماء على نفسه، فسألته امرأته عن ذلك فقال: «جلدت عميرة»، ثم رآها بعد أيام تصبّ الماء على نفسها فسألها فقالت: «جلدت عميرة فجلدتني».
أخذه بعض الولاة وقد اتّهمه بالشرب، فاستنكهه، فلم يجد منه رائحة، فقال: قيّؤه. قال: من يضمن عشائي أصلحك الله؟.
قيل له مرة وقد أفحش في كلامه: أمل على كاتبيك خيرا. قال: أكره أن أخلط عليهما.
وادّعى رجل عليه شيئا، وقدّمه إلى القاضي، فأنكره، وسأله إقامة البينة فقال: ليس لي بينة. قال: فأستحلفه لك؟ قال: وما يمين مزبّد أصلحك الله؟
فقال مزبد: ابعث، أصلحك الله، إلى ابن أبي ذئب فاستحلفه له.
وتناول رجل من لحيته شيئا، فسكت عنه، وكان الرجل قبيح الوجه، فقال: ويحك لم لا تدعو لي؟ فقال: كرهت أن أقول صرف الله عنك السوء فتبقى بلا وجه. وقيل له: أيسرّك أن هذه الجبّة لك؟ قال: نعم، وأضرب عشرين سوطا. قيل: ولم تقول ذلك؟ قال: لأنّه لا يكون شيء إلا بشيء.
وأتاه أصحاب له يوما فقالوا له: يا أبا إسحق هل لك في الخروج بنا إلى العقيق، وإلى قباء، وإلى أحد ناحية قبور الشهداء فإن يومنا كما ترى يوم طيّب. قال: اليوم يوم الأربعاء ولست أبرح من منزلي. قالوا: وما تكره؟ يوم
__________
(1) هو مزبد المديني ضرب به المثل في الهزل، (انظر: المقابسات ص 50، فوات الوفيات 2/ 303، التبصير ص 1275).(3/156)
الأربعاء فيه ولد يونس بن متى عليه السلام. قال: بأبي وأمي أنتم فقد التقمه الحوت. قالوا: فهو اليوم الذي نصر فيه النبيّ عليه السلام يوم الأحزاب. قال:
أجل، ولكن بعد إذ زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظنّوا بالله الظنون.
أردف مزبّد رجلا على بغلة، فلما استوى الرجل قال: اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين فقال مزبّد: اللهم قنّعه حربة، يسأل ربّه منزلا مباركا وهو بين استي واست البغلة.
استأذن مزبد على بعض البخلاء وقد أهدي له تين في أول أوانه، فلما أحسّ بدخوله تناول الطبق، فوضعه تحت السرير، وبقيت يده معلّقة، ثم قال لمزبّد: ما جاء بك في هذا الوقت؟ قال: يا سيدي مررت السّاعة بباب فلان، فسمعت جاريته تقرأ لحنا ما سمعت قطّ أحسن منه، فلما علمت من شدة محبتك للقرآن، وسماعك للألحان، حفظته، وجئت لأقرأه عليك. قال: فهاته، فقال:
بسم الله الرّحمن الرّحيم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ} (2) [التّين: الآيتان 1، 2].
فقال: ويلك! أين التّين؟ قال: تحت السرير!!
هبّت ريح شديدة، فصاح الناس: القيامة، القيامة. فقال مزبّد: هذه قيامة على الرّيق بلا دابّة الأرض والدجّال ولا القائم.
ونظر يوما إلى مغربي أسود وهو ينيك غلاما روميا، فقال: كأن أيره في استه كراع عنز في صحن أرز. مرض مرة، فعاده رجل وقال له: احتم. فقال:
يا هذا أنا ما أقدر على شيء إلا على الأماني أن أحتمي منها.
ورأى مزبّدا رجل بالرّها، وعليه جبّة خزّ، وكان قد خرج إليها فحسنت حاله، وقال: يا مزبد هب لي هذه الجبّة. فقال: ما أملك غيرها، فقال الرجل: فإنّ الله تعالى يقول: {وَيُؤْثِرُونَ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كََانَ بِهِمْ خَصََاصَةٌ}
[الحشر: الآية 9] فقال: والله أرحم بعباده أن ينزّل هذه الآية بالرّها، في كانون وكانون، وإنما نزلت بالحجاز في حزيران وتمّوز.
قيل له وقد اشترى حمارا: ما في هذا الحمار عيب إلا أنه ناقص النفس بليد يحتاج إلى عصا. قال: إنما كنت أغتمّ لو كان يحتاج إلى بزماورد (1). فأما العصا فإنها سهل.(3/157)
ورأى مزبّدا رجل بالرّها، وعليه جبّة خزّ، وكان قد خرج إليها فحسنت حاله، وقال: يا مزبد هب لي هذه الجبّة. فقال: ما أملك غيرها، فقال الرجل: فإنّ الله تعالى يقول: {وَيُؤْثِرُونَ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كََانَ بِهِمْ خَصََاصَةٌ}
[الحشر: الآية 9] فقال: والله أرحم بعباده أن ينزّل هذه الآية بالرّها، في كانون وكانون، وإنما نزلت بالحجاز في حزيران وتمّوز.
قيل له وقد اشترى حمارا: ما في هذا الحمار عيب إلا أنه ناقص النفس بليد يحتاج إلى عصا. قال: إنما كنت أغتمّ لو كان يحتاج إلى بزماورد (1). فأما العصا فإنها سهل.
احتاج مزبّد أن يبيع جبته لسوء حاله، فنادى عليها المنادي، فلم يطلب بشيء فقال: مزبّد: ما كنت أعلم أني كنت عريانا إلى الساعة.
وقع بينه وبين رجل كلام! فقال له الرجل: تكلمني وقد ن ت أمك فرجع مزبّد إلى أمه، فقال لها: يا أمّه، تعرفين بلبل؟ قالت: أبو علية؟ قال:
نا ك يشهد الله أنا أسألك عن اسمه، فتجيبنّني عن كنيته.
قيل لمزبّد: لم لا تكون كفلان؟ يعني رجلا موسرا فقال: بأبي أنتم، كيف أتشبّه بمن يضرط ويشمّت، وأعطس فألطم.
ونظر إلى رجل كثير شعر الوجه فقال له: يا هذا خندق على وجهك لا يتحوّل رأسا.
وقال له رجل: من شجّك ههنا؟ وأشار إلى استه قال: الذي شجّ أمّك في موضعين.
ودخل بيته، وبين رجلي امرأته رجل ين ها وباب الدار مفتوح فقال:
سبحان الله أنت على هذه الحال والباب مفتوح؟ أليس لو دخل غيري كانت الفضيحة.
ونظر يوما إلى امرأته تصعد في درجة فقال: أنت الطلاق إن صعدت، وأنت الطلاق إن وقفت، وأنت الطلاق إن نزلت. فرمت بنفسها من حيث بلغت. فقال لها: فداك أبي وأمي! إن مات مالك احتاج إليك أهل المدينة في أحكامهم.
وسكر يوما فقالت امرأته: أسأل الله أن يبغّض النبيذ إليك. فقال:
والفتيت إليك.
ورئي مع امرأة يكلّمها فقيل: ما تريد منها؟ قال: أناظرها في مسألة من النكاح.
__________
(1) البزماورد: طعام من بيض ولحم، فارسي معرب.(3/158)
وقيل له: ما نقول في القبلة؟ قال: السّباب قبل اللّطام.
ونظروا إليه وبين يديه نبيذ أسود فقالوا له: ما نبيذك هذا؟ قال: أما ترون ظلمة الحلال فيه؟
واشترى مرة جارية فسئل عنها، فقال: فيها خلّتان من خلال الجنة: برد وسعة.
وقال مرة: إنّ أخي يلقى الله منذ ثلاثين سنة بصحيفته مملوءة خمرا، وهو لم يشرب منها جرعة فقيل له: كيف ذلك؟ قال: هو منذ ثلاثين سنة يبكّر كل يوم في طلب الخمر، فلا يجد إليها سبيلا لفاقته، وعزمه صحيح على شربها لو وجدها.
قيل له: ما بال حمارك يتبلد إذا توجه نحو المنزل، وحمر الناس إلى منازلها أسرع؟ قال: لأنه يعرف سوء المنقلب.
دخل يوما على قينة وهي تغنّي (1): [الخفيف]
عادا قلبي من الطويلة عادا
وإنما هو عيد. فقال مزبد: وثمود، فإن الله لم يفرق بينهما.
وقيل له: أيولد لابن ثمانين؟ قال: نعم. إذا كان له جار ابن ثلاثين.
واتّهمه رجل بشيء، فاعتذر إليه، وقال: إن كنت فعلت هذا فمسخني الله كلبا أنهس عراقيب الملائكة في الموقف.
وقالت امرأة مزبّد وكانت حبلى، ونظرت إلى قبح وجهه: الويل لي إن كان الذي في بطني يشبهك فقال لها: الويل لي إن كان الذي في بطنك لا يشبهني.
لقي مزبّد رجلا، فقال له: من أنت؟ قال: قرشي والحمد لله فقال مزبّد: الحمد لله في هذا الموضع ريبة.
__________
(1) يروى البيت بتمامه:
عاد قلبي من الطويله عيد ... واعتراني من حبها تسهيد
والبيت بلا نسبة في لسان العرب (عود)، (طول)، وتاج العروس (عود)، وتهذيب اللغة 3/ 132.(3/159)
سمع مزبد رجلا يقول عن ابن عباس: «من نوى حجة وعاقه عائق كتبت له». فقال مزبد: ما خرج العام كلّه كراء أرخص من هذا.
وقيل له: ما ورثت أختك عن زوجها؟ فقال: أربعة أشهر وعشرا.
أسلم نصراني، وفعل في الإسلام فعلا قبيحا فقال مزبد: انظروا إلى هذا الذي أسخط المسيح، ولم يرض محمدا.
دفع مرّة إلى والي مكة، وقد أفطر في شهر رمضان فقال له الوالي: يا عدوّ الله تفطر في شهر رمضان! قال: أنت أمرتني بذلك. قال: هذا شرّ، كيف أمرتك؟ ويلك. قال: حدثت عن ابن عباس: أنه من صام يوم عرفة عدل صومه سنة، وقد صمته. فضحك الوالي وخلّاه.
واعتلّ علة، وأشرف منها إلى الهلاك، وأراد أن يوصي، فدعا بعض أوليائه، وأوصى إليه، وكتب كتاب وصيته، وأمر للوصيّ بشيء فلما فرغ من الكتابة رآه مزبّد وهو يترب الكتاب فقال وهو على تلك الحال: نعم يا سيدي، فهو أقضى للحاجة.
ونظر إلى قوم مكتّفين يذهب بهم إلى السجن فقال: ما قصّة هؤلاء؟
قالوا: خير. قال: إن كان خيرا فاكتفوني معهم.
وطلب من داره بعض جيرانه ملعقة، فقال: ليت لنا ما نأكله بالأصابع.
وجلس يوما يأكل السمك والجبن وقال: ومن أين يعلم السمك وهو ميت أني أكلت الجبن؟ وخاصم مرة امرأته، وأراد أن يطلّقها فقالت له: اذكر طول الصحبة. قال: والله ما لك عندي ذنب غيره.
وقال يوما لامرأته: اتخذي لي قريصا فقد اشتهيته. قالت: فأين حوائجه؟
قال: فلا حصر البرد لفقده حتى ننظر في باقي الحوائج.
وحضر مع محبوب مجلسا فعربدوا عليهما، فقام محبوب يقاتلهم، ويفتري عليهم فقال مزبد: اسكت يا أخي، فإنّ القوم سكارى، يذهب شتمنا ضياعا.
ومرت به امرأة قبيحة فقال: لعنها الله، كأنّ وجهها وجه إنسان رأى شيئا فزع منه.
وهبّت بامدينة ريح صرصر، أنكرها الناس وفزعوا فجعل مزبّد يدقّ أبواب جيرانه ويقول: لا تعجلوا بالتوبة فإنما هي وحياتكم زوبعة، وسوف تنكشف الساعة.(3/160)
ومرت به امرأة قبيحة فقال: لعنها الله، كأنّ وجهها وجه إنسان رأى شيئا فزع منه.
وهبّت بامدينة ريح صرصر، أنكرها الناس وفزعوا فجعل مزبّد يدقّ أبواب جيرانه ويقول: لا تعجلوا بالتوبة فإنما هي وحياتكم زوبعة، وسوف تنكشف الساعة.
ونام مرة بالمسجد، فدخل رجل فصلّى، فلما فرغ قال: يا رب أنا أصلي وهذا نائم.
فقال مزبّد: يا ابن أم سل ربّك حاجتك. ولا تحرّشه علينا.
وقالت له امرأته مرة: قد تمزّق خفي، ولا يتهيّأ لي أن أخرج. قال لها:
أيما أحبّ إليك؟ أن تشتري خفا أو أني ك الليلة أربعة. قالت: هذا الخلق يتهيأ أن يدافع به الوقت.
وكانت ليلة الفطر مرة، فعلا مزبّد منارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم نادى: ألا سمع سامع، إنا قد شرّدنا رمضان، فمن آواه فقد برئت منه الذّمة. فسمعه الوالي فضربه مائة سوط فقال: ما أبالي! ما كنت لأدع لذتها.
وكانت بالمدينة جارية، يقال لها: بصبص، مغنّية، يجتمع الأشراف عند مولاها لسماع غنائها، فاجتمع عندها يوما محمد بن عيسى الجعفري، وعبد الله بن مصعب الزّبيري، في جماعة من أشراف المدينة، فتذاكروا أمر مزبّد وبخله، فقالت بصبص: أنا آخذ لكم منه درهما. فقال لها مولاها: أنت حرة إن لم أشتر لك مخنقة بمائة دينار إن فعلت هذا، وأشتري لك مع ذلك ثوب وشي بمائة دينار، وأجعل لك مجلسا بالعقيق أنحر فيه بدنة لم تركب، ولم تقتّب. فقالت: جىء به، وارفع الغيرة عني. قال: أنت حرة إن منعتك منه ولو رأيته قد رفع رجليك، ولا عاديته على ذلك إن حصلت منه الدرهم فقال عبد الله بن مصعب: أنا لكم به زعيم.
قال عبد الله: فصلّيت الغداة في مسجد المدينة، فإذا أنا به قد أقبل فقلت: أبا إسحق أما تحبّ أن ترى بصبص؟ فقال: بلى والله. امرأته طالق إن لم يكن الله ساخطا علي في أمرها فقد جفتني، وإلّا فأنا أسأله منذ سنة أن ألقاها فلا تجيبني.
فقلت: إذا صليت العصر فأتني ههنا. فقال: امرأته طالق إن برح يومه من ههنا إلى العصر.(3/161)
قال عبد الله: فصلّيت الغداة في مسجد المدينة، فإذا أنا به قد أقبل فقلت: أبا إسحق أما تحبّ أن ترى بصبص؟ فقال: بلى والله. امرأته طالق إن لم يكن الله ساخطا علي في أمرها فقد جفتني، وإلّا فأنا أسأله منذ سنة أن ألقاها فلا تجيبني.
فقلت: إذا صليت العصر فأتني ههنا. فقال: امرأته طالق إن برح يومه من ههنا إلى العصر.
قال: فتصرفت في حوائجي حتى فاتت العصر، فدخلت المسجد فوجدته فأخذت بيده فأتيتهم به، وأكل القوم، وشربوا حتى صليت العتمة، ثم تساكروا وتناوموا.
فأقبلت بصبص على مزبّد فقالت له: يا أبا إسحق كأني والله في نفسك تشتهي أن أغنيك الساعة (1): [الهزج]
لقد رحلوا الجمال ليه ... ربوا منا فلم يئلوا
قال لها: امرأته طالق إن لم تكوني تعلمين ما في اللوح المحفوظ. فغنته إياه فقالت له: أي أبا إسحق كأني بك تشتهي أن أقوم من مجلسي فأجلس إلى جنبك، فتدخل يدك في جلبابي، فتقرص عكني قرصات وأغنيك:
قالت وأبثثتها وجدي فبحت به
فقال لها: امرأته طالق إن لم تكوني تعلمين ما في الأرحام. وما تكسبه الأنفس غدا، وبأي أرض تموت. قالت: نعم فقام فجلس إلى جنبها وأدخل يده في جلبابها، وقرصها وغنّت له.
ثم قالت: برح الخفاء. أنا أعلم أنك تشتهي أن تقبّلني شقّ التين، وأغنيك هزجا: [الهزج]
أنا أبصرت بالليل ... غلاما حسن الدّلّ
كغصن البان قد أصب ... ح مسقيّا من الطلّ
فقال: امرأته طالق إن لم تكوني نبية مرسلة فقبّلها، وغنّته.
ثم قالت: يا أبا إسحق رأيت قط أنذل من هؤلاء؟ يدعونك، ويخرجوني إليك، ولا يشترون لنا ريحانا بدرهم، هلم درهما نشتري به ريحانا. فوثب وصاح: واحرباه أي زانية! أخطأت استك الحفرة، انقطع والله عنك الوحي
__________
(1) البيت للحكم بن عبدل في تجريد الأغاني ص 306.(3/162)
الذي كان يوحي إليك، ووثب من عندها وجلس ناحية. فعطعط بها القوم، وعلموا أنّ حيلتها لم تنفذ عليه، وعادوا لمجلسهم، وخرج مزبّد من عندهم فلم يعد إليهم.
وقيل لمزبّد: أيسرّك أن يكون عندك قنينة شراب؟ فقال: يا ابن أم ومن يسرّه دخول النار بالمجان.
وضعت امرأته المنخل على فراشه، فجاء، فلما رآه تعلق بوتد كان في داره، فقالت امرأته: ما هذا؟ قال: وجدت المنخل في موضعي، فصرت في موضعه.
قالت امرأة مزبّد لجارة لها: يا أختي كيف صار الرجل يتزوج بأربعة، ويملك من الإماء ما يشاء، والمرأة لا تتزوج إلا واحدا! ولا تستبد بمملوك؟ قالت لها: يا حبيبتي قوم الأنبياء منهم، والخلفاء منهم، والقضاة منهم، والشرط منهم، تحكّموا فينا كما شاؤوا، وحكموا لأنفسهم بما أرادوا.
قال مزبّد: جاءني صديق لي فقال: ألا تسأل فلانا التاجر أن يقرضني مائة درهم؟ على رهن وثيق، فإني بضيق، منقطع بي، فقلت: إنه يفعل، فما الرهن؟ قال: اكتب لي على نفسي بالقذف، وأشهد العدول، فإن وفيته حقّه وقت المحل، وإلّا استعدى عليّ، وأقام البينة بأني قذفته، حتى أحدّ حدّ القاذف. فقلت له: يا أخي هذا رهن تقلّ رغبة التجار فيه.
كان لمزبّد غلام، وكان إذا بعثه في حاجة جعل بينه وبينه علامة، أن يكون إذا رجع سأله فقال: حنطة أو شعير، فإن كان عاد بالنّحج قال: حنطة، وإن لم يقض الحاجة قال: شعير. فبعثه يوما في حاجة، فلما انصرف قال:
حنطة أم شعير؟ قال: خرا. قال: ويلك! وكيف ذلك؟ قال: لأنهم لم يقضوا الحاجة، وضربوني وشتموك.
صلى مزبّد ذات يوم في منزله، وجعل يدعو في دبر صلاته، وسمعته امرأته. فقال: اللهم أصليني. فقالت: أما هذا يا رب فلا تشركني فيه. فقال: يا فاعلة، {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ََ} (22) [النّجم: الآية 22].
وسمع رجلا يقول لآخر: إذا استقبلك الكلب في الليل فاقرأ:
{يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطََارِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لََا تَنْفُذُونَ إِلََّا بِسُلْطََانٍ} (33) [الرّحمن: الآية 33] فقال مزبد: الوجه عندي أن يكون معك عصا أو حجر، فليس كلّ كلب يحفظ القرآن.(3/163)
وسمع رجلا يقول لآخر: إذا استقبلك الكلب في الليل فاقرأ:
{يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطََارِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لََا تَنْفُذُونَ إِلََّا بِسُلْطََانٍ} (33) [الرّحمن: الآية 33] فقال مزبد: الوجه عندي أن يكون معك عصا أو حجر، فليس كلّ كلب يحفظ القرآن.
ووقع بينه وبين امرأته خصومة، فحلف: لا يجتمع رأسي ورأسك على مخدة سنة فلما طال ذلك عليه قال: نقتنع باجتماع الأرجل إلى وقت حلول الأجل.
وغضب عليه بعض الولاة وأمر بحلق لحيته فقال له الحجّام: انفخ فمك حتى أحلق. قال: يا ابن الفاعلة أمرك أن تحلق لحيتي أو تعلمني الزّمر؟
واشتهت امرأته فالوذجا، فقال: ما أيسر ما طلبت! عندنا من آلته أربعة أشياء، وبقي شيئان تحتالين فيهما أنت. قالت: وما الذي عندنا؟ قال: الطّنجير والإسطام (1) والنار والماء. وبقي: الدهن والعسل وهما عليك.
وسئل يوما عن عدد أولاده، فقال: عهد الله في رقبته إن لم تكن امرأته تلد أكثر مما يني ها.
قال يوما: قد عزمت في هذه السنة على الحج، وأصلحت أكثر ما أحتاج إليه، قالوا: وما الذي أصلحت؟ قال: تحفّظت التلبية.
وقيل له: كيف حبّك لأبي بكر وعمر؟ قال: ما ترك الطعام في قلبي حبّا لأحد.
ودخل على بعض العلوية فجعل يعبث به ويؤذيه، فتنفّس مزبّد الصّعداء وقال: صلوات الله على المسيح، أصحابه منه في راحة. لم يخلف عليهم ولدا يؤذيهم.
وجاء غريم له يوما يطالبه بحقّ له فقال له: ليس لك اليوم عندي شيء، وحشره الله كلبا عقورا ينهش عراقيب الناس في الموقف، ولو علقته من الثّريا بزغبة قثّاءة ما أعطيتك اليوم شيئا.
باع جارية على أنها طباخة، ولم تحسن شيئا فردّت، فلم يقبلها، وقدّم إلى القاضي، وطولب بأن يحلف أنه ملكها وكانت تطبخ وتحسن فاندفع وحلف
__________
(1) الإسطام: المسعر الذي يحرّك به النار.(3/164)
بيمين غليظة أنه دفع إليها جرادة فطبخت منها خمسة ألوان وفصلت منها شريحتين بالقديد سوى الجنب، فإنها شوته. فضحك من حضر، وأيس خصومه من الوصول منه إلى شيء فخلّوه.
وقالت له امرأته في خصومة بينهما: يا مفلس، يا قرنان (1). قال: إن صدقت فواحدة من الله والأخرى منك.
وقيل له: كم كانت سنّك أيام قتل عثمان؟ فقال: كنت أول ما قاذفت.
جمع مزبّد بين رجل وعشيقته في منزله، فعابثها ساعة، ثم أراد أن يمدّ يده إليها، فقالت: ليس هذا موضعه، وسمع مزبّد قولها فقال: يا زانية، فأين موضعه؟ بين الركن والمقام؟ أم بين القبر والمنبر؟ والله ما بنيت هذه الدار إلا للقحاب والقوّادات، ولا دفع ثمن خشبها إلّا من القمار، فأيّ موضع للزنى أحقّ منها؟.
وشكا إليه رجل سوء خلق امرأته فقال له مزبّد: بخّرها بمثلثة. يريد:
الطلاق.
وقيل له: صوم يوم عرفة يعدل صوم سنة. فصام إلى الظّهر ثم أفطر فقال: يكفيني صوم نصف سنة فيه شهر رمضان.
قيل لمزبّد وقد عضّه كلب: إن أردت أن يسكن فأطعم الكلب الثريد، فقال: إذا لا يبقى في الدنيا كلب إلّا جاءني وعضني.
وقيل له: إن النبيّ عليه السلام قال: «إذا رأيت شخصا باللّيل فكن بالإقدام عليه أولى منه عليك» قال: أخاف أن يكون قد سمع هذا الحديث فأقع فيما أكره.
كان مزبّد الغاضري في حبس محمد بن عبد الله رضي الله عنه حين ظهر بالمدينة فلما أمسى في الليلة التي قتل محمد في صبيحتها وجعل يقول:
معنا علم الغيب. قيل: وكيف ذاك؟ قال: ما في الدنيا قوم يعرفون آجالهم غيرنا، إذا أصبحنا جاءت.
__________
(1) القرنان: الديوث المشارك في قرينته.(3/165)
وقيل له: قد بيّض الناس جميعا في سائر الآفاق. فقال: وما ينفعنا من ذلك؟ وهذا عيسى بن موسى بعقوبنا، اعملوا على أن الدنيا كلها زبدة. قال:
فبهذا سمّي مزبّدا.
كان لامرأة مزبّد صديق فضربها وشجّها، ودخل مزبّد فرآها على تلك الحال فقال لها: ما لك ويلك؟ قالت: سقطت من الدرجة، فقال لها مزبد:
أنت طالق، إنك لو سقطت من بنات نعش ما أصابك هذا كلّه.
زفّت إلى مزبّد امرأة قبيحة، فجاءت إليه الماشطة، فقالت: بأي شيء تصبّحها؟ قال: بالطلاق.
دفع مزبّد إلى والي المدينة ومعه زقّ، فأمر بضربه، فقال: لم تضربني؟
قال: لأنّ معك آلة الخمر. قال: وأنت أعزّك الله معك آلة الزّنى.
وجلس مرة على الطريق يبول وهو سكران، وعليه طيلسان خلق، فمرّ به رجل فأخذ طيلسانه فالتفت إليه مزبّد وقال: يا بني، صرف عنك السوء.
وقال مزبّد لرجل: كم تعلف حمارك؟ قال: نخرة بالغداة، ونخرة بالعشي فقال: اتّق الله لا تحمر عليك.
دفع مزبّد في ذنب إلى الوالي فضربه خمسة وسبعين سوطا، ثم ظهر له براءة ساحته، فأحضره واستحلّه، فقال مزبّد: لا، ولكن تقاصّني بها كلّما أذنبت ذنبا، فكان يسحب كل مرة إذا أذنب بعشرة ومثلها إلى أن نفدت وفضل عليه شيء.
وقال مزبّد يوما: مجالسة العضاة (1) الحمر التي لا ورق لها خير من مجالسة الناس اليوم. لم يبق إلّا ظروف قد عصرت أرواحهم فأخرجت، وليس في أجسادهم أرواح، أطوف نهاري أجمع ما أرى إلا ظرفا. فقال له إنسان: قد بقيت في الناس بقية. فقال مزبد: تلك البقية مثلث البلح ثلاثة في ثفروق (2).
__________
(1) العضاة: كل شجر ذي شوك.
(2) الثفروق: قمع التمر.(3/166)
الباب الثامن نوادر أبي الحارث جمّين (1)
قيل له: ما تقول في فالوذجة؟ قال: والله لو أنّ موسى لقي فرعون بفالوذجة لآمن، ولكنه لقيه بعصا.
وقيل له يوما: ما تشتهي؟ فقال: نشيش مقلاة بين غليان قدر على رائحة شواء.
وكان لا يأكل الباذنجان، فكايده محمد بن يحيى واتخذ ألوانه كلّها بباذنجان فجعل كلما قدم لون فرابه الباذنجان فيه توقّاه، وأقبل على الخبز والملح فلما عطش قال: يا غلام، اسقني ماء ليس فيه باذنجان.
وكتب يوما إلى صديق له:
أوصيك بتقوى الله، إلّا أن ترى غير ذلك خيرا منه.
وقيل له: سبقت ببرذونك هذا قط؟ قال: بلى، مرة، دخلنا زقاقا لا منفذ له وكنت آخر القوم فلما رجعنا كنت أول الموكب.
ودخل جماعة من إخوانه، فاشتهوا عليه لونا يطبخه لهم، فدنا أحدهم من القدر ليذوقها، وأخرج قطعة لحم وأكلها، وفعل كلّ واحد منهم كذلك فقال أحدهم: هي طيبة لكنها تحتاج إلى شيء لا أدري ما هو؟ فقال أبو الحارث: أنا أعلم، هو ذا تحتاج إلى اللحم.
__________
(1) أبو الحارث جميّن: من المشهورين بالمزاح والنوادر، (انظر التبصير ص 1275، المشتبه في أسماء الرجال ص 252)، وفي القاموس المحيط (جمن): أبو الحارث جمّين، كقبّيط، المديني ضبطه المحدثون بالنون، والصواب بالزاي المعجمة (جميز)، أنشد أبو بكر بن مقسم:
إنّ أبا الحارث جمّيزا ... قد أوتي الحكمة والميزا(3/167)
وحكى دعبل قال: بلغني أنّ أبا الحارث قد فلج، فاغتممت لظرفه وملاحته، فصرت إليه فوجدته في عافية فحمدت الله وسألته عن خبره؟ فقال:
دخلت الحمّام وأكلت السمك، ودعوت المزيّن فأخذ شعري، فظن الفالج لما رأى المزين عندي أني احتجمت فلما علم أنه أخذ من شعري تركني وانصرف.
ونظر يوما إلى برذون يستقى عليه، فقال (1): [الطويل]
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه
لو أن هذا هملج (2) ما كان هذا.
وأكل يوما مع الرؤساء بيضا مسلوقا، فجعل يأكل الصفرة، وينحّي البياض إلى بين يدي أبي الحارث عبثا به فقال لما طال ذلك عليه وتنفّس الصعداء:
سقى الله روح العجّة فما أعدلها.
ودخل إلى بعض أصدقائه يوما، فقال له: ما تشتهي؟ قال: أما اليوم فماء حصرم، وأما غدا فهريسة.
قال بعضهم: دخلت على جمّين أعوده من مرض به، فقلت له: ما تشتهي؟ فقال: أعين الرقباء، وألسن الوشاة، وأكباد الحسّاد.
مرّ رجل به فسلّم عليه بسوطه، فلم يرد عليه فقيل له في ذلك فقال:
سلّم علي بالإيماء، فرددت عليه بالضمير.
وسأله يحيى بن خالد عن مائدة ابنه فقال: أمّا مائدته فمن نصف كسرة، وأمّا صحافه فمنقورة من قشور حبّ الخشخاش، وما بين الرغيف والرغيف مدّ البصر، وما بين اللون واللون فترة ما بين نبيّ ونبيّ. قال: فمن يحضرها؟ قال:
خلق كثير من الكرام الكاتبين. قال: فيأكل معه أحد؟ قال: نعم، الذّبّان. قال:
سوءة له هذا، فثوبك مخرق وأنت بفنائه يطور، فلو رقعت قميصك! قال: ما
__________
(1) عجزه:
ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل
والبيت لمنقر بن فروة المنقري في البيان والتبيين 3/ 228، وبلا نسبة في البيان والتبيين 2/ 103.
(2) هملج: أسرع في سيره.(3/168)
أقدر على إبرة، قال: هو يعطيك، قال: والله لو ملك بيتا من بغداد إلى النوبة مملوءا إبرا من كل إبرة خيط، ثم جاء جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب النبيّ عليه السلام يسألونه إبرة يخيط بها يوسف قميصه الذي قدّ من دبر ما أعطاهم!.
وجاء إليه رجل يسأله شيئا، وقال: قد قطع عليّ الطريق. قال: فعليّ إذا قطع الطريق.
ولقيه رجل وقد تعلّق به غلام فقال: يا أبا الحارث من هذا؟ قال:
هذا غلام الفضل بن يحيى، كنت عند مولى هذا أمس، فقدّم إلينا مائدة عليها رغيفان عملا من نصف خشخاشة سوى ما ذهب عند النّحت، وثريدة في سكرّجة، وخبيصة في مسعط، فتنفست الصعداء فدخل الخوان وما عليه في أنفي، فمولاه يطالبني بالقيمة. قال الرجل: استغفر الله مما تقول، فأومأ إلى غلام معه وقال: غلامي هذا حرّ إن لم يكن لو أنّ عصفورا وقع على بعض قشور ذلك الخشخاش الذي عمل منه ذلك، لما رضي مولى هذا حتى يؤتى بذلك العصفور مشويّا بين رغيفين والرغيفان من عند العصفور. ثم قال: وعليّ المشي إلى بيت الله الحرام، إذا عطشت بالقرعاء رجعت إلى دجلة العوراء حتى أشرب منها ماء، لو أنّ مولى هذا كلّف في يوم قائظ شديد الحر أن يصعد على سلّم من زبد، حتى يلتقط كواكب بنات نعش كوكبا كوكبا لكان ذلك أسهل عليه من أن يشمّ شامّ تلك الثريدة، أو يذرق ذائق تلك الخبيصة.
فقال الرجل: عليك لعنة الله، وعليّ إن سمعت منك شيئا بعد هذا.
وقيل له وهو على نبيذ: كل من هذا الطين السيرانيّ فإنه نظيف فقال:
ومتى بلغك أنّ في بطني وكفا.
وقيل له: ما تغدّيت عند فلان؟ قال: لا، ولكني مررت ببابه وهو يتغدّى. قيل: وكيف علمت ذلك؟ قال: رأيت غلمانه ببابه، بأيديهم قسيّ البنادق يرمون الطير في الهواء.
وقال له الرشيد: لم لا تدخل إلى محمد بن يحيى؟ فقال: أدخل والله يا أمير المؤمنين، وأنا أكسى من الكعبة، وأخرج وأنا أعرى من الحجر الأسود.
قيل لأبي الحارث: ما تقول في جوذاب (1) بطّ في يوم صائف؟ قال: نعم، في يوم من أيام تموز في حمام حارّ بمنى.(3/169)
وقال له الرشيد: لم لا تدخل إلى محمد بن يحيى؟ فقال: أدخل والله يا أمير المؤمنين، وأنا أكسى من الكعبة، وأخرج وأنا أعرى من الحجر الأسود.
قيل لأبي الحارث: ما تقول في جوذاب (1) بطّ في يوم صائف؟ قال: نعم، في يوم من أيام تموز في حمام حارّ بمنى.
قيل لجمّين وقد رأى سوداء قبيحة: ابتلاك الله بحبّها قال: يا بغيض، لو ابتلاني بحبها كانت عندي من الحور العين، ولكن ابتلاك الله بأن تكون في بيتك وأنت تبغضها.
وقال له الرشيد: اللوزينج أطيب أم الفالوذج؟ قال: أحضرهما يا أمير المؤمنين، فأحضرا، فجعل يأكل من هذا وهذا، ثم قال: يا أمير المؤمنين، كلما أردت أن أشهد لأحدهما غمزني الآخر بحاجبه.
قال بصريّ لجمين: يأتينا المدّ والجزر في كل يوم مرتين. قال: يستأذن الله في هلاككم مرتين، وكأن قد.
ورأوا عليه جبّة قد تخرقت، فقيل له: ما هذا؟ قال: غنّت بقول الشاعر:
[المنسرح]
لقا فؤادي، لقد بلى جزعا ... قطّعه البين والهوى قطعا
ثم قيل له بعد ذلك: كيف تغنّي جبتك؟ فقال: قد كانت تغنّي، وقد صارت تلطم في مأتم.
ودعته امرأة كان يحبّها، فجعلت تحادثه ولا تذكر الطعام، فلما طال ذلك به قال: جعلني الله فداءك، لا أسمع للغداء ذكرا. قالت له: أما تستحي! أما في وجهي ما يشغلك عن هذا؟ قال: جعلني الله فداءك، لو أنّ جميلا وبثينة قعدا ساعة لا يأكلان شيئا لبزق كل منهما في وجه صاحبه.
__________
(1) الجوذاب: طعام يتخذ من اللحم والرز والسكر والبندق.(3/170)
الباب التاسع نوادر الجمّاز (1)
قال الجمّاز لأبي شراعة: كيف تجدك؟ قال: أجدني وقيذا (2) من دماميل قد ظهرت في أقبح المواضع. قال: ما أرى في وجهك منها شيئا.
قال بعض إخوان الجمّاز وقد دخل إليه وهو يطبخ قدرا: لا إله إلا الله ما أعجب الرزق! فقال الجماز: أعجب منه الحرمان. امرأته طالق إن ذقتها.
وقال له السهريّ: ولد لي البارحة ابن كأنه الدينار المنقوش. فقال الجمّاز: لاعن أمّه.
صلّى رجل صلاة خفيفة فقال له الجمّاز: لو رآك العجاج لسرّ بك.
قال: ولم؟ قال: لأنّ صلاتك رجز.
وتغدّى عند إنسان هاشمي ومرّ الغلام بصحفة فقطر منها شيء على ثوب الجمّاز، فقال الهاشمي: يا غلام اغسل ثوبه. فقال الجمّاز: دعه، فمرقتكم لا تدسم الثّوب.
وسمع محبوسا يقول: اللهم احفظني فقال: قل اللهمّ ضيّعني حتى تنفلت.
وقالت له امرأته في يوم غائم: ما يطيب في هذا اليوم؟ فقال: الطلاق.
أدخل يوما غلاما إلى منزله، فلما خرج ادّعى أنه هو فعل بالجماز، فبلغه ذلك فقال: قد حرّم اللواط إلّا بوليّ وشاهدين.
__________
(1) الجمّاز: هو أبو عبد الله محمد بن عمرو الجماز، من أهل البصرة، شاعر صاحب مقطعات، كان خبيث اللسان ماجنا، وهو ابن أخي سلم بن عمرو الخاسر الشاعر، توفي سنة 250هـ في أيام المتوكل (معجم الشعراء ص 374).
(2) الوقيذ: المريض المشرف على الموت.(3/171)
ودخل مع صاحب له إلى قثم بن جعفر فتغدّيا عنده وتحدثا، وأراد قثم أن يقيل، فدعا غلاما روميا وضيئا فقال: قف ههنا، فقال الجمّاز لصاحبه: قم بنا نعرج. قال: إلى أين؟ قال: إلى السماء، فقد نزلت ملائكة الليل.
رأى رجل من ولد عبيد الله بن زياد كأن النبيّ وعليّا وفاطمة عليهم السلام في داره، فصام وتصدّق تبركا برؤياه، وقصّها والجمّاز حاضر فقال:
أتدري لم جاؤوك؟ قال: لا. قال: جاؤوك ليشكروك على فعل أبيك بابنهم، فانخذل الرجل وودّ أنه لم يذكر من ذلك شيئا.
وذكر يوما رجلا قام من عنده فقال: كأنّ قيامه من عندنا سقوط جمرة من الشّتاء.
وقيل له: ما بقي من شهوتك للنساء؟ فقال: القيادة عليهن.
قال الجمّاز: رأيت عجوزا تسأل وتقول: من تصدّق علينا بكسرة أطعمه الله من طيبات باب الطّاق.
وقال: قلت لرجل: قد زاد سعر الدقيق فقال: أنا لا أبالي لأني أشتري الخبز.
قال: قلت لرجل رمد العين: بأي شيء تداوي عينيك؟ فقال: بالقرآن ودعاء الوالدة. قلت: اجعل معهما شيئا يقال له: العنزروت (1).
قال: رأيت بالكوفة رجلا وقف على بقّال فأخرج إليه رغيفا صحيحا فقال: أعطني كسرا، وبصرفه جزرا.
وقال: حرّم النبيذ على ثلاثة عشر نفسا: على من غنّى الخطأ، واتّكأ على اليمنى، وأكثر أكل النّقل، وكسر الزجاج، وسرق الريحان، وبلّ ما بين يديه، وطلب العشاء، وقطع البمّ (2)، وحبس أولّ قدح، وأكثر الحديث، وامتخط في منديل الشراب، وبات في موضع لا يحتمل المبيت.
طالب الجمّاز امرأته بالجماع، فقالت: أنا حائض، وتحرّكت فضرطت فقال لها: قد حرمتنا خير حرّك، فاكفينا شرّ استك.
__________
(1) العنزروت: نوع من الصمغ، فارسي معرب.
(2) البمّ: من أوتار العود، وهو أغلظها.(3/172)
قال ابن عمار: تذاكرنا ضيق المنازل، فقال الجمّاز: كنّا على نبيذ لنا، فكان أحدنا إذا دخل الكنيف، وجاء القدح، مدّ يده إلى السّاقي فناوله إيّاه
قال الجمّاز: مررت بنجاد في قنطرة البردان طويل اللحية وامرأته تطالبه بشيء لها عنده وهو يقول: رحمك الله. متاعك جافّ ويحتاج إلى حشو كثير، وأنت من العجلة تمشين على أربع.
أملى خالد بن الحارث أحاديث حميد عن أنس، فكانت نسخته فيها سقط. وكان الجماز يستملي عليه، فقال خالد: حدّثنا حميد عن أنس، قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. هكذا في نسختي، وهو رسول الله إن شاء الله. فقال الجمّاز: حدثكم حميد بن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وشكّ أبو عثمان في الله، فقال خالد: كذبت يا عدوّ الله، ما شككت في الله، وتضاحك أهل المجلس، وأصلحت النسخة.
وكان يأكل عند سعيد بن سلم على مائدة دون مائدته، فإذا رفع من مائدة سعيد شيء وضع على المائدة التي عليها الجماز فالتفت الجمّاز فقال: يا أبا عمرو، وهذه عصبة لتلك، كما يقال: وما بقي فللعصبة.
وقال له المتوكل: أي شيء أهديت لي يوم العيد؟ قال: حلقة رأسي.
وأدخل يوما غلاما، فلما بطحه فسا فسوة منكرة. فقال الجمّاز: ويلك! هوذا، تذرّي من قبل أن ندرس.
ودخل عليه ثقيل يعوده من مرضه فلما نهض قال للجمّاز: تأمر بشيء.
قال: نعم بترك العودة.
وقال لرجل: ما أخّرك عنّا؟ فقال: أصابتني خلفة فقال الجمّاز: ما أبين الخلفة في وجهك.
شهّى جعفر بن سليمان أصحابه فتشهّى كلّ إنسان منهم جنسا من الطعام فقال للجمّاز: فأنت ما تشتهي؟ قال: أن يصحّ ما اشتهوا.
وسأل يوما غلاما، وأدخله مسجدا فلما فرغ منه أقبل المؤذّن، فقام الجمّاز، وخري في المحراب فقال المؤذن: يا عدو الله، أعلم على أنك
فجرت بالغلام في المسجد لأنه ليس لك بيت. ما حجّتك في أن قذّرت بالمحراب؟ قال: علمت أنه يشهد عليّ يوم القيامة، فأحببت أن أجعله خصمي لئلا تقبل شهادته عليّ.(3/173)
وسأل يوما غلاما، وأدخله مسجدا فلما فرغ منه أقبل المؤذّن، فقام الجمّاز، وخري في المحراب فقال المؤذن: يا عدو الله، أعلم على أنك
فجرت بالغلام في المسجد لأنه ليس لك بيت. ما حجّتك في أن قذّرت بالمحراب؟ قال: علمت أنه يشهد عليّ يوم القيامة، فأحببت أن أجعله خصمي لئلا تقبل شهادته عليّ.
ودفع إلى القصّار قميصا ليغسله، فضيقه، وردّ عليه قميصا صغيرا فقال: ليس هذا قميصي. قال: بلى هو قميصك ولكنه توّزي وفي كل غسلة يتقلّص ويقصر فقال الجماز: فأحب أن تعرفني في كم غسلة يصير القميص زرّا؟.
وقيل له: لم تقصر شعرك؟ قال: أليس قليل ما أجيء به كثيرا في جنب ما يعطونني.
وحضر دعوة بعض الناس فجعل ربّ البيت يدخل ويخرج ويقول: عندنا سكباجة تطير طيرانا، عندنا قليّة تطير في السّماء، فلما طال ذلك على الجمّاز وجاع قال: يا سيدي، أحبّ أن تخرج لي رغيفا مقصوص الجناح إلى أن تقع ألوانك الطيارات.
ونظر إلى غلام فقال: هذا كان من المطفّفين. قيل: وكيف ذاك؟ قال:
كان إذا ناكه الواحد، وكان وقت الفراغ، فرّج بين فخذيه.
ووجد مع غلام في موضع خال، وقد حلّا سراويلهما، فقيل له: ما تصنع؟ قال: نتخاير بالتكك.
قال الجمّاز: اجتزت بباب دار وصاحب الدار يقاتل امرأته ويقول:
لأحملنّ عليك اليوم مائة رجل، فجلس شيخ كان خلفي على الباب ينتظر فلما طال دقّ الباب وقال: تريد أن تحمل على هذه القحبة أو أنصرف.
رأى رجل الهلال فاستحسنه فقال له الجمّاز: وما تستحسن منه؟ فو الله إنّ فيه لخصالا لو كانت إحداهنّ في الحمار لردّ بها، قال: وما هي؟ قال: إنه يدخل الروازن (1)، ويمنع من الدبيب، ويدلّ على اللصوص، ويسخن من الماء، ويخرق الكتان، ويورث الزكام، ويحل الدين، ويزهم اللحم.
__________
(1) الروازن: جمع روزن، وهي الكوة في حائط البيت.(3/174)
كان المتوكل يحدّث عن الجمّاز فكتب في حمله، فلما دخل عليه لم يقع الموقع الذي ظنّه فقال المتوكل: تكلم فإني أريد أن استبرئك. فقال الجمّاز: بحيضة أو بحيضتين فضحكت الجماعة.
وقال له الفتح: قد كلّمت أمير المؤمنين فيك حتى ولّاك جزيرة القرود، فقال له الجمّاز: أفلست في السمع والطاعة أصلحك الله؟ فحصر الفتح وسكت.
فقال له بعض من حضر: إنّ أمير المؤمنين يريد أن يهب لك جارية.
فقال: ليس مثلي من غرّم نفسه، ولا كذب عند أمير المؤمنين. إن أرادتني أن أقود عليها، وإلّا فما لها عندي شيء فأمر له المتوكل بعشرة آلاف درهم، وأخذها وانحدر فمات فرحا.
وقال له بعض ولد المتوكل في هذا المجلس: يا شيخ، ألا تستحي مما تقول؟ قال: لا. قال: ولم؟ قال: حتى أرى من يستحيا منه.
رئي الجمّاز ين ك غلاما خلف الدرب من قيام فقيل له: إيش تعمل؟ قال: هوذا، أبصر أنا أطول أم هو!.(3/175)
رئي الجمّاز ين ك غلاما خلف الدرب من قيام فقيل له: إيش تعمل؟ قال: هوذا، أبصر أنا أطول أم هو!.
الباب العاشر نوادر المجانين
قال مجنون ولقي الناس منصرفين من الجمعة: أيها الناس: {إِنِّي رَسُولُ اللََّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف: الآية 158]. فقال له مجنون آخر: {وَلََا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى ََ إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: الآية 114].
وكان بهلول (1) من مجانين الكوفة، وكان يتشيع فقال له إسحق بن الصبّاح: أكثر الله في الشيعة مثلك. قال: بل أكثر الله في المرجئة مثلي، وأكثر في الشيعة مثلك.
ومرّ موسى بن أبي الروقاء، فناداه صبّاح الموسوس: يا ابن أبي الرّوقاء أسمنت برذونك، وهزلت دينك، أما والله إنّ أمامك لعقبة لا يجوزها إلا المخفّ فحبس موسى برذونه فقيل له: هذا صباح الموسوس. قال: ما هو بموسوس؟.
قال ثمامة: قال لي مجنون مرة: يا ثمامة، تزعم أنت أنّ الاستطاعة إليك؟ قلت: نعم. قال: فإن كنت صادقا فاخر ولا تبل.
وقف رجل على بهلول فقال له: تعرفني؟ فقال بهلول: إي والله، وأنسبك نسبة الكمأة، لا أصل ثابت، ولا فرع نابت.
ودعا الرشيد بهلولا ليضحك منه فلما دخل دعا له بمائدة فقدّم عليها خبز وحده، فولى بهلول هاربا فقال له: إلى أين؟ قال: أجيئكم يوم الأضحى، فعسى أن يكون عندكم لحم.
__________
(1) هو بهلول بن عمرو الصيرفي، الكوفي المجنون، استقدمه الرشيد وغيره ليسمع نوادره، توفي سنة 190هـ (فوات الوفيات 1/ 153).(3/176)
أخرج بلال بن أبي بردة من حبسه مجنونا يمازحه، فقال له: أتدري لم أخرجتك؟ قال: لا. قال: لأسخر منك. قال: إنّ المسلمين حكّموا حكمين فسخر أحدهما بالآخر.
قال المبرّد: دخلت يوما دير هزقل، فرأيت في صحن الدار مجنونا، فدلعت لساني في وجهه، فنظر إلى السماء، وقال: الحمد والشكر من حلّوا ومن ربطوا.
قال بعضهم: رأيت بحمص مجنونا يقول: يا قوم، من يتعلم: «لا أدري»؟ يا هذا، تعلم: «لا أدري» فإنّك إذا قلت: «لا أدري» علّموك حتى تدري وإذا قلت: «أدري» سألوك حتى لا تدري.
رمى بهلول رجلا فشجّه فقدّم إلى الوالي، فقال له: لم رميت هذا؟
قال: ما رميته ولكنّه دخل تحت رميتي.
وقال بهلول يوما: أنا والله أشتهي من فالوذج ومن سرقين، فقالوا: والله لنبصرنّه كيف يأكل، فاشتروا له الفالوذج، وأحضروا السرقين فأقبل على الفالوذج واكتسحه، وترك السرقين، فقالوا له: لم تركت هذا؟ قال: أقول لكم، أنا والله يقع لي أنه مسموم، من شاء منكم يأكل ربع رطل حتى آكل أنا الباقي.
وجاء مجنون فوقف عند شجرة ملساء، فقال: من يعطيني نصف درهم حتى أصعد؟ فعجب الناس وأعطوه، فأحرزه، ثم قال: هاتوا سلّما. قالوا: ما كان السلم في الشرط. قال: وكان بلا سلم في الشرط؟
ووقف بهلول على رجل، وقال: خبّرني عن قول الشاعر (1):
[الطويل]
وإذا نبا بك منزل فتحوّل
__________
(1) صدره:
واحذر محلّ السوء لا تحلل به
والبيت لعبد قيس بن خفاف البرجمي في لسان العرب (كرب)، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 15/ 485، وأساس البلاغة (نبو)، وتاج العروس (نبا)، ولسان العرب (نبا).(3/177)
كيف هو عندك؟ قال: جيد. قال: فإن كنت في الحبس فكيف تتحول؟
قال: فانقطع الرجل، فقال بهلول: الصواب قول غيره (1): [الكامل]
إذا كنت في دار يسوءك أهلها ... ولم تك مكبولا بها فتحوّل
أصيب إسحق بن محمد بن الصبّاح الكندي بابن له، فجزع فدخل أهل الكوفة يعزّونه، ودخل فيهم بهلول فقال: أيسرّك أنه بقي وأنه مثلي؟ قال: لا والله، وإنها لتعزية!.
قال بعضهم: جاءنا جعيفران في سوق أصحاب اللؤلؤ، فوهب له إنسان حبة من الحبّ الصغار فقال له رجل: أتبيعها بطسوج؟، فقال: إن كان بطسّوج بادرونا فنعم.
هرب مجنون من الصبيان، ودخل دهليزا، وأغلق الباب في وجوههم وجلس فخرج إليه صاحب الدار، فقال: لم دخلت داري؟ قال: من أيدي هؤلاء أولاد الزنى. فدخل صاحب الدار، وأخرج طبقا عليه رطب كثير، فجلس المجنون يأكل، والصبيان يصيحون على الباب فأخرج المجنون رأسه إلى صاحب الدار، فقال: باب باطنه فيه الرّحمة وظاهره من قبله العذاب.
قيل لمجنون كان بالبصرة: عد لنا مجانين البصرة. قال: كلفتموني شططا، أنا على عدّ عقلائهم أقدر.
كان ببغداد مجنون يلبس فروة مقلوبة، فإذا قيل له في ذلك قال: لو علم الله أنّ الصوف إلى داخل أجود عمل الصوف إلى داخل.
قال الفزاري: رأيت مجنونا يسوّي رأس سكران، ويقول له: يؤيؤ، والله لا أفلحت أبدا.
قيل لمجنون: أين المولد؟ قال: المولد البصرة، والمنشأ دير هزقل.
شدّ مجنون على رجل بالبصرة، فأخذه الرجل فضربه. فقال الناس: إنه مجنون، وجعل المجنون يقول من تحته: ويحكم أفهموه.
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (كبل)، وتهذيب اللغة 10/ 261، وتاج العروس (كبل).(3/178)
قيل لمجنون: أيسرّك أن تصلب في صلاح هذه الأمة؟ قال: لا، ولكن يسرني أن تصلب الأمة في صلاحي.
قال داود المصاب لصديق له: رأيت البارحة رؤيا نصفها حق، ونصفها باطل، رأيت كأني قد حملت على عاتقي بدرة، فمن ثقلها خريت فانتبهت فرأيت الخرا، ولم أر البدرة.
سمع مجنون رجلا يقول: اللهم لا تأخذنا على غفلة. فقال: إذا لا يأخذك أبدا.
قال بعضهم: كان بالشام مجنون يستطرف حديثه، قال: رأيته يوما وقد رفع رأسه إلى السماء وهو يقول: الناس كذا يعملون، وهذيان كثير. قيل له: ما تقول؟ ويحك. قال: أعاتب ربي. قيل: فكذا يخاطب الله!. قال:
قلت له: بدل ما خلقت مائة وجوّعتهم لو كنت تخلق عشرة وتشبعهم لكان خيرا.
جاء مجنون إلى يزيد بن هارون، فقال له: يا أبا خالد أليس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لولا أنّ الكلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها، ولكن اقتلوا منها كلّ أسود بهيم» قال يزيد: نعم. فقال المجنون: أليس قد قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلََّا خَلََا فِيهََا نَذِيرٌ} [فاطر: الآية 24]. فمن نذير الكلاب؟ قال: فتحيّر يزيد في جوابه. فقال له المجنون: تحبّ يا أبا خالد أن أعرّفك نذير الكلاب؟ قال:
نعم، فأخذ حجرا فرمى به كلبا بالقرب منه فعدا الكلب يعوي وينبح فقال:
يا أبا خالد الحجر نذير الكلاب.
سأل بعض الولاة عن أبي نصر الهروي ليعبّر له رؤيا رآها، فقيل له: هو بمرو يأوي الصحراء فبعث إليه، فأتي به فقال: إني رأيت كأنّ في كمي عصافير فجعلت تفلت واحدة واحدة، وتطير فلما كان آخر عصفورة كادت تفلت، فحبستها.
قال المجنون: أكلت عدسية، فبت تضرط ليلتك فلما كان آخرها أردت أن تسلح فحبسته. فقال الوالي: اسكت قبحك الله. قال: هو والله ما قلت.
فلما خرج قال الرجل: والله ما أخطأ شيئا.
رئي بهلول مغموما يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: كيف لا أبكي؟ وقد جاء الشتاء وليس لي جبة. فقيل له: لا تبك؟ فإن الله لا يدعك بلا جبة. قال:(3/179)
فلما خرج قال الرجل: والله ما أخطأ شيئا.
رئي بهلول مغموما يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: كيف لا أبكي؟ وقد جاء الشتاء وليس لي جبة. فقيل له: لا تبك؟ فإن الله لا يدعك بلا جبة. قال:
بلى والله. عام أول تركني بلا جبة ولا سراويل، وأخاف أن يدعني العام بلا جبة ولا سراويل ولا قلنسوة.
قال بعضهم: مررت يوما ببهلول، وهو يأكل فرنية حوّارى مع دجاجة، فقلت له: يا بهلول أطعمني مما تأكل، فقال: ليس هذا لي وحياتك هذا دفعته إليّ أمّ جعفر آكله لها.
نظر رجل إلى جماعة من المجّان حول مجنون، فقال له: ادخل إلى بعض المواضع حتى يتفرّقوا عنك. قال: إذا جاعوا انصرفوا.
قيل لبهلول: تأخذ درهما وتشتم فاطمة؟ قال: لا، ولكن هاتوا نصف درهم حتى أشتم عائشة، وأزيدكم أباها.
كان الجهجاه مجنونا، وكان يدّعي الخلافة، فأدخل على الرشيد، وعنده أبو يوسف القاضي، فقال: جعفر بن يحيى كالهازىء به: هذا أمير الضّراطين.
يزعم أنه أمير المؤمنين. قال: لو كنت كذلك كنت أوسع إمرة من صاحبك لأنّ الضراط عامّ، والإيمان خاصّ.
قال له الرشيد: لأضربنّك بالسّياط حتى تقر بالزندقة. قال: فإذا أقررت ترى قتلي؟ قال: نعم، قال: فالتفت إلى أبي يوسف، وقال: يا يعقوب ليس لصاحبنا فقه.
قيل لبهلول: أيكفي اثنين رأس واحد؟ قال: إذا كان أحدهما نائما.
وحضر مجلسا فيه قوم يتذاكرون الحديث، فرووا عن عائشة أنّها قالت:
لو أدركت ليلة القدر ما سألت ربي إلّا العفو والعافية. فقال بهلول: والظفر بعليّ يوم الجمل.
وحكي أنّ صاحب المارستان أتاه يقدح فيه دواء، وقال له: اشرب يا ابن الزانية فقال: هات حتى أشربه والله أعلم أنك أحقّ به مني.
ولما حمل إلى المارستان سأل الناس أن يأذنوا له في أن يلمّ ببيته، ويوصي أهله بشيء، فمنعوه، فقرأ: {فَلََا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلََا إِلى ََ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} (50) [يس: الآية 50].
وقيل له: ما تشتهي من الفاكهة الرطبة؟. قال: لحم. قيل: فمن اليابسة؟(3/180)
ولما حمل إلى المارستان سأل الناس أن يأذنوا له في أن يلمّ ببيته، ويوصي أهله بشيء، فمنعوه، فقرأ: {فَلََا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلََا إِلى ََ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} (50) [يس: الآية 50].
وقيل له: ما تشتهي من الفاكهة الرطبة؟. قال: لحم. قيل: فمن اليابسة؟
قال: قديد، قيل: فمن الشراب؟. قال: مرقة. قيل: فمن السّماع؟. قال:
نشيش المقالي.
قال قوم لمجنون بالبصرة أديب: عظنا، وهم يهزؤون به فقال: هذه قصورهم، وهذه قبورهم. فأبكاهم.
قال أبو العيناء: حضرت أبا دينار وأبا لقمان الممرورين يتناظران عند ابن أبي داود فقال أبو لقمان لأبي دينار: من أفضل الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
فقال أبو دينار: أبو بكر الصديق. فقال أبو لقمان: أمّ الكاذب زانية. قال ابن أبي داود: هذا كلام قد انتهى إلى آخره.
كان بهلول يجمع ما يوهب عند مولاة له من كندة، وكانت له كالأمّ، وربما أخفى عنها شيئا ودفنه، فجاء يوما بعشرة دراهم كانت معه إلى خربة فدفنها فيها، ولمحه رجل فلما خرج بهلول ذهب الرجل فأخذ الدراهم، وعاد بهلول فلم يجدها. وقد كان رأي الرجل يوم دفنها فعلم أنه صاحبه، فجاء إليه فقال: اعلم يا أخي أنّ لي دراهم مدفونة في مواضع كثيرة متفرقة، وأريد أن أجمعها في موضع دفنت فيه في هذه الأيام عشرة دراهم فإنّه أحرز من كل موضع، فاحسب بالله كم تبلغ جملتها. قال: هات. قال: خذ عشرين درهما في موضع كذا، وخمسين في موضع كذا، حتى طرح عليه مقدار ثلاثمائة درهم. ثم قام من بين يديه ومرّ فقال الرجل في نفسه: الصواب أن أردّ العشرة إلى موضعها، حتى يجمع إليها هذه الجملة ثم آخذها، فردها. وجاء بهلول فدخل الخربة، وأخذ العشرة، وخرى مكانها، وغطّاه بالتراب ومرّ، وكان الرجل مترصدا لبهلول وقت دخوله وخروجه فلما خرج مرّ بالعجلة، فكشف عن الموضع، وتلوّثت يده بالخرا، ولم يجد شيئا، وفطن لحيلة بهلول عليه.
ثم إنّ بهلولا عاد إليه بعد يومين فقال: احسب يا سيدي عشرين درهما، وخمسة عشر درهما، وعشرة دراهم، وشمّ يدك. فوثب الرجل ليضربه، وعدا بهلول.
وولي بعض بني هاشم الكوفة، فلما صعد المنبر قال: الحمد لله، وارتج عليه، فجعل يكرّر ذلك فقال بهلول: الذي ابتلانا بك.
وجاز بهلول بسوق البزّازين، فرأى قوما مستجمعين على باب دكان ينظرون إلى نقب قد نقب على بعضهم، فاطّلع في النّقب، ثم قال: وكلكم لا تعلمون ذا من عمل من؟ قالوا: لا. قال: فإني أعلم. فقال الناس: هذا مجنون يراهم بالليل ولا يتحاشونه، فأنعموا له القول لعله يخبر بذلك. فسألوه أن يخبرهم. فقال: إني جائع، فهاتوا أربعة أرطال رقاق ورأسين، فأحضروا ذلك وأكل، فلما استوفى قال: هوذا أشتهي شيئا حلوا، فأحضروا له رطلين فالوذج فأكله، وفرغ منه وقام وتأمّل النقب، ثم قال: كأنكم الساعة لستم تعلمون هذا من عمل من؟ قالوا: لا. قال: هذا من عمل اللصوص لا شكّ.(3/181)
وولي بعض بني هاشم الكوفة، فلما صعد المنبر قال: الحمد لله، وارتج عليه، فجعل يكرّر ذلك فقال بهلول: الذي ابتلانا بك.
وجاز بهلول بسوق البزّازين، فرأى قوما مستجمعين على باب دكان ينظرون إلى نقب قد نقب على بعضهم، فاطّلع في النّقب، ثم قال: وكلكم لا تعلمون ذا من عمل من؟ قالوا: لا. قال: فإني أعلم. فقال الناس: هذا مجنون يراهم بالليل ولا يتحاشونه، فأنعموا له القول لعله يخبر بذلك. فسألوه أن يخبرهم. فقال: إني جائع، فهاتوا أربعة أرطال رقاق ورأسين، فأحضروا ذلك وأكل، فلما استوفى قال: هوذا أشتهي شيئا حلوا، فأحضروا له رطلين فالوذج فأكله، وفرغ منه وقام وتأمّل النقب، ثم قال: كأنكم الساعة لستم تعلمون هذا من عمل من؟ قالوا: لا. قال: هذا من عمل اللصوص لا شكّ.
وعدا.
ولع الصبيان بعيناوة، وصاحوا عليه، ورموه، فهرب منهم فاستقبلته امرأة معها صبيّ صغير، فدنا منها ولطم الطفل لطمة كادت تأتي عليه، فقالت المرأة:
قطعت يدك! إيش أذنب هذا إليك. قال: يا قحبة هذا يكون غدا شرّا من هؤلاء الكشاخنة (1).
ركب الهادي يوما، فنظر إلى مجنون يلقّب بكسرة ويرمي من يقول هذا اللقب، ويعمل العجائب فأمر بحمله إلى الدار، فقال له: لم تشتم الناس إذا قالوا لك: كسرة؟ قال: ولم تضرب الأعناق إذا قيل لك: موسى اطبق؟ قال:
أنا لا أغضب من هذا. قال: فصح أنت بي ثلاث مرات، وأصيح مرتين فننظر من يحرد. قال: قد رضيت. فقال الهادي: يا كسرة يا كسرة. ثلاث مرات، وطوّلها، فلم يلتفت المجنون، ولم يتحرك ولم يحرد، ثم صاح: يا موسى اطبق. فلم يتحرّك الهادي، فقال المجنون: ما يتغافل إلا من أمه قحبة. فحرد الهادي، ودعا بالنّطع والسّيف، فقال المجنون: كيف رأيت؟ كان المجنون واحدا، صرنا اثنين. وأنا أيضا هكذا لو قالوا: يا كسرة يا رغيف. ألف سنة ما باليت، ولكن كذا يقولون لي إذا تغافلت. فضحك الهادي وأمر له بجائزة.
قال بعضهم: رأيت مجنونين قد رفعا إلى بعض أصحاب الشرط، وقد تواثبا وتخاصما فقال لأحدهما: لم فعلت هذا؟ قال: لأنه وثب عليّ وشجّني
__________
(1) الكشاخنة: جمع كشخان، وهو الديوث.(3/182)
فقال: لم بدأته بالرّفس، ومددت خصيته، قال: يا ولد النجس من بين الأمراء بهذا اللباس الذي عليه لا تكفيه فرد خصية؟.
ونظروا إلى ماني الموسوس (1) يأكل تمرا، ويبتلع نواه، فقيل: لم لا ترمي بالنوى؟ قال: هكذا وزنوه عليّ.
قيل لبهلول: يقع في الطفشيل (2) قتّ؟ قال: نعم، إذا كان للبقل.
وكتب مجنون إلى آخر.
بسم الله الرّحمن الرّحيم وأمتع بك كتبت إليك ودجلة تطفح، وسفن الموصل تنحدر، وما يزداد الصبيان إلا لعنة، والحجر إلّا قلّة فلا تنم إلا وعند رأسك حجران، وكن كما قال الأول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: الآية 60]. وإياك والموت فإنه طعام سوء. وكتبت لأربع عشر يوما بقيت إلى عاشوراء الأول سنة افتصد عجيف.
كان بمكة رجل يرمى بأنه لقيط، ولا يعرف له أب، وكان موسرا، وكان بها مجنون يقصده كثيرا فيبرّه ويحسن إليه، فجاء المجنون يوما، فرآه قاعدا محزونا منقبضا فقال: جعلت فداك! مالك كذا؟ قال: لا شيء. قال المجنون: بلى، قد عرفت، ترى ليس بمكة ولد زنى غيرك! هم أكثر من ذاك فلا تغتم.
قيل لمجنون: لم صار الدينار خيرا من الدرهم، والدرهم خيرا من الفلس؟ قال: لأنّ الفلس ثلاثة أحرف، والدرهم أربعة أحرف، والدينار خمسة أحرف.
__________
(1) ماني الموسوس: هو محمد بن القاسم، أبو الحسن، المعروف بماني الموسوس، شاعر، من أهل مصر، كان من أظرف الناس وألطفهم، رحل إلى بغداد في أيام المتوكل العباسي، فكانت له فيها أخبار، توفي سنة 245هـ (انظر: الأغاني 20/ 85، الوافي بالوفيات 4/ 346، تاريخ بغداد 3/ 169، فوات الوفيات 2/ 262).
(2) الطفشيل: كذا في الأصل، بتقديم الشين على الياء، والصحيح: الطفيشل، بتقديم الياء على الشين، وهو نوع من المرق.(3/183)
ولي العلاء بن عمرو بلاد سارية، وكان جائرا فأصاب الناس القحط، وأمسكت السماء قطرها فخرجوا يستسقون، وصعد العلاء المنبر فقال في دعائه: اللهم ارفع عنا البلاء والغلاء. فوثب معتوه كان بها فقال: والعلاء فإنّه شرّ من الغلاء، وأغلظ من البلاء. فضحك الناس، وخجل العلاء وانصرف.
ودخل داود المصاب بستانا، فتعلقت بثوبه شوكة، فالتفت وقال: والله لولا أنك بهيمة لكسرت أنفك.
قال بعضهم: مررت بعليان المجنون، وهو جالس في محلة بني ضبة، فقلت له: يا أبا الحسن من أفضل عندك؟ أبو بكر أم علي؟ فقال: أمّا في بني ضبة فأبو بكر.
حجّ موسى بن عيسى ببهلول معه، فأقبل موسى يدعو عند البيت ويتضرّع، وبهلول يقول: لا لبّيك ولا سعديك! فقال له ابنه العباس: ويلك تقول هذا القول للأمير في مثل هذا الموقف! قال: أقول له ما أعلم أن الله يقول له.
قيل لبهلول: عدّ لنا مجانين البصرة. قال: هذا يكثر ويبعد جدّا، ولكن إن أردتم عددت لكم عقلاءهم.
سأل بعضهم أبا لقمان الممرور عن الجزء الذي لا يتجزأ ما هو؟ فقال:
الجزء الذي لا يتجزّأ هو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. فقال له: وليس في الأرض لا يتجزّأ غيره. قال: بلى، حمزة جزء لا يتجزّأ، وجعفر جزء لا يتجزّأ. قال: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: أبو بكر يتجزأ، وعمر يتجزّأ، وعثمان يتجزأ مرتين، وطلحة يتجزّأ مرتين. قال: فما تقول في معاوية؟ قال:
معاوية جزء لا يتجزّأ ولا يتجزأ.
قيل لأبي زيد المجنون: ما العشق؟ قال: نيك كله.
قيل لمجنون: ما فعلت حتى ضربك الصّبيان؟ قال (1): [الطويل]
وإنّ امرءا يمسي ويصبح سالما ... من الناس إلّا ما جنى لسعيد
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت في عيون الأخبار 2/ 12، وليس في ديوانه، ولرجل من بني قريع في ديوان الحماسة 2/ 13.(3/184)
لما مات والد بهلول خلف ستمائة درهم، فحظر عليها القاضي، فجاءه يوما، وقال: أيّها القاضي ادفع إليّ مائة درهم، حتى أقعد في الحلقات فإن أحسنت أن أتجرّبها دفعت إليّ الباقي. فدفع إليه ذلك، فذهب وأتلفه وعاد إلى مجلس القاضي. وقال: إني قد أتلفت المائة، فتفضل بردّها فقد أسأت إذ دفعت إليّ ذلك، ولم يثبت عندك رشدي. فقال القاضي: صدقت، والتزم المائة في ماله.
كان مجنون يؤذيه الصبيان، فقال له رجل: تريد أن أطردهم عنك؟ فقال:
نعم، وتنطرد أيضا معهم.
قال مجنون: ليس في الدنيا أجلّ مني، لا أحاسب في الدنيا ولا في الآخرة.
قال الرشيد لبهلول: من أحبّ الناس إليك؟ فقال: من أشبع بطني.
فقال: أنا أشبعك، فهل تحبّني؟ قال: الحبّ بالنّسيئة لا يكون.
كان مجنون يختلف إلى المآتم، ويدعو، ورسمه أن يعطى درهمين، فاتفق أنّ آل الزبرقان لم يمت منهم أحد سنين كثيرة، ثم مات منهم واحد فحضر المجنون، وأعطي درهما واحدا. فقال: من كثرة ما تموتون حتى نقصتم رسمي.
وكان مجنون آخر يحضر المآتم، ورسمه أن يعطي ثلاثة أرغفة فحضر يوما بعض المواضع وأعطي ستة أرغفة فلما أراد أن يخرج قال لأصحاب التعزية: اذكروا أنه قد بقي لكم عليّ ميت آخر.
قال: لما ضمّت المدينة إلى الحجاج مع مكة خرج إليها فبينا هو يسير إذ قال لأصحابه: تأخّروا حتى أحدث نفسي فتأخّروا. ومضى على حماره حتى انتهى إلى مبقلة، فإذا رجل جالس على شفير بئر، فوقف عليه فقال: ما يقول الناس في أميرهم؟. فقال: يقولون: ظالم متعدّ ملعون. قال الحجاج:
أتعرفني؟ قال: لا. قال: أنا الحجاج. قال الرجل: أتعرفني أنت؟ قال: لا.
قال: أنا مولى بني ثور، أصرع في كل شهر ثلاثة أيام، اليوم أولها وأشدّها فضحك الحجاج ولم يتمالك، ومضى، ولحقه الناس.
قيل لبهلول: أتأكل في السوق وأنت تجالس جعفر بن محمد رضي الله عنه؟ قال: حدّثني مالك عن نافع عن ابن عمر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مطل الغني ظلم» لقيني الجوع، والخبز في كميّ فكرهت أن أمطله.(3/185)
قال: أنا مولى بني ثور، أصرع في كل شهر ثلاثة أيام، اليوم أولها وأشدّها فضحك الحجاج ولم يتمالك، ومضى، ولحقه الناس.
قيل لبهلول: أتأكل في السوق وأنت تجالس جعفر بن محمد رضي الله عنه؟ قال: حدّثني مالك عن نافع عن ابن عمر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مطل الغني ظلم» لقيني الجوع، والخبز في كميّ فكرهت أن أمطله.
ورئي في مقبرة فقيل له: هلّا خالطت الناس؟ فقال: إني بين قوم إن حضرت لم يؤذوني، وإن غبت لم يغتابوني. قيل له: فادع الله، فإنّ الناس في ضر وشدة من الغلاء. فقال: وما عليّ من ذلك، ولو بلغت الحبة دينارا، وإنما عليّ أن أعبد الله كما أمرني، وعليه أن يرزقني كما وعدني.
قيل لبهلول: وزن أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بالأمة فرجحا. فقال:
كان بالميزان غبن.
وجاء بهلول فوقف بحذاء حفص بن غياث القاضي، فقال: هوذا، أجد البرد في قدمي ورأسي. فأمر له بقلنسوة وخفّين. فلما كان اليوم الثاني وقف بهلول بحذائه فقال له: ما لك؟ قال: جزى الله القاضي عن الأطراف خيرا فأمر له بقميص وسراويل.
جاءت امرأة دندان المجنون إلى القاضي فقالت: أصلحك الله، إنه يجيعني ويضربني! قال القاضي: ما تقول؟ قال دندان: أما الضرب فنعم، وأما الجوع فهي طالق ثلاثا إن لم تجىء معي إلى منزلي مع أصحابك أيها القاضي، فقال لأصحابه: قوموا بنا لا يحنث. فقام القاضي، وذهب معه، فلما دخل جاء به إلى مزبلة فيها رجيع عظيم، فقال: أصلحك الله. هذا يخرج من بطن جائع؟
قال: أخزاك الله، فإنك أحمق. قال: أحمق مني من أطاع المجانين.
كان بهلول يوما جالسا والصبيان يؤذونه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. يعيده مرارا، فلما طال أذاهم له أخذ عصاه وقال: حمي الوطيس، وطابت الحرب، وأنا على بيّنة من ربّي. ثم حمل عليهم وهو يقول (1): [الوافر]
أشدّ على الكتيبة لا أبالي ... أفيها كان حتفي أم سواها
__________
(1) البيت للعباس بن مرداس في خزانة الأدب 2/ 438، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 158، وبلا نسبة في الإنصاف 1/ 296.(3/186)
فتساقط الصبيان بعضهم على بعض، وتهاربوا، فقال: هزم القوم وولّوا الدبر. أمرنا أمير المؤمنين رضي الله عنه ألّا نتبع مولّيا، ولا ندفّف على جريح، ثم رجع وجلس وطرح عصاه، وقال (1): [الطويل]
فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
وقفده (2) رجل كانت قد أرضعته امرأة يقال لها مجيبة، وكانت رعناء، فقال بهلول: كيف لا تكون أعرن، وقد أرضعتك مجيبة؟ فو الله لقد كانت تزق لي الفرخ فأرى الرعونة في طيرانه!.
وقف رجل على بهلول، فقال له: قد وقفت أنت ههنا، والأمير يعطي المجانين كلّ واحد درهمين، فقال بهلول: فاعرض عليّ درهميك.
قال الفضل بن يحيى لجعيفران المجنون: لم لا تصير إليّ؟ فقال: أنت بحر ولا أحسن أن أسبح، فوصله بمال.
قيل لبهلول: ما تقول في رجل مات وخلّف أمّا وزوجة وبنتا؟ فقال: للأم الثكل، وللابنة اليتم، وللزوجة الحرب، وما بقي فللعصبة.
وقال له الرشيد: أبو بكر وعمر خير من عليّ، فقال واحد: لا يجوز بإزاء اثنين، ولكن عليّ والعباس خير من أبي بكر وعمر.
قال بعضهم: رأيت شيخا قد سكر وسقط وسط الطريق، وهو ينخر، ومجنون واقف على رأسه يقول: يا مخذول، تسكر وتنخر؟ ما تركت للصلح موضعا.
__________
(1) البيت لمعقر بن أوس بن حمار في الاشتقاق ص 481، ولسان العرب (نوى)، وله أو لعبد ربه السلمي أو لسليم بن ثمامة الحنفي في لسان العرب (عصا)، وبلا نسبة في خزانة الأدب 6/ 413، 7/ 17، ورصف المباني ص 48.
(2) قفده: صنعه.(3/187)
الباب الحادي عشر نوادر البخلاء
قال بعضهم لبخيل: لم لا تدعوني يوما؟ قال: لأنك جيّد المضغ، سريع البلع، إذا أكلت لقمة هيّأت أخرى. قال: فتريد مني إذا أكلت لقمة أن أصلّي ركعتين، ثم أعود إلى الثانية؟.
دخل واحد إلى بعضهم وهو يأكل، ومعه آخر فقال للدّاخل: تعال كل.
قال: قد تغدّيت. فقال: هذا أيضا زعم أنه تغدّى.
ودخل آخر على بعضهم وبين يديه طبق عليه تين فلما أحسّ بالدّاخل غطّى الطبق بذيله، وأدخل رأسه في جيبه، وقال للدّاخل: كن أنت في الحجرة الأخرى حتى أفرغ من بخوري.
أكل ابن المدبّر يوما عند ابن الفيّاض، فقدّمت جوذابة في نهاية الجودة، وأمعن ابن المدبّر فيها فلم يصبر ابن الفيّاض حتى قال له: أليس زعمت أنك لست صاحب جوذاب؟
قال بعضهم: حضرت مائدة بعضهم فضرب ربّ البيت يده إلى رغيف، ثم قال: يقولون خبزي صغار. أي: أخو قحبة. يتمّ من هذا رغيفا؟.
وقال بعض المبخّلين لرجل على مائدته: اكسر ذلك الرّغيف. فقال: دعه يبتلي به غيري.
دعا بخيل قوما، واتّخذ لهم طعاما، فلما جلسوا يأكلون وهو قائم يخدمهم، وأمعنوا في الأكل جعل صاحب البيت يتلو فيما بينه وبين نفسه:
{وَجَزََاهُمْ بِمََا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} (12) [الإنسان: الآية 12].
وكان جعفر بن سليمان بخيلا على الطعام، فرفعت المائدة من بين يديه وعليها دجاجة، فوثب عليها بعض بنيه وأكل منها، وأعيدت عليه من غد فلما
رآها وقد أكل منها شيء. قال: من هذا الذي تعاطى فعقر؟ قالوا: ابنك فلان.(3/188)
وكان جعفر بن سليمان بخيلا على الطعام، فرفعت المائدة من بين يديه وعليها دجاجة، فوثب عليها بعض بنيه وأكل منها، وأعيدت عليه من غد فلما
رآها وقد أكل منها شيء. قال: من هذا الذي تعاطى فعقر؟ قالوا: ابنك فلان.
فقطع أرزاق بنيه كلّهم، فلما طال عليهم قال بعض بنيه: أفتهلكنا بما فعل السفهاء منّا، فأمر بردّ نصف أرزاقهم.
وقف واحد على الحطيئة ليستقريه فمنعه، فقال: إنّ الرمضاء قد أحرقت قدميّ. قال: بل عليهما تبردا. قال: وما عندك غير هذا؟ قال: بلى، هراوة من أرزن معجّرة. قال: إني ضيف. قال: للضيفان أعددتها.
قال أبو الأسود الدّؤلي وكان بخيلا: لو أطعنا المساكين في أموالنا كنا أسوأ حالا منهم.
قال الجاحظ: حدّثني بعض أصحابنا قال: كنا منطلقين إلى رجل من كبار أهل العسكر، وقد كان لبثنا عنده يطول فقال له بعضنا: إن رأيت أن تجعل لنا أمارة إذا ظهرت خفّفنا، ولم نتعبك بالقعود، فقد قال أصحاب معاوية مثل الذي قلنا لك فقال: أمارة ذلك إذا قلت: إذا شئتم. وقال أصحاب يزيد مثل ذلك، فقال: إذا قلت: على بركة الله. وقيل لعبد الملك فقال: إذا ألقيت الخيزرانة من يدي، فأيّ شيء تجعل لنا أصلحك الله؟ فقال:
إذا قلت: يا غلام، الفداء.
نظر الكندي إلى رجل يكسر درهما صحيحا فقال: ويحك! لا تفرّق بين الله ورسوله.
قال جحظة: دخلت وأنا في بقايا علّة على كاتب، فقدم إلينا مضيرة، فأمعنت فيها، فقال: جعلت فداك، أنت عليل، وبدنك نحيل، واللبن يستحيل، فقلت: والعظيم الجليل لا تركت منها كثيرة ولا قليل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال رجل من أهل المدينة: أتيت صاحب برّ، وكان بخيلا فقلت له:
هب لي فلسا. قال: ليس معي. قلت: فهب لي من هذا البرّ ما أشرب به ماء.
قال: فأعطاني خمس حبّات فقلت له: لا يسقيني الشارب بها ماء فقال:
احمل عليه كما حملت علي.
كان يعمل لمعاوية لون من المخّ، لا يشاركه فيه أحد، فأتي به فضرب عبد الله بن جعفر بيده فيه، وقال: إنما أردت به أنسك يا أمير المؤمنين. قال:
ما آنستني! ثم استحيا فأرسل إليه عشرة آلاف فقال عبد الله: كم في هذه من لون مخ؟.(3/189)
كان يعمل لمعاوية لون من المخّ، لا يشاركه فيه أحد، فأتي به فضرب عبد الله بن جعفر بيده فيه، وقال: إنما أردت به أنسك يا أمير المؤمنين. قال:
ما آنستني! ثم استحيا فأرسل إليه عشرة آلاف فقال عبد الله: كم في هذه من لون مخ؟.
وقال لرجل واكله: ارفق بيدك فقال له: وأنت فاغضض بصرك.
قيل لبعضهم: كيف سخاء فلان؟ قال: عينه دولاب اللقم في أيدي الأضياف.
تغدّى أعرابيّ عند معاوية فنظر معاوية إلى شعرة في لقمته فقال: يا أعرابي خذ الشعرة من لقمتك فقال: وإنك لتراعيني حتى تبصر الشعرة في لقمتي، والله لا أكلت معك أبدا.
كان خالد بن صفوان بخيلا، فحدث ذارع من أهل البصرة قال: دعاني خالد فقسمت له مالا، وأقمت حسابه، فلما كان عند الظهر دعا بالغداء فجاؤوه بدجاجة، وجاؤوني بزيتون وبصل فقال: تشتهي أن تأكل من هذه الدجاجة؟
فقلت: وما عليك لو أكلت منها؟ قال: إذا كنت أنا وأنت في مالي سواء فما ينفعني مالي؟.
وقال آخر: كنت عند رجل من جلّة الناس، فقدمت له زينجة رطبة، فأكل واحدة وأكلت واحدة، ثم أكل أخرى وأكلت أخرى فالتفت إليّ فقال: إذا أكلت كما آكل فأين فضل المالك؟.
أكل عند بخيل، وأمعنوا في الأكل، وأراد أن يقطعهم فقال: ليس هذا أكل من يريد أن يتعشّى.
حقن عمر بن يزيد الأسدي بحقنة فيها دهن فلما حركه بطنه كره أن يذهب الدهن ضياعا، فدعا بطست وجلس عليه، ثم قال: صفّوا هذا الدهن فإنه يصلح للسّراج.
وأوصى بعضهم ابنه فقال: كن مع الناس كلاعب الشطرنج يحفظ شيئه.
كان بالكوفة رجل من المصلحين وهذا لقب المقدّمين منهم في اللؤم فبلغه أنّ بالبصرة رجلا من المصلحين مقدّما في شأنه، فقام الكوفيّ، وصار إلى البصرة ليلقى صاحبه، فلما قدم عليه قال له: من أنت؟ قال: أنا مصلح
من أهل الكوفة، وقد بلغني خبرك، فرحّب به، وأدخله البيت وأجلسه، وأخذ قطعة ومرّ ليشتري له شيئا يأكله، فلما خرج إلى السوق دنا من البقال فقال:(3/190)
كان بالكوفة رجل من المصلحين وهذا لقب المقدّمين منهم في اللؤم فبلغه أنّ بالبصرة رجلا من المصلحين مقدّما في شأنه، فقام الكوفيّ، وصار إلى البصرة ليلقى صاحبه، فلما قدم عليه قال له: من أنت؟ قال: أنا مصلح
من أهل الكوفة، وقد بلغني خبرك، فرحّب به، وأدخله البيت وأجلسه، وأخذ قطعة ومرّ ليشتري له شيئا يأكله، فلما خرج إلى السوق دنا من البقال فقال:
عندك خبز؟ فقال: عندي خبز كأنّه السمن فقال المصلح في نفسه: لم لا أشتري ما نعته به؟ فذهب إلى آخر، وقال: أعندك سمن؟ فقال: عندي سمن كأنّه الزّيت فقال في نفسه: أذهب فآخذ ما نعته به، فذهب إلى بقّال آخر فقال: عندك زيت؟ قال: عندي زيت كأنه الماء، فقال في نفسه: عندي والله راوية ماء. فرجع إلى البيت، وأخذ الماء في غضارة وقدمه إلى الكوفيّ وقال:
كل هذا، فإنه نعت النّعت، فقال الكوفي: أنا أشهد أنكم أحذق بالإصلاح منّا بألف درجة.
قال مزبّد: أهل الكوفة إذا عتق عندهم التنور دقّوه وجعلوه في الفتيت.
قال بعضهم: بتّ عند رجل من أهل الكوفة. وهو من الموسرين المعروفين بحسن الحال، وله صبيان نيام بحيث أراهم، فرأيته في الليل يقوم فيقلبهم من جنب إلى جنب فلما أصبحنا قلت له: رأيتك يا أبا جعفر البارحة تفعل كيت وكيت. قال: نعم، هؤلاء الصبيان يأكلون وينامون على اليسار، فيمريهم الطعام فيصبحون جياعا، فأنا أقلبهم من اليسار إلى اليمين لئلا ينهضم ما أكلوه سريعا.
قال بعضهم: دخلت الكوفة فسمعت امرأة تقول: يا أبا جعفر الدقاق، حسيبك الله وقد اجتمع الناس عليهما فقال الدقاق: ما لك؟ قالت: أعطيتني كيلجة دقيق ما جاء منها إلا ثمانون رغيفا. قال: يا مسرفة، إذا كنت تخبزين رغفانا مثل الأرحبة فأيّ ذنب لي؟.
وقال بعضهم: رأيت بالكوفة سائلا يتصدّق، ومعه منهزة، فقلت له: ما هذه؟ قال: أصيد بها الكسر. قال: وإذا هو كلّما رموا إليه بكسرة من تلك الرّوازين طارت بها الريح، فتلقّاها بالمنهزة.
قال آخر: رأيت بالكوفة صبيّا ومعه قرصة، وهو يكسر لقمة لقمة، ويرمي بها إلى شقّ في بعض الحيطان يخرج منه دخان، ويأكلها. قال: فبقيت أتعجّب منه، إذ وقف عليه أبوه يسأله عن خبره فقال الصبي: هؤلاء قد طبخوا
سكباجة حامضة كثيرة التوابل فأنا أتأدّم برائحتها. قال: فصفعه أبوه صفعة صلبة كاد يقطع بها رأسه وقال: تريد تعوّد نفسك من اليوم ألّا تأكل خبزا إلا بأدم.(3/191)
قال آخر: رأيت بالكوفة صبيّا ومعه قرصة، وهو يكسر لقمة لقمة، ويرمي بها إلى شقّ في بعض الحيطان يخرج منه دخان، ويأكلها. قال: فبقيت أتعجّب منه، إذ وقف عليه أبوه يسأله عن خبره فقال الصبي: هؤلاء قد طبخوا
سكباجة حامضة كثيرة التوابل فأنا أتأدّم برائحتها. قال: فصفعه أبوه صفعة صلبة كاد يقطع بها رأسه وقال: تريد تعوّد نفسك من اليوم ألّا تأكل خبزا إلا بأدم.
انتقل قصّاب من بغداد إلى الكوفة، وفتح بها دكانا، وذبح شاة سمينة، وقعد من غدوة إلى العصر لم يبع شيئا، ولم يقف عليه أحد فلما كان العصر إذا هو بعجوز معها زبيل نخالة فقالت له: يا ابني، أعطني بهذه النخالة لحما، وقطّعه بحياتك تقطيعا حسنا. قال: فحرد البغدادي، وقال: لعن الله بلدا يباع فيه اللحم بالنّخالة. فولّت العجوز متعجّبة منه وهي تقول: ويل لي! هذا بغداديّ صلف، لا يبيع إلا بالنّوى.
قال: ورأيت صبية قد وقفت على بقّال بالكوفة، وأخرجت إليه رغيف شعير، وقالت له: قالت أختي: أبدل هذا الرغيب بالكسر وأعطها بصرفه جزرا.
قال بعضهم: احتجت بالكوفة إلى دقيق الحوّارى، فسألت عنه وعن موضعه. فقالوا: لا تصيبه إلا عند الصّيادلة، يبيعونه للدماميل.
وقال آخر: كنت عند صديق لي بالكوفة، فإذا بجارية أمّه قد جاءت ومعها كوز فارغ فقالت: تقول أمّك إنّ يومنا يوم شديد الحر. فاملأ لي هذا الكوز من مزمّلتكم فقال لها: كذبت، فإنّ أمي أعقل من أن تبعث كوزا فارغا.
اذهبي واملئي الكوز من ماء حبّكم، حتى نصبّه في حبّنا، ثم نملأه من المزّملة، حتى يكون شيء بشيء.
قال ورأيت واحدا بالكوفة قد دنا من بقّال وأعطاه مقدار حبة. وقال:
أعطني بهذا جبنا فقال له البقال: شمّه وانصرف، ويبقى عليك طسّوج.
نزل بكوفيّ ضيف، فقال لجاريته: يا جارية، أصلحي لضيفنا فالوذجا.
قالت الجارية: ليس عندنا شيء. قال: ويلك! فهاتي قطيفة إبريسم (1) حتى ينام.
__________
(1) الإبرسيم: الحرير.(3/192)
قال الضيف: يا سيدي، فليس بين الفالوذج والقطيفة رغيف وقليل جن؟.
وقال آخر: رأيت كوفيا يخاصم جارا له ويقاتله، فقلت: ما قصّتكما؟
فقال أحدهما: زارني زائر، فتشهّى عليّ رؤوسا، فأطعمته، وأخذت العظام فرميت بها على باب داري أتجمّل بها، وأكبت العدوّ، فجاء هذا، وأخذها من باب داري، وجعلها على باب داره.
وكان بعض المياسير منهم له والدة عجوز: فقيل لها: كم يجري عليك ابنك؟ قالت: درهما في كل أضحى. قيل: يا سبحان الله! درهم في كل أضحى! قالت: نعم، وربما أدخل الأضحى في الأضحى.
وكان بعضهم يأكل ومعه على المائدة ابنه وزوجته فقال: لعن الله الزّحمة فقال له ابنه: يا أبه، تعنيني؟ فليس ههنا غيري وغير أمي. قال: فتري أعني نفسي؟.
خرج نفر من أهل مرو في سفر، وصبروا على ترك السراج للارتفاق بما يرجع عليهم منه حتى أبلغ ذلك إليهم، فاتفقوا على أن يخرج كلّ واحد منهم شيئا للسراج، وامتنع واحد منهم من أن يعطي شيئا فكانوا إذا أسرجوا شدّوا عينيه بمنديل إلى وقت النوم ورفع السراج.
حكي عن بعض البخلاء أنه قال: إذا رأيت الجبن على مائدة رحمت صاحبها لكثرة ما يؤكل من خبزه.
ودعا آخر منهم على صاحبه فقال له: إن كنت كاذبا فعشّيت السكارى بجبن، فرأى أنه قد بالغ في ملاعنته والدعاء عليه.
عمل سهل بن هارون كتابا مدح فيه البخل، وأهداه إلى الحسن بن سهل، فوقّع على ظهره: قد جعلنا ثوابك عليه ما أمرت به فيه.
قال رجل لغلام: بكم تعمل معي؟ قال: بطعامي. قال له: أحسن قليلا.
قال: فأصوم الاثنين والخميس.
قال أبو نواس: قلت لرجل من البخلاء: لم تأكل وحدك؟ فقال: ليس هذا سؤالا، وإنما السؤال على من أكل مع الجماعة لأن ذلك تكلف وهذا هو الأصل.
قيل لرجل: من يحضر مائدة فلان؟ قال: الملائكة. قال: لم أرد هذا.(3/193)
قال أبو نواس: قلت لرجل من البخلاء: لم تأكل وحدك؟ فقال: ليس هذا سؤالا، وإنما السؤال على من أكل مع الجماعة لأن ذلك تكلف وهذا هو الأصل.
قيل لرجل: من يحضر مائدة فلان؟ قال: الملائكة. قال: لم أرد هذا.
من يأكل معه؟ قال: الذّبان.
ومدح رجل البخل فقال: كفاك من كرم الملائكة أنه لم يبلهم بالنفقة، وقول العيال: هات، هات.
قال دينار الحجام: حجمت أبا جعفر المنصور في خلافته فأعطاني أربعة دوانق فضة، وأخدت شعر سعيد بن أبي عروبة فأمر لي بقوصرة (1) فارغة.
قال بعض البخلاء: فرحة السكر قلة الاحتشام، وفرحة الخمار قلّة الإنفاق.
وقال آخر: من كثرت نفقته كثر ندمه، ومن كثر ندمه قلّت دعواته.
قيل على مائدة بعض البخلاء: ما أحسن الأيدي على المائدة! فقال صاحب المائدة: مقطعة!!.
قال الكندي: من ذلّ البذل أنك تقول: نعم. مطأطئا رأسك، ومن عزّ المنع أنك تقول: لا. رافعا رأسك.
اشترى كوفيّ مزادة ماء برغيف فقال لصاحبه: كيف ترى استرخاصي هذه المزادة؟ قال: فيها غلاء عضّة.
استسلف بعض الصيارفة من بقال كان على بابه درهمين وقيراطا فقضاه بعد ستّة أشهر درهمين وثلاث حبات.
فقال البقّال: سبحان الله! ألا تستحي؟ أنت ربّ مائة ألف درهم، وأنا بقال لا أملك مائة فلس، تنقضني بعد هذه المدة الطويلة فقال: ما توهمت منك ما ظهر لي من قلّة معرفتك بالحساب. أسلفتني أبقاك الله في الصيف درهمين وأربع شعيرات فقضيتك في الشتاء درهمين وثلاث شعيرات شتوية نديّة أرزن من أربع شعيرات يابسة صيفية، وما أشك أنّ معك فضلا.
دخل هشام بن عبد الملك حائطا له فيه أشجار فاكهة، ومعه أصحابه، فجعلوا يأكلون منه، ويدعون له بالبركة فقال هشام: كيف يبارك فيه وأنتم تأكلون؟ ثم قال: يا غلام. اقلع هذا واغرس مكانه الزّيتون.
__________
(1) القوصرة: وعاء من قصب يوضع فيه التمر.(3/194)
قال المنصور للوضين بن عطاء: ما عيالك؟ قال: ثلاث بنات والمرأة.
قال فقال: أربع في بيتك! قال: فردّد ذلك حتى ظننت أنه سيصلني. قال: ثم رفع رأسه فقال: أنت أيسر العرب، أربعة مغازل تدور في بيتك.
أرسل مروان بن أبي حفصة غلامه بفلس وسكرجة يشتري له زيتا فلما جاء بالزيت استقلّه، وقال للغلام: خنتني يا خبيث. قال الغلام: كيف أخونك من فلس؟! قال: أخذت الفلس لنفسك، واستوهبت الزّيت.
وكان مروان من أبخل الخلق: اجتاز مرة بامرأة من العرب، فأضافته فقال لها: عليّ إن وهب لي أمير المؤمنين مائة ألف درهم أن أهب لك درهما، فأعطاه سبعين ألفا، فأعطاها أربعة دوانيق.
وسقى إنسان بخيل ضيفا له نبيذا عتيقا على الريق، فتأوّه الرجل فقيل له: لم لا تتكلم؟ فقال: إن سكتّ متّ، وإن تكلمت مات ربّ البيت.
وكان بعض البخلاء يأكل نصف الليل، فقيل له في ذلك، فقال: يبرد الماء وينقمع الذّباب، وآمن فجأة الدّاخل، وصرخة السائل، وصياح الصبيان.
دخل أبو الأسود الدّؤلي السوق يشتري شيئا، فقال الرجل: ادن أقاربك فقال: إن لم تقاربني أنت باعدتك أنا. قال: بكم؟ قال: طلب بكذا. قال:
أراك تحدّث بخير قد فات.
شكا بعض البخلاء بخله إلى بعض الحكماء فقال له: ما أنت ببخيل لأن البخيل هو الذي لا يعطى من ماله شيئا، ولست أيضا بمتوسط الجود لأن المتوسط هو الذي يعطي بعض ماله، ويمنع بعضه، ولكنك في غاية الجود لأنك تريد أن تعطى مالك كله. يعني: أنه يدعه كلّه لوارثه.
قال صعصعة: أكلت عند معاوية لقمة فقام بها خطيبا. قيل له: وكيف ذاك؟ قال: كنت آكل معه، فهيأ لقمة ليتناولها، وأغفلها، فأخذتها فسمعته بعد ذلك يقول في خطبته: أيها الناس، أجملوا في الطّلب فربّ رافع لقمة إلى فيه تناولها غيره.
استأذن جحظة على صديق له مبخّل فقال غلمانه: هو محموم فقال لهم: كلوا بين يديه حتى يعرق.(3/195)
قال صعصعة: أكلت عند معاوية لقمة فقام بها خطيبا. قيل له: وكيف ذاك؟ قال: كنت آكل معه، فهيأ لقمة ليتناولها، وأغفلها، فأخذتها فسمعته بعد ذلك يقول في خطبته: أيها الناس، أجملوا في الطّلب فربّ رافع لقمة إلى فيه تناولها غيره.
استأذن جحظة على صديق له مبخّل فقال غلمانه: هو محموم فقال لهم: كلوا بين يديه حتى يعرق.
وقال جحظة: أكلت مع بخيل مرة فقال لي: يا هذا، ما رأيت أذلّ من الرغيف في يدك.
أصاب أعرابيّ درهما في كناسة الكوفة فقال: أبشر أيها الدرهم، وقرّ قرارك فطالما خيض فيك الغمار، وقطعت فيك الأسفار، وتعرّض فيك للنار.
أهل مرو موصوفون بالبخل، ومن عادتهم إذا ترافقوا في سفر أن يشتري كلّ واحد منهم قطعة لحم، ويشدّها في خيط، ويجمعون اللحم كلّه في قدر، ويصبّون عليه الماء ويطبخونه، ويمسك كل واحد منهم طرف الخيط الذي قد شده في لحمه، فإذا نضجت القدر جرّ كل واحد خيطه، وتفرّد بأكل ما فيه، وتساعدوا على المرقة.
ويحكى أنّ واحدا منهم لم يخرج ثمن البرر للسراج فشدّوا عينه لئلا يرى السراج.
قال: ومن طرائف أمورهم أنهم يستعملون الخادم في ستة أعمال في وقت واحد: تحمل الصبي، وتشدّ يد البربند في صدرها، فتدور وتطحن وفي ظهرها سقاء تمخضه باختلافها وحركتها، وتدوس طعاما قد ألقي تحت رجليها، وتلقى الحنطة في الرّحا، وتطرد العصافير عن طعام قد وكّلت به.
كان بعض البخلاء، إذا صار الدرهم في يده خاطبه وناجاه، وفدّاه واستبطاه، وقال: بأبي أنت وأمي. كم من أرض قطعت، وكيس خرقت، وكم من خامل رفعت، وكم من رفيع أخملت! لك عندي ألا تعرى ولا تضحي، ثم يلقيه في كيسه ويقول: اسكن على اسم الله في مكان لا تزول عنه، ولا تزعج منه.
ذكر ثمامة محمد بن الجهم، فقال: لم يطمع أحدا في ماله إلا ليشغله بالطمع فيه عن غيره، ولا شفع لصديق، ولا تكلّم في حاجة إلا ليلقّن المسؤول حجة منع، وليفتح على السائل باب حرمان.
تناول رجل من بين يدي بعض الأمراء البخلاء بيضة فقال: خذها فإنها بيضة العقر (1)، وحجبه بعد ذلك.(3/196)
ذكر ثمامة محمد بن الجهم، فقال: لم يطمع أحدا في ماله إلا ليشغله بالطمع فيه عن غيره، ولا شفع لصديق، ولا تكلّم في حاجة إلا ليلقّن المسؤول حجة منع، وليفتح على السائل باب حرمان.
تناول رجل من بين يدي بعض الأمراء البخلاء بيضة فقال: خذها فإنها بيضة العقر (1)، وحجبه بعد ذلك.
قال الواقدي: خرجت أنا وابن أبي الزناد إلى بعض المواضع بالمدينة، ورجعنا نصف النهار في يوم صائف فقال: ما أحوجنا إلى شربة ماء بارد! فإذا نحن بسعيد مولى ابن أبي الزّناد فقلت له: ابعث لنا شربة ماء فقال: نعم وكرامة اجلس وبادر مستعجلا، فدخل الدار ومكث طويلا، ثم خرج إلينا فقال: تعودون العشية إن شاء الله.
قال العتبيّ: لو بذلت الجنة للأصمعي بدرهم لاستنقص شيئا.
سأل متكفّف الأصمعيّ فقال: لا أرتضي لك ما يحضرني فقال السائل: أنا أرضى به فقال الأصمعي: هو، بورك فيك.
أعطى المنصور بعضهم شيئا ثم ندم فقال له: لا تنفق هذا المال واحتفظ به، وجعل يكرّر عليه ذلك فقال: يا أمير المؤمنين، إن رأيت فاختمه حتى ألقاك به يوم القيامة فضحك وخلّاه.
كان رجل على طعام بعض البخلاء فأخذ عراقا فلم يجد عليه لحما، فوضعه ليأخذ غيره فقال صاحب البيت: العب بمسّك.
قال بعضهم: فلان عينه دولاب لقم أضيافه.
قال بعضهم لغلامه: هات الطعام وأغلق الباب فقال الغلام: هذا خطأ.
أغلق الباب، ثم أقدم الطعام فقال: أحسنت أنت حرّ.
قال أبو العيناء: أكلت مع بعض أمراء البصرة فقدّم إلينا جدي سمين، فضرب القوم بأيديهم إليه فقال: ارفقوا به فإنه بهيمة.
أكل أعرابي مع أبي الأسود رطبا وأكثر، ومد يده أبو الأسود إلى رطبة يأخذها فسبقه الأعرابيّ إليها وأخذها فسقطت في التراب فأخذها وجعل يمسحها ويقول: لا أدعها للشيطان فقال أبو الأسوذ: ولجبريل وميكائيل لو نزلا.
__________
(1) بيضة العقر: بيضة يزعمون أن الديك يضعها مرة واحدة في العمر.(3/197)
قال بعض الكوفيين: علامة نجابة الصبي في ثلاث: عرامته، وجبنه وبخله فإنه لا يكون شديد العرامة إلّا من جودة نفسه، ولا يبخل إلّا من معرفته، ولا يجبن إلّا من عقله.
كان زيد بن محمد بن زيد الداعي مبخّلا فلما أسر بعد مقتل أبيه بجرجان، وحمل إلى بخارى وحبس مدة، ثم أفرج عنه سعى به بعض أعدائه إلى السلطان فقال: إنّ زيدا قد حدّث نفسه بالخروج عليك والدّعاء إلى نفسه، وإثارة الفتنة فقال أبو عبد الله الجيهاني وكان وزيرا: إنّ زيدا ما دام يبني الحمّام من اللبن والطين ببخارى لا يسمو بنفسه إلى ذلك. وكان قد فعل ذلك مع عفونة أرض بخارى، وقلة ثبات الأبنية بها. فصدّقوه وأمنوا جانبه ولم يتعرضوا له.
سأل رجل أبا الأسود شيئا فمنعه فقال له: يا أبا الأسود، ما أصبحت حاتميا فقال: بل أصبحت حاتميا. أما سمعت حاتما يقول (1): [الطويل]
أما ويّ، إما مانع فمبيّن ... وإمّا عطاء لا ينهنهه الزّجر
كان أحيحة بن الجلاح بخيلا، فكان إذا هبّت الصّبا طلع من أطمه (2)
فنظر إلى ناحية هبوبها، ثم يقول: هبّي هبوبك. قد أعددت لك ثلاثمائة وستين صاعا من عجوة، أدفع إلى الوليد منها خمس تمرات فيردّ عليّ ثلاثا لصلابتها.
كان خالد بن صفوان قد أجرى لولده في الشهر ثلاثين درهما فكان يقول: إن الثلاثين لأعبث في المال من السّوس في الصّوف في الصيف. عذل بعض البخلاء على بخله فقال: يا قوم هب الناس يلوموننا على التقصير فيما بيننا وبينهم، ما بالهم يلوموننا على التقصير فيما بيننا وبين أنفسنا؟
سمع أبو الأسود رجلا يقول: من يعشّي الجائع؟ فعشّاه، ثم ذهب السّائل ليخرج، فقال: هيهات. على ألّا تؤذي المسلمين الليلة فوضع رجله في الأدهم، وقال: لا تروّع مسلما سائرا الليلة.
__________
(1) البيت في ديوان حاتم الطائي ص 199.
(2) الأطم: القصر، وكل حصن مبني بحجارة، وكل بيت مربّع مسطّح.(3/198)
ووقف على بابه سائل وهو يأكل فقال: السلام عليكم. قال: كلمة مقولة. قال: أدخل؟ قال: وراءك أوسع. قال: إنّ الرّمضاء قد أحرقت رجلي.
قال: بل عليها. وأغلق دونه الباب.
وكان يمرّ به فتى، وأبو الأسود يأكل على باب داره، فيدعوه إلى الغداء فيتورّك على دابته ويأكل وأبو الأسود على دكان له صغير فلما كثر ذلك دسّ إليه إنسانا معه دبّة فيها حصى فلما تورّك الفتى ليأكل حرّك الدّبة فنفرت الدّابة وسقط الفتى، فاندقّت عنقه.
أرسلت امرأة من قوم أبي الأسود ابنها إليه أن يعيرها القدر، ويعلمه أنّ أمّه نذرت أن تجعل للحيّ طعاما فقال أبو الأسود: سلوها فإن كانت قدرنا دخلت في نذرها، وإلا فلتطلب غيرها.
وقف أعرابيّ على أبو الأسود وهو يتغدّى، فسلّم عليه، فردّ عليه، ثم أقبل على الأكل، ولم يعرض عليه فقال له الأعرابي: أما إني قد مررت بأهلك. قال: ذاك كان طريقك. قال: هم صالحون. قال: كذاك فارقتهم.
قال: وامرأتك حبلى. قال: كذاك عهدتها. قال: ولدت. قال: ما كان لها بدّ من أن تلد. قال: ولدت غلامين. قال: كذاك كانت أمّها. قال: مات أحدهما.
قال: ما كانت تقوى على إرضاع اثنين. قال: ثمّ مات الآخر. قال: ما كان ليبقى بعد أخيه. قال: وماتت الأمّ. قال: حزنا على ولدها. قال: ما أطيب طعامك! قال: ذلك حداني على أكله. قال: أفّ لك! ما ألأمك! قال: من شاء سبّ صاحبه.
سأل رجل يحيى بن أكثم شيئا فقال: كيف أعطيك وفيّ أربع خلال:
أنا تميميّ، ومولدي البصرة، ومنشئي بمرو، وأنا قاض.
وذكر بعضهم أنه أكل معه، فأتوا بثريدة عظيمة فلما أمعن فيه وجد في وسطها قصعة مكبوبة، والثريد فوقها.
وذكر بعض من كان ينادم بعض كبراء هذا الوقت. قال: أكلت معه من قصعة واحدة فكان الذي يليه من الثريد خبز حوّاري، والذي يليني خبز خشكار (1).
__________
(1) الخشكار: ما خشن من الطحين، فارسي معرب.(3/199)
قال أبو سهل الرّازي القاضي: دخلت على يحيى بن أكثم يوما، والمائدة بين يديه، والغلام واقف فقال لي: يا محمّد، هذا غلامي، يأتي عليّ وقت لا أدري ما اسمه وهذا حدا سلم الحادي بالمنصور في طريقه إلى الحج فحدا يوما بقول الشاعر (1): [الرجز]
أغرّ بين حاجبيه نوره ... يزينه حياؤه وخيره
ومسكه يشوبه كافوره
فطرب المنصور حتى ضرب برجله المحمل، ثم قال: يا ربيع أعطه نصف درهم فقال سلم: نصف درهم يا أمير المؤمنين؟! والله لقد حدوت لهشام فأمر لي بثلاثين ألف درهم فقال له المنصور: ما كان له أن يعطيك ثلاثين ألف درهم من بيت مال المسلمين. يا ربيع، وكّل به من يستخرج منه هذا المال. قال الربيع: فما زلت أسفر بينهما حتى شرط عليه ألّا يلزمه مؤونة في خروجه وقفوله، ويحدو له.
تزوّج عمرو بن حريث ابنة أسماء بن خارجة فقالت له يوما: ما أحسبك وأبي تقرآن من كتاب الله إلّا حرفين. قال: وما هما؟ قالت: كان أبي يقرأ:
{وَمََا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرََّازِقِينَ} [سبأ: الآية 39] وأنت تقرأ: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كََانُوا إِخْوََانَ الشَّيََاطِينِ} [الإسراء: الآية 27].
قال أبو العيناء: دعاني جار إلى وليمة، وكان بخيلا، فرأيته يدور على المائدة ويتنفس الصّعداء، ويقول: {وَجَزََاهُمْ بِمََا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} (12) [الإنسان:
الآية 12].
قال محمد بن أبي المعافى: كان أبي متنحيا عن المدينة، وكانت إلى جنبه مزرعة فيها قثّاء، وكنت صبيّا قد ترعرعت فجاءني من جيراننا أقران لي، وكلمت أبي ليهب لي درهما اشتري لهم به قثّاء، فقال لي: أتعرف حال الدرهم؟ كان في حجر في جبل، فضرب بالمعاول حتى استخرج، ثم طحن، ثم أدخل القدور، وصبّ عليه الماء، وجمع بالزئبق، ثم أدخل النار فسبك، ثم
__________
(1) الرجز بلا نسبة في نهاية الأرب 3/ 308.(3/200)
أخرج فضرب، وكتب في أحد شقّيه: لا إله إلّا الله. وفي الآخر: محمد رسول الله. ثم صيّر إلى أمير المؤمنين فأمر بإدخاله بيت ماله، ووكّل به عوج القلانس، صهب السّبال، ثم وهبه لجارية حسناء جميلة. وأنت والله أقبح من قرد، أو رزقه رجلا شجاعا، وأنت والله أجبن من صفرر، فهل ينبغي لك أن تمسّ الدرهم إلّا بثوب؟.
حكى بعضهم أنه أكل على مائدة بعضهم، قال: فطافت علينا هرة وصاحت، فألقيت إليها لقمة من حوّاري فقال صاحب الدّار: إن كان ولا بدّ فمن الخشكار.
وذكر غيره أنه كان في دعوة بعض التجار المياسير، فألقى للسنّور لقمة خبز، ثم أراد أن يثنّيها فقال التاجر: دع، فليست الهرّة لنا، إنما هي للجيران.
كان زياد بن عبيد الله الحارثي على المدينة، وكان فيه جفاء وبخل، فأهدى إليه كاتب له سلالا فيها أطعمة، قد تنوّق فيها، فوافقه وقد تغدى، فقال: ما هذا؟ قالوا: غذاء بعث به الكاتب، فغضب وقال: يبعث أحدهم ابن اللخناء بالشيء في غير وقته. يا خيثم بن مالك يعني: صاحب الشرط ادع أهل الصفّة يأكلون هذا. فبعث خيثم الحرس يدعون أهل الصفة. فقال الرسول الذي جاء بالسلال: أصلح الله الأمير. لو أمرت بهذه السلال تفتح وينظر إلى ما فيها. قال: اكشفوها، فكشفت فإذا طعام حسن من سمك ودجاج وفراخ وجداء، وأخبصة وحلوى فقال: ارفعوا هذه السلال. قال: وجاء أهل الصفة فقال: ما هذا؟ قالوا: أهل الصفّة، أمر الأمير بإحضارهم فقال: يا خيثم، اضربهم عشرة أسواط فإنه بلغني أنهم يفسون في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(3/201)
كان زياد بن عبيد الله الحارثي على المدينة، وكان فيه جفاء وبخل، فأهدى إليه كاتب له سلالا فيها أطعمة، قد تنوّق فيها، فوافقه وقد تغدى، فقال: ما هذا؟ قالوا: غذاء بعث به الكاتب، فغضب وقال: يبعث أحدهم ابن اللخناء بالشيء في غير وقته. يا خيثم بن مالك يعني: صاحب الشرط ادع أهل الصفّة يأكلون هذا. فبعث خيثم الحرس يدعون أهل الصفة. فقال الرسول الذي جاء بالسلال: أصلح الله الأمير. لو أمرت بهذه السلال تفتح وينظر إلى ما فيها. قال: اكشفوها، فكشفت فإذا طعام حسن من سمك ودجاج وفراخ وجداء، وأخبصة وحلوى فقال: ارفعوا هذه السلال. قال: وجاء أهل الصفة فقال: ما هذا؟ قالوا: أهل الصفّة، أمر الأمير بإحضارهم فقال: يا خيثم، اضربهم عشرة أسواط فإنه بلغني أنهم يفسون في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
الباب الثاني عشر كلام الشطّار ومن يجري مجراهم، ونوادرهم
حكى بعضهم أن شاطرا افتخر. قال: فحفظت من كلامه:
أنا الموج الكدر، أنا القفل العسر، هذا وجهي إلى الآخرة، تأمر بشيء؟
لك حاجة إلى مالك خازن النار؟ أنا النّار، أنا العار، أنا الرحا إذا دار، أنا مشيت سبوعين بلا رأس، لولا أني عليل لنخرت نخرة نصفها صاعقة ونصفها زلزلة. أضعك في جيبي، وأنساك حتى تعفن الساعة، أقطع رأسك وأجعله زرّ قميصي، أو أستنشقك فلا أعطسك إلّا في الجحيم، أو أشربك فلا أبولك إلّا على الصراط إذا صاح آدم: وامفقوداه. والك لو كلّمني الفيل لم يخرس، أو البحر لم ييبس، أو عضّني الأسد لم يضرس، أو رآني نمروذ لم يتقدس.
أصدقائي أكثر من خوص البصرة، وخردل مصر، وعدس الشام، وحصى الجزيرة، وشوك القاطول، وحنطة الموصل وقصب البطائح، ونبق الأهواز، وزيتون فلسطين. والك أنا أشرب الرمل أخرى صخرا، أبلع النوى أخرى نخلا. قال: وسمعت واعظا منهم يقول: يا بنيّ، لوطوا فإنّ الناس يلوطون، وازنوا فإنّ الناس يزنون، وإياكم أن تنا وا فو الله ما يسرني أنّ رجلا أومأ إلى استي بأير من خراسان، وأنه بويع لي بالخلافة.
سمعت فقيها لهم يقول: سألت سابلويه الباقلاني: لم لا يجوز الن ك بين الفخذين؟ فقال: لأنه يكره الجمع بين الأختين.
قال سعيد بن حميد: رأيت حارسا يشكو إلى آخر واحدا منهم خبّب غلامه فأطال الشكاية، ثم تنفس الصعداء وأنشأ يقول:
كلما قلت قد رضي ... وتعشّى وكل شي
جاء عمرو فخبّبه ... وبقينا بغير شي
قال بعضهم: مررت بباب الطّاق، وحارسان يأكلان، فمرّ بهما حارس آخر وخلفه كلب فقال أحدهما لصاحبه: رأيت مثل هذا الكلب؟ أجرش أبرش حسن الشّية، أعزل الذّنب. فقال الآخر: لا ونور الله إن كان الكلب كلبه، وإنما استعاره يتجمّل به.(3/202)
كلما قلت قد رضي ... وتعشّى وكل شي
جاء عمرو فخبّبه ... وبقينا بغير شي
قال بعضهم: مررت بباب الطّاق، وحارسان يأكلان، فمرّ بهما حارس آخر وخلفه كلب فقال أحدهما لصاحبه: رأيت مثل هذا الكلب؟ أجرش أبرش حسن الشّية، أعزل الذّنب. فقال الآخر: لا ونور الله إن كان الكلب كلبه، وإنما استعاره يتجمّل به.
قال بعضهم: نزلت في معسكر بإزاء قوم من الجند، ومعهم مغنّ يتغنّى بالعجائب، سمعته يغني: [الرمل]
من لقلب ما يفيق من ألم ... هائما يهذي بخرّاز الأدم
قال: فطرب أحدهم وقال: ويلاه سنة. وحاتك، ألمن الشّعر؟ سيدي.
قال: للخنساء. قال: ومن الخنساء؟ قال: فتى من الأنباء.
قال بعضهم: رأيت يوما مكاريا وهو عريان وعليه سراويل خلق متمزق وفيه تكّة تساوي دينارا فقلت: لو بعت هذه التكّة! فقال: لا تفعل يا شاطر مروّة الرجل تكّته.
قال: ورأيت واحدا منهم وقد قام في جماعة من أصحابه فقال: يا فتيان هوذا، أشرب وأسقيكم فقال له واحد منهم: اشرب فديتك كلّنا، واسق أيّ بعضنا شئت.
قال: ورأيت شاطرا وقد وقف على قبر شاطر فقال: رحمك الله أبا لاش. كنت والله ما علمت حادّ السكين، فاره الصديق، إن نقبت فجرذ، وإن تسلقت فسنّور، وإن استلبت فحدأة، وإن ضربت فأرض، وإن شربت فحبّ، ولكنك اليوم وقعت في زاوية سوء.
قيل لبعض الشّطار: كلما شهد شاهد قبلت شهادته؟ قال: لا حتى أعلم أنه ابتلي فصبر، وأنه لا يخبّب على الأصدقاء، ولا يسرق الجيران.
وقال بعضهم: إنّ الله تبارك وتعالى كان أرحم بالفتيان أن يجعل الناس كلهم فتيانا فإنه لا يجوز لفتى أن يسرق متاع فتى، ولا يخبّب صديق فتى، ولا يطلب أثر فتى إلّا أن يكون الغلام هو الذي يريده، ونحن لا بدّ لنا من مال ننفقه، وصديق نتّخذه، فلو كان الناس كلّهم فتيانا هلكنا.
ضرب حارس أمه، فعوتب على ذلك فقال: قد قلت لها عشرين مرة، وهذه الثالثة: إذا كنت سكران فلا تكلّميني، فإنّ الشيطان نار يرتعد!.(3/203)
وقال بعضهم: إنّ الله تبارك وتعالى كان أرحم بالفتيان أن يجعل الناس كلهم فتيانا فإنه لا يجوز لفتى أن يسرق متاع فتى، ولا يخبّب صديق فتى، ولا يطلب أثر فتى إلّا أن يكون الغلام هو الذي يريده، ونحن لا بدّ لنا من مال ننفقه، وصديق نتّخذه، فلو كان الناس كلّهم فتيانا هلكنا.
ضرب حارس أمه، فعوتب على ذلك فقال: قد قلت لها عشرين مرة، وهذه الثالثة: إذا كنت سكران فلا تكلّميني، فإنّ الشيطان نار يرتعد!.
وذكر بعضهم أنه حضر مجلسا فيه غلام وضيء الوجه أديب، وهناك شاب مخنجر اللّحية، فأخذ الغلام تفّاحة، فعبث بها ساعة، ثم حيّا بها الفتى الشاطر، فلم ينهنه أن أكلها والغلام ينظر إليه فقال الغلام: سوءة لك ولوما، أتأكل التحيات؟ فقال: إي والله، والصلوات الطيبات.
قال بعضهم: كنت في بيت قمري الخبني، وداخل عليه صاحب له، فأبلغه عن آخر من أصحابه أنه زنّاه فاغتاظ، وجعل يلعنه فقلنا له: زنّه كما زنّاك أو اسكت. قال: أنا لا أزنّيه، ولا أكون سفيها، ولكني أرجو أن يزنّيه الله من فوق سبع سموات.
قال: سمعت حارسا يقول: أنا أني ك أمّ من زعم أن النار في النوم ليس هي سلطان عزلت، فرأيت في النوم كأن النار أحرقت كوخي، وشرائح عملي حتى لم تترك لي قصبة ففزعت فلم أصبح حسنا، حتى سمعت دقّ الباب فإذا نوفيل المصلحي قد وضع في يدي المزراق، ومقود قلاده قرطاس، وخاتم طين بتسلّم العمل، فإنّ الملك عقيم.
قال بعضهم: كان لي صديق يقامر، وكنت أوبّخه وألومه أبدا على ذلك فأتاني يوما وقال: يا أبا فلان. تقول لي: لا تقامر. قد رهنت والله منديلي الذي اشتريته بثلاثة عشر درهما على عشرين درهما، وهذا يا أبا فلان ربح عظيم.
قال بعضهم: سمعت بباب الطّاق شيخا من سفلة الناس يقول لآخر أسفل منه: ويحك يا محمد، لا تتعجب من ابني عفويه، أخوين أحدهم:
مرعوشي والآخر فضلي. قال له: وإيش في هذا هوذا القرآن فيه جيّد وفيه رديء. قال: ويحك، كيف يكون الرديء في القرآن؟ قال: نعم {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (1) [الإخلاص: الآية 1] بألف دينار، وبجنبها {تَبَّتْ} [المسد: الآية 1] تساوي حبّتين أستغفر الله.
قال بعضهم: قلت لشاطر: فلان ليس يعدّك شيئا فقال: والله لو كنت ليس أنا أنا، وأنا ابن من أنا منه لكنت أنا أنا وأنا ابن من أنا منه. فكيف؟ وأنا أنا وأنا ابن من أنا منه.(3/204)
مرعوشي والآخر فضلي. قال له: وإيش في هذا هوذا القرآن فيه جيّد وفيه رديء. قال: ويحك، كيف يكون الرديء في القرآن؟ قال: نعم {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (1) [الإخلاص: الآية 1] بألف دينار، وبجنبها {تَبَّتْ} [المسد: الآية 1] تساوي حبّتين أستغفر الله.
قال بعضهم: قلت لشاطر: فلان ليس يعدّك شيئا فقال: والله لو كنت ليس أنا أنا، وأنا ابن من أنا منه لكنت أنا أنا وأنا ابن من أنا منه. فكيف؟ وأنا أنا وأنا ابن من أنا منه.
اختصم اثنان من الشّطار إلى قاض لهم، يقول كلّ واحد: أنا أفتى منك فقال القاضي لأحدهما: الخبيص أحبّ إليك أم الفالوذج؟ فقال: الخبيص.
وقال الآخر: الفالوذج. فحكم للذي فضّل الفالوذج، فسئل عن الحجة فقال:
لأنّ الخبيص يعمل من السكّر، والسكر من القند (1)، والقند من القصب، والقصب يمصّه الصبيان في الكتاتيب، والصبيان ليس لهم فتوة والفالوذج يعمل من العسل، والعسل من الشّهد، والشّهد من النحل، والنحل يأوي الجبل، والجبل يكون فيه الصعاليك، والصعاليك فتيان.
قال الجمّاز: رأيت شاطرا وقف على جماعة وقد جرّد سكّينه وقال: من كلّم منكم حمدان الغلام؟ فقال أحدهم: أنا. قال: فلا حسن ولا جميل. قال:
فاجهد جهدك فقال: خذلني الله لو كان غيرك. قال: أنا غيري. قال: والله لو كان غير هذا الموضع. قال: فنحن بفرغانة. فردّ صاحبه السكين في قرابه وقال: ويحك، أنت طالب شرّ فتيان باب الشام كلهم سعاتر (2). مالك كذا روش؟ أي: جدبة.
اجتمع أربعة نفر من الشطّار يقال لأحدهم: صحناة، ولآخر حرملة، وللثالث: غزون، وللرابع: طفشيّة، ومعهم غلام أمرد يريد أن ينقطع إلى واحد منهم. وكل واحد يطلبه لنفسه فتحاكموا إلى شيخ منهم فقال الشيخ: ليذكر كلّ واحد ما فعله، وما يقدر عليه حتى أخيّر الغلام فيصير إلى من أحبّ فقام صحناة فقال:
وال أمك، لو تراني، ضبعوني في عينك، يا ابن العلّامة. أنا هامان أنا فرعون، أنا عاد، أنا الشيطان الأقلف، أنا الدبّ الأكشف، أنا البغل الحرون، أنا الحرب الزّبون، أنا الجمل الهائج، أنا الكركدنّ المعالج، أنا الفيل المغتلم، أنا الدهر المصطلح، أنا العير الشارد، أنا السبع الوارد، أنا سرداب
__________
(1) القند: عسل السكر.
(2) السعاتر: جمع سعتري، وهو الشاطر.(3/205)
التضريب، أنا بوق الحرب، أنا طبل الشغب، محبوس شرقي غربي، مضرب قائم نائم مبطوط الإليتين، معطّل الدفّتين. أبلع أسنة أخرى جواشن، لو ضرب ربّك عنقي ما متّ بعد سنة. وهذا حمدان فروج في حجري بالأمس، حتى جنى جناية رزق الطلب، وحملان وبيته ضرب ألفا فما عبس عسى ينطق أحد!!.
فقال حرملة: يا ابن الصفعان، أنا حبست في أجمة، أكلت ما فيها من السباع، وجعلت الحشيش نقلى، أنا طوف الله الجائح في بحر قلزم. لو كلمني رجل يعثر بسباله لعقدت شعر أنفه إلى شعر استه، وأديره حتى يشمّ فساه، يابه القنفذ لو كلمني رجل لم ألكمه لكمة فأبدد عظامه، فلا تجتمع في شهر، لو كلّمني رجل لم أخرج أنفه وأحرزه في قربة، وأصفعه صفعة، فأبلع رأسه مع رطلين خرا. يابه الجرادة املأ عينك مني والك وأنت زريق الجنى: طعامي الصبر، وريحاني الدّم، ونقلي أدمغة الأفاعي. أنا أسّست الشطارة، أنا بوّبت العيارة. يا ابن الزارعة الفارشة الهارشة القلاشة النفاشة.
من يتكلم؟ قولوا.
فقام غزون وقال: إيش تقول لي يا ابن الطبزدانة؟ أنا القدر والجذر والممزوج بالضجر، أنا أبو إيوان كسرى، حولت المحابس والمطابق، وقطعت أكباد الخلائق، أنا أخرق الصفّين، وأضرب العسكرين، رفيقي صياح الكلم، وجعفر ابن الكلب، وموسى سلحة، وعيسى ركبة، وكردويه الباقلّاني.
وفروج السماط، ودكرويه المكاري. انّفوني ونور الله إلى الشاش وفرغانة، وردّوني إلى: طنجة، وإفرنجة، وأندلس، وإفريقية. ابعثوا بي إلى قاف، وخلف الروم وإلى السدّ، وإلى يأجوج ومأجوج إلى موضع لم يبلغ ذو القرنين، ولم يعرفه الخضر، أنا شهدت الغول عند نفاسها، وحملت جنازة الشيطان غير جبان، أنا فرعون ذو الأتاد. إن لم أقبض روحك مشيت سبعة بلا رأس، قطع ذنبي في كل كرم، قطعت عروقي بكل خنجر، رضّت عظامي بكل منجل، لو نخرت نخرة لخرّت صوامع النصارى، وتحطمت قصور بني إسرائيل. لو عضّني ونور الله الأسد لضرس، ولو كلمني إبليس لخرس، ولو رآني العفريت لخنس.
قال طفشيّة: أنا قتلت ألف، وجرحت ألف، وأنا في طلب ألف، يا ابن الخادمة، يتهيأ لفرعون أخي القحبة أن يقطّب في وجهي، أو يقوم بقربي، أو يناظرني كلمة وكلمة، رأسي مدورة ولحيتي خنجريّة، وسبالي مفصلي، واستي خرساء، وأنا مشهور في الآفاق بضرب الأعناق، لا يجوز عليّ المخراق أنا الربيع إذا قحط الناس، أنا العنى إذا كثر الإفلاس، أنا أشهر من العيد، سل عني الحديد، وفي المطبق الجديد. البيضة منيّ تسوى ألف، لو حضنت خرج منها ألف شيطان، أنا شققت شدق النّمر، وصيّرت على الأسد الإكاف، يا كلب انبح، أنا الشجر، أنا الأبحر، أنا تنّور يسجر، صديق صديقي، وزور من عنتر، من الجلندا، من كركر، من الأسد، من طاهر الأعور. إبليس إذ آنى قطر. لو كلمني رجل رأسه من نحاس، ورجليه من رصاص، أصفعه صفعة فأصيّر أنفه في قفاه، أنا السهل الهاطل، أنا المقت الشاطر، أنا بلّاع القناطر، إن لم ألعب بك في الطّبطاب (1)، وأفسّيك فسو الصّعو (2) في الرّطاب باسم شيطاني مستلاب، أنا أقسى من الحجر، وأهدى من القطاة، وأزهى من الغراب، وأحذر من العقعق، وأولع من الذباب، وألجّ من الخنفساء، وأحدّ من النورة وأغلى من الترياق، وأعزّ من السم، وأمرّ من العلقم، وأشهر من الزّرافة.(3/206)
وفروج السماط، ودكرويه المكاري. انّفوني ونور الله إلى الشاش وفرغانة، وردّوني إلى: طنجة، وإفرنجة، وأندلس، وإفريقية. ابعثوا بي إلى قاف، وخلف الروم وإلى السدّ، وإلى يأجوج ومأجوج إلى موضع لم يبلغ ذو القرنين، ولم يعرفه الخضر، أنا شهدت الغول عند نفاسها، وحملت جنازة الشيطان غير جبان، أنا فرعون ذو الأتاد. إن لم أقبض روحك مشيت سبعة بلا رأس، قطع ذنبي في كل كرم، قطعت عروقي بكل خنجر، رضّت عظامي بكل منجل، لو نخرت نخرة لخرّت صوامع النصارى، وتحطمت قصور بني إسرائيل. لو عضّني ونور الله الأسد لضرس، ولو كلمني إبليس لخرس، ولو رآني العفريت لخنس.
قال طفشيّة: أنا قتلت ألف، وجرحت ألف، وأنا في طلب ألف، يا ابن الخادمة، يتهيأ لفرعون أخي القحبة أن يقطّب في وجهي، أو يقوم بقربي، أو يناظرني كلمة وكلمة، رأسي مدورة ولحيتي خنجريّة، وسبالي مفصلي، واستي خرساء، وأنا مشهور في الآفاق بضرب الأعناق، لا يجوز عليّ المخراق أنا الربيع إذا قحط الناس، أنا العنى إذا كثر الإفلاس، أنا أشهر من العيد، سل عني الحديد، وفي المطبق الجديد. البيضة منيّ تسوى ألف، لو حضنت خرج منها ألف شيطان، أنا شققت شدق النّمر، وصيّرت على الأسد الإكاف، يا كلب انبح، أنا الشجر، أنا الأبحر، أنا تنّور يسجر، صديق صديقي، وزور من عنتر، من الجلندا، من كركر، من الأسد، من طاهر الأعور. إبليس إذ آنى قطر. لو كلمني رجل رأسه من نحاس، ورجليه من رصاص، أصفعه صفعة فأصيّر أنفه في قفاه، أنا السهل الهاطل، أنا المقت الشاطر، أنا بلّاع القناطر، إن لم ألعب بك في الطّبطاب (1)، وأفسّيك فسو الصّعو (2) في الرّطاب باسم شيطاني مستلاب، أنا أقسى من الحجر، وأهدى من القطاة، وأزهى من الغراب، وأحذر من العقعق، وأولع من الذباب، وألجّ من الخنفساء، وأحدّ من النورة وأغلى من الترياق، وأعزّ من السم، وأمرّ من العلقم، وأشهر من الزّرافة.
أنا الموج الكدر، أنا القفل العسر، رأسي سندان، نابي سكين جزار، يدي مطرقة حدّاد: إيش تقول؟ صادقني وسل عني، أنا صعصعة الحي. أنا خير لك من غيري. هوذا وجهي إلى الآخرة، لك حاجة إلى ربّك؟ هوذا أجد ريح الدم. إيش ترون؟ من ينطق؟.
فسكت القوم، وبادر الغلام وأخذ بيده وصادقه.
كان بمرو رجل يتفتّى ويتشطّر، ولم يكن له يوم من أيام الفتيان قط ولا فتكة من فتكانهم، إلى أن وقع بينه وبين رجل قصّار ضعيف شرّ، فضربه ضربا وجيعا وأذلّه فكان يفتخر بذلك ويتطاول عند الفتيان به، فتأذّى جيرانه بواحد
__________
(1) الطبطاب: جمع طبطابة، وهي عصا عريضة يلعب بها الكرة.
(2) الصّعو: العصفور الصغير، وقيل: صائر أصغر من العصفور أحمر الرأس.(3/207)
قصّاب جلد فجاؤوه وقالوا: فلان قد تأذّينا به، فتكفّ عنّا شرّه وتذلّه.
وتكفيناه. فقال: لا أدري من فلان؟ ولكن إن شئتم ضربت لكم القصّار وأنزلت كلّ مكروه به.
وقع بين شاطر وشبه له كلام فقال أحدهما للآخر: لولا أنك أكبر سنّا مني لجرّحتك، ثم مضى غير بعيد، فوقع بينه وبين آخر. فقال: والله لولا أنك أصغر مني لقاتلتك، فقال له رفيقه: يا ابن الزانية، متى يتفق لك توأم تقاتله؟.
قال بعضهم: مررت بواحد وهو يقول: يا من أمّه زورق تسع ألف كرّ بالمعدل خردل.
قال بعضهم: رأيت شاطرا يضرب بالقلس (1)، وهو ينظر إلى الأرض فلما بلغ الضرب مائة قال له الوالي: ارفع رأسك. فقال: يا سيدي، بقي رأسها. قال: وما معنى: بقي رأسها؟ قال الجلّاد: كنت أضربه وهو يصوّر برجله في الأرض بطّة وقد بقي رأسها.
قال إسحق بن إبراهيم الموصلي: دخلت على فتيان من أهل المدينة يشربون، وإذا هم متكئون على كلاب كردية فقال بعضهم: هاتوا وسادة لأبه محمد فجاؤوا بكلب فلما اتكأت عليه قالوا: هاتوا له أيضا مخدة فجاؤوا بجرو فلما تناولوا الأقداح جاء غلام وفي يده قدّاحة يقدح في لحية من يحبس القدح.
عزل حارس ناحية فجاء قوم إلى المعزول يتوجّعون له فقال بعضهم:
لو كان غريبا عذرناه، وإنما العجب أنه أخوك فقال: أعذروه فإن الملك عقيق، يريد عقيم.
كان عثمان الخيّاط من كبار الفتيان والشطّار فقال: ما سرقت جارا قط ولو كان عدوّا، ولا سرقت كريما وأنا أعرفه، ولا خنت من خانني، ولا كافأت غدرا بغدر، ولقد قتلت بيدي أكثر من مائة خنّاق ومبنّج لأنهما لا يقتلان ولا يسلبان إلا عند وجوب الحرمة، وعند الاسترسال والثّقة.
__________
(1) القلس: حبل غليظ من حبال السفن، أو حبل ضخم من الليف.(3/208)
وكان يسمّى الخياط لأنه نقب نقبا فأخرج كلّ شيء كان في البيت، حتى دثار الدار صاحب الدار وشعاره، ثم خرج وسدّ النقب، وسوّاه تسوية كأنه خاطه أو رفاه، فلقّب بالخيّاط.
وكان سليمان بن طراد منهم، وكان لا يقعد في دهليزه، ولا يشرب من جناحه، بل يصير في قصر من قصور الأبلّة، ولا يطّلع في كوّة، ويأمر بذلك أصدقاءه وأصحابه، ويقول: إن تعوّدتم النظر إلى الماء والخروج إلى المتنزهات جرعتم من الحبس لم تدفعوا ضيما، ولم تكسبوا مالا.
وكان يقول: لا يعجبني الفتى يكون لحّاظا. وكان صاحب إطراق.
وكان يقول: إياكم وفضول النظر، يدعو إلى فضول القول والعمل.
ومنهم بابويه، وكان شيخا كبيرا ذا رأي ونجدة، وصدق وأمانة، وهمّة بعيدة، وأنفة شديدة.
وكان محبوسا بعدّة دماء فلما نقب حمير بن مالك السجن، وقام على باب النقب يشرب الناس ويحميهم ليستتمّ الكرامة، وجاء رسوله إلى بابويه، فقال: أبو نعامة ينتظرك، وليس له همّ سواك، وما بردت مسمارا، ولا فككت حلقة، وأنت قاعد غير مكترث ولا محتفل وقد خرج الناس حتى الضعفاء فقال بابويه: ليس مثلي يخرج في الغمار، وتدفع عنه الرجال. لم أشاور ولم أؤامر. ثم يقال لي الآن: كن كالظّعينة، والأمة، والشيخ الفاني. والله لا أكون في الجنة تابعا ذليلا.
فلم يبرح، وخرج سائر الناس وإجرامه وحده كإجرام الجميع فلما جاء الأمير ودخل السجن فلم ير فيه غيره قال للحرس: ما بال هذا؟ فقصّوا عليه القصّة فضحك وقال له: خذ أي طريق شئت فقال بابويه: هذا عاقبة الصّبر.(3/209)
فلم يبرح، وخرج سائر الناس وإجرامه وحده كإجرام الجميع فلما جاء الأمير ودخل السجن فلم ير فيه غيره قال للحرس: ما بال هذا؟ فقصّوا عليه القصّة فضحك وقال له: خذ أي طريق شئت فقال بابويه: هذا عاقبة الصّبر.
الباب الثالث عشر العي ومكاتبات الحمقى
كتب بعض الرؤساء إلى وكيل له في ضيعة: وقد وصلت النعاج، وهي:
تسع نعاج. وتسع نعاج نصفها أربع ونصف نعاج.
وكتب فلان ابن فلان في الوقت المؤرخ فيه.
قال بعضهم: ما من شرّ من دين فقيل له: ولم ذاك؟ قال: من جرّاء يتعلّقون.
قال قاسم التّمار في كلام له: بينهما كما بين السماء إلى قريب من الأرض.
وقال أيضا: لو رأيت إيوان كسرى كأنما رفعت عنه الأيدي أول من أمس.
وقال الجاحظ: قال لي ابن بركة: يا أبا عثمان، لا تثقنّ بقحبة ولو كانت أمّك. قال: فلم أر تأديبا قط أبعد من جميع الرشد من هذا.
قرأت لبعض كتاب الزمان في كتاب سلطان أنشأن: ما سمع قرعي هذا.
يريد: ما قرع سمعي.
وبعض كتاب الأمراء يوقع في الصّكاك والمناشير: اللهم ألبسنا العافية.
وكان بعض أكابر كتّاب عضد الدولة يوقع في الصّكاك:
الحمد لله فتّاح المغاليق فكتب بعض البغداديين تحت توقيعه:
شربي وشربك مذ جئنا على الرّيق.
تظلّم أهل «قمّ» إلى عبد الله القمّي وزير ركن الدولة من أخيه وكان واليهم ورفعوا إليه رقعة فوقّع في قصتهم: من دفع في أخي درهما دفعت فيه دينارا فإنّ ودى ودى، وإن لا ودى خرج من دقّه وجلده حتى ودى والسلام.(3/210)
شربي وشربك مذ جئنا على الرّيق.
تظلّم أهل «قمّ» إلى عبد الله القمّي وزير ركن الدولة من أخيه وكان واليهم ورفعوا إليه رقعة فوقّع في قصتهم: من دفع في أخي درهما دفعت فيه دينارا فإنّ ودى ودى، وإن لا ودى خرج من دقّه وجلده حتى ودى والسلام.
قال بعضهم: جئت إلى كاتب وسألته كتاب شفاعة إلى بعض أصدقائه فكتب: يجب أن تصونه وتحوطه، وتردّ عليه خطوطه. قال: فقلت: الرجل لم يعرفني قط، وليس معه شيء من خطوطي فقال: إن أردت أن تأخذ الكتاب فخذه، وإلّا فإنّي لا أضيّع سجعي.
قال بعضهم: كتب إلى جامع الصيدلاني كتابا فكتب جوابه. وجعل عنوانه مني إلى ذاك الذي كتب إلي.
كتب ابن المتوكل إلى محمد بن عبيد الله يطلب فهدا فكتب إليه:
نحرت عند مقام لا إله إلّا الله، صلى الله على سيدي فديته، إن كان عندي مما طلبته وزن دنق فلا تظنّ يا سيدي أني أبخل عليك بالقليل دون الكثير فضلا عن الكثير، والسلام.
وكتب معاوية بن مروان وكان محمّقا إلى الوليد بن عبد الملك: قد بعثت إليك بقطيفة حمراء حمراء حمراء فكتب في جوابه: قد وصلت، وأنت أحمق أحمق أحمق.
قال أبو العيناء: كتب بعضهم إلى صديق له:
بسم الله الرّحمن الرّحيم وأمتع بك، حفظك الله وأتقى لك من النار سوء الحساب. كتبت إليك والدجلة تطفح، وسفن الموصل ههنا، والخبز رطلين فعليك بتقوى الله، وإياك والموت فإنه طعام سوء، والسلام.
وكتب بعض الهاشميين إلى السّندي بن شاهك.
باسم الله وأمتع بك: إنّ أخا خادمي أخذ رجلا من الشّرط بسبب كلب يقال له موسى، وموسى ليس عندنا يداعى فإن رأيت أن تأمر بسبيل تخليته فعلت إن شاء الله.
وكتب بعض ولد المتوكل إلى أبي أحمد الموفّق: أطال الله بقاءك يا عمي، وأدام عزّك وأبقاك: أنا وحقّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحبّك أشدّ من المتوكل وأشد من والدي، ولا أحتشمك أيضا. وقد جابوا لك مطبوخ من عكبرا، فأحبّ أن تبعث إليّ منه خمس دنان وإلا ثلاث خماسيات، ولا تردّني فأحرد بحياتي.(3/211)
باسم الله وأمتع بك: إنّ أخا خادمي أخذ رجلا من الشّرط بسبب كلب يقال له موسى، وموسى ليس عندنا يداعى فإن رأيت أن تأمر بسبيل تخليته فعلت إن شاء الله.
وكتب بعض ولد المتوكل إلى أبي أحمد الموفّق: أطال الله بقاءك يا عمي، وأدام عزّك وأبقاك: أنا وحقّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحبّك أشدّ من المتوكل وأشد من والدي، ولا أحتشمك أيضا. وقد جابوا لك مطبوخ من عكبرا، فأحبّ أن تبعث إليّ منه خمس دنان وإلا ثلاث خماسيات، ولا تردّني فأحرد بحياتي.
وكتب بعض الهاشميين إلى عليّ بن يحيى بن المنجّم.
بسم الله الرّحمن الرّحيم أستوهب الله المكاره كلها فيك يا سيدي برحمته، وأحب يا سيدي أنت أن تسقيني زبيب نبيذ وعسل، فإني عندي رجل يشرب المطبوخ إن شاء الله.
وكتب إلى صديق له: فدتك نفسي. أنا وحدي، والجواري عندي، وأنا وأبو إسحق وأبي العباس في البستان، موفقا إن شاء الله.
وكتب إلى آخر يستعير منه دابة: أردت الركوب في حاجة إن شاء الله فكتب إليه الرجل: في حفظ الله.
قال أبو العيناء: شكا بعض جيران محمد بن عبيد الله بن المهدي إليه أذى غلمانه للجيران وسأله أن ينهاهم فكتب إليه محمد: قبل كل شيء فصحبك الله، أمالي بخير حين تشكو الغلمان بسبب الجيران لم هم مملوكين. وكم ثمن دارك؟ لو كانت مثل قصر الخليفة حتّى، لم أكن أمتنع من هبتها لغلامك ولو خرجت عن دخول بغداد. إني والله لو كنت حارس الكلب إذا كنت غائبا عنها.
وأعوذ بالله لو كلمتك عشر سنين فانظر الآن أنت إليّ، عليّ المشي إلى بيت الله أعني به الطلاق وثلاثين حجة أحرار لوجه الله، وسبيلي حبس في دوابّ الله. فعلت موفقا إن شاء الله.
قال: وكتب زنقاح وهو محمد بن أحمد بن علي بن المهدي إلى طبيبه: ويلك يا أبو حنا، وأتمّ نعمته عليك قد شربت الدواء خمسين مقعدا، المغص والتقطيع يقتلان بطني، والرأس فلا تسل له مصدعا بعصابة مذ بعد أمس، فلا تؤخر احتباسك عنّي. فسوف أعلم أني سأموت، وتبقى أنت بلا أنا.
فعلت موفّقا إن شاء الله.
وكتب إلى صديق له يطلب منه بخورا.(3/212)
فعلت موفّقا إن شاء الله.
وكتب إلى صديق له يطلب منه بخورا.
شممت منك اليوم وحق الله عزّك الله رائحة طيبة وذلك وحياتك باطراح الحشمة موفقا، إن شاء الله.
قال: وكتب آخر إلى أبيه من البصرة:
كتابي هذا ولم يحدث علينا إلّا خير والحمد لله، إلّا أنّ حائطنا وقع، فقتل أمي وأختي وجاريتنا، ونجوت أنا والسنّور والحمار. فعلت إن شاء الله.
قال أبو العيناء: شكا بعض الكتاب في نكبته وكان قد وزّر فقال: أخذوا مالي، وقلعوا أسناني إلّا أنّ داري لم تبرح مكاني.
قال أبو هفّان: سمعت بعض الحمقى يخاصم امرأته، وفي جيرتهم أحمق آخر، فاطّلع عليهم فقال: يا هذا، اعمل مع هذه كما قال الله تعالى:
إما إمساك بإيش اسمه، وإما تسريح بإيش يقال له» (1) فضحكت من حسن بيانه.
وكتب آخر إلى صديق له يعزّيه عن دابته:
بسم الله الرحمن الرحيم. جعلني الله فداك، بلغني منيتك بدابّتك، ولولا علة نسيتها لسرت إليك حتى أعزّيك في نفسي.
جاء رجل إلى الرّشيد فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد هجوت الرافضة.
فقال: هات. فأنشده: [البسيط]
رغيفا وسمنا وزيتونا ومظلمة ... من أن ينالوا من الشيخين طغيانا
فقال: ويلك! فسّره لي. قال: يا أمير المؤمنين، معك مائة ألف رجل من الجند لا تعرفه، كيف أعرفه أنا وحدي؟.
قال أبو عثمان: حدّثني مسعدة بن طارق قال: والله إنّا لوقوف على حدود دار فلان للقسمة ونحن في خصومة إذا أقبل سيد بني تميم وموسرهم، والذي يصلي على جنائزهم فلما رأيناه مقبلا أمسكنا عن الكلام فأقبل علينا
__________
(1) يشير إلى قول الله تعالى: {فَإِمْسََاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسََانٍ} [البقرة: الآية 229].(3/213)
فقال: حدّثوني عن هذه الدار هل ضمّ منها بعض إلى بعض أحدا؟ قال مسعدة:
فأنا منذ ستّين سنة أفكّر في كلامه، ما أدري ما عنى به.
كانت علامة أبي الحمار لما تقلّد ديوان الخراج في سنة الفتنة، التي كان يوقعها في الصّكاك: لا إله إلا الله. ما أعجب ما نحن فيه! فكان بعض الكتّاب بعد ذلك يقول: لا والله، ما نحن إلّا في علامة أبي الحمار.
حكي عن حمزة بن نصر مع جلالته عند سلطانه، وموضعه من ولائه:
أنه دخل على امرأته، وعندها ثوب وشي فقالت له: كيف هذا الثوب؟ قال:
بكم اشترتيه؟ قالت: بألف درهم. قال: قد والله وضعوا في استك مثل ذا، وأشار بكفّه مقبوضة مع ساعده فقالت: لم أزن الثمن بعد. قال: فخضاهم بعد في يدك. قالت: فأختك قد اشترت شرّا منه بألفين. قال: إنّ أختي تضرط من است واسعة. قالت: ولكنّ أمّك عرض عليها فلم ترده. قال: لأن تلك في استها شعرة.
قال أحمد بن الطيب: هذا كلام الخرس أحسن منه.
قال أبو هفّان: رأيت شيخا بالكوفة قاعدا على باب دار، وله زيّ وهيئة وفي الدار صراخ. فقلت: يا شيخ، ما هذا الصراخ؟ فقال: هذا رجل افتصد أمس فبلغ المبضع شادروانه فمات. يريد: بلغ المبضع شريانه.
وصف بعضهم امرأة فقال: عينها الأخرى أكبر من عينها الأخرى.
كتب بعض من وزر بالريّ آنفا كتابا في معنى أبيه إلى صديق له ببغداد وكان قد حجّ أبوه: هذا الكتاب يوصله فلان ابن فلان، وهو والدي، وقديم الصحبة لي، واجب الحق عليّ، ولي بأمره عناية.
ودخل أبو طالب صاحب الطعام على هاشمية جارية حمدونة بنت الرشيد على أن يشتري طعاما من طعامهم في بعض البيادر فقال لها: إني قد رأيت متاعك. فقالت هاشمية: قل طعامك. قال: وقد أدخلت فيه يدي فإذا متاعك قد خمّ وحمى. وقد صار مثل الجيفة. قالت: يا أبا طالب، أليس قد قلّبت الشّعير، فأعطنا ما شئت، وإن وجدته فاسدا.
ودخل أبو طالب هذا على المأمون فقال: كان أبوك يابا خيرا لنا منك، وأنت يابا ليس تعدّنا، وليس تبعث إلينا، ونحن يابا تجّارك وجيرانك. والمأمون في كل ذلك يتبسّم.(3/214)
ودخل أبو طالب صاحب الطعام على هاشمية جارية حمدونة بنت الرشيد على أن يشتري طعاما من طعامهم في بعض البيادر فقال لها: إني قد رأيت متاعك. فقالت هاشمية: قل طعامك. قال: وقد أدخلت فيه يدي فإذا متاعك قد خمّ وحمى. وقد صار مثل الجيفة. قالت: يا أبا طالب، أليس قد قلّبت الشّعير، فأعطنا ما شئت، وإن وجدته فاسدا.
ودخل أبو طالب هذا على المأمون فقال: كان أبوك يابا خيرا لنا منك، وأنت يابا ليس تعدّنا، وليس تبعث إلينا، ونحن يابا تجّارك وجيرانك. والمأمون في كل ذلك يتبسّم.
قال الجاحظ: كتب رجل إلى صديق له: بلغني أنّ في بستانك آسا بهمنيّا فهب لي أمرا من أمر الله العظيم.
قال: وهو الذي قال: كان عياش وثمامة حيّ يعظمني تعظيما ليس في الدنيا مثله.
فلما مات ثمامة صار ليس يعظمني تعظيما ليس في الدنيا مثله.
وكان ابن لسعيد الجوهري يقول: صلّى الله تبارك وتعالى على محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وكان بالريّ ورّاق حسن الخط، وكان إذا كتب اسم الله تعالى أو اسم النبيّ في القرآن أو الشعر كتب بعدهما ما يكتبه الإنسان في سائر المواضع فكان يكتب في القرآن: {إِنَّ اللََّهَ} عزّ وجلّ {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ} [النّحل:
الآية 90]. {وَمََا مُحَمَّدٌ} صلى الله عليه وسلّم {إِلََّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: الآية 144].
وكان يكتب في الشعر (1): [الرمل]
إنّ تقوى ربّنا عزّ وجلّ خير نفل
وبإذن الله تبارك وتعالى ريثي وعجل
ويكتب (2): [الوافر]
هجوت محمدا صلى الله عليه وسلّم فأجبت عنه
وعند الله تعالى في ذاك الجزاء
__________
(1) البيت فيه زيادة (عزّ وجلّ) و (تبارك وتعالى)، وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 174، ولسان العرب (نفل)، ومقاييس اللغة 2/ 464، وتاج العروس (نفل).
(2) البيت فيه زيادة (صلّى الله عليه وسلّم) في الشطر الأول، و (تعالى) في الشطر الثاني، والبيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 76، ومقاييس اللغة 4/ 274.(3/215)
وقال الجاحظ قلت لنفيس غلامي: بعثتك إلى السوق في حاجة فلم تقضها فقال: يا مولاي، أنا ناقة من مرضي، وليس في ركبتي دماغ.
وقال الجاحظ: قال الحجاج لأبي الجهير الخراساني النخاس: أتبيع الدوابّ المعيبة من جند السلطان؟ فقال: شريكاتنا في هوازها وشريكاتنا في مدائنها، وكما يجيء يكون. قال الحجاج: ما تقول؟ قال بعض من كان قد اعتاد الخطأ وكلام العلوج بالعربية يقول: شركاؤنا بالأهواز وبالمدائن يبعثون إلينا هذه الدّواب فنحن نبيعها على وجوهها.
قال ابن أبي فنن: طلبت من عبد الله بن أحمد بن الخصيب بخورا فكتب إليه: فدتك نفسي من السوء برحمته، كتابي إليك وأنا وحدي، والجواري عندي فأمّا البخور فإنّ أبا العباس في الحمام إن شاء الله.
وكتب بعض الشيوخ الفضلاء إلى شيخ من العدول بالري نفقت بغلته:
نبّئت أنّ الشيخ قد مات بغلته، هيهات هيهات.
وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيّدنا محمد نبيّه وعلى آله الطاهرين وسلّم تسليما.(3/216)
وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيّدنا محمد نبيّه وعلى آله الطاهرين وسلّم تسليما.
فهرس المحتويات
الفصل الثالث من نثر الدّرّ [مقدمة المؤلّف] 3
الباب الأول كلام معاوية بن أبي سفيان وولده 7
يزيد بن معاوية وولده 21
الباب الثاني كلام مروان بن الحكم وولده في الخلفاء 29
عبد الملك بن مروان 31
الوليد بن عبد الملك 38
سليمان بن عبد الملك 41
يزيد بن عبد الملك 43
هشام بن عبد الملك 43
الوليد بن يزيد 45
يزيد بن الوليد بن عبد الملك 47
مسلمة 49
مروان بن محمد 50
مروان 51
الباب الثالث كلام الخلفاء من بني هاشم 54
السفاح 54
المنصور 56
المهدي 62(3/217)
المنصور 56
المهدي 62
الهادي 65
الرشيد 66
الأمين 71
المأمون 73
المعتصم 82
الواثق 86
المتوكّل 89
المنتصر 91
المستعين 91
المعتزّ 92
المهتدي 93
المعتمد 94
المعتضد 95
المكتفي 97
المقتدر 97
الراضي 98
إبراهيم بن المهدي 98
فصل له 99
فصل آخر له 99
فصل آخر 100
فصل آخر له 100
عبد الله بن المعتز 101
الباب الرابع 110
كلام جماعة من بني أمية 110
الباب الخامس نكت لآل الزبير 119
الباب السادس نوادر أبي العيناء ومخاطباته 131
ومن رسائل أبي العيناء وكلامه المستحسن 147
الباب السابع نوادر مزبد 156(3/218)
ومن رسائل أبي العيناء وكلامه المستحسن 147
الباب السابع نوادر مزبد 156
الباب الثامن نوادر أبي الحارث جمّين 167
الباب التاسع نوادر الجمّاز 171
الباب العاشر نوادر المجانين 176
الباب الحادي عشر نوادر البخلاء 188
الباب الثاني عشر كلام الشّطّار ومن يجري مجراهم، ونوادرهم 202
الباب الثالث عشر العي ومكاتبات الحمقى 210(3/219)
الجزء الرابع
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي هدانا إلى الجنة بتوفيقه وتوقيفه، وعدل بنا عن النار بتحذيره وتخويفه، وأرسل إلينا رسله مبشّرين برحمته الواسعة، ومنذرين بنعمته الوازعة، وخصّ محمدا صلّى الله عليه وعلى آله من بينهم في الآخرة بالحوض والشفاعة، والشرف والكرامة. وبالدرجات العلا، وبسدرة المنتهى وفي الدنيا بالبرهان الباهر، والسلطان القاهر، والمعجز الساطع، والسيف القاطع، والصّراط المستقيم، والسبع المثاني والقرآن العظيم وجعل أمّته أكثر الأمم عددا، وأوسطها سددا، وأطولها أمدا، وأهداها قصدا، وأبينها رشدا، ونسخ بملته الملل، وبنحلته النحل ووصل شريعته باليوم الآخر، وجعلها خاتمة الشرائع والأوامر، وأيّده بسيفه المهنّد، وسهمه المسدّد، وشباته المرهفة، وقناته المثقّفة، خاصف النعل، وآكل الطير، وقسيم الجنة والنار، فقتل غطارفة قريش، وجبابرة هوازن وثقيف، وطواغيت قريظة والنّضير، حتى أذعن المعاند، وأقرّ الجاحد، وذلّ الباذخ وتطامن الشامخ، وظهر دين الله وتبّ (1)، أعداء الله، {وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظََّالِمِينَ} [هود: 44].
اللهمّ إنا نشكرك على نعمك التي نرى توفيقك لشكرها نعمة أخرى، هي بالحمد لها أولى، وبالثّناء عليها أحرى، أنعمت علينا بحسب قدرتك المطيفة بالخلق، وكلّفتنا من الشكر بقدر قوتنا الضعيفة على أداء الحق، ورضيت منّا بالميسور من الحمد، وبالعفو من الشّكر دون الجهد، فأنت المحمود على نعمتك، والمعبود لعزتك، والمدعوّ وحدك لا شريك لك، أحاط علمك بالخفيّة، وانبسطت يدك بالعطية، وأذلّ عزّك الجبابرة، وقهر ملكك الملوك القاهرة، مالك الخلق والأمر، ومنشيء السحاب ومنزل القطر.
__________
(1) تبّ: قطع.(4/3)
نعوذ بك من الخضوع والقنوع، والقلّة والذلة، والمهانة والاستكانة، والطّبع، والطّمع، ومن الحسد المضني، ومن الحرص المعنّي، ومن الغضاضة في النفس والخصاصة في الحال، ومن سوء المآب وشرّ المال، ومن كل ما تطأطأ له الرّؤوس وتطامن له النفوس.
كما نعوذ بك من البطر والأشر، والبذخ والنّخوة، وسوء احتمال الغنى والثروة، والاستئثار بالخير والنعمة، وقساوة القلب وقلة الرحمة، ومن استضعاف العائل، وانتهار السّائل، ومن سوء الملكة عند الاقتدار، ومن التعدّي عند الانتصاف، والاعتداء عند الانتصار، ومن الاستهانة بذي القربى الضعيف، والجار المهين، والاستطالة على ما ملّكتنا رقابه من ملك اليمين.
اللهمّ أنت أعلم بمصالح أحوالنا وعواقب أعمالنا، فسدّدنا لما فيه خير الدنيا وخير الآخرة، وصلّ على محمد النبي وعترته الطاهرة.
هذا هو الفصل الرابع من كتاب نثر الدرّ، وهو أحد عشر بابا:
الباب الأوّل: كلام شرائف النساء.
الباب الثاني: نكت من كلام سائر نساء العرب وجواباتهن المستحسنة.
الباب الثالث: الحيل والخدائع.
الباب الرابع: نكت من كلام الحكماء.
الباب الخامس: جنس آخر من الحكم والآداب، وهو ما جاء على لفظ الأمر والنهي.
الباب السادس: جنس آخر من الحكم والأمثال.
الباب السابع: نكت في سياسة السلطان وأدب الرّعية.
الباب الثامن: نوادر الجواري والنساء المواجن.
الباب التاسع: نوادر القصّاص.
الباب العاشر: نوادر القضاة ومن يتقدم إليهم.
الباب الحادي عشر: نوادر لأصحاب النساء والزّناة والزّواني.(4/4)
الباب الأوّل كلام للنساء الشرائف فاطمة ابنة رسول الله عليها السلام (1)
خطبتها لما منعها أبو بكر فدكا
قالوا: لما بلغ فاطمة عليها السلام إجماع أبي بكر منعها فدكا، لاثت (2)
خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها، تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة، ثمّ أنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء، وارتجّ المجلس ثم أمهلت هنيّة حتّى إذا سكن نشيج القوم، وهدأت فورتهم افتتحت كلامها بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قالت:
{لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} (128) [التوبة: 128]. فإن تعرفوه تجدوه أبي دون آبائكم، وأخا ابن عمّي دون رجالكم، فبلّغ الرسالة صادعا بالنّذارة، بالغا بالرسالة، مائلا عن سنن المشركين، ضاربا لثبجهم (3)، يدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، آخذا بأكظام المشركين، يهشّم الأصنام ويفلق الهام
__________
(1) هي فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أمها خديجة بنت خويلد بن أسد، توفيت بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بستة أشهر، وصلّى عليها علي بن أبي طالب، ولم يؤذن أحدا، ودفنها ليلا وهي بنت إحدى وعشرين سنة (انظر: الإصابة 8/ 157، أسد الغابة 5/ 524، كتاب الثقات 3/ 335334، الطبقات الكبرى 8/ 16.
(2) لاثت: أدارت.
(3) الثبج: الوسط.(4/5)
حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر، حتّى تفرّى الليل عن صبحه، وأسفر الحقّ عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشيطان، وتمّت كلمة الإخلاص، {وَكُنْتُمْ عَلى ََ شَفََا حُفْرَةٍ مِنَ النََّارِ} [آل عمران: 103]، نهزة الطامع، ومذقة الشّارب، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطّرق، وتقتاتون القدّ، أذلة خاسئين، يخطفكم الناس من حولكم، حتّى أنقذكم الله برسوله صلّى الله عليه بعد اللّتيّا واللتي، وبعد أن مني ببهم الرجل وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب {كُلَّمََا أَوْقَدُوا نََاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللََّهُ} [المائدة: 64]. أو نجم قرن للشيطان، أو فغرت فاغرة للمشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتّى يطأ صماخها بأخمصه، ويطفئ عادية لهبها بسيفه أو قالت ويخمد لهيبها بحده مكدودا في ذات الله.
وأنتم في رفاهة فكهون آمنون وادعون.
حتى إذا اختار الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم دار أنبيائه ظهرت حسكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلّين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه صارخا بكم، فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرّة ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا وأحمشكم فألفاكم غضابا فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم، هذا والعهد قريب والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل. أبماذا زعمتم: خوف الفتنة؟ {أَلََا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكََافِرِينَ} [التوبة: 49]، فهيهات فيكم، وأنّى بكم، وأنّى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم، زواجره بيّنة، وشواهده لائحة، وأوامره واضحة، أرغبة عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ {بِئْسَ لِلظََّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:
50]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلََامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخََاسِرِينَ} (85) [آل عمران: 85]، ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها تشربون حسوا في ارتغاء، ونصبر منكم على مثل حزّ المدى وأنتم الآن تزعمون لا إرث لنا {أَفَحُكْمَ الْجََاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللََّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (50) [المائدة: 50].
إيها معشر المسلمة المهاجرة أأبتزّ إرث أبيه؟ أبى الله في الكتاب يا بن قحافة، أن ترث أباك ولا أرث أبيه. لقد جئت شيئا فريّا، فدونكها مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد صلّى الله عليه وسلّم، والموعد
القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (67) [الأنعام: 67].(4/6)
إيها معشر المسلمة المهاجرة أأبتزّ إرث أبيه؟ أبى الله في الكتاب يا بن قحافة، أن ترث أباك ولا أرث أبيه. لقد جئت شيئا فريّا، فدونكها مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد صلّى الله عليه وسلّم، والموعد
القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (67) [الأنعام: 67].
ثم انكفأت على قبر أبيها صلّى الله عليه وسلّم عليه فقالت (1): [البسيط] قد كان بعدك أنباء وهنبثة ... لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها ... واختلّ أهلك فاحضرهم ولا تغب
وذكر أنها لما فرغت من كلام أبي بكر والمهاجرين عدلت إلى مجلس الأنصار فقالت:
يا معشر الفئة، وأعضاد الملة، وحضنة الإسلام ما هذه الفترة في حقي؟
والسّنة في ظلامتي؟ أما كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحفظ في ولده؟ لسرع ما أحدثتم! وعجلان ذا إهالة أتقولون: مات محمد صلّى الله عليه وسلّم؟ فخطب جليل استوسع وهيه، واستنهر فتقه وفقد راتقه، وأظلمت الأرض لغيبته، واكتأبت خيرة الله لمصيبته، وخشعت الحبال، وأكدت الآمال، وأضيع الحريم، وأزيلت الحرمة عند مماته صلّى الله عليه وسلّم، وتلك نازلة علن بها كتاب الله في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم، تهتف في أسماعكم ولقبله ما حلّت بأنبياء الله ورسله صلّى الله عليهم وسلّم. {وَمََا مُحَمَّدٌ إِلََّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مََاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى ََ أَعْقََابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى ََ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللََّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللََّهُ الشََّاكِرِينَ} (144) [آل عمران: 144].
إيّها بني قيلة أأهتضم تراث أبيه وأنتم بمرأى مني ومسمع؟ تلبسكم الدعوة، وتشملكم الحيرة، وفيكم العدد والعدّة، ولكم الدار، وعندكم الجنن، وأنتم الألى نخبة الله التي انتخب لدينه، وأنصار رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأهل الإسلام والخيرة التي اختار الله لنا أهل البيت فنابذتم العرب، وناهضتم الأمم، وكافحتم البهم، لا نبرح نأمركم فتأتمرون، حتى دارت لكم بنا رحى الإسلام، ودرّ حلب الأيام وخضعت نعرة الشرك، وباخت نيران الحرب، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق نظام الدين،
__________
(1) البيت الأوّل لفاطمة، عليها السلام، في لسان العرب (هنبث)، وتاج العروس (هنبث)، ولصفية بنت عبد المطلب في جمهرة اللغة ص 263، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 6/ 532. والبيت الثاني (وفيه إقواء) لفاطمة عليها السلام، في لسان العرب (هنبث)، وتاج العروس (هنبث).(4/7)
فأنّى حرتم بعد البيان، ونكصتم بعد الإقدام، وأسررتم بعد التبيان، لقوم نكثوا أيمانهم {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللََّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 13].
ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وركنتم إلى الدعة، فعجتم عن الدّين، ومججتم الذي وعيتم، ولفظتم الذي سوّغتم. {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللََّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8].
ألا وقد قلت الذي قلته على معرفة مني بالخذلان الذي خامر صدوركم، واستشعرته قلوبكم. ولكن قلته فيضة النفس، ونفثة الغيظ. وبثّة الصدر، ومعذرة الحجّة فدونكموها فاحتقبوها مدبرة الظهر، ناقبة الخف، باقية العار موسومة بشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطّلع على الأفئدة. فبعين الله ما تفعلون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون.
قولها عند احتضارها
قالوا: لما مرضت فاطمة عليها السلام دخل النساء عليها وقلن: كيف أصبحت من علّتك يا ابنة رسول الله؟ قالت:
أصبحت والله عائفة لدنياكم، قالبة لرجالكم لفظتهم بعد أن عجمتهم وشنئتهم بعد أن سبرتهم، فقبحا لفلول الحد، وخطل الرأي {لَبِئْسَ مََا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذََابِ هُمْ خََالِدُونَ} [المائدة: 80].
لا جرم لقد قلّدتهم ربقتها، وشنّت عليهم غارتها فجدعا وعقرا وبعدا للقوم الظالمين.
ويحهم، أين زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الروح الأمين، والطّبن، بأمر الدنيا والدين {أَلََا ذََلِكَ هُوَ الْخُسْرََانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15].
ما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا والله نكير سيفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات الله، وتالله لو تكافّوا عن زمام نبذه إليه رسول الله صلّى الله عليه لا عتقله، ولسار بهم سجحا لا يكلم خشاشه ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم
منهلا رويّا فضفاضا، تطفح ضفّتاه، ولأصدرهم بطانا، وقد تحيّز بهم الرّي، غير مستحلّ منه بطائل، إلّا بغمر الناهل، أو دعة سورة الساغب، ولفتحت عليهم بركات من السماء، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون.(4/8)
ما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا والله نكير سيفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات الله، وتالله لو تكافّوا عن زمام نبذه إليه رسول الله صلّى الله عليه لا عتقله، ولسار بهم سجحا لا يكلم خشاشه ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم
منهلا رويّا فضفاضا، تطفح ضفّتاه، ولأصدرهم بطانا، وقد تحيّز بهم الرّي، غير مستحلّ منه بطائل، إلّا بغمر الناهل، أو دعة سورة الساغب، ولفتحت عليهم بركات من السماء، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون.
ألا هلمّ فاستمع، وما عشت أراك الدهر عجبا، وإن تعجب فعجب لحادث إلى أي ملجأ لجؤوا واستندوا، وبأيّ عروة تمسّكوا، {لَبِئْسَ الْمَوْلى ََ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}
[الحج: 13].
استبدلوا والله الذّنابى بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا {أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلََكِنْ لََا يَشْعُرُونَ} (12) [البقرة: 12] ويحهم {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لََا يَهِدِّي إِلََّا أَنْ يُهْدى ََ فَمََا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35].
أما لعمر إلهك لقد لقحت فنظرة ريث ما تنتج، ثم احتلبوا طلاع القعب (1)
دما عبيطا، وذعافا ممقرا (2)، فهنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبّ ما أسّس الأولون، ثم طيبوا عن أنفسكم أنفسنا، وطامنوا (3) للفتنة جأشا، وأبشروا بسيف صارم، وبهرج شامل، واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيدا، وجمعكم حصيدا فيا حسرة بكم، وقد عمّيت عليكم {أَنُلْزِمُكُمُوهََا وَأَنْتُمْ لَهََا كََارِهُونَ} [هود:
28].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها (4)
روي أنه لما كان يوم الجمل قامت عائشة فتكلمت فقالت:
أيها الناس، إنّ لي عليكم حقّ الأمومة وحقّ الموعظة، لا يتّهمني إلا من
__________
(1) القعب: القدح الضخم، وطلاعه: ملؤه.
(2) الممقر: المسموم والمرّ.
(3) طامنوا: خفضوا.
(4) هي عائشة بنت أبي بكر الصدّيق، زوجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كنيتها أم عبد الله، ماتت سنة 57هـ في ولاية معاوية بن أبي سفيان، وكانت بنت 18سنة حين قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (انظر: الإصابة 8/ 140، أسد الغابة 5/ 583، الاستيعاب 2/ 770، كتاب الثقات 3/ 323، الطبقات الكبرى 8/ 46).(4/9)
عصى ربه. قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين سحري (1) ونحري، وأنا إحدى نسائه في الجنة، له ادّخرني ربي، وخصّني من كل بضع وبي ميّز مؤمنكم من منافقكم، وفيّ رخّص لكم في صعيد الأبواء، وأبي رابع أربعة من المسلمين، وأوّل مسمّى صدّيقا.
قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عنه راض فوقذ النفاق، وأغاض نبع الرّدة، وأطفأ ما حشّت يهود، وأنتم حينئذ جحظ تنتظرون العدوة، وتستمعون الصّيحة، فرأب الثّأي، وأوذم العطلة، وامتاح من المهوات، واجتهر دفن الرواء فقبضه الله واطئا على هامة النفاق، مذكيا نارا لحرب المشركين، يقظان في نصرة الإسلام، صفوحا عن الجاهلين.
وروي أنها قالت: تبرأت إلى الله من خطب جمع شمل الفتنة، وفرق أعضاء ما جمع القرآن أنا نصب المسألة عن مسيري؟ هذا، ألا وإني لم أجرّد إثما أدّرعه، ولم أدلّس فتنة أوطئكموها. أقول قولي هذا صدقا وعذرا واعتذارا وتعذيرا، وأسأل الله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله، وأن يخلفه في أمته أفضل خلافة المرسلين.
قال: فانطلق رجل بمقالتها هذه إلى الأحنف، فقال الأحنف أبياتا كثيرة يقول فيها (2): [الطويل] فلو كانت الأكنان دونك لم يجد ... عليك مقالا ذو أذاة يقولها
فبلغ عائشة مقالته فقالت: لقد استفرغ حلم الأحنف هجاؤه إياي إلىّ كان يستجمّ مثابة سفهه؟ إلى الله أشكو عقوق أبنائي.
خطبة أخرى لها حين سألت عن عثمان
قال بعضهم: شهدت عائشة يوم الجمل وقد ثاب إليها الناس فقالوا: يا أمّ المؤمنين، أخبرينا عن عثمان، فقالت:
إنا نقمنا على عثمان ثلاثا: إمرة الفتى، وضرب السوط، وموقع الغمامة
__________
(1) السحر: الرئة.
(2) البيت للأحنف بن قيس في لسان العرب (خنن).(4/10)
المتحاماة، حتى إذا أعتبنا منهنّ مصتموه موص الثوب بالصابون، ثم عدوتم به الفواقر، أو الفقر الثلاث: حرمة الإسلام، وحرمة الخلافة، وحرمة الشهر الحرام.
والله لعثمان كان أتقاهم للربّ وأوصلهم للرحم، وأعفّهم للفرج، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
قولها في أبيها أبي بكر
وروي أنه بلغها أن ناسا يتناولون أبا بكر، فأرسلت إلى أزفلة من الناس، فلما حضروا أسدلت أستارها، وأعلت وسادها، ثم دنت فحمدت الله، وأثنت عليه، وصلّت على نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وعذلت وقرّعت وقالت:
أبي وما أبيه! أبي والله لا تعطوه ... الأيدي، طود منيف، وظلّ مديد
هيهات هيهات!! كذبت الظّنون أنجح والله إذ أكديتم، وسبق إذ ونيتم (1):
سبق الجواد إذا استولى على الأمد
فتى قريش ناشئا، وكهفها كهلا، يريش مملقها، ويفكّ عانيها ويلم شعثها، ويرأب صدعها حتى حلته قلوبها، ثم استشرى في دينه فما برحت شكيمته في ذات الله، حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيى فيه ما أمات المبطلون.
وكان رحمة الله عليه غزير الدمعة، وقيذ الجوانح، شجيّ النشيج، فانفضّت إليه نسوان مكة وولدانها، يسخرون منه، ويستهزئون به {اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (15) [البقرة: 15] وأكبرت ذلك رجالات قريش، فحنت إليه قسيّها، وفوّقت له سهاما وامتثلوه غرضا فما حلّوا له صفاة، ولا قصفوا له قناة، ومر على سيسائه (2) حتى إذا ضرب الدين بجرانه، وألقى بركه، ورست أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجا، ومن كل شرعة أشتاتا وأرسالا اختار الله جلّ اسمه لنبيه
__________
(1) صدره:
إلّا لمثلك أو من أنت سابقه والبيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 21، ولسان العرب (أمد)، (سوا)، (ولي)، وجمهرة اللغة ص 659، وتهذيب اللغة 14/ 222، 15/ 454، وتاج العروس (أمد)، (سند).
(2) السيساء: الظهر.(4/11)
صلوات الله عليه وسلامه وتحياته ما عنده، فلما قبض الله رسوله ضرب الشيطان برواقه، ومد طنبه، ونصب حبائله، وأجلب بخيله ورجله، واضطرب حبل الإسلام، ومرج عهده، وماج أهله وبغى الغوائل، وظنت رجال أن قد أكثبت نهزها، ولات حين التي يرجون، وأنّى الصّدّيق بين أظهرهم؟ فقام حاسرا مشمّرا قد جمع حاشيتيه، ورفع قطريه، فرد نشز الدين على غرّه، ولمّ شعثه بطبه، وأقام أوده بثقافه، فامذقر (1) النفاق بوطئه، وانتاش الدين فنعشه.
فلما أراح الحق على أهله، وأقرّ الرّؤوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها حضرته منيّته، نضّر الله وجهه، فسد ثلمته بنظيره في الرحمة ومقتفيه في السّيرة والمعدلة، ذلك ابن الخطاب، لله أمّ حملت به، ودرّت عليه، لقد أوحدت، ففنخ (2) الكفرة ودنّخها (3)، وشرّد الشرك شذر مذر وبعج الأرض ونجعها. فقأت أكلها، ولفظت خبأها ترأمه ويصدف عنها، وتصدّى له ويأباها، ثم وزّع فيئها فيها، وودّعها كما صحبها. فأروني ماذا ترتأون. وأيّ يومي أبي تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم أو يوم ظعنه إذ نظر لكم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وقالت: لو نزل بالحبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها، قبض رسول الله صلّى الله عليه، فاشرأبّ النفاق، وارتدّت العرب قاطبة. وعاد أصحاب محمد كأنهم معزى مطيرة في خفش، فما اختلفوا فيه من أمر إلا طار أبي بغلائه وغنائه.
ومن رأى ابن الخطاب علم أنه كان عونا للإسلام، كان والله أحوذيّا نسيج وحده، قد أعدّ للأمور أقرانها.
ولما هلك أبو بكر الصديق رحمه الله قامت على قبره فقالت: نضّر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك فقد كنت للدنيا مذلا بإدبارك عنها، وكنت للآخرة معزّا بإقبالك عليها. ولئن كان أعظم المصائب بعد رسول الله صلّى الله عليه رزؤك، وأكبر الأحداث بعده فقدك، إن كتاب الله ليعد بحسن العزاء عنك حسن العوض منك، فنحن نتنجز من الله موعوده بالصبر عليك، ونستعيضه منك
__________
(1) امذقرّ: تفرّق.
(2) فنخ: أذل وقهر.
(3) دنّخ: أخضع.(4/12)
بالاستغفار لك أما لئن كانوا قاموا بأمر الدنيا لقد قمت بأمر الدين حين وهي شعبه وتفاقم صدعه، ورجفت جوانبه، فعليك سلام الله سلام توديع غير قالية لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك.
حديثها مع ابن عباس
روي عن ابن عباس قال: بعثني عليّ عليه السلام بعد دخوله البصرة إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى بلادها، فأتيتها فدخلت عليها، فلم يوضع لي شيء أجلس عليه، فتناولت وسادة كانت في رحلها فقعدت عليها، فقالت: يابن عباس: أخطأت السّنّة قعدت على وسادتنا في بيتنا بغير إذننا. فقلت: ما هذا بيتك الذي أمرك الله أن تقرّي فيه، ولو كان بيتك ما قعدت على وسادتك إلا بإذنك. ثم قلت: إن أمير المؤمنين أرسلني إليك يأمرك بالرحيل إلى بلادك.
قالت: وأين أمير المؤمنين؟ ذاك عمر. فقلت: ذاك عمر وعليّ. قالت: أبيت أبيت. قلت: أما والله ما كان إباؤك، إلّا قصير المدة، عظيم التّبعة، قليل المنفعة، ظاهر الشؤم، بيّن النّكد. وما عسى أن يكون إباؤك؟ وما كان أمرك إلا كحلب شاة، حتى صرت لا تأمرين ولا تنهين، ولا تأخذين ولا تعطين، وما كان مثلك إلّا كقول أخي بني أسد (1): [الوافر] ما زال إهداء الضغائن بيننا ... نثو الحديث وكثرة الألقاب
حتى تركت كأن صوتك فيهم ... في كل نائبة طنين ذباب
قال: فبكت حتى سمعت نحيبها من وراء الحجاب ثم قالت: إني معجّلة الرحيل إلى بلادي إن شاء الله والله ما من بلد أبغض إليّ من بلد أنتم به. قال:
قلت: ولم ذاك؟ فو الله لقد جعلناك للمؤمنين أمّا، وجعلنا أباك صدّيقا. قالت:
تكلمني يا ابن عباس أتمنّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقلت: ما لي لا أمن عليك بمن لو كان منك لمننت به عليّ. قال: فأتيت عليا فأخبرته بقولي وقولها. فقبّل بين عيني ثم قال: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهََا مِنْ بَعْضٍ وَاللََّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (34) [آل عمران: 34].
__________
(1) البيتان لحضرمي بن عامر في كتاب الحيوان 3/ 315، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/ 224، وثمار القلوب ص 397.(4/13)
وروي أن عائشة قالت: مكارم الأخلاق عشر: صدق الحديث، وصدق البأس، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، والمكافأة بالصنيع، وبذل المعروف، والتذمّم للجار، والتذمّم للصاحب، وقرى الضيف، ورأسهن الحياء.
روي عن هوذة بن نافع قال: سألت عائشة ما الذي حملك على قتال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب. قالت: لأنت أجرأ من خاصي الأسد.
وكتبت إليها أمّ سلمة لما همت بالخروج إلى البصرة: يا عائشة إنك جنّة بين رسول الله صلّى الله عليه وبين أمته، وحجابك مضروب على حرمته، قد جمع القرآن ذيلك فلا تملخيه، وسكّني عقيراك فلا تصحريها لو ذكّرتك قولة من رسول الله صلّى الله عليه لتهشّشت تهشّش الرقشاء المطرقة. ما كنت قائلة لرسول الله صلّى الله عليه لو لقيك ناصّة، قعودا من منهل إلى منهل؟ قد برحت عهّيداه، وهتكت ستره، إن عمود لا يرأب بالنساء، ولا يقام بهن إذا انصدع، حماداهن خفض الأعراض، وقصر الوهازة. اجعلي قاعدة البيت قبرك حتى تلقيه وأنت على ذلك.
فقالت عائشة: يا أمّ سلمة، ما أعرفني بنصحك! وأقبلني لوعظك وليس الأمر حيث تذهبين، ما أنا بمغترّة بعد قعود، فإن أقم ففي غير حرج، وإن أخرج ففي إصلاح بين فئتين من المسلمين متشاحنتين.
وقيل لعائشة: إن قوما يشتمون أصحاب محمد صلّى الله عليه فقالت: قطع الله عنهم العمل ما أحبّ أن يقطع عنهم الأجر.
ورأت رجلا متماوتا فقالت: ما هذا؟ فقالوا: زاهد. فقالت: قد كان عمر رضي الله عنه زاهدا، فكان إذا قال: أسمع وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب في ذات الله أوجع.
وذكر أنها لما احتضرت جزعت. فقيل لها: أتجزعين يا أمّ المؤمنين وأنت زوجة رسول الله صلّى الله عليه وأمّ المؤمنين وابنة أبي بكر الصديق؟ فقالت: إن يوم الجمل معترض في حلقي. ليتني متّ قبله أو كنت نسيا منسيا.(4/14)
بينها وبين عمران بن حصين
وروي عن أبي الأسود قال: أنفذني عثمان بن حنيف مع عمران بن حصين إلى عائشة فقلنا: يا أمّ المؤمنين أخبرينا عن مسيرك هذا أعهد عهده رسول الله صلّى الله عليه أم رأي رأيته؟ قالت: بل رأي رأيته حين قتل عثمان إنا نقمنا عليه ضربة السوط وموقع السحابة المحمية، وإمرة سعيد والوليد. فعدوتم عليه فاستحللتم منه الحرم الثلاث حرمة البلد، وحرمة الخلافة، وحرمة الشهر الحرام، بعد أن مصناه كما يماص الإناء فاستتبناه، فركبتم منه هذه ظالمين. أغضبنا لكم من سوط عثمان ولا نغضب لعثمان من سيفكم؟ قلت: ما أنت وسيفنا وسوط عثمان؟ وأنت حبيس رسول الله صلّى الله عليه. أمرك أن تقرّي في بيتك، فجئت تضربين الناس بعضا ببعض. قالت: وهل أحد يقاتلني أو يقول غير هذا؟ قلت:
نعم. قالت: ومن يفعل ذلك؟ أزنيم بن عامر؟ هل أنت مبلّغ عني يا عمران؟ قال:
لا لست مبلّغا عنك خيرا ولا شرّا، قلت: لكني مبلغ عنك. هات ما شئت.
قالت: اللهمّ اقتل مذمّما قصاصا بعثمان، وارم الأشتر بسهم من سهامك لا يشوى، وأدرك عمارا بحفرته في عثمان.
وروي أنها كانت تقول: لا تطلبوا ما عند الله من عند غير الله بما يسخط الله.
وكانت تقول: لله در التقوى، ما تركت لذي غيظ شفاء.
وقالت يوم الحكمين: رحمك الله يا أبت، فلئن أقاموا الدنيا فلقد أقمت الدين حين وهي شعبه، وتفاقم صدعه، ورجفت جوانبه، انقبضت عمّا إليه أصغوا، وشمّرت فيما عنه ونوا، واستصغرت من دنياك ما أعظموا، ورغبت بدينك عما أغفلوا أطالوا عنان الأمن واقتعدت مطيّ الحذر، فلم تهضم دينك، ولم تنس غدك. ففاز عند المساهمة قدحك، وخفّ مما استوزروا ظهرك.
قولها لما قتل عثمان
وروي أنه لما قتل عثمان قالت: أقتل أمير المؤمنين؟ قالوا: نعم، قالت:
فرحمه الله وغفر له. أما والله لقد كنتم إلى تسديد الحقّ وتأييده، وإعزاز الإسلام وتأكيده، أحوج منكم إلى ما نهضتم إليه، من طاعة من خالف عليه، ولكن كلما
زادكم الله نعمة في دينكم ازددتم تثاقلا في نصرته طمعا في دنياكم. أما والله لهدم النعمة أيسر من بنائها، وما الزيادة إليكم بالشكر بأسرع من زوال النعمة عنكم بالكفر، وأيم الله لئن كان فني أكله، واخترم أجله، لقد كان عند رسول الله صلّى الله عليه كذراع البكر الأزهر، ولئن كانت الإبل أكلت أوبارها إنه لصهر رسول الله صلّى الله عليه، ولئن كان برك عليه الدهر بزوره، وأناخ عليه بكلكه، إنها النوائب تترى تلعب بأهلها وهي جادّة وتجذبهم وهي لاعبة، أما والله لقد حاط الإسلام وأكّده، وعضّد الدين وأيده، ولقد هدم الله به صياصي (1) الكفر، وقطع به دابر المشركين، ووقم (2) به أركان الضلالة، فلله المصيبة به ما أفجعها والفجيعة به ما أوجعها! صدع الله بمقتله صفاة الدين، وثلمت مصيبته ذروة الإسلام.(4/15)
فرحمه الله وغفر له. أما والله لقد كنتم إلى تسديد الحقّ وتأييده، وإعزاز الإسلام وتأكيده، أحوج منكم إلى ما نهضتم إليه، من طاعة من خالف عليه، ولكن كلما
زادكم الله نعمة في دينكم ازددتم تثاقلا في نصرته طمعا في دنياكم. أما والله لهدم النعمة أيسر من بنائها، وما الزيادة إليكم بالشكر بأسرع من زوال النعمة عنكم بالكفر، وأيم الله لئن كان فني أكله، واخترم أجله، لقد كان عند رسول الله صلّى الله عليه كذراع البكر الأزهر، ولئن كانت الإبل أكلت أوبارها إنه لصهر رسول الله صلّى الله عليه، ولئن كان برك عليه الدهر بزوره، وأناخ عليه بكلكه، إنها النوائب تترى تلعب بأهلها وهي جادّة وتجذبهم وهي لاعبة، أما والله لقد حاط الإسلام وأكّده، وعضّد الدين وأيده، ولقد هدم الله به صياصي (1) الكفر، وقطع به دابر المشركين، ووقم (2) به أركان الضلالة، فلله المصيبة به ما أفجعها والفجيعة به ما أوجعها! صدع الله بمقتله صفاة الدين، وثلمت مصيبته ذروة الإسلام.
من أقوالها وأخبارها
وقالت: من أرضي الله بإسخاط الناس كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن أرضي الناس بإسخاط الله جلّ ذكره وكله الله إلى الناس.
وقالت: إنما النكاح رقّ فلينظر امرؤ من يرق كريمته.
وقالت: خرجت أقفو آثار الناس يوم الخندق، فسمعت وئيد الأرض خلفي، فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ.
وقالت لها امرأة: أأقيّد جملي؟ قالت: نعم، قالت: أقيد جملي؟ فلما علمت ما تريد قالت: وجهي من وجهك حرام تعني بالجمل زوجها أي أوحده عن النساء.
وقالت: لا تؤدي المرأة حق زوجها حتى لو سألها نفسها وهي على ظهر قتب لم تمنعه.
وقالت: كان النبي صلّى الله عليه يقبّل ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه، وسمعت يوم الجمل تكبيرا عاليا فقالت، اسكتوا، فإنّ التكبير في هذا الموضع فشل.
__________
(1) الصياصي: الحصون.
(2) وقم: قهر وأذلّ.(4/16)
قولها حين قتل علي
وروي عن زينب بنت أبي سلمة، قالت: كنت يوما عند عائشة، إذ دخل رجل معتمّ عليه أثر السفر. فقال: قتل علي بن أبي طالب عليه السلام فقالت عائشة: [الوافر] إن تك ناعيا فلقد نعاه ... نعيّ ليس في فيه التّراب
ثم قالت: من قتله؟ قال: رجل من مراد. قالت: ربّ قتيل لله بيدي رجل من مراد. قالت زينب: فقلت: سبحان الله! أتقولين مثل هذا لعليّ مع سابقته وفضله. فضحكت وقالت: بسم الله، إذا نسيت فذكّريني.
زينب بنت علي عليها السلام (1)
قيل: لما قتل الحسين عليه السلام، ووجّه ابن زياد، لعنه الله رأسه والنّسوة إلى يزيد لعنه الله، أمر برأس الحسين عليه السلام فأبرز في طست، وجعل ينكت ثناياه بقضيب وينشد (2): [الرمل] ليت أشياخي ببدر شهدوا ...
الأبيات معروفة.
فقالت زينب بنت علي عليهما السلام: صدق الله ورسوله يا يزيد {ثُمَّ كََانَ عََاقِبَةَ الَّذِينَ أَسََاؤُا السُّواى ََ أَنْ كَذَّبُوا بِآيََاتِ اللََّهِ وَكََانُوا بِهََا يَسْتَهْزِؤُنَ} (10) [الروم: 10] أظننت يا يزيد أنه حين أخذ علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء، فأصبحنا نساق كما يساق الأسارى، أنّ بنا هوانا على الله، وبك كرامة؟ وأنّ هذا لعظيم خطرك؟
فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان فرحا حين رأيت الدنيا مستوسقة
__________
(1) هي زينب بنت علي بن أبي طالب، أخت الحسن والحسين عليهما السلام، ولدت في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتزوجها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وكانت مع الحسين لما قتل، وحملت إلى دمشق عند يزيد، كانت مشهورة بالعقل وقوة الجنان (انظر: الطبقات الكبرى 8/ 340، أسد الغابة 7/ 132).
(2) عجزه: وعدلنا ميل بدر فاعتدل والبيت لعبد الله بن الزبعرى في ديوانه ص 93، وسيرة ابن هشام 3/ 76، وبلا نسبة في لسان العرب (عدل)، وتهذيب اللغة 2/ 211، وتاج العروس (عدل).(4/17)
لك، والأمور متسقة عليك، وقد مثلت ونفست. وهو قول الله تبارك وتعالى:
{وَلََا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمََا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمََا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدََادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذََابٌ مُهِينٌ} (178) [آل عمران: 178].
أمن العدل يا بن الطّلقاء تخديرك نساءك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله صلّى الله عليه؟ قد هتكت ستورهن، وضحكت بحوجهن مكتئبات تخدى بهن الأباعر، ويحدو بهنّ الأعادي، من بلد إلى بلد لا يراقبن ولا يؤوين، يتشوفهنّ القريب والبعيد، ليس معهنّ وليّ من رجالهنّ، وكيف يستبطأ في بغضتنا من نظر إلينا بالشّنف والشّنان، والإحن والأضغان؟ أتقول: [الرمل] ليت أشياخي ببدر شهدوا
غير متأثم ولا مستعظم، وأنت تنكت ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك؟ ولم لا تكون كذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة، بإهراقك دماء ذرية محمد صلّى الله عليه ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، ولتردنّ على الله وشيكا موردهم، ولتودّنّ أنك عميت وبكمت، وأنك لم تقل (1): [الرمل] فاستهلوا وأهلّوا فرحا
اللهم، خذ بحقّنا، وانتقم لنا ممّن ظلمنا! والله ما فريت إلا في جلدك ولا خرزت إلا في لحمك، وسترد على رسول الله برغمك، وعترته ولحمته في حظيرة القدس، يوم يجمع الله شملهم ملمومين من الشّعث، وهو قول الله تبارك وتعالى:
{وَلََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتاً بَلْ أَحْيََاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ} [آل عمران: 170169].
وسيعلم من بوّأك ومكنك من رقاب المؤمنين، إذا كان الحكم الله والخصيم محمد، وجوارحك شاهدة عليك. فبئس للظالمين بدلا، وأيّكم شرّ مكانا وأضعف جندا، مع أني والله يا عدوّ الله وابن عدوّه أستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، غير أنّ العيون عبرى، والصدور حرّى، وما يجري ذلك أو يغني عنا، وقد قتل
__________
(1) عجزه: ثم قالوا يا يزيد لا تشل والبيت في بلاغات النساء ص 25.(4/18)
الحسين عليه السلام، وحزب الشيطان يقربنا إلى حزب السفهاء، ليعطوهم أموال الله على انتهاك محارم الله، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، وهذه الأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الزواكي يعتامها عسلان الفلوات (1) فلئن اتخذتنا مغنما لتجدنّنا مغرما، حين لا تجد إلا ما قدّمت يداك، تستصرخ يا بن مرجانة ويستصرخ بك، وتتعاوى وأتباعك عند الميزان، وقد وجدت أفضل زاد زوّدك معاوية قتلك ذرية محمد صلّى الله عليه فو الله ما اتقيت غير الله، ولا شكواي إلا إلى الله، فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا يرحض (2) عنك عار ما أتيت إلينا أبدا، والحمد لله الذي ختم بالسعادة والمغفرة لسادات شبان الجنان، فأوجب لهم الجنة.
أسأل الله أن يرفع لهم الدرجات، وأن يوجب لهم المزيد من فضله فإنّه وليّ قدير.
أم كلثوم بنت علي (3)
روي عن بعضهم قال: رأيت أم كلثوم بنت عليّ بالكوفة، ولم أر خفرة والله أنطق منها، كأنما تنطق وتقرّع عن لسان أمير المؤمنين رضي الله عنه، وقد أومأت إلى الناس وهم يبكون على الحسين رضي الله عنه أن اسكتوا فلما سكنت فورتهم، وهدأت الأجراس. قالت:
أبدأ بحمد الله والصلاة على أبيه. أما بعد، يا أهل الكوفة يا أهل الختر والخذل ألا فلا رقأت العبرة، ولا هدأت الرّنّة، إنما مثلكم كمثل التي {نَقَضَتْ غَزْلَهََا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكََاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمََانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} [النحل: 92] ألا وهل فيكم إلا الصّلف والشّنف (4)، ملق الإماء وغمر (5) الأعداء وهل أنتم إلا كمرعى على دمنة، وكفضّة على ملحودة. ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله
__________
(1) الفلوات: الصحارى، وعسلان الفلوات: ذئابها.
(2) لا يرحض: لا يغسل.
(3) هي أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، ولدت قبل وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تزوجها عمر بن الخطاب، وله منها ذرية (انظر: الطبقات الكبرى 8/ 338، أسد الغابة 7/ 287).
(4) الشنف: البغض.
(5) الغمر: الحقد.(4/19)
عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
أتبكون؟ إي والله، فابكوا فإنكم والله أحرياء بالبكاء، فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا، فلقد فزتم بعارها، وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب الجنة، ومنار محجّتكم، ومدره حجتكم، ومفزع نازلتكم؟ فتعسا ونكسا! لقد خاب السعي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذّلّة والمسكنة. {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكََادُ السَّمََاوََاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبََالُ هَدًّا} (90) [مريم: 9089].
ما تدرون أيّ كبد لرسول الله صلّى الله عليه فريتم، وأيّ كريم له أبرزتم، وأيّ دم له سفكتم. لقد جئتم بها شوهاء خرقاء طلاع الأرض والسماء، أفعجبتم أن قطرت السماء دما، {وَلَعَذََابُ الْآخِرَةِ أَخْزى ََ وَهُمْ لََا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 16]. فلا يستخفّنّكم المهل، فإنه لا تحفزه المبادرة، ولا يخاف عليه فوت الثأر كلا إن ربك لنا ولهم لبالمرصاد.
ثم ولت عنهم. قال: فرأيت الناس حيارى وقد ردّوا أيديهم إلى أفواههم ورأيت شيخا كبيرا من بني جعفي، وقد اخضلّت لحيته من دموع عينيه، وهو يقول (1): [الطويل] كهولهم خير الكهول ونسلهم ... إذا عدّ نسل لا يبور ولا يخزي
حفصة أم المؤمنين (2)
خطبتها عن عمر
خطبت حفصة بنت عمر فقالت:
الحمد لله الذي لا نظير له والفرد الذي لا شريك له.
__________
(1) البيت بلا نسبة في بلاغات النساء ص 28.
(2) هي حفصة بنت عمر بن الخطاب، زوجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة 3هـ، توفيت حفصة بالمدينة في خلافة عثمان بن عفان فيما قيل سنة 41هـ، وقيل سنة 45هـ. (انظر: الإصابة 7/ 52، أسد الغابة 7/ 66، كتاب الثقات 3/ 98، الطبقات الكبرى 8/ 65).(4/20)
وأما بعد، فكلّ العجب من قوم زين الشيطان أفعالهم، وارعوى إلى صنيعهم، ودبّ في الفتنة لهم، ونصب حبائله لختلهم، حتى همّ عدوّ الله بإحياء البدعة، ونبش الفتنة، وتجديد الجور بعد دروسه، وإظهاره بعد دثوره، وإراقة الدماء، وإباحة الحمى، وانتهاك محارم الله عز وجل بعد تحصينها، فتضرّم وهاج، وتوغّر وثار غضبا لله ونصرة لدين الله، فأخسأ الشيطان ووقم كيده، وكفّف إرادته، وقدع محبّته، وصغّر خدّه السّبقة إلى مشايعة أولى الناس بخلافة رسول الله صلّى الله عليه، الماضي على سنّته، المقتدي بدينه، المقتصّ لأثره فلم يزل سراجه زاهرا، وضوؤه لامعا ونوره ساطعا.
له من الأفعال الغرر، ومن الآراء المصاص (1)، ومن التقدم في طاعة الله عزّ وجلّ اللّباب، إلى أن قبضه الله إليه، قاليا لما خرج منه، شانئا لما نزل من أمره، شنفا (2) لما كان فيه، صبّا إلى ما صار إليه، وائلا إلى ما دعي إليه، عاشقا لما هو فيه.
فلما صار إلى التي وصفت، وعاين ما ذكرت أومأ بها إلى أخيه في المعدلة ونظيره في السيرة، وشقيقه في الديانة، ولو كان غير الله أراد لأمالها إلى ابنه، ولصيّرها في عقبه، ولم يخرجها من ذرّيته، فأخذها بحقّها، وقام فيها بقسطها، لم يؤدّه ثقلها، ولم يبهظه حفظها، مشرّدا للكفر عن موطنه ونافرا له عن وكره، ومثيرا له من مجثمة، حتى فتح الله عز وجلّ على يديه أقطار البلاد، ونصر الله يقدمه، وملائكته تكنفه، وهو بالله معتصم، وعليه متوكل، حتى تأكّدت عرى الحقّ عليكم عقدا، واضمحلّت عرى الباطل عنكم حلّا، نوره في الدجنّات ساطع، وضوؤه في الظلمات لامع، قاليا للدنيا إذ عرفها، لافظا لها إذ عجمها، وشانئا لها إذ سبرها تخطبه ويقلاها، وتريده ويأباها، لا تطلب سواه بعلا، ولا تبغي سواه نحلا، أخبرها أن التي يخطب أرغد منها عيشا، وأنضر منها حبورا، وأدوم منها سرورا، وأبقى منها خلودا، وأطول منها أياما، وأغدق منها أرضا، وأنعت منها جمالا، وأتمّ منها بلهنية، وأعذب منها رفهنية (3)، فبشعت نفسه بذلك لعادتها، واقشعرت
__________
(1) المصاص: الخالص من كل شيء.
(2) الشنف: المبغض والكاره.
(3) الرفهنية: رغد العيش وخصبه.(4/21)
منها لمخالفتها، فعركها بالعزم الشديد حتى أجابت وبالرأي الجليد حتى انقادت.
فأقام فيها دعائم الإسلام، وقواعد السنّة الجارية، ورواسي الآثار الماضية وأعلام أخبار النبوة الظاهرة، وظل خميصا من بهجتها، قاليا لأثاثها، لا يرغب في زبرجها (1)، ولا تطمح نفسه إلى جدتها، حتى دعي فأجاب، ونودي فأطاع على تلك الحال فاحتذى في الناس بأخيه، فأخرجها من نسله، وصيّرها شورى بين إخوته، فبأي أفعاله يتعلقون؟ وبأي مذاهبه يتمسكون؟ أبطرائقه القويمة في حياته، أم بعدله فيكم عند وفاته، ألهمنا الله وإياكم طاعته، وإذا شئتم ففي حفظ الله وكلاءته.
عائشة بنت عثمان (2)
خطبتها بعد مقتل عثمان
قال: كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام في ماله بينبع فلما قتل عثمان بن عفان خرج إليه عنق من الناس يتساعون، تشتدّ بهم دوابّهم فاستطاروا فرحا، واستفزّهم الجذل، حتى قدموا به فبايعوه، فلما بلغ ذلك عائشة ابنة عثمان صاحت بأعلى صوتها:
يا ثارات عثمان! إنّا لله وإنّا إليه راجعون! أفنيت نفسه، وطلّ دمه في حرم رسول الله صلّى الله عليه، ومنع من دفنه؟ اللهم لو يشاء لامتنع، ووجد من الله عز وجلّ حاكما، ومن المسلمين ناصرا، ومن المهاجرين شاهدا، حتى يفيء إلى الحق من شذّ عنه، أو تطيح هامات وتفرى غلاصم وتخاض دماء، ولكن استوحش ممّا أنستم به، واستوخم ما استمرأتموه.
يا من استحلّ حرم الله ورسوله، واستباح حماه، لقد كره عثمان ما أقدمتم عليه، ولقد نقمتم عليه أقلّ مما أتيتم إليه، فراجع فلم تراجعوه، واستقال فلم تقيلوه.
رحمة الله عليك يا أبتاه. احتسبت نفسك وصبرت لأمر ربك، حتى لحقت
__________
(1) الزبرج: الوشي.
(2) لعلها عائشة بنت عثمان بن عفان، ولم أجد لها ترجمة في المصادر والمراجع التي بين يدي.(4/22)
به. وهؤلاء الآن قد ظهر منهم تراوض الباطل، وإذكاء الشنآن، وكوامن الأحقاد، وإدراك الإحن والأوتار. وبذلك وشيكا كان كيدهم، وتبغّيهم وسعي بعضهم ببعض، فما أقالوا عاثرا، ولا استعتبوا مذنبا، حتى اتّخذوا ذلك سبيلا إلى سفك الدماء، وإباحة الحمى، وجعلوا سبيلا إلى البأساء والعنت.
فهلا علنت كلمتكم، وظهرت حسدتكم، إذ ابن الخطاب قائم على رؤوسكم، ماثل في عرصاتكم، يرعد ويبرق بإرغائكم، يقمعكم غير حذر من تراجعكم إلّا ما في بينكم وهلّا نقمتم عليه عودا وبدءا إذ ملك، وتملك عليكم من ليس منكم بالخلق اللين، والخصم العضل يسعى عليكم، وينصب لكم، لا تنكرون ذلك منه خوفا من سطوته، وحذرا من شدته، أن يهتف بكم متقسورا، أو يصرخ بكم متعذورا. إن قال صدّقتم قالته وإن سأل بذلتم سألته، يحكم في رقابكم وأموالكم، كأنّكم، عجائز صلع، وإماء قصع، فبدأ مفلتا ابن أبي قحافة بإرث نبيكم على بعد رحمه وضيق بلده، وقلة عدده فرقأ الله شرّها، زعم الله دره ما أعرفه لما صنع أو لم يخصم الأنصار بقيس؟ ثم حكم بالطاعة لمولى أبي حذيفة؟
يتمايل بكم يمينا وشمالا، قد خطب عقولكم، واستمهر وجلكم، ممتحنا لكم، ومعترفا أخطاركم، وهل تسمو هممكم إلى منازعته ولولا تيك لكان قسمه خسيسا، وسعيه تعيسا لكن بدر بالرأي، وثنى بالقضاء، وثلّث بالشورى ثم غدا سامرا مسلّطا درّته على عاتقه فتطأطأتم له تطأطؤ الحقّة، وولّيتموه أدباركم حتى علا أكتافكم، ينعق بكم في كل مرتع، ويشدّ منكم على كل مخنق، لا يبتعث لكم هتاف، ولا يأتلق لكم شهاب يهجم عليكم بالسراء، ويتورّط بالحوباء، عرفتم أو أنكرتم، لا تألمون ولا تستنطقون، حتى إذا عاد الأمر فيكم ولكم، في مونقة من العيش، عرقها وشيج، وفرعها عميم، وظلها ظليل تتناولون من كثب ثمارها أنّى شئتم رغدا، وحلبت عليكم عشار الأرض دررا، واستمرأتم أكلكم من فوقكم ومن تحت أرجلكم، في خصب غدق، وأوق شرق، تنامون في الخفض وتستلينون الدّعة، ومقتم زبرجة الدنيا وحرجتها، واستحليتم غضارتها ونضرتها وظننتم أن ذلك سيأتيكم من كثب عفوا، ويتحلب عليكم رسلا، فانتضبتم سيوفكم، وكسرتم جفونكم، وقد أبى الله أن تشام سيوف جرّدت بغيا وظلما، ونسيتم قول الله جلّ وعز {إِنَّ الْإِنْسََانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذََا مَسَّهُ الْخَيْرُ
مَنُوعاً} (21) [المعارج: 2119].(4/23)
يتمايل بكم يمينا وشمالا، قد خطب عقولكم، واستمهر وجلكم، ممتحنا لكم، ومعترفا أخطاركم، وهل تسمو هممكم إلى منازعته ولولا تيك لكان قسمه خسيسا، وسعيه تعيسا لكن بدر بالرأي، وثنى بالقضاء، وثلّث بالشورى ثم غدا سامرا مسلّطا درّته على عاتقه فتطأطأتم له تطأطؤ الحقّة، وولّيتموه أدباركم حتى علا أكتافكم، ينعق بكم في كل مرتع، ويشدّ منكم على كل مخنق، لا يبتعث لكم هتاف، ولا يأتلق لكم شهاب يهجم عليكم بالسراء، ويتورّط بالحوباء، عرفتم أو أنكرتم، لا تألمون ولا تستنطقون، حتى إذا عاد الأمر فيكم ولكم، في مونقة من العيش، عرقها وشيج، وفرعها عميم، وظلها ظليل تتناولون من كثب ثمارها أنّى شئتم رغدا، وحلبت عليكم عشار الأرض دررا، واستمرأتم أكلكم من فوقكم ومن تحت أرجلكم، في خصب غدق، وأوق شرق، تنامون في الخفض وتستلينون الدّعة، ومقتم زبرجة الدنيا وحرجتها، واستحليتم غضارتها ونضرتها وظننتم أن ذلك سيأتيكم من كثب عفوا، ويتحلب عليكم رسلا، فانتضبتم سيوفكم، وكسرتم جفونكم، وقد أبى الله أن تشام سيوف جرّدت بغيا وظلما، ونسيتم قول الله جلّ وعز {إِنَّ الْإِنْسََانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذََا مَسَّهُ الْخَيْرُ
مَنُوعاً} (21) [المعارج: 2119].
فلا يهنينّكم الظفر، ولا يستوطننّ بكم الحضر، فإنّ الله بالمرصاد، وإليه المعاد، والله ما يقوم الظّليم إلا على رجلين، ولا ترنّ القوس إلا على سيتين فأثبتوا في الغرز أرجلكم، فقد ضللتم هداكم في المتيهة الخرقاء، كما أضل أدحيّته الحسل. وسيعلم كيف يكون إذا كان الناس عباديد، وقد نازعتكم الرجال واعترضت عليكم الأمور، وساورتكم الحروب بالليوث، وقارعتكم الأيام بالجيوش، وحمي عليكم الوطيس، فيوما تدعون من لا يجيب، ويوما تجيبون من لا يدعو. وقد بسط باسطكم كلتا يديه يرى أنهما في سبيل الله فيد مقبوضة وأخرى مقصورة، والرؤوس تندو عن الطّلى، والكواهل كما ينقف التّنوّم (1). فما أبعد نصر الله من الظالمين وأستغفر الله مع المستغفرين.
أروى بنت الحارث (2)
حديثها مع معاوية
قيل: دخلت أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية بن أبي سفيان بالموسم وهي عجوز كبيرة، فلما رآها قال: مرحبا بك يا عمة. قالت:
كيف أنت يا بن أخي، لقد كفرت بعدي بالنعمة، وأسأت لابن عمك الصّحبة، وتسمّيت بغير اسمك، وأخذت غير حقّك، بغير بلاء كان منك ولا من آبائك في الإسلام ولقد كفرتم بما جاء به محمد صلّى الله عليه. فأتعس الله الجدود، وصغّر منكم الخدود، حتى رد الله الحقّ إلى أهله، وكانت كلمة الله هي العليا، ونبيّنا محمد صلّى الله عليه هو المنصور على من ناوأه ولو كره المشركون.
فكنا أهل البيت أعظم الناس في الدين حظّا ونصيبا وقدرا، حتى قبض الله نبيّه صلّى الله عليه مغفورا ذنبه، مرفوعة درجته، شريفا عند الله مرضيا، فصرنا أهل
__________
(1) التنوم: شجر له مثل حب الخروع ينفلق عن حب تأكله البادية.
(2) هي أروى بنت الحارث بن المطلب بن هاشم، تزوجها أبو وداعة بن صبرة بن سعيد، فولدت له المطلب وأبا سفيان وأم جميل، وأم حكيم والربعة (انظر: الطبقات الكبرى 8/ 40، الإصابة 8/ 4، الدر المنثور 25، أعلام النساء 1/ 290).(4/24)
البيت منكم بمنزلة قوم موسى في آل فرعون، يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم وصار سيد المسلمين فيكم بعد نبيّنا بمنزلة هارون من موسى، حيث يقول: {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكََادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف: 150] ولم يجمع بعد رسول الله صلّى الله عليه لنا شمل، ولم يسهّل لنا وعر، وغايتنا الجنة، وغايتكم النار.
فقال عمرو بن العاص: أيتها العجوز الضالّة أقصري من قولك، وغضّي من طرفك.
قالت: ومن أنت لا أمّ لك؟. قال: عمرو بن العاص. قالت: يا بن اللّخناء النابغة، أتكلمني؟ أربع على ظلعك، واعن بشأن نفسك، فو الله ما أنت من قريش في اللّباب من حسبها، ولا كريم منصبها. ولقد ادّعاك ستة من قريش كلّهم يزعم أنه أبوك، ولقد رأيت أمّك أيام منى بمكة مع كل عبد عاهر، فأنت فأتمّ بهم، فإنك بهم أشبه.
فقال مروان: أيتها العجوز الضالة، ساخ بصرك مع ذهاب عقلك إذ لا تجوز شهادتك. قالت: يا بنيّ أتتكلم؟ فو الله لأنت بسفيان بن الحارث بن كلدة أشبه منك بالحكم، وإنك لشبهه في زرقة عينيك، وحمرة شعرك، مع قصر قامته، وظاهر دمامته، ولقد رأيت الحكم مادّ القامة، ظاهر الهامة سبط الشعر. وما بينكما قرابة إلا كقرابة الفرس الضامر من الأتان المقرب فاسأل أمّك عما ذكرت لك فإنها تخبرك بشأن أبيك إن صدقت.
رؤيا رقيقة (1)
قال مخرمة بن نوفل: حدثتني أمي رقيقة بنت أبي صيفيّ بن هاشم بن عبد مناف، قالت:
تتابعت على قريش سنون أقحلت الضرع وأرقّت اللحم، وأدّقت العظم فبينا أنا نائمة، لا همّ أو مهوّمة إذا أنا بهاتف يهتف بصوت صحل اقشعرّ له جلدي: معاشر
__________
(1) هي رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف، يقال إن لها صحبة، تزوجها نوفل بن أهيب بن عبد مناف فولدت له مخرمة بن نوفل. (انظر: الطبقات الكبرى 8/ 41، كتاب الثقات 3/ 134، الإصابة 8/ 81، الاستيعاب 2/ 732، أسد الغابة 7/ 111).(4/25)
قريش إن النّبيّ الأميّ المبعوث منكم قد أظلّتكم أيامه، وهذا أوان نجومه ألا فحيّ هلا بالخصب والحيا ألا فانظروا منكم رجلا وسيطا عظاما جساما أبيض بضّا أوطف الأهداب، أشمّ العرنين سهل الخدين، له نجر يكظم عليه، وسنّة تهدي.
إليه. ألا فليدلف هو وولده، وليدلف معه من كلّ بطن رجل، فليشنّوا من الماء، وليمسّوا من الطيب ثم ليستلموا الركن، وليرقوا أبا قبيس، وليدع الرجل، وليؤمّن القوم على دعائه، فغثتم (1) ما شئتم.
قالت: فأصبحت علم الله مذعورة قد وله قلبي، واقشعرّ جلدي لما رأيت في منامي فقصصت رؤياي، ونمت في شعاب مكة، فو الحرمة والحرم، ما بقي أبطحي إلا قال: هذا شيبة الحمد، هذا عبد المطلب. فتنامت إليه رجالات قريش، وهبط إليه من كل بطن رجل، فشنّوا ومسّوا واستلموا، ثم ارتقوا أبا قبيس، وطفقوا يزفون حواليه ما أن يبلغ سعيهم مهله، حتى إذا استووا بذورة الجبل قام عبد المطلب، ومعه رسول الله صلّى الله عليه، غلام قد أيفع أو كرب، فرفع يده إلى السماء وقال:
اللهم كاشف الكربة، وسادّ الخلّة، أنت عالم غير معلّم، مسؤول غير مبخّل هذه عبادك وإماؤك بعذرات حرمك، يشكون إليك سنتهم التي أذهبت الظّلف والخفّ، فاسمعنّ اللهم لنا، وأمطرنّ غيثا مغدقا مريعا. فما راموا الكعبة حتى تفجرت السماء بمائها، وكظم الوادي بثجيجه (2) فلسمعت شيخان قريش وجلّتها عبد الله بن جدعان، وحرب بن أمية، وهشام بن المغيرة يقولون لعبد المطلب:
هنيئا لك أبا البطحاء هنيئا لك.
هند بنت عتبة (3)
وصف من خطب هندا ليعرف أبوها رأيها
قالت هند بنت عتبة لأبيها: إني امرأة قد ملكت أمري، فلا تزوجني رجلا
__________
(1) غثتم: أتاكم الغيث.
(2) الثجيج: السيل.
(3) هي هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، امرأة أبي سفيان بن حرب، وأم معاوية، أسلمت يوم الفتح، وعفا عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد تمثيلها بحمزة عم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتوفيت في خلافة عمر بن الخطاب. (انظر: كتاب الثقات 3/ 439، الطبقات الكبرى 8/ 287، الإصابة 8/ 205، أسد الغابة 7/ 293).(4/26)
حتى تعرضه عليّ. فقال: لك ذاك. وقال لها ذات يوم: إنّه قد خطبك رجلان من قومك، ولست مسمّيا لك واحدا منهما، حتى أصفه لك أما الأوّل ففي الشرف الصميم، والحسب الكريم، تخالين به هوجا من غفلته، وذلك إسجاح (1) من شيمته، حسن الصّحابة، سريع الإجابة، إن تابعته تابعك، وإن ملت كان معك، تقضين عليه في ماله، وتكتفين برأيك عن مشورته.
وأما الآخر ففي الحسب الحسيب، والرأي الأريب، بدر أرومته، وعز عشيرته، يؤدب أهله ولا يؤدبونه إن اتبعوه أسهل بهم، وإن جانبوه توعّر عنهم، شديد الغيرة، سريع الطّيرة، صعب حجاب القبّة، إن حاجّ فغير منزور، وإن نوزع فغير مقسور، قد بينت لك كليهما.
قالت: أما الأوّل فسيّد مضياع لكريمته، موات لها فما عسى إن لم تعتص أن تلين بعد إبائها، وتضيع تحت خبائها إن جاءته بولد أحمقت وإن أنجبت فعن خطأ ما أنجبت. اطو ذكر هذا عنّي لا تسمّه لي.
وأما الآخر فبعل الحرّة الكريمة، إني لأخلاق هذا لوامقة، وإني له لموافقة، وإني لآخذه بأدب البعل، مع لزومي قبّتي وقلة تلفّتي، وإن السليل بيني وبينه لحريّ أن يكون المدافع عن حريم عشيرته، الذائد عن كتيبتها المحامي عن حقيقتها، المثبت لأرومتها، غير متواكل ولا زمّيل (2) عند صعصعة الحروب.
قال: ذلك أبو سفيان بن حرب. قالت: فزوّجه ولا تلقني إليه إلقاء الشّكس ولا تسمه سوم الضّرس، ثم استخر الله عز وجلّ في السماء يخر لك في القضاء.
فزوّجها أبا سفيان. وكان الآخر سهيل بن عمرو.
قيل: إنه لما نخس هبار بزينب بنت رسول الله صلّى الله عليه بلغ هندا، فقامت مسندة ظهرها إلى الكعبة وقالت: أبابنة محمد يفعلون هذا (3): [الطويل] أفي السّلم أعيارا جفاء وغلظة ... وفي الحرب أمثال النساء العوارك
__________
(1) الإسجاح: حسن العفو.
(2) الزمّيل: الضعيف.
(3) البيت لهند بنت عتبة في خزانة الأدب 3/ 263، والمقاصد النحوية 3/ 142، وبلا نسبة في شرح أبيات سيبويه 1/ 382، والكتاب 1/ 344، ولسان العرب (عور)، (عير)، (عرك)، والمقتضب 3/ 265، والمقرب 1/ 258، وتاج العروس (عرك).(4/27)
قولها حين سمعت القرآن روي عن أبي هريرة أنه قال: لما كان الفتح قال لي خالد بن الوليد: يا أبا هريرة، اذهب بنا إلى هند بنت عتبة، لعلك تقرأ عليها بعض القرآن لينفعها الله.
قلت: انطلق. فدخلنا عليها كأنها والله فرس عربيّ، وكأنّ وراء عجيزتها رجلا جالسا. فقال لها خالد بن الوليد: يا أمّ معاوية هذا أبو هريرة صاحب رسول الله صلّى الله عليه، جئتك به ليتلو عليك القرآن ويذكّرك أمر الإسلام. قالت: هات.
قال أبو هريرة: فقلت:
بسم الله الرحمن الرحيم: {تَبََارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
(1) [الملك: 1]. حتى انتهيت إلى قوله جل وعز: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خََاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4]. فقالت: لأوسّدنّ الكعبة. ما سمعنا بشاعر قطّ ينتحل خلق السموات والأرض إلا شاعرهم هذا. قال: فقال خالد: قم يا أبا هريرة، فو الله لا تسلم هذه أبدا، فقمنا فخرجنا من عندها.
وكانت هند تقول: النساء أغلال فليختر الرجل غلّا ليده.
وكانوا يشبّهون عائشة أم المؤمنين بهند في عقلها.
رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب (1)
كانت عاتكة بنت عبد المطلب عمّة رسول الله صلّى الله عليه، ساكنة بمكّة مع أخيها العباس بن عبد المطلب، فرأت رؤيا قبل يوم بدر، وقبل قدوم ضمضم عليهم، ففزعت منها، فأرسلت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب من ليلتها، فجاءها فقالت: رأيت الليلة رؤيا قد أشفقت منها، وخشيت على قومك الهلكة.
قال: وماذا رأيت؟ قالت: لن أحدّثك حتى تعاهدني ألا تذكرها لقومك فإنهم إن سمعوها آذونا وأسمعونا ما لا نحب. فعاهدها العباس فقالت:
__________
(1) هي عاتكة بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. اختلف في إسلامها، قال في الطبقات الكبرى 8/ 36: أسلمت عاتكة بمكة، وهاجرت إلى المدينة. وقال بعض العلماء: لم يسلم من عمات النبي صلّى الله عليه وسلّم غير صفية. (انظر: الإصابة ترجمة رقم 695، الطبقات الكبرى 8/ 36، أسد الغابة 7/ 185، سير أعلام النبلاء 2/ 195).(4/28)
رأيت راكبا أقبل على راحلة من أعلى مكة يصيح بأعلى صوته: يا آل غدر، اخرجوا في ليلتين، أو ثلاث، ثم أقبل يصيح حتى دخل المسجد على راحلته، فصاح ثلاث صيحات، ومال عليه الرجال والنساء والصبيان، وفزع الناس له أشدّ الفزع. قالت: ثم أراه مثل على ظهر الكعبة على راحلته فصاح ثلاث صيحات فقال: يا آل غدر، يا آل فجر، اخرجوا في ليلتين أو ثلاث. ثم أراه مثل على أبي قبيس كذلك يقول: يا آل غدر ويا آل فجر حتى أسمع من بين الأخشبين من أهل مكة، ثم عمد لصخرة عظيمة فنزعها من أصلها، ثم أرسلها على أهل مكة، فأقبلت الصخرة لها حسّ شديد، حتى إذا كانت عند أصل الجبل ارفضّت، فلا أعلم بمكة بيتا ولا دارا، إلّا وقد دخلتها فلقة من تلك الصخرة. فقد خشيت على قومك.
ففزع من رؤياها العباس ثم خرج من عندها، فلقي الوليد بن عقبة ابن ربيعة من آخر تلك الليلة، وكان خليلا للعباس، فقص عليه رؤيا عاتكة وأمره ألا يذكرها لأحد، فذكرها لأبيه عتبة، وذكرها عتبة لأخيه شيبة، فارتفع الحديث حتى بلغ أبا جهل، واستفاض في أهل مكة.
فلما أصبحوا غدا العباس يطوف، فوجد في المسجد أبا جهل، وأبا البختري في نفر من قريش يتحدثون، فلما نظروا إلى العباس ناداه أبو جهل: يا أبا الفضل إذا قضيت طوافك فهلمّ إلينا. فلما قضى طوافه جاءهم فجلس إليهم، فقال له أبو جهل: ما رؤيا رأتها عاتكة؟ قال: ما رأت من شيء قال أبو جهل: أما رضيتم يا بني هاشم بكذب الرجال حتى جئتمونا بكذب النساء. إنّا كنا وأنتم كفرسي الرّهان، فاستبقنا المجد منذ حين. فلما تحاكّت الرّكب قلتم: منا نبيّ. فما بقي إلا أن تقولوا: منا نبيّة. لا أعلم في قريش أهل بيت أكذب رجلا ولا امرأة منكم، فآذوه أشدّ الأذى وقال أبو جهل: زعمت عاتكة أن الراكب قال: اخرجوا في ليلتين أو ثلاث، فلو قد مضت هذه الثلاثة تبينت قريش كذبكم، وكتبنا سجلا أنكم أكذب بيت في العرب رجلا وامرأة. أما رضيتم يا بني قصي أن ذهبتم بالحجابة والندوة والسقاية واللواء والرفادة حتى جئتموها بنبيّ منكم. فقال له العباس: هل أنت منته، فإن الكذب فيك وفي أهل بيتك. فقال من حضرهما: ما كنت يا أبا الفضل
جهولا ولا خرقا.(4/29)
فلما أصبحوا غدا العباس يطوف، فوجد في المسجد أبا جهل، وأبا البختري في نفر من قريش يتحدثون، فلما نظروا إلى العباس ناداه أبو جهل: يا أبا الفضل إذا قضيت طوافك فهلمّ إلينا. فلما قضى طوافه جاءهم فجلس إليهم، فقال له أبو جهل: ما رؤيا رأتها عاتكة؟ قال: ما رأت من شيء قال أبو جهل: أما رضيتم يا بني هاشم بكذب الرجال حتى جئتمونا بكذب النساء. إنّا كنا وأنتم كفرسي الرّهان، فاستبقنا المجد منذ حين. فلما تحاكّت الرّكب قلتم: منا نبيّ. فما بقي إلا أن تقولوا: منا نبيّة. لا أعلم في قريش أهل بيت أكذب رجلا ولا امرأة منكم، فآذوه أشدّ الأذى وقال أبو جهل: زعمت عاتكة أن الراكب قال: اخرجوا في ليلتين أو ثلاث، فلو قد مضت هذه الثلاثة تبينت قريش كذبكم، وكتبنا سجلا أنكم أكذب بيت في العرب رجلا وامرأة. أما رضيتم يا بني قصي أن ذهبتم بالحجابة والندوة والسقاية واللواء والرفادة حتى جئتموها بنبيّ منكم. فقال له العباس: هل أنت منته، فإن الكذب فيك وفي أهل بيتك. فقال من حضرهما: ما كنت يا أبا الفضل
جهولا ولا خرقا.
ولقي العباس من عاتكة فيما أفشى عليها من رؤياها أذى شديدا. فلما كان مساء الليلة الثالثة من الليالي التي رأت فيها عاتكة الرؤيا جاءهم الراكب الذي بعث به أبو سفيان وهو ضمضم بن عمرو الغفاري فصرخ: يا آل غالب بن فهر انفروا فقد خرج محمد صلّى الله عليه وأهل يثرب لأبي سفيان فاحذروا عيركم. ففزعت قريش أشدّ الفزع وأشفقوا من رؤيا عاتكة. وقال العباس: هذا زعمتم كذبي وكذب عاتكة، فنفروا على كل صعب وذلول، فأظفر الله رسوله صلّى الله عليه ببدر.
فاطمة بنت عبد الملك بن مروان (1)
روي عن عطاء قال: قلت لفاطمة بنت عبد الملك: أخبريني عن عمر بن عبد العزيز. قالت: أفعل، ولو كان حيّا ما فعلت. إنّ عمر رحمه الله كان قد فرّغ للمسلمين نفسه، ولأمورهم ذهنه، فكان إذا أمسى مساء لم يفرغ فيه من حوائج الناس في يومه دعا بسراجه الذي كان يسرج له من ماله ثم صلّى ركعتين، ثم أقعى واضعا رأسه على يديه، تسيل دموعه على خدّيه يشهق الشّهقة تكاد ينصدع لها قلبه، أن تخرج لها نفسه، حتى يرى الصبح.
وأصبح صائما فدنوت منه فقلت: يا أمير المؤمنين ألشيء كان منك ما كان؟ قال: أجل، فعليك بشأنك، وخلّيني وشأني. فقلت: إني أرجو أن أتّعظ.
قال: إذا أخبرك، إني نظرت قد وجدتني وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، ثم ذكرت الفقير الجائع، والغريب الضّائع، والأسير المقهور، وذا المال القليل والعيال الكثير، وأشياء من ذلك في أقاصي البلاد وأطراف الأرض، فعلمت أن الله عز وجل سائلي عنهم، وأن رسول الله صلّى الله عليه حجيجي، لا يقبل الله مني فيهم معذرة، ولا يقوم لي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجة، فرحمت والله يا فاطمة نفسي رحمة دمعت لها عيني، ورجع لها قلبي، فأنا كلّما ازددت ذكرا ازددت خوفا فأيقظي أو دعي.
__________
(1) هي فاطمة بنت عبد الملك بن مروان، زوج الخليفة عمر بن عبد العزيز، توفيت في خلافة هشام بن عبد الملك (تاريخ الإسلام 4/ 290، جمهرة أنساب العرب ص 88).(4/30)
أم سلمة أم المؤمنين (1)
في حديث أم سلمة أنّها أتت عائشة لما أرادت الخروج إلى البصرة فقالت لها:
إنك سدّة بين رسول الله صلّى الله عليه وأمّته، وحجابك مضروب على حرمته، وقد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه وسكّن عقيراك فلا تصحريها. الله من وراء هذه الأمّة، لو أراد رسول الله صلى الله عليه أن يعهد إليك عهدا. علت علت بل قد نهاك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الفرطة في البلاد إنّ عمود الإسلام لا يثاب بالنساء إن مال، لا يرأب بهن أن صدع، حماديات النساء غضّ الأطراف، وخفر الأعراض، وقصر الوهازة.
ما كنت قائلة لو أن رسول الله صلى الله عليه عارضك بعض الفلوات ناصّة قلوصا من منهل إلى آخر أن يعين الله مهواك، وعلى رسوله تردين قد وجّهت سدافته. ويروى سجافته وتركت عهيداه. لو سرت مسيرك هذا ثم قيل: ادخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى محمدا، هاتكة حجابا قد ضربه عليّ.
اجعلي حصنك بيتك، ووقاعة الستر قبرك، حتى تلقيه وأنت على تلك أطوع ما تكونين لله ما لزمته، وأنصر ما تكونين للدّين ما جلست عنه، لو ذكّرتك قولا تعرفينه نهشته نهش الرقشاء المطرقة.
فقالت عائشة: ما أقبلني لوعظك! وليس الأمر كما تظنين، ولنعم المسير مسير فزعت فيه إليّ فئتان متناجزتان أو متناحرتان إن أقعد ففي غير حرج، وإن أخرج فإلى ما لا بدّ من الازدياد منه.
قولها: قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه أي لا توسّعيه بالحركة والخروج يقال: ندحت الشيء: إذا وسعته. ومنه يقال: أنا من مندوحة عن كذا. أي في سعة. ومن رواه فلا تبدحيه فإنه من البداح وهو المتّسع من الأرض وعقيراك: من عقر الدار.
__________
(1) أم سلمة: هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، توفيت بعد مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب. (انظر: كتاب الثقات 3/ 439، الإصابة 8/ 204، الطبقات الكبرى 8/ 69).(4/31)
وعلت من العول، وهو الميل. ومن رواه: علت بالكسر فهو من عال في البلاد يعيل.
والفرطة: من الفرط وهو السّبق والتقدّم.
لا يثاب: لا يرد. يقال: ثبت إلى كذا أي عدت إليه.
حماديات: جمع حمادى مثل قولك قصاراك.
الوهازة: قيل: هو الخطو.
السّدافة: الحجاب والسّتر، من أسدف الليل: إذا ستر بظلمته.
ملتقطات من كلامهن
قالت هند بنت عتبة، وقد عزّيت عن يزيد بن أبي سفيان لما مات فقيل لها:
إنا لنرجو أن يكون في معاوية خلفا منه. قالت: أو مثل معاوية يكون خلفا من أحد؟ والله لو جمعت العرب من أقطارها ثم رمي به فيها لخرج من أيها شاء.
قالت خالدة بنت هاشم بن عبد مناف لأخ لها وقد سمعته تجهّم صديقا له:
أي أخيّ، لا تطلع من الكلام إلا ما قد روّأت (1) فيه قبل ذلك، ومزجته بالحلم، وداويته بالرفق فإن ذلك أشبه بك. فسمعها أبوها هاشم فقام إليها فاعتنقها وقبّلها وقال: واها لك يا قبّة الديباج. فلقّبت بذلك.
قالت عائشة للنبي عليه السلام وقد دخل عليها: أين كنت يا رسول الله؟
قال: كنت عند أمّ سلمة. قالت: أما تشبع. فتبسّم. وقالت: يا رسول الله لو مررت بعدوتين إحداهما عافية لم يرعها أحد، وأخرى قد رعاها الناس، أيّهما كنت تنزل؟ قال: بالعافية التي لم يرعها الناس. قالت: فلست كأحد من نسائك.
عمر وأبو سفيان
روي أن عمر نهى أبا سفيان عن رش باب منزله لئلا يمرّ به الحاج فيزلقون فيه، فلم ينته. ومرّ عمر فزلق ببابه فعلاه بالدّرة وقال: ألم آمرك ألا تفعل هذا.
__________
(1) روّأ في الشيء: نظر إليه بتمعن وعرف عاقبته.(4/32)
فوضع أبو سفيان سبابته على فيه. فقال عمر: الحمد لله الذي أراني أبا سفيان ببطحاء مكة أضربه فلا ينتصر، وآمره فيأتمر. فسمعته هند بنت عتبة فقالت: احمده يا عمر فإنك إن تحمده فقد أراك عظيما.
كانت زينب بنت سليمان بن علي تقول: من أراد أن يكون الخلق شفاءه إلى الله فليحمده. ألم تسمع إلى قولهم: سمع الله لمن حمده. فخف الله لقدرته عليك واستحي منه لقربه منك.
وقالت زينب: لو أدرك المنصور ما ساس به المأمون بني أبي طالب لخرج له عمّا يملك.
لما تزوّجت خديجة رضوان الله عليها برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كست أباها حلّة وخلّقته، ونحرت جزورا، فلما أفاق الشيخ قال: ما هذا الحبير وهذا العبير وهذا العقير؟ فقالت خديجة: زوّجتني محمدا وهو كساك هذا.
حال ابنة عبد الله بن جعفر بعد زواجها من الحجاج
قيل: ما رئيت ابنة عبد الله بن جعفر، ضاحكة بعد أن تزوّجها الحجاج فقيل لها: لو تسلّيت، فإنه أمر قد وقع. فقالت: كيف وبم؟ فو الله لقد ألبست قومي عارا لا يغسل درنه بغسل.
ولما مات أبوها لم تبك عليه. فقيل لها: ألا تبكين على أبيك؟ قالت: والله إنّ الحزن ليبعثني وإن الغيظ ليصمتني.
مات ابن لزينب بنت سليمان بن علي فوجّه المأمون بصالح بن الرشيد للصلاة عليه، فقال لها صالح: إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: قد كنت على الركوب، فعرضت لي علّة، وقد وجّهت صالحا ليقوم مقامي، عظّم الله أجرك، فإنما فقدت شخصه، وثوابه مذخور لك. قال: فظهر غضبها، ورفعت ابنا لابنها الميّت فقالت: صلّ على أبيك وقالت (1): [الوافر] سبكناه ونحسبه لجينا ... فأبدى الكير عن خبث الحديد
__________
(1) البيت لأعرابي في سعيد بن سلم الباهلي في العقد الفريد 3/ 55.(4/33)
أما إنه لو كان يحيى بن الحسين بن زيد لوضعت ذيلك في فيك، وعدوت خلف جنازته.
المأمون وأم جعفر
لما دخل المأمون بغداد دخلت عليه أم جعفر فقالت: يا أمير المؤمنين أهنّئك بخلافة قد هنأت بها نفسي عنك قبل أن أراك. ولئن فقدت ابنا خليفة، لقد عوّضت ابنا خليفة لم ألده. وما خسر من اعتاض مثلك، ولا ثكلت أمّ ملأت يدها منك، فأسأل الله أجرا على ما أخذ، ومتاعا بما وهب.
دخلت فاطمة بنت الحسين على هشام بن عبد الملك، فقال لبعض جلسائه:
حرّكها بشيء تغضب منه. فقال: يا أمير المؤمنين إنها لا تعرف الشرّ، فقالت له:
إيها عنك. علمي به جنّبنيه.
من أعمال وأقوال فاطمة بنت الحسين
روي عن محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان قال: جمعتنا أمّنا فاطمة بنت الحسين عليه السلام فقالت: يا بنيّ إنّه والله ما نال أحد من أهل السّفه بسفههم شيئا ولا أدركوه من لذّاتهم إلّا وقد ناله أهل المروءات، فاستتروا بستر الله.
وذكر أنّ فاطمة أعطت ولدها من حسن بن حسن ما ورثته منه، وأعطت ولدها من عبد الله بن عمرو بن عثمان مورثها منه، فوجد ولد حسن بن حسن في أنفسهم لأنّ ما ورثت من عبد الله بن عمرو كان أكثر فقالت لهم: يا بني، إني كرهت أن يرى أحدكم شيئا من مال أبيه بيد أخيه، فيجد من ذلك في نفسه فلذلك فعلت ما فعلت.
ودخلت مع أختها سكينة على هشام بن عبد الملك، فقال هشام لفاطمة:
صفي لنا يابنة حسين ولدك من ابن عمّك، وصفي لنا ولدك من ابن عمنا، قال:
فبدأت بولد الحسن قالت: أما عبد الله فسيّدنا وشريفنا والمطاع فينا، وأما الحسن فلساننا ومدرهنا (1) وأشبه الناس برسول الله صلّى الله عليه وسلّم شمائل وتقلّعا (2) ولونا وكان
__________
(1) المدرة: المدافع عن القوم.
(2) تقلّع في مشيته: صفة للمشي كأنه ينحدر، وأصله من قلع: أي انتزع، أو حوله عن موضعه بقوة.(4/34)
رسول الله عليه السلام إذا مشى تقلّع فلا تكاد عقباه تقعان بالأرض وأما اللذان من ابن عمّكم فإن محمدا جمالنا الذي نباهي به، والقاسم عارضتنا التي نمتنع بها، وأشبه الناس بأبي العاص بن أمية عارضة ونفسا. فقال: والله لقد أحسنت صفاتهم يا ابنة حسين. ثم وثب فجبذت سكينة بردائه فقالت: والله يا أحول لقد أصبحت تهكّم بنا. أما والله ما أبرزنا لك إلا يوم الطفّ، قال: أنت امرأة كثيرة الشر.(4/35)
الباب الثاني نكت من كلام النساء ومستحسن جواباتهن وألفاظهن جواب امرأة لبعض الساخرين من بني نمير
مرّت امرأة جميلة على مسجد بني نمير بالبصرة وعليه جماعة منهم فقال بعضهم: ما أكبر عجيزتها، وقال آخر: إنها ملفوفة. وقال آخر: أنا أجيئكم بخبرها. فتبعها وضرب يده على عجيزتها. قال: فالتفتت إليه وقالت: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلََا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (147) [البقرة: 147] ثم انصرفت إلى بني نمير فقالت:
يا بني نمير والله ما حفظتم فيّ قول الله جلّ وعزّ، ولا قول الشاعر قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصََارِهِمْ} [النور: 30] وقال الشاعر (1):
[الوافر]
فغضّ الطّرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
قالت امرأة من نمير وحضرتها الوفاة، وأهلها مجتمعون: من الذي يقول (2):
[الوافر]
لعمرك ما رماح بني نمير ... بطائشة الصّدور ولا قصار
قالوا: زياد الأعجم. قالت: فإني أشهدكم أن له الثلث من مالي. وكان كثيرا.
وقالت امرأة لزوجها: إن أكلك لاقتفاف، وإن شربك لاشتفاف، وإن ضجعتك لالتفاف. تنام ليلة تخاف، وتشبع ليلة تضاف.
__________
(1) البيت لجرير في ديوانه ص 821، وجمهرة اللغة ص 1096، وخزانة الأدب 1/ 72، والدرر 6/ 322، وشرح المفصل 9/ 128، ولسان العرب (حدد)، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 411، والكتاب 6/ 531.
(2) البيت في مختار الأغاني 3/ 137.(4/36)
وصف امرأة لزوجها ووصفه لها
طلّق أعرابي امرأته فقالت له: جزاك الله خيرا لقد كنت كثير المرق، طيّب العرق، قليل الأرق، قال: وأنت فجزاك الله خيرا لقد كنت لذيذة المعتنق، عند الكرى والأرق، ولكن ما قضى الله قد سبق.
تزوج أعرابي امرأة أشرف منه حسبا ونسبا فقال: يا هذه إنك مهزولة.
فقالت: هزالي أولجني بيتك.
لما قتل حاجب بن زرارة قراد بن حنيفة قالت قبائل بني دارم لحاجب: إما أن تقيد من نفسك، وإما أن تدفع إلينا رجلا من رهطك. فأمر فتى من بني زرارة بن عدس أن يذهب إليهم حتى يقاد. فمرّوا بالفتى على أمّه وحسبوها تجزع فيدفع حاجب إليهم غيره. فقالت: إنّ حيضة وقت حاجبا الموت لعظيمة البركة.
قالت أعرابية وقد دفع إليها علك لتمضغه: ما فيه إلا تعب الأضراس وخيبة الحنجرة.
قيل لرملة بنت الزبير: ما لك أهزل ما تكونين إذا كان زوجك شاهدا؟ قالت:
إن الحرّة لا تضاجع بعلها بملء بطنها. كأنّها لم تأمن قرقرة البطن وغير ذلك.
نظر رجل إلى امرأتين يتلاعبان فقال: مرّا لعنكما الله فإنّكنّ صواحبات يوسف. فقالت إحداهما: يا عمي فمن رمى به في الجبّ: نحن أو أنتم؟
ومرّت جارية بقوم ومعها طبق مغطى فقال بعضهم: أيّ شيء معك على الطبق؟ قالت: فلم غطّيناه؟
قال الجاحظ: ومن الأسجاع الحسنة قول الأعرابية حين خاصمت ابنها إلى عامل الماء: أما كان بطني لك وعاء؟ أما كان حجري لك فناء؟ أما كان ثديي لك سقاء.
وقالت امرأة: أصبحنا ما يرقد لنا فرس، ولا ينام لنا حرس.
قول امرأة في رثاء ابنها
مرّ رجل بامرأة من غاضرة، وإذا ابن لها مسجّى بين يديها، وهي تقول:
يرحمك الله يا بني. فو الله ما كان مالك لبطنك، ولا أمرك لعرسك، ولا كنت إلا ليّن العطفة، يرضيك أقلّ مما يسخطك. قال: فقلت لها: يا أمّه، ألك منه خلف؟(4/37)
مرّ رجل بامرأة من غاضرة، وإذا ابن لها مسجّى بين يديها، وهي تقول:
يرحمك الله يا بني. فو الله ما كان مالك لبطنك، ولا أمرك لعرسك، ولا كنت إلا ليّن العطفة، يرضيك أقلّ مما يسخطك. قال: فقلت لها: يا أمّه، ألك منه خلف؟
قالت: بلى ما هو خير منه: ثواب الله والصبر على المصيبة.
ولما قتل الفضل بن سهل دخل المأمون إلى أمّه يعزّيها فيه، وقال: يا أمه لا تحزني على الفضل فإني خلف لك منه. فقالت له: وكيف لا أحزن على ولد عوّضني خلفا مثلك، فتعجب المأمون من جوابها. وكان يقول: ما سمعت جوابا قطّ كان أحسن منه ولا أخلب للقلب.
قول أعرابية حين شربت النبيذ
حكي أن عجوزا من الأعراب جلست في طريق مكّة إلى فتيان من قريش يشربون نبيذا لهم، فسقوها قدحا فطابت نفسها وتبسّمت ثم سقوها قدحا آخر، فاحمرّ وجهها وضحكت فسقوها قدحا ثالثا، فقالت: أخبروني عن نسائكم بالعراق، أيشربن من هذا الشراب؟ قالوا: نعم. قالت: زنين وربّ الكعبة.
سئلت أعرابية فقيل لها: أتعرفين النجوم؟ قالت: سبحان الله أما أعرف أشياخا وقوفا عليّ كل ليلة؟
قيل لامرأة أصيبت بولدها: كيف أنت والجزع؟. قالت: لو رأيت فيه دركا ما اخترت عليه، ولو دام لي لدمت له.
مرّ أعرابي بجارية جابّة (1) تمدر (2) حوضا لها، فقال: من دلّ على بعير بعنقه علاط وبأنفه خزام، تتبعه بكرتان سمراوان؟. فقال القوم: حفظ الله علينا وأمسك عليك. والله ما أحسسنا لها خبرا فقالت الجارية: لا حفظ الله عليك يا عدوّ الله. فقيل لها: ما ذاك؟ قالت: إنه ينشد سوءته.
قال بعضهم: شهدت أمرأة بالبادية، وبين يديها ابن لها يجود بنفسه فوثبت إليه فأغمضته وعصبته وترحمت عليه، ثم تنحّت. فقالت: ما حقّ من ألبس
__________
(1) الجابّة: الجميلة التي غلبت غيرها حسنا.
(2) تمدر حوضا: أي تسد خصاص حجارته بالمدر، وهو الطين.(4/38)
النعمة، وأطيلت له العافية، وأديمت به النّظرة ألّا يعجز عن التّوثّق لنفسه، من قبل حلّ عقوده، والحلول بعقوته، والحيالة بينه وبين نفسه.
وصف أعرابية لزوجها
قالت أعرابية في الزوج: لا أريده ظريفا ولا ظريّفا ولا رجل أهله ولا السمين الألحم، ولكنّي أريده الضحوك ولّاجا، الكسوب خرّاجا.
خطب رجل ابنة عمّ له فأخبرها أبوها بذلك فقالت: يا أبه، سله ما لي عنده؟
فسأله فقال: ألطف برّها، وأحمل ذكرها، وأعصي أمرها. فقالت: زوّجنيه.
لمّا أهديت ابنة عبد الله بن جعفر إلى الحجاج نظر إليها في تلك الليلة وعبرتها تجول في خدّها، فقال: ممّ بأبي أنت؟ قالت: من شرف اتّضع، ومن ضعة شرفت.
ولما كتب عبد الملك إلى الحجاج بطلاقها قال لها: إنّ أمير المؤمنين أمرني بطلاقك قالت: هو أبرّ بي ممّن زوجنيك.
قول امرأة لبلال بن أبي بردة
حكم بلال بن أبي بردة بالتفريق بين رجل وامرأته، فقالت له المرأة: يا بن أبي موسى إنما بعثتم بالتّفريق بين المسلمين.
نزل رجل بامرأة من العرب فقال لها: هل من لبن أو طعام يباع؟ فقالت:
إنك للئيم أو حديث عهد باللّئام. فاستحسن ذلك منها وخطبها فتزوجها.
كراهة النساء للشيب
حدّث بعضهم قال: خرجت إلى ناحية الطّفاوة فإذا أنا بامرأة لم أر أجمل منها. فقلت: أيتها المرأة إن كان لك زوج فبارك الله له فيك، وإلّا فأعلميني.
قال: فقالت: وما تصنع بي وفيّ شيء لا أراك ترتضيه. قلت: وما هو؟ قالت:
شيب في رأسي. قال: فثنيت عنان دابتي راجعا. فصاحت بي: على رسلك أخبرك بشيء. فوقفت وقلت: ما هو يرحمك الله؟ فقالت: والله ما بلغت العشرين بعد،
وهذا رأسي فكشفت عن عناقيد كالحمم وما رأيت في رأسي بياضا قطّ، ولكن أحببت أن تعلم أنا نكره مثل ما يكره منّا. وأنشدت (1):(4/39)
شيب في رأسي. قال: فثنيت عنان دابتي راجعا. فصاحت بي: على رسلك أخبرك بشيء. فوقفت وقلت: ما هو يرحمك الله؟ فقالت: والله ما بلغت العشرين بعد،
وهذا رأسي فكشفت عن عناقيد كالحمم وما رأيت في رأسي بياضا قطّ، ولكن أحببت أن تعلم أنا نكره مثل ما يكره منّا. وأنشدت (1):
أرى شيب الرّجال من الغواني ... بموضع شيبهنّ من الرّجال
قال: فرجعت خجلا كاسف البال.
وصفت امرأة نساء فقالت: كنّ صدوعا في صفا ليس لعاجز فيهنّ حظّ.
من أقوال ابنة الخس
قيل لابنة الخس: من تريدين أن تتزوّجي؟ فقالت: لا أريده أخا فلان ولا ابن عمّ فلان، ولا الظّريف، ولا المتظرّف، ولا السمين الألحم ولكني أريده كسوبا إذا غدا، ضحوكا إذا أتى، أخال ولا تيمنه.
وقيل لها: من أعظم الناس في عينك؟ قالت: من كانت لي إليه حاجة.
قيل لأعرابية قد حملت شاة تبيعها: بكم؟ قالت: بكذا. قيل لها: أحسني.
فتركت الشاة ومرّت لتنصرف. فقيل لها: ما هذا؟ قالت: لم تقولوا: أنقصي، وإنّما قلتم: أحسني. والإحسان ترك الكلّ.
قالت قريبة الأعرابية: إذا كنت في غير قومك فلا تنس نصيبك من الذّل.
قيل لأعرابية: ما أطيب الروائح؟ قالت: بدن تحبّه، وولد تربّه.
سأل رجل الخيزران حاجة، وأهدي إليها هديّة فردّتها وكتبت إليه: إن كان الذي وجّهته ثمنا لرأي فيك فقد بخستني في القيمة، وإن كان استزادة فقد استغششتني في النصيحة.
قتل قتيبة أبا امرأة وأخاها وزوجها ثم قال لها: أتعرفين أعدى لك منّي؟
قالت: نعم نفس طالبتني بالغداء بعد من قتلت لي.
تقدّمت امرأة إلى قاض فقال لها القاضي: جامعك شهودك كلهم؟ فسكتت فقال كاتبه: إن القاضي يقول: جاء شهودك معك؟ قالت: نعم. ثم قالت للقاضي:
__________
(1) البيت بلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 69، وعيون الأخبار 4/ 45.(4/40)
ألا قلت كما قال كاتبك. كبر سنّك وذهب عقلك. وعظمت لحيتك فغطّت على عقلك وما رأيت ميّتا يحكم بين الأحياء غيرك.
قالت أعرابية لزوجها، ورأته مهموما: إن كان همّك بالدّنيا فقد فرّغ الله منها، وإن كان للآخرة فزادك الله همّا بها.
قال الأصمعيّ: سمعت أعرابية تقول: إلهي ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله، وأوحشه على من لم تكن أنيسه!
وافتخرت جاريتان من العرب بقوسيّ أبويهما. فقالت: إحداهما: قوس أبي طروح مروح، تعجل الظبي أن يروح. وقالت الأخرى: قوس أبي كرّة، تعجل الظبي النّفرة.
قال عتبة بن ربيعة لابنته هند: قد خطبك إليّ رجلان خطبك السمّ ناقعا، وخطبك الأسد عاديا، فأيّهما أحب إليك أن أزوّجك؟ قالت: الذي يأكل أحبّ إليّ من الذي يؤكل. فزوجها أبا سفيان، وهو الأسد العادي وكان الآخر: سهيل بن عمرو.
سمعت امرأة بدويّة وهي ترقّص ابنا لها وتقول: رزقك الله جدا يخدمك عليه ذوو العقول، ولا رزقك عقلا تخدم به ذوي الجدود.
حديث أختين
قال ابن أبي طاهر: حدّثني عليّ بن عبيدة، قال: تزاورت أختان من أهل القصر، فأرهقتهما الصلاة، فبادرت إحداهما فصلّت صلاة خفيفة، فقال لها بعض النساء: كنت حرية أن تطوّلي الصلاة في هذا اليوم شكرا لله حين التقينا. قالت:
لا، ولكن أخفّف صلاتي اليوم وأتمتّع بالنّظر إليها، وأشكر الله في صلاتي غدا.
قالت الخنساء: النساء يحببن من الرجل المنظرانيّ الغليظ القصرة، العظيم الكمرة، الذي إذا طعن حفر وإذا أخطأ قشر، وإذا أخرج عقر.
قيل لأعرابيّة في البادية: من أين معاشكم؟ فقالت: لو لم نعش إلا من حيث نعلم لم نعش.(4/41)
قيل لامرأة من كلب: ما أحبّ الأشياء من الرجال إلى النساء: قالت: ما يكثر الأعداد، ويزيد في الأولاد حربة في غلاف بحقوي رجل جاف، إذا عافى أوهن، وإذا جامع أثخن.
قالت عائشة للخنساء، إلى كم تبكين على صخر، وإنما هو جمرة في النار؟
قالت: ذاك أشدّ لجزعي عليه.
جاءت امرأة إلى عديّ بن أرطاة. تستعديه على زوجها، وتشكو أنّه عنين لا يأتيها، فقال عدي: إنّي لأستحيي للمرأة أن تستعدي على زوجها من مثل هذا.
فقالت: ولم لا أرغب فيما رغبت فيه أمّك فلعل الله أن يرزقني ابنا مثلك.
وقالت أعرابية لرجل: ما لك تعطي ولا تعد؟ فقال لها: ما لك وللوعد؟
قالت: ينفسح به الصبر، وينتشر فيه الأمل، ويطيب بذكره النفس، ويرجى به العيش، وتربح أنت به المرح بالوفاء.
قيل لامرأة: صفي لنا الناقة النجيبة، قالت: كالعقرب إذا هوت، وكالحية إذا التوت، تطوي الفلاة وما انطوت.
صرخت أعرابية ذات يوم، فقال لها أبوها: ما لك؟ قالت: لسعتني عقرب، قال: أين؟ قالت: حيث لا يضع الراقي أنفه.
خطب أعرابي امرأة وكان قصيرا فاحش القصر، عظيم الأنف جدا فكرهته فقال: يا هذه، قد عرفت شرفي وأنا مع ذلك كريم المعاشرة، محتمل المكروه.
فقالت: صدقت مع حملك هذا الأنف أربعين سنة.
أم أبان ومن خطبها من الصحابة
كانت أمّ أبان بنت عتبة بن ربيعة عند يزيد بن أبي سفيان فمات عنها فخطبها عليّ عليه السلام فردّته فقيل لها: أتردين عليّ بن أبي طالب ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه، وزوج فاطمة وأبا الحسن والحسين، وحاله في الإسلام حاله؟
قالت: نعم. لا أؤثر هواه على هواي. ليس لامرأته منه إلا جلوسه بين شعبها الأربع، وهو صاحب صر من النساء.(4/42)
ثم خطبها عمر فردّته. فقيل: أتردّين أمير المؤمنين الفاروق، وحاله في الإسلام حاله؟ قالت: نعم لا أوثر هواه على هواي، يدخل عابسا ويخرج عابسا، ويغلق عليّ بابه وأنا امرأة برزة.
ثم خطبها الزبير فردّته. فقيل لها: أتردّين الزّبير حواريّ رسول الله وابن عمّته وحاله في الإسلام حاله؟ قالت: نعم. لا أوثر هواه على هواي، يد فيها قروني، ويد فيها السّوط.
ثم خطبها طلحة فقالت: زوجي حقّا. يدخل عليّ بسّاما ويخرج بسّاما، إن سألت بذل، وإن أعطي أجزل، وإن أذنبت غفر، وإن أحسنت شكر. فتزوّجته.
فأولم ثم دعا هؤلاء النفر وهي في خدرها، وكذلك كانوا يفعلون. فقال عليّ عليه السلام: يا أبا محمد إئذن لي أكلم هذه فأذن له. فقال: يا أمّ أبان تستّري. فتسترت ثم رفع سجف الحجلة. فقال: يا عديّة نفسها خطبتك وليس بقرشيّة عني رغبة بعد فاطمة بنت رسول الله، فرددتني، وخطبك الزبير حواريّ رسول الله وابن عمّته فرددته واخترت علينا ابن الصّعبة. قالت: فلو وجدت نفقا لدخلت فيه. قالت: فأحلت على الزّاملة التي تحمل كل شيء فقلت: أمر قضي، وما كان ذاك بيدي فقال: صدقت رحمك الله. أما على ذلك فلقد نكحت أصبحنا وجها، وأسخانا كفا، وأكرمنا للنساء صحبة، ثم قال: يا أبا محمد، سلها عمّا قلت لها فإني لم أقلّ إلا الذي تحب. قال: لا أسألها عنه أبدا.
نظرت عجوز أعرابية إلى امرأة حولها عشرة من بنيها كأنهم الصّقور فقالت:
ولدت أمّكم حزنا طويلا.
خرج معاوية ذات يوم يمشي، ومعه خصيّ له حتى دخل على ميسون بنت بحدل، وهي أمّ يزيد فاستترت منه. قال: أتستترين منه وإنما هو مثل المرأة؟
قالت: أترى أن المثلة به تحلّ ما حرّم الله؟.
عثمان ونائلة بنت الفرافصة
خطب عثمان بن عفان نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص الكلبي وكان نصرانيا فقال لابنه ضبّ: تحنّف وزوّجها أمير المؤمنين. ففعل وحملها إلى المدينة. فلما
أدخلت إليه قال لها: أتقومين إلى أم أقوم إليك؟ قالت: ما قطعت إليك عرض السّماوة وأنا أريد أن أكلفك طول البيت. فلما جلست بين يديه قال: لا يروعنّك هذا الشيب قالت: أما إني من نسوة أحبّ أزواجهن إليهنّ الكهل السيّد قال: حلي إزارك. قالت: ذاك بك أحسن.(4/43)
خطب عثمان بن عفان نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص الكلبي وكان نصرانيا فقال لابنه ضبّ: تحنّف وزوّجها أمير المؤمنين. ففعل وحملها إلى المدينة. فلما
أدخلت إليه قال لها: أتقومين إلى أم أقوم إليك؟ قالت: ما قطعت إليك عرض السّماوة وأنا أريد أن أكلفك طول البيت. فلما جلست بين يديه قال: لا يروعنّك هذا الشيب قالت: أما إني من نسوة أحبّ أزواجهن إليهنّ الكهل السيّد قال: حلي إزارك. قالت: ذاك بك أحسن.
فلما قتل أصابتها ضربة على يدها وخطبها معاوية فردّته وقالت: ما يحب الرجال مني؟ قالوا: ثناياك. فكسرت ثناياها وبعثت بها إلى معاوية.
وقال: ذلك ممّا رغّب قريشا في نكاح نساء كلب. تزوّج الزبير أمّ مصعب، وتزوّج الحسين عليه السلام أمّ سكينة، وتزوّج مروان أم عبد العزيز.
استعمل المنصور رجلا على خراسان فأتته امرأة في حاجة فلم تر عنده غناء.
فقالت: أتدري لم ولّاك أمير المؤمنين؟ قال: لا. قالت: لينظر هل يستقيم أمر خراسان بلا وال.
قال بعضهم: خطبت امرأة فأجابت فقلت: إني سيئ الخلق. فقالت: أسوأ خلقا منك من يلجئك إلى سوء الخلق.
قيل: إنّ الحسن رضي الله عنه طلّق امرأتين قرشيّة وجعفيّة وبعث إلى كلّ واحدة منهما عشرين ألفا. وقال للرسول: احفظ ما تقول كلّ واحدة منهما فقالت القرشية: جزاه الله خيرا. وقالت الجعفيّة: متاع قليل من حبيب مفارق. فراجعها وطلّق الأخرى.
بين الحسين وامرأته
وكانت عند الحسن بن الحسين امرأة فضجر يوما وقال: أمرك في يدك فقالت: أما والله لقد كان في يدك عشرين سنة فحفظته، أفأضيّعه في ساعة صار في يدي. وقد رددت إليك حقّك. فأعجبه قولها وأحسن صحبتها.
قالت الخيزران: قبح الله الخدم ليس لهم حزم الرّجال ولا رقّة النساء.
كتب المأمون إلى شكلة أم إبراهيم بن المهدي يتوعّدها فأجابته: أنا يا أمير المؤمنين أمّ من أمهاتك، فإن كان ابني عصى الله فيك فلا تعصه فيّ، والسلام.(4/44)
قال أبو هريرة رضي الله عنه: رأيت هندا بمكّة جالسة، كأنّ وجهها فلقة قمر وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس، ومعها صبيّ يلعب، فمرّ رجل فنظر إليه فقال: إنّي لأرى غلاما إن عاش ليسودنّ قومه. فقالت هند: إن لم يسد إلا قومه فلا جبره الله.
قيل لأمّ الرشيد: أتخافين الموت؟ قالت: كيف لا أخافه؟ ولو كنت عصيت مخلوقا ما أحببت لقاءه. فكيف ألقى الله وقد عصيته؟
خبر أم الحجاج مع زوجها
كانت الفارعة بنت مسعود الثقفيّة أمّ الحجّاج عند المغيرة بن شعبة، فدخل عليها ذات يوم حين أقبل من صلاة الغداة وهي تتخلل. فقال: يا فارعة لئن كان هذا التخلّل من أكل اليوم إنك لجشعة، وإن كان من أكل البارحة إنك لبشعة اعتدّي فأنت طالق. فقالت: سخنت عينك من مطلاق. ما هو من ذا ولا من ذاك. ولكني استكت فتخلّلت من شظيّة من سواكي. فاسترجع ثم خرج فلقي يوسف بن الحكم بن أبي عقيل. فقال: إنّي قد نزلت اليوم عن سيّدة نساء ثقيف، فتزوّجها فإنها ستنجب. فتزوّجها فولدت له الحجاج.
دخلت ليلى الأخيلية على الحجاج. فقال لأصحابه: ألا أخجلها لكم؟
قالوا: بلى. فقال: يا ليلى، أكنت تحبّين توبة؟ قالت: نعم أيّها الأمير. وأنت لو رأيته أحببته.
الوليد بن عبد الملك وزوجه
قال ابن عيّاش: تزوّج الوليد بن عبد الملك ثلاثا وستّين امرأة. وكان أكثر ما يقيم على المرأة ستّة أشهر، وكان فيمن تزوّج ابنة عبد الله بن مطيع العدوي، وكانت جميلة ظريفة، فلما أهديت إليه قال لسمّاره الذين كانوا يسمرون عنده: لا تبرحوا وإن أبطأت حتى أخرج إليكم ودخل بها وانتظروه حتى خرج إليهم في السحر وهو يضحك. فقالوا: سرّك الله يا أمير المؤمنين. فقال: ما رأيت مثل ابنة المنافق. يعني عبد الله بن مطيع وكان ممّن قتل مع ابن الزبير، وكان بنو مروان
يسمّون شيعة ابن الزّبير: المنافقين لمّا أردت القيام أخذت بذيلي وقالت: يا هذا إنّا قد اشترطنا على الجمّالين الرجعة. فما رأيك؟ قال: فأعجب بها وأقام عليها ستّة أشهر ثم بعث إليها بطلاقها.(4/45)
قال ابن عيّاش: تزوّج الوليد بن عبد الملك ثلاثا وستّين امرأة. وكان أكثر ما يقيم على المرأة ستّة أشهر، وكان فيمن تزوّج ابنة عبد الله بن مطيع العدوي، وكانت جميلة ظريفة، فلما أهديت إليه قال لسمّاره الذين كانوا يسمرون عنده: لا تبرحوا وإن أبطأت حتى أخرج إليكم ودخل بها وانتظروه حتى خرج إليهم في السحر وهو يضحك. فقالوا: سرّك الله يا أمير المؤمنين. فقال: ما رأيت مثل ابنة المنافق. يعني عبد الله بن مطيع وكان ممّن قتل مع ابن الزبير، وكان بنو مروان
يسمّون شيعة ابن الزّبير: المنافقين لمّا أردت القيام أخذت بذيلي وقالت: يا هذا إنّا قد اشترطنا على الجمّالين الرجعة. فما رأيك؟ قال: فأعجب بها وأقام عليها ستّة أشهر ثم بعث إليها بطلاقها.
قال بعضهم: قالت لي جارية لي: ظهر يا مولاي الشّيب في رأسك. فقلت:
هو ما لا تحبّونه. فقالت: إنما يثقل علينا الشّيب على البديهة، فأمّا شيب نشأ معنا فنحن ننظر إليه بالعين الأولى.
افتخر على شاهفريد أمّ يزيد بن الوليد نساء الوليد العربيّات فقالت: ليست منكنّ امرأة إلّا وفي عشيرتها من يفخر عليها، ولا يقرّ لها بالشرف والفضل. وليس في الدنيا أعجميّة تفخر عليّ. وكانت من أولاد يزدجرد. ولذلك يقول يزيد بن الوليد: أنا ابن كسرى وأبي مروان، وقيصر جدّي، وجدّي خاقان.
بين الرشيد وعنان
عرضت عنان جارية الناطفي على الرّشيد وهو يتبخّر، فقال لها: أتحبّين أن أشتريك؟ فقالت: ولم لا يا أحسن الناس خلقا وخلقا؟ فقال: أمّا الخلق فقد رأيته، فالخلق أنّي عرفته؟ قالت: رأيت شرارة طاحت من المجمرة فلمعت في خدّك فما قطّبت لها ولا عاتبت أحدا.
لما بنى المأمون ببوران مد يده إليها فحاضت، فقالت: {أَتى ََ أَمْرُ اللََّهِ فَلََا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، ففطن المأمون ووثب عنها.
كان معاوية يمشي مع أمّه فعثر، فقالت له: قم لا رفعك الله وأعرابي ينظر إليه فقال: لم تقولين له هذا؟ فو الله إنّي لأظنّه سيسود قومه. فقالت: لا رفعه الله إن لم يسد إلّا قومه.
قال محمّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان: جمعنا أمّنا فاطمة بنت الحسين عليه السلام فقالت: يا بني إنّه والله ما نال أحد من أهل السّفه بسفههم شيئا، ولا أدركوه من لذّاتهم إلّا وقد ناله أهل المروءات بمروءاتهم. فاستتروا بستر الله.
لما قصد المعتضد بني شيبان اصطفى منهم عجوزا سريعة الجواب فصيحة،
فكان يغري بينها وبين الجلساء، فجاءت يوما فقعدت بلا إذن فقال لها خفيف السّمرقندي الحاجب: أتجلسين بين يدي أمير المؤمنين ولم يأذن لك؟ فقالت:(4/46)
لما قصد المعتضد بني شيبان اصطفى منهم عجوزا سريعة الجواب فصيحة،
فكان يغري بينها وبين الجلساء، فجاءت يوما فقعدت بلا إذن فقال لها خفيف السّمرقندي الحاجب: أتجلسين بين يدي أمير المؤمنين ولم يأذن لك؟ فقالت:
أنت جار ذلك وحاجبه، كان يحب أن تعرّفني ما أعمل قبل دخولي إذ لم تكن لي عادة بمثله. ثم قامت. فتغافل المعتضد عنها فقالت: يا سيداه أقيام إلى الأبد، فمتى ينقضي الأمد؟ فضحك وأمرها بالجلوس.
قالوا: طاف علي بن عبد الله بن العباس بالبيت، وهناك عجوز قديمة وعليّ قد فرع الناس كأنّه راكب والناس مشاة. فقالت: من هذا الذي قد فرع الناس؟
فقيل: عليّ بن عبد الله بن العباس، فقالت: لا إله إلّا الله إنّ الناس ليرذلون.
عهدي بالعباس يطوف بهذا البيت كأنّه فسطاط أبيض ويقال: إنّه كان عليّ إلى منكب أبيه عبد الله. وكان عبد الله إلى منكب أبيه العبّاس وكان العباس إلى منكب أبيه عبد المطلب.
قالت هند بنت عتبة لأبي سفيان بن حرب لما رجع مسلما من عند رسول الله صلّى الله عليه إلى مكة في ليلة الفتح فصاح: يا معشر قريش، ألا إنّي قد أسلمت، فأسلموا، فإن محمدا قد أتاكم بما لا قبل لكم به. فأخذت هند رأسه وقالت: بئس طليعة القوم. والله ما خدشت خدشا. يا أهل مكة. عليكم الحميت الدسم فاقتلوه.
وقالت هند: إنما النساء أغلال فليختر الرجل غلّا ليده.
وذكرت هند بنت المهلّب النساء فقالت: ما زيّن بشيء كأدب بارع تحته لبّ ظاهر.
وقالت أيضا: إذا رأيتم النّعم مستدرة فبادروا بالشّكر قبل حلول الزوال.
ليلى الأخيلية والحجاج
قدمت ليلى الأخيليّة على الحجاج ومدحته: فقال: يا غلام أعطها خمسمائة، فقالت: أيها الأمير، اجعلها أدما. فقال قائل: إنما أمر لك بشاء.
قالت: الأمير أكرم من ذاك. فجعلها إبلا إناثا استحياء. وإنما كان أمر لها بشاء أولا.(4/47)
كانت آمنة بنت سعيد بن العاص عند الوليد بن عبد الملك، فلما مات عبد الملك سعت بها إحدى ضرّاتها إلى الوليد. وقالت: لم تبك على عبد الملك كما بكت نظائرها. فقال لها الوليد في ذلك. فقالت: صدق القائل لك أكنت قائلة: يا ليته بقي حتّى يقتل أخا لي آخر كعمرو بن سعيد.
كانت ابنة هانىء بن قبيصة عند لقيط بن زرارة، فقتل عنها وتزوّجها رجل من أهلها، فكان لا يزال يراها تذكر لقيطا. فقال لها ذات مرّة: ما استحسنت من لقيط؟ فقالت: كلّ أموره كانت حسنة. ولكنّي أحدّثك أنّه خرج مرّة إلى الصيد وقد انتشى، فرجع إليّ وبقميصه نضح من دم صيده والمسك يضوع من أعطافه، ورائحة الشراب من فيه. فضمني ضمّة وشمّني شمّة، فليتني كنت متّ ثمّة. قال:
ففعل زوجها مثل ذلك ثم ضمّها إليه وقال: أين أنا من لقيط؟ فقالت: ماء ولا كصدّاء، ومرعى ولا كالسعدان (1).
قالوا: كان ذو الإصبع العدواني غيورا، وكان له بنات أربع لا يزوّجهنّ غيرة فاستمع عليهنّ مرّة وقد خلون يتحدّثن، فذكرن الأزواج حتّى قالت، الصّغرى منهنّ: زوج من عود خير من قعود، فخطبن فزوّجهنّ.
ثم أمهلهنّ حولا، ثم زار الكبرى فقال لها: كيف رأيت زوجك؟ قالت:
خير زوج يكرم أهله، وينسى فضله. قال: حظيت ورضيت. فما مالكم؟ قالت:
خير مال. قال: وما هو؟ قالت: الإبل، نأكل لحمانها مزعا، ونشرب ألبانها جرعا، وتحملنا وضعفتنا معا. فقال: زوج كريم ومال عميم.
ثم زار الثانية فقال: كيف رأيت زوجك؟ قالت: يكرم الحليلة ويقرّب الوسيلة، قال: فما مالكم؟ قالت: البقر. قال: وما هي؟ قالت: تألف الفناء، وتملأ الإناء، وتودك السقاء، ونساء مع نساء. قال: رضيت وحظيت.
ثم زار الثالثة فقال: كيف رأيت زوجك؟ فقالت: لا سمح بذر، ولا بخيل حكر. قال: فما لكم؟ قالت: المعزى. قال: وما هي؟ قالت: لو كنّا نولدها
__________
(1) مثل يضرب للشيء يفضل على أقرانه (انظر: مجمع الأمثال 2/ 231230، الكامل للمبرد 2/ 48، المستقصى 2/ 339).(4/48)
فطما، ونسلخها أدما، لم نبغ بها نعما. فقال: جذوة مغنية.
ثم زار الرابعة فقال: كيف رأيت زوجك؟ فقالت: شرّ زوج يكرم نفسه، ويهين عرسه. قال: فما مالكم؟ قالت: شرّ مال الضأن. قال: وما هي؟ قالت:
جوف يشبعن، وهيم لا ينقعن، وصم لا يسمعن، وأمر مغويتهنّ يتبعن. فقال:
أشبه أمرئ بعض بزّه، فأرسلها مثلا.
امرأة على قبر الأحنف
وقفت امرأة من تميم على قبر الأحنف. فقالت: لله درّك من مجنّ في جنن، ومدرج في كفن. نسأل الله الذي فجعنا بوجهك، وابتلانا بفقدك، أن يجعل سبيل الخير سبيلك ودليل الخير دليلك، وأن يوسّع لك في قبرك، ويغفر لك يوم حشرك. فو الله لقد كنت في المحافل شريفا، وعلى الأرامل عطوفا، ولقد كنت في الحود مسوّدا، وإلى الخليفة موفّدا، ولقد كانوا لقولك مستمعين، ولرأيك متّبعين.
المأمون وزبيدة
قال ثمامة: لمّا دخل المأمون بغداد دخلت عليه زبيدة أمّ الأمين، فجلست بين يديه فقالت: الحمد لله، أهنّيك بالخلافة، فقد هنأت بها نفسي قبل أن أراك ولئن كنت قد فقدت ابنا خليفة، لقد اعتضت ابنا خليفة، وما خسر من اعتاض مثلك، ولا ثكلت أمّ ملأت عينها منك، وأنا أسأل الله أجرا على ما أخذ وإمتاعا بما وهب. فقال المأمون: ما تلد النساء مثل هذه. ماذا تراها بقّت في هذا الكلام لبلغاء الرّجال.
تزوّج عبد الملك لبابة بنت عبد الله بن جعفر فقالت له يوما: لو استكت فقال: أمّا منك فأستاك. وطلّقها فتزوجها علي بن عبد الله بن العباس وكان أقرع لا يفارقه قلنسوته.
فبعث إليه عبد الملك جارية وهو جالس مع لبابة، فكشفت رأسه على غفلة لترى ما به.
فقالت للجارية: قولي له: هاشميّ أصلع أحبّ إلينا من أمويّ أبخر.
حديث أم زرع
اجتمعت إحدى عشرة امرأة فتعاهدن ألّا يكتمن من أخبار أزواجهنّ شيئا
فقالت الأولى: زوجي لحم جمل غثّ، على جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين، فينتقى، ويروى فينتقل.(4/49)
اجتمعت إحدى عشرة امرأة فتعاهدن ألّا يكتمن من أخبار أزواجهنّ شيئا
فقالت الأولى: زوجي لحم جمل غثّ، على جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين، فينتقى، ويروى فينتقل.
وقالت الثّانية: زوجي لا أبثّ خبره، إني أخاف ألّا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره (1).
قالت الثالثة: زوجي العشنّق (2) إن أنطق أطلّق، وإن أسكت أعلّق.
قالت الرّابعة: زوجي كليل تهامة، لا حرّ ولا قرّ، ولا مخافة ولا سآمة.
قالت الخامسة: زوجي إن أكل لفّ، وإن شرب أشتف وإن اضطجع التف، ولا يولج الكفّ ليعلم البثّ.
قالت السادسة: زوجي عياياء (3) طباقاء (4) كلّ داء له داء شجّك أو فلّك (5)، أو جمع كلّا لك.
قالت السابعة: زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عمّا عهد.
قالت الثامنة: زوجي المسّ مسّ أرنب، والريح ريح زرنب.
قال التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النّجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من النادي.
قالت العاشرة: زوجي مالك وما مالك! مالك خير من ذلك، له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهنّ هوالك.
قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع وما أبو زرع! أناس من حليّ أذنيّ، وملأ من شحم عضديّ، وبجّحني فبجحت إليّ نفسي (6)، وجدني في أهل غنيمة بشقّ، فجعلني في أهل صهيل وأطيط (7)، ودائس ومنقّ، وعنده أقول فلا أقبّح،
__________
(1) عجره وبجره: أي ظاهره وباطنه.
(2) العشنّق: الطويل الممتد.
(3) العياياء: العنين، وقيل: هو من عي فصعب عليه الكلام.
(4) الطباقاء: الأحمق.
(5) الفلّ: الضرب.
(6) بجّحني فبجحت إليّ نفسي: أي عظّمني فعظمت إليّ نفسي، وقيل: فرّحني ففرحت.
(7) الأطيط: صوت الإبل، والصهيل: صوت الفرس.(4/50)
وأشرب فأتقنّح (1)، وأرقد فأتصبح.
أمّ أبي زرع وما أمّ أبي زرع! عكومها رداح، وبيتها فيّاح.
ابن أبي زرع وما ابن أبي زرع كمسلّ شطبة، وتشبعه ذراع الجفرة.
بنت أبي زرع وما بنت أبي زرع! طوع أبيها وطوع أمّها وملء كسائها، وغيظ جارتها.
جارية أبي زرع وما جارية أبي زرع! لا تبثّ حديثنا تبثيثا ولا تنقّث ميرتنا تنقيثا (2)، ولا تملأ بيتنا تعشيشا (3).
خرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلّقني ونكحها، فنكحت بعده رجلا سريّا، ركب شريّا، وأخذ خطّيّا، وأراح عليّ نعما ثريّا. وقال: كلي أمّ زرع وميري أهلك، فلو جمعت كلّ شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع.
قالت عائشة: فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كنت لك كأبي زرع لأمّ زرع.
إسلام قيلة
وفي حديث قيلة (4) حين خرجت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان عمّ بناتها أراد أن يأخذ بناتها منها.
قالت: فلما خرجت بكت هنيّة منهنّ وهي أصغرهنّ، حديباء كانت قد أخذتها الفرصة، عليها سبيّج (5) لها من صوف فرحمتها فحملتها معها فبينا هما
__________
(1) أتقنّح: أي أقطع الشرب وأتمهّل فيه، أو: أشرب بعد الري.
(2) لا تنقّث: أي لا تسرع، والمقصود أنها أمينة على حفظ الطعام، فلا تنقله ولا تفرقه.
(3) أي لا تخبّئ الطعام في زوايا البيت خيانة منها كالطير إذا عششت.
(4) هي قيلة بنت مخرمة بن قرط التميمية، كانت تحت حبيب بن أزهر، ثم توفي في أوّل الإسلام فانتزع بناتها عمهن أثوب بن أزهر فخرجت تبتغي الصحابة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأسلمت. (انظر: الطبقات الكبرى: 8/ 240، كتاب الثقات 3/ 249، الإصابة 8/ 171، أسد الغابة 5/ 535).
(5) السبيّج: تصغير سبيج، وهو البردة من الصوف فيها سواد وبياض.(4/51)
يرتكان، إذ تنفّجت الأرنب. فقالت الحديباء والقصيّة: والله لا يزال كعبك عاليا.
قالت: وأدركني عمّهنّ بالسيف، فأصابت ظبته طائفة من قرون رأسيه. وقال: ألقي إليّ ابنة أخي يا دفار (1) فألقيتها إليه، ثم انطلقت إلى أخت لي ناكح في بني شيبان أبتغي الصحابة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فبينما أنا عندها ليلة، تحسب عيني نائمة، إذ دخل زوجها من السّامر، فقال: وأبيك لقد أصبت لقيلة صاحب صدق، حريث بن حسّان الشّيباني فقالت أختي: الويل لي، لا تخبرها فتتّبع أخا بكر بن وائل بين سمع الأرض وبصرها، ليس معها رجل من قومها.
قالت: فصحبت صاحب صدق، حتى قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فصليت معها الغداة حتى إذا طلعت الشمس دنوت، فكنت إذا رأيت رجلا، ذا رواء أو ذا قشر. طمح بصري إليه، فجاء رجل فقال: السلام عليك يا رسول الله. فقال:
وعليك السلام. وهو قاعد القرفصاء، وعليه أسمال مليّتين، ومعه عسيب نخلة مقشور غير خوصتين من أعلاه قال: فتقدّم صاحبى يبايعه على الإسلام. ثم قال:
يا رسول الله، اكتب لي بالدّهناء لا يجاوزها من تميم إلينا إلّا مسافر أو مجاور، فقال: يا غلام اكتب له قالت: فشخص بي وكانت وطني وداري فقلت: يا رسول الله، الدّهناء مقيّد الجمل، ومرعى الغنم، وهذه نساء بني تميم وراء ذلك. فقال:
«صدقت المسكينة، المسلم أخو المسلم، يسعهما الماء والشّجر ويتعاونان على الفتّان». قالت: ثمّ أمر عليه السلام فكتب لي في قطعة أدم أحمر: لقيلة والنّسوة بنات قيلة لا يظلمن حقّا ولا يكرهن على منكح، وكلّ مؤمن مسلم لهنّ نصير، أحسنّ ولا تسئن».
وقال صلّى الله عليه: أيلام ابن هذه أن يفصل الخطّة، وينتصر من وراء الحجرة.
قالت: فلما رأى حريث أنه قد حيل دون كتابه صفق إحدى يديه على الأخرى ثم قال: كنت أنا وأنت كما قال الأوّل: حتفها حملت ضأن بأظلافها.
__________
(1) أي يا منتنة.(4/52)
قالت: فقلت: أما والله لقد كنت دليلا في الليلة الظلماء، جوادا لذي الرّحل، عفيفا عن الرفيقة، صاحب صدق حتّى قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه. على أنّي أسأل حظّي إذا سألت حظّك. قال: وما حظّك من الدهناء؟ لا أبا لك! قالت:
مقيّد جملي تسأله لجمل امرأتك. قال: أما إني أشهد رسول الله صلّى الله عليه أني لك أخ ما حييت إذ أثنيت هذا عليّ عنده. قالت: إذ بدأتها فإنّي لا أضيّعها.
وقف المهديّ وقد حجّ على امرأة من طيئ فقال: ممّن العجوز؟ قالت من طيئ قال: ما منع طيئا أن يكون فيها آخر مثل حاتم؟ قالت: الذي منع العرب أن يكون فيها آخر مثلك.
قالوا: سارت بنو سعد إلى بكر بن وائل، وكانت فيهم جارية عاشق فاكتلأت تنظر، فرأت رجلا معتجرا بشقّة برد متنكّبا قوسه فلاحت لها صفحة القوس، فأنبهت أباها وقالت: يا أبه: إني رأيت متن سيف أو صفحة قوس على موضع السّلاح في الشّمال، من رجل أجلى الجبين برّاق الثّنايا، كأنّ عمامته ملويّة بشجرة. فقال: يا بنية، إنّي لأبغض الفتاة الكلوء العين (1). قالت: والله ما كذبتك. فصاح في قومه فأنذرهم. فقالوا: ما نيّة ابنتك في هذه الساعة، إنها عاشقة، فاستحيا الشيخ فانصرف، فقالت ابنته: ارتحل فإنّ الجيش مصبّحك.
ووقعت بنو سعد ببكر بن وائل فقتلوا وملأوا أيديهم من السّبي والغارة.
قال الأصمعي: قيل لامرأة: علام تمنعين زوجك القضّة؟ فإنه يعتلّ بك.
فقالت: كذب والله، إني لأطأطئ الوساد وأرخى اللّباد.
رقية أعرابية
قال بعضهم: سمعت أعرابية بالحجاز ترقي رجلا من العين فقالت: أعيذك بكلمات الله التامّة، التي لا تجوز عليها هامّة، من شرّ الجنّ وشرّ الإنس عامة، وشرّ النّظرة واللّامّة، أعيذك بمطلع الشمس، من شرّ ذي مشي همس، وشرّ ذي نظر خلس، وشر ذي قول دسّ، من شرّ الحاسدين والحاسدات، والنّافسين والنافسات، والكائدين والكائدات.
__________
(1) الكلواء العين: الشديدة المراقبة.(4/53)
نشّرت عنك بنشرة نشّار، عن رأسك ذي الأشعار، وعن عينيك ذواتي الأشفار، وعن فيك ذي المحار، وظهرك ذي الفقار، وبطنك ذي الأسرار، وفرجك ذي الأستار، ويديك ذواتي الأظفار، ورجليك ذواتي الآثار، وذبلك ذي الغبار، وعنك فضلا وذا إزار، وعن بيتك فرجا وذا أستار. رششت بماء بارد نارا، وعينين وأشفارا، وكان الله لك جارا.
معاوية وسودة بنت عمارة
وفدت سودة بنت عمارة الهمدانيّة على معاوية فقال لها: ما حاجتك؟ قالت:
إنك أصبحت للنّاس سيّدا، ولأمرهم متقلّدا، والله مسائلك عن أمرنا، وما افترض عليك من حقّنا، ولا يزال يقدم علينا من ينوء بعزّك، ويبطش بسلطانك، فيحصدنا حصد السنبل، ويدوسنا دوس البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسألنا الجليلة. هذا بسر بن أرطاة قدم علينا من قبلك، فقتل رجالي، وأخذ مالي، يقول لي: قوهي.
بما أستعصم الله منه، وألجأ إليه فيه، ولولا الطّاعة لكان فينا عزة ومنعة فإمّا عزلته عنا فشكرناك، وإما لا فعرفناك.
فقال معاوية: أتهددينني بقومك؟ لقد هممت أن أحملك على قتب أشرس، فأردّك إليه ينفذ فيك حكمه فأطرقت تبكي ثم أنشأت تقول (1): [البسيط]
صلّى الإله على جسم تضمّنه ... قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحقّ لا يبغي به بدلا ... فصار بالحقّ والإيمان مقرونا
قال لها: ومن ذاك؟ قالت: عليّ بن أبي طالب عليه السلام. قال: وما صنع بك حتى صار عندك كذا؟ قالت:
قدمت عليه في متصدّق قدم علينا من قبله، والله ما كان بيني وبينه إلّا ما بين الغثّ والسّمين، فأتيت عليّا عليه السلام لأشكو إليه ما صنع، فوجدته قائما يصلي.
فلما نظر إليّ انفتل من صلاته ثم قال لي برأفة وتعطّف: ألك حاجة؟ فأخبرته الخبر، فبكى ثم قال: اللهمّ إنّك أنت الشّاهد عليّ وعليهم، إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقّك. ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجراب، فكتب فيها:
__________
(1) البيتان في العقد الفريد 2/ 102.(4/54)
بسم الله الرّحمن الرّحيم {قَدْ جََاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزََانَ} [الأعراف:
85].
{وَلََا تَبْخَسُوا النََّاسَ أَشْيََاءَهُمْ وَلََا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللََّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمََا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} (86) [هود: 8685].
إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام. فأخذته منه والله ما ختمه بطين ولا خزمه بخزام، فقرأته.
فقال لها معاوية: لقد لمّظكم ابن أبي طالب الجرأة على السّلطان فبطيئا ما تفطمون. ثم قال: اكتبوا لها بردّ مالها والعدل عليها. قالت: إلى خاصّة أم لقومي عامة. قال: ما أنت وقومك. قالت: هي والله إذا الفحشاء واللّؤم. إن كان عدلا شاملا، وإلا فأنا كسائر قومي، قال: اكتبوا لها ولقومها.
معاوية والزرقاء بنت عدي
وأوفد معاوية الزّرقاء بنت عدي بن غالب فقال لها: ألست راكبة الجمل الأحمر يوم صفّين بين صفّين، توقدين الحرب، وتحضّين على القتال؟ فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين إنّه قد مات الرأس، وبقي الذنب، والدهر ذو غير، ومن تفكّر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر.
قال لها: صدقت. فهل تحفظين كلامك يوم صفّين؟ قالت: ما أحفظه قال:
ولكنّي والله أحفظه. لله أبوك! لقد سمعتك تقولين:
أيّها النّاس إنّكم في فتنة، غشّتكم جلابيب الظّلم وجارت بكم عن قصد المحجّة، فيا لها من فتنة عمياء صمّاء لا يسمع لقائلها، ولا ينقاد لسائقها.
أيها الناس إن المصباح لا يضيء في الشمس، وإن الكواكب لا تقد في القمر، وإنّ البغل لا يسبق الفرس، وإنّ الزّفّ (1) لا يوازن الحجر، ولا يقطع
__________
(1) الزفّ: صغير الريش، أو صغير ريش النعام خاصة.(4/55)
الحديد إلّا الحديد، ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن استخبر أخبرناه، إنّ الحقّ كان يطلب ضالّته، فصبرا يا معشر المهاجرين والأنصار، فكأن قد اندمل شعب الشتات، والتأمت كلمة العدل، وغلب الحق باطله، فلا يعجلنّ أحد فيقول: كيف وأنّى. ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
ألا إنّ خضاب النساء الحنّاء، وخضاب الرجال الدماء، والصبر خير في الأمور عواقبا، إلى الحرب قدما غير ناكصين، فهذا يوم له ما بعده.
ثم قال معاوية: والله يا زرقاء لقد شركت عليّا في كلّ دم سفكه، فقالت:
أحسن الله بشارتك يا أمير المؤمنين، وأدام سلامتك، مثلك من بشّر بخير وسرّ جليسه. قال لها: وقد سرك ذاك؟ قالت: نعم والله لقد سرّني قولك فأنّى بتصديق الفعل؟ فقال معاوية: والله لوفاؤكم له بعد موته أحبّ إليّ من حبّكم له في حياته.
معاوية وأم الخير بنت الحريش
وأوفد أمّ الخير بنت الحريش البارقيّة فقال لها: كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر؟ قالت: لم أكن والله روّيته قبل ولا دوّنته بعد. وإنما كانت كلمات نفثهنّ لساني حين الصّدمة. فإن شئت أن أحدث لك مقالا غير ذلك فعلت. قال:
لا أشاء ذلك. ثم التفت إلى أصحابه فقال: أيكم حفظ كلام أمّ الخير؟ قال رجل من القوم: أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظي سورة الحمد. قال: هاته. قال:
نعم كأنّي بها يا أمير المؤمنين في ذلك اليوم وعليها برد زبيدي، كثيف الحاشية، وهي على جمل أرمك (1) وقد أحيط حولها وبيدها سوط منتشر الضّفيرة، وهي كالفحل يهدر في شقشقته، تقول:
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السََّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (1) [الحج:
1]. إنّ الله قد أوضح الحقّ، وأبان الدليل، ونوّر السبيل، ورفع العلم فلم يدعكم في عمياء مبهمة، ولا سوداء مدلهمّة، فإلى أين تريدون رحمكم الله؟ أفرارا عن أمير المؤمنين، أم فرارا من الزّحف، أم رغبة عن الإسلام، أم ارتدادا عن
__________
(1) الأرمك: الأحمر يخالطه سواد.(4/56)
الحقّ؟ أما سمعتم الله عزّ وجلّ يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتََّى نَعْلَمَ الْمُجََاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصََّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبََارَكُمْ} (31) [محمد: 31].
ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهم قد عيل الصّبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرّعية، وبيدك يا ربّ أزمّة القلوب، فاجمع إليه كلمة التّقوى، وألّف القلوب على الهدى، واردد الحقّ إلى أهله هلمّوا رحمكم الله إلى الإمام العادل، والوصيّ الوفي، والصديق الأكبر، إنها إحن بدريّة، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحديّة وثب بها معاوية حين الغفلة، ليدرك بها ثارات بني عبد شمس.
ثم قالت: {فَقََاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لََا أَيْمََانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ}
[التوبة: 12] صبرا معشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربّكم، وثبات من دينكم فكأنّي بكم غدا قد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة فرّت من قسورة، لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضّلالة بالهدى، وباعوا البصيرة بالعمى. {قََالَ عَمََّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نََادِمِينَ} (40) [المؤمنون: 40]. تحل بهم النّدامة فيطلبون الإقالة. إنّه والله من ضلّ عن الحقّ وقع في الباطل، ومن لم يسكن الجنة نزل النّار.
أيّها الناس، إن الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها، واستبطؤوا الآخرة فسعوا لها. والله أيها الناس لولا أن تبطل الحقوق، وتعطّل الحدود، ويظهر الظالمون. وتقوى كلمة الشيطان، لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه. فإلى أين تريدون رحمكم الله؟ عن ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه، وزوج ابنته، وأبي ابنيه، خلق من طينته، وتفرّع من نبعته، وخصّه بسره، وجعله باب مدينته، وعلم المسلمين وأبان ببغضه المنافقين. فلم يزل كذلك يؤيّده الله عزّ وجلّ بمعونته، ويمضي على سنن استقامته، لا يعرج لراحة الدار.
ها هو مفلق الهام، ومكسّر الأصنام، إذ صلّى والناس مشركون، وأطاع والناس مرتابون، فلم يزل كذلك حتّى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وفرّق جمع هوازن. فيا لها من وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقا، وردّة وشقاقا. قد اجتهدت في القول، وبالغت في النصيحة وبالله التوفيق وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.(4/57)
فقال معاوية: والله يا أمّ الخير ما أردت بهذا الكلام إلّا قتلى، وو الله لو قتلتك ما حرجت في ذلك. قالت: والله ما يسوؤني يا بن هند أن يجري الله ذلك على يدي من يسعدني بشقائه، قال: هيهات يا كثيرة الفضول: ما تقولين في عثمان ابن عفان؟ قالت: وما عسيت أن أقول فيه؟ أستخلفه الناس وهم كارهون، وقتلوه وهم راضون.
فقال معاوية: إيها يا أم الخير. هذا والله أصلك الذي تبنين عليه. قالت:
{لََكِنِ اللََّهُ يَشْهَدُ بِمََا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلََائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى ََ بِاللََّهِ شَهِيداً}
(166) [النساء: 166] ما أردت لعثمان نقصا. ولقد كان سبّاقا إلى الخيرات وإنّه لرفيع الدرجة. قال: فما تقولين في طلحة بن عبيد الله؟ قالت: وما عسى أن أقول في طلحة؟ اغتيل من مأمنه، وأتي من حيث لم يحذر. وقد وعده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجنّة.
قال: فما تقولين في الزبير؟ قالت: يا هذا لا تدعني كرجيع الضبع (1) يعرك في المركن (2) قال: حقّا لتقولنّ ذلك. وقد عزمت عليك. قالت: وما عسيت أن أقول في الزبير ابن عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحوارّيه؟ وقد شهد له رسول الله صلّى الله عليه بالجنّة. ولقد كان سبّاقا إلى كلّ مكرمة من الإسلام. وإني أسألك بحقّ الله يا معاوية فإنّ قريشا تحدّث أنّك من أحلمها، فأنا أسألك بأن تسعني بفضلك، وأن تعفيني من هذه المسائل. وامض لما شئت من غيرها. قال: نعم وكرامة قد أعفيتك، وردّها مكرمة إلى بلدها.
الجمانة بنت المهاجر وابن الزبير
ذكر أنّ الجمانة بنت المهاجر بن خالد بن الوليد نظرت إلى عبد الله بن الزبير وهو يرقى المنبر، يخطب بالناس في يوم جمعة فقالت حين رأته في المنبر: أيا نقّار انقر. أما والله لو كان فوقه نجيب من بني أمية، أو صقر من بني مخزوم لقال المنبر: طيق طيق. قال: فأنمي كلامها إلى عبد الله بن الزبير، فبعث إليها فأتي بها فقال لها: ما الذي بلغني عنك يا لكاع؟ قالت: الحقّ أبلغت يا أمير المؤمنين،
__________
(1) رجيع الضبع: نجوه.
(2) المركن: قطعة من أدم تتخذ للماء.(4/58)
قال: فما حملك على ذلك؟ قالت: لا تعدم الحسناء ذاما (1). والساخط ليس براض. ومع ذلك فما عدوت فيما قلت لك إن نسبتك إلى التواضع والدين، وعدوّك إلى الخيلاء والطمع. ولئن ذاقوا وبال أمرهم لتحمدنّ عاقبة شأنك، وليس من قال فكذب كمن حدّث وصدق. وأنت بالتجاوز جدير، ونحن للعفو أهل، فاستر عليّ الحرمة، تستتمّ النعمة، فو الله ما يرفعك القول ولا يضعك. وإنّ قريشا لتعلم إنّك عابدها وشجاعها، وسنانها ولسانها، حاط الله لك دنياك، وعصم أخراك، وألهمك شكر ما أولاك.
ذكر الأصمعي عن أبان بن تغلب قال: خرجت في طلب الكلأ، فانتهيت إلى ماء من مياه كلب، وإذا أعرابي على ذلك الماء ومعه كتاب منشور يقرؤه عليهم، وجعل يتوعّدهم. فقالت له أمّه وهي في خبائها، وكانت مقعدة كبرا: ويلك! دعني من أساطيرك. لا تحمل عقوبتك على من لم يحمل عليك، ولا تتطاول على من لا يتطاول عليك. فإنك لا تدري ما يقرّبك إليه حوادث الدهور، ولعلّ من صيّرك إلى هذا اليوم أن يصير غيرك إلى مثله غدا، فينتقم منك أكثر ممّا انتقمت منه، فاكفف عمّا أسمع منك ألم تسمع إلى قول الأوّل (2): [المنسرح]
لا تحقرنّ الفقير علّك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه
وصية أعرابية
قال مهدي بن أبان: قلت لولّادة العبدية وكانت من أعقل النساء إنّي أريد الحجّ فأوصني. قالت: أوجز فأبلغ، أم أطيل فأحكم. فقلت: ما شئت. قالت:
جد تسد، واصبر تفز، قلت: أيضا قالت: لا يتعدّ غضبك حلمك، ولا هواك علمك، وق دينك بدنياك، وفر عرضك بعرضك، وتفضّل تخدم، واحلم تقدم.
قلت: فمن أستعين؟ قالت: الله. قلت: من الناس؟ قالت: الجلد النشيط، والناصح الأمين.
__________
(1) انظر مجمع الأمثال 2/ 136، والذام: العيب.
(2) البيت للأضبط بن قريع في الأغاني 18/ 68، والحماسة الشجرية 1/ 474، والدرر 2/ 164، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1151، والشعر والشعراء 1/ 390، والمعاني الكبير ص 495، وتاج العروس (ركع)، وبلا نسبة في لسان العرب (قنس)، (ركع)، (هون)، واللمع ص 278، ومغني اللبيب 1/ 155.(4/59)
قلت: فمن أستشير؟ قالت: المجرّب الكيس، أو الأديب الصغير.
قلت: فمن أستصحب؟ قالت: الصديق المسلم، أو المداجي المتكرّم. ثمّ قالت: يا أبتاه إنّك تفد إلى ملك الملوك، فانظر كيف يكون مقامك بين يديه.
حديث أم معبد الخزاعية
روي أنّ رسول الله صلّى الله عليه خرج ليلة هاجر من مكّة إلى المدينة وأبو بكر رحمه الله وعامر بن فهيرة ودليلهما الليثي عبد الله بن أريقط. فمرّوا على خيمة أم معبد الخزاعية وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء الكعبة، ثمّ تسقى وتطعم فسألوها لحما وتمرا ليشتروه منها فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وكان القوم مرملين مسنين. فنظر رسول الله صلّى الله عليه إلى شاة في كسر الخيمة. فقال: ما هذه الشاة يا أمّ معبد؟ قالت: شاة خلّفها الجهد عن الغنم. قال: هل بها من لبن؟
قالت: هي أجهد من ذلك. قال: أتأذنين أن أحلبها. قالت: بأبي وأمي أنت.
نعم: إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشاة فمسح ضرعها، وسمّى الله ودعا لها في شاتها، فتفاجّت (1) عليه ودرّت وأخترت (2) ودعا بإناء يربض الرّهط (3) فحلب فيه ثجّا حتّى غلبه الثمال، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتّى رووا، ثم شرب آخرهم، وقال: ساقي القوم آخرهم شربا. فشربوا جميعا عللا بهد نهل، ثم أراضوا، ثمّ حلب فيه ثانيا عودا على بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها وبايعها وارتحلوا عنها.
فقلّ ما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا حيّلا عجافا تساوك (4)
هزالا، مخهنّ قليل ولا نقابهنّ فلمّا رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: من أين هذا يا أمّ معبد؟ والشاء عازبة حيال (5)، ولا حلوبة في البيت. فقالت: لا والله، إلّا أنه مرّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت. قال: صفيه لي يا أمّ معبد، فقالت:
رأيت رجلا ظاهر الوضاءة أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة (6) ولم
__________
(1) تفاجّت: أي بالغت في تفريج رجليها.
(2) أخترت: أكثرت.
(3) يربض الرهط: أي يرويهم ويشبعهم.
(4) تساوك: تسير سيرا ضعيفا.
(5) الحيال: غير الحامل.
(6) الثجلة: ضخامة البطن.(4/60)
تزر به صعلة (1)، وسيما قسيما في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف (2) وفي صوته صحل (3)، وفي عنقه سطع (4)، وفي لحيته كثافة، أحور أكحل، أزجّ (5) أقرن (6)، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلّم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، كأنّ منطقه خرزات نظم تتحدّرن: ربعة لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه العين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا له، رفقاء يحفّون به، إن قال:
أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود (7) محشود (8) لا عابس ولا مفنّد صلّى الله عليه وسلّم.
قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره بمكّة ما ذكر.
ولو كنت وافقته لالتمست صحبته، ولأفعلنّ إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
وصية أخرى لأعرابية
قال أبان بن تغلب: سمعت امرأة توصي ابنا لها وأراد سفرا فقالت: أي بني، أوصيك بتقوى الله، فإنّ قليله أجدى عليك من كثير عقلك، وإياك والنمائم.
فإنها تورث الضغائن، وتفرّق بين المحبّين، ومثّل لنفسك مثال ما تستحسن لغيرك ثمّ اتّخذه إماما، وما تستقبح من غيرك فاجتنبه، وإيّاك والتعرّض للعيوب فتصير نفسك غرضا، وخليق ألا يلبث الغرض على كثرة السهام، وإياك والبخل بمالك، والجود بدينك. فقالت أعرابية معها: أسألك إلّا زدته يا فلانة في وصيّتك قالت: أي والله والغدر أقبح ما يعامل به الإخوان، وكفى بالوفاء جامعا لما تشتّت من الإخاء ومن جمع العلم والسخاء فقد استجاد الحلّة، والفجور أقبح خلّة وأبقى عارا.
وصف امرأة عروة له
قامت امرأة عروة بن الورد العبسي بعد أن طلّقها في النادي فقالت: أما إنّك
__________
(1) الصعلة: صغر الرأس.
(2) الوطف: طول الأهداب.
(3) الصحل: البحة.
(4) السطع: الطول.
(5) الزجج: تقوس في الحواجب مع طول وامتداد.
(6) الأقرن: المقترن الحواجب.
(7) المحفود: من الحفدة، وهم الأعوان.
(8) المحشود: من الحشد، والمعنى أن الناس يحفون به ويخدمونه لأنه مطاع فيهم.(4/61)
والله الضحوك مقبلا، السكوت مدبرا، خفيف على ظهر الفرس، ثقيل على متن العدوّ، رفيع العماد، كثير الرماد، ترضي الأهل والجانب. قال: فتزوّجها رجل بعده فقال: أثن عليّ كما أثنيت عليه. قالت: لا تحوجني إلى ذلك فإنّي إن قلت قلت حقّا فأبى، فقالت: إنّ أكلك لاقتفاف وإن شربك لاشتفاف، وإنك لتنام ليلة تخاف، وتشبع ليلة تضاف.
وصف نساء لبناتهن ووصاياهن لهن
بعث النعمان بن امرىء القيس بن عمرو بن عدي بن نصر إلى نسوة من العرب منهنّ فاطمة بنت الخرشب وهي من بني أنمار بن بغيض، وهي أمّ الربيع بن زياد وإخوته، وإلى قيلة بنت الحسحاس الأسدية، وهي أمّ خالد بن صخر بن الشريد، وإلى تماضر بنت الشريد، وهي أمّ قيس بن زهير وإخوته كلّهم، وإلى الرواع النمرية، وهي أم يزيد بن الصعق فلمّا اجتمعن عنده. قال: إني قد أخبرت بكنّ، وأردت أن أنكح إليكنّ فأخبرنني عن بناتكنّ. فقالت: فاطمة عندي الفتخاء (1) العجزاء، أصفى من الماء، وأرقّ من الهواء، وأحسن من السماء.
وقالت تماضر: عندي منتهى الوصّاف، دفيئة اللحاف، قليلة الخلاف.
وقالت الرواع: عندي الحلوة الجهمة، لم تلدها أمة.
وقالت قيلة: عندي ما يجمع صفاتهنّ وفي ابنتي ما ليس في بناتهنّ.
فتزوّج إليهنّ جميعا فلما أهدين إليه دخل على ابنة الأنمارية فقال: ما أوصتك به أمّك؟ قالت: قالت لي: عطري جلدك، وأطيعي زوجك، واجعلي الماء آخر طيبك.
ثمّ دخل على ابنة السلمية فقال: ما أوصتك به أمّك؟ قالت: قالت لي: لا تجلسي بالفناء، ولا تكثري من المراء، واعلمي أنّ أطيب الطيب الماء.
ثم دخل على ابنة النمرية فقال: ما أوصتك به أمّك؟ قالت: قالت لي: لا تطاوعي زوجك فتملّيه، ولا تعاصيه فتشكعيه (2)، واصدقيه الصغار، واجعلي آخر طيبك الماء.
__________
(1) الفتخاء: المرتفعة الأثداء، وهو في المرأة مدح.
(2) شكع: ملّ وضجر.(4/62)
ثم دخل على ابنة الأسدية فقال: ما أوصتك به أمّك؟ قالت: قالت لي:
أدني سترك، وأكرمي زوجك، واجتنبي الإباء، واستنظفي بالماء.
وصف أربعة رجال لنسائهن
وكانت امرأة من العرب عند رجل فولدت له أولادا أربعة رجالا ثم هلك عنها زوجها فتزوّجت بعده، فنأى بها زوجها عن بنيها، وتزوّجوا بعدها ثم إنّها لقيتهم فقالت: يا بنيّ، إني سائلتكم عن نسائكم فأخبروني عنهنّ. قالوا: نفعل.
فقالت لأحدهم: أخبرني عن امرأتك، فقال: غلّ في وثاق، وخلق لا يطاق، حرمت وفاقها، ومنعت طلاقها.
وقالت للثاني: كيف وجدت امرأتك؟ قال: حسن رائع، وبيت ضائع، وضيف جائع.
وقالت للثالث: كيف وجدت امرأتك؟ قال: دلّ لا يقلى، ولذة لا تقضى وعجب لا يفنى، وفرح مضلّ، أصاب ضالّته وريح روضة أصابت ربابها.
قالت: فهلّا أصف لكم كيف وجدت زوجي. قالوا: بلى، قالت: حيل ظعينة، وليث عرينة، وظلّ صخر وجوار بحر.
كانت حميدة بنت النعمان بن بشير بن سعد تحت روح بن زنباع فنظر إليها يوما تنظر إلى قومه جذام وقد اجتمعوا عنده فلامها. فقالت: وهل أرى إلا جذاما؟
فو الله ما أحبّ الحلال منهم فكيف الحرام.
قالت الجمانة بنت قيس بن زهير العبسي لأبيها لمّا شرق ما بينه وبين الربيع ابن زياد في الدرع: دعني أناظر جدي، فإن صلح الأمر بينكما، وإلّا كنت من وراء رأيك. فأذن لها فأتت الربيع فقالت: إن كان قيس أبي فإنّك يا ربيع جدّي، وما يجب له من حقّ الأبوة علي إلا كالذي يجب عليك من حقّ النبوة لي، والرأي الصحيح تبعثه العناية، وتجلّى عن محضة النصيحة. إنّك قد ظلمت قيسا بأخذ درعه، وأجد مكافأته إيّاك سوء غرمه، والمعارض منتصر، والبادي أظلم، وليس قيس ممّن يخوّف بالوعيد، ولا يردعه التهديد، فلا تركننّ إلى منابذته، فالحزم في متاركته، والحرب متلفة للعباد، ذهّابة بالطارف والتلاد، والسلم أرخى للبال،
وأبقى لأنفس الرجال. وبحقّ أقول. لقد صدعت بحكم، وما يدفع قولي إلا غير ذي فهم.(4/63)
قالت الجمانة بنت قيس بن زهير العبسي لأبيها لمّا شرق ما بينه وبين الربيع ابن زياد في الدرع: دعني أناظر جدي، فإن صلح الأمر بينكما، وإلّا كنت من وراء رأيك. فأذن لها فأتت الربيع فقالت: إن كان قيس أبي فإنّك يا ربيع جدّي، وما يجب له من حقّ الأبوة علي إلا كالذي يجب عليك من حقّ النبوة لي، والرأي الصحيح تبعثه العناية، وتجلّى عن محضة النصيحة. إنّك قد ظلمت قيسا بأخذ درعه، وأجد مكافأته إيّاك سوء غرمه، والمعارض منتصر، والبادي أظلم، وليس قيس ممّن يخوّف بالوعيد، ولا يردعه التهديد، فلا تركننّ إلى منابذته، فالحزم في متاركته، والحرب متلفة للعباد، ذهّابة بالطارف والتلاد، والسلم أرخى للبال،
وأبقى لأنفس الرجال. وبحقّ أقول. لقد صدعت بحكم، وما يدفع قولي إلا غير ذي فهم.
وقال المدائني: لما أهديت بنت عقيل بن علّفة إلى الوليد بن عبد الملك بن مروان بعث مولاة له لتأتيه بخبرها قبل أن يدخل بها، فأتتها فلم تأذن لها، أو كلّمتها فأحفظتها فهشمت أنفها، فرجعت إليه فأخبرته، فغضب من ذلك، فلمّا دخل عليها قال: ما أردت إلى عجوزنا هذه؟ قالت: أردت والله إن كان خيرا أن تكون أوّل من لقي بهجته، وإن كان شرا أن تكون أحقّ من ستره.
لما انهزم الناس عن المختار مر أبو محجن الثقفي بأمّه واسمها دومة فقال:
يا دومة ارتدّ في حلفي. قالت: والله لأن يأخذني هؤلاء أحبّ إلي من أن أرى خلفك.
كانت رقاش بنت عمرو عند كعب بن مالك، فقال لها يوما: اخلعي درعك قالت: خلع الدرع بيد الزوج. قال: اخلعيه لأنظر إليك، قالت: التجرّد لغير نكاح مثله.
كان تميم الداري يبيع العطر في الجاهلية وكان من لخم، فخطب أسماء بنت أبي بكر في جاهليته فماكسهم (1) في المهر فلم يزوّجوه. فلما جاء الإسلام جاء بعطر يبيعه فساومته أسماء فماكسها فقالت له: طال ما ضرك مكاسك، فلمّا عرفها استحيا وسامحها في بيعه.
أرسل مسلمة بن عبد الملك إلى هند بنت المهلّب وخطبها على نفسه، فقالت لرسوله: والله لو أحيا من قتل من أهل بيتي وموالي ما طابت نفسي بتزويجه بل كيف يأمنني على نفسه، وأنا أذكر ما كان منه وثأري عنده، لقد كان صاحبك يوصف بغير هذا في رأيه.
وخطب عبد الملك بن مروان رملة بنت الزبير بن العوام، فردّته وقالت لرسوله: إني لا آمن نفسي على من قتل أخي. وكانت أخت مصعب لأمّه. كانت أمّهما الكلبية.
__________
(1) ماكسه في البيع: جادله وحاول أن ينقص الثمن.(4/64)
من قول ذات النطاقين لابنها
دخل عبد الله بن الزبير على أمّه أسماء بنت أبي بكر في اليوم الذي قتل فيه، فقال: يا أمّة خذلني النّاس حتى أهلي وولدي ولم يبق معي إلا اليسير ومن لا دفع عنده أكثر من صبر ساعة من النّهار. وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ قالت: إن كنت على حقّ تدعو إليه فامض عليه، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكّن من رقبتك غلمان بني أميّة فيتلعّبوا بك. وإن قلت: إني كنت على حقّ فلمّا وهن أصحابي ضعفت نيتي فليس هذا فعل الأحرار، ولا فعل من فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما تقع به يا بن الزّبير. ولله لضربة بالسيف في عزّ أحبّ إليّ من ضربة بسوط في ذلّ.
قال لها: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيا إلى الله. والله ما دعاني إلى الخروج إلّا الغضب لله عز وجل أن تهتك محارمه. ولكنّي أحببت أن أطّلع رأيك فيزيدني قوة وبصيرة مع قوّتي وبصيرتي. والله ما تعمّدت إتيان منكر ولا عملا بفاحشة، ولم أجر في حكم، ولم أغدر في أمان، ولم يبلغني عن عمالي فرضيت به. بل أنكرت ذلك ولم يكن شيء عندي آثر من رضا ربّي.
اللهمّ إني لا أقول ذلك تزكية لنفسي، ولكن أقوله تعزية لأمّي لتسلو عنّي.
قالت له: والله إنّي لأرجو أن يكون عزائي فيك حسنا بعد أن تقدّمتني أو تقدّمتك، فإنّ في نفسي منك حرجا حتّى أنظر إلى ما يصير أمرك.
ثمّ قالت: اللهمّ ارحم طول ذاك النّحيب والظّمأ في هواجر المدينة ومكّة وبرّه بأمّه. اللهم إنّي قد سلّمت فيه لأمرك، ورضيت فيه بقضائك، فأثبتي في عبد الله ثواب الشاكرين. فودّعها وقال: يا أمّه لا تدعي الدعاء لي قبل قتلي ولا بعده.
قالت: لن أدعه لك. فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. فخرج وهو يقول (1): [الطويل] فلست بمبتاع الحياة بسبّة ... ولا مرتق من خشية الموت سلّما
وقال لأصحابه: احملوا على بركة الله. وحارب حتّى قتل.
__________
(1) البيت للحصين بن الحمام المري في شرح اختيارات المفضل 333، والمفضليات ص 69.(4/65)
وروي أنه دخل على أمّه أسماء وهي عليلة، فقال: يا أمّه. إنّ في الموت لراحة، فقالت: يا بنيّ لعلّك تتمنّى موتي. فو الله ما أحبّ أن أموت حتّى تأتي على أحد طرفيك فإما أن تظفر بعدوّك فتقرّ عيني، وإما أن تقتل فأحتسبك. قال:
فالتفت إلى أخيه عروة وضحك.
فلما كان في اللّيلة التي قتل في صبيحتها دخل في السّحر عليها فشاورها، فقالت: يا بنيّ لا تجيبنّ إلى خطّة تخاف على نفسك القتل. قال: إنّما أخاف أن يمثّلوا بي. قالت: يا بنيّ إن الشّاة لا تألم السلخ بعد الذبح.
خطب عمران بن موسى بن طلحة هند بنت أسماء بن خارجة الفزاري فردّته، وأرسلت إليه: إني والله ما بي عنك رغبة، ولكن ليس زوجي إلا من لا يودى قتلاه ولا يردّ قضاؤه، وليس ذلك عندك.
الحسن بن علي وإحدى زوجاته
حجّت أم حبيب بنت عبد الله بن الأهتم، فبعث إليها الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام فخطبها، فقالت: إنّي لم آت هذا البلد للتّزويج، وإنّما جئت لزيارة هذا البيت فإذا قدمت بلدي وكانت لك حاجة فشأنك. قال: فازداد فيها رغبة، فلمّا صارت إلى البصرة أرسل إليها فخطبها، فقال إخوتها: إنّها امرأة لا يفتات على مثلها برأي، وأتوها فأخبروها الخبر، فقالت: إن تزوّجني على حكمي أجبته. فأدوا ذلك إليه فقال: امرأة من تميم أتزوّجها على حكمها. ثم قال: وما عسى أن يبلغ حكمها لها؟ قال: فأعطاها ذلك. فقالت: قد حكمت بصداق أزواج النبي صلّى الله عليه وبناته اثنتي عشرة أوقية، فتزوّجها على ذلك، وأهدى لها مائة ألف درهم. فجاءت إليه فبنى بها في ليلة قائظة على سطح لا حظار (1) عليه، فلمّا غلبته عينه أخذت خمارها فشدّته في رجله، وشدّت الطّرف الآخر في رجلها.
فلمّا انتبه من نومه رأى الخمار في رجله، فقال: ما هذا؟ قالت: أنا على سطح ليس عليه حظار، ومعي في الدار ضرائر، ولم آمن عليك وسن النّوم، ففعلت هذا حتى إذا تحركت تحركت معك. قال: فازداد فيها رغبة، وبها عجبا.
__________
(1) الحظار: الحائط.(4/66)
ثم لم يلبث أن مات عنها فكلّموها في الصلح عن ميراثه. فقالت: ما كنت لآخذ له ميراثا أبدا، وخرجت إلى البصرة، فبعث إليها نفر يخطبونها منهم يزيد بن معاوية لعنه الله وعبد الله بن الزّبير وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر فأتاها إخوتها فقالوا لها: هذا ابن أمير المؤمنين، وهذا ابن عمّة رسول الله صلّى الله عليه، وهذا ابن حواريّه، وهذا ابن عامر أمير البصرة. اختاري من شئت منهم. قال: فردّتهم جميعا. وقالت: ما كنت لاتّخذ حمى بعد ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ابن زياد وخارجية
وقال المدائني: أتي عبيد الله بن زياد بامرأة من الخوارج، فقطع رجلها وقال لها: كيف ترين؟ فقالت: إنّ في الفكر في هول المطّلع لشغلا عن حديدتكم هذه.
ثم قطع رجلها الأخرى وجذبها، فوضعت يدها على فرجها. فقال: إنك لتسترينه.
فقالت: لكنّ سمية أمّك، لم تكن تستره.
قال المهديّ للخيزران أم موسى وهارون ابنيه: إن موسى ابنك يتيه أن يسألني حوائجه. قالت: يا أمير المؤمنين، ألم تك أنت في حياة المنصور لا تبتدئه بحوائجك، وتحبّ أن يبتدئك هو؟ فموسى ابنك كذاك يحبّ منك. قال: لا، ولكنّ التّيه يمنعه. قالت: يا أمير المؤمنين، فمن أين أتاه التيه؟ أمن قبلي أم قبلك؟
حكاية مع أعرابية
روي عن بعضهم أنه قال: بينا أنا ذات يوم بالبادية، فخرجت في بعض الليالي في الظّلم، فإذا أنا بجارية كأنّها علم، فأردتها على نفسها فقالت: ويحك! أما لك زاجر من عقل إذ لم يكن لك ناه من دين؟ قلت لها: والله ما يرانا شيء إلا الكواكب. قالت: ويحك. وأين مكوكبها؟!
قال الجاحظ: لما مات رقبة بن مصقلة أوصى إلى رجل ودفع إليه شيئا.
فقال: ادفعه إلى أختي. فسأل الرّجل عنها فخرجت إليه فقال لها: أحضريني شاهدين يشهدان أنك أخته. فأرسلت جاريتها إلى الإمام والمؤذّن ليشهدا لها.
واستندت إلى الحائط، فقالت: الحمد لله الذي أبرز وجهي، وأنطق عني، وشهر
بالفاقة اسمي. فقال الرّجل: شهدت أنك أخته حقّا. ودفع الدنانير إليها، ولم يحتج إلى شهادة من يشهد لها.(4/67)
واستندت إلى الحائط، فقالت: الحمد لله الذي أبرز وجهي، وأنطق عني، وشهر
بالفاقة اسمي. فقال الرّجل: شهدت أنك أخته حقّا. ودفع الدنانير إليها، ولم يحتج إلى شهادة من يشهد لها.
خطب سعيد بن العاص عائشة بنت عثمان. فقالت: لا أتزوّج به والله أبدا، فقيل لها: ولم ذلك؟ قالت: لأنّه أحمق له برذونان أشهبان، فهو يتحمل مؤونة اثنين واللون واحد.
ذكر رجل من قريش سوء خلق امرأته بين يدي جارية كان يتحظّاها فقالت له: إنّما حظوظ الإماء لسوء خلائق الحرائر.
هند بنت أسماء تدافع عن أخيها
اختلف الحجاج وهند بنت أسماء ابن خارجة في بنات قين، فبعث إلى مالك ابن أسماء، فأخرجه من الحبس، وسأله عن الحديث فحدثه ثمّ أقبل على هند.
فقال لها: قومي إلى أخيك، فقالت: لا أقوم إليه وأنت ساخط عليه. فأقبل الحجاج على مالك فقال: إنك والله ما علمت للخائن لأمانته، اللئيم حسبه، الزّاني فرجه. فقالت هند: إن أذن الأمير تكلّمت. فقال: تكلّمي. فقالت: أما قول الأمير: الزّاني فرجه، فو الله لهو أحقر عند الله وأصغر في عين الأمير من أن يجب لله عليه حدّ فلا يقيمه.
وأمّا قول الأمير: اللئيم حسبه فو الله لو علم مكان رجل أشرف منه لصاهر إليه.
وأما قوله: الخائن أمانته. فو الله لقد ولّاه الأمير فوفّر، فأخذه بما أخذ به فباع ما وراء ظهره. ولو ملك الدنيا بأسرها لافتدى بها من مثل هذا الكلام.
أتى البرد على زرع عجوز بالبادية، فأخرجت رأسها من الخباء ونظرت إلى الزّرع قد احترق فقالت ورفعت رأسها إلى السماء: اصنع ما شئت فإنّ رزقي عليك.
قيل لرابعة (1): إنّ التزوّج فرض الله عز وجل فلم لا تتزوجين؟ فقالت:
فرض الله قطعني عن فرضه.
__________
(1) رابعة العدوية: هي رابعة بنت إسماعيل، مولاة آل عتيك، العدوية البصرية العابدة، المشهورة، توفيت سنة 186هـ. (انظر ترجمتها في: البداية والنهاية 10/ 196، حلية الأولياء 6/ 192، النجوم الزاهرة 1/ 330، الطبقات الكبرى للشعراني 1/ 56الكواكب الدرية 1/ 200).(4/68)
عاتكة بنت زيد وموت أزواجها
كانت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، عند عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقتل عنها، فخلف عليها عمر بن الخطاب فقتل عنها، فخلف عليها الزبير، فقتل، فخلف عليها محمد بن أبي بكر فقتل، فقال عبد الله بن عمر: من سرّه الشهادة فليتزوّج عاتكة. فبلغها ذلك فقالت: من سرّه أن يكون بيضة البلد، حبلى لا تطير ولا تلد: فليكن كعبد الله. فبلغ ذلك عبد الله بن جعفر الطيّار فضحك وقال: ما هو كما قالت إنّه لمصباح بلد، وابن كهف الإسلام.
وقد روي عن أمير المؤمنين كرّم الله وجهه أنه قال: من اشتاق إلى الشّهادة فليتزوج عاتكة.
وقد روي أنه رضي الله خطبها فقالت: يا أمير المؤمنين أنا أربأ بك عن القتل.
كان عمرو أحد بني كاهل يغزو فهما فيصيب منهم فوضعوا له رصدا على الماء فأخذوه فقتلوه. ثم مرّوا بأخته جنوب فقالوا: إنا طلبنا عمرا أخاك. قالت:
لئن طلبتموه لتجدنه منيعا، ولئن ضفتموه لتجدنّه مريعا، ولئن دعوتموه لتجدنّه سريعا. قالوا: قد أخذناه وقتلناه وهذا سلبه. قالت: لئن سلبتموه لتجدون ثنتة وافية، لا حجزته جافية ولا ضالته كافئة. ولربّ ثدي منكم قد افترشه، ونهب قد اقّترشه، وضبّ قد احترسه.
استعداء امرأة على زوجها
زوج رجل من بني أسد بنتا له تدعى أمّ مالك من ابن أخ له يدعى مرة بن الجعد، كان شرطا (1) من الرجال دميما، فجامحته وانسلّت بالليل، فوافت المدينة تستعدي حسن بن زيد العلوي على أبيها. فلما وقفت بين يديه نادت: أنا بالله وبك يا بن رسول الله، فقد جاوزت إليك مخاوف، وقطعت تنائف (2): أنتعل
__________
(1) الشرط: أراذل الناس.
(2) تنائف: جمع تنوفة، وهي المفازة.(4/69)
الحفى، وأحتمل الوجى (1) عائذة بالله وبك من والد مغبون، وقرين مأفون، شراني بأوكس الأثمان، وعكسني بدار مذلّة وهوان، من زوج كأنه كلب مصرور، على جيفة ممطور، في يوم صر مقرور، قد شرّد بغضه نوم الجفون واستجلب قلاه ماء الشؤون. فالنوم موثق، والدمع مطلق، إذا استجم الدمع أفاضته أحزانها، وإذا فاض وكف بأسجانها، نؤمل من عدلك ما نشر الله به حسن الظّنّ بك، فآنسها في الوحشة وأطمعها في الإنجاح، ثم أنشدته شعرا لها فقام الحسن بأمرها حتى بلغت مرادها.
لما قال النابغة للخنساء (2): ما رأيت ذا مثانة أشعر منك. قالت له: ولا ذا خصيتين. وقال لها عمر: يا خنساء ما أقرح مآقي عينيك؟ قالت: بكائي على السادات من مضر. قال: يا خنساء إنّهم في النّار. قالت: ذاك أطول لعويلي عليهم. وكانت تقول (3): [البسيط] كنت أبكي لصخر على الحياة ... وأنا أبكي له الآن من النار
قالت عمرة بنت مرداس بن أبي عامر، وهي عروس أمّها الخنساء في شيء كرهته. فقالت الخنساء: يا حمقاء والله لكأنها بظير أمة ورهاء (4). أنا والله كنت أكرم منك بعلا، وأرقّ منك نعلا، وأحسن منك عرسا، وأتم منك أنسا إذ كنت فتاة أعجب الفتيان، أشرب اللّبن غضّا قارصا، ومحضا خالصا، لا أنهش اللحم، ولا أذيب الشحم، ولا أرعى البهم، كالمهرة الصّنيع، لا مضاعة ولا عند مضيع،
__________
(1) الوجى: أشدّ من الحفي.
(2) الخنساء: هي تماضر بنت عمرو بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم، عرفت بالخنساء، وهي صحابية قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع قومها من بني سليم وأسلمت معهم. والخنساء هي أم العباس بن مرداس وإخوته الثلاثة، وكلهم شعراء. كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعجبه شعرها، ويستنشدها. وقيل: اتفق أهل العلم أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها. كانت في أول أمرها تقول البيتين أو الثلاثة حتى قتل أخوها معاوية ثم أخوها صخر فأكثرت في رثائهما، وما زالت ترثي أخاها ومعها بنوها الأربعة. فقالت لهم: يا بني أنتم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين
فإذا أصبحتم غدا فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، فقاتلوا حتى استشهدوا جميعا، فلما بلغها الخبر قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته. قيل:
توفيت الخنساء، سنة 42هـ. (معجم الشعراء المخضرمين والأمويين ص 135134).
(3) البيت في ديوان الخنساء ص 291.
(4) الورهاء: الحمقاء.(4/70)
عقيلة الحسان الحور، أضيء في طخية الديجور، وذلك في شبيبتي قبل شيبي.
وقامت مغضبة.
مغزل المرأة
قال بعضهم: مررت على هند بنت المهلّب، فرأيت بيدها مغزلا تغزل به، فقلت لها: تغزلين؟ قالت: نعم سمعت أبي يذكره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«أعظمكنّ أجرا أطو لكنّ طاقة، وهو يطرد الشيطان ويذهب بحديث النّفس».
وروي عن عائشة أنها قالت: المغزل في يد المرأة مثل الرمح في يد الغازي.
قيل للخنساء: لم يكن صخر كما وصفت. قالت: وكيف ذاك؟ فو الله لقد كان نديّ الكفين، يابس الجنبين يأكل ما وجده، ولا يسأل عما عهده.
من أقوال حبى المدينية
قيل لحبى المدينية: ما السقم الذي لا يبرأ، والجرح الذي لا يندمل؟ قالت:
حاجة الكريم إلى اللّئيم لا يجدي عليه. قيل: فما الشّرف؟ قالت: اعتقاد المنن في أعناق الكرام، يبقى للأعقاب على الأحقاب.
ذكر نسوة أزواجهنّ فقالت إحداهن: زوجي عوني في الشّدائد، والعائد دون كلّ عائد، إن غضبت عطف، وإن مرضت لطف.
وقالت الأخرى: زوجي لما عناني كاف، ولما أسقمني شاف، عناقه كالخلد، ولا يملّ طول العهد.
وقالت الأخرى: زوجي الشعار، حين أجرد، والأنس حين أفرد، والسّكن حين أرقد.
قالت امرأة من أهل البادية: لا يعجبني الشّاب يمعج معج المهر (1) طلقا أو طلقين ثم يضطجع بناحية الميدان، ولكن أين أنت من شيخ يضع قب استه بالأرض ثم سحبا وجرّا؟!
__________
(1) المعج: سرعة السير، وهي هنا تقصد الجماع.(4/71)
قال بعضهم: رأيت بالمدينة امرأة بين عينيها سجّادة، وعليها ثياب معصفرة، فقلت لها: ما أبعد زيك من سمتك! فقالت (1): [الطويل] ولله منّى جانب لا أضيعه ... وللهو منّي جانب ونصيب
قال الزبير بن بكار: قالت بنت أختي لزوجتي: خالي خير رجل لأهله، لا يتّخذ ضرّة ولا يشتري جارية. فقالت المرأة: والله لهذه الكتب أشدّ علي من ثلاث ضرائر.
أم الكملة
حجّت فاطمة بنت الخرشب الأنمارية أمّ الكلمة الربيع وعمارة وقيس وأنس، وكانت حجتها هذه في الجاهلية، فقال لها رجل من أهل مكّة: من أشرف ولدك؟ قالت: الربيع. لا بل عمارة. لا بل قيس. لا بل أنس. ثكلتهم إن كنت أدري أيّهم أسود.
وكان يقال للربيع الكامل، ولأنس الطويل ولقيس الوقّاعة، ولعمارة دالق وإنما قيل له ذلك إنه كان يدلق الخيل في كل وجه. وفيهم يقول الشّاعر (2):
[الوافر] بنو جنّيّة ولدت سيوفا ... صوارم كلّها ذكر صنيع
قيل لرملة بنت الزبير: ما بالك أهزل ما تكونين إذا حضر زوجك فقالت: ما أقبح بالمرأة الشّريفة أن تضاجع زوجها بملء بطنها.
زوجة تخمد حربا
خرج الحارث بن عوف المريّ خاطبا إلى أوس بن حارثة بن لأم الطائي.
فقال لابنته الكبرى: يا بنية هذا سيد قومه قد أتاني خاطبا لك. فقالت: لا حاجة
__________
(1) البيت بلا نسبة في محاضرات الأدباء 2/ 136، والكامل للمبرد 2/ 8، والعقد الفريد 2/ 12، ويروى عجز البيت بلفظ:
وللهو مني والبطالة جانب
(2) البيت لقيس بن زهير في ديوان الحماسة 1/ 186، وسمط اللآلي 1/ 217، وبلا نسبة في الأغاني 16/ 20.(4/72)
لي فيه. إنّ في خلقي ضيقا يصبر عليه القرباء، ولا يصبر عليه البعداء.
فقال للّتي تليها: قد سمعت ما قالت أختك قالت: زوجنيه، فإني إن لم أصلح للبعداء لم أصلح للقرباء. فزوّجه وضرب عليه قبة، ونحر له الجزور. فمد يده إليها فقالت ابنة أوس: تمدّ إليها اليد بحضرته؟ قال: فتحمل بها فلما كان بالطريق مدّ يده إليها. فقالت ابنة أوس: أردت أن تمتّع بها في سفرك كما تمتّع بسفرتك، فكفّ عنها. فلما حلّ في أهله وقد وقعت الحرب بين عبس وذبيان فمد يده إليها فقالت: لقد أخطأ الذي سماك سيدا. أتمدّ يدك إلى النساء وقومك يتناحرون.
قال: فما وضع يده عليها حتّى أصلح بين قومه وتحمل دياتهم، ثم دخل بها فحظيت عنده.
خرج محمد بن واسع في يوم عيد ومعه رابعة، فقال لها: كيف ترين هذه الهيئة؟ فقالت: ما أقول لكم؟ خرجتم لإحياء سنّة وإماتة بدعة، فأراكم قد تباهيتم بالنعمة، وأدخلتم على الفقير مضرّة.
قالت امرأة من بني تغلب للجحّاف بن حكيم في وقعة البشر التي يقول فيها الأخطل (1): [الطويل] لقد أوقع الجحّاف بالبشر وقعة ... إلى الله فيها المشتكى والمعوّل
فضّ الله عمادك، وأكبى زنادك، وأطال سهادك، وأقلّ زادك، فو الله إن قتلت إلّا نساء أسافلهنّ دمّى وأعاليهنّ ثدي وكان قد قتل النّساء والذّريّة. فقال لمن حوله: لولا أن تلد مثلها لاستبقيتها وأمر بقتلها. فبلغ ذلك الحسن البصري فقال:
إنما الجحاف جذوة من نار جهنم.
قالت أمّ عمير الليثيّة للعوفي في مجلس الحكم: عظم رأسك فبعد فهمك، وطالت لحيتك فغمرت قلبك. وإذا طالت اللحية انشمر العقل. وما رأيت ميّتا يقضي بين الأحياء قبلك.
__________
(1) البيت للأخطل في ديوانه ص 161، وجمهرة اللغة ص 310، 1175، وتاج العروس (بشر)، وبلا نسبة في لسان العرب (عول).(4/73)
قال ابن الأحنف بن قيس لزبراء جارية أبيه: يا زانية. فقالت: والله لو كنت زانية لأتيت أباك يا بن مثلك.
وصف امرأة لزوجها
طلّق أعرابي امرأته فذمّها فقالت: وأنت والله ما علمت تغتنم الأكلة في غير جوع، ملحّ بخيل، إذا نطق الأقوام أقعصت، وإذا ذكر الجود أفحمت لما تعلم من قصر باعك، ولؤم آبائك، تستضعف من تأمن، ويغلبك من تخاف، ضيفك جائع، وجارك ضائع، أكرم النّاس عليك من أهانك، وأهونهم عليك من أكرمك. القليل عندك كثير، والكبير عندك حقير. سوّد الله وجهك، وبيّض جسمك، وقصّر باعك، وطوّل ما بين رجليك حتى إن دخل انثنى، وإن رجع التوى.
قال بعضهم: كنت عند فاطمة بنت المهلّب أعرض عليها طيبا فقمت وتركت المتاع بين يديها، فلما جئت قالت: بئس ما صنعت، لا تأمننّ امرأة قطّ على رجل ولا على طيب.
قال أبو عمرو بن العلاء (1): خرجت ذات ليلة أطوف، فإذا أنا بامرأة قد فضح وجهها ضوء القمر متعلّقة وهي تقول: إلهي أما وجدت شيئا تعذّب به إلا النار. ثم ذهبت، فنمت ثم عدت فوجدتها وديدنها أن تقول ذلك. قلت: لو عذّب بما سوى النار، فكان ماذا؟ قالت: يا عمّاه أما والله لو عذّب بغير النّار لقضينا أوطارا.
جعل ابن السمّاك يوما يتكلم وجارية له حيث تسمع كلامه، فلما انصرف إليها قال لها: كيف سمعت كلامي؟ قالت: ما أحسنه لولا أنّك تكثر ترداده. قال:
أردده حتّى يفهمه من لم يفهم. قالت: إلى أن يفهم من لا يفهمه قد ملّه من فهمه.
__________
(1) هو أبو عمرو بن العلاء، زبان بن عمار التميمي البصري، من أئمة اللغة والأدب وأحد القراء السبعة، توفي بالكوفة سنة 154هـ (الأعلام 3/ 41).(4/74)
الباب الثالث الحيل والخدائع
قدّم بعضهم رجلا إلى القاضي وادّعى عليه مالا فقال: صدقوا أسألهم أن يؤخّروني حتّى أبيع مالي أو عقاري أو رقيقي أو إبلي. فقالوا: كذب أيها القاضي.
ماله قليل ولا كثير. ولكنّه يريد مدافعتنا فقال: أصلحك الله. فقد شهدوا بالعدم.
فخلّى سبيله.
قال بعضهم: خرجت ليلة فإذا أنا بالطائف قد أقبل فلما رأيته من بعيد صحت: المستغاث بالله وبالطائف. فقال لي الطائف: ما لك؟ قلت: قوم سكارى في بيتي قد عربدوا، وسلّوا السّكاكين، وجئت في طلبك لتخلّصني منهم. فقال:
أيش بين يديّ. فمشيت ودخلت البيت، وأغلقت الباب، وصعدت السّطح، وتطلّعت عليه وقلت: انصرف مأجورا فقد تصالحوا.
سئل بعضهم عن رجل أرادوا أن يزوّجوه فقال: إنّ له شرفا وبيتا وقدما، فنظروا فإذا هو ساقط سفلة. فقيل له في ذلك، فقال: ما كذبت شرفه أذناه، وقدمه التي يمشي عليها، ولا بدّ من أن يكون له بيت يأوي إليه.
قال معاوية لأبي هوذة الباهلي: لقد هممت أن أحمل جمعا من باهلة في سفينة ثم أغرقهم. قال أبو هوذة: إذا لا ترضى باهلة بعدتهم من بني أميّة. قال:
اسكت أيّها الغراب الأبقع وكان به برص. قال أبو هوذة: إن الغراب ربّما درج إلى الرخمة حتّى ينقر دماغها، ويقتلع عينيها. فقال يزيد: ألا تقتله يا أمير المؤمنين. قال: مه. ونهض معاوية ثم وجهه في سريّة فقتل. فقال معاوية ليزيد:
هذه أخفى وأصوب.
لما بايع الرشيد ولده تخلّف رجل مذكور من الفقهاء، فأحضره وقال له: لم
تخلفت عن البيعة؟ قال: عاقني يا أمير المؤمنين عائق. فأمر بقراءة كتاب البيعة عليه. فلما قرئ قال: يا أمير المؤمنين هذه البيعة في عنقي إلى قيامي السّاعة. فلم يفهم الرّشيد ما أراد، وقدّر أنّه يريد إلى قيام الساعة. وذهب ما كان في نفسه عليه.(4/75)
لما بايع الرشيد ولده تخلّف رجل مذكور من الفقهاء، فأحضره وقال له: لم
تخلفت عن البيعة؟ قال: عاقني يا أمير المؤمنين عائق. فأمر بقراءة كتاب البيعة عليه. فلما قرئ قال: يا أمير المؤمنين هذه البيعة في عنقي إلى قيامي السّاعة. فلم يفهم الرّشيد ما أراد، وقدّر أنّه يريد إلى قيام الساعة. وذهب ما كان في نفسه عليه.
قيل لبعض الفقهاء: لم استجزتم استعمال الحيل في الفقه؟ فقال: الله تعالى علّمنا ذلك فإنّه قال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلََا تَحْنَثْ} [ص: 44].
لما حبس المقفّع، وألحّ عليه صاحب الاستخراج في العذاب خشي على نفسه فقال لصاحب الاستخراج: عندك مال وأنا أربحك ربحا ترضاه؟ وقد عرفت وفائي وسخائي وكتماني، فعينّي مقدار هذا النّجم. فلمّا صار عليه مال ترفّق به مخافة أن يموت تحت العذاب فيتوى ماله.
جحد رجل مال رجل فاحتكم إلى إياس بن معاوية فقال للطّالب: أين دفعت إليه هذا المال؟ قال: عند شجرة في مكان كذا. قال: فانطلق إلى ذلك الموضع لعلّك تتذكّر كيف كان أمر هذا المال، ولعلّ الله يوضح لك سببا. فمضى الرجل وجلس خصمه فقال إياس بعد ساعة: أترى خصمك بلغ موضع الشجرة. قال: لا بعد. قال: يا عدوّ الله أنت خائن. قال: أقلني أقالك الله. فاحتفظ به حتّى أقرّ وردّ المال.
قال معاوية لعمرو: أنت أدهى أم أنا؟ قال عمرو: أنا للبديهة وأنت للأناة.
قال: كلّا، قال عمرو: أان منّي رأسك أسارّك، فأدنى رأسه فقال عمرو: هذا من ذاك. هل ها هنا أحد غيرك.
قال المغيرة بن شعبة: ما خدعني غير غلام من بني الحارث بن كعب. فإنّي ذكرت امرأة منهم فقال: أيها الأمير لا خير لك فيها. قلت: ولم؟ قال: رأيت رجلا يقبّلها. فأضربت عنها فتزوّجها الفتى. فأرسلت إليه: ألم تعلمني كذا وكذا من أمرها. قال: بلى رأيت أباها يقبّلها.
كان لعبد الله بن مطيع غلام مولّد قد أدّبه وخرّجه وصيّره قهرمانه، وكان أتاهم قوم من العدوّ في ناحية البحر. فرآه يوما يبكي فقال: ما لك؟ قال: تمنّيت أن أكون حرّا، فأخرج مع المسلمين قال: وتحب ذاك؟ قال: نعم. قال: فأنت حرّ
لوجه الله فاخرج. قال: فإنّه قد بدا لي ألّا أخرج. قال: خدعتني والله.(4/76)
كان لعبد الله بن مطيع غلام مولّد قد أدّبه وخرّجه وصيّره قهرمانه، وكان أتاهم قوم من العدوّ في ناحية البحر. فرآه يوما يبكي فقال: ما لك؟ قال: تمنّيت أن أكون حرّا، فأخرج مع المسلمين قال: وتحب ذاك؟ قال: نعم. قال: فأنت حرّ
لوجه الله فاخرج. قال: فإنّه قد بدا لي ألّا أخرج. قال: خدعتني والله.
كان عمر بن هبيرة أميّا لا يقرأ ولا يكتب. وكان إذا أتاه كتاب فتحه ونظر فيه كأنّه يقرؤه فإذا نهض من مجلسه حملت الكتب معه. فيدعو جارية كاتبة ويدفع إليها الكتب فتقرؤها عليه ويأمرها فتوقع بما يريد، ويخرج الكتاب. فاستراب به بعض كتّابه فكتب كتابا على لسان بعض العمال وطواه منكّسا أعلاه إلى أسفله، فلمّا أخذه ونظر فيه ولم ينكره تحقّق أنه أمّي.
قال بعض القضاة لرجل: كيف أقبل شهادتك وقد سمعتك تقول لمغنّية:
أحسنت؟ قال: أليس إنما قلت ذلك بعد سكوتها. فأجاز شهادته.
أتى معن بن زائدة بثلاثمائة أسير من حضرموت فأمر بضرب أعناقهم، فقام منهم غلام حين سال عذاره فقال: أنشدك الله أن تقتلنا ونحن عطاش فقال:
اسقوهم ماء. فلمّا شربوا قال: اضربوا أعناقهم. فقال الغلام: أنشدك الله أن تقتل ضيفانك. قال: أحسنت. وأمر بإطلاقهم.
كان بالأهواز رجل له زوجة، وكانت له أرض بالبصرة، فكان يكثر الانحدار إليها فارتابت زوجته وتتبّعت أثره، فوقفت على أنّه قد تزوّج بالبصرة فاحتالت حتّى صار إليها خطّ عمّ البصريّة، وبعثت به إلى رجل يحكي كلّ خطّ رآه، وأجازته، حتى كتب كتابا عن لسان عمّ البصريّة إلى زوجها يذكر أنّ المرأة قد ماتت، ويسأله التعجيل إليه لأخذ ما تركت، وسمّى مالها وجاريتها. ودسّت الكتاب مع ملّاح قدم من البصرة، فلمّا وصل إليه الكتاب قرأه فلم يشكّ فيه، ودخل وقال لامرأته:
اعملي لي سفرة. قالت: ولم؟ قال: أريد البصرة. قالت: كم هذه البصرة؟ قد رابني أمرك. لعلّ لك بها امرأة، فأنكر، فقالت: احلف. فحلف أن كلّ امرأة له غيرها طالق، سكونا إلى أن تلك قد ماتت، وما يضرّه ذلك. فلمّا حلف قالت: دع السّفرة. قد أغناك الله عن البصرة. قال: وما ذاك؟ قال: قد طلّقت الفاسقة.
وحدّثته بالقصّة فندم.
مرّ شبيب بن يزيد الخارجيّ على غلام قد استنقع (1) في الفرات. فقال: يا
__________
(1) استنقع: أي نزل في الغدير واغتسل.(4/77)
غلام: اخرج إليّ أسائلك. فنظر الغلام فعرف شبيبا. فقال: إني أخاف. فهل أنا آمن إلى أن أخرج وألبس ثيابي؟ قال: نعم. قال: فو الله لا ألبسها اليوم ولا أخرج. فقال شبيب: أوه، خدعني الغلام. وأمر رجلا بحفظه لئلا يصيبه أحد بمعرّة ومضى، وسلم الغلام.
قال الأعمش (1): أخبرني تميم بن سلمة أن رجلا شهد عند شريح وعليه جبّة ضيّقة الكمّين. فقال شريح: أنتوضأ وعليك جبّتك هذه؟ قال: احسر عن ذراعك، فحسر، فلم يبلغ كمّ جبّته إلى نصف السّاعد. فردّ شهادته.
قدّمت امرأة زوجها إلى أبي عمر القاضي، وادّعت عليه مالا، فاعترف به فقالت: أيّها القاضي خذ بحقّي ولو بحبسه. فتلطّف لها لئلا تحبسه، فأبت إلّا ذلك، فأمر به، فلما مشى خطوات صاح أبو عمر بالرجل وقال له: ألست ممّن لا يصبر على النساء؟ ففطن الرّجل فقال: بلى أصلح الله القاضي. فقال: خذها معك إلى الحبس. فلمّا عرفت الحقيقة ندمت على لجاجها وقالت: ما هذا أيّها القاضي؟
قال: لك عليه حقّ، وله عليك حقّ. ومالك عليه لا يبطل ماله عليك. فعادت إلى السّلاسة والرّضا.
أخذ عبد الملك رجلا كان يرى رأي الخوارج فقال له: ألست القائل (2):
[الطويل] ومنّا سويد والبطين وقعنب ... ومنّا أمير المؤمنين شبيب
فقال إنما قلت: ومنّا أمير المؤمنين. وناديتك، فخلّى سبيله.
كان يختلف إلى أبي حنيفة رجل يتحمّل بالسّتر الظّاهر، والسّمت البين فقدم رجل غريب وأودعه مالا خطيرا، وخرج حاجّا، فلمّا عاد طالبه بالوديعة فجحده، فألح الرّجل عليه فتمادى، فكاد صاحب المال يهيم، ثم استشار ثقة له فقال له:
كفّ عنه، وصر إلى أبي حنيفة، فدواؤك عنده.
__________
(1) الأعمش: هو سليمان بن مهران الأعمش، أبو محمد الأسدي الكوفي، ولد سنة 60هـ، وتوفي سنة 148هـ (غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 315).
(2) البيت لعتبان بن أصيلة الشيباني في شعر الخوارج ص 64، وللشيباني في جمهرة اللغة ص 361.(4/78)
فانطلق إليه وخلا به وأعلمه شأنه، وشرح له قصّته فقال له أبو حنيفة: لا تعلم بهذا أحدا، وامض راشدا، وعد إليّ غدا. فلمّا أمسى أبو حنيفة جلس كعادته للنّاس، وجعل كلّما سئل عن شيء تنفّس الصعداء. فقيل له في ذلك فقال: إنّ هؤلاء يعني السّلطان قد احتاجوا إلى رجل يبعثونه قاضيا إلى مكان. وقالوا:
لي: اختر من أحببت. ثم أسبل كمّه وخلا بصاحب الوديعة، وقال له: أترغب حتى أسمّيك. فذهب يتمنّع تحلية. فقال له أبو حنيفة: اسكت فإني أبلغ لك ما تحبّ. فانصرف الرّجل مسرورا يظنّ الظّنون بالجاه العريض، والحال الحسنة.
وصار ربّ المال إلى أبي حنيفة فقال: امض إلى صاحبك ولا تخبره بما بيننا، ولوّح بذكري وكفاك، فمضى الرّجل واقتضاه وقال له: اردد علي مالي وإلا شكوتك إلى أبي حنيفة. فلما سمع ذلك وفّاه المال. وصار الرّجل إلى أبي حنيفة وأعلمه رجوع المال إليه فقال له: استره عليه.
ولما غدا الرجل إلى أبي حنيفة طامعا في القضاء نظر إليه أبو حنيفة وقال له:
نظرت في أمرك فرفعت قدرك عن القضاء.
قال أبو يوسف: بقيت على باب الرّشيد حولا لا أصل إليه، حتى حدثت مسألة. وذلك أنّ بعض أهله كانت له جارية، فحلف أنّه لا يبيعها إياه ولا يهبها له.
وأراد الرّشيد شراءها، فلم يجد أحدا يفتيه في ذلك. فقلت لابن الربيع: أعلم أمير المؤمنين أنّ بالباب رجلا من الفقهاء عنده الشّفاء من هذه الحادثة. فدخل فأخبره، فأذن لي، فلما وصلت مثلت، فقال: ما تقول؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أقوله لك وحدك أو بحضرة الفقهاء؟ قال: بل بحضرة الفقهاء، ليكون الشّك أبعد، وأمر فحضر الفقهاء، وأعيد عليهم السؤال. فكلّ قال: لا حيلة عندنا فيه، فأقبل أبو يوسف فقال: المخرج منها أن يهب لك نصفها، ويبيعك نصفها، فإنه لا يقع الحنث. فقال القوم: صدق. فعظم أمري عند الرّشيد، وعلم أنّي أتيت بما عجزوا عنه.
كان المغيرة بن شعبة من كبار المدمنين للشّراب، فقال لصاحب له يوم خيبر: قد قرمت إلى الشراب. ومعي درهمان زائفان فأعطني زكرتين (1). فأعطاه.
__________
(1) الزكرة: وعاء للخمر والخل.(4/79)
فصبّ في إحداهما ماء، وأتى بعض الخمارين فقال: كل بدرهمين. فكان في زكرته فأعطاه الدرهمين فردّهما، وقال: هما زائفان. فقال: ارتجع ما أعطيتني فكاله وأخذه، وبقيت في الزّكرة بقيّة فصبّها في الفارغة، ثم فعل ذلك بكلّ خمّار حتى ملأ زكرته ورجع ومعه درهماه.
قال الأصمعي: حمل يزيد بن مرّة شيئا على رأس حمّال فعاسره في الكراء فقال له: أثبت أنّ الذي على رأسي لك. فأرضاه.
وقف أحمد بن أبي خالد بين يدي المأمون وخرج يحيى بن أكثم وجلس على طرفه فقال أحمد: يا أمير المؤمنين إنّ يحيى صديقي وأخي، ومن أثق به في أمري كلّه ويثق بي، وقد تغيّر عما كنت أعهده عليه، فإن رأيت أن تأمره بالعود إلى ما كان عليه. فإنّي له على مثله. فقال المأمون: يا يحيى إنّ فساد أمر الملوك بفساد الحال بين خاصّتهم. وما يعدلكما عندي أحد. فما هذا النّزاع بينكما؟ فقال له يحيى: والله يا أمير المؤمنين إنّه ليعلم أنّي له على أكثر ممّا وصف، وأنّي أثق بمثل ذلك منه. ولكنّه رأى منزلي هذه منك فخاف أن أتغيّر له يوما، فأقدح فيه عندك، فتقبل قولي فيه فأحبّ أن يقول هذا لتأمرني بأمر لو بلغ نهاية مساءتي ما قدرت أن أذكره بسوء عندك. فقال المأمون: أكذاك هو يا أحمد؟ قال: نعم. قال:
أستعين الله عليكما. ما رأيت أتمّ دهاء ولا أقرب فطنة منكما.
أستأذن أخو صفية بنت حيي بن أخطب على سليمان بن عبد الملك وهو خليفة فقال للآذن: خال أمير المؤمنين. فدخل فقال: بالباب رجل يدّعي أنه خال أمير المؤمنين. فقال: أدخله. فلما رآه عرفه فقال: أنت لعمري خالي. أي إنّي مؤمن.
أرسل فتى من العرب إلى ابنة عم له ولم يكن له مال، وكانت كثيرة المال وخطبها ناس كثير، فقال: يا بنة عم هل لك في فتى كأس من الحسب، عار من النشب، يتقلقل في دارك، ويقبض غلّة غلمانك، ويقلّبك عن يمينك لشمالك، ويدخل الحمام في كل يوم مرتين؟ فتزوجته.
دخل سلم بن زياد على الحجّاج في أموال قبضها عنه فقال له: من أنت؟
قال: سلم. قال: ابن من؟ قال: ابن زياد. قال: ابن من؟ قال: ابن من شاء الأمير. فردّ عليه أرضه.(4/80)
دخل سلم بن زياد على الحجّاج في أموال قبضها عنه فقال له: من أنت؟
قال: سلم. قال: ابن من؟ قال: ابن زياد. قال: ابن من؟ قال: ابن من شاء الأمير. فردّ عليه أرضه.
أتى وكيع بن أبي سود إياس بن معاوية وهو قاض ليشهد عنده بشهادة، فقال: مرحبا بك يا أبا مطرف، ما جاء بك؟ قال: جئت لأشهد قال: ما لك وللشّهادة. إنّما يشهد الموالي والتجار والسّقاط. قال: صدقت وانصرف. فقيل له: خدعك ولم يقبل شهادتك فردّك. فقال: لو علمت لعلوته بالقضيب.
كان أبو بردة ولي القضاء بعد الشعبي بالكوفة، فكان يحكم بأنّ رجلا لو قال لمملوك لا يملكه: أنت حرّ. أنه يعتق ويؤخذ المعتق بثمنه.
قال: فعشق رجل من بني عبس جارية لجار له فجنّ بها وجنت به، فكان يشكو ذاك إليها فلقيها يوما فقال لها: إلى الله أشكو قالت: بلى والله إنّ لك لحيلة، ولكنك عاجز. هذا أبو بردة يقضي في العتق بما قد علمت فقال لها: أشهد إنك لصادقة.
ثمّ قدمها إلى مجلس يتجمع فيه قوم يعدلون فقال: هذه جارية آل فلان أشهدكم أنها حرّة فألقت ملحفتها على رأسها. وبلغ ذلك مواليها فجاؤوا فقدّمتهم إلى أبي بردة وقدموا الرّجل فأنفذ عتقها، وألزم الرّجل ثمنها، فلما أمر به إلى السجن خاف إذا ملكت أمرها أن تصير إلى أوّل من يطلبها، وأن تخيب فيما صنع في أمرها. فقال: أصلح الله القاضي، لا بدّ من حبسي قال: نعم أو تعطيهم ثمنها.
قال: فليس مثلي يحبس في شيء يسير. أشهدكم أنّي قد أعتقت كل مملوك لأبي بردة، وكل مملوك لآل أبي موسى، وكل مملوك لمذحج. فخلّى سبيله، ورجع عن ذلك القضاء فلم يحكم به.
لما خرج الأحنف مع مصعب أرسل إليه بمائة ألف درهم ولم يرسل إلى زبراء جاريته بشيء، فجاءت حتّى قعدت بين يدي الأحنف ثم أرسلت عينيها.
فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: ما لي لا أبكي عليك، إذ لم تبك على نفسك، أبعد نهاوند ومرو الرّوذ صرت إلى أن تجمع بين غارين من المسلمين؟ فقال: نصحتني والله في ديني، إذ لم أنتبه لذلك. ثم أمر بفساطيطه فقوضت.(4/81)
قال: فبلغ ذلك مصعبا، فقال: من دهاني في الأحنف؟ فقيل: زبراء. فبعث إليها بثلاثين ألف درهم. فجاءت حتّى أرخت عينيها بين يديه فقال: ما لك يا زبراء؟ قالت: جئت بإخوانك من أهل البصرة تزفّهم كما تزف العروس، حتّى إذا صيّرتهم في نحور أعدائهم أردت أن تفتّ في أعضادهم. قال: صدقت والله. يا غلام دعها. قال: فاضطرب العسكر بمجيء زبراء مرّتين فذهبت مثلا.
بلغ قتيبة بن مسلم أن سليمان بن عبد الملك يريد عزله واستعمال يزيد بن المهلّب فكتب إليه ثلاث صحائف وقال للرّسول: إن دفع كتابي الأوّل إلى يزيد بن المهلب فادفع إليه الثاني، فإن شتمني عند الثّاني فادفع إليه الثالث، فدفع إليه الكتاب الأوّل، فإذا فيه: إن بلائي في طاعة أبيك وأخيك كذا، وأنت تقرئ كتبي يزيد.
قال فرمى بالكتاب إلى يزيد، فأعطاه الثاني فإذا فيه: كيف تأمن يزيد على أسرارك وكان أبوه لا يأمنه على أمّهات أولاده.
قال: فشتمه، فدفع إليه الثالث فإذا فيه:
من قتيبة بن مسلم إلى سليمان بن عبد الملك
سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد، فلأوثقنّ لك أخيّة (1) لا ينزعها المهر الأرن (2). قال: فقال سليمان: ما أرانا إلا قد عجلنا على قتيبة. يا غلام جدد له عهده على خراسان.
خطب سلمان إلى عمر بن الخطاب ابنته فلم يستجز ردّه، فأنعم له وشقّ ذلك عليه وعلى ابنه عبد الله بن عمر. فشكا عبد الله ذلك إلى عمرو بن العاص فقال له: أفتحبّ أن أصرف سلمان عنكم؟ فقال له: هو سلمان، وحاله في المسلمين حاله. قال: أحتال له حتّى يكون هو التارك لهذا الأمر، والكاره له.
قال: وددنا ذلك. فمرّ عمرو بسلمان في طريق فضرب بيده على منكبه وقال له:
__________
(1) الأخيّة، كأبيّة، ويشدّد ويخفف: عود في حائط، أو في حبل يدفن طرفاه في الأرض، ويبرز طرفه كالحلقة تشدّ بها الدابة، جمعه: أخايا وأواخي.
(2) الأرنّ: النشط.(4/82)
هنيئا لك أبا عبد الله. قال: وما ذاك؟ قال: هذا عمر يريد أن يتواضع بك فيزوجك. قال: وإنما يزوّجني ليتواضع بي؟! قال: نعم. قال: لا جرم والله لا خطبت إليه أبدا.
كتب معاوية إلى عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة أن يقدما عليه، فقدم عمرو من مصر والمغيرة من الكوفة فقال عمرو للمغيرة: ما جمعنا إلا ليعزلنا، فإذا دخلت عليه فاشك الضّعف واستأذنه أن تأتي الطائف أو المدينة. فإنّي إذا دخلت عليه سألته ذلك فإنه يظنّ أنا نريد أن نفسد عليه.
فدخل المغيرة فسأل أن يعفيه ويأذن له. ودخل عليه عمرو فسأله مثل ذلك فقال له معاوية: قد تواطأتما على أمر، وإنكما لتريدان شرّا. ارجعا إلى عمليكما.
كان الإسكندر لا يدخل مدينة إلّا هدمها وقتل أهلها حتّى مرّ بمدينة كان فيها مؤدّبه. فخرج إليه وألطفه الإسكندر وأعظمه فقال له مؤدّبه: إنّ أحقّ من زيّن رأيك وسدّده وأتى كلّ ما هويت لأنا. وإنّ أهل هذه المدينة قد طمعوا فيك لمكاني منك، فأنا أحبّ ألّا تشفّعني فيهم، وأن تحلف لي يمينا أعتذر بها عند القوم فاحلف لي عندهم أنك لا تشفّعني في شيء أسألك، وأن تخالفني في كل ما سألتك. فأعطاه من ذلك ما لا يقدر على الرجوع عنه في دينه، فلمّا توثّق منه قال:
فإنّ حاجتي أن تدخلها وتخرّبها وتقتل من فيها. قال: ما إلى ذلك سبيل ولا بدّ من مخالفتك وقد كنت مؤدّبي وأنا إليك اليوم أحوج. فلم يدخلها وضمّه إليه.
أصابت المسلمين جولة بخراسان، فمرّ فيهم شعبة بن ظهير على بغلة له فرآه بعض الرجّالة فتقدّر له على جذم حائط، فلمّا حاذى به حال في عجز بغلته. فقال له: اتق الله فإنها لا تحملني وإيّاك. قال: امض، فإني والله ما أقدر أن أمشي.
قال: إنّك تقتلني وتقتل نفسك. قال: امض فهو ما أقول لك. قال: فصرف شعبة وجه البغلة قبل العدوّ فقال له: أين تريد؟ قال: أنا أعلم أني مقتول، فلأن أقتل مقبلا خير من أن أقتل مدبرا.
فنزل الرّجل عن بغلته وقال: اذهب في حرق الله.
اشترى شريك بن عبد الله جارية من رجل فأصاب بها عيبا، فقال للذي
اشتراها منه: قد ظهر بها عيب. قال: ما عليك. هي رخيصة، وإن أحببت بعتها لك بربح. قال: فافعل. فدفع الجارية إليه وأقام أيامّا ثم أتاه فقال له: لم أصب بها ثمنا أرضاه. فقال له شريك: فخذها واردد عليّ الثمن. فقال له الرّجل: أبعد ما وكّلتني لأبيعها ورضيت تردّها علي؟ فقال: صدقت والله خدعتني.(4/83)
اشترى شريك بن عبد الله جارية من رجل فأصاب بها عيبا، فقال للذي
اشتراها منه: قد ظهر بها عيب. قال: ما عليك. هي رخيصة، وإن أحببت بعتها لك بربح. قال: فافعل. فدفع الجارية إليه وأقام أيامّا ثم أتاه فقال له: لم أصب بها ثمنا أرضاه. فقال له شريك: فخذها واردد عليّ الثمن. فقال له الرّجل: أبعد ما وكّلتني لأبيعها ورضيت تردّها علي؟ فقال: صدقت والله خدعتني.
رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنه عبد الله جالسا مع رجل فقال له: يا بني احذر هذا، لا تشترينّ منه شيئا، فإنه يتبرّأ إلى الرجل من العيب. والرّجل لا يفطن لذلك.
قال: فمرّ عبد الله بن عمر بذلك الرّجل يوما ومعه غلام وضيء، فقال له:
تبيعه؟ قال: نعم. قال: بكم؟ قال: بكذا. قال له: هل به عيب. قال: ما علمت أنّ به عيبا إلا أنّا ربما أرسلناه في الحاجة فيبطئ فلا يأتينا حتّى نبعث في طلبه.
فقال عبد الله: وما هذا؟ فاشتراه منه.
فلما صار إليه أرسله في حاجة فهرب، فطلبه أيّاما حتّى وجده، فأتى صاحبه ليردّه عليه بالإباق، فقال له: ألم أخبرك أنا ربما أرسلناه في الحاجة فلا يرجع حتّى نرسل في طلبه؟ فعلم أنه قد خدعه.
كان مع يوسف بن عمر رجل يقال له عبدان يأنس به ولا يحجبه في دار نسائه. فقال له يوما: أنا أطول أم أنت؟ وكان عبدان طويلا قال: فقلت في نفسي:
وقعت والله في شرّ. إن قلت: أنا. خفت أن يقول: يصغّرني. وإن قلت: أنت قال تهزأ بي. فقلت: أصلحك الله أنت أطول منّي ظهرا وأنا أطول رجلين منك.
فقال: أحسنت.
كان شعبة بن المخشّ مع زياد، وكان أكولا دميما فقال له زياد: يا شعبة ما لك من الولد؟ قال: تسع بنات. قال: أين جمالهنّ من جمالك؟ قال: أنا أجمل منهنّ وهنّ آكل منّي. قال: ما أحسن ما سألت لهنّ، وألحق بناته في العيال.
قال الأصمعي: ذكروا أنّ محمّد ابن الحنيفة أراد أن يقدم الكوفة أيام المختار. فقال المختار حين بلغه ذلك: إنّ في المهديّ علامة يضربه في السّوق رجل ضربة بالسّيف فلا يضرّه، فلما بلغه ذلك أقام.(4/84)
سأل عبد الله بن الزبير معاوية شيئا فمنعه فقال: والله ما أجهل أن ألزم هذه البنية فلا أشتم لك عرضا ولا أقضب (1) لك حسبا. ولكن أسدل عمامتي من بين يديّ ذراعا ومن خلفي ذراعا أقعد في طريق أهل الشام، وأذكر سيرة أبي بكر وعمر فيقول الناس: هذا ابن حواريّ رسول الله صلّى الله عليه وابن الصّديق. فقال معاوية: حسبك بهذا شرّا، وقضى حاجته.
قال أعرابيّ لمعاوية: استعملني على البصرة. فقال: ما أريد عزل عاملها.
قال: فأقطعني البحرين. قال: ما إلى ذلك سبيل. قال: فمر لي بألف درهم. فأمر له بها. فقيل للأعرابيّ في ذلك فقال: لولا طلبي الكثير ما أعطاني القليل.
حلم الأحنف ودهاؤه
أتى رجل الأحنف فلطمه. فقال له: لم لطمتني؟ قال: جعل لي جعل على أن ألطم سيّد بني تميم. قال: ما صنع شيئا. عليك بجارية بن قدامة فإنّه سيدّهم.
فانطلق فلطم جارية، فأخذه وقطع يده. وإنّما أراد الأحنف ذلك به.
قال قوم من قريش: ما نظنّ أنّ معاوية أغضبه شيء قط. فقال بعضهم: إن ذكرت أمّه غضب. فقال مالك ابن أسماء المنى القرشيّ هي أمّه وإنّما قيل لها أسماء المنى لجمالها: والله لأغضبنّه إن جعلتم لي جعلا. فجعلوا له جعلا وأتاه وقد حضر الموسم فقال: يا أمير المؤمنين ما أشبه عينيك بعيني أمّك. قال: تلك عينان طالما أعجبتا أبا سفيان. يا بن أخي خذ جعلك ولا تتّخذنا متجرا.
ثم دعا معاوية مولاه سعدا فقال له: أعدد لأسماء المنى دية ابنها فإني قد قتلته وهو لا يدري. ورجع الغلام فأخذ جعله. فقال له رجل منهم: إن أتيت عمرو بن الزّبير، فشبّهته بأمّه فلك ضعفا جعلك. فأتاه فقال له: يا بن الزّبير ما أشبه وجهك بوجه أمّك فأمر به فضرب حتّى مات. فبعث معاوية إلى أمّه بديته وقال: [الطويل] ألا قل لأسماء المنى أمّ مالك ... فإنّي لعمر الله أقتل مالكا
__________
(1) أقضب: أقطع.(4/85)
قيل لأعرابيّ: أتشرب قدحا من لبن حازر (1) ولا تتنحنح؟ قال: نعم فأخذه في حلقه مثل الزجاج. فقال: كبش أملح. فقيل له: إنك تنحنحت فقال: من تنحنح فلا أفلح. ومدّ صوته فقضى وطره.
قال عبيد الله بن زياد بن ظبيان: إياكم والطّمع فإنه يردي. والله لقد هممت أن أفتك بالحجّاج، فإني لواقف على بابه بدير الجماجم، إذا بالحجاج قد خرج على دابّة، ليس معه غير غلام، فأجمعت على قتله فكأنه عرف ما في نفسي قال:
فقال: ألقيت ابن أبي مسلم؟ قلت: لا. قال: فالقه فإن عهدك معه على الري.
قال: فطمعت وكففت فأتيت يزيد بن أبي مسلم فسألته فقال: ما أمرني بشيء.
وقال عمرو بن يزيد الأسيدي: خفنا أيّام الحجّاج، وجعلنا نودّع متاعنا، وعلم جار لنا، فخشيت أن يظهر أمرنا، فعمدت إلى سفط فجعلت فيه لبنا ودفعته إليه، فمكث عنده حتّى أمنّا. فطلبت منه، فقال لي: أما وجدت أحدا تودعه لبنا غيري.
لقي الحجاج أعرابيّا خاليا بفلاة فسأله عن نفسه فأخبره بكلّ ما يكره وهو لا يعرفه. فقال: إن لم أقتلك فقتلني الله. قال الأعرابي: فأين حقّ الاسترسال؟ فقال الحجاج: أولى، وأعرض عنه.
حيلة عمرو بن العاص
توجّه عمرو بن العاص حيث فتح قيساريّة إلى مصر وبعث إلى علجها (2)
فأرسل إليه: أن أرسل إليّ رجلا من أصحابك أكلّمه. فنظروا فقال عمرو: ما أرى لهذا أحدا غيري. فخرج ودخل على العلج، فكلّمه فسمع كلاما لم يسمع مثله قطّ، فقال: حدّثني. هل في أصحابك مثلك؟ قال: لا تسل عن هواني عليهم إلّا أنهم بعثوني إليك وعرّضوني لما عرّضوني لا يدرون ما تصنع بي.
فأمر له بجائزة وكسوة وبعث إليّ البوّاب: إذا مرّ بك فاضرب عنقه، وخذ ما معه.
__________
(1) اللبن الحازر: الحامض.
(2) العلج: الرجل من كفار العجم، والحمار الوحشي.(4/86)
فخرج من عنده، فمرّ برجل من نصارى العرب من غسّان فعرفه فقال: يا عمرو، إنك قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج. فرجع فقال له الملك: ما ردّك؟
قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجده يسع بني عمّي، فأردت أن أجيئك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطيّة، وتكسوهم هذه الكسوة، فيكون معروفك عند عشرة خيرا من أن يكون عند واحد. قال: صدقت. فاعجل بهم. وبعث إلى البوّاب أن خلّ سبيله، فخرج عمرو وهو يلتفت حتّى إذا أمن قال: لا أعود لمثلها أبدا. فما فارقها عمرو حتّى صالحه، فلما أتي بالعلج قال: أنت هو؟ قال عمرو: نعم على ما كان من غدرك.
أيمن بن خريم ومعاوية
كانت لأيمن بن خريم الأسدي منزلة من معاوية، وكان معاوية قد ضعف عن النّساء، فكان يكره أن يذكر عنده رجل يوصف بالجماع فجلس ذات يوم وفاختة قريبة منه حيث تسمع الكلام فقال: يا أيمن ما بقي من طعامك وشرابك وجماعك وقوّتك؟ فقال: أنا والله يا أمير المؤمنين آكل الجفنة الكثيرة الدرمك (1) والقدر، وأشرب الرّفد (2) العظيم ولا أنقع بالغمر (3)، وأركض بالمهر الأرن ما أحضر (4)، وأجامع من أوّل الليل إلى السّحر.
قال: فغم ذلك معاوية، وكلامه هذا بأذني فاختة، فجفاه معاوية. فشكا أيمن ذلك إلى امرأته فقالت: أذنبت ذنبا. فو الله ما معاوية بعابث ولا متجن.
قال: لا والله إلّا كذا وكذا. قالت: هذا والله الذي أغضبه عليك قال:
فأصلحي ما أفسدت. قالت: كفيتك.
فأتت معاوية فوجدته جالسا للنّاس، فدخلت على فاختة فقالت: ما لك؟
قالت: جئت أستعدي على أيمن. قالت: وما له؟ قالت: ما أدري أرجل هو أم امرأة. وما كشفت لي ثوبا منذ تزوّجني. قالت: فأين قوله لأمير المؤمنين؟ وحكت لها ما قال. قالت: ذاك والله الباطل.
__________
(1) الدرمك: أنعم الدقيق.
(2) الرّفد: بفتح الراء وتكسر: القدح العظيم.
(3) الغمر: القدح الصغير.
(4) أحضر الفرس: اشتد عدوه.(4/87)
وأقبل معاوية فقال: من هذه عندك يا فاختة. قالت: هذه امرأة أيمن جاءت تشكوه. قال: وما لها؟ قالت: زعمت أنّها لا تدري أرجل هو أم امرأة، وأنّه لم يكشف لها ثوبا منذ تزوجها. قال: كذاك هو؟ قالت: نعم ففرّق بيني وبينه فرّق الله بينه وبين روحه! قال معاوية: أو خيرا من ذلك، هو ابن عمّك، وقد صبرت عليه دهرا. فأبت فلم يزل بها يطلب إليها حتّى سمحت له بذلك فأعطاها وأحسن إليها وعادت منزلة أيمن عند معاوية كما كانت.
كتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية حين كبر وخاف العزل:
أمّا بعد فإنّه قد كبرت سنّي، ورق عظمي، واقترب أجلي، وسفّهني سفهاء قريش، فرأي أمير المؤمنين في عمله موفّق.
وكتب إليه معاوية: أمّا ما ذكرت من كبر سنّك فإنّك أكلت سنّك عمرك، وأمّا ما ذكرت من اقتراب أجلك فإني لو كنت أستطيع أن أدفع المنيّة لدفعتها عن آل أبي سفيان، وأما ما ذكرت من سفهاء قريش، فإنّ حلماء قريش أنزلوك هذا المنزل، وأمّا ما ذكرت من العمل فضحّ رويدا. يدرك الهيجا حمل. فاستأذن معاوية في القدوم فأذن له. قال الرّبيع بن هذيم: فخرج المغيرة وخرجنا معه إلى معاوية فقال له: يا مغيرة كبرت سنّك، واقترب أجلك، ولم يبق منك شيء، ولا أظنّني إلا مستبدلا بك، قال: فانصرف إلينا ونحن نعرف الكآبة فيه. فقلنا: ما تريد أن تصنع؟ قال:
ستعلمون ذلك، فأتى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، إن الأنفس يغدى عليها ويراح، ولست في زمن أبي بكر ولا عمر، وقد اجترح الناس. فلو نصبت لنا علما من بعدك نصير إليه، مع أني كنت قد دعوت أهل العراق إلى يزيد فركبوا إليه، حتّى جاءني كتابك. قال: يا أبا محمد، انصرف إلى عملك فأحكم هذا الأمر لابن أخيك. قال: فأقبلنا على البريد نركض، فقال: يا ربيع وضعت والله رجله في ركاب طويل الغي على أمة محمّد. قال: فذاك الذي دعا معاوية إلى البيعة ليزيد.
مرّ حاجب بن حميضة بقاصّ يقصّ في النّجديّة باليمامة فذكر عثمان بن عفّان فنال منه. فقال حاجب: لعن الله شرّكما. فأخذوه وقالوا: يا عدوّ الله تلعن مسلما وتولّي كافرا؟ فقال: لا تعجلوا فأتوا نجدة فأخبروه فقال: يا أمير المؤمنين، عثمان شرّهما. قال: خلّوا أخاكم.(4/88)
حلف رجل من الأعراب باليمامة ألا يكشف لامرأته ثوبا، فسأل القاضي فأمره باعتزالها. فقالت مريم بنت الحريش: لتكشف هي ثوبها صاغرة قميئة.
فأمرها القاضي بذلك.
اختلف إبراهيم بن هشام وقرشيّ في حرف، فحكّما أبا عبيدة بن محمد بن عمّار، فقال: أمّا أفرس الكلامين فما يقول الأمير، وأمّا ما يقول النحويون الخبثاء فما يقول هذا.
حيلة رجل
حدث المدائني أنّ مخارق بن غفار. ومعن بن زائدة في فوارس لقيا رجلا ببلاد الشرك ومعه جارية لم ير مثلها شبابا وجمالا، فصاحوا به أن خلّ عنها ومعه قوس له فرمى بعضهم وجرحه، فهابوا الإقدام عليه، ثم عاد ليرمي فانقطع وتره فأسلم الجارية واستند في جبل كان قريبا منه، فابتدروا الجارية وفي أذنها قرط فيه درّة فانتزعه بعضهم من أذنها فقالت: وما قدر هذه؟ فكيف لو رأيتم درّتين في قلنسوته؟ فاتّبعوه فقال: ما لكم؟ ألم أدع لكم بغيتكم؟ قالوا: ألق ما في قلنسوتك.
فرفع قلنسوته عن رأسه، فإذا فيها وتر للقوس قد كان أعدّه فأنسيه من الدهش، فلما رآه عقده في قوسه فولّى القوم ليست لهم همّة إلّا أن ينجوا بأنفسهم وخلّوا عن الجارية.
هدبة بن الخشرم وامرأة عمه
قدّم هدبة بن الخشرم ليقاد بابن عمّه زيادة، وأخذ ابن زيادة السّيف وقد ضوعفت له الدية حتّى بلغت مائة ألف درهم، فخافت أمّ الغلام أن يقبل ابنها الديّة ولا يقتله فقالت: أعطي الله عهدا لئن لم تقتله لأتزوجنّه فيكون قد قتل أباك ونكح أمّك. فقتله.
حيلة امرأة
وحدّث المدائني أنّ قوما من المسلمين أسروا قوما من الروم وكان فيهم فتيان إخوة فضربوا أعناقهم، وأخذوا أمّهم وهم لا يعرفونها، فأحبّت أن تقتل ولا
تبقى بعد ولدها، فقالت للذي صارت إليه: إن علمتك شيئا تتخذه فلا يحيك فيك السّلاح، تخلّي سبيلي؟ قال: نعم. فأخذت أشياء سترتها عنه فطلت بها رقبتها وقالت: دونك اضرب وشدّ، فإن السّيف لا يعمل فيّ. فضرب رقبتها فحز رأسها فعلم أنّها خدعته.(4/89)
وحدّث المدائني أنّ قوما من المسلمين أسروا قوما من الروم وكان فيهم فتيان إخوة فضربوا أعناقهم، وأخذوا أمّهم وهم لا يعرفونها، فأحبّت أن تقتل ولا
تبقى بعد ولدها، فقالت للذي صارت إليه: إن علمتك شيئا تتخذه فلا يحيك فيك السّلاح، تخلّي سبيلي؟ قال: نعم. فأخذت أشياء سترتها عنه فطلت بها رقبتها وقالت: دونك اضرب وشدّ، فإن السّيف لا يعمل فيّ. فضرب رقبتها فحز رأسها فعلم أنّها خدعته.
لما بلغ يزيد ومروان ابنا عبد الملك لعاتكة بنت يزيد بن معاوية قال لها عبد الملك: قد صار ابناك رجلين، فلو جعلت لهما من مالك ما يكون لهما به فضيلة على إخوتهما. قالت: اجمع لي أهل معدلة من مواليّ ومواليك. فجمعهم وبعث معهم روح بن زنباع الجذاميّ وكان يدخل على نسائهم فدخل كهولتهم وجلّتهم وقال له: أخبرها برضائي عنها، وحسّن لها ما صنعت. فلمّا دخلوا عليها أخذ روح في ذلك فقالت: يا روح، أتراني أخشى على ابنيّ عيلة وهما ابنا أمير المؤمنين، أشهدكم أني قد تصدّقت بمالي وضياعي على فقراء آل أبي سفيان، فقام روح ومن معه. فلمّا نظر إليه عبد الملك مقبلا قال: أشهد بالله لقد أقبلت بغير الوجه الذي أدبرت به. قال: أجل. تركت معاوية في الإيوان آنفا، وخبّره بما كان. فغضب فقال: مه يا أمير المؤمنين، هذا العقل منها في ابنيك خير لهما ممّا أردت.
قال المدائني: أتي عليّ عليه السلام برجل ذي مروءة قد وجب عليه حدّ.
فقال لخصمائه: ألكم شهود؟ قالوا: نعم. قال: فأتوني بهم إذا أمسيتم ولا تأتوني بهم إلّا معتمّين. فلما أمسوا اجتمعوا فأتوه، فقال لهم عليّ عليه السلام: نشدت الله رجلا لله عنده مثل هذا الحدّ إلّا انصرف قال: فما بقي أحد فدرأ الحدّ.
الحجاج وعمارة بن تميم اللخمي
قال المدائني: كان الحجّاج حسودا لا ينشيء صنيعة إلّا أفسدها فلمّا وجّه عمارة بن تميم اللّخمي إلى ابن الأشعث وعاد بالفتح حسده، فعرف ذلك عمارة، وكره منافرته، وكان عاقلا رفيقا فظل يقول: أصلح الله الأمير أنت أشرف العرب، من شرّفته شرف، ومن صغّرته صغر، وما ابن الأشعث وخلعه حتّى استوفد عبد الملك الحجّاج وسار عمارة معه يلاطفه ولا يكاشفه، وقدموا على عبد الملك، وقامت الخطباء بين يديه في أمر الفتح، فقام عمارة فقال: يا أمير المؤمنين سل
الحجاج عن طاعتي وبلائي، فقال الحجّاج: يا أمير المؤمنين، لقد أخلص الطّاعة، وأبلى الجميل، وأظهر البأس، من أيمن النّاس نقيبة، وأعفهم سيرة. فلما بلغ آخر التّقريظ قال عمارة: أرضيت يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم فرضي الله عنك. قال عمارة: فلا رضي الله عن الحجاج يا أمير المؤمنين، ولا حفظه ولا عافاه، وهو الأخرق السييء التّدبير، الذي قد أفسد عليك العراق، وألّب عليك الناس، وما أوتيت إلا من خرقه وقلة عقله، وفيالة رأيه (1)، وجهله بالسّياسة، ولك يا أمير المؤمنين منه أمثالها إن لم تعزله. فقال الحجّاج: مه يا عمارة، فقال: لا مه ولا كرامة يا أمير المؤمنين، كلّ امرأة لي طالق وكلّ مملوك لي حرّ إن سرت تحت راية الحجاج أبدا. فقال عبد الملك: ما عندنا أوسع لك.(4/90)
قال المدائني: كان الحجّاج حسودا لا ينشيء صنيعة إلّا أفسدها فلمّا وجّه عمارة بن تميم اللّخمي إلى ابن الأشعث وعاد بالفتح حسده، فعرف ذلك عمارة، وكره منافرته، وكان عاقلا رفيقا فظل يقول: أصلح الله الأمير أنت أشرف العرب، من شرّفته شرف، ومن صغّرته صغر، وما ابن الأشعث وخلعه حتّى استوفد عبد الملك الحجّاج وسار عمارة معه يلاطفه ولا يكاشفه، وقدموا على عبد الملك، وقامت الخطباء بين يديه في أمر الفتح، فقام عمارة فقال: يا أمير المؤمنين سل
الحجاج عن طاعتي وبلائي، فقال الحجّاج: يا أمير المؤمنين، لقد أخلص الطّاعة، وأبلى الجميل، وأظهر البأس، من أيمن النّاس نقيبة، وأعفهم سيرة. فلما بلغ آخر التّقريظ قال عمارة: أرضيت يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم فرضي الله عنك. قال عمارة: فلا رضي الله عن الحجاج يا أمير المؤمنين، ولا حفظه ولا عافاه، وهو الأخرق السييء التّدبير، الذي قد أفسد عليك العراق، وألّب عليك الناس، وما أوتيت إلا من خرقه وقلة عقله، وفيالة رأيه (1)، وجهله بالسّياسة، ولك يا أمير المؤمنين منه أمثالها إن لم تعزله. فقال الحجّاج: مه يا عمارة، فقال: لا مه ولا كرامة يا أمير المؤمنين، كلّ امرأة لي طالق وكلّ مملوك لي حرّ إن سرت تحت راية الحجاج أبدا. فقال عبد الملك: ما عندنا أوسع لك.
خطب رجل امرأة فقالت له: إنّ فيّ تقزّزا، وأخاف أن أرى منك بعض ما أتقزّز منه فتنصرف نفسي عنك. قال الرّجل: أرجو ألا تري ذلك. فتزوّجها فمكثت أيّاما ثمّ قعد معها يتغذّى فلما رفع الخوان تناول ما سقط من الطعام تحت الخوان فأكله، فنظرت إليه وقالت: أما كان يقنعك ما على ظهر الخوان حتّى تلتقط ما تحته قال: إنّه بلغني أنه يزيد في القوّة على الني، فكانت بعد ذلك تفعله، وتفتّ له الخبز كما تفت للفرّوج.
قال الكنديّ (2): كان فيما مضى رجل زاهد وقع عليه من السلطان طلب، فبقي مدلّها لا يدري ما يصنع وذاك أنّه أذكيت عليه العيون، وأخذت له المراصد، فجاء إلى طنبور (3)، فأخذه ولبس ثياب البطّالين، وتعرّض للخروج من باب البلد، فجاء إلى الباب وهو يتهادى في مشيته كالسّكران، فقالت العيون له عند الباب: من أنت؟ قال: من أنا؟ ومن ترى أكون؟ أنا فلان الزّاهد. وقاله متهزّئا. فقال القوم متضاحكين: ما أحمقه! وخلّوا سبيله. فخرج ونجا وإنّما فعل ذلك لئلّا يكذب.
__________
(1) فيالة رأيه وفيولته: ضعفه.
(2) الكندي: هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث الكندي البصري ثم البغدادي، المعروف بالكندي فيلسوف العرب وأحد أبناء ملوكها، كان عارفا بالطب والرياضيات والمنطق وسائر العلوم. ولد بالبصرة، وتوفي ببغداد سنة 260هـ، له المئات من المصنفات (انظر كشف الظنون 6/ 543537).
(3) الطنبور: من آلات الموسيقي، فارسي معرب.(4/91)
حيلة شريح لبيع ناقة
عرض شريح ناقة للبيع، فقال له المشتري: كيف غزارتها؟ قال: احلب في أيّ إناء شئت. قال: فكيف وثاقتها: قال: احمل على الحائط ما شئت. قال:
فكيف وطاؤها؟ قال: افرش ونم. قال: كيف نجاؤها؟ قال: هل رأيت البرق قط؟.
قال بعضهم: ركض رجل دابّة وهو يقول: الطّريق، الطّريق، فصدم رجلا لم ينحّ، فاستعدى عليه فتخارس الرجل فقال العامل: هذا أخرس. قال: أصلحك الله. يتخارس عمدا، والله ما زال يقول: الطّريق. الطّريق. فقال الرجل: فما تريد وقد قلت لك الطّريق؟ قال العامل: صدق.
قال: كانت ابنة عبد الله بن معروف عند أبي حرثان فمات، ولم يصل إليها لقوّتها، فتزوّجها أبو دلف، فكانت تمانعه سنة لا يصل إليها، فقال له معقل أخوه:
ما أنت برجل. وقد عجزت عن امرأة. فقال: أحبّ أن تبعث جاريتك فلانة تكلّمها. فبعث بها وأمر أبو دلف امرأته أن تلوي العمود في عنق الجارية إذا أتتها وتتركه. ففعلت فرجعت إلى معقل فقال: أشهد أنّ أخي معذور، فما قدر عليها أبو دلف حتّى احتال عليها، بأن قال لها يوما: ما أظنّك ببكر. فأمكنت من نفسها.
حيلة سلامة الزرقاء
كان بالكوفة لعبد الملك بن رامين مولى بشر بن مروان جارية يقال لها:
سلّامة الزّرقاء. وكان روح بن حاتم المهلّبي يهواها ولا تهواه، ويكثر غشيان منزل مولاها، وكان محمد بن جميل يهواها وتهواه، فقال لها: إنّ روح بن حاتم قد ثقل علينا. قالت: فما أصنع؟ قد غمر مولاي ببرّه. قال: احتالي.
فبات عندهم روح ليلة من اللّيالي فأخذت سراويله فغسلته، فلمّا أصبح سأل عن سراويله. فقالت: غسلناه. فظنّ أنه قد أحدث فيه فاحتيج إلى غسله، واستحيا من ذلك، وانقطع عنها، وخلا وجهها لابن جميل.
حيلة أحد عمال سليمان بن عبد الملك
لما استخلف سليمان بن عبد الملك دفع عمّال أخيه الوليد إلى يزيد بن المهلّب وأمره ببسط العذاب عليهم، واستخراج المال منهم، وكان فيهم رجل من
بني مرّة فقال ليزيد: أمّا أنا فلست بذي مال، ولا تنتفع بتعذيبي ولكن عشيرتي تفكّني بأموالهم، فأذن لي في أن أجول فيهم، فأذن له فقال لهم: إنّ أمير المؤمنين قد أخذني بمال، والمال عندي، ولكن أكره أن أقرّ بالخيانة، فاضمنوا له هذا المال عنّي وأطلقوني من حبسه، ولا غرم عليكم فإني مضطلع بأداء هذا المال.(4/92)
لما استخلف سليمان بن عبد الملك دفع عمّال أخيه الوليد إلى يزيد بن المهلّب وأمره ببسط العذاب عليهم، واستخراج المال منهم، وكان فيهم رجل من
بني مرّة فقال ليزيد: أمّا أنا فلست بذي مال، ولا تنتفع بتعذيبي ولكن عشيرتي تفكّني بأموالهم، فأذن لي في أن أجول فيهم، فأذن له فقال لهم: إنّ أمير المؤمنين قد أخذني بمال، والمال عندي، ولكن أكره أن أقرّ بالخيانة، فاضمنوا له هذا المال عنّي وأطلقوني من حبسه، ولا غرم عليكم فإني مضطلع بأداء هذا المال.
فنهض وجوه عشيرته في أمره، وضمنوا المال عنه وأطلقوه، فلمّا أخذوا بالمال قالوا للرّجل: أدّ المال كما زعمت. فقال: يا نوكى (1) أتظنّون أنّني اختنت مالا تعرّضت فيه للمأثم، وسخط الخليفة وعقوبته، وأؤديه اليوم طائعا، وقد صيّرت ما أطالب به في أعناقكم، لبئس ما ظننتم اغرموه من أعطياتكم وأنا فيه كأحدكم. ففعلوا ذلك وهو كأحدهم.
مرّ شبيب الخارجي على غلام في الفرات مستنقع في الماء فقال له شبيب:
اخرج إليّ أسائلك. فقال: فأنا آمن حتّى ألبس ثيابي؟ قال: نعم. قال: فو الله لا ألبسها.
من أعمال المغيرة
خرج المغيرة بن شعبة مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم في بعض غزواته، وكانت له عنزة (2)
يتوكأ عليها فربّما أثقلته، فيرمي بها على قارعة الطّريق فيمرّ بها المارّ فيأخذها. فإذا صاروا إلى المنزل عرّفها فأخذوا المغيرة. ففطن له عليّ عليه السلام فقال:
لأخبرنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم. فقال: لئن أخبرته لا تردّ ضالّة بعدها. فأمسك.
كان عبد الله بن عمرو بن غيلان على البصرة من قبل معاوية، فخطب يوما على منبرها، فحصبه رجل من بني ضبّة، فأمر به فقطعت يده فأتته بنو ضبّة فقالوا:
إنّ صاحبنا جنى على نفسه ما جنى، وقد بلغ الأمير في عقوبته. ونحن لا نأمن أن يبلغ خبره أمير المؤمنين فتأتي من قبله عقوبة تعمّ أو تخصّ. فإن رأى الأمير أن يكتب كتابا يخرج به أحدنا إلى أمير المؤمنين، يخبره أنّه قطعه على شبهة وأمر لم يصح. فكتب لهم بذلك إلى معاوية فأمسكوا الكتاب حتّى توجّه إلى معاوية ووافاه
__________
(1) النوكى: جمع أنوك، وهو الأحمق.
(2) العنزة: عصا بين الرمح والرمح فيه زجّ.(4/93)
الضبّيون، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنّه قطع صاحبنا ظلما، وهذا كتابه إليك. فقرأ الكتاب وقال: أمّا القود من عمّالي فلا سبيل إليه. ولكن إن شئتم وديت صاحبكم. فوداه من بيت المال وعزل عبد الله عن البصرة.
الإمارة ولو على الحجارة
قدم ابن عمّ لكاتب الحجّاج عليه وسأله أن يشغله، فكره الكاتب ذلك لسطوة الحجاج، فلما فرغ من بناء مسجد واسط أمر الكاتب أن يكتب إلى صاحب الموصل في حمل حصى رضراض لفرشه، فكتب الكتاب وأنفذ ابن عمّه فتسلّم الحصى، فلما حصل في الزوارق، قال للعامل: ليس من الحصى الذي أراده الأمير. قال: وكيف هو؟ قال: أمرت ألّا أقبل حصاة أكبر من الأخرى، ولا ما فيه عوج، فكبر ذلك عليه، وكره سطوة الحجاج فعرض عليه عشرة آلاف درهم رشوة، فأبى، فلم يزل يزيده إلى أن أعطاه مائة ألف درهم، فقبلها وانحدر، فلما وافى أخبر ابن عمّه بذلك، فقال: حبّذا الإمارة ولو على الحجارة. وبلغ الخبر الحجاج فضحك وأعجبه فعله، وأمر له بخمسين ألف درهم وولّاه عملا جليلا.
قتل رجل نصرانيا، فعرض على أخيه الدية فلم يقبلها، وكان الرجل صديقا لبشر المرّيسي، فقال بشر للنصراني: إن لم تقم شاهدين عدلين يشهدان أنّ أخاك لم يزل يؤدّي الجزية إلى أن مات لم تجب لك الدية. فانقطع وطلّ دمه.
ومن نوادر الأعمش أن أبا جعفر المنصور وجّه ببدرة، وأمر بأن تدفع إلى أفقه أهل الكوفة، فأتي بها أبو حنيفة وابن أبي ليلى، فلم يعرضا لها وأتي الأعمش فقال للرسول: هاتها. قال: حجّتك. قال: تسأل أبا حنيفة وابن أبي ليلى عن أفقه أهل الكوفة بعدهما فإنّهما يدلّانك عليّ، فتجيز شهادتهما لي وتبطلها لأنفسهما فأتى الرّجل المنصور فأخبره فقال: صدق.
حكي عن الزّهري أنه قال: قدم معاوية المدينة، فدخل المسجد وسعد بن أبي وقاص جالس إلى ركن المنبر فصعد معاوية المنبر فجلس في مجلس النبيّ عليه السلام فقال له سعد: يا معاوية أجهلت فنعلمك، أم جننت فنداويك؟ فقال: يا أبا إسحاق إنّي قدمت على قوم على غير تأهّب لهم، وأنا باعث إليهم بأعطياتهم
إن شاء الله. فسمع الناس كلام معاوية ولم يسمعوا كلام سعد وانصرف النّاس وهم يقولون: كلّمه سعد في العطاء فأجابه إليه.(4/94)
حكي عن الزّهري أنه قال: قدم معاوية المدينة، فدخل المسجد وسعد بن أبي وقاص جالس إلى ركن المنبر فصعد معاوية المنبر فجلس في مجلس النبيّ عليه السلام فقال له سعد: يا معاوية أجهلت فنعلمك، أم جننت فنداويك؟ فقال: يا أبا إسحاق إنّي قدمت على قوم على غير تأهّب لهم، وأنا باعث إليهم بأعطياتهم
إن شاء الله. فسمع الناس كلام معاوية ولم يسمعوا كلام سعد وانصرف النّاس وهم يقولون: كلّمه سعد في العطاء فأجابه إليه.
قيل: جاء مازيار لعبد الله بن طاهر، فأعلمه أن بازيا له انحطّ على عقاب فقتلها. فقال: اذهب فاقطف رأسه. فقال: إنّه هو قتل العقاب. قال: اقتله فإنّي لا أحبّ لشيء أن يجترئ على ما فوقه. أراد أن يبلغ ذلك المأمون فيحظى عنده ويسكن إلى جانبه.
أما عزل أحمد بن عثمان عن قضاء أصبهان تعرّض له رجل وقت خروجه فقال: الحمد لله الذي أراحنا من بغضك. فأمر بحبسه وقال لشهود كانوا معه:
اشهدوا أنّ هذا في حبسي بحق وجب عليه. فكان كلما ورد قاض وفتّش عن المحبّسين لم يعرف ذلك الحقّ الذي حبس به. فبقي على ذلك زمانا حتّى توصل إلى تنجّز كتاب منه بعد حين فأطلقه.
شهد رجل عند سوّار على آخر فقال سوار: أظنّ الحكم قد توجه عليك فقال: أتجيز شهادة رجل ممدود؟ فقال سوّار: أتارس أم رامح؟ فقال: تارس، فقال: ذلك شرّ، سأعيد المسألة عنه وإنما أراد أنه مأبون. فتعجب من حضر من حيلة الرّجل وفطنة سوّار.
هم الأزارقة بقتل رجل فنزع ثوبه واتّزر ولبّى وأظهر الإحرام فخلّوا سبيله لقول الله جلّ وعز: {لََا تُحِلُّوا شَعََائِرَ اللََّهِ} [المائدة: 2].
غضب المأمون على رجل وقال: لأقتلنّك ولآخذنّ مالك. اقتلوه. فقال أحمد بن أبي دؤاد: إذا قتلته فمن أين تأخذ المال؟ قال: من ورثته. فقال: إذا تأخذ مال الورثة، المال للورثة، وأمير المؤمنين يأبى ذلك. فقال: يؤخّر حتّى يستصفى ماله. فانقرض المجلس وسكن غضبه وتوصل إلى خلاصه.
نصيحة أحمد بن أبي خالد
لمّا حبس المأمون إبراهيم بن المهدي عند أحمد بن أبي خالد أخذ في العبادة والصّلاة، فدخل إليه أحمد وقال: أمجنون أنت؟ أتريد أن يقول المأمون:
هو يتصنّع للناس. فيقتلك. قال: فما الرأي؟ قال: أن تشرب وتطرب تستحضر
القيان. فأخذ في ذلك ودخل أحمد على المأمون فقال له: ما خبر الغادر؟ فقال:(4/95)
هو يتصنّع للناس. فيقتلك. قال: فما الرأي؟ قال: أن تشرب وتطرب تستحضر
القيان. فأخذ في ذلك ودخل أحمد على المأمون فقال له: ما خبر الغادر؟ فقال:
أصون سمع أمير المؤمنين عمّا هو فيه من الخسارة والشرب. فقال: والله لقد شوّقتني إليه. وصار ذلك أحد أسباب الرضا عنه.
قيل: إنّ المعذّل مرّ بقوم وسلّم فلم يجيبوه. فقال: لعلّكم تظنّون ما يقال من الرفض. اعلموا أنّ أبا بكر وعمر وعثمان وعليّا من تنقصّ واحدا منهم فهو كافر وامرأته طالق. فسر القوم ودعوا له. فقال بعض أصحابه: ويحك ما هذه اليمين؟
فقال: إنّي أردت بقولي واحدا منهم عليّ بن أبي طالب وحده.
انتقام كسرى من قاتله
لمّا أراد شيرويه قتل أبيه وجّه إليه من يقتله فلمّا دخل عليه قال له كسرى:
إني أدلّك على شيء لوجوب حقّك عليّ يكون فيه غناك. قال: ما هو؟ قال:
الصّندوق الفلاني. فذهب الرّجل إلى شيرويه فأخبر الخبر فأخرج الصندوق فإذا فيه ربعة وفي الربعة حقّ وعلى الحقّ مكتوب: فيه حبّ من أخذ منه واحدة افتضّ عشرة أبكار، وكان أمره في الباه كذا وكذا. فأخذ شيرويه منه حبّة كان هلاكه منها.
فكان أوّل ميّت أخذ ثأره من قاتله.
حيلة مولى لسعيد بن العاص
ومرض مولى لسعيد بن العاص، ولم يكن له من يخدمه ويقوم بأمره، ولا يجد أيضا ما يحتاج إليه. فبعث إلى سعيد، فلمّا أتاه قال له: إنه ليس لي وارث غيرك، وها هنا ثلاثون ألف درهم مدفونة، فإذا أنا متّ فخذها بارك الله لك فيها.
فقال سعيد حين خرج من عنده: ما أرانا إلّا وقد أسأنا إلى مولانا وقصّرنا في تعاهده وهو من شيوخ موالينا. فبعث إليه وتعاهده ووكّل به من يخدمه. فلمّا مات كفّنه وشهد جنازته فلمّا رجع إلى البيت أمر بأن يحفر الموضع فلم يجد شيئا.
وجاء صاحب الكفن فطالبه بالثّمن فقال: والله لقد هممت أن أنبش عن ابن الفاعلة.
بعث يزيد بن معاوية عبيد الله بن عضاه الأشعري إلى ابن الزّبير فقال له: إنّ أول أمرك كان حسنا فلا تفسده بآخره. فقال ابن الزبير: إنه ليست ليزيد في عنقي
بيعة. قال له: ولو كانت أكنت تفي بها؟ قال: نعم. قال: يا معشر المسلمين قد سمعتم ما قال، وقد بايعتم ليزيد، وهو يأمركم بالرجوع عن بيعته.(4/96)
بعث يزيد بن معاوية عبيد الله بن عضاه الأشعري إلى ابن الزّبير فقال له: إنّ أول أمرك كان حسنا فلا تفسده بآخره. فقال ابن الزبير: إنه ليست ليزيد في عنقي
بيعة. قال له: ولو كانت أكنت تفي بها؟ قال: نعم. قال: يا معشر المسلمين قد سمعتم ما قال، وقد بايعتم ليزيد، وهو يأمركم بالرجوع عن بيعته.
وقال ابن الزّبير لامرأة في كلام جرى: أخرجي المال من تحت استك.
فقالت لمن حضر: أسألكم بالله هذا من كلام الخلفاء؟ فقال بعضهم: لا. فقالت لابن الزّبير: كيف رأيت هذا الخلع الخفي.
فتوى لأبي حنيفة
جاءت امرأة إلى أبي حنيفة (1) فقالت: إنّ زوجي حلف بطلاقي إن أطبخ قدرا أطرح فيها مكّوكا من الملح فلا يتبين طعم الملح فيما يؤكل منها. فقال لها:
خذي قدرا واجعلي فيها الماء واطرحي فيها مكوك ملح، واطرحي فيها بيضا واسلقيه، فإنّه لا يوجد طعم الملح في البيض.
افتعل رجل كتابا عن المأمون إلى محمد بن الجهم في دفع مال إليه، فارتاب به محمّد، وأدخله على المأمون. فقال المأمون: ما أذكر هذا. فقال الرجل: أكلّ معروفك تذكر يا أمير المؤمنين؟ قال: فلعلّ هذا ممّا نسيت وقد فعلت. قال: ادفع إليه يا محمد ما في الكتاب.
كان حوثة الضّمريّ صديقا لعبد الملك وخرج مع ابن الزبير فلما قتل ابن الزبير استاء من النّاس وأحضر حوثة فقال له عبد الملك: كنت منّي بحيث علمت فأعنت ابن الزّبير. قال: يا أمير المؤمنين، هل رأيتني قطّ في حرب أو سباق أو نضال إلّا والفئة مغلوبة بحرفي، وإنّما خرجت مع ابن الزبير لتغلبه بي على رسمي. فضحك عبد الملك وقال: قد والله كذبت ولكنّي قد عفوت عنك.
__________
(1) أبو حنيفة: هو النعمان بن ثابت بن طاوس بن هرمز مرزبان بن بهرام، الإمام الأعظم المجتهد، أبو حنيفة الكوفي البغدادي، ولد بالكوفة سنة 80هـ، وتوفي ببغداد سنة 150هـ، من تصانيفه:
«رسالته إلى عثمان البتي قاضي البصرة»، «الفقه الأكبر»، «كتاب الرد على القدرية»، «كتاب العالم والمتعلم»، «المسند» في الحديث. (كشف الظنون 6/ 495، وانظر ترجمته أيضا في: كتاب الوفيات 129، تاريخ بغداد 13/ 323، شذرات الذهب 1/ 227، البداية والنهاية 10/ 107، الكواكب الدرية 1/ 312، تاريخ الخميس 2/ 326، النجوم الزاهرة 2/ 12، تهذيب الكمال ترجمة رقم 7033.(4/97)
قالت خيرة بنت ضمرة القشيرية امرأة المهلّب للمهلّب: إذا انصرفت من الجمعة فأحبّ أن تمرّ بأهلي. فقال لها: إن أخاك أحمق. قالت: فأحب أن تمرّ بنا. فجاء وأخوها جالس فلم يوسّع له فجلس المهلّب ناحية ثم أقبل عليه فقال: ما فعل ابن عمّك فلان؟ قال: حاضر. قال: أرسل إليه. ففعل فلمّا نظر إلى المهلّب غير مرفوع المجلس قال: يابن اللّخناء المهلّب جالس ناحية، وأنت في صدر المجلس وواثبه. فتركه المهلّب وانصرف فقالت له خيرة: أمررت بأهلي؟ قال:
نعم وتركت أخاك الأحمق يضرب.
أسماء لمحمد بن خارجة والحجاج
قالوا: إنّ الحجّاج بن يوسف قال ذات يوم لمحمّد بن عمير بن عطارد:
اطلب لي امرأة حسيبة أتزوّجها: قال: طلبتها إن زوّجتها. قال: ومن هذا الذي يمتنع من تزويجي؟ قال: أسماء بن خارجة. يدّعي لا أنّه كفء لبناته إلّا الخليفة.
قال: فأضمرها الحجّاج إلى أن دخل إليه أسماء فقال: ما هذا الفخر والتّطاول؟ قال: أيّها الأمير إنّ تحت هذا سببا. قال: بلغني أنّك تزعم أن لا كفء لبناتك إلا الخليفة. فقال: والله ما الخليفة بأحب أكفائهنّ إليّ، ولنظرائي من العشيرة أحبّ إليّ منه، لأنّ من خالطني منهم حفظني في حرمتي، وإن لم يحفظني قدرت على أن أنتصف منه، والخليفة لا نصف منه إلّا بمشيئته، وحرمته مضيمة مطّرحة يقدم عليها من ليس مثلها، ولسان ناصرها أقطع. قال: فما تقول في الأمير؟. فإنّ الأمير خاطب هندا. قال: قد زوّجته إيّاها بصداق نسائها. وحوّلها إليه.
فلما أتى على الحديث حولان دخل إلى الحجّاج فقال: هل أتى الأمير ولد، نسرّ ونحمد الله على هبته. قال: أمّا من هند فلا. قال: ولد الأمير من هند وغير هند عندي بمنزلة. قال: والله إني لأحبّ ذلك من هند. قال: فما يمنع الأمير من الضرّ، فإن الأرحام تتغاير. قال: أو تقول هذا القول وعندي هند؟ قال: أحبّ أن يفشو نسل الأمير. قال: فممّن؟ قال: على الأمير بهذا الحيّ من تميم، فنساؤهم مناجيب. قال: فأيّهنّ؟ قال: ابنة محمد بن عمير. قال: إنه يزعم أن لا فارغة له.
قال: فما فعلت فلانة ابنته؟(4/98)
فلما دخل إليه محمد بن عمير قال: ألا تزوّج الأمير؟ قال: لا فارغة لي قال: فأين فلانة؟ قال: زوّجتها من ابن أخي البارحة. قال: أحضر ابن أخيك فإن أقرّ بها ضربت عنقه. فجيء بابن أخيه، وقد أبلغ ما قال الحجاج. فلما مثل بين يديه قال: بارك الله لك يا فتى. قال: في ماذا؟ قال: في مصاهرتك لعمّك البارحة. قال: ما صاهرته البارحة. قال: ما صاهرته البارحة ولا قبلها. قال:
فانصرف راشدا. ولم ينصرف محمد حتّى زوّجه ابنته.
وحضر بعد ذلك يوما من الأيّام جماعة من الأشراف باب الحجاج فحجب الجميع غير أسماء ومحمد. فلما دخلا قال: مرحبا بصهري الأمير سلاني ما تريدان أسعفكما فلم يبقيا عانيا إلّا أطلقاه، ولا مجمّرا إلا أقفلاه.
فلما خرجا أتبعهما الحجّاج بمن يحفظ كلامهما. فلما فارقا الدار ضرب أسماء يده على كتف محمد وأنشأ يقول: [الطويل] جزيتك ما أسديته يا بن حاجب ... وفاء كعرف الديك أو قذّة النّسر
في أبيات كثيرة. فعاد الرجل فأخبر الحجاج فقال: لله درّ ابن خارجة! إذا وزن بالرّجال رجح.
حكم معاوية في خصومة
حكي عن عبد الله بن جعفر أنّه قال: كان علي عليه السلام لا يحضر الخصومات ويقول: إنّ لها قحما وإنّ الشّيطان يحضرها. فكان قد جعل خصومته إلى أخيه عقيل فلمّا كبر ورقّ حوّلها إليّ، فكان إذا دخلت عليه خصومة أو نوزع في شيء قال: عليكم بابن جعفر فما قضي عليه فعليّ، وما قضي له فلي. قال:
فوثب طلحة بن عبيد الله على ضفيرة كان على ضفرها، وكان له إحدى عدوتي الوادي وكانت الأخرى لطلحة. فقال طلحة: حمل عليّ السّيل وأضرّ بي. قال:
فاختصمنا فيها إلى عثمان فلما كثر الكلام فيها منّا قال: إنّي أركب معكم في موكب من المسلمين غدا، فإن رأيت ضررا أخّرته.
قال: فركب وركبنا ومعه معاوية في قدمة قدمها عليه من الشام فو الله لكأنّي أنظر إليه على بغلة له بيضاء يعنق أمام الموكب ونحن نتداول الخصومة وإذ رمى
معاوية بكلمة عرفت أنه ردفني بها قال: يا هذان إنكما قد أكثرتما. أرأيتما هذه الضّفيرة أكانت في زمن عمر بن الخطاب؟ قال: فلقّننيها. فقلت: نعم، والله إن كانت في زمن عمر. قال: فقال الموكب جميعا: فلا والله لو كان ضررا ما أقرّه عمر. فالله يعلم ما انتهينا إليها حتّى يردّ عليه القضاء إن قيل: إن كانت لفي زمن عمر. فلما انتهى إليها عثمان قال: والله ما أرى ضررا. وقد كانت في زمن عمر ولو كان ظلما ما أقرّه.(4/99)
قال: فركب وركبنا ومعه معاوية في قدمة قدمها عليه من الشام فو الله لكأنّي أنظر إليه على بغلة له بيضاء يعنق أمام الموكب ونحن نتداول الخصومة وإذ رمى
معاوية بكلمة عرفت أنه ردفني بها قال: يا هذان إنكما قد أكثرتما. أرأيتما هذه الضّفيرة أكانت في زمن عمر بن الخطاب؟ قال: فلقّننيها. فقلت: نعم، والله إن كانت في زمن عمر. قال: فقال الموكب جميعا: فلا والله لو كان ضررا ما أقرّه عمر. فالله يعلم ما انتهينا إليها حتّى يردّ عليه القضاء إن قيل: إن كانت لفي زمن عمر. فلما انتهى إليها عثمان قال: والله ما أرى ضررا. وقد كانت في زمن عمر ولو كان ظلما ما أقرّه.
خرج رجل من بني سليم على المنصور فظفر به فأمر أن يضرب بالسّياط فلمّا أقيم بين العقابين. قال: يا أمير المؤمنين إنّ عقوبتي تجل عن السّياط، وعفوك يجل عن التثريب. فإمّا عاقبتني عقوبة مثلي وإمّا عفوت عفو مثلك. قال: قد عفوت. وخلاه.
أتي زياد برجل فأمر بضرب عنقه. فقال: أيّها الأمير إن لي بك حرمة قال:
وما هي؟ قال: كان أبي جارك بالبصرة. فقال: ومن أبوك؟ قال: قد والله نسيت اسم نفسي، فكيف اسم أبي؟ قال: فردّ زياد كمّه إلى فمه وضحك وخلى سبيله.
أبو العريان يغير قوله في زياد
مرّ زياد بأبي العريان فقال: من هذا؟ فقالوا: زياد بن أبي سفيان. فقال: ربّ أمر قد نقضه الله، وعبد قد ردّه الله. فسمعها زياد فكره الإقدام عليه وكتب بها إلى معاوية، فأمره بأن يبعث إليه بألف دينار، ويمرّ به ويسمع ما يقول. ففعل زياد ذلك، ومرّ به فقال من هذا؟ قالوا: زياد، فقال: رحم الله أبا سفيان: لكأنّها تسليمته ونغمته. فكتب بها زياد إلى معاوية فكتب إلى أبي العريان: [البسيط] ما لبّثتك دنانير رشيت بها ... أن لوّنتك أبا العريان ألوانا
فدعا أبو العريان ابنه وأملى عليه إلى معاوية: [البسيط] من يسد خيرا يجده حيث يطلبه ... أو يسد شرّا يجده حيثما كانا
تقدّم رجل إلى سوّار وكان سوّار له مبغضا فألح عليه فقال له سوّار في بعض مخاطبته: يا بن اللّخناء. فقال: ذاك خصمي. فقال الخصم: أعدني عليه. فقال له الرجل: خذ له بحقّه وخذ لي بحقّي. ففهم وسأله أن يغفر له.
قال عبيد الله بن زياد بن ظبيان: إيّاكم والطّمع فإنّه دناءة. والله لقد رأيتني على باب خاصة الحجّاج، وخرج فأردت أن أعلوه بالسّيف فقال: يا بن ظبيان هل لقيت يزيد بن أبي مسلم. قلت: لا، قال: فالقه فإنّا قد أمرناه أن يعطيك عهدك على الريّ. قال: فطمعت فكففت. فإياكم والطّمع فإنه دناءة.(4/100)
مرّ زياد بأبي العريان فقال: من هذا؟ فقالوا: زياد بن أبي سفيان. فقال: ربّ أمر قد نقضه الله، وعبد قد ردّه الله. فسمعها زياد فكره الإقدام عليه وكتب بها إلى معاوية، فأمره بأن يبعث إليه بألف دينار، ويمرّ به ويسمع ما يقول. ففعل زياد ذلك، ومرّ به فقال من هذا؟ قالوا: زياد، فقال: رحم الله أبا سفيان: لكأنّها تسليمته ونغمته. فكتب بها زياد إلى معاوية فكتب إلى أبي العريان: [البسيط] ما لبّثتك دنانير رشيت بها ... أن لوّنتك أبا العريان ألوانا
فدعا أبو العريان ابنه وأملى عليه إلى معاوية: [البسيط] من يسد خيرا يجده حيث يطلبه ... أو يسد شرّا يجده حيثما كانا
تقدّم رجل إلى سوّار وكان سوّار له مبغضا فألح عليه فقال له سوّار في بعض مخاطبته: يا بن اللّخناء. فقال: ذاك خصمي. فقال الخصم: أعدني عليه. فقال له الرجل: خذ له بحقّه وخذ لي بحقّي. ففهم وسأله أن يغفر له.
قال عبيد الله بن زياد بن ظبيان: إيّاكم والطّمع فإنّه دناءة. والله لقد رأيتني على باب خاصة الحجّاج، وخرج فأردت أن أعلوه بالسّيف فقال: يا بن ظبيان هل لقيت يزيد بن أبي مسلم. قلت: لا، قال: فالقه فإنّا قد أمرناه أن يعطيك عهدك على الريّ. قال: فطمعت فكففت. فإياكم والطّمع فإنه دناءة.
وكأن الحجاج فطن لما أراد عبيد الله فاحتال بهذا الكلام أن يردّه عن نفسه، ولم يكن تقدّم في بابه وفي توليته بشيء.
حيلة الحلاج
قالوا: لما حبس الحلاج (1) عند القشوري مرض ابن له، واشتهى التفاح الشّاميّ، وكان لا يصاب لفوت أوانه، فتلطّف الحلّاج واحتال حتّى سأله القشوريّ تفّاحة شاميّة. قصد بها ليعرف أمر الحلاج في صدقه وكذبه، وأراد أيضا بلوغ مراده في ولده. وكان الحلاج قد أعدّ تفاحة لذلك فحين سأله أومأ بيده هكذا وأعادها بتفاحة. وتناولها القشوريّ يقلّبها ويتعجب منها والحلاج يقول: السّاعة قطعتها من شجر الجنة قال القشوري: إني أرى في موضع منها عيبا. قال الحلّاج غير مطرق ولا مكترث: أما علمت أنها إذا خرجت من دار البقاء إلى دار الفناء، لحقها جزء من البلاء. فكان جوابه أحسن من فعله وحيلته.
عفو مصعب بن الزبير
أتي مصعب بن الزّبير برجل من أصحاب المختار، فأمر بضرب عنقه، فقال: أيّها الأمير ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة، ووجهك هذا الذي يستضاء به، فأتعلّق بأطرافك وأقول: يا رب سل مصعبا لماذا قتلني؟ فقال: أطلقوه. فقال: أيها الأمير، اجعل ما وهبت لي من حياتي في خفض
__________
(1) الحلاج: هو الحسين بن منصور الحلاج، أبو مغيث، فيلسوف زاهد صوفي ومتكلم، تكلم الناس في معتقده، وأنه كان يقول بتناسخ الأرواح والحلول، وقيل: إنه ادعى الألوهية، وافتتن به كثير من الناس، صلب ثم قتل سنة 309هـ، وأحرقت جثته، له عدة تصانيف (انظر: الأعلام 2/ 260، الفهرست لابن النديم 1/ 190، طبقات الصوفية ص 307، روضات الجنان ص 226، البداية والنهاية 11/ 132، لسان الميزان 2/ 314، الكامل في التاريخ 8/ 39، وفيات الأعيان 1/ 146، ميزان الاعتدال 1/ 256، تاريخ بغداد 8/ 112، مرآة الجنان 2/ 253، شذرات الذهب 2/ 233.(4/101)
عيش. قال: أعطوه مائة ألف درهم. قال بأبي وأمي أشهد الله أني قد جعلت منها لابن قيس الرقيات خمسين ألفا. قال: ولم؟ قال: لقوله فيك (1): [الخفيف] إنما مصعب شهاب من الل ... هـ تجلّت عن وجهه الظلماء
فضحك مصعب وقال: فيك موضع للصنيعة وأمره بملازمته.
خاصم رجل رجلا إلى إياس بن معاوية وهو قاضي البصرة فطلب منه البيّنة، فلم يأته بمقنع فقيل له: استجر بوكيع بن أبي سود حتّى يشهد لك فإنّ إياسا لا يجترئ على ردّ شهادته ففعل فقال وكيع: والله لأشهدن لك، فإن ردّ شهادتي لأعمّمنّه السّيف. فلمّا طلع وكيع فهم إياس، فأقعده إلى جانبه ثمّ سأله عن حاجته فقال: جئت شاهدا. فقال له: يا أبا المطرّف، أتشهد كما تفعل الموالي والعجم؟
أنت تجلّ عن هذا. قال: إذا والله لا أشهد. فقيل لوكيع بعد أيّام: إنما خدعك.
فقال: أولى لابن اللخناء.
عدي بن حاتم والوليد بن عقبة
قالوا: كان الوليد بن عقبة أشعر بركا لأنه كان كثير شعر الصّدر، فقال عديّ بن حاتم يوما: ألا تعجبون لهذا؟ أشعر بركا يولّى مثل هذا المصر؟ والله ما يحسن أن يقضي في نمرتين. فبلغ ذلك الوليد فقال على المنبر: أنشد الله رجلا سمّاني أشعر بركا إلّا قام. فقام عديّ بن حاتم فقال: أيّها الأمير، إنّ الذي يقوم فيقول: أنا سمّيتك أشعر بركا لجريء، فقال له: اجلس يا أبا طريف فقد برّأك الله منها. فجلس وهو يقول: والله ما برّأني الله منها.
المنصور وابن المقفع
لما كتب المنصور أمان عبد الله بن علي واستقصى ابن المقفّع (2) وكان كاتب
__________
(1) البيت في ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات ص 96، وعيون الأخبار 1/ 103.
(2) ابن المقفع: هو عبد الله بن المقفع بن المبارك البغدادي الكاتب، أصله من الفرس، مجوسي أسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح، توفي قتيلا بالبصرة سنة 142هـ، صنف من الكتب: «آيين نامه»، «الأدب الصغير»، «الأدب الكبير»، «التاج في سيرة أنو شروان»، «ترجمة كليلة ودمنة من الفارسي إلى العربي»، «خداينامه في السير»، «الدرة اليتيمة والجوهرة الثمينة»، في الأدب «كتاب مزدك»، «كتاب اليتيمة في الرسائل». (كشف الظنون 5/ 438).(4/102)
أخيه سليمان بن علي وأكّد سليمان وإخوته الأيمان والعهود على المنصور في أمانه. قال لهم المنصور: هذا لازم لي إذا وقعت عيني عليه. فلمّا أدخل داره تقدّم حتّى عدل به، ولم يره المنصور فحبس. فكتب من الحبس إلى إخوته: هذه حيلة جرت عليّ بكم ومنكم فاحتالوا لي فيها.
ولما كتب المنصور إلى عامله بالبصرة بحبس ابن المقفّع وقتله جاء عمومته وأحضروا الشهود بأن ابن المقفّع دخل إلى دار الوالي ولم يخرج منها وطالبوه بالقود منه. قال المنصور: إن أنا أقدت من عاملي وقتلته ثمّ خرج عليكم ابن المقفّع من هذا الباب، من الذي يرضى بأن أقتله بعاملي قودا منه؟ فكست القوم وأهدر دم ابن المقفّع.
حيلة أبي حنيفة
ولما دخل الضحّاك بن قيس الشيباني الخارجي الكوفة قيل له: لم تقتل أهل الأطراف ومعك بالكوفة أصل الإرجاء (1) أبو حنيفة؟ فأرسل إليه فأحضره فلمّا رآه قال: اضربوا عنقه. من قبل أن يكلّمه. فقال أبو حنيفة: كفرت. قال: ولم؟ قال:
تقتل رجلا لم تسمع كلامه. قال: ما تقول في الإيمان؟ قال: هو قول، قال: قد صح كفرك. اضربوا عنقه. قال: تضرب عنق رجل لم تستتبه. قال: فما تقول؟
قال: أنا تائب. فتركه.
حيلة بكر بن وائل
قال الأصمعيّ: وفد بكر بن وائل وخاله تميم بن مر على ملك من ملوك
__________
(1) المرجئة: من الفرق الإسلامية الكبيرة، قالوا بتأخير العقوبة للعبد حتّى يوم القيامة، ويقولون: لا تضر مع الإيمان معصية ولا تنفع مع الكفر طاعة. فهم يعطون الرجاء، وقد ميزوا بين الأعمال والإيمان، فالإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان وليس من الضروري أن يصدر عنه العمل، فالمسلم العاصي الذي ارتكب الكبائر وضيّع الفرائض سوف يتولى الله سبحانه وتعالى حسابه في الآخرة، وأن الخلود في النار خاص بالكفار فقط. وهم خمس فرق: اليونسية والعبيدية والغسانية والثوبانية والثومنية، والمرجئة أصناف: مرجئة الخوارج، ومرجئة الجبرية، ومرجئة القدرية، والمرجئة الخالصة (انظر: كشاف اصطلاحات الفنون 2/ 1510، موسوعة الجماعات والمذاهب ص 351، معجم الفرق الإسلامية ص 219).(4/103)
اليمن، فكان يقدّم بكرا فقال تميم: أيّها الملك إنّ هذا ابن أختي فلا تعطه شيئا إلا أعطيتني مثله. قال: فقال بكر: أيّها الملك، خالي هذا أسوأ الناس ظنّا فلا تعطني عطيّة إلا أضعفتها له. فقال: نعم. ففعل فلمّا رضي تميم قال بكر: أريد أن تقلع إحدى عيني وتقلع عيني تميم. فرجع هذا أعور وذاك أعمى.
حيلة معاوية في بيعة يزيد
قال سعيد بن جبير لمّا حجّ معاوية وقد ذكر بيعة يزيد فقال: قد اجتمع الناس غير أربعة: الحسين بن علي وابن عمر وابن الزّبير وعبد الرحمن بن أبي بكر فأرسل إليهم في ذلك، وقال: من يردّ عليّ في ذلك؟ فقالوا: يرد ابن الزبير. فقال معاوية له: ما تقول؟ قال: اختر منّا ثلاث خصال: سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو سنّة أبي بكر، أو سنّة عمر. أما النبي عليه السلام فتوفي ولم يستخلف أحدا، فاجتمع المسلمون على أفضلهم أبي بكر، واختار هو خيرهم عمر، ثم جعلها عمر شورى، وله يومئذ ولد خير من ولدك ممّن صحب النبي عليه السلام وهاجر فلم يفعل ذلك. وأنت أخبرتني يا معاوية أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الأخير منهما.
فلمّا رأى معاوية ذلك قال: تسمعون لي وتطيعون؟ قالوا: نعم. فخطب فقال: إنّ هؤلاء القوم قد بايعوني على ما أردت. ثم انحدر فركب رواحله وانطلق فحسب النّاس أنهم قد بايعوه.
حيلة معاوية في أمر ابن الزبير
كتب ابن الزبير إلى معاوية: قد علمت أنّي صاحب الدار وأنّي الخليفة بعد عثمان ولأفعلنّ ولأفعلنّ. فقال معاوية ليزيد: ما ترى؟ قال: أرى والله أن لو كنت أنت وابن الزّبير على سواء ما كان ينبغي أن ترضى بهذا. قال: فما ترى؟ قال:
أرى أن توجّه إليه جيشا. قال: إنّ أهل الحجاز لا يسلمونه فكم ترى أن أوجّه إليه؟
قال: أربعين ألفا. قال: لهؤلاء دوابّ، وكلّ دابّة تحتاج إلى مخلاة. فكم ثمن المخلاة؟ قال: درهم. فقال: هذه أربعون ألف درهم. ثم قال: يا غلام اكتب إلى ابن الزبير: قد وجّه إليك أمير المؤمنين ثلاثين ألفا فاستمتع بها إلى أن يأتيك رأيه.(4/104)
فكتب إليه ابن الزّبير قد وصل إلينا المال، فوصل أمير المؤمنين رحما. فقال معاوية ليزيد: قد ربحنا على ابن الزّبير في المخالي عشرة آلاف.
نصح أبي بكرة لأخيه زياد
استأذن زياد معاوية في الحج فأذن له وبلغ ذلك أبا بكرة، وكان أخاه من أمة اسمها سميّة وكان حلف ألّا يكلّم زيادا حيث رجع عن الشّهادة على المغيرة، وألّا يظلّه وإيّاه سقف بيت أبدا. فدخل أبو بكرة دار الإمارة على زياد، فأمر زياد بكرسيّين فوضعا في صحن القصر ليمينه، فجلس أبو بكرة على أحدهما وزياد على الآخر ومع زياد بنى له حيث مشى. فقال أبو بكرة لابنه: تعالى يا بن أخي. فجاء الصّبي فجلس في حجره فقال له: كيف أنت؟ كيف أهلك؟ اسمع منّي يا بن أخي وإنما يريد أن يسمع زيادا إنّ أباك هذا أحمق، قد فجر في الإسلام ثلاث فجرات ما سمعنا بمثلهنّ أمّا أولاهنّ فجحوده الشهادة على المغيرة، والله يعلم أنه قد رأى ما رأينا فكتم، وقد قال الله: {وَمَنْ يَكْتُمْهََا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283].
فحلفت ألّا أكلّمه أبدا، وأما الأخرى فانتفاؤه من عبيد، وادعاؤه إلى أبي سفيان، وأقسم لك بالله يا بن أخي صادقا ما رأى أبو سفيان سميّة قطّ في ليل ولا نهار، ولا في جاهليّة ولا إسلام وأمّا الثالثة فأعظمهن. إنه يريد أن يوافي العام الموسم، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي عليه السلام تأتي الموسم كلّ عام، فإن هو أتاها فأذنت له كما تأذن الأخت لأخيها فأعظم بها مصيبة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! وإن هي حجبته وتستّرت منه فأعظم بها حجّة عليه ثم نهض. فقام زياد في إثره وأخذ بقميصه وقال: جزاك الله من أخ خيرا، فما تركت النصيحة لأخيك على حال.
وترك الحج.
استعمل عمر المغيرة بن شعبة على البحرين ثم عزله، فقال دهقان (1) القرية لأهلها وكان مطاعا فيهم: اجمعوا لي مائة ألف درهم آتي بها عمر ففعلوا، فقال عمر: ما هذا؟ قال: هذا أودعناه المغيرة. فقال عمر للمغيرة: ما هذا؟ قال: إنها
__________
(1) الدهقان: رئيس المدينة، أو رئيس الإقليم، ومن له مال وعقار جمعه: دهاقنة، ودهاقين، فارسي معرب.(4/105)
مائتا ألف درهم. فقال للدّهقان: قد تسمع. فقال: والله ما أودعنا شيئا، إلا إننا خفنا أن تردّه إلينا. فقال عمر للمغيرة: ما دعاك إلى ما قلت؟ قال: أحببت أن أخزيه إذ كذب عليّ.
كان سعد القرظ: زنجيّا عبدا لعمّار بن ياسر، وكان على نخلة يجتبي منها فسمع الزنج يتكلّمون فيما بينهم فأذّن، فاجتمع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه فقال: ما حملك على الأذان؟ فقال خفت عليك فأذّنت ليجتمع إليك أصحابك. فأمره بعد ذلك بالأذان فكان مؤذنا.
قال عبّاس بن سهل السّاعدي: لمّا ولي عثمان بن حيّان المري المدينة عرّض ذات يوم بذكر الفتنة، فقال له بعض جلسائه: عبّاس بن سهل كان شيعة لابن الزّبير وكان قد وجّهه في جيش إلى المدينة. قال: فتغيظ عليّ، وآلى ليقتلنّني. فبلغني ذلك فتواريت عنه حتّى طال عليّ ذلك، فلقيت بعض جلسائه، فشكوت ذلك إليه، وقلت له: قد آمنني أمير المؤمنين عبد الملك. فقال لي: ما يخطر ذكرك إلّا تغيظ عليك وأوعدك، وهو ينبسط للحوائج على طعامه، فتنكّر وأحضر طعامه ثم كلّمه بما تريد.
ففعلت، فأتى بجفنة ضخمة فيها ثردة عليها اللّحم. فقلت: لكأنّي أنظر إلى جفنة حيان بن معبد وتكاوس الناس (1) عليها بباحته. ووصفت له باحته فجعل يقول: أرأيته؟ فقلت: لعمري كأنّي أنظر إليه حين تخرج علينا وعليه مطرف خزّ يجرّ هدبة يتعلّقه حسك السّعدان ما يكفّه عنه، ثم يؤتى بجفنة، فكأني أنظر إلى الناس يتكاوسون عليها منهم القائم ومنهم القاعد. قال: ومن أنت رحمك الله؟
قلت: آمنّي آمنك الله. قال: قد آمنتك، قلت: أنا عبّاس بن سهل الأنصاري.
قال: فمرحبا بك وأهلا، أهل الشرف والحقّ.
قال عباس: فرأيتني وما بالمدينة رجل أوجه عنده منّي. قال: فقال بعض القوم بعد ذلك: يا عبّاس أأنت رأيت حيّان بن معبد يسحب الخزّ يتكاوس الناس على جفنته. فقلت: والله لقد رأيته ونزلنا باحته فأتانا في رحالنا وعليه عباءة قطوانية، فجعلت أذوده بالسّوط عن رحالنا خيفة أن يسرقنا.
__________
(1) تكاوس الناس: تزاحموا وتراكموا.(4/106)
الباب الرابع نكت من كلام الحكماء
قيل لبعضهم: أخرج هذا الغمّ من قلبك. فقال: ليس بإذني دخل.
قال رجل لشبيب بن شيبة: أنا والله أحبّك يا أبا معبد. قال: اشهد على صدقك. قال: وكيف ذاك؟ قال: لأنك لست بجار قريب، ولا ابن عمّ نسيب، ولا مشاكل في صناعة.
وقالوا: صاحب السّوء قطعة من النّار. ولذلك لمّا قال القائل: ما رأينا في كلّ خير وشرّ خيرا من صاحب. قال الآخر: ولا رأينا في كلّ خير وشر شرّا من صاحب.
قال أبو عثمان النّهدي: أتت عليّ مائة وثلاثون سنة، ما من شيء إلا وأنا أجد فيه النّقص إلّا أملى فأنّى أجده كما هو أو يزيد.
قال بعضهم: العالم يعرف الجاهل لأنه كان جاهلا، والجاهل لا يعرف العالم لأنّه لم يكن عالما.
سئل بعضهم عن الغنى فقال: شرّ محبوب. وعن الفقر فقال: ملك ليس فيه محاسبة.
الفرصة ما إذا حاولته فأخطأك نفعه لم يصل إليك ضرّه.
بلوغ أعلى المنازل بغير استحقاق من أكبر أسباب الهلكة.
كلّ شيء يعزّ إذا قلّ، والعقل كلّما كان أكثر كان أعزّ وأغلى.
قال عامر بن عبد القيس: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللّسان لم تجاوز الأذان.(4/107)
قالوا: مقتل الرّجل بين لحييه.
التثبّت نصف العفو.
قال أكثم: الكرم حسن الفطنة. واللّؤم سوء التّغافل.
قيل: أسوأ الناس حالا من اتّسعت معرفته، وبعدت همته، وضاقت مقدرته.
كان عبد الملك بن الحجاج يقول: لأنا للعاقل المدبر أرجى مني للأحمق المقبل.
وقالوا: أمران لا ينفكّان من الكذب: كثرة المواعيد وشدّة الاعتذار.
قال الفضيل بن عياض لسفيان الثّوري: دلّني على من أجلس إليه. قال:
تلك ضالّة لا توجد.
قيل لعبد الله بن كرز: هلّا أجبت أمير المؤمنين حين سألك عن مالك. قال:
إنّه إن استكثره حسدني، وإن استقله حقرني.
قال بعضهم: عيادة النوكى الجلوس فوق القدر، والمجيء في غير وقت.
قال محمد بن واسع: ما آسى من الدنيا إلّا على ثلاث بلغة من عيش ليس لأحد فيها منّة، ولا لله عليّ فيها تبعة، وصلاة في جماعة أكفى سهوها ويدّخر لي أجرها، وأخ إذا ما اعوججت قوّمني.
مرّ عمر بن ذرّ بابن عياش المنتوف وكان قد سفه عليه ثم أعرض عنه، فتعلّق بثوبه وقال: يا هناه إنا لم نجد لك إذ عصيت الله فينا خيرا من أن نطيع الله فيك.
قال بعضهم: ما نصحت لأحد إلّا وجدته يفتّش عن عيوبي.
قيل لبعضهم: أي الناس أحلم؟ قال: سفهاء لقوا أكفاءهم.
قال خليفة بن عبد الله التغلبي: ما خاصمت أحمق ولا كيّسا إلّا رأيته بصيرا بما يسوءني.
سئل ابن أبي بكرة: أي شيء أدوم إمتاعا؟ قال: المنى. وقال عباية: ما يسرّني بنصيبي من المنى حمر النّعم.(4/108)
وقال ابن أبي الزّناد: المنى والحلم أخوان.
وقال بعضهم: الأمانيّ للنّفس مثل التّرّهات للسان.
قال عمرو بن الحارث: كنّا نبغض من الرجال ذا الرياء والنّفج (1) ونحن اليوم نتمناهما.
قال صالح المرّيّ: تغدو الطّير خماصا، وتروح شباعا، واثقة بأنّ لها في كلّ غدوة رزقا لا يفوتها. والذي نفسي بيده لو غدوتم إلى أسواقكم على مثل إخلاصها لرجعتم ودينكم أبطن من بطون الحوامل.
قال خالد بن صفوان: السّفر ثلاث عتبات فأوّلها: العزم، والثّانية: العدّة، والثالثة: الرّحيل، وأشدّهنّ العزم.
قال أكثم بن صيفي: العافية الملك الخفي.
وقال الفضل بن سهل: ليست الفرصة إلّا ما إذا أخطأك نفعه لم ينلك ضرره.
قالوا: سوء حمل الغنى يورث مقتا، وسوء حمل الفاقة يضع شرفا.
وقال أكثم: من جزع على ما خرج من يده فليجزع على ما لم يصل إليه.
قال بعضهم: ظفر الكريم عفو، وعفو اللئيم عقوبة.
كان يقال: لا ينبغي لأحد أن يدع الحزم لظفر ناله عاجز، ولا يرغب في التّضييع لنكبة دخلت على حازم: وكان يقال: ليس من حسن التوكّل أن تقال عثرة ثمّ يركبها ثانية.
قيل: لولا الإغضاء والنسيان، ما تعاشر النّاس لكثرة الأضغان.
قالوا: ثلاث يرغمن العدوّ: كثرة العبيد، وأدب الولد ومحبّة الجيران.
قال: سوء القالة في الإنسان إذا كان كذبا نظير الموت لفساد دنياه، وإذا كان صدقا أشدّ من الموت لفساد آخرته.
__________
(1) النفّاج: المتكبّر، والنّفج، بضمتين: الثقلاء.(4/109)
قالوا: يرضي الكرام الكلام، ويصاد اللّئام بالمال: ويسبى النبيل بالإعظام، ويستصلح السّفلة بالهوان.
قالوا: أمران أنس بالنّهار وحشة بالليل: المال والبستان.
قالوا: لا يزال المرء مستمر ما لم يعثر، فإذا عثر مرّة في الخبار (1) لجّ به العثار ولو كان في جدد.
قال بعضهم: ما شيّبتني السّنون، لكن شكري من أحتاج أن أشكره.
قالوا: المتواضع كالوهدة يجتمع فيها قطرها وقطر غيرها، والمتكبر كالرّبوة لا يقرّ عليها قطرها ولا قطر غيرها.
يقال: إنّه لا يصبر ويصدق في اللّقاء إلّا ثلاثة: مستبصر في دين، أو غيران على حرمة، أو ممتعض من ذل.
قال بعضهم: في مجاوزتك من يكفيك فقر لا منتهى له حتّى تنتهي عنه.
وكان يقال: العفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى.
اعتذار من منع خير من وعد ممطول.
خير المزاح لا ينال، وشرّه لا يقال. وإنما سمي مزاحا لأنّه أزيح عن الحقّ.
اليأس من أعوان الصّبر.
قيل لبعض الحكماء: أيّ الأمور أعجل عقوبة وأسرع لصاحبها صرعة؟ قال:
ظلم من لا ناصر له إلّا الله عزّ وجل، ومجاورة النّعم بالتقصير واستطالة الغني على الفقير.
يقال: من سعادة المرء أن يضع معروفه عند من يشكره.
قالوا: شيئان لا يعرف طعمهما إلّا بعد فقدهما: العافية والشباب.
__________
(1) الخبار، كسحاب: ما لان من الأرض واسترخى والجراثيم، وحجرة الجرذان، وفي المثل: من تجنب الخبار أمن العثار.(4/110)
نظر شابّ إلى شيخ يقارب خطاه فقال له: من قيدك؟ قال: الذي تركته يفتل قيدك.
قيل لشيخ قد ذهب منه المأكل والمشرب والنّكاح: هل تشتهي أن تموت؟
قال: لا. قيل: ولم ذاك؟ قال: أحبّ أن أعيش وأسمع الأعاجيب.
قيل لبعضهم: ما بال الشّيخ أحرص على الدنيا من الشّاب؟ قال: لأنه قد ذاق من طعم الدنيا ما لم يذقه الشاب.
قالوا: الدّين عقلة الشّريف، ما استرقّ الكريم أفظّ من الدين.
اختصم رجلان إلى سعيد بن المسيّب في النطق والصمت: أيهما أفضل؟
فقال: بماذا أبين لكما؟ فقالا: بالكلام. فقال: إذا الفضل له.
وقيل لبعضهم: السكوت أفضل أم النطق؟ فقال: السكوت حتّى يحتاج إلى النطق.
قيل: العقل يأمرك بالأنفع، والمروءة تأمرك بالأجمل.
قيل لبعضهم: ما جماع العقل؟ فقال: ما رأيته مجتمعا في أحد فأصفه، وما لا يوجد كاملا فلا حدّ له.
قال الزهريّ إذا أنكرت عقلك فاقدحه بعاقل.
وقيل: عظمت المؤونة في عاقل متجاهل، وجاهل متعاقل.
وقيل: إنك تحفظ الأحمق من كلّ شيء إلّا من نفسه.
قيل لبعضهم: العقل أفضل أم الجد؟ فقال: العقل من الجد.
قال بعضهم: ينبغي للعاقل أن يطلب طاعة غيره وطاعة نفسه عليه ممتنعة.
قيل لآخر: أتحب أن تهدى إليك عيوبك؟ فقال: أمّا من ناصح فنعم، وأمّا من شامت فلا.
قيل لآخر: هل شيء أضرّ من التّواني؟ قال: الاجتهاد في غير موضعه.
وقيل: العجز عجزان عجز التّقصير. وقد أمكن الأمر، والجد في طلبه وقد فات.(4/111)
وقيل لآخر: أسأت الظّن. فقال: إن الدنيا لمّا امتلأت مكاره وجب على العاقل أن يملأها حذرا.
تأمّل حكيم شيبه فقال: مرحبا بزهرة الحنكة، وثمرة الهدى، ومقدّمة العفّة، ولباس التّقوى.
قيل: لا يسود الرّجل حتّى لا يبالي في أيّ ثوبيه ظهر.
سمع حكيم رجلا يدعو لآخر ويقول: لا أراك الله مكروها. فقال: دعوت له بالموت فإنّ من عاش لا بد له في الدنيا من مكروه.
قالوا: من صفات العاقل ألّا يتحدّث بما يستطاع تكذيبه.
قيل لبعضهم: متى يحمد الكذب؟ فقال: إذا قرب بين المتقاطعين. قيل:
فمتى يذمّ الصّدق: قال: إذا كان غيبة.
دنا رجل من آخر فسارّه فقال: ليس ها هنا أحد. فقال: من حقّ السّرار التداني.
وكان مالك بن مسمع إذا سارّه إنسان قال له: أظهر فلو كان فيه خير لما كان مكتوما.
قيل: السعيد من وعظ بغيره والشّقي من اتّعظ به غيره.
قيل: مما يدلّ على كرم الرّجل سوء أدب غلمانه.
أفحش الظلم ظلم الضعيف.
العبد من لا عبد له.
قيل: إنّ ذا الهمّة وإن حطّ نفسه يأبى إلّا العلوّ، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلّا ارتفاعا.
قيل: الجدّ أجدى، والجدّ أكدى.
وقالوا: الدين غلّ لله في أرضه فإذا أراد أن يذلّ عبدا جعله في عنقه وقيل:
تعرف مروءة الرجل بكثرة ديونه.(4/112)
قيل: العاقل إذا تكلّم بكلمة أتبعها مثلا، والأحمق إذا تكلّم بكلمة أتبعها حلفا.
قيل: الحركة لقاح الجدّ العقيم.
قيل: أربعة لا يستحيا من الختم عليها، المال لنفي التّهم، والجوهر لنفاسته، والطيب للأبدان، والدواء للاحتياط.
قيل: إذا أيسرت فكلّ رجل رجلك، وإذا افتقرت أنكرك أهلك.
قالوا: لو جعل المال للعقلاء مات الجهّال، فلما صار في أيدي الجهال استنزلهم العقلاء عنه بطلفهم.
قيل: نعم الغريم الجوع كما أعطي أخذ.
قال بعضهم: ما رددت أحدا عن حاجة إلّا تبيّنت العزّ في قفاه والذّلّ في وجهي.
قيل: الابتداء بالصّنيعة نافلة، وربّها (1) فريضة.
العدوّ المبطن للعداوة كالنحل يمجّ الدواء ويحتقب الداء.
سئل ابن القريّة: ما الدهاء؟ قال: تجرّع الغضّة، وتوقّع الفرصة قيل:
الحاسد يرى زوال نعمتك نعمة عليه.
الحسد داء يأكل الجسد.
التّواضع أحد مصايد الشّرف، تواضع الرّجل في مرتبته ذبّ للشماتة عند سقطته. كم من صلف أدّى إلى تلف.
سوء الخلق يعدي، وذلك لأنه يدعو غيره إلى أن يقابله بمثله.
صحب رجل آخر سيّئ الخلق فلما فارقه قال: قد فارقته وخلقه لا يفارقه.
__________
(1) ربّها: أي حفظها ورعايتها.(4/113)
المزاح فحل لا ينتج إلّا الشرّ.
المروءة التامّة مباينة العامة.
أسوأ ما في الكريم أن يمنعك نداه. وأحسن ما في اللّئيم أن يكفّ عنك أذاه.
السّفل إذا تعلّموا تكبّروا، وإذا تموّلوا استطالوا، والعلية إذا تعلّموا تواضعوا، وإذا افتقروا صالوا.
ثلاث لا يستصلح فسادهنّ بشيء من الحيل: العداوة بين الأقارب، وتحاسد الأكفاء، وركاكة الملوك.
قيل لحكيم: أي شيء من أفعال العباد يشبه أفعال الله؟ قال: الإحسان إلى الناس.
يقال: السّخي شجاع القلب، والبخيل شجاع الوجه.
البخيل يعيش عيش الفقراء، ويحاسب محاسبة الأغنياء.
العزلة توفّر العرض، وتستر الفاقة، وترفع ثقل المكافأة.
ما احتنك أحد قط إلا أحبّ الخلوة.
خير الناس من لم تجرّبه، كما أن خير الدر ما لم تثقبه.
قال بعضهم: خالطت الناس خمسين سنة، فما وجدت رجلا غفر لي زلّة، ولا أقالني عثرة، ولا ستر لي عورة، ولا أمنته إذا غضب.
الكريم لا يلين على قسر، ولا يقسو على يسر.
المرأة إذا أحبّتك آذتك، وإذا أبغضتك خانتك، فحبّها أذى، وبغضها داء بلا دواء.
المرأة تكتم الحبّ أربعين سنة، ولا تكتم البغض ساعة واحدة، والرجل على عكس هذا.(4/114)
شاور رجل حكيما في التزوّج فقال له: إيّاك والجمال. وأنشد (1): [البسيط] ولن تصادف مرعى ممرعا أبدا ... إلّا وجدت به آثار مأكول
قال رجل: ما دخل داري شر قطّ. فقال حكيم: فمن أين دخلت امرأتك؟
قيل لبعض الحكماء: ما أحسن أن يصبر الإنسان عما يشتهي. فقال: أحسن منه ألّا يشتهي إلّا ما ينبغي.
قيل: شرّ أخلاق الرّجال الجبن والبخل وهما خير أخلاق النساء.
قيل: الممتحن كالمختنق متى ازداد اضطرابا ازداد اختناقا.
قيل: إذا رأيت الزّاهد يستروح إلى طلب الرّخص فاعلم أنّه قد بدا له في الزّهد.
قيل: أجلّ ما ينزل من السّماء التوفيق، وأجلّ ما يصعد إلى السماء الإخلاص.
قيل: كلّ ما لا ينتقل بانتقالك فهو كفيل.
وقيل: ما دار من يشتاق إلى السّفر بدار سلامة.
قال حكيم: من الذي بلغ جسيما فلم يبطر، واتّبع الهوى فلم يعطب، وجاور النّساء فلم يفتتن، وطلب إلى اللّئام فلم يهن، وواصل الأشرار فلم يندم، وصحب السّلطان فدامت سلامته.
اثنان يهون عليهما كلّ شيء العالم الذي يعرف العواقب، والجاهل الذي يجهل ما هو فيه.
وقيل: شرّ من الموت ما إذا نزل تمنّيت لنزوله الموت، وخير من الحياة ما
__________
(1) يروى صدر البيت بلفظ:
ولن تعاين مرعى ناضرا أنفا
والبيت بهذا اللفظ بلا نسبة في لسان العرب (رعى). ويروى عجز البيت بلفظ:
إلا وجدت به آثار منتجع
وهو بهذا اللفظ بلا نسبة في عيون الأخبار 4/ 9، وبلوغ الأرب 2/ 13، والبيت برواية المؤلف بلا نسبة في محاضرات الأدباء 2/ 117.(4/115)
إذا فقدته أبغضت لفقده الحياة.
لتكن النوائب منك ببال فأكثر المكاره فيما لم يحتسب.
قال سفيان: ما وضع أحد يده في قصعة غيره إلّا ذلّ له وقال أبو حمزة السّكّوني: قال لي أبو عبيد الله: من أكل من ثريدنا وطئنا رقبته.
قال رجل لمعروف: يا أبا محفوظ، أتحرك لطلب الرّزق أم أجلس؟ قال: لا بل تحرّك فإنّه أصلح لك. فقال: أمثالك يقول هذا يا أبا محفوظ؟ فقال: ما أنا قلته ولا أمرت به، ولكن الله تعالى قاله وأمر به حيث قال لمريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسََاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا} (25) [مريم: 25] ولو شاء أن ينزله عليها بلا هزّ لفعل.
قال بعضهم: رأيت عكرمة بباب بلخ فقلت له: ما جاء بك إلى ههنا؟ فقال:
بناتي.
قال وهب: الدراهم خواتيم رب العالمين بمعاش بني آدم، لا توكل ولا تشرب، وأين ذهبت بخاتم ربّك قضيت حاجتك.
قيل لبعضهم: لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ قال: هي وإن أدنتني من الدنيا فقد صانتني عنها.
قيل لسفيان بن عيينة: ما أشد حبّك للدّرهم! فقال: ما أحبّ أن يكون أحد أشد حبّا لما ينفعه منّي.
قيل لبعضهم: أين بلغت في العلوم؟ قال: إلى الوقوف على القصور عنها.
قالوا: المرأة كالنعل، يلبسها الرّجل إذا شاء لا إذا شاءت.
قال ابن السماك: الكمال في خمس ألّا يعيب الرّجل أحدا بعيب فيه مثله حتى يصلح ذلك العيب من نفسه، فإنّه لا يفرغ من إصلاح عيب واحد حتّى يهجم على آخر فتشغله عيوبه عن عيب النّاس، والثانية ألّا يطلق لسانه ويده حتّى يعلم أفي طاعة ذاك أو في معصية، والثّالثة ألّا يلتمس من النّاس إلّا مثل ما يعطيهم من نفسه، والرابعة أن يسلم من الناس باستشعار مداراتهم، وتوفيتهم حقوقهم،
والخامسة أن ينفق الفضل من ماله ويمسك الفضل من قوله.(4/116)
قال ابن السماك: الكمال في خمس ألّا يعيب الرّجل أحدا بعيب فيه مثله حتى يصلح ذلك العيب من نفسه، فإنّه لا يفرغ من إصلاح عيب واحد حتّى يهجم على آخر فتشغله عيوبه عن عيب النّاس، والثانية ألّا يطلق لسانه ويده حتّى يعلم أفي طاعة ذاك أو في معصية، والثّالثة ألّا يلتمس من النّاس إلّا مثل ما يعطيهم من نفسه، والرابعة أن يسلم من الناس باستشعار مداراتهم، وتوفيتهم حقوقهم،
والخامسة أن ينفق الفضل من ماله ويمسك الفضل من قوله.
وقال آخر: عجبا لمن عومل فأنصف، إذا عامل كيف يظلم، وأعجب منه من عومل فظلم إذا عامل كيف يظلم.
قالوا: صديق البخيل من لم يجرّبه.
قالوا: الصّبر مرّ، لا يتجرّعه إلّا حرّ.
قرئ من حجر منقور: من الخيط الضعيف يفتل الحبل الحصيف (1)، ومن مقدحة صغيرة تحرق سوق كبيرة، ومن لبنة ليّنة تبنى مدينة حصينة.
قيل: أبصر الناس بعوار الناس المعور.
وقال بعضهم: إن الله تعالى تفرّد بالكمال، ولم يعر أحدا من خلقه من النّقصان.
قيل لبعضهم: متى يحمد الغني؟ قال: إذا اتّصل بكرم. قيل: فمتى تذم الفطنة؟ قال: إذا اقترنت بلؤم.
قال آخر: عجبا لمن قيل فيه الخير وليس فيه كيف يفرح. عجبا لمن قيل فيه الشّرّ وهو فيه كيف يغضب.
ثلاث موبقات: الكبر فإنه حظ إبليس عن مرتبته، والحرص فإنّه أخرج آدم من الجنّة، والحسد فإنه دعا ابن آدم إلى قتل أخيه.
قال ابن السّماك: الفطام عن الحطام شديد.
قالوا: إذا أقبلت الدنيا أقبلت على حمار قطوف (2) مديني، وإذا أدبرت أدبرت على البراق (3).
التّؤدة حسنة في كل شيء إلا في المعروف فإنّها تنغّصه.
أصاب متأمّل أو كاد، وأخطأ مستعجل أو كاد.
__________
(1) الحبل الحصيف: المحكم الفتل.
(2) القطوف: البطيء.
(3) البراق: هي الدابة التي ركبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ما أسري به إلى السماء السابعة.(4/117)
قيل لبعضهم: كيف لا يجتمع المال والحكمة؟ قال: لعزّة الكمال.
كان يقال: لكلّ جديد لذّة إلّا من الإخوان.
العجز عجزان: التقصير في طلب الأمر وقد أمكن، والجد في طلبه وقد فات.
قال يزيد بن أسيّد: أسرّ السّرور قفلة على غفلة.
قيل: ستّة لا تخطئهم الكآبة: فقير حديث عهد بالغنى، ومكثر يخاف على ماله،. وطالب مرتبة فوق قدرته، والحسود والحقود وخليط أهل الأدب وهو غير أديب.
قال خالد بن صفوان: من لم تكن له دابة كثرت ألوان دوابّة.
قال عبد الله بن أبي بكر: لو كنت شاعرا لبكيت على المروءة.
وقال بعضهم: طلبت الرّاحة لنفسي فلم أجد شيئا أروح لها من ترك ما لا يعنيها، وتوحشت في البرية فلم أر وحشة أشدّ من قرين سوء، وشهدت الزحوف ولقيت الأقران فلم أر قرنا أغلب للرّجل من امرأة سوء، ونظرت إلى كلّ ما يذلّ العزيز ويكسره فلم أر شيئا أذلّ له ولا أكسر من الفاقة.
قالوا: أوّل أمر العاقل آخر أمر الجاهل.
قال رجل لعبد الحميد: أخوك أحب إليك أم صديقك؟ قال: إنّما أحبّ أخي إذا كان صديقا.
قالوا: أسوأ ما في الكريم أن يكفّ عنك خيره، وأحسن ما في اللئيم أن يكفّ عنك شرّه.
كان الكنديّ يقول: المسترشد موتّى والمحترس ملقّى. وكان يقول: العبد حرّ ما قنع والحرّ عبد ما طمع.
قيل لمحمّد بن الجهم بعد ما أخذ ماله: أما تفكّر في ذهاب نعمتك؟ فقال:
لا بدّ من الزوال فلأن تزول نعمتي وأبقى خير من أن أزول عنها وتبقى.(4/118)
قال الشّافعي: اغتنموا الفرصة فإنها خلس أو غصص.
أغلظ سفيه لحليم فقيل له: لم لم تغضب؟ فقال: إن كان صادقا فليس ينبغي أن أغضب، وإن كان كاذبا فبالحري ألّا أغضب.
قال بعضهم: ما أحسن حسن الظنّ إلا أن منه العجز وما أقبح سوء الظن إلا أنّ فيه الحزم.
قال قيصر: ما الحيلة فيما أعيا إلّا الكفّ عنه، ولا الرأي فيما لا ينال إلا اليأس منه.
قال سهل بن هارون: ما زلت أدخل فيما يرغب بي عنه متى استغنيت عمّا يرغب لي فيه.
كان يقال: الأحمق إذا حدّث ذهل، وإذا تكلّم عجل، وإذا حمل على القبيح فعل.
قيل: ليس الموسر من ينقص عليّ النّفقة ماله، ولكنّ الموسر من يزكو على الإنفاق ماله.
قال أبو يوسف: إثبات الحجّة على الجاهل سهل ولكن إقراره بها صعب.
قيل لبعضهم: ما الكلفة؟ قال: طلبك ما لا يؤاتيك، ونظرك فيما لا يعنيك.
قال آخر: كما أنّ أواني الفخّار تمتحن بأصواتها فيعرف الصحيح منها من المنكسر، كذلك يمتحن الإنسان بمنطقه فيعرف حاله وأمره.
قال آخر: احتمال الفقر أحسن من احتمال الذّل على أن الرضا بالفقر قناعة والرضا بالذّل ضراعة.
سمع بعضهم رجلا يذكره بسوء فقال: ما علم الله منّا أكثر ممّا تقول.
ابن المقفّع: إنّ مما سخّى بنفس العاقل عن الدنيا علمه بأن الأرزاق لم تقسم على قدر الأخطار.
قالوا: الدنيا حمقاء لا تميل إلا إلى أشباهها.(4/119)
لما قبض ابن عيينة صلة الخليفة قال: يا أصحاب الحديث قد وجدتم مقالا فقولوا: متى رأيتم أبا عيال أفلح؟ وقال: كانت لنا هرّة ليس لها جراء فكانت لا تكشف القدور، ولا تعيث في الدور، فصار لها جراء فكشفت عن القدور، وأفسدت في الدور.
قال بعضهم: إذا أنا فعلت ما أمرت به وكان خطأ لم أذمم عليه، وإذا فعلت ما لم أؤمر به وكان صوابا لم أحمد عليه.
قال آخر: ما استنبط الصّواب بمثل المشورة، ولا حصنت النّعم بمثل المواساة، ولا اكتسبت البغضة بمثل الكبر.
قيل لروح بن زنباع: ما معنى الصّديق؟ قال: هو لفظ بلا معنى. يعني لعوزه.
وقال آخر: السّفر ميزان الأخلاق.
قال عليّ بن عبيدة: العقل ملك والخصال رعيته، فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها.
قالوا: الكذّاب يخيف نفسه وهو آمن.
قال بعضهم: لو لم أدع الكذب تأثّما لتركته تكرّما. وقال آخر: لو لم أدع الكذب تعفّفا لتركته تظرّفا. وقال آخر: لو لم أدع الكذب تحوّبا (1) لتركته تأدّبا.
وقال آخر: لو لم أدع الكذب تورّعا لتركته تصنّعا.
كان الثّوريّ يقول: الناس عدول إلا العدول.
كان بعضهم يقول: اللهم احفظني من أصدقائي. فسئل عن ذلك فقال: إني أحفظ نفسي من أعدائي.
قيل لبعضهم: ما المروءة؟ قال: إظهار الزي. قيل: فما الفتوّة؟ قال: طهارة السّرّ. يحكى ذلك عن البوشنجي شيخ خراسان.
سئل بعضهم: أي الرّسل أحرى بالنجح؟ قال: الذي له جمال وعقل.
__________
(1) نحب فلان نحبا: نذر نذرا، والنّحب: النذر.(4/120)
قالوا: الحيلة لعطف المتجنّي أعسر من نيل التمني.
قال ابن السّماك: لولا ثلاث لم يسلّ سيف ولم يقع حيف. سلك أدقّ من سلك، ووجه أصبح من وجه، ولقمة أسوغ من لقمة.
قال بكر بن عبد الله: ما رأيت أحدا إلا رأيت له الفضل عليّ لأنّي من نفسي على يقين وأنا من النّاس في شكّ.
قيل لابن هبيرة: ما حدّ الحمق؟ قال: لا حدّ له.
أتي ابن عون بماء يصبّ على يده قبل الطّعام فقال: ما أحسب غسل اليد قبل الطّعام إلّا من توقير النّعمة.
قال بعضهم: تعريف الجاهل أيسر من تقرير المنكر.
كان بعضهم يقول: ما بقي أحد يأنف أن يؤنف منه.
كلّ شيء إذا كثر رخص غير العقل فإنّه إذا كثر غلا.
قال آخر: يحسن الامتنان، إذا وقع الكفران، ولولا أنّ بني إسرائيل كفروا النّعمة ما قال الله تعالى لهم: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}.
قيل لرجل مستهتر بجمع المال: ما هذا كلّه؟ قال: إنما أجمعه لروعة الزّمان، وجفوة السّلطان، وبخل الإخوان، ودفع الأحزان.
قال خالد بن صفوان: أنا لا أصادق إلّا من يغفر زللي، ويسد خللي، ويقيل عللي.
قال بعضهم: أوّل صناعة الكاتب كتمان السّرّ.
قالوا: الخوف على ثلاثة أنحاء: ديّن يخاف معادا، وحرّ يخاف عارا، وسفلة يخاف ردعا.
قال علي بن عبيدة: إن أخذت عفو القلوب زكا ريعك، وإن استقصيت أكديت.
قيل: الحسن الخلق قريب عند البعيد، والسيئ الخلق بعيد عند أهله.(4/121)
قال الثّوري: إذا رأيت الرجل محمودا في جيرانه فاعلم أنّه يداهنهم.
قيل لحكيم: كيف للإنسان بألّا يغضب؟ فقال: ليكن ذاكرا في كلّ وقت أنّه ليس يجب أن يطاع فقط، بل أن يطيع وأنه ليس يجب أن يحتمل خطؤه فقط، بل أن يحتمل الخطأ عليه وأنه ليس يجب أن يصبر عليه فقط، بل أن يصبر هو أيضا وأنه بعين الله دائما، فإنه إذا فعل ذلك لم يغضب، وإن غضب كان غضبه أقل.
قال بعضهم: الإفراط في الزّيارة مملّ كما أنّ التّفريط فيها مخلّ.
قال العتبيّ: إذا تناهى الغمّ انقطع الدمع.
وقال إبراهيم بن أدهم: أنا منذ عشرين سنة في طلب أخ إذا غضب لم يقل إلّا الحق فما أجد.
وقال غيره: إذا ولي صديق لك ولاية فأصبته على العشر من صداقته فليس بأخ سوء.
قصد ابن السّماك رجلا في حاجة لرجل فتعسّر، فقال له: اعلم أنّي أتيتك في حاجة، وإنّ الطّالب والمطلوب إليه عزيزان إن قضيت، وذليلان إن لم تقض، فاختر لنفسك عزّ البذل على ذلّ المنع، واختر لي عزّ النّجح على ذل الردّ. فقضاها له.
وقصد آخر آخر مرّة في حاجة فتلوّى، فكاد ينكل عن الكلام، ثم سبق إلى معنى فخبّره وقال للمسؤول: أخبرني حين غدوت إليك في حاجتي، أحسن بك الظّنّ، وأصوغ فيك الثّناء، وأتخيّر لك الشكر، وأمشي إليك بقدم الإجلال، وأكلّمك بلسان التّواضع، أصبت أم أخطأت؟ قال: فأفحم الرّجل وقال: بل أصبت. وقضى حاجته وسأله المعاودة.
قال أبو العتاهية: قلت لعليّ بن الهيثم: ما يجب للصديق؟ قال: ثلاث خلال: كتمان حديث الخلوة، والمواساة عند الشّدّة، وإقالة العثرة.
قيل: سوء حمل الغنى يورث المدح، وسوء حمل الفاقة قد بضع الشّرف.
قيل: الهوى شريك العمى.(4/122)
قيل لصوفيّ: ما صناعتك؟ قال: حسن الظن بالله وسوء الظنّ بالنّاس ثلاثة لم يمن بها أحد فسلم: صحبة السّلطان، وإفشاء السّرّ إلى النساء وشرب السّمّ للتجربة.
لكلّ شيء محلّ، ومحلّ العقل مجالسة النّاس.
أعجب الأشياء بديهة أمن وردت في مقام خوف.
قال ابن المقفّع: الحرص محرمة، والجبن مقتلة. فانظر فيمن رأيت أو سمعت: من قتل في الحرب مقبلا أكثر أم من قتل مدبرا، وانظر من يطلب بالإجمال والتكرّم أحقّ أن تسخو نفسك له أم من يطلب بالشّره والحرص.
قال بكر بن المعتمر: إذا كان العقل تسعة أجزاء احتاج إلى جزء من جهل ليقدم على الأمور فإنّ العاقل أبدا متوان متوقّف مترقّب متخوّف.
قيل: ستّة لا يخطئهم الكآبة: فقير قريب عهد بغنى، ومكثر يخاف على ماله، وطلب مرتبة فوق قدره، والحسود والحقود وخليط أهل الأدب وهو غير أديب.
قال ابن المقفّع: عمل الرّجل، بما يعلم أنّه خطأ هوى، والهوى آفة العفاف، وتركه للعمل بما يعلم أنه صواب تهاون، والتّهاون آفة الدين. وإقدامه على ما لا يدري أصواب هو أم خطأ لجاج، واللّجاج آفة العقل.
قالوا: ما من مصيبة إلّا ومعها أعظم منها إن جزع فالوزر، وإن صبر فالثّواب.
قيل: ضعف العقل أمان من الغم.
لا ينبغي للعاقل أن يمدح امرأة حتّى تموت، ولا يمدح طعاما حتّى يستمرئه، ولا يثق بخليل حتّى يستقرضه.
ليس من حسن الجوار ترك الأذى، ولكنّ حسن الجوار الصّبر على الأذى.
لا يتأدّب العبد بالكلام إذا وثق بأنّه لا يضرب.
ما السيف الصارم في كف الشجاع بأعزّ له من الصّدق.(4/123)
إذا كثرت خزّان الأسرار زادت ضياعا.
ثمرة القناعة الرّاحة، وثمرة التّواضع المحبّة.
الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا ألطف.
أنكأ لعدوّك ألّا تريه أنك تتّخذه عدوّا.
عذابان لا يكترث لهما: السّفر البعيد، والبناء الكبير.
قالوا: «سوف» جند من جنود إبليس أهلك بها بشرا كثيرا. وقيل لبعض الزّهاد: أوصنا. فقال: إيّاكم «وسوف».
سئل بعضهم: أيّ الصّدق السكوت عنه أمثل؟ قال: تزكية المرء نفسه.
وكان يقال: ثلاثة يؤثرون المال على أنفسهم: تاجر البحر، والعامل بالأجر، والمرتشي على الحكم.
قالوا: قبّح الله الدنيا فإنّها إذا أقبلت على الإنسان أعطته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه.
أعجز الناس من قصّر في طلب صديقه، وأعجز منه من وجده فضيّعه.
قال رجل لأبي عبيد الله: لئن أصبحت الدنيا بك مشغولة لتمسينّ منك فارغة. فقال: أنفق ما يكون التعب إذا وعد كذاب حريصا.
اجتمع علماء العرب والعجم على أنّه لا يدرك نعم إلا ببؤس، ولا راحة إلا بتعب.
العادات قاهرات، فمن اعتاد شيئا في سرّه وخلواته فضحه في علانيته وعند الملأ.
قيل: المنى تخلق (1) العقل، وتفسد الدين، وتزرى بالقناعة.
قال قتيبة لحصين: ما السّرور؟ قال: عقل يقيمك، وعلم يزينك وولد يسرك، ومال يسعك، وأمن يريحك، وعافية تجمع لك المسرّات.
__________
(1) خلق الثوب: كنصر، وكرم وسمع، خلوقا وخلقا، محركة: بلي.(4/124)
أسرّ رجل إلى صديق له حديثا فلما استقصاه قال له: أفهمت؟ قال: بل نسيت. وقيل لآخر: كيف كتمانك للسّرّ؟ فقال: أجحد الخبر وأحلف للمستخبر.
والعرب تقول: من ارتاد لسرّه فقد أذاعه.
ويقال: للقائل على السّامع جمع البال، والكتمان، وبسط العذر. قالوا:
كثرة السّرار من أسوأ الآداب.
وقالوا: الأخ البارّ مغيض الأسرار.
قيل لبعضهم: إنّ فلانا لا يكتب، قال: تلك الزمانة (1) الخفيّة.
قال بعضهم: قديم الحرمة وحديث التوبة يمحقان ما بينهما من الإساءة.
قالوا: ركوب الخيل عزّ، وركوب البراذين ذلة، وركوب البغل مهرمة، وركوب الحمير ذل.
قالوا: أربع يسوّدن العبد: الصّدق والأدب والفقه والأمانة.
قال الزّهري: الكريم لا تحكمه التّجارب.
قالوا: العقل يظهر بالمعاملة، وشيم الرّجال تعرف بالولاية.
قال رجل من قريش لشيخ: علّمني الحلم. فقال: هو الذّل أفتصبر عليه؟.
ويقال: ما قلّ سفهاء قوم إلّا ذلّوا.
قال محمد بن عمران التّيمي: ما شيء أشدّ على الإنسان حملا من المروءة؟
قيل له: وما المروءة؟ فقال: ألا تعمل في السّر شيئا تستحيي منه في العلانية.
قال أكثم: الانقباض من النّاس مكسبة للعداوة، وإفراط الأنس مكسبة لقرناء السّوء.
قيل لابن أبي الزناد: لم تحبّ الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: إنها وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها.
وقيل لبعضهم: إنّ فلانا أفاد مالا عظيما. قال: فهل أفاد معه أياما ينفقه فيها؟
قيل لرجل: ما لك تنزل في الأطراف؟ فقال: منازل الأشراف في الأطراف
__________
(1) الزمانة: مرض يدوم.(4/125)
يتناولون ما يريدون بالقدرة، ويتناولهم من يريدهم بالحاجة.
قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل.
قال الشّعبي: عبادة النّوكى أشدّ على المريض من وجعه.
وقال أبو بكر بن عبد الله لقوم عادوه فأطالوا عنده القعود: المريض يعاد والصّحيح يزار.
عزّى رجل رجلا فقال: لا أراك الله بعد هذه المصيبة ما ينسيكها. وعزّى رجل الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين كان لك الأجر لا بك وكان العزاء لك لا عنك.
كان يقال: لك ابنك ريحانك سبعا، وخادمك سبعا، ثم عدوّ أو صديق.
قال المعتمر بن سليمان: أفضل العصمة ألّا تجد.
قيل لبعض الحكماء: ما الشيء الذي لا يحسن أن يقال وإن كان حقّا؟
فقال: مدح الإنسان نفسه.
جلس بعض الزهاد إلى تاجر ليشتري منه شيئا، فمرّ به رجل يعرفه، فقال للتّاجر: هذا فلان الزّاهد فأرخص ما تبيعه منه. فغضب الزاهد وقام وقال: إنما جئنا لنشتري بدراهمنا لا بمذاهبنا.
قيل لبعضهم: ما الشيء الذي لا يستغني عنه في حال من الأحوال؟ فقال:
التوفيق.
قيل لبعض من يطلب الأعمال: ما تصنع؟ قال: أخدم الرجاء، حتى ينزل القضاء.
قال بعضهم: أوسع ما يكون الكريم مغفرة، إذا ضاقت بالمذنب المعذرة.
قال آخر: أمتع الجلساء الذي إذا عجّبته، عجب وإذا فكّهته طرب، وإذا أمسكت تحدّث، وإذا فكّرت لم يلمك.
قيل لبعضهم: متى يحمد الغنى؟ قال: إذا اتّصل بكرم. قيل: فمتى تذمّ الفطنة؟ قال: إذا اقترنت بلؤم.(4/126)
قال بعضهم: ستر ما عاينته أحسن من إشاعة ما ظننته.
قيل لجميل بن مرة: مذ كم هجرت الناس؟ قال: مذ خمسين سنة. قيل له:
ولم ذاك؟ قال: صحبتهم أربعين سنة، فلم أر فيهم غافرا لزلة ولا راحما لعبرة، ولا مقيلا لعثرة، ولا ساترا لعورة ولا حافظا لخلّة، ولا صادقا في مودّة، ولا راعيا لزمام حرمة، ولا صادقا في خبره، ولا عادلا في حكومة فرأيت الشغل بهم حمقا، والانقطاع عنهم رشدا.
كان بعضهم يقول: اللهم احفظني من أصدقائي. فقيل له في ذلك فقال: إنّي حافظ نفسي من أعدائي.
قال آخر: إساءة المحسن أن يمنعك جداوه، وإحسان المسيء أن يكفّ عنك أذاه.
قيل لعبد الله بن المبارك: ما التواضع؟ قال: التّكبّر على المتكبّرين قيل: من لا ينفذ تدبيرك عليه في إذلاله فتوفّر على توخّي إجلاله.
قال الشافعي: ما رفعت أحدا فوق منزلته إلّا حطّ مني بقدر ما رفعت منه.
قال المسيّب بن واضح: صحبت ابن المبارك مقدمه من الحج فقال لي: يا مسيّب ما أتى فساد العامة إلّا من قبل الخاصة. قلت: وكيف ذاك رحمك الله؟
قال: لأنّ أمّة محمّد عليه السلام على طبقات خمس: فالطبقة الأولى هم الزّهاد، والثانية العلماء، والثّالثة الغزاة، والرّابعة التّجار والخامسة الولاة. فأمّا الزّهاد فهم ملوك هذه الأمّة، وأما العلماء فهم ورثة الأنبياء، وأما الغزاة فهم أسياف الله عز وجل، وأما التجار فهم الأمناء، وأمّا الولاة فهم الرعاة.
فإذا كان زاهدا طامعا فالتّائب بمن يقتدي؟ وإذا كان العالم راغبا فالجاهل بمن يهتدي؟ وإذا كان الغازي مرائيا فمتى يظفر بالعدوّ؟ وإذا كان التّاجر خائنا فعلام يؤتمن الخونة! وإذا كان الراعي ذئبا فالشّاه من يحفظها؟
قال بعض الحكماء: خمسة لا تتم إلا لقرنائها: الجمال لا يتم إلا بالحليّ، والحسب لا يتمّ إلّا بالأدب، والغنى لا يتمّ إلّا بالجود، والبطش لا يتم إلّا بالجرأة، والاجتهاد لا يتمّ إلا بالتوفيق.(4/127)
قيل لبعضهم: متى تطيعك الدنيا؟ قال: إذا عصيتها.
قال آخر: ربّ مغبوط بنعمة هي داؤه، ورب محسود على حال هي بلاؤه، وربّ مرحوم من سقم هو شفاؤه.
قالوا: إذا أراد الله أن يسلّط على عبده عدوا لا يرحمه سلّط عليه حاسدا.
وكان يقال في الدعاء على الرّجل: طلبك من لا يقصّر دون الظّفر، وحسدك من لا ينام دون الشّقاء.
قال محمد بن كعب: إذا أراد الله بعبد خيرا زهّده في الدنيا وفقّهه في الدين، وبصّره عيوبه.
قال مالك بن دينار (1): من طلب العلم لنفسه فالقليل يكفي، ومن طلبه للناس فحوائج النّاس كثيرة.
قال رجل لآخر: إني أتيتك في حاجة فإن شئت قضيتها وكنّا جميعا كريمين، وإن شئت منعتها وكنا جميعا لئيمين.
قال بعض النّساك: قد أعياني أن أنزل على رجل يعلم أني لا آكل من رزقه شيئا.
قيل: مثل شرب الدواء مثل الصابون للثّوب ينقّيه ولكن يخلقه.
كان يقال: النظر يحتاج إلى القبول، والحسب إلى الأدب، والسّرور إلى الأمن، والقربى إلى المودّة، والمعرفة إلى التجارب، والشّرف إلى التواضع والنجدة إلى الجد.
قال بعضهم: أعناق الأمور تشابه في الغيوب فربّ محبوب في مكروه ومكروه في محبوب، وكم من مغبوط بنعمة هي داؤه ومرحوم من داء فيه شفاؤه.
وقيل: ربّ خير في شرّ، ونفع في ضر.
__________
(1) هو أبو يحيى مالك بن دينار السامي الناجي، تابعي من البصرة، الزاهد المعروف. توفي سنة 127 هـ. (انظر ترجمته: في البداية والنهاية 10/ 27، تاريخ التراث العربي 1/ 4/ 99، الكواكب الدرية 1/ 277، كتاب المعارف لابن قتيبة ص 470، حلية الأولياء 2/ 357، شذرات الذهب 1/ 173.(4/128)
قال ابن المقفّع: الحسد خلق دنيّ، ومن دناءته أنه يوكّل بالأقرب فالأقرب.
قال قتادة (1): لو كان أحد مكتفيا من العلم لاكتفى نبيّ الله موسى عليه السلام إذ قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى ََ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمََّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف: 66].
قال دغفل بن حنظلة: إنّ للعلم أربعا: آفة ونكدا وإضاعة واستجاعة فآفته النّسيان، ونكده الكذب، وإضاعته وضعه في غير موضعه، واستجاعته أنك لا تشبع منه.
قال أبو عثمان الجاحظ: وإنما عاب الاستجاعة لأنّ الرّواة شغلوا عقولهم بالازدياد، والجمع عن تحفظ ما قد حصّلوه، وتدبّر ما قد دوّنوه.
قال بعضهم: عيادة النوكى الجلوس فوق القدر، والمجيء في غير وقت.
قال أكثم بن صيفي: ما أحبّ أن أكفى كلّ أمر الدنيا. قالوا: وإن أسمنت وألبنت؟ قال: نعم، أكره عادة العجز.
قال أبو عثمان: كتب شيخ من أهل الرّيّ على باب داره: جزى الله من لا يعرفنا ولا نعرفه خيرا، فأما أصدقاؤنا الخاصّة فلا جزاهم الله خيرا فإنا لم نؤت قط إلا منهم.
قيل لرجل من أهل البصرة: ما لك لا ينمى مالك؟ قال: لأني اتّخذت العيال قبل المال، واتخذ الناس المال قبل العيال.
كان خالد بن صفوان يكره المزاح ويقول: يصيب أحدهم أخاه ويصكّه بأشدّ من الحديد، وأصلب من الجندل، ويفرغ عليه أحرّ من المرجل ثم يقول إنّما مازحته.
قيل لإبراهيم المحلّمي: فيك حدّة. فقال: أستغفر الله مما أملك وأستصلحه ما لا أملك.
قيل لرجل: إنّ فلانا يشتمك. قال: هو في حلّ. قيل له: تحلّه وقد
__________
(1) قتادة: هو قتادة بن دعامة بن عزيز، أبو الخطاب السدوسي البصري، مفسر، حافظ، ضرير، توفي سنة 118هـ (الأعلام 5/ 189).(4/129)
شتمك؟ فقال: ما أحبّ أن أثقل ميزاني بأوزار إخواني.
قال الغاضري: أعطانا الملوك الآخرة طائعين، وأعطيناهم الدنيا كارهين.
قال بعضهم: الصبر عن النّساء أيسر من الصبر عليهنّ.
ذكرت العامة للأوزاعي (1) فقال: هي كالبحر، إذا هاج لم يسكّنه إلا الله.
قال بعضهم لصاحب له: إذا كنت لا ترضى منّي بالإساءة فلم رضيت من نفسك بالمكافأة؟
قال بعضهم: كلّ شيء يحتاج إلى العقل، والعقل يحتاج إلى التجربة.
قيل لبعضهم: ما الصديق؟ قال: اسم لا يوجد معناه.
كان يقال: طول اللحية أمان من العقل.
قالوا: إذا قعدت وأنت صغير حيث تحب، قعدت وأنت كبير حيث تكره.
قال بعضهم: شرّ المال ما لزمك إثم مكسبه، وحرمت لذّة إنفاقه.
قيل للعتابي: ما المروءة؟ فقال: ترك اللّذة. قيل: فما اللّذّة؟ قال: ترك المروءة.
قيل لصوفيّ: كيف أنت؟ قال: طلبت فلم أرزق، وحرمت فلم أصبر.
قال أحمد بن المعذّل لأخيه عبد الصّمد: أنت كالأصبع الزائدة إن تركت شانت، وإن قطعت آلمت.
قال بعضهم: إنّ الغنى والعزّ خرجا يجولان فلقيا القناعة فاستقرّا.
قال بعضهم: أنا بالصّديق آنس مني بالأخ. فقال له ابن المقفّع: صدقت
__________
(1) الأوزاعي: هو الإمام عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي، أبو عمرو، ولد في بعلبك سنة 88هـ، وتوفي ببيروت سنة 157هـ، إمام أهل الشام في الفقه والزهد، محدث عالم بالأصول له عدة مؤلفات، منها: «كتاب السنن» في الفقه، «كتاب المسائل» في الفقه. (انظر ترجمته في: كشف الظنون 5/ 511، كتاب الثقات لابن حبان 7/ 62، الطبقات الكبرى لابن سعد 7/ 339البداية والنهاية 10/ 125120، الأعلام 3/ 320، الفهرست لابن النديم 1/ 227، وفيات الأعيان 1/ 275، حلية الأولياء 6/ 135، شذرات الذهب 1/ 241).(4/130)
الصّديق نسيب الروح، والأخ نسيب الجسم.
قال أبو العالية الرّياحي إذا دخلت الهديّة صر الباب وضحكت الأسكفّة (1).
قالوا: جزية المؤمن كراء منزله، وعذابه سوء خلق امرأته.
سمع رجل رجلا يقول لصاحبه: لا أراك الله مكروها. فقال: كأنّك دعوت على صاحبك بالموت. أمّا ما صاحب صاحبك الدنيا فلا بدّ له من أن يرى مكروها.
قال معن بن زائدة: ما أتاني رجل قطّ في حاجة فرددته عنها إلا تبيّن لي غناه عني إذا أدبر.
قال بعض الصوفية: بالخلق يستفاد الكون، وبالخلق يستفاد الخلد.
أراد ملك سفرا فقال: لا يصحبني ضخم جبان، ولا حسن الوجه لئيم، ولا صغير رغيب (2).
نظر أعرابي إلى خالد بن صفوان وهو يتكلّم فقال: كيف لم يسد هذا مع بيانه؟ فقال خالد: منعتم مالي، وكرهت السّيف.
يقال: الوعد وجه والإنجاز محاسنه.
قالوا: الهالك على الدنيا رجلان: رجل نافس في عزّها، ورجل أنف من ذلّها.
قال ميمون: الطالب في حيلة، والمطلوب في غفلة، والناس منهما في شغل.
كان ابن السّماك يقول: لا أدري أأوجر على ترك الكذب أم لا لأني أتركه أنفة.
قيل: إنّ الرمد لا يعاد، والسّبب فيه ألّا يراه العوّاد وما في منزله وهو لا يراهم.
__________
(1) الأسكفّة: عتبة الباب.
(2) الرغيبة: الشيء المرغوب فيه. والرّغب، بالضم: كثرة الأكل، وشدة النهم، فعلة: ككرمه، فهو رغيب، كأمير، وواد رغيب: ضخم، كثير الأخذ، واسع.(4/131)
قال ابن شهاب: ليس بكذّاب من درأ عن نفسه.
قال الحجّاج لابن القريّة: ما الأرب؟ قال: الصبر على كظم الغيظ. حتى تمكن الفرصة.
قالوا: ثلاث لا غرية معهنّ: مجانبة الرّيب، وحسن الأدب، وكفّ الأذى.
وكان يقال: عليكم بالأدب، فإنه صاحب في السفر، ومؤنس في الوحدة، وجمال في المحفل، وسبب إلى طلب الحاجة.
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: ما أحسن الحسنات في آثار السيّئات، وأقبح السّيئات في آثار الحسنات، وأقبح من هذا وأحسن من ذاك السّيّئات في آثار السيئات، والحسنات في آثار الحسنات.
قال أبو إدريس الخولاني: المساجد مجالس الكرام.
قيل: المنّة تهدم الصنيعة.
وكان يقال: كتمان المعروف من المنعم عليه كفر له، وذكره من المنعم تكدير له. كان مالك بن دينار يقول: ما أشدّ فطام الكبير.
كان يقال: أنعم النّاس عيشا من عاش في عيشة غيره.
قال رجل لرجل من قريش: والله ما أملّ الحديث. فقال: إنّما يملّ العتيق.
يروى عن أسماء بن خارجة أنه قال: لا أشاتم رجلا ولا أردّ سائلا، فإنما هو كريم أسدّ خلّته، أو لئيم أشتري عرضي منه.
كان ابن شبرمة إذا نزلت به نازلة قال: سحابة ثم تتقشّع.
كان يقال: أربع من كنوز الجنّة: كتمان المصيبة، وكتمان الصّدقة، وكتمان الفاقة، وكتمان الوجع.
قيل: ليس للجوج تدبير، ولا لسيّئ الخلق عيش، ولا لمتكبّر صديق والمنّة تفسد الصنيعة.
كان يقال: لا ينبغي لعاقل أن يشاور واحدا من خمسة: القطّان والغزّال
والمعلّم وراعي الضأن ولا الرّجل الكثير المحادثة للنّساء. وقيل في مثل هذا: لا تدع أم صبيّك تضربه فإنه أعقل منها وإن كان طفلا.(4/132)
كان يقال: لا ينبغي لعاقل أن يشاور واحدا من خمسة: القطّان والغزّال
والمعلّم وراعي الضأن ولا الرّجل الكثير المحادثة للنّساء. وقيل في مثل هذا: لا تدع أم صبيّك تضربه فإنه أعقل منها وإن كان طفلا.
قال رجل لابن عبد الرحمن بن عوف: ما ترك لك أبوك؟ قال: ترك لي مالا كثيرا. فقال: لا أعلمك شيئا هو خير لك مما ترك أبوك؟ إنه لا مال لعاجز، ولا ضياع على حازم، والرّقيق جمال وليس بمال، فعليك من المال بما يعولك ولا تعوله.
وقيل لخريم النّاعم: ما النّعمة؟ فقال: الأمن فإنه ليس لخائف عيش والغنى فإنه ليس لفقير عيش. والصّحة فإنه ليس لسقيم عيش قيل: ثمّ ماذا؟
قال: لا مزيد بعدها.
قيل: خير الكلام ما أغنى اختصاره على إكثاره.
قيل: النمام سهم قاتل، أراد رجل الحجّ، فأتى شعبة بن الحجّاج (1) فودّعه فقال له شعبة: أما إنّك إن لم تر الحلم ذلّا، والسفه أنفا سلم حجّك.
روي عن بعض الأئمة أنه قال: الإنصاف راحة، والإلحاح قحة، والشّح شناعة، والتّواني إضاعة والصحّة بضاعة، والخيانة وضاعة، والحرص مفقرة، والدناءة محقرة، والبخل غل، والفقر ذلّ، والسخاء قربة، واللؤم غربة، والذّلّة استكانة، والعجز مهانة، والأدب رياسة، والحزم كياسة، والعجب هلاك، والصبر ملاك والعجلة زلل، والإبطاء ملل.
ثلاثة أشياء لا ثبات لها: المال في يد من يبذّر، وسحابة الصّيف، وغضب العاشق.
قيل للشّبلي (2): ما الفرق بين رقّ العبودية ورقّ المحبّة؟ فقال: كم بين عبد
__________
(1) هو شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي، مولاهم البصري، أبو بسطام، ولد سنة 82هـ، وتوفي سنة 160هـ، من أئمة الحديث ورجاله حفظا ودراية، له «تفسير القرآن». (كشف الظنون 5/ 417، الأعلام 3/ 164، حلية الأولياء 7/ 144، تاريخ بغداد 9/ 250، ذيل المذيل 104).
(2) الشبلي: هو الناسك المتصوف، أبو بكر دلف بن جحدر، وقيل: جعفر بن يونس، الشبلي، له مقامات وأحوال توفي ببغداد سنة 334هـ. (تاريخ بغداد 14/ 389، وفيات الأعيان 1/ 273، العبر 2/ 240، طبقات الصوفية ص 337).(4/133)
إذا أعتق صار حرا، وبين عبد كلما أعتق ازداد رقّا.
قالوا: الزّاهد في الدينار والدرهم أعزّ من الدينار والدرهم. وقيل لمحمد بن واسع: كيف أنت؟ قال: كيف أكون، وأنا إذا كنت في الصّلاة فدخل إنسان غنيّ أوسّع له بخلاف ما أوسّع للفقير.
سئل بعضهم: أيّما أحمد في الصّبي الحياء أم الخوف؟ فقال: الحياء لأن الحياء يدلّ على عقل والخوف يدلّ على جبن.
قالوا: ربّ حرب جنيت بلفظة، ورب ود غرس بلحظة.
شكا رجل إلى بشر بن الحارث (1) كثرة العيال فقال له: فرّغك فلم تشكره، فعاقبك بالشّغل. كان يقال: إذا تزوّج الرّجل فقد ركب البحر، فإن ولد له فقد كسر به.
قال يونس بن عبيد (2): ما سمعت بكلمات أحسن من كلمات ثلاث قالهنّ ابن سيرين ومورّق العجلي وحسّان بن أبي سنان. أما ابن سيرين: ما حسدت على شيء قط. وأمّا مورق فقال: ما قلت في الغضب شيئا فندمت عليه في الرضا. وأمّا حسّان فقال: ما شيء أهون من الورع إذا رابك شيء فدعه.
قال ابن مسعر: كنت أمشي مع سفيان بن عيينة فسأله سائل فلم يكن معه ما يعطيه، فبكى فقلت له: يا أبا محمّد ما يبكيك؟ قال: وأيّ مصيبة أعظم من أن يؤمّل فيك رجل خيرا فلا يصيبه منك.
قال: كفى نصرا لمؤمن أن يرى عدوّه يعمل بمعاصي الله.
__________
(1) هو بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله، الحافي، أبو نصر، من السادة الصوفية، توفي ببغداد سنة 227هـ (انظر ترجمته في: البداية والنهاية 10/ 317316، الطبقات الكبرى لابن سعد 7/ 246، كتاب الثقات لابن حبان 8/ 143، تاريخ التراث العربي لسزكين 1/ 4/ 110، تذكرة الحفاظ ترجمة رقم 442، مختصر دول الإسلام 1/ 137، طبقات الصوفية 39، حلية الأولياء 8/ 336، الرسالة القشيرية ص 11، كشف المحجوب 131، نفحات الأنس 133، الكواكب الدرية 1/ 368).
(2) هو يونس بن عبيد بن دينار العبدي البصري، أبو عبد الله، شيخ البصرة في زمانه علما وزهدا، من حفاظ الحديث الثقات، من أصحاب الحسن البصري، توفي سنة 139هـ (الأعلام 8/ 262، شذرات الذهب 1/ 217، العبر 1/ 188).(4/134)
قيل: ثلاثة تعرض في الأحمق: سرعة الجواب، وكثرة الالتفات، والثّقة بكلّ أحد.
قيل: صلاح كلّ ذي نعمة في خلاف ما فسد عليه.
قيل لبعضهم: كم آكل؟ قال: فوق الشبع. قال: فكم أضحك قال: حتّى يسفر وجهك ولا يسمع صوتك. قال: فكم أبكي؟ قال: لا تملّ أن تبكي من خشية الله. قال: فكم أخفي من عملي؟ قال: حتّى يرى النّاس أنك لا تعمل حسنة. قال: فكم أظهر من عملي؟ قال: حتّى يقتدي بك البرّ ويؤمن عليك قول النّاس.
العزلة عن الناس توفّر العرض، وتبقي الجلالة، وتستر الفاقة وترفع مؤونة المكافأة. ونعم صومعة الرّجل بيته، يكفّ فيه سمعه وبصره ولسانه ويقلّ فكره.
أنعم النّاس عيشا من تحلّى بالعفاف، ورضي بالكفاف، وتجاوز ما يخاف إلى ما لا يخاف.
قيل لرجل: ما السّيّد فيكم؟ قال: الباذل لنداه، الكافّ لأذاه، النّاصر لمولاه.
قيل: التّواضع نعمة لا يفطن لها الحاسد.
قال خالد بن صفوان: ينبغي للعاقل أن يمنع معروفه الجاهل واللّئيم والسّفيه أمّا الجاهل فلا يعرف المعروف والشّكر، وأمّا اللّئيم فأرض سبخة لا تنبت ولا تصلح، وأما السّفيه فإنّه يقول: أعطاني فرقا من لساني.
خير العيش ما لا يطغيك ولا يلهيك.
قال سعيد بن عبد العزيز ما ضرب العباد بسوط أوجع من الفقر.
قال فيروز بن حصين: إذا أراد الله تعالى أن يزيل عن عبد نعمة كان أوّل ما يغيّر منه عقله.
قيل لمحمّد بن كعب القرظي: ما علامة الخذلان؟ قال: أن يستقبح المرء من الأمر ما كان عنده حسنا، ويستحسن ما كان عنده قبيحا.(4/135)
قال شيخ من أهل المدينة: المعرّض بالنّاس اتّقى صاحبه، ولم يتّق ربّه.
قيل لشيخ همّ (1) أي شيء تشتهي؟ قال: أسمع الأعاجيب.
قالوا: عشر خصال في عشرة أصناف أقبح منها في غيرهم: الضّيق في الملوك والغدر في الأشراف، والكذب في القضاء، والخديعة في العلماء، والغضب في الأبرار، والحرص في الأغنياء، والسّفه في الشيوخ والمرض في الأطباء والتهزىء في الفقراء، والفخر في القرّاء.
قال ابن أبي ليلى: لا أماري أخي فإمّا أن أكذّبه أو أغضبه.
قال حضين بن المنذر لوددت أنّ لي أساطين مسجد الجامع ذهبا وفضّة لا أنتفع منه بشيء. قيل له: لم يا أبا ساسان؟ قال: يخدمني والله عليه موقان (2)
الرّجال.
قال بعضهم: خير الدنيا والآخرة في خصلتين: التّقى والغنى. وشرّ الدنيا والآخرة خصلتين: الفجور والفقر.
سئل بعض الحكماء: أيّ النّاس أحقّ أن يتّقى؟ قال: العدوّ والقوي، والصديق المخادع، والسلطان الغشوم.
قيل لرجل: ما أذهب مالك؟ فقال: شرائي ما لا أحتاج إليه، وبيعي على الضّرورة.
عاد قوم أعرابيّا وقد بلغ مائة وخمسين سنة. فسألوه عن سنّه فأخبرهم فقال بعضهم: عمّر والله. فقال الشّيخ: لا نقل ذاك، فو الله لو استكملتها لاستقللتها.
قالوا: أصبر النّاس الذي لا يفشي سرّه إلى صديقه مخافة أن يقع بينهما شيء فيفشيه.
قالوا: ثمانية إذا أهينوا فلا يلوموا إلّا أنفسهم: الآتي طعاما لم يدع إليه
__________
(1) الهمّ: الكبير البالي.
(2) المائق: الأحمق، والسريع البكاء القليل الثبات. جمعه: موقى، والموق: الحمق في غباوة.
والأموق: الأحمق.(4/136)
والمتأمّر على ربّ البيت في بيته، وطالب المعروف من غير أهله، وراجي الفضل من اللئام، والداخل بين اثنين لم يدخلاه، والمستخفّ بالسلطان، والجالس مجلسا ليس له بأهل، والمقبل بحديثه على من لا يسمعه.
قالوا: ثمرة القناعة الرّاحة، وثمرة التّواضع المحبّة، وثمرة الصبر الظّفر.
قال بعضهم: نحن في دهر الإحسان فيه من الإنسان زلّة، والجميل غريب، والخير بدعة، والشفقة ملق، والدعاء صلة، والثناء خداع، والأدب مسألة، والعلم شبكة، والدين تلبيس، والإخلاص رياء، والحكمة سفه، والقول هذر، والإطراق ترهّب، والسكوت نفاق، والبذل مكافأة، والمنع حزم، والإنفاق تبذير.
جلس رجل إلى سهل بن هارون فجعل يسمعه كلاما سخيفا من صنوف الهزل، فقال له: تنحّ عنّي، فإنّه لا شيء أميل إلى ضدّه من العقل.
قيل لبعض العلماء: أيّ علق (1) أنفس؟ قال: عقل صرف إليه حظ.
قالوا: الاعتبار يفيدك الرّشاد وكفاك أدبا لنفسك ما كرهت من غيرك.
الجزع من أعوان الزّمان. الجود حارس الأعراض. العفو زكاة القلب.
اللّطافة في الحاجة أجدى من الوسيلة. من أشرف أفعال الكريم غفلته عمّا يعلم.
احتمال نخوة الشّرف أشدّ من احتمال بطر الغنى وذلّة الفقر مانعة من الصّبر، كما أنّ عزّ الغنى مانع من كرم الإنصاف إلّا لمن كان في غريزته فضل قوّة أو أعراق تنازعه إلى بعد الهمّة.
قيل لبعضهم: من أبعد النّاس سفرا؟ قال: من كان في طلب صديق يرضاه.
قال يونس بن عبيد: أعياني شيئان: درهم حلال وأخ في الله.
قال الأصمعي: كلّ امرىء كان ضره خاصّا فهو نعمة عامة، وكلّ امرىء كان نفعه خاصا فهو بلاء عام.
استشارة الأعداء من باب الخذلان.
__________
(1) العلق: النفيس من كل شيء.(4/137)
قالوا: إذا أراد الله بعبد هلاكا أهلكه برأيه، وما استغنى أحد عن المشورة إلا هلك.
قال أكثم بن صيفي: الحرّ لا يكون صريع بطنه ولا فرجه.
قيل: ستّ خصال تعرف في الجاهل، الغضب من غير شيء، والكلام في غير نفع، والعطية في غير موضع، ولا يعرف صديقه من عدوّه، وإفشاء السّر، والثّقة بكلّ أحد.
قال محمّد بن واسع: إنّي لأغبط الرّجل ليس له شيء وهو راض عن الله.
قالوا: سوء العادة كمين لا يؤمن. العادة طبيعة ثانية.
التجني وافد القطيعة.
منك من نهاك، وليس منك من أغراك.
يا عجبا من غفلة الحسّاد عن سلامة الأجساد.
من سعادة المرء أن يطول عمره ويرى في عدوّه ما يسره.
تورث الضغائن كما تورث الأموال.
كم من عزيز أذلّه خرقه، وعزيز أذلّه خلقه.
لا يصلح اللّئيم لأحد ولا يستقيم إلّا من فرق أو حاجة، فإذا استغنى أو ذهبت الهيئة عاد إلى جوهره.
ثلاثة في المجلس ليسوا فيه: المسيء الظنّ بأهله والضيق الخفّ، والحافر.
قيل لبعضهم: ما أبقى الأشياء في أنفس النّاس؟ قال: أمّا في أنفس العلماء فالنّدامة على الذنوب، وأمّا في أنفس السّفهاء فالحقد.
إذا انقضى ملك القوم جبّنوا في آرائهم.
الضعيف المحترس من العدوّ القويّ أقرب إلى السّلامة من القويّ المغتر بالعدوّ الضعيف.(4/138)
الحزن سوء استكانة والغضب لؤم قدرة.
كل ما يؤكل ينتن، وكل ما يوهب يأرج (1).
لا يصعب على القويّ حمل، ولا على اللّبيب عمل، ولا على المتواضع أحد.
الطرش في الكرام، والهوج والشجاعة في الطوال، والكيس في القصار والملاحة في الحول، والنبل في الرّبعة، والذّكاء في الخرس، والكبر في العور، والبهت في العميان.
بالكلفة يكتسب الأصدقاء وبكلّ شيء يمكن اكتساب الأعداء.
أفقر الناس أكثرهم كسبا من حرام لأنه استدان بالظلم ما لا بد له من ردّه، وأنفد في اكتسابه أيّام عمره، ومنعه في حياته من حقّه، وكان خازنا لغيره، واحتمل الدّين على ظهره، وطولب به في حين فقره.
ألأم النّاس من سعى بإنسان ضعيف إلى سلطان جائر.
أعسر الحيل تصوير الباطل في صورة الحق عند العاقل المميز.
الرّيبة ذلّ حاضر، والغيبة لؤم باطن.
القلب الفارغ يبحث عن السّوء، واليد الفارغة تنازع إلى الإثم.
لا يصرف القضاء إلّا خالق القضاء.
لا كثير مع إسراف، ولا قليل مع احتراف، ولا ذنب مع اعتراف.
من كل شيء يقدر أن يحفظ الجاهل إلّا من نفسه.
المتعبّد على غير فقه كحمار الرّحى يدور ولا يبرح.
المحروم من طال نصبه، وكان لغيره مكسبه.
كيف يحبّ الدنيا من تغرّه، وتسوؤه أكثر ممّا تسره.
__________
(1) يأرج: يفوح طيبه.(4/139)
مع العجلة الخطّار، وربّما خطىء المخاطر بالقضاء.
شرّ أخلاق الرّجال البخل والجبن وهما خير أخلاق النساء.
إذا جاء زمان الخذلان انعكست العقول.
سعة السمحاء أحد الخصبين، وكثرة المال عند البخلاء أصعب الجدبين من سوء الأدب مؤانسة من احتشمك، وكشف خلّة من سترها عندك، والنزوع إلى مشورة لم تدع إليها.
قال إبراهيم التيميّ: نعم القوم السّؤّال، يدقّون أبوابكم ويقولون: هل توجهون إلى الآخرة شيئا بشيء؟
في الاعتبار غنى عن الاختبار.
غيظ البخيل على الجواد أعجب من بخله.
أذلّ النّاس معتذر إلى لئيم.
أشجع النّاس أثبتهم عقلا في بداهة الخوف.
قال مطرّف: المعاذر مفاجر، والمعاتب مغاضب.
قال بعضهم: المروءة يهدمها اليسير، لا يبنيها إلّا الكثير.
قال ابن المقفّع: المروءة بلا مال كالأسد الذي يهاب ولم يفرس، وكالسّيف الذي يخاف وهو مغمد، والمال بلا مروءة كالكلب الذي يجتنب عقرا ولم يعقر.
وقال: اطلبوا الأدب فإن كنتم ملوكا برزتم، وإن كنتم وسطا فقتم وإن أعوزتم المعيشة عشتم بأدبكم.
وقال أبو الأسود (1): ليس شيء أعزّ من العلم، والملوك حكّام على النّاس والعلماء حكّام على الملوك.
__________
(1) هو أبو الأسود الدؤلي، ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي الكناني، واضع علم النحو، سكن البصرة في خلافة عمر، وولي إمارتها في أيام علي، وهو في أكثر الأقوال أوّل من نقط المصحف، وله شعر جيد، توفي سنة 69هـ (الأعلام 3/ 226).(4/140)
وقال بعضهم: لا ينبغي للعاقل أن يكون إلّا في إحدى منزلتين: إما في الغاية القصوى من مطالب الدنيا، وإما في غاية القصوى من الترك لها.
من أفضل أعمال البرّ الجود في العسرة، والصّدق في الغضب، والعفو عند القدرة.
البخل خير من الفقر، والموت خير من البخل.
قال سليمان التّيميّ: إنّ الله أنعم على العباد بقدر قدرته، وكلّفهم من الشّكر بقدر طاقتهم.
قال محمد بن حرب الهلالي: وجدت العيش في ثلاث: في صديق لا يتعلم في صداقتك ما يرصد به عداوتك، وفي امرأة تسرّك إذا دخلت عليها وتحفظ غيبك إذا غبت عنها، وفي مملوك يأتي على ما في نفسك كأنّه قد علم ما تريد.
قالوا: تحتاج القرابة إلى مودّة ولا تحتاج المودّة إلى قرابة.
مخالطة الأشرار خطر، والصّابر على صحبتهم كراكب البحر الذي إن سلم ببدنه من التلف، لم يسلم بقلبه من الحذر.
لا يذهب الهموم إلّا مرور الأيام ولقاء الإخوان.
شرّ النّاس من ضايق جليسه وصديقه فيما لا يضرّه ولا ينفعه.
لأخيك عليك إذا حزبه أمر أن تشير عليه بالرأي ما أطاعك، وتبذل له النّصرة إذا عصاك.
سئل خالد بن صفوان عن ابن له فقال: كفاني أمر دنياي، وفرغني لأمر آخرتي.
قالوا الغيبة ربيع اللّئام.
أطول الناس نصبا الحريص إذا طمع، والحقود إذا منع.
ثلاثة أشياء ينبغي للمرء أن يدفع شينها بما قدر عليه: فورة الغضب وكلب الحرص، وعلل البخل.(4/141)
الشّريف يقبل دون حقّه، ويعطي فوق الحقّ الذي عليه. من العجيب أن يفشي الإنسان سرّه ويستكتم غيره.
ينبغي للرّجل أن يكون ضنينا بالكذب، فإن احتاج إليه نفعه.
الحسود غضبان على القدر والقدر لا يعتبه.(4/142)
الباب الخامس جنس آخر من الأدب والحكم وهو ما جاء لفظه على لفظ الأمر والنهي
كان يقال: إذا غضب الكريم فألن له الكلام، وإذا غضب اللئيم فخذ له العصا.
وقال بعضهم: غضب العاقل في فعله، وغضب الجاهل في قوله.
قال بعضهم: وقد رأى رجلا يتكلّم فيكثر: أنصف أذنيك من فمك فإنّما جعل لك أذنان وفم واحد لتسمع أكثر ممّا تقول.
قالوا: دع المعاذر فإنّ أكثرها مفاجر.
وقال إبراهيم النخعي: دع الاعتذار فإنّه يخالطه الكذب.
قالوا: مكتوب في الحكمة: اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك.
قال إبراهيم النخعيّ: سل مسألة الحمقى، واحفظ حفظ الأكياس يعني العلم.
قالوا: مروا الأحداث بالمراء، والكهول بالفكر، والشيوخ بالصمت.
وقال: عوّد نفسك الصّبر على جليس السوء فإنّه لا يكاد يخطئك.
قال حاتم لعديّ ابنه: يا بنيّ إني رأيت الشّر يتركك إن تركته، فاتركه.
وكان يقال: لا تطلبوا الحاجة إلى ثلاثة: إلى كذوب، فإنّه يقرّبها وإن كانت
بعيدة ويباعدها وهي قريبة، ولا إلى أحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك ولا إلى رجل له إلى صاحب الحاجة حاجة فإنّه يجعل حاجتك وقاية لحاجته وقالوا: لا تصرف حاجتك إلى من معيشته من رؤوس المكاييل وألسنة الموازين.(4/143)
وكان يقال: لا تطلبوا الحاجة إلى ثلاثة: إلى كذوب، فإنّه يقرّبها وإن كانت
بعيدة ويباعدها وهي قريبة، ولا إلى أحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك ولا إلى رجل له إلى صاحب الحاجة حاجة فإنّه يجعل حاجتك وقاية لحاجته وقالوا: لا تصرف حاجتك إلى من معيشته من رؤوس المكاييل وألسنة الموازين.
وكان يقال: إيّاك وصدر المجلس وإن صدرك صاحبه، فإنّه مجلس قلعة (1).
قالوا: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع.
قال بعضهم: سرّك دمك، فلا تجرينّه في غير أوداجك.
كان يقال: إيّاك وعزّة الغضب فإنّها تصيرك إلى ذلّة الاعتذار.
قال بعضهم: إذا أرسلت لتأتي ببعر فلا تأت بتمر، فيؤكل تمرك، وتعنّف على خلافك.
قالوا: إذا وقع في يدك يوم السّرور فلا تخله، فإنّك إذا وقعت في يد يوم الغم لم يخلك.
قال آخر: احفظ شيئك ممّن لا تنشده، أي ممّن تستحي أن تسأله عنه، ومثله لابن المقفّع: احذر من تأمن فإنّك ممّن تخاف على حذر.
قالوا: إذا أردت أن تؤآخي رجلا فانظر من عدوّه. وإذا أردت أن تعادي رجلا فانظر من وليّه.
قيل: إذا قلدت أحدا مهما فعجّل له منفعة، وأجمل له في العدة، وابسط له في المنية.
قال بعضهم: الانقباض من النّاس مكسبة للعداوة، والانبساط مجلبة لقرين السّوء، فكن بين المنقبض والمسترسل فإن خير الأمور أوساطها.
كان يقال: اجعل عمرك كنفقة دفعت إليك، فأنت لا تحبّ أن يذهب ما تنفق ضياعا، فلا تذهب عمرك ضياعا.
__________
(1) يقال: منزلنا منزل قلعة: أي ليس بمستوطن أو معناه لا نملكه، أو لا ندري متى نتحول عنه، ومجلس قلعة: يحتاج صاحبه إلى أن يقوم مرة بعد مرة، والدنيا دار قلعة: أي انقلاع.(4/144)
قيل: من أظهر شكرك فيما لم تأت إليه فاحذر أن يكفرك فيما أسديت إليه لا تستعن في حاجتك بمن هو للمطلوب أنصح منه لك.
لا يؤمننّك من شرّ جاهل قرابة ولا إلف، فإن أخوف ما تكون لحريق النار أقرب ما تكون منها.
لا ترفع نفسك عن شيء قرّبك إلى رئيسك.
كن في الحرص على تفقد عيبك كعدوك.
عليك بسوء الظّنّ فإن أصاب فالحزم، وإن أخطأ فالسّلامة.
رضا النّاس غاية لا تدرك، فتحيّر الخير بجهدك، ولا تكره سخط من يرضيه الباطل.
إذا رأيت الرجل على باب القاضي من غير حاجة فاتّهمه.
رأى رجل ابنه يماكس في ابتياع لحم، فقال: يا بني، ساهل فما تضيّعه من عرضك أكثر ممّا تناله من غرضك.
وقال بعضهم: الدّين رقّ، فلا تبذل رقّك لمن لا يعرف حقك.
وقال بعضهم: احذر كلّ الحذر أن يخدعك الشّيطان فيمثّل لك التّواني في صورة التّوكّل، ويورثك الهوينا بالإحالة على القدر، فإنّ الله أمرنا بالتوكّل عند انقطاع الحيل، وبالتّسليم للقضاء بعد الإعذار فقال: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:
71]، {وَلََا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
وقال النبيّ عليه السلام: اعقل وتوكّل.
قالوا: لتكن عنايتك بحفظ ما اكتسبته كعنايتك باكتسابه ولا تصحب غنيا فإنك إن ساويته في الإنفاق أضرّ بك، وإن تفضّل عليك استذلّك.
إذا سألت كريما حاجة فدعه يتفكّر، فإنه لا يفكر إلّا في خير. وإذا سألت لئيما حاجة فغافصه (1) ولا تدعه يتفكّر فيتغيّر. وفي ضد ذلك:
__________
(1) غافصه: فاجأه، وأخذه على غرّة.(4/145)
إذا سألت لئيما حاجة فأجّله حتى يروض نفسه.
العدوّ عدوان: عدوّ ظلمته، وعدوّ ظلمك. فإن اضطرك الدهر إلى أحدهما فاستعن بالّذي ظلمك فإنّ الآخر موتور.
لا تستصغرنّ أمر عدوّك إذا حاربته، لأنك إن ظفرت به لم تحمد، وإن ظفر بك لم يعذر، والضعيف المحترس من العدوّ القويّ أقرب إلى السلامة من القويّ والمغترّ بالضّعيف.
لا تصحب من تحتاج أن تكتمه ما يعرفه الله منك.
صن الاسترسال منك حتّى تجد له مستحقا، واجعل أنسك آخر ما تبذله من ودك.
لا تسل غير الله فإنه إن أعطاك أغناك.
الصّاحب كالرقعة في الثّوب فالتمسه مشاكلا.
إياك وكثرة الإخوان فإنّه لا يؤذيك إلّا من يعرفك.
قال بعضهم: لا تسبّوا الغوغاء، فإنّهم يطفئون الحريق، ويخرجون الغريق، ويسدّون البثوق.
قال ابن السّماك: دع اليمين لله إجلالا، وللنّاس جمالا. واعلم أنّ العادات قاهرات، فمن اعتاد سيئا في سرّه فضحه في علانيته.
قال إسحاق بن إبراهيم بن مصعب: إذا كان لك صديق فلم تحمد إخاءه، ومودّته فلا تظهر ذلك للناس فإنما هو بمنزلة السّيف الكليل في منزل الرّجل، يرهب به عدوّه، ولا يعلم العدوّ أقاطع هو أم كليل.
قالوا: دع الذنوب قبل أن تدعك.
كان معاوية بن الحارث يقول: لا يطمعن الخبّ (1) في كثرة الصديق، ولا ذو الكبر في حسن الثناء.
__________
(1) الخبّ: المخادع، وخبّ خبّا: خدع وغشّ فهو خبّ. وفي الحديث: «لا يدخل الجنة خبّ ولا خائن».(4/146)
قيل: من مدحك بما ليس فيك فلا تأمن بهته (1) لك، ومن أظهر لك شكر ما لم تأت فاحذر أن يكفر نعمتك.
قال عبد الحميد: لا تركب الحمار فإنّه إن كان فارها أتعب يدك، وإن كان بليدا أتعب رجلك.
كان ابن المقفّع يقول: إذا نزل بك مكروه فانظر، فإن كان له حيلة فلا تعجز، وإن كان ممّا لا حيلة فيه فلا تجزع.
قال آخر: تصفّح طلّاب حكمك، كما تتصفّح خطاب حرمك.
قال آخر: تعلّموا العلم فإنّه زين للغني، وعون للفقير. إنّي لا أقول يطلب به ولكن يدعوه إلى القناعة.
لا ترض قول أحد حتى ترضى فعله، ولا ترض فعل أحد حتّى ترضى عقله، ولا ترض عقل أحد حتى ترضى حياءه فإن ابن آدم مطبوع على كرم ولؤم، فإذا قوي الحياء قوي الكرم، وإذا ضعف الحياء قوي اللّؤم.
تعلّموا العلم وإن لم تنالوا به حظّا فلأن يذمّ الزمان لكم أحسن من أن يذمّ بكم.
اجعل سرّك إلى واحد ومشورتك إلى ألف.
قال بعضهم: إنّ الله خلق النساء من عي وعورة فداووا العي بالسكوت واستروا العورة بالبيوت.
قال رجل لابنه: تزيّ بزيّ الكتاب، فإن فيهم أدب الملوك، وتواضع السوقة.
قال الزهري: سمعت رجلا يقول لهشام بن عبد الملك: لا تعدنّ يا أمير المؤمنين عدة لا تثق من نفسك بإنجازها، ولا يغرنّك المرتقى السهل إذا كان المنحدر وعرا. واعلم أن للأعمال جزاء فاتق العواقب، وأن للأمور بغتات فكن على حذر.
__________
(1) البهت والبهتان: الكذب المفترى، وبهت فلانا: قذفه بالباطل.(4/147)
قال آخر: لا تجاهد الطّلب جهاد المغالب، ولا تتّكل اتّكال المستسلم فإن ابتغاء الفضل من السّنّة، والإجمال في الطّلب من العفّة، وليست العفّة بدافعة رزقا، ولا الحرص بجالب فضلا.
سمع بعضهم إنسانا يتكلم بما لا يعنيه فقال له: يا هذا إنّما تملي على حافظيك، وتكتب إلى ربّك فانظر على من تملي، وإلى من تكتب.
قال بعضهم: أقم الرغبة إليك مقام الحرمة بك، وعظّم نفسك عن التعظّم، وتطوّل ولا تتطاول (1).
قال آخر: عاملوا الأحرار بالكرامة المحضة، والأوساط بالرّغبة والرّهبة والسّفل بالهوان.
كن للعدوّ المكاتم أشدّ حذرا منك للعدوّ المبارز.
قال سلم بن قتيبة لأهل بيته: لا تمازحوا فيستخفّ بكم السوقة، ولا تدخلوا الأسواق فتدقّ أخلاقكم، ولا ترجّلوا فيزدريكم أكفاؤكم.
قال آخر: احفظ شيئك ممّن تستحيي أن تسأله عن شيء إن ضاع لك إذا كنت في مجلس فلم تكن المحدّث ولا المحدّث فقم.
كان يقال: لا تستصغرنّ حدثا من قريش، ولا صغيرا من الكتّاب، ولا صعلوكا من الفرسان، ولا تصادقن ذمّيّا ولا خصيّا ولا مؤنثا فإنه لا ثبات لموداتهم.
قالوا: لا تدخل في مشورتك بخيلا فيقصر بعقلك، ولا جبانا فيخوفك ما لا يخاف.
ولا حريصا فيعدك ما لا يرجى فإن الجبن والبخل والحرص طبيعة واحدة يجمعها سوء الظنّ.
قال عون بن عبد الله: لا تكن كمن تغلبه نفسه على ما يظنّ ولا يغلبها على ما يستيقن.
__________
(1) التطوّل: التفضّل، والتطاول: الترفع على الناس.(4/148)
قال رجل لابنه: يا بني اعص هواك والنساء واصنع ما بدا لك.
كان مالك بن مسمع إذا سارّه إنسان في مجلسه يقول: أظهره فلو كان خيرا أو حسنا ما كتمته. وكان يقال: ما كنت كاتمه من عدوك فلا تظهر عليه صديقك.
قال: كل من الطعام ما تشتهي، والبس من الثياب ما يشتهي النّاس قالوا في الدّار: لتكن أوّل ما يبتاع، وآخر ما يباع.
قال الثّوريّ: من كان في يده شيء فليصلحه، فإنكم في زمان إذا احتاج الرجل فيه إلى النّاس كان أوّل ما يبذله لهم دينه.
قال الحر العقيليّ لابنه: إذا قدمت المصر فاستكثر من الصّديق، وأما العدوّ فلا يهمّنّك.
قال ابن المقفّع: ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك وللعامة بشرك وتحيتك. ولعدوك عدلك وإنصافك، واضنن بدينك وعرضك عن كلّ أحد.
وقالوا: روّ بحزم، فإذا استوضحت فاعزم.
قال صعصعة لابن أخيه: إذا لقيت المؤمن فخالطه، وإذا لقيت الفاجر فخالفه، ودينك فلا تكلمنّه.
قالوا: لا تزوجن حرمتك إلا عاقلا إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها أنصفها.
دخل عبد العزيز بن زرارة الكلابي على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين جالس الألبّاء أعداء كانوا أو أصدقاء فإنّ العقل يقع على العقل.
قال أبو السّرايا لأبي الشوك غلامه: كن بحيلتك أوثق منك بشدّتك وبحذرك أفرح منك بنجدتك فإنّ الحرب حرب المتهوّر وغنيمة المتحدّر.
قال بعضهم: قرأت على قائم بحمص مكتوبا: إذا عزّ أخوك فهن. وتحته مكتوبا: قال هامان وكان أعلم وأعقل وأحكم: إذا عزّ أخوك فأهنه.
قالوا: النعم وحشية فقيّدوها بالمعروف.(4/149)
قال الربيع بن زياد: من أراد النّجابة فعليه بالمقّ (1) الطّوال، ومن أراد التلذّذ فعليه بالقصار فإنهنّ كنائن الجماع.
قال الشّافعي: احذر من تأمنه، فأمّا من تحذره فقد كفيته. وقال: إذا أخطأتك الصّنيعة إلى من يتقي الله فاصنعها إلى من يتّقي العار.
قال ابن السماك: لا تشتغل بالرزق المضمون عن العمل المفروض.
وقال عون بن عبد الله: لا تكن كمن تغلبه نفسه على ما يظنّ ولا يغلبها على ما يستيقن.
قال ابن المقفّع: إذا أكرمك الناس لمال أو سلطان فلا يعجبنّك ذلك: فإنّ زوال الكرامة بزوالهما، ولكن ليعجبك إن أكرموك لأدب أو دين.
كان مطرّف يقول: انظروا قوما إذا ذكروا بالقراءة لا تكونوا منهم، وقوما إذا ذكروا بالفجور لا تكونوا منهم، ولكن كونوا بين هؤلاء وهؤلاء قال بعضهم: من سألك لم يكرم وجهه عن مسألتك فأكرم وجهك عن ردّه.
قال ميمون بن ميمون: لا تطلبنّ إلى بخيل حاجة فإن طلبت إليه فأجله حتّى يروض نفسه.
قال ابن المقفّع: إيّاك ومشاورة النّساء فإنّ رأيهنّ إلى أفن (2)، وعزمهنّ إلى وهن، واكفف عليهنّ من أبصارهن بحجابك إيّاهنّ، فإن شدة الحجاب خير لك من الارتياب وليس خروجهنّ بأشدّ من دخول من لا تثق به عليهنّ فإن استطعت أن لا يعرفن غيرك افعل. ولا تملّكنّ امرأة من الأمر ما جاوز نفسها، فإنّ ذلك أنعم لحالها، وأرخى لبالها. وإنّما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة فلا تعد بكرامتها نفسها، ولا تعطها أن تشفع لغيرها. ولا تطل الخلوة مع النساء فيمللنك وتملّهنّ، واستبق من نفسك بقيّة فإنّ إمساكك عنهنّ وهنّ يردنك باقتدار خير من أن يهجمن منك على انكسار. وإيّاك والتّغاير في غير موضع غيرة، فإنّ ذلك يدعو الصّحيحة منهنّ إلى السقم.
__________
(1) يقال: فرس أمقّ بيّن المقق: طويل، وفخذ مقّاء: عارية من اللحم.
(2) الأفن: النقصان، يقال: أفن أفنا، نقص عقله فهو أفين.(4/150)
قال ابن المقفّع: الختم حتم، فإذا أردت أن تختم على كتاب فأعد النظر فيه فإنما تختم على عقلك. وقال: الدّين رقّ، فانظر عند من تضع نفسك.
كان يقال: إذا قال أحدكم: والله. فلينظر ما يضيف إليها.
دخل عبد العزيز بن زرارة الكلابيّ على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين جالس الألبّاء أعداء كانوا أو أصدقاء، فإنّ العقل يقع على العقل.
كان بعضهم يقول: أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيا منه.
كان يقال: إذا وجدت الشيء في السوق فلا تطلبه من صديق.
قال العبّاس بن الحسن العلوي: اعلم أن رأيك لا يتّسع لكل شيء، ففرّغه للمهمّ من أمورك وأنّ مالك لا يغني النّاس كلّهم، فاخصص به أهل الحق وأنّ كرامتك لا تطبّق العامة، فتوخّ بها أهل الفضل، وأنّ ليلك ونهارك لا يستوعبان حوائجك فأحسن قسمتك بين عملك ودعتك.
وكان يقال: أحيوا المعروف بإماتته.
وقال قيس بن عاصم: يا بني اصحبوا من يذكر إحسانكم إليه، وينسى أياديه لديكم.
وكان مالك بن دينار يقول: جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم. إذا رغبت في المكارم فاجتنب المحارم.
من كان في وطن فليوطّن غيره وطنه ليرتع في وطن غيره في غربته.
أراد رجل سفرا فقال له بعضهم: إنّ لكلّ رفقة كلبا يشركهم في فضلة الزّاد، ويهرّ دونهم فإن قدرت ألا تكون كلب رفقتك فافعل، وإيّاك وتأخير الصلاة عن وقتها، فإنّك مصلّيها لا محالة، فصلّها وهي تقبل منك.
قال ابن السماك: إنّ من النّاس ناسا غرّهم السّتر، وفتنهم الثناء فلا يغلبن عليك جهل غيرك بك علمك بنفسك.
قيل: لا تثقنّ كلّ الثقة بأخيك، فإن صرعة الاسترسال لا تستقال.(4/151)
من أمثال التّرك: اسكت تربح ما عندك، وشاور تربح ما عند غيرك.
قيل: لا تكن مثل من تغلبه نفسه على ما يظنّ ولا يغلبها على ما يستيقن.
انتقم من الحرص بالقناعة كما ينتصر من العدوّ بالقصاص.
أوصى أبو الهذيل (1) أصحابه فقال: لا تدخلوا في الشهادة فتصيروا أسراء الحكّام، ولا في القضاء فإنّ فرحة الولاية لا تفي بترحة العزل، ولا في رواية الحديث فيكذّبكم الجهّال والصبيان. ولا في وصيّة فيطعن عليكم بالخيانة، ولا في إمامة الصّلاة فمن شاء صلّى وراءكم ومن شاء لم يصلّ. وقال: لا تجالسوا من لا يوثق بدينه وأمانته، ولا تبدأوا المخالفين بالسّلام فإنهم إن لم يجيبوا تقاصرت إليكم نفوسكم ولحقتكم خجلة.
قالوا: إذا قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشّكر.
قال بعضهم لمؤدّب ولده: فقّههم في الحلال والحرام، فإنّه حارس من أن يظلموا، ومانع من أن يظلموا.
كن إلى الاستماع أسرع منك إلى القول، ومن خطإ القول أشدّ حذرا من خطأ السكوت.
قال بكر بن عبد الله المزني: اجتهدوا بالعمل، فإن قصّر بكم ضعف فكفّوا عن المعاصي.
وقال بعضهم: من لم ينشط بحديثك فارفع عنه مؤونة الاستماع منك.
قالوا: من ثقل عليك بنفسه، وغمّك في سؤاله، فألزمه أذنا صماء، وعينا عمياء.
قال عبد الله بن شدّاد: أرى داعي الموت لا يقلع، وأرى من مضى لا
__________
(1) أبو الهذيل: هو محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي أبو الهذيل العلاف المتكلم البصري المعتزلي ولد في البصرة سنة 135هـ واشتهر بعلم الكلام، له مقالات في الاعتزال ومجالس ومناظرات، كف بصره في آخر عمره. توفي ببغداد سنة 226هـ. له كتاب «الميلاس» (كشف الظنون 6/ 11، وفيات الأعيان 1/ 480).(4/152)
يرجع. ولا تزهدن في معروف فإنّ الدهر ذو صروف، فكم من راغب قد كان مرغوبا إليه. وطالب أصبح مطلوبا إليه، والزّمان ذو ألوان، ومن يصحب الزّمان ير الهوان، وإن غلبت يوما على المال فلا تغلبنّ على الحيلة على كلّ حال. وكن أحسن ما تكون في الظّاهر حالا أقلّ ما تكون في الباطن مالا.
وقال آخر: لا يكوننّ منكم المحدّث لا يستمع منه، ولا الداخل في سرّ اثنين لم يدخلاه فيه، ولا الآتي دعوة لم يدع إليها، ولا جالس في مجلس لا يستحقّه، ولا طالب الفضل من أيدي اللّئام، ولا المتعرّض للخير من عند عدوّه، ولا المتحمّق في الدالة (1).
قالوا: اطلبوا المعيشة فإنّ الفقر أوّل ما يبدأ بدين الإنسان.
إذا خالطت فخالط حسن الخلق فإنّه لا يدعو إلّا إلى خير، ولا تخالط سيّيء الخلق فإنّه لا يدعو إلّا إلى شرّ.
اطبع الطين ما دام رطبا، واغرس العود ما دام لدنا.
قال ابن السّماك: خف الله حتّى كأنّك لم تطعه، وارج الله حتى كأنّك لم تعصه.
قال رجل لآخر: كيف أسلّم على الإخوان؟ فقال: لا تبلغ بهم النّفاق ولا تقصر بهم عن الاستحقاق.
قال بعض العرب: إذا وضعت طعامك فافتح بابك، وإذا وضعت شرابك فأغلقه، فإن النبيذ رضاع فانظر من تراضع.
انصح لكلّ مستشر ولا تستشر إلّا النّاصح اللّبيب. استشر عدوّك تعرف مقدار عداوته. لا تشاور إلّا الحازم غير الحسود، واللّبيب غير الحقود.
قال زياد بن أبي حسّان: لا تطلب من نفسك العام ما عوّدتك عام أوّل.
عاشروا النساء بأمور ثلاثة: ألزموهنّ البيوت، واتّهموهنّ على الأسرار، واطووا عنهنّ الأحاديث.
__________
(1) الدالة: ما تدلّ به على حبيبك وصديقك، ويقال: له عليّ دالة: أي فضل ومنزلة.(4/153)
صن عقلك بالحلم، ومروءتك بالعفاف، ونجدتك بمجانبة الخيلاء، وجهدك بالإجمال في الطلب.
لا تملّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإنّ ذلك أنعم لحالها، وأرخى لبالها وأدوم لجمالها، ولا تطمعها في الشّفاعة لغيرها، فيميل من شفعت له عليك معها.
عوّد نفسك السّماح، وتخيّر لها من كلّ خلق أحسنه، فإنّ الخير عادة، والشّرّ لجاجة، والصّدود آية المقت، والعلل آية البخل.
كن سمحا ولا تكن مبذّرا، وكن مقدّرا ولا تكن مقتّرا.
إيّاك والمرتقى السّهل، إذا كان المنحدر وعرا. روي ذلك عن محمد بن علي عليه السلام (1).
احترس من ذكر العلم عند من لا يريده، ومن ذكر القديم عند من لا قديم له فإنّ ذلك يحدث التغيير، وبالحري أن تتّخذه سلّما إلى الضّغن عليك.
إذا زللت فارجع، وإذا ندمت فأقلع، وإذا أسأت فاندم، وإذا مننت فاكتم، وإذا منعت فأجمل، ومن يسلف المعروف يكن ربحه الحمد.
اطلب الرّحمة بالرّحمة. اتّق العثار بحسن الاعتبار. لا تستأنس بمن لم تبل خلائقه. لا تأمن العدوّ على حال. لا تغترّ بفضل قوتك على الضّعيف لتشتدّ وحشتك من اللّطيف الموتور.
اعدد السيّئات للتّرات.
لا تفرح بالرّجاء فإنه غرور، ولا تتعجّل الغمّ بالخوف فإنّه شك. حاسب نفسك تسلم وتسعد.
لن يخلو أحد من ذمّ، فاجهد أن تخلو من ذمّ الأخيار.
__________
(1) أبو جعفر الباقر: هو محمد بن علي زين العابدين بن الحسين الطالبي الهاشمي، أبو جعفر الباقر، ولد بالمدينة سنة 57هـ، وتوفي بالمدينة سنة 114هـ، خامس الأئمة الاثني عشر. عند الإمامية، ناسك عابد، عالم بالتفسير (الأعلام 6/ 270).(4/154)
حارب عدوّك ما حاربك بشخصه، فإذا أخفى شخصه فاحرس نفسك منه لأنّ من يعلم أنّه لا ينجيه منك إلّا الموت لا ينجيك منه إلّا مثل ذلك، والمستسلم للموت لا يبالي على ما أقدم.
احذر فلتات المزاح وصرعات البغي.
لا تجاهد الطّلب جهاد المغالب، ولا تتّكل على القدر اتّكال المستسلم. فإنّ ابتغاء الفضل سنّة، وإجمال الطلب عفّة، وليست العفة بدافعة رزقا، ولا الحرص بجالب فضلا، والرزق مقدور والأجل موقوف، وفي استعجال الحريص اكتساب المآثم.
لا تشبهنّ رضاك بغضبك، فتكون ممّن لا يضرّ غضبه، ولا ينفع رضاه.
اغتنم العمل ما دامت نفسك سليمة، واجعل كل ساعة بشغلها لآخرتك غنيمة. لا تكوننّ لغير الله عبدا ما وجدت من العبوديّة بدا.
احم نفسك القنوط. واتّهم الرّجاء. لا تعيّر أخاك واحمد الذي عافاك.
انظر ما عندك فلا تضعه إلّا في حقّه، وما ليس عندك فلا تأخذه إلّا بحقّه.
احتمل ممّن أدلّ عليك، واقبل ممّن اعتذر إليك.
ليكن عملك فيما بينك وبين أعدائك العدل، وفيما بينك وبين أصدقائك الرضا فإنّ العدوّ خصم تصرفه بالحجّة، وتغلبه بالحكم. والصّديق ليس بينك وبينه قاض، وإنّما هو رضاه وحكمه.
إذا أردت أن تخدع النّاس فتغاب عليهم.
إذا صافاك عدوّك رياء منه فتلقّ مصافاته إيّاك بأوكد مودّة فإنّه إذا ألف ذلك واعتاده خلصت لك مودّته.
فكّر قبل أن تعزم، وأعرض قبل أن تصرم، وتدبّر قبل أن تهجم، وشاور قبل أن تقدم.
اسع في طلب رضا الأحرار فإنّ رضا اللّئام غير موجود.
اقتصد ودوام وأنت الجواد السّابق.
لا تألف المسألة فيألفك المنع.(4/155)
لا يغلبنّ جهل غيرك بك علمك بنفسك، فإنّ أقواما غرّهم ستر الله وفتنهم حسن الثناء.
قال ابن ضبارة: ليس للأحرار ثمن إلا الكرامة، فأكرموا الأحرار تملكوهم.
اطلب الحاجة إلى إخوانك، قبل تأكّد مودّتهم لك، فإنّك إذا طلبتها ممّن قد وثق بك اتّكل على الدالة، وردّك عن حاجتك بالثّقة.
لا تسأل الحوائج غير أهلها، ولا تسألها في غير حينها، ولا تسأل ما لست له مستحقّا فتكون للحرمان مستوجبا.
إذا غشّك صديقك فاجعله مع عدوّك.
إذا غلبك عدوّك على صديقك فخلّ عنه.
لا تعدنّ من إخوانك من آخاك في أيام مقدرتك للمقدرة. واعلم أنّه يتثقّل عليك في أحوال ثلاث: فيكون صديقا يوم حاجته إليك ومعرفة يوم استغنائه عنك، ومتجنّبا عدوا يوم حاجتك إليه.
لا تسرّنّ بكثرة الإخوان ما لم يكونوا خيارا، فإنّ الإخوان عند المتخيّرين بمنزلة النّار، التي قليلها متاع وكثيرها بوار.
ارع حقّ الإخوان وحقّ الأخ على الأخ أن يحوطه غائبا، ويعضّده شاهدا ويخلف عليه محروبا، ويعوده مريضا، ويواسيه محتاجا، ويضحك في وجهه مقبلا، ويدعو له مدبرا.
ليشتدّ عطفك على سقطات إخوانك.
ارض بالعفو من إخوانك، وابذل لهم مجهودك، واستزد من الجميع.
إذا دفعتم عن حقّكم فاطلبوا أكثر منه، وإذا بخع (1) لكم به فصيروا إليه.
جالسوا الألبّاء أصدقاء كانوا أو أعداء، فإنّ العقول تلقح العقول.
لا يغلبنّ عليكم سوء الظّنّ فيدعكم وما لكم من صديق.
__________
(1) بخع بالحق بخوعا: أقرّ به، وخضع له.(4/156)
الباب السادس جنس آخر من الحكم والأمثال والآداب وهو ما كان في أوله «من»
من كثرت نعمة الله عنده كثر عدوّه. من يصحب الزّمان ير الهوان.
من لم يمت لم يفت. من صدق النّاس كرهوه. من يطل ذيله ينتطق به (1).
من فسدت بطانته كان كمن غصّ بالماء، فإنّه لو غصّ بغيره أجاز به غصّته (2). من أكثر أسقط. من اتّبع غيّ النّاس كان أغوى. من لقي النّاس بما يكرهون، قالوا فيه ما لا يعلمون.
من أحبّ الذّكر فليستعمل الصّبر. ومن شحّ على دينه فليستعمل الخوف، ومن ضنّ بعرضه فليمسك عن المراء.
من صفا قلبه صفا لسانه. من خلّط خلّط به. من لم يضن بالحقّ عن أهله فهو عين الجواد.
وقال الصّادق رضي الله عنه (3): من أيقظ فتنة فهو أكلها.
ومن كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه: من اشتاق إلى الجنّة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النّار كفّ عن المحارم، ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصائب، ومن ارتقب الموت سارع في الخير.
__________
(1) انظر مجمع الأمثال 2/ 256.
(2) انظر مجمع الأمثال 2/ 273.
(3) جعفر الصادق: هو أبو عبد الله جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب. ملقب بجعفر الصادق، سادس الأئمة الاثني عشر على مذهب الإمامية، توفي سنة 148هـ.
(انظر ترجمته في: كتاب الوفيات ص 127، وفيات الأعيان 1/ 291، شذرات الذهب 1/ 220، حلية الأولياء 3/ 192، البداية والنهاية 10/ 109، الطبقات الكبرى لابن سعد 5/ 444).(4/157)
وقالوا: من استغنى كرم عن أهله. من قرّب السّفلة واطّرح ذوي الأحساب والمروءات استحقّ الخذلان.
من انتقم انتصف، ومن عفا تفضّل، ومن شفا غيظه لم يذكر في النّاس فضله.
من كظم غيظه فقد حلم، ومن حلم فقد صبر، ومن صبر فقد ظفر.
من طلب الدنيا بعمل الآخرة خسرهما، ومن طلب الآخرة بعمل الدنيا ربحهما.
قال بعضهم: من ملك نفسه عند أربع حرّمه الله على النّار: حين يغضب وحين يرغب، وحين يرهب، وحين يشتهي.
قال بكر بن عبد الله: من كان له من نفسه واعظ عارضه ساعة الغفلة وحين الحميّة.
من أمّل أحدا هابه، ومن قصر عن شيء عابه.
قيل لحكيم: من أسوأ النّاس حالا؟ قال: من لم يثق بأحد لسوء ظنّه، ولا يثق به أحد لسوء أثره.
قيل لبعضهم: من أحبّ النّاس إليك؟ قال: من كثرت أياديه عندي قال: فإن لم يكن؟ قال: من كثرت أياديّ عنده.
كان يقال: من طال صمته اجتلب من الهيبة ما ينفعه، ومن الوحشة ما لا يضرّه.
من طلب موضعا لسرّه فقد أفشاه.
قيل لحكيم: من أنعم النّاس عيشا؟ فقال: من كفي أمر دنياه، ولم يهتمّ بأمر آخرته.
وقيل: من زاد عقله نقص حظّه. وما جعل الله لأحد عقلا وافرا إلّا احتسب عليه من رزقه.(4/158)
قيل لبعضهم: من السيّد؟ فقال: من إذا حضر هابوه، وإذا غاب اغتابوه.
من عمل بالعدل فيمن دونه رزق العدل ممّن فوقه. من طلب عزّا بذلّ وظلم وباطل، أورثه الله ذلّا بإنصاف وحقّ.
من حسد من دونه قلّ عذره، ومن حسد من فوقه أتعب بدنه.
من وطئته الأعين وطئته الأرجل.
من عجز عن تقويم نفسه فلا يلومنّ من لم يستقم له. من رجي الفرج لديه، صرفت أعناق الرّجال إليه.
من قصّر في أمره لم يسع له غيره. من ربّاه الهوان أبطرته الكرامة. من ساسه الإكرام لم يصبر على المذلّة.
من انتجعك مؤمّلا فقد أسلفك حسن الظّنّ بك. من استكدّه الجد استراح إلى بعض الهزل.
من أحبّ أن يطاع، سأل ما يستطاع. من أعذر كمن أنجح. من لم يصن نفسه لم يصن أهله.
من أدخل نفسه في عظام الأمور بغير نظر ولا رويّة أوشك ألّا يخرج منها.
من كسل عن عمله طمع في كلّ (1) غيره. من لم يربّ معروفه لم يصنعه ومن لم يضعه في أصله فقد أضاعه.
قال بعضهم: عاتبت غسان بن عبّاد عن اقتصاده في لبسه وزيّه فقال: من عظمت مؤونته في نفسه قلّ فضله على غيره.
من حمل الشيء جملة ألقاه جملة. من كانت الدنيا همّه، كثر في القيامة غمّه.
من أجمل في الطّلب أتاه رزقه من حيث لا يحتسب. من حصّن شهوته صان قدره.
__________
(1) الكلّ: التعب، والمعنى: طمع فيما تعب فيه غيره.(4/159)
من ضاق خلقه مله أهله. من ركب العجلة لم يأمن الكبوة. من لم يثق لم يوثق به.
من أقاده الدهر أقاد منه. من أخطأ موضع قدمه، تعفّر خداه بدمه.
من ألحف أكدى (1). من استطال على الأكفاء فلا يثقنّ منهم بالصّفاء.
من أكثر ذكر الضّغائن اكتسب العداوة. من لم يحمد صاحبه على حسن النيّة لم يحمده على حسن الصنيعة.
ثلاثة من كنّ فيه استكمل الإيمان: من إذا غضب لم يخرجه غضبه إلى الظّلم، ومن إذا رضي لم يخرجه رضاه عن الحقّ، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له.
من ضعف عن عمله اتّكل على زاد غيره.
من أطال الحديث عرّض أصحابه للسّآمة وسوء الاستماع.
قيل لبعض السّلف: من الكامل؟ فقال: من لم يبطر في الغنى ولم يستكن للفاقة، ولم تهدّه المصائب، ولم يأمن الدوائر ولم ينس العاقبة، ولم يغترّ بالشبيبة.
قالوا: من أطرق في أمله فرّط في عمله.
قال ابن المقفّع: من أدخل نفسه فيما لا يعنيه ابتلي فيه بما يعنيه.
من استخار ربّه، واستشار نصيحه، واجتهد رأيه، فقد أدّى ما يجب عليه لنفسه، ويقضي الله في أمره ما أحبّ.
من أصبح لا يحتاج إلى حضور بين السّلطان لحاجة، أو طبيب لضرّ، أو صديق لمسألة فقد عظمت عنده النّعمة.
من كانت له غلّة يستغلها فإنما يستغلّ عمره.
قالوا: من كان فيه واحدة من ثلاث كان محروما: البغي والمكر والنكث. قال
__________
(1) ألحف: ألحّ. وأكدى: لم يظفر بحاجته.(4/160)
الله تعالى: {إِنَّمََا بَغْيُكُمْ عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23] وقال: {وَلََا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلََّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]. وقال: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمََا يَنْكُثُ عَلى ََ نَفْسِهِ} [الفتح: 10].
قال وهب: من لم يسخط نفسه في شهوته لم يرض ربّه في طاعته.
قال نصر بن سيّار: من لم يحقد لم يشكر. وقال غيره: من لم يمنع لم يكن له ما يعطي. قال إبراهيم النخعي: من كنّى ذمّيّا فقد هدم شعبة من الإيمان.
قال حكيم: من ذا الذي بلغ جسيما فلم يبطر، واتّبع الهوى فلم يعطب، وجاور النساء فلم يفتتن، وطلب إلى اللّئام فلم يهن، وواصل الأشرار فلم يندم، وصحب السّلطان فدامت سلامته؟
قال أبو حازم: ثلاث من كنّ فيه كمل عقله: من عرف نفسه وملك لسانه وقنع بما رزقه ربّه.
كان شبيب بن شيبة يقول: من سمع كلمة يكرهها فسكت عنها انقطع عنه ما كره، وإن أجاب عنها سمع أكثر ممّا كره. وكان يتمثّل (1): [الطويل] وتجزع نفس المرء من وقع شتمة ... ويشتم ألفا بعدها ثم يصبر
قال الزهاد: من عرف نفسه لم يذمم أحدا، ومن عرف الناس لم يمدح أحدا.
قال عون بن عبد الله: كان يقال: من كان في صورة حسنة ومنصب لا يشينه، ووسّع عليه في الرّزق كان من خالصة الله.
من أطاع الهوى ندم. من لانت كلمته وجبت محبته. من لم يقدّمه حزم أخّره عجز.
من حبس الدراهم كان لها ومن أنفقها كانت له.
من لم يكن فيه خمس فلا ترجه: من لم يعرف بالوثاقة في أرومته (2) والكرم في طبيعته، والتثبت في بصيرته، والدماثة في خلقه، والنبل في همته.
__________
(1) البيت بلا نسبة في ديوان المعاني 1/ 134، وعيون الأخبار 1/ 285.
(2) الأرومة: الأصل.(4/161)
من لم تؤدّبه الكرامة قوّمته الإهانة. من أنعم على الكفور كثر غيظه.
من اقتصد في الغنى والفقر فقد استعدّ لنوائب الدهر.
من لم ينشط لحديثك فارفع عنه مؤونة الاستماع منك.
من حذر شمّر. من أمن تهاون. من توقّى سلم، ومن تهوّر ندم. من لم يتبع لم يشبع. من شاخ باخ.
من لم ينتفع بتجاربه اغترّ بالدّهر ونوائبه.
من ادّعى كرما بعده لؤم فلا كرم له، ومن رضي بلؤم بعده كرم فلا لوم عليه.
من تواضع للعلم نبّله، ومن تعزّر عليه ذلّله.
من قال: لا أدري، وهو يتعلّم أفضل ممّن يدري وهو يتعظّم.
من انتحل من العلم الغاية لم يكن لجهله نهاية. من يدّع العلم جلّه أعقل ممّن يدّعيه كلّه.
من جاع باع. من أحسن الاستماع استعجل الانتفاع. من حلم ساد. من اعتراف بالجريرة فقد استحقّ الغفيرة (1). من رغب عن الإخوان جسر على الزّمان.
من اتّبع هواه أضلّه. من جهل النعم عرف النّقم.
من أبصر أقصر. من أكثر أهجر (2). من دام لفظه كثر سقطه. من تفكّر أبصر.
من كانت له فكرة فله من كلّ شيء عبرة. من انتهز الفرصة أمن الغصة. من كان في الشدّة فهو حقيق بالحدّة. من سكت فسلم كان كمن قال فغنم. من كره النطاح لم ينل النّجاح. من كان له من نفسه واعظ كان له من الله حافظ. من نال استطال.
من جاد ساد. من كساه الحياء ثوبه، حجب عن العيون عيبه.
__________
(1) الغفيرة والغفران بمعنى واحد.
(2) الهجر بالضم: القبيح من الكلام، وأهجر في منطقه إهجارا: تكلم بالقبيح من الكلام.(4/162)
من كرم محتده حسن مشهده. من خبث عنصره ساء محضره. من خان هان. من أدمن قرع الباب ولج.
من استوطأ مركب الصّبر فلج. من أخذ في أموره بالاحتياط سلم من الاختلاط. من نشر صبره طوى أمره. من امتنّ بمعروفه أفسده.
من قلّ حياؤه كثر ذنبه. من لان عوده كثرت أغصانه. من حسن خلقه كثر إخوانه. من يبرئ بصيرتك من العمى أكمل ممّن يصحّ بصرك من القذى.
من غرس الطعام جنى الأسقام. من بالغ في المزاح أثم، ومن قصر فيه خصم. من غضّ عينه حصّن دينه. من أثقل عليك فأوله أذنا صمّاء وعينا عمياء.
من غرّه الشباب تقطّعت به الأسباب. من ختم البضاعة أمن الإضاعة. من خلب جلب من عزّ بزّ.
من نظر بعين الهوى حار، ومن حكم بحكم الهوى جار. من ساء خلقه عذّب نفسه، من حبّ طبّ. من أحبّك نهاك، ومن أبغضك أغراك. من زرع المهل حصد الجذل. من أحسن الاعتذار استوجب الاغتفار.
من طال صبره ضاق صدره. من احتاج إليك ثقل عليك. من زرع شيئا حصده. ومن قدّم خيرا وجده.
من تنزّه عن المطامع لم يعتبد. من لم يحتمل بشاعة الدواء دام ألمه. من لم يصلحه الخير أصلحه الشرّ. من لم يصلحه الطالي أصلحه الكاوي.
من تعلّل بالمنى أفلس. من اغتاب خرق، ومن استغفر رقع.
من يرحم يرحم. من يصمت يسلم. من يقل الخير يغنم. من يكره الشرّ يعصم. من لا يملك لسانه يندم.
من بخل عليك ببشره لم يجد عليك ببرّه. من كفّ عنك شرّه فاصنع به ما سرّه. من كفّ ضيره فقد بذل خيره.
من تشاغل بالسّلطان لم يتفرّغ إلى الإخوان. من حصّن سرّه كان الخيار في يده. من بدا جفا. من تنقّل تبقّل (1) ومن سعى رعى، ومن نام رأى الأحلام.
__________
(1) تبقّل: رعى البقل.(4/163)
من استغنى برأيه فقد خاطر. من عرف الأيّام لم يغفل الاستعداد لها. من أحبّ من لا يعرفه فإنما يمازح نفسه.
من حصّن شهوته صان قدره. من ضاق خلقه ملّه أهله. من ركب العجلة لم يأمن الكبوة.
من تقدّم بحسن النيّة بصّره التّوفيق. من قارب النّاس في عقولهم سلم من غوائلهم. من ساد عزّ. من التحف بالقناعة حالفه العزّ. من كانت له إلى الناس حاجة فقد خذل.
من عالج الشّوق لم يستبعد الدار. من يزرع الشّوك لا يحصد به العنب. من اطمأنّ قبل الاختبار ندم. من وصلك وهو معدم خير ممّن جفاك وهو مكثر.
من لم يغض على القذى لم يرض أبدا. من تقلّبت به الأحوال علم جواهر الرّجال. من طمع ذلّ. من حفظ ماله فقد حفظ الأكرمين: الدّين والعرض.
من تأدّب صغيرا انتفع كبيرا. من سرّه بنوه ساءته نفسه. من أساء لفظه غبن حظّه. من عذل سفيها عرّض للشّتم نفسه.
من اتّبع عورة أخيه المسلم فضحه الله في بيته. من قلّ حياؤه قلّ ورعه. من أكثر من المزاح استخفّ به. ومن أكثر الضّحك اجترئ عليه. من أكثر من شيء عرف به.
من طلب العلم بالنجوم تزندق. من طلب المال بالكيميا أفلس. من طلب غرائب الحديث كذّب.
من زنى زني به. من عتب على الدهر طالت معتبته. من سأل فوق قدره استحق الحرمان.
من شتم حليما رجع ذميما. من كفر النّعمة منع الزّيادة.
من شاب شيب له. من طلب عظيما خاطر بعظيمته. من يلق خيرا يحمد النّاس أمره. من ملك استأثر. من لم يشاور ندم. من أصبح على الدنيا حزينا أصبح على الله ساخطا. من شكا ضرّا نزل به فإنّما يشكو الله.(4/164)
من لم يدار عيشه مات قبل أجله. من لاحى الرّجال ذهبت كرامته. من اتّخذ التقوى صاحبا كانت له ردءا من الملمات. من كتم الأطبّاء مرضه فقد غشّ نفسه.
من أحبّ أن يصرم أخاه فليقرضه ثم يتقاضاه.
من حقّر حرم. من أحبّك لشيء زال حبّه بزواله. من قال في الناس ما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون. من عرف بالصدق جاز كذبه.
من طلب ما عند السلطان بالغلظة لم يزدد منه إلّا بعدا. من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فقد حرّمت غيبته، وكملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوّته.
من استحيا من غيره ولم يستح من نفسه فليس لنفسه عنده مقدار.
من أدّب ولده صغيرا سرّ به كبيرا. من كثر خيره كثر زائره. من أدّب ولده أرغم حاسده.
من عرف حقّ أخيه دام إخاؤه، ومن تكبّر على الناس ورجا أن يكون له صديق فقد غرّ نفسه.
من بسط بالخير لسانه انبسطت في القلوب محبّته.
قالوا: أصبر النّاس من صبر على كتمان سرّه فلم يبده لصديق فيوشك أن يكون عدوّا فيذيعه.
قال ابن السّماك: من فكّر في أمره نهج له طريق رشده. من سلّ سيف البغي قتل به. من أطال الأمل أساء العمل.
من بذل حلو كلامه ومرّ فعاله فذلك العدوّ. من قصّر عن الفضول نال من دهره كلّ مأمول. من جمع الحياء والسّخاء فقد استجدّ الإزار والرداء. من لا يبال بالشكاية فقد اعترف بالدّناءة. من رجع في هبته فقد استحكم اللّؤم.
من جهل قدر نفسه فهو بقدر النّاس أجهل. من أنف من عمل نفسه اضطرّ إلى عمل غيره. من استنكف من أبويه فقد انتفى من الرّشدة (1). من استغنى برأيه
__________
(1) يقال: ولد لرشدة، ويكسر: ضدّ لزنية.(4/165)
فقد خاطر بنفسه. ومن استعمل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ. من عرف بالحكمة لاحظته العيون بالوقار.
من عرف الأيّام لم يغفل الاستعداد. من قاسى الأمور عرف المستور.
من رغب عن الرّشا اشتدّ ظهره عند الخصام. من لزم العفاف لزمه العمل.
من أكل قليلا عمل طويلا. من تعسّف النّعمة نفرت عنه.
من أدلّ على السلطان استثقله، ومن امتنّ عليه عاداه. من كذب السلطان فقد خانه، ومن أذاع سرّه فقد خاطر بنفسه. من صحب السلطان لم يزل مرغوبا.
من اجتهد رأيه وشاور صديقه واستخار ربّه فقد قضى الذي عليه، ولن يقضي الله إلّا ما يحبّ في أمره.
من قلّ طمعه صحّ جسمه. قال أكثم: من جاع صح. من خاف الكذب أقلّ من المواعيد. من أدلج (1) ولج.
من طلب الحلال خفّت مؤونته وقلّ كبرياؤه.
ومن قدر على خير فلم يعمل به لزمته الإساءة. من لم ينتفع به أحد لم يعظّمه أحد، ومن لم يعظّمه أحد استخفّ به كل أحد، ومن استخفّ به لقي الذّلّ عيانا.
من كثر ذامّه اضطّرّ إلى مدح نفسه. من كافأ الإحسان تنوفس في الإحسان إليه. من أنفق سرفا يوشك أن يموت أسفا. من تأوّل كلام النّاس على السّخط كثرت ذنوب الناس إليه.
من رغب في حسن الثّناء طاب نفسا عن الثّراء.
من أمن الزّمان خانه، ومن تعظّم عليه أهانه، ومن تضعضع لريبه قدعه ومن لجأ إليه أسلمه، ومن كابره عطب.
من سبقك إلى الخير فاطلب أثره. من ملك نفسه لم تملكه شهواته، ولم
__________
(1) الدلجة، بالضم والفتح: السير من أوّل الليل، وقد أدلجوا، وإن ساروا من آخره، فادّلجوا بالتشديد.(4/166)
يصرعه هواه، ولم يملكه غضبه.
من خاف شيئا اتّقاه. من أحبّ شيئا أكثر ذكره. من وثق بعمله اشتاق إلى الجزاء. من خاف غير الله فهو غير واثق بالله. من طلب العز بلا ذلّ ذلّ من حيث يطلب العزّ.
من أطال الحديث عرض نفسه للملالة وسوء الاستماع. من أظهر شكرك فيما لم تأت إليه، فاحذر أن يكفر نعمتك فيما أسديت إليه. من تحدّث بحديث قبل أن يتدبّره لم يسلم من عيبه.
من نظر في العواقب لم يشف غيظه. من زوّج كريمته من سفيه فقد عقّها.
من منع برّه قلّ أنصاره.
من أطلق لسانه أهدر دمه. من تذكّر قدرة الله عليه لم يستعمل قدرته في ظلم عباده. من منع النّاس ما يريد منهم مثله ظلم نفسه.
من استوحش في نفسه بالظّنّ أوحش من نفسه باليقين. من استقصى على النّاس قلّ صديقه، ومن أغضى على العوراء (1) سهل طريقه.
من نظر في دينه إلى من هو فوقه يستصغر عمله، ونظر في دنياه إلى من هو دونه ليستكثر ما أعطي فقد وفّق لحظّه.
من منع المال من الحمد أورثه من لا يحمده. من اقتصر على قدره كان أبقى لحاله. من سعى بالنميمة حذره الغريب، ومقته القريب.
من أطال النظر أدرك الغاية. من أزعجه الخوف أمن. من ضاق قلبه اتّسع لسانه.
قال يحيى بن أكثم: من لم يرج إلّا ما هو مستوجب كان قمنا أن يدرك حاجته. من عرف ثمار الأعمال فهو جدير ألّا يغرس إلّا طيبا. من صحب الحكماء ظفر بحسن الثّناء.
من اغترّ بالعدو الأريب خان نفسه. من عدم ماله أنكره أهله ومعارفه. من جانب هواه صحّ رأيه. من عاقب بريئا فنفسه عاقب.
__________
(1) العوراء: الكلمة القبيحة.(4/167)
من عرضت له بليّة رجم، ومن جناها ذم. من لم يجلس في شبيبته حيث يهوى جلس في كبره حيث لا يهوى.
من لم يركب المصاعب لم ينل الرّغائب. من كان أغلب خصاله عليه الإحسان اغتفرت زلّته، وأقيلت عثرته. من عتب على الدهر طالت معتبته.
من لم يأس على ما فاته تودّع بدنه، ومن قنع بما هو فيه قرّت عينه.
من ردّ الكرامة نصب شركا وثيقا للعداوة. من بخل بدينه عظم ربحه.
من قاهر الحقّ قهر. من ترك التوقّي فقد استسلم لقضاء السوء.
من أكدى فكأنه لم يعمل. من تياسر عن القصد هجم على الضّلال. من طلب بالله أدرك.
من لم تؤدّبه المواعظ أدّبته الحوادث. من تعوّد الكفاية لم يعرف مقدار الرّاحة. من أمن الزّمان ضيّع ثغرا مخوفا. من استكفى من يتّهمه خان نفسه. من أمن مكايد الأعداء لم يعدّ في العقلاء.
من لم يعرف قدره أوشك أن يذلّ، ومن لم يدبّر ماله أوشك أن يفتقر.
من رقّ وجهه رقّ علمه. من لم يتحرّز بعقله من عقله هلك من قبل عقله.
من حرم العقل فلا خير له ولا للنّاس في حياته، ومن حرم الجود فلا خير له ولا للناس في سلطانه، ومن حرم الفهم فلا خير له ولا للنّاس في قضائه.
من رضي عنه الجميع المختلفون استحق اسم العقل. من احتقر ما أعطى فهو تمام ما أعطى، ومن استكثر ما أتى إليه فقد قضى ما عليه.
من لم يحتمل زلل صديقه عاش بلا صديق. من قاده الزّمان إلى صداقة عدوّه فليكثر تيقّظه. من حاول صديقا يأمن زلّته، ويدوم اغتباطه به كان كضالّ الطريق الذي لا يزداد لنفسه إتعابا إلّا ازداد من غايته بعدا.
من رضي بصحبة من لا خير فيه لم يرض بصحبته من فيه خير. من جمع الحرص على الدنيا والبخل بها استمسك بعمودي اللّؤم. من استثقل أن يقال له الحقّ كان العمل به عليه أثقل.(4/168)
الباب السابع في سياسة السلطان وأدب الرعية
قال بعض الحكماء: إنّ قلوب الرّعيّة خزائن واليها فما أودعه وجده فيها.
قالوا: صنفان متباينان إن صلح أحدهما صلح الآخر: السلطان والرعيّة.
قال بعض الحكماء: إذا صحبت السلطان فلتكن مداراتك له مداراة المرأة القبيحة لزوجها فإنّها لا تدع التّصنّع له في كل حال.
قال الأعمش: إذا رأيت العالم يأتي باب السلطان فاعلم أنه لصّ.
قال بعض الحكماء: ليغلق السلطان باب الأنس بينه وبين كفاته الذين تنفذ أمورهم في ملكه فإنّ مؤانسته إيّاهم تبعث عليه بهم الجرأة وعلى الرّعيّة الغشم.
قالوا: صنفان لو صلحا صلح جميع الناس الفقهاء والأمراء.
قيل: من داخل السلطان يحتاج أن يدخل أعمى ويخرج أخرس.
قيل للعتابي: لم لا تقصد الأمير؟ قال: لأنّي أراه يعطي واحدا لغير حسنة ولا يد، ويقتل آخر بلا سيّئة ولا ذنب. ولست أدري أيّ الرجلين أكون أنا، ولست أرجو منه مقدار ما أخاطر به.
قيل: العاقل: من طلب السّلامة من عمل السلطان، فإنّه إن عفّ جنى عليه العفاف عداوة الخاصّة، وإن بسط جنى عليه البسط ألسنة العامة.
قال سعيد بن حميد: مجلس السلطان كالحمّام من فيه يريد الخروج ومن هو خارج يريد الدخول فيه.
ابن المقفّع: إقبال السلطان تعب، وإعراضه مذلة.(4/169)
وقال آخر: السلطان إن أرضيته أتعبك، وإن أغضبته أعطبك.
قالوا: ينبغي للملك أن يتفقّد أمر خاصته في كل يوم، وأمر عامّته في كلّ شهر، وأمر سلطانه في كلّ ساعة.
قال بعضهم: إذا كنت حافظا للسّلطان في ولايتك، حذرا منه عند تقريبه لك، أمينا له إذا ائتمنك، تشكر له ولا تكلّفه الشكر لك، تعلّمه وكأنّك تتعلم منه، وتؤدّبه وكأنّه يؤدّبك، بصيرا بهواه، مؤثرا لمنفعته، ذليلا إن ضامك، راضيا إن أعطاك، قانعا إن حرمك، وإلّا فابعد منه كلّ البعد.
قال حكيم: محلّ الملك من رعيّته محلّ الرّوح من البدن، ومحلّ الرعيّة منه محل البدن من الرّوح. فالروح تألم لألم كلّ عضو من أعضاء البدن، وسائره لا يألم لألم غيره، وفي فساد الروح فساد جميع البدن، وقد يفسد بعض البدن وغيره من سائر البدن صحيح.
قال سهل بن هارون: ينبغي للنديم أن يكون كأنّما خلق من قلب الملك يتصرف بشهواته، ويتقلّب بإرادته، إذا جدّ جد، وإذا تطلّق تطلق، لا يمل المعاشرة، ولا يسأم المسامرة، إذا انتشى تحفّظ، وإذا صحا تيقّظ. ويكون كاتما لسره، ناشرا لبره، ويكون للملك دون العبد لأنّ العبد يخدم نائبا والنّديم يحضر دائبا.
كان مسروق بن الأجدع، ينهى عن عمل السلطان، فدعاه زياد وولاه السلسلة، فقيل له في ذلك، فقال: اجتمع عليّ زياد وشريح والشّيطان، فكانوا ثلاثة وكنت واحدا فغلبوني.
قيل لبعض من يتصرّف مع السلطان: لا تصحبهم فإنّ مثلهم مثل قدر أسود كلما مسّه إنسان سوّده. فقال: إن كان خارج القدر أسود فإنّ داخله لحم سمين، وطعام لذيذ.
كان يقال: لا سلطان إلّا برجال، ولا رجال إلّا بمال، ولا مال إلّا بعمارة، ولا عمارة إلّا بعدل وحسن سياسة.
قال بعض الملوك في خطبة: إنما نملك الأجساد لا النيّات، ونحكم بالعدل
لا بالرضا، ونفحص عن الأعمال لا عن السرائر.(4/170)
قال بعض الملوك في خطبة: إنما نملك الأجساد لا النيّات، ونحكم بالعدل
لا بالرضا، ونفحص عن الأعمال لا عن السرائر.
قيل: أفضل ما عوشر به الملوك قلّة الخلاف وتخفيف المؤونة.
قيل: لا يقدر على صحبة السلطان إلّا من يستقلّ لما حمّلوه، ولا يلحف إذا سألهم، ولا يغترّ بهم إذا رضوا عنه، ولا يتغير لهم إذا سخطوا عليه، ولا يطغى إذا سلّطوه، ولا يبطر إذا أكرموه.
قيل لبعض الملوك وقد زال عنه ملكه: ما الذي سلبك ما كنت فيه؟
قال: دفع عمل اليوم إلى غده، والتماس عدّة بتضييع عدد، وبذل أبطر وأضغن.
ابن المقفّع: النّاس على دين السلطان إلّا القليل فليكن للبرّ والمروءة عنده نفاق، فسيكسد بذلك الفجور والدناءة.
وفيما قال أبو حازم لسليمان بن عبد الملك: السّلطان سوق فما نفق عنده أتى به.
قالوا: شرّ الأمراء أبعدهم من القراء، وشرّ القراء أقربهم من الأمراء.
قيل: إذا جعلك السلطان أخا فاجعله ربّا، وإن زادك فزده.
قال مسلم بن عمرو: ينبغي لمن خدم السلطان ألّا يغترّ بهم، إذا رضوا ولا يتغيّر لهم إذا سخطوا عليه، ولا يستثقل ما حمّلوه، ولا يلحف في مسألتهم.
قالوا: مثل صاحب السلطان مثل راكب الأسد يهابه النّاس وهو لمركبه أهيب.
للكاتب على الملك ثلاث: رفع الحجاب عنه، واتّهام الوشاة عليه، وإفشاء السرّ إليه.
يجب على الملك أن يعمل بثلاث خصال: تأخير العقوبة في سلطان الغضب، وتعجيل مكافأة المحسن، والعمل بالأناة فيما يحدث، فإنّ له في تأخير العقوبة إمكان العفو، وفي تعجيل المكافأة بالإحسان المسارعة في الطّاعة من الرعية، وفي الأناة انفساخ الرأي واتضاح الصواب.(4/171)
قال رجل لبعض السّلاطين: أسألك بالذي أنت بين يديه أذلّ منّي بين يديك، وهو على عقابك أقدر منك على عقابي، إلّا نظرت في أمري نظر من يرى برئي أحبّ إليه من سقمي، وبراءتي أحبّ إليه من جرمي.
ابن المقفّع: لا ينبغي للملك أن يغضب لأنّ القدرة من وراء حاجته. ولا يكذب فإنّه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد، ولا يبخل فإنّه لا يخاف الفقر، ولا يحقد لأنّ خطره قد جلّ عن المجازاة.
قال أبو حازم: للسلطان كحل يكحّل به من يولّيه، فلا يبصر حتّى يعزل.
حكي عن بعضهم أنّه قال: حاجب السّلطان نصفه، وكاتبه كلّه. وينبغي لصاحب الشرطة أن يطيل الجلوس، ويديم العبوس، ويستخفّ بالشّفاعات.
ابتلي بعض الملوك بصمم فقال: لئن كنت أصبت بسمعي، فلقد متّعت ببصري، ثم نادى مناديه: من ظلم فليلبس ثوبا مصبوغا وليقم حيث أراه فأدعو به وأنظر في أمره.
كان يقال: إنّ الملوك من الفرس وغيرهم كانوا يهنّؤون بالعافية، ولا يعادون من العلّة لأنّ عللهم كانت تستر نظرا وإبقاء عليهم، ولا يعلمها إلّا خواصّهم.
وكانت عافيتهم تشتهر لما للنّاس من الصّلاح بها، ودوام الألفة، واستقامة الأمور عنها.
قال بعضهم: إذا صحبت السلطان فلتكن مداراتك مداراة المرأة القبيحة للزّوج المبغض لها فإنّها لا تدع التصنّع له بكلّ حيلة.
قال فيلسوف: إذا قرّبك السلطان فكن منه على حدّ السّنان، وإن استرسل إليك فلا تأمن انقلابه عليك، وارفق به رفقك بالصّبي، وكلّمه بما يشتهي.
ودخل يزيد بن عمر بن هبيرة على المنصور فقال له: يا أمير المؤمنين، توسّع توسّعا قرشيا، ولا تضق ضيقا حجازيّا. وقال: يا أمير المؤمنين، إنّ سلطانكم حديث، وإمارتكم جديدة، فأذيقوا النّاس حلاوة عدلها، وجنّبوهم مرارة جورها، فو الله يا أمير المؤمنين لقد مخضت لك. ثم نهض فنهض معه تسعمائة من قيس، فأثأره (1) المنصور بصره ثم قال: لا يعزّ ملك فيه مثل هذا.
__________
(1) أتأرته وأتأرت إليه البصر: اتبعته إياه، وأتأر إليه النظر: أحدّه إليه.(4/172)
قالوا: عدل السلطان أنفع للرّعيّة من خصب الزّمان.
كان الفضل بن الرّبيع يقول: مساءلة الملوك عن أحوالهم من كلام النوكى فإذا أردت أن تقول: كيف أصبح الأمير؟ فقل: صبّح الله الأمير بالكرامة. وإن أردت أن تقول كيف يجد الأمير نفسه؟ فقل: وهب الله للأمير العافية، ونحو هذه الأشياء فإنّ المسألة توجب الجواب فإن لم يجبك اشتد عليك وإن أجابك اشتدّ عليه.
قيل لابن عباس: إنّ النّاس قد فسدوا ولا يصلحهم إلّا الشر. قال: بالله الذي لا إله إلّا هو للجور أشبّ للشّرّ، والعدل أطفأ للجور. وفي العدل كفاية، وإليه انتهت السّياسة. وقد يصيب الوالي في رعيّته بأربع من نفسه وأربع من أنفسهم فأمّا الأربع اللّواتي منهم فالرّغبة والرّهبة والأمانة والنّصيحة. وأمّا الأربع اللّواتي من نفسه فإعطاء من نصحه، والجزاء لمن أبلاه، وعقوبة ذي الذنب بقدر ذنبه، والتنكيل ممن تعدّى أمره، فإن هو لم يفعل ذلك وتراخى ابتلي منهم بأربع:
بالغشّ والخذلان والخيانة والنّكد.
قيل: ليعلم من نال شرف المنزلة من السلطان وهو دنيّ الأصل أنه ثأر الأشراف، وأنه لا نجاة له منهم إلا أن يعمرهم بالإحسان إليهم.
إذا كان الملك ضعيفا، والوزير شرها، والقاضي كذوبا، فرّقوا الملك شعاعا.
ملك عسوف أجدى على الرعيّة من ملك مقتصد السّيره ضعيف لأنّ العسوف القويّ قد يدفع عن البيضة بقوّته، ومعه أنفة يحمي بها حوزته، والضعيف لا يستقصي حقّه، ولا يأخذ حقوق رعيّته، ولا قوّة به على دفع عدوّه وعدوّهم.
إذا قنع الملك بإفساد دينه لم تقنع رعيّته، إلا بإزالة ملكه.
ظلم الرعية استجلاب البليّة.
أحزم الملوك من ملك جدّه هزله، وقهر رأيه هواه، وعبّر عن ضميره فعله، ولم يخدعه رضاه عن حظّه، ولا غضبه عن كيده.(4/173)
قالوا: أربعة أشياء تقبح بأهلها: ضيق ذرع الملك، وسرعة غضب العالم، وبذاء النساء، وكذب القضاة.
خير الملوك من حمل نفسه على خير الآداب، ثم حمل رعيته على الاقتداء به. أعجز الملوك أضعفهم عن إصلاح بطانته.
إذا اضطرّ الملك إلى الكذب فليهرب من ملكه.
العجب ممّن استفسد رعيّته وهو يعلم أن عزّه بطاعتهم.
إذا رغب الملك عن العدل رغبت رعيّته عن طاعته.
إذا لم يرجع الملك إلّا إلى رأي وزيره، فالوزير هو الملك، والملك سوقة مسخّر.
من لم يصلح نفسه من الملوك عسر عليه إصلاح رعيته. وكيف يعرف رشد غيره من يعمى عن ذات نفسه؟
لا تخف صولة الأمراء مع صداقة الوزراء.
طال حزن من غضب على الملوك وهو لا يقدر على الانتقام منهم.
صحبة السلطان بلا أدب كركوب البريّة بغير ماء.
اثنان ينبغي للملك أن يحذرهما: الزّمان والأشرار.
إذا امتهنت خاصّة الملك فالملك هو الممتهن.
ينبغي لصاحب السلطان أن يستعدّ لعذر ما لم يجنه، وأن يكون آنس ما يكون به أوحش ما يكون منه. فإذا سلمت الحال عنده فلا ينبغي له أن يأمن ملالته.
أقوى الملوك في الدنيا أعلمهم بضعفه في الآخرة.
لا أحد أمرّ عيشا وأكثر نصبا وأطول فكرة من الملك العارف بالعواقب الموقن بالمعاد.
موت الملك الجائر خصب شامل، لأنه لا قحط أشدّ من جور السلطان. إذا تفرّغ الملك للهوه تفرّغت رعيته لإفساد ملكه.(4/174)
إذا وقفت الرّعيّة على سرائر الملوك هان عليها أمرها.
ينبغي للملك أن يأنف من أن يكون في رعيته من هو أفضل دينا منه، كما يأنف أن يكون فيهم من هو أنفذ أمرا منه.
أعجب الأشياء ملك يطلب نصيحة رعيّته مع ظلمهم.
ليعلم الملك أن الذي له عند رعيته مثل الذي لرعيّته عنده.
وضع الشّدّة في موضع اللّين سوء بصر بالتّدبير، والاستسلام لرأي الوزراء هو العزل الخفي.
إذا لم يشرف الملك على أموره فليعلم أنّ أغشّ النّاس له وزيره.
من استكفى الأمناء ربح التهمة.
قضاء حقّ المحسن أدب للمسيء، وعقوبة المسيء حسن جزاء المحسن.
لن تجد الحرب الغشوم أسرع في اجتياح الملك من تضييع المراتب، حتى يصيبها أهل النّذالة والفسولة، ويزهد فيها أولو الفضل، ويطمع فيها الأراذل.
قالوا: إذا أراد الله إزالة ملك عن قوم جبّنهم في آرائهم.
العجب من سلطان يبتدئ على رعيّته والسّيف والسّوط بيده.
لا شيء أذهب بالدّول من تولية الأشرار.
الملك لا تصلحه إلّا الطّاعة والرّعيّة لا يصلحها إلّا العدل.
دخل أبو مجلز (1) على قتيبة بخراسان وهو يضرب رجلا بالعصا فقال: أيّها الأمير إنّ الله جعل لكلّ شيء قدرا، ووقّت له وقتا فالعصا للأنعام والهوام
__________
(1) أبو مجلز: هو لاحق بن حميد بن شيبة بن خالد بن كثير بن جيش بن عبد الله بن سدوسي السدوسي، من أهل البصرة، قدم خراسان وأقام بها مدة مع قتيبة بن مسلم، ومات بالكوفة قبل الحسن بقليل، والحسن مات سنة 110هـ. وقيل: مات سنة 107هـ، وقيل: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز (انظر: كتاب الثقات 5/ 518، تهذيب التهذيب 11/ 171، شذرات الذهب 1/ 134، الطبقات الكبرى 7/ 162، 261.(4/175)
والبهائم العظام، والسّوط للحدود والتّعزير، والدرة للأدب، والسيف لقتال العدوّ والقود.
قالوا: عمل السلطان حديث فكن حديثا حسنا.
إذا ضيّعت الملوك سنن أديانها فلتعلم أنّها تهدم أساس ملكها.
لا ينبغي للملك أن يكون سفيها ومنه يلتمس الحلم، ولا جائرا ومنه يلتمس العدل.
إذا لم يثب الملك على النّصيحة غشّته الرعيّة.
وفد على معاوية عبيد بن كعب النّميري فسأله عن زياد وسياسته فقال:
يستعمل على الجدّ والأمانة دون الهوى، ويعاقب فلا يعدو بالذّنب قدره ويسمر ليستجمّ بحديث الليل تدبير النّهار قال: أحسن. إن التثقيل على القلب مضرّة بالرأي. فكيف رأيه في حقوق النّاس فيما عليه وله؟ قال: يأخذ ماله عفوا ويعطي ما عليه عفوا. قال: فكيف عطاياه؟ قال: يعطي حتّى يقال جواد، ويمنع حتّى يقال بخيل.
قالوا: التذلّل للملوك داعية العزّ والتعزز عليهم ذل الأبد.
كثرة أعوان السّوء مضرّة للأعمال.
الدّالة على الملوك تعرّض للسّقوط. خير الملوك من ملك جهله بحلمه، وخرقه برفقه، وعجلته بأناته، وعقوبته بعفوه، وعاجله بمراقبة آجله، وأمن رعيّته بعدله، وسدّ ثغورهم بهيبته، وجبر فاقتهم بجوده. يعلم وكأنّه لا يعلم، ويحسم الدّاء من حيث استبهم.
بغض الملوك كيّ لا يبرأ، وحسدهم عرّ (1) يتفشّى.
السلطان في تنقله وتنقّل الناس معه، كالظل الذي تأوي إليه السّابلة.
شدّة الانقباض من السلطان تورث التّهمة، وسهولة الانبساط تورث الملالة.
__________
(1) العرّ: الجرب.(4/176)
من سعادة جدّ المرء ألّا يكون في الزمان المختلط مدبّرا للسّلطان.
من سكرات السلطان أن يرضى عمّن استوجب السخط، ويسخط على من استوجب الرضا من غير سبب معلوم.
بلغ بعض الملوك حسن سياسة ملك فكتب إليه:
قد بلغت من حسن السّياسة مبلغا لم يبلغه ملك في زمانك، فأفدني الذي بلّغكه. فكتب إليه:
«لم أهزل في أمر ولا نهي، ولا وعد ولا وعيد، واستكفيت أهل الكفاية، وأثبت على الغناء لا على الهوى، وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت، وودا لم يشبه كذب، وعممت بالقوت ومنعت الفضول».
أمران جليلان لا يصلح أحدهما إلّا بالتفرد به، ولا يصلح الآخر إلا بالتعاون عليه: وهما الملك والرّأي فإن استقام الملك بالشّركاء استقام الرّأي بالتفرّد به.
لا شيء أهلك للسّلطان من صاحب يحسن القول ولا يحسن العمل.
اصحب السلطان بإعمال الحذر، ورفض الدالة، والاجتهاد في النصح واصحبه بثلاث: الرّضا والصّبر والصّدق.
اعلم أنّ لكلّ شيء حدّا، فما جاوزه كان سرفا، وما قصّر عنه كان عجزا.
فلا تبلغ بك نصيحة السلطان أن تعادي حاشيته من أهله وخاصّته فإنّ ذلك ليس من حقّه عليك. ولكنّ أقضى لحقّه عنك، وأدعى للسّلامة إليك أن تستصلح أولئك جهدك، فإنك إذا فعلت ذلك شكرت نعمته، وأمنت حجته، وفللت عدوّك عنده.
إذا جاريت عند السّلطان كفئا من أكفائك فلتكن مجاراتك إيّاه بالحجّة، وإن عضهك (1)، وبالرّفق وإن خرق بك، واحذر أن يستلجّك فتحمى، فإنّ الغضب يعمي عن الفرصة، ويقطع عن الحجّة، ويظهر عليك الخصم.
احترس أن يعرفك السّلطان باثنين: بكثرة الإطراء للنّاس عنده، وبكثرة
__________
(1) عضه، كمنع عضها: كذب، وسحر، ونمّ وعضه، كفرح: جاء بالإفك والبهتان، وعضه فلانا: بهته وقال فيه ما لم يكن.(4/177)
ذمّهم فيعدّ ذلك غلّا منك فإنه إذا رأى كثرة إطرائك للنّاس، وذمّهم ضرّ ذلك صديقك وإن كان محقّا، وأمن عدوّك كيدك وإن كان معورا. وعليك بالقصد والتحرز فإنّه إن يعرفك به كنت لعدوّك أضرّ ولصديقك أنفع.
لا تتورّد على السّلطان بالدّالة وإن كان أخاك، ولا بالحجّة وإن وثقت أنّها لك، ولا بالنصيحة، وإن كانت له دونك فإنّ السّلطان تعرض له ثلاث: القدرة دون الكرم، والحميّة دون النّصفة، واللّجاج دون الحظّ.
سئل بعضهم: أيّ شيء أرفع بذكر الملوك؟ قال: تدبيرهم أمر البلاد بعدل، ومنعهم إيّاها بعزّ. قيل: فما الذي على الملوك لرعيتهم، وما الذي على الرعيّة لملوكهم؟ قال: على الملوك لرعيّتهم ما تأمن عليه أنفسهم ويرغد عليه عيشهم.
وللملوك على رعيّتهم الشّكر والنّصيحة.
اعلم أن الملوك تحتاج إلى الوزير، وأشجع الرّجال يحتاج إلى السّلاح وأجود الخيل يحتاج إلى السّوط، وأحدّ الشّفار يحتاج إلى المسنّ.
صلاح الدنيا بصلاح الملوك، وصلاح الملوك بصلاح الوزراء، ولا يصلح الملك إلّا لأهله ولا تصلح الوزارة إلّا لمستحقّها.
أفضل عدد الملوك صلاح الوزراء الكفاة لأنّ في صلاحهم صلاح قلوب عوامّهم لهم.
خير الوزراء أصلحهم للرعيّة، وأصدقهم نيّة في النّصيحة، وأشدهم ذبا عن المملكة، وأشدّهم بصيرة في الطّاعة، وآخذهم لحقوق الرّعية من نفسه وسلطانه.
ليس شيء للملوك أولى بالفرح والسّرور به في ملكها من سيرة حسنة يسيرونها، وسنّة صالحة يجرونها، ووزير صالح يؤيّدون به.
الوزير الخيّر لا يرى أنّ صلاحه في نفسه كائن صلاحا حتّى يتّصل بصلاح الملك ورعيّته، وتكون عنايته فيما عطف الملك على عامّته، وفيما استعطف قلوب العامة على الطّاعة لملكه، وفيما قوّم أمر الملك والمملكة من تدبيره، حتّى يجمع إلى أخذ الحقّ وتقديمه عموم الأمن والسّلامة، ويجمع إلى صلاح الملك صلاح أتباعه، وإذا طرقت الحوادث، ودهمت العظائم، كان للملك عدّة وعتادا، وللرعية
كافيا محتاطا، ومن ورائها ذابا ناصرا، يعنيه من صلاحها ما لا يعنيه من صلاح نفسه دونها.(4/178)
الوزير الخيّر لا يرى أنّ صلاحه في نفسه كائن صلاحا حتّى يتّصل بصلاح الملك ورعيّته، وتكون عنايته فيما عطف الملك على عامّته، وفيما استعطف قلوب العامة على الطّاعة لملكه، وفيما قوّم أمر الملك والمملكة من تدبيره، حتّى يجمع إلى أخذ الحقّ وتقديمه عموم الأمن والسّلامة، ويجمع إلى صلاح الملك صلاح أتباعه، وإذا طرقت الحوادث، ودهمت العظائم، كان للملك عدّة وعتادا، وللرعية
كافيا محتاطا، ومن ورائها ذابا ناصرا، يعنيه من صلاحها ما لا يعنيه من صلاح نفسه دونها.
مثل الملك الصّالح إذا كان وزيره فاسدا مثل الماء الصّافي العذب الذي فيه التماسيح لا يستطيع الإنسان وإن كان سابحا، وإلى الماء ظامئا، دخوله حذرا على نفسه.
لا ينبغي للوالي أن يسرع إلى حبس من يكتفى له بالجفاء والوعيد.
ينبغي للوالي أن يكون عالما بأمور عمّاله، فإنّ المسيء يخاف خبرته قبل أن تنزل به عقوبته، والمحسن يستبشر بعمله قبل أن يأتيه معروفه.
ينبغي للوالي أن تعرفه رعيته بالأناة، وألا يعجل بالعقاب ولا بالثّواب فإنّ ذلك أدوم لخوف الخائف، ورجاء الراجي.
ينبغي للوالي أن تعلم رعيته أنه لا يصاب خيره إلّا بالمعونة له على الخير، فإن الناس إذا علموا ذلك تصنّعوا، والمتصنّع لا يلبث أن يلحق بأهل الفضل.
من طلب ما عند السلطان والنساء بالشّدّة بعد عنه ما يطلب، وفاته ما يلتمس.
ودخل محمد بن كعب القرظي على عمر بن عبد العزيز حين استخلف فقال له: إني مستعين بك على عملي. قال: لا. ولكني سأرشدك: أسرع الاستماع، وأبطئ في التّصديق، حتى يأتيك واضح البرهان، ولا تعملنّ سجنك فيما يكتفى به بلسانك، ولا تعملنّ سوطك فيما يكتفى فيه بسجنك ولا تعملنّ سيفك فيما يكتفى فيه بسوطك.
كان بعضهم يوصي عمّاله فيقول: سوسوا الناس بالمعدلة، واحملوهم على النّصفة، واحذروا أن تلبسونا جلودهم أو تطعمونا لحومهم، أو تسقونا دماءهم.
بالولاية يعرف الرّجل الحازم.
إذا أردت أن يقبل الوالي مشورتك فلا تشبه بشيء من الهوى فإن الرّأي يقبل، والهوى يردّ.(4/179)
لا يخطرنّ للملك أنه إن استشار الرّجال ظهرت منه الحاجة إلى رأي غيره، فإنّه ليس يريد الرأي للافتخار به، وإنما يريده للانتفاع به.
قال حذيفة: إيّاكم ومواقف الفتن، فإنّ أبواب الأمراء، يدخل الداخل على الأمير فيقول له الباطل ليرضيه.
قال ابن المقفّع: لتكن حاجتك في الولاية ثلاث خصال: رضا ربّك ورضا سلطانك، ورضا صالح من تلي عليه. ولا عليك أن تلهو عن المال والذّكر.
فسيأتيك منهما ما تكتفي به.
إن ابتليت بصحبة وال لا يريد صلاح رعيّته، فاعلم أنّك خيّرت بين خلّتين ليس فيهما خيار، إمّا الميل على الرّعية فهو هلاك الدين، وإمّا الميل على الوالي مع الرّعية فهو هلاك الدنيا.
تبصّر ما في الدنيا من الأخلاق التي تحبّ أو تكره، ثم لا تكابره بالتحويل له عما يحبّ ويكره فإنّ هذ رياضة صعبة تحمل على الإباء والقلى، قلمّا يقدر على نقل رجل عن طريقته التي هو عليها بالمكابرة، ولكن تقدر أن تعينه على أحسن مذاهبه، فإنّك إذا قويت له المحاسن كانت هي التي تبصره المساوئ بألطف من تبصيرك في نفسه.
إن كان سلطانك على جدّة دولة فرأيت أمرا استقام بغير رأي، وعملا استتبّ بغير حزم، وأعوانا أجيزوا بغير نيل، فلا يغرّنّك ذلك ولا تستنيمنّ إليه فإنّ الأمور تصير إلى حقائقها وأصولها. وما بني منها على غير أصل وثيق، ودعائم محكمة، أوشك أن يتداعى وينصدع.
لا تطلبنّ من قبل السلطان بالمسألة، ولكن اطلبه بالاستحقاق، واستأن به ولا تستبطئه فإنّك إذا استحققت ما عنده أتاك عن غير طلب، وإن لم تستبطئه كان أعجل له.
اعلم أنّ السلطان إذا انقطع عنه الآخر نسي الأوّل، وأنّ أرحامه مقطوعة، وحباله مصرومة إلّا عمّن رضي عنه.
إيّاك أن يقع في قلبك التعنّت على الوالي، والاستزادة له فإنّ ذلك إذا وقع
في قلبك بدا في وجهك إن كنت حليما، وعلى لسانك إن كنت سفيها وإذا ظهر ذلك للوالي كان قلبه أسرع إلى التّغيّر والتعتّب من قلبك.(4/180)
إيّاك أن يقع في قلبك التعنّت على الوالي، والاستزادة له فإنّ ذلك إذا وقع
في قلبك بدا في وجهك إن كنت حليما، وعلى لسانك إن كنت سفيها وإذا ظهر ذلك للوالي كان قلبه أسرع إلى التّغيّر والتعتّب من قلبك.
إذا أصبت الجاه والخاصّة عند السلطان فلا تتغيّر لأحد من أهله وأعوانه فإنّك لا تدري متى ترى أدنى جفوة فتذلّ لهم، وفي ذلك من العار ما فيه.
لا يواظب أحد على باب السلطان فيلقى عنه الأنفة ويحتمل الأذى ويكظم الغيظ. ويرفق بالنّاس إلّا كاد يخلص إلى حاجته عند السلطان.(4/181)
الباب الثامن نوادر للنساء المواجن والجواري
قال رجل: قلت لجارية أردت شراءها: لا يريبنّك شيبي فإنّ عندي قوّة فقالت: أيسرك أنّ عندك عجوزا معتلمة.
قال آخر: كانت لي جارية، فأردتها على بعض الأمر فقالت: إن الأعور الدّجال لا يدخل المدينة ولكن يلم بأعراضها.
كانت جارية الجمهوري في غاية المجون، ولها إليه رسائل كثيرة معروفة قالت له يوما: إنّ فلانا اليهوديّ بذل لي عشرين دينارا على أن أعطيه فردا فلم أفعل. قال مولاها: كذبت والله أنت حينئذ في القيان ويقع في يدك عشرون دينارا بفرد فلا تجيبين إليه؟ فقالت: محوت المصحف إن كنت فعلت ذلك عفافا، ولكن لم أشته أن أنام تحت أقلف (1)، قال: أسخن الله عينك! اليهود لا يكونون قلفا.
فقالت: يا مولاي متى عزمك أن تخرج إلى البستان فإني لم أعلم، وقد ندمت، واليهوديّ بعد مقيم على العهد.
وكتب إليها يوما: يا ستّ مولاها، ما دمت فارغة خذي من ذلك اللوز المقشّر وبخريه بخورا طيبا فإنّ المحلب عندنا قد نفد، ومحلب السّوق ليس بطيّب. فكتبت إليه: سخنت عينك يا مطر، مذ لم أر من خبزه شعير وضراطه حواريّ غيرك.
وكتبت إليه مرّة: قد صرت لوطيا صاحب مردان. أعوذ بالله من البطر، ولكنّ الحائك إذا بطر سمّى ابنته سمانة.
__________
(1) الأقلف: الذي لم يختن.(4/182)
استعرض رجل جارية فقال: في يديك عمل؟ قالت: لا ولكن في رجلي.
وأدخل على المنصور جاريتان فأعجبتاه. فقالت التي دخلت أولا: يا أمير المؤمنين، إنّ الله قد فضّلني على هذه بقوله: {وَالسََّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} [التوبة: 100]، فقالت الأخرى: لا بل قد فضّلني بقوله: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى ََ} (4) [الضحى: 4].
استعرض واحد جارية فاستقبح قدميها فقالت: لا تبال فإنّي أجعلها وراء ظهرك.
طلبت جارية محمود الورّاق للمعتصم بسبعة آلاف دينار، فامتنع من بيعها، واشتريت له بعد ذلك من ميراثه بسبعمائة دينار، فذكر المعتصم لها ذلك يوما فقالت: إذا كان الخليفة ينتظر بشهواته المواريث فسبعون دينارا في ثمني كثير.
فكيف سبعمائة؟
اقترح بعضهم على جارية أن تغنّي له: [البسيط] سرّي وسرّك لم يعلم به أحد ... إلّا الإله وإلا أنت ثم أنا
فقالت: يا سيّدي والقواد فلا تنسه.
قال بعضهم: نظرت إلى جارية مليحة في دهليز، فقالت: يا سيّدي تريد الني.؟ قلت: إي والله. قالت: فاقعد حتّى يجيء مولاي السّاعة فيني ك كما نا ني البارحة.
كان بعض المجان يعشق جارية أمجن منه، فأضاق يوما فكتب إليها: قد طال عهدي بك يا سيّدتي، وأقلقني الشوق إليك، فإن رأيت أن تستدركي رمقي بمضغة علك تمضغينه وتجعلينه بين دينارين وتنفذينه لأستشفي به فعلت إن شاء الله. ففعلت ذلك وكتبت إليه: قد سارعت إلى أمرك يا سيّدي، فتفضل بردّ الطبق والمكبّة واستعمل خبر النبي عليه السلام: «استدرّوا الهدايا برد الظّروف».
وطلب آخر من عشيقته خاتما كان معها فقالت: يا سيّدي هذا ذهب وأخاف أن تذهب، ولكن هذا العود حتّى تعود.(4/183)
وقال بعضهم لأخرى: أرى شفتك متشقّقة فقالت: التّين إذا احلولى تشقق.
جاءت واحدة إلى مناد في السّوق فقالت: خذ هذه المخلاة وناد عليها.
وأشارت إلى حرها فقال: أنا الساعة مشغول ولكن علّقيه في هذا الوتد إلى أن أفرغ. وأشار إلى متاعه.
قال الأصمعي: مرّت بي أعرابيّتان تتحدّثان، فأصغيت إليهما فإذا إحداهما تقول للأخرى: ما علمت أن الزّبّ من لحم حتّى قدمت العراق.
قال الجاحظ: ابتاع فتى صلف بذّاخ (1) جارية بخاريّة حسناء ظريفة بزيعة (2)
فلمّا وقع عليها قال لها مرارا: ما أوسع حرك. فلما أكثر عليها قالت له: أنت الفداء لمن كان يملؤه.
ومثل ذلك حديث أبرويز مع كردية أخت بهرام شوبين، وكانت تحت أخيها. فلما قتل عنها تزوجها أبرويز وحظيت عنده وكانت في غاية الجمال فقال لها يوما: ما يشينك شيء غير سعة حرك. فقالت: إنه ثقب بأير الرجال.
قال بعضهم: كانت لإنسان جارية ظريفة يقال لها عطارد، وقد كانت قوّمت الكواكب بعدة زيجات قال: فحدّثني بعض الحسّاب الذين كانوا يطارحونها أنه قال لها يوما وهو يعلّمها استخراج التّواريخ بعضها من بعض: إذا أردت ذلك فخذي عدد السّنين التّامة إلى العام الذي أنت فيه. ثم خذي ما مضى من الشهور إلى الشهر الذي أنت فيه، وخذي من أيّام الشّهر إلى اليوم الذي أنت فيه. قال: فلما كثر عليها قولي: أنت فيه ما تمالكت أن استلقت ضحكا، وبقيت خجلا لا أدري ممّ تضحك. قال: ثم قالت لي: كم تقول أنتفيه، أنتفيه هو مثل الرّاحة، فإن هممت بشيء فدونك، قال: فوقفت على الأمر الذي أضحكها وخرجت فلم أعد إليها من الحياء.
قال الرّشيد لغضيض جاريته: إنك لدقيقة السّاقين. قالت: أحوج ما تكون إليّ لا تراهما.
__________
(1) البذخ محركة: الكبر، بذخ، كفرح، وتبذّخ: تكبّر وعلا، وشرف.
(2) بزع الغلام: ككرم، فهو بزيع، وهي بزيعة: صار ظريفا مليحا كيّسا.(4/184)
اشترى المكتفي جارية ماجنة من دار مؤنس. وكان مؤنس مبخلا فسألها المكتفي عن مروءته، فقالت: طبخ لنا يوما عدسيّة ودعانا عليها، فكانت العدسة تلقى العدسة فتقول: يا أختي ما خبرك؟ وما حالك؟ وكانت القطعة من اللحم تعدو خلف القطعة فلا تلحقها فتصيح خلفها وتقول: والله لئن لحقتك لأصفعنّك.
فضحك المكتفي حتّى غشي عليه.
خاصم رجل امرأته فشتمته فقال لها: والله لئن قمت إليك لأشقنّ حرك.
فقالت: لا والله ولا كل أير ببغداد.
قيل لمدينيّة: أيّما أحبّ إليك التّمر أو الني؟ قالت: التّمر ما أحببته قطّ.
اجتازت امرأتان بشيخ فجمّش إحداهما فقالت لها الأخرى: اقدحي له. أي اضرطي عليه. فقالت: يا أختي الحراق (1) رطب.
أدخل رجل في قحبة في شهر رمضان، فلمّا دفع فيها أراد أن يقبلها فحوّلت وجهها وقالت: بلغني أنّ القبلة تفطر الصّائم.
قال شبيب بن شيبة: اشتريت جارية فأصبت منها ما يصيب الشّيخ من الشّابة، ثم خرجت لحاجتي فرجعت وقد تدثّرت وعصبت رأسها. وقالت: ما لك لا جزاك الله خيرا! والله ما زدت على أن هيّجته عليّ وتركته يتقطّع في أوصالي.
كتب رجل إلى عشيقته: مري خيالك أن يلمّ بي. فكتبت إليه: ابعث إليّ بدينارين حتّى أجيئك بنفسي.
قدّم بعضهم عجوزا دلالة إلى القاضي فقال: أصلح الله القاضي زوّجتني هذه امرأة دخلت بها وجدتها عرجاء فقالت: أعزّ الله القاضي: زوّجته امرأة يجامعها ولم أزوّجه حمارة يحج عليها.
كتب تاجر من قطيعة الرّبيع إلى مغنّية كان يهواها رقعة قال في أوّلها: عصمنا الله وإياك بالتّقوى. فكتبت إليه في الجواب: يا غليظ الطبع، إن أجاب الله دعاءك لم نلتق أبدا، وقطعته.
__________
(1) الحراق: هو الشمراخ الذي يلقح به النخل.(4/185)
كتب الجمّاز إلى مغنية رقعة وحشاها بالشّعر، فكتبت على ظهرها لا تجتمع شعرتان بشعر.
قال بعضهم: سمعت امرأة بباب الطّاق. وهي تقول لصاحبتها في عشيّة يوم عيد: إيش رأيت يا أختي في هذا الزحام؟ قالت: يا أختي، رأيت العجب، رأيت أيورا تتمطّى، وأرحاما تتثاءب.
لسع زنبور عروسا في هنها ليلة زفافها، فقالت الماشطة: من؟ ولمن وفي أيّ مكان؟ وأيّة ليلة.
دخل صبيّ مع أبيه الحمام فعاد إلى أمّه فقال: ما رأيت أصغر زبا من أبي.
فقالت: وفي أيّ شيء كان لأمّك بخت حتّى يكون لها في هذا؟
لما خسّت العقارات ببغداد حضرت مغنّية بعض المجالس وهي مختضبة فقال لها إنسان: ما اسم هذا الخضاب؟ قالت: ضراط السكّان على أصحاب العقار.
قال رجل واسع الفم أهدل الشّفتين لمغنّية: أشتهي أن أدخل لساني في فمك قالت: ولم؟ قد قامت القيامة حتّى يلج الجمل في سم الخياط؟
زحمت مدينية رجلا فقال: المستعان الله منكنّ. ما أكثركنّ! قالت: نحن على هذه الكثرة وأنتم تلوطون وتتبادلون فلو كانت فينا قلّة ن تم الحمير.
عرضت على المعتز جارية فقال لها: ما أنت من شرطي قالت: ولكنك من شرطي والله. فاشتراها وحظيت عنده.
قال أحمد بن يوسف: كنت أعزل عن جارية لي فقالت لي يوما: يا مولاي ما أقل حاجة الدرداء إلى السّواك!
عرضت على المتوكّل جارية فقال لها: إيش تحسنين؟ قالت: عشرين لونا زهرا، فأعجبته فاشتراها.
قال أبو العيناء: اشتريت جارية مليحة ماجنة فلمّا قمت إليها لم يقم أيري، فأخذته بيدها وقالت: يا مولاي هذا يصلح للمضيرة (1) قلت: وكيف ذاك؟
قالت: أليس هو البقلة الحمقاء.
__________
(1) المضيرة: مرقة تطبخ باللبن الحامض.(4/186)
استعرض ابن المدبّر طبّاخة، فقال لها: أتحسنين الحشو؟ قالت: الحشو إليك.
عرضت جارية على فتى للبيع فكشفت عن حرّها وقالت: انظر كم مساحة هذا القراح (1). فخجل الفتى. فقالت له: لو كنت ظريفا لقلت: حتّى أخرج قصبة المساحة.
قال أبو نواس يوما لقينة وأشار إلى أيره في أي سورة هو: {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى ََ عَلى ََ سُوقِهِ} [الفتح: 29] فاستلقت وتكشّفت وقالت: {إِنََّا فَتَحْنََا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} (1) [الفتح: 1].
وكان يوما عند بعض إخوانه إذ خرجت عليه جارية بيضاء عليها ثياب خضر فلما رآها مسح عينه وقال: خيرا رأيت إن شاء الله فقالت: وما رأيت؟ قال: رأيت كأني راكب دابّة أشهب عليه جل أخضر قالت: إن صدقت رؤياك استدخلت فجلة.
قال أبو زيد عمر بن شبّة، وكان عظيم الأنف: اشتريت جارية بريعة، فلما أهويت إليها لأقبّلها قالت: يا مولاي، نحّ عن وجهي ركبتك، ولك فيما دون ذلك متسع.
مرت امرأة حبلى برجل، فتعجّب من عظم بطنها فقال: ما كان أحذق هذا الحشو! فقالت المرأة: إذا شئت فابعث بأمّك حتّى آمر زوجي بأن يحشوها خيرا من هذا.
اعترض المتوكل جاريتين بكرا وثيبا، فقالت الثّيب: ما بيننا إلا يوم واحد.
فقالت البكر: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمََّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47].
وقالت واحدة منهنّ: الني في الاست وتد العشق.
قال رجل لابنة له: أريد أن أزوّجك من فلان. قالت: يا أبه. الله الله. فإني
__________
(1) القراح: كسحاب: الماء لا يخالطه ثفل من سويق وغيره، والخالص والأرض لا ماء فيها ولا شجر.(4/187)
لا أصبر عنك ولا أحتاج إلى زوج. قال: فإني أتركه لعل الله أن يسهل خيرا منه، فإنه بلغني عنه خصلة لا أرضاها لك. قالت: وما هي؟ قال: بلغني أنّ أيره مثل أير الحمار، قالت: يا أبه، زوّجني في حياة منك، فإنّ الحوادث لا تؤمن.
اشترى رجل جارية نصرانية فواقعها، وكان له متاع وافر، فلما أدخله عليها.
قالت: بأبي النبيّ الأمّي. فقال الرّجل: هذا أوّل حر أسلم على يد أير.
وكان مع عبد الملك جارية له لما واقع مصعب بن الزّبير فنظرت إلى مقتول قد انقلب وانتفخ أيره، فقالت: يا أمير المؤمنين ما أعظم أيور المنافقين! فلطمها وقال: اسكتي لعنك الله.
وكان رجل يدلّ بآلته وعظمها فقال يوما لامرأة وقد واقعها وأعجبه ما معه:
ألم يخرج من حلقك بعد؟ قالت: أوقد أدخلته بعد؟
سألت واحدة أخرى: ما تقولين في ابن عشرين؟ قالت: ريحان تشمّين.
قالت: فاين ثلاثين؟ قالت: أبو بنات وبنين. قالت: فابن الأربعين؟ قالت: شديد الطّعن متين. قالت: فابن خمسين؟ قالت: يجوز في الخاطبين. قالت: فابن ستّين؟ قالت: صاحب سعال وأنين. قالت: فابن سبعين؟ قالت: اكتبيه في الضرّاطين. قالت: فابن ثمانين؟ قالت: أنت في حرج إن لم تسكتين.
قال بعضهم: خرجت إلى بعض القرى في أمانة، وكنت مولعا بالباه، فلما غبت أياما لم أصبر، فخرجت يوما إلى الصّحراء فرأيت عجوزا عليها كساء ومعها جرّة فأخذتها فقالت لي: من أنت؟ قلت: أنا سبع آكلك فنكتها ومضت ورجعت إلى السدر، وأنا قاعد ذات يوم فإذا بالعجوز قد عرفتني، فأقبلت نحوي وقالت:
سبع، قم كلني.
وحكى بعضهم: أنه كان جالسا مع امرأته في منظرة فجاز غلام حسن الوجه فقالت المرأة: أعيذه بالله ما أحسن وجهه! فقال الزّوج: نعم لولا أنّه خصي، فقالت: لعن الله من خصاه.
لمّا زفّت عائشة بنت طلحة إلى مصعب قال: والله لأقتلنّها جماعا. فواقعها مرّة ونام، فلم ينتبه إلى السحر، فحرّكته وقالت: انتبه يا قتّال!(4/188)
قال بعضهم، وكان دميما: كنت ذات يوم واقفا عند الجسر أحدّث صديقا لي، فوقفت امرأة بحذائي وقوفا طويلا، وأدامت النّظر إليّ، فقلت لغلامي: انظر ما تريد هذه المرأة. فدنا منها وسألها فقالت: كانت عيني أذنبت ذنبا، فأحبتت أن أعاقبها بالنّظر إلى هذا الشّيخ.
قال رجل لجاريته: أعطيني خلالة أو شيئا. فأتته ببعرة، وقالت: لم تحضر الخلالة وهذا شيء.
غاضبت امرأة زوجها فأحال عليها يجامعها فقالت: لعنك الله كلما وقع بيني وبينك شرّ جئتني بشفيع لا أقدر على ردّه.
قال جعفر بن سليمان: أتتني امرأة من أهل البادية فقالت: يا أبا سليمان، لا يعجبني الشابّ يمعج معجان المهر طلقا أو طلقين ثم يضطجع بناحية الميدان، ولكن أين أنت من كهل يضع قب استه على الأرض، ثم سحبا وجرا.
قال أبو النّجم: إنّي لمّا كبرت عرض لي البول فوضعت عند رجلي شيئا أبول فيه فقمت من اللّيل لأبول فضرطت وتشدّدت ثمّ عدت فخرج أيضا صوت فأويت إلى فراشي وقلت: يا أمّ الخيار هل سمعت شيئا؟ قالت: لا والله، ولا واحدة منهما.
قيل لامرأة ظريفة: أبكر أنت؟ قالت: أعوذ بالله من الكساد. وسمعت امرأة من عائشة بنت طلحة وعمر بن عبيد الله زوجها يجامعها نخيرا وغطيطا لم تسمع بمثله، فقالت لها في ذلك، فقالت: إنّ الخيل لا يجيد الشرب إلّا على الصفير. ورووا أنّها قالت: إنّ الفحولة إذا لم تستهبّ لم تهبّ.
قيل لامرأة: ما تقولين في السحاق؟ فقالت: هو التيمم لا يجوز إلّا عند عدم الماء.
قالت امرأة لزوجها وكان أصلع، لست أحسد إلّا شعرك حيث فارقك فاستراح منك.
خطب رجل امرأة فاشتطّت عليه في المهر وغيره، فقال: نعم إن احتملت عيوبي. قالت: وما ذاك؟ قال: أيري كبير، وأنا مستهتر بالجماع لا أريحك،
وأبطئ الفراغ. فقالت: يا جارية، أحضري شيوخ المحلة يشهد على بركة الله، فالرّجل ساذج لا يعرف الخير من الشّر.(4/189)
خطب رجل امرأة فاشتطّت عليه في المهر وغيره، فقال: نعم إن احتملت عيوبي. قالت: وما ذاك؟ قال: أيري كبير، وأنا مستهتر بالجماع لا أريحك،
وأبطئ الفراغ. فقالت: يا جارية، أحضري شيوخ المحلة يشهد على بركة الله، فالرّجل ساذج لا يعرف الخير من الشّر.
قال أبو العيناء: خطبت امرأة فاستقبحتني إليها: [الطويل] فإن تنفري من قبح وجهي فإنّني ... أديب أريب لا عيّ ولا فدم
فأجابت: ليس لديوان الرّسائل أريدك.
قال بعضهم: ن ت جارية في استها فقالت: اذكر سيّدي أنك هو ذا تني وحدك.
قال رجل لجاريته وقد رأى على ثوبه عذرة فمصّه: يا جارية خراء والله. ثم شكّ فمصّه أيضا وقال، خراء والله، ثم شكّ فمصّه ثم قال: يا قوم خراء والله. ثم قال: يا جارية هاتي ماء واغسليه فقالت: يا مولاي ما تصنع بالماء وقد أكلته كلّه.
قال شاب لجارية، أيري يقرأ على حرك السلام. فقالت: حري لا يقبل السلام إلا مشافهة.
خرجت حبّى المدينيّة ليلة في جوف اللّيل فلقيها إنسان فقال لها: تخرجين في هذا الوقت؟ قالت: ولم أبالي؟ إن لقيني شيطان فأنا في طاعته، وإن لقيني رجل فأنا في طلبه.
غاب رجل عن امرأته، فبلغها أنه اشترى جارية، فاشترت غلامين، فاتّصل الخبر بزوجها، فجاء مبادرا وقال لها: ما هذا؟ فقالت: أما علمت أن الرحى إلى بغلين أحوج من البغل إلى الرحا. بع الجارية حتّى أبيع الغلامين ففعل ذلك.
لاعب الأمين جارية بالنّرد على إمرة مطاعة فغلبته فقال: احتكمي. فقالت:
قم. فقام وفعل، وعاود اللّعب معها فغلبته. فاحتكمت عليه مثل ذلك ثم لاعبها الثّالثة فغلبته وقالت: قم أيضا. فقال: لا أقدر. قالت: فأكتب عليك به كتابا.
قال: نعم، فتناولت الدواة والقرطاس وكتبت، ذكر حقّ فلانة على أمير المؤمنين، أنّ لها عليه فردا تأخذه به متى شاءت من ليل أو نهار. وكان على رأسها وصيفة بمذبّة في يدها. فقالت: يا ستّي اكتبي في الكتاب: ومتى قام بالمطالبة بما في
هذا الكتاب أحد فهو وليّ قبض ما فيه. فضحك الأمين وأمر لها بجائزة.(4/190)
قال: نعم، فتناولت الدواة والقرطاس وكتبت، ذكر حقّ فلانة على أمير المؤمنين، أنّ لها عليه فردا تأخذه به متى شاءت من ليل أو نهار. وكان على رأسها وصيفة بمذبّة في يدها. فقالت: يا ستّي اكتبي في الكتاب: ومتى قام بالمطالبة بما في
هذا الكتاب أحد فهو وليّ قبض ما فيه. فضحك الأمين وأمر لها بجائزة.
دخل الجمّاز على صاحب قيان وعنده عشيقته. فقال له الرّجل، أتأكل شيئا؟
قال: قد أكلت. فسقاه نبيذ عسل فلمّا كظّه جعل يأكل الورد كأنه يتنقّل به، ففطنت الجارية فقالت لمولاها: يا مولاي أطعم هذا الرّجل رغيفا، وإلّا والله خرج خراه جلنجبين معسّل.
قال بعضهم: رأيت أم جعفر في إيوان كسرى بيدها مدرى (1) وعليها قباء خزّ طاروني (2) وهي تكتب على الحائط: [المتقارب] فلا تأسفنّ على ناسك ... وإن مات ذو طرب فابكه
ون من لقيت من العالمين ... فإنّ النّدامة في تركه
قال: فقلت لها: يا سيّدة عبد مناف، ما هذا الشّعر؟ فقالت: اسكت، هذا الذي بلغنا عن آدم أنّه لما جامع حواء قالت له: يا أبا محمد ما هذا؟ قال: هذا يقال له النّي قالت: زدني منه فإنّه طيّب.
كان لرجل عنّين امرأة فرآها يوما تساحق أخرى فقال: ويلك، خرق على خرق؟ قالت: نعم حتّى يرزق الله برقعة.
كتبت سحّاقة إلى حبّة لها تزوجت: يا أختي، ما أقبح الصّاد مع اللام، وأحسن الصاد مع الصّاد، فأجابتها: ما أحسن اللحم على اللحم، وأقبح الخبز على الخبز!
وكتبت أخرى إلى صديقة لها تغايظ بزوجها: لو تطّعمت بأيره ما تلذّذت بغيره.
وعوتبت أخرى وكانت قد تزوّجت وتركت السحاق وزهدت فيه فقالت: يا أخواتي، رأيتنّ قفلا يفتح بقفل؟ قلن: لا. قالت: قد وجدت لقفلي مفتاحا لا يتعاظمه ألف قفل، فمن احتاج إليه منكنّ لم أبخل به عليها.
قالت سحاقة لأخرى: ليس شيء أطيب من الموز تكنى عن الجماع
__________
(1) المدرى: المشط.
(2) الطاروني: ضرب من الخزّ.(4/191)
قالت: صدقت، ولكنّه ينفخ البطن تكنى عن الحبل.
دخلت ديباجة المدينيّة على امرأة تنظر إليها فقيل لها، كيف رأيتها؟ فقالت:
لعنها الله كأن بطنها قربة أو كأنّ ثديها دبّة، وكأنّ وجهها وجه ديك قد نقش عفريته يقاتل ديكا.
خطب ثمامة العوفي امرأة فسألت عن حرفته فكتب إليها: [الطويل] وسائلة ما حرفتي؟ قلت: حرفتي ... مقارعة الأبطال في كلّ مأزق
وضربي طلى الأبطال بالسّيف معلما ... إذا زحف الصّفّان تحت الخوافق
فلمّا قرأت الشعر قالت للرّسول: قل له: فديتك أنت أسد فاطلب لنفسك لبؤة، فإنّي ظبية أحتاج إلى غزال.
قال رجل لجارية اعترضها وكان دميما فكرهته وأعرضت عنه: إنما أريدك لنفسي. قالت: فمن نفسك أفر.
وذكر بعضهم قال: مرّت بي امرأة وأنا أصلّي في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاتقيتها بيدي، فوقعت على فرجها، فقالت: يا فتى ما أتيت أشدّ ممّا اتقيت.
قال ابن داحة: رأيت عثيمة بنت الفضل الضمرية تريد أن تعطس فتضع أصبعها على أنفها، كأنّها تريد أن تردّ عطاسها وتقول: لعن الله كثيّرا، فإنّي ما أردت العطاس إلّا ذكرت قوله (1): [الوافر] إذا ضمريّة عطست فن ها ... فإنّ عطاسها حب السّفاد
دخلت عزة على عاتكة بنت يزيد فقالت: أخبريني عن قول كثير (2): [الطويل] قضى كلّ ذي دين فوفّى غريمه ... وعزّة ممطول معنّى غريمها
ما هذا الدين الذي كنت وعدته؟ قالت: كنت وعدته قبلة، فلم أف له بها.
فقالت: هلّا أنجزتها له وعليّ إثمها.
__________
(1) البيت في ديوان كثيّر عزة، ص 514، وكتاب الأغاني 1/ 139.
(2) البيت في ديوان كثيّر عزّة ص 143، وكتاب الأغاني 8/ 35.(4/192)
وقال عقيل بن بلال: سمعتني أعرابية أنشد (1): [الطويل] وكم ليلة قد بتّها غير آثم ... بمهضومة الكشحين ريّانة القلب
فقالت لي: هلّا أثمت أخزاك الله.
جاءت حبّى المدينية إلى شيخ يبيع اللّبن ففتحت وطبا فذاقته ودفعته إليه وقالت له: لا تعجل بشدّة، ثم فتحت آخر فذاقته ودفعته إليه، فلمّا شغلت يديه جميعا كشفت ثوبه من خلفه وجعلت تصفق بظاهر قدمها استه وهي تقول: يا ثارات ذات النّحيين! دونكم الشّيخ. والشيخ يصيح وهي تصفق استه فما تخلّص منها إلّا بعد جهد.
قال بعضهم: رأيت على خاتم جارية: إنّا نفي إن لم أف. قال: فقلت:
ممن؟ قالت: من الزنى.
وذكر أن الأحنف اعتمّ ونظر في المرآة، فقالت امرأته: كأنّك قد هممت أن تخطب امرأة. قال: قد كان ذلك. قالت: فإذا فعلت فاعلم أنّ المرأة إلى رجلين أحوج من الرّجل إلى امرأتين. فنقض عمته وترك ما كان همّ به.
وصفت مدينية رجلا فقالت: نا ني ني اكأنّه يطلب في حري كنزا من كنوز الجاهلية.
ودخلت مدينيّة على فاطمة بنت الحسين فرأت عندها ابنيها عبد الله بن الحسن، ومحمّد بن عبد الله فقالت: من هذا؟ قالت: هذا ابن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام فقبّلت رأسه وقالت: هذا من العترة الطيّبة المباركة. فمن هذا الآخر؟ قالت: هذا محمّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان. قالت: هذا نصفه في الجنّة ونصفه في النار.
قال بعضهم: اشتريت جملا صعبا فأردنا إدخاله الدار فلم يدخل، فضربناه وأشرفت علينا امرأة كأنّها البدر فقالت: ما شأنّه؟ قلنا: ليس يدخل. قالت: بلّوا رأسه حتّى يدخل.
__________
(1) يروى البيت بلفظ:
وكم ليلة قد بتّها غير آثم ... بساجية الحجلين ريّانة القلب
وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 3/ 634، والمقاصد النحوية 4/ 496.(4/193)
قال بعضهم: عرضت عليّ طبّاخة فقلت: ما تطبخين؟ فقالت: أطبخ ما يشتهيه المحموم والمخمور. فاشتريتها فكانت على الزّيادة ممّا وصفت.
أدخل علويّ على امرأة فلمّا طالبها قالت له: هات شيئا. قال: أما ترضين أن يلج فيك بضعة منّي. قالت: هذا جذر ينفق بقمّ.
كانت بذل الكبيرة ماجنة فنقشت على خاتمها: {فَالْتَقَى الْمََاءُ عَلى ََ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ}
[القمر: 12].
نظر المتوكّل إلى جارية منكبّة فلم يرض عجيزتها فقال: إنك لرسحاء (1)
فقالت: يا سيّدي ما نقصناه من الطّست زيادة في التنور.
قال المتوكل لجارية استعرضها. أنت بكر أم أيش؟ قالت: أنا أيش يا سيّدي
قال بعض النّخاسين: اشتريت جارية سنديّة فكنت إذا خرجت أقفل عليها الباب، فجئت يوما وفتحت الباب فلم أجدها في الدار، فصحت بها فلم تجبني، فصعدت السّطح فإذا هي مطّلعة على اصطبل وقد أنزى حمار على أتان، وهي تنظر إليه قال: فأنعظت وجئت إليها وهي منكبة على الحائط. فأولجت فيها فالتفتت إليّ وقالت: يا مولاي، فحرّك ذنبك واضرط.
دعا رجل قوما، وأمر جاريته أن تبخّرهم فأدخلت يدها في ثوب بعضهم فوجدت أيره قائما، فجعلت تمرسه وتلعب به وأطالت، فقال لها مولاها: فإيش آخر هذا العود؟ أما احترق بعد؟ قالت: يا مولاي هو عقدة.
هذه فصول من كتب زاد مهر جارية ابن جمهور إلى مولاها تليق بهذا الباب.
كتبت إليك وحياة أنفك القاطولي، لا كان فعالك بي إلّا شرّا عليك، ولكنّك الساعة العامل في فسا، وليس تذكر مثلي في قحاب فسا، الذين يدخلون الرجال والنساء حمام واحد، أنا أعلم أنك لو أخرجتني إليك لوجدت في بيتك أربع قحاب كلّهم حبالى من ذلك البزر الذي لا يخلف الحلاوة، كنه البطيخ العبد لائي، والله
__________
(1) الرسحاء: القبيحة، والرّسح، محركة: قلّة لحم العجز والفخذين.(4/194)
إنّ بزر الدفلى خير من بزرك. قطع ظهرك ونسلك!
أشتهي والله أعلم البغاءات إيش يرون في وجهك؟ الذي، والله، وإلّا فأنا جاحدة مشركة إن أخطئ أقبح من عصفور مقلي بزيت، ولكنهم إذا أبصروا الشوابير قالوا: ذا من ولد العبّاس.
يا هذا، للنساء مؤن لا يقف عليها الرّجال. أهونها الدبق، فعسى تريد أن أطول طعنه في كبدك وآكله على حال لا بدّ من تنظيفه. إن لم نزن ساحقنا. واعلم علم يقين أنّ النّفقة والكسوة إن تأخّرت عنّي خرجت والله وغنيت وقمت بطنّي وعشرة معي، وأنفقت على روحي كما أشتهي، وإن فضل من الجذر شيء لم أظلمك وأبعث به إليك تنفقه أنت.
واعلم أنّ الجارية إذا خرجت للغناء دخل سراويلها الزنى.
فأنت أبصر ولا تطمع أن أخرج إليك. لا وحياتك. طمعويه بني غرفة فانويه قعد فيها.
عليك يا بن جمهور بقحاب فسا وشيراز الذين يشتهونك مائة بصفعة، الذين إذا قمت على الواحدة قمت وفي كمك عشرين ضرطة يا مداذيّة.
ولولا أبوك الشّيخ أبقاه الله كنت قد خريت كبدك على لبدك، ولكن إيش بعد قليل تنفق كل ما جمعت فتكون مثل ذاك الذي تبخّر وفسا، خرج لا له، ولا عليه بالسواء، هو ذا أنصحك. ابعث إليّ بنفقة وإلا وحياتك خرجت وغنّيت، فقد قال القائل: من لم يكن يدك في قصعته لا يهولك بريق صلعته.
ومن كتاب آخر لها:
إن عزمت على حملي إلى عندك ابعث إليّ رقعة بخطّك تحلف فيها بالطلاق أنك لا تضربني ولا تخاصمني ولا تعذّبني، ولو قلعت لك كلّ يوم حدقة، وإلّا فبارك الله لك وبارك الله لنا قوّاد ابن أبي الساج هوذا يدخلون البصرة ومن كان جذرها عشرين سوف يصير أربعين. وأنا ستّ من خرجت وغنّت.
فأمّا قولك في كتابك أن اخرجي إلى دارانجرد على البحر، فإنه أقرب،
فأشير إليك إذا أردت أن ترجع إلى البصرة أن تأخذ على طريق البحر، فإنك رجل ومعك صناديق وثقل، وأنا جارية ضعيفة القلب، وسقوطي من الحمار كلّ يوم عشر مرّات أحبّ إلي من أن يأكلني السّمك. هتك سترك يا بن جمهور! فقد بان لي هواني عليك، وليس ما كنت تختم القرآن على حري كلّ يوم سبعين مرّة من الشفقة، وبينما تقول لي: اركبي البحر. هي لك في قلبي حتّى أموت. أنا أعلم وأنا أجيء إليك، وقد فني ماء صلبك، فكل في كلّ يوم لحم كباب وبصليّة ومدقّقة واشرب ولا تزن حتّى أجيء إليك، وهو ذا أنتف إذا سلّم الله وبلغت جويم ثم أتبخّر وأتطيب وأدخل إليك وليس وعزّة الله يقع عينك على باب الدار شهرا.(4/195)
فأمّا قولك في كتابك أن اخرجي إلى دارانجرد على البحر، فإنه أقرب،
فأشير إليك إذا أردت أن ترجع إلى البصرة أن تأخذ على طريق البحر، فإنك رجل ومعك صناديق وثقل، وأنا جارية ضعيفة القلب، وسقوطي من الحمار كلّ يوم عشر مرّات أحبّ إلي من أن يأكلني السّمك. هتك سترك يا بن جمهور! فقد بان لي هواني عليك، وليس ما كنت تختم القرآن على حري كلّ يوم سبعين مرّة من الشفقة، وبينما تقول لي: اركبي البحر. هي لك في قلبي حتّى أموت. أنا أعلم وأنا أجيء إليك، وقد فني ماء صلبك، فكل في كلّ يوم لحم كباب وبصليّة ومدقّقة واشرب ولا تزن حتّى أجيء إليك، وهو ذا أنتف إذا سلّم الله وبلغت جويم ثم أتبخّر وأتطيب وأدخل إليك وليس وعزّة الله يقع عينك على باب الدار شهرا.
فانبذ لي نبيذا كثيرا ولا تحوجني إلى أن أشتري كلّ يوم نبيذا وأرهن من بيتك علقا ويقع بيننا الخصومات.
وفي كتاب آخر: سخنت عينك، قد صرت لوطيا صاحب مردان، أعوذ بالله من البطر. ولكنّ الحائك إذا بطر سمّى بنته نخلة، وأخذ خبزه من الزنبيل وجعله في سلة، وحياة رأسك يا أبا عليّ لا غيظتك بما أنت فيه من هذه الأيّام. فما أخطأ القائل: [الكامل] لا تغبطنّ مقامرا بقماره ... يوم سمين دهره مهزول
واعلم أني لست على سلال لالك فمرة أنت صاحب غلمان، ومرّة صاحب نساء وقحاب. والله لأنصفنّك: إذا أخذت أنت في القحاب أخذنا في الرّبطاء (1)، وإذا أخذت أنت في الغلمان أخذنا في الحبائب، إذا زنيت قحبنا، وإذا لطت ساحقنا حتى ننظر التّراب من سبع مزابل على شقّ است من يكون منّا، والنّدامة والعيب على من يرجع. في است المعبون عود. لمه لا أخرج خرجة ولا أقلع خفي فيها إلّا بثلاثة دنانير، وإذا خرجت بالغداة قلت: اصبحوا بخير، ثم أجيء به لك شهزوري مقمّط مكحول، أغمس يده في الزّعفران وأبعث به إليك فإذا رأيته تمنّيت أن الذي بزره كان بزره لك، من حين لم تعمل معي بالجنون وتأكل بالصحّة، إمّا جئت إلى البصرة وإلّا وعزّة الله خرجت إلى بغداد. بارك الله لك في قلمك، ولنا في دواتنا، والسلام، وأطال الله بقاء القاضي وجعلني فداه.
__________
(1) الربطاء: جمع ربيط، وهو الراهب، أو الزاهد، أو الحكيم.(4/196)
ومن كتاب آخر: وليس عجبي إلّا من غضبك ودلالك عليّ، ويمينك في كتابك بالطّالب الغالب أنّي إن لم أخرج إليك يوم الثالث من مجيء غلامك أنت لا تكتب إليّ ولا تتعرّف بي. آخ! بحياتي عليك لا تفعل! قد احترق كمخت خفّي من هذا الحديث! بالله تظنّ في قلبك أنّي منقطعتك، أو قعيدتك، أو بنت دايتك، أو زنجيّة بين يديك. إذا أردت أن تغضب فنكّب حدّتك واشرب ماء الباذنجان حتّى يسكن مرارتك. ليس أنا فديتك سقوطريّة ولا خلديّة. فإذا أردت أن تكلمني فاغسل فمك بمسك وماء ورد وانظر كيف تكلّمني. هتك الله ستري إن كنت أرضى أن تكون كاتبي، فكيف مولاي؟ ولكنّ الشأن في البخت.
وتهدّدك لي بقطع النفقة عنّي أشدّ من كلّ شيء في الدنيا، وقد صار وجهي إصبعين من الغمّ. فالله الله يا مولاي اتّق الله فيّ ولا تضيّعني! لا يحلّ لك سبحان الله، ذهبت الرّحمة من قلبك. أحسب أنّي بعض قراباتك الذين تجري عليهم، فأنّى من الغم ما يدخل لساني في أنفي، ولا يجيء النّوم في عيني.
وقد قرأت في كتابك إلى أختك إن نشطت مختارة أن تخرج معي إليك يخرجونها، وأن يضمنوا لها عنك النفقة الواسعة، والكسوة. وحديثك حديث الذي قال: أخبروني أنك تكسو العراة، اكس استك بادئا أنت ليس يمكنك أن تقوم بنفقتي وحدي ومؤونتي. كيف تقوم بمؤونة غيري. ولكن يا بن جمهور قلبك لا يصبر عن فؤادك. ذكر الفيل بلاده وبالجملة هو خصلتين إما أن يكون في قلبك منها شيء وإما أن يكون تريد أن تقيّن علينا جميعا في فارس. عسى قد ضاق عليك المعاش وهو ذا نجيّ جميعا، فاطلب لنا رقباء، وازرع بستان سذاب، وافتح دكّان واقعد لبّان. فعلينا أن نجيب لك كلّ يوم زقين دوغ واقعد واشرب كأنك ابن سنين، أو ابن أبي نبيه. أخير لك يا ميشوم من الحرام وعمل السّلطان، تأخذ دراهم النّاس بلا طيبة قلوبهم وليس يعطينا إنسان درهما إلّا بطيبة قلب، وبعد ما يقبل الأرض، ونحن نجيب إليك الهدايا، وأنت غافل في بيتك تن باللّيل بأيرك كله وإذا حبلت الواحدة منّا ادّعته على واحد من السّلاطين والكتبة، تنتقي لكلّ ولد لك كلّ كاتب أنبل من الآخر. ولو شئت جئت إلى الأهواز، فإن هذا العمل ليس يجوز لنا في فارس مع الأمير نجح أعزه الله فقد قال لي غلامك إنّه ما ترك في شيراز مغنّية ولا مخنّث ولا قوّادا، ولا نبّاذا فكيف تعمل بنا تحتي يا سخين العين
إذا جئنا؟ والله إني أرجو أن تقعد وتغنّي وتقع الكبسة. ويحملونا كلنا إليه ويحلف أنّه يحملني على عنقك ويطوف بي شيراز كلّها. فإنّي والله قد كنت أشتهي أراها وأطوف أسواقها راكبة، فلم يقض ذلك.(4/197)
وقد قرأت في كتابك إلى أختك إن نشطت مختارة أن تخرج معي إليك يخرجونها، وأن يضمنوا لها عنك النفقة الواسعة، والكسوة. وحديثك حديث الذي قال: أخبروني أنك تكسو العراة، اكس استك بادئا أنت ليس يمكنك أن تقوم بنفقتي وحدي ومؤونتي. كيف تقوم بمؤونة غيري. ولكن يا بن جمهور قلبك لا يصبر عن فؤادك. ذكر الفيل بلاده وبالجملة هو خصلتين إما أن يكون في قلبك منها شيء وإما أن يكون تريد أن تقيّن علينا جميعا في فارس. عسى قد ضاق عليك المعاش وهو ذا نجيّ جميعا، فاطلب لنا رقباء، وازرع بستان سذاب، وافتح دكّان واقعد لبّان. فعلينا أن نجيب لك كلّ يوم زقين دوغ واقعد واشرب كأنك ابن سنين، أو ابن أبي نبيه. أخير لك يا ميشوم من الحرام وعمل السّلطان، تأخذ دراهم النّاس بلا طيبة قلوبهم وليس يعطينا إنسان درهما إلّا بطيبة قلب، وبعد ما يقبل الأرض، ونحن نجيب إليك الهدايا، وأنت غافل في بيتك تن باللّيل بأيرك كله وإذا حبلت الواحدة منّا ادّعته على واحد من السّلاطين والكتبة، تنتقي لكلّ ولد لك كلّ كاتب أنبل من الآخر. ولو شئت جئت إلى الأهواز، فإن هذا العمل ليس يجوز لنا في فارس مع الأمير نجح أعزه الله فقد قال لي غلامك إنّه ما ترك في شيراز مغنّية ولا مخنّث ولا قوّادا، ولا نبّاذا فكيف تعمل بنا تحتي يا سخين العين
إذا جئنا؟ والله إني أرجو أن تقعد وتغنّي وتقع الكبسة. ويحملونا كلنا إليه ويحلف أنّه يحملني على عنقك ويطوف بي شيراز كلّها. فإنّي والله قد كنت أشتهي أراها وأطوف أسواقها راكبة، فلم يقض ذلك.
وقد اشتريت وصيفة قوّالة بسبعة وثمانين دينارا حلوة الوجه، مليحة الأطراف لها طبع، وقد طارحتها ثقيل الأوّل، وتعلّمت ستّة أصوات، وبدأ كفّها يستوي، وقد جاب لي فيها ابن سخيب النّخاس ربح خمسة عشر دينارا ولم أفعل. وسوف، وحياة شوابيرك، وملاحة كحلك، أخرج منها جارية بخمسة آلاف درهم، وأخرجها تغنّي. وذلك الوقت لا أحتاج إلى كسوتك ونفقتك، ولا يكون لأحد على أحد فضل، ولا يقدر إنسان يني إنسانا إلّا بحقّه وصدقه، من رضي فردا بعشرة دنانير، وإلّا يأخذ بيد نفسه وينصرف وإن كلّمني إنسان أدخلته في صدغ أمّه معرقف بطاقين، وهو ذا أجيء، وتطير ناريتك، ويسودّ سطحك، ويطلبون لك الجنّ، وليس، وعزة الله، وحباة من أحبّ، وإلّا حشرني الله حدباء على بقرة، وبيدي مغرفة، وعليّ لبادة في حزيران وتموز، وتطمع أن تطرح يدك إلّا بعد أن تبلغ خمسين روزنامجة يمين، ثمّ تحلف بالطّلاق أنّك لا تمدّ عينك إلى حلال ولا حرام غيري، وتبيع كلّ مملوك لك أمرد، وإلّا تساهلنا حتّى نساهلك، وتغافل حتّى تتغافل، إن بني إسرائيل شدّدوا فشدّد الله عليهم.
وقد احتبست عليّ علّتي، والسحاق لا يجيء منه ولد، وأسأل الله السلامة.
وقالوا: إنّك تخضب فليس والله تصلح لي السّاعة، ولا بدّ من ربيط شاب، فطيّب نفسك بحبّ الرّمان.
فصل آخر:
يصلح لك مثل الحمارة التي في بيتك، تقيّر (1) رأسها ولا تقدر تكلّمك، تظنّ بك أنك ابن الموبذ (2) وابن طومار، مثل زاد مهر التي تدقّك دقّ الكشك، وتهينك هوان الكتان، لا تصلح لك والله. ما كنت أشبّه دارك إلّا بدير هرقل وأنا مريم وأنت المجنون، فخلّصني ربّي من ذنوبي كما خلّصني منك. حسبك ما بك، لأنّي أعلم أنك وإن كنت في عمل أن الله لا يضيع لك.
__________
(1) تقيّر: تطلي بالقار.
(2) الموبذ: كبير العجم وكاهنهم.(4/198)
الباب التاسع نوادر القصاص نوادر أبي القطوف القاص
قيل لأبي القطوف وكان يفتي ويحدّث ويقصّ وهو قاضي حران. ما ترى في السّماع؟ فقال: أمّا على الخسف ملا. وقيل له: ما تقول في نبيذ العسل؟ قال: لا تشربه. قيل: ولم؟ أحرام هو؟ قال: بل هو نعمة لا تقوم بشكرها.
وقيل لطربال: ما تقول في الإبط يمسّ، أيتوضّأ منه؟ قال: يا بن أخ، كما يكون الإبط يغتسل منه.
نوادر أبي سنان السدوسي
وكان أبو سنان السدوسي يقول: فلان عندي أكفر من رامهرمز وبكى حوله ولده وهو يريد مكّة فقال: لا تبكوا، بأبي أنتم، فأنّى أريد أن أضحّي عندكم.
وقال: تزوّجت امرأة مخزوميّة عمّها الحجّاج بن الزبير الذي هدم الكعبة.
من عاش خمسين سنة لم يعش شيئا
قال أبو عثمان: وكان عندنا قاصّ يقال له: أبو موسى كوش فأخذ يوما في ذكر قصر أيّام الدنيا وطول أيّام الآخرة، وتصغير شأن الدنيا وتعظيم شأن الآخرة، فقال: هذا الذي عاش خمسين سنة لم يعش شيئا وعليه فضل سنتين! قالوا: وكيف ذاك؟ قال: خمس وعشرون سنة ليل هو نائم فيها، لا يعقل قليلا ولا كثيرا، وخمس سنين قائلة، وعشرون سنة إمّا أن يكون صبيّا، وإمّا أن يكون معه سكر الشباب وهو لا يعقل، ولا بد من صبحة بالغداة، ونعسة بين المغرب والعشاء،
ويناله فيها كالغشي الذي يصيب الإنسان مرارا في دهره فإذا حصّلنا ذلك فقد صحّ أنّ الذي عاش خمسين سنة لم يعش شيئا وعليه فضل سنتين.(4/199)
قال أبو عثمان: وكان عندنا قاصّ يقال له: أبو موسى كوش فأخذ يوما في ذكر قصر أيّام الدنيا وطول أيّام الآخرة، وتصغير شأن الدنيا وتعظيم شأن الآخرة، فقال: هذا الذي عاش خمسين سنة لم يعش شيئا وعليه فضل سنتين! قالوا: وكيف ذاك؟ قال: خمس وعشرون سنة ليل هو نائم فيها، لا يعقل قليلا ولا كثيرا، وخمس سنين قائلة، وعشرون سنة إمّا أن يكون صبيّا، وإمّا أن يكون معه سكر الشباب وهو لا يعقل، ولا بد من صبحة بالغداة، ونعسة بين المغرب والعشاء،
ويناله فيها كالغشي الذي يصيب الإنسان مرارا في دهره فإذا حصّلنا ذلك فقد صحّ أنّ الذي عاش خمسين سنة لم يعش شيئا وعليه فضل سنتين.
قرأ سيفويه القاص: «ثم في سلسلة ذرعها تسعون ذراعا، فقيل له: فإن الله يقول: سبعون ذراعا» (1)، وقد زدت أنت عشرين ذراعا.
فقال: نعم هذه عملت لبغا ووصيف، فأمّا أنتم فيكفيكم شريط بدانق ونصف.
قال الجاحظ: كان عبد الأعلى القاص لغلبة السّلامة عليه يتوهّم عليه الغفلة، وهو الذي ذكر الفقير في قصصه مرّة فقال: الفقير مرقته سلقة، ورداؤه علقة، وسمكته شلقة (2). قال ثم ذكر الخصي فقال: إذا قطعت خصيته قويت شهوته، وسخنت معدته، ولانت جلدته، وانجردت شعرته، واتّسعت فقحته، وكثرت دمعته.
قال أبو أحمد التّمار في قصصه: ولقد عظّم رسول الله صلّى الله عليه حق الجار، وقال فيه قولا أستحي من ذكره!
اسم الذئب الذي أكل يوسف
قال أبو علقمة: كان اسم الذئب الذي أكل يوسف كذا. قالوا له: فإنّ يوسف لم يأكله الذئب، وإنّما كذبوا على الذئب. قال: فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف.
وقرأ قارئ في حلقة سيفويه: {كَأَنَّهُنَّ الْيََاقُوتُ وَالْمَرْجََانُ} (58) [الرحمن:
58]، فقال سيفويه: هؤلاء خلاف نسائكم القحاب.
وقرأ آخر: {كَأَنَّمََا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} [يونس: 27] فقال سيفويه: فإذا القوم من أجل صلاتهم باللّيل كذا.
استفتي بعضهم في إتيان النساء في أدبارهنّ فقال: مالك يبيحه وغيره من
__________
(1) لفظ الآية الكريمة: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهََا سَبْعُونَ ذِرََاعاً فَاسْلُكُوهُ} (32) [الحاقة: 32].
(2) السمكة الشلقة: سمكة صغيرة لها رجلان.(4/200)
الفقهاء يقول: إنّه إذا استكرهت المرأة عليه وجب على الزّوج أن يزيد في صداقها عشرة دراهم، وإن كان برضا منها نقص منه عشرة. والتفت إلى ابن له حاضر وأشار إليه فقال: تزوّجت أمّ هذا على اثني عشر ألف درهم عقدت على نفسي بها وقد حصل الآن لي عليها أربعمائة وخمسون درهما.
كان أبو سالم القاصّ البصري ينادي: اللهمّ، اجعلنا صعيدا زلقا فيقول الغوغاء: آمين آمين.
وقصّ بعضهم فلمّا ابتدأ يسأل أقيمت الصّلاة، وخاف أن يتفرق النّاس.
فقال: يا فتيان، العجائب بعد الصلاة.
نوادر سيفويه
سأل واحد سيفويه عن حفظه القرآن فقال: احفظه آية آية، قيل له: فما أوّل الدّخان؟ قال: الحطب الرطب.
وكان أبو كعب القاصّ يقول في دعائه: اللهم صلّ على جبريل، واغفر لأمّنا عائشة، وعافني من وجع البطن.
استفتي واحد منهم في الخنثى وقيل له: ما للرّجل، وما للمرأة؟ فقال:
تزوّج من حلقيّ يني ها وتني هـ.
صفة الملك
كان أبو عقيل القاص يقول: الرّعد ملك أصغر من نحلة وأعظم من زنبور.
فقالوا: لعلّك تريد أصغر من زنبور وأعظم من نحلة. فقال: لو كان كذا لم يكن بعجب. وسأله رجل وهو في الجامع عن مسألة في الحيض لم يعرفها فقال:
ويلك. خرج هذه القاذورات من المسجد حتّى نخرج.
وكان بالرّي رجل منهم يفتي، فجاءته امرأة وسألته عن مسألة في الحيض فأخرج لها دفترا وجعل يتصفّحه ورقة ورقة لا يهتدي منه إلى شيء، إلى أن بلغ إلى ورقة مخرّمة فقال للمرأة وعرض عليها الخرق: ايش يمكنني أن أفعل؟ وموضع حيضك مخرّق.(4/201)
دعاء
وكان بعضهم يقول: اللهم اغفر لنا كلّ نعمة وحسنة، واحشرني في جملة سيّدي أبي عبد الله بن حنبل، ولا تغفر للرّافضة.
كيف يموت الشيطان
كان بعضهم يقول: يا معشر النّاس إنّ الشّيطان إذا سمّى الإنسان على الطعام والشّراب لم يأكل معه. وإذا لم يسمّ أكل معه فكلوا خبز الأرز والمالح ولا تسمّوا ليأكل معكم، ثم اشربوا وسمّوا ليموت عطشا.
حلق بعضهم لحيته وقال: إنّها نبتت على المعصية. وكان بعضهم يحجّ عن حمزة ويقول: استشهد قبل أن حجّ، ويضحّي عن أبي بكر وعمر يقول: أخطأ السّنّة في ترك الأضحية.
وقيّد آخر إحدى عينيه وقال: النظر بهما إسراف.
وكان بعض القصّاص يتشدّد في خلق القرآن، فسئل عن معاوية: هل كان مخلوقا؟ فقال: كان إذا كتب الوحي غير مخلوق، وإذا لم يكتب كان مخلوقا.
قال بعض القصّاص يوما: يا قوم، هل علمتم أنّ الله قد ذكر الهريسة في القرآن لفضلها؟ فقالوا: أين ذكرها؟ فقال: اذبحوا بقرة (1) {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهََا}
[البقرة: 73]، {وَفََارَ التَّنُّورُ} [هود: 40]: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} (19) [الانشقاق: 19].
سأل رجل سيفويه القاص: ما الغسلين في كتاب الله تعالى (2)؟ فقال: على الخبير سقطت. سألت عنه شيخا من فقهاء الحجاز منذ أكثر من ستين سنة. فقال:
لا أدري.
وجاءت امرأة إلى واحد منهم فقالت: يا جعفر مريم بنت عمران كانت نبيّة؟ قال: لا يا فاعلة. قالت له: فإيش كانت؟ قال: كانت ملائكة.
__________
(1) لفظ الآية الكريمة: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67].
(2) في قوله تعالى: {وَلََا طَعََامٌ إِلََّا مِنْ غِسْلِينٍ} (36) [الحاقة: 36].(4/202)
وكان بالكوفة قاصّ يقول: إنّ أبانا آدم أخرجنا من الجنّة، فادعوا الله أن يدخلنا من حيث أخرجنا.
وكان بالشام قاص يقول: اللهمّ أهلك أبا حسّان الدقاق فإنّه يتربّص بالمسلمين ويغلي أسعارهم، ومنزله أوّل باب في الدرب على يسارك هو.
قال أبو سالم القاص: لو كانت هند بنت عتبة حين لاكت كبد حمزة أجازتها إلى جوفها ما مسّتها النّار. فقال: النّهر تيري: اللهم أطعمنا من كبد حمزة.
جاء رجل إلى سيفويه فقال: قد عزمت على أن أتوب فكيف أعمل؟ فقال:
إمّا أن تحلق لحيتك أو تشتري سلّما أو تنحدر إلى واسط.
أول ما يدخل الجنة
كان بعضهم يقول: أوّل ما يدخل الجنّة من البهائم الطنبور قيل له: وكيف ذاك؟ قال: لأنّه يضرب بطنه، ويعصر حلقه، وتعرك أذنه.
وقف رجل على القتّاد الصوفي وسأله عن المحبة. فقال القتّاد: قد جاءني برأس كأنه دبّة ولحية كأنها مذبة، وقلب عليه مكبّة، يسألني عن طريق المحبّة، وهو قيمته حبة.
فتيا القاضي أبي يونس
دخل أبو يونس وكان فقيه مصر على بعض الخلفاء فقال له: ما تقول في رجل اشترى شاة فضرطت، فخرجت من استها بعرة، فقأت عين رجل. على من الدّيّة؟ قال: على البائع قال: ولم؟ لأنّه باع شاة في استها منجنيق، ولم يبرأ من العهدة.
غزا قاصّ فقيل له: أتحبّ الشّهادة؟ فقال: إي والذي أسأله أن يردّني سالما إليكم.
كان أبو توبة القاصّ يقول: احمدوا ربكم عزّ وجل، تشترون شاة سوداء فتحلبون منها لبنا أبيض، وتبخّرون فتعبق ثيابكم، وتفسون فيها فلا تعبق.(4/203)
فتيا طريضة
كان ابن قريعة القاضي في مجلس المهلّبيّ (1) جالسا، فوردت عليه رقعة فيها: ما يقول القاضي أعزّه الله في رجل دخل الحمام، ودخل في الأبزن (2) لعلّة كانت به فخرجت منه ريح وتحولّ الماء زيتا، فتخاصم الحماميّ والضّارط، وادّعى كلّ واحد منهما أنّه يستحقّ الزيت جميعا بحقّه فيه.
فكتب القاضي في الجواب: قرأت هذه الفتيا الطّريفة، في هذه القصّة السّخيفة، وأخلق بها أن تكون عنتا باطلا، وكذبا ماحلا. وإن كان ذلك كذلك، وهو من أعاجيب الزّمان، وبدائع الحدثان فالجواب وبالله التوفيق: أنّ للصّاقع نصف الزّيت بحق رجعائه (3) وللحمامي نصف الزيت بقسط مائه، وعليهما أن يصدقا المبتاع منهما عن خبث أصله، وقبح فصله، حتّى يستعمله في مسرجته، ولا يدخله في أغذيته.
قرأ رجل في مجلس سيفويه: {وَقََالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرََاوِدُ فَتََاهََا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 30]. فقال سيفويه: قد أخذنا في أحاديث القحاب وسمع رجلا يقرأ: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258]، فقال: وتلومه! وقرأ قارئ:
{وَحَمَلْنََاهُ عَلى ََ ذََاتِ أَلْوََاحٍ وَدُسُرٍ} (13) [القمر: 13] فقال سيفويه: عزّ عليّ حملانهم.
يتوهّم أنها جنازة.
وكان أبو أسيد يقول في قصصه: كان ابن عمر يحفّ شاربه حتّى يرى بياض إبطه.
من نوادر عبد الأعلى
كان عبد الأعلى قاصا. فقال يوما: تزعمون أنّي مراء، وكنت والله أمس صائما، وقد صمت اليوم وما أخبرت بذلك أحدا.
__________
(1) الوزير المهلبي: هو الحسن بن محمد بن هارون بن إبراهيم بن عبد الله المهلبي، أبو محمد الوزير لمعز الدولة بن بويه الديلمي، ولد بالبصرة سنة 291هـ، وتوفي في طريق واسط، وحمل ودفن ببغداد سنة 352هـ، صنّف: «ديوان الرسائل»، «ديوان شعرة»، «كتاب في أصول النحو»، «كتاب اللغة في مخارج الحروف»، (كشف الظنون 5/ 270).
(2) الأبزن: الحوض، وقد يكون من نحاس، فارسي الأصل.
(3) الرجعاء: الدبر.(4/204)
ومرّ عبد الأعلى بقوم وهو يتمايل سكرا فقال إنسان: هذا عبد الأعلى القاص. فقال: ما أكثر من يشبّهني بذلك الرّجل الصّالح!
قال قاصّ بالمدينة في قصصه: ودّ إبليس أن لكلّ رجل منكم خمسين ألف درهم يطغى بها. فقال رجل من القوم: اللهمّ أعط إبليس سؤله فينا.
حكي عن شيخ منهم ببغداد كان يعرف بختن حمامة أنّه كان يقول: خلفاء الله في الأرض ثلاثة: آدم لقوله: إنّي جاعلك في الأرض خليفة (1) وداود: {إِنََّا جَعَلْنََاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26] وأبو بكر، لقول الأمة: أيا خليفة رسول الله.
والأمناء ثلاثة: جبريل لأنّه تحمّل عن الله، ومحمّد لأنّه بلّغ الأمة، ومعاوية لأنّه كتب الوحي.
وبلغ من عقله أنه رأى عقربا في داره فقال لها: يا مشؤومة، اخرجي لا تقتلك أمّي. وكان مولعا بإطعام الكلاب ويقول إذا أطعمها: هؤلاء أولى من الرافضة.
قال الأصمعي: اختصمت الطّفاوة وبنو راسب في صبي يدّعيه كلّ واحد من الفريقين إلى ابن عرباض، فقال: الحكم في هذا بين. قالوا: وما هو؟ قال: يلقى الصّبي في الماء فإن طفا فهو طفاويّ، وإن رسب فهو راسبيّ.
كانت أمّ عياش تحسن إلى سيفويه وتتعهّده، فكان إذا اجتمع إليه النّاس قال:
يا معاشر المسلمين، ادعوا الله لأمّ عيّاش فإنها صديقتي. فبلغ عيّاشا فبعث إليه، وقال: قد فضحتني بهذا القول فأمسك عنه. فقال: سبحان الله! لو أنّها معي في إزار واحد ما كنت تخاف علي.
دعاء قاص
قال أبو العيناء: كان عندنا قاصّ جيد اللّفظ من العبارة، وكان لوطيّا، فكان إذا رأى في حلقته غلاما يعجبه رفع يده ثم قال للجماعة: قولوا عند دعائي: آمين.
ثمّ يقول: هذا العدوّ قد أقبل يريدكم: اللهم امنحنا أكتافهم. اللهمّ كبهم على مناخرهم ووجوههم، اللهمّ ولّنا أدبارهم.
__________
(1) لفظ الآية الكريمة: {وَإِذْ قََالَ رَبُّكَ لِلْمَلََائِكَةِ إِنِّي جََاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].(4/205)
اللهم اكشف لنا عوراتهم، وسلّط أرماحنا على أجوافهم والقوم يبكون ويقولون آمين.
سئل أبو قابوس الصّوفي عن النّبيذ فقال: حلال على السّراة حرام على السّفل.
نادرة طريفة عن محدث
انحدر بعض أصحاب الحديث من سرّ من رأى في سفينة، ومعه فيها نصراني فتغدّيا جميعا ثمّ أخرج زكرة (1) كانت معه فيها شراب، فصب في مشربة كانت معه، وشرب ثمّ صب فيها وعرضها على المحدث فتناولها من غير امتناع ولا مكاس وشرب. فقال النّصراني: جعلت فداك. إنّما عرضت عليك كما يعرض النّاس، وإنّما هي خمر. قال: ومن أين علمت أنّها خمر؟ قال: غلامي اشترها من إنسان يهوديّ وذكر أنّها خمر، فشربها بالعجلة وقال: لو لم يكن إلّا لضعف الإسناد لشربتها. ثمّ قال للنّصراني: أنت أحمق. نحن أصحاب الحديث نضعف حديث سفيان بن عيينة ويزيد بن هارون، أفنصدق نصرانيّا عن غلامه عن يهوديّ.
هذا محال.
سئل الشيرجي عن أربعين رأسا من الغنم نصفها ضأن ونصفها ماعز، ما الذي يجب فيها؟ فقال: يجب فيها شاة نصفها ضأن ونصفها ماعز.
كسر جامع الصّيدلاني يوما كوزا، فخرج من جوفه لوزتان فقال: سبحان الله من يصوّر في الأرحام ما يشاء، وجاءته جاريته يوما فقالت: لم يبق البزر. فقال:
وكيف يبقى وأنتم تقعدون حوله عشرة عشرة. ودخل يوما ليشتري نعلا لابنته فقالوا: كم سّنها. فقال: لا أدري والله غير أنّها في حم السجدة. وولد له ابن فقيل له: ما سميته؟ فقال: سمّيته عليّ بن عاصم المحدّث.
قال بعضهم: رأيت سيفويه متعلّقا بأستار الكعبة وهو يقول: ارحم ترحم.
ارحم ترحم.
__________
(1) الزكرة: آنية الخمر.(4/206)
واجتاز بباب شوكيّ فوطئ الشّوك، ودخلت في رجله شوكة، فقال للشوكيّ: اجعلني في حلّ من هذه الشّوكة، فإنّي لست أقدر على إخراجها في هذه الساعة. فكنت أردّها عليك.
واشترى ديكا هنديّا وشدّ في رجله فرد نعل سندي لئلا يخرج، فانقطع الخيط وخرج الديك، فخرج سيفويه في طلبه، وجعل يسأل جيرانه ويقول: أرأيتم ديكا هنديا في رجله نعل سنديّ.
ألقي إلى أبي سالم القاصّ خاتم بلا فصّ. فقال أبو سالم: إنّ صاحب هذا الخاتم يعطي يوم القيامة في الجنّة غرفة بلا سقف.
وقال بعضهم في حلقته: من صلّى ليلة الجمعة اثنتي عشرة ركعة كذا وكذا بنى الله له في الجنّة بيتا، فقام إليه رجل نبطي فقال: يا فديت وجهك: إن صلّيت أنا فعل بي هذا؟ قال: لا يا عاضّ بظر أمّه. ذاك لبني هاشم والعرب وأهل خراسان، أما أنت فيبنى لك كوخ بعكبرا.
قال الجاحظ: وقفت على قاصّ وقد اجتمع عليه خلق كثير وفيهم جماعة من الخصيان، فوقفت إلى جانبه وجعلت أشير إلى النّاس أنّه هوذا يجوّد قال: وهو يفرح بذلك. فلم يعطه أحد شيئا فالتفت إليّ خفيّا وقال: السّاعة إن شاء الله أعمل الحيلة. ثم صاح: حدّث فلان عن فلان عن النّبي عليه السلام: قال: قال ربّ العالمين عزّ وجل: ما أخذت كريمتي عبد من عبيدي إلّا عوّضته الجنّة. أتدرون ما الكريمتان في هذا الموضع؟ قال النّاس: ما هما؟ فبكى، وقال: هما الخصيتان وهو يتباكى ويكرّر فجعل كلّ واحد من الخصيان يحلّ منديله حتّى اجتمعت له دراهم كثيرة.
وقال آخر في قصصه: يا بن آدم، يا بن الزّانية، أما استحييت من الملك الجليل والملك الكريم، يصعد إليه عنك بالعمل القبيح، فقيل: تزنّي النّاس؟ قال:
نعم قد كان الحسن يكثر من قول: يا لكع قال بعضهم في قصصه: رأيتم أجهل من إخوة يونس؟ يريد يوسف، أخذوا أخاهم، وطرحوه في الجبّ وكذبوا على الدبّ.(4/207)
قال أبو العنبس: سمعت قاصّا بالكوفة يقول في قصصه: تحت رأس ولي الله في الجنّة سبعون ألف مخدّة، والمخدّة سبعون ألف حجاب، ما بين الحجاب والحجاب سبعون ألف عام. قال: فقلت: فإن سقط من فوق تلك الفرش كيف يعمل؟ فقال: إلى النّار يا صفعان.
قال بعضهم في قصصه: كان أبو جهل خوزيا، فقيل له: بل هو قرشيّ مخزوميّ ولكنّه كافر. فقال: يتكلّم أحدكم بما لا يعلم كلّ كافر خوزيّ.
قال آخر في مجلسه: زعم قوم أني لا أحسن القرآن. وهل في القرآن أشرف من: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (1) [الإخلاص: 1]. وأنا أقرؤه مثل الماء، وابتدأ وقرأ فلما بلغ قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ} أرتج عليه فقال: من أراد أن يحضر ختمة السّورة فليحضر يوم الجمعة.
دفع واحد قطعة إلى قاص وقال: ادع لي ولأبويّ بالمغفرة، فرفع القاص رأسه وقال: ثلاثة أنفس بقيراط؟! وارخصاه!.
قيل لبعضهم: في لحيتك هريسة فقال: هذه من تلك الجمعة.
قال بعضهم: سمعت قاصّا بعبّادان وهو يقول: اللهم ارزق الموتى الشهادة، ويا إخوتي ادعوا ليأجوج ومأجوج بالتّوبة. وسقط على أنفه ذبابة فقال: أكثر الله القبور بكم.
جاء أبو العالية القاص يشهد على رجل رآه مع غلام له، فقال له الوالي بم تشهد؟ قال: أصلحك الله! رأيته وقد بطحه فقلت: ينوّمه، ثم كشف ثيابه فقلت:
يروّحه، ثمّ جلس عليه فقلت يغمّزه، ثم بصق فقلت: يعوّذه، ثمّ أخرج شيئا فلا إله إلّا الله.
شهد أبو يحيى المحدّث عند قاص أنّه يعرف الحائط الفلانيّ لفلان. فقال له: مذ كمّ تعرف هذا الحائط له؟ فقال: أعرفه وهو صغير لفلان.
ونظر إلى الهلال فقال: ربي وربّك الله، سبحان الله من خلقك من عود يابس. ذهب إلى قوله تعالى: {حَتََّى عََادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39].(4/208)
نوادر أبي سالم
ووقف على أبي سالم القاص رجل راكب حمارا يتطلّع في حلقته. ويسمع قصصه، فناداه: يا صاحب الحمار امض لسبيلك لا يدلّ حمارك فإن عندنا نساء.
وقيل له: كم ولدا لإبليس؟ فقال: أربعة ثلاثة ذكورة وبنت قالوا: فمن أمّهم؟ قال: شاة كانت لآدم فأهداها له.
وقيل: ادع الله لفلان أن يردّه على أبيه وأعطى درهمين. فقال: وأين هو؟
قيل: بالصين. قال: يرده من الصين بدرهمين؟ بلى لو كان بسيراف أو بجنّابة أو تستر.
سرق لبعضهم منديل فقال لغلامه: أين المنديل؟ قال: يا مولاي. لا أدري فقال: يا بن الزّانية والله ما سرقه بعد الله غيرك.
نوادر أبي أسيد
ومات عيسى بن حمّاد وقد أوصى بأكثر من ثلث ماله، فأجاز ذلك ولده وامرأته، فأتوا أبا أسيد ليكتب بذلك كتابا، فقال لهم: يا فتيان أمّكم قد بلغت مبلغ النّساء أم لا.؟ وكان أبو أسيد هذا يقول: كان ابن عمر يحفّ شاربه حتّى يرى بياض إبطيه. وقال يوما: ما بقي من حمامي نافخ نار، ومرّ بقوم يصيدون السمك، فقال: يا فتيان، مالح أو طريّ.
ودخل يوما في الماء إلى كعبه فصاح: الغريق الغريق. فقيل له: ما دعاك إلى ذاك؟ فقال: أخذت بالوثيقة.
قيل لبعضهم: أيسرّك أنّ الله أدخلك الجنّة وأنت شاة؟ قال: نعم بشرط ألا يذهبوا بي إلى التياس.
جاء رجل إلى واحد منهم فقال: ما تقول في شرب النّبيذ؟ قال: لا يجوز قال: فإن كان الرّجل قد أكل المالح؟ قال: قد رجعت مسألتك إلى الطّب.
صلّى سيفويه بقوم وسلّم عن يمينه ولم يسلّم عن يساره، فقيل له في ذلك فقال: كان في ذلك الجانب إنسان لا أكلّمه.(4/209)
على من حرم التختم بالذهب
قال بعضهم: رأيت بالشّام قاصّا روي في مجلسه أنّ أبا هريرة رأى على ابنته خاتم ذهب فقال لابنته: لا تختّمي بالذّهب فإنه لهب. فبينا هو يحدّثهم ويقصّ عليهم إذ بدت يده وفي إصبعه خاتم ذهب، فقالوا: يا عدوّ الله تنهى عن شيء وتلبسه أنت؟ ووثبوا عليه. فقال: يا قوم لست أنا ابنة أبي هريرة. إنّما حرّم ذلك على تلك المشؤومة.
قال آخر: رأيت قاصّا يقصّ حديث موسى وهارون ويقول: لما صار فرعون في وسط البحر وقال الله للبحر: انطبق. وعلاه الماء جعل فرعون يضرط مثل الجاموس نعوذ بالله من ذلك الضراط! قال سيفويه يوما في قصصه: أتدرون من هؤلاء القدريّة؟ قالوا: من هم أكرمك الله؟ قال: هم الذين يجلسون على الشّطّ فيقدرون أستاه الغلمان. قال آخر: رأيت قاصّا يقصّ غداة يوم، ثمّ رأيته عشيّا في بيت نبّاذ، والقدح في يده فقلت: ما هذا؟ قال: أنا بالغداة قاص، وبالعشيّ ماص.
من نوادر ابن كعب
كان ابن كعب يقصّ في مسجد عتاب بالبصرة في كلّ يوم أربعا، فاحتبس عليهم في بعض الأيّام، وطال انتظارهم، فبينا هم إذ جاء رسوله فقال: يقول لكم أبو كعب: انصرفوا راشدين فقد أصبحت اليوم مخمورا.
أبو ضمضم ينسب آدم
جلس أبو ضمضم ينسب قبائل العرب فقال له بعضهم: يا أبا ضمضم: آدم من أبوه؟ فحمله استقباح الجهل عنده بشيء من الأنساب على أن قال: آدم بن المضاء بن الخليج وأمّه ضباعة بن قرزام. فتضاحك القوم وثاب إليه عقله فقال:
إنّما نسبت آخا لآدم من أمه.
رأى بعض أهل نيسابور جنازة فقال: ربي وربّك الله لا إله إلّا الله. فسمعه آخر فقال: أخطأت. قل: اللهمّ ألبسنا العافية، وتشاجرا فتحاكما إلى قاض لهم فقال: لم يصب واحدا منكما. إذا رأيتم جنازة فقولوا: سبحان من يسبح الرّعد بحمده والملائكة من خيفته.(4/210)
عبد الأعلى والاشتقاق
كان عبد الأعلى القاصّ يتكلّف لكلّ شيء اشتقاقا فقال: الكافر إنّما سمّي كافرا لأنّه اكتفى وفرّ. قيل له: بماذا اكتفى ومن أيّ شيء فرّ؟ قال: اكتفى بالشّيطان وفرّ من الله. وقال سمّي الزّنديق زنديقا لأنّه وزن فدقّق. وسمّي البلغم بلغما لأنّه بلاء وغمّ، وسمّي الدرهم درهما لأنّه داء وهمّ.
وسمّي الدينار دينارا لأنّه دين ونار. وسمّي العصفور عصفورا لأنّه عصا وفرّ. وسمّى الطّفبشل طفبشلا لأنّه طفا وشال. وسمي نوح نوحا لأنّه كان ينوح على قومه. وسمّي المسيح مسيحا لأنه مسح الأرض.
جاء رجل إلى بعضهم فقال: أفطرت يوما من شهر رمضان ساهيا، فما عليّ؟ قال: تصوم يوما مكانه. قال: فصمت. فأتيت أهلي وقد عملوا حيسا، فسبقتني يدي إليه فأكلت منه. قال: تقضي يوما آخر. قال: فقضيت يوما مكانه، وأتيت أهلي وقد عملوا هريسا فسبقتني يدي إليه فأكلت منه فما ترى؟ قال: أرى ألا تصوم إلّا ويدك مغلولة إلى عنقك.
ماتت أمّ ابن عياش فأتاه سيفويه معزّيا فقال: يا أبا محمّد، عظم الله مصيبتك. فتبسّم ابن عيّاش وقال: قد فعل. فقال: يا أبا محمّد هل كان لأمّك ولد؟ فقام ابن عيّاش من مجلسه وضحك حتّى استلقى على قفاه.
قال الجاحظ: كان عبد العزيز الغزال يقول في قصصه: ليت أنّ الله لم يكن خلقني وأنّي السّاعة مقطوع اليدين والرّجلين. وذكر أنّ أبا سعيد الرفاعي سئل عن الدنيا والدائسة. فقال: أما الدنيا فهذه التي أنتم فيها وأمّا الدائسة فهي دار نائية من هذه الدار، لم يسمع أهلها بهذه الدار ولا بشيء من أمرها، وكذلك نحن نسمع بذكر تلك الدار إلّا أنّه قد صحّ عندنا أنّ بيوتهم من قثاء، وسقوفهم من قثاء، وأنعامهم من قثاء وأنفسهم من قثاء وقثّاءهم أيضا من قثاء. قالوا: يا أبا سعيد زعمت أنّ أهل تلك الدار لم يسمعوا بأهل هذه الدار ولا بشيء من أمرها، وكذلك نحن لهم، وأراك تخبرنا عنهم بأخبار كثيرة: قال: فمن ثمّ أنا أعجب أيضا.
قال الجاحظ: كان عندنا بالبصرة قاص لا يحفظ شيئا سوى حديث جرجيس، فقصّ يوما فبكى رجل من النّظّارة، فقال القاص: أنتم لأيّ شيء تبكون؟ إنّما البلاء علينا معاشر العلماء.(4/211)
وقصّ بعض العلويّة بالرّيّ فسأله وهو على كرسيّه والعامة حواليه رجل منهم عن معاوية فقال: أمّا معاوية فلحيته في استي.
قصّ أبو سالم يوما وفي حلقته رجل أعور، فجعل الأعور يهزأ به ويضحك منه، ففطن أبو سالم فقال لأصحابه: إذا دعوت فقولوا: آمين. قالوا: نعم. فقال:
اللهمّ من كان يسخر منّا فافقأ عينه الأخرى.
لقي رجل سيفويه فسأله عن حاله وعياله، فقال: هو ذا نقطع الدنيا يوما بيوم، فيوم لا يرزقنا الله ويوم يرزقنا الله. ولقي صاحبا له فقال له: يا أخي أين تكون؟ قد طلبتك عشرين دفعة وهذه الثّانية.
دعا أبو سالم على المتربّصين فقال: اللهمّ امسخهم كلابا وامسخنا ذئابا حتّى نقطّع لحومهم.
قال بعضهم: سمعت قاصّا يقول: إنّي لأقصّ عليكم، وو الله إنّي لأعلم أنّه لا خير عندي ولا عندكم. ولكن تبلّغوا بي حتّى تجدوا خيرا مني.
حيلة قاص
قص واحد ومعه تعاويذ يبيعها يسمعون قصصه ولا يشترون التّعاويذ، فأخذ محبرته وقال: من يشتري منّي كل تعويذة بدرهم، حتّى أقوم وأغوص في هذه المحبرة باسم الله الأعظم الذي قد كتبته في هذه التعاويذ. فاشتريت منه التّعاويذ في ساعة وجمع دراهم كثيرة. وقالوا له: قم فادخل الآن في المحبرة. فنزع ثيابه وتهيّأ لذلك والجهّال يظنّون أنّه يغوص فيها. فبدرت امرأة من خلف النّاس وتعلّقت به، وقالت: أنا امرأته، من يضمن لي نفقتي حتّى أتركه يدخل، فإنّه دخلها عام أوّل، وبقيت ستّة أشهر بلا نفقة.
كان بعض القصّاص يدعو فيقول: اللهمّ أهلك أولاد الزنى الذين أسماؤهم الكنى، وأنسابهم القرى، وشعورهم شعور النّسا، وههنا منهم جماعة فيما أرى.
وسمع قاص كان يحضّ على الجهاد قارئا يقرأ سورة يوسف. فقال: دعنا من آيات القحاب وخذ في آيات طرسوس.(4/212)
الباب العاشر نوادر القضاة لمن تقدم إليهم
اختصم رجل وامرأة إلى سوّار، فقال الزّوج لسوّار: أصلح الله القاضي، لو عرفتها لبصقت في استها. فقال سوّار: اغرب عليك لعنة الله.
قال بعضهم: سمعت رجلا جيء به إلى التميمي القاضي، فقال: يا معشر القاضي: كم يجرونك إليّ بحال أنّهم واحد وأنا ستّة، لا يجدون أحدا يظلمونك إلّا غيري.
خاصم رجل رجلا إلى الشّعبي فقال: إنّ هذا باعني غلاما نصيحا صبيحا.
قال: هذا محمد بن عمير بن عطارد.
قدّمت جارية مولى لها إلى بعض القضاة وادّعت عليه الحبل، فأنكر المولى وادّعى أنّه كان يستعمل العزل وقت إتيانها، فاستثبته القاضي، وتعرّف منه صورة أمره معها فقال: أصلح الله القاضي، كنت آتيها في قبلها فإذا أردت الفراغ عزلت فأنزلت في دبرها. فقال القاضي: اسكت يا فاسق فإنّك هوذا تسمّى ولاية العراقين عزلا.
أحد الخصمين يعرض على القاضي فراريج وحنطة
اختصم رجلان إلى قاض، فدنا أحدهما منه وقال له سرّا: قد وجهت للدّار فراريج كسكرية، وحنطة بلديّة كذا وكذا. فقال القاضي بصوت عال: إذا كانت لك بيّنة غائبة انتظرناها، ليس هذا ممّا يسارّ به.
قضية غير مفهومة
قال محمّد بن رباح القاضي: تقدم إليّ قثم مع ابن أخيه، فادعى عليه خمسة آلاف دينار فقال قثم: نعم له عليّ ذلك من أيّ وجه. فقلت: قد أقررت له بالمال،
فإن شاء فسّر الوجه، وإن شاء لم يفسّر. فقال ابن أخيه: أشهد أنّه بريء منها إن لم أثبتها. فقلت: وأمّا أنت فقد أبرأته إلى أن تثبت ذلك، فما رأيت أضعف منهما في الحكم.(4/213)
قال محمّد بن رباح القاضي: تقدم إليّ قثم مع ابن أخيه، فادعى عليه خمسة آلاف دينار فقال قثم: نعم له عليّ ذلك من أيّ وجه. فقلت: قد أقررت له بالمال،
فإن شاء فسّر الوجه، وإن شاء لم يفسّر. فقال ابن أخيه: أشهد أنّه بريء منها إن لم أثبتها. فقلت: وأمّا أنت فقد أبرأته إلى أن تثبت ذلك، فما رأيت أضعف منهما في الحكم.
يمين الطنبور
ادّعى رجل على آخر طنبورا وأحضره عند القاضي فأنكر، فقال: حلّفه فقال القاضي: إن كان عندك هذا الطنبور فأيري في حر أمّك، فقال الرجل: أيّ يمين هذا؟ فقال القاضي: يمين الطّنبور.
وادّعى رجل على امرأة عند القاضي شيئا فأنكرت فقال لها: إن كنت كاذبة فأير القاضي في حرك. فتوقفت المرأة، فقال القاضي: قولي وإلّا فاخرجي من حقّه.
قال بعض القضاة الحمقى: قد عزمت على أن أخصي عدلين للشّهادة على النساء.
قاضي جبل
لما خرج المأمون إلى فم الصلح لينقل بوران بنت الحسن، إذا جماعة على الشطّ وفيهم رجل ينادي بأعلى صوته: يا أمير المؤمنين نعم القاضي قاضي جبّل جزاه الله عنّا أفضل ما جزى أحدا من القضاة فهو العفيف النّظيف، النّاصح الجيب المأمون الغيب. وكان يحيى بن أكثم يعرف قاضي جبل وهو ولّاه وأشار به. وإذا هو القاضي نفسه، فقال: يا أمير المؤمنين: إنّ هذا الذي ينادي ويثني على القاضي هو القاضي نفسه. فاستضحك المأمون واستطرفه وأقرّه على القضاء.
وقد كان أهل جبّل رفعوا عليه وذكروا أنّه سفيه حديد يعضّ رؤوس الخصوم فوقع المأمون: يشنق إن شاء الله.
قال بعضهم: رأيت امرأة قدّمت زوجها إلى أبي جعفر الأبهري المالكي وكان على قضاء المحوّل، فقالت له: أعزّك الله، هذا زوجي ليس يمسكني كما يجب، حسبك أنه ما أطعمني لحما منذ أنا معه. قال القاضي: ما تقول؟ قال: أعزّ
الله القاضي البارحة أكلنا مضيرة. قالت المرأة: ويلي أليس كان ما ست؟ قال:(4/214)
قال بعضهم: رأيت امرأة قدّمت زوجها إلى أبي جعفر الأبهري المالكي وكان على قضاء المحوّل، فقالت له: أعزّك الله، هذا زوجي ليس يمسكني كما يجب، حسبك أنه ما أطعمني لحما منذ أنا معه. قال القاضي: ما تقول؟ قال: أعزّ
الله القاضي البارحة أكلنا مضيرة. قالت المرأة: ويلي أليس كان ما ست؟ قال:
وتناي نا ستّة. قال القاضي: هذه مضيرة بعصبان.
جلس أبو ضمضم القاضي للحكم فلمح في مجلسه رجلا معه ألواح يعلّق نوادره فرماه بالدّواة وشجّه ثمّ أمر به إلى الحبس. فقال كاتبه: ما أكتب قصّته في الدّيوان. قال: اكتب: استرق السّمع فأتبعه شهاب ثاقب.
القاضي يحبس صاحب الحق
اختصم إلى أبي ضمضم رجلان فأقرّ أحدهما لصاحبه بما ادّعاه عليه وقال:
أعزّ الله القاضي. إنّي كلّما طلبته لأوفّيه حقّه لا أجده فإنّه رجل شرّيب منهمك في الشرب أبدا عند أصحابه وأصدقائه، وأنا رجل معيل أحتاج أن أكسب قوت عيالي، ولا يتهيّأ لي أن أتعطّل عن كسبي وأدور في طلبه. فأمر أبو ضمضم بحبس صاحب الحقّ. وقال لغريمه: اذهب فاشتغل بطلب معاشك ومكسبك، فإذا حضرك ما تردّه عليه فاحمله إلى الحبس حتّى لا تحتاج أن تدور في طلبه. فبقي الرّجل في الحبس ثمانين يوما وصاحبه يحمل إليه الشيء بعد الشيء إلى أن بقي له عشرة دراهم فأرسل إلى القاضي وقال: إن رأيت أن تفرج عنّي فلم يبق لي على غريمي إلّا عشرة دراهم فقال: لا والله لا تبرح حتّى تأخذ حقك!
قضية غير مفهومة
تقدّم رجلان إلى بعض القضاة فقال أحدهما: أصلحك الله أخو ختن غلام أكّار هذا سرق كساء أخي ختن أكار خال ولد ختني. فقال القاضي: ما تقول؟
قال: فأعزّ الله القاضي. غير كساء غيري سرق غير ختن كساء هذا. أنت القاضي.
أيش تشير عليّ؟ قال القاضي: أشير عليك أن تأخذ أيّ طريق شئت فمن كلّمك فاصفعه.
نوع من القرابة
ارتفع رجلان إلى قاض أحدهما يدّعي على الآخر حقّا له من ميراث فقال القاضي للمدّعي: ما تكون من هذا الرجل الذي تدّعي ميراثه؟ قال: أعزّ الله
القاضي أنا أحد قراباته. كانت أم أم أمّه جدّها لأمها أخا خال عمّ أخي ختني.(4/215)
ارتفع رجلان إلى قاض أحدهما يدّعي على الآخر حقّا له من ميراث فقال القاضي للمدّعي: ما تكون من هذا الرجل الذي تدّعي ميراثه؟ قال: أعزّ الله
القاضي أنا أحد قراباته. كانت أم أم أمّه جدّها لأمها أخا خال عمّ أخي ختني.
أعني ابن بنت زينب خالتي فقال القاضي: يا سفلة، هذه صفة أخلاط الخبث.
ارفعها إلى الصّيادلة حتّى يميزوها. خلطا خلطا ثم ردّوها.
سمع بعض القضاة امرأة تقول لأخرى في جيرته في كلام بينهما: وإلّا فأير القاضي في حرك. فقال القاضي: إنّ القاضي والله أشقى بختا من ذاك.
تشاجر رجل وامرأته في الأير إذا قام وانتفخ كم رطلا فيه. فقال الرجل:
يكون فيه خمسون رطلا. وقالت المرأة: لا يكون. فحلف بطلاقها أنّه إذا انتفخ يكون فيه أكثر من ألف رطل. فارتفعا إلى الحاكم ورشوه على الحكم لئلّا يفرّق بينهما فقال: اذهبوا فإنّه إذا قام فهو مثل شراع السّفينة إذا وقع فيه الرّيح يكون أكثر من خمسة آلاف رطل.
قدّم رجل امرأته إلى القاضي فقال: أعزّ الله القاضي أنا رجل من دورق وهذه امرأة من درب عون، وفي قلبي حبّ وهي تغار عليّ وأريدها صاغرة فقال القاضي: اذهب عافاك الله إلى دار بانوكة حتّى يعمل لك قاض من دنّ يحكم بينكما.
غاب رجل في بعض أسفاره، وطالت غيبته فأرجف به وبموته، وأتى على ذلك مدة، وبلغ قاضي البلد جمال امرأته فخطبها وتزوّجها فصار إليه أهل بيت زوجها وبنو أعمامه وقالوا: أعزّ الله القاضي. لم يصحّ عندنا موت هذا الرّجل ونحن في شك منه، فكيف تتزوّج بامرأته؟ فغضب القاضي وقال: أنتم تسخرون بالنّساء، والله ما يغيب أحدكم إلّا تزوّجت بامرأته.
يمين أصحاب الرياحين
تقدّم رجلان إلى قاض وادّعى أحدهما على صاحبه درهما من ثمن ريحان اشتراه [ف] أنكر واستحلفه فقال القاضي: قل: والله الذي لا إله إلّا هو. فقال الرّجل: أصلحك الله ليست هذه يمين أصحاب الرّياحين. قال القاضي: وما يمينهم؟ قال: أن يقول أمه فاعلة إن كان لهذا عليه شيء. قال القاضي: ما أشك في صدقك، وغرم الدرهم من عنده.(4/216)
تقدّم رجلان إلى الشعبيّ، فقال أحدهما: لي عليه أعزّ الله القاضي كذا وكذا من المال. فقال: ما تقول؟ قال: يسخر بك أعزّك الله.
قاضي حمص
تقدّم إلى قاضي حمص رجل وامرأته فقال الرّجل: أصلح الله القاضي إنها لا تطيعني. قالت: أصلح الله القاضي. إني لا أقوى مما معه قال: يا هذا لا تحمّلها ما لا تطيق. قال: أصلحك الله إنها كانت عند رجل قبلي فكانت تكرمه وتطيعه.
فضرط القاضي من فمه ثمّ قال: يا جاهل، الأيور كلها تستوي؟ هوذا أنا معي مثل أير البغل ومن في البيت أستودعهم الله يستصغرونه.
كيفية القصاص
ارتفعت امرأة مع رجل إلى قاضي حمص، فقالت: أعز الله القاضي هذا قبّلني قال القاضي: قومي إليه فقبّليه كما قبّلك. قالت: قد عفوت عنه إن كان كذا. قال القاضي: فإيش قعودي ههنا؟ حيث أردت أن تهبي جرمه لم جئت إلى هذا المجلس؟ والله لا برحت حتّى تقتصّي منه حقّك وبعد هذا لو نا ك رجل بحذائي لم أتكلّم.
رفع أبو الجود الشّامي امرأته إلى أبي شيبة القاضي وقالت: أصلحك الله اخلعني منه وإلا طرحت نفسي في دجلة، فقال زوجها: أصلحك الله إنها تدل بسباحة. فقال القاضي: ما أدري أيّكما أرقع (1) قال الشّامي: إن كنت لا بدّ فاعلا فارقعني ودعها.
من نوادر قاضي حمص
أرسل المأمون رجلا معه كتاب إلى قاضي حمص. قال الرّجل: فدخلت حمص فمررت على جماعة من المشايخ في مسجد، فاسترشدتهم فقالوا: أمامك.
وحرّكت البغلة فضرطت فقال شيخ منهم كان أحسنهم هيئة وأسنهم: على أيري.
__________
(1) أرقع: أشد حمقا، من الرقاعة.(4/217)
فتعجّبت من قوله، وصرت إلى القاضي فقرأ كتابي ثم تحدّث فانبسطت معه فقلت: ألا أطرفك أيها القاضي بشيء. وقصصت عليه القصّة. فقال: يا حبيبي قد فسد النّاس وذهبت نصفتهم كانوا فيما مضى إذا سمعوا ضرطة قالوا على أير القاضي فصار الآن كلّ إنسان يجرّ النّار إلى قرصه.
الأخ والأخ الهجين
ذكر أنّ أعرابيا من بني العنبر صار إلى سوّار القاضي فقال: إنّ أبي مات وتركني وأخا لي وخطّ خطّين ثمّ قال وهجينا. وخطّ خطّا ناحية فكيف يقسم المال؟ فقال: أههنا وارث غيركم؟ قال: لا. قال: المال بينكم أثلاثا. قال: لا أحسبك فهمت. إنّه تركني وأخي وهجينا لنا، فقال سوّار مثل مقالته الأولى. فقال الأعرابي أيأخذ الهجين كما آخذ أنا وكما يأخذ أخي؟ قال: أجل؟ فغضب الأعرابيّ ثمّ أقبل على سوّار فقال: تعلّم والله إنّك قليل الخالات بالدّهناء، فقال: سوّار:
إذا لا يضرني ذلك عند الله شيئا.
تقدّم رجل إلى شريك ومعه غريم له فقال: أصلحك الله لي عليه خمسمائة درهم. فقال للغريم: ما تقول؟ قال: أصلحك الله يسخر بك فقال: قم يا ماصّ بظر أمّه.
قال الأصمعيّ: لقيت قاضي سبدان فقلت: على من تقضي؟ فقال: على الضّعيف.
كان أبو السّكينة قاضيا للحجاج بن يوسف وكان طويلا فقال يوما: بلغني أنّ الطّويل يكون فيه ثلاث خلال لا بد منها قال: ما هي؟ قال: يفرق من الكلاب ولا والله ما خلق الله دابة أنالها أشدّ فرقا من الكلاب، أو تكون في رجله قرحة ولا والله ما فارقت رجلي قرحة قط أو يكون أحمق وأنتم أعلم بقاضيكم.
قضاء عكابة النميري
ولي عكابة النميري قضاء البحرين فالتاث أهلها عليه فركب فرسه وأخذ رمحه وقال: والله لا أقضي إلّا هكذا من خالفني طعنته برمحي.(4/218)
كان بالبصرة قاض، فاحتكم إليه حائك في حمامة فأخذها ومسح عينها ثم أرسلها، فقال الحائك: ما فعلت أيها القاضي؟ قال: يذهب إلى بيت صاحبها.
قضاء أم مزايدة
وتقدّم إليه رجلان ومعهما امرأة فقال أحدهما: أصلحك الله. هذه امرأتي تزوّجتها على ستّين درهما وهذا يدّعي أنّه يتزوّجها على سبعين فقال القاضي: عليّ بثمانين. فقالا: أصلحك الله جئناك لتقضي بيننا، لم نجئك لتزايدنا. قال القاضي:
فإنما في شرى وبيع، وقوما في لعنة الله.
قاضي ماهر في الحساب
تقدّم إلى قاض اثنان فادّعى أحدهما على صاحبه ثلاثة أرباع دينار. فقال القاضي: ما تقول؟ قال له: علي دينار غير ربع، ففكّر ساعة ثم قال: أما تستحيان في هذا القدر. إنّما بينكما ثلث دينار! قوما فاصطلحا فالصّلح خير.
واختصم إليه رجلان في ديك ذبحه أحدهما فقال: ارتفعوا إلى الأمير، فإنّا لا نحكم في الدماء.
وعزل يحيى بن أكثم قاضيا كان له على حمص من أهلها فلمّا قدم إليه رأى شيخا وسيما فقال له: من جالست يا شيخ؟ فقال: أبي. فظنّ أنّ أباه من أهل العلم. قال: فمن جالس أبوك؟ قال: مكحولا قال: فمن جالس مكحول؟ قال:
سفيان الثّوري: قال: ما كان يقول أباك في عذاب القبر؟ قال: كان يكرهه.
تزوّج بعض الخصيان في زمن شريح بامرأة فأتت بولد فتبرأ الخصيّ منه وترافعا إلى شريح. فألحق الولد به وألزمه أن يحمله على عاتقه فخرج على تلك الصورة واستقبله خصيّ آخر. فقال له: انج بنفسك فإنّ شريحا يريد أن يفرّق أولاد الزني على الخصيان.
سمع العنبريّ القاضي صبيا يقول لآخر. وإلّا فأير القاضي في حر أم الكاذب، فقال القاضي: ولم يا صبي؟ قال: لأنّ عليه أيرا مردودا في حر أمه مثل سارية المسجد. فقال القاضي: الاستقصاء شؤم.(4/219)
قدّم رجل جماعة إلى قاضي حمص يشهدون له على شيء ادّعاه فقال لهم القاضي: بم تشهدون؟ فقال: تريد منّا أن تكون نمامين!
قدّمت امرأة زوجها إلى القاضي ومعها طفل ادّعت أنّه ولده وأنكر الرّجل فقال القاضي: الولد للفراش وقد أقررت بالزّوجية فقال: أيّها القاضي والله ما تناي نا إلّا في الاست، فقالت المرأة: وأنت أيّها القاضي، ما رأيت غرفة تكف. قال القاضي: صدقت. خذ بيدها وبيد ولدك.
دخل على بعض الولاة قاض وعنده مضحك عيّار، فوثب فكشف استه وتلقّى بها القاضي، فحلّ القاضي سراويله وأخرج أيره وتلقى به استه. وقال: وإذا حيّيتم بتحيّة فحيّوا بأحسن منها.
القضاء على شيء
يقال: إنّ غلامين من أهل سنجار تقدّما إلى قاضيها فقالا له: أيّها القاضي قد جئناك في شيء وإن لم يكن شيء. مات أبونا، وخلّف لنا دارا لا تسوي شيء، فاقتسمناها فما أصابنا منها شيء، وعرضناها فما أعطونا بها شيء، ونحن فقراء ما نملك شيء، وجياع ما في بطوننا شيء، وحفاة ليس في أرجلنا شيء، وقد جئنا إلى القاضي حتّى يعطينا شيء فنضمّ شيء إلى شيء ونشتري به شيء. قال القاضي: قد وليت سنجار وما معي شيء، وأنزلوني في دار ليس فيها شيء، فأقمت بينهم شهرين ما أطعموني شيء، وحلّفتهم فما أقرّوا إلي بشيء، والقوم جياع ليس عندهم شيء، ولو كانت داركم تسوي شيء كنّا قد بعناها لكم بشيء، أعطيناكم شيء وأخذنا شيء، فكان يكون عندكم شيء وعندنا شيء. ولكن هوذا أفطّنكم بشيء! من ليس معه شيء لا يسوي شيء.(4/220)
الباب الحادي عشر نوادر لأصحاب النساء والزناة والزواني
كان رجل يتعشّق امرأة، ويتبعها في الطرقات دهرا، إلى أن أمكنته من نفسها. فلمّا أفضى إليها لم ينتشر عليه فقالت له: أيرك هذا أير لئيم. قال: بل هو من الذين قال فيهم الشاعر (1): [البسيط] وأفضل النّاس أحلاما إذا قدروا
نظر مغيرة المهلّب يوما إلى أخيه يزيد وهو يطالع امرأته ويقول لها: اكشفي ساقك ولك خمسون ألف درهم فقال: ويلك يا فاسق، هات نصفها وهي طالق.
قال بعضهم لأعرابي: هل يطأ أحدكم عشيقته؟ فقال: بأبي أنت وأمّي. ذاك طالب ولد ليس ذاك بعاشق.
سمع إسماعيل بن غزوان قول الله تبارك وتعالى: {قََالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رََاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصََّادِقِينَ (51) ذََلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي كَيْدَ الْخََائِنِينَ} (52) [يوسف: 5251]. فقال: لا والله إن سمعت بأغزل من هذه الفاسقة. ولما سمع بكثرة مراودتها ليوسف واستعصامه بالله قال:
أما والله لو بي محكت.
قال الأصمعي: راودت أعرابية شيخا عن نفسه، فلمّا قعد منها مقعد الرّجل من المرأة أبطأ عليه الانتشار فأقبلت تستعجله وتوبخه فقال لها: يا هذه إنك تفتحين بيتا وأنا أنشر ميتا.
__________
(1) يروى البيت بتمامه:
شمس العداوة حتّى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
والبيت للأخطل في ديوانه ص 85، ولسان العرب (جشر) (شمس)، وبلا نسبة في أساس البلاغة (شمس).(4/221)
أشار ضيف لقوم إلى بنت لهم بقبلة وهي خلف الخباء، فلما سمع الشّيخ قول الجارية: إنّي إذا الطويلة العنق قال: وبيت الله لقد أشار إليها بقبلة.
أتي نوفل بابن أخيه وقد أحبل جارية لغيره فقال: يا عدوّ الله هلّا إذا ابتليت بالفاحشة عزلت. قال: بلغني أنّ العزل مكروه. قال: أفما بلغك أن الزنى حرام.
جاء رجل إلى عابد فسأله عن القبلة للصّائم، فقال: تكره للحدث، ولا بأس بها للمسنّ، وفي اللّيل لك فسحة. فقال: إنّ زوجها يعود إلى منزله ليلا فقال: يا ابن أخ هذا يكره في شوّال أيضا.
قال الجاحظ: تعشّق المكّي جارية ثم تزوّجها نهارية، فخبّرني أنّها كانت ذات صبيان وأنه كان معجبا بذلك منها، وأنّها كانت تعالجه بالمرتك (1)، وأنه نهاها مرارا حتّى غضب في ذلك. قال: فلمّا عرفت شهوتي كانت إذا سألتني حاجة ولم أقضها قالت: والله لأمرتكن ثلاثا. فلا أجد بدّا من أن أقضي حاجتها. قال: فلم أسمع قطّ بأطرف من قوله: فلا أجد بدّا من أن أقضي حاجتها.
قال بعضهم: إذا جمّشت فلا تبهت مثل المجنون، ولكن السع وطر.
أخذ رجل مع زنجيّة وكان قد أعطاها نصف درهم، فلمّا أتي به إلى الوالي أمر بتجريده وجعل يضربه ويقول: يا عدوّ الله تزني بزنجيّة! فلمّا أكثر قال:
أصلحك الله، فبنصف درهم إيش أجد، ومن يعطيني؟ فضحك وخلّاه.
وجد شيخ مع زنجيّة في ليلة الجمعة في مسجد، وقد نوّمها على الجنازة فقيل له: قبحك الله يا شيخ، فقال: إذا كنت أشتهي وأنا شيخ لا ينفعني شبابكم، قالوا: فزنجيّة. قال: من يزوّجني منكم بعربيّة؟ قالوا: ففي المسجد! قال: من يفرّغ لي بيته منكم ساعة؟ قالوا: فعلى جنازة! قال: من يعطيني سريره. قالوا:
فليلة جمعة قال: إن شئتم جئتكم ليلة السّبت، فضحكوا منه وخلّوه.
قال بعضهم لقينة كانت إلى جانبه في مجلس: أشتهي أن أضع يدي عليه.
__________
(1) المرتك: هو المردارسنج، فارسي معرب، نوع من الطيب، ومعناه: الحجر الخبيث.(4/222)
قالت: إذا كانت العتمة. قال: يا ستي إذا كانت العتمة وأطفئ السّراج يكون الزّحام عليه أكثر من الزّحام على الحجر الأسود.
وكان بعضهم في مجلس شرب فيه مغنيات فقامت واحدة منهنّ فكانت مليحة، فوضعت الطبل وقعدت عليه، فقال: يا إخوتي. ما كنت أحسب أني أحبّ يوما ما أن أكون طبلا حتّى الساعة!
وحدّث بعضهم قال: كنت في دعوة وبتّ، وكانت هناك مغنيّة قد باتت، فدبّ إليها بعضهم: فسمعتها في اللّيل تقول: اعزل اعزل!. وهو يقول لها: يا قحبة تولّين أنت وأعزل أنا.
قال بعضهم: بينا أني قحبة في شهر رمضان، وذهبت أقبّلها فحوّلت وجهها عنّي. فقلت: لم تمنعينني القبلة؟ قالت: بلغني أن القبلة تفطّر الصائم.
أدخل رجل قحبة إلى خربة، فبينا هو فوقها إذا أحسّ بوقع قدم، فأراد أن يقوم، فقالت له: شأنك فإنّه إن كانوا أقلّ من أربعة ضربوا الحد.
كان في جوار ابن المعذّل قحبة تزني نهارا وتصلّي باللّيل وتدعو وتقول:
اللهمّ اختم لي بخير. فلما طال ذلك على ابن المعذّل قال لها: يا فاجرة، ما ينفعك هذا الدعاء؟ وهو يختم لك بالليل. وتكسرين الختم بالنّهار.
كان الحمدوني في مجلس: فقالت له قينة: ناولني ذلك الكوز، فقال: يا قحبة تريدين أن تستأكليني.
أخذ شيخ مع جارية سوداء فقيل له: ويحك تزني بسوداء؟! قال: أنا اليوم شيخ، إيش أبالي ما أني
نزل سبعة أنفس في خان، وبعثوا إلى قوّادة وقالوا لها: أحضري لكلّ واحد منّا امرأة وكان أحدهم يصلّي فقالت: كم أنتم؟ قالوا: نحن ستّة. فقال المصلّي: سبحان الله، سبحان الله. وأخرج يده وقد عقد على سبعة أي نحن سبعة.(4/223)
كان بشيراز رجل وله زوجة فاسدة، فنزل به ضيف فأعطاها دراهم وقال لها:
اشتري لنا رؤوسا نتغذّى بها، فخرجت المرأة ولقيها حريف فأدخلها إلى منزله وأحسّ بهما الجيران، فرفعوهما إلى السّلطان، وضربت المرأة وأركبت ثورا ليطاف بها في البلد، فلمّا أبطأت على الرّجل خرج في طلبها، فرآها على تلك الحال فقال لها: ما هذا ويلك؟ قالت: لا شيء انصرف أنت إلى البيت فإنّما بقي صفان: صف العطارين وصف الصّيادلة ثم أشتري الرؤوس وأجيئك.
قالت امرأة أبي إسماعيل القاص لزوجها: إن الجيران يرمونني بالفاحشة قال: لا يحلّ لهم حتّى يروه فيك كالميل في المكحلة.
قيل لرجل: إنّ فلانا وفلانا حملا السّلم البارحة ونصباه إلى حائط دارك يريدان امرأتك. قال: على كلّ حال إذا حملوه بين اثنين هو أولى من أن يكلّفوني حمله وحدي.
كان على بعض أبواب الدور خيّاط، وكانت لهم جارية تخرج لحوائجهم فقال الخيّاط لها يوما وقد خرجت: أخبري ستّك أنّ لي أيرين. فدخلت الجارية وهي تدمدم، قالت لها ستّها: ما لك؟ قالت: خير، قالت: لا بدّ من أن تخبريني، فأخبرتها بقول الخياط، فقالت: أحضريه حتّى يقطع لنا أثوابا. فدعته وطرحت إليه ثوبا فلمّا قطعه قالت له: بلغني أنّ لك أيرين. قال: نعم واحد صغير أني به الأغنياء، وآخر كبير أني به الفقراء قالت المرأة: لا يغرّنّك شأننا الذي تراه فإنّ أكثره عارية.
كانت عند بعضهم امرأة يبغضها، وكانت كلّ ليلة تستعجله وتقول: قم حتى تنام. وكان لا ينشط، ويدافع بالوقت إلى أن قالت له ذات ليلة ذاك فقال: لا تقولي حتّى تنام، ولكن قولي حتّى تموت. فإنّ الموت خير من النّوم معك.
تزوّج رجل بامرأتين عجوز وشابة، فجعلت الشّابة كلّما رأت في لحيته طاقة بيضاء تنتفها، والعجوز كلما رأت طاقة سوداء تنتفها، فما زالا كذلك حتّى أعاداه عن قريب أمرد أصلع.
حكي عن ابن أبي طاهر قال: كنت مع علي بن عبيدة في مجلس ومعه
عشيقة له فجلسنا حتّى فاتتنا صلاة الظهر. فقلت له: قم حتّى نصلّي. فقال: حتّى تزول الشمس يعني عشيقته.(4/224)
حكي عن ابن أبي طاهر قال: كنت مع علي بن عبيدة في مجلس ومعه
عشيقة له فجلسنا حتّى فاتتنا صلاة الظهر. فقلت له: قم حتّى نصلّي. فقال: حتّى تزول الشمس يعني عشيقته.
قيل لرجل رئي وهو يكلّم امرأة في شهر رمضان: أتكلّمها في مثل هذا الشّهر؟ قال: أدرجها لشوّال.
اعترض رجل من أهل خراسان جارية لبعض النخّاسين فازدراه، فوضع يده على هميان (1) في وسطه فيه دنانير كثيرة، ثم أنزل يده إلى ذكره وقد أنعظ وقال:
أترى سلعتك تكسد بين هذين السّوقين.
نظر رجل إلى مغنّ يطارح جارية للغناء وقد غمزها فقال له: ما هذه الغمزة؟
قال: غمزة في الغناء. قال: أتراني لا أعرف غمزة الغناء من غمزة الزنى.
عشق أبو جعفر القارئ جارية بالمدينة فقيل له: ما بلغ من عشقك إيّاها؟
قال: كنت أرى القمر في دارهم أحسن منه في دارنا.
قال بعضهم: مررت ذات يوم بشارع السري بسرّ من رأى فرأيت امرأتي تمشي فظننتها من البادية، فتعرضت لها وقلت: إلى أين يقصد الغزال؟ فقالت لي:
إلى مغزلها يا قليل المعرفة بأصحابه.
كان فلانا مفلسا فقال لامرأة: أنا أحبّك. قالت: وما الدليل على ذلك؟
قال: تعطيني قفيز دقيق حتّى أعجنه بدموع عيني. قالت: على أن تجيء بخبزه إلينا. قال: يا سيّدتي فأنت تريدين خبّازا لا تريدين عاشقا.
تزوج رجل بشيراز امرأة فلما كان في اليوم الخامس من زفافها ولدت ابنا، فقام الرّجل وصار إلى السّوق واشترى لوحا ودواة فقالوا له: ما هذا؟ قال: من يولد في خمسة أيّام يذهب إلى الكتّاب في ثلاثة أيام.
ذكر أن رجلا لزم آخر بحقّ له عليه فقال له الملزوم: انطلق معي إلى منزلي لعلّي أحتال لك. فانطلق معه فدخل وغريمه معه فجلس بين يدي الحجلة والمرأة
__________
(1) الهميان: التكّة، والمنطقة، وكيس للدراهم يشدّ في الوسط.(4/225)
ممسكة بسجفها (1) ومعه فيها صديق لها، فكلّم الرّجل امرأته فقال لها: إنّ لهذا عليّ دينا، ولا أقدر على قضائه، فأعينيني بحليك، عليّ أن أخلفه عليك، فأقبلت المرأة على الغريم فقالت له: يا هذا عليك عهد الله وميثاقه إن رأيت شيئا لتكتمنّه ولا تخبر أحدا، فحلف لها فخرجت من الحجلة، فأكبّت على زوجها وأخذت رأسه فقبّلته، وقالت: أفديك بكلّ شيء أملكه، وخرج الرّجل من الحجلة فمضى وخلّت عن رأس الزّوج.
وجد رجل مع أمّه رجلا، فقتل أمّه وخلّى عن الرّجل، فقيل له: ألا قتلت الرّجل وخلّيت أمّك؟ قال: إذا كنت أحتاج أن أقتل كلّ يوم رجلا.
وصلّى الله على محمد وآله أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تم بحمد الله وعونه وتوفيقه الجزء الرابع
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الخامس
__________
(1) السجف، ويكسر: الستر.(4/226)
فهرس المحتويات
الباب الأوّل: كلام للنساء الشرائف 5
فاطمة ابنة رسول الله عليها السلام خطبتها لما منعها أبو بكر فدكا 5
قولها عند احتضارها 8
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها 9
خطبة أخرى لها حين سألت عن عثمان 10
قولها في أبيها أبي بكر 11
حديثها مع ابن عباس 13
بينها وبين عمران بن حصين 15
قولها لما قتل عثمان 15
من أقوالها وأخبارها 16
قولها حين قتل علي 17
زينب بنت علي عليها السلام 17
أم كلثوم بنت علي 19
حفصة أم المؤمنين خطبتها عن عمر 20
عائشة بنت عثمان 22
خطبتها بعد مقتل عثمان 22
أروى بنت الحارث 24
حديثها مع معاوية 24
رؤيا رقيقة 25
هند بنت عتبة 26
وصف من خطب هندا ليعرف أبوها رأيها 26
رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب 28
فاطمة بنت عبد الملك بن مروان 30
أم سلمة أم المؤمنين 31
ملتقطات من كلامهن 32
عمر وأبو سفيان 32
حال ابنة عبد الله بن جعفر بعد زواجها من الحجاج 33
المأمون وأم جعفر 34
من أعمال وأقوال فاطمة بنت الحسين 34
الباب الثاني: نكت من كلام النساء ومستحسن جواباتهن وألفاظهن 36
جواب امرأة لبعض الساخرين من بني نمير 36
وصف امرأة لزوجها ووصفه لها 37
قول امرأة في رثاء ابنها 37
قول أعرابية حين شربت النبيذ 38
وصف أعرابية لزوجها 39
قول امرأة لبلال بن أبي بردة 39
كراهة النساء للشيب 39
من أقوال ابنة الخس 40
حديث أختين 41
أم أبان ومن خطبها من الصحابة 42
عثمان ونائلة بنت الفرافصة 43
بين الحسين وامرأته 44
خبر أم الحجاج مع زوجها 45(4/227)
الوليد بن عبد الملك وزوجه 45
بين الرشيد وعنان 46
ليلى الأخيلية والحجاج 47
امرأة على قبر الأحنف 49
المأمون وزبيدة 49
حديث أم زرع 49
إسلام قيلة 51
رقية أعرابية 53
معاوية وسودة بنت عمارة 54
معاوية والزرقاء بنت عدي 55
معاوية وأم الخير بنت الحريش 56
الجمانة بنت المهاجر وابن الزبير 58
وصية أعرابية 59
حديث أم معبد الخزاعية 60
وصية أخرى لأعرابية 61
وصف امرأة عروة له 61
وصف نساء لبناتهن ووصاياهن لهن 62
وصف أربعة رجال لنسائهن 63
من قول ذات النطاقين لابنها 65
الحسن بن علي وإحدى زوجاته 66
ابن زياد وخارجية 67
حكاية مع أعرابية 67
هند بنت أسماء تدافع عن أخيها 68
عاتكة بنت زيد وموت أزواجها 69
استعداء امرأة على زوجها 69
مغزل المرأة 71
من أقوال حبى المدينية 71
أم الكملة 72
زوجة تخمد حربا 72
وصف امرأة لزوجها 74
الباب الثالث: الحيل والخدائع 75
حلم الأحنف ودهاؤه 85
حيلة عمرو بن العاص 86
أيمن بن خريم ومعاوية 87
حيلة رجل 89
هدبة بن الخشرم وامرأة عمه 89
حيلة امرأة 89
الحجاج وعمارة بن تميم اللخمي 90
حيلة شريح لبيع ناقة 92
حيلة سلامة الزرقاء 92
حيلة أحد عمال سليمان بن عبد الملك 92
من أعمال المغيرة 93
الإمارة ولو على الحجارة 94
نصيحة أحمد بن أبي خالد 95
انتقام كسرى من قاتله 96
حيلة مولى لسعيد بن العاص 96
فتوى لأبي حنيفة 97
أسماء لمحمد بن خارجة والحجاج 98
حكم معاوية في خصومة 99
أبو العريان يغير قوله في زياد 100
حيلة الحلاج 101
عفو مصعب بن الزبير 101
عدي بن حاتم والوليد بن عقبة 102
المنصور وابن المقفع 102
حيلة أبي حنيفة 103
حيلة بكر بن وائل 103
حيلة معاوية في بيعة يزيد 104
حيلة معاوية في أمر ابن الزبير 104
نصح أبي بكرة لأخيه زياد 105(4/228)
الباب الرابع: نكت من كلام الحكماء 107
الباب الخامس: جنس آخر من الأدب والحكم، وهو ما جاء لفظه على لفظ الأمر والنهي 143
الباب السادس: جنس آخر من الحكم والأمثال والآداب وهو ما كان في أوله «من» 157
الباب السابع: في سياسة السلطان وأدب الرعية 169
الباب الثامن: نوادر للنساء المواجن والجواري 182
الباب التاسع: نوادر القصاص 199
نوادر أبي القطوف القاص 199
نوادر أبي سنان القاص 199
نوادر أبي سنان السدوسي 199
من عاش خمسين سنة لم يعش شيئا 199
اسم الذئب الذي أكل يوسف 200
نوادر سيفويه 201
صفة الملك 201
دعاء 202
كيف يموت الشيطان 202
أول ما يدخل الجنة 203
فتيا القاضي أبي يونس 203
فتيا طريضة 204
من نوادر عبد الأعلى 204
دعاء قاص 205
نادرة طريفة عن محدث 206
نوادر أبي سالم 209
نوادر أبي أسيد 209
على من حرم التختم بالذهب 210
من نوادر ابن كعب 210
أبو ضمضم ينسب آدم 210
عبد الأعلى والاشتقاق 211
حيلة قاص 212
الباب العاشر: نوادر القضاة لمن تقدم إليهم 213
أحد الخصمين يعرض على القاضي فراريج وحنطة 213
قضية غير مفهومة 213
يمين الطنبور 214
قاضي جبل 214
القاضي يحبس صاحب الحق 215
قضية غير مفهومة 215
نوع من القرابة 215
يمين أصحاب الرياحين 216
قاضي حمص 217
كيفية القصاص 217
من نوادر قاضي حمص 217
الأخ والأخ الهجين 218
قضاء عكابة النميري 218
قضاء أم مزايدة 219
قاضي ماهر في الحساب 219
القضاء على شيء 220
الباب الحادي عشر: نوادر لأصحاب النساء والزناة والزواني 221(4/229)
الجزء الخامس
نثر الدرّر في المحاضرات تأليف الوزير الأديب أبي سعد منصور بن الحسن الآبي المتوفّى 431هـ تحقيق خالد عبد الغنى محفوظ الجزء الخامس منشورات محمّد علي بيضوى لنشر كتب السّنّة والجماعة دار الكتب العلمية بيروت لبنان(5/1)
نثر الدرّر في المحاضرات تأليف الوزير الأديب أبي سعد منصور بن الحسن الآبي المتوفّى 431هـ تحقيق خالد عبد الغنى محفوظ الجزء الخامس منشورات محمّد علي بيضوى لنشر كتب السّنّة والجماعة دار الكتب العلمية بيروت لبنان
مقدمة المؤلف
بسم الله الرّحمن الرّحيم اللهم أنت الراعي لا يراع سوامه، والحافظ لا يضاع ذمامه، والصادق لا يخلف وعده، والغنيّ لا ينفد ما عنده. نحمدك ونستعينك، ونستعصمك ونستخيرك، ونؤمن بك ونتوكّل عليك، ونخضع لك، ونفزع إليك. اللهم فوفّقنا لكلّ ما ترضاه، وجنّبنا بعض ما نهواه، وبلّغنا من الخير منتهاه واهدنا في الدنيا إلى ما نحمد في الآخرة عقباه، وأسبغ علينا لباس الكرامة واعصمنا مما نتعقبه بالندامة، وتغمدنا في الدنيا بنعمة تضفو مدارعها (1) وفي الآخرة برحمة تصفو مشارعها، وابسط أيدينا إلى خلقك بالإفضال والإسعاف، واقبض أيدينا عنهم بالقناعة والكفاف، واجعلنا عصمة للخائف منهم إذا استجار، والحائر إذا استشار، والسائل إذا استمار (2). لك الحمد والمنة، ومنك الإحسان والنّعمة وعلى رسولك محمد وأهل بيته الصلاة والرحمة.
هذا هو الفصل الخامس من كتاب «نثر الدر» وهو اثنان وعشرون بابا.
الباب الأوّل: كلام زياد وولده.
الباب الثاني: كلام الحجاح.
الباب الثالث: كلام الأحنف بن قيس.
الباب الرابع: كلام المهلب وولده.
__________
(1) الضفو: السبوغ والكثرة، وفيضان الحوض، وثوب ضاف، والمدرعة: الثوب من الصوف.
(2) استمار السائل: تردد.(5/3)
الباب الخامس: كلام أبي مسلم صاحب الدولة.
الباب السادس: كلام جماعة من أمراء الدولتين.
الباب السابع: توقيعات وفصول للوزراء والكتاب.
الباب الثامن: كلام القضاة في الدولتين.
الباب التاسع: كلام الحسن البصري.
الباب العاشر: نكت من كلام الشّيعة.
الباب الحادي عشر: كلام الخوارج.
الباب الثاني عشر: الغلط، والتصحيف.
الباب الثالث عشر: نوادر في اللحن والنحو.
الباب الرابع عشر: نوادر للمخنثين.
الباب الخامس عشر: نوادر اللّاطة.
الباب السادس عشر: نوادر البغّائين.
الباب السابع عشر: نوادر جحا.
الباب الثامن عشر: نوادر أشعب.
الباب التاسع عشر: نوادر السّؤّال.
الباب العشرون: نوادر المعلّمين.
الباب الحادي والعشرون: نوادر الصّبيان.
الباب الثاني والعشرون: نوادر العبيد والمماليك.(5/4)
الباب الأوّل كلام زياد (1) وولده (2)
قال: إن تأخير جزاء المحسن لؤم، وتعجيل عقوبة المسيء دناءة. والتثبّت في العقوبة ربّما أدّى إلى سلامة منها، وتأخير الإحسان ربّما أدّى إلى ندم لم يمكن صاحبه أن يتلافاه.
كتب إليه معاوية: اعزل حريث بن جابر، فإنّي ما أذكر قبّته بصفّين إلا كانت حرارة، في جلدي.
فكتب إليه زياد: خفّض عليك أمير المؤمنين، فقد بسق (3) حريث بسوقا لا يرفعه عمل، ولا يضعه عزل.
وقال زياد لو أن لي ألف ألف درهم، ولي بعير أجرب لقمت عليه قيام رجل لا يملك غيره. ولو أن لي عشرة دراهم لا أملك غيرها، ولزمني حقّ لوضعتها فيه.
وقال لابنه: عليك بالحجاب، فإنّما تجرّأت الرّعاة على السباع بكثرة نظرها إليها.
__________
(1) هو زياد بن أبيه، أمير من الدهاة. قال الأصمعي: الدهاة أربعة: معاوية للروية، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة بن شعبة للمعضلة، وزياد ابن أبيه لكل كبيرة وصغيرة، كان واليا لعلي بن أبي طالب على فارس، ولما توفي علي امتنع زياد على معاوية، وتبين لمعاوية أنه أخوه من أبيه أبي سفيان بن حرب، فكتب إليه بذلك، وألحقه بنسبه، ويقال له زياد ابن سمية (وهي أمه)، توفي زياد سنة 53هـ مطعونا (أي بالطاعون). (انظر البداية والنهاية 8/ 6665، الأعلام 3/ 53).
(2) هو عبيد الله بن زياد ابن أبيه، ولد بالبصرة سنة 28هـ، قتل سنة 67هـ قتله إبراهيم بن الأشتر، وبعث برأسه إلى المختار بن أبي عبيد الثقفي فبعث به إلى ابن الزبير (البداية والنهاية 8/ 294).
(3) بسق بسوقا: طال وعلا شأنه.(5/5)
وخطب فقال: الأمور جارية بأقدار الله، والناس متصرّفون بمشيئة الله وهم بين متسخّط وراض، وكلّ يجري إلى أجل وكتاب. ويصير إلى ثواب أو عقاب.
ألا رب مسرور بنا لا نسرّه، وخائف ضدنا لا نضرّه.
وكان في مجلسه الذي يأذن فيه للناس أربعة أسطر في نواحيه، أولها: الشّدّة في غير عنف، واللين في غير ضعف. والثاني: المحسن يجازي بإحسانه، والمسيء يكافأ بإساءته. والثالث: العطيّات والأرزاق في إبانها وأوقاتها. والرابع:
لا احتجاب عن صاحب ثغر ولا طارق ليل.
وقال: أحسنوا إلى أهل الخراج فإنكم لا تزالون سمانا ما سمنوا.
قدم رجل خصما إلى زياد في حقّ له عليه، فقال: إن هذا يدلّ بخاصة ذكر أنها له منك. فقال زياد: صدق. وسأخبرك بما ينفعه عندي من مودته إن يكن الحقّ له آخذك به أخذا عنيفا، وإن يكن الحقّ لك عليه أقضي عليه ثم أقضي عنه.
وقال: ليس العاقل الذي يحتال للأمر إذا وقع، ولكن العاقل الذي يحتال للأمر ألا يقع فيه.
قالوا: قدم زياد البصرة واليا لمعاوية والفسق بالبصرة ظاهر فاش فخطب خطبة بتراء لم يحمد الله فيها. ويقال: بل قال: الحمد لله على أفضاله، ونسأله المزيد من نعمه وإكرامه. اللهم كما زدتنا نعما فألهمنا شكرا. أما بعد:
فإن الجاهلية الجهلاء، والضلالة العمياء والغيّ الموفد لأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى منها الكبير. كأنّكم لم تقرؤوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمديّ الذي لا يزول.
أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه: من ترككم الضعيف يقهر، ويؤخذ ماله، والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، والعدد غير قليل.(5/6)
ألم يكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل، وغارة النهار؟ قرّبتم القرابة، وباعدتم الدين. تعتذرون بغير العذر وتغضون على المختلس، فكلّ امرئ منكم يذبّ عن سفيهه صنيع من لا يخاف عاقبة، ولا يرجو معادا. ما أنتم بالحلماء، ولقد اتّبعتم السّفهاء. فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الرّيب حرم على الطعام والشراب حتى أسوّيها بالأرض هدما وإحراقا، إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوّله: لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف. وإني أقسم بالله لآخذنّ الوليّ بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم حتّى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: «انج سعد فقد هلك سعيد» أو تستقيم لي قناتكم.
إن كذبة المنبر بلقاء مشهورة، فإذا تعلقتم عليّ بكذبة فقد حل لكم معصيتي. من نقب عليه منكم فأنا ضامن لما ذهب منه، فإيّاي ودلج الليل، فإنّي لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجّلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر إلى الكوفة، ويرجع إليكم وإياي، ودعوى الجاهلية، فإنّي لا أجد أحدا دعا بها إلّا قطعت لسانه. وقد أحدثتم أحداثا لم تكن، وقد أحدثنا لكلّ ذنب عقوبة فمن غرّق قوما غرّقناه، ومن أحرق على قوم أحرقناه ومن نقب على قوم بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفنّاه فيه حيّا كفّوا عني أيديكم، وألسنتكم أكفّ عنكم يدي ولساني. ولا يظهر من أحدكم خلاف ما عليه عامّتكم إلّا ضربت عنقه. وقد كانت بيني وبين أقوام إحن (1) فجعلت ذلك دبر أذني، وتحت قدمي، فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا، ومن كان مسيئا فليرتدع عن إساءته. إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السّل من بغضي لم أكشف عنه قناعا، ولم أهتك له سترا حتّى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره، فاستأنفوا أموركم. وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيسرّ، ومسرور لقدومنا سيبتئس.
أيّها الناس: إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله
__________
(1) الإحن: جمع إحنة، بالكسر: الحقد والغضب، والمؤاحنة: المعاداة.(5/7)
الذي أعطاناه ونذود عنكم بفيء الله الذي خوّلنا. فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكن علينا العدل فيما ولينا. فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا.
واعلموا أنّي مهما قصّرت عنه فلن أقصّر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة منكم، ولو أتاني طارقا بليل، ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن إبانه، ولا مجمّرا (1) لكم بعثا فادعوا الله بالصلاح لأئمّتكم، فإنهم ساستكم المؤدّبون، وكهفكم الذي إليه تأوون. ومتى صلحوا تصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتدّ لذلك غيظكم، ويطول لذلك حزنكم، ولا تدركوا حاجتكم مع أنه لو استجيب لكم فيهم كان شرا لكم. أسأل الله أن يعين كلّا على كلّ.
وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على أذلاله (2)، وأيم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة. فليحذر كل امرئ أن يكون من صرعاي.
قال: فقام عبد الله بن الأهتم، فقال: أشهد أيّها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب. فقال له: كذبت. ذاك نبيّ الله داود صلّى الله عليه وسلّم.
فقام إليه الأحنف بن قيس، فقال: إنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وإنا لا نثني حتّى نبتلي، ولا نحمد حتّى نعطى.
فقال زياد: صدقت.
قال: فقام أبو بلال يهمس وهو يقول: أنبأنا الله جل وعز بغير ما قلت:
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِبْرََاهِيمَ الَّذِي وَفََّى (37) أَلََّا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسََانِ إِلََّا مََا سَعى ََ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ََ (40) ثُمَّ يُجْزََاهُ الْجَزََاءَ الْأَوْفى ََ} (41) [النجم:
4137] وأنت تزعم أنك تأخذ الصحيح بالسقيم، والطبع بالعاصي، والمقبل بالمدبر.
فسمعها زياد، فقال: إنّا لا نبلغ ما نريد بأصحابك حتّى نخوض إليكم الباطل خوضا.
__________
(1) جمّر الجيش: حبسهم في أرض العدو، ولم يقفلهم، وقد تجمّروا واستجمروا.
(2) على أذلاله: أي على وجوهه وطرقه، وأذلال جمع ذلك بالكسر، وذل الطريق: ما مهد منه وذلل.(5/8)
وقال يوما على المنبر: إن الرجل ليتكلّم بالكلمة لا يقطع بها ذنب عنز مصور لو بلغت إمامه سفكت دمه.
وقال: ما قرأت كتاب رجل قطّ إلا عرفت عقله فيه.
وخطب فقال:
استوصوا بثلاثة منكم خيرا: الشريف، والعالم، والشيخ، فو الله لا يأتيني شريف بوضيع يستخفّ به إلا انتقمت منه، ولا يأتيني شيخ بشابّ استخف به إلا أوجعته، ولا يأتيني عالم بجاهل استخف به إلا نكلت به.
قيل لزياد: ما الحظّ؟ قال: من طال عمره، ورأى في عدوّه ما يسره فهو ذو حظّ.
وكان يقول: هما طريقان للعامة: الطاعة، والسيف.
وكان المغيرة بن شعبة (1) يقول: لا والله حتّى يحملوا على سبعين طريقا قبل السيف.
قال رجل للحسن بن أبي الحسن (2): ألا أحدّثك بخطبة زياد حين دخل العراق، وخطبة الحجاج حين قدم البصرة.
أما زياد فحمد الله عز وجل وأثنى عليه، ثم قال: إن معاوية غير مخوف على قومه، ولم يكن ليلحق بنسبه من ليس منه. وقد شهدت الشّهود بما قد بلغكم، والحقّ أحقّ أن يتّبع. والله حيث وضع البيّنات كان أعلم. وقد رحلت عنكم وأنا أعرف صديقي من عدوّي. وقد قدمت عليكم وقد صار العدوّ صديقا
__________
(1) هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي، أبو عبد الله، أحد دهاة العرب وقادتهم، صحابي، يقال له: مغيرة الرأي، توفي سنة 50هـ (الأعلام 7/ 277).
(2) هو الحسن البصري: الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد البصري، الإمام التابعي الفقيه الزاهد، توفي بالبصرة سنة 110هـ، من تصانيفه: «تفسير القرآن»، «رسالة إلى عبد الرحيم بن أنس في الترغيب بمجاورة مكة المكرّمة»، «رسالة في فضل مكة المكرمة»، «كتاب الإخلاص». (كشف الظنون 5/ 265، وفيات الأعيان 1/ 160، ميزان الاعتدال 1/ 245، غاية النهاية 1/ 235، تهذيب التهذيب 2/ 263).(5/9)
مناصحا، والصديق عدوّا مكاشحا، فاشتمل كلّ امرئ على ما في صدره، ولا يكوننّ لسانه شفرة تجري على ودجه وليعلم أحدكم إذا خلا بنفسه أنّي قد حملت سيفي بيده، فإن شهره لم أغمده، وإن أغمده لم أشهره. ثم نزل.
وأما الحجاج فقال: من أعياه داؤه فعلينا دواؤه، ومن استعجل إلى أجله فعلينا أن نعجّله. ألا إن الحزم والجد استلبا مني سوطي، وجعلا سوطي سيفي فنجاده في عنقي، وقائمه بيدي، وذبابه قلادة لمن اغترني.
فقال الحسن: البؤس لهما. ما أغرهما بربّهما!!؟ اللهم اجعلنا ممّن يعتبر بهما.
قال بعضهم: ما رأيت زيادا كاسرا إحدى عينيه، واضعا إحدى رجليه على الأخرى، يخاطب رجلا إلّا رحمت المخاطب.
قال عبيد الله بن زياد: نعم الشيء الإمارة لولا قعقعة البريد، وتشرّف المنبر.
تذاكروا عند يزيد البصرة والكوفة، فقال زياد: لو ضلّت البصرة جعلت الكوفة لمن دلّني عليها.
سمع زياد رجلا يسبّ الزمان: فقال: لو كان يدري: ما الزمان. لضربت عنقه. إن الزمان هو السّلطان.
قال زياد لحاجبه: يا عجلان إنّي وليتك هذا الباب، وعزلتك عن أربعة:
عزلتك عن هذا المنادي إذا دعا للصلاة، فلا سبيل لك عليه، وعن طارق الليل، فشرّ ما جاء به. ولو جاء بخير ما كنت من حاجبه. وعن رسول صاحب الثغر، فإن إبطاء ساعة يفسد تدبير سنة، فأدخله عليّ وإن كنت في لحافي. وعن هذا الطباخ إذا فرغ من طعامه فإنه إذا أعيد عليه التسخين فسد.
وقال: يعجبني من الرجل إذا سيم خطة الضيم أن يقول: لا بملء فيه وإذا أتى نادي قوم علم أين ينبغي لمثله أن يجلس، فجلس. وإذا ركب دابة حملها على ما يحب، ولم يتبعها إلى ما يكره.(5/10)
وكان حارثة بن بدر الغداني (1) قد غلب على زياد وكان الشراب قد غلب عليه فقيل لزياد: إن هذا قد غلب عليك وهو مستهتر بالشراب فقال زياد: كيد باطّراح رجل هو يسايرني؟ قد دخلت عليه العراق، فلم يصكّ ركابي ركاباه، وما راكبني قط، فمست ركبتي ركبته، ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه. ولا تأخّر عنّي فلويت عنقي إليه، ولا أخذ عليّ الشمس في شتاء قط، ولا الرّوح في صيف قط، ولا سألته عن علم إلا ظننته لم يحسن غيره.
فلما مات زياد جفاه عبيد الله، فقال له حارثة: أيها الأمير. ما هذا الجفاء، مع معرفتك بالحال عند أبي المغيرة؟ فقال له عبيد الله: إن أبا المغيرة كان قد برع بروعا لا يلحقه معه عيب وأنا حدث، وإنما أنسب إلى من تغلّب عليّ، وأنت رجل تديم الشراب، فمتى قرّبتك، فظهرت رائحة الشراب منك لم آمن أن يظن بي. فدع النبيذ، وكن أوّل داخل، وآخر خارج.
فقال له حارثة: أنا لا أدعه لمن يملك ضرّي ونفعي. أفأدعه للحال عندك؟
قال: فاختر من عملي ما شئت. قال: تولّيني رامهرمز فإنّها أرض عذية وسرّق، وإنّ بها شرابا وصف لي عنه، فولاه إياه. وفيه قيل (2): [الطويل] أحار ابن بدر قد وليت ولاية ... فكن جرذا فيها تخون وتسرق
وقال زياد: كفى بالبخيل عارا أن اسمه لم يقع في حمد قطّ، وكفى بالجواد مجدا أن أسمه لم يقع في ذمّ قط.
وكان عبيد الله بن زياد قد لج في طلب الخوارج، وحبسهم، وقتلهم فكلّم
__________
(1) هو حارثة بن بدر بن الحصين التميمي الغداني، من فرسان تميم ووجوهها وسادتها، قيل إنه أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم، له أخبار في الفتوح، وكان زياد مكرما له قابلا لرأيه، مات غرقا سنة 64هـ (الأعلام 2/ 158).
(2) يروى صدر البيت بلفظ:
أحار ابن زيد قد وليت ولاية
والبيت لأنس بن زنيم في ديوانه ص 114، ولسان العرب (سرق)، والمقاصد النحوية 4/ 296، وله أو لأنس بن أبي أنيس في الدرر 3/ 54، ولأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص 177، والعقد الفريد 3/ 60.(5/11)
في بعضهم فأبى وقال: أقمع بالنّفاق قبل أن ينجم الكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع.
وقال زياد: المحظوظ المغبوط: من طال عمره، ورأى في عدوّه ما يسرّه.
وقال: ملاك السّلطان الشّدة على المريب واللّين للمحسن، والوفاء بالعهد، وصدق الحديث.
وقال عبيد الله بن زياد: نعم الشّيء الإمارة لولا قعقعة البريد، والتشرّف للخطب.
وخطب بالبصرة بعد موت يزيد فقال: يا أهل البصرة، انسبوني والله يا مهاجر أبي إلا إليكم، وما مولدي إلا فيكم، وما أنا إلا رجل منكم. والله لقد وليكم أبي وما مقاتلتكم إلا أربعون ألفا. ولقد بلغ بها ثمانين ألفا. وما ذرّيّتكم إلا ثمانون ألفا. وقد بلغ بها عشرين ومائة ألف. وأنتم أوسع الناس جلادا، وأبعده مقادا، وأكثره جنودا، وأغنى الناس عن الناس. انظروا رجلا تولّونه أمركم، يكفّ سفهاءكم، ويجبي فيئكم، ويقسمه بينكم، فإنما أنا رجل منكم. فلما أبوا عليه قال: إني أخاف أن يكون الذي يدعوكم إلى تأميري حداثة عهد بأمري.
وقال زياد: ما أتيت قطّ مجلسا إلا تركت ما لو أخذته لكان لي. وترك مالي أحبّ إليّ من أخذ ما ليس لي.
وقال: ما قرأت مثل كتب الربيع بن زياد الحارثيّ؟ ما كتب إلي كتابا إلا في احتواء منفعة، أو دفع مضرة، ولا كان في موكب قطّ. فتقدم عنان دابته عنان دابتي. ولامست ركبته ركبتي، ولا شاورت إنسانا قط. في أمر إلا سبقه إليّ بالرأي.
لما بنى عبيد الله بن زياد البيضاء كتب رجل على بابها: شيء ونصف شيء، ولا شيء: الشيء: مجهدان، ونصف شيء: هد شيء اشما، ولا شيء: عبيد الله بن زياد فقال عبيد الله: اكتبوا إلى جنبه: لولا الذي زعمت أنه لا شيء، لما كان ذلك الشيء شيئا ولا ذاك النّصف نصفا.
ولما ورد الحارث بن قيس الجهضمي بعبيد الله بن زياد منزل مسعود بن
عمرو العتكي من غير إذن، وأراد مسعود إخراجه عن منزله قال عبيد الله: قد أجارتني ابنة عمّك عليك، وعقدها العقد الذي لا يحلّ، ويلزمك وهذا ثوبها عليّ، وطعامها في مداخري وقد التفّ عليّ منزلها. وشهد له الحارث بذلك.(5/12)
ولما ورد الحارث بن قيس الجهضمي بعبيد الله بن زياد منزل مسعود بن
عمرو العتكي من غير إذن، وأراد مسعود إخراجه عن منزله قال عبيد الله: قد أجارتني ابنة عمّك عليك، وعقدها العقد الذي لا يحلّ، ويلزمك وهذا ثوبها عليّ، وطعامها في مداخري وقد التفّ عليّ منزلها. وشهد له الحارث بذلك.
وأشاروا مرّة على عبيد الله بالحقنة فتفحشها، فقالوا: إنّما يتولاها الطبيب.
قال: أنا بالصاحب آنس.
وقال زياد: لا يغرنك من الجاهل كثرة الالتفات، وسرعة الجواب.
قدم رجل إلى زياد، فأمر بضربه بالسّياط، فقال: أسألك بحق عبيد، قال:
دعوه إلا يكن والدا فقد كان أبا.
قدم زياد فخطب خطبة أعجبت من حضره، فقال عمرو بن العاص: لله أبو هذا!! لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه.
قال أبو سفيان: أما والله إني لأعرف أباه، والذي وضعه في رحم أمّه. فقال له علي عليه السلام: مه يا أبا سفيان. فإنك تعلم أن عمر إليك بالمساءة سريع.
فلما كان زمن عليّ عليه السلام، وولي زياد فارس، وضبطها، وعرف ذلك معاوية، كتب إليه: «أما بعد، فإنّه غرتك قلاع تأوي إليها بالليل كما تأوي الطير إلى وكورها، وأيم الله، إنه لولا انتظاري بك ما الله أعلم به، لقلت كما قال العبد الصالح: {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لََا قِبَلَ لَهُمْ بِهََا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهََا أَذِلَّةً وَهُمْ صََاغِرُونَ} [النمل: 37].
وكتب في أسفل كتابه شعرا يقول فيه: [البسيط] تنسى أباك وقد خفّت نعامته ... إذ تخطب الناس والوالي لنا عمر
فقام زياد فخطب، ثم قال: والعجب كلّ العجب أن ابن آكلة الأكباد، ورأس النفاق يهددني وبيني وبينه ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، وزوج سيّدة نساء العالمين، وأبو السّبطين (1)، وصاحب الولاء والمنزلة والإخاء: أما والله لو يأذن لي فيه لوجدني أحمر محشّا ضروبا بالسيف.
__________
(1) السبطان: هما الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب من فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والسبط: ولد الولد.(5/13)
قال: وكتب إلى عليّ عليه السلام بما كتب إليه معاوية، فكتب إليه عليّ عليه السلام:
«أما بعد فإني ولّيتك ما وليتك، وأنا أراك لذلك أهلا، وإنه قد كانت من أبي سفيان فلتة لزمان عمر من أمانيّ التّيه، وكذب اليقين لم تستوجب بها ميراثا، ولم تستحقّ بها نسبا. وإن معاوية يأتي الرجل من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله كالشيطان الرجيم، فاحذره ثم احذره، والسلام».
فلما كان زمن معاوية، وقدم عليه زياد جمع معاوية الناس، وصعد المنبر، وأصعد زيادا معه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني قد عرفت شبهنا أهل البيت في زياد. فمن كانت عنده شهادة فليقم بها. فقام الناس، فشهدوا أنه ابن أبي سفيان، وأقر به قبل موته.
ثم قام أبو مريم السلولي وكان خمارا في الجاهلية فقال: أشهد يا أمير المؤمنين أن أبا سفيان قدم علينا الطائف، فأتاني فاشتريت له لحما، وخمرا، وطعاما. فلما أكل قال: يا أبا مريم، أصب لنا بغيا. فخرجت فأتيت سمية فقلت لها:
إن أبا سفيان من قد عرفت شرفه وحاله. وقد أمرني أن أصيب له بغيا، فقالت لي: نعم يجيء الآن عبيد من قبل غنمه وكان راعيا فإذا تعشى، ووضع رأسه أتيته فرجعت إلى أبي سفيان فأعلمته.
فلم تلبث أن جاءت تجرّ ذيلها، فدخلت معه، فلم تزل عنده حتّى أصبحت فقلت لما انصرفت: كيف رأيت صاحبتك؟ فقال: خير صاحب لولا دفر (1) في إبطيها. فقال زياد من فوق المنبر: مه يا أبا مريم: لا تشتم أمهات الرجال فتشتم أمّك.
ثم قام زياد: وأنصت الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس:
إن معاوية والشهود قد قالوا: ما سمعتم، ولست أدري حقّ هذا من باطله، وهو
__________
(1) الدّفر: النتن.(5/14)
والشهود أعلم بما قالوا: «وإنما عبيد أب مبرور أو والد مشكور». ثم نزل.
قال الشعبي: قدم زياد الكوفة فدنوت من المنبر لأسمع كلامه فلم أر أحدا يتكلم فيحسن إلا تمنيت أن يسكت مخافة أن يسيء غير زياد، فإنّه كان لا يزداد إكثارا إلا ازداد إحسانا. فقال بعد أن حمد الله:
إن هذا الأمر أتاني وأنا بالبصرة، فأردت أن أخرج إليكم في ألفين من شرطها. ثم ذكرت أنكم أهل حقّ، وأن الحقّ طالما دفع الباطل فخرجت إليكم أهل بيتي.
فالحمد لله الذي رفع منّا ما وضع الناس، وحفظ منا ما ضيعوا.
أيها الناس: إنا سسنا وساسنا السائسون، وجرّبنا، وجربنا المجرّبون، فوجدنا هذا الأمر لا يصلحه إلا شدّة من غير عنف، ولين في غير ضعف، فلا أعلمنّ أنّا أغلقنا بابا ففتحتموه، ولا حللنا عقدا فشددتموه. وإني لا أعدكم خيرا ولا شرّا إلا وفيت به، فإذا تعلقتم علي بكذبة فلا ولاية لي عليكم.
وإني آمركم بما آمر به نفسي وأهلي فمن حال دون أمري ضربت عنقه ألا وإنّي لا أهتك لأحد منكم سترا، ولا أطلع من وراء باب، ولا أقيل أحدا منكم عثرة.
قال: فحصبوه من كل جانب فجلس على المنبر حتّى سكتوا وأمسكوا ثم نادى الشّرط. فأخذوا بأبواب المسجد، وألقى كرسيّا على بعض الأبواب ثم عرض الناس أربعة أربعة يستحلفهم، فمن حلف أنه لم يحصبه تركه، ومن أبى حبسه.
قال: فقطع يومئذ أيدي ثمانين إنسانا ممن لم يحلف.
فقال الحسن البصري: أوعد عمر بن الخطاب فعوفي وأوعد زياد فابتلي.
وقال أيضا: تشبه زياد بعمر فأفرط، وتشبه الحجاج بزياد فأهلك الناس.
قال زياد لابنه: إذا دخلت على السّلطان فادع له، ثم اصفح عنه صفحا جميلا. ولا يرينّ فيك تهالكا عليه ولا انقباضا منه.
وسمع رجلا يدعو عليه وهو يقول: اللهم اعزل عنا زيادا. فقال له: قل، وأبدلنا به خيرا منه.(5/15)
قال زياد لابنه: إذا دخلت على السّلطان فادع له، ثم اصفح عنه صفحا جميلا. ولا يرينّ فيك تهالكا عليه ولا انقباضا منه.
وسمع رجلا يدعو عليه وهو يقول: اللهم اعزل عنا زيادا. فقال له: قل، وأبدلنا به خيرا منه.
وقال لابنه عبيد الله عند موته: لا تدنّس عرضك، ولا تبذلنّ وجهك، ولا تخلقن جدتك بالطلب إلى من إن ردك عليك، وإن قضى حاجتك جعلها عليك منّا. فاحتمل الفقر بالتنزّه عما في يد غيرك، والزم القناعة بما قسم لك، فإن سوء حمل الفقر يضع الشريف، ويخمل الذّكر، ويوجب الحرمان.
قال زياد: يعجبني من الرجل إذا أتي مجلسا أن يعلم أين مكانه منه فلا يتعداه إلى غيره، وإذا سيم خطة خسف أن يقول: لا، بملء فيه.(5/16)
الباب الثاني كلام الحجاج (1)
خطب فقال: أيّها الناس. من أعياه داؤه فعندي دواؤه، ومن استبط أجله، فعليّ أن أعجّله. ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله، ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه:
إنّ للشيطان طيفا، وللسّلطان سيفا، فمن سقمت سريرته صحت عقوبته، ومن وضعه ذنبه رفعه صلبه، ومن لم تسعه العافية، لم تضق عنه الهلكة. ومن سقبته بادرة فمه سبق بدنه بسفك دمه.
إني أنذر ثم لا أنظر، وأحذّر ثم لا أعذر، وأتوعّد ثم لا أغفر. إنّما أفسدكم ترنيق ولاتكم. ومن استرخى لببه، ساء أدبه.
إن الحزم والعزم سلبا منّي سوطي، وأبدلاني به سيفي، فقائمه في يدي ونجاده في عنقي وذبابه قلادة لمن عصاني. والله لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد، فيخرج من الباب الذي يليه إلّا ضربت عنقه.
وخطب لما أراد الحجّ، فقال: أيها الناس. إني أريد الحجّ، وقد استخلفت عليكم ابني. وأوصيته بخلاف وصية النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأنصار فإنّه أمر أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم: إلا وإنّي أوصيته ألّا يقبل من محسنكم، ولا يتجاوز عن مسيئكم. ألا وإنّكم ستقولون بعدي: لا أحسن الله له الصّحابة. إلا
__________
(1) هو الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي، أبو محمد، قائد داهية، سفّاك، خطيب. وكانت له إمارة العراق والحجاز وخراسان عشرين سنة، وأقره الوليد بن عبد الملك على عمله بعد أبيه عبد الملك بن مروان، وهو الذي بني مدينة واسط، وهو أوّل من ضرب درهما عليه «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، توفي في رمضان سنة 95هـ (الأعلام 2/ 168).(5/17)
وإني معجّل لكم: لا أحسن الله عليكم الخلافة.
وقال الحجاج لأنس بن مالك (1) حين دخل إليه في شأن ابنه عبيد الله وكان خرج مع ابن الأشعث (2) لا مرحبا ولا أهلا. لعنة الله عليك من شيخ جوّال في الفتن، مرة مع أبي تراب (3)، ومرة مع ابن الأشعث. والله لأقلعنك قلع الصمغة ولأعصبنّك عصب السّلمة، ولأجردنك جرد الضبّ. قال أنس: من يعني الأمير؟
قال: إياك أعني. أحمّ الله مداك.
فكتب أنس بذلك إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك إلى الحجاج يا بن المستفرمة بعجم الزبيب، لقد هممت بأن أركلك ركلة تهوي منها إلى نار جهنّم.
قاتلك الله أخيفش العينين، أصكّ الرجلين أسود الجاعرتين.
وخطب الحجاج يوما فقال في خطبته: والله ما بقي من الدنيا إلا مثل ما مضى، ولهو أشبه به من الماء بالماء. والله ما أحبّ أنّ ما مضى من الدنيا لي بعمامتي هذه.
وقال على المنبر يوما: والله لألحونّكم لحو العصا، ولأعصبنّكم عصب السّلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، يا أهل العراق، يا أهل الشّقاق والنّفاق، ومساوئ الأخلاق، إني سمعت لكم تكبيرا ليس بالتكبير الذي يراد به الله في الترغيب، ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب. وقد عرفنا أنها عجاجة تحتها قصف. أي بني اللّكيعة، وعبيد العصا، وأبناء الإماء، إنما مثلي ومثلكم ما قال ابن برّاقة الهمداني (4): [الطويل] وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يال همدان ظالم؟
__________
(1) أنس بن مالك: أبو ثمامة أو أبو حمزة، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخادمه، روى عنه رجال الحديث 2286حديثا ولد بالمدينة سنة 10قبل الهجرة، وتوفي بالبصرة سنة 93هـ (الأعلام 2/ 2524).
(2) ابن الأشعث: هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي خرج على الحجاج بن يوسف، وقتل سنة 85هـ (البداية والنهاية 9/ 62).
(3) أبو تراب: هو الإمام علي بن أبي طالب، كناه بهذه الكنية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(4) البيتان لعمرو بن براقة في الأغاني 1/ 113، والبيت الثاني لمالك بن حريم في لسان العرب (ظلم)، وتاج العروس (ظلم)، وبلا نسبة في كتاب العين 3/ 312.(5/18)
متى تجمع القلب الذكيّ وصارما ... وأنفا حميّا تجتنبك المظالم
أما والله لا تقرع عصا عصا إلا جعلتها كأمس الذّاهب.
قال مالك بن دينار (1): ربّما سمعت الحجاج يذكر ما صنع به أهل العراق، وما صنع بهم، فيقع في نفسي أنهم يظلمونه لبيانه، وحسن تخلّصه للحجج.
وخطب الحجاج مرة فقال: اللهم أرني الغيّ غيّا فأجتنبه، وأرني الهدى هدى فأتبعه، ولا تكلني إلى نفسي فأضل ضلالا بعيدا. والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا بعمامتي هذه، ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء.
وخطب بعد دير الجماجم فقال: يا أهل العراق، إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع، والأطراف، والأعضاء، والشغاف، ثم أفضى إلى الأمخاخ والأصماخ، ثم ارتفع فعشش، ثم باض ففرخ، فحشاكم نفاقا وشقاقا، وأشعركم خلافه. اتخذتموه دليلا تتبعونه، وقائدا تطيعونه، ومؤامرا تستشيرونه. فكيف تنفعكم تجربة، أو تعظكم وقعة، أو يحجزكم إسلام، أو ينفعكم بيان؟ ألستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر، وسعيتم بالغدو، واستجمعتم للكفر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفي، وأنتم تتسللون لواذا، وتنهزمون سراعا؟
ثم يوم الزاوية، وما يوم الزّاوية!! بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وتجادلكم، وبراءة الله منكم، ونكوص وليّكم عنكم إذا وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها. لا يسأل المرء عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حين عضكم السلاح، ووقصتكم الرّماح.
__________
(1) هو مالك بن دينار، مولى لبني ناجية بن سامة بن لؤي بن غالب القرشي، كنيته أبو يحيى، من أهل البصرة، يروي عن أنس بن مالك، وكان من الزهاد التابعين والأخيار الصالحين، وكان يكتب المصاحف بالأجرة، ويتقوت بأجرته، وكان يجانب الإباحات جهده، ولا يأكل شيئا من الطيبات.
وكان من المتعبدة والمتقشفة الخشن، مات سنة 123هـ، ويقال: سنة 130هـ، ويقال: سنة 131 هـ، وقيل: سنة 127هـ، والصحيح أنه مات قبل الطاعون، وكان الطاعون سنة 131هـ. وفي البداية والنهاية توفي سنة 128هـ. (انظر كتاب الثقات لابن حبان 5/ 384383، والبداية والنهاية 10/ 27، والطبقات الكبرى لابن سعد 7/ 180).(5/19)
ثم دير الجماجم، وما دير الجماجم!! بها كانت المعارك والملاحم، بضرب يزيل الهام عن مقيله، ويذهل الخليل عن خليله.
يا أهل العراق، الكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات، والنزوة بعد النزوات!! إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم وجبنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم لا تتذاكرون حسنة، ولا تشكرون نعمة. هل استخفّكم ناكث أو استغواكم غاو؟ أو استفزكم عاص، أو استنصركم ظالم، أو استعضد بكم خالع، إلا تبعتموه، وآويتموه ونصرتموه وزكّيتموه؟
يا أهل العراق هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو زفر كاذب إلا كنتم أتباعه وأنصاره؟ يا أهل العراق أو لم تنهكم المواعظ، ولم تزجركم الوقائع؟
ثم التفت إلى أهل الشّام فقال: يا أهل الشام: إنّما أنا لكم كالظّليم الرامح عن فراخه ينفى عنها القذر، ويباعد عنها الحجر، ويكنّها من المطر ويحميها من الضّباب، ويحرسها من الذّئاب.
يا أهل الشام، أنتم الجنّة والرّداء، وأنتم العدّة والحذاء.
هذه خطبة أخرى:
قال مالك بن دينار: غدوت إلى الجمعة، فجلست قريبا من المنبر، فصعد الحجاج. ثم قال: امرؤ زوّر عمله، وامرؤ حاسب نفسه، امرؤ فكّر فيما يقرؤه غدا في صحيفته، ويراه في ميزانه. امرؤ كان عند قلبه زاجر، وعند همّه آمر، آخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل بخطام جمله، فإن قاده إلى طاعة الله تبعه، وإن قاده إلى معصية الله كفه.
وكان يقول: إنا والله ما خلقنا للفناء، وإنما خلقنا للبقاء، ولكن تنقل من دار إلى دار.
وخطب يوما فقال: «إن الله أمرنا بطلب الآخرة، وكفانا مؤونة الدنيا، فليتنا كفينا مؤونة الآخرة، وأمرنا بطلب الدنيا».
فقال الحسن: ضالة المؤمن خرجت من قلب المنافق.(5/20)
وأهدى إلى عبد الملك فرسا وبغلة وكتب إليه: وجهت إلى أمير المؤمنين فرسا سهل الخدّ، حسن القدّ، يسبق الطرف، ويستغرق الوصف، وبغلة هواها زمامها وسوطها.
وكان يقول: العفو عن المقرّ لا عن المصرّ.
وقال: الكوفة امرأة حسناء عاطل، والبصرة عجوز درداء، قد أوتيت من كلّ شيء.
وقال بعضهم: سمعت الحجاج يقول وقد أذّن فلم تجتمع إليه الناس:
يدعي: حي على الصلاة، فلا تجيبون. أمّا والله لو دعي: حي على أربعة دراهم لغص المسجد بأهله.
وقال ابن الكلبي عن أبيه، قاتل الحسين عليه السلام قد دخل إلى الحجاج فقال: أنت قتلت حسينا؟ قال: نعم. قال: وكيف قتلته؟ قال: دسرته بالرمح دسرا، وهبرته بالسيف هبرا، ووكلت رأسه إلى امرئ غير وكد.
فقال الحجاج: والله لا تجتمعان في الجنة أبدا، فخرج أهل العراق يقولون:
صدق الأمير. لا يجتمع والله ابن رسول وقاتله في الجنّة. أبدا.
وخرج أهل الشام يقولون: صدق الأمير، لا يجتمع من شق عصا المسلمين، وخالف أمير المؤمنين، وقاتله في طاعة الله في الجنة أبدا.
وقال يوما على المنبر: يقول سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لََا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] إن كان لحودا.
وكتب إلى عبد الملك كتابا يقول فيه: كنت أقرأ في الصّحف، فانتهيت إلى قول الله عزّ وجل: {فَأُولََئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدََاءِ وَالصََّالِحِينَ} [النساء: 69]، فأردت أن أزيد فيها: والخلفاء قال: فجعل عبد الملك يقول: ما للحجاج!! قاتله الله.
وقال له بعض ولاة الحجاز: إن رأى أمير المؤمنين أن يستهديني ما شاء فليفعل.(5/21)
قال: أستهديك بغلة على شرطي. قال: وما شرطك؟ قال: بغلة قصير شعرها، طويل عنانها، همّها أمامها، وسوطها لجامها، تستبين فيها العلفة، ولا تهزلها الركبة.
وقال يوما لجلسائه: ما يذهب الإعياء؟ فقال بعضهم: التمر. وقال آخر:
التمزح وقال آخر: النوم. قال: لا، ولكن قضاء الحاجة التي أعيا بسببها.
أتي بدواب لابن الأشعث، فإذا سماتها عدة، فوسم تحت ذلك للفرار.
كتب الحجاج إلى قتيبة: لا تهجّننّ بلاء أحد من جندك وإن قل فإنك إذا فعلت ذلك لم يرغب أحد منهم في حسن البلاء. وأعط الذي يأتيك مما تكره صادقا مثل الذي يأتيك بما تحبّ كاذبا، فإنك إن لم تفعل غروّك ولم يأتوك بالأمر على وجهه. واعلم أنه ليس لمكذوب رأي، ولا في حسود، حيلة.
وقال لكاتبه: لا تجعلن مالي عند من لا أستطيع أخذه منه. قال: ومن لا يستطيع الأمير أن يأخذه منه؟ قال: المفلس.
وكتب الوليد بن عبد الملك إليه يأمره أن يكتب إليه بسيرته. فكتب إليه: إني قد أيقظت رأيي، وأنمت هواي، فأدنيت السيّد المطاع في قومه، ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلدت الخراج الموفّر لأمانته، وقسمت لكل خصّم من نفسي قسما أعطيه حظّا من نظري، ولطيف عنايتي، وصرفت السيف إلى النطف المسيء والثواب إلى المحسن البريء، فخاف المريب صولة العقاب. وتمسك المحسن بحظّه من الثواب.
وقال: لأطلبن الدنيا طلب من لا يموت أبدا ولأنفقنّها كمن لا يعيش أبدا.
وخطب فقال: يا أهل العراق: إن الفتنة تلقح بالنجوى، وتنبح بالشكوى، وتحصد بالسيف. أما والله لقد أبغضتموني فما تضرّونني، ولئن أحببتموني ما تنفعونني. وما أنا بالمستوحش لعداوتكم، ولا المستريح إلى مودتكم: زعمتم أني ساحر، وقد قال الله تعالى: {وَلََا يُفْلِحُ السََّاحِرُ حَيْثُ أَتى ََ} [طه: 69] وزعمتم أني أحسن الاسم الأكبر. فلم تقاتلون من يعلم ما لا تعلمون؟ ثم التفت إلى أهل الشام، فقال: لأرواحكم أطيب من المسك، ولدنوّكم آنس من الولد. وما مثلكم
إلا كما قال أخو ذبيان (1): [الوافر] إذا حاولت في أسد فجورا ... فإني لست منك ولست منّي
هم درعي التي استلأمت فيها ... إلى يوم النّسار وهم مجنّي
ثم قال: يا أهل الشام بل أنتم كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنََا لِعِبََادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} (172) [الصافات: 172171].(5/22)
وخطب فقال: يا أهل العراق: إن الفتنة تلقح بالنجوى، وتنبح بالشكوى، وتحصد بالسيف. أما والله لقد أبغضتموني فما تضرّونني، ولئن أحببتموني ما تنفعونني. وما أنا بالمستوحش لعداوتكم، ولا المستريح إلى مودتكم: زعمتم أني ساحر، وقد قال الله تعالى: {وَلََا يُفْلِحُ السََّاحِرُ حَيْثُ أَتى ََ} [طه: 69] وزعمتم أني أحسن الاسم الأكبر. فلم تقاتلون من يعلم ما لا تعلمون؟ ثم التفت إلى أهل الشام، فقال: لأرواحكم أطيب من المسك، ولدنوّكم آنس من الولد. وما مثلكم
إلا كما قال أخو ذبيان (1): [الوافر] إذا حاولت في أسد فجورا ... فإني لست منك ولست منّي
هم درعي التي استلأمت فيها ... إلى يوم النّسار وهم مجنّي
ثم قال: يا أهل الشام بل أنتم كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنََا لِعِبََادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} (172) [الصافات: 172171].
قال بعضهم: رأيت الحجاج وعنبسة بن سعيد واقفين على دجلة. فأقبل الحجاج، وقال: يا عنبسة، إذا كنت في بلد يضعف سلطانه، فاخرج عنه فإن ضعف السلطان أضرّ على الرعية من جوده.
وكان يقول: خير المعروف ما نعشت به عثرات الكرام.
ومما كفّره به الفقهاء قوله: والناس يطوفون بقير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومنبره إنما يطوفون بأعواد ورمّة.
وقال يوما: والله إن طاعتي أوجب من طاعة الله تعالى لأنّ الله تعالى يقول:
{فَاتَّقُوا اللََّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، فجعل فيه مثنوية وطاعتي لا مثنوية فيها.
وضرب رجلا فقال: اعتديت أيّها الأمير، فقال: {فَلََا عُدْوََانَ إِلََّا عَلَى الظََّالِمِينَ}
[البقرة: 193].
وقف رجل له فقال: أصلح الله الأمير، جنى جان في الحيّ فأخذت بجريرته، وأسقط عطائي. فقال: أما سمعت قول الشاعر (2): [الكامل] جانيك من يجني عليك وقد ... تعدى الصّحاح مبارك الجرب
ولرب مأخوذ بذنب صديقه ... ونجا المقارف صاحب الذنب
فقال الرجل: كتاب الله أولى ما اتّبع. قال الله تعالى: {قََالَ مَعََاذَ اللََّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلََّا مَنْ وَجَدْنََا مَتََاعَنََا عِنْدَهُ} [يوسف: 79]. فقال الحجاج: صدقت: وأمر بردّ عطائه.
__________
(1) البيتان في ديوان النابغة الذبياني ص 128.
(2) البيت الأوّل لذؤيب بن كعب بن عمرو في الاشتقاق ص 202، وبلا نسبة في لسان العرب (جنى)، وتهذيب اللغة 11/ 196، وجمهرة اللغة ص 266.(5/23)
وقيل له وقد احتضر ألا تتوب؟ فقال: إن كنت مسيئا فليست هذه ساعة التّوبة، وإن كنت محسنا فليست ساعة الفزع.
لما نصب المنجنيق على الكعبة جاءت نار فأحرقت المنجنيق، وامتنع أصحابه من الرّي، فقال الحجاج: إن ذلك نار القربان دلت على أن فعلكم متقبّل.
وقال على المنبر: اقدعوا هذه الأنفس فإنها اسأل شيء إذا أعطيت، وأعصى شيء إذا سئلت. فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطاما وزماما، فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وعطفها بزمامها عن معصية الله فإني رأيت الصبر عن محارمه أيسر من الصبر على عذابه.
وكان يقول: إنّ امرأ أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر ربه، ولم يستغفر من ذنبه، أو يفكر في معاده، لجدير أن تطول حسرته يوم القيامة.
لما قتل الحجاج عبد الله بن الزّبير (1) ارتجت مكة بالبكاء، فأمر الحجاج بالناس، فجمعوا إلى المسجد، ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل مكة. بلغني إكباركم واستفظاعكم قتل ابن الزّبير، ألا وإن ابن الزبير، كان من أخيار هذه الأمة، حتى رغب في الخلافة، ونازع فيها أهلها، فخلع طاعة الله، واستكنّ بحرم الله.
ولو كان شيء مانعا للعصاة لمنعت آدم حرمة الجنة، لأن الله تعالى خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأباحه جنته، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته. وآدم على الله تعالى أكرم من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة، فاذكروا الله يذكركم.
وصعد المنبر بعد قتله ابن الزّبير متلثّما، فحطّ اللّثام عنه، ثم قال:
موج ليل التطم ... فانجلى بضوء صبحه
يا أهل الحجاز. كيف رأيتموني؟ ألم أكشف ظلمة الجور، وطخية (2) الباطل
__________
(1) هو عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، قتله الحجاج بن يوسف سنة 73هـ (انظر: كتاب الثقات 3/ 212، الطبقات الكبرى 6/ 44).
(2) الطخية: الظلمة.(5/24)
بنور الحق. والله لقد وطئكم الحجاج وطأة مشفق، عطفته رحم، ووصل قرابة.
فإياكم أن تزلّوا عن سنن ما أقمناكم عليه، فأقطع عليكم ما وصلته لكم بالصارم البتّات وأقيم من أودكم ما يقيم المثقّف من أود القنا بالنار. ها إليكم. ثم نزل وهو يقول: [الطويل] أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها ... وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمرا
وخطب ذات يوم فقال: إنه والله ما لكم عندي بلهنية ولا رفهنيّة (1) ولا ربغ عند التحلية. ولا أقول لمن عثر منكم: دع. دع. ولكن تعسا لليدين وللفم.
قال الحجاج لرجل من أهل الشام. وقد أتي برجل: قم فاضرب عنقه فقال:
أصلح الله الأمير، ولي نصف أجره؟ فقال: الحجاج: ما أهمّ بأمر أرجو فيه القربة والزّلفة إلا نازعنيه شاميّ. اضرب عنقه، ولك ثلث أجره.
كان الحجاج إذا استغرب ضحكا والى بين الاستغفار. وكان إذا صعد المنبر تلفّع بمطرفه، ثم تكلّم رويدا فلا يكاد يسمع منه، ثم يتزيّد في الكلام حتّى يخرج يده من مطرفه يزجر الزجرة فيقرع بها أقصى من في المسجد. وكان يطعم في كلّ يوم على ألف مائدة، على كل مائدة ثريد وجنب من شواء، وسمكة طرية. ويطاف به في محفّة على تلك الموائد ليتفقد أمور الناس، وعلى كل مائدة عشرة. ثم يقول: يا أهل الشام. كسروا الخبز لئلا يعاد عليكم.
وكان له ساقيان: أحدهما يسقي الماء والعسل، والآخر يسقي اللّبن.
يروى عن محمد بن المنتشر الهمداني، قال: دفع إليّ الحجاج «أزادمرد بن الهربذ» وأمرني أن أستخرج منه، وأغلظ له. فلما انطلقت به قال لي: يا محمد.
إن لك شرفا ودينا، وإني لا أعطي على القسر شيئا، فاستأذني، وارفق بي. قال:
ففعلت. قال: فأدّى إليّ في أسبوع خمسمائة ألف. قال: فبلغ ذلك الحجاج، فأغضبه، وانتزعه من يدي، ودفعه إلى رجل كان يتولى له العذاب، فدق يديه برجليه، ولم يعطهم شيئا.
__________
(1) البلهنية: بضم الباء: الرخاء وسعة العيش، ورفهنية مثلها وزنا ومعنى.(5/25)
قال محمد بن المنتشر: فإني لأمرّ يوما في السوق إذا صائح بي: يا محمد.
فالتفتّ فإذا به معروضا على حمار موثوق اليدين والرجلين فخفت الحجاج إن أتيته، وتذممت منه (1) فملت إليه فقال لي: إنك وليت منّي ما ولي هؤلاء، فرفقت بي فأحسنت إلى وإنهم صنعوا بي ما ترى، ولم أعطهم شيئا. وها هنا خمسمائة ألف عند فلان. فخذها، فهي لك.
قال: فقلت: ما كنت لآخذ منك على معروف أجرا، ولا لأرزأك على هذه الحال شيئا.
قال: فأما إذا أبيت فاسمع أحدّثك: حدثني بعض أهل دينك عن نبيّك صلّى الله عليه وسلّم، قال: إذا رضي الله عن قوم أمطرهم المطر في وقته، وجعل الماء في سمحائهم، واستعمل عليهم خيارهم، وإذا سخط الله على قوم استعمل عليهم شرارهم، وجعل المال عند بخلائهم، وأمطر المطر في غير حينه.
قال: فانصرفت، فما وضعت ثوبي حتّى أتاني رسول الحجاج يأمرني بالمسير إليه. فألفيته جالسا على فرشه، والسيف منتضى في يده. فقال لي: ادن.
فدنوت شيئا، ثم قال: ادن. فدنوت شيئا. ثم صاح الثالثة: ادن. لا أبالك!! فقلت: ما بي إلى الدنوّ من حاجة. وفي يد الأمير ما أرى فأضحك الله سنه، وأغمد عني سيفه، فقال لي: اجلس. ما كان من حديث الخبيث؟
فقلت له: أيّها الأمير. والله ما غششتك منذ استنصحتني، ولا كذبتك منذ استخبرتني، ولا خنتك منذ ائتمنتني، ثم حدّثته الحديث.
فلما صرت إلى ذكر الرجل الذي المال عنده أعرض عنّي بوجهه، وأومأ إليّ بيده، وقال: لا تسمّه، ثم قال: إنّ للخبيث نفسا، وقد سمع الأحاديث!!
روي عن عبد الملك بن عمير اللّيثي قال: بينا أنا جالس في المسجد الجامع بالكوفة إذ أتاني آت، فقال: هذا الحجّاج قد قدم أميرا على العراق، فإذا به قد دخل المسجد معتما بعمامة قد غطّى بها أكثر وجهه، متقلّدا سيفا، متنكّبا قوسا،
__________
(1) تذممت منه: استحييت منه.(5/26)
يؤم المنبر. فقام الناس نحوه، حتى صعد المنبر فمكث ساعة لا يتكلم. فقال الناس بعضهم لبعض: قبح الله بني أمية حيث يستعملون مثل هذا على العراق.
حتى قال عمير بن ضابئ البرجمي: ألا أحصبه لكم؟ قالوا: أمهل حتّى ننظر.
فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن فمه، ونهض فقال (1): [الوافر] أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
والله يا أهل الكوفة، إني أرى رؤوسا قد أينعت، وحان قطافها، وإني لصاحبها كأنّي أنظر إلى الدماء بين العمائم واللّحى (2): [الرجز] هذا أوان الشدّ فاشتدّي زيم ... قد لفها الليل بسوّاق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزّار على ظهر وضم
قد لفها الليل بعصلبيّ ... أروع خرّاج من الدوي (3)
مهاجر ليس بأعربي
قد شمرت عن ساقها فشدوا ... وجدّت الحرب بكم فجدّوا (4)
والقوس فيها وتر عرد ... مثل ذراع البكر أو أشدّ
إني والله يا أهل العراق، ما يقعقع لي بالشّنان، ولا يغمز جانبي كغمز التّين، ولقد فررت عن ذكاء، وفتّشت عن تجربة. وإن أمير المؤمنين نثر كنانته.
فعجم عيدانها عودا عودا، فوجدني أمرّها عودا وأصلبها مكسّرا، فرماكم بي، لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة واضطجعتم في الضلالة. والله لأحزمنكم حزم السلمة، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل، فأنتم لكلّ أهل. إنما أنتم أهل قرية:
__________
(1) البيت لسحيم بن وثيل الرياحي في الاشتقاق ص 224، والأصمعيات ص 17، وجمهرة اللغة ص 1044495، والكتاب 3/ 207.
(2) الرجز لرشيد بن رميض في الأغاني 15/ 199، ولسان العرب (شدد)، وللأغلب العجلي في الحماسة الشجرية 1/ 144.
(3) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (عرب)، (عصلب)، (حشش)، (دوا)، وتاج العروس (عصلب)، (حشش)، وجمهرة اللغة ص 1126، والمخصص 2/ 92، والبيان والتبيين 2/ 308.
(4) الرجز لحنظلة بن ثعلبة في جمهرة اللغة ص 633، وبلا نسبة في لسان العرب (عرد)، والعقد الفريد 4/ 121.(5/27)
{كََانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهََا رِزْقُهََا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكََانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللََّهِ فَأَذََاقَهَا اللََّهُ لِبََاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمََا كََانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]، وإنّي والله ما أقول إلّا وفّيت، ولا أهم إلا أمضيت، ولا أخلق إلا فريت.
وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم، وأن أوجّهكم لمحاربة عدوّكم مع المهلب بن أبي صفرة. وإني أقسم بالله لا أجد رجلا تخلف بعد إعطائه ثلاثة إلا ضربت عنقه. يا غلام: اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين.
فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين. حتى قال إلى «سلام عليكم» فلم يقل أحد شيئا.
فقال الحجاج: أكفف يا غلام. ثم أقبل على الناس، فقال: أيسلّم عليكم أمير المؤمنين فلا تردنّ عليه السلام؟ هذا أدب ابن أدية.
أما والله لأؤدّبنكم غير هذا الأدب، أو تستقيمن.
اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين. فقرأ. فلما بلغ إلى قوله: «سلام عليكم» لم يبق في المسجد أحد إلا قال: «وعلى أمير المؤمنين السلام». ثم نزل.
فوضع للناس أعطياتهم، فجعلوا يأخذون، حتى أتاه شيخ يرعش كبرا، فقال: أيّها الأمير، إني في الضعف على ما ترى، ولي ابن هو أقوى مني على الأسفار. أفتقبله منّي بديلا؟
قال: نفعل أيّها الشيخ. فلما ولي قال له قائل: هذا ابن ضابئ البرجمي (1)
الذي يقول أبوه (2): [الطويل]
__________
(1) هو ضابئ بن الحارث بن أرطأة البرجمي، شاعر مخضرم أدرك الإسلام وعاش حتّى أيام عثمان بن عفان، كان ضعيف البصر مولعا بالصيد، سجنه عثمان لأنه قتل صبيا بدابته، فاعتذر عن ذلك لضعف بصره. وقيل: هجا قوما من بني جرول بن نهشل راميا أمهم بالكلب الذي استعاره منهم ثم استردّوه بالقوة، فأعيد إلى السجن، وقال وهو في الحبس، أشعارا كثيرة يهدّد في بعضها ويعرّض بعثمان بن عفان الذي سجنه، وينظم الحكم والعبر في بعضها الآخر، وقيل: فتّش السجناء يوما فإذا به يحمل سكينا في الحذاء يريد أن يقتل به عثمان، وبقي في السجن إلى أن مات سنة 30هـ.
(معجم الشعراء المخضرمين والأمويين ص 217).
(2) البيت لضابئ البرجمي في حماسة البحتري ص 11، وخزانة الأدب 9/ 323، 327، والشعر والشعراء 1/ 358، ولسان العرب (قير).(5/28)
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
ودخل هذا الشيخ على عثمان مقتولا، فوطئ بطنه، وكسر ضلعين من أضلاعه، فقال: ردّوه، فلما ردّ. قال: أيّها الشيخ: هلا بعثت يوم «الدار» بديلا.
يا حرسيّ اضرب عنقه، فجعل الرجل يضيق عليه بعض أمره، فيرتحل، ويأمر وليه أن يلحق به. ففي ذلك يقول ابن الزّبير الأسدي (1): [الطويل] تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ ... عميرا وإما أن تزور المهلبا
وكتب إلى الوليد بعد وفاة أخيه محمد بن يوسف: أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أنه أصيب لمحمد بن يوسف خمسون ومائة ألف دينار، فإن يكن أصابها من حلّها فرحمه الله، وإن تكن من خيانة فلا رحمه الله.
فكتب إليه الوليد: أما بعد. فقد قرأ أمير المؤمنين كتابك فيما خلف محمد بن يوسف، وإنما أصاب ذلك من تجارة أحللناها له فترحم عليه، رحمه الله.
وكتب الحجاج إلى عبد الملك: بلغني أن أمير المؤمنين عطس عطسة فشمته قوم. فقال: يغفر الله لنا ولكم، فيا ليتني كنت معهم. فأفوز فوزا عظيما.
ووفد مرة على الوليد، فقال له الوليد، وقد أكلا: هذ لك في الشراب؟
قال: يا أمير المؤمنين: ليس بحرام ما أحللته، ولكنني أمنع أهل عملي منه وأكره أن أخالف قول العبد الصّالح: {وَمََا أُرِيدُ أَنْ أُخََالِفَكُمْ إِلى ََ مََا أَنْهََاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] فأعفاه.
جلس الحجاج لقتل أصحاب ابن الأشعث، فقام إليه رجل منهم فقال: أصلح الله الأمير. إن لي عليك حقا. قال: وما حقّك؟ قال: سبّك عبد الرحمن يوما فرددت عليه. فقال: من يعلم ذلك؟ قال: أنشد الله رجلا سمع ذلك إلا شهد به.
فقام رجل من الأسراء، فقال: قد كان ذلك أيّها الأمير. قال: خلّوا عنه. ثم قال للشّاهد: فما منعك أن تنكر كما أنكر؟ فقال: لقديم بغضي إياك. قال: وليخلّ أيضا عنه لصدقه.
__________
(1) البيت في الكامل للمبرد 2/ 221.(5/29)
وكان يقول: البخل على الطعام أقبح من البرص على الجسد.
ولما أتى الحجاج البصرة، وندب الناس إلى محاربة الخوارج، واللّحاق بالمهلب، كان عليهم أشد إلحافا، وقد كان أتاهم خبره بالكوفة، فتحمّل الناس قبل قدومه. فيروى عن بعضهم أنه قال: إنا لنتغدّى معه إذ جاءه رجل من بني سليم برجل يقوده، فقال: أصلح الله الأمير. إن هذا عاص. فقال له الرجل:
أنشدك الله أيها الأمير في دمي، فو الله ما قبضت ديوانا قطّ، ولا شهدت عسكرا، وإني لحائك أخذت من تحت ألحف.
فقال: اضربوا عنقه.
فلما أحس بالسيف سجد، فلحقه السيف وهو ساجد فأمسكنا عن الأكل فأقبل علينا الحجاج، فقال: ما لي أراكم صفرت أيديكم واصفرّت وجوهكم، وحدّ نظركم من قتل رجل واحد؟
إن العاصي يجمع خلالا تخلّ بمركزه، ويعصي أميره، ويغرّ المسلمين، وهو أجير لكم، وإنما يأخذ الأجرة لما يعمل، والوالي مخيّر فيه إن شاء قتله وإن شاء عفا.
ثم كتب الحجاج إلى المهلب. أما بعد، فإن بشرا رحمه الله استكره نفسه عليك، وأراك غناءه عنك. وأنا أريك حاجتي إليك فأرني الجد في قتال عدوّك.
ومن خفته على المعصية ممن قبلك فاقتله فإنّي قاتل من قبلي ومن كان عندي من وليّ من هرب عنك فأعلمني مكانه فإني أرى أن آخذ السّميّ بالسمي، والولي بالوليّ.
فكتب إليه المهلّب ليس قبلي إلا مطيع وإنّ الناس إذا خافوا العقوبة كبّروا الذّنب، وإذا أمنوا العقوبة صغّروا الذّنب، وإذا يئسوا من العفو أكفرهم ذاك. فهب لي هؤلاء الذين سمّيتهم عصاة فإنّهم فريقان: أبطال أرجو أن يقتل الله عز وجل بهم العدوّ. ونادم على ذنبه.
وصعد المنبر بعد موت أخيه أو ابنه. فقال: يقولون: مات ويموت الحجاج. فمذ كان ماذا؟ والله ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت. والله ما رضي الله
البقاء إلا لأهون خلقه عليه: إبليس، إذ قال: {قََالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى ََ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قََالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} (37) [الحجر: 3736].(5/30)
وصعد المنبر بعد موت أخيه أو ابنه. فقال: يقولون: مات ويموت الحجاج. فمذ كان ماذا؟ والله ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت. والله ما رضي الله
البقاء إلا لأهون خلقه عليه: إبليس، إذ قال: {قََالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى ََ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قََالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} (37) [الحجر: 3736].
وقال لمعلّم ولده: علّم ولدي السباحة قبل الكتابة فإنهم يجدون من يكتب عنهم ولا يجدون من يسبح عنهم.
وسأل غلاما فقال له: غلام من أنت؟ قال: غلام سيّد قيس. قال: ومن ذلك؟ قال: زرارة بن أوفى قال: كيف يكون سيّدا وفي داره التي ينزلها سكان؟
قطع ناس من بني عمرو بن تميم وحنظلة الطريق على قوم زمن الحجاج.
فكتب إليهم: أما بعد: فإنكم استبحتم الفتنة، فلا عن حقّ تقاتلون، ولا عن منكر تنهون. وأيم الله إني لأهمّ أن تكونوا أوّل من يرد عليه من قبلي من ينسفه الطارف والتالد، ويخلّي النساء أيامى، والصّبيان يتامى فأيما رفقة مرّت بأهل ماء، فأهل ذلك الماء ضامنون لها حتّى تصير إلى الماء الذي يليه. تقدمة مني إليكم. والسعيد من وعظ بغيره.
وقال بعضهم: ارج نفسك، واحقن دمك فإن الذي بين قتلك وبينك أقصر من إبهام الحبارى.
قالوا: قدم الحجاج المدينة، ففرق فيهم عشرة آلاف دينار، ثم صعد المنبر فقال: يا أهل المدينة: أنتم أولى من عذر، فو الله ما قدمنا إلا على قلائص حراحيج شزّب، ما تتابع ما تلحق أرجلها أيديها، وأنتم أولى من عذر.
فقام عبد الله بن عمار الديلي فقال: لا عذر الله من يعذرك، وأنت ابن عظيم القريتين. وأمير العراقين. إلى متى؟ وحتّى متى؟
فنزل الحجاج فعين مالا كثيرا بالمدينة، وفرقه في الناس.
خطب ذات يوم بالكوفة فقال: يا أهل العراق، أتيتكم وأنا أرفل في لمّتي، فما زال شقاقكم حتّى اخضر شعري. ثم كشفت عن رأس له أقرع، وقال: [المنسرح] من يك ذا لمة تكشّفها ... فإنني غير ضائري ذعري
لا يمنع المرء أن يسود وأن ... يضرب بالسيف قلة الشعر
قال الشعبيّ (1): سمعت الحجاج يقول: أما بعد، فإن الله جل وعلا كتب على الدنياء الفناء، وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه البقاء، ولا بقاء لمن كتب عليه الفناء، فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة، واقهروا طول الأمل يقصر الأجل.(5/31)
خطب ذات يوم بالكوفة فقال: يا أهل العراق، أتيتكم وأنا أرفل في لمّتي، فما زال شقاقكم حتّى اخضر شعري. ثم كشفت عن رأس له أقرع، وقال: [المنسرح] من يك ذا لمة تكشّفها ... فإنني غير ضائري ذعري
لا يمنع المرء أن يسود وأن ... يضرب بالسيف قلة الشعر
قال الشعبيّ (1): سمعت الحجاج يقول: أما بعد، فإن الله جل وعلا كتب على الدنياء الفناء، وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه البقاء، ولا بقاء لمن كتب عليه الفناء، فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة، واقهروا طول الأمل يقصر الأجل.
وقال ابن عياش عن أبيه، قال: إن أوّل يوم عرف فيه الحجاج وكان في الشّرط مع عبد الملك أن عبد الملك بعث إلى زفر بن الحارث عشرة نفر، أنا فيهم، ومعنا الحجاج وغيره من الشّرط. قال: فكلمناه، وأبلغناه رسالة عبد الملك، فقال: لا سبيل إلى ما تريدون. قال: فقلت له: يا هذا، أراه والله سيأتيك ما لا قبل لك به. ثم لا يغني عنك فسّاقك هؤلاء شيئا، فأطعني واخرج.
قال: وحضرت الصلاة فقال: نصلّي، ثم نتكلم. فأقام الصلاة ونحن في بيته، فتقدم وصلّى بنا وتأخّر الحجاج، فلم يصلّ. فقلت له: أبا محمد. ما منعك من الصلاة!؟ قال: أنا لا أصلّي خلف مخالف للجماعة، مشاقّ للخلافة. لا، والله لا يكون ذلك أبدا. قال: فبلغت عبد الملك. فقال: إن شرطيكم هذا لجلد.
وخطب يوما فقال: يا أيها الناس إن الصّبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله.
فقام إليه رجل فقال: ما أصفق وجهك، وأقل حياءك أيها الحجاج؟ فقال له الحجاج: اجترأت علي. فقال له: أتجترئ على الله ولا ننكره. وأجترئ عليك فتنكره فحلم عنه، وخلّى سبيله.
قال عبد الملك بن عمير: سمعت الحجاج يقول في خطبته: أيها الناس لا يملّنّ أحدكم من المعروف، فإن صاحبه يعرض خيرا، إما شكر في الدنيا وإما ثواب في الآخرة.
وقال الحجاج لعبد الملك: ما فيّ عيب إلا أنّي حسود، حقود، لجوج.
فقال: ما في الشّيطان شيء، شرّ ممّا ذكرت.
__________
(1) الشعبي: هو عامر بن شراحيل بن عبد الله الشعبي الحميري، أبو عمرو الكوفي، تابعي من رجال الحديث، وكان فقيها شاعرا، توفي سنة 103هـ (انظر ترجمته في: كشف الظنون 5/ 435، تهذيب التهذيب 5/ 65، وفيات الأعيان 1/ 306، تاريخ بغداد 12/ 227).(5/32)
الباب الثالث كلام الأحنف (1)
رأى مع رجل درهما، فقال: تحبّه؟ قال: نعم. أما إنه لا ينفعك حتّى تفارقه.
قال: ما عرضت الإنصاف على رجل فقبله إلا هبته، ولا أباه إلا طمعت فيه.
وقال: لأذى تحكك في ناحية بيتي أحب إلى من أيّم رددت. عنها كفوا.
وقيل له: من السيّد؟. قال: الذليل في نفسه. الأحمق في ماله، المغنيّ بأمر قومه، الناظر للعامّة.
وقال: رب رجل لا تملّ فوائده إن غاب، وآخر لا يسلم جليسه وإن احترس.
وقال: كلّ ملك غدار، وكلّ دابة شرود، وكل امرأة خؤوف.
وقال: سهرت ليلة في كلمة أرضي بها سلطاني، ولا أسخط بها ربّي فما وجدتها.
وقيل له: ما الحلم؟ قال: الرّضاء بالذّل.
__________
(1) الأحنف: هو الأحنف بن قيس، واسمه صخر بن قيس بن معاوية بن حصن، من تميم، اشتهر بالحلم حتّى كان علما عليه، كما اشتهر حاتم الطائي بالكرم. توفي سنة 72هـ. وسماه في البداية والنهاية: الأحنف بن قيس، أبو معاوية بن حصين السعدي، أبو بحر البصري، ابن أخي صعصعة بن معاوية، والأحنف لقبه، وإنما اسمه الضحاك، وقيل صخر: (انظر ترجمته في: البداية والنهاية 8/ 335334، المعارف لابن قتيبة ص 423).(5/33)
وقيل لرجل: ليت طول حملنا عنك لا يدعو جهل غيرناك إليك.
وقال: أكرموا سفهاءكم فإنكم يكفونكم العار والنار.
وقال: وإياك والكسل والضجر فإنك إن كسلت لم تؤدّ حقا، وإن ضجرت لم تصبر على حقّ.
وذكر رجلا فقال: لا يحقر ضعيفا، ولا يحسد شريفا.
وقال: الشريف من عدّت سقطاته.
وقيل له: ما اللّؤم؟ قال: الاستعصاء على الملهوف. قيل: فما الجود؟
قال: الاحتيال للمعروف.
وسمع رجلا يقول: ما بتّ البارحة من وجع صرس. وجعل يكثر، فقال له الأحنف: كم تكثر!! فو الله لقد ذهبت عيني منذ ثلاثين سنة، فما قلت لأحد.
وقيل له: ما الحلم؟ قال: الذّل.
وقال: لست بحليتم ولكني أتحالم.
وقال يوم قتل مصعب: انظروا إلى المصعب، على أي دابّة يخرج؟ فإن خرج على بردون فهو يريد الموت، وإن خرج على فرس فهو يريد الهرب.
قال: فخرج على برذون يجر بطنه.
وقال الأحنف: استميلوا النّساء بحسن الأخلاق وفحش النّكاح.
وقال: وجدت الحلم أنصر لي من الرّجال.
جلس معاوية يوما وعنده وجوه الناس، وفيهم الأحنف، إذ دخل رجل من أهل الشام، فقام خطيبا، وكان آخر كلامه: أن لعن عليا عليه السلام، فأطرق الناس، وتكلم الأحنف فقال:
يا أمير المؤمنين إن هذا القائل آنفا ما قال، لو علم أن رضاك في لعن المرسلين للعنهم فاتق الله، ودع عليا، فقد لقي الله، وأفرد في حفرته، وخلا بعمله. وكان والله ما علمنا المبرّز بسيفه، الطاهر في خلقه، الميمون النقيبة، العظيم المصيبة.(5/34)
فقال معاوية: يا أحنف. لقد أغضيت العين عن القذى، وقلت بغير ما ترى، وأيم الله لتصعدنّ المنبر، فلتلعننه طائعا أو كارها.
قال الأحنف: إنّ تعفني فهو خير، وإن تجبرني على ذلك، فو الله لا تجري به شفتاي.
قال: قم، فاصعد. قال: أما والله لأنصفنك في القول والفعل. قال معاوية:
وما أنت قائل إن أنصفتني؟
قال: أصعد فأحمد الله بما هو أهله، وأصلّي على نبيه، ثم أقول:
أيّها الناس، إن معاوية أمرني أن ألعن عليا. ألا وإن عليا ومعاوية اختلفا واقتتلا، وادعى كلّ واحد منهما أنه مبغيّ عليه، وعلى فئته فإذا دعوت فأمّنوا يرحمكم الله. ثم أقول:
اللهم العنت أنت وملائكتك، وأنبياؤك، ورسلك، وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه، والعن الفئة الباغية على الفئة المبغيّ عليها. آمين: ربّ العالمين.
فقال معاوية: إذن نعفيك يا أبا بحر.
وقال له رجل: بم سدت؟ قال: بتركي من أمرك ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
وقال: من حقّ الصديق أن تحتمل له ثلاث: ظلم الغضب، وظلم الدالة، وظلم الهفوة.
خطب معاوية مرة، فقال: إن الله يقول في كتابه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلََّا عِنْدَنََا خَزََائِنُهُ} [الحجر: 21] فعلام تلومونني إذا قصرت في أعطياتكم؟
فقال الأحنف: فجعلته أنت في خرائنك، وحلت بيننا وبينه ولم تنزله إلا بقدر معلوم.
قال: فكأنّما ألقمه حجرا.
وقال: ما نازعني أحد قطّ إلا أخذت عليه بأمور ثلاثة: إن كان فوقي عرفت له قدره.(5/35)
وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه.
وقام بصفّين، فقيل له: أين الحلم يا أبا بحر؟. قال: ذاك عند عقر الحيّ.
وقال: لم تزل العرب تستخفّ بأبناء الإماء حتّى لحق هؤلاء الثاثة عليّ بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله. فاستقل بنو الإماء ولحقوا.
وقال: لا تشاور الجائع جتى يشبع، والعطشان حتّى يروى، ولا الأسير حتى يطلق، ولا المضلّ حتّى يجد، ولا الراعب حتّى ينجح.
وأتى مصعب بن الزبير يكلّمه في قوم حبسهم، فقال: أصلح الله الأمير، إن كانوا حبسوا في باطل فالحقّ يخرجهم، وإن كانوا حبسوا في حقّ فالعفو يسعهم، فخلاهم.
وقال: السّودد، مع السواد. يريد أن السيد من أتته السّيادة في حداثته وسواد رأسه ولحيته.
وجلس على باب زياد، فمرت به ساقية، فوضعت قربتها، وقالت: يا شيخ.
احفظ قربتي حتى أعود، ومضت، وأتاه الآذن. فقال: انهض. قال: لا فإن معي وديعة. وأقام حتّى جاءت.
وشتمه يوما رجل وألح عليه فقال له: يابن أمّي، هل لك في الغداء؟ فإنك منذ اليوم تحدو بجميل ثفال.
وقال: كنا نتختلف إلى قيس بن عاصم في الحلم، كما يختلف إلى الفقهاء في الفقه.
وشتمه رجل، فسكت عنه، فأعاد، فسكت، فقال الرجل: والهفاه. ما يمنعه أن يرد عليّ إلا هواني عليه.
وقال الأحنف: من لم يصبر على كلمة سمع كلمات، وربّ غيظ قد تجرعته مخالفة ما هو أشدّ منه.
وكان إذا أتاه إنسان أوسع له فإن لم يجد موضعا تحرك ليريه أنه يوسع له.(5/36)
وقال: ما جلست قط مجلسا. فخفت أن أقام عنه لغيري.
وكان يقول: إياك وصدر المجلس فإنه مجلس قلعة.
وقال: خير الإخوان من إذا استغنيت عنه لم يزدك في المودة، وإن احتجت إليه لم ينقصك منها. وإن كوثرت عضّدك، وإن احتجت إلى معونته رفدك.
وقال: العتاب مفتاح التّقالي، والعتاب خير من الحقد.
ومر بعكراش بن ذؤيب وكان ممن شهد الجمل مع عائشة فقعطت يداه جميعا. فصاح به عكراش: يا مخذّل. فقال الأحنف: إنك لو كنت أطعتني لأكلت بيمينك وامتسحت بشمالك.
ويقال: إنه لم ير قطّ ضجرا إلا مرة واحدة، فإنه أعطى خياطا قميصا يخيطه، فحبسه حوالين. فأخذ الأحنف بيد ابنه بحر، فأتى به الخياط، وقال: إذا متّ فادفع القميص إلى هذا.
وكان يقول: لا صديق لملول، ولا وفاء لكذوب، ولا راحة لحسود، ولا مروءة لبخيل، ولا سودد لسيّيء الخلق.
وقال: كاد العلماء يكونون أربابا، وكل عزّ لم يوطّد بعلم فإلى ذلّ ما يصير.
قال رجل للأحنف: «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه». قال: وما ذممت منّي يا أخي؟
قال: الدمامة، وقصر القامة. قال: لقد عبت ما لم أؤامر فيه وأسمعه رجل، فأكثر. فلما سكت، قال الأحنف: يا هذا، ما ستر الله أكثر.
وقال: كثرة الضحك تذهب الهيبة، وكثرة المزح، تذهب المروءة، ومن لزم شيئا عرف به.
لما نصّب معاوية ابنه يزيد لولاية العهد أقعده قبة حمراء، فجعل الناس يسلّمون على معاوية، ثم يميلون إلى يزيد حتّى جاءه رجل ففعل ذلك. ثم رجع إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، اعلم أنك لو لم تولّ هذا أمور المسلمين لأضعتها والأحنف جالس فقال له معاوية: ما بألك لا تقول يا أبا بحر!! فقال:
أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت. فقال: جزاك الله عن الطاعة خيرا.(5/37)
لما نصّب معاوية ابنه يزيد لولاية العهد أقعده قبة حمراء، فجعل الناس يسلّمون على معاوية، ثم يميلون إلى يزيد حتّى جاءه رجل ففعل ذلك. ثم رجع إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، اعلم أنك لو لم تولّ هذا أمور المسلمين لأضعتها والأحنف جالس فقال له معاوية: ما بألك لا تقول يا أبا بحر!! فقال:
أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت. فقال: جزاك الله عن الطاعة خيرا.
وأمر له بألوف.
فلما خرج الأحنف لقيه الرجل بالباب، فقال: يا أبا بحر: إني لأعلم أن شر ما خلق الله هذا وابنه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فلسنا نطمع في استخدامها إلا بما سمعت.
فقال له الأحنف: يا هذا أمسك، فإن ذا الوجهين خليق ألا يكون عند الله وجيها.
وقال الأحنف: ألا أدلكم على المحمدة بلا مرزئة: الخلق السجيح (1)
والكفّ عن القبيح.
وقال الأحنف: ألا أخبركم بأدوأ الداء؟ الخلق الدنيء، واللسان البذيء.
وقال: ثلاث فيّ ما أقولهن إلا ليعتبر معتبر: ما دخلت بين اثنين حتّى يدخلاني بينهما، ولا أتيت باب أحد من هؤلاء ما لم أدع إليه يعني: السّلطان ولا خللت حبوتي إلى ما يقوم إليه الناس.
وقيل له: أي المجالس أطيب؟ قال: ما سلم فيه البصر، واتّدع فهى البدن.
وكان يقول: ما تزال العرب يخبر ما لبست العمائم، وتقلدت السيوف ولم تعدّ الحلم ذلّا ولا التواهب بينها ضعة.
قوله: ليست العمائم يريد ما حافظت على زيّها.
وقال: ما شاتمت أحدا منذ كنت رجلا، ولا زحمت ركبتاي ركبتيه، وإذا لم أصل مجتديّ حتّى ينتح (2) جبينه كما تنتح الحميت (3) فو الله ما وصلته.
وقال: إني لأجالس الأحمق الساعة فأتبين ذلك في عقلي.
__________
(1) الخلق السجيع: اللبن السهل.
(2) النتح: العرق، وخروجه من الجلد.
(3) الحميت: المتين من كل شيء، ورعاء السمن مثن بالرّبّ، والزق الصغير، أو الزّق بلا شعر.(5/38)
وقال له معاوية: بلّغني عنك الثقّة. فقال: إن الثقة لا يبلّغ.
وعدّت على الأحنف سقطة وهو أن عمرو بن الأهتم دس إليه رجلا ليسفّهه. فقال: يا أبا بحر: من كان أبوك في قومه؟ قال: كان من أوسطهم، لم يسدهم ولم يتخلف عنهم. فرجع إليه ثانية، ففطن الأحنف أنه من قبل عمرو.
فقال: ما كان مال أبيك؟ قال: كانت له صرمة يمنح منها، ويقري ولم يكن أهتم سلّاحا.
وسمع رجلا يقول: التعلّم في الصّغر، كالنقش على الحجر. فقال الأحنف الكبير أكبر عقلا، ولكنه أشغل قلبا.
ولما قدم على عمر في وفد أهل البصرة وأهل الكوفة فقضى حوائجهم قال الأحنف: إن أهل هذه الأمصار نزلوا على مثل حدقة البعير، من العيون العذاب، تأتيهم فواكههم لم تتغير، وإنا نزلنا بأرض سبخة نشاشة طرف لها بالفلاة. وطرف بالبحر الأجاج يأتينا ما يأتينا في مثل مريء النعامة، فإن لم ترفع خسيستنا بعطاء تفضّلنا به على سائر الأمصار نهلك.
قيل: لما أجمع معاوية على البيعة ليزيد جمع الخطباء فتكلموا والأحنف ساكت فقال: يا أبا بحر. ما منعك من الكلام؟ قال: أنت أعلمنا بيزيد ليله ونهاره، وسره، وعلانيته فإن كنت تعلم أن الخلافة خير له فاستخلفه وإن كنت تعلم أنها شرّ له فلا تولّه الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة فإنما لك ما طاب، وعلينا أن نقول: سمعنا وأطعنا.
وقال الأحنف: المروءة كلّها إصلاح المال، وبذله للحقوق.
وكتب إليه الحسين عليه السلام: فقال للرسول: قد بلونا أبا حسن، وآل أبي حسن، فلم نجد عندهم إيالة للملك، ولا مكيدة في الحرب.
وقال لعليّ عليه السلام: إني قد عجمت الرجل، وحلبت أشطره فوجدته قريب العقر، كليل المدية. يعني أبا موسى الأشعري (1).
__________
(1) أبو موسى الأشعري: هو عبد الله بن قيس بن سليم، أبو موسى، من بني الأشعر، من قحطان، من(5/39)
وكان يقول: ما بعد الصواب إلا الخطأ، وما بعد منعهنّ الأكفاء إلا بذلهن للسفلة والغوغاء.
وكان يقول: لا تطلبوا الحاجة إلى ثلاثة: إلى كذوب فإنه يقرّبها عليك وهي بعيدة، ويباعدها وهي قريبة، ولا إلى أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، ولا إلى رجل له إلى صاحب الحاجة حاجة، فإنه يجعل حاجتك وقاية لحاجته.
وقال: ما كشفت أحدا قطّ عن حال عنده إلا وجدتها دون ما كنت أظنّ.
وقال: رب ملوم لا ذنب له.
وقدم وفد العراق على معاوية: وفيهم الأحنف فخرج الآذن، فقال: إن أمير المؤمنين يعزم عليك ألا يتكلم أحد إلا لنفسه. فلما وصلوا إليه قال الأحنف:
لولا عزمة أمير المؤمنين لأخبرته أن دفة دفت، ونازلة نزلت، ونائبة نابت ونابتة نبتت، كلّهم به حاجة إلى معروف أمير المؤمنين، وبرّه.
قال: حسبك يا أبا بحر، فقد كفيت الغائب والشاهد.
وجرى ذكر رجل عنده فاعتابوه. فقال الأحنف: ما لكم وله؟ يأكل لذّته، ويكفي قرنه، وتحمل الأرض ثقله.
وقال لمعاوية وقد ذكّره مقامه بصفين: والله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا. ولئن مددت بشبر من غدر لنمدن بباع من محتد، ولئن شئت لتستصفينّ كدر قلوبنا بصفو حلمك، قال:
فإني أفعل.
ولما خطب زياد بالبصرة قام الأحنف، فقال: أيها الأمير، قد قلت فأسمعت ووعظت فأبلغت أيّها الأمير، إنما السيف بحدّه، والفرس بشدّه، والرجل بجده، وإنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، ولن نثني حتّى نبتلي.
__________
كبار الصحابة، والولاة الفاتحين، توفي سنة 52هـ. (انظر ترجمته في: كتاب الوفيات 61، الإصابة ترجمة رقم 4889، صفة الصفوة، 1/ 325، الطبقات الكبرى لابن سعد 4/ 79، حلية الأولياء 1/ 256، البداية والنهاية 8/ 47، وفيه: توفي سنة 50هـ، والصحيح سنة 52هـ).(5/40)
وقال الأحنف: لا تعدّنّ شتم الوالي شتما، ولا إغلاظه إغلاظا فإن ريح العزة تبسط اللّسان بالغلظة في غير بأس ولا سخط.
وقال: لا تنقبضوا عن السّلطان ولا تتهالكوا عليه، فإنه من أشرف للسلطان ازدراه، ومن تفرغ له تخطاه.
وقال: ما جلست مذ كنت مجلس قلعة ولا رددت على كفو مقالة تسوءه ولا خاصمت في أمر كريهة لي لأنّ ما بذلت لصاحبها أكثر مما أخاصمه فيه من أجلها.
وقال: كفى بالرجل حزما إذا اجتمع عليه أمران، فلم يدر أيّهما الصّواب أن ينظر أغلبهما عليه فيحذره.
ولما حكّم أبو موسى أتاه الأحنف فقال: يا أبا موسى. إن هذا مسير له ما بعده من عزّ الدنيا أو ذلّها آخر الدهر. ادع القوم إلى طاعة عليّ، فإن أبوا فادعهم إلى أن يختار أهل الشام من قريش العراق من أحبّوا، ويختار أهل العراق من قريش الشام من أحبّوا. وإباك إذا لقيت ابن العاص أن تصافحه بنية أو أن يقعدك على صدر المجلس، فإنها خديعة، أو أن يضكّك وإياه بيت يكمن لك فيه الرجال، ودعه فليتكلم لتكون عليه بالخيار، فإن الباديء مستغلق، والمجيب ناطق.
فما عمل أبو موسى إلا بخلاف ما أشار به. فقال له الأحنف والتقيا بعد ذلك: أدخل والله قدميك في خفّ واحد.
وقال بخراسان: يا بني تميم، تحابّوا وتباذلوا تعتدل أموركم، وابدؤوا بجهاد بطونكم، وفروجكم يصلح دينكم، ولا تغلّوا يسلم لكم جهادكم.
وقال لأهل الكوفة: نحن أبعد منكم سريّة. وأعظم منكم تجربة، وأكثر منكم ذرّية، وأعدى منكم برّية.
ولما قدمت الوفود على عمر قام هلال بن بشر. فقال: يا أمير المؤمنين، إنا غرّة من خلفنا من قومنا، وسادة من وراءنا من أهل مصرنا، وإنك إن تصرفنا بالزّيادة في أعطياتنا، والفرائض لعيالاتنا يزدد بذلك الشريف تأميلا، وتكن لهم أبا وصولا، وإن تكن مع ما نمتّ به من فضائلك، وندلي بأسبابك كالجدّ لا
يحلّ ولا يرحل نرجع بآنف مصلومة، وجدود عاثرة، فمحنا وأهالينا بسجل مترع من سجالك المترعة.(5/41)
ولما قدمت الوفود على عمر قام هلال بن بشر. فقال: يا أمير المؤمنين، إنا غرّة من خلفنا من قومنا، وسادة من وراءنا من أهل مصرنا، وإنك إن تصرفنا بالزّيادة في أعطياتنا، والفرائض لعيالاتنا يزدد بذلك الشريف تأميلا، وتكن لهم أبا وصولا، وإن تكن مع ما نمتّ به من فضائلك، وندلي بأسبابك كالجدّ لا
يحلّ ولا يرحل نرجع بآنف مصلومة، وجدود عاثرة، فمحنا وأهالينا بسجل مترع من سجالك المترعة.
وقام زيد بن جبلة، فقال: يا أمير المؤمنين، سوّد الشريف، وأكرم الحسيب، وازرع عندنا من أياديك ما نسدّ به الخصاصة ونطرد به الفاقة، فإنّا بقف من الأرض يابس الأكناف، مقشعرّ الذروة، لا شجر ولا زرع، وإنا من العرب اليوم إذ أتيناك بمرأى ومسمع.
فقام الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين إن مفاتيح الخير بيد الله، والحرص قائد الحرمان فاتق الله فيما لا يغني عنك يوم القيامة قيلا، ولا قالا واجعل بينك وبين رعيّتك من العدل والإنصاف، سيبا يكفيك وفادة الوفود، واستماحة الممتاح، فإن كل امرئ إنما يجمع في وعائه إلا القل ممن عسى أن تقتحمه الأعين وتخونهم الألسن، فلا يفد إليك.(5/42)
الباب الرابع كلام المهلب وولده (1)
قيل للمهلّب: ما النّبل؟ قال: أن يخرج الرجل من منزله وحده، ويعود في جماعة.
وقال: ما رأيت الرجال يضيق قلوبها عند شيء كما تضيق عند السرّ.
خطب يزيد بن المهلب بواسط، فقال: إنّي قد أسمع قول الرّعاع: قد جاء مسلمة وقد جاء العباس، وقد جاء أهل الشام. وما أهل الشام إلا تسعة أسياف:
سبعة منها معي، واثنان عليّ. وأما مسلمة فجرادة صفراء، وأما العباس فنسطوس بن نسطوس، أتاكم في برابرة وصقالبة، وجرامقة، وأقباط، وأنباط، وأخلاط. إنما أقبل إليكم الفلاحون وأوباش كأشلاء اللحم. والله ما لقوا قط كحدّكم، وحديدكم، وعديدكم أعيروني سواعدكم ساعة من نهار تصفقون بها خراطيمهم. وإنما هي غدوة أو روحة حتّى يحكم الله بيننا وبين القوم الظالمين.
قال المهلب: يا بنيّ، تباذلوا تحابوا، فإن بني الأمّ يختلفون، فكيف ببني العلات؟ إن البر ينسأ في الأجل، ويزيد في العدد، وإن القطيعة تورث القلة، وتعقب النار بعد الذلة. واتقوا زلة اللّسان، فإن الرجل تزلّ رجله، فينتقش، ويزل
__________
(1) هو المهلب بن أبي صفرة ظالم بن سراق الأزدي العتكي، أبو سعيد، أمير بطاش جواد، نشأ في دولة بني أمية، ثم أمّره مصعب بن الزبير على البصرة نيابة عنه في أيام أخيه عبد الله بن الزبير، ثم ولاه عبد الله خراسان، وهو الذي قاتل الخوارج وكسر شوكتهم، قال فيه عبد الله بن الزبير: هذا سيد أهل العراق. توفي زمن ولاية الحجاج سنة 83هـ، أما أولاده فهم: المغيرة، ويزيد، وقبيصة، وعبد الملك، وحبيب، ومحمد، والمفضل، ومدرك (الأعلام 7/ 315، الكامل للمبرد 2/ 244، زهر الآداب 3/ 213).(5/43)
لسانه فيهلك، وعليكم في الحرب بالمكيدة فإنها أبلغ من النجدة فإن القتال إذا وقع دفع القضاء، فإن ظفر فقد سعد، وإن ظفر به لم يقولوا فرّط.
قال الجاحظ (1): قال المهلب: ليس أنمى من سيف. فوجد الناس تصديق قوله فيما قال ولده من السيف، فصار فيهم النّماء.
وقال عليّ عليه السلام: بقية السيف أنمى عددا، وأكرم ولدا. ووجد الناس ذلك بالبيان الذي صار إليه ولده من نهك السيف، وكثرة الذرية وكرم النجل.
ومن كلام المهلب: عجبت لمن يشتري المماليك بماله، ولا يشتري الأحرار بمعروفه.
__________
(1) الجاحظ: هو عمرو بن بحر بن محبوب الكناني، أبو عثمان البصري الإمام اللغوي النحوي المعروف بالجاحظ تلميذ النظام البلخي، كان من المعتزلة رئيس الفرقة الجاحظية، سمي بالجاحظ لجحوظ في عينيه، ولد سنة 150هـ. وتوفي سنة 255هـ قتلته مجلدات من الكتب وقعت عليه.
له من التصانيف: «أخلاق الشطار»، «أخلاق الملوك»، «البيان والتبيين»، «تحصين الأموال»، «جوابات كتاب المعرفة»، «حانوت عطار»، «الرد على أصحاب الإلهام»، «الرد على المشبهة»، «الرد على النصارى»، «رسالة في الحسد»، «سحر البيان»، «سلوة الخريف بمناظرة الربيع والخريف»، «عناصر الأدب»، «فضيلة المعتزلة»، «كتاب آي القرآن»، «كتاب الإبل»، كتاب الأخبار»، «كتاب الإخوان»، «كتاب الاستبداد والمشاورة في الحروب»، «كتاب الاستطاعة»، «كتاب الأصنام»، «كتاب الاعتزال»، «كتاب الإمامة»، «كتاب الأمثال»، «كتاب الأمصار»، «كتاب الأنس والسكن»، «كتاب البخلاء»، «كتاب البغل»، «كتاب البلدان»، «كتاب النبي والمتنبي»، «كتاب التربيع»، «كتاب التسوية بين العرب والعجم»، «كتاب التعبير»، «كتاب التفكر والاعتبار»، «كتاب الجواري»، «كتاب الحجر والفتوة»، «كتاب الحزم والجزم»، «كتاب الحيوان»، «كتاب الخطاب في التوحيد»، «كتاب الدلال»، «كتاب السلطان»، «كتاب السلوك»، «كتاب السودان»، «كتاب الشارب والمشروب»، «كتاب الصرحاء والهجناء»، «كتاب صناعة الكلام»، «كتاب الصولجان»، «كتاب الطبائع»، «كتاب الطفيليين»، «كتاب العثمانية»، «كتاب العرس والعرائس»، «كتاب الفتيان»، «كتاب الفخر بين عبد شمس وبني مخزوم»، «كتاب فخر القحطانية والعدنانية»، «كتاب اللصوص»، «كتاب المحاسن والأضداد»، «كتاب المزاح والجد»، «كتاب المعرفة»، «كتاب المعلمين»، «كتاب المغنين»، «كتاب الناشي والمنتشي»، «كتاب النجم وجوابه»، «كتاب النرد والشطرنج»، «كتاب النساء»، «كتاب الوعيد»، «كتاب الوكلاء والمتوكلين»، «كتاب الهدايا»، «مسائل القرآن»، «مسائل كتاب المعرفة»، «معاني القرآن»، «مقالة في أصول الدين»، «نظم القرآن»، «نقض الطب»، «نوادر الجن». (كشف الظنون 5/ 803802).
وكانت للجاحظ آراء كثيرة، وكان يقول: إن المعارف كلها طباع، وإن العباد لا يفعلون إلا الإرادة فقط، وإن المعارف ضرورية وغير ذلك كثير (انظر الملل والنحل ص 75، الفرق ص 175).(5/44)
وقال يزيد بن المهلب لابنه مخلد حين ولاه جرجان: استظرف كاتبك، واستعقل حاجبك.
قال حبيب بن المهلب: ما رأيت رجلا مستلئما في الحرب إلا كان عندي رجلين، ولا رأيت حاسرين إلا كانا عندي واحدا.
فسمع بعض أهل المعرفة هذا الكلام، فقال: صدق: إن للسلاح فضيلة أما تراهم ينادون عند الصريخ: السّلاح السلاح، ولا ينادون الرّجال، الرجال.
قيل ليزيد بن المهلب: ألا تبني دارا؟ فقال: منزلي دار الإمارة أو الحبس.
أغلظ رجل للمهلب، فحلم عنه، فقيل له: جهل عليك وتحلم عنه؟ فقال:
لم أعرف مساويه، وكرهت أن أبهته بما ليس فيه.
قال يزيد بن المهلب: ما رأيت عاقلا ينوبه أمر إلا كان مقوله على لحييه.
وقيل له: إنك لتلقي نفسك في المهالك. قال: إني إن لم آت الموت مسترسلا أتاني مستعجلا. إنّي لست آتي الموت من حبّه، وإنما آتيه من بغضه، ثم تمثل (1): [الطويل] تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
كتب المهلب إلى الحجاج لما ظفر بالأزارقة: الحمد لله الذي كفى بالإسلام فقد ما سواه، وجعل الحمد متصلا بنعمه، وقضى ألا ينقطع المزيد من فضله، حتى ينقطع الشكر من عباده ثم إنا وعدوّنا كنا على حالين مختلفتين نرى فيهم ما يسرّنا أكثر مما يسوءنا، ويرون فينا ما يسوءهم أكثر ممّا يسرّهم. فلم يزل الله يكثرنا ويمحقهم، وينصرنا ويخذلهم على اشتداد شوكتهم فقد كان علن أمرهم حتّى ارتاعت له الفتاة، ونوّم به الرضيع، فانتهزت منهم الفرصة في وقت إمكانها، وأدنيت السواد، من السّواد حتّى تعارفت الوجوه، فلم نزل كذلك حتّى بلغ بنا وبهم الكتاب أجله. {فَقُطِعَ دََابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (45) [الأنعام: 45].
__________
(1) البيت للحصين بن الحمام المري في الأغاني 12/ 310 (طبعة دار الكتب العلمية).(5/45)
وقال المهلب لبنيه: يا بني إذا غدا عليكم الرجل، ولاح مسلّما، فكفى بذلك تقاضيا.
وقيل له: أيّ المجالس خير؟ قال: ما بعد فيه مدى الطرف، وكثرت فيه فائدة الجليس.
قال المهلب: العيش كلّه في الجليس الممتع.
وقال يزيد بن المهلب: ما يسرّني أنّي كفيت أمر الدنيا. قيل له: ولم؟ قال:
أكره عادة العجز.
وقال المهلب لبنيه: إذا وليتم فلينوا للمحسن، واشتدّوا على المريب فإن الناس للسّلطان أهيب منهم للقرآن.
وكان يقول: أدنى أخلاق الشريف كتمان السّر، وأعلى أخلاقه نسيان ما أسر إليه.
ولما استخلف ابنه المغيرة على حرب الخوارج، وعاد هو إلى مصعب بن الزبير جمع الناس فقال لهم: إنّي قد استخلفت عليكم المغيرة، وهو أبو صغيركم رقة ورحمة، وابن كبيركم طاعة وبرا وتبجيلا، وأخو مثله مواساة ومناصحة.
فلتحسن له طاعتكم، وليلن له جانبكم فو الله ما أردت صوابا قطّ إلا سبقني إليه.
وكان الحجاج كتب إليه وهو في وجه الخوارج: أما بعد فإنه بلغني أنك قد أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدوّ. وإني ولّيتك وأنا أرى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعي، وعباد بن حصين الحبطي، واخترتك وأنت من أهل عمان، ثم رجل من الأزد. فالقهم يوم كذا في مكان كذا وإلا أشرعت إليك صدر الرماح، فشاور بنيه، فقالوا: إنه أمير فلا تغلظ عليه في الجواب.
فأجابه المهلب: ورد عليّ كتابك، تزعم أني أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدو. ومن عجز عن جباية الخراج فهو عن قتال العدوّ أعجز وزعمت أنك وليتني، وأنت ترى مكان عبد الله بن حكيم، وعباد بن حصين ولو وليتهما لكانا مستحقّين لذلك في فضلهما، وغنائهما، وبطشهما. وإنك اخترتني وأنا رجل من الأزد. ولعمري إن شرا من الأزد لقبيلة تنازعها ثلاث قبائل لم تستقر
في واحدة منهن. وزعمت أنّي إن لم ألقهم في يوم كذا أشرعت إليّ صدر الرّمح.(5/46)
فأجابه المهلب: ورد عليّ كتابك، تزعم أني أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدو. ومن عجز عن جباية الخراج فهو عن قتال العدوّ أعجز وزعمت أنك وليتني، وأنت ترى مكان عبد الله بن حكيم، وعباد بن حصين ولو وليتهما لكانا مستحقّين لذلك في فضلهما، وغنائهما، وبطشهما. وإنك اخترتني وأنا رجل من الأزد. ولعمري إن شرا من الأزد لقبيلة تنازعها ثلاث قبائل لم تستقر
في واحدة منهن. وزعمت أنّي إن لم ألقهم في يوم كذا أشرعت إليّ صدر الرّمح.
فلو فعلت لقلبت إليك ظهر المجنّ والسلام.
ووجه الحجاج إليه الجراح بن عبد الله يستبطئه في مناجزة القوم. وكتب إليه: أما بعد، فإنك جبيت الخراج بالعلل، وتحصنت بالخنادق، وطاولت القوم، وأنت أعزّ ناصرا، وأكثر عددا، وما أظنّ بك مع هذا معصية ولا جبنا، ولكنك اتخذتهم أكلا. وكان بقاؤهم أيسر عليك من قتالهم. فناجزهم، وإلا أنكرتني.
والسلام.
فقال المهلب للجراح: يا أبا عقبة. والله ما تركت حيلة إلا احتلتها، ولا مكيدة إلا أعملتها. وما العجب من إبطاء النصر، وتراخي الظفر، ولكن العجب أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره.
ثم ناهضهم ثلاثة أيام يغاديهم القتال، ولا يزالون كذلك إلى العصر، حتى قال الجراح: قد أعذرت وينصرف أصحابه. وبهم قرح، وبالخوارج قرح، وقتل.
وكتب المهلب إلى الحجاج: أتاني كتابك: تستبطئني في لقاء القوم، على أنك لا تظنّ بي معصية ولا جبنا، وقد عاتبتني معاتبة الجبان، وواعدتني وعيد العاصي. فسل الجراح، والسلام.
وكتب إليه الحجاج: أما بعد. فإنك تتراخى عن الحرب حتّى يأتيك رسلي فيرجعوا بعذرك، وذاك أنك تمسك حتّى تبرأ الجراح، وتنسى القتلى، ويجمّ الناس، ثم تلقاهم فتحتمل منهم مثل ما يحتملون منك من وحشة القتل، وألم الجراح. ولو كنت تلقاهم بذلك الجد لكان الداء قد حسم، والقرن قد قصم.
ولعمري ما أنت والقوم سواء لأنّ من ورائك رجالا، وأمامك أموالا. وليس للقوم إلا ما معهم؟ ولا يدرك الوجيف (1) بالدبيب ولا الظفر بالتعذير.
فكتب المهلب إليه: أما بعد. فإني لم أعط رسلك على قول الحقّ أجرا، ولم أحتج منهم مع المشاهدة إلى تلقين. ذكرت أنّي أجمّ القوم، ولا بد من راحة
__________
(1) الوجيف: ضرب من سير الإبل والخيل، وأوجف دابته إذا حثّها.(5/47)
يستريح فيها الغالب، ويحتال فيها المغلوب، وذكرت أنّ في الجمام ما ينسى القتلى، ويبرئ الجراح، وهيهات أن ينسى ما بيننا وبينهم تأتي ذلك قتلي لم تجن، وقروح لم تتقرف. ونحن والقوم على حالة وهم يرقبون منا حالات، إن طمعوا حاربوا، وإن ملّوا وقفوا، وإن يئسوا انصرفوا، وعلينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا، ونتحرز إذا وقفوا، ونطلب إذا هربوا فإن تركتني والرأي كان القرن مفصوما، والداء بإذن الله محسوما، وإن أعجلتني لم أطعك، ولم أعص، وجعلت وجهي إلى بابك وأنا أعوذ بالله من سخط الله عزّ وجلّ ومقت النّاس!
وخطب يزيد بن المهلب بواسط!
فقال: يا أهل العراق، يا أصحاب السبق والسّباق، ومكارم الأخلاق. إن أهل الشام في أفواههم لقمة دسمة قد زيّنت لها الأشداق، وقاموا لها على ساق، وهم غير تاركيها لكم بالمراء والجدال، فألبسوا لهم جلودا النمر.
وقيل للمهلب في بعض حروبه: لو نمت. فقال: إن صاحب الحرب إذا نام نام جدّه.
وقال: كفى بالمرء مسألة أن يغدو عليك ويروح.
وقال له رجل: إن لي حاجة لا ترزؤك في مالك، ولا تنكدك في نفسك قال: والله لا قضيتها. قال: ولم؟ قال: لأن مثلي لا يسأل مثلها.
وقال: ما السيف الصارم في كف الشجاع بأعز من الصّدق؟
ومر بقوم من ربيعة في مجلس لهم، فقال رجل من القوم: هذا سيّد الأزد، قيمته خمسمائة درهم. فسمعه المهلب، فأرسل إليه بخمسمائة درهم. قال: دونك يا ابن، قيمة عمّك، ولو كنت زدت فيها لزدتك.(5/48)
الباب الخامس كلام أبي مسلم (1)
قيل له: ما كان سبب خروج الدولة عن بني أمية؟ فقال: ذلك لأنهم أبعدوا أولياءهم ثقة بهم، وأدنوا أعداءهم تألّفا لهم فلم يصر العدوّ بالدّنو صديقا وصار الصديق بالعباد عدوّا.
وقيل له في حداثته: إنا نراك تأرق كثيرا، ولا تنام كأنك موكل برعي الكواكب، أو متوقّع للوحي من السماء. فقال: والله ما هو ذاك، ولكن لي رأي جوال، وغريزة تامة، وذهن صاف، وهمة بعيدة ونفس تتوق إلى معالي الأمور مع عيش كعيش الهمج والرّعاع، وحال متناهية من الاتّضاع، وإنّي لأرى بعض هذا مصيبة لا تجبر بسهر، ولا تتلافى بأرق.
قيل له: فما الذي يبرد عليك، ويشفي أجاج صدرك؟ قال: الظفر بالملك.
قيل له: فاطلب. قال: إن الملك لا يطلب إلا بركوب الأهوال. قيل:
فاركب الأهوال. قال: هيهات. العقل مانع من ركوب الأهوال. قيل: فما تصنع وأنت تبلى حسرة وتذوب كمدا؟. قال: سأجعل من عقلي بعضه جهلا، وأحاول به خطرا، لأنال بالجهل ما لا ينال إلا به. وأدبّر بالعقل ما لا يحفظ إلا بقوته، وأعيش عيشا يبين مكان حياتي فيه من مكان موتي عليه، فإنّ الخمول أخو العدم والشّهرة أبو الكون.
__________
(1) أبو مسلم الخراساني: هو عبد الرحمن بن مسلم، أبو مسلم صاحب دولة بني العباس، ويقال له:
أمير آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال الخطيب البغدادي: يقال له عبد الرحمن بن مسلم بن شيرون بن اسفنديار، أبو مسلم المروزي، صاحب الدولة العباسية، كان فاتكا ذا رأي وعقل وتدبير وحزم، قتله أبو جعفر المنصور بالمدائن سنة 137هـ. (انظر البداية والنهاية 10/ 7569).(5/49)
قال رجل من أهل العراق: أوصاني أبو مسلم وآنسني، ثم سألني، فقال:
أيّ الأعراض أدنى؟ فقلت: عرض بخيل. قال: كلا. رب بخل لم يكلم عرضا.
قلت: فأيها أصلح الله الأمير؟ قال: عرض لم يرتع فيه حرب ولا دم.
قال أبو زيد: سمعت رؤبة يقول: ما رأيت أروى لأشعارنا من أبي مسلم من رجل يرتضخ لكنة. قال أبو زيد: وإذا قال رؤبة لرجل يرتضخ لكنة فهو من أفصح الناس.
وقال أبو مسلم: أشد من يقاتلكم ممتعض من ذلة، أو محام على ديانة أو غيور على حرمة.
كان فاذوسبان من كبار أهل نيسابور، وكان له عند أبي مسلم يد في اجتيازه إلى خراسان، فكان يرعى له ذلك. فقال له يوما الفاذوسبان: أيّها السّلّار وبذلك كان يخاطب أبو مسلم قبل قتله ابن الكرماني: هل مال قلبك إلى أحد بخراسان؟
فقال: كنت في ضيافة رجل يقال له فلان السمرقندي، فقامت بين يديّ جارية له توضّيني فاستحليتها قال: فانفذ الفاذوسبان إلى سمرقند، واحتال في تحصيل الجارية، ثم أضاف أبا مسلم، وأمرها بأن توضئه، فلما نظر إليها عرفها، فوهبها له الفاذوسبان وكان لا يحجب عن أبي مسلم في أي وقت جاءه، فدخل إليه يوما فوجده نائما في فراشه، فانصرف فأمر أبو مسلم برده، فجاء حتّى وقف عليه رآه مضاجعا تلك الجارية وهما في ثيابهما وبينهما سيف مسلول. فقال: يا فاذوسبان، إنما أحببت أن تقف على صورة منامي، لتعلم أن من قام بمثل ما قمت به لا يفرغ إلى مباشرة النّساء. وأنشد (1): [البسيط] قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم ... دون النّساء ولو باتت بأطهار
وكتب المنصور إليه: أحص خزائن عبد الله عليّ. فقال أبو مسلم لتعطينّ:
قل له: يا بن سلامة: نحن أمناء على الدماء، خونة على الأموال.
كتب عبد الحميد (2) عن مروان كتابا إلى أبي مسلم: صاحب الدولة. وقال
__________
(1) البيت للأخطل في ديوانه ص 84، وحماسة البحتري ص 34، ونوادر أبي زيد ص 150.
(2) هو عبد الحميد بن يحيى بن سعد، مولى بني عامر، الكاتب البليغ المشهور، ضرب به المثل في(5/50)
لمروان: إني قد كتبت إن نجع فذاك وإلا فالهلاك.
وكان من كبر حجمه يحمل على جمل، وكان نفث فيه خراشيّ صدره، وضمّنه غرائب عجره وبجره. وقال: إني ضامن أنّه متى قرأ الرسول على المستكفين قول أبي مسلم، ذلك بمشهد منه أنهم يختلفون وإذا اختلفوا كلّ حدّهم، وذل جدّهم.
فلما ورد الكتاب على أبي مسلم دعا بنار فطرحه فيها إلّا قدر ذراع فإنه كتب عليه (1): [الطويل] محا السّيف أسطار البلاغة وانتحى ... عليك ليوث الغاب من كل جانب
فإن تقدموا نعمل سيوفا شحيذة ... يهون عليها العتب من كلّ عاتب
وردّه. فحينئذ وقع اليأس من معالجته.
ولما بلغه خبر وفاة السفاح في طريق مكة عائدا. وكان قد تقدم المنصور كتب إليه: لأبي جعفر من أبي مسلم. أما بعد: فإن أبا العباس قد هلك، وإن تحتج إليّ تجدني بحيث تحب. فلما وبّخه أبو جعفر عند قتله قال: وتكاتبني وأنا الخليفة لأبي جعفر من أبي مسلم.
وشجر بين أبي مسلم وصاحب مرو كلام أربى فيه صاحب مرو عليه فاحتمله أبو مسلم. فندم صاحب مرو، ورجع إلى أبي مسلم معتذرا.
فقال له أبو مسلم: مه؟ لسان سبق، ووهم أخطأ، والغضب شيطان وأنا جرّأتك عليّ باحتمالك فإن كنت للذنب معتمدا، فقد شاركتك فيه. وإن كنت مغلوبا، فالعفو يسعك.
__________
البلاغة، حتى قيل: فتحت الرسائل بعبد الحميد، وختمت بابن العميد، كان إماما في الكتابة في كل فن من العلم والأدب، وهو من أهل الشام، وأوّل من أطال الرسائل واستعمل التحميدات في فصول الكتب، وكان كاتب مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، وقتل معه سنة 132هـ، بقرية يقال لها بوصير من أعمال الفيوم بالديار المصرية. (وفيات الأعيان 3/ 232228، الأعلام 3/ 289 290).
(1) البيتان في نهاية الأرب 7/ 251.(5/51)
فقال له صاحب مرو: وعظم ذنبي يمنع قلبي من الهدوء، فقال أبو مسلم يا عجبا، أقابلك بإحسان وأنت مسيء، ثم أقابلك بإساءة وأنت محسن.
وقال صاحب مرو: الآن وثقت بك.
وكتب إلى السفاح: أرح نفسك من كبشي العراق: سليم بن حبيب بن المهلب، وعبد الرحمن بن يزيد بن المهلب. فقتلهما جميعا.
وكان أوّل من أظهر السّواد بالبصرة عبد الرحمن بن يزيد، وجعل يقول حين دعا إلى بني هاشم: أما والله إني لأفعل هذا، وأعلم أنّي من ذبائحهم.
قيل لأبي مسلم: من أشجع؟ قال: كلّ قوم في إقبال دولتهم.(5/52)
الباب السادس كلام جماعة من الأمراء
خطب يوسف بن عمر (1)، فقال: اتقوا الله عباد الله. فكم من مؤمّل أملا لا يبلغه، وجامع ما لا يأكله، ومانع ما سوف يتركه، ولعله من باطل جمعه، ومن حقّ منعه. أصابه حراما وورّثه عدوا، واحتمل إصره، وباء بوزره، وورد على ربّه آسفا لاهفا خسر الدنيا والآخرة {ذََلِكَ هُوَ الْخُسْرََانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11].
صعد ورد بن حاتم المنبر، فلما رآهم قد فتحوا أسماعهم، وشقّوا أبصارهم نحوه قال: نكّسوا رؤوسكم، وغضّوا أبصاركم، فإنّ أوّل مركب صعب، وإذا يسّر الله فتح قفل تيسّر.
كان يوسف بن عمر يقول: كان الحجاج الدخان وأنا اللهب؟
قام خالد بن عبد الله (2) على المنبر بواسط خطيبا. فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: أيّها الناس تنافسوا في المكارم، وسارعوا في المغانم، واشتروا الحمد بالجود، ولا تكتسبوا بالمطل ذما ولا تعتدّوا بالمعروف ما لم تعجّلوه، ومهما يكن لأحدكم عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها فالله أحسن لها جزاء وأجزل عليها عطاء، واعلموا أن حوائج النّاس إليكم نعم من الله
__________
(1) هو يوسف بن عمر بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود الثقفي ابن عم الحجاج بن يوسف الثقفي، ولاه هشام بن عبد الملك بن مروان اليمن ثم العراق سنة 120هـ، فلما ولي الخلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك أقره على ولاية العراق، قتل سنة 137هـ (وفيات الأعيان 2/ 360).
(2) هو خالد بن عبد الله بن زيد بن أسد بن كرز القسري، ولي العراقين في عهد هشام بن عبد الملك، كان من خطباء العرب المعدودين المشهورين بالفصاحة والبلاغة، توفي سنة 126هـ، (الكامل في التاريخ 1/ 377، البيان والتبيين 3/ 146، 157، نهاية الأرب 2/ 118).(5/53)
عليكم، فلا تملّوا النّعم فتتحول نقما. وأعلموا أن أفضل المال ما أكسب أجرا، وورّث ذكرا، ولو رأيتم المعروف رجلا رأيتموه حسنا جميلا يسرّ الناظرين ويفوق العالمين. ولو رأيتم البخل رجلا رأيتموه مشوّها قبيحا تنفر عنه القلوب وتغضي عنه الأبصار. أيها الناس: إن أجود الناس من أعطي من لا يرجوه، وأعظم الناس عفوا من عفا عن قدرة، وأوصل الناس من وصل من قطعه ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته. والأصول عن مغارسها تنمو، وبأصولها تسمو. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
أراد رجل أن يمدح رجلا عند خالد بن عبد الله، فقال: والله لقد دخلت إليه فرأيته أهدى الناس دارا وفرشا وآلة. فقال خالد: لقد ذممته من حيث أردت مدحه هذا والله حال من لم تدع فيه شهوته للمعروف فضلا.
حدث بعضهم قال: لما ولي أبو بكر بن عبد الله المدينة وطال مكثه عليها كان يبلغه عن قوم من أهلها تناول لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإسعاف من آخرين لهم على ذلك، فأمر أهل البيوتات، ووجوه الناس في يوم جمعة أن يقربوا من المنبر، فلما فرغ من خطبة الجمعة قال: «أيّها الناس: إنّي قائل قولا، فمن وعاه وأداه فعلى الله جزاؤه ومن لم يعه فلا يعدمنّ ذما. مهما قصرتم من تفصيله فلن تعجزوا عن تحصيله، فارعوه أبصاركم، وأوعوه أسماعكم، وأشعروه قلوبكم فالموعظة حياة والمؤمنون إخوة. وعلى الله قصد السبيل، ولو شاء لهداكم أجمعين.
فأتوا الهدى تهتدوا، واجتنبوا الغي ترشدوا {وَتُوبُوا إِلَى اللََّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. والله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه أمركم بالجماعة، ورضيها لكم، ونهاكم عن الفرقة، وسخطها منكم {اتَّقُوا اللََّهَ حَقَّ تُقََاتِهِ وَلََا تَمُوتُنَّ إِلََّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللََّهِ جَمِيعاً وَلََا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدََاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوََاناً وَكُنْتُمْ عَلى ََ شَفََا حُفْرَةٍ مِنَ النََّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهََا} [آل عمران: 102و 103] جعلنا الله وإياكم ممن تتبع رضوانه، وتجنب سخطه، فإنما نحن به وله.
إن الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالدين، واختاره على العالمين، واختار له أصحابا
على الحقّ، ووزراء دون الخلق، اختصهم به، وانتخبهم له، فصدقوه، ونصروه، وعزروه، ووقروه، فلم يقدموا إلا بأمره، ولم يحجموا إلا عن رأيه، وكانوا أعوانه بعهده، وخلفاءه من بعده، فوصفهم فأحسن صفتهم، وذكرهم فأثنى عليهم، فقال وقوله الحقّ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللََّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدََّاءُ عَلَى الْكُفََّارِ رُحَمََاءُ بَيْنَهُمْ تَرََاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللََّهِ وَرِضْوََاناً سِيمََاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذََلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرََاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى ََ عَلى ََ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرََّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفََّارَ وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (29) [الفتح: 29].(5/54)
إن الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالدين، واختاره على العالمين، واختار له أصحابا
على الحقّ، ووزراء دون الخلق، اختصهم به، وانتخبهم له، فصدقوه، ونصروه، وعزروه، ووقروه، فلم يقدموا إلا بأمره، ولم يحجموا إلا عن رأيه، وكانوا أعوانه بعهده، وخلفاءه من بعده، فوصفهم فأحسن صفتهم، وذكرهم فأثنى عليهم، فقال وقوله الحقّ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللََّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدََّاءُ عَلَى الْكُفََّارِ رُحَمََاءُ بَيْنَهُمْ تَرََاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللََّهِ وَرِضْوََاناً سِيمََاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذََلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرََاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى ََ عَلى ََ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرََّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفََّارَ وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (29) [الفتح: 29].
فمن غاظوه فقد كفر، وخاب، وفجر، وخسر، وقال عز وجل: {لِلْفُقَرََاءِ الْمُهََاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيََارِهِمْ وَأَمْوََالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللََّهِ وَرِضْوََاناً وَيَنْصُرُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ أُولََئِكَ هُمُ الصََّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدََّارَ وَالْإِيمََانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هََاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلََا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حََاجَةً مِمََّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كََانَ بِهِمْ خَصََاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جََاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنََا وَلِإِخْوََانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونََا بِالْإِيمََانِ وَلََا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنََا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنََا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} (10) [الحشر: 108].
فمن خالف شريطة الله عليه لهم، وأمره إياه فيهم، فلا حق له في الفيء، ولا سهم له في الإسلام في آي كثيرة من القرآن، فمرقت مارقة من الدين وفارقوا المسلمين، وجعلوهم عضين، وتشعبوا أحزابا أشابات، وأوشابا، فخالفوا كتاب الله فيهم، وثناءه عليهم، وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيهم، فخابوا، وخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. {أَفَمَنْ كََانَ عَلى ََ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوََاءَهُمْ} (14) [محمد: 14].
ما لي أرى عيونا خزرا، ورقابا صعرا، وبطونا بجرا، وشجى لا يسيغه الماء، وداء لا يشرب فيه الدواء: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} (5) [الزخرف: 5]. كلا والله، بل هو الهناء، والطّلاء حتّى يظهر العذر، ويبوخ الشرّ ويضح الغيب، ويسوّس الجنب، فإنكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا
سدى ويحكم إنّي لست أتاويّا (1) أعلم، ولا بدويّا أفهم، قد حلبتكم أشطرا، وقلبتكم أبطنا، وأظهرا فعرفت أنحاءكم، وأهواءكم، وعلمت أن قوما أظهروا الإسلام بألسنتهم، وأسرّوا الكفر في قلوبهم، فضربوا بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وولّدوا الروايات فيهم، وضربوا الاثنين، ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أبنائهم أعوانا يأذنون لهم، ويصغون إليهم. مهلا مهلا. قبل وقوع القوارع وحلول الروائع، هذا لهذا، ومع ذلك فلست أعتنش (2) آئبا ولا أؤنب تائبا. {عَفَا اللََّهُ عَمََّا سَلَفَ وَمَنْ عََادَ فَيَنْتَقِمُ اللََّهُ مِنْهُ وَاللََّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقََامٍ} [المائدة: 95]: فأسرّوا خيرا، وأظهروه وأجهروا به، وأخلصوا، فطالما مشيتم القهقري ناكصين، وليعلم من أدبر وأسرّ أنها موعظة بين يدي نقمة.(5/55)
ما لي أرى عيونا خزرا، ورقابا صعرا، وبطونا بجرا، وشجى لا يسيغه الماء، وداء لا يشرب فيه الدواء: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} (5) [الزخرف: 5]. كلا والله، بل هو الهناء، والطّلاء حتّى يظهر العذر، ويبوخ الشرّ ويضح الغيب، ويسوّس الجنب، فإنكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا
سدى ويحكم إنّي لست أتاويّا (1) أعلم، ولا بدويّا أفهم، قد حلبتكم أشطرا، وقلبتكم أبطنا، وأظهرا فعرفت أنحاءكم، وأهواءكم، وعلمت أن قوما أظهروا الإسلام بألسنتهم، وأسرّوا الكفر في قلوبهم، فضربوا بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وولّدوا الروايات فيهم، وضربوا الاثنين، ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أبنائهم أعوانا يأذنون لهم، ويصغون إليهم. مهلا مهلا. قبل وقوع القوارع وحلول الروائع، هذا لهذا، ومع ذلك فلست أعتنش (2) آئبا ولا أؤنب تائبا. {عَفَا اللََّهُ عَمََّا سَلَفَ وَمَنْ عََادَ فَيَنْتَقِمُ اللََّهُ مِنْهُ وَاللََّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقََامٍ} [المائدة: 95]: فأسرّوا خيرا، وأظهروه وأجهروا به، وأخلصوا، فطالما مشيتم القهقري ناكصين، وليعلم من أدبر وأسرّ أنها موعظة بين يدي نقمة.
ولست أدعوكم إلى هوى يتبع، ولا إلى رأي يبتدع، إني أدعوكم إلى الطريقة المثلى التي فيها خير الآخرة والأولى.
فمن أجاب فإلى رشده، ومن عمي فعن قصده، فهلم إلى الشرائع لا إلى الخدائع ولا تولّوا عن سبيل المؤمنين، ولا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، {بِئْسَ لِلظََّالِمِينَ بَدَلًا} (50) [الكهف: 50]. وإياكم وبنيّات الطريق فعندها الترنيق، والرهق وعليكم بالجادة فهي أسدّ وأورد، ودعوا الأمانيّ فقد أردت من كان قبلكم، وليس للإنسان إلا ما سعى، ولله الآخرة والأولى و {لََا تَفْتَرُوا عَلَى اللََّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذََابٍ وَقَدْ خََابَ مَنِ افْتَرى ََ} (61) [طه: 61]، {رَبَّنََا لََا تُزِغْ قُلُوبَنََا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنََا وَهَبْ لَنََا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهََّابُ} (8) [آل عمران: 8].
قالوا: إن قتيبة بن مسلم قال لما قدم خراسان: من كان في يده شيء من مال عبد الله بن خازم فلينبذه، وإن كان في فيه فليلفظه، وإن كان في صدره فلينفثه.
فعجب الناس من حسن ما فصّل وقسّم.
وقال قتبيبة: إن الحريص يستعجل الذّلة قبل إدراك البغية.
أهدى عبيد الله بن السّدي إلى عبد الله بن طاهر لما ولي مصر مائة
__________
(1) الأتاوي والأتي: الرجل الغريب.
(2) اعتنش: ظلم.(5/56)
وصيف، مع كلّ وصيف ألف دينار، ووجه بذلك ليلا، فرده، وبعث إليه: لو قبلت هديتك ليلا لقبلتها نهارا وما {آتََانِيَ اللََّهُ خَيْرٌ مِمََّا آتََاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل: 36].
قال المأمون لطاهر بن الحسين: صف لي عبد الله ابنك. قال: إن مدحته هجّنته، وإن هجوته ظلمته. ولد الناس ابنا، وولدت ابنا يحسن ما أحسن ولا أحسن ما يحسن.
وليّ عبد الله بن طاهر رجلا بريد ما وراء النهر، فكتب إليه: إنّ ها هنا قوما من العرب قد تعصبوا، وتأشبوا (1)، وأظنّ أمرهم سيرتقي إلى ما هو أغلظ منه.
فكتب إليه عبد الله: إنما بعثت للأخبار السابقة والحوادث الظّاهرة لا للكهانة والتظنّي.
قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: لا ينقضي عجبي من ثلاثة: إفلات عبّاس بن عمرو من القرمطيّ، وهلك أصحابه، ووقوع الصغار، وإفلات أصحابه، وولاية ابني الجسرين وأنا متعطّل.
وقال محمد بن عبد الله بن طاهر لولده: عفّوا تشرفوا، واعشقوا تظرفوا.
وقال عبيد الله بن عبد الله في علته: لم يبق علي من بأس الزمان إلا العلة والخلة وأشدهما عليّ أهونهما على الناس، ولأنّ ألم جسمي بالأوجاع أهون عليّ من ألم قلبي للحقّ المضاع.
جرى ذكر رجل في مجلس سلم بن قتيبة (2)، فنال منه بعضهم، فأقبل سلم فقال: يا هذا أو حشتنا من نفسك، وأيأستنا من مودتك، ودللتنا على عورتك.
قال بعضهم: كنت عند يزيد بن حاتم بإفريقية، وكنت به خاصّا فعرض عليه تاجر أدراعا، فأكثر تقليبها، ومزاولة صاحبها. فقلت له: أصلح الله الأمير. فعلام تلوم السّوق؟ فقال: ويحك!! إني لست أشتري أدراعا إنما اشتري أعمارا.
__________
(1) تأشّبوا: اجتمعوا واختلطوا.
(2) هو عبد الله سلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي الخراساني، والي البصرة، كان من الموثوق بهم في الدولتين الأموية والعباسية، توفي سنة 149هـ (الأعلام 3/ 111).(5/57)
قال المأمون لطاهر بن الحسين: أشر علي بإنسان يكفيني أمر مصر والشام. فقال له طاهر: قد أصبته. قال: من هو؟ قال: عبد الله ابني، وخادمك، وعبدك. قال: كيف شجاعته؟ قال: معه ما هو خير من ذلك. قال له المأمون:
وما هو؟ قال: الحزم.
قال: فكيف سخاؤه؟ قال: معه ما هو خير من ذلك. قال: وما هو؟ قال:
التنزّه وخلف النفس.
قال: فلواه فعفّ عن إصابة خمسة آلاف ألف دينار.
وهب المأمون لطاهر الهني والمري وهما نهران بقرب الرقة فقال: يا أمير المؤمنين: كفى بالمرء شرها أن يأخذ كل ما أعطي، ما هما يا أمير المؤمنين من ضياع السّوقة، ما يصلحان إلا لخليفة أو وليّ عهد. فلم يقبلهما.
كتب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم إنّي قد طلقت أم خالد بنت قطن الهلالية عن غير ريبة، ولا سوء، فتزوّجها.
فكتب إليه قتيبة: إنه ليس كلّ مطالع الأمير أحبّ أن أطلع.
فقال الحجاج: ويل أمّ قتيبة، وأعجبه ذلك.
كان خالد بن عبد الله القسري مال عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، وتنقّصه على المنابر، وذكر أنه اتخذ طستا في المسجد بالكوفة، ميضأة، وخرق قناة من الفرات إليها. ثم أخذ بيد أسقف النصارى يمشي في مسجد عليّ حتى وقف على الطست. ثم قال للأسقف: ادع فيها بالبركة. فو الله لدعاؤك عندي أرجى من دعاء عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه وسلامه على عليّ، وغضبه على خالد.
وقدم عليه محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان يستمنحه، فلم يفعل بما يحب، فقال: أما المنافع فلهذين الهاشميّين. يعني: داود بن عليّ بن عبد الله بن العباس، وزيد بن عليّ (1) عليه السلام.
__________
(1) زيد بن علي: يقال له زيد الشهيد، وهو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عدّه(5/58)
وأما نحن فليس لنا إلا شتمه عليّا على المنبر. فبلغ ذلك خالدا فقال: إن أحب تناولنا له عثمان بشيء. وكان لعنه الله يلعن على المنابر عليّا عليه السلام فيقول: لعن الله لاعن عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وآله زوج ابنته وأبا الحسن والحسين، ثم يقبل على الناس فيقول: أكنيت.
وبني خالد بيعة لأمّه وكانت نصرانية فاستعفاه المسلمون منها.
فقال: لعن الله دينهم إن كان شرّا من دينكم.
قال المأمون لطاهر: يا أبا الطيّب صف لي أخلاق المخلوع (1).
قال: كان يا أمير المؤمنين واسع الطرب، ضيّق الأدب، يبيح لنفسه ما تعافه همم ذوي الأقدار. قال: كيف كانت حروبه؟ قال: كان يجمع الكتائب بالتبذير، ويفضّها عنه بسواء التدبير. قال: فكيف كنتم له؟ قال: كنا أسدا تبيت، وفي أشداقها حلوق الناكثين، وتحت صدورها صدور المارقين.
قال: أما أنه أوّل من يأخذ الله بدمه يوم القيامة ثلاثة، لست أنا ولا أنت رابعهم، وخامسهم: الفضل بن الربيع، وبشر بن المعتمر، والسندي بن شاهك.
والله ثأر أخي، وعندهم دمه.
مرض عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، فركب إليه الوزير، فلما انصرف عنه كتب إليه عبيد الله: ما أعرف أحدا جزى العلة خيرا غيري، فإني جزيتها الخير، وشكرت نعمتها علي، إذ كانت إلى رؤيتك مؤدّية. فأنا كالأعرابيّ الذي جزى يوم الروع خيرا فقال: [الطويل] جزى الله يوم الروع خيرا فإنّه ... أرانا على علاته لقيّ ثابت
وكتب المأمون إلى طاهر يسأله عن استقلال ابنه عبد الله.
__________
الجاحظ من خطباء بني هاشم، قتله يوسف بن عمر أحد ولاة الأمويين وصلب جثته بالكناسة قرب الكوفة سنة 122هـ (الأعلام 3/ 59).
(1) المخلوع: هو محمد الأمين ابن هارون الرشيد، أخو المأمون، تولى الخلافة قبل المأمون، فثار عليه المأمون وخلعه، قتل سنة 198هـ (البداية والنهاية 10/ 258255).(5/59)
فكتب طاهر إليه: عبد الله يا أمير المؤمنين ابني. وإن مدحته ذممته وإن ذممته ظلمته، ولنعم الخلف هو لأمير المؤمنين من عبده.
فكتب إليه المأمون: ما رضيت أن قرّظته في حياتك حتّى أوصيتنا به بعد وفاتك.
قال طاهر: طول العمر ثائر مولاه لأنّه لا يخليك من رؤية محبة في عدوّ.
قال الكلبيّ: قال لي خالد بن عبد الله بن يزيد القسري: ما يعدّ السّؤدد فيكم؟ فقلت: أما في الجاهلية فالرّياسة وأما في الإسلام فالولاية، وخير من هذا وذاك التقوى.
فقال لي: صدقت.
كان أبي يقول: لم يدرك الأوّل الشرف إلا بالفعل، ولا يدرك الآخر إلا بما أدرك به الأوّل.
قال: فقلت: صدق أبوك. ساد الأحنف بحلمه، وساد مالك بن مسمع بمحبة العشيرة له، وساد قتيبة بدهائه، وساد المهلب بجميع هذه الخلال.
فقال لي: صدقت. كان أبي يقول: خير الناس للناس خيرهم لنفسه. إنه إذا كان كذلك أبقى على نفسه من السرق لئلا يقطع، ومن القتل لئلا يقاد، ومن الزنى لئلا يحد، فسلم الناس منه بإبقائه على نفسه.
قيل: وكان عبد الله بن يزيد أبو خالد من عقلاء الرّجال.
وقال له عبد الملك يوما: ما مالك؟ فقال: شيئان لا عيلة عليّ معهما الرّضا عن الله عزّ وجل، والغنى عن الناس.
فلما نهض من بين يديه قيل له: هلا خبرته بمقدار مالك؟
فقال: لم يعدّ أن يكون قليلا فيحقرني، أو كثيرا فيحسدني.
وخطب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بالمربد عند ظهور أمر الحجاج عليه، فقال: أيها الناس. إنه لم يبق من عدوّكم إلا كما يبقى من ذنب الوزغة، تضرب يمينا وشمالا، فلا تلبث أن تموت.(5/60)
فسمعه رجل من بني قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. فقال:
قبح الله هذا، يأمر أصحابه بقلة الاحتراس من عدوهم، ويعدهم الغرور.
وقيل لنصر بن سيار: إن فلانا لا يكتب. فقال: تلك الزّمانة الخفية.
وقال: لولا أن عمر بن هبيرة كان بدويّا ما ضبط أعمال العراق، وهو لا يكتب.
اعتذر رجل إلى مسلم بن قتيبة من أمر بلغه عنه، فعذره ثم قال له: يا هذا لا يحملنك الخروج من أمر تخلصت منه على الدخول في أمر لعلك لا تتخلص منه.
وقال مسلم بن قتيبة: الشباب الصّحة، والسّلطان الغنى، والمروءة الصبر على الرجال.
وقال خالد بن عبد الله القسري: يحمد الجود ما لم يسبقه مسألة وما لم يتبعه منّ، ولم يزر به قصور، ووافق موضع الحاجة.
قال الرشيد لسعيد بن سلم: يا سعيد، من بيت قيس في الجاهلية؟ قال: يا أمير المؤمنين، بنو فزارة. قال: فمن بيتهم في الإسلام؟
قال: يا أمير المؤمنين: الشريف من شرّفتموه. قال: صدقت. أنت وقومك.
قال بعضهم: رأيت نصر بن سيار على المنبر بسرخس. وقد حسر ذراعيه وكان أشعر طويل الساعدين، وهو يقول: اللهم إنك تعلم أن جعفر بن محمد حدثني عن آبائه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من من أحد أنعم على قوم نعمة فكفروا نعمته، فدعا الله عليهم إلا أجيبت دعوته».
اللهم إنّك تعلم أنّي أحسنت إلى آل بسّام فكفروا نعمتي.
اللهم افعل بهم. ودعا عليهم.
قال: فلم يحل الحول وعلى الأرض منهم عين تطرف: وكانوا سبعين رجلا، كلّهم قد ركب الخيل.(5/61)
كان أبو هبيرة يقول: أعوذ بك من كلّ شيطان مستغرب وكل نبطيّ مستعرب.
خطب بلال بن أبي بردة بالبصرة، فعرف أنهم قد استحسنوا كلامه فقال: لا يمنعنكم أقبح ما تعلمون فينا أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منا.
قال ابن هبيرة لبعض ولده: لا تكونن أوّل مشير، وإياك والهوى والرأي الفطير، وتجنب ارتجال الكلام، ولا تشر على مستبدّ ولا على وغد، ولا متلوّن ولا لجوج، وخف الله في موافقة هوى المستشير، فإن التماس موافقته لؤم، وسوء الاستماع منه خيانة.
قال رجل ليزيد بن أسد يدعو له: أطار الله بقاءك. فقال: دعوني أمت، وفيّ بقيّة تبكون بها عليّ.
وشخص يزيد بن عمر بن هبيرة إلى هشام بن عبد الملك فتكلّم فقال هشام:
ما مات من خلف مثل هذا.
فقال الأبرش الكلبيّ: ليس هناك، أما تراه يرشح جبينه لضيق صدره. فقال يزيد: ما لذلك أرشح ولكن لجلوسك في مثل هذا الموضع.
ودخل يزيد بن عمر على المنصور وهو يومئذ أمير فقال: أيّها الأمير إنّ عهد الله لا ينكث، وعقده لا يحل، وإن إمارتكم بكر. فأذيقوا الناس حلاوتها، وجنّبوهم مرارتها.
اتخذ يزيد بن المهلب بستانا بخراسان في داره فلما ولي قتيبة بن مسلم جعل ذلك لإبله. فقال له مرزبان مرو: هذا كان بستانا وقد اتخذته لإبلك؟ فقال قتيبة:
إن أبي كان أشتر باذ وأبو يزيد كان بستان باذ.
قال عبد الرحمن بن أبي الحكم: لولا ثلاث ما باليت متى متّ: تزحّف الأحرار إلى طعامي، وبذل الأشراف وجوههم إليّ، وقول المنادي: الصلاة أيّها الأمير.
وقال عبد الرحمن بن الأشعث: لولا أربع خصال ما أعطيت أحدا طاعة، لو
مات أمّ عمران يعني: أمه ولو شاب رأسي، ولو قرأت القرآن، ولو لم يكن رأسي صغيرا.(5/62)
وقال عبد الرحمن بن الأشعث: لولا أربع خصال ما أعطيت أحدا طاعة، لو
مات أمّ عمران يعني: أمه ولو شاب رأسي، ولو قرأت القرآن، ولو لم يكن رأسي صغيرا.
خطب قتيبة بن مسلم بخراسان حين خلع، فقال: أتدرون لمن تبايعون؟ إنما تبايعون يزيد بن ثروان، يعني: «هينقة القيسي» كأني بأمير من جاء وحكم، قد أتاكم يحكم في دمائكم وفروجكم وأموالكم وأبشاركم ثم قال: الأعراب. وما الأعراب؟ لعنة الله على الأعراب. جمعتكم كما يجمع قزع الخريف من منابت الشّيح والقيصوم، ومنابت الفلفل، وجزيرة أبر كاوان، تركبون البقر وتأكلون القضب فحملتكم على الخيل، وألبستكم السّلاح، حتى منع الله بكم البلاد، وأفاء بكم الفيء.
قالوا: مرنا بأمرك. قال: غرّوا غيري.
وخطب مرة أخرى فقال: يا أهل العراق. ألست أعلم الناس بكم؟ أمّا هذا الحيّ من أهل العالية فنعم الصدقة. وأما هذا الحيّ من بكر بن وائل فعلجة بظراء لا تمنع رجليها، وأما هذا الحي من عبد القيس فما ضرب العير بذنبه. وأما هذا الحيّ من الأزد فعلوج خلق الله وأنباطه. وأيم الله لو ملكت أمّر الناس لنقشت أيديهم. وأما هذا الحيّ من تميم فإنهم كانوا يسمّون الغدر في الجاهلية كيسان.
وخطب مرة أخرى، فقال: يا أهل خراسان. قد جربتم الولاة من قبلي أتاكم أمية، فكان كاسمه أمية الرأي، وأمية الدين، فكتب إلى خليفته. إن خراج خراسان وسجستان لو كان في مطبخه لم يكفه. ثم أتاكم بعده أبو سعيد يعني المهلب بن أبي صفرة فدوّم بكم ثلاثا. أما تدرون في طاعة أنتم أم في معصية؟؟ ثم لم يجب فيئا ولم ينك عدوا، ثم أتاكم بنوه بعده مثل أطباء الكلبة، منهم ابن دحمة: حمار يضرب في عانة ولقد كان أبوه يخافه على أمّهات أولاده، ولقد أصبحتم وقد فتح الله عليكم البلاد وأمّن لكم السّبل حتّى إنّ الظعينة لتخرج من مرو إلى سمرقند في غير جوار.
صعد خالد بن عبد الله القسري المنبر بالبصرة فأرتج عليه، فقال: أيّها الناس إنّ الكلام يجيء أحيانا فيتسبّب سببه، ويعزّ أحيانا فيعزّ طلبه، فربّما طلب فأبى،
وكوبر فعسا، فالتأنّي لمجيّة أصوب من التعاطي لأبيّه، ثم نزل.(5/63)
صعد خالد بن عبد الله القسري المنبر بالبصرة فأرتج عليه، فقال: أيّها الناس إنّ الكلام يجيء أحيانا فيتسبّب سببه، ويعزّ أحيانا فيعزّ طلبه، فربّما طلب فأبى،
وكوبر فعسا، فالتأنّي لمجيّة أصوب من التعاطي لأبيّه، ثم نزل.
قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: كان أبي كثيرا ما يقول إذا سرّ: هذا يوم جريري. قال: فسألته عن ذلك، فقال: لقوله (1): [الطويل] فيا لك يوما خيره قبل شرّه ... تغيّب واشيه وأقصر عاذله
ومثل ذلك ما حكي عن عبد الله بن طاهر: إنّه كان يقول: هذا من أيّام الكوز. فسئل عن ذلك فقال: كان رجل إذ مرّ له يوم طيب ألقى حصاة في كوز.
فإذا سئل عن عمره عدّ الحصى وقال: كذا يوما.
كان مسلم بن قتيبة يقول: أحزم الناس من وقى ماله بسلطانه، ووقى نفسه بماله، ووقى دينه بنفسه وقال: إذ تخالجتك الأمور فاستقلّ بأعظمها خطرا، فإن لم تستبن فأرجاها دركا، فإن اشتبهت فأحراها ألّا يكون لها رجوع عليك.
وقال: احملوا الأمور فيما بينكم على أشدّها، ولا تراضوا بالقول دون الفعل.
وخطب خالد بن عبد الله، فقال: أيّها الناس، عليكم بالمعروف، فإنّ فاعله لا يعدم جوازيه. مهما ضعف النّاس عن أدائه قوى الله على جزائه. أيّها الناس، لا يعتدّنّ أحد منكم معروفا لم يخرج منه سهلا، إنكم لو رأيتم المعروف شخصا لرأيتموه حسنا جميلا. أعاذنا الله وإياكم من الكفر والبخل.
وقال خالد: أيلبس الرجل أجود ثيابه، ويتطيّب بأطيب طيبه، ثم يتخطّى إليّ القبائل، والوجوه، لا يريد إلّا قضاء حقّي، وتعظيمي بسؤاله حاجته. فلا أعرف ذلك له ولا أكافئه عليه؟ تخطيت إذن مكارم الأخلاق ومحاسنها إلى مساويها.
اغتاب رجل رجلا عند قتيبة فقال له قتيبة: أمسك عليك فلقد تلمّظت بمضغة طالما لفظها الكرام.
لما ولي عثمان بن حيّان المرّي المدينة بعد عمر بن عبد العزيز نزل دار مروان بن الحكم وهو يقول: محلال مظعان. المغرور من اغترّ بك.
__________
(1) البيت لجرير في ديوانه ص 480.(5/64)
الباب السابع فضول الكتاب والوزراء وتوقيعات ونكت من كلامهم ونوادر لهم
أمر المأمون أحمد بن يوسف أن يكتب في الآفاق بتعليق المصابيح في المساجد في شهر رمضان. قال: فأخذت القرطاس لأكتب، فاستعجم عليّ، ففكّرت طويلا، ثم غشيتني نعسة فقيل لي: اكتب فإنّ في كثرة المصابيح إضاءة للمتهجّدين، وأنسا للسّابلة، ونفيا لمكامن الرّيب، وتنزيها لبيوت الله عن وحشة الظّلم.
أهدى سعيد بن حميد إلى المأمون في يوم مهرجان خوان جزع، واتخذ ميلا من ذهب بقدر، وحمله معه، وكتب إليه: قد أهديت إلى أمير المؤمنين خوان جزع ميلا في ميل. فاستحسن ذلك وقبله.
وقّع جعفر بن يحيى (1) في رقعة متحرّم به: هذا فتى له حرمة الأمل، فامتحنه بالعمل فإن كان كافيا فالسلطان له دوننا، وإن لم يكن كافيا. فنحن له دون السلطان.
كتب أحمد بن يوسف إلى إسحاق الموصليّ وقد زاره إبراهيم بن المهدي:
عندي من أنا عنده، وحجّتنا عليك إعلامنا إياك ذلك. قد آذنّاك.
فصل لأحمد بن يوسف
أكثر من يلجأ إلى الحيلة من عجز من المبادأة والإصحار، وأكثر من يروم
__________
(1) هو جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، وزير هارون الرشيد، إلى أن نقم الرشيد على البرامكة، فقتله في مقدمتهم سنة 187هـ (الأعلام 2/ 130).(5/65)
المبابذة من قصّر عن لطيف الخدع، وخفّي الاستدراج، والقصد مؤدّ إلى الرشد.
تأخر إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن إبراهيم بن المهدي، فكتب إليه: لا عذر لك في التأخّر عنّي، فإنّي لا أخلو من حالين: سخط أمير المؤمنين عليّ فهو لا يكره أن يضرني، أو رضاه عنّي فهو لا يكره أن يسرّني.
أمر المأمون عمرو بن مسعدة أن يكتب كتاب عناية، ويوجز. فكتب: كتابي كتاب واثق بمن كتبت إليه، معنيّ بمن كتبت له، ولن يضيع بين الثّقة والعناية موصّله.
كتب أحمد بن يوسف إلى صديق له: كتبت إليك في الظّهر تفاؤلا بأن يظهرك الله على من ناوأك، ويجعلك ظهرا لمن والاك.
كتب بعضهم إلى رئيس: تحتم كتبك لأنّها مطايا البر، ولا أختمها لأنها حوامل الشّكر.
وقّع جعفر بن يحيى إلى عامل له: وأنصف من وليت أمره، وإلّا أنصفه منك من ولي أمرك.
وقّع أحمد بن هشام في قصّة منتظلّم: اكفني أمر هذا، وإلّآ كفيته أمرك.
استشهد ابن الفرات في أيام وزارته عليّ بن عيسى، فلم يشهد له، وكتب إليه لما عاد إلى بيته: لا تلمني على نكوصي عن نصرتك بشهادة زور، فإنّه لا اتّفاق على نفاق. ولا وفاء لذي مين واختلاق. وأحر بمن تعدّى الحقّ في مسرّتك إذا رضي، أن يتعدّى إلى الباطل في مساءتك إذا غضب. والسلام.
وقّع إبراهيم بن العباس في ظهر رقعة: إذا كان للمحسن من الحقّ ما يقنعه، وللمسيء من النّكال ما يقمعه، بذل المحسن الحقّ رغبة وانقاد المسيء له رهبة.
كتب القاسم بن عبيد الله الكرمي إلى بعض الوزراء: ولي فيما جدّد الله من هذه النعمة للوزير من بلوغ النهاية، ما انتزعته من كتاب الله تعالى في قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]. وقد علم أنّ دين الله بعد نزول هذه الآية لم يزل ناميا عاليا على كل دين، وأنّه إنما ضرب بجرانه وقهر الأمم شرقا وغربا بعد كماله.(5/66)
وقّع ذو الرياستين إلى طاهر بن الحسين: يا نصف إنسان. والله لئن أمرت لأنفذنّ، ولئن أنفذت لأبرمنّ ولئن أبرمت لأبلغنّ.
فأجابه: أنا أعزّك الله كالأمة السوداء، إن حمل عليها دمدمت وإن رفّه عنها أشرت. وإن عوقبت فباستحقاق، وإن عفي عنها فبإحسان.
كتب إبراهيم بن العباس إلى أهل حمص: أمّا بعد فإن أمير المؤمنين يرى من حقّ الله عليه استعمال ثلاث يقدّم بعضهن على بعض: الأولى تقديم تنبيه وتوجيه، ثم ما يستظهر به من تحذير وتخويف. ثم التي لا ينفع لحسم الداء غيرها:
[الطويل] أناة فإن لم تغن أعقب بعدها ... وعيدا فإن لم تجد أغنت عزائمه
ويقال: إنّ هذا أوّل كتاب صدر عن خليفة من بني العباس وفيه شعر.
وقيل: إن إبراهيم بن العباس لم يتعمد أن يقول شعرا، ولكنّه لما رآه موزونا تركه.
كاتب: أمّا بعد، فكأنّا في الثّقة بك منك، وكأنّك في الرأفة علينا منا لأنّا لم نردك لأمر إلا نلناه، ولا خفناك على أمر إلّا أمنّاه.
كتب أحمد بن يوسف إلى إبراهيم بن المهدي: الثقة بك سهّلت السبيل إليك، فأهدنا هديّة من لا يحتشم، إلى من لا يغتنم.
كتب إبراهيم بن العباس إلى عليّ بن عيسى بن ماهان: قد بلغ من حسن ظنّك بالأيام أن وثقت بالسّلامة منها مع الظّلم، وليس هذا من عادتها.
اعتذر كاتب إلى صديق له من تأخّر اللقاء، فأجابه: أنت في أوسع العذر عند ثقتي، وفي أضيق العذر عند شوقي.
كتب رجل إلى ابن سيابة يسأله عن رجل. فكتب في الجواب: هو والله غثّ في دينه، قذر في دنياه، رثّ في مروءته، سمج في هيئته، منقطع إلى نفسه، راض عقله، بخيل بما وسّع الله عليه من لذّته، كتوم لما آتاه الله من فضله، حلّاف، لجوج، لا ينصف إلا صاغرا، ولا يعدل إلّا راغما، لا يرفع نفسه عن منزلة إلّا ذلّ بعد تعزّزه فيها.(5/67)
كتب إسحاق بن إبراهيم الموصلي إلى إبراهيم بن المهدي: من كان كلّه لك وقع كلّه عليك.
وقّع عليّ بن عيسى على قصّة لابن قرابة العطّار: من تحقق بالوزراء وجالس الأمراء وداس بسط الخلفاء وماثل الكبراء وأمر ونهى في مجالس الرؤساء، بعقل يسير وفهم قصير، ورأي حقير وأدب صغير كان خليقا بالنكبة، وحريّا بالمصيبة، وجديرا بالمحنة، وأنا أتكلّم إذا حضرني الكلام فيك بما يقرّبني إلى الله.
كاتب: لا أعدك فأطعمك ولا أويسك فأقطعك، وإن أمكنتني فرصة فعلت.
آخر: قد أعليت من يد كانت مقبوضة، وأسميت من مقلة كانت مغضوضة.
كتب بعضهم إلى صديق له وقد تأخّر عنه كتابه: إن كنت لا تحسن أن تكتب فهو زمانة، وإن كنت تكتب ولا تكاتب إخوانك فهو كسل، وإن كنت تكتب وليس لك قرطاس ودواة فهو سوء تدبير، وإن اعتذرت بغير ما كتبت فهو وقاحة.
فصل: أظلّني من مولاي عارض غيث أخلف ودقة، وشاقني رائح غوث كذب برقه، فقابله في حرّان ممحل أخطأه النّوء، وحيران مظلم خذله الضوء.
فصل: ليهنك أنّ جميع نظرائك، وأكفائك يتنازعون الفضل فإذا انتهوا إليك أقرّوا لك، ويتناصفون المنازل فإذا بلغوك وقفوا دونك.
آخر: ثق مني بكتمان وإن أتعب القلب، ومساعدة وإن ثلمت المروءة وطاعة وإن قدحت في الدين.
آخر: حقّ لمن غذي ببرّك، وارتضع أخلاف إحسانك، وتنسّم روح خلائقك أن يكثر عند ذكرك إياه شكره، ويتمهد عند نسيانك له عذره.
كتب بعض عمال إبراهيم بن العباس إليه يستزيده فوقّع في كتاب: استدع ما عندي بالأثر لا بالطّلب.
كاتب: اتصل بي خبر الفترة في إلمامها وانحسارها، ونبأ الشّكاة في حلولها وارتحالها، فكاد يشغل القلق بأوّله عن السّكون لآخره، وتذهل عادية الحيرة في ابتدائه عن عائدة المسرّة في انتهائه، وكان التصرف في الحالتين بحسب قدرها
ارتياعا للأولى وارتياحا للأخرى.(5/68)
كاتب: اتصل بي خبر الفترة في إلمامها وانحسارها، ونبأ الشّكاة في حلولها وارتحالها، فكاد يشغل القلق بأوّله عن السّكون لآخره، وتذهل عادية الحيرة في ابتدائه عن عائدة المسرّة في انتهائه، وكان التصرف في الحالتين بحسب قدرها
ارتياعا للأولى وارتياحا للأخرى.
غضب يحيى بن خالد على بعض كتّابه، فكتب إليه الكاتب: إنّ لله قبلك تبعات، ولك قبله حاجات، فأسألك بالذي يهب لك التبعات ويقضي لك الحاجات إلا وهبت تبعتك قبلي له. فرضي عنه.
قال بعض الكتاب: إذا أقبلت الدول كثرت العدد وإن قل العدد وإذا أدبرت كثر العدد وقلت العدد.
كتب ابن صبيح: فهمت كتابك باعتذارك، فجرد الإقرار بالذنب فإن الأوّل يقول: [مجزوء الكامل] لا ترج رجعة مذنب ... خط احتجاجا باعتذار
الحسن بن وهب: إنّ حسن ثناء الصادرين عنك إلينا يزيد في عدد الواردين عليك من قبلنا.
وقع جوهر مولى الفاطميين لما افتتح مصر في قصة وقعها إليه أهلها: سوء الاحترام أوقع بكم حلول الانتقام، وكفر الإنعام أخّركم من حفظ الذّمام. فالواجب فيكم ترك الإيجاب، واللازم لكم ملازمة الاجتناب لأنكم بدأتم فأسأتم، وعدتم فتعديتم. فابتداؤكم ملوم، وعودكم مذموم، وليس بينهما فرجة تقتضي إلا الذم لكم، والإعراض عنكم ليرى أمير المؤمنين صلوات الله عليه رأيه فيكم.
كتب عليّ بن هشام إلى الموصليّ: ما أدري كيف أصنع؟ أغيب فأشتاق، وألقى فلا أشتفي، ثم سيحدث لي اللّقاء نوعا من الحرقة، للوعة الفرقة.
كتب آخر: من العجب إذكار معنّى، وحثّ متيقظ، واستبطاء دابر إلا أنّ ذا الحاجة لا يدع أن يقول في حاجته.
كتب بعضهم إلى ابن الزيات (1): إن مما يطمعني في بقائنا عليك، ويزيدني بصيرة في دوامها لك أنك أخذتها بحقّك، واستدمتها بما فيك من أسبابها، ومن
__________
(1) ابن الزيات: هو محمد بن عبد الملك بن أبان بن حمزة المعروف بابن الزيات، أبو جعفر وزير المعتصم بالله العباسي، توفي سنة 233هـ، له ديوان الرسائل (كشف الظنون 6/ 12).(5/69)
شأن الأجناس أن تتقاوم، والشيء يتقلقل إلى معدته، ويحنّ إلى عنصره، فإذا صادف منبته ركن في مغرسه، وضرب بعرقه، وسمق بفرعه، وتمكن للإقامة، وثبت ثبات الطبيعة.
آخر: إلى ابن خاقان: رأيتني فيما أتعاطى من مدحك كالمخبر ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على ناظر، وأيقنت أنّي حيث أنتهي من القول منسوب إلى العجز، مقصّر عن الغاية، فانصرفت عن الثّناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك.
كتب الحسن بن وهب إلى صديق له يدعوه:
افتتحت الكتاب جعلني الله فداك والآلات معدة، والأوتار ناطقة، والكأس محثوثة، والجوّ صاف، وحواشي الدهر رقاق، ومخايل السرور لائحة، ونسأل الله إتمام النّعمة بتمام السلامة من شوب العوائق، وطروق الحوادث، وأنت نظام شمل السرور، وكمال بهاء المجلس، فلا تخترم ما به ينتظم سروري وبهاء مجلسي.
كاتب: قد أهديت لك مودّتي رغبة، ورضيت منك بقبولها مثوبة، وأنت بالقبول قاض لحق، ومالك لرقّ.
آخر: قلّ من يضبط من وجهه صفرة الفرق، وحمرة الخجل، وإشراق السّرور، وكمد الحزن، وسكون البراءة، واضطراب الرّيبة.
قال بعضهم: كنت بحضرة عبيد الله بن سليمان، فوردت عليه رقعة من جعفر بن محمد بن ثوابة نسختها: قد فتحت للمظلوم بابك، ورفعت عنه حجابك فأنا أحاكم الأيام إلى عدلك، وأشكو صروفها إلى فضلك، وأستجير من لؤم غلبتها بكرم قدرتك وحسن ملكيتك، فإنها تؤخّرني إذا قدمت، وتحرمني إذا قسمت، فإن أعطت أعطت يسيرا، وإن ارتجعت ارتجعت كثيرا، ولم أشكها إلى أحد قبلك، ولا اعتمدت للانتصاف منها إلا فضلك، ولي مع ذمام المسألة لك وحقّ الظلامة إليك ذمام تأميلك. وقدم صدق في طاعتك، والذي يملأ من النصفة
يدي، ويفرغ الحق عليّ حتى تكون إليّ محسنا، وأكون بك للأيام مقرفا (1) أن تخلطني بخواص خدمك الذين نقلتهم من حرّ الفراغ إلى الشّغل، ومن الخمول إلى النباهة والذكر، فإن رأيت أن تقرّبني فقد استعديت إليك، وتنصرني فقد عذت بك، وتوسع لي كنفك فقد أديت إليه، وتسمني بإحسانك فقد عوّلت عليه، وتستعمل يدي ولساني فيما يصلحان له من خدمتك، فقد درست كتب أسلافك، وهم القدوة في البيان، واستضأت بآرائهم واقتفرت آثارهم اقتفا جعلني بين وحشيّ الكلام وأنسيّه، ووقفني منه على جادة متوسّطة يرجع إليها الغالي، ويلحق بها المقصّر التالي، فعلت إن شاء الله.(5/70)
قال بعضهم: كنت بحضرة عبيد الله بن سليمان، فوردت عليه رقعة من جعفر بن محمد بن ثوابة نسختها: قد فتحت للمظلوم بابك، ورفعت عنه حجابك فأنا أحاكم الأيام إلى عدلك، وأشكو صروفها إلى فضلك، وأستجير من لؤم غلبتها بكرم قدرتك وحسن ملكيتك، فإنها تؤخّرني إذا قدمت، وتحرمني إذا قسمت، فإن أعطت أعطت يسيرا، وإن ارتجعت ارتجعت كثيرا، ولم أشكها إلى أحد قبلك، ولا اعتمدت للانتصاف منها إلا فضلك، ولي مع ذمام المسألة لك وحقّ الظلامة إليك ذمام تأميلك. وقدم صدق في طاعتك، والذي يملأ من النصفة
يدي، ويفرغ الحق عليّ حتى تكون إليّ محسنا، وأكون بك للأيام مقرفا (1) أن تخلطني بخواص خدمك الذين نقلتهم من حرّ الفراغ إلى الشّغل، ومن الخمول إلى النباهة والذكر، فإن رأيت أن تقرّبني فقد استعديت إليك، وتنصرني فقد عذت بك، وتوسع لي كنفك فقد أديت إليه، وتسمني بإحسانك فقد عوّلت عليه، وتستعمل يدي ولساني فيما يصلحان له من خدمتك، فقد درست كتب أسلافك، وهم القدوة في البيان، واستضأت بآرائهم واقتفرت آثارهم اقتفا جعلني بين وحشيّ الكلام وأنسيّه، ووقفني منه على جادة متوسّطة يرجع إليها الغالي، ويلحق بها المقصّر التالي، فعلت إن شاء الله.
قال فجعل عبيد الله يردّدها، ويستحسنها ثم قال: هذا أحق بديوان الرسائل.
كاتب: كان لي أملان: أحدهما لك، والآخر بك، أما الأمل لك فقد بلغته.
وأما الأمل بك فأرجو أن يحققه الله ويوشكه.
آخر: ودّعت قلبي بتوديعك، فهو يتصرف بتصرفّك، وينصرف بمنصرفك.
آخر: قد كنت لنكبات الدهر مستعدا، ولغدراته متحرّفا، فهل زاد على أن صدقك عن نفسه، وأتاك بما كنت عالما أنه يأتيك؟ فكيف تجزع وأنت تعلم أنه ليس لما وقع مردّ ولا لما ذهب مرتجع؟
تهنئة بابنة: رب مكروه أعقب مسرّة، ومحبة أعقبت معرة، وخالق المنفعة والمضرة بمواضع الخيرة.
آخر: إنه ليتربص بك الدوائر، ويتمنى لك الغوائل، ولا يؤمّل صلاحا إلا بفساد حالك، ولا رقعة إلا بسقوط قدرك.
فصل: حسر الدهر عن تجمّلي قناع القناعة، ولكنّي مع الظمإ عن دنيّ الموارد نافر، ومع الفاقة بغنيّ النفس مكاثر.
فصل: من تهنئة بإملاك: وكيف يرتاع لهجوم غربة، أو يجاور توحّش نقلة من لم يقطعه اتصاله بي عنك، ولا باعده انتقاله إليّ منك، فهو مخاطب على البعد
__________
(1) أقرف له: داناه وخالطه، والمعنى: أكون صديقا للأيام مادحا لها.(5/71)
بألفاظك، مرموق بالمراعاة من ألحاظك، غير نازح عما ألفه من عواطف الولادة، ورأفة التربية، وانبساط الأنسة، والله يسعدها بمن سارت إليه كما سرّ بها من وفدت عليه، ويريني من المحبّة فيها مثل ما أرانيه من المحبة بها، وكيف يوصى الناظر بنوره، أم كيف يحضّ القلب على حفظ سروره.
ومثله لأبي إسحاق الصابي (1)، كتابه عن بختيار (2) إلى أبي تغلب وقد نقل إليه ابنته: قد وجدت الوديعة، وإنما نقلت من وطن، إلى سكن، ومن مغرس إلى معرّس، ومن مأوى بر وانعطاف، إلى مثوى كرامة وألطاف، ومن منبت درت لها نعماؤه إلى منشأ يجود عليها سماؤه، وهي بضعة منّي انفصلت إليك، وثمرة من جنى قلبي حصلت لديك، ولا ضياع على من تصحبه أمانتك، ويشتمل عليه حفظك ورعايتك.
فصل: إذا طلبت عند غيرك ما لم أنل نلت منك ما لم أطلب، وإذا عدمت عند سواك ما رجوت وجدت عندك ما لم أرج، فاليأس من خيرك أنفع من رجاي لغيرك، لأنك لا تقول فتفعل، وغيرك يقول فلا يفعل، ولأنك تعتذر من الجزيل إذا امتن غيرك بالقليل.
فصل: ملك الأنعام أكرم من ملك الرّق، ورق الحرّ أفخر من رق العبد لأن العبد يعطيك طاعته كرها، وضميره سواها، والحرّ يبذلها لك طوعا، ويعتقد ظاهرها وفحواها.
كتب أبو النجم حبيب بن عيسى إلى عمرو بن مسعدة: ينبغي لمن علقته حبائلك، وشقي بصحبتك أن يكون له صبر أيّوب، وعمر نوح، وكنوز قارون، وملك هارون، فيستعين بالصبر على مماطلتك، وبالعمر على طول أيامك،
__________
(1) أبو إسحاق الصابي: هو إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون بن حبون الحراني البغدادي الكاتب، من الصابئة، توفي سنة 384هـ، له من المصنفات: «أخبار النحاة»، «أخبار الوزراء»، «أخبار أهله وولد ابنه»، «التاجي في أخبار الدولة الديلمية»، «ديوان الرسائل»، «ديوان شعره».
(كشف الظنون 5/ 7).
(2) هو عز الدولة أبو منصور بختيار بن معز الدولة البويهي، قتل سنة 367هـ (انظر البداية والنهاية 11/ 312311).(5/72)
وبالكنوز، على مواعدك، وبالملك على ما يناله من الذّلّ ببابك.
كتب سهل بن هارون إلى ذي الرّياستين: إن للأزمنة فرجا، فكن من ولاة فرجها، ولأيّامها دولا، فخذ بحظك من دولتك منها، ولدولها أمرا فتزود قبل أوان تصرّمها فإن تعاظمك ما أنبأتك عنه فانظر في جوانبها تأخذك الموعظة من جميع نواحيها، واعتبر بذلك الاعتبار على أنك مسلم ما سلّم إليك منها. قال: فكتب عهده على فارس.
كتب بعضهم إلى الفضل بن سهل: يا حافظ من يضيّع نفسه عنده ويا ذاكر من ينسى نصيبه منه، ليس كتابي إذا كتبت استبطاء، ولا إمساكي إذا أمسكت استغناء لكن كتابي تذكرة لك وإمساكي عنك ثقة بك.
وصف الحسن بن سهل المحن فقال: معها تمحيص من الذنب وتنبيه من الغفلة، وتعريض للصواب بالصبر، وتذكير بالنّعمة، واستدعاء للتوبة، وفي قدر الله عز وجل وقضائه.
كتب أبو عليّ برد الخيار ابن مقلة (1) إلى أبي الحسن بن الفرات: اقتصرت أطال الله بقاء الوزير عن الاستعطاف والشكوى، حتى تناهت المحنة والبلوى في النفس والمال، والجسم، والحال إلى ما فيه شفاء للمنتقم، وتقويم للمجترم، وحتّى أفضيت إلى الحيرة والتبلّد وعيالي إلى الهلكة والتلدّد: وما أقول إن حالا أتاها الوزير أيده الله في أمري إلا بحقّ واجب، وظن صادق غير كاذب، إلا أن القدرة تذهب الحفيظة، والاعتراف يزيل الاقتراف. وربّ المعروف يؤثره أهل الفضل والدين، والإحسان إلى المسيء من أفعال المتّقين، وعلى كلّ حالة فلي ذمام وحرمة وتأميل، وخدمة إن كانت الإساءة تضيعها، فرعاية الوزير أيده الله تحفظها.
كتب بعضهم إلى آخر: أما بعد: فقد كنت لنا كلّك فاجعل لنا بعضك ولا ترض إلا بالكلّ منّا لك.
__________
(1) ابن مقلة: هو محمد بن علي بن الحسين بن عبد الله أبو علي، المعروف بابن مقلة، توفي سنة 328 هـ، (انظر ترجمته في: المنتظم 6/ 309، الأعلام 7/ 157، وفيات الأعيان 2/ 79).(5/73)
كتب يحيى بن خالد إلى الرشيد من الحبس: يا أمير المؤمنين، إن كان الذنب خاصّا فلا تعمنّ بالعقوبة فإن الله يقول: {وَلََا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ} [الأنعام:
164، وفاطر: 18، والزمر: 7].
وجد في كتاب لجعفر بن يحيى أربعة أسطر بالذهب: الرزق مقسوم والحريص محروم، والبخيل مذموم، والحسود مغموم.
قال منصور بن زياد الكاتب: للمعلّى بن أيّوب: والله إنّي لأبذل وإني لأقدر وإني لأختار، وإني لأستشير، وإنّي لأحب مع طيب الخبر، وحسن المنظر، وإني لأعشق البهاء كما تتعشق المرأة الحسناء، وإني مع ذلك لأدخل دارك فأحقر كل شيء في داري. فما العلة؟ قال: أو ما تعلم؟ قال: لا. قال لأني أقدم غنى منك.
كان نقش محمد بن داود الجراح: من نمّ إليك نمّ عليك.
قال مسلم بن الوليد: سألت الفضل بن سهل حاجة. فقال أشوّقك اليوم بالوعد، وأحبوك غدا بالإنجاز، فإني سمعت يحيى بن خالد يقول: المواعيد شبكة من شباك الكرام، يصيدون بها محامد الأحرار ولو كان المعطي لا يعد، لارتفعت مفاخر إنجاز الوعد، ونقص فضل صدق المقال.
ووقّع الفضل إلى تميم بن مخرمة، الأمور بتمامها، والأعمال بخواتيمها، والصنائع باستدامتها، وإلى الغاية ما يجري الجواد فهناك كشفت الخبرة قناع الشّك، فحمد السابق، وذمّ السّاقط.
كان يحيى بن خالد: يقول لست ترى أحدا تكبّر في إمارة إلا وقد دلّ على أن الذي نال فوق قدره، ولست ترى أحدا تواضع في الإمارة إلّا وهو في نفسه أكبر مما نال من سلطانه.
احتاج يحيى في الحبس إلى شيء فقيل له: لو كتبت إلى صديقك فلان فقال: دعوه يكن صديقا.
وحضل الفضل بن الربيع جنازة ابن حمدون بعد نكبة البرامكة، فذكرهم، وأطراهم، وقرّظهم، وقال: كنا نعتب عليهم، فصرنا نتمنّاهم ونبكي عليهم، ثم أنشد متمثّلا: [الطويل] عتبت على سلم فلمّا فقدته ... وجرّبت أقواما بكيت على سلم
قال الفضل بن سهل: رأيت جملة السّخاء حسن الظنّ بالله، وجملة البخل سوء الظنّ بالله، قال الله تعالى:(5/74)
وحضل الفضل بن الربيع جنازة ابن حمدون بعد نكبة البرامكة، فذكرهم، وأطراهم، وقرّظهم، وقال: كنا نعتب عليهم، فصرنا نتمنّاهم ونبكي عليهم، ثم أنشد متمثّلا: [الطويل] عتبت على سلم فلمّا فقدته ... وجرّبت أقواما بكيت على سلم
قال الفضل بن سهل: رأيت جملة السّخاء حسن الظنّ بالله، وجملة البخل سوء الظنّ بالله، قال الله تعالى:
{الشَّيْطََانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268]، وقال: {وَمََا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] احتيج أن يكتب على المعتضد كتاب يشهد عليه فيه العدول، فلما عرضت النسخة على عبيد الله بن سليمان، وكان ابن ثوابة قد كتبها كما يكتب في الصّكاك «في صحة عقله، وجواز أمره له وعليه، فضرب عليه عبيد الله وقال:
هذا لا يجوز أن يقال للخليفة، وكتب: «في سلامة من جسمه، وأصالة من رأيه».
قام رجل إلى الرشيد ويحيى بن خالد يسايره فقال: يا أمير المؤمنين أنا رجل من المرابطة، وقد عطبت دابّتي.
فقال: يعطي ثمن دابّته خمسمائة درهم، فغمزه يحيى، فلمّا نزل، قال يا أبه. أومأت إليّ بشيء لم أفهمه.
فقال: يا أمير المؤمنين: مثلك لا يجري هذا المقدار على لسانه، إنّما يذكر مثلك خمسة آلاف ألف إلى مائة ألف. قال: فإذا سئلت مثل هذا، كيف أقول؟
قال: تقول: تشترى له دابّة: يفعل به ما يفعل بأمثاله.
لما صار نعيم بن حازم إلى الحسن بن سهل أقبل يقول: ذنبي أعظم من السّماء، وأكثر من الماء.
فقال الحسن له: لا عليك. تقدمت لك خدمة، وتوسّطت منك طاعة وعقّبت باعتذار، وما للذنب بين هذه مقرّ، وليس ذنبك في الذنوب بأعظم من عفو أمير المؤمنين في العفو، وأصلح أمره.
دخل الأصمعي إلى الحسن بن سهل فقال: يا أصمعيّ: ما أحسن الكلام؟
فقال: أصلح الله الأمير، ما فهمته العامة، وقدمته الخاصة.
قال رجل لعبد الحميد: أخوك أحبّ إليك أم صديقك؟ قال: إنما أحبّ أخي إذا كان صديقا.
قال ثمامة: لما دخل الفضل بن سهل إلى الرشيد وقد وصفه له يحيى بن
خالد حضر فلم ينطق، فأنكر الرشيد ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين: إنّ من أبين الدّلالة على فراهة الخادم شدّة إفراط هيبته لسيّده، فقال الرشيد: أحسنت، إن كنت لتقول هذا، وإن كان هذا شيئا أدركك عند انقطاعك، إنّه لأحسن وأحسن، ثم ضمّه إلى المأمون.(5/75)
قال ثمامة: لما دخل الفضل بن سهل إلى الرشيد وقد وصفه له يحيى بن
خالد حضر فلم ينطق، فأنكر الرشيد ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين: إنّ من أبين الدّلالة على فراهة الخادم شدّة إفراط هيبته لسيّده، فقال الرشيد: أحسنت، إن كنت لتقول هذا، وإن كان هذا شيئا أدركك عند انقطاعك، إنّه لأحسن وأحسن، ثم ضمّه إلى المأمون.
وقال الفضل بن سهل: الرأي يسدّ ثلم السيف، والسيف لا يسدّ تلم الرأي.
قال ابن الزيّات الوزير: لا يتصورنّ لك التواني بصورة التوكّل، فتخلد إليه، وتضيع الحزم فإن الله ورسوله أمرا بغير ذلك، قال الله تعالى: {وَشََاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذََا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ} [آل عمران: 159]، فجعل التوكل بعد العزم، والمشورة.
وقال النبيّ عليه السلام لصاحب الناقة: «اعقلها وتوكّل».
قال رجل لعبيد الله بن سليمان: لو كان للوزير بي عناية ما كان عليّ نابي الطّرف، ولا كنت من دركي منه على حرف فقال عبيد الله: أيها الرجل على رسلك فعسى نظري لك في الإعراض عنك، ولعل استصلاحي إيّاك بالانقباض منك. ثق باهتمامي بك إلى أوان إسعافك، فإن تقرّبك إليّ بتعريضك أجلب للنّبل إليك من تباعدك عنّي باقتضائك. واعلم أني وزير.
وقّع ابن الزيات إلى بعض عماله: توهمتك شهما كافيا، فوجدتك رسما عافيا، ولا محاميا ولا واقيا.
أخبرنا الصاحب رحمه الله قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الإيجي قال:
أخبرنا محمد بن الحسن الأزدي، قال: أخبرنا أبو حاتم سهل بن محمد السجستانيّ قال: ورد علينا عامل من أهل الكوفة، لم أر في عمّال السلطان بالبصرة أبرع منه، فدخلت مسلّما عليه، فقال: يا سجستاني من علماؤكم بالبصرة؟
قلت: الزياديّ أعلمنا بعلم الأصمعي، والمازنيّ أعلمنا بالنحو، وهلال الرأي من أفقهنا، والشاذكوني من أعملنا بالحديث، وأنا رحمك الله أنسب إلى علم القرآن، وابن الكلبي من أكتبنا للشروط. قال: فقال لكاتبه: إذا كان غدا فاجمعهم لي، قال: فجمعنا فقال: أيّكم المازنيّ؟ قال أبو عثمان: ها أنذا يرحمك الله، قال: هل يجزئ في كفّارة الظهار عتق عبد أعور؟ فقال المازني: لست صاحب
فقه. أنا صاحب عربيّة، فقال: يا زياديّ. كيف تكتب كتابا بين رجل وامرأة خالعها على الثلاث من صداقها؟ قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم هلال الرأي.(5/76)
قلت: الزياديّ أعلمنا بعلم الأصمعي، والمازنيّ أعلمنا بالنحو، وهلال الرأي من أفقهنا، والشاذكوني من أعملنا بالحديث، وأنا رحمك الله أنسب إلى علم القرآن، وابن الكلبي من أكتبنا للشروط. قال: فقال لكاتبه: إذا كان غدا فاجمعهم لي، قال: فجمعنا فقال: أيّكم المازنيّ؟ قال أبو عثمان: ها أنذا يرحمك الله، قال: هل يجزئ في كفّارة الظهار عتق عبد أعور؟ فقال المازني: لست صاحب
فقه. أنا صاحب عربيّة، فقال: يا زياديّ. كيف تكتب كتابا بين رجل وامرأة خالعها على الثلاث من صداقها؟ قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم هلال الرأي.
قال: يا هلال: كم أسند ابن عون عن الحسن؟ قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم الشّاذكوني، قال: يا شاذكوني. من قرأ: {فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا} [الحجرات: 6].
قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم أبي حاتم. قال: يا أبا حاتم: كيف تكتب كتابا إلى أمير المؤمنين تصف فيه خصاصة أهل البصرة وما أصابهم في الثمرة، وتسأله لهم النظر والنظرة؟
فقلت: لست رحمك الله صاحب بلاغة وكتابة: أنا صاحب قرآن.
فقال: ما أقبح بالرّجل أن يتعاطى العلم خمسين سنة لا يعرف إلا فنّا واحدا، حتى إذا سئل عن غيره، لم يحل فيه ولم يمرّ، لكن عالمنا بالكوفة الكسائي (1)
وسئل عن كلّ هذا لأجاب.
قال يحيى بن خالد: ما رأيت شرّبت خمر نزع، ولصّا أقلع، وصاحب فواحش رجع.
وقال: ما سقط غبار موكبي على أحد إلا أوجبت حقّه.
كتب أبو صالح بن يزداد إلى جعفر بن محمود: ما زلت أيّدك الله أذمّ الدهر بذمّك إيّاه، وأنتظر لنفسي ولك عقباه، وأتمنّى زوال حال من لا ذنب له إليّ رجاء عاقبة محمودة، تكون لك بزوال حاله، وتركت الإعذار في الطّلب على اختلال شديد إليه، ضنّا بالمعروف عندي إلّا عن أهله، وحبسا لشكري إلّا عن مستحقّه.
__________
(1) الكسائي: هو علي بن حمزة بن عبد الله بن عثمان، مولى بني أسد، أبو الحسن المعروف بالكسائي، ثم البغدادي الكوفي أحد أئمة النحو، توفي سنة 189هـ بالري، صنف من الكتب:
«اختلاف العدد»، «أشعار المعاياة وطرائقها»، «قصص الأنبياء»، «كتاب الحروف»، «كتاب العدد»، «كتاب القراءات»، «كتاب المصادر»، «كتاب النوادر الأصغر»، «كتاب النوادر الأكبر»، «كتاب النوادر الأوسط»، «كتاب الهاءات المكنى في القرآن»، «كتاب الهجاء»، «مختصر في النحو»، «معاني القرآن»، «مقطوع القرآن وموصوله». (كشف الظنون 5/ 668).(5/77)
فوقّع جعفر: لم أؤخر ذكرك تناسيا لحقك، ولا إغفالا لواجبك، ولا إرجاء لمهمّ أمرك، ولكني رقبت اتساع الحال وانفساخ الأعمال لأخصّك بأسناها خطرا، وأجلّها قدرا، وأعودها بنفع عليك، وأوفرها رزقا لك، وأقربها مسافة منك، وإذا كنت ممّن يحفره الإعجال، ولا يتّسع له الإمهال، فسأختار لك خير ما يشير إليه الوقت، وأقدم النظر فيه وأجعله أوّل ما أمضيه.
قال الحسن بن سهل: لا يكسد رئيس صناعة إلّا في شرّ زمان، وأخس سلطان.
اعتلّ ذو الرّياستين بخراسان مدة طويلة ثم أبلّ واستقلّ وجلس للناس فدخلوا إليه وهنئوه بالعافية، فأنصت لهم حتّى تقضّى كلامهم، ثم اندفع فقال: إنّ في العلل نعما لا ينبغي للعقلاء أن يجهلوها، منها تمحيص للذنب، وتعريض لثواب الصّبر، وإيقاظ من الغفلة، وإذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء للتوبة، وحضّ على الصدقة، وفي قضاء الله وقدره بعد الخيار، فانصرف الناس بكلامه، ونسوا ما قال غيره.
كتب عمرو بن مسعدة: وأما أحبّ أن يتقرّر عندك أنّ أملي فيك أبعد من أن أختلس الأمور اختلاس من يرى أنّ في عاجلك عوضا من آجلك، وفي الذّاهب من يومك بدلا من المأمول في غدك.
كتب ابن الفرات عليّ بن محمد، ومحمد بن داود، ومحمد بن عبدون رقعة إلى العباس بن الحسن الوزير يستزيدون فيها، فوقّع بخطّ على ظهرها: «ما حالكم حال مستزيد، ولا فوق ما أنا عليه لكم من مزيد، فإن تكن الاستزادة من مال فهو موفور عليكم، وإن تكن من رأي فالأعمال لكم، ولي اسمها، وعليّ عبئها، وثقل تدبيرها وأقول لعليّ بن محمد بن بيتكم: ما يطيق نفسه تدلّلا واعتدادا أمن بؤس كانت هذه الاستزادة أم من بطر النّعمة، ودلال التّرفة، ولي في أمر جماعتكم نظر ينكشف عن قريب، حسبي، وحسبكم الله ونعم الحسيب.
قال عبيد الله بن سليمان: كنت أكتب بين يدي أبي سليمان داود بن الجراح فقال لي يوما: أصلح قلمك، وأكتب أطال الله بقاءك، وأعزّك، وأكرمك، وأتمّ نعمته عليك، وإحسانه إليك.(5/78)
كتب الوكيل أعزّك الله متّصلة بشكرك، والضيعة ضيعتك، وكلّ ماتيّة في أمرها فموقعة يحسن منّي وشكري عليه يتضاعف، وخطابا في هذا المعنى. وكانت هذه المخاطبة لا يخاطب بها إلا صاحب مصر أو فارس، فقلت: قد ابتاع ضيعة بأحد الموضعين! ثم أصلح الكتاب فقال: عنونه إلى الرخجي، وكان يتقلّد النهروان الأوسط ثم رمى إليّ كتابا لصاحب بريد، فقال: وقّع عليه. أنت أعزّك الله تقف على ما تضمّنه هذا الكتاب، ولئن كان ما تضمّنه حقّا لأفعلنّ ولأصنعنّ.
وخطابا أغلظ فيه، ثم قال: عنونه للرخجيّ فعجبت من الكتابين. وفطن لما في نفسي فقال: أظنّك قد أنكرت الخطابين. هذه غايتي خدمتها وهذا حقّ سلطاني استوفيته.
وخطابا أغلظ فيه، ثم قال: عنونه للرخجيّ فعجبت من الكتابي. وفطن لما في نفسي فقال: أظنّك قد أنكرت الخطابين. هذه غايتي خدمتها وهذا حقّ سلطاني استوفيته.
وقّع أبو صالح بن يزداد في وزارته إلى عامل خافه: ليس عليك بأس ما لم يكن منك بأس.
وإلى آخر: قد تجاوزت عنك وإن عدت أعدت إليك، فاصرفنّه عنك.
وإلى آخر أدلّ بكفاية: أدللت فأضللت فاستصغر ما فعلت تبلغ ما أمّلت.
خاصم أحمد بن يوسف رجلا بين يدي المأمون إليه، وكان صغى المأمون إليه على أحمد فعرف أحمد ذلك: فقال يا أمير المؤمنين إنّه يستملي من عينيك ما يلقاني به، ويستبين بحركتك ما تجنّه له، وبلوغ إرادتك أحبّ إليّ من بلوغ أملي ولذّة إجابتك آثر لديّ من لذة ظفري. وقد تركت له ما نازعني فيه، وسلّمت إليه ما طالبني به. فشكر ذلك المأمون له.
كان أحمد بن يوسف يكتب بين يدي المأمون فطلب المأمون منه السّكين فدفعها إليه، والنّصاب في يده، فنظر إليه المأمون نظر منكر، فقال: على عمد فعلت ذلك ليكون الحدّ لأمير المؤمنين. فعجب الناس من سرعة جوابه وشدّة فطنته.
قال إبراهيم بن العباس: والله لو وزنت كلمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمحاسن الناس لرجحت وهي قوله: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم».
هذا أبو عبّاد كان كريم العهد، كثير البذل، سريعا إلى فعل الخير فطمس ذلك سوء خلقه، فما نرى له حامدا.(5/79)
وقّع ابن يزداد إلى عامل: ما بين لنا منك حسن أثر، ولا يأتينا عنك سارّ حبر وأنت مع ذلك دائبا تمدح نفسك، وتصف كفايتك والتصفح لأفعالك يكذبك، والتتبّع لآثارك يردّ قولك، وهذا الفعل إن اتّكلت عليه، وأخلدت إليه أعلقك الذّمّ، وألحقك العجز فليكن رائد قولك مصدّقا لموجود فعلك إن شاء الله.
قال أبو العيناء: سمعت الحسن بن سهل يقول: كان أنو شروان له أربعة خواتيم: خاتم للخراج، نقشه العدل، وخاتم للضّياع نقشه العمارة، وخاتم للمعونة نقشه الأناة، وخاتم للبريد نقشه الرجاء، وما نحن من هذا في شيء.
اعتلّ بعض إخوان الحسن بن سهل، فكتب الحسن إليه: أجدني وإيّاك كالجسم الواحد إذا خصّ عضوا منه ألمّ عمّ سائره فعافاني الله بعافيتك وأدام لي الإمتاع بك.
كتب محمد بن عبد الملك الزيات إلى إبراهيم بن العباس الصّولي (1): قلة نظرك لنفسك حرمتك سناء المنزلة، وإغفالك حظّك حطّك عن أعلى الدرجة، وجهلك بقدر النّعمة أحلّ بك البأس والنّقمة حتّى صرت من قوّة الأمل معتاضا شدّة الوجل، ومن رجاء الغد متعرّضا يأس الأبد، وركبت مطيّة المخافة بعد مجلس الأمن والكرامة، وصرت معرّضا للرحمة بعد ما تكنّفتك الغبطة. وقد قال الشاعر: [المتقارب] إذا ما بدأت أمرا جاهلا ... ببرّ فقصّر عن جهله
ولم تره قابلا للجميل ... ولا عرف الفضل من أهله
فسمه الهوان فإنّ الهوان ... دواء لذي الجهل من جهله
قد فهمت كتابك، وإغراقك، وإطنابك، وإضافة ما أضفت بتزويق الكتب بالأقلام، وفي كفاية الله غنى عنك يا إبراهيم، وعوض منك، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
__________
(1) هو أبو إسحاق إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول تكين البغدادي، الصولي، هو ابن أخت العباس بن الأحنف، كان شاعرا أديبا، توفي سنة 243هـ، صنف: «ديوان شعره»، «كتاب الدولة»، «كتاب الرسائل»، «كتاب الطبيخ»، «كتاب العطر». (كشف الظنون 5/ 2).(5/80)
قيل ليعقوب بن داود: لم لا تسمع الغناء؟ قال: يحلّ عقدة حلمي.
ذكر الفضل بن الربيع يوما الأمين، فقال: ينام نوم الظربان وينتبه انتباه الذئب. همّته بطنه ولذته فرجه لا يفكّر في زوال نعمة ولا يروّي في إمضاء رأي ولا مكيدة، قد شمّر له عبد الله عن ساقه، وفوّق له أسدّ أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحتف الفاقد، والموت القاصد قد عبّأ له المنايا على متون الخيل، وناط له البلايا بأسنّة الرّماح، وشفار السّيوف ثم تمثّل بشعر البعيث (1): [الطويل] يقارع أتراك ابن خاقان ليله ... إلى أن يرى الإصباح لم يتلعثم
فيصبح من طول الطّراد وجسمه ... نحيل وأضحي في النعيم أصمّم
فشتّان ما بيني وبين ابن خالد ... أمية في الرّزق الذي الله يقسم
ثم قال يا أبا الحارث:
ونحن نجري إلى غاية إن قصرنا عنها ذممنا، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا. وإنما نحن شعب من أصل إن قوى قوينا. وإن ضعف ضعفنا. إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء، يشاور النّساء ويعتزم على الرؤيا، قد أمكن أهل الخسارة واللهو من سمعه. فهم يمنّونه الفوز والظّفر، ويعدونه عقبى الأيام.
والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرّمل.
ذكر سليمان بن وهب أحمد بن أبي دؤاد وإحسانه إليه حين نكبه الواثق، فقال لما جار علينا بالنكبة الزمان، وجفانا من أجلها الإخوان، أنصفنا ابن أبي دواد منهم بتفضله، وكفانا الحاجة إليهم بتفقّده، فكأنّا وإياه كما قال الحطيئة (2):
[الطويل] جاورت آل مقلّد فوجدتهم ... إذ لا يكاد أخو جوار يحمد
أيام من يرد الصّنيعة يصطنع ... فينا ومن يرد الزّهادة يزهد
كتب عليّ بن عيسى بن ماهان إلى الرّشيد كتابا يقول فيه: إنّ البرامكة زنادقة، وكان له فيهم بعد رأي فدفع الكتاب إلى جعفر، وقال: علمي بقصده إياكم
__________
(1) الأبيات في زهر الآداب 2/ 249.
(2) البيتان في كتاب الأغاني 2/ 190 (طبعة دار الكتب العلمية).(5/81)
يزيل ما كتب به، فأجبه جوابا جميلا، فقال جعفر: والله يا أمير المؤمنين، ما ندري على أيّ الحالتين نشكرك؟ أعلى إعلامك إيّانا بما كان، أم على تجاوزك عمّا قال.
ثم وقّع في كتاب عليّ بن عيسى: حبّب الله إليك الوفاء فقد أبغضته، وبغّض إليك الغدر فقد أحببته إنّا وإن جرت الأمور بخلاف ما نحب منك فلن نبعد عمّا نحبّ لك، وفي كثير إحسانك عندنا ما يعفّي على قليل إساءتك وقد نسينا هذه إن لم تذكّرناها بأخت لها. والسلام.
عتب أحمد بن خالد على أحمد بن هشام في أمر كان بينهما فاعتذر إليه، فقال ابن أبي خالد: لا أقبل لك عذرا حتّى آتي إليك. فقال: والله لئن فعلت لا استعديت عليك إلا ظلمك، ولا أطمعني فيك إلا بغيك.
قال الفضل بن يحيى لبعض المتحرّمين به: أعتذر إليك بصالح النية، وأحتجّ عليك بغالب القضاء.
وكتب إلى عامل له: بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد.
وقال لرجل استبطأ عنده الرشيد وكان من أهل بيته: إنّما شغل عنك أمير المؤمنين حقوق أهل الطاعة دونك، ولو قد فرغ فيهم إليك لم يؤثر من دونك عليك. فقام أبوه يحيى، فقبّل رأسه.
كتب محمد بن عبد الملك إلى عبد الله بن طاهر: لو لم يكن من فضل الشكر إلا أنّه يرى بين نعمة مقصورة عليه أو زيادة منتظرة، فقال: عبد الله لكاتبه:
كيف ترى. مسمع هاتين الكلمتين؟ فقال: كأنّهما قرطان بينهما وجه حسن.
وقّع جعفر بن يحيى على ظهر كتاب لعليّ بن عيسى: حبّب الله إليك الوفاء يا أخي فقد أبغضته، وبعض إليك الغدر فقد أحببته. إني نظرت في الأشياء لأجد فيها ما يشبهك. فلمّا لم أجد رجعت إليك فشبّهتك بك. ولقد بلغ من حسن ظنك بالأيّام أن أمنت السّلامة مع البغي، وليس هذا من عادتها.
قال يحيى بن خالد: ذلّ العزل يضحك من تيه الولاية.(5/82)
وقال الفضل بن مروان: إنّ الكاتب مثل الدولاب إذا تعطّل تكسّر.
قال المأمون لأحمد بن يوسف: إنّ أصحاب الصّدقات تظلموا منك، فقال:
يا أمير المؤمنين والله ما رضي أصحاب الصدقات عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى أنزل الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقََاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهََا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهََا إِذََا هُمْ يَسْخَطُونَ} (58) [التوبة: 58] فكيف يرضون عنّي؟ فاستضحك المأمون وقال له: تأمّل أحوالهم، وأحسن النّظر في أمرهم.
قال أحمد بن الخصيب للمنتصر: يا أمير المؤمنين: إنّ الناس قد نسبوا إليك ما نسبوا واستفظعوا ذلك، فأنت كما قال الشاعر: [الوافر] وذنبي طاهر لاستر عنه ... لطالبه وعذري بالمغيب
فأحسن إلى الناس يحبّوك، وأفش فيهم العدل يحمدوك، ولا تطلق لغيرك عليهم لسانا ولا يدا فيذمّوك.
قال أبو عبّاد: ما جلس أحد بين يدي إلا تمثّل لي أنّي سأجلس بين يديه.
قال الحسن بن وهب: كاتب رئيسك بما يستحقّ، وما دونك بما يستوجب، وكاتب صديقك كما تكاتب حبيبك، فإنّ غزل المودّة أدقّ من غزل الصّبابة.
قال إبراهيم بن العباس: السلطان كالثعبان ونعم الرّشا ألذّ شيء.
قال عبيد الله بن سليمان: استؤذن لنجاح بن سلمة على أبي، وكان بينهما ذلك التباعد فقال أبي: يا بنيّ تفقّده إذا دخل، فانظر فإن نظر إلى ما بين يديه فلم يأت لخلّة، وإن نظر إلى السّقف فإنما جاء لبليّة. فخذ حذرك منه فلمّا دخل رمى بطرفه إلى السّقف، فعرفنا ما عنده.
كتب كاتب لرجاء الحصاري كتابا عنه فلمّا عنونه، كتب: من أبي فلان فقال له رجاء: لم كنيت: من أبي؟ فقال: هو أجلّ لك. والسلطان إذا عظم قدر رجل ذكره بالكنية فيكفي ذلك الرّجل. فقال له: السّلطان أولى بما يفعله، ولكنّك نسبتني إلى أسفل، وإنما ينتسب الناس إلى فوق. ويحك؟ كل شيء تضمّه إلى أب وابن فإنّما تذكره للتعريف، ولأن أعرف بأبي أحبّ إليّ من أن أعرف بابني. اكتب من فلان ابن فلان.(5/83)
ولّى الرشيد عاملا خراج طساسيج السّواد، فقال لجعفر ويحيى: أوصياه.
فقال جعفر: وفّر واعمر. وقال يحيى: أنصف وانتصف. وقال الرشيد يا هذا:
أحسن واعدل. ففضّل الناس كلام الرّشيد، فقيل لهما: لم نقص كلامكما عن كلامه؟ فقال: جعفر: لا يعتدّ هذا نقصانا إلا من لا يعرف ما لنا وما علينا. إنما أمرنا بما علينا أن نأمر به، وأمير المؤمنين بما له أن يأمر به؟
قال رجل ليحيى بن خالد وكان من صنائعه: إنّي سمعت الرشيد وقد خرجت من عنده يقول: قتلني الله إن لم أقتلك، فاحتل لنفسك. فقال: اسكت يا أخي، إذا جاء الإدبار كان العطب في الحيلة.
أمر يحيى كاتبين من كتّابه أن يكتبا كتابا في معنى واحد، فكتبا، واختصر أحدهما، وأطال الآخر، فلمّا قرأ كتاب المختصر، قال: ما أجد موضع مزيد. ثمّ قرأ كتاب المطيل، فقال: ما أجد موضع نقصان؟
اعتذر رجل إلى أبي عبد الله، فلما أبرم قال ما رأيت عذرا أشبه باستنان ذنب من هذا.
قال بعضهم لابن الزيات: أنا أمت إليك بجواري لك، وأرغب في عطفك.
فقال: أمّا الجوار فنسب بين الحيطان. وأمّا العطف والرقة فهما للصبيان والنساء.
وناظره رجل فصالحه على مال، فقال له: عجّل به. فقال الرجل أظلم وتعجيل؟ قال: فصلح وتأجيل؟
قيل ليحيى بن خالد: غيّر حاجبك. قال: فمن يعرف إخواني القدماء؟
قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: أتاني كتاب المعتز، وكتاب أحمد بن إسرائيل. مع رسول، ومعه رأس بغا، وفي الكتب أن أنصّبه على الجانبين، فلم أفعل وكتبت إلى أحمد بن إسرائيل: قد أوجب الله عليّ نصح أمير المؤمنين من جهات: منها ما تقتضيه الديانة، وتوجبه الإمامة، ومنها اصطناع آبائه لخدمهم من أسلافي، ومنها اختصاصه إيّاي بجميل رأيه، ومع هذا فلم أكن لأؤخّر عنك رأيا مع ما أنا عليه من المناصحة والشّكر. وإنّ الكتب وردت عليّ بنصب رأس بغا في الجانبين، وقد أخرت ذلك حتّى يعود إليّ الأمر بما أعمل عليه «وبغا» فقد علمت
أنّه عدوّ أمير المؤمنين وعدوّك وقد أراح الله منه حيث لم تتّهموا فيه، وأخاف أن تتبعكم الأتراك عند أوّل شغبة به، ويطالبوكم بدمه. ويجعلوا ذلك ذريعة إلى إيقاع سوء، وكان الصّواب عندي أن يغسله أمير المؤمنين ويصلّي عليه، ويدفنه ويظهر حزنا، ويقول: ما أحبّ أن يصاب صغير منكم ولا كبير، وقد غمّني أمربغا ولو وصل إليّ لزدت في مرتبته، وما يشبه هذا.(5/84)
قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: أتاني كتاب المعتز، وكتاب أحمد بن إسرائيل. مع رسول، ومعه رأس بغا، وفي الكتب أن أنصّبه على الجانبين، فلم أفعل وكتبت إلى أحمد بن إسرائيل: قد أوجب الله عليّ نصح أمير المؤمنين من جهات: منها ما تقتضيه الديانة، وتوجبه الإمامة، ومنها اصطناع آبائه لخدمهم من أسلافي، ومنها اختصاصه إيّاي بجميل رأيه، ومع هذا فلم أكن لأؤخّر عنك رأيا مع ما أنا عليه من المناصحة والشّكر. وإنّ الكتب وردت عليّ بنصب رأس بغا في الجانبين، وقد أخرت ذلك حتّى يعود إليّ الأمر بما أعمل عليه «وبغا» فقد علمت
أنّه عدوّ أمير المؤمنين وعدوّك وقد أراح الله منه حيث لم تتّهموا فيه، وأخاف أن تتبعكم الأتراك عند أوّل شغبة به، ويطالبوكم بدمه. ويجعلوا ذلك ذريعة إلى إيقاع سوء، وكان الصّواب عندي أن يغسله أمير المؤمنين ويصلّي عليه، ويدفنه ويظهر حزنا، ويقول: ما أحبّ أن يصاب صغير منكم ولا كبير، وقد غمّني أمربغا ولو وصل إليّ لزدت في مرتبته، وما يشبه هذا.
فورد عليّ كتاب أحمد بن إسرائيل يشكر ما كان منّي ويحلف أنّه سبقني إلى هذا الرأي، واجتهد فيه، فما أمكنه إلّا أن يفعل ما فعل، ولم يقبل قوله. وفي آخر كتابه. واعلم أنّه قد حدث بعدك وهو مما لا نعرفه نحن، ولا أنت رأي للحرم والخدم يقبل ويعمل عليه، وهذا فتح للخطإ وإغلاق للصّواب فانصب الرأس قليلا، ثمّ أنفذه إلى خراسان.
كتب إلى جعفر بن يحيى أنّ صاحب الطريق قد اشتطّ فيما يطلب من الأموال، فوقّع جعفر: هذا رجل منقطع عن السلطان، وبين ذؤبان العرب، بحيث العدد والعدّة، والقلوب القاسية، والأنوف الحمية، فليمدد من المال بما يستصلح به من معه ليدفع به عدوّه فإن نفقات الحروب يستظهر لها ولا يستظهر عليها.
وأكثر الناس شكية عامل فوقع إليه في قصّتهم يا هذا قد كثر شاكوك، وقلّ حامدوك، فإمّا عدلت وإمّا اعتزلت.
وكان يقول: إن قدرتم أن تكون كتبكم كلّها توقيعات فافعلوا.
كتب الفضل بن سهل في كتاب جواب ساع: ونحن نرى، أنّ قبول السّعاية شر من السعاية، لأنّ السعاية دلالة، والقبول إجازة، فاتقوا الساعي فإنّه لو كان في سعايته صادقا لكان في صدقه لئيما، إذ لم يحفظ الحرمة ولم يستر العورة.
كان يحيى بن خالد يقول: من تسبّب إلينا بشفاعة في عمل فقد حلّ عندنا محلّ من ينهض بغيره، ومن لم ينهض بنفسه، لم يكن العمل أهلا.
قال ثمامة: كان جعفر بن يحيى أنطق الناس، قد جمع الهدوّ والتمهّل والجزالة، والحلاوة، وإفهاما يغنيه عن الإعادة، ولو كان في الأرض ناطق يستغني عن الإشارة لاستغنى جعفر عن الإشارة كما استغنى عن الإعادة.(5/85)
وقال مرة: ما رأيت أحدا كان لا يتحبّس، ولا يتوقّف، ولا يتلجلج، ولا يرتقب لفظا قد استدعاه من بعد، ولا يلتمس التخلّص إلى معنى قد تعصّى عليه، بعد طلبه له: من جعفر بن يحيى.
وقال: قلت لجعفر ما البيان؟ قال: أن يكون الاسم يحيط بمعناك، ويجلّي عن مغزاك، ويخرجه من الشّركة، ولا تستعين عليه بالفكرة. والذي لا بد منه أن يكون سليما من التكلف بعيدا من المنعة، بريئا من التعقد، غنيا عن التّأويل.
قال الجاحظ هذا هو تأويل قول الأصمعي: البليغ من طبّق المفصل، وأغناك عن المفسّر.
كتب يحيى بن خالد إلى بعضهم: قد حمّلت حاجتي فلانا لا لأنّ شكري ضعف عن حمل أياديك، بل أحببت أن يكون لي أعوان على شكرك وشهود على فضلك.
وقال لابنه جعفر: يا بنيّ. ما دام قلمك يرعف فأمطره معروفا وكان يحيى يقول: كيف يلام الملوك على ما يفعلون؟ وإذا أساووا وجدوا من يزيّن لهم سوء ما يعملون، ويزكّي ما يفعلون؟
وقال الفضل بن يحيى: الصبر على أخ تعتب عليه خير من أخ تستأنف مودّته.
وقال أحمد بن يوسف: لا تجوز قطيعة الصّديق، ولا يحمل الأمر فيها إلّا على واحد من اثنين ليس في واحد منهما عذر: إمّا سوء اختيار في نفس الصّداقة أو ملال.
قال أبو الحسين بن سعد: كنت بين يدي علي بن عيسى الوزير، فرأيت له أقلاما رديّة البري، فأصلحتها، فقال: يا أبا الحسين عليك بالكتابة فهذه تجارة.
قال الفضل بن سهل: من أحبّ الازدياد من النعمة فليشكر، ومن أحب المنزلة عند سلطانه فليكفه، ومن أحبّ بقاء عزّه فليسقط الدالة ومن أحب السّلامة فليلزم الحذر؟(5/86)
الباب الثامن نكت مستحسنة للقضاة
قال شريح (1): إنّا لا نعيب الشهود ولا نلقّن الخصوم ولم نسلّط على أشعاركم وأبشاركم، 7نما نقضي بينكم، فمن سلّم لقضائنا فبها، ومن لا، أمرنا به إلى السّجن.
كتب الفضل بن الربيع إلى عبد الله بن سوّار يسأله أن يشتري له ضيعة، فكتب إليه: إن القضاء لا يدنّس بالوكالة.
قال الزّهري: ثلاث إذا كنّ في القاضي فليس بقاض إذا كره اللّوائم، وأحبّ المحامد، وكره العزل.
قال أيّوب: إن من أصحابي من أرجو دعوته، ولا أجيز شهادته.
وقال سوّار: ما أعلم أحدا من أصحابي أفضل من عطاء السّلمي، ولو شهد عندي على فلسين ما أجزت شهادته يذهب إلى أنّه ضعيف ليس، بالحازم.
وكان أبو هريرة (2) لا يجوّز شهادة أصحاب الحمير.
__________
(1) هو شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي، أبو أمية، من أشهر القضاة الفقهاء في صدر الإسلام، توفي سنة 78هـ (الأعلام 3/ 161).
(2) أبو هريرة: اختلف في اسمه في الجاهلية والإسلام واسم أبيه على أقوال متعددة، والأشهر أن اسمه عبد الرحمن بن صخر، وهو من الأزد، ثم من دوس. يقال: كان اسمه في الجاهلية عبد شمس، وقيل: عبد نهم، وقيل: عبد غنم، ويكنى بأبي الأسود، فسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وكنّاه أبو هريرة وثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: «أبا هرّ». وثبت أنه قال له:
«يا أبا هريرة»، وهو أكثر الصحابة رواية لحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. توفي سنة 59هـ (انظر ترجمته في: البداية والنهاية 8/ 121109، كتاب الوفيات ص 71، حلية الأولياء 1/ 386، الإصابة ترجمة رقم 1179).(5/87)
وسئل قتادة (1) عن شهادة الصّيرفيّ.
فقال: لا تجوز شهادته.
ولي عبيد الله بن أبي بكرة قضاء البصرة فجعل يحابي الناس. فقيل له في ذلك، فقال: وما خير رجل لا يقطع لأخيه من دينه؟
قال شريح: الحدّة كنية الجهل.
قال ابن شبرمة لرجل: أتشرب النبيذ؟ قال: أشرب الرّطلين والثلاثة فقال:
والله ما شربته شرب الفتيان، ولا تركته ترك القرآن.
وقيل له: لم تركت النبيذ؟ فقال إن كان حلالا فحظّي تركت، وإن كان حراما فبالحزم أخذت.
وسئل شريك عن النبيذ، فقال: قد شربه قوم صالحون يقتدى بهم فقيل: كم أشرب؟ قال: ما لا يشربك.
لما ولي يحيى بن أكثم قضاء البصرة استصغروا سنّه، فقال له رجل كم سنّ القاضي أعزّه الله؟ فقال: سنّ عتّاب بن أسيد حين ولّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة، فجعل جوابه احتجاجا.
ساوم عمر بن الخطّاب أعرابيّا بفرس له فلمّا قامت على ثمن أخذها منه عمر على أنّه فيها بالخيار، إن رضي أمسك، وإن كره ردّ، فحمل عمر عليها رجلا يشوّرها، فوقعت في بئر فتكسّرت، فقال الأعرابيّ ضمنت فرسي يا أمير المؤمنين، قال: كلّا، فإنّي لم أرضها. فقال الأعرابيّ فاجعل بيني وبينك رجلا من المسلمين، فجعلا بينهما شريحا، فقصّا عليه القصّة، فقال شريح ضمنت يا أمير المؤمنين فرس الرجل، لأنك أخذتها على شيء معلوم، فأنت لها ضامن حتّى تردّها عليه، فقبل ذلك عمر، وبعث شريحا على قضاء الكوفة.
سئل شريك عن النبيذ: فقال: اشرب منه ما وافقك، ودع منه ما جنى
__________
(1) قتادة: هو قتادة بن دعامة بن عرنين بن عمرو بن ربيعة السدوسي، أبو الخطاب البصري التابعي، ولد سنة 60هـ، وتوفي سنة 117هـ، صنف «تفسير القرآن». (كشف الظنون 5/ 834).(5/88)
عليك، وذمّه إذا ذمّه الناس، ولا تنصره، فبئس المنصور، والله.
سئل الشّعبيّ عن (1) مسألة فقال: لا علم لي بها. فقيل: لا تستحي؟ قال:
ولم أستحي ممّا لم يستحي منه الملائكة حين قالت: {لََا عِلْمَ لَنََا إِلََّا مََا عَلَّمْتَنََا}
[البقرة: 32].
كان شريح يقول: من سأل حاجة، فقد عرض نفسه على الرّق فإن قضاها المسؤول استعبده بها، وإن ردّه عنها رجع حرّا، وهما ذليلان: هذا بذلّ اللّؤم، وذاك بذلّ الرّدّ.
قال بكار بن محمد رأيت سوار بن عبد الله وأراد أن يحكم فرفع رأسه إلى السّماء، وترقرقت عيناه ثم حكم.
وكتب إليه المنصور في مال كان له على سلمة بن سعيد: لمّا مات سلمة وكان عليه دين للناس وللمنصور، وكتب إليه: استوف لأمير المؤمنين دينه، وفرّق ما يبقى بين الغرماء. فلم يتلفت إلى كتابه وضرب للمنصور بسهم في المال كما ضرب لواحد من الغرماء ثم كتب إليه إنّي رأيت أمير المؤمنين غريما من الغرماء، فكتب إليه. ملئت الأرض بك عدلا.
قال الهيثم: ما رأيت ابن شبرمة قطّ إلا وهو متهيئ، كأنه يريد الرّكوب، فذكر ذلك له وأنا حاضر فقال: إنّ الرّجل لا يستجمع له رأيه حتّى يجمع عليه ثيابه، ثم قال: إنّ رجلا من الحيّ كان له شرف، قال لدهقان الفلّوجة: يا هذا؟ إنه ربّما انتشر عليّ أمري في الرأي، فهل عندك مشورة؟ قال: نعم احتب، وتهيّأ، والبس ثيابك، ثم اهمم بما تريد فهو أجمع لرأيك فليس من أحد يفعل مثل ذلك إلّا اجتمع له رأيه.
قال الحسن بن قحطبة: دخلت على المهديّ نفسه وقد دخل شريك فسلّم فقال: لا سلّم الله عليك يا فاسق. فقال شريك: يا أمير المؤمنين إنّ للفاسق
__________
(1) الشعبي: هو عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار، الشعبي الحميري، أبو عمرو، يضرب المثل بحفظه، راوية من التابعين، توفي سنة 103هـ (الأعلام 3/ 251).(5/89)
علامات تعرف: شرب الخمور، واتخاذ القينات والمعارف، قال: قتلني الله إن لم أقتلك. قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت في المنام كأنّي مقبل عليك أكلّمك وأنت تكلّمني من قفاك، فقال لي المعبّر: هذا رجل يطأ بساطك وهو مخالف لك.
قال شريك: إن رؤياك ليست برؤيا يوسف بن يعقوب، وإنّ دماء المسلمين لا تستحلّ بالأحلام. فنكّس المهديّ رأسه، ثم أشار إليه: أن اخرج فخرح وخرجت خلفه فقال لي: أما رأيت ما أراد صاحبك أن يفعل؟ فقلت: اسكت فلله أبوك!
قال ابن شبرمة لإياس بن معاوية: شكلي وشكلك لا يتفقان: أنت لا تشتهي أن تسكت، وأنا لا أشتهي أن أسمع.
كان طارق صاحب شرطة خالد بن عبد الله القسري، فمرّ بابن شبرمة وهو في موكبه. فقال ابن شبرمة (1): [الطويل] * سحابة صيف عن قليل تقشّع * اللهم لي ديني ولهم دنياهم. فاستعمل ابن شبرمة بعد ذلك على القضاء، فقال له ابنه أتذكر قولك يوم مر طارق في موكبه؟ قال: يا بنيّ إنهم يجدون مثل أبيك، ولا يجد مثلهم أبوك، إن أباك أكل من حلوائهم وحطّ في أهوائهم.
قيل لشريك: أكان معاوية حليما؟ قال: لو كان حليما ما سفّه الحقّ، وقاتل عليا.
وقال: لو كان حليما ما حمل أبناء العبيد على حرمه، ولما أنكح إلّا الأكفاء.
قالوا: وأصوب من ذلك قول الآخر: كان معاوية يتعرّض ويحلم إذا أسمع، ومن تعرّض للسّفه فهو سفيه.
قيل للشعبيّ ما أحسن البراعة في الإماء! فقال: تورّد ماء الحياء في وجه الحرّ أحسن.
__________
(1) صدره: أراها وإن كانت تحب كأنها والبيت في العقد الفريد 1/ 81.(5/90)
دخل شريح على بعض الأمراء، فقال الأمير: يا جارية هاتي عودا. فجاءته بعود يضرب. فلما بصر به الأمير خجل، وقال: نعم هذا أخذ البارحة مع إنسان في الطّوف. اكسروه. ثم صبر قليلا، وقال: يا جارية. هاتي عودا للبخور. فقال شريح: أتخاف أن تغلط مرّة ثانية؟
شهد رجل من جلساء الحسن بشهادة عند إياس بن معاوية، فردّه، فشكا الرجل ذلك إلى الحسن، فأتاه الحسن فقال: يا أبا واثلة، لم رددت شهادة فلان؟
فقال: يا أبا سعيد إن الله يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدََاءِ} [البقرة: 282]، وليس فلان ممّن أرضى.
وشهد عند عبيد الله بن الحسن رجل من بني نهشل على أمر، فقال له:
أتروي قول الأسود بن يعفر (1): [الكامل] * نام الخليّ فما أحسّ رقادي * فقال له الرجل: لا، فقال: تردّ شهادته. وقال: لو كان في هذا خير لروى شرف أهله.
جاء رجل إلى شريح فكلّمه بشيء. وأخفاه. فلما قام قال له رجل: يا أبا أميّة، ما قال لك؟ قال: يا بن أخي. أو ما رأيته أسرّه منك؟
كان شريح عند زياد وهو مريض فلمّا خرج من عنده أرسل إليه مسروق بن الأجدع رسولا وقال: كيف تركت الأمير؟ فقال: تركته يأمر وينهى. قال مسروق:
إنه صاحب عويص، فارجع إليه واسأله ما يأمر وما ينهي؟
قال: يأمر بالوصية وينهي عن النّوح.
ومات ابن لشريح فلم يشعر بموته أحد، ولم تصرخ عليه صارخة فقيل له:
يا أبا أميّة كيف أمسى ابنك؟ قال: سكن علزه ورجاه أهله. وما كان منذ اشتكى أسكن منه الليلة.
__________
(1) عجزه: والهمّ محتضر لديّ وسادي والبيت في ديوان الأسود بن يعفر ص 25، وأساس البلاغة (حضر).(5/91)
حكي عن الشعبي أنه قال: شهدت شريحا، وجاءته امرأة تخاصم زوجها، فأرسلت عينيها، فبكت. فقلت: يا أبا أميّة ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة.
فقال: يا شعبيّ إنّ إخوة يوسف: {وَجََاؤُ أَبََاهُمْ عِشََاءً يَبْكُونَ} (16) [يوسف: 16].
كان شريح إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا أميّة؟ قال: أصبحت ونصف الناس غضاب.
تقدم إلى شريح قوم فقالوا: إنّ هذا خطب إلينا فقلنا له: ما تبيع؟
فقال: أبيع الدوابّ. فزوّجناه، فإذا هو يبيع السنانير. قال: أفلا قلتم له: أيّ الدواب من الدواب؟ وأجاز النكاح.
قال الشعبيّ: كان شريح يقول: إياكم والجواب، فقلنا له: يا أبا أميّة. إنّك لتكثر من هذا. قال: قد آن لكم أن تسلوني.
تقدم إليّ رجلان، فأكثر عليّ أحدهما، فقلت: أظنّك ضعيفا؟ قال: ما على ظنّك خرجت من أهلي، فكرهت أن يجيء منه غير هذا فكففت عنه.
أتى عديّ بن أرطأة، شريحا ومعه امرأة له من أهل الكوفة يخاصمها، فلمّا جلس بين يدي شريح. قال عدي: أين أنت؟ قال: بينك وبين الحائط. قال: إنّي امرؤ من أهل الشّام. قال: بعيد سحيق. قال: وإنّي قدمت العراق: قال: خير مقدم.
قال وقد تزوّجت هذه المرأة. قال: بالرّفاء والبنين. قال: وإنّها ولدت غلاما.
قال: ليهنك الفارس: قال: وقد أردت أن أنقلها إلى داري. قال: المرء أحقّ بأهله.
قال: قد كنت شرطت لها دارها. قال: الشرط أملك. قال أقض بيننا. قال:
قد فعلت.
قال: فعلى من قضيت؟ قال: على ابن أمّك.(5/92)
انصرف شريح يوما من مجلس القضاء، فلقيه رجل، فقال: أما حان لك يا شيخ أن تخاف الله وتستحي؟ قال: ويلك! من أيّ شيء؟
قال: كبرت سنّك، وفسد ذهنك، وكثر نسيانك، وادّهن كاتبك وارتشى ابنك، فصارت الأمور تجوز عليك، فقال: لا والله لا يقولها لي أحد بعدك، واعتزل عن القضاء، ولزم منزله.
قال الشعبي: أصاب متأمّل أو كاد، وأخطأ مستعجل أو كاد.
كان شريح في منزل القضاء، فنظر إلى رجل من أعوانه قائم، فضحك فقال:
أتضحك؟ ويلك، وأنا أتقلّب بين الجنّة والنار.
أقام رجل شهودا عند شريح فاستحلفه، فتلكّأ، فقال له: ساء ما تثني على شهودك.
وقضى شريح بالكوفة ستين سنة، ولّاه عمر بن الخطاب، وبقي إلى أيام الحجاج.
كان رجل يقال له خنيس يجلس إلى الشعبي، فتحدّث الشّعبي يوما، فقال له خنيس: اتّق الله ولا تكذب. فقال له الشعبيّ: ويحك يا خنيس ما أحوجك إلى محدرج (1) شديد الفتل، ليّن المهزّة، عظيم الثمرة، وقد أخذ من عجب ذنب إلى مغرز عنق، فيوضع على مثل ذلك منك، فتكثر له رقصاتك من غير جذل قال:
وما هو يا أبا عمرو؟ قال: هو والله أمر لنا فيه أرب ولك فيه أدب.
كان لشريح حائط مائل، فقال له جار له حائطك هذا مائل، قال: لا تفارقني أو ينقض. قال: فنقضه من ساعته. فقال الرجل: لا تعجل يا أبا أميّة. فذاك إليك.
قال: بعد أن أشهدت عليّ؟
قال الشعبي: وجّهني عبد الملك بن مروان إلى ملك الرّوم، فلمّا قدمت عليه ودفعت إليه كتاب عبد الملك جعل يسائلني عن أشياء، فأخبره بها، فأقمت
__________
(1) المحدرج: السوط.(5/93)
عنده أياما، ثم كتب جواب كتابي، فلمّا انصرفت رفعته إلى عبد الملك فجعل يقرؤه، ويتغيّر لونه، ثم قال: يا شعبيّ: علمت ما كتب الطاغية؟ قلت: يا أمير المؤمنين، كانت الكتب مختومة ولو لم تكن مختومة ما قرأتها. وهي إليك. قال:
إنه كتب: إنّ العجب من قوم يكون فيهم مثل من أرسلت به إليّ فيملّكون غيره.
قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، ذاك لأنّه لم يرك. قال: فسرّي عنه، ثم قال:
حسدني عليك، فأراد أن أقتلك.
سأل رجل الشّعبيّ قال: أتشرب نبيذ الجرّ الأخضر؟ قال: نعم، وأشرب نبيذ الدن.
سأل رجل الشعبيّ عن رجل لطم عين رجل فشرقت أو اغروقت: متى تقاد منها؟
قال الشعبي: قدمت على عبد الملك، فما رأيت أحسن حديثا منه إذا حدّث، ولا أحسن إنصاتا منه إذا حدّث، ولا أعلم منه إذا خولف وأخطأت عنده في أربع: حدثني يوما بحديث، فقلت: أعده عليّ يا أمير المؤمنين، فقال: أما علمت أنه لا يستعاد أمير المؤمنين؟ وقلت له حين أذن لي عليه: أنا الشعبيّ يا أمير المؤمنين. فقال: ما أدخلناك حتّى عرفناك. وكنيت عنده رجلا فقال: أما علمت أنه لا يكنى أحد عند أمير المؤمنين. وسألته أن يكتبني حديثا. فقال: إنّا نكتب ولا نكتب.
لما أخذ الحجاج الشعبيّ وكان خرج عليه مع ابن الأشعث، قال: يا شعبيّ ألم أرفع من قدرك، وبلغت بك شرف العطاء، وأوفدتك على أمير المؤمنين، ورضيتك جليسا لي ومحدّثا؟ قال: بلى، أصلح الله الأمير. قال: فما أخرجك مع ابن الأشعث تقاتلني على غير دين ولا دنيا؟ فأين كنت من هذه الفتنة؟
فقال: أصلح الله الأمير، أوحش الجناب، وأحزن بنا المنزل، واستشعرنا الخوف، واكتحلنا السهر، وفقدنا صالح الإخوان وشملتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء. فضحك الحجاج، وعفا عنه.
قال الشعبي: من أمن الثقل ثقل.(5/94)
أسمع رجل الشعبيّ كلاما، وعدّد فيه خصالا قبيحة والشعبي ساكت فلما فرغ الرجل من كلامه، قال: والله لأغيظنّ من أمرك بهذا، إن كنت صادقا، فغفر الله لي، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك.
قيل: يا أبا عامر: ومن أمره بهذا؟ قال: الشيطان.
خطب رجل إلى قوم، فجاؤوا إلى الشعبيّ يسألونه عنه وكان عارفا به فقال: هو والله ما علمت نافذ الطّعنة، ركين الجلسة، فزوّجوه، فإذا هو خيّاط.
فأتوه، فقالوا: غدرتنا.
فقال: ما فعلت، وإنه لكما وصفت.
وقيل له وقد بنى بأهله: كيف وجدت أهلك؟ قال: فلم أرخيت السّتر إذن؟
لما قدم الشعبيّ من البصرة قالوا له: وكيف تركت إخواننا من أهل البصرة؟
قال: تركتهم قد سادهم مولاهم وذاك أنه استغنى عنهم في دنياهم واحتاجوا إليه في دينهم، يعني الحسن البصريّ (1).
وكان الشعبي يقول: لو كانت الشّيعة من الطير لكانوا رخما، ولو كانوا من الدّوابّ لكانوا حميرا.
قال الشعبي: لا تقدموا على أمر تخافون أن تقصّروا فيه فإن العاقل يحجزه عن مراتب المقدّمين ما يرى من فضائل المقصّرين. ولا تعدّوا أحدا عدة لا تستطيعون إنجازها فإنّ العاقل يحجزه عن محمدة المواعيد ما يرى من المذمّة في الخلف، ولا تحدّثوا أحدا من الناس تخافون تكذيبه فإن العاقل يسلّيه عما في الحديث ما يرى من مذلّة التكذيب، ولا تسألوا أحدا من الناس تخافون منعه فإن العاقل يحجزه عما ناله السائل ما يرى من الدناءة في الطّمع.
تحدث الشعبيّ يوما عند ابن عمر، فقال: إنه ليحدّثنا بمواطن شهدناها وغاب عنها، فكأنّه شهدها وغبنا عنها.
__________
(1) الحسن البصري: هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن بن يسار البصري، من سادات التابعين، ولد سنة 21هـ، وتوفي سنة 110هـ (انظر ترجمته في: كتاب الوفيات ص 109، حلية الأولياء 2/ 131، ميزان الاعتدال 1/ 254، وفيات الأعيان 1/ 354، البداية والنهاية 9/ 288283).(5/95)
قال الشعبيّ: تعامل الناس فيما بينهم بالدّين زمنا طويلا، ثم بالوفاء حتّى ذهب الوفاء، ثم بالمروءة حتّى ذهبت المروءة، ثم بالحياء حتّى ذهب الحياء، ثم صاروا إلى الرّغبة والرّهبة.
وقال: العلم أكثر من أن يحصى، فخذوا من كلّ شيء أحسنه.
وكان يقول: ما رأيت مثلي: ما أشاء أن أرى أحدا أعلم بشيء منّي إلّا وجدته.
وقيل له: ما لك لا تأتي السّلطان؟ قال: أخاف خصلتين: طعامهم الطّيب، ولباسهم اللّيّن.
وكان يقول: الخال زين، والثّؤلول شين.
وقال: أقلّ ما أحسنه الشعر، ولو أنشدتكم شهر لما فني ما عندي.
وذكروا معاوية يوما عنده، فقال رجل: كان حليما. فقال الشعبي: ويحك! وهل أغمد سيفه وفي قلبه شيء من أحد، ولكن قل: كانت له سياسة وعقل.
وقال الشعبي: إنّ كرام الناس أسرعهم مودة وأبطؤهم عداوة مثل الكوز من الفضة يبطئ الانكسار ويسرع الانجبار وإن لئام الناس أبطؤهم مودة، وأسرعهم عداوة مثل الكوز من الفخّار يسرع الانكسار ويبطئ الانجبار.
وقال ابن شبرمة: من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصّر خصم.
وقال: من لزم العفاف هانت عليه موجدة الملوك.
دخل رجل على عيسى بن موسى بالكوفة فكلّمه، وحضر عبد الله بن شبرمة فأعانه، وقال: أصلحك الله، إنّ له شرفا، وبيتا وقدما، فقيل لابن شبرمة:
أتعرفه؟ قال: لا. قالوا: فكيف أثنيت عليه؟
قال: قلت: إن له شرفا، أي: أذنين ومنكبين، وبيتا يأوي إليه، وقدما يطأ عليها.
وقال له رجل: صنعت إلى فلان، وصنعت، فقال: اسكت، فلا خير في المعروف إذا أحصي. وكان إذا ولد له غلام يقول: اللهم اجعله برّا تقيا، واجعل لذّته في بلده.(5/96)
قيل: بينا رقبة بن مصقلة القاضي في حلقة إذ مرّ رجل غليظ العنق، فقال له بعض جلسائه: يا أبا عبد الله، هذا الذي ترى من أعبد الناس. فقال رقبة: إني لأرى لهذا عنقا قلّما وقذتها العبادة.
قال: فمضى الرجل، ثم عاد قاصدا إليهم، فقال رجل لرقبة: يا أبا عبد الله، أخبره بما قلت لا تكون عبية. قال: نعم. أخبره حتّى تكون نميمة.
وكان رقبة يقول: أيّ مجلس المسجد لو كان عليك فيه إذن!
وقال: ما رأيت كذبة أحضر من كذبة الذين يتّكئون في المسجد، فإذا أقيمت الصّلاة قلت لأحدهم: نمت، فيقول: والله ما نمت وقد خري.
ودخل رقبة المسجد الأعظم، فألقى نفسه إلى حلقة قوم، ثم قال: قتيل فالوذج (1) رحمكم الله.
قالوا: عند من؟ قال: عند من حكم في الفرقة، وقضى في الجماعة. يعني بلال بن أبي بردة.
ذكرت الآراء عند رقبة، فقال: أمّا الرافضة، فإنّهم اتخذوا البهتان حجّة، والعضيهة مغلبة، وأما الزّيديّة، فإنّي أظنّ الذي وضع لهم رأيهم امرأة. وأما الخوارج فأعراب جفاة لا يعقلون، وأما المرجئة فإنّهم على دين الملك وأما المعتزلة فو الله ما خرجت إلى ضيعتي قطّ إلا ظننت أنّي لا أرجع حتّى يتركوا دينهم.
وقيل له: إنك لتكثر الشكّ، قال: وهل ذاكم إلا المحاماة عن اليقين.
اختصم إلى شريح امرأتان في ولد هرّة، فقال: ألقوها مع هذه، فإن هي قرّت، ولزّت، واسبطرّت فهي لها. وإن هي هرّت، وفرّت، وازبأرّت فليست لها.
وقال الشعبي: ما طلع السماك قطّ إلا غارزا ذنبه في برد.
__________
(1) الفالوذج: نوع من الحلوى، يصنع من خالص البر مع خالص الزبد والعسل.(5/97)
وكان إذا سئل عن معضلة، قال: ربّاه ذات وبر أعيت قائدها، وسائقها لو ألقيت على أصحاب محمّد لأعضلت بهم.
قال شريح: القضاء جمر فارفع الجمر عنك بعودين، يعني: الشاهدين.
روي عن شقيق بن سلمة قال: وقعت فتنة ابن الزبير فاعتزل شريح القضاء، وقال: لا أقضي بين اثنين في فتنة. قال: فغدوت عليه ذات يوم. فقلت: يا أبا أمية، كيف أصبحت؟ قال: أحمد الله العزيز الجبّار إليك: وقعت الفتنة تسع سنين فما أخبرت ولا استخبرت. قلت: يا أيا أمية لقد صبرت. قال: فكيف بهواي في أحد الفريقين؟
وقال شريح يوما لأصحابه: لقد أكلت اليوم لحما قد أتى عليه عشرون سنة.
فقالوا: سبحان الله. أبدا تأتينا بالعجائب. فقال: كانت عندي ناقة قد أتت عليها عشرون سنة، فنحرتها، وأكلت من لحمها.
ورئي شريح يجول في الأسواق، والطرق. فقيل: ما غدا بك؟ فقال:
عسيت أن أنظر إلى صورة حسنة.
كان يقال: أوّل من أظهر الجور من القضاة في الحكم بلال بن أبي بردة بن أبي موسى، وكان أمير البصرة، وقاضيها، وكان يقول: إنّ الرجلين ليتقدّمان إليّ، فأجد أحدهما أخفّ على قلبي، فأقضي له. وفيه يقول رؤبة (1): [الرجز] * وأنت يا بن القاضيين قاض * يريد أباه أبا بردة.
وكان الحجاج ولاه القضاء حين استعفى شريح، فاستشاره فيمن يولّيه. فقال شريح. عليك بالشريف العفيف أبي بردة. وجدّه أبو موسى وهو قاضي عمر، وأحد الحكمين.
__________
(1) الرجز بتمامه:
فأنت يا بن القاضيين قاضي ... معتزم على الطريق الماضي
بثابت النعل على الدحاض
والرجز في ديوان رؤبة ص 82، وتاج العروس (دحض)، (مضض).(5/98)
وذكر أنّ رجلا جاء إلى بلال يسعى إليه بآخر. قال: فأقعده، وأرسل في المسألة عنه، فذكر له، أنّه يعرف بغير أبيه المنتسب إليه. فقال بلال: أنا أبو عمرو، حدثني أبي عن جدّي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن السّاعي بالناس لغير أبيه الذي ينسب إليه».
شهد سوّار بن عبد الله العنبري عند بلال بشهادة، وشهد معه رجل آخر ليس بذاك. فقال بلال: يا سوّار، ما تقول في هذا الرجل؟ قال: إنما جئت شاهدا لا مزكّيا. قال: فحضر هذا معك هذه الشهادة؟ قال: نعم فأجازه.
خاصم رجل خالد بن صفوان إلى بلال، فقضى الرجل عليه. فقام خالد وهو يقول: [الطويل] * سحابة صيف عن قليل تقشّع * فقال بلال: أما إنها لا تتقشع حتّى يصيبك منها شؤبوب برد. وأمر به إلى الحبس.
فقال خالد: علام تحبسني؟ فو الله ما جنيت جناية فقال بلال: يخبرنا عن ذلك باب مصمت، وأقياد ثقال، وقيّم يقال له: حفص.
قال بلال: إذا رأيت الرجل لجوجا مماريا، معجبا برأيه، فقد تمّت خسارته.
كان إياس بن معاوية بن قرّة صادق الظنّ، لطيفا في الأمور، وتولى قضاء البصرة في أيام عمر بن عبد العزيز. واختصم إليه رجلان في مطرف خزّ، وأنبجانيّ، فادّعى كلّ واحد منهما المطرف الخزّ أنه له، وأنّ الأنبجاني للآخر.
فدعا إياس بمشط ماء. فبلّ رأس كلّ واحد منهما. ثم قال لأحدهما: سرّح رأسك. فخرج في المشط غفر المطرف وفي مشط الآخر غفر الأنبجاني. فقال: يا خبيث الأنبجانيّ لك. فأمّر، فدفع المطرف إلى صاحبه.
استودع رجل رجلا من أمناء إياس مالا. وخرج الرجل إلى مكة. فلما رجع طالبه بالمال فجحده فأتي إياسا فأخبره. فقال إياس: علم أنك أتيتني؟ قال: لا.
قال: فنازعته عند أحد؟ قال: لا، لا يعلم أحد بهذا. قال: فانصرف، واكتب أمرك ثم عد إليّ بعد يومين. فمضى الرجل، ودعا إياس أمينه ذلك. فقال: قد
حضر مال كثير، وأريد أن أصيّره إليك أتحصّننّ منزلك؟ قال: نعم. قال: فأعدّ موضعا للمال، وقوما يحملونه. وعاد الرجل إلى إياس، فقال له: انطلق إلى صاحبك، فاطلب مالك، فإن أعطاك فذاك، وإن جحدك فقل له: إنّي أخبر القاضي. فأتى الرجل صاحبه، فقال: مالي، وإلّا أتيت القاضي، وشكوت إليه.(5/99)
قال: فنازعته عند أحد؟ قال: لا، لا يعلم أحد بهذا. قال: فانصرف، واكتب أمرك ثم عد إليّ بعد يومين. فمضى الرجل، ودعا إياس أمينه ذلك. فقال: قد
حضر مال كثير، وأريد أن أصيّره إليك أتحصّننّ منزلك؟ قال: نعم. قال: فأعدّ موضعا للمال، وقوما يحملونه. وعاد الرجل إلى إياس، فقال له: انطلق إلى صاحبك، فاطلب مالك، فإن أعطاك فذاك، وإن جحدك فقل له: إنّي أخبر القاضي. فأتى الرجل صاحبه، فقال: مالي، وإلّا أتيت القاضي، وشكوت إليه.
فدفع إليه ماله، ورجع الرّجل إلى إياس فأخبره، وجاء الأمين لموعده، فزجره إياس وقال: لقد بان يا خائن.
قال إياس لقوم من أهل مكّة: قدمنا بلادكم، فعرفنا خياركم، وشراركم قالوا: وكيف عرفتم؟
قال: كان معنا أخيار، وأشرار تعرفهم، فلحق كلّ جنس بجنسه.
كان إياس يقول: الخبّ لا يخدعني، ولا يخدع ابن سيرين، ويخدع الحسن، ويخدع أبي.
وتبصّروا هلال شهر رمضان وهم جماعة، وفيهم أنس بن مالك وقد قارب المائة، فقال: قد رأيته، فقال إياس: أشر إلى موضعه. فجعل يشير، ولا يرونه، ونظر إياس إلى أنس فإذا شعرة من حاجبه بيضاء قد انثنت، فصارت على عينه، فمسحها إياس وسوّاها، ثم قال: يا أبا حمزة أرنا موضع الهلال، فنظر، فنظر، فقال: ما أرى شيئا.
قال رجل لإياس: هل ترى عليّ بأسا إن أكلت تمرا؟ قال: لا. قال: فهل ترى بأسا إن أكلت معه كيسوما (1)؟ قال: لا. قال: فإن شربت عليهما ماء؟ قال:
جائز. قال الرجل: فلم تحرّم السّكر وإنما هو ما ذكرته لك؟ فقال إياس: لو صببت عليك ماء. هل كان يضرّك؟ قال: لا. قال: فإن نثرت عليك ترابا وتبنا، هل كان يضرّك؟ قال: لا. قال: فإن أخذت ذلك، وخلطته، وعجنته، وجعلت منه لبنة عظيمة، فضربت بها رأسك، أكان يضرّك؟ قال: كنت تقتلني. قال: فهذا مثل ذلك.
__________
(1) الكيسوم: الحشيش الكثير، يقال: روضة كيسوم: أي ندية أو متراكمة النبت.(5/100)
كان إياس يقول: من أراد الصّلح فعليه. بحميد الطّويل، وتدرون ما يقول؟
يقول لهذا: انقص قليلا، ولهذا: زد قليلا، فينقطع الأثر بذلك. ومن أراد الفجور فليأخذ صالح بن خلاف، وتدرون ما يقول المدّعى عليه؟ اجحد ما عليك، وللمدّعي: ادّع ما ليس لك.
أتى إياس حلقة من حلقات قريش في مسجد دمشق، فاستولى على المجلس، ورأوه ذميما، باذّ الهيئة، فاستهانوا به. فلما عرفوه اعتذروا إليه، وقالوا: الذّنب بيننا، وبينك مقسوم فإنك أتيتنا في زيّ مسكين، تكلّمنا بكلام الملوك.
أخذ الحكم بن أيّوب إياس بن معاوية في ظنّه الخوارج، فقال له الحكم إنك خارجي منافق، وأوسعه شتما. ثم قال له: ايتني بكفيل، فقال: اكفل أيّها الأمير، فما أحد أعرف منك بي. قال: وما علمي بك وأنا من أهل الشام، وأنت من أهل العراق؟ فقال له إياس: ففيم هذه الشّهادة منذ اليوم؟ فضحك وخلّى سبيله.
كان ابن أبي ليلى ولي القضاء لبني أمية: وبعدهم لبني العباس. وقيل: هو أول من تولى قضاء بغداد. وقيل: بل أوّل من تولّاها من القضاة شريك.
وقال سفيان بن عيينة: شهد محمد بن عبد الرحمن بن الأسود عند ابن أبي ليلى بشهادة، فتوقّف في شهادته. قال ابن عيينة. فناظرت ابن أبي ليلى في ذلك، وقلت له: أنّى لك بالكوفة رجل مثله؟ فقال: هو كذلك، إلّا أنّ الذي شهد به عظيم، والرجل فقير، قال: فأعجبني هذا من قوله.
وأخذ على ابن أبي ليلى رجل من جلسائه كلمة، فقال له ابن أبي ليلى: أهد إلينا من هذا ما شئت. وكان يقول: أحذّركم الثّقات.
دها المنصور ابن أبي ليلى، فأراده على القضاء، فأبى، فتوعّده إن لم يفعل، فأبى أن يفعل، ثم إنّ غداء المنصور حضر، فأتي فيما أتي بصحفة فيها مثال رأس.
فقال لابن أبي ليلى: خذ أيها الرجل من هذا. قال ابن أبي ليلى: فجعلت أضرب بيدي إلى الشيء، فإذا وضعته في فمي سال لا أحتاج إلى أن أمضغه. فما فرغ الرجل جعل يلحس الصحفة. فقال لي: يا محمد. أتدري ما كنت تأكل؟ قلت: لا
والله يا أمير المؤمنين. قال: هذا مخّ النّينان (1) معقود بالسكّر الطّبرزد (2).(5/101)
فقال لابن أبي ليلى: خذ أيها الرجل من هذا. قال ابن أبي ليلى: فجعلت أضرب بيدي إلى الشيء، فإذا وضعته في فمي سال لا أحتاج إلى أن أمضغه. فما فرغ الرجل جعل يلحس الصحفة. فقال لي: يا محمد. أتدري ما كنت تأكل؟ قلت: لا
والله يا أمير المؤمنين. قال: هذا مخّ النّينان (1) معقود بالسكّر الطّبرزد (2).
وتدري بكم تقوّم هذه الصّحفة علينا؟ قلت: لا، يا أمير المؤمنين. فقال: تقوّم بثلاثمائة وبضعة عشر. أتدري: لم ألحسها؟ هذا صحفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأنا أطلب البركة بذلك. فلما خرج ابن أبي ليلى من عنده رفع رأسه إلى الربيع. فقال:
لقد أكل الشّيخ عندنا أكلة لا يفلح بعدها أبدا.
فلما كان عشيّ ذلك اليوم راح ابن أبي ليلى إلى المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين، فكرت فيما عرضت عليّ، فرأيت أنه لا يسعني خلافك. فولّاه القضاء.
ثم قال الربيع: كيف رأيت حدسي؟
روي عن العباس بن محمد أنّه قال: لمّا أراد المنصور شريك بن عبد الله على القضاء قال: أريد أن تكلّم أمير المؤمنين ليعفيني. فقلت له: إنّ أبا جعفر إذا عزم أمرا لم ترد عزماته. قال: فلما قام، وأقرّه على القضاء قلت له: إنّ أمير المؤمنين المهديّ ألين عريكة من الماضي. فقال: أمّا الآن فلا فإني أخشى شماتة الأعداء.
قال بعض أصحاب الحديث: سألت شريكا عن النبيذ، فقال لي: أمّا أنا فلا أتركه حتّى يكون أسوأ عملي.
وقال شريك لرجل: كم تشرب من النبيذ؟ فقال: الرّطل والرّطلين.
فقال: يا أخي، ما شربته شرب الفتيان، ولا تركته ترك القرآن.
ذكر عند شريك العرب والعجم، فغضب، وقال ذهب العرب الذين كانوا إذا غضبوا كفروا.
وقال عبد الله بن مصعب الزّبيري لشريك، بلغني أنك تشتم أبا بكر وعمر، فقال: والله ما أشتم الزبير، فكيف أشتمهما؟
مرّ شريك بالبصرة وكان خرج مع المنصور إليها فسألوه أن يحدثهم
__________
(1) النينان: جمع نون، وهو الحوت الكبير.
(2) الطبرزد: السكر، فارسي معرب.(5/102)
فقال: يأتيني أحدهم مشتملا على أن يسألني الحديث.
وقال أبو عبيدة (1): البلاء موكّل بالمنطق. كان جدّ هذا: شريك يعمل الدنّ بوزارة، فقتل رجلا، وهرب إلى خراسان، فقدم ابنه وادّعى إلى العرب. وكان شريك من النخع. وقيل: إن جدّه هو سنان بن أنس قاتل الحسين صلّى الله عليه ولعن قاتله.
ولما عزل شريك عن القضاء قام إليه رجل، فقال: الحمد لله الذي عزلك فقد كنت تطيل النّشوة، وتقبل الرّشوة، وتوطئ العشوة. فقام إليه رجل فخنقه.
فجعل يصيح: قتلني يا أبا عبد الله جعلني الله فداك فقال شريك. قد ذلّ من ليس له سفيه.
وسئل عن أبي حنيفة (2)، فقال: أعلم الناس بما لا يكون وأجهلهم بما يكون.
ودخل على المهديّ فقال له: يا شريك، بلغني أنّك فاطميّ. فقال: أتحبّ فاطمة؟ أعثر الله من لا يحبّ فاطمة. فقال المهديّ: آمين. فلما خرج شريك قال المهدي لمن عنده: لعنة الله، ما أظنّه إلا عناني.
وقال له يوما: أيّنا أشرف: نحن أم ولد عليّ؟ فقال شريك: هات أمّا مثل فاطمة حتّى تساويهم في الشّرف.
ولمّا دعاه المهديّ إلى القضاء قال له: لا أصلح لذلك. قال: ولم ذاك قال:
لأني نسّاء. قال: عليك بمضغ اللّبان، قال: إني حديد. قال: قد فرض لك أمير المؤمنين فالوذجة توقرك. قال: إني امرؤ أقضي على الوارد، والصادر.
__________
(1) أبو عبيدة: هو الحافظ أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي البصري المنشأ، بغدادي الدار والوفاة، الفقيه اللغوي الأخباري، ولد سنة 110هـ، وتوفي سنة 203هـ، له العشرات من المصنفات، منها: «إعراب القرآن»، «مجاز القرآن»، «الجمع والتثنية»، «غريب الحديث»، «غريب القرآن»، «كتاب الأضداد في اللغة»، «كتاب الشعر والشعراء»، «كتاب اللغات»، «كتاب المجاز»، «معاني القرآن»، وغيرهما الكثير (كشف الظنون 6/ 467466).
(2) أبو حنيفة: هو النعمان بن ثابت، التيمي بالولاء، إمام الحنفية الفقيه المحقق، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، توفي سنة 150هـ (الأعلام 8/ 36، البداية والنهاية 10/ 112111).(5/103)
قال: اقض عليّ، وعلى والدي. قال: فاكفني حاشيتك. قال: قد فعلت.
فكانت أوّل رقعة وردت عليه خالصة جارية المهديّ. فجاءت لتتقدّم الخصم، فقال: وراءك مع خصمك مرارا، فأبت. فقال: وراءك يا لخناء. قالت:
يا شيخ، أنت أحمق.
قال: قد أخبرت مولاك، فأبى عليّ. فجاءت إلى المهديّ تشكو إليه فقال لها: الزمي بيتك، ولا تعرضي له.
قال ابن أبي ليلي: ما لقينا من هنيّ، كلما توجّهت لنا قضية نقضها علينا أبو حنيفة.
وشهد أبو حنيفة عند شريك، فلم يجز شهادته، وقال: كيف أجيز شهادة قوم يزعمون أن الصّلاة ليست من الإيمان.
وكان ابن شبرمة يقول: لأن استعمل خائنا بصيرا بعمله أحبّ إليّ من أن استعمل مضيّعا لا يبصر العمل.
ودخل سوّار بن عبد الله على المنصور والمصحف في حجره، وعيناه تهملان فقال: السلام عليكم. يا أمير المؤمنين. فقال: يا سوّار، ألا مرة على المؤمنين! هدمت ديني، وذهبت بآخرتي، وأفسدت ما كان من صالح عملي. قال سوّار: فانتهزتها فرصة، وطلبت ثواب الله في عظته فقلت: يا أمير المؤمنين، إنك جدير بالبكاء، حقيق بطول الحزن ما أقمت في الدنيا، وقد استرعاك الله أمر المسلمين، واستحفظك أموالهم يسألك عما عملت فيما استرعاك في اليوم الذي أعلمك في كتابه، فقال: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النََّاسُ أَشْتََاتاً لِيُرَوْا أَعْمََالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (8) [الزلزلة: 86]، فازداد بكاء، وقال: {يََا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هََذََا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا}
[مريم: 23]. ثم قال يا سوّار إني أعالج نفسي، وأعاتبها منذ وليت أمور المسلمين على حمل الدرّة على عنقي، والمشي في الأسواق على قدمي، وأن أسدّ بالجريش من الطعام جوعتي، وأواري بأخشن الثّياب عورتي، وأضع قدر من أراد الدنيا، وأرفع قدر من أراد الآخرة، وسعى لها، فلم تطعني، وعصتني، ونفرت نفورا شديدا.(5/104)
قال سوّار لا تجشّمها يا أمير المؤمنين صعاب الأمور، ولا تحمّلها ما لا تطيق، وألزمها أربع خصال تسلم لك دنياك وآخرتك: أقم الحدود واحكم بالعدل، واجب الأموال من وجوهها، واقسمها على أهلها بالحقّ.
خاصم عبد الله بن عبد الأعلى الكريزي، مولى له في أرض إلى سوّار وكان جدّه أقطعها جدّه فقال سوار: إني لأرغب بك عن هذا تنازعه في أرض أقطعها جدّك جدّه؟ فقال الكريزي الشحيح أغدر من الظالم. فنكس سوار طويلا، ثم رفع رأسه، فقال: اللهمّ اردد على قريش أخطارها.
دعا الرشيد أبا يوسف القاضي ليلا، فسأله عن مسألة، فأفتاه. فأمر له بمائة ألف درهم. فقال: إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بتعجيلها قبل الصّبح. فقال:
عجّلوها له. فقيل: إن الخازن في بيته، والأبواب مغلقة، فقال أبو يوسف: وقد كنت في بيتي والدروب مغلقة، فحين دعي بي فتحت.
وقال له الرشيد: بلغني أنّك لا ترى لبس السّواد. فقال: يا أمير المؤمنين.
ولم؟ وليس في يدي شيء أعز عليّ منه. قال: ما هو؟ قال: السواد الذي في عيني.
وسئل مرة عن السّواد، فقال: النّور في السّواد يريد سواد العين.
وكان خالد بن طليق الخزاعي قاضيا، فاختصم إليه اثنان، فكان أحدهما كلما أراد أن يتكلّم غمزه الشرطيّ ألّا يتكلم، فلما كثر ذلك عليه قال: أيّها القاضي، أتقضي على غائب؟ فقال: لا. فقال: أنا غائب إذا لم أترك أن أتكلّم.
وكان خالد تيّاها صلفا، وقال يوما لمحمد بن سليمان مع محلّه وشرفه وثروته نحن وأنتم في الجاهلية كهاتين. وجمع بين إصبعيه.
كان عبيد بن ظبيان قاضي الرّقّة، فجاءه رجل واستعداه على عيسى بن جعفر، وكان الرشيد إذ ذاك بالرّقة فكتب ابن ظبيان إلى عيسى أمّا بعد أطال الله بقاء الأمير وحفظه وأتم نعمته عليه. أتاني رجل فذكر أنّ له على الأمير خمسمائة ألف درهم. فإن رأى الأمير أعزّه الله أن يحضر مجلس الحكم، أو يوكّل وكيلا يناظر عنه فعل.(5/105)
ودفع الكتاب إلى الرّجل، فأتى باب عيسى، فدفع كتابه إلى الحاجب.
فأوصله إليه، فقال له: كل هذا الكتاب! فرجع إلى القاضي فأخبره. فكتب إليه:
أبقاك الله وحفظك، وأتمّ نعمته عليك. حضر رجل يقال له فلان ابن فلان وذكر أنّ له عليك حقّا، فصر معه إلى مجلس الحكم، أو وكيلك إن شاء الله.
ووجّه الكتاب مع عونين من أعوانه، فحضرا باب عيسى، ودفعا الكتاب إليه، فغضب ورمى به، فأخبراه.
فكتب إليه: حفظك الله وأبقاك لا بدّ من أن تصير أنت وخصمك إلى مجلس الحكم، فإن أبيت أنهيت ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله.
ووجّه بالكتاب، فرمى به عيسى. فعادا، وأبلغاه، فختم قمطره، وانصرف، وقعد في بيته.
وبلغ الخبر الرشيد، فدعاه، فسأله، فأخبره بالقصّة حرفا حرفا. فقال لإبراهيم بن عثمان صاحب شرطته: صر إلى باب عيسى بن جعفر، فاختم أبوابه كلّها، ولا يخرجنّ أحد منها، ولا يدخلنّ حتّى يخرج إلى الرجل من حقّه، أو يصير معه إلى الحاكم.
فأحاط إبراهيم مع أصحابه بالدار، وختم الأبواب. فظنّ عيسى أنه قد حدث للرشيد رأي في قتله، ولم يدر ما سبب ذلك؟ وارتفع الصّياح، وصراخ النساء من داره، وقال من وراء الباب ادعوا أبا إسحاق لأكلّمه. فجاء إبراهيم، فقال له عيسى ويلك! ما حالنا؟ فأخبره بالأمر فأمر بأن يحضر خمسمائة ألف درهم من ساعتها، وتدفع إلى الرجل وأخبر الرشيد، فأمر بفتح أبوابه.
وكان عبّاد بن منصور التاجي على قضاء البصرة في أيام أبي جعفر.
وأصحاب الحديث يضعفون حديثه، ويقولون: كان قدريا.
وتقدم إليه برذوّيه ومعه امرأة تخاصمه في مهرها وكانت جميلة. فقال: كم مهرك؟ قالت: مائتا درهم فقال عباد: ويحك يا برذويه! ما أرخص ما تزوّجتها؟
قال: أفلا أوليكها أصلحك الله.
ذكر أنه لما حكم وفرض يحيى بن أكثم فرضه المشهور للغلمان عابه الناس
فكتب إلى المأمون: يا أمير المؤمنين، قد أكرم الله أهل جنّته بأن أطاف عليهم الغلمان في وقت كرامته، لفضلهم في الخدمة على الجواري، وامتنّ عليهم بذلك.(5/106)
ذكر أنه لما حكم وفرض يحيى بن أكثم فرضه المشهور للغلمان عابه الناس
فكتب إلى المأمون: يا أمير المؤمنين، قد أكرم الله أهل جنّته بأن أطاف عليهم الغلمان في وقت كرامته، لفضلهم في الخدمة على الجواري، وامتنّ عليهم بذلك.
فما الذي بلغني عاجلا من طلب هذه الكرامة للخصوص بها أهل القربة عند الله؟
فوقع المأمون: اذكر يا يحيى من كتاب الله ما كنّا عنه غافلين، فلا يعترض عليه فيما يقدّر من الأرزاق في فرضه، ولا لمبلغهم في العداد، وقرب الولاء فإنّ أمير المؤمنين يحبّ ما أحبّ الله، ويرضاه لخاصته.
وكان له من المأمون محلّ عظيم.
وذكر بختيشوع أنه سمع المأمون يقول لما جاوز الدرب بالرقة يا أيها الناس إني لا آمن الحدثان، فإن كان فيحيى بن أكثم معكم حتّى نبلغكم مأمنكم ثم تختارون لأنفسكم.
ورفع محمد بن عمران صاحب البريد إلى المأمون ذكر خوض الناس في يحيى بن أكثم وما يقولون في تهتكه، فدعا به، ثم قال له: كم تكثر عليّ في أمر يحيى؟ رجل فسد عليه عضو من أعضائه، وصلح لي؟ أأستفسد؟ ثم سخط عليه.
وكتب في معناه كتابا طويلا إلى إسحاق بن إبراهيم من الثّغر يقول فيه: فلما استشفّ أمير المؤمنين حاله وسيرته ألفاه بعيدا من الإيمان، قريبا من الكفر، لهجا باللوّاط، مؤثرا للحرام على الحلال، قد أعلن الفسق، وأظهر المروق، وجاهر بالمعاصي، وأظهر الملاهي، ورخّص في الدنّ، وخالف دين المسلمين فرأى أمير المؤمنين أن إخراجه من عسكره، وبعده من جواره، أسلم له، وأصرف للمكروه عنه. فأسلبه قبحه الله القنا والقلنسوة، وخذ منه السّيف.
وكان المأمون قد أمر بأن يفرض له الحدود، وكان الكاتب الذي أمر بفرضهم يقال له زيد فقال فيه بعضهم: [الرجز] يا زيد يا صاحب فرض الفراش ... أكلّ هذا طلبا للمعاش
ما لي أرى يا زيد حملانكم ... ثبتت في الدفتر قبل الكباش
ولما خرج المأمون إلى الأردنّ ويحيى معه شكا الحمال الغلمان، وقال:
للمأمون: إنهم يتظافرون من محمل إلى محمل. فقال له المأمون: لم لا تنهاهم؟
فقال: لا ينتهون. فقال له: لعلك ترى فيهم ما يرى يحيى.(5/107)
للمأمون: إنهم يتظافرون من محمل إلى محمل. فقال له المأمون: لم لا تنهاهم؟
فقال: لا ينتهون. فقال له: لعلك ترى فيهم ما يرى يحيى.
وتقدم المأمون بين يديه مع رجل ادّعى عليه ثلاثين ألف دينار. فطرح للمأمون مصلّى يجلس عليه. فقال يحيى: لا تأخذ على خصمك شرف المجلس، ولم تكن للرجل بيّنة، فحلف المأمون، فلما فرغ وثب يحيى، فقام على رجليه، فقال: ما أقامك؟
فقال: إني كنت في حقّ الله حتّى أخذته منك، وليس الآن من حقّك أن أتصدّر عليك. فأعطى الرجل المأمون، ما ادّعاه، وهو ثلاثون ألف دينار، وقال:
خذه إليك. إني والله ما كنت لأحلف على فجرة. ثم أسمح لك بالمال، فأفسد ديني ودنياي. وو الله ما دفعت إليك هذا المال الساعة إلّا خوفا من هذه العامّة فعلها ترى أن تناولتك من هذه القدرة، ومنعتك حقّك بالاستطالة عليك، فأمّا الآن فإنك تعلم أنّي ما كنت لأسمح باليمين والمال.
وأمر ليحيى بثلاثين ألف دينار. وتصدّق بثلاثين ألف دينار.
وكان يحيى يقول: سياسة القضاء أمدّ من القضاء.
كان أبو خازم عبد الحميد بن عبد العزيز الكوفي قاضيا للمعتمد. ودخل إلى عبيد الله بن سليمان، فسأله عن النّبيذ، فقال: هو عند أصحابي كماء دجلة، غير أنّه يودي.
وجرى بينه وبين عبيد الله شيء، فقام أبو خازم عن المجلس، وأخذ قلنسوته عن رأسه بيده، فقال عبيد الله: انظروا ما صنع أبو خازم أخذ قلنسوته بيده يعلمنا أنه ما يبالي إن عزلته.
ومات في أيامه الضّبعيّ صاحب الطعام، وله أطفال، وعليه ديون وللمعتضد عليه أربعة آلاف دينار، فقال المعتضد لعبيد الله بن سليمان: قل لعبد الحميد أن يدفع إلينا هذا المال من تركة الضّبعي، فذكر له ذلك، فقال أبو خازم: إن المعتضد كأسوة الغرماء في تركة الضبعي، فقال له عبيد الله: أتدري ما تقول؟ فقال أبو خازم: هو ما قلت لك.
وكان المعتضد يلحّ على عبيد الله في اقتضاء المال: وعبيد الله يؤخّر ما قال
له أبو خازم فلما ألحّ عليه أخبره بما قال أبو خازم، فأطرق المعتضد، ثم قال:(5/108)
وكان المعتضد يلحّ على عبيد الله في اقتضاء المال: وعبيد الله يؤخّر ما قال
له أبو خازم فلما ألحّ عليه أخبره بما قال أبو خازم، فأطرق المعتضد، ثم قال:
صدق عبد الحميد، هو كما قال: نحن كسائر الغرماء وأسوتهم.
تقدم رجل إلى أبي خازم، وقدّم أباه يطالبه بدين له عليه. فأقر الأب بذلك.
فأراد الابن حبس أبيه بالدين. فقال له أبو خازم: هل لأبيك مال؟ قال: لا أعلمه.
قال: فمذ كم داينته بهذا المال؟ قال: منذ كذا وكذا. قال: فقد عرضت عليك نفقة أبيك من وقت المداينة. فحبس الابن، وخلّى عن الأب.
وكان إسماعيل بن إسحاق، قاضيا للمعتمد بمدينة السلام، فدخل على الموفق، فقال له: يا إسماعيل: ما تقول في هذا النبيذ؟ فقال له: أيها الأمير، إذا أصبح الإنسان وفي رأسه منه شيء. قال: ماذا؟ قال الموفق: يقول: أنا مخمور.
قال: فهو كاسمه.
قدم البلاذري (1) إلى الحسن بن أبي الشوارب في دين عليه، فادّعى غريمه مائتي دينار. فذكر البلاذري معاملة بينهما. وعادة جرت بالنّظرة. فقال له القاضي:
انظره. فقال: لم أطالبه إلا وقد علمت الساعة نعمته. فقال البلاذري: صدق أيها القاضي، إني من الله لفي نعم، لا أقوم بشكرها، أولها: نعمة الإسلام وهي التي لا تعدلها نعمة، ثم نعمة العافية وهي أفضل النّعم بعدها وما يقضى من هاتين الدين. فقال القاضي لغريمه: انصرف، ورح إليّ. فراح إلى القاضي، فأعطاه عنه مائتي دينار.
كان يحيى بن سعيد الأنصاري قاضيا للرشيد، وكان خفيف الحال وكان له مجلس من السّوق. فلما ولي القضاء، وارتفع شأنه لم يترك مجلسه في السوق.
فقيل له في ذلك، فقال: من كانت له نفس واحدة لم يغيّره الإقتار، ولا المال.
كان البرقيّ عفيفا، صالحا، وولي قضاء مدينة السلام أيام المعتمد، وكان قد ولاه قبل ذلك يحيى بن أكثم. فقيل له: وليت البرقي القضاء وهو رجل من أهل السواد؟
__________
(1) البلاذري: هو أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري، أبو جعفر البغدادي المؤرخ، توفي سنة 279هـ، له من المصنفات: «الاستقصاء في الأنساب والأخبار»، «أنساب الأشراف»، «فتوح البلدان»، «كتاب عهد أردشير». (كشف الظنون 5/ 51).(5/109)
فقال يحيى: ألم تسمع قول الله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ رَسُولٍ إِلََّا بِلِسََانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4].
قال بعضهم: رأيت البرقيّ يوما، وهو يقرأ علينا شيئا من حديث سفيان فقال له رجل كان معنا: يا أبا العباس. فقام إليه البرقي، وضرب لحيته، وقال له:
أنا قاض مذ كذا وكذا سنة! تقول: هيا يا أبا العباس.
وذكر أن البرقي صار إلى عبد العزيز الهاشمي وكان صديقه فهو معه جالس إذا دخل عليه رجل فسلم، وقعد، فقال له عبد العزيز: ما خبرك؟ قال: قد وليت السّواني لأسني الماء للحاج. ثم دعا بكوز من ماء فشربه. ثم صبر ساعة، فدعا بكوز آخر فشربه، ثم صبر ساعة، ودعا بكوز آخر والبرقيّ يراه فقال لعبد العزيز: يا أبا القاسم، هذا قد ولي السواني، لئن خرج هذا إلى مكة ليشربن كل ما يسني.
كان عبد الملك بن عمير قاضي الكوفة، فهجاه هذيل الأشجعي بأبيات فيها:
[الطويل] إذا ذات دلّ كلمته بحاجة ... فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل
فكان عبد الملك يقول: قاتله الله. والله لربما جاءتني النحنحة وأنا في المتوضأ، فأذكر ما قال فأردّها.
قالت امرأة لشريح: إنك قضيت علي وظلمتني والله يدخلك النار.
فقال شريح لها: أما أنا فلا أدخلها إلا بعد سبعة، وهم: الذي علمني، والذي ولّاني، والذي جاء بك إليّ، والشاهدان والمزكّيان.
قال الواثق لأحمد بن أبي دواد: إن حوائجك، ومسائلك تستنفذ بيوت الأموال. فقال: يا أمير المؤمنين، أتخاف الفقر والله مادّتك؟
قال بعضهم: سمعت ابن أبي دواد يقول: إني لأكره أن أكلّم الخلفاء بحضرة ابن الزيات خوفا من أن أعلّمه التأتّي لها.
وكان المعتصم غضب على خالد بن يزيد بن مزيد. فلم يزل به أحمد بن أبي
دواد حتّى عفا عنه. وأعطاه، وولاه، وخرج على الناس بالخلع وهم ينتظرون رأسه. فقام بعد ذلك رجل إلى خالد، فقال: يا سيّد العرب. فقال: ذلك ابن أبي دواد.(5/110)
وكان المعتصم غضب على خالد بن يزيد بن مزيد. فلم يزل به أحمد بن أبي
دواد حتّى عفا عنه. وأعطاه، وولاه، وخرج على الناس بالخلع وهم ينتظرون رأسه. فقام بعد ذلك رجل إلى خالد، فقال: يا سيّد العرب. فقال: ذلك ابن أبي دواد.
وكان أبو العيناء يقول: كان أحمد بن أبي دواد إذا رأى صديقه مع عدوّه قتل صديقه.
وقال أبو العيناء: ما رأيت مثل ابن أبي دواد من رجل قد مكّن في الدنيا ذلك التمكين، كنت أراه في مجلس سقفه غير معرّى، جالسا على مسح وأصحابه معه يتدّرن القميص عليه فلا يبدّله، حتى يعاتب في ذلك، ليست له همة ولا لذة من لذات الدنيا إلا أن يحمل رجلا على منبر، وآخر على جذع.
وقال له المعتصم في أمر العباس بن المأمون: يا أبا عبد الله أكره أن أحبسه، فأهتكه وأكره أن أدعه فأهمله. فقال له ابن أبي دواد: الحبس يا أمير المؤمنين فإن الاعتذار خير من الاغترار.
وكان الأفشين يحسد أبا دلف ويبغضه للعربية، والشجاعة والجود. فاحتال عليه حتّى شهد عليه بخيانة فجلس له، وأحضره، وأحضر السياف لقتله. وبلغ ذلك أحمد بن أبي دواد، فركب مع من حضره من عدوله. ودخل على الأفشين وقد جيء بأبي دلف ليقتل. فوقف، ثم قال: إني رسول أمير المؤمنين إليك بألا تحدث في القاسم حدثا حتّى تحمله إليه مسلّما. ثم التفت إلى العدول، فقال:
اشهدوا أنّي أديت الرسالة والقاسم حيّ معافى. وخرج فلم يقدم الأفشين عليه.
وصار ابن أبي دواد من وقته إلى المعتصم، فقال: يا أمير المؤمنين، قد أديت عنك إلى الأفشين رسالة لم تقلها لي، لا أعتدّ بعمل عملته خير منها، وإنّي لأرجو لك يا أمير المؤمنين بها الجنة، وخبره الخبر، فصوب رأيه، وأمر بالإفراج عن أبي دلف.
وكان أحمد بن أبي دواد بعد ذلك يقرّظ أبا دلف ويصفه للمعتصم، فقال له:
يا أبا عبد الله إن أبا دلف حسن الغناء، جيّد الضرب بالعود. فقال: يا أمير المؤمنين، القاسم في شجاعته وبيته في العرب يفعل هذا!(5/111)
ثم أحب المعتصم أن يسمعه ابن أبي دواد. فقال له يوما: يا قاسم، غنّني.
فقال: والله ما أستطيع ذلك وأنا أنظر إلى أمير المؤمنين هيبة وإجلالا. قال:
فاجلس من وراء ستارة. ففعل وغنى.
وأحضر ابن أبي دواد، وأجلسه وقال: كيف تسمع هذا الغناء؟ قال: أمير المؤمنين أعلم به، ولكنّي أسمع حسنا. فغمز غلاما، فهتك السّتارة، فإذا أبو دلف.
فلما رأى أبو دلف ابن أبي دواد وثب قائما، وأقبل على ابن أبي دواد، فقال: إني أجبرت على هذا. فقال: يا ماجن. لولا دربتك في الغناء من أين كنت تأتي مثل هذا؟ هبك أجبرت على أن تغنّي، من أجبرك على أن تحسن.
ذكر ابن أبي دواد أبا الهذيل، فقال: كلامه مطلّ على الكلام كإطلال الغمام على الأنام.
لما مات عبد الله بن طاهر قال الواثق لأحمد بن أبي دواد: قد عزمت يا أبا عبد الله على أن أقلّد إسحاق بن إبراهيم خراسان. فقال: لرأي أمير المؤمنين فضله، غير أنّي رأيتكم تحفظون الاخلاف للأسلاف. فقال: حسبك. وعقد لطاهر ابن عبد الله.
قال العدلي الشّطرنجي للواثق: يا أمير المؤمنين. ما قمرني فلان إلا أني كنت سكران. فقال لابن أبي دواد: يا أبا عبد الله. فأقم عليه الحد. قال: ولم يا أمير المؤمنين؟
قال: لأنه قد أقر على نفسه بالسّكر. فقال: هذا إقرار افتخار لا إقرار اعتراف.
قال يحيى بن أكثم: نلت القضاء، وقضاء القضاة، والوزارة، ما سررت بشيء مثل قول المستملي. من ذكرت رحمك الله؟
دخل عبد الرحمن بن إسحاق القاضي على إسحاق بن إبراهيم الطّاهري فبينا هو يخاطبه إذ وقعت عينه على قطعة وتر للعود كانت على البساط، فأخذها، وجعل يلفّها على يده، ويعبث بها سهوا، ورآه إسحاق فقال: يا أبا محمد: لا
تغلط وتخرج وفي يدك ما فيها، فتلقى من العامة مثلما لقينا منك. فاستحى عبد الرحمن وألقاها، وضرب إسحاق الفراشين ألف مقرعة بهذا السبب.(5/112)
دخل عبد الرحمن بن إسحاق القاضي على إسحاق بن إبراهيم الطّاهري فبينا هو يخاطبه إذ وقعت عينه على قطعة وتر للعود كانت على البساط، فأخذها، وجعل يلفّها على يده، ويعبث بها سهوا، ورآه إسحاق فقال: يا أبا محمد: لا
تغلط وتخرج وفي يدك ما فيها، فتلقى من العامة مثلما لقينا منك. فاستحى عبد الرحمن وألقاها، وضرب إسحاق الفراشين ألف مقرعة بهذا السبب.
لما قال دعبل (1) في المعتصم: [الطويل] ملوك بني العباس في الكتب سبعة ... ولم يأتنا في ثامن لهم كتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة ... خيار إذا عدّوا وثامنهم كلب
لقد ضاع أمر الناس حين يسوسهم ... وصيف وأشناس وقد عظم الخطب
نذر المعتصم دمه، وطلب طلبا شديدا، فتوارى وهرب.
فسمع ابن أبي دواد المعتصم يوما يقول: لأقتلنّ دعبلا. قال: ولم؟ قال:
هجاني. قال: يا أمير المؤمنين إنّ دعبلا شريف، وعنده من الفضل ما يردعه عن هذا ولكن أخبرني من المبلغ لك ذلك عنه؟ قال: عمّي إبراهيم المهدي. قال:
أتاك الخبر، أنّ إبراهيم موتور ففي حكمك قبول قول حاقد محفظ. قال: معاذ الله. قال: إن دعبلا هتك إبراهيم عمّك بقوله أيام تولّيه الخلافة (2): [الكامل] إن كان إبراهيم مضطلعا بها ... فلتصلحن من بعده لمخارق
ولتصلحن من بعد ذلك لزلزل ... ولتصلحن من بعده للمارق
فضحك وقال: أجل. إن كان إبراهيم خليفة فمخارق وليّ عهد، وقد صفحنا عمّا أردنا. قال: إن أمير المؤمنين أجلّ من أن يعمر قلبا بحزن ساخطا، ولا يعمره بسرور راضيا. قال: فاحكم يا أبا عبد الله. قال: خمسون ألف درهم يرمّ بها حاله. فقبض المال، وأنفذ الكتاب إلى مصر وكان دعبل بها فلم يشكره دعبل وكافأه بأن قال فيه: [الخفيف] سحقت أمّه ولاط أبوه ... ليت شعري عنه، فمن أين جاء
في أهاج كثيرة له فيه.
__________
(1) هو دعبل بن علي بن رزين الخزاعي، شاعر هجّاء أصله من الكوفة، أقام ببغداد، وكان صديق البحتري، توفي سنة 246هـ (الأعلام 2/ 340). والبيت في ديوان دعبل ص 131 (جمع وتحقيق محمد يوسف نجم، دار الثقافة بيروت)، وتاج العروس (ثفن). وفي الديوان: «ومنزل وهي» بدل:
«ومنزل وحي».
(2) البيتان في الشعر والشعراء ص 827.(5/113)
وسعي بأبي تمام إلى المعتصم أنّه قال في شعر مدح به أبا سعيد الثفري:
[البسيط] تزحزحي عن طريق المجد يا مضر ... هذا ابن يوسف لا يبقي ولا يذر
فنذر المعتصم دمه. فقام ابن أبي دواد، فكذب عنه، وحلف مجتهدا: أن هذا الشعر ليس من طرف شعر أبي تمام حتّى استنقذه من سخطه. فكافأه أبو تمام أحسن مكافأة، وشكره أحسن شكر، ومدحه بقصائده المشهورة فيه.
غضب المهديّ يوما على شريك فقال: يا بن الزانية، فقال شريك مه يا أمير المؤمنين. فما علمتها إلّا صوّامة قوّامة. فقال له: يا زنديق، لأقتلنّك. فقال شريك، وكان جهوريّ الصوت: إن للزنادقة علامات يعرفون بها شربهم القهوات (1) واتخاذهم القيّنات، ونومهم عن العتمات فأطرق المهديّ، وقام شريك، فخرج.
ذكر أنّ جماعة من الرؤساء باتوا عند أبي دواد، فلما أخذوا مضاجعهم إذا الخدم أخرجوا لكل واحد منهم جارية، قال: فاحتشموا من ذاك. وبات الجواري ناحية، وقام بعضهم فلما أصبحنا وجّه بجارية كلّ واحد إلى منزله، ومعها وصيفة.
دخل ابن أبي دواد إلى الواثق وقد أتي بابن أبي خالد الذي كان بالسّند، فقال: والله، لأضربنّك بالسّياط. وو الله لا يكلّمني فيك أحد من الناس إلا ضربت بطنه، وظهره. فسكت حتّى ضربه عشرين سوطا، ثم قال: يا أمير المؤمنين في هذا أدب، وفي دونه استصلاح، ومجاوزته سرف. وإنما أبقي عليك من القصاص. قال: أو ما سمعت يميني ألّا يكلّمني فيه أحد إلا ضربت ظهره وبطنه.
قال: قد سمعت. لكن يكفّر أمير المؤمنين، ويأتي الذي هو إلى الله عز وجل أقرب، وعنده أفضل. قال: خلّيا عنه. كفّر يا غلام عن يميني.
سئل رجل من البلغاء عن يحيى بن أكثم، وأحمد بن أبي دواد: أيّهما أنبل؟
__________
(1) القهوات: جمع قهوة وهي الخمرة.(5/114)
فقال: كان أحمد يجدّ مع جاريته وابنته، ويحيى يهزل مع خصمه وعدوّه.
وكان ابن أبي دواد يتحلّل عن أن يخاطب بالوزارة، والقضاء، فلا يخاطب إلّا بالكنية.
وكذلك روح بن حاتم المهلّبي ولي إفريقية والبصرة، والكوفة، وأرمينيّة وغير ذلك، فلم يسمّ بالإمرة قطّ، وإنّما كان يكنّى بكنيته، وكان يكنّى أبا خلف، وكذلك السّنديّ بن شاهك.
وقال ابن الزيّات يوما لابن أبي دواد في مناظرة بينهما: لست بنبطيّ، ولا دعيّ يعرّض به. فقال: ما دونك أحد فتنزل إليه، ولا فوقك من يقبلك فتنتمي إليه.
قال الحسن بن وهب: شكرت أبا عبد الله أحمد بن أبي دواد على شيء كان منه.
فقال لي: لا أحرجك الله، ولا إيّانا إلّا أن نعرف ما لنا عند الأصدقاء.
وتخطّى بعض بني هاشم رقاب الناس عند ابن أبي دواد، فقال: يا بنيّ إن الأدب ميراث الأشراف، ولست أرى عندك من سلفك ميراثا. فاستحسن كلامه كلّ من حضر.
قال الواثق يوما لأحمد بن أبي دواد في رجل حمل إليه من بعض النواحي قد عزمت على ضرب عنقه. فقال: لا يحلّ لك يا أمير المؤمنين. قال: فأضربه بالسّياط. قال: ظهر المسلم حمى إلا من حدّ. قال له: أنت أبدا تعترض عليّ.
قال: يا أمير المؤمنين أخاف عليك العامّة. قال: وما عسى العامّة تفعل: قال:
أقول: يا أمير المؤمنين ولا تغضب. قال: قل. قال: إذا رأوك قد جرت في الحكم أخذوا بيدك فأقاموك عن مجلسك، وأجلسوا غيرك. قال: فأمسك الواثق، ولم يحر جوابا، وزال المكروه عن ذلك الرجل.
وقال ابن أبي دواد: موت الأحرار أشدّ من ذهاب الأموال.
وقال: الشجاعة شجاعة في القلب، والبخل شجاعة في الوجه.(5/115)
قال رجل لابن شبرمة: ذهب العلم إلا غبّرات في أوعية سوء.
وقال الشعبي: كان بين عبد الله بن شريح وبين قوم خصومة. فقال: يا أبه.
إن بيني وبين قوم خصومة، فإن كان الحقّ لي خاصمتهم. قال: اذكر لي قصّتك.
فذكر ماله، قال: ايتني بهم. فلما أتاه بهم قضى على ابنه، فقلت لمّا رجع: يا أبه.
لو لم أخبرك بقصّتي كان أعذر لك عندي.
فقال: يا بني أنت أعزّ علي من ملء الأرض مثلهم، والله أعزّ عليّ منك كرهت إن أخبرتك أن القضاء عليك أن تخافهم فتصالحهم.(5/116)
الباب التاسع كلام الحسن البصري (1)
كان الحجاج يقول: أخطب الناس صاحب العمامة السوداء بين أخصاص البصرة إذا شاء تكلم، وإذا شاء سكت يعني «الحسن».
كتب إليه عمر بن عبد العزيز: أن أعنّي ببعض أصحابك، فكتب إليه الحسن: أما بعد، فإنه من كان من أصحابي يريد الدنيا فلا حاجة لك فيه، ومن كان يريد الآخرة فلا حاجة له فيما قبلك، ولكن عليك بذوي الإحسان فإنهم إن لم يتقوا استحيوا، وإن لم يستحيوا تكرموا.
وقال: «كن في الدنيا كالغريب الذي لا يجزع من ذلّها ولا يشارك أهلها في عزّها. للناس حال وله حال أخرى، قد أهمته نفسه، وعمل لما بعد الموت فالناس منه في عافية، ونفسه منه في شغل.
ذكروا أنه سمع رجلا يقول: أهلك الله الفجّار فقال: إذن نستوحش في الطّرق.
قال أعرابي للحسن: علّمني دينا وسوطا، لا ذاهبا شطوطا ولا هابطا هبوطا.
فقال الحسن: لئن قلت ذلك إن خير الأمور لأوساطها.
وقال له رجل: إني أكره الموت. قال: ذاك أنك أخرت مالك ولو قدمته لسرك أن تلحق به.
وقال: اقدّعوا هذه النّفرس فإنها طلعة، واعصوها فإنّكم إن أطعتموها تنزع
__________
(1) الحسن البصري: تقدمت ترجمته في هذا الجزء.(5/117)
بكم إلى شرّ غاية، وحادثوها بالذّكر فإنها سريعة الدثور.
قال عنبسة: شهدت الحسن يقول وقال له رجل بلغنا أنك تقول: لو كان عليّ بالمدينة يأكل من حشفها كان خيرا له مما صنع فقال الحسن: يا لكع أما والله لقد فقدتموه سهما من مرامي الله غير سؤوم عن أمر الله ولا سروقة لمال الله.
أعطى القرآن عزائمه فيما عليه، وله فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، حتى أورده ذلك رياضا مونقة، وحدائق مغدقة. ذاك ابن أبي طالب يا لكع.
وقال الحسن: لا تزول قدم ابن آدم حتّى يسأل عن ثلاث: شبابه: فيم أبلاه؟
وعمره: فيما أفناه؟ وماله: من أين أكتسبه؟ وفيم أنفقه؟
ورأى رجلا يكيد بنفسه فقال: إن امرأ هذا آخره لجدير أن يزهد في أوله.
وإن امرأ هذا أوله لجدير أن يخاف آخره.
وقال: بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا.
وقال: من أيقن بالخلف جاد بالعطية.
وقال: من خاف الله أخاف الله منه كلّ شيء، ومن خاف الناس أخافه الله من كلّ شيء.
وقال: ما أعطي أحد شيئا من الدنيا إلا قيل له: خذه ومثله من الحرص.
قال الحسن: إن قوما جعلوا تواضعهم في ثيابهم، وكبرهم في صدورهم حتى لصاحب المدرعة في مدرعته أشدّ فرحا من صاحب المطرف، بمطرفه.
وقال: من كان قبلكم أرقّ قلوبا، وأصفق دينا، وأنتم أرقّ منهم دينا، وأصفق قلوبا.
قيل لخالد بن صفوان: من أبلغ النّاس؟ قال: الحسن البصري لقوله فضح الموت الدنيا لو عقل أهل الدنيا خربت الدنيا.
وقال: أهينوا الدنيا فو الله لأهنأ ما تكون حين تهينونها.
وقال له رجل: ما تقول في الدنيا؟ قال: حلالها حساب، وحرامها عذاب.
فقال له: ما رأيت أوجز من كلامك. فقال الحسن: بل كلام عمر بن عبد العزيز أوجز من كلامي.(5/118)
وقال له رجل: ما تقول في الدنيا؟ قال: حلالها حساب، وحرامها عذاب.
فقال له: ما رأيت أوجز من كلامك. فقال الحسن: بل كلام عمر بن عبد العزيز أوجز من كلامي.
كتب إليه بعض عمّال حمص: أما بعد: فإنّ مدينة حمص قد تهدمت، واحتاجت إلى إصلاح.
فكتب إليه عمر: حصّنها بالعدل، ونقّ طرقها من الجور: والسلام.
قال الحسن لفرقد: يا أبا يعقوب. بلغني أنّك لا تأكل الفالوذج. قال: يا أبا سعيد. أخاف ألّا أؤدّي شكره. قال: يا لكع! وهل تؤدّي شكر الماء البارد؟
وسمع رجلا يشكو علّة به إلى آخر. فقال: أما إنّك تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك.
وقيل له: من شرّ الناس؟ قال: الذي يرى أنّه خيرهم.
وقال: قد ذمّ الله الثّقل في القرآن بقوله: {فَإِذََا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:
53].
وقال: الدّنيا كلّها غمّ، فما كان فيها من سرور فهو ربح.
وقال: إن الله جل ثناؤه لم يأمر نبيّه عليه السلام بمشاورة أصحابه لحاجة منه إلى آرائهم، ولكنّه أحبّ أن يعلّمه ما في المشورة من البركة.
ويروى عنه أنه قال منذ دهر ندعو الله فنقول: اللهم استعمل علينا أخيارنا فأعظم بها مصيبة ألا يستجاب لنا، وأعظم من ذلك أن يكون استجيب لنا فيكون هؤلاء خيارنا.
وذكر الدنيا فقال: المؤمن لا يجزع من ذلّها ولا ينافس في عزّها.
وقال: أربع قواصم للظهر: إمام تطيعه ويضلّك، وزوجة تأمنها وتخونك، وجار إن علم خيرا ستره، وإن علم شرّا نشره وفقر حاضر لا يجد صاحبه عنه شاردا.
ووصفت الأسواق. فقال الأسواق موائد الله من أتاها أصاب منها.(5/119)
وقال: من عمل بالعافية فيمن دونه رزق بالعافية ممن فوقه.
وقيل له: كيف رأيت الولاة يا أبا سعيد؟ قال: رأيتهم يبنون بكلّ ريع آية يعبثون. ويتخذون مصانع لعلّهم يخلدون. وإذا بطشوا بطشوا جبارين.
وكان يقول: ذمّ الرجل نفسه في العلانية مدح لها في السّر.
وقال: من وسّع الله عليه في ذات يده فلم يخف أن يكون ذلك مكرا من الله به فقد أمن مخوفا، ومن ضيق الله عليه في ذات يده فلم يرج أن يكون ذلك نظرا من الله له فقد ضيّع مأمولا.
وقال: إن من عظيم نعم الله على خلقه أن خلق لهم النار يحوشهم بها إلى الجنة.
وقال لرجل: كيف طلبك للدّنيا؟ قال شديد، قال: فهل أدركت منها ما تريد؟
قال: لا. قال: فهذه التي تطلبها لم تدرك منها ما تريد فكيف بالتي لا تطلبها؟
وقال: ابن آدم أسير الجوع، صريع الشّبع.
وذكر يوما الحجاج فقال: أتانا أعيمش أخيفش له جميمة يرجّلها فأخرج إلينا لماما قصارا، والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله. فقال: بايعوني، فبايعناه ثم رقى هذه الأعواد ينظر إلينا بالتصغير، وننظر إليه بالتعظيم يأمرنا بالمعروف ويجتنبه، وينهانا عن المنكر ويرتكبه.
وسئل عن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللََّهِ وَأَيْمََانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا} [آل عمران: 77] من الثمن القليل؟ قال: الدّنيا بحذافيرها.
وقال: الدنيا تطلب الهارب منها، وتهرب من الطالب لها، فإن أدركت الهارب منها جرحته، وإن أدركها الطّالب لها قتلته.
وقال: رب هالك بالثناء عليه، ومغرور بالستر عليه، ومستدرج بالإحسان إليه.
وقال: إن لم تطعك نفسك فيما تحملها عليه مما تكره فلا تطعها فيما تحملك عليه مما تهوى.(5/120)
وقال: تشبه زياد بعمر فأفرط، وتشبه الحجاج بزياد فأفرط، وأهلك الناس.
وقال: المؤمن لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحبّ.
وقال له بعض الجند في زمن بني أميّة: ترى أن آخذ أرزاقي أو أتركها حتّى آخذ من حسناتهم يوم القيامة؟. قال: مر فخذ أرزاقك، فإن القوم يوم القيامة مفاليس.
وكتب إلى أخ له: أما بعد: فإن الصّدق أمانة، والكذب خيانة والإنصاف راحة، والإلحاح وقاحة، والتواني إضاعة والصّحة بضاعة، والحزم كياسة، والأدب سياسة.
وقال: يا بن آدم. اصحب الناس بأيّ خلق شئت يصحبوك بمثله.
وقال: الرّجال ثلاثة، رجل بنفسه، وآخر بلسانه، وآخر بماله.
وقال له رجل: لي بنية وأنها تخطب، فممّن أزوّجها؟ قال: زوّجها ممن يتقي الله فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها.
وقال: كنا في أقوام يخزنون ألسنتهم، وينفقون أوراقهم، فقد بقينا في أقوام يخزنون أوراقهم، وينفقون ألسنتهم.
وكتب إلى عمر بن عبد العزيز. أمّا بعد: فكأنك بالدّنيا لم تكن، وكأنّك بالآخرة لم تزل.
وقيل له في أمير قدم البصرة، وعليه دين قد قضاه، فقال: ما كان قطّ أكثر دينا منه الآن.
وقال: ينادي مناد يوم القيامة: من له على الله أجر فليقم، فيقوم العافون عن النّاس، وتلا قوله تعالى: {فَمَنْ عَفََا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللََّهِ} [الشورى: 40].
اجتاز نخّاس (1) مع جارية به. فقال: أتبيعها؟ قال: نعم. قال: أفترضى أن تقبض ثمنها الدرهم والدرهمين حتّى نستوفي؟ قال: لا، قال: فإنّ الله عزّ وجلّ
__________
(1) النخاس: تاجر الرقيق.(5/121)
قد رضي في الحور العين بالفلس والفلسين.
وطلب ثوبا ليستتر به، فقيل له: بثلاثة عشر درهما ونصف. فقال: خذ أربعة عشر. فالمسلم لا يشاطر أخاه الدرهم.
وقيل له: ما بال الناس يكرمون صاحب المال؟ قال: لأن عشيقهم عنده.
وكان بلال بن أبي بردة أكولا. فقال: الحسن فيه: يتكئ على شماله ويأكل غير ماله، حتّى إذا كظّه الطعام يقول: ابغوني هاضوما. ويلك! وهل تهضم إلا دينك!
وكان الحسن إذا دخل ختنه تنحّى عن مكانه له، ويقول: مرحبا بمن كفى المونئة، وستر العورة.
ومن كلامه: مسكين ابن آدم مكتوم الأجل والعلل، أسير الجوع والشّبع.
ونظر إلى جنازة قد ازدحم الناس عليها، فقال: ما لكم تزدحمون؟ ها هي تلك ساريته في المسجد. اقعدوا تحتها، واصنعوا ما كان يصنع حتّى تكونوا مثله.
وقال لشيخ في جنازة: أترى أن هذا الميّت لو رجع إلى الدنيا يعمل عملا صالحا؟ قال: نعم، قال له: إن لم يكن ذاك فكن أنت ذاك.
ونظر إلى قصور المهالبة فقال: يا عجبا رفعوا الطّين، ووضعوا الدين، وركبوا البراذين، واتخذوا البساتين، وتشبهوا بالدّهاقين {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتََّى حِينٍ}
(54) [المؤمنون: 54].
وكان يقول في دعائه: اللهم إنّا نعوذ بك أن نملّ معافاتك. فقيل له في ذلك.
فقال: أن يكون الرجل في خفض عيش فتدعوه نفسه إلى سفر.
ودخل إلى مريض قد أبلّ من علّته، فقال له: إنّ الله ذكرك فاذكره وأقالك فاشكره.
ويقال: إنّ أوّل كلامه أنّه صلّى يوما بأصحابه، ثم انفتل، وأقبل عليهم، فقال: أيها الناس، إنّي أعظكم، وأنا كثير الإسراف على نفسي، غير مصلح لها،
ولا حاملها على المكروه من طاعة ربّها، قد بلوت نفسي في السراء والضراء، فلم أجد لها كثير شكر عند الرّجاء، ولا كبير صبر عند البلاء ولو أنّ الرحل لم يعظ أخاه حتّى يحكم أمر نفسه، ويكمل في الذي خلق له من طاعة ربّه، لقلّ الواعظون الساعون إلى الله بالحثّ على طاعته، ولكن في اجتماع الإخوان واستماع حديث بعضهم من بعض حياة للقلوب، وتذكير من النّسيان، أيها الناس إنما الدنيا دار من لا دار له، وبها يفرح من لا عقل له، فأنزلوها منزلتها. ثم أمسك.(5/122)
ويقال: إنّ أوّل كلامه أنّه صلّى يوما بأصحابه، ثم انفتل، وأقبل عليهم، فقال: أيها الناس، إنّي أعظكم، وأنا كثير الإسراف على نفسي، غير مصلح لها،
ولا حاملها على المكروه من طاعة ربّها، قد بلوت نفسي في السراء والضراء، فلم أجد لها كثير شكر عند الرّجاء، ولا كبير صبر عند البلاء ولو أنّ الرحل لم يعظ أخاه حتّى يحكم أمر نفسه، ويكمل في الذي خلق له من طاعة ربّه، لقلّ الواعظون الساعون إلى الله بالحثّ على طاعته، ولكن في اجتماع الإخوان واستماع حديث بعضهم من بعض حياة للقلوب، وتذكير من النّسيان، أيها الناس إنما الدنيا دار من لا دار له، وبها يفرح من لا عقل له، فأنزلوها منزلتها. ثم أمسك.
ولمّا مات أخوه بكى، فقيل له: أتبكي يا أبا سعيد؟ فقال: الحمد لله الذي لم يجعل الحزن عارا على يعقوب.
وقال: إذا خرجت من منزلك فلقيت من هو أسنّ منك فقل: هذا خير منّي عبد الله قبلي، وإذا لقيت من هو دونك في السّنّ فقل: هذا خير منّي عصيت الله قبله، وإذا لقيت من هو مثلك فقل: هذا خير منّي أعرف من نفسي ما لا أعرف منه.
وكان يقول: يا عجبا لقوم قد أمروا بالزاد، وأذنوا بالرّحيل، وأقام أوّلهم على آخرهم، فليت شعري ما الذي ينتظرون؟
ونظر إلى النّاس في مصلّى البصرة يضحكون، ويلعبون في يوم عيد، فقال:
إنّ الله عزّ وجل جعل الصّوم مضمارا لعباده ليستبقوا إلى طاعته، ولعمري لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه، ومسيء بإساءته عن تجديد ثوب، أو ترطيل شعر:
وكان يقول: اجعل الدنيا كالقنطرة تجوز عليها ولا تعمرها.
وقال: تلقى أحدهم أبيض بضّا يملخ في الباطل ملخا ينفض مذرويه، ويضرب أصدريه، يقول ها أنذا فاعرفوني. قد عرفناك، فمقتك الله ومقتك الصّالحون.
وقال: نعم الله أكثر من أن تشكر إلا ما أعان عليه، وذنوب ابن آدم أكثر من أن يسلم منها إلا ما عفا عنه.
وكان يقول: ليس العجب ممّن عطب كيف عطب؟ إنما العجب ممّن نجا كيف نجا؟(5/123)
وكان يقول: حادثوا هذه القلوب فإنّها سريعة الدثور، واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة فإنّكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شرّ غاية.
وقال لمطرّف بن عبد الله بن الشّخّير. (1) يا مطرّف، عظ أصحابك. فقال مطرّف: إنّي أخاف أن أقول ما لا أفعل. فقال الحسن: يرحمك الله وأيّنا يفعل ما يقول؟ يودّ الشّيطان أنه ظفر بهذه منكم، فلم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه عن منكر.
وكان يقول: ما حاجة هؤلاء، السلطان إلى الشرط. فلمّا ولي القضاء، كثر عليه الناس فقال: لا بدّ للنّاس من وزعة.
وكان يقول: لسان العاقل من وراء قلبه فإن عرض له القول نظر فإن كان له أن يقول قال: وإن كان عليه القول أمسك، ولسان الأحمق أمام قلبه فإذا عرض له القول قال عليه أو له.
وكان الحسن ينكر الحكومة، وكان يذكر عثمان فيترحّم عليه، ويلعن قتلته، ويقول: لو لم نلعنهم للعنّا. ثم يذكر عليّا عليه السلام فيقول: لم يزل أمير المؤمنين عليّ رحمه الله يتعرّف النصر، ويساعده الظفر حتّى حكّم. ولم تحكّم والحقّ معك؟ ألا تمضي قدما لا أبا لك وأنت على الحقّ؟
قال المبرّد: قوله: لا أبا لك كلمة فيها جفاء. والعرب تستعملها عند الحثّ على أخذ الحقّ والإغراء.
ذكر الخوارج: فقال: دعاهم إلى دين الله فجعلوا أصابعهم في آذانهم، وأصرّوا واستكبروا استكبارا، فسار إليهم أبو حسن فطحنهم.
وقال: ولو لم يصب ابن آدم إلا الصّحة والسّلامة لأوشكا أن يردّاه إلى أرذل
__________
(1) هو مطرف بن عبد الله بن الشخير الخرشي العامري، أبو عبد الله البصري، روى عن أبيه عبد الله بن الشخير، وأبي بن كعب، وعثمان بن عفان، توفي سنة 95هـ (انظر ترجمته في: البداية والنهاية 9/ 152، كتاب الثقات لابن حيان 5/ 429، الطبقات الكبرى لابن سعد 7/ 103، الطبقات الكبرى للشعراني 1/ 29، تهذيب التهذيب 1/ 173، تهذيب الكمال 18/ 143، حلية الأولياء 2/ 98، الكواكب الدرية 1/ 299، وفيات الأعيان 2/ 97، شذرات الذهب 1/ 110).(5/124)
العمر فحدّث بذلك محمّد بن جعفر فأعجبه، وقال: سبحان الله ما أعجب كلام العرب وأشبه بعضه ببعض؟ والله لكان النّمر بن تولب سمع هذا. فقال (1):
[الطويل] يسر الفتى طول السّلامة جاهدا ... فكيف ترى طول السّلامة يفعل؟
وقال حميد بن ثور (2): [الطويل] وحسبك داء أن تصح وتسلما
وكان يدعو ويقول: اللهمّ أعطنا قوة في عبادتك، وبصرا في كتابك، وفهما في حكمك، وآتنا كفلين من رحمتك، بيّض وجوهنا بنورك، واجعل راحتنا في لقائك، واجعل رغبتنا فيما عندك من الخير. اللهمّ إنّنا نعوذ بك من العجز والكسل، والهرم، والجبن، والبخل. اللهم إنّا نعوذ بك من قلوب لا تخشع، وأنفس لا تشبع، اللهمّ إنّا نعيذ بك أنفسنا وأهلينا وذرارينا من الشّيطان الرّجيم.
وقال: إنّما تعظ مسترشدا ليفهم، أو جاهلا ليتعلّم، فأمّا من وضع سيفه وسوطه، وقال: أحذرني فما لك وله؟
وقال: إنّ قوما لبسوا هذه المطارف العتاق، والعمائم الرّقاق، وأوسعوا دورهم، وضيّقوا قبورهم وأسمنوا دوابّهم، وأهزلوا دينهم، طعام أحدهم غصب، وخادمه سخرة، يتكئ على شماله، ويأكل من غير ماله، حتّى إذا أدركته الكظّة، قال: هلمّي يا جارية هاضوما، ويلك! وهل تحطم إلا دينك؟ أين مساكينك؟ أين يتاماك؟ أين ما أمرك الله به، أين؟ أين؟
ورأى رجلا يمشي مشية منكرة، فقال: يخلج في مشيه خلجان المجنون.
لله في كلّ عضو منه لقمة، وللشّيطان لعبة.
كان أبو الحسن اسمه يسار، واسم أمّه خيرة، مولاة لأمّ سلمة أمّ المؤمنين،
__________
(1) البيت في ديوان النمر بن تولب ص 372.
(2) صدره: أرى بصري قد رابني بعد صحة
والبيت في ديوان حميد بن ثور ص 31.(5/125)
وكانت خيرة ربّما غابت فيبكي الحسن فتعطيه أمّ سلمة ثديها تعلّله به، إلى أن تجيء أمّه فدرّ عليه ثديها. فيرون أنّ تلك الحكمة والفصاحة، من بركة ذلك. ونشأ الحسن بوادي القرى.
وشكا إليه رجل ضيق المعاش، فقال: ويحك! أها هنا ضيق أو سعة إنّما الضيق والسّعة أمامك.
وقال: لولا قصر همم الناس ما قامت الدنيا.
وقال: يا بن آدم: إنّما أنت عدد أيّامك إذا مضى يوم مضى بعضك وتذاكروا عنده أمر الصّحابة. قال الحسن: رحمهم الله شهدوا وغبنا وعلموا وجهلنا، وحفظوا ونسينا. فما أجمعوا عليه اتّبعناه. وما اختلفوا فيه وقفناه.
وقال: حقّ الوالد أعظم وبرّ الوالدة ألزم.
وقال: عاشر أهلك بأحسن أخلاقك فإنّ الثّواء فيهم قليل.
وقال: السّؤال نصف العلم، ومداراة النّاس نصف العقل، والقصد في المعيشة نصف المعيشة، وما عال مقتصد.
وقال: خف الله خوفا ترى أنّك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يقبلها منك وارج الله رجاء ترى أنّك إن أتيته بسيّئات أهل الأرض غفرها لك.
وقال: ما استودع الله رجلا عقلا إلّا استنقذه به يوما ما.
وقال: المؤمن لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب.
ودخل إليه أمرد حسن الوجه، فالتفت إلى أصحابه، فقال: لقد ذكّرني هذا الفتى الحور العين.
وولد له غلام فقال له بعض جلسائه: بارك الله لك في هبته، وزادك في نعمته. فقال الحسن: الحمد لله على كلّ حسنة، ونسأله الزيادة من كلّ نعمة، ولا مرحبا بمن إن كنت مقلّا أنصبني، وإن كنت غنيّا أذهلني لا أرضى بسعيي له سعيا، ولا بكدّي عليه في الحياة كدّا، حتى أشفق عليه بعد وفاتي من الفاقة، وأنا في حال لا يصل إليّ من همّة حزن، ولا من فرحه سرور.(5/126)
وقال: عزّ الشّريف أدبه، وعزّ المؤمن استغناؤه عن الناس.
وقال: العلم في الصّغر كالنّقش على الحجر، وفي الكبر كالرّقم على الماء.
وقال: ما أنعم الله على عبد نعمة إلّا وعليه فيها تبعة، إلّا سليمان فإنّ الله قال: {هََذََا عَطََاؤُنََا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسََابٍ} (39) [ص: 39].
وقال: لا أبا لك، إن لم تكن حليما فتحلّم فإنّه قلّ رجل يتشبّه بقوم إلّا أوشك أن يكون منهم.
وقال: لا تشرينّ عداوة رجل بمودّة ألف رجل.
وقيل: أهلك فلان فجأة. فقال: لو لم يهلك فجأة لمرض فجأة.
وقال: من زهد في الدنيا ملكها، ومن رغب فيها عبدها.
وكان يقول: الحريص الجاهد والقانع الزّاهد كلاهما مستوف أكله عز فنقص شيئا قدّر له، فعلام التّهافت في النّار؟
وسمع رجلا يقول: الشّحيح أعذر من الظّالم فقال: والله إنّ رجلين أعذرهما الشّحيح لرجلا سوء. وقال: إنّ الله تفرّد بالكمال ولم يعرّ أحدا من النّقصان.
قال له رجل: يا أبا سعيد ما تقول في الغناء؟ قال: نعم الشّيء الغني تصل به الرّحم، وتفكّ به العاني، وتنفّس به عن المكروب.
قال لست عن هذا أسألك، إنّما أسألك عن الغناء، قال: وما هو أتعرف منه شيئا؟ قال نعم: قال: فهاته. فاندفع يغنّي، ويلوي شدقيه، ومنخريه، ويكسر عينيه: قال: فبهت الحسن، وجعل يعزب عنه بعض عقله حتّى فعل كما فعل الرّجل بتحريك عينيه، وكسر حاجبيه، ثم قال لما تنبّه من سنته: أمسك يا هذا، قبّح الله هذا، ما كنت إلّا في حلم.
قالوا: ولي الحسن القضاء فما حمد. يريد أنّه لو حمد إنسان في ولاية أو قضاء لحمد الحسن.(5/127)
وقال: يا بن آدم تعفّف عن محارم الله تكن عابدا، وارض بما قسم الله لك من الرّزق تكن غنيّا. وصاحب الناس بما تحبّ أن يصاحبوك به تكن عدلا، وإيّاك وكثرة الضّحك فإنّه يميت القلب، لقد كان قلبك أقوام جمعوا كثيرا، وأمّلوا بعيدا، وبنوا شديدا، فأصبح جمعهم بورا، ومساكنهم قبورا، وأملهم غرورا.
وقال: يا بن آدم لا تجاهد الطّلب، جهاد الغالب، ولا تتّكل على القدر اتّكال المستسلم فإنّ ابتغاء الفضل من الشّرّة، والإجمال في الطّلب من العفّة، وليست العفّة بدافعة رزقا، ولا الحرص بجالب فضلا، وإنّ من الحرص اكتساب الإثم.
وقال: اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكر لك، فإنّه لا زوال للنّعم إذا شكرتها، ولا إدامة إذا كفرتها والشّكر زيادة في النّعم، وأمان من الغير.
وقال: إنّ الله تبارك وتعالى لم يقصص علينا ذنوب الأنبياء عليهم السلام تعييرا لهم، ولا إزراء بهم، ولكنّه قصّها علينا لكيلا نيأس من التّوبة.
وقال: مثل المنافق مثل الدرهم القسيّ ينفق في النّاس ما لم يعرف فإذا عرف كسد.
وقيل له: أيحسد المؤمن أخاه؟ قال: لا أبا لك! أنسيت إخوة يوسف عليه السلام.
وقال: أوعد عمر فعوفي، وأوعد زياد فابتلي.
عاد الحسن عبد الله بن الأهتم في مرضه الذي مات فيه، فأقبل عبد الله يضرب ببصره إلى صندوق في جانب البيت، ثم قال للحسن يا أبا سعيد: ما تقول في مائة ألف في هذا الصّندوق لم يؤدّ منها زكاة، ولم يوصل بها رحم؟ فقال الحسن: ثكلتك أمّك. فلم أعددتها؟ قال: أعددتها لروعة الزّمان، ومكاثرة الإخوان، وجفوة السّلطان، ثم مات فحضر الحسن جنازته فلمّا دفن ضرب بإحدى يديه على الأخرى، ثم قال: إن هذا أتاه شيطانه، يحذّره رومة زمانه، وجفوة سلطانه، ومكاثرة إخوانه فيما استودعه الله إيّاه، ثمّ خرج منه حربيا، سلبيا لم يؤدّ منها زكاة، ولم يصل منها رحما. ثم التفت فقال: أيّها الوارث. كل هنيئا فقد
أتاك هذا المال حلالا، فلا يكن عليك وبالا، أتاك ممّن كان له جموعا منوعا، يلجّج فيه لجج البحار، ومفاوز القفار، من باطل جمعه ومن حقّ منعه، لم ينتفع به، في حياته، وضرّه بعد وفاته، جمعه فأوعاه، وشدّه فأوكاه، إنّ يوم القيامة ليوم ذو حسرات، وإنّ أعظم الحسرات أن ترى ما لك في ميزان غيرك ذاك رجل أتاه الله مالا حلالا فبخل أن ينفقه في طاعة الله فورّثه الله غيره، فأنفقه في طاعة الله.(5/128)
عاد الحسن عبد الله بن الأهتم في مرضه الذي مات فيه، فأقبل عبد الله يضرب ببصره إلى صندوق في جانب البيت، ثم قال للحسن يا أبا سعيد: ما تقول في مائة ألف في هذا الصّندوق لم يؤدّ منها زكاة، ولم يوصل بها رحم؟ فقال الحسن: ثكلتك أمّك. فلم أعددتها؟ قال: أعددتها لروعة الزّمان، ومكاثرة الإخوان، وجفوة السّلطان، ثم مات فحضر الحسن جنازته فلمّا دفن ضرب بإحدى يديه على الأخرى، ثم قال: إن هذا أتاه شيطانه، يحذّره رومة زمانه، وجفوة سلطانه، ومكاثرة إخوانه فيما استودعه الله إيّاه، ثمّ خرج منه حربيا، سلبيا لم يؤدّ منها زكاة، ولم يصل منها رحما. ثم التفت فقال: أيّها الوارث. كل هنيئا فقد
أتاك هذا المال حلالا، فلا يكن عليك وبالا، أتاك ممّن كان له جموعا منوعا، يلجّج فيه لجج البحار، ومفاوز القفار، من باطل جمعه ومن حقّ منعه، لم ينتفع به، في حياته، وضرّه بعد وفاته، جمعه فأوعاه، وشدّه فأوكاه، إنّ يوم القيامة ليوم ذو حسرات، وإنّ أعظم الحسرات أن ترى ما لك في ميزان غيرك ذاك رجل أتاه الله مالا حلالا فبخل أن ينفقه في طاعة الله فورّثه الله غيره، فأنفقه في طاعة الله.
فيا لها حسرة لا تقال. ورحمة لا تنال فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
وقال ابن آدم: بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا.
يا بن آدم: وإذا رأيت النّاس في الخير فنافسهم فيه. وإذا رأيت الناس في الشرّ فلا تغبطهم. الثّواء قليل ها هنا، والبقاء طويل هناك. أمّتكم آخر الأمم وأنتم آخر أمّتكم، وقد يسرع بخياركم فماذا تنتظرون؟ المعاينة: فكأنّ قد. هيهات هيهات ذهبت الدنيا لحال بالها، وبقيت الأعمال قلائد في أعناق بني آدم، فيا لها موعظة لو وافقت قبولا! إنّه والله لا أمّة بعد أمّتكم، ولا نبيّ بعد نبيّكم، ولا كتاب بعد كتابكم. أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم، وإنّما ينتظر بأوّلكم أن يلحق آخركم. من رأى محمدا صلّى الله عليه وسلّم فقد رآه غاديا رائحا، لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة. رفع له علم فشمر إليه فالوحاء الوحاء والنجاء النجاء، علام تعرّجون؟
أتيتم وربّ الكعبة قد أسرع بخياركم وأنتم كل يوم ترذلون. فما تنتظرون؟ إنّ الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم على علم منه، واختاره لنفسه، وبعثه برسالته، وأنزل عليه كتابه، وكان خيرته من خلقه، ورسوله إلى عباده، ثم وضعه من الدنيا موضعا ينظر إليه أهل الأرض، وأتاه منها قوتا وبلغة ثم قال: {لَقَدْ كََانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللََّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] فرغب قوم عن عيشه، وسخطوا ما رضي له ربّه، فأبعدهم الله وأسحقهم.
ابن آدم: طأ بقدمك الأرض، فإنّها بعد قليل قبرك واعلم أنك لم تزل في هدم عمرك مذ سقطت من بطن أمّك. رحم الله عبدا نظر ففكر، وفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر، وأبصر فصبر، فلقد أبصر أقوام فلم يصبروا فذهب الجزع بقلوبهم، ولم يدركوا ما طلبوا، ولم يرجعوا إلى ما فارقوا. يا بن آدم اذكر قوله:
{وَكُلَّ إِنسََانٍ أَلْزَمْنََاهُ طََائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ كِتََاباً يَلْقََاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتََابَكَ كَفى ََ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} (14) [الإسراء: 1413] ابن آدم عدل عليك من جعلك حسيب نفسك. خذوا من الدنيا ما صفا، وذروا ما كدر، فليس الصفو ما عاد كدرا، ولا الكدر ما عاد صفاء دعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم. ظهر الجفاء، وقلت العلماء. وعفت السّنّة وشاعت البدعة، لقد صحبت أقواما صحبتهم قرة العين وجلاء الصدر ولقد رأيت أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم من سيّئاتكم أن تعذبوا عليها، وكانوا فيما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرّم عليكم منها. أسمع حسيسا ولا أرى أنيسا. ذهب الناس، وبقيت في النّسناس، ولو تكاشفتم ما تدافنتم، تهاديتم الأطباق، ولم تهادوا النصائح».(5/129)
{وَكُلَّ إِنسََانٍ أَلْزَمْنََاهُ طََائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ كِتََاباً يَلْقََاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتََابَكَ كَفى ََ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} (14) [الإسراء: 1413] ابن آدم عدل عليك من جعلك حسيب نفسك. خذوا من الدنيا ما صفا، وذروا ما كدر، فليس الصفو ما عاد كدرا، ولا الكدر ما عاد صفاء دعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم. ظهر الجفاء، وقلت العلماء. وعفت السّنّة وشاعت البدعة، لقد صحبت أقواما صحبتهم قرة العين وجلاء الصدر ولقد رأيت أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم من سيّئاتكم أن تعذبوا عليها، وكانوا فيما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرّم عليكم منها. أسمع حسيسا ولا أرى أنيسا. ذهب الناس، وبقيت في النّسناس، ولو تكاشفتم ما تدافنتم، تهاديتم الأطباق، ولم تهادوا النصائح».
قال عمر بن الخطاب: رحم الله من أهدى إلينا مساوينا. أعدّوا الجواب فإنّكم مسؤولون. المؤمن من لا يأخذ دينه عن رأيه، ولكنه يأخذه من قبل ربّه.
وإنّ هذا الحق قد أجهد أهله، وما يصبر عليه إلا من عرف فضله، ورجا عاقبته، فمن حمد الدنيا ذم الآخرة، وليس يكره لقاء الله إلا مقيم على سخطه. يا بن آدم إن الإيمان ليس بالتخلّي ولا التّمني، ولكنه ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال.
وكان إذا قرأ: {أَلْهََاكُمُ التَّكََاثُرُ} [التكاثر: 1] قال: عمّ ألهاكم؟ عن نار الخلود. وجنة لا تبيد. هذا والله فضح القوم وهتك السّتر، وأبدى العورة، تنفق مثل دينك في شهوتك سرفا، وتمنع في حقّ الله درهما! ستعلم يا لكع!
الناس ثلاثة: مؤمن، وكافر، ومنافق: فأما المؤمن فقد ألجمه الخوف وقومه، ذكر العرض. وأما الكافر فقد قمعه السيف، وشرده الخوف، وأذعن بالجزية، وأسمح بالضريبة. وأما المنافق ففي الحجرات والطّرقات، يسرّون غير ما يعلنون، ويضمرون غير ما يظهرون، فاعتبروا إنكارهم ربهم بأعمالهم الخبيثة.
ويلك! قد قتلت وليّه، ثمّ تتمنّى عليه جنته!
ابن آدم. كيف تكون مسلما ولم يسلم منك جارك؟ وكيف تكون مؤمنا ولم يأمنك الناس.
وكان يقول: رحم الله امرأ اكتسب طيّبا، وأنفق قصدا، وقدم فضلا، وجّهوا
هذه الفضول حيث وجهها الله، وضعوها حيث أمر الله، فإن من كان قبلكم كانوا يأخذون من الدنيا بلغتهم، ويؤثرون بالفضل ألا إن هذا الموت قد أضر بالدنيا ففضحها فلا والله ما وجد ذو لبّ فيها. فرّحا، وإياكم وهذه السّبل المتفرّقة التي جماعها الضلالة وميعادها النار.(5/130)
وكان يقول: رحم الله امرأ اكتسب طيّبا، وأنفق قصدا، وقدم فضلا، وجّهوا
هذه الفضول حيث وجهها الله، وضعوها حيث أمر الله، فإن من كان قبلكم كانوا يأخذون من الدنيا بلغتهم، ويؤثرون بالفضل ألا إن هذا الموت قد أضر بالدنيا ففضحها فلا والله ما وجد ذو لبّ فيها. فرّحا، وإياكم وهذه السّبل المتفرّقة التي جماعها الضلالة وميعادها النار.
ابن آدم: إن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس ها هنا شيء يغنيك، وإن كان يغنيك ما يكفيك فالقليل من الدنيا يكفيك.
ابن آدم: لا تعمل شيئا من الحقّ رياء ولا تتركه حياء.
وكان إذا ذكر الحجاج قال: يتلو كتاب الله على لخم وجذام ويعظ عظة الأزارقة، ويبطش بطش الجبارين.
وبعث عمر بن هبيرة إلى الحسن، وابن سيرين، والشعبي فقدموا عليه فقال:
إنه تأتيني من أمير المؤمنين كتب أعرف في تنفيذها الهلكة فإن أطعته عصيت الله فماذا ترون؟ فقال الحسن: يابن سيرين أجب الأمير فسكت ثم قال: يا شعبيّ أجب الأمير فتكلم الشعبيّ بكلام هيبة وتقية فقال: يا أبا سعيد، ما تقول؟ فقال: أما إذ سألتني فإنه يحقّ عليّ أن أجيبك إن الله مانعك من يزيد، ولن يمنعك يزيد من الله، وإنه يوشك أن ينزل بك ملك من السماء فيستنزلك من سريرك إلى سعة قصرك ثم يخرجك من سعة قصرك إلى باحة دارك ثم يخرجك من باحة دارك، إلى ضيق قبرك، ثم لا يوسع عليك إلا عملك. يا بن هبيرة إنّي أنهاك عن الله أن تعرض له فإنّما جعل الله السلطان ناصرا لعباده، ودينه فلا تركبوا عباد الله بسلطان الله فتذلوهم، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله.
يابن هبيرة إني قد أدركت ناسا من صدر هذه الأمّة كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم، وكانوا لحسناتهم، ألا تقبل أخوف منكم لسيائتكم ألا تغفر. وكانوا والله لثواب الآخرة بقلوبهم أبصر منكم لمتاع الدنيا بأعينكم، فكانوا والله عن الدنيا وهي إليهم مقبلة أشد إدبارا من إقبالكم عليها وهي عنكم مدبرة.
يا عمر إنّي أخوّفك مقاما خوفكه الله من نفسه، فقال: {ذََلِكَ لِمَنْ خََافَ
مَقََامِي وَخََافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14]. يا عمر إن تكن مع الله على يزيد يكفك الله بائقته. وإن تكن مع يزيد على الله يكلك إليه.(5/131)
يا عمر إنّي أخوّفك مقاما خوفكه الله من نفسه، فقال: {ذََلِكَ لِمَنْ خََافَ
مَقََامِي وَخََافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14]. يا عمر إن تكن مع الله على يزيد يكفك الله بائقته. وإن تكن مع يزيد على الله يكلك إليه.
قال: فبكى عمر ثم قام بعبرته وأرسل إليهم من الغد بإذنهم وجائزتهم وأعطى الحسن أربعة آلاف درهم وكل واحد منهما ألفين ألفين، فخرج الشعبيّ إلى المسجد فحدّث الناس ساعة، ثم قال: من قدر منكم يا أيّها الناس أن يؤثر الله على خلقه فليفعل فإنّ الأمير ابن هبيرة أرسل إليّ وإلى الحسن وابن سيرين، فسألنا عن أمر الله. فو الله ما علم الحسن منه شيئا جهلته ولا علمت شيئا جهله ابن سيرين، ولكنا أردنا وجه ابن هبيرة فأقصانا الله، وقصّرنا فقصّر لنا، وأراد الحسن وجه الله فحباه الله وزاده.
وروي أنّ الشعبيّ قال لابن هبيرة: لا عليك أيها الأمير. إنّما الوالي والد يخطئ ويصيب وما يرد عليك من رأي أمير المؤمنين فإن استطعت أن ترده فرده وإلّا فلا ضير عليك. فقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ فقال الحسن: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من استرعاه الله رعية فلم يحط من ورائها بالنّصيحة حرّم الله عليه الجنة». وأمّا رأي أمير المؤمنين فإذا ورد عليك فأعرضه على كتاب الله فإن وافقه فأمضه، وإن خالفه فاردده، فإنّ الله يمنعك من يزيد، ولن يمنعك يزيد من الله. ثمّ أقبل على الشّعبي فقال: ما لك ويلك يا شعبيّ! يقول النّاس: الشّعبي فقيه أهل الكوفة تدخل على جبّار من الجبابرة فتزيّن له المعصية. فقال: والله يا أبا سعيد لقد قلت وأنا أعلم ما فيه. قال: ذاك أوكد للحجّة عليك وأبعد لك من العذر.
وقال الحسن: لا دين إلّا بمروءة.
وشتمه رجل وأربى عليه. فقال له الحسن: أمّا أنت فما أبقيت شيئا وما يعلم الله أكثر.
ودخل عليه فرقد وعليه صوف وعلى الحسن مطرف خزّ، فجعل ينظر إليه، فقال الحسن: ما تنظر؟ عليّ ثياب أهل الجنّة، وعليك ثياب أهل النّار، وإنّ أحدهم جعل زهده في ثيابه، وكبره في صدره، فلهو أشدّ عجبا بصوفه من صاحب المطرف بمطرفه.(5/132)
وقال الحسن: ذكر الله الثّقل في القرآن فقال عزّ وجلّ: {فَإِذََا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب: 53].
وقال: حسبك من شرف الفقر إنّك لا ترى أحدا يعصي الله ليفتقر.
وقال: ما أحسن الرّجل ناطقا عالما، ومستمعا واعيا، وخائفا عاملا.
وقال: إنّ أهل بدر أسلموا من خشية الله وإنّ الناس أسلموا من خشية أهل بدر.
وقال: لولا أن الله عزّ ذكره أذلّ ابن آدم بثلاث ما طأطأ رأسه، وإنّه مع ذلك لوثّاب: يمرض فجأة، ويموت فجأة ويفتقر فجأة.
وقال: السّواك مطهرة للفم، مرضاة للرّب، مقربة من الملائكة، منفرة للشّياطين، يجلو البصر، ويقلّ البلغم، ويصلح المعدة، ويشد اللّثة ويذهب الحفر.
وقال: أشدّ النّاس صراخا يوم القيامة رجل سنّ ضلالة فاتّبع عليها، ورجل سيّئ الملكة، ورجل فارغ مكفيّ استعان على معاصي الله بنعمه.
ولمّا مات الحجّاج قال الحسن: اللهمّ أنت أمّته فاقطع علينا سنّته، فإنّه أتانا أخيفش أعيمش، يمد بيد قصيرة البنان، والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله، يرجّل جمّته ويخطر في مشيته، ويصعد المنبر فيهدر حتّى تفوته الصّلاة، لا من الله يتّقي، ولا من النّاس يستحي، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل: الصّلاة أيّها الرّجل. ثمّ يقول الحسن. هيهات. حال دون ذلك السّيف والسّوط.
وكان يقول: إنما كانت خطيئة أبيكم آدم عليه السلام في أكلة وهي بليّتكم إلى يوم القيامة.
وقال للصّوفيين: إن كانت هذه سريرتكم فقد أظهرتموها، وإن كانت خلافا لما أعلنتم فقد هلكتم.
وقال: العصمة ما لم تجد، والعفة إذا قدرت.(5/133)
وقال: من بدل درهمه أحبه الناس طوعا وكرها.
وقال: كيف للرجل بإحراز دينه وهو يطلب معاشه ممن لا يزكّى عمله.
وقال: من تعزز بالمعصية أورثه الله الذّلّة.
وقال: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن أنه في غير حالته التي اختارها الله له.
وقال: من لم يؤمن بالقدر كفر، ومن حمل ذنبه على الله فجر.
وقال: رب محسود على رجاء هو بلاؤه، ومرحوم من سقم هو شفاؤه، ومغبوط بنعمة هي داؤه.
وقال: لهذه القلوب إقبال وإدبار، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل وإذا أدبرت فاحملوها على الفرائض.
وقال: تجري الأمور على المقادير والناس لا يقبلون المعاذير.
وقال: حسبك من العلم أن تخشى الله، وحسبك من الجهل أن تعجب بعلمك.
وقال: وجدت خير الدنيا والآخرة في صبر ساعة.
وقال: جهد الحقّ الناس فلا يصبر له إلا من عرف فضله ورجا عاقبته.
وسأله رجل فقال: غلام يتعلم القرآن، وأبوه يأمره أن يتعلم الشّعر. فقال:
يتعلم القرآن ويتعلم من الشّعر ما يرضي أباه.
وقال: لأن أقضي حاجة أخ أحبّ إلى من أن أعتكف سنة.
وروي عن أبي عمرو بن العلاء (1) أنه قال: ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج.
__________
(1) أبو عمر بن العلاء: هو زبان بن عمار التميمي المازني البصري، أبو عمرو، ويلقب أبوه بالعلاء، ولد بمكة سنة 70هـ، وتوفي بالكوفة سنة 154هـ، من أئمة اللغة والأدب، وأحد القراء السبعة (الأعلام 3/ 41، غاية النهاية 1/ 288، فوات الوفيات 1/ 164، وفيات الأعيان 1/ 386، نزهة الألبا 31).(5/134)
ونظر أعرابيّ إلى الحسن، فقيل له: كيف تراه؟ فقال: أرى خيشوم حرّ.
وقال له رجل: يا أبو سعيد، فقال الحسن: شغلك كسب الدوانيق عن أن تقول يا أبا سعيد.
وقال له آخر: يا بو سعيد. فقال: أين غذيت؟ قال: بلايلة. قال: من هذا أتيت.
وقال: من دخل مداخل التّهمة لم يكن له أجر الغيبة.
وقال: من أمّل فاجرا كان أدنى عقوبته الحرمان.
دخل أعرابي البصرة، فقال: من سيّدّهم؟ قالوا: الحسن بن أبي الحسن قال: وبم؟ قالوا: استغنى عما في أيديهم من دنياهم. واحتاجوا إلى ما في يديه من دينه. فقال: بخ بخ. بهذا سادهم.
وسمع الحسن رجلا يصف الفالوذج فقال: فتات البرّ بلعاب النحل بخالص السمن. ما عاب هذا مسلم.(5/135)
الباب العاشر نكت من كلام الشّيعة
أخبرنا الصاحب (1) كافي الكفاة رحمة الله عليه قال: أخبرنا عبد الله بن محمّد، قال: أخبرنا عبد الله بن الحسن، قال: أخبرنا سهل بن محمّد قال: أخبرنا عبد الرّحمن بن المثنّى قال: خطب عبد الملك، فلمّا بلغ إلى العظة قام إليه رجل من آل صوحان. فقال: مهلا مهلا، تأمرون فلا تأتمرون، وتنهون ولا تنتهون، وتعظون ولا تتّعظون. أفنقتدي بسيرتكم في أنفسكم أم نطيع أمركم بألسنتكم؟ فإن قلتم اقتدوا بسيرتنا فأنّى؟ وكيف؟ وما الحجّة؟ وما النصير من الله باقتداء سيرة الظّلمة الفسقة، الجورة الخونة الذين اتّخذوا مال الله دولا، وعبيده خولا وإن قلتم: أقبلوا نصيحتنا، وأطيعوا أمرنا، فكيف ينصح لغيره من يغش نفسه؟ أم كيف تجب الطّاعة لمن لم تثبت عند الله عدالته؟ وإن قلتم خذوا الحكمة من حيث وجدتموها، واقبلوا العظة ممّن سمعتموها فعلام ولّيناكم أمرنا، وحكّمناكم في دمائنا وأموالنا؟ أما علمتم أنّ فينا من هو أنطق منكم باللغات، وأفصح بالعظات؟
فتحلحلوا عنها أولا، فأطلقوا عقالها، وخلّوا سبيلها يبتدر إليها آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليهم الذين شرّدتموهم في البلاد، وفرقتموهم في كلّ واد بل تثبت في أيديكم لانقضاء المدّة وبلوغ المهلة، وعظم المحنة، إن لكلّ قائم قدرا لا يعدوه ويوما لا يخطوه، وكتابا بعده يتلوه {لََا يُغََادِرُ صَغِيرَةً وَلََا كَبِيرَةً إِلََّا أَحْصََاهََا} [الكهف: 49]، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]. قال ثمّ أجلس الرّجل فطلب فلم يوجد.
__________
(1) الصاحب بن عباد: هو إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس بن عباد، الصاحب، أبو القاسم الطالقاني. ولد سنة 326هـ، وتوفي بأصبهان سنة 385. (كشف الظنون 5/ 209).(5/136)
نظر شريف إلى رؤوس بني أميّة وقد حملت إلى أبي العبّاس فقام وقال:
هذه رؤوس ربّاها النّفاق، وربّته، وغذّاها الكفر وغذّته، ودعاها الجهل فأجابته.
صرفوا الصّدقات في الشّهوات، والفيء في الغيّ والمغانم في المحارم.
لمّا مات الصّادق (1) عليه السلام قال أبو حنيفة لشيطان الطّاق: مات إمامك.
قال: لكنّ إمامك لا يموت إلى الحشر. يعني السّنة.
قال معاوية لأبي الأسود: لو كنت أحد الحكمين ما كنت صانعا؟ قال: كنت أقول: أليس أحقّ الناس أن يتخيّر منهم المهاجرون والأنصار؟ فإنّه كان يقال:
بلى: فكنت أقول: فاعتزلوا من ليس منهم. قال معاوية: الحمد لله الذي كفاناك.
جلس معاوية بالكوفة يبايع على البراءة من عليّ عليه السلام فجاء رجل من بني تميم فأراده على ذلك. فقال: يا أمير المؤمنين. نطيع أحياءكم ولا نتبرّأ من موتاكم. فالتفت إلى المغيرة، فقال: إنّ هذا رجل، فاستوص به خيرا.
قال الشعبي: ما لقينا من عليّ بن أبي طالب: إن أحببناه قتلنا وإن أبغضناه هلكنا.
قال عبد الملك بن مروان لعبد الله بن عبد الأعلى الشاعر: أخبرني عن أكرم العرب؟
قال: يا أمير المؤمنين: قد سمعت كما سمعت، وعلمت كما علمت. قال:
أقسم عليك لتخبرنّي.
قال: أكرم العرب من يحبّ ألّا يكون من غيرها، ولا يحب غيره أن يكون إلّا منها. وألأم العرب من يحب أن يكون من غيرها ولا يحب غيره أن يكون منها.
قال فوضع عبد الملك يده على منكبه وقال: لو مسحتك لتناثر منك تراب. يعرّض
__________
(1) الصادق: هو الإمام جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب، الهاشمي القرشي، أبو عبد الله الملقب بالصادق، ولد بالمدينة المنورة سنة 80هـ، وتوفي فيها سنة 148هـ، سادس الأئمة الاثني عشرية، تابعي فقيه تتلمذ عليه أبو حنيفة، ومالك بن أنس، له عدة رسائل. (انظر: الأعلام 2/ 126، نزهة الجليس 2/ 35، وفيات الأعيان 1/ 105، تاريخ اليعقوبي 3/ 115، صفة الصفوة 2/ 94، حلية الأولياء 3/ 192).(5/137)
له لحبّ عليّ عليه السلام وبني هاشم.
كان أبو الهذيل (1) يقول: أوّل سهام من تحب آل محمّد صلّى الله عليه وعليهم التي لا يطيش عن أعدائهم قولهم: الحمد لله على طيب المولد.
قال يونس (2): قلت للخليل (3): ما بال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنهم بنو أمّ وإخوة، وعليّ كأنّه ابن علّة؟ فقال لي: من أين لك هذا السؤال؟ فقلت: أريد أن تجيبني. قال على أن تكتم عليّ ما دمت حيا. قلت: أجل. قال: تقدّمهم إسلاما، وبذّهم شرفا، وفاقهم علما، ورجحهم حلما، وكان أكثرهم زهدا، فخسروه، والناس إلى أشكالهم أميل.
قال المتوكل لبعض العلويّة: ما يقول ولد أبيك في العباس؟ قال: يا أمير المؤمنين ما يقول ولد أبي في رجل فرض الله حقّ رسوله على عباده: وفرض حقّه على رسوله. قال له: والفرق بيننا وبينكم. قال: ذاك بيّن، لو كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيا: أكان حلالا له أن يكون حرمي متكشّفات الرؤوس؟ قال: نعم.
سئل أحمد بن حنبل (4) عن قول الناس: عليّ قسيم الجنّة والنّار. فقال: هذا
__________
(1) العلّاف: هو محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي أبو الهذيل العلّاف، من أئمة المعتزلة ولد بالبصرة سنة 135هـ، واشتهر بعلم الكلام. قال المأمون: أطل أبو الهذيل على الكلام كإطلال الغمام على الأنام، كف بصره في آخر عمره، وتوفي ببغداد سنة 226هـ، له مقالات في الاعتزال وكتاب الميلاس (كشف الظنون 6/ 11، وفيات الأعيان 1/ 480، مروج الذهب 2/ 298).
(2) يونس: لعله أبو عبد الرحمن يونس بن حبيب البصري، الأديب النحوي، المتوفى سنة 183هـ، له من الكتب: «كتاب الأمثال»، «كتاب اللغات»، «كتاب النوادر الصغير»، «كتاب النوادر الكبير»، «معاني الشعر»، «معاني القرآن». (كشف الظنون 6/ 571).
(3) الخليل: هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، إمام اللغة وواضع علم العروض، وصاحب كتاب العين، وأستاذ سيبويه، توفي سنة 170هـ (الأعلام 2/ 314).
(4) هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن إدريس، أبو عبد الله الشيباني المروزي الأصل، بغدادي المولد والوفاة. ولد سنة 164هـ، وتوفي سنة 241هـ، وإليه ينسب المذهب الحنبلي، وهو أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة. له من التصانيف: «تفسير القرآن»، «طاعة الرسول»، «كتاب الأشربة الصغير»، «كتاب الإيمان»، «كتاب الرد على الجهمية»، «كتاب الزهد»، «كتاب العلل في الحديث»، «كتاب الفرائض»، «كتاب الفضائل»، «كتاب المسائل»، «كتاب المسند»، يحتوي على أربعين ألف حديث «كتاب المناسك»، «كتاب مناقب الإمام علي بن أبي طالب»، «كتاب الناسخ والمنسوخ من القرآن». (كشف الظنون 5/ 48).(5/138)
صحيح لأنّ النّبيّ عليه السلام قال لعليّ: «لا يحبّك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق» والمؤمن في الجنّة والمنافق في النّار.
لمّا قدم طلحة والزبير البصرة قام المطرف بن عبد الله خطيبا في مسجدها، فقال: أيّها الناس: إنّ هذين الرّجلين يعني طلحة والزبير لمّا أضلّا دينهما ببلدهما جاءا يطلبانه في بلدكم، ولو أصاباه عندكم ما زادكم في صلاتكم، ولا في زكاتكم، ولا في صومكم ولا في حجّكم، ولا غزوكم، وما جاءا إلّا لينالا دنياهما، بدينكم، فلا تكوننّ دنيا قوم آثر عندكم من دينكم والسلام.
كان بعض قضاة الكوفة يذكر يوما فضائل أمير المؤمنين صلوات الله عليه وحضره بعض الحشوية، فقال للقاضي: لا أراك تذكر من فضائل أبي بكر وعمر شيئا. فقال للقاضي: يا أحمق، نحن نذكر المقاتلة وأنت تذكّر النظارة.
لقي أبو موسى الأشعريّ أعرابيا، قد قدم من دومة الجندل، فقال يا أعرابيّ، ما عندك من خبر الناس؟ قال: تركتهم يلعنون ثلاثة قال: من هم؟ قال الأشعري، وأبا موسى، وعبد الله بن قيس.
كان بعض أهل البصرة يتشيع وكان له صديق يفد إليه ويوافقه في مذهبه فأودعه مالا فجحده، فاضطرّ إلى أن قال لمحمّد بن سليمان، وسأله أن يحضره، ويحلّفه بحقّ عليّ عليه السلام، ففعل ذلك، فقال: أعزّ الله الأمير. هذا الرجل صديقي، وهو أعزّ عليّ، وأجلّ عندي من أن أحلف له بالبراءة من مختلف في ولايته وإيمانه، ولكنّي أحلف له بالبراءة من المتفق على إيمانهما وولايتهما: أبي بكر وعمر، فضحك محمّد بن سليمان، والتزم المال، وخلّى عن الرّجل.
قال أبو معاوية الضّرير: بعث هشام بن عبد الملك إلى الأعمش (1) أن اكتب إليّ بمناقب عثمان ومساوئ عليّ فأخذ الأعمش القرطاس، فأدخله في فم شاة،
__________
(1) الأعمش: هو سليمان بن مهران الأسدي بالولاء، أبو محمد، لقب بالأعمش، ولد بالكوفة سنة 61 هـ، وفيها توفي سنة 148هـ، تابعي مشهور، عالم بالقرآن والحديث والفرائض، وهابه الناس والأمراء. (انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي 3/ 135، طبقات ابن سعد 6/ 238، وفيات الأعيان 1/ 213، تاريخ بغداد 9/ 3).(5/139)
فأكلته. وقال: قل له هذا جوابه. فرجع الرسول ثمّ عاد فأتى الأعمش. فقال الرسول: إنّه قد آلى أن يقتلني إن لم آته بالجواب. وتحمّل إليه بإخوانه. فقالوا: يا أبا محمد افتده من القتل. فلمّا ألحّوا قال: اكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم أمّا بعد. فلو كانت لعثمان مناقب أهل الأرض ما نفعتك، ولو كانت لعليّ مساوئ أهل الأرض ما ضرّتك فعليك بخويّصة نفسك. والسلام».
قال ابن الفرق: رأيت المختار مستور العين. قلت: من فعل بك هذا قطع الله يده. فقال: ابن الفاعلة عبيد الله بن زياد، والله لأقطعنّ أنامله وأباجله، ولأقتلنّ بالحسين عدد من قتل بيحيى بن زكريّا. ثم قال. يابن الفرق، إنّ الفتنة قد ألقت خطامها، وخبطت وشمست. ثم قال: ورافعة ذيلها، وقائلة: ويلها بدجلة أو حولها!
قال عبيد الله بن زياد لبعض بني بكر بن وائل: ما تقول فينا وفي الحسين وفي قتلنا إيّاه؟ فقال: ما أقول؟ يجيء جدّه يوم القيامة فيشفع له ويجيء جدّك فيشفع لك.
كان أبو الأسود يتشيّع وكان ينزل في بني قشير وهم عثمانية فكانوا يرمونه باللّيل، فإذا أصبح شكا ذلك، فشكاهم مرة، فقالوا له ما نحن نرميك ولكنّ الله.
فقال: كذبتم والله لو كان الله يرميني لما أخطأني.
كان سفيان بن عيينة (1) إذا بشّر بمولود من العلويّة أعطى بشارة، وإذا نعي إليه واحد جلس للتّعزية. فقيل له في ذلك. فقال: يذهب أمان، ويزيد أمان، وهم أمان أهل الأرض من العذاب. سمعت عمرو بن دينار عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلّى الله عليه. قال: النجوم أمان لأهل السّماء، وأهل بيتي أمان لأمّتي.
قال عبد الله بن عبّاس المخزومي: قلت: يا عمّ، حدّثني عمّا كان من صغو النّاس مع عليّ وإنّما هو غلام من قريش، ولأبي بكر من السّابقة ما قد علمت.
__________
(1) هو أبو محمد سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي، الإمام العالم الزاهد الورع، ولد بالكوفة سنة 107هـ، وسكن مكة وقدم بغداد، وتوفي بمكة سنة 198هـ. (تاريخ بغداد 9/ 174 184، وفيات الأعيان 2/ 393391).(5/140)
قال: إن عليا كان ما شئت من ضرس قاطع، والسّطة في العشيرة، والقدم في الإسلام، والصّهر لرسول الله صلّى الله عليه، والعلم بالقرآن، والفقه في السّنّة، والنّجدة في الحرب، والجود بالماعون.
دخل أبو الطّفيل عامر بن وائلة الكنانيّ على معاوية فقال له: أنت من قتلة عثمان؟ قال: لا. ولكنّني ممن حضره فلم ينصره. قال: وما منعك من نصره؟
قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار. قال معاوية: لقد كان حقّه واجبا، وكان يجب عليهم أن ينصروه. قال: فما منعك من نصرته يا أمير المؤمنين ومعك أهل الشّام؟ قال: أو ما طلبي بدمه نصرة له؟ فضحك عامر فقال: أنت والله وعثمان كقوله:
لأعرفنّك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زوّدتني زادي
فقال له معاوية: دع هذا عنك وقل لي: ما بقّاه الدهر من ثكلك على عليّ بن أبي طالب فقال: ثكل العجوز المقلات، والشّيخ الرّقوب قال: فكيف حبّك له؟
فقال: حبّ أمّ موسى لموسى، وإلى الله أشكو التّقصير.(5/141)
الباب الحادي عشر كلام الخوارج (1)
من كلام أبي حمزة: تقوى الله أكرم سريرة، وأفضل ذخيرة منها ثقة الواثق، وعليها مقة الوامق. ليعمل امرؤ في فكاك نفسه وهو رخيّ اللّبب، طويل السّبب، وليعرف ممدّ يده، وموضع قدمه، وليحذر الزّلل والعدل التي تقطع عن العمل.
رحم الله عبدا آثر التّقوى، واستشعر شعارها واجتنى ثمارها. باع النّقد بدار الأبد، الدّنيا كروضة اعتمّ مرعاها، وأعجبت من يراها تمجّ عروقها الثرى، وتنظف فروعها النّدى، حتّى إذا بلغ العشب إناه، وانتهى الزّبرج منتهاه، ضعف العمود، وذوى العود، وتولّى من الزّمان ما لا يعود، فحنت الرّياح الورق، وفرّقت ما اتّسق، {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيََاحُ وَكََانَ اللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف: 45].
كان شبيب يقول: الليل يكفيك الجبان ونصف الشّجاع.
أتي الحجّاج بامرأة من الخوارج، فقال لمن حضر: ما ترون فيها؟ قالوا:
اقتلها. فقالت: جلساء أخيك خير من جلسائك: قال: ومن أخي؟ قالت:
فرعون: لمّا شاور جلساءه في موسى: {قََالُوا أَرْجِهْ وَأَخََاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدََائِنِ حََاشِرِينَ}
(111) [الأعراف: 111]. فأمر بقتلها.
__________
(1) الخوارج: تسمى هذه الطائفة الخوارج والحرورية والنواصب والشراة، أما الخوارج فجمع خارج وهو الذي خلع طاعة الإمام علي بن أبي طالب وأعلن عصيانه وعلماء الفقه الإسلامي يسمون من فعل ذلك: الباغي وجمعه بغاة.
وأما الحرورية: فنسبة إلى حروراء، القرية التي نزل بها الخوارج الذين خالفوا الإمام علي وبها كان تحكيمه واجتماعه، وأما الشراة يزعمون أنهم باعوا أنفسهم لله تعالى. يشيرون إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ اشْتَرى ََ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111]. وخصومهم يقولون: إن الشاري اسم الفاعل من شر الشرر إذا زاد وتفاقم (مقالات الإسلاميين 1/ 167).(5/142)
مرّ رجل من الخوارج بدار تبنى، فقال: من هذا الذي يقيم كفيلا؟
أخذ ابن زياد ابن أديّة: أخا أبي بلال، فقطع يديه، ورجليه، وصلبه على باب داره فقال لأهله وهو مصلوب: انظروا إلى هؤلاء الموكّلين بي فأحسنوا إليهم فإنهم أضيافكم.
أتي عتاب بن ورقاء بامرأة من الخوارج فقال لها: يا عدوة الله، ما دعاك إلى الخروج؟ أما سمعت الله تعالى يقول: [الخفيف] كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جرّ الذيول
قالت: يا عدوّ الله، أخرجني قلة معرفتك بكتاب الله.
كان الجنيد بن عبد الرحمن يلي خراسان في أيام هشام، فظفر بصبيح الخارجي، وبعدّة، من أصحابه، فقتلهم جميعا، غير رجل أعمى كان فيهم. فقال له الأعمى: أنا أدلّك على أصحاب صبيح، وأجازيك بما صنعت. فكتب له قوما.
فكان الجنيد يقتلهم حتّى قتل مائة، فقال له الأعمى عند ذلك: لعنكم الله. تزعم أنه يحلّ لك دمي، وأنّي ضالّ. ثم تقبل قولي في مائة فتقلتهم لا والله ما كتبت لك من أصحاب صبيح رجلا وما هم إلّا منكم فقدّمه، وقتله.
دخل أبو حمزة واسمه يحيى بن المختار مكة، فصعد منبرها متوكّئا على قوس له عربيّة، فحمد الله، وأثنى عليه. ثم قال: أيّها الناس، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لا يتقدم ولا يتأخّر إلا بأمر الله وإذنه، ووحيه، أنزل الله له كتابا بيّن له فيه ما يأتي وما يتّقي، فلم يك في شكّ من دينه، ولا شبهة من أمره، ثم قبضه الله إليه، وقد علّم المسلمين معالم دينه، وولّى أبا بكر صلاتهم وولاه المسلمون أمر دنياهم حيث ولّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر دينهم، فقاتل أهل الرّدة، وعمل بالكتاب والسّنّة، ومضى لسبيله رحمه الله وولي عمر بن الخطّاب، فسار بسيرة صاحبه، وعمل بالكتاب والسّنّة، وجبى الفيء، وفرض الأعطية، وجمع النّاس في شهر رمضان، وجلد في الخمر ثمانين، وغزا العدوّ في بلادهم، ومضى لسبيله رحمه الله.
وولي عثمان بن عفّان فسار ستّ سنين بسيرة صاحبيه، وكان دونهما ثم سار
في السّتّ الأواخر بما أحبط الأوائل، ثم مضى لسبيله، وولي عليّ بن أبي طالب فلم يبلغ من الحقّ قصدا، ولم يرفع له منارا، ثم مضى لسبيله، وولي معاوية بن أبي سفيان لعين رسول الله وابن لعينه فاتّخذ عباد الله خولا، ومال الله دولا، ودينه دغلا، فالعنوه لعنة الله. ثم ولي يزيد بن معاوية، يزيد الخمور، ويزيد القرود، ويزيد الفهود، الفاسق في بطنه، المأبون في فرجه، ثم اقتصّهم خليفة خليفة. فلما انتهى إلى عمر بن عبد العزيز أعرض عن ذكره. ثم ولي يزيد بن عبد الملك الفاسق في بطنه المأبون في فرجه الذي لم يؤنس منه رشد، ولم يرع له عهد. وقد قال الله في أموال اليتامى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوََالَهُمْ}
[النساء: 6]. فأمر أمّة محمد أعظم. يأكل الحرام، ويشرب الحرام، ويلبس الحلّة قوّمت ألف دينار، قد ضربت فيها الأبشار، وهتكت فيها الأستار، وأخذت من غير حلّها، حبابة عن يمينه، وسلّامة عن يساره يغنّيانه حتّى إذا أخذ الشارب منه كلّ مأخذ قدّ ثوبه، ثمّ التفت إلى إحداهما فقال: ألا أطير؟ نعم، فطر إلى النّار.(5/143)
وولي عثمان بن عفّان فسار ستّ سنين بسيرة صاحبيه، وكان دونهما ثم سار
في السّتّ الأواخر بما أحبط الأوائل، ثم مضى لسبيله، وولي عليّ بن أبي طالب فلم يبلغ من الحقّ قصدا، ولم يرفع له منارا، ثم مضى لسبيله، وولي معاوية بن أبي سفيان لعين رسول الله وابن لعينه فاتّخذ عباد الله خولا، ومال الله دولا، ودينه دغلا، فالعنوه لعنة الله. ثم ولي يزيد بن معاوية، يزيد الخمور، ويزيد القرود، ويزيد الفهود، الفاسق في بطنه، المأبون في فرجه، ثم اقتصّهم خليفة خليفة. فلما انتهى إلى عمر بن عبد العزيز أعرض عن ذكره. ثم ولي يزيد بن عبد الملك الفاسق في بطنه المأبون في فرجه الذي لم يؤنس منه رشد، ولم يرع له عهد. وقد قال الله في أموال اليتامى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوََالَهُمْ}
[النساء: 6]. فأمر أمّة محمد أعظم. يأكل الحرام، ويشرب الحرام، ويلبس الحلّة قوّمت ألف دينار، قد ضربت فيها الأبشار، وهتكت فيها الأستار، وأخذت من غير حلّها، حبابة عن يمينه، وسلّامة عن يساره يغنّيانه حتّى إذا أخذ الشارب منه كلّ مأخذ قدّ ثوبه، ثمّ التفت إلى إحداهما فقال: ألا أطير؟ نعم، فطر إلى النّار.
وأمّا بنو أميّة ففرقة الضّلالة، بطشهم بطش جبريّة، يأخذون بالظّنة، ويقضون بالهوى، ويقتلون على الغضب، ويحكمون بالشفاعة ويأخذون الفريضة من غير موضعها، ويضعونها في غير أهلها، وقد بيّن الله أهلها فجعلهم ثمانية أصناف.
قال: {إِنَّمَا الصَّدَقََاتُ لِلْفُقَرََاءِ} [التوبة: 60] إلى آخر الآية. فأقبل صنف تاسع ليس منهما فأخذها كلّها. تلكم الأمة الحاكمة بغير ما أنزل الله.
خطبة قطري ابن الفجاءة (1)
أمّا بعد: فإني أحذّركم الدنيا فإنها حلوة خضرة، حفّت بالشهوات وراقت بالقليل، وتحبّبت بالعاجلة، وخلبت بالآمال، وتزيّنت بالغرور ولا تدوم حبرتها، ولا تؤمن فجيعتها، غرّارة ضرّارة، وحائلة زائلة، ونافذة بائدة، أكّالة غوّالة، لا تعدو إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها، والرّضا عنها أن تكون كما قال الله تعالى: {كَمََاءٍ أَنْزَلْنََاهُ مِنَ السَّمََاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبََاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيََاحُ وَكََانَ اللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف: 45].
__________
(1) قطري ابن الفجاءة: هو أبو نعامة جعونة بن مازن بن يزيد الكناني المازني التميمي، والفجاءة أمّه، من رؤساء الخوارج وأبطالهم، من أهل قطر، توفي سنة 78هـ (الأعلام 5/ 200).(5/144)
مع أنّ أمرأ لم يكن منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة. ولم يلق من سرّائها بطنا إلّا منحته من ضرّائها ظهرا، ولم تظله غيمة رخاء إلّا هطلت عليه مزنة بلاء، وحريّة إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكّرة، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمرّ عليه منها جانب وأوبى.
وإن آتت امرأ من غضارتها ورقا أرهقته من نوائبها تعبا، ولم يمس منها امرؤ في جناح أمن إلّا أصبح منها على قوادم خوف، غرّارة، غرور ما فيها، فانية فان من عليها. لا خير في شيء من زادها إلّا التّقوى. من أقلّ منها استكثر مما يؤمّنه، ومن استكثر منها استكثر ممّا يوبقه. ويطيل حزنه، ويبكي عينه، كم واثق بها فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته، وذي احتيال فيها قد خدعته، وكم ذي أبّهة فيها قد صيّرته حقيرا، وذي نخوة قد ردّته ذليلا، ومن ذي تاج قد كبّته لليدين، وللفم.
سلطانها دول، وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام، وأسبابها رمام، وقطافها سلع حيّها بعرض موت، صحيحها بعرض سقم، منيعها بعرض اهتضام، مليكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وسليمها منكوب، وجارها محروب، مع أنّ وراء ذلك سكرات الموت، وهول المطّلع، والوقوف بين يدي الحكم العدل {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسََاؤُا بِمََا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}
[النجم: 31].
ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا، وأوضح منكم آثارا، وأعدّ عديدا، وأكثف جنودا، وأشدّ عنودا.
تعبّدوا للدنيا أيّ تعبّد، وآثروها أي إيثار، وظعنوا عنها بالكره والصّغار فهل بلغكم أنّ الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية، أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم بخطب؟
بل قد أرهقتهم بالفوادح، وضعضعتهم بالنوائب، وعقرتهم بالفجائع، وقد رأيتم تنكّرها لمن دان لها وآثرها وأخلد إليها، حين ظعنوا عنها لفراق الأبد إلى آخر المسند.
هل زوّدتهم إلا السّغب، وأحلّتهم إلا الضّنك، أو نوّرت لهم إلّا الظلمة أو
أعقبتهم إلّا النّدامة؟ أفهذه تؤثرون أم على هذه تحرصون؟ أم إليها تطمئنّون؟(5/145)
هل زوّدتهم إلا السّغب، وأحلّتهم إلا الضّنك، أو نوّرت لهم إلّا الظلمة أو
أعقبتهم إلّا النّدامة؟ أفهذه تؤثرون أم على هذه تحرصون؟ أم إليها تطمئنّون؟
يقول الله عزّ وجل: {مَنْ كََانَ يُرِيدُ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا وَزِينَتَهََا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمََالَهُمْ فِيهََا وَهُمْ فِيهََا لََا يُبْخَسُونَ} (15) [هود: 15]. فبئست الدار لمن أقام فيها. فاعلموا وأنتم تعلمون أنكم تاركوها لا بدّ، فإنّما هي كما وصفها الله باللّعب، واللهو. وقد قال الله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصََانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذََا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبََّارِينَ} (130) [الشعراء: 130128].
ذكر الذين قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنََّا قُوَّةً} [فصلت: 15] ثم قال: حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا، وأنزلوا فلا يدعون ضيفانا، وجعل الله لهم من الضّريح أجنانا، ومن التّراب أكفانا، ومن الرّفات جيرانا، وهم جيرة لا يجيبون داعيا، ولا يمنعون ضيما، إن خصبوا لم يفرحوا، وإن قحطوا لم يقنطوا. جميع وهم آحاد، جيرة وهم أبعاد، متناؤون لا يزورون، ولا يزارون.
حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم، لا يخشى فجعهم، ولا يرجى دفعهم، وكما قال الله تعالى: {فَتِلْكَ مَسََاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلََّا قَلِيلًا وَكُنََّا نَحْنُ الْوََارِثِينَ} [القصص: 58].
واستبدلوا بظهر الأرض بطنا، وبالسّعة ضيقا، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة، ففّارقوها كما جاؤوها حفاة، عراة، فرادى، غير أن ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة، وإلى خلود الأبد، يقول الله تبارك وتعالى: {كَمََا بَدَأْنََا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنََا إِنََّا كُنََّا فََاعِلِينَ} [الأنبياء: 104].
فاحذروا ما حذّركم الله، وانتفعوا بمواعظه، واعتصموا بحبله، عصمنا الله وإياكم بطاعته، ورزقنا وإياكم أداء حقّه.
قالوا: لمّا أخذ أبو بيهس الخارجيّ، وقطعت يداه، ورجلاه، ترك يتمرّغ في التّراب. فلمّا أصبح قال: هل أحد يفرغ عليّ دلوين؟ فإنّي احتملت في هذه اللّيلة.
هذا إن كان صادقا فهو عجيب، وإن كان قاله استهانة بمن فعل ذلك فهو أعجب.
قال بعضهم: سمعت أبا بلال في جنازة وهو يقول: ألا كلّ ميتة ظنون إلّا ميتة الشجّاء. قالوا: وما ميتة الشجاء؟ قال: امرأة أخذها زياد فقطع يديها،
ورجليها، فقيل لها: كيف ترين يا شجّاء؟ قالت: قد شغلني هول المطّلع عن برد حديدكم.(5/146)
قال بعضهم: سمعت أبا بلال في جنازة وهو يقول: ألا كلّ ميتة ظنون إلّا ميتة الشجّاء. قالوا: وما ميتة الشجاء؟ قال: امرأة أخذها زياد فقطع يديها،
ورجليها، فقيل لها: كيف ترين يا شجّاء؟ قالت: قد شغلني هول المطّلع عن برد حديدكم.
قال الحجاج لامرأة من الخوارج: اقرئي شيئا من القرآن. فقالت: {إِذََا جََاءَ نَصْرُ اللََّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النََّاسَ} [النصر: 21] يخرجون فقال: ويحك يدخلون.
قالت: قد دخلوا، وأنت تخرجهم.
وقال الحجّاج لأخرى: لأحصدنّكم حصدا. قالت: أنت تحصد، والله يزرع، فانظر أين قدرة المخلوق من قدرة الخالق؟
رأت أخرى منهم رجلا بضّا فقالت إنّي لأرى وجها لم يؤثّر فيه وضوء السّبرات.
كان شبيب الخارجي ينعى لأمّه: فيقال: قتل: فلا تصدّق، إلى أن قيل لها:
غرق: فولولت، وصدّقت. فقيل لها في ذلك. فقالت: إنّي رأيت حين ولدته أنّه خرج منّي نار فعلمت أنّه لا يطفئه إلّا الماء.
وقف رجل على أبي بيهس وقد أمر بقطع يديه ورجليه فقال: ألا أعطيك خاتما تتختّم به؟ فقال له أبو بيهس: أشهد أنّك إن كنت من العرب فأنت من هذيل، وإن كنت من العجم، فأنت بربريّ. فسئل عنه فإذا هو من هذيل وأمّه بربريّة.
أتى رجل من الخوارج الحسن البصريّ، فقال له: ما تقول في الخوارج قال: وهم أصحاب دنيا، وقال: ومن أين قلت وأحدهم يمشي في الرّمح حتّى ينكسر فيه، ويخرج من أهله وولده؟ فقال الحسن: حدّثني عن السّلطان أيمنعك من إقامة الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، والحجّ والعمرة؟ قال: لا، قال: فأراه إنّما منعك الدّنيا فقاتلت.
نزل رجل من الخوارج على أخ له منهم في استتارة من الحجّاج، وأراد صاحب المنزل شخوصا إلى بلد آخر لحاجة له، فقال لامرأته: يا زرقاء أوصيك بضيفي هذا خيرا وبعد لوجهته. فلمّا عاد بعد شهر قال لها: يا زرقاء. كيف رأيت
ضيفنا؟ قالت ما أشغله بالعمى عن كلّ شيء وكان الضّيف أطبق عينه فلم ينظر إلى المرأة والمنزل إلى أن عاد زوجها.(5/147)
نزل رجل من الخوارج على أخ له منهم في استتارة من الحجّاج، وأراد صاحب المنزل شخوصا إلى بلد آخر لحاجة له، فقال لامرأته: يا زرقاء أوصيك بضيفي هذا خيرا وبعد لوجهته. فلمّا عاد بعد شهر قال لها: يا زرقاء. كيف رأيت
ضيفنا؟ قالت ما أشغله بالعمى عن كلّ شيء وكان الضّيف أطبق عينه فلم ينظر إلى المرأة والمنزل إلى أن عاد زوجها.
اجتمع ثلاثة من الخوارج فعقد اثنان لواحد، وخرجوا يمشون خلفه يلتمسون شيئا يركبه، فجعل الاثنان يتلاحيان، فالتفت إليهما وقال: ما هذه الضّوضاء التي أسمعها في عسكري؟
كبر رجل منهم وهرم حتّى لم يكن به نهوض، فأخذ منزلا على ظهر الطّريق، فكلّما. جاء مطر وابتلّت الأرض أخذ زجاجا، وكسره، ورماه في الطّريق، فإذا مرّ إنسان وعقر رجله الزّجاج قال الخارجيّ من وراء الباب: لا حكم إلّا لله ثم يقول: اللهمّ إنّ هذا مجهودي.
لقي رجل بعض الخوارج بالموقف عشيّة عرفة، فقال له: من حجّ في هذه السّنة من أصحابكم؟ فقال: ما حجّ غيري. فقال له: إنّما باهى الله عزّ وجلّ ملائكته في هذه السّنة بشقّ محمله.
أحضر الحجّاج رجلا من الخوارج، فمنّ عليه، وأطلقه، فلما عاد إلى أصحابه، قالوا له: إنّ الله مخلّصك من يده ليزيدك بصيرة في مذهبك، فلا تقصّر في الخروج عليه. فقال: هيهات. «غلّ يدا مطلقها، واسترقّ رقبة معتقها».
نظر رجل من الخوارج إلى رجل من أصحاب السّلطان يتصدّق على مسكين فقال: انظر إليهم: حسناتهم من سيّئاتهم.
قال المنصور لبعض الخوارج وقد ظفر به: عرّفني من أشدّ أصحابي إقداما كان في مبارزتك. فقال: ما أعرفهم بوجوههم، ولكنّي أعرف أقفاءهم. فقل لهم يدبروا حتّى أصفهم، فاغتاظ وأمر بقتله.
قال الحجّاج لرجل منهم: والله إنّي لأبغضكم. فقال الخارجيّ: أدخل الله أشدّنا بغضا لصاحبه الجنة.
وقيل إنّ أوّل من حكّم عروة ابن أديّة وهو عروة بن حدير أحد بني ربيعة بن حنظلة. وأديّة جدّة له وهو ممّن نجا من حرب النهروان، وبقي إلى أن أتي به زياد فقتله ثم دعا مولاه، فقال: صف لي أموره. فقال: أأطنب أم أختصر؟ فقال: بل
أختصر فقال: ما أتيته بطعام بنهار قطّ، ولا فرشت له فراشا بليل قطّ.(5/148)
وقيل إنّ أوّل من حكّم عروة ابن أديّة وهو عروة بن حدير أحد بني ربيعة بن حنظلة. وأديّة جدّة له وهو ممّن نجا من حرب النهروان، وبقي إلى أن أتي به زياد فقتله ثم دعا مولاه، فقال: صف لي أموره. فقال: أأطنب أم أختصر؟ فقال: بل
أختصر فقال: ما أتيته بطعام بنهار قطّ، ولا فرشت له فراشا بليل قطّ.
وكان زياد سأله عن معاوية فسبّه، وسأله عن نفسه، فقال: أوّلك لزينة وآخرك لدعوة وأنت بعد عاص لربّك.
قال المبرّد (1): قد استهوى رأي الخوارج جماعة من الأشراف، يروى أنّ المنذر بن الجارود كان يرى رأيهم، وكان يزيد بن أبي مسلم صاحب الحجّاج يراه ونسب إليه عكرمة مولى ابن عبّاس ومالك بن أنس.
وروي أنّه كان يذكر عثمان، وعليّا، وطلحة، والزبير فيقول: والله ما اقتتلوا إلّا على الثّريد الأعفر.
وأمّا أبو سعيد الحسن البصريّ فإنّه كان ينكر الحكومة ولا يرى رأيهم.
ذكروا أنّ عبد الملك أتوه برجل من الخوارج، فأراد قتله، فأدخل على عبد الملك ابن له صغير وهو يبكي فقال الخارجيّ: دعه يبك فإنّه أرحب لشدقه، وأصحّ لدماغه، وأذهب لصوته، وأحرى ألّا تأبى عليه عينه إذا حفزته طاعة الله فاستدعى عبرتها. فأعجب عبد الملك بقوله. وقال له متعجّبا: أمّا يشغلك ما أنت فيه عن هذا؟ فقال: ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن قول الحقّ شيء. فأمر عبد الملك بحبسه، وصفح عن قتله.
كان جماعة من الخوارج تجمعت بعد حرب النّهروان فتأسّفوا على خذلانهم أصحابهم، فقام منهم قائم يقال له المستورد من بني سعد بن زيد مناة، فحمد الله، وأثنى عليه، وصلّى على محمّد صلّى الله عليه، ثم قال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه أتانا بالعدل تخفق راياته، وتلمع معالمه ويبلّغنا عن ربّه وينصح لأمّته حتّى قبضه الله مخيّرا مختارا، ثمّ قام الصدّيق فصدق عن نبيّه، وقاتل من ارتدّ عن دين
__________
(1) المبرد: هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر بن عمير بن ثمالة الأزدي البصري، أبو العباس المعروف المبرد، الأديب النحوي اللغوي الفقيه، ولد سنة 210هـ، وتوفي سنة 285هـ، له العديد من المصنفات، منها: «أدب الجليس»، «إعراب القرآن»، «الرد على سيبويه»، «ضرورة الشعر»، «طبقات النحاة البصريين»، «قواعد الشعر»، «الكامل في اللغة»، «كتاب الاشتقاق»، «مدخل إلى سيبويه»، «مدخل إلى النحو»، «معاني القرآن»، «مقدمة في النحو»، وغيرها الكثير (كشف الظنون 6/ 2120).(5/149)
ربّه، وذكر أنّ الله عزّ وجلّ قرن الصلاة بالزّكاة، فرأى تعطيل إحداهما طعنا على الأخرى، لا بل على جميع منازل الدين، ثم قبضه الله إليه موفورا. ثمّ قام الفاروق، ففرّق بين الحقّ والباطل مسوّيا بين النّاس، لا مؤثرا لأقاربه، ولا محكّما في دين ربّه، وها أنتم تعلمون ما حدث، والله يقول: {وَفَضَّلَ اللََّهُ الْمُجََاهِدِينَ عَلَى الْقََاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 95].
وكان المستورد كثير الصلاة شديد الاجتهاد، وله آداب محفوظة عنه.
كان يقول: إذا أفضيت بسرّي إلى صديقي فأفشاه لم ألمه لأني كنت أولى بحفظه.
وكان يقول: لا تفش إلى أحد سرّا. وإن كان لك مخلصا إلّا على جهة المشاورة.
وكان يقول: كن أحرص على حفظ سرّ صاحبك منك على حقن دمك.
وكان يقول: أقلّ ما يدلّ عليه عائب النّاس معرفته بالعيوب ولا يعيب إلّا معيب.
وكان يقول: المال غير باق فآشتر به من الحمد ما يبقى عليك.
وكان يقول: بذل المال في حقّه استدعاء للمزيد من الجواد.
وكان يكثر أن يقول: لو ملكت الدنيا بحذافيرها. ثم دعيت إلى أن أستقيل بها خطيئة علي لفعلت.
ولمّا أتي عبيد الله بن زياد بعروة ابن أديّة وكان قد أصيب في سريّة للعلاء بن سويد في استتاره قال له عبيد الله: جهّزت أخاك عليّ: فقال: والله لقد كنت به ضنينا وكان لي عزّا. ولقد أردت له ما أريده لنفسي، فعزم عزما فمضى عليه، وما أحبّ لنفسي إلّا المقام وترك الخروج. قال له: أفأنت على رأيه؟ قال: كنّا نعبد ربّا واحدا. قال: أما لأمثّلنّ بك. قال: فاختر لنفسك من القصاص ما شئت. فأمر به فقطعوا يديه ورجليه. ثم قال: كيف ترى؟ قال: أفسدت عليّ دنياي وأفسدت عليك آخرتك.(5/150)
وفي كتاب لنافع بن الأزرق (1) كتبه إلى قعدة الخوارج: ولا تطمئنّوا إلى الدنيا فإنها غرّارة، مكّارة، لذتها نافذة ونعيمها بائد. حفّت بالشهوات اغترارا، وأظهرت حبرة، وأضمرت عبرة، فليس لآكل منها أكلة تسرّه، ولا شربة تونقه إلّا دنا بها درجة إلى أجله، وتباعد بها مسافة من أمله. وإنما جعلها الله دارا لمن تزوّد منها إلى النّعيم المقيم، والعيش السليم، فلن يرضى بها حازم دارا، ولا حكيم بها قرارا، فاتقوا الله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزََّادِ التَّقْوى ََ} [البقرة: 197]. والسلام على من اتبع الهدى.
ولما حاربهم المهلّب بسلّى، وسلّيرى، فقتل رئيسهم: ابن الماخور اجتمعوا على الزبير بن علي من بني سليط، وبايعوه، فرأى فيهم انكسارا شديدا، فقال لهم: اجتمعوا. فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى الله على محمد صلّى الله عليه وسلّم ثم أقبل عليهم فقال: إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجر، وهو على الكافرين عقوبة وخزي، وإن نصب منكم أمير المؤمنين فما صار إليه خير مما خلّف. وقد أصبتم فيهم مسلم بن عبيس، وربيعا الأجذم، والحجاج بن باب، وحارثة بن بدر، وأشجيتم بالمهلّب، وقتلتم أخاه المعارك، والله يقول لإخوانكم من المؤمنين: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيََّامُ نُدََاوِلُهََا بَيْنَ النََّاسِ} [آل عمران: 140] فيوم سلّى كان لكم بلاء وتمحيصا، ويوم سولاف كان لهم عقوبة ونكالا، فلا تغلبنّ عن الشكر في حينه، والصّبر في وقته، وثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض والعاقبة للمتقين.
ولمّا استردّ مصعب المهلب من وجه الأزارقة، وولاه الموصل شاور الناس فيمن يستكفيه أمر الخوارج، قال قوم: ولّ عبيد الله بن أبي بكرة. وقال قوم: ولّ عمر بن عبيد الله بن معمر. وقال قوم: ليس لهم إلا المهلب فاردده إليهم.
وبلغت المشورة الخوارج، فأرادوا الأمر بينهم. فقال: قطريّ ابن الفجاءة المازني: إن جاءكم عبيد الله بن أبي بكرة أتاكم سيد، سمح، كريم، جواد مضيّع
__________
(1) هو نافع بن الأزرق بن قيس الحنفي البكري الوائلي الحروري، أبو راشد، رأس الأزارقة من الخوارج وإليه نسبتهم، كان أمير قومه وفقيههم. توفي سنة 65هـ (الأعلام 7/ 351).(5/151)
لعسكره، وإن جاءكم عمر بن عبيد الله أتاكم شجاع بطل، فارس، يقاتل لدينه، ولملكه، وبطبيعة لم أر مثلها لأحد فقد شهدته في وقائع فما نودي في القوم لحرب إلّا كان أوّل فارس يطلع حتّى يشدّ على قرنه فيضربه.
وإن ردّ المهلب فهو من قد عرفتموه إن أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر، يمدّه إذا أرسلتموه، ويرسله إذا أمددتموه. لا يبدؤكم إلّا أن تبدؤوه. إلّا أن يرى فرصة فينتهزها فهو الليث المبرّ، والثعلب الروّاغ، والبلاء المقيم.
ولمّا قتل مصعب أتى الخبر الخوارج ولم يأت المهلّب وأصحابه، فتوافقوا يوما على الخندق، فناداهم الخوارج: ما تقولون في المصعب؟ فقالوا: إمام هدى: قالوا: فما تقولون في عبد الملك؟ قالوا: ضالّ مضلّ. فلمّا كان بعد يومين أتى المهلّب قتل المصعب، وأنّ النّاس قد اجتمعوا على عبد الملك، وورد عليه كتاب عبد الملك بولايته. فلمّا توافقوا ناداهم الخوارج ما تقولون في مصعب؟
قالوا: لا نخبركم. قالوا: فما تقولون في عبد الملك قالوا: إمام هدى، قالوا: يا أعداء الله، بالأمس ضالّ مضلّ، واليوم إمام هدى، يا عبيد الدنيا عليكم لعنة الله.
أتي الحجاج بامرأة من الخوارج فجعل يكلّمها، وهي معرضة عنه. فقال لها بعض الشّرط: يكلمك الأمير وأنت معرضة عنه؟ قالت: إنّي لأستحي من الله أن أنظر إلى من لا ينظر إليه.
أتي زياد بامرأة منهم، فقال: أما والله لأحصدنّكم حصدا، ولأفنينكم عدّا.
قالت: كلّا. إنّ القتل ليزرعنا. قال: فلمّا همّ بقتلها تستّرت بثوبها فقال: أتتسترين وقد هتك الله سترك؟ قالت: أي والله أتستّر ولكنّ الله أبدى عورة أمّك على لسانك، إذ أقررت أنّ أبا سفيان زنى بها، فأمر بقتلها.
وقال الحجّاج لرجل منهم: أجمعت القرآن؟ فقال: أمتفرّقا كان فأجمعه؟
قال: أتقرؤه ظاهرا قال: بل أقرؤه وأنا أبصره. قال: أفتحفظه؟ قال: أخشيت فراره فأحفظه. قال: ما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: لعنه الله، ولعنك معه.
قال: إنّك مقتول. وكيف تلقى الله؟ قال: ألقاه بعملي وتلقاه بدمي.
كان عمران بن حطّان من أقبح الناس وجها وأسمجهم منظرا وكانت له امرأة
كأنّها القمر أدبية، فصيحة، فقالت له يوما، أنا وأنت في الجنّة جميعا، قال:(5/152)
كان عمران بن حطّان من أقبح الناس وجها وأسمجهم منظرا وكانت له امرأة
كأنّها القمر أدبية، فصيحة، فقالت له يوما، أنا وأنت في الجنّة جميعا، قال:
وكيف علمت؟ قال: لأنّي ابتليت بك فصبرت، وأعطيت مثلي فشكرت، والصابرون والشّاكرون في الجنّة.
قتل زياد رجلا، من الخوارج بعد أن سأله عن عثمان فتبرّأ منه، وعن معاوية فسبّه، وعن نفسه فقال: إنّك أوّلك لزينة، وآخرك لدعوة وأنت بعد عاص لربّك.
فأمر به فضربت عنقه، ثم قال لمولى له: صف لي أموره قال: أأطنب أم أختصر؟
قال: بل اختصر. فقال ما أتيته بطعام بنهار قطّ، ولا فرشت له فراشا بليل قطّ.
كان بالمدينة رجل من الخوارج قال بعضهم: فرأيته يحذف قناديل المسجد بالحصى، فيكسرها. فقلت له: ما تصنع؟ قال: أنا كما ترى شيخ كبير، لا أقدر لهم على أكثر من هذا أغرّمهم قنديلا، قنديلين في كلّ يوم. وصلّى الله على محمد وآله.
وهذا مختصر عمله الصاحب رحمه الله وسماه:
الكشف عن مناهج أصناف الخوارج
الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على النبي محمد، وآله أجمعين. سألت أن أذكر لك ألقاب طوائف الخوارج، وذروا من اختلافها، وأنا أثبت ما يحضر حفظي، على أنّ هذه الألقاب تجمع أصولا، وفروعا، فربّ طائفة لحقها لقب ثم تفرّد من جملتها فريق فلحقهم لقب آخر.
والذي يجمعهم من القول تكفير أمير المؤمنين صلوات الله عليه وتكفير عثمان وإنكار الحكمين، والبراءة منهما، وممّن حكّمهما أو تولّى أحدا ممن صوّبهما. وأوّل من حكم بصفّين عروة بن حدير: أخو أبي بلال مرداس، وقيل عاصم المحاربي، وأوّل من تشرّى رجل من يشكر، وكان أميرهم أول ما اعتزلوا عبد الله بن الكوّاء، وأمير قتالهم شبت بن ربعي، ثم بايعوا لعبد الله بن وهب الراسبي.
ذكر ألقاب فرقهم مع جمل من مذاهبهم
الأزارقة: أصحاب نافع بن الأزرق، يبرؤون من القعدة.(5/153)
النجدية: أصحاب نجدة بن عامر الأسدي، تتولّى أصحاب الكبائر من الخوارج، إذ لم يصرّوا، ومن أصرّ منهم فهو مشرك عندهم.
الإباضيّة: أصحاب عبد الله بن إباض التّميمي، فأما عبد الله بن يحيى الأباضي الملقّب بطالب الحق فهو منسوب إليهم. ومعه خرج أبو حمزة الخارجيّ.
الصّفريّة: أصحاب زياد بن الأصفر. وقيل أصحاب عبد الله الصفّار.
العطويّة: أصحاب عطية بن الأسود الحنفي من المنكرين على نافع.
العجاردة: أصحاب عبد الكريم بن عجرد، وهم عطوية، إلا أنهم يوجبون دعاء الأطفال عند بلوغهم والبراءة منهم قبل ذلك.
الميمونيّة: ميمون هذا عبد لعبد الكريم بن عجرد. ويقول بالعدل، ويرعى قتل السّلطان خاصّة، ومن رضي ظلمه، وأعانه دون سائر النّاس ويحكى عنهم أنّ التزوّج ببنات الابن وبنات البنات، وبنات بنات الأخوات وبنات بني الإخوة جائز، وأنّ سورة يوسف ليست من القرآن. وأكثر من بسجستان ميمونيّة، وعجاردة، وقيل ميمون رجل من أهل بلخ.
الخلفيّة: يقولون بالجبر، ويخالفون الميمونيّة في العدل.
الحمزيّة: أصحاب حمزة بن أدرك، يقولون بالعدل. وله فارقوا الخليفية.
الخازميّة: وهم الشعيبية أصلهم عجاردة، وهم أصحاب شعيب يقولون: إنّ الولاية والعداوة صفتان في ذات القديم، وهم مجبرة.
المعلومية: من الخازميّة يقولون: من لم يعلم الله بجميع أسمائه، وعرفه ببعضها فهو عارف به.
المجهولية يقولون: من لم يعلم الله عز وجل بجميع أسمائه فهو جاهل به.
الصّلتية: عجاردة أصحاب عثمان بن أبي الصّلت. يقولون: إذا استجاب الرجل للإسلام برئنا من أطفالهم حتّى يدركوا.
الثّعالبة: عجاردة، وصاحبهم ثعلبة، خالف عبد الكريم بن عجرد فيما قاله في الطفل.(5/154)
الأخنسيّة: أصحاب الأخنس يحرّمون البنات، والغيلة ويقفون عمّن في دار التّقية حتّى يعرفوه.
العبدية: رأوا أخذ زكاة أموال عبيدهم إذا استغنوا، وإعطاءهم إذا افتقروا.
الشّيبانية: أصحاب شيبان بن سلمة.
الزّياديّة: أصحاب زياد بن عبد الرحمن.
العشريّة: وهم الرّشيدية، كانوا يرون فيما سقي بالأنهار الجارية نصف العشر، وخالفت الزيادية في إيجابها العشر.
المكرمية: أصحاب أبي مكرم. قالت: تارك الصلاة كافر، ومن أتى كبيرة فهو جاهل بالله. وقالت بالموافاة.
الفديكية: أصحاب أبي فديك الذي غلب على عسكره نجدة، وأنكر عليه.
الحفصيّة: وصاحبهم حفص بن أبي المقدام وهم إباضيّة: زعم أنّ من عرف الله ثم أنكر الأنبياء أو غير ذلك فهو كافر، وليس بمشرك.
اليزيدية: رئيسهم يزيد بن أنيسة يتولّى الإباضيّة كلّها، والمحكّمة الأولى.
ويزعم أنّ الله يبعث رسولا من العجم وينزل عليه كتابا بغير شريعتنا ويكونون صابئين.
الحارثية: أصحاب الحارث الإباضي. يقولون بالعدل وأنّ مخالفيهم كفار غير مشركين تحلّ مناكحتهم، ويحرم سبيهم. ودار مخالفيهم دار توحيد إلّا عسكر السّلطان فإنه دار بغي، وأنّ مرتكبي الكبائر موحّدون غير مؤمنين.
الواقفيّة: وقفت في جواز بيع الأمة من مخالفيهم ويسمون: «صاحب» المرأة.
الضحّاكية: ويقال لهم: أصحاب النّساء، وجوّزوا تزويج المرأة المسلمة من كفّار قومهم في دار التّقية.
البيهسيّة: أصحاب أبي بيهس هيصم بن جابر. كفّر من حرّم بيع الأمة من المخالفين. وكلّ ذنب لم يحكم الله تعالى فيه حكما مغلظا فهو مغفور عنده.(5/155)
العونيّة: تقول: إذا كفر الإمام كفرت الرعية: الغائب، والشاهد.
السّؤاليّة: تقول: من أقام الشّهادتين، ووالى أولياء الله، وعادى أعداءه فهو مسلم إلى أن يبتلى في غير ذلك.
التّفسيريّة: رئيسهم الحكم بن يحيى الكوفي. ومن قولهم: إنّ من شهد شهادة أخذ بتفسيرها وكيفيّتها.
الصّالحيّة: أصحاب صالح بن مسرّح.
الشّمراخية: من قولهم: إنّ قتل الأبوين المخالفين حرام في دار التقيّة، ودار الهجرة.
البدعية: يقطعون على أنفسهم وموافقيهم أنّهم في الجنّة.
الخشبيّة: رئيسهم أبو الخشب.
المغروريّة: صفرية وموضعهم البيضاء من المغرب، وصاحبهم المغرور بن طالون.
والبلاد التي يغلب عليها الخارجية الجزيرة وأطراف الموصل.
وشهرزور، والبحرين، وسجستان، وتاهرت. وكثير من أذربيجان. وهم يلقّبون بالخوارج لخروجهم على الإمام العادل عليه السلام والمارقة لإخبار النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله لأنّهم يمرقون من الدين، والحروريّة لنزولهم حروراء. والمحكّمة لقولها كثيرا: لا حكم إلّا لله. ولقّبت أنفسها: الشّراة، أي أنّا شرينا أنفسنا في طاعة الله. ومصنّفوا كتبهم عبد الله بن يزيد ومحمد بن حرب، ويحيى بن كامل، واليمان بن دياب. وأصول الخوارج الإباضيّة والأزارقة والصّفرية، والنجدية. فإذا ذكرت فرقة من هذه الفرق علم أنها مباينة للفرق الثّلاث.
ثم سائر الألقاب تتبين بتفصيل مقالاتهم، وإلى الله نبرأ من جماعتهم، ونسأله أن يصلّي على النبي، وابن عمه الرضيّ، وأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.(5/156)
أدخل رجل من الشّراة إلى الحجاج فاستحقره، ثم قال له: ويحك! ما أخرجك؟ فو الله ما أظنّك تعرف مواقيت الصّلاة. فقال: ذاك لو اتكلت على تعليمك يا حجّاج، كنت بالحريّ أن أنزل بهذه المنزلة، قال: ما أخرجك؟ قال:
مخافة يوم أنا وأنت إليه نصير. قال: وما ذلك اليوم؟ قال: أوّل آخر، وآخر أوّل.
مستقبل أوّل، مستدبر آخر لا بعده أجل ولا فيه عمل، ولا فيه مستغيث، ولا إلى غيره مذهب، يأمن فيه الخائف، ويخاف فيه الآمن، ويعزّ فيه الذليل ويذلّ فيه العزيز وفي مثل هذا ما أقلق مثلي عن الفراش، والأئمة تعدل، فكيف إذا كانت تضلّ وتضلّل؟ فاقض ما أنت قاض. قال: أجزعت من الموت؟ قال: والله ما جزعت من قضاء، ولا أسفت من بلاء، ولا كرهت لربي لقاء، وللموت ما خلقت، وما لي حاجة إلّا فيه، فهل يجزع الرجل من قضاء حاجته؟ قال: أما والله لأعجّلنّ لك من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر.
قال: أما والله لو علمت أنّ بيدك تعجيله لعلمت أنّ بيدك تأخيره.
قال: والله لأقتلنّك. قال: لا يعزّ الله بقتلي باطلا ولا يبطل به حقّا. ولئن قتلتني لأخاصمنّك بحيث يزول عنك وعن أبي الزّرقاء عزّكما، ولا يدفع عنكما سلطانكما، وحيث لا يقبل لكما عذر ولا تنفعكما حجّة، فأمر بقتله.(5/157)
الباب الثاني عشر الغلط والتّصحيف
قال بعضهم: خالف تذكر. فقيل له: إنّما هو تذكر، فقال: هذا أوّل الخلاف.
وقرأ بعضهم في كتاب: أنّ النبيّ عليه السلام بلغ قديدا، وإنّما بلغ قديدا.
وقرأ آخر: أنّه كان يحبّ العسل يوم الجمعة، وإنّما هو «الغسل».
وقرأ آخر: أنه كان يكره النّوم في القدر، وإنّما هو الثّوم.
وقرأ آخر: ولا يرث جميل إلّا بثينة، وإنما هو لا يورّث حميل إلا ببيّنة وقال آخر: إذا أردت أن تتعظ فادخل المقابر، وإنما هو تتّعظ. وقرأ رجل على ابن مجاهد: بل عجنت، ويسجرون. فقال: أحسنت، مع العجن يسجر التّنّور.
كتب صاحب الخبر بأصبهان إلى محمد بن عبد الله بن طاهر: إنّ فلانا القائد يلبس خرلخية، ويقعد مع النساء: فكتب إلى العامل: ابعث إليّ بفلان وخرلخيته، فصحّف القارئ. وقرأ: وخزّ لحيته، ففعل ذلك به، وأشخصه.
علّق ستر على بعض أبواب أمّ جعفر، وكان أمر أن يكتب عليه «السّيدة الميمونة المباركة» فأغفل الناسخ الراء، ودخل الرشيد فقرأه «الميمونة المناكة» فأمر بتمزيقه.
وكان كافي الكفاة (1) يكره أن يكون في مخاطبات النّساء حراستها ونظرها وعقلها، ويقول: لا يؤمن أن يصحّف فيقرأ: حراستها، وعقلها، وبظرها.
__________
(1) هو الصاحب بن عباد، تقدمت ترجمته.(5/158)
وكان حمّاد الراوية (1) لا يقرأ القرآن فاستقرئ فقرأ، ولم يزلّ إلّا في أربعة مواضع: عذابي أصيب به من أساء (2). وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّا عن موعدة وعدها أباه (3). ومن الشّجر ومما يغرسون (4). بل الذين كفروا في غرّة وشقاق (5).
وقد روي أنه صحّف في نيّف وعشرين موضعا كلها متشابهة وأنا أذكرها جميعا من بعد بإذن الله.
غضب كاتب المأمون على غلامه فرماه بالدّواة، وشجّه، فلما رأى الدم يسيل قال: صدق الله تعالى: والذين {وَإِذََا مََا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37].
فبلغ ذلك المأمون، فأنّبه.
وقال: ويلك! أما تحسن أن تقرأ آية من القرآن؟ فقال: بلى والله إنّي لأقرأ من سورة واحدة ألف آية.
قال بعضهم: قرأ عبد الله بن أحمد بن حنبل في الصّلاة: اقرأ باسم ربّك الذي خلق.
فقيل له: أنت وأبوك في طرفي نقيض. زعم أبوك أنّ القرآن ليس بمخلوق، وأنت قد جعلت ربّ القرآن مخلوقا.
وحكي أنّ المحاملي المحدّث قرأ: وفاكهة وإبّا. فقيل له: الألف مفتوحة. فقال: هو في كتابي محفوظ مضبوط.
وحكي أنّ ابن حاتم قرأ: فصيام ثلاثة أيام في الحجّ وتسعة إذا رجعتم، تلك
__________
(1) حماد الراوية: هو أوّل من لقب بالراوية، وهو أبو القاسم حماد بن سابور بن المبارك، وكان أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها، وأشعارها وأنسابها ولغاتها، توفي سنة 155هـ (الأعلام 2/ 271).
(2) الآية في القرآن الكريم: {عَذََابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشََاءُ} [الأعراف: 156].
(3) الآية في القرآن الكريم: {وَمََا كََانَ اسْتِغْفََارُ إِبْرََاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلََّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهََا إِيََّاهُ} [التوبة:
114].
(4) الآية في القرآن الكريم: {وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمََّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68].
(5) الآية في القرآن الكريم: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقََاقٍ} (2) [ص: 2].(5/159)
عشرة كاملة (1).
كان اسم أبي العتاهية (2)، «زيد» فنقش على خاتمه أبا زيد «ثق» فكان الناس يتنادلونه: أنا زنديق.
قال بعضهم: سمعت ابن شاهين المحدّث في جامع المنصور يقول في الحديث: نهى النّبيّ عليه السلام عن شقيق الحطب. فقال بعض الملّاحين: يا قوم: فكيف تعمل والحاجة ماسّة وهو شقيق الخطب.
قال: وسمعته مرة أخرى وهو يفسّر قوله تعالى: {وَثِيََابَكَ فَطَهِّرْ} (4) [المدثر:
4] فقال: قيل لا تلبسها على غدرة، وهو لا تلبسها على عذرة.
وكان كيسان مستملي ابن الأنباري، وكان أعمى القلب فسمع ابن الأنباري وهو يقول: كيسان يسمع غير ما أقول، ويكتب غير ما يسمع ويقرأ غير ما يكتب، ويحفظ غير ما يقرؤه.
وحكي عنه أنه كان يكتب ما يسمع في الخزف، ويجمعه في حبّ، فاشترى راوية ماء فغلط السّقّاء بين حبّ الماء وحبّ الخزف، فصبّ الماء في حبّ العلم فرأينا كيسان وقد وضع يده على رأسه، وذهب علمه كلّه.
وقالوا: تقدّمت امرأة إلى عمر فقالت: أبا غفر حفص الله لك، فقال: ما لك: أغفرت؟ قالت: صلعت فرقتك.
قرأ الباغندي: وكلّ شيء فعلوه في الدبر (3) فصيح به من جوانب المجلس.
فقال: يا قوم لا تضجّوا فالباء منقوط.
وروى أبو ربيعة المحدّث أنّ النبيّ عليه السلام كان يغسل خصى الحمار.
قيل: ولم ذاك يا أبا ربيعة؟ قال: كان يظهر تواضعه بذلك. والخبر أنّه «كان يغسل
__________
(1) في القرآن الكريم: {فَصِيََامُ ثَلََاثَةِ أَيََّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذََا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196].
(2) أبو العتاهية: هو إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان، أبو إسحاق العنزي بالولاء العيني، المعروف بأبي العتاهية، ولد سنة 130هـ، بعين التمر، وتوفي سنة 211هـ ببغداد، له ديوان شعره مشهور (كشف الظنون 5/ 206).
(3) في القرآن الكريم: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} (52) [القمر: 52].(5/160)
حصى الجمار».
قال بعض المحدّثين: حدّثني فلان عن فلان عن سبعة وسبعين، يريد عن شعبة وسفيان.
كان «يزدا نفا ذار» فيه لكنة، وكان يجعل الحاء هاء، أملى على كاتب له، والهاصل ألف كرّ. فكتبها الكاتب بالهاء، كما لفظها، فأعاد عليه الكلام، فأعاد عليه الكاتب الكتاب، فلما فطن لاجتماعهما على الجهل، قال: أنت لا تهسن تكتب، وأنا لا أهسن أملي. فاكتب: الحاصل ألف كر فكتبها بالجيم معجمة.
قالت أمّ ولد لجرير لبعض ولدها: وقع الجرذان في عجان أمّكم. أبدلت الذال دالا وضمت الجيم، وجعلت العجين عجانا، وإنما أرادت وقع الجرذان في عجين أمّكم.
ودخل رجل على آخر وهو يأكل أترجّا، وعسلا. فأراد أن يقول: السلام عليكم. فلفظ عسليكم.
ودخلت جارية رومية على بعضهم لتسأل عن مولاتها، فبصرت بحمار قد أدلى، فقالت: قالت مولاتي كيف أير حماركم؟
قام بعض الجهّال إلى عالم، وسأله عن قول الشّاعر (1): [الخفيف] * يوم تبدي لنا قتيلة عن جيد * فقال: ما العنجيد؟
وسأل عن قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً} [الفتح: 25]. فقال: من كان كوفا من أصحاب النّبي عليه السلام.
وسأل آخر عن قولهم: «زاحم بعود أو دع» فقال: ما الأودع؟
__________
(1) البيت بتمامه:
يوم تبدي قتيلة عن جد ... د تليع تزينه الأطواق
والبيت للأعشى في ديوانه ص 259، ولسان العرب (تلع)، ومقاييس اللغة 2/ 352، ومجمل اللغة 1/ 334، وأساس البلاغة (تلع)، وتاج العروس (تلع).(5/161)
كات أحمد بن موسى بن إسحاق من قضاة السّلطان بأصبهان، فأملى يوما على أصحاب الحديث: حدثني فلان عن فلان عن هند أنّ المعتوه يريد عن هند أنّ المغيرة.
وكان أهل البصرة يروون عن عليّ عليه السلام أنّه قال: ألا إنّ خراب بصرتكم هذه يكون بالرّيح، فما أقلعوا عن هذا التّصحيف إلّا بعد مائتي سنة عند خرابها بالزّنج.
وقيل فيما روي عن النّبي عليه السلام أنّه قال: تختّموا بالعقيق، إنّما هو «تخيّموا بالعقيق» لواد بالمدينة.
وروى بعض جلّة المحدّثين: أنّ مرحبا اليهوديّ قتله عليّ يوم حنين وإنما قتله يوم خيبر.
وروى آخر: الجار أحقّ بصفّته، يريد بصقبه.
وروى آخر: لا بأس أن يصلّي الرجل وفي كمّه سنّورة، وإنّما هي سبّورة وهي الألواح من الآبنوس يكتب فيها التّذكرة.
وروى آخر: عمّ الرجل ضيق أبيه، وإنما هو صنو.
وروى آخر: لعن اليهود حرّمت عليهم الشحوم فحملوها. وإنما هو فجمّلوها، أي أذابوها.
وروى بعضهم: أنّ الحارث بن كلدة كان يقول الشمس تثقل الريح، وإنّما هو تتفل الريح.
وقالوا: كان يجلس في مقثاة. وإنما هو في مقناة.
ورووا: أنه نهى عن لبس القسيّ، وإنما هو القسيّ لضرب من الثياب.
ورووا: أن أعرابيا أتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى يده سخلة تبعر. وإنما هو تيعر من اليعار وهو صوتها.
قال بعضهم: قال الرّياشي لي يوما وقد جئت من مجلس ابن أبي الشّوارب: أرني ما أملي عليكم، فأريته، فمرّ به هذا الحديث: آخر ما يجازف به المؤمن عرق جبينه.(5/162)
فقال الرّياشي: ما أحوج هؤلاء إلى بعض علمنا إنما هو يحارف، والحريف الشّريك، يقال: فلان حريف فلان، أي شريكه ومحاسبه.
وقال بعضهم: حضرت رجلا من الكبراء وقد قرأ في المصحف: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتى عليك وعلى والديك (1).
وقرأ بعضهم: والعاديات صبحا (2).
وقال آخر: فكذّبوها فغدرنا بثالث (3).
وقيل: إنّ سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله على المدينة: أحص المخنّثين. يريد: عدّهم.
فقرأ الكاتب: اخص، فخصاهم.
وممّن أخجله التّصحيف في مجالس الخلفاء أحمد بن أبي خالد وزير المأمون، فإنّه حضر مجلسه للمظالم يقرأ عليه القصص، وكان فهما، فمرت به قصة مكتوب عليها: فلان البريدي، فقرأها: الثريدي، فقال المأمون أبو العباس جائع، هاتوا له ثريدة، فقدّمت إليه، وأكرهه على أكلها، وغسل يده، وعاد إلى أن تصفّح القصص، فمرت به قصة مكتوب عليها: فلان الحمصي فقرأها:
الخبيصيّ. فقال المأمون: كان غداء أبي العباس غير كاف، لا بدّ للثريدة من أن تتبع بخبيصة. فقدمت إليه، وأكلها.
ومنهم شجاع بن القاسم. قرأ على المتوكّل: حاضر طيّئ فقرأه جاء ضريطي.
وكان للمتوكل صاحب خبر يقال له ابن الكلبي، وكان يرفع كلّ ما يسمعه من غثّ وسمين، وجدّ وهزل ليمين كان حلّفه بها، فرفع يوما إليه: إنّ امرأتي خرجت مع أحبّة لها إلى بعض المتنزّهات فسكرت حبّتها، وعربدت عليها،
__________
(1) في القرآن الكريم: {يََا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى ََ وََالِدَتِكَ} [المائدة: 110].
(2) في القرآن الكريم: {وَالْعََادِيََاتِ ضَبْحاً} (1) [العاديات: 1] بالضاد المعجمة.
(3) في القرآن الكريم: {فَكَذَّبُوهُمََا فَعَزَّزْنََا بِثََالِثٍ} [يس: 14].(5/163)
وجرحتها في صدغها، ولم ينقط الغين. فقرأها المتوكّل في صدعها، ثم قال: إنّا (لله) تعطّل على ابن الكلبي مناكه.
وقرأ على عبيد الله بن زياد كاتبه كتاب عبيد الله بن أبي بكرة: أنّه وجد ابن أديّة مع جماعة من الخوارج في شرب. فقال ابن زياد: كيف لي بأن يكون الخوارج يرون الشّرب، وإنما هو في سرب.
الحروف التي ذكر أن حمّادا صحّفها من القرآن
وأوحى ربّك إلى النحل أن اتّخذي من الجبال بيوتا ومن الشّجر ومما يغرسون (1) وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها أباه (2) ليكون لهم عدوّا وحربا (3).
وما يجحد بآياتنا إلا كلّ جبّار كفور (4).
وتعزّروه ونصروه (5).
وتعزّروه ونوقّروه (6).
لكل امرئ يومئذ شأن يعفيه، بالفاء (7).
هم أحسن أثاثا وزيا (8).
عذابي أصيب به من أساء (9).
يوم يحمى غليها في نار جهنّم (10).
__________
(1) في القرآن الكريم: {وَمِمََّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68].
(2) في القرآن الكريم: {وَعَدَهََا إِيََّاهُ} [التوبة: 114].
(3) في القرآن الكريم: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} [القصص: 8].
(4) في القرآن الكريم: {إِلََّا كُلُّ خَتََّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32].
(5) في القرآن الكريم: {وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} [الأعراف: 157].
(6) في القرآن الكريم: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9].
(7) في القرآن الكريم: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (37) [عبس: 37].
(8) في القرآن الكريم: {هُمْ أَحْسَنُ أَثََاثاً وَرِءْياً} [مريم: 74].
(9) في القرآن الكريم: {عَذََابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشََاءُ} [الأعراف: 156].
(10) في القرآن الكريم: {يَوْمَ يُحْمى ََ عَلَيْهََا فِي نََارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 35].(5/164)
فبادوا ولات حين مناص (1).
ونبلو أخياركم (2).
صيغة الله، ومن أحسن من الله صيغة (3).
فاستعانه الذي من شيعته (4).
سلام عليكم لا نتّبع الجاهلين (5).
قل إن كان للرحمن ولد فأنا أوّل العائذين (6).
حكى أبو حاتم أنّه يقرأ شعر المتلمّس على الأصمعي، وأراد أن يقول:
[البسيط] أغنيت شأني فأغنو اليوم شأنكم ... واستحمقوا في مراس الحرب أو كيسوا
قال: فغلطت، وقلت: أغنيت شاتي. قال: فقال الأصمعيّ بالعجلة: فأغنوا اليوم تيسكم، وأشار إليّ، فضحك جميع الحاضرين.
وقدم محمد بن الحسن الفقيه العراق، واجتمع الناس عليه يسألونه ويسمعون كلامه، فرفع خبره إلى الرّشيد، وقيل له: إنّ معه كتاب الزّيدية فبعث بمن كبسه وحمله وحمل معه كتبه، فأمر بتفتيشها، فقال محمد: فخشيت على نفسي من كتاب «الحيل» من الرّشيد فقال لي الكاتب: ما ترجمة هذا الكتاب؟ فقلت: «كتاب الخيل» فرمى به.
ونذكر الآن بعض ما أخذ على العلماء من التّصحيف
قال كيسان: سمعت أبا عبيدة ينشد: [البسيط]
__________
(1) في القرآن الكريم: {فَنََادَوْا وَلََاتَ حِينَ مَنََاصٍ} [ص: 3].
(2) في القرآن الكريم: {وَنَبْلُوَا أَخْبََارَكُمْ} [محمد: 31].
(3) في القرآن الكريم: {صِبْغَةَ اللََّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللََّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138].
(4) في القرآن الكريم: {فَاسْتَغََاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ} [القصص: 15].
(5) في القرآن الكريم: {سَلََامٌ عَلَيْكُمْ لََا نَبْتَغِي الْجََاهِلِينَ} [القصص: 55].
(6) في القرآن الكريم: {قُلْ إِنْ كََانَ لِلرَّحْمََنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعََابِدِينَ} (81) [الزخرف: 81].(5/165)
ما زال يضربني حتّى خزيت له ... وحال من دون بعض البغية الشّفق
قال: فقلت خزيت خزيت؟ وضحكت، فغضب وقال: فكيف هو؟ قلت:
إنّما هو خذيت. قال: فانخزل. وما أحار جوابا.
وروى أيضا أبو عبيدة أبيات لقيط في يوم جبلة (1) [الرجز] يا قوم قد حرّقتموني باللّوم ... ولم أقاتل عامرا قبل اليوم
سيّان هذا والعناق والنّوم ... والمشرب البارد في ظلّ الدوم
وقال: يعني في ظل نخل المقل: فقال الأصمعيّ: قد أحال ابن الحائك لأنه ليس بنجد دوم. وجبلة بنجد، وإنّما الرّواية في الظّل الدوم، أي الدائم.
وروى الأصمعيّ أوس بن حجر (2): [الطويل] أجون تدارك ناقتي بقرى لها ... وأكبر ظنّي أنّ جونا سيفعل
فقال ابن الأعرابي: صحّف الدعيّ، إنّما هو تدارك ناقتي بقرابها، أي ما دمت أطمع فيها. وفي مثل للعرب: «الفرار بقراب أكيس».
وروى بيت الحارث بن حلزة (3): [الخفيف] عنتا باطلا وظلما كما تعت ... ز عن حجرة الرّبيض الظّباء
وقال: العنزة: الحربة ينحر بها. فردّ عليه أبو عمرو وقال: إنما هو تعتر، من العتيرة وهي ذبيحة الصّنم.
وروي بيت الحطيئة (4): [مجزوء الكامل] وغررتني وزعمت أن ... ك لا تني بالضّيف تأمر
__________
(1) الرجز للقيط بن زرارة في الأغاني 11/ 135، ولسان العرب (دوم)، ولحاجب بن زرارة في جمهرة اللغة ص 468، وأساس البلاغة (دوم).
(2) البيت في ديوان أوس بن حجر ص 98.
(3) البيت في ديوان الحارث بن حلزة ص 36، ولسان العرب (حجر)، (عتر)، (عنن)، وفي الديوان:
«تعتر» بالراء المهملة.
(4) البيت في ديوان الحطيئة ص 33، وأدب الكتاب ص 327، والخصائص 3/ 282، والكتاب 3/ 381.(5/166)
وقال أبو عمرو: إذا صحّفتم فصحّفوا مثل تصحيفه، وإنّما هو لابن بالصّيف تامر.
وروى بيت عنتره (1): [الوافر] وآخر منهم أجررت رمحي ... وفي البجليّ معبلة وقيع
فقال كيسان: له: إنما هو في البجلي بإسكان الجيم منسوب إلى بجلة بطن من بني سليم.
وروى لذي الرّمّة (2): [البسيط] عين مطحلبة الأرجاء طامية ... فيها الضّفادع والحيتان تصطخب
فقيل: هو يصطخب، لأن الحيتان لا تصطخب، ولا صوت لها. وروي لرؤبة (3): [الرجز] * شمطاء تنوي الغيظ حين ترأم * فقيل: إنما هو تبوى أي تجعله بمنزلة البوّ.
روى أبو عمرو بن العلاء بيت امرئ القيس (4): [الطويل] تأوّبني دائي القديم فغلّسا ... أحاذر أن يشتدّ دائي فأنكسا
فقال أبو زيد: هذا تصحيف لأنّ المتأوّب لا يكون مغلّسا في حال واحدة لأنّ غلّس: أتى في آخر اللّيل، وتأوّب جاء في أوّله، وإنما هو معلّسا، أي اشتدّ وبرّح.
وروى المفضّل للمخبّل (5): [الكامل] وإذا ألمّ خيالها طرفت ... عيني فماء شؤونها سجم
__________
(1) البيت في ديوان عنترة ص 335، ولسان العرب (جرر)، (وقع)، (بجل)، (عبل).
(2) البيت في ديوان ذي الرمة ص 63، ولسان العرب (طحلب)، والمعاني الكبير ص 638، وجمهرة أشعار العرب ص 951.
(3) الرجز لم أجده في ديوان رؤبة.
(4) البيت في ديوان امرئ القيس ص 106، وأساس البلاغة (أوب).
(5) البيت في ديوان المخبل السعدي ص 312، ولسان العرب (سجر)، وتاج العروس (سجر).(5/167)
فقال له خلف: إنّما هو طرفت عيني، فرجع عنه.
وروي لامرئ القيس (1): [الطويل] نمسّ بأعراف الجياد أكفّنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهّب
فقال له خلف: إنّما هو نمشّ، وهو مسح اليد ومنه قيل للمنديل مشوش، وأنشد والأصمعيّ حاضر (2): [المنسرح] وذات هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولبا جذعا
فجعل الذال معجمة، وفتحها، وذهب إلى الأجذاع، فقال الأصمعيّ: إنما هو: تولبا جدعا بالدّال غير معجمة مكسورة أي سيّئ الغذاء، فضجّ المفضّل، ورفع صوته فقال له الأصمعيّ: لو نفخت في شبّور اليهود لم ينفعك، تكلّم كلام النّمل وأصب.
وروى (3): [البسيط] بين الأراك وبين النّخل تشدخهم ... زرق الأسنّة في أطرافها شام
فقال الأصمعيّ: يا أبا العباس: لعل الرماح استحالت كأفر كوبات، فهي تشدخ.
فقال: كيف رويته يا أبا سعيد؟ فقال: تسدحهم. والسّدح: الصّدع.
وقد أخذ على الخليل في كتابه (العين) حروف كثيرة منها: يوم بغاث بالغين المنقوطة، وهو يوم مشهور بين الأوس والخزرج، هو (بعاث) بالعين غير المنقوطة.
__________
(1) البيت في ديوان امرئ القيس ص 51، ولسان العرب (ضهب)، (مثث)، (مشش)، وكتاب العين 6/ 225، وفي الديوان (نمتّ).
(2) البيت لأوس بن حجر في ديوانه ص 55، ولسان العرب (تلب)، (جدع)، (هرم)، والمخصص 14/ 64، ولبشر بن أبي حازم في ديوانه ص 127.
(3) يروى البيت بلفظ:
بين الأراك وبين النخل تسدحهم ... زرق الأسنة في أطرافها شبم
والبيت لخداش بن زهير في لسان العرب (سدح)، والتنبيه والإيضاح 1/ 246، وتاج العروس (سدح).(5/168)
وقال في حرف الخاء: فخججنا. وهو بالحاء غير منقوطة. وقال:
الخضب: الحيّة وإنما هو: الحضب. وقيل: إنّ ذلك من غلط اللّيث على الخليل.
وكان الأصمعيّ ينكر على الخليل روايته لهذا البيت (1): [الطويل] أفاطم إني هالك فتبيّني ... ولا تجزعي كلّ النّساء يتيم
وقال: إنّما تئيم من (آمت) المرأة تئيم إذا مات زوجها.
وأنشد أبو الخطاب الأخفش (2) [مجزوء الكامل] قالت قتيلة ما له ... قد جلّلت شيبا شواته
فقال أبو عمرو: صحّفت، إنّما هو سراته. فسكت أبو الخطّاب ثم أقبل على القوم، وقال: بل هو صحّف، إنما هي شواته. والشّواة: جلدة الرأس.
وذكر أنّ ابن الأعرابي أنشد بيت جرير وعنده عبد الله بن يعقوب (3)
[الوافر] وبكرة شابك الأنياب عات ... من الحيّات مسموم اللّعاب
فقال له عبد الله: إنما هو ونكزة، من قولهم: نكزته الحيّة.
وذكر عبد الله بن يعقوب أنّه سمع ابن الأعرابي (4) يقول:
* تلع الشّيب في رأسه * فذهب به إلى أعلى الرأس، من التّلعة. فقال: إنما هو بلّع: أي طلع ويقال منه: بلّع النّجم، ومنه اشتقاق سعد بلع.
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (يتم)، وتاج العروس (يتم)، وتهذيب اللغة 14/ 340.
(2) البيت بلا نسبة في لسان العرب (شوا)، وتهذيب اللغة 21/ 442، وأساس البلاغة (شوي).
(3) البيت في ديوان جرير ص 813.
(4) ابن الأعرابي: هو محمد بن زياد الكوفي البغدادي المعروف بابن الأعرابي، أبو عبد الله اللغوي، المتوفى سنة 231هـ، له من المصنفات: «تاريخ القبائل»، «كتاب الألفاظ»، «كتاب الأنواء»، «كتاب تفسير الأمثال»، «كتاب الخيل»، «كتاب الذياب»، «كتاب صفة الزرع»، «كتاب كرامات الأولياء»، «كتاب معاني الشعر»، «كتاب النبات»، «كتاب النوادر» وغيرها. (كشف الظنون 6/ 12).(5/169)
وذكر عسل بن ذكوان أنّ ابن الأعرابيّ صحّف بيت الهذليّ (1): [المتقارب] أرقت له مثل لمع البشير ... يقلّب بالكفّ قرصا خفيفا
* وإنّما هو فرضا أي ترسا * وكان يخالف ابن الأعرابي الأصمعيّ في بيت للحطيئة، ويدّعي كلّ واحد منهما على الآخر التصحيف. والبيت (2): [الوافر] كفوا سنتين بالأضياف نقعا ... على تلك الجفان من النّقيّ
هذه رواية ابن الأعرابي. والنّقع عنده: النّحر. والنّقيّ: الحوّارى. فيقول:
كفى الأضياف، جمع ضيف سنتين.
ورواية الأصمعيّ (3): [الوافر] كفوا سنتين بالأصياف بقعا ... على تلك الجفار من النّفيّ
وسنتين عنده: من أسنت القوم: إذا أجدبوا، والأصياف: جمع الصّيف، والبقع: يعني أنّهم بقع الظّهور، من النّفيّ: نفيّ الأرشية، إذا استقوا للنّاس.
والجفار: جمع الجفر وهي البئر البعيدة الماء.
وروى الكسائيّ: [الرجز] كأنّ تحت ريطها القشيب ... أعيس منها، لا من الكثيب
فبلغت روايته أبا عبيدة. فقال: أبلغوه أنّ الرّواية: أعيس منهالا من الكثيب فهو منهال. فقال الكسائي: أصاب الشّيخ، وأخطأت أنا.
وروى الفرّاء (4) [البسيط]
__________
(1) البيت لصخر الغي الهذلي في شرح الهذليين ص 295، ولسان العرب (فرض)، وتاج العروس (زور)، (خضض)، (فرض)، (شغف)، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 12/ 14، ومقاييس اللغة 4/ 489، والمخصص 6/ 75.
(2) البيت برواية «النفيّ» بالفاء، في ديوان الحطيئة ص 140، وتاج العروس (بقع)، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 1/ 285، ومقاييس اللغة 5/ 456، ولسان العرب (بقع).
(3) انظر الحاشية السابقة.
(4) البيت للقتال الكلابي في ديوانه ص 59، ولسان العرب (هنبر)، وبلا نسبة في الإنصاف 1/ 119، وتاج العروس (ورى)، وتهذيب اللغة 15/ 307.(5/170)
يا قاتل الله صبيانا تجيء بهم ... أم الهنيّين من زند لها واري
فقيل له: إنّما هو أمّ الهنيبر وهي الضّبع. ويقال لها أم عامر فقال: هكذا أنشدنيه الكسائي، فأحال على الكسائي.
حكى أبو الحسن الطّوسي، قال: كنّا في مجلس اللحياني (1) وهو على أن يملي نوادره ضعف ما أملى. فقال: «مثقّل استعان بذقنه». فقام ابن السكّيت إليه وهو حدث فقال: يا أبا الحسن: إنّما تقول العرب: «مثقّل استعان بدفّيه» لأنّ البعير إذا رام النّهوض استعان بجنبيه. فقطع الإملاء. فلمّا كان في المجلس الثّاني أملى: تقول العرب: «هو جاري مكاشري» فقام إليه ابن السكّيت.
وقال: أعزك الله إنما «هو جاري مكاسري». أي كسر بيتي إلى كسر بيته.
فقطع الإملاء، وما أملى بعد ذلك.
وقال: من احتجّ عن اللّحياني: البعير إذا رام النّهوض استعان بعنقه وذقنه، والمثل على ما رواه اللحياني صحيح.
وروى ابن السّكيت (2) (3): [الرجز] هرق لها من قرقري ذنوبا ... إن الذّنوب تنفع المغلوبا
__________
(1) اللحياني: هو علي بن الحسين. وقيل: ابن المبارك، الختلي، أبو الحسن البغدادي، المعروف باللحياني، من بني لحيان، غلام الكسائي، توفي في حدود سنة 210هـ، له كتاب النوادر المشهورة (كشف الظنون 5/ 668).
(2) ابن السكيت: هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق البغدادي، الأديب اللغوي المعروف بابن السكيت، توفي سنة 246هـ، له من المصنفات: «إصلاح المنطق»، «سرقات الشعراء وما اتفقوا عليه»، «شرح شعر الأخطل»، «تفسر شعر أبي نواس»، «شرح شعر الأعشى»، «شرح شعر زهير»، «شرح شعر عمرو بن ربيعة»، «شرح شعر قتال الكلابي»، «شرح المعلقات»، «غريب القرآن»، «كتاب الإبل»، «كتاب الأجناس»، «كتاب الأضداد»، «كتاب الألفاظ»، «كتاب الأمثال»، «كتاب الأنساب»، «كتاب الأنواء»، «كتاب الأيام والليالي»، «كتاب البحث»، «كتاب الحشرات»، «كتاب الزيرج»، «كتاب السرج واللجام»، «كتاب الفرق»، «كتاب فعل وأفعل»، «كتاب القلب والإبدال»، «كتاب المثنى والمبنى والمكنى»، «كتاب المذكر والمؤنث»، «كتاب المقصور والممدود»، «كتاب النبات والشجر»، «كتاب النوادر»، «كتاب الوحوش»، «معاني الشعر الصغير»، «معاني الشعر الكبير»، «منطق الطير». (كشف الظنون 6/ 537536).
(3) الرجز بلا نسبة في المخصص 17/ 18.(5/171)
فقال ثعلب: إنّما تنقع: أي تروي.
قال ابن دريد (1): وجدت للجاحظ في كتاب «البيان» تصحيفا شنيعا، فإنّه حدّثني محمّد بن سلّام، قال: سمعت يونس يقول: ما جاءنا من أحد من روائع الكلام ما جاءنا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
إنّما هو عن البتّي:
عن أبي عثمان البتّي. فأمّا النّبي عليه السلام فلا شكّ عند الملّي والذّمّي أنّه كان أفصح الخلق.
أنشد أبو البيداء الرّماحيّ أبا عمرو: [الطويل] ولو أنّ حيّا للمنايا مقاتلا ... يكون لقاتلت المنيّة عن معن
فتى لا يقول الموت من حرّ وقعه ... لك ابنك خذه ليس من سمتي دعني
فقال له أبو عمرو: صحّفت، إنّما هو: قتالا يقول.
روى الكلابيّ بيت عمر بن أبي ربيعة (2): [البسيط] كأن أحور من غزلان ذي بقر ... أهدى له شبه العينين والجيدا
فقال ابن الأعرابي له: صحفت. إنّما هو سنة العينين.
روي عن قتادة قال: حضرت الحسن وقد سئل عن قوله جلّ وعز {جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24] فقال: إن كان لسريا، وإن كان لكريما وقالوا: من هو؟
__________
(1) ابن دريد: هو محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية بن خيثم العربي اليعربي، البصري، أبو بكر اللغوي الشافعي الأديب نزيل ببغداد، الشهير بابن دريد، ولد سنة 223هـ، وتوفي سنة 321هـ، من مصنفاته: «أدب الكاتب»، «أسماء القبائل»، «أمالي» في العربية «تقويم اللسان»، «الجمهرة في اللغة»، «زوراء العرب»، «صفة السحاب والغيث»، «كتاب الاشتقاق»، «كتاب الأنواء»، «كتاب الخيل الصغير»، «كتاب الخيل الكبير»، «كتاب السرج واللجام»، «كتاب السلاح»، «كتاب فعلت وأفعلت»، «كتاب اللغات»، «كتاب المقتبس»، «كتاب المقتنى»، «كتاب المجتبى»، «كتاب المقصورة»، عدد أبياتها 229بيتا، «كتاب المقصور والممدود»، «كتاب الملاحن»، «كتاب الوشاح» وغير ذلك. (كشف الظنون 6/ 32، إنباه الرواة 3/ 92، تاريخ بغداد 2/ 195، بغية الوعاة ص 30).
(2) البيت ليزيد بن الحكم الثقفي في لسان العرب (عود).(5/172)
قال: المسيح. فقال له حميد بن عبد الرحمن: أعد نظرا، إنما السّريّ: الجدول.
فتمعّر له، وقال: يا حميد، غلبتنا عليك الإماء.
قال إبراهيم بن حمزة: سمعت عن أبي دأب ينشد لأبي ذؤيب الهذلي (1):
[الطويل] * ويوم بذات الدير *
فقلت له: وما لهذيل والديارات؟ إنّما هو بذات الدبر. وهي أكمة في بلادهم. فقال: لا أدري، كذا سمعته.
قال: ثم سمعته من قائل ذلك العام في المسجد الحرام ينشده بذات الدبر.
هذه حروف وكلمات من المصحف الذي يستعمله الناس عمدا لا سهوا
كتب أبو تمام الطائي رقعة إلى محمد بن عبد الملك بن صالح يسأله فيها محالا، وكتب على عنوانها «حبيب».
فأخذه محمد ونقطة «خبيث».
ورفع آخر رقعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، وعليها «حريث بن الفارس» وكان اسم الرجل، فجعله محمد «خريت في الفراش» وكتب تحته: «بئسما فعلت».
ونهض الحسن بن وهب ذات ليلة من مجلس ابن الزّيات بنيه أي بت به وقف رجل على الحسن البصري فقال: أعتمر، أخرج، أبادر. فقال الحسن:
كذبوا عليه ما كان ذلك، يريد السائل: أعثمان أخرج أبا ذرّ؟
ومن تصحيف محمد بن طاهر: متململ. يريد: من ملّ ملّ.
وقال المعتصم يوما لطبّاخ له فارسيّ: حاسبت رشيد. فقال: زن نبيذ أراد
__________
(1) يروى البيت بتمامه:
بأسفل ذات الدبر أفرد خشفها ... وقد طردت يومين فهي خلوج
والبيت لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 136، ولسان العرب (دبر)، (جحش)، وتاج العروس (دبر)، (جحش)، والمعاني الكبير ص 722، وللهذلي في مجمل اللغة 2/ 311.(5/173)
المعتصم: جاء شتيت رسيد، أي أدرك غداؤك وقال الآخر: رسيد، أي أدرك.
وقال المتوكّل يوما ليحيى بن ماسويه: بعت بيتي بقصرين. فقال له يحيى:
أخّر الغذاء. أراد المتوكل: تعشّيت فضرني. فأجابه ابن ماسويه بالعلاج.
ومن هذا الجنس حروف وكلمات من المصحف عمدا لا سهوا
الخنصر: الحب ضر. متى ألج ببيت هند؟: ميّت الحب شهيد. نرجس طري: برّج بي نظري، بمطرف تستري: نمّ طرفي بسرّي. طست حسن: طبيبي:
حبيبي. القبعثرى (1) وحلبس (2): ألفت غيري وخلّيتني فنعت بتكفيلي: في عينيك قتلي. وحموه حدّثك بشأني: خمر خدّيك سباني خشخاش: خبيب خانني.
مشمشة ثقيلة: من ينم ينبّه بقبلة صينيّة حسنة: صبّ نبّه حبيبه. محبرة آبنوس:
محب زها يبوس.
كلني بيمينك فبعني بحبّتين: كلّ شيء منك عيني حسن. لبب سرج مضري:
ليس ترحم ضرّي. مسعود: متى تعود؟ الثّوب يمانيّ بثوب: التوت ثم استوت سعيد بن جبير: نبت عند نرجس. فرّوج مسمّن بحبّه: تودّ جمش (3) من تحبه.
تحت الفيل مروحة خيش: تحبّ القبل من وجه حسن. حبش بن حنين: حبيبي بتّ بخير. سكباج: ثنيك باخ. كشكيّة: كنت نكتة. قلنسوة خضرا: قلبي يتوهج ضرّا. لمازح مقال يغم: لمّا رحم قال: نعم.
سوقيّ جرّ بعيري: فتش تجرّب غيري. ضرب عيني بنواتين: صريع بين نسرين. وآس مسلم بن قيس: متى يلمّ بي بنو أميّة. آليت بربّي قد خضعت راهبا:
الشرب بقدح صغير أهنأ. أسرتني بيدي: اشرب سيّدي.
ومن المقلوب: ظلمتنا: أنت ملط. كرهتنا: أنت هرك. دعوتنا: أنت وغد.
أرحتنا: أنت خرا. جفوتنا: أنت وقح.
__________
(1) القبعثري: الجمل العظيم، والفصيل المهزول، ودابة تكون في البحر، والعظيم الشديد.
(2) الحلبس: الشجاع، والأسد، والملازم للشيء.
(3) الجمش: المغازلة.(5/174)
ووقع بعض الوزراء: غرّك: عرك فصار: قصار. ذلك. دلّك. فاخش:
فاحش. فعلك: فعلّك. بهذا: تهدّأ.
وقّع محمد بن عبد الملك بن طاهر إلى ابنه: يا بني يا بني: مصيبة: مضنية.
أمرضي: أمر صبي. مجذور: محذور. عليه: علّته. بقرع: يفرع قلبي: لبّي.
وآله: وإله. أحمر: أحمد. وقد: وفد. وصيف: وصنّف، رجاله: رجّالة.
يحتلّ: بخيل.
وقّع بعضهم على رقعة رجل: هذا: هذّا.
كان محمد بن نفيس غيورا، فأخبر أنّ جارية له كتبت على خاتمها: من ثبت نبت حبّه. فدعاها فوقفها على ذلك، فقالت: لا والله أصحلك الله، ما هو ما قيل لك، ولكني كتبت على خاتمي: من يتب يثب جنة.
ومن الغلط قول نحيت وكان الحجاج وجّه إلى مطهر بن عمّار بن ياسر عبد الرحمن بن سليم الكلبي. فلما كان بحلوان أتبعه مددا، وقدم إليه بذلك كتابا مع (نحيت الغلط) وكان يقال له ذلك لكثرة غلطه، فمرّ بالمدد، وهم يعرضون بخانقين. فلما قدم على عبد الرحمن قال: أين تركت مددنا؟ قال: تركتهم يخنقون بعارضين. قال: أو يعرضون بخانقين. قال: نعم، اللهم لا تخانق في باركين.
ولما ذهب ليجلس ضرط، وأراد عبد الرحمن أن يقول له: ألا تفدّى؟ فقال:
ألا تضرط؟ قال: قد فعلت، أصلحك الله قال: ما هذا أردت. قال: صدقت، ولكنّ الأمير غلط، كما غلطنا.
قال بعضهم: سمعت بعض الكتاب الأكابر يقول: أنا أستاك بالعراق: يريد بالأراك.
وقال آخر: سمعت بعضهم يقول: جعدة الطريق، فأنكر صاحبه، وقال:
الجعدة هو ما يوضع فيه السّهام.
وقرأ الخطيب في المسجد الجامع: {وَالسَّمََاءِ وَالطََّارِقِ} (1) [الطارق: 1]. فقال:
يخرج من بين التّرب والصّلائب.
وقال الوليد بن عبد الملك لسليمان بن خالد بن الزّبير يوما وعروة جالس عنده ما سنّك؟ فقال: قتلت أيام ولد مصعب.(5/175)
الباب الثالث عشر نوادر من النحو واللحن
سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا قرأ، فلحن، فقال: أرشدوا أخاكم.
قال الأصمعيّ: قلت لأبي مهديّة كيف تقول: لا طيب إلّا المسك قال: فأين أنت عن العنبر؟ قلت: فقل لا طيب إلا المسك والعنبر. فقال: أين أنت عن البان؟
قلت: قل لا طيب إلا المسك والعنبر والبان. قال: فأين أنت عن أدهان محمر (1)؟
قال قلت: فقل لا طيب إلا المسك والعنبر والبان وأدهان محمر. قال: فأين أنت عن فارة (2) الإبل صادرة؟
عمل بعض النّحويين كتابا في التّصغير، وأهداه إلى رئيس كان يختلف إليه فنقص عطّيته، فصنّف كتابا في العطف، وأهداه إليه، وكتب معه: رأيت باب التصغير قد صغّرني عند الوزير، وأرجو أن يعطفه عليّ باب العطف.
سمعت الصاحب رحمه الله يقول: كان سبب اتصال ابن قريعة القاضي بالوزير أبي محمد المهلّبي أن ابن قريعة كان قيّم رحى له، فرفع إليه حسابا، فيه درهمان ودانقان، وحبّتان، فدعاه، وأنكر عليه الإعراب في الحساب.
فقال: أيّها الوزير، صار لي طبعا، فلست أستطيع له دفعا. فقال: أنا أزيله عنك صفعا. ثم استدناه بعد ذلك، وقرّبه.
قال نحويّ لرجل: هل ينصرف إسماعيل؟ قال: نعم، إذا صلّى العشاء فما قعوده؟
__________
(1) أدهان محمر: نوع من العشب طيب الرائحة.
(2) الفأرة: المسك.(5/176)
وحكي أنّ جماعة عند محمد بن بحر اختلفوا في بناء سراويل، فدخل البرقيّ.
وقال: فيما كنتم؟ قالوا: في بناء سراويل. فما عندك فيه؟ قال: مثل ذراع البكر أو أشدّ.
قال النوشجان: حضرت مجلس المبرّد، فسمعنا واحدا يقول: في حرام أصبهان.
فقال أبو العباس: هذا قد شتمك على مذهب قول الله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
سمع ذو الرّمة رجلا يقول: على فلان لعنة الله. فقال: لم يرض بواحدة حتى شفعها بأخرى. وذلك أنه لما سمعه مفتوحا قدّر أنّه أراد التّثنية: لعنتا الله.
قيل لرجل كان يكثر اللّحن في كلامه: لو كنت إذا شككت في إعراب حرف تخلصت منه إلى غيره، من غير أن تزيل المعنى عن جهته كان الكلام واسعا عليك، فلقي رجلا كان مشهورا بالأدب، فأراد أن يسأله عن أخيه، وخشي أن يلحن في مخاطبته، فذهب إلى أن يتخلّص عند نفسه إلى الصّواب. فقال: أخوك، أخيك، أخاك ها هنا؟ فقال له الرجل: لا، لو، لي، ما هو حاضر.
وقف نحويّ على صاحب باذنجان، فقال له: كيف تبيع؟ قال: عشرين بدانق. قال: ما عليك أن تقول: عشرون بدانق!! فقدّر أنّه يستزيده. فقال: ثلاثين بدانق. فقال: وما عليك أن تقول: ثلاثون؟ فما زالا على ذلك إلى أن بلغ تسعين.
فقال: وما عليك أن تقول بتسعون؟ فقال: أراك تدور على المائتون، وهذا ما لا يكون.
ومر نحويّ بقصّاب وهو يسلخ شاة فقال كيف المستطرق إلى درب الرّأسين؟ فقال القصّاب: اصبر قليلا حتّى يخرج الكرش، وأدلّك على الطّريق.
وقدّم نحويّ خصما له إلى القاضي، وقال له: لي عليك مائتان وخمسون درهما.(5/177)
فقال لخصمه: ما تقول؟ فقال: أصلح الله القاضي، الطّلاق لازم له إن كان إلا ثلاثمائة. وإنّما ترك منها خمسين ليعلم القاضي أنه نحويّ.
وقدّم آخر خصما له إلى القاضي، وقال: لي عليه ديناران، صحيحان، جيّدان. قال القاضي: ما تقول؟ قال: أعزّ الله القاضي، هذا بغيض. قال: بلى.
قال: فاصفعه؟
قال: إذن «تزن». قال: لا أبالي. قال القاضي: وأنا شريكك. زن أنت (دينار) وأزن أنا (دينار) وأصفعه.
دقّ رجل باب بعض النحويين، فقال صاحب الدار: من ذا؟ قال: أنا الذي أبو عمرو الجصّاص عقد طاق باب هذه الدار. قال النّحويّ: ما أرى لك في صلة الذي شيئا. فانصرف راشدا.
قيل: النحو ملح العلم، ومتى استكثر من الملح في الطّعام فسد.
سمع المازني قرقرة من بطن رجل، فقال: هذه ضرطة مضمرة.
قيل لأبي سعيد السّيرافي: ما علامة النّصب في عمرو. فقال: بغض علي بن أبي طالب. وأنشد ذو الرمة (1): [الطويل] وعينان قال الله كونا فكانتا ... «فعولان» بالألباب ما تفعل الخمر
فقال له عيسى بن عمر: فعولين. فقال ذو الرمة: لو سلحت كان خيرا لك.
أترى الله أمرهما أن يسحرا.
مرّ أبو علقمة بأغلال قد كتب عليها ربّ سلّم لأبي فلان. فقال لأصحابه: لا إله إلا الله يلحنون ويربحون.
قال رجل للحسن البصري: يا بو سعيد: أنا أفسي في ثوبي، وأصلّي يجوز؟
قال: نعم. لا أكثر الله في المسلمين مثلك.
وجاء إليه رجل فقال: ما تقول في رجل مات، وترك أبيه وأخيه؟ فقال له
__________
(1) البيت في ديوان ذي الرمة ص 213.(5/178)
الحسن: ترك أباه، وأخاه، فقال: فما لأباه وأخاه، فقال الحسن فما لأبيه وأخيه؟
فقال الرجل: إني أراك كلّما طاوعتك تخالفني.
قال سعيد بن سلم: دخلت على الرشيد فجهدني، وملأ قلبي، فلحن، فخفّ على أمره.
قال الزّهري: أحدث الناس مروءة أحبّ إليّ من طلب النحو.
سمع أبو عمرو أبا حنيفة يتكلّم في الفقه، ويلحن، فاستحسن كلامه، واستقبح لحنه.
فقال: إنه لخطاب لو ساعده صواب. ثم قال لأبي حنيفة: إنك أحوج إلى إصلاح لسانك من جميع الناس.
قال أبو سعيد السّيرافي: سمعت نفطويه يقول: لحن الكبراء النّصب، ولحن الأوساط الرّفع، ولحن السّفلة الكسر.
دخل خالد بن صفوان الحمام. وفيه رجل مع ابنه فأراد أن يعرّف خالدا بلاغته. فقال لابنه: يا بنيّ ابدأ «بيداك» وثنّ «برجلاك». ثم التفت إلى خالد، فقال: يا أبا صفوان هذا كلام قد ذهب أهله. فقال خالد: هذا كلام ما خلق الله له أهلا.
قال أبو هفّان: رأيت بعض الحمقى يقول لآخر: قد تعلمت النحو كلّه إلّا ثلاث مسائل. قال: وما هي؟ قال: أبو فلان، وأبا فلان، وأبي فلان. قال: هذا سهل. أما أبو فلان فاللملوك، والأمراء والسّلاطين، والقضاة، وأمّا أبا فلان فللبناة والتّجار، والكتّاب. وأمّا أبي فلان فللسّفل والأوغاد.
قال السّيرافي: رأيت رجلا من المتكلّمين ببغداد بلغ به نقصه في معرفة العربية أنه قال في مجلس مشهور، بين جماعة حضور: إن العبد مضطرّ، وإنّ الله مضطرّ. بكسر الطاء. ورعم أنّ القائل: الله مضطرّ كافر.
قال رجل للحسن البصري: إن هذا الرّجل قد زوّج أمّه من رجل نبطيّ فقال له الرجل: يا بو سعيد. هذا محروم. يريد (محرّم). فقال الحسن: كذا أشتهي أن تكون لغة من زوّج أمّه.(5/179)
قيل لأعرابي: هذا قصر. «بما» ارتفع. فقال: بالجصّ والآجرّ.
مدح شاعر طلحة صاحب البريد بأصبهان، فلم يثبه. فقال: لو كنت من مدحي بلا صفد لاكتلت من طلحة كرين من خير. فقال له طلحة: لحنت، لأنّك صرفت طلحة، وطلحة لا ينصرف، فقال له: الذي لا ينصرف طلحة الطلحات، فأما أنت فتبلغ الصّين بنفخة.
قيل لأعرابي: كيف تقول: ضرب عبد الله زيد؟ فقال: كما قلت. قيل: لم؟
قال: لشرّ أحسبه وقع بينهما.
قدم رجل على بعض الولاة، فقال له: من أين أقبلت؟ قال: من أرض الله.
قال: وأين تريد؟ قال: بيت الله. قال: وممّن أنت لا أمّ لك؟ قال: من «تيم» الله. فأمر بوجىء عنقه. فقال: بسم الله. فقال: اتركوا ابن الخبيثة. فلو ترك الرفع وقتا تركه السّاعة.
قال أبو العيناء: دخل رجل إلى عليل: فقال له: لا إله إلّا الله، وإن شئت لا إله إلّا الله، والأولى أحبّ إلى سيبويه (1). فقال أبو العليل: حرمني الله أجره إن لم يكن مشهدك له أشدّ عليّ من موته.
قال رجل لآخر: تأمر «بشيئا»؟ قال: بتقوى الله، وإسقاط الألف.
قال خلف قلت لأعرابيّ: ألقي عليك بيتا؟ قال: على نفسك فألقه.
قال رجل من البلديّين لأعرابي وأراد مسألته عن أهله كيف «أهلك؟ قال بكسر اللام. فقال الأعرابي: صلبا. لأنه أجابه على فهمه، ولم يعلم أنه أراد المسألة عن أهله.
قال الجاحظ: قال بشر المريّسي لجلسائه: قضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجوه، «وأهنؤها». فقال له قاسم التّمّار: هذا على قوله (2): [المنسرح] إنّ سليمى والله يكلؤها ... ضنّت بشيء ما كان يرزؤها
__________
(1) سيبويه: هو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، الملقب بسيبويه، مولى بني الحارث بن كعب، سكن البصرة، وتوفي بمدينة ساوة سنة 177، له «الكتاب» في النحو مشهور. (كشف الظنون 5/ 802).
(2) البيت لإبراهيم بن حرمة في ديوانه ص 55، وشرح شواهد المغني ص 826، ومغني اللبيب ص 388، 396، وبلا نسبة في لسان العرب (كلأ).(5/180)
فصار احتجاج قاسم أطيب من لحن بشر.
وقال: قدّم رجل من النّحويّين رجلا إلى السّلطان في دين له عليه، فقال:
أصلح الله الأمير، لي عليه درهمان. فقال خصمه له: والله أصلحك الله ثلاثة دراهم ولكنه لظهور الإعراب ترك من حقّه درهما.
وكان سابق الأعمى يقرأ: {الْخََالِقُ الْبََارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24]. فكان ابن جابان إذا لقيه قال: يا فاسق ما فعل الحرف الذي تشرك بالله فيه؟
قال: وقرأ مرة: {وَلََا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتََّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] بفتح تاء تنكحوا، فقال ابن جابان: وإن آمنوا لم ننكحهم.
سمع أعرابي رجلا يقول: أشهد أنّ محمّدا رسول الله بالفتح فقال: يفعل ماذا؟
قيل لأعرابيّ: كيف تقول استخذيت أو استخزيت؟ فقال: لا أقولهما. قيل:
ولم؟
قال: العرب لا تستخذي.
سكر هارون بن محمد بن عبد الملك ليلة بين يدي الموفّق، فقام لينصرف، فغلبه السّكر، فقام في المضرب. فلما انصرف الناس جاء راشد الحاجب، فأنبهه وقال: يا هارون انصرف.
فقال بسكره: هارون لا ينصرف. فسمع الموفّق فقال: هارون لا ينصرف فتركه راشد فلما أصبح الموفق وقف على أن هارون بات في مضربه. فقال: يا راشد أيبيت في مضربي رجل لا أعلم به؟ فقال: أنت أمرتني بهذا، قلت: هارون لا ينصرف. فقال: إنّا لله وضحك أردت الإعراب وظننت أنت غيره.
يقال: إنّ يزيد بن المهلّب كان فصيحا لم يؤخذ عليه زلّة في لفظ إلّا واحدة، فإنّه قال على المنبر وذكر عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب.
فقال: وهذه الضّبعة العرجاء. فاعتدّت عليه لحنا، لأنّ الأنثى إنّما يقال لها الضّبع، ويقال للذكر الضّبعان.
قيل: كان خالد بن صفوان يدخل على بلال بن أبي بردة يحدّثه، فيلحن.
فلما كثر ذلك على بلال قال له: أتحدّثني أحاديث الخلفاء، وتلحن لحن السّتات.
وكان خالد بعد ذلك يأتي المسجد ويتعلّم الإعراب.(5/181)
فلما كثر ذلك على بلال قال له: أتحدّثني أحاديث الخلفاء، وتلحن لحن السّتات.
وكان خالد بعد ذلك يأتي المسجد ويتعلّم الإعراب.
كان الشّيرجي إماما من أئمة الحنبلية، اجتاز بمسجد فيه معزى فخرج عليه من نحويّ بغيض. فقال له الشّيرجيّ: من المتوفّى؟ فقال النّحوي: الله نبيّه. وقال زنديق: والله رفعه إلى صاحب الحشر.
قرأ الوليد بن عبد الملك يوما على المنبر: {يََا لَيْتَهََا كََانَتِ الْقََاضِيَةَ} (27) [الحاقة:
27] فقال عمر بن عبد العزيز: عليك.
سئل نحويّ عن تصغير عبيد الله. فقال: ليس في سجدتي السّهو سهو.
وذكر أنّ معاوية قال: كيف أبو زياد؟ فقالوا: ظريف على أنه يلحن.
فقال: أو ليس ذاك أظرف له؟ أرادوا اللّحن الذي هو الخطأ. وذهب معاوية إلى اللّحن الذي هو الفطنة.
قالوا: كان سبب عمل أبي الأسود الدؤلي (1) النّحو هو أوّل من وضعه وقيل إنّ أمير المؤمنين عليّا عليه السلام جعل له مثالا فبنى عليه واحتذاه أن أبا الأسود سمع رجلا يقرأ: {أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] بالخفض. وسمع ابنته تقول: ما أطيب الرّطب؟ وهي تريد التّعجب، وظنّ أنها تريد الاستفهام، فعمل شيئا من النّحو، وعرضه على أمير المؤمنين عليه السلام. فقال: ما أحسن هذا النحو الذي أخذت فيه فسمّي نحوا.
مرّ الشعبي بناس من الموالي يتذاكرون النّحو، فقال: لئن أصلحتموه إنّكم لأوّل من أفسده.
وروي أن الحجاج قرأ: إنا من «المجرمون» منتقمون (2).
وكان محمّد بن سليمان يقول في خطبته: «إن الله وملائكته» (3) برفع
__________
(1) أبو الأسود الدؤلي: هو ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي الكناني، واضع علم النحو، سكن البصرة في خلافة عمر، وولي إمارتها في خلافة علي، وهو في أكثر الأقوال أوّل من نقط المصحف، وله شعر جيد، توفي سنة 69هـ. (الأعلام 3/ 226).
(2) في القرآن الكريم: {إِنََّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22].
(3) في القرآن الكريم: {إِنَّ اللََّهَ وَمَلََائِكَتَهُ} [الأحزاب: 56]، بفتح التاء.(5/182)
الملائكة. فقيل له في ذلك. قال: فخرّجوا لها وجها، ولم يدع الرّفع.
قال بعضهم: قلت لواحد من أين جئت؟ قال: من عند أهلونا. قال: فقلت له: قل: أهلينا. قال: سبحان الله نعدل عن قول الله تعالى: {شَغَلَتْنََا أَمْوََالُنََا وَأَهْلُونََا} [الفتح: 11].
قدم العريان بن الهيثم على عبد الملك، فقيل له: تحفّط من مسلمة فإنه يقول: لأن يلقمني رجل حجرا أحبّ إليّ من أن يسمعني لحنا، فأتاه العريان ذات يوم، فسلّم عليه. فقال له مسلمة: كم عطاءك؟ فقال العريان ألفين. فقال: كم عطاؤك؟
قال: ألفان. فقال: ما الذي دعاك إلى اللّحن الأوّل؟ فقال: لحن الأمير، فكرهت أن أعرب، وأعرب فأعربت. فاستحسن قوله، وزاد عطاءه.
قال رجل لآخر: ما فعل فلان بحماره؟ قال: أنا بسرت بالباء. قال: وأنا أيضا بسرت بالباء.
وقال أعرابي: كنت أظن أبا المهاجر رجلا صالحا، فإذا هو يلحن.
قال يونس: كنا ننظر إلى الشابّ في المسجد الجامع بالبصرة يخطر بين السّواري. فنقول: إما أن يكون قرشيا أو نحويا.
قيل لبعض النحويين: ما تقول فيمن سها في سجدتي السّهو؟ فقال: ليس للتصغير تصغير.(5/183)
الباب الرابع عشر نوادر المخنثين
قال بعضهم: شهدت مجلسا فيه قينة تغنّي، فذهبت تتكلّف صيحة شديدة فانقطعت. فصاحت من الخجل: اللصوص اللصوص. فقال لها مخنّث كان في المجلس: والله يا زانية ما سرق من البيت شيء غير حلقك.
استوهب رجل من مخنّث في الحمّام خطميّا (1)، فمنعه. فقال: سبحان الله!! تمنعني الخطميّ وقفيز منه بدرهم؟ فقال المخنّث: فأحسب حسابك أنت على أربعة أقفزة بدرهم، كم يصيبك بلا شيء؟
قال جحظة (2): فاخرني بعض المخنّثين فقال: يا أبا الحسن، وفي الدنيا مثل المخنثين؟
قلت: كيف؟ قال: إن حدّثوا ضحكتم، وإن غنّوا أطربتم، وإن ناموا نكتم.
قال المتوكل لعبادة: ما تقول في تطبيل سلمان المخنّث؟ قال: هو حسن، ولكنّه مثل الهيضة (3) يأتي بأكثر مما يحتاج إليه.
سمع مخنّث أنّ صوم عرفة كفّارة سنة، فصام إلى الظهر، ثم أفطر، وقال:
يكّفيني ستّة أشهر.
__________
(1) الخطمي: نبات يغسل به.
(2) جحظة البرمكي: هو أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك، المعروف بجحظة البرمكي، الأديب البغدادي، ولد سنة 224هـ، وتوفي سنة 324هـ، من تصانيفه: «ديوان شعره»، «فضائل السكباج»، «كتاب الطبيخ»، «كتاب الطنبوريين»، «كتاب ما شاهده مما جربه المنجمون فصح من الأحكام»، «كتاب ما جمعه من أمر المعتمد»، «كتاب المشاهدات»، «كتاب النديم».
(كشف الظنون 5/ 6059).
(3) الهيضة: معاودة الهم والحزن، والمرضة بعد المرضة، والقياء.(5/184)
قيل لآخر: تناك في الاست؟ فقال: أو لي موضع آخر؟
وقيل لآخر: أما تستحي من أن تناك؟ فقال: ذوقوا، ثم لوموا.
ودخل مخنّث الحمّام، فنظر إلى رجل طويل الخصيتين، قصير الأير، فقال: سخنت عينك. الغلالة أطول من القميص.
وسمع آخر قوما يقولون: إنّ من كثرة الحجامة يعرض الارتعاش. وأخذ شعره يوما وارتعش، فقال: يا رب أخذت شعري. لم أحتجم.
مرّ عيسى بن موسى بعد أن خلعه المنصور وكان وليّ عهد بعده وقدّم المهديّ عليه بمخنّث.
فقال: إنسان من هذا؟ قال المخنّث: هذا الذي كان غدا فصار بعد غد.
قيل لعبادة: من يضرب على ابن أبي العلاء؟ قال: ضرسه.
مرت امرأة بمخنّث حسن الوجه ومعها ابنة لها فقالت: ليت لابنتي حسن وجهك.
قال: وطلاقي. قالت: تعست. قال: فتأخذين ما صفا وتتركين ما كدر؟
وصف مخنّث امرأة فقال: كأن ركبها دارة القمر، وكأنّ شفريها أير حمار فلوى.
سمع آخر رجلا يقول: دعا أبي أربعة أنفس، وأنفق عليهم أربعمائة دينار، فقال: يا بن البغيضة لعلّه ذبح لهم مغنّيتين، وزامرة، وإلّا فأربعمائة في «أيش» أنفقها؟
قال شيخ لقرقر المخنّث: أبو من أنت؟ قال: أم أحمد. فديتك!
سمع شاهك المخنّث رجلا يصف الكرفس، وأنّه جيد لفتح السّدد. فقال:
لا كان الله لك. أنا إلى سدّ الفتح أحوج.
تاب مخنّث، فلقيه مخنّث آخر، فقال: يا أبا فلان: أيش حالك؟ قال: قد تبت.(5/185)
قال: فمن أين معاشك؟ قال: بقيت لي فضيلة من الكسب القديم فأنا أتمزّر لها.
قال: إذا كانت نفقتك من ذلك الكسب فلحم الخنزير طريّ خير من قديد.
رأى عبادة دابة مخارق وهي تقرمط مشيها فقال: يا مخارق برذونك هذا يمشي على استحياء.
عرض على عبادة خادم فقال: أنا لا أركب سفينة بغير دقل (1).
قدّم إلى عبادة رغيف يابس، فقال: هذا نسج في أيام بني أمية ولكن بلا طراز.
ضرب طويس في الشّراب فقيل له: كيف كان جلدك على وقع السّياط؟
قال: بلغني أنّي كنت صبورا.
كان للمتوكل مضحكان مخنّثان يقال لأحدهما شعرة وللآخر بعرة. فقال أحدهما لصاحبه: ما فعل فلان في حاجتك؟ قال: ما فتّني ولا قطعك.
ذكرت العراق لمخنّث من أهل الشّام، فقال: لعن الله العراق لا يشرب ماؤها أو يصلب، ولا يشرب نبيذها أو يضرب.
قال الجمّاز: مات مخنّث يقال له نويفل فرآه إنسان في النّوم كأنه يقول له:
أيش خبرك يا نويفل؟ فقال: لا تسأل. فيقول له: إلى أين صرت يا نويفل؟ قال:
إلى النار. قال: ويلك! فمن ينيكك في النّار؟ قال: ثمّ يزيد بن معاوية ليس يقصّر في أمري.
نظر مخنّث إلى رجل دميم الوجه فقال: وجهك هذا نموذج جهنم. اخرج إلى الدنيا.
قال عبادة لمكار: نكني «يخت» أي يخت قال: وكيف ذاك؟ قال: تدخله يابسا فإما أن يندقّ أيرك. وإما أن ينشقّ استي.
__________
(1) دقل السفينة: خشبة طويلة تشد في وسط السفينة يمدّ عليها الشّراع.(5/186)
كان لمخنّث جارية نفيسة، فقالت له يوما: ويلك! من أبلاني بك؟ فقال:
من أبلاك بحرك، سوّد وجهه وشقّ وسطه، وقطع لسانه، وجعل إلى جانبه صرّة له.
قال ابن قريعة كان لبعض المخنّثين أير عظيم. فكان يقول: أشتهي من ينيكني بأيري.
وقيل لمخنّث: لا تتنوّر (1)؟ قال: إذا كثر الدغل (2) أخذ الناس طريق الجادة.
قال آخر: الاست مسنّ الأير، والقبلة بريد النيك.
نظر مخنّث إلى مسجد صغير لطيف، فقال لآخر: أما تريد هذا المسجد. ما أملحه، لا يصلح والله إلّا أن يحمل في السّفر.
نظر مخنّث إلى رجل من ولده أبي موسى الأشعري يمشي وهو يتبختر، فقال: انظروا إلى مشية من خدع أباه عمرو بن العاص.
أصاب رجلا الحصر. فقيل له: احتقن. قال: لو كان قدر حمّصة ما قدرت عليه، فقال له مخنّث كان حاضرا، لأنّك ضيعت نفسك في صغرك.
تقرّى مخنّث فأتى جبل لكام على أن يتعبّد فيه، فأخذ زاده وصعد، وسار على سهل، فنفد زاده وجلس وقد أعيا فرفع رأسه فإذا بينه وبين الجبل مسافة، وتطلّع إلى أسفل، فإذا هو قد قطع أكثره، فنظر إلى الجبل وقال: وا شماتتي بك في يوم أراك كالعهن المنفوش.
جلس قوم في مجلس ومعهم مخنّث وقال رجل منهم: أنا أشتهي كشكية حامضة وضرط. فقال المخنّث: قطع الله ظهر الكشكيّة، ما أسرع ما تنفخ البطن!
قال عبادة يوما للمتوكّل: قد عمل بي البارحة كذا وكذا دفعة. فقال له
__________
(1) النورة: الهناء، وحجر الكلس، وأخلاط من أملاح تستعمل لإزالة الشعر، وتنوّر: تطلّى بها لإزالة الشعر.
(2) الدّغل: الشجر الكثير الملتف.(5/187)
المتوكّل: ويحك! أما أعييت؟ قال: إنّما يعيا البريد لا الطّريق.
ضرب مخنّث بالسّياط فسلح. فقيل له في ذلك. فقال: ويلكم! فما ذي أدّخره إذا؟
قال: إذا أراد المخنّث أن يعيب صاحبه قال: لا والله بلى ما أنت بمخنّث ولا أنت إلّا رجل جيّد.
كان عبادة يسمّي السّراويل مقطرة الاست.
نظر مخنّث إلى رجل يغسل استه، ويستقصي جدّا (1). قال: عفاك الله! تريد: «يشرب» بها سويق؟
كان بالمدينة مخنّث يكنى أبا الخزّ، وكان مليحا، فدخل عليه لصّ ليلة، فجمع ما وجد في بيته، وأبو الخزّ ينظر إليه، لا يجترئ على أن يكلّمه، فلمّا أراد اللّص الخروج قال له: فديتك. ما اسمك؟ قال: نافع. قال: نافع والله لغيري.
تلبّس مخنّث، واحتار، فقال له رجل: إلى أين يا خرا؟ قال: إلى شاربك.
قال المتوكل يوما لجلسائه: أتعلمون ما أوّل ما عتب المسلمون على عثمان؟
فقال أحدهم: نعم يا أمير المؤمنين، إنّه لمّا قبض النبيّ عليه السلام قام أبو بكر على المنبر دون مقام النبي عليه السلام بمرقاة (2)، ثم قام عمر دون مقام أبي بكر بمرقاة.
فلما ولي عثمان صعد ذروة المنبر، فأنكر المسلمون ذلك عليه، وكانوا أرادوا منه أن ينزل عن مقام عمر بمرقاة. فقال عبادة: يا أمير المؤمنين ما أحد أعظم منة عليك، ولا أسبغ معروفا من عثمان. قال: وكيف ويلك! قال: لأنّه صعد ذروة المنبر، فلو أنه كلما قام خليفة نزل عن مقام من تقدّمه مرقاة كنت أنت تخطب علينا من بين جلوتي.
دخل مخنّث ذات يوم نهرا ليغتسل، فجاء قوم من آل أبي معيط، وجعلوا يرمونه، وعرفهم، فقال: لا ترموني فلست بنبيّ.
__________
(1) يستقصي جدا: أي يبالغ في النظافة.
(2) المرقاة: الدرجة.(5/188)
نظر عبادة إلى زنام الزامر يبكي على بنت له ماتت، فقال: قطع ظهرك! كأنك والله مطبخ يكف.
وقال عبادة: كلّ شيء للرجل له معنى إلا اللّحى، والخصى.
وقال بعض المخنّثين: إذا كان المغنّي باردا فصاحب البيت عليل القفا
أخذ مخنث في شيء، وأحضر عند الوالي، فأمر بضربه، فصاح: يا سيّدي.
كذبوا والله عليّ كما كذبوا على المرّي. قال: وكيف كذبوا على المرّي؟ قال: هو من البرّ؟ يقولون هو من الكامخ فضحك الوالي، وخلّاه.
وقيل لمخنّث كان يتّجر: لم لا تركب البحر فإنّ فيه الغنى والتّموّل؟ قال: يا غافل. أنا أعصيه منذ أربعين سنة أذهب فأضع يدي في يده.
اجتاز مخنّث بنائحة جالسة على باب دار، فقال لها: ما جلوسك ها هنا؟
قالت: خير. قال: لو كان خيرا كنت أنا ها هنا لا أنت.
نظر مخنّث إلى رجل مقيّد قد أخرج للعرض، وهو ينظر إلى غلام أمرد فقال: العصفور في الفخّ وقلبه في سوق العلف.
قال سمسنة المخنّث لرجل كان يكتب كتابا إلى معرفة لسمسنة: اقرئه سلامي في كتابك. قال: قد فعلت. قال: فأرني اسمي الذي يشبه الدابّة التي تدخل الآذان.
ووصف مخنث الحرّ، فقال: كأنه أنوشروان في صدر الإيوان، مكوّر كأنّه سنام ناقة صالح، موطّأ كأنّه ألية كبش إبراهيم، غليظ الشّفتين، كأنه شفة بقرة بني إسرائيل.
لقي مخنّث آخر ليودّعه، فقال: أحمد الله على بعد سفرك، وانقطاع أثرك، وشدّة ضررك. فقال له: أنا أستودعك العمى. والضّنى، وانقطاع الرّزق من السّما.
وقال مخنّث لآخر: أراني الله في وجهك السّاطور، وفي عينيك الكافور، وفي شقّ استك الناسور.(5/189)
وقال آخر: ضحك الحرّ يوم الختان ضحك النّعجة بين الذّئاب، ضحك الدّب بين الكلاب، ضحك الرأس عند الرآسي، ضحك البغّاية إذا عزلتها الداية.
ومرّ آخر بقاض وهو يقول: إنّ إسرافيل ملتقم الصّور، ينظر متى يؤمر بالنّفخ.
فقال: إنّا لله، إن عطس افتضحنا.
قال علّان شدق وكان قبيحا جدّا: مررت بمخنّث يعزل على حائط، فقال لي: من أين أتيت؟ قلت: من البصرة. فقال: لا إله إلّا الله! تغيّر كلّ شيء حتّى هذا! كانت القرود تجلب من اليمن. الآن تجيء من العراق.
وحجّ مخنّث فرأى إنسانا قبيحا يرمي بالجمار، فقال له المخنّث: بأبي أنت.
لست أشير عليك أن تعود إلى هذا المكان. قال: ولم؟ ألست مسلما؟ قال: بلى، ولكن لا أرى لك أن تبخل على أهل النار بهذا الوجه.
نظر مخنّث إلى رجل قصير على حمار صغير، فقال: هما توأمان.
وقال بعض المخنّثين: كان لي أستاذ مخنّث يقال له زائدة، فمات، فرأيته في النّوم فقلت له: ما فعل الله ربّك بك؟ قال: أدخلني النار. قلت: فمن تورك (1)
فيها؟
قال: هيهات! انقلبت المسألة أنا «تور» فرعون.
غمز عبادة رجلا في درب، ووقف له على باب دار، وجعل الرجل يدفع فيه، فأشرفت عليه امرأة، وصاحت: اللّصوص. فرفع عبادة رأسه إليها، وقال لها: يا بظراء. النقب في حائطي أو حائطك!
قيل لمخنّث: ما أقبح استك! قال: تراها لا تصلح للخرا!
ضرب عامل المدينة مخنّثا عشر درر، فضرط إحدى عشرة، فقال له:
ويلك! ضربتك عشرا، وتضرط إحدى عشرة؟ قال له: ويلك أصلحك الله، البدء كان منّي، فضحك، وخلّاه.
__________
(1) التور: الرسول بين القوم، وبهاء: التورة: الجارية ترسل بين العشاق.(5/190)
قال بعضهم لمخنّث: لقد قمت إليك لأدخلنّك من حيث خرجت، فنظر إلى نفسه، وكان عظيم الجثّة، ثم قال: يا أخي. إن فعلت ذاك إنّك لرفيق.
قيل لمخنّث: من ترى يرغب فيك مع قبحك؟ فقال: الحمار إذا جاع أكل المكنسة.
نظر رجل إلى أير ابنه في الحمّام وهو كبير فضربه، وقال: ما طال أيرك إلّا من كثرة ما تناك. فقال مخنث كان معه في الحمّام: لا تفعل، فلو كان هذا حقّا لكان أيري ونظر أمّه قد بلغا مكة.
قال مخنث لامرأة: لولا أنّ الحق مرّ لسألتك عن شيء. قالت: ما يغضب من الحقّ إلّا أحمق، فسلني يا بن الفاجرة. فقال لها: لم صار فمك بالعرض وحرك بالطّول؟ قالت: اسكت يا بن الفاجرة. قال: هذا ممّا كنّا فيه.
ناك رجل مخنّثا في بيت فيه تبن، وكان أيره يزلق من است المخنث ويتلوّث بالتّبن، ويردّه الرّجل. فقال المخنّث حبيبي. هو ذا نيكك أو تحشو مسورة؟
قيل لمخنث: كم سنوك؟ قال: خمس وتسعون. قيل: فلم لا تتزوّج؟ قال:
ليس في رجال هذا الزمان خير.
قيل لآخر: ما تحب في الثّياب؟ قال: التكّة. قيل: فمن السّلاح؟ قال:
العمود. قيل: فمن اللّحم؟ قال: العصيب. قيل: فمن البقول؟ قال: القثّاء. قيل:
فمن البوارد؟ قال: الهليون. قيل: فمن الفاكهة؟ قال: الموز. قيل: فمن الحلواء؟
قال: الحلاقيم. قيل: فأيّ منازل مكة أفضل؟ قال: ذات عرق. قيل: فمن خير الصّحابة؟ قال: الزّبير. قيل: فما أحسن شيء في الإنسان؟ قال: الأير.
قال رجل لمخنّث: صح لي بذلك المجتاز، فقال: وما اسمه؟ قال: هلال.
فجعل يناديه: يا رأس الشّهر.
ضرب مخنّث يده إلى أير رجل، وجعل يشغله بالكلام، ثم قال له في كلامه: من بقي من أهل بيتك؟ فقال: هذا الذي في يدك؟
تاب مخنّث، فلمّا كان في بعض الأيّام لقيه مخنّث آخر، فقال له التّائب: أما
آن لك أن تتوب؟ ويل من عاصم. قال: ومن عاصم؟ قال: خازن جهنّم. قال:(5/191)
تاب مخنّث، فلمّا كان في بعض الأيّام لقيه مخنّث آخر، فقال له التّائب: أما
آن لك أن تتوب؟ ويل من عاصم. قال: ومن عاصم؟ قال: خازن جهنّم. قال:
أخيي، لو تخنثت خمسين سنة أخرى كان أصلح لك من أن ترجف بالملائكة. متى عزلوا «ملك» وولّوا عاصم؟
سمع مخنّث طبيبا يذكر الطبائع الأربع، فقال: الطبائع الأربع عندنا: الأكل، والشّرب، وأن تنيك وتناك.
جمع مخنّث بين نفسين، فأخذوا جميعا، وأفرج عنهما، ورفع المخنّث إلى السلطان فسأله عن قصّته، فقال: هؤلاء وجدوا طائرين في قفص، فخلّوا الطائرين وحبسوا القفص.
نظر رجل قبيح الوجه إلى المرآة، فقال: الحمد لله الذي أحسن خلقي فقال مخنث حضره: أمّ من يبهت ربّه زانية.
رأى عبادة دينار بن عبد الله وقد ولي مصر فقال: يا فرعون ارفع رأسك وانظر من ندب لمكانك.
واشتكى مخنّث، ثم تماثل، فقيل له: كيف أنت؟ فقال: جاءتني العلّة باقات وتجيئني العافية طاقات.
سمع مخنّث قول ابنة الخسّ لمّا قيل لها: ما حملك على الزّنى؟ فقالت:
طول السّواد وقرب الوساد. فقال المخنّث: وحبّ السّفاد.
سمع مخنّث رجلا يقرأ قراءة قبيحة، فقال: أظنّ أنّ هذا القرآن هو الذي يزعم ابن أبي دواد أنه مخلوق.
سمع مخنّث رجلا يقول: اللهم اجعل الموت خير غائب أنتظره. فقال: إذا غيابك غياب سوء.
قال المتوكل لعبادة: كم سنّك؟ قال: والله ما أعرف الحساب، ولكن تعرف أنت عفرويه. قال: لا والله ومن عفرويه؟ قال: الذي يقول فيه القائل [الرجز] * ضراط عفرويه بليل طرقا * احسب الآن كيف شئت.(5/192)
وتزوّجت أمّ مخنّث، فلمّا كان ليلة الزفاف جعل يتسمّع عليهما، فلما سمع الحسّ. قال: يا أمّي. هو ذا تأكلين وحدك لا هنّأك الله.
قيل لمخنّث: كيف ترى الدنيا؟ قال: مثلنا. نحن يوما عند الأسخياء، ويوما عند البخلاء.
قالت امرأة لعبادة: اشتريت قفيزا بثلاثة عشر درهما، كم يصيبني بثلاثة دراهم؟ فقال: أنت طولك وعرضك لا تعرفين هذا! يصيبك قفيز إلا بعشرة دراهم.
دخل عبادة الحمام يوما فرأى غلاما كبير الأير، فبادر فقبض عليه، فقال الغلام، ما هذا. عافاك الله؟ قال: أما سمعت قول الشاعر (1): [الوافر] إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقّاها عرابة باليمين
ألزم المتوكل عبادة في يوم من شهر رمضان أن يقرأ في المصحف، فقرأ وجعل يصحّف، ويغلط حتّى بلغ إلى قوله: «وبشّر المخبتين»، فصحّفه وقال:
وبشّر المخنّثين فطرده.
نظر مخنّث إلى إنسان وحش الخلقة، فقال: هذا نموذج جهنّم أخرج إلى الدنيا.
طلب رجل منزلا يكتريه، فجاء إلى باب دار ودفعه، وقال: لكم منزل للكراء؟ وإذا في الدار مخنث وفوقه رجل فصاح من تحته: أليس ترانا بعضنا فوق بعض من ضيق المكان؟ من أين لنا منزل يكرى؟
قال مخنّث لآخر: ذهبت الأيور الباستانية التي كنا نعرفها. فقال ما ذهبت الأيور ولكن اتّسعنا نحن.
رأى إنسان مخنثا ينتف لحيته، فقال له: ويلك، لأيّ شيء تنتف لحيتك؟
فقال: يسرّك أن مثلها في استك؟ قال: لا. قال المخنّث: فشيء تأنف لاستك منه، لا آنف لوجهي منه؟
__________
(1) البيت للشماخ في ديوانه ص 336، ولسان العرب (عرب)، (يمن)، وتهذيب اللغة 8/ 221، 15/ 523، وجمهرة اللغة ص 319، 994، وتاج العروس (عرب)، ومقاييس اللغة 6/ 158.(5/193)
كان المتوكّل على بركة يصيد السّمك وعنده عبادة المخنث فتحرك المتوكّل، فضرط، وقال لعبادة: اكتمها عليّ فإنّك إن ذكرتها ضربت عنقك.
ودخل الفتح فقال: أيش صدتم من الغداة؟ فقال له عبادة ما صدنا شيئا، وما كان معنا أيضا أفلت.
ركب المتوكّل يوما زلالا (1) ومعه جماعة، فعصفت الريح، وفزع الناس، فقال عبادة، يا أمير المؤمنين، أما كنيز دبّة فإنّه لا يخاف الغرق، فقال المتوكّل، وكيف ذاك؟
قال: لأنه يسبح على رقّ، وكان كنيز مخنّثا آدر.
كان بعض ولد الفضل بن الربيع يتخنّث، فوكل به أبوه غلاما يمنعه من نتف لحيته، فبات ليلة، فلما أصبح رآه منتوف اللحية، فقال أهلكتني والله أين لحيتك؟ قال: {فَطََافَ عَلَيْهََا طََائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نََائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (20) [القلم:
2019].
قيل لمخنّث: كيف تتهجّى بكمرة؟ فقال: كاف، ميم، راء، هاء قالوا: هذه كمرة (2). قال: كل إنسان يتهجّى ما يشتهي.
لقي الطائف وكان ماجنا جماعة من المخنثين، فقال: نيكوا بني الزّواني، واضربوا بني القحّاب، فقال مخنث منهم: يا سيّدي سبقت رحمتك غضبك.
أدخل مخنث على العريان بن الهيثم وهو أمير الكوفة فقالوا: إنه يفعل ويصنع. فقال له العريان: يا عدوّ الله، لم تفعل هذا؟ قال: كذبوا عليّ أيها الأمير كما كذبوا عليك. فغضب العريان، واستوى جالسا، وقال: وما قيل فيّ؟
قال: يسمّونك العريان وعليك عشرون قطعة ثياب. فضحك. وخلّاه.
قال مخنث: رمضان بين شوال وشعبان مخشلبة بين درّتين.
__________
(1) الزلال: نوع من السفن.
(2) الكمرة: محركة: رأس الذكر، والبكمرة: البسرة.(5/194)
وقيل لمخنّث: ما الذي أفدت من التّخنيث؟ قال: است مخرّقة، واسم قبيح.
قال هيت المخنّث لعمر ابن أمّ سلمة: إن فتح الله عليكم الطّائف فسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يهب لك بادنة بنت غيلان بن سلمة، فإنها كحلاء، سموع، نجلاء، خمصانة، هيفاء، إن مشت تثنّت، وإن جلست تدنّت، وإن تكلّمت تغنّت، تقبل بأرفع، وتدبر بثمان، فخذيها كالإناء المكفأ.
فروي أنّ كلامه بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمنع المخنّثين من الدخول على النساء.
نظر مخنّث إلى إنسان كبير الأنف، قد أشرف على فمه. فقال: انظروا إليه كأن أنفه أير يتطلّع في بئر الخلا.(5/195)
الباب الخامس عشر نوادر اللاطة
رواد إنسان متقرّ على الفجور، فقال: ما تعطيني؟ فقال: أستغفر لك وأقرأ لك كل يوم آيات أعوّذك بها، فقال الغلام [] (1) اليوم عاجلا. {وَرَدَّ اللََّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} [الأحزاب: 25].
رئي بعض اللّاطة مع غلام أسود، فقيل له في ذلك، قال: الأسود طيب النّكهة ليّن الأفخاذ، ملتهب الجوف، رخيص الجذر، سريع الإجابة لأنك تدعوه لتنيكه، فيظن أنك دعوته لينيكك.
قيل لبعض المتصوّفة: أنت لوطيّ. فقال: ما تقول في لصّ لا يسرق هل يلزمه القطع؟
قال بعضهم: رأيت شيخا يطاف به؟ وينادى عليه: هذا جزاء من يلوط، والشيخ يقول: بخ بخ لواط محض، لا زنى، ولا سرق.
قيل لشيخ لاط: ألا تستحي؟ فقال: أستحي وأشتهي.
قال بعضهم: الغلام استطاعة المعتزلة، لأنه يصلح للضّدين يفعل ويفعل به.
والمرأة استطاعة المجبرة لا تصلح إلّا لعمل واحد.
قيل لأعرابي: ما تقول في نيك الغلمان؟ فقال: اغرب، قبّحك الله، والله إنّي لأعارف الخرا أن أمرّ به، فكيف ألج عليه في وكره؟
__________
(1) بياض في الأصل.(5/196)
وجد شيخ في مسجد، وتحته صبيّ، فلما هجم عليه عدا الصّبيّ، وقام الشيخ متأسّفا وجعل ينظر إلى متاعه ويقول [] (1).
كان ببغداد لوطيّ موسر، فكان إذا جاء وقت الزكاة وزن زكاة ماله، ووضعه. فإذا حصل عنده مؤاجر وزن جذره منه، وقال: ألك أمّ أو أخت تستحقّ الزّكاة؟ فيدفعه إليه، ويقول: خذها من زكاة مالي، وأعطني ما أريده منك تفضّلا.
وكان بعض المؤاجرين يتحرّج، فكان إذا أعطاه إنسان جذره أخرج تفاحّة أو ما يشبهها، وقال للرجل: قد اشتريت منّي هذا بهذه الدراهم. فيقول اللّوطيّ:
نعم.
فيقول: فأما الآن فأعطيك ما تريد من غير جذر.
قيل لواحد: لم فضّلت الغلام على الجارية؟ قال: لأنّه في الطريق صاحب ومع الإخوان نديم، وفي الخلوة أهل.
قال ابن قريعة القاضي: مررت بشيخ قد خرج من خربة، وبيده أيره وهو يقول: ما أعجب أسباب النّيك؟ فقلت له: يا هذا، إنما يقال: ما أعجب أسباب الرزق؟ قال: خذ حديثي دخلت هذا الخراب لأبول، فأنعظت فهممت أن أجلد عميرة (2). فدخل صبيّان كالقمرين، فلم يرياني، وأخذا يتبادلان فقمت إلى هذا فنكته، وإلى هذا فنكته. وخرجت كما تراني متعجّبا بالله، ما هذا بعجب؟ قلت:
بلى والله انصرف لا حفظك الله.
جاؤوا إلى أبي نواس بغلام مليح، إلّا أنه أعرج، فقال: ما أصنع به وهو أعرج؟ فقال الغلام: إن أردتني لأن تضرب عليّ بالصّوالجة فلا أصلح لذلك وإن أردتني للنيك فقم.
كتب رجل إلى غلام كلان يعشقه: وضعت على الثّرى خدّي لترضى. فكتب إليه الغلام: زن عشرة دراهم، وضع خدّك على خدّي.
__________
(1) بياض في الأصل بمقدار كلمتين.
(2) جلد عميرة: هي العادة السرية.(5/197)
وصفوا غلاما عند بعض اللاطة، فقيل: هو فاسد قال: في فساده صلاحي.
نظر غلام في المرآة، فرأى لحيته قد بدت وقال: [] (1) فقال قوّاده: [] (2).
بعث المبرّد غلامه، وقال بحضرة الناس: امض فإن رأيته فلا تقل له، وإن لم تره فقل له، فذهب الغلام، ورجع، فقال: لم أره، فقلت له، فجاء فلم يجئ، فسئل الغلام بعد ذلك، فقال: أنفذني إلى غلام، فقال: إن رأيت مولاة فلا تقل له شيئا، وإن لم تره فادعه. فذهبت فلم أر مولاه، فقلت: فجاء المولى، فلم يجئ الغلام.
أدخل ابن سيّابة غلاما ليفسق به، فقال له الغلام: أنت ابن سيّابة الزنديق؟
قال: نعم. قال: أين الزّندقة؟ ونوّمه، وأدخل عليه، ثم قال: يا بنيّ: [] (3).
قيل لأبي نواس لم تؤثر الغلام الفحل على الخصيّ؟ فقال: لأنّ الغلام معه بيذقان في وسط الرّقعة يدفع بهما الشّاة.
قيل للوطيّ: كيف رأيت فلانا؟ لغلام كان يتعاطاه. فقال: يجعل البيذق فرزانا.
غمز لوطيّ غلاما، فقال الغلام: أنا لا أصلح لما تريد. فقال اللوطيّ: وأما أجعلك بحيث تصلح.
قال بعضهم: سمعت شيخا قد خرف بعد شطارة يقول: نكت غلاما في دهليزي أمس فأردت أن أدخل عليه، فقال لي: لا تفعل، فإني مسحت على خفّي، وأكره أن ينتقض وضوئي، فقلت: أنّ نيك الغلمان بين الفخذين لا ينقض وضوءهم.
وقال آخر: رأيت شيخا من كبار الشّطار، يمرّ ومعه صبيّ صغير. فقلت:
بلغنا هذه الحال. فقال: يا سيّدي، إن الأسد إذا كبر يصيد الضفادع.
وجد شيخ مع صبيّ خلف كرب فقالوا له: يا شيخ. أما تستحي وأنت رجل
__________
(1) بياض في الأصل.
(2) بياض في الأصل.
(3) بياض في الأصل.(5/198)
عاقل؟ لم لا تحصّن نفسك؟ فأخرج من فيه قطعة فيها قيراط، وقال: والله ما أملك غيرها، وقد رضي بها هذا الصّبيّ. فهل فيكم من يزوّجني بها حتّى أتحصّن؟
سأل بعضهم غلاما، وأعطاه درهمين، فأراد أن يدخل عليه، فامتنع وقال:
لا أقوى. فقال الرجل: قد خيّرتك في إحدى ثلاث وكان يعلم أن الغلام يذهب مذهب الجماعة إمّا أن تردّ الدرهمين، أو تدعني أدخله، أو تقول: القرآن مخلوق. قال الغلام: أما ردّ شيء من الدرهمين فلا سبيل إليه، وأما القرآن فلو ضربت عنقي ما قلت إنّه مخلوق، وأما الثّالثة فأتحمّلها [] (1) فأدخل عليه، وصاح الغلام وجعل يقول [] (2).
صاح الصبيان بأبي سعيد الخرزي: يا لوطيّ يا لوطي، فجعل يضحك فقيل له: يا شيخ. أما تستحي؟ يصيح بك الصبيان وأنت تضحك؟ قال: فديتك. إذا صدقوا أيش يمكنني أن أقول؟
غضب سعيد بن وهب يوما على غلام له، فأمر به، فبطح، وكشف الثوب عنه ليضربه، وقال: يا بن الفاعلة. إنّما غرّتك استك هذه حتّى اجترأت عليّ هذه الجرأة، وسأريك هوانها عليّ. فقال الغلام: طالما غرّتك هذه الاست حتّى اجترأت على الله، وسوف ترى هوانك عليه، قال سعيد: فورد عليّ من حاله ما حيّرني، وسقط السوط من يدي.
قسم بعض الولاة بالمدينة قسما في الزّمنى، فأتاه أبو خزيمة، فقال: أعطني فإني زمن. قال: ما أرى بك زمانة، قال: بلى، قال: ما هي؟ قال: أنا لوطيّ.
قال: نعم، إنّك لزمن من عقلك، وأعطاه.
سئل ابن سيابة عن مؤاجر، فقال: [] (3) وكان يقول: [نيك] (4) وكان يترافق اثنان: أحدهما «يقود الصّبيان الصغار، والآخر بالبالغين الكبار، وكلّ واحد يعيب صاحبه، ويعنّفه، حتى أخذ في بعض الأيّام صاحب الصّغار مع صبيّ، ورفع إلى السّلطان فضرب، وحمل الصبيّ على عاتقه ليطاف به في البلد، فلقيه رفيقه، وهو
__________
(1) بياض في الأصل.
(2) بياض في الأصل.
(3) بياض في الأصل.
(4) بياض في الأصل نحو ست كلمات.(5/199)
على تلك الحال، فقال: قد كنت أنهاك عن الصّغار حذرا عليك من مثل هذا، ولو كان كبيرا لم ينكر كونه معك في البيت. فقال: اسكت يا أحمق، فلو قبلت منك وكان مكان هذا الصّغير ذاك الكبير، فكان يدقّ عنقي بثقله.
وجد أخر مع صبيّ في منارة المسجد، وسراويلاتهما محلولة، فقيل: ما هذا؟ فقال: أريد أن أبدل تكّته بتكّتي.
قال بعضهم: إذا كان للغلام أير ضخم فهو فخذ ثالث.
قيل لبعضهم: اللّوط إذا استحكم صار حلاقا، قال: هذا من أراجيف الزّناة.
قال بعضهم: نزل بي ضيف فنوّمته في الدار، فوجدته في بعض الليل معي على السّرير في البيت ينيكني، فقلت: ويحك! لم دخلت البيت؟ قال: وجدت البرد. قلت: فلم صعدت السرير؟ قال: من البراغيث. قلت: فلم تنيكني؟ قال:
ليس هذا موضع المسألة.
دبّ واحد إلى غلام، فانتبه الغلام، وأخذ شيئا فرماه به، وشجّه. فلما أصبح، قيل له، استعد عليه. فقال: يا قوم أنيكهم من غير أن أستأذنهم. ثم أستعدي عليهم إذا ضربوني؟ هذا لا يجوز.
كان غلامان يلعبان بالطيور، فقال أحدهما لصاحبه: إذا كان غدا وتسابقنا تنايكنا، قال صاحبه: وإن لم نتسابق لم نتنايك؟
قال الجاحظ: كان بعض المؤاجرين يعطي في الشّمال بأربعة دراهم وفي الجنوب بدرهمين فقيل له في ذلك. فقال: في الشمال الريح عليّ وفي الجنوب الريح معي.
أراد رجل أن ينيك غلاما بين فخذيه، فصاح، وقال: لا [] (1) أنا لا أطيق «خارج».
نظر رجل إلى غلام وفي وجهه وجبينه أثر، فقال له الغلام وقد أدمن النظر
__________
(1) بياض في الأصل بمقدار كلمة واحدة.(5/200)
إليه: يسألك الله عن سوء ظنّك. قال: بل يسألك عن سوء مصرعك.
نظر بعضهم إلى غلام أمرد وهو يتكلّم بقحّة، ورقاعة. فقال: هذا وجه من يشمّ التراب.
أخذ رجل مع غلام، فرفع إلى صاحب الشّرطة، فأدّبه، ثم وجد بعد ذلك مع امرأة وعوقب، وبعد ذلك مع مخنّث فأدّب، ثم وجد في خربة ينيك أتانا. فقال له صاحب الشّرطة: ويلك! لم لا تغمد أيرك؟ قال: يا سيدي هذا غمده، ولكن لستم تتركوني أن أغمده. فضحك وخلّاه.
قيل للوطيّ: ويحك؟ إنّ من الناس من يسرق ويزني، ويعمل العظائم سنين كثيرة، وأمره مستور، وأنت إنما لطت منذ شهور. وقد شهرت وافتضحت.
فقال: من يكون سرّه عند الصّبيان، كيف يكون حاله؟
نظر بعضهم إلى غلام وأدمن النظر. قال: فقال الغلام: لم هذا النّظر؟
فقلت: سيّدي: أين منزلكم؟ قال: في النار، تطلب أثرا بعد عين [] (1) أن تؤخر اليوم لغد، وتتّبع ما لا تأمن السائق عليه.
دخل بعضهم الحمام فرأى فيه غلاما صبيحا، فأراده على نفسه، فامتنع، فكابر، وأخذه وأفلت الغلام، وصاح، فدخل القيّم وجماعة معه فقالوا للرجل، ألا تستحي سوءة لك؟ قال: قلت له: صبّ الماء عليّ فامتنع. قالوا: فما بال أيرك قائما؟ قال: قام من شدة الغضب.
قيل للوطي: متى عهدك بالحر؟ قال: مذ خرجت منه.
ذكر يونس بعض اللاطة فقال: يضرب ما بين الكركيّ إلى العندليب. يقول:
لا يدع رجلا ولا صبيّا إلا عفجه (2).
حكى بعضهم قال: رأيت بعض اللّاطة يضرب غلاما له ضرب التّلف، ويدّعي عليه [] (3) فسألته عن ذنبه. قال: ليس قلبه في العمل نكته اليوم وكان أيره «نائم».
__________
(1) بياض في الأصل.
(2) عجفه: أي لاطه.
(3) بياض في الأصل.(5/201)
قيل [] (1) الفتيان: نيك الرجال ريبة، وقال: هذا من أراجيف الزناة.
رأى يحيى بن أكثم غلاما حسن الوجه في دار المأمون فقال [] (2) فرفع ذلك إلى المأمون، فعاتبه. فقال: يا أمير المؤمنين. كان انتهى درسي إلى ذلك الموضع. فضحك.
استنقع بعضهم في الماء متكشّفا، فمرّ به غلام عمريّ كان يتعسّف فأنكر ذلك على الرجل كالمحتسب. فقال له الرجل: بأبي أنت! أردت إماتة منكر، فأحييت أنكر منه، وأومى إلى متاعه.
قال بعضهم: كنت عند يحيى بن أكثم عشيّة، فدخل إليه عبد الملك بن عثمان بن عبد الوهاب وكان يرمى به فقال: أصلح الله القاضي، إنك أدخلت علينا أمينا في وقفنا، ففعل، وفعل. فقال له: وتدع أنت إنسانا يدخل عليك؟ فلما سمعتها نهضت. فلمّا كنت في صحن الدار سمعته يقول له: حلّ حلّ.
وكان يحيى يقول بالبصرة لي رجلان أبعثهما ليأتياني بالغلمان، فأحدهما لا يأتيني بالغلام حتّى ينيك الغلام، وهو إسماعيل بن إسحاق. والآخر لا يأتيني حتّى ينيكه الغلام وهو صلت بن مسعود.
قال العدلي الشّطرنجي: كنت غلاما، فضمّني المأمون إلى يحيى فإني لعنده يوما إذ جذبني إلى مخدع في مجلسه، وأضجعني الفاحشة ونظر من وراء السّتر، فرأى ابن العلاء بن الوضاح، وكان مفرط الجمال فضرب على جنبي، وقال: قم [] (3).
__________
(1) بياض في الأصل.
(2) بياض في الأصل.
(3) بياض في الأصل.(5/202)
الباب السادس عشر نوادر البغائين
قال بعضهم: قلت لرجل كان يتعاطى الأدب وكان متّهما: ما معنى قولهم: «إذا عزّ أخوك فهن»؟ قال: إذا لم ينم لتنيكه فنم حتّى ينيكك.
دخل عبادة على المتوكّل وهو نائم، ومعه في الفراش أسود قد ظهرت رجلاه من اللّحاف، فقال عبادة: يا أمير المؤمنين بتّ البارحة في خفّيك. وكان المتوكل ممّن يرمى ويتّهم بذلك، وخبره في أمر بشياط الهليوف معروف. قيل لمأبون: إن ابنك به أبنة فقال [] (1).
قيل لابن عون: إن المتوكل قد بنى بناءين سمّاهما الشّاة والعروس فقال: قد فرغ من تحميل الناس على الناس حتّى صار ينايك بين الأبنية فقال [] (2).
وقع بين أحمد بن السّندي وبين غلامه كلام، فهجره الغلام أيّاما، فكاد أن يجنّ، فتحمّل عليه بغرسة المحتسب، فلم يجبه الغلام. وكان غرسه أيضا مأبونا.
فقال: يا غلام لو كان أيرك مثل أير بغل سماعة ما زاد على هذا. فقال أحمد بن السندي هو [] (3) قريب منه وتحمّل عليه بإخوانه حتّى صالحه، واتّخذ دعوة أرعد فيها وأبرق، فقيل للحنظلي: عند من كنتم أمس؟ قال: كنا في دعوة أير غلام أحمد بن السّندي.
ومرّ أحمد السندي ببغل أبي كامل الطّحان وقد أدلى فوقف بإزائه ثم تنفّس الصّعداء، فقال: هذا الأير! لا ما نعلّل به استاهنا أربعين سنة.
__________
(1) بياض في الأصل.
(2) بياض في الأصل بمقدار خمس كلمات.
(3) بياض في الأصل.(5/203)
قيل: وكان هذا البغل إذا أدلى أخذ من الأرض برأس غرموله التّراب، فإذا ضرب به بطنه رأيت الغبار يتطاير عن يمينه وشماله.
قال بعضهم: دخلت إلى رجل من كبار الناس ببغداد فجاءة، وإذا غلام له فوقه. فلما رآني استحيا وقال: زعم هذا الغلام أنه احتلم البارحة، فأردت أن أجرّبه.
وقال أبو العيناء: دخلت على أبي العلاء المنقري وغلامه على ظهره فقلت: ما الخبر؟ فقال: إنّ هذا الغلام زعم أنّه قد احتلم، فظننت أنه يكسل عن خدمة النّساء، فأحببت أن أمتحنه، قال: فحدّثت بهذا المعتصم، فقال: لعنه الله تركني [] (1).
قيل لرجل من ولد بشر بن داود، وكان مأبونا: أما تستحي وأبوك وكان سيف السّلطان؟ قال: فأنا جعبته.
وقال له آخر: إنّ أباك ينيك، وأنت تناك، قال: نقضني دينه.
قال ابن حمدون: بات عندي المراكبيّ الشّطرنجي وكان مأبونا فسمعته يقول لغلام كان قد بات أيضا عندي: أعطيك دينارا وتبادلني، وأعطيك أنا قبلا، وإن صغرت لم أبال؟
قيل لبعضهم: لوطيّ أنت أم صاحب نساء؟ قال: أنا لوطيّ، وزان، وأميل إلى المخنّثين، وأدبّ بالليل أيّ دباب، ويعتريني قليل بغاء.
أحضرت بصليّة في منزل رجل كبير من أهل بغداد وابن الهفتي حاضر وكان يعاتبه كثيرا، فتسرّع ابن الهفتي أيضا، فقال له: أتعجبك بالأبنة قال: هي ألذّ من طيّب الطعام عندي. قال خذوها من بين أيدينا، فإني لا أشتهيها. قال: هذه أيضا فضيلة من فضائل البصليّة لا يشتهيها البغّاؤون.
وكان الرجل مرميا بالأبنة. وقال له يوما وقد رأى له كنيفا لا يدخله غيره:
استك عامة وكينفك «خاصة».
__________
(1) بياض في الأصل بمقدار خمس كلمات.(5/204)
كان بعض آل الجنيد إذا رأى إنسانا يرمى بالبغاء دعا لفتحته بأن [] (1) عافية.
فقال له عبادة [] (2) ما صحّت نيّتك في الدعاء، لأنك بعد تسأل بأن [] (3).
قيل لأبي سوار: قد امتهنك غلامك هذا الأسود. قال: ما امتهنني، لكنّي أمتهنه. عمدت إلى أكرم علق فيه، واستعملته في أقذر مدخل فيّ.
أشرفت امرأة من منظرة لها فرأت فتى جميلا أعجبها، فقالت لجاريتها:
أدخليه فأدخلته، فقدّمت الطعام، وأكلا، وأحضرت الشراب، وآنسته، فلم تجد عنده شيئا، فقالت: ما أحوجنا إلى من كان ينيكنا جميعا. فقال: «أخذتيها من فمي».
أدخل بعض البغّائين واحدا من السقّائين، وحمله على نفسه، فلمّا واقعه، قال: أوجعتني، لا تدخله كلّه. قال السقاء: فأخرجه؟ قال: لا. قال: فما أصنع؟
قال: دعه مكانه، قال السقّاء: فمن يحفظ البغل؟
كان الناصر وليّ واحدا عمل البندرة (4) بجرجان، وكان يرمى بالأبنة (5)، فاستقصره يوما في سبب مال وجب لمن يجبيه. فقال: أيّها الناصر، إنما أحتاج إلى رجال جلد يعينونني. قال: قد بلغني ذلك.
وورد على الصاحب رحمه الله بعض الكتّاب من العراق ممّن كان عرفه وقت مقامه ببغداد، وشكى سوء حاله، فأحسن إليه، وولّاه عملا، وأجرى له في كلّ شهر خمسمائة درهم. وكتب صكّه بذلك، فحسده بعض الحاضرين وقال للصّاحب: إنّ هذا رجل مأبون، معروف الطّريقة بالفساد، وجميع ما تصله به، وتوصّله إليه ينفقه على من يرتكب معه الفضيحة، وأفرط في ذمّ الرجل، والدلالة على قبائحه حتّى ظن أنه قد أفسد حاله.
فلما ردّ الصّكّ إليه للتوقيع فيه لم يشكّ السّاعي أنه يبطله أو يمزّقه. فلمّا
__________
(1) بياض في الأصل.
(2) بياض في الأصل.
(3) بياض في الأصل.
(4) البندار: التاجر يحتكر البضائع ويتربّص بها غلاء السعر، والبندرة، تخزين البضائع أو المعادن للغلاء.
(5) الأبنة، بالضم: العيب، والحقد، والرجل الخيضف (أي الضروط).(5/205)
أخذه، ونظر فيه كتب تحت ما كان قدّر له كلّ شهر: ولغلام يخدمه، ويستعين به خمسون درهما، ووقع في الصّك وردّه إليه.
كان لعبادة غلام كبير الفقحة. فقيل له: أنت بغّاء فيالك غلام كبير الفقحة؟
قال: يا حمقى: ما يدريكم: كلما ثقلت المرزبّة كان أشدّ لدخول الوتر.(5/206)
الباب السابع عشر نوادر جحا
حكى الجاحظ: أنّ اسمه نوح، وكنيته أبو الغصن، وأنه أربى على المائة، وفيه يقول عمر بن أبي ربيعة: [السريع] ولّهت عقلي وتلقّبت بي ... حتّى كأنّي من جنوني جحا
ثم أدرك أبا حعفر، ونزل الكوفة.
قيل لجحا: أتعلمت الحساب؟ قال: نعم. فما يشكل عليّ شيء منه. قال له: أقسم أربعة دراهم على ثلاثة، فقال: لرجلين درهمان، درهمان وليس للثالث شيء.
وأراد المهديّ أن يعبث به فدعا بالنّطع (1) والسّيف، فلما أقعد في النّطع، وقام السّياف على رأسه وهزّ سيفه، رفع إليه رأسه، فقال: انظر لا تصيب محاجمي بالسّيف، فإني قد احتجمت، فضحك المهديّ وأجازه.
وماتت لأبيه جارية حبشية: فبعث به إلى السّوق ليشتري لها كفنا، فأبطأ عليه حتى أنفذ غيره، وحمل الكفن، وحملت جنازتها فجاء جحا وقد حملت فجعل يعدو في المقابر، ويقول: رأيتم جنازة جارية حبشية، كفنها معي؟
وجمحت به بغلة يوما، فأخذت به في غير الطريق الذي أراده، فلقيه صديق له، فقال: أين عزمت يا أبا الغصن؟ فقال: في حاجة للبغلة.
وكان يأكل يوما مع أمه خبزا وبقلا، فقال لها: يا أمّي، لا تأكلي الجرجير فإنّه يقيم الأير.
__________
(1) النطع: بساط من أديم يمدّ تحت الذي يحكم عليه بقطع الرأس.(5/207)
ومرت به جنازة، فقال: بارك الله لنا في الموت وفيما بعد الموت. فقيل:
إنها جنازة نصرانيّ. فقال: إذن لا بارك الله لنا في الموت، ولا فيما بعد الموت.
وكانت لهم جارية يقال لها عميرة، فضربتها أمّه ذات يوم، وصاحت الجارية واجتمع الجيران على الباب. فخرج إليهم، وقال: ما لكم؟ عافاكم الله. إنّما هي أمّي تجلد عميرة.
وصلّى بقوم وفي كمّه جرو كلب، فلما ركع سقط الجرو، وصاح وتنحنح الناس. فالتفت إليهم، وقال: إنّه سلوقيّ عافاكم الله.
وحمل جرّة خضراء إلى السوق يبيعها، فقالوا: هي مثقوبة. فقال: ليس تسيل، فإنّه كان فيها قطن لوالدتي، فما سال منه شيء.
وأعطاه أبوه درهما يزنه، فطرحه في الكفّة، وطرح في الكفّة الأخرى سنجة درهمين، وهو يحسبهما سنجة درهم، فلم يستويا، فطرح سنجة الدرهم على رأس الدّرهم، فكان أقلّ، فطرح حبّتين أيضا، ثم قال لأبيه: ليس فيه شيء، وينقص حبّتين.
ونظر يوما إلى السّماء، فقال: ما أخلقها بالمطر لو «كان» متغيمة.
ورأوه يوما في السوق يعدو فقالوا: ما شأنك؟ قال: مرّت بكم جارية رجل مخضوب اللحية؟
واجتاز يوما بباب الجامع فقال: لمن هذا القصر؟ قالوا له: هذا مسجد الجامع. قال: رحم الله جامعا. ما أحسن ما بنى مسجده؟
وذهبت أمّه في عرس، وتركته في البيت، وقالت له: احفظ الباب فجلس إلى الظهر. فلما أبطأت عليه قام، فقلع الباب، وحمله على عاتقه.
ونظر إلى رجل مقيّد وهو مغتمّ فقال له: ما غمّك؟ إذا نزع عنك فثمنه قائم، ولبسه ربح.
وماتت خالته فقالوا: اذهب، واشتر لها حنوطا، فقال: أخشى ألّا ألحق الجنازة.(5/208)
وتبخّر يوما فأحرقت ثيابه، فقال: والله لا تبخرت أبدا إلّا عريانا.
لما قدم أبو مسلم العراق قال ليقطين بن موسى: أحبّ أن أرى جحا. قال:
فوجّه يقطين إليه فدعاه، وقال: تهيّأ حتّى تدخل على أبي مسلم فإذا دخلت عليه فسلّم، وإيّاك أن تتعلّق بشيء دون أن تشتدّ فإني أخشاه عليك. قال: نعم.
فلمّا كان من الغد، وجلس أبو مسلم وجّه يقطين إليه فدعاه، فأدخل على أبي مسلم وهو في صدر المجلس ويقطين إلى جنبه، فسلّم، ثم قال: يا يقطين، أيّكما أبو مسلم؟ فضحك أبو مسلم حتّى وضع يده على فمه، ولم يكن رئي قبل ذلك ضاحكا.
وأراد جحا الخروج إلى ضيعة، فقيل له: أحسن الله صحابتك، فقال:
الموضع أقرب من ذاك.
وعجن في منزله، فطلبوا منه حطبا. فقال: إن لم يكن حطب فاخبزوه فطيرا.
ولما حذق الكتابة والحساب بعث به المعلم مع الصبيان إلى أبيه، فقال له أبوه كم عشرين في عشرين؟ قال: أربعين ودانقين. فقال: وكيف صار فيه «دانقين»؟ قال: كان فيها درهم ثقيل.
أكل جحا يوما مع قوم رؤوسا، فلمّا فرغ من الأكل دعا للقوم، وقال:
أطعمكم الله من رؤوس أهل الجنّة.
وضرط أبوه يوما، فقال جحا: على أيري، فقال أبوه: ويلك أيش قلت؟
قال: حسبتك أمّي.
وماتت أمّه فجعل يبكي، ويقول: رحمك الله فلقد كان بابك مفتوحا ومتاعك مبذولا.
دخل البيت، وإذا جارية أبيه نائمة، فاتّكأ عليها، فانتبهت، وقالت: من ذا؟
قال اسكتي، أنا أبي.
ورأوه في جنازة أبي العباس النحوي وهو يقول: يا أبا العبّاس، رحمك الله
من حرمتنا بعدك يا أبا العباس.(5/209)
ورأوه في جنازة أبي العباس النحوي وهو يقول: يا أبا العبّاس، رحمك الله
من حرمتنا بعدك يا أبا العباس.
وسمع قائلا يقول: ما أحسن القمر؟ فقال: أي والله خاصة بالليل.
وجاز بقوم في كمّه خوخ، فقال لهم: من أخبرني بما في كمّي فله أكبر خوخة فيه؟ قالوا: خوخ. فقال: ما قال لكم إلّا من أمّه زانية.
وقال له أبوه يوما: احمل هذا الحبّ (1) فقيّره (2). فذهب به، وقيّره من خارج. فقال أبوه: أسخن الله عينك: رأيت من قيّر الحبّ من خارج؟ فقال جحا:
إن لم ترض عافاك الله فاقلبه مثل الخفّ حتّى يصير القير من داخل.
وبات ليلة مع صبيان له، فجعلوا يفسون، فقال لامرأته: هذا والله بلية.
قالت دعهم يفسون فإنّه أدفأ لهم. فقام: وخرى وسط البيت، ثم قال: أنبهي الصبيان حتّى يصطلوا بهذه النار.
قيل له: ما لوجهك مستطيلا؟ قال: ولدت في الصيف، ولولا أن الشّتاء أدركه لسال وجهي.
ورئي يوما مغموما، فقيل له: ما لك؟ قال: وقعت أمي من السّطح على مذاكيرها.
وأخذ بوله في قارورة، فأتى به الطبيب، فقال: إني أريد أن أنقطع إلى بعض الملوك، فانظر: هل أصيب منه خيرا؟
وكان في دارهم شجرة تين، وكانت الدار لأمّه، فدعا أبوه قوما فسكروا، وجعلوا يبولون في البستان، فقال لأمه: يا أمّه! هو ذي يبولون في أصل تينتك.
وماتت ابنة له فذهب ليشتري لها كفنا، فلما بلغ البزّازين رجع مسرعا.
فقال: لا تحملوها حتّى أجيء أنا.
ومرّ في الميدان فرأى قصرا مشرفا، فوقف ينظر إليه، ويتأمّله طويلا، ثم
__________
(1) الحبّ: الجرّة، أو الضخمة منها.
(2) قيّره: طلاه بالقار.(5/210)
قال: أتوهّم أنّي رأيته في مجلّة بني فلان.
ودخل البستان فتعلّق ثوبه بشجرة، فالتفت، وقال: لولا أنك بهيمة لكسرت أنفك.
وخرج يوما بقمقم يستقي فيه من ماء النهر، فسقط من يده وغرق فقعد على شط النّهر، فمرّ به صاحب له، فقال: ما يقعدك ها هنا؟ قال: قمقم لي قد غرق وأنا أنتظر أن ينتفخ ويطفو فوق الماء.
واشترى يوما نفانق فانقضّ عليه عقاب، وانتسف بعض النّفانق فطار به فنظر إليه، وقال: يا شقيّ، ومن أين لك خردل تأكله به؟
وأسلمته أمّه في البزّازين، فقالت له بعد حولين: توجهت في شيء؟ قال:
نعم، تعملت نصف العمل، قيل: وما تعلّمت؟ قال: تعلمت النّشر وبقي الطيّ.
وقيل له وكان بريء من جراحة أصابته: بم تداويت؟ قال: بدم الوالدين.
يريد دم الأخوين.
وركب يوما حمارا، وعقر ذنبه، فقالوا: لم فعلت ذلك؟ فقال: لأنه يقدّم سرجه.
وتعلّق بلصّ في بعض الليل، فصاح اللّص: قرحتي فخلاه حتّى مرّ وقال:
خشيت أن أوجعه.
وكان نقش خاتمه: عشاء الليل رديء.
وأخذه صاحب المصلحة فقدّمه إلى الوالي، فقال: رأيت هذا يجلد عميرة.
فقال: احبسوه. فلقيه صديق له، فقال: ما حالك؟ قال: قصتي عجيبة، لا «يدعونا» ننيكهم. فإذا نكنا أنفسنا حبسونا.(5/211)
الباب الثامن عشر نوادر أشعب (1)
كان يقول: كلبي كلب سوء، يبصبص للأضياف وينبح أصحاب الهدايا.
وأشعب هذا هو الموصوف بالطمع، وقيل له: ما بلغ من طمعك؟ قال: لم تقل هذا إلّا وفي نفسك خير تصنعه بي.
ومن عجيب أخباره أنه لم يمت شريف قط من أهل المدينة إلا استعدى أشعب على وصيّته، أو وارثه، وقال له: احلف أنه لم يوص لي بشيء قبل موته.
وقيل له: لقد لقيت رجلا من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فلو حفظت أحاديث تتحدّث بها؟ قال: أنا أعلم الناس بالحديث. قيل: فحدّثنا. قال: حدّثني عكرمة عن ابن عباس، قال: خلّتان لا تجتمعان في مؤمن إلّا دخل الجنة. ثم سكت. قيل له: هات، ما الخلّتان؟ قال: نسي عكرمة إحداهما، ونسيت أنا الأخرى.
قال بعضهم: قلت له: لو تحدثت عندي العشية! فقال: أخاف أن يجيء إنسان ثقيل: قلت: ليس معنا ثالث. فمضى معي، فلما صلّيت دعوت بالعشاء، فلم يلبث أن جاء صديق يدق الباب، فقال أشعب: ترى قد صرنا إلى ما نكره؟
قال: قلت له: عندي فيه عشر خصال لا يكره منها خصلة، فإن كرهت واحدة لم آذن له. قال: هات. قلت: أولاهن أنه لا يأكل. فقال: التّسع الباقية لك. أدخله.
وكان أشعب لا يغبّ طعام سالم بن عبد الله بن عمر فاشتهى سالم أن يأكل مع بناته. فخرج إلى بستان له، فجاء أشعب فخبّر بالقصة، فاكترى جملا بدرهم.
__________
(1) أشعب الطماع: هو أشعب بن جبير، نشأ في المدينة في دور آل أبي طالب، ربّته وكفلته عائشة بنت عثمان بن عفان (الأغاني 19/ 135).(5/212)
فلما حاذى حائط البستان. وثب، فصار عليه. فغطى سالم بناته بثوبه، وقال:
بناتي بناتي. فقال أشعب: إنك لتعلم {مََا لَنََا فِي بَنََاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مََا نُرِيدُ}
[هود: 79].
قيل: بغت أمّ أشعب، فضربت، وحلقت، وحملت على بعير يطاف بها، وهي تقول: من رآني فلا يزنينّ، فأشرفت عليها ظريفة من أهل المدينة، فقالت لها: إنك لمطاعة! نهانا الله عنه، فما ندعه، وندعه لقولك.
كان زياد بن عبد الله الحارثي، على شرطة المدينة، وكان مبخّلا على الطّعام فدعا أشعب في شهر رمضان ليفطر عنده، فقدّمت إليه في أول ليلة بصليّة معقودة، وكانت تعجبه، فجعل أشعب يمعن فيها وزياد يلمحه فلما فرغوا من الأكل قال زياد: ما أظنّ أن لأهل السّجن إماما يصلّي بهم في هذا الشهر فليصلّ بهم أشعب.
فقال أشعب: لو غير ذلك أصلحك الله؟ قال: وما هو؟ قال: أحلف أنّي لا أذوق بصليّة أبدا. فخجل زياد، وتغافل عنه.
قال أشعب: جاءتني جارية بدينار، وقالت هذه وديعة عندك فجعلته بين ثني الفراش، فجاءت بعد أيّام فقالت: بأبي الدينار. فقلت: ارفعي الفراش، وخذي ولده. وكنت تركت إلى جنبه درهما، فتركت الدينار، وأخذت الدرهم وعادت بعد أيام فوجدت معه درهما آخر، فأخذته.
وعادت في الثّالثة كذلك، فلما رأيتها في الرابعة بكيت، فقالت: ما يبكيك؟
قلت: مات دينارك في النّفاس، قالت: وكيف يكون للدينار نفاس؟ قلت: يا فاسقة تصدّقين بالولادة، ولا تصدقين بالنّفاس!
سأل سالم بن عبد الله بن عمر أشعب عن طمعه، فقال: قلت لصبيان مرّة:
اذهبوا هذا سالم قد فتح بيت صدقة عمر حتّى يطعمكم تمرا، فلمّا احتسبوا ظننت أنه كما قلت لهم، فغدوت في أثرهم.
وقيل له: ما بلغ من طمعك؟ قال: أرى دخان جاري فأثرد.
وقيل له أيضا: ما بلغ من طمعك؟ قال: لم أر اثنين قطّ يتسارّان إلّا ظننت أنهما يأمران لي بشيء.(5/213)
وقيل أيضا: ما بلغ من طمعك؟ قال: ما رأيت عروسا بالمدينة تزفّ إلّا كنست بيتي، ورششته طمعا في أن تزفّ إليّ.
ووقف على رجل خيزراني وكان يعمل طبقا فقال له: وسّعه قليلا. قال الخيزرانيّ: وما تريد بذلك؟ كأنّك تريد أن تشتريه؟ قال: لا، ولكن يشتريه بعض الأشراف، فيهدى إليّ فيه شيئا.
وقال له ابن أبي عتيق: أما تستحي وعندك ما أرى من أن تسأل الناس؟
قال: معي من لطف المسألة ما لا تطيب نفسي بتركه.
وكان أشعب يحدّث عن عبد الله بن عمر، فيقول: حدّثني عبد الله، وكان يبغضني في الله.
وجلس يوما في الشّتاء إلى رجل من ولد عقبة بن أبي معيط، فمرّ به حسن بن حسن، فقال: ما يقعدك إلى جنب هذا؟ قال: أصطلي بناره.
ولما مات ابن عائشة المغنّي جعل أشعب يبكي، ويقول: قلت لكم زوّجوا ابن عائشة من الشماسية حتّى يخرج بينهما مزامير داود، فلم تفعلوا ولكن لا يغني حذر من قدر.
ولما أخرجت جنازة الصّريميّة المغنيّة كان أشعب جالسا في نفر من قريش فبكى عليها، وقال: اليوم ذهب الغناء كلّه. وترحّم عليها، ثم مسح عينيه، والتفت إليهم، وقال: وعلى ذلك فقد كانت الزانية شرّ خلق الله فضحكوا، وقالوا: يا أشعب، ليس بين بكائك عليها، وبين لعنك إياها فرق. قال: نعم كنا نحبوها الفاجرة بكبش إذا أردنا أن نزورها فتطبخ لنا في دارها. ثم لا تعشّينا يشهد الله إلّا بسلق.
وجاز به يوما سبط لابن سريج، وهو جالس في فتية من قريش، فوثب إليه، وحمله على كتفه، وجعل يرقصه ويقول: فديت من ولد على عود، واستهلّ بغناء، وحنّك، بحلوى، وقطعت سرّته بزير، وختن بمضراب.(5/214)
وتبع مرة امرأة فقالت له: وما تصنع بي ولي زوج؟ قال: فتسرّي بي، فديتك.
وقيل له: هل رأيت أطمع منك؟ قال: نعم. كلب أمّ حومل، تبعني فرسخين، وأنا أمضغ كندرا، ولقد حسدته على ذلك.
وخفّف الصلاة مرّة، فقال له بعض أهل المسجد: خففت الصلاة جدا! قال: لأنه لم يخالطها رياء.
وقال له رجل: ضياع معروفي عندك. قال: لأنه جاء من غير محتسب ثم وقع عند غير شاكر.
قيل له: هل رأيت أحدا أطمع منك؟ قال: نعم، خرجت إلى الشّام مع رفيق لي، فنزلنا بعض الديارات، فتلاحينا. فقلت: أير هذا الرّاهب في حر أمّ الكاذب.
فلم نشعر إلا بالرّاهب قد اطّلع علينا، وقد أنعظ، وهو يقول: أيّكم الكاذب؟
ودخل يوما إلى بعض الرؤساء وهو يحتجم فقال له أشعب: حجمك بنوك.
كان أشعب عند الحسن بن الحسن بن علي عليهم السلام، فدخل عليهم أعرابيّ مشعّث اللّمة، قبيح الخلقة متنكّبا قوسا. فقال أشعب للحسن: أتأذن أن أسلح عليه فسمعه الأعرابي، فوضع سهما في كبير قوسه، وفوّقه نحو أشعب وقال: لئن فعلت ليكوننّ آخر سلح تسلحه أبدا. فقال أشعب للحسن: يا سيّدي، أخذني والله القولنج.
قال رجل لأشعب وكان صديق أبيه: يا بنيّ كان أبوك عظيم اللحية، فمن أشبهت أنت؟ قال: أشبهت أمّي.(5/215)
الباب التاسع عشر نوادر السّؤّال
قال بعضهم: رأيت سائلا ببغداد في الزيّاتين وهم أنصب من في الأرض يسأل، ويقول: تصدّقوا عليّ حبّا وكرامة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وليس يلتفت إليه أحد، ولا يعطيه شيئا. فدفعت إليه درهما، وقلت في نفسي: إن هذا المسكين لا يعرف هؤلاء وبغضهم لعليّ عليه السلام فأخذ الدرهم منّي، وقال: يا صاحب الصّدقة، إن كنت تصدّقت بها عليّ وفي قلبك بغض لأبي بكر، وعمر، وعثمان، وفلان، وفلان ومعاوية خال المؤمنين رديف المصطفى، وكاتب الوحي فقطع الله يديك ورجليك وأعمى عينيك.
قال: فأخذته الدراهم من كل جانب، وبقيت أنا متحيّرا، ثمّ مضى فلحظته.
فعلم ما في قلبي، فقال: يا فتى على رسلك! عندك أنّ هؤلاء القراننة (1) لا يصدّقون عليّ إلّا بمثل هذه الحيلة.
جاء سائل إلى قوم فسألهم، فردّوا عليه، وألحّ عليهم فردّوا، فألحّ، فخرج إليه بعضهم فقال: عافاك الله. أما سمعت الرّدّ؟ قال: ولكنكم غممتموني فأردت أن أغمّكم يا قراننة.
وقف سائل على قوم، فقال بعضهم: بضاعتنا واحدة. فقال السائل: أنا أقود على أمّي.
أعطي سائل كسرة صغيرة. فقال: رحم الله من تمّمها لقمة.
قال بعضهم: رأيت ببغداد مكفوفا يقول: من أعطاني حبّة سقاه الله من
__________
(1) القراننة: جمع قرنان، وهو الديوث المشارك في قرينته.(5/216)
الحوض على يد معاوية، فتبعته حتّى خلوت به، ولطمته، وقلت: يا كذا عزلت أمير المؤمنين عن الحوض، فقال: أردت أن أسقيهم بحبة على يد أمير المؤمنين عليّ عليه السلام؟ لا، ولا كرامة.
سأل أبو فرعون رجلا، فمنعه. فألحّ عليه فأعطاه فقال: اللهم اخزنا وإيّاهم، نسألهم إلحافا، ويعطوننا كرها، فلا يبارك الله لنا فيها، ولا يأجرهم عليها.
وقف سائل على باب، فقال: يا أهل الدار. فبادر صاحب الدار قبل أن يتمّ السائل كلامه، وقال: صنع الله لك، فقال السائل: يابن البظراء كنت تصبر حتّى تسمع كلامي عسى جئت أدعوك إلى دعوة.
وقف أعرابيّ سائل على باب، وسأل. فأجابه رجل: ليس ها هنا أحد، قال: إنّك لأحد لو جعل الله فيك بركة.
قال الجمّاز: سمعت سائلا يقول: من يعطيني حبّا لأمينين: جبريل ومعاوية؟
وقف سائل على باب وكانت صاحبة الدار تبول على البالوعة. فحسب السائل أنّ صوت بولها نشيش المقلى، فقال: أطعمونا من هذا الذي تقلونه.
فضرطت المرأة، وقالت: حطبنا وحياتك رطب ليس يشتغل وكان آخر يقول:
من يعطيني قطعة حبّا لهند حماة النّبي.
ووقف سائل بباب (المافروخي) عامل الأهواز، وسأل فأعطوه لقمة من خبز، فسكت ساعة، ولم يبرح، ثم صاح، وقال: هذا الدواء لأي شيء ينفعني؟
وكيف آخذه؟
وقف سائل على باب قوم فقال: تصدّقوا عليّ فإنّي جائع، قالوا: لم نخبز بعد، قال: فكفّ سويق؟ قالوا: ما اشترينا بعد. قال: فشربة ماء فإني عطشان، قالوا: ما أتانا السقّاء بعد. قال: فيسير دهن أضعه على رأسي. قالوا: ومن أين لنا الدهن؟ فقال: يا أولاد الزّنى، فما قعودكم ها هنا؟ قوموا وسلوا معي.
وقف سائل على باب دار فقال: تصدّقوا عليّ، فقالت جارية من الدار: ما
عندنا شيء نعطيك، وستّي في المأتم، فقال السائل: أيّ مأتم أعظم من مأتمكم إذا لم يكن عندكم شيء؟(5/217)
وقف سائل على باب دار فقال: تصدّقوا عليّ، فقالت جارية من الدار: ما
عندنا شيء نعطيك، وستّي في المأتم، فقال السائل: أيّ مأتم أعظم من مأتمكم إذا لم يكن عندكم شيء؟
وقف آخر بباب دار، فسأل، فقال صاحب الدار: أغناك الله، فليس صبياننا ها هنا. قال: إنّما طلبت كسرة، لم أطلب الجماع.
وقف آخر بباب فقال: أوسعوا عليّ مما رزقكم الله فإنّي في ضيق. فقال صاحب الدار: إن كنت في الدهليز في ضيق فادخل الدار فإنه أوسع لك.
فقال السائل: إنما قلت: تأمر لي بشيء قال: قد أمرتك أن تشتري لابني قلنسوة.
فقال السائل: «أيش» تريد منّي يا هذا؟ قال: أريد منك عشرة دراهم أؤدّيها عن كرا الدار. فولّى السائل هاربا.
وقف أعرابيّ على قوم يسألهم، فقال أحدهم له: بورك فيك. وقال آخر ما أكثر السّؤّال؟ فقال الأعرابيّ: ترانا أكثر من «بورك فيك»؟ والله لقد علّمكم الله كلمة ما تبالون ولو كنا مثل ربيعة ومضر.
وقف آخر على باب، فأجابته امرأة من الدار: ما خبزنا اليوم. قال: فأعطني كفّ دقيق. قالت: ما اشترينا بعد دقيقا. قال: فاستقرضي من الجيران رغيفا، قالت: لا «يقرضونا». قال: قد أحسنوا يا زانية. تستقرضين، ولا تردّين، لا يقرضونك!
وقف سائل على إنسان وهو مقبل على صديق له يحدثه، ويتغافل عن السائل ثم قال له بعد ساعة طويلة: صنع الله لك. فقال له السائل: أين كان هذا يا سيّدي إلى هذا الوقت؟ كان في الصّندوق؟
وكان رجل ببغداد من الشحاذين فكان دأبه أن يترصّد إقبال الربيع، فيطلب وردة أوّل ما تطلع، وقبل أن يراها الناس فيأخذها، ويحملها إلى الحذّائين، ويبشّرهم بمجيء الصيف، وحاجة الناس إلى النّعال، فيجبون له شيئا، ويعطونه وإذا أقبل الخريف عمد إلى جزرة قبل أن يرى الناس الجزر، ويهديها إلى الخفّافين، ويبشرهم بمجيء الشتاء. فما زال هذا دأبه يتعيّش منه طول عمره.(5/218)
وكان رجل منهم معه صحيفة، ودواة، فكان يتقدّم إلى الرجل من أهل السّوق وغيرهم، فيسأله أن يعطيه شيئا، ثم يقول له: أنا أرضى بدرهم واحد تعطينيه في مثل هذا اليوم من السّنة القابلة، فيستحي الرجل فيقول: أثبت لي خطّك بهذا الدرهم الواحد، فيأخذ خطّه، ويعود في القابل، وفي اليوم الذي يكون قد أرّخه فيأخذ منه ذلك، فكان يجتمع له في كلّ سنة جملة جاملة.
سمع رجل سائلا في مسجد الكوفة يقول: أسألكم بحقّ أبي بكر وعمر، فما أعطاه أحد شيئا، فقال: ليس لهؤلاء القوم ها هنا جاه رأى أبو القمقام الهلال على وجه قصرية فقال لها: اضحكي في وجهي، وخذي هذا الدينار منّي، فاستظرفته، وأخذت منه الدينار عبثا، فقال: قد تفاءلت بوجهك، فما لي عندك؟ قالت: أردّ دينارا، قال: هذا كما كنّا فأين حلاوة الفأل؟ وصدقت، فأعطته دينارا. فقال:
التجارة بركة والخديعة يمن.
وكان على عصا ساسان المكري مكتوبا بالذّهب: الحركة بركة، الطراوة سفتجة، الكسل شؤم، التمييز جرم.
حكى بعضهم قال: سمعت ابن سكّرة يقول: كان شرطي مع خمرة وهي التي يشبب بها في شعره، وفيها يقول: [المتقارب] لخمرة عندي حديث يطول ... رأتني أبول فكادت تبول
أن أعطيها على كلّ فرد أربعة دوانيق، قال: فجاءتني يوما فأعطيتها درهمين ونكتها مرّتين. ولم ينتشر عليّ في الثالث فأردت ارتجاع قسط الواحد منها، وامتنعت من ذلك، فبينا نحن في ذلك إذ وقف سائل على الباب، ودعا وسأل.
فقلت له: ادخل فدخل. فقلت: ليس يحضرني، ولكن نك هذه، فقد استوفت جذرها. قال: فأخذ بيدها، ودخل البيت، وناكها، وخرج وأيره في يده وهو يقطر، ويشير إليه، ويقول لي: ثقل الله بهذا ميزانك يوم القيامة.(5/219)
الباب العشرون نوادر المعلمين
قال بعضهم: مررت ببعض سكك البصرة وإذ معلّم قد ضرب صبيا، وأقام الصبيان صفا، وهو يقول لهم: اقرؤوا. ثم جاء إلى صبيّ بجنب الصبي الذي ضربه، فقال: قل لهذا يقرأ، فإنّي لست أكلّمه.
قال أبو عثمان: كان ابن شبرمة لا يقبل شهادة المعلّم، وربّما قبل شهادة المؤدّب.
وكان يحيى بن أكثم أسوأ الناس رأيا فيهم.
وكان السّنديّ بن شاهك لا يستحلف المكاري، ولا الحائك، ولا الملّاح، ويجعل القول قول المدّعي ويقول: اللهم إنّي أستخيرك في الحمّال ومعلّم الكتاب.
وصف بعضهم معلّما فقال: هو أفره الناس وصيفا، وأكثرهم رغيفا.
قال بعضهم: مررت بمعلم وإذا صبيانه يلعبون، ويقتتلون فقلت للمعلّم:
ما بال صبيانك «ليسوا» يفرقون منك! قال: وأنا أيضا لست أفرق منهم.
قال: وقال غلام لأبيه: لا أريد هذا المعلّم. فقال له أبوه: ما له؟ قال:
يصنع بي أمرا عظيما. قال: يستخدمك؟ قال: أشدّ من ذلك. قال: فيضربك؟
قال: أشد من ذاك، قال: فيعفجك؟ قال: أشد من ذاك. قال: فأيّ شيء ويلك يفعل بك؟ قال: يأكل غداي.
قال: كان معلم يقيم الصبيان صفّين، ويتّكئ صبيين بيديه، ويقول: أربعة أربعة: ستّة. فقلت له: إذا كان أربعة وأربعة ستة، فكم يكون ثلاثة وثلاثة؟ قال:
صدقت. لم آخذ جذره.(5/220)
وكان لأبي داود المعلّم ابن، فمرض، فلما نزع قال: اغسلوه. قالوا: لم يمت بعد. قال: إلى أن يفرغ من غسله ما قد مات.
وقال شريكه: تعلّم الصبيان وعليك قميص جديد، فيسوّدونه عليك؟ قال:
قد اشتريت قطنا وقلت لأهلنا: يغزلون قميصا خلقا.
قال: مررت يوما بمعلّم والصبيان يحذفون عينه بالقصب وهو ساكت فقلت: ويحك! أرى منك عجبا. فقال: وما هو؟ قلت: أراك جالسا والصبيان يحذفون عينك بالقصب! فقال: اسكت، ودعهم. فما فرحي والله إلّا أن يصيب عيني شيء، فأريك كيف أنتف لحى آبائهم.
كان بحمص معلّم يكنى أبا جعفر يتعاطى علم الحساب، فصارت إليه يوما امرأة، فقالت: يا أبا جعفر: قفيز دقيق بثمانية دراهم كم يصيبني بأربعة دراهم؟
فقال لها، بعد أن فكّر: في هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدهما أن تعطي الرجل أربعة أخرى، وتأخذي قفيزا، والآخر: لك قفيز إلا بأربعة دراهم. والثالث:
تدفعين درهم درهم، وتأخذين مكّوك مكّوك حتّى «تستوفين».
وصار إليه ثلاثة روز جارتين، قد أخذوا أجرتهم درهمين فقالوا: يا أبا جعفر، كيف نقتسم الدرهمين ونحن ثلاثة؟ قال: أسقطوا منكم واحدا، وخذوا درهما درهما. قالوا: سبحان الله!! كيف نسقط أحدنا وقد عمل؟ قال: فزيدوا واحدا، وخذوا نصف نصف. قالوا: كيف نزيد فينا من لم يعمل ويأخذ كرانا؟
قال: فخذوا نصفا نصفا واشتروا بالباقي تمرا، وكلوه.
وسألته امرأة، فقالت: أربعة أرطال تمر بدرهم، كم يصيبني بدانق ونصف؟
ففكّر ساعة طويلة، وأدخل يديه تحت ذيله، وجعل يحسب بهما ثم أخرج يديه وقد جمعهما، وقال: كتلة مثل هذه كبيرة.
قال بعضهم مررت بمعلم وهو جالس وحده، وليس عنده من الصّبيان أحد، فقلت له: يا معلّم، ما فعل صبيانك؟ فقال: خلف الدور يتصافعون. فقلت: أريد أن أنظر إليهم، فقال: إن كان ولا بدّ فغطّ رأسك، لا يحسبونك أنا «فيصفعوك».
قال: ورأيت معلّما وقد جاء غلامان قد تعلّق أحدهما بالآخر، وقال يا
معلّم، هذا عضّ أذني، فقال الآخر: والله ما عضضتها، وإنّما هو عضّ أذن نفسه. فقال له المعلم: يا بن الخبيثة، صار جملا حتّى يعضّ أذن نفسه؟(5/221)
قال: ورأيت معلّما وقد جاء غلامان قد تعلّق أحدهما بالآخر، وقال يا
معلّم، هذا عضّ أذني، فقال الآخر: والله ما عضضتها، وإنّما هو عضّ أذن نفسه. فقال له المعلم: يا بن الخبيثة، صار جملا حتّى يعضّ أذن نفسه؟
وقال: رأيت معلما بالكوفة، وهو شيخ مخضوب الرأس واللّحية، وهو يجلس يبكي فوقفت عليه، وقلت: يا عمّ: ممّ تبكي؟ فقال: سرق الصبيان خبزي.
قال: وسمعت معلّما وهو يقرئ صبيا: {وَمََا أَمْرُنََا إِلََّا وََاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}
(50) [القمر: 50] والصبيّ يقول: كلحم بالبصل. فقال له: يا فاعل، أحسبك تشتهي بصليّة قال: وقرأ صبيّ على معلّم: {الَّذِينَ يَقُولُونَ لََا تُنْفِقُوا عَلى ََ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللََّهِ} [المنافقون: 7] فقال المعلم: من عند أبيك القرنان أولى فإنّه كثير المال يا بن الفاعلة هو ذا؟ تلزم النبيّ نفقة لا تجب عليه. أعجبك كثرة ماله؟
قال: ورأيت معلما وقد جاء صبي، فصفعه صفعة محكمة، فقال له المعلّم:
أيهما أصلب: هذه أم التي صفعتك أمس؟
قال: وكان بالمدينة معلّم يفرط في ضرب الصبيان، ويشتمهم فلاموه على ذلك، فسألني أن أقعد عنده، وأشاهد حاله معهم، فقعدت عنده، فإذا بصبيّ يقول: يا معلم: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى ََ يَوْمِ الدِّينِ} (35) [الحجر: 35] فقال: عليك وعلى أبويك.
وجاء آخر، فقال: يا معلّم: {فَاخْرُجْ مِنْهََا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر: 34] قال: ذاك أبوك الكشخان (1).
وجاء آخر، فقال: يا معلّم: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} [القصص: 27] قال:
انكح أمّك الفاعلة.
وقال آخر: يا معلم: {مََا لَنََا فِي بَنََاتِكَ مِنْ حَقٍّ} [هود: 79]، قال: لا، ولا كرامة. فلا يزال معهم في مثل هذا وهو يضربهم ويزنّيهم.
قال: ومررت بمعلّم وقد جاء صبيّ صغير، فصفعه. فقلت له: لم تدع هذا
__________
(1) الكشخان: الديّوث.(5/222)
الصبيّ يجترئ عليك؟ فقال: دعه فإني أشكوه غدا إلى أبيه.
قرأ غلام على معلّم: {إِنََّا وَجَدْنََا آبََاءَنََا عَلى ََ} أمّك {وَإِنََّا عَلى ََ آثََارِهِمْ}
[الزخرف: 22] فرد عليه المعلم {عَلى ََ أُمَّةٍ} فقال: على أمّك، فلما تكرّر ذلك، قال المعلّم: قل: على أمّي. فقال: على أمّي، فقال المعلّم: على أي حال إذا وجدت أباك على أمّك (خيرا) من أن تجده على أمّي أنا.
واستفتح غلام، فقال: يا معلّم: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} [القصص: 25] فقال:
هاتم نعلي. فقال الغلام: إنما استفتحت فقال: قد أنكرت أن يفلح أبوك.
قال معلم لغلام: قل: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكََّاهََا (9) وَقَدْ خََابَ مَنْ دَسََّاهََا} [الشمس:
109] فقال: وقد داس من خبّاها. فلم يزل يكرّر ذلك عليه إلى أن أعيته العلّة.
فقال المعلم: وقد داس من خبّاها. فقال الغلام: {وَقَدْ خََابَ مَنْ دَسََّاهََا} (10).
فقال المعلم لأبيه: قد قلت لك إنه لا يفلح.
قالوا: إذا قال المعلّم للصبيان: تهجّوا ذهب عقله أربعين صباحا.
وكان بعض المعلمين يعلّم صبيا وأمّه حاضرة، فقال له: اقرأ وإلا قمت ونكت أمّك. فقالت الأمّ: إنّه صبي، ويتيم، واليتيم فيه لجاج، ولا يؤمن بالشيء حتّى يراه.
أراد معلم أن يتزوج امرأة، كان ابنها عنده، فامتنعت عليه، فأمر بحمل ابنها وضربه، وقال: لم قلت لأمّك إن أير المعلم كبير؟ فلما رجع الصبيّ إلى أمّه قال:
ضربني المعلم وقال لي: كذا، وكذا، فوجّهت إلى المعلّم: أحضر شهودك تتزوّج، وتزوجته.
قال آخر: مررت بأحدهم وصبي يقرأ عليه: {فَذََلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}
(2) [الماعون: 2] والمعلم يرد عليه: يدعو اليتيم، ويضربه قال: فجئت إليه، وقلت: هذا من الأمر بالمعروف، ففسّر.
فقلت: يا شيخ، الصبي على الصّواب، وأنت على الخطإ. وإنما معنى يدعّ: يدفع. قال: فزبرني، وأغلظ لي وقال: إنّما معناه يدعو اليتيم ليفسق به.
قال: فولّيت وقلت: أنت لا ترضى أن تخطئ حتّى تفسّر.(5/223)
وقال: مررت بمعلّم وهو يضرب صبيانه كلّهم، فسألته عن الذّنب، فقال:
يرجفون بي. قال: بماذا؟ قال: يزعمون أني أحجّ العام، وأمّ من نوى هذا قحبة.
قال: كان يعلّم معلم صبيّا: {وَإِذْ قََالَ لُقْمََانُ لِابْنِهِ} [لقمان: 13]، {لََا تَقْصُصْ رُؤْيََاكَ عَلى ََ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} [يوسف: 5] قيل: ما هذا؟ قال: أبوه يدخل مشاهرة شهر في شهر، وأنا أدخله من سورة في سورة.
وقرأ صبيّ على معلّم: أريد أن أنكحك، فقال: هذا إذا قرأت على أمّك الزانية.
وقرأ آخر! وأمّا الآخر فتصلب، فقال: هذا إذا قرأت على أبيك القرنان.
قالت امرأة لمعلم: إذا كان مكّوك دقيق بدرهم، كم يكون بربع درهم؟
فتحيّر، ثم قال: ممّن اشتريت؟ قالت: من فلان الدقاق. قال: اقنعي بما يعطيك فإنّه ثقة.
قال جراب الدولة: كان عندنا بسجستان معلم سخيف اجتزت يوما به وهو يقول لصبيّ بين يديه: اقرأ يا بن الزّانية، فأخذت أوبّخه، فقال: اسكت، فقد نكت أمّه كثيرا.
قال أبو دواد لشريكه: يا أبا الحسين، دار جعفر بن يحيى، خير أو دار ورد؟
فأطرق، ثم قال: خيرهما عند الله أتقاهما.
قال بعضهم: مررت بمعلّم وهو يتلوّى، فقلت: ما شأنك يا شيخ؟ قال: ما نمت البارحة من ضربان العروق، فنظرت إليه، وقلت: أنت والله صحيح سليم مثل الظّليم. فغضب واستشاط، وقال: أحدكم يضرب عليه عرق واحد فلا ينام كلّه من الصّياح، وأنا يضرب عليّ حزمة عروق، وتريدون منّي ألّا أصيح؟
فقلت: وأيّ حزمة تضرب عليك؟ فكشف عن أير مثل أير البغل، وقال:
هذا.
قال بعضهم: سألت معلّما: أنت أسنّ أم أخوك؟ فقال: إذا جاء رمضان استوينا.(5/224)
حكي أنه كان في بعض دروب بغداد معلّم، فاجتاز به أبو عمر القاضي يوما بزينة تامّة، وهيئة حسنة، فقال المعلم: ترون هذا؟ إن خشخشة ثيابه، وقعقعة مركبه هو تظلّم الأرامل والأيتام.
فبلغ ذلك أبا عمر، فدعاه، وأدناه، وأحسن إليه، فكان إذا رآه بعد ذلك يقول: ما خشخشة ثيابه، وقعقعة مركبه إلا تسبيح الملائكة وتهليلهم.(5/225)
الباب الحادي والعشرون نوادر الصّبيان
قال رجل لابنه: ما أراك تفلح أبدا. فقال الابن: إلّا أن يرزقني الله مؤدّبا غيرك.
قال بعضهم: أحضرت لتعليم المعتزّ وهو صغير فقلت له: بأيّ شيء تبدأ اليوم؟ فقال: بالانصراف.
قال بعضهم: رأيت أعرابيا يعاتب ابنا له صغيرا، ويذكر حقّه عليه، فقال الصبي: يا أبه إنّ عظم حقّك عليّ لا يبطل صغير حقّي عليك، والذي تمتّ به إليّ أمتّ بمثله إليك، ولست أقول: إنا سواء، ولكن لا يجمل الاعتداء.
عربد غلام على قوم، فأراد عمّه أن يعاقبه، ويؤدّبه، فقال له: يا عمّ: إني قد أسأت، وليس معي عقلي، فلا تسئ بي ومعك عقلك.
ونظر دميم يوما في المرآة، وكان دميما، فقال: الحمد لله، خلقني فأحسن خلقي وصوّرني فأحسن صورتي، وابن له صغير، يسمع كلامه. فلمّا خرج سأله رجل كان بالباب عن أبيه، فقال: هو بالبيت يكذب على الله.
كان الفتح بن خاقان وهو صبي بين يدي المعتصم فقال له، وعرض عليه خاتمه: هل رأيت يا فتح أحسن من هذا الفصّ؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين اليد التي هو فيها أحسن منه.
وعاد المعتصم أباه والفتح صغير فقال له: داري أحسن أم دار أبيك؟
قال: يا أمير المؤمنين، دار أبي ما دمت فيه.
قال ابن أبي ليلي: رأيت بالمدينة صبيا قد خرج من دار، وبيده عود
مكشوف. فقلت له: غطّه لا ذعرت. قال: أو يغطّى من الله شيء. لا تلفت.(5/226)
قال ابن أبي ليلي: رأيت بالمدينة صبيا قد خرج من دار، وبيده عود
مكشوف. فقلت له: غطّه لا ذعرت. قال: أو يغطّى من الله شيء. لا تلفت.
قال الفرزدق لغلام أعجبه إنشاده: أيسرّني أنّي أبوك؟ قال: لا، ولكن أمّي، ليصيب أبي من أطايبك.
قال البلاذري: أدخل الرّكاض وهو ابن أربع سنين إلى الرّشيد ليعجب من فطنته، فقال له: ما تحبّ أن أهب لك؟ قال: جميل رأيك فإني أفوز به في الدنيا، والآخرة فأمر له بدنانير، ودراهم، فصبّت بين يديه. فقال: اختر الأحبّ إليك، قال: الأحبّ إلى أمير المؤمنين، وهذا من هذين، وضرب يده إلى الدنانير فضحك الرشيد، وأمر أن يضم إلى ولده ويجري عليه.
اجتاز عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيان يلعبون، وفيهم عبد الله بن الزّبير، فتهاربوا إلّا عبد الله فإنّه وقف. فقال له عمر: لم لم تفر مع أصحابك؟
قال: لم يكن لي جرم فأفرّ منك، ولا كان الطريق ضيّقا فأوسّعه عليك.
قال إياس: كان لي أخ، فقال لي وهو غلام صغير: من أيّ شيء خلقنا قلت: من طين. فتناول مدرة، وقال: من هذا؟ قلت: نعم. خلق الله آدم من طين: قال: فيستطيع الذي خلقنا أن يعيدنا إلى هذا الذي خلقنا منه؟ قلت: نعم:
قال: فينبغي لنا أن نخافه.
قيل لغلام: أتحبّ أن يموت أبوك؟ قال: لا، ولكن أحبّ أن يقتل لأرث ديته فإنّه فقير.
قعد صبيّ مع قوم، فقدّم شيء حارّ، فأخذ الصبيّ يبكي، فقالوا: ما يبكيك؟
قال: هو حارّ. قالوا: فاصبر حتّى يبرد. قال: أنتم لا تصبرون.
خرج صبيّ من بيت أمّه في صحو، وعاد في مطر شديد، فقالت له أمّه:
فديتك ابني هذا المطر كلّه على رأسك يجيء. قال: لا يا أمّي. كان أكثره على الأرض، ولو كان كلّه على رأسي لغرقت.
وسمع آخر أمّه تبكي في السّحر، فقال: لم تبكين؟ قالت: ذكرت أباك، فاحترق قلبي. قال الصبي: صدقت. هذا وقته.(5/227)
وجّه رجل ابنه إلى السوق ليشتري حبلا للبئر، ويكون عشرين ذراعا، فانصرف من بعض الطريق. وقال: يا أبي في عرض كم؟ قال: في عرض مصيبتي فيك.
وقال آخر لابنه، وهو في المكتب، في أيّ سورة أنت؟ فقال: لا أقسم بهذا البلد، ووالد بلا ولد. فقال: لعمري من كنت ولده فهو بلا ولد.
وقال آخر لابنه: أين بلغت عند المعلّم؟ فقال: الفرج. أراد الفجر. فقال الأب: أنت بعد في حر أمّك.
قيل لبعضهم: إن ابنك يناك، فقال لابنه: ما هذا الذي يقال؟ قال: كذبوا وإنما أنا أنيكهم: فلما كان بعد أيام رآه وقد اجتمع عليه عدّة من الصّبيان ينيكونه، فقال: ممّن تعلمت هذا النيك؟ قال: من أمّي.
قال ابن أبي زيد الحامض: قال لي أبي: يا بنيّ، ليس والله تفلح أبدا. فقال له: يا أبه! ليس والله أحنثك.
جاء صبيّ إلى أبيه، فقال: يا أبه: قد وجدت فأسا قال: هاته يا بني. قال:
ليس في رأسه حديد. قال: يا مشؤوم! فقل: وجدت وتدا.(5/228)
الباب الثاني والعشرون نوادر للعبيد والمماليك
ولي بعض الأمراء مولى بعد غيبة طويلة فقال: أنت في الأحياء بعد، فقال:
وأنا أستخير أن أموت قبل مولاي الأمير.
قال بعضهم: رأيت في السوق غلاما ينادي عليه، فقدمت واستعرضته فقال:
إن أردت أن تشتريني فاعلم أنّي قد حلفت أن لا أنيك مولاي أبدا حتّى ألقى الله، فإذا إنّه المسكين كان مبلى بصاحب يؤذيه ويستنكيه.
استباع (1) غلام فقيل: لم تستبيع؟ قال: لأنّ مولاي يصلّي من قعود وينيكني من قيام ويلحن إذا قرأ القرآن ويعرب إذا زنا بي.
قال الدارميّ لغلامه: بأبي أنت وأمّي لو كان العتق مثل الطّلاق لسررتك بواحدة.
اعترض بعضهم غلاما أراد شراءه فقال: يا غلام إن اشتريتك تفلح؟ فقال:
فإن لم تشتر.
قال أبو العيناء: اشتري للواثق عبد فصيح من البادية، فأتيناه وجعلنا نكتب عنه كلّ ما يقول، فلما رأى ذلك منّا قلّب طرفه وقال: «إنّ تراب قعرها لملتهب».
يقال ذلك للرّجل يسرّ الناس برؤيته لانتفاعهم به وأصل ذلك: أنّ الحافر يحفر فإن خرج التّراب مرّا علم أنّ الماء ملح وإن كان طيّبا علم أنّ الماء عذب فأنبط، وإذا خرج طيّبا انتهبه الصبيان.
__________
(1) استباع: أي عرض نفسه للبيع.(5/229)
اشترى بعض الهاشميّين غلاما فصيحا فبلغ الرّشيد خبره، فأرسل إليه يطلبه، فقال يا أمير المؤمنين: لم أشتره إلّا لك، فلمّا وقف الغلام بين يدي الرّشيد قال له: إنّ مولاك قد وهبك لي. فقال الغلام: يا أمير المؤمنين ما زلت ولا زلت.
قال: فسّر. فقال: ما زلت لك وأنا في ملكه ولا زلت عن ملكه، فأعجب الرّشيد به وقدّمه.
قال أبو العيناء: مررت بسوق النخّاسين (1) بالبصرة، فإذا غلام ينادى عليه ثلاثين دينارا والغلام يساوي خمسمائة دينار، فاشتريته وكنت أبني دارا فدفعت إليه عشرين دينارا على أن ينفقها، فلم أزل أصك عليه حتّى أنفق نحو العشرة، ثم صككت بشيء آخر، فقال لي: فأين أصل المال؟ قلت: ارفع إليّ حسابك، فرفع حسابا بعشرة دنانير. فقلت: فأين الباقي؟
قال: اشتريت ثوبا مصمتا (2) وقطعته. قلت: من أمرك بهذا؟
قال: إنّ أهل المروّات والأقدار لا يعيبون على غلمانهم إذا فعلوا فعلا يعود زينة عليهم. قال: فقلت في نفسي: اشتريت الأصمعيّ وابن الأعرابيّ ولم أدر، وكانت في نفسي امرأة أردت تزوّجها فقلت: يا غلام فيك خير. قال: وهل الخير إلّا فيّ. فقلت له: قد عزمت على كذا. وتزوجتها ودفعت إلى الغلام دينارا وقلت له: خذ لنا سمكا هازبي، فأبطأ واشترى مارماهي فأنكرت عليه خلافي. فقال: يا مولاي: فكّرت فإذا بقراط يقول: الهازبي يولّد السّوداء والمارماهي أقلّ غائلة.
قلت: لا الذي بقراط أنت أم جالينوس، وأدخلته البيت وضربته عشرة، فلما قام أخذني وضربني سبعة وقال: يا مولاي الأدب ثلاثة وسبعة لها قصاص، فغاظني ورميته فشججته، فمضى إلى ابنة عمي وقال لها: «الدين النصيحة» وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«من غشّنا فليس منّا».
وقال: «مولى القوم منهم»: وأعلمك أنّ مولاي تزوّج واستكتمني، فلمّا أعلمته أني معرّفك ما فعل شجّني، فوجّهت إليّ بنت عمّي بغلمان، فبطحت في
__________
(1) النخاسة: تجارة الرقيق.
(2) الثوب المصمت: الذي لا يخالط لونه لون آخر.(5/230)
الدار وضربت وسمّته النّايح، فما كان يتهيّأ لي كلامه، فقلت: اعتقه، فلعلّه يمضي عنّي، فلزمني ولذّ بي وقال: الآن وجب حقك عليّ، ثم إنّه أراد الحجّ، فجهّزته، فغاب عني عشرين يوما ورجع فقلت: لم رجعت فقال: قطع علينا وفكّرت، فإذا الله جل وعزّ يقول:
{وَلِلََّهِ عَلَى النََّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطََاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
وكنت غير مستطيع وإذا حقك أوجب عليّ فرجعت، ثم إنه أراد الغزو فجهّزته، فلما صار على عشرة فراسخ بعت ما كان لي بالبصرة وخرجت عنها خوفا أن يرجع وصرت إلى بغداد.
قال بعضهم: استعرضت غلاما فقلت له: يا غلام تحبّ أن أشتريك فقال:
حتى أسأل عنك.
أعتق عبد الله بن جعفر غلاما فقال الغلام: أكتب كما أملي.
قال: فأمل. قال: اكتب: كنت بالأمس لي، فوهبتك لمن وهبتك لي، فأنت اليوم واليوم صرت مثلي، فكتب ذلك واستحسنه وزاده خيرا.
قال حماد بن إسحاق الموصلي: كان لأبي غلام يستقي الماء لمن في داره علي بغلين، فانصرف أبي يوما وهو يسوق البغل وقد قرب من الحوض الذي يصبّ فيه الماء. فقال: ما خبرك يا فتح؟ قال: خبري أنّه ليس في الدار أشقى منّي ومنك.
قال: وكيف؟ قال: لأنك تطعمهم الخبز وأنا أسقيهم الماء، فضحك منه وقال: فما تحت أن أصنع بك؟ قال: تعتقني وتهب لي هذين البغلين، ففعل ذلك.
استعرض رجل غلاما فقال له: أشتريك؟ قال: لا. فقال: ولم؟ قال: كيف تتخذني عبدا بعد أن اتخذتني مشيرا.
وقال رجل لعبده: اذهب إلى المنزل واحمل الشمع لأعود به، فقال: أنا لا أجسر. فقال: معي حتّى أحمله وننصرف جميعا.
والحمد لله حقّ حمده والصّلاة على نبيّه محمّد وآله.
تم بحمد الله(5/231)
فهرس المحتويات
مقدمة المؤلف 3
الباب الأوّل: كلام زياد وولده 5
الباب الثاني: كلام الحجاج 17
الباب الثالث: كلام الأحنف 33
الباب الرابع: كلام المهلب وولده 43
الباب الخامس: كلام أبي مسلم 49
الباب السادس: كلام جماعة من الأمراء 53
الباب السابع: فضول الكتاب والوزراء وتوقيعات ونكت من كلامهم ونوادر لهم 56
فصل لأحمد بن يوسف 65
الباب الثامن: نكت مستحسنة للقضاة 87
الباب التاسع: كلام الحسن البصري 117
الباب العاشر: نكت من كلام الشّيعة 136
الباب الحادي عشر: كلام الخوارج 142
خطبة قطري ابن الفجاءة 144
الكشف عن مناهج أصناف الخوارج 153
ذكر ألقاب فرقهم مع جمل من مذاهبهم 153
الباب الثاني عشر: الغلط والتّصحيف 158
الحروف التي ذكر أن حمّادا صحّفها من القرآن 164
ونذكر الآن بعض ما أخذ على العلماء من التّصحيف 165
هذه حروف وكلمات من المصحف الذي يستعمله الناس عمدا لا سهوا 173
ومن هذا الجنس حروف وكلمات من المصحف عمدا لا سهوا 174
الباب الثالث عشر: نوادر من النحو واللحن 176(5/233)
الباب الرابع عشر: نوادر المخنثين 184
الباب الخامس عشر: نوادر اللاطة 196
الباب السادس عشر: نوادر البغائين 203
الباب السابع عشر: نوادر جحا 207
الباب الثامن عشر: نوادر أشعب 212
الباب التاسع عشر: نوادر السّؤّال 216
الباب العشرون: نوادر المعلمين 220
الباب الحادي والعشرون: نوادر الصّبيان 226
الباب الثاني والعشرون: نوادر للعبيد والمماليك 229(5/234)
الجزء السادس
المقدمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم وأنعمت فزد، الحمد لله الذي إذا أراد شيئا قدّره تقديرا، وكان خلقه عليه يسيرا {إِنَّمََا أَمْرُهُ إِذََا أَرََادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (82) [يس: 82]. خلق ورزق، وقد أبدأ وعلّم، وألهم وسدّد، وأرشد وبشّر، وأنذر ووعد وأوعد، خلقنا بحكمته البالغة، ورزقنا من نعمته السّابغة، وذرأنا بقوّته القاهرة، وبرأنا بقدرته الباهرة، وعلّمنا رشد الدّين، وألهمنا برد اليقين، وسدّدنا للنّهج القويم، وأرشدنا إلى الصّراط المستقيم، وبشّرنا بشوابه العظيم، وأنذرنا بعقابه الأليم، ووعدنا على الطّاعة خيرا دائما، وأوعدنا عن المعصية شرّا، وبعث إلينا رسله الداعين إليه، الدّالّين عليه، نادين إلى فرضه، قائمين بحقّه في أرضه، واجتبى منهم محمدا صلى الله عليه وعلى آله واصطفاه واختاره لدينه وارتضاه فبعثه إلى الأسود والأحمر، والفصيح والأعجم، والمؤمن والمعاند، والمقر والجاحد، والدّاني والشّاحط (1)، والرّاضي والسّاخط، والبر والفاجر، والمسلم والكافر، حتى أوضح لهم الدّين، وأرشدهم أجمعين، فوجبت فرية الثواب لمن استجاب فاهتدى. وحقّت كلمة العذاب على من ارتاب فاعتدى، وسعد من سمع دعاءه فأقرّ وقرّ، وشقي من صم عنه فنفر وفرّ، بعثه تعالى بكلمة الصّدق وأرسله بالهدى ودين الحق، وأيّده بالأعلام من أسرته، والنجوم من عترته، والسّابقين إلى صحبته ونصرته، حجج الله على الخلق، وسيوفه على المارقين من الحق، جاهدوا في الله حقّ الجهاد، وأذلّوا أهل الشقاق والعناد، حتى قال عز من قائل:
{يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللََّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (64) [الأنفال: 64]، اللهم فصلّ عليه وعليهم صلاة أوجبتها لهم بإحسانك العميم، واستوجبوها منك باجتهادهم
__________
(1) الشاحط: البعيد.(6/3)
العظيم، إنّك أنت السميع المجيب اللهمّ وفّقنا لاتّباع أمرك، وأعنّا على أعباء شكرك، ولا تحرمنا الشكر إذا أوليت، والأجر إذا أبليت، واجعل توفيقك لنا رائدا وقائدا وهاديا وحاديا وموافقا ومرافقا ومعينا وقريبا، فلا حول إلا بك ولا توفيق إلا منك، ولا عصمة إلا إذا عصمت، ولا سلامة إلا إذا سلّمت فأقرن لنا سلامة النفس بسلامة اليقين، وسعادة الدنيا وسعادة يوم الدين، وصل على السراج المنير والنور المستبين محمد خاتم النبيين وعلى آله الطاهرين.
هذا هو الفصل السادس من كتاب نثر الدر ويشتمل على ستة عشر بابا:
الباب الأول: فيه نكت من كلام فصيح الأعراب.
الباب الثاني: فيه فقر وحكم للأعراب.
الباب الثالث: أدعية وكلام لسؤّال الأعراب.
الباب الرابع: في أمثال العرب.
الباب الخامس: في النجوم وأنواعها على مذهب العرب.
الباب السادس: أسجاع الكهان العرب.
الباب السابع: أوابد العرب.
الباب الثامن: وصايا العرب.
الباب التاسع: أسامي أفراس العرب.
الباب العاشر: أسامي سيوف العرب.
الباب الحادي عشر: نوادر الأعراب.
الباب الثاني عشر: أمثال العامّة والسّفل.
الباب الثالث عشر: نوادر أصحاب الشراب والسّكارى.
الباب الرابع عشر: في أكاذيب العرب وغيرهم.
الباب الخامس عشر: في نوادر المجّان.
الباب السادس عشر: نوادر في الضراط والفسّاء.(6/4)
الباب السادس عشر: نوادر في الضراط والفسّاء.
الباب الأول نكت من فصيح كلام العرب وخطبهم
حدّثنا الصاحب كافي الكفاة (1) رحمة الله عليه عن الأبجر عن ابن دريد (2)
عن عمّه عن ابن الكلبي (3) عن أبيه (4). قال: ورد بعض بني أسد من المعمّرين على معاوية (5)، فقال له: ما تذكر؟ قال: كنت عشيقا لعقيلة من عقائل الحيّ، أركب لها الصّعب والذّلول، أتهم وأنجد وأغور لا آلو مربأة في متجر إلا أتيته، يلفظني الحزن إلى السهل، فخرجت أقصد دهماء الموسم، فإذا أنا بقباب سامية على قلل الجبال مجللة بأنطاع الطائف وإذا جزر تنحر، وأخرى تساق، وإذا رجل جهوريّ الصوت على نشز من الأرض ينادي: يا وفد الله: الغداء، الغداء إلا من تغدّى فليخرج للعشاء. قال: فجهرني ما رأيت فدلفت أريد عميد الحي، فرأيته على سرير ساسم (6) على رأسه عمامة خزّ سوداء، كأنّ الشّعرى العبور، تطلع من تحتها، وقد كان بلغني عن حبر من أحبار الشام أن النبي التهامي هذا أوان مبعثه. فقلت: علّه. وكدت أفقه به. فقلت: السلام عليك يا رسول الله،
__________
(1) الصاحب كافي الكفاة: هو الصاحب إسماعيل بن عباد الطالقاني، المتوفى سنة 385هـ. تقدمت ترجمته.
(2) ابن دريد: هو محمد بن حسين بن دريد الأزدي، المتوفى سنة 321هـ، وتقدمت ترجمته.
(3) هو أبو المنذر هشام بن أبي النصر محمد بن السائب بن بشر بن عمرو، النسابة الكوفي، المعروف بابن الكلبي المتوفى سنة 204هـ، له العشرات من المصنفات، (كشف الظنون 6/ 509508).
(4) هو محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث، أبو النصر الكوفي النسابة، المعروف بابن الكلبي المتوفى بالكوفة سنة 146هـ، له تفسير القرآن (كشف الظنون 6/ 7).
(5) هو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، أبو عبد الرحمن، توفي سنة 60هـ (انظر: الإصابة 3/ 433، تهذيب التهذيب 10/ 207، تاريخ الخلفاء ص 75، كتاب الثقات 3/ 373، الطبقات الكبرى 7/ 285).
(6) الساسم، كعالم: شجر أسود، أو الآبنوس، أو الشيزى، أو شجر يعمل منه القسي.(6/5)
فقال: لست به، وكأن قد وليتني به، فسألت عنه فقيل: هذا أبو نضلة هاشم بن عبد مناف. فقلت هذا المحبّر والسناء والرفعة لا مجد بني جفنة. فقال معاوية:
أشهد أن العرب أوتيت فصل الخطاب.
وصف أعرابيّ قوما فقال: كأنّ خدودهم ورق المصاحف، وكأنّ حواجبهم الأهلّة، وكأن أعناقهم أباريق الفضّة.
دخل ضرار بن عمرو والضّبّي على المنذر بعد أن كان طعنه عامر بن مالك، فأذراه عن فرسه فأشبل عليه (1) بنوه حتى استشالوه فعندها قال: من سرّه بنوه، ساءته نفسه. فقال له المنذر: ما الذي نحاك يومئذ؟ قال: تأخير الأجل، وإكراهي نفسي على المقّ (2) الطّوال.
قال معاوية لصحار العبدي: ما هذه البلاغة التي فيكم؟ قال: شيء تجيش به صدورنا فنقذفه على ألسنتنا. فقال له رجل من عرض القوم: هؤلاء بالبسر أبصر منهم بالخطب. فقال صحار: أجل والله إنّا لنعلم أنّ الريح لتلقحه، والبرد ليعقده، وأنّ القمر ليصبغه، وأن الحرّ لينضجه، قال معاوية: فما تعدون البلاغة فيكم؟ قال: الإيجاز قال: وما الإيجاز؟ قال: أن تجيب فلا تبطىء، وتقول فلا تخطىء. قال معاوية: أو كذا لي تقول؟ قال صحار: أقلني يا أمير المؤمنين لا تبطىء ولا تخطىء.
تكلم صعصعة (3) عند معاوية فعرق فقال معاوية: بهرك القول؟ قال صعصعة: إن الجياد نضّاحة الماء.
قيل لبعضهم: من أين أقبلت؟ قال: من الفج العميق. قال: فأين تريد؟
قال: البيت العتيق. قالوا: وهل كان ثم من مطر؟ قال: نعم حتى عفّى الأثر، وأنضر الشجر، ودهده الحجر.
__________
(1) أشبل عليه: عطف عليه وأعانه.
(2) يقال: فرس أمقّ بيّن المقق: طويل، والمققة: الجهّال.
(3) هو صعصعة بن صوحان بن حجر بن الحارث العبدي، كان خطيبا بليغا، شهد صفين مع علي، توفي سنة 56هـ (الأعلام 3/ 205).(6/6)
قال الجاحظ (1): ومن خطباء إياد، قسّ بن ساعدة (2) الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم:
رأيته بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. وهو القائل في هذه: الآيات محكمات، مطر ونبات، وآباء وأمهات، وذاهب وآت، ونجوم تمور وبحار لا تغور، وهو القائل: يا معشر إياد: أين ثمود وعاد؟ أين الآباء والأجداد؟ وأين المعروف الذي لم يشكر؟ وأين الظلم الذي لم ينكر؟ أقسم قس قسما إن لله لدينا هو أرضى له وأفضل من دينكم هذا.
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الأهتم عن الزبرقان بن بدر فقال: إنه لمانع لحوزته، مطاع في أدنيه قال الزبرقان حسدني يا رسول الله ولم يقل الحق. قال عمرو: وهو والله زمر (3) المروءة، ضيّق العطن، لئيم الخال. فنظر النبي صلى الله عليه وسلم في عينيه فقال: يا رسول الله رضيت. فقلت: أحسن ما علمت، وعضبت. فقلت:
أسوأ ما علمت وما كذبت في الأولى وصدقت في الأخرى فقال صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحرا.
وكان عامر بن الظّرب العدواني حكما وكان خطيبا رئيسا وهو الذي قال:
يا معشر عدوان، الخير ألوف عروف ولن يفارق صاحبه حتى يفارقه، وإني لم أكن حكيما حتى اتبعت الحكماء ولم أكن سيدكم حتى تعبدت لكم.
قال بعضهم، قلت لأبي الحصين: ما أعجب ما رأيت من الخصب؟
قال: كنت أشرب رثيئة (4) تجرّها الشفتان جرّا، وقارصا إذا تجشّأت جدع أنفي، ورأيت الكمأة تدوسها الإبل بمناسمها، وخلاصة يشمّها الكلب فيعطس.
__________
(1) هو عمرو بن بحر بن محبوب الكناني، المتوفى سنة 255هـ، تقدمت ترجمته.
(2) هو قس بن ساعدة الإيادي، من كبار الخطباء العرب وحكمائهم في الجاهلية، كان أسقف نجران، قيل: إنه أول عربي خطب وهو يتوكأ على سيف أو على عصا، وأوّل من استعمل في كلامه «أما بعد»، عمّر طويلا، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم في عكاظ (معجم الشعراء الجاهليين ص 293).
(3) الزّمر ككتف: القليل المروءة.
(4) رثأ اللبن، كمنع: حلبه على حامض فخثر، وهو الرثيئة.(6/7)
قيل لأعرابي: ما وراءك؟ قال: خلّفت أرضا تتظالم معزاها يقول: سمنت، وأشرت، فتظالمت.
قال سعيد بن سلم: كنت واليا بأرمينيّة فغبر أبو دهمان الغلّابي على بابي أيّاما فلما وصل مثل بين يديّ قائما بين السّماطين فقال: إني والله لأعرف أقواما لو علموا أن سفّ التراب يقيم من إصلاح أولادهم لجعلوه مسكة (1) لأرقامهم (2)
إيثارا للتنزه عن عيش رقيق الحواشي، أما والله إني لبعيد الوثبة، بطيء العطفة، إنه والله ما يثنيني عليك إلا مثل ما يصرفك عني، ولأن أكون مقلّا مقرّبا، أحبّ إليّ من أن أكون مكثرا مبعدا والله ما نسأل عملا لا نضبطه ولا مالا إلا ونحن أكثر منه، إن هذا الأمر الذي صار في يدك، قد كان في يد غيرك، فأمسوا ولله حديثا، إن خيرا فخيرا، وإن شرّا فشرّا فتحبّب إلى عباد الله. يحسن البشر ولين الجانب، فإن حبّ عباد الله موصول بحبّ الله، وبغضهم موصول ببغض الله وهم شهداء الله على خلقه، ورقباء على من اعوجّ عن سبيله.
دخل على المهدي (3) وفود خراسان فقام رجل منهم فقال: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، إنا قوم نأينا عن العرب، وشغلتنا الحروب عن الخطب، وأمير المؤمنين يعرف طاعتنا، وما فيه مصلحتنا، فيكتفي منّا باليسير دون الكثير، ويقتصر منا على ما في الضمير دون التفسير فقال أنت خطيب القوم.
قال أبو عمرو بن العلاء (4): رأيت أعرابيّا بمكة فاستفصحته فقلت ممّن الرجل؟ قال: أسديّ يريد أزديّ قلت: أين بلدك؟ قال: عمان قلت: صف لي بلدك، فقال: بلد صلدح، وكثيب أصبح، وفضاء صحصح قلت: ما مالك؟
قال: النخل. قلت: أين أنت من الإبل؟ قال: إن النخل ثمرها غذاء، وسعفها ضياء وكربها صلاء وليفها رشاء، وجذعها بناء، وقرؤها إناء قلت: أنّى لك هذه
__________
(1) المسكة: ما يمسك الأبدان من طعام وشراب.
(2) الأرماق: جمع رمق، وهو بقية الحياة.
(3) المهدي: هو محمد بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي العباسي أبو عبد الله، المهدي بالله، من خلفاء الدولة العباسية في العراق، توفي سنة 169هـ (الأعلام 6/ 221).
(4) أبو عمرو بن العلاء: هو زبان بن عمار التميمي المازني البصري، أبو عمرو، من أئمة اللغة والأدب، أحد القراء السبعة، توفي سنة 154هـ (الأعلام 3/ 41).(6/8)
الفصاحة؟ قال: إنا ننزل حجرة لا نسمع فيها ناجخة التيار.
وخطب بعض الأعراب فقال: إن الدنيا دار بلاغ، والآخرة دار قرار، أيها الناس خذوا من ممرّكم لمقرّكم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، واخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها حييتم ولغيرها خلقتم، اليوم عمل بلا حساب وغدا حساب بلا عمل، إن الرجل إذا هلك قال الناس: ما ترك؟ وقالت الملائكة: ما قدّم؟ فلله آباؤكم قدّموا بعضا يكن لكم قرضا، ولا تخلّفوا كلّا فيكون عليكم.
قيل لبني عبس: كيف كنتم تصنعون؟ قالوا: كنا لا نبدأ أبدا بظلم، ولم نكن بالكثير فنتوكل، ولا بالقليل فنتخاذل، وكنا نصبر بعد جزع الناس ساعة.
وسئل دغفل عن المماليك فقال: عزّ مستفاد، وغيظ في الأكباد كالأوتاد.
قال أبو بكر لسعيد، أخبرني عن نفسك في جاهليتك وإسلامك فقال، أما جاهليتي فو الله ما خمت عن بهمة، ولا هممت بأمة ولا نادمت غير كريم، ولا رئيت إلا في خيل مغيرة أو في حمل جريرة، أو في نادي عشيرة، وأما مذ خطمني الإسلام فلن أذكّي لك نفسي.
قال رجل لغلامه، إنك ما علمت لضعيف قليل الغناء. قال: وكيف أكون ضعيفا قليل الغناء، وقد كفيتك ثمانين بعيرا نزوعا، وفرسا جرورا ورمحا خطيا وامرأة فاركا.
قيل لأعرابي: صف لنا خلوتك مع عشيقتك قال: خلوت بها والقمر يرينيها، فلما غاب القمر أرتنيه، قيل: فما أكثر ما جرى بينكما؟ قال: أقرب ما أحلّ الله مما حرّم، الإشارة بغير بأس، والتعرض لغير مساس، ولئن كانت الأيام طالت بعدها، لقد كانت قصيرة معها.
وذكر بعضهم مسجد الكوفة فقال: شاهدنا في هذا المسجد قوما كانوا إذا خلعوا الحذا، عقدوا الحبا (1)، وقاسوا أطراف الأحاديث حيّروا السامع وأخرسوا الناطق.
__________
(1) احتبى بالثوب: اشتمل، أو جمع بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها، والاسم: الحبوة، ويضم والحبية، بالكسر، والحباء، بالكسر والضم.(6/9)
دخل عبد الله بن عبد الله بن الأهتم، على عمر بن عبد العزيز مع العامة فلم يفاجأ عمر إلا وهو ماثل بين يديه، فتكلم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد فاإن الله خلق الخلق غنيّا عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم، والنّاس يومئذ في المنازل والرأي مختلفون، والعرب بشرّ تلك المنازل، أهل الحجر والوبر، وأهل المدر الذين تحتار دونهم طيبات الدنيا، ورفاغة عيشتها، ميتهم في النار، وحيّهم أعمى مع ما لا يحصى من المرغوب عنه، والمزهود فيه، فلمّا أراد الله أن ينشر عليهم رحمته، بعث إليهم رسولا من أنفسهم عزيزا عليه ما عنتوا، حريصا عليهم، بالمؤمنين رؤوفا رحيما، فلم يمنعهم ذلك من أن جرّحوه في جسمه، ولقّبوه في اسمه، ومعه كتاب من الله ناطق، لا يرحل إلا بأمره، ولا ينزل إلا بإذنه، واضطروه إلى بطن غار، فلما أمر بالعزيمة، انبسط لأمر الله لونه، فأفلح الله حجّته، وأعلى كلمته، وأظهر دعوته، وفارق الدنيا تقيا نقيا، ثم قام بعده أبو بكر فسلك سنّته، وأخذ بسبيله، وارتدّت العرب، فلم يقبل منهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الذي كان قابلا منهم، فانتضى السيوف من أغمادها، وأوقد النيران من شعلها، ثم ركب بأهل الحق إلى أهل الباطل، فلم يبرح يفصّل أوصالهم ويسقي الأرض دماءهم حتى أدخلهم في الذي خرجوا منه وقرّرهم بالذي نفروا منه، وقد كان أصاب من مال الله بكرا (1)، يرتوى عليه، وحبشية ترضع ولدا له، فرأى من ذلك غصّة عند موته في حلقه، فأدّى ذلك إلى خليفة من بعده وبرىء إليهم منه، وفارق الدنيا تقيا نقيا على منهاج صاحبه ثم قام من بعده عمر بن الخطاب فمصّر الأمصار، وخلط الشّدّة باللّين، فحسر عن ذراعيه، وشمّر عن ساقيه، وأعدّ للأمور أقرانها، وللحرب آلتها، فلما أصابه قن المغيرة (2) استهل بحمد الله ألا يكون أصابه ذو حقّ في الفيء فيستحل دمه بما استحق من حقّه، فقد كان أصاب من مال الله مائة وثمانين ألفا فكسر بها رباعه، وكره بها كفالة أولاده، فأوى ذلك إلى خليفة من بعده، وفارق الدنيا تقيا نقيا
__________
(1) البكر: الفتي من الإبل.
(2) قنّ المغيرة: القنّ العبد، وهو أبو لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبة الذي طعن الخليفة عمر بن الخطاب في المحرم سنة 24هـ.(6/10)
على منهاج صاحبيه، ثم إنا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ظلع (1)، ثم إنك يا عمر ابن الدنيا ولدتك ملوكها، وألقمتك ثديها، فلما ولّيتها ألقيتها حيث ألقاها الله، فالحمد لله الذي جلا بك حوبتنا (2)، وكشف بك كربتنا، امض ولا تلتفت، فإنه لا يعزّ على الحق شيء، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات، ولما أن قال: ثم إنّا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ظلّع سكت الناس إلا هشاما فإنه قال: كذبت.
قال الأصمعي (3): كان حبيب الروم يقول في قصصه: اتّقوا لقية من خنع فقنع واقترف فاعترف، ووجل فعمل، وحاذر فبادر، أفاد ذخيرة، وأطاب سريرة، وقدّم مهادا واستظهر ذادا.
لما وصل عبد العزيز بن زرارة إلى معاوية قال: يا أمير المؤمنين: لم أزل أستدل بالمعروف عليك، أمتطي النهار إليك، فإذا ألوى بي الليل فقبض البصر وعفّي الأثر، أقام بدني، وسافر أملي، والنفس تلوّم والاجتهاد يعذر وإذا بلغتك فقطني.
قال أعرابي: خرجت حين انحدرت أيدي النجوم، وشالت أرجلها فما زلت أصدع الليل، حتى انصدع الفجر.
سئل أعرابي عن زوجته وكان حديث عهد بعرس كيف رأيت أهلك؟
فقال: أفنان أثلة (4)، وجنى نخلة، ومسّ رملة، ورطب نخلة، وكأنّي كلّ يوم آئب من غيبة.
وصف آخر مرح فرس فقال: كأنه شيطان في أشطان (5). وقيل لآخر:
كيف عدو فرسك؟ قال: يعدو ما وجد أرضا.
__________
(1) الظالع: المتّهم والمائل، للمذكر والمؤنث.
(2) الحوبة: الهمّ والحاجة.
(3) الأصمعي: هو عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي، المتوفى سنة 216هـ، تقدمت ترجمته.
(4) الأثلة: الشجرة الطويلة المستقيمة.
(5) الأشطان: جمع شطن، وهو الحبل الطويل تربط به الدابة.(6/11)
وقال الآخر لأخيه ورأى حرصه على الطلب: يا أخي، أنت طالب ومطلوب، يطلبك من لا تفوته، وتطلب ما قد كفيته، فكأنّ ما غاب عنك قد كشف لك، وما أنت فيه قد نقلت عنه. يا أخي: كأنك لم تر حريصا محروما، ولا زاهدا مرزوقا.
ذمّ أعرابي رجلا، فقال: أنت والله ممّن إذا سأل ألحف (1) وإذا سئل سوّف (2)، وإذا حدّث خلف، وإذا وعد أخلف تنظر نظرة حسود، وتعرض إعراض حقود.
قال بعضهم: مضى سلف لنا اعتقدوا مننا، واتّخذوا الأيادي عند إخوانهم ذخيرة لمن بعدهم، وكانوا يرون اصطناع المعروف عليهم فرضا وإظهار البر والإكرام عندهم حقّا واجبا، ثم حال الزمان عن نشء آخر حدثوا، اتخذوا منهم صناعة، وأياديهم تجارة، وبرّهم مرابحة، واصطناع المعروف بينهم مقارضة، كنقد السوق، خذ منّي وهات.
افتتح بعضهم خطبة فقال: بحمد الله كبرت النّعم السوابغ، والحجج البوالغ، بادروا بالعمل، بوادر الأجل، وكونوا من الله على وجل، فقد حذّر وأنذر، وأمهل حتى كأن قد أهمل.
وفد هانىء بن قبيصة على يزيد بن معاوية، فاحتجب عنه أياما ثم إن يزيد ركب يوما يتصيّد، فتلقّاه هانىء فقال: إن الخليفة ليس بالمحتجب المتخلّي، ولا بالمتطرّف المتنحّي، ولا الذي ينزل على العدوات والفلوات، ويخلو باللذات والشهوات، وقد وليت أمرنا، فأقم بين أظهرنا، وسهّل إذننا واعمل بكتاب الله فينا، فإن كنت عجزت عمّا ها هنا، واخترت عليه غيره، فازدد علينا بيعتنا، نبايع من يعمل بذلك فينا ونقمه، ثم عليك بخلواتك، وصيدك وكلابك، قال: فغضب يزيد وقال: والله لولا أن أسنّ بالشام سنّة العراق لأقمت أودك. ثم انصرف وما هاجه بشيء وإذن له ولم تتغيّر منزلته عنده، وترك كثيرا مما كان عليه.
كان العياشي يقول: الناس لصاحب المال ألزم من الشعاع للشمس ومن
__________
(1) ألحف: ألحّ.
(2) سوّف: ماطل.(6/12)
الذّنت للمصرّ، ومن الحكم للمقر، وهو عندهم أرفع من السماء، وأعذب من الماء، وأحلى من الشهد، وأذكى من الورد، خطؤه صواب، وسيّئته حسنة، وقوله مقبول، يغشى مجلسه، ولا يمل حديثه، قال: والمفلس عند الناس أكذب من لمعان السّراب، ومن رؤيا الكظّة، ومن مرآة اللّقوة ومن سحاب تموز، ولا يسأل عنه إن غاب، ولا يسلّم عليه إن قدم، إن غاب شتموه، وإن حضر زبروه، وإن غضب صفعوه، مصافحته تنقض الوضوء، وقراءته تقطع الصلاة، أثقل من الأمانة، وأبغض من الملحف المبرم.
قال أعرابي: خرجت في ليلة حندس (1) قد ألقت أكارعها على الأرض فمحت صور الأبدان، فما كنا نتعارف إلا بالأذان، فسرنا حتى أخذ الليل ينفض صبغة.
بعث النعمان جيشا إلى الحارث بن أبي شمر فقال: من يعرف عدوّنا الذي أنفذنا إليه جيشنا؟ فقال بعض بني عجل: أنا، قلت: فصفه قال: هو قطف نطف، صلف قصف، فقام الوديم، وهو عمرو بن ضرار فقال: أبيت اللعن، أو طاك العشوة (2)، هو والله حليم النشوة، جواد الصحوة شديد السطوة، فقال:
هكذا ينبغي أن يكون عدوّنا.
سئل أعرابي من عبس عن ولده، فقال: ابن قد كهل، وابن قد رفل (3)، وابن قد عسل (4)، وابن قد فسل (5)، وابن قد مثل (6)، وابن قد فصل (7).
قال الأصمعي: قيل لبني عبس: كيف صبرتم، وكيف كانت حالكم فيما كنتم فيه؟ قالوا: طاحت والله الغرائب من النساء، فما بقي إلا بنات عم، وما بقي معنا من الإبل إلّا الحمر الكلف، وما بقي من الخيل إلا الكميت الوقاح (8)،
__________
(1) الحندس: الشديد الظلمة.
(2) أوطاك العشوة: أي حملك على أمر غير رشيد.
(3) رفل: عاش عيشة رغيدة واسعة، وحتى جرّ ذيله وتبختر.
(4) عسل: أي جعل أدمه العسل.
(5) فسل: ضعف ورذل.
(6) مثل: قام وانتصب.
(7) فصل: فطم.
(8) الكميت: الذي خالط حمرته قنوء، والذي فيه سواد وحمرة. والوقاح: الخيل ذو الحافر الصلب.(6/13)
وطاح ما سوى ذلك من الأهلين والمال.
وذم أعرابي قوما فقال: بيوت تدخل حبوا إلى غير نمارق، وشبارق فصح الألسنة، بردّ السائل، جذم الأكفّ عن النائل.
قال الأصمعي: حججت فبينا أنا بالأبطح إذا شيخ في سحق (1) عباء، صعل الرأس (2)، أثطّ (3) أخرز أزرق، كأنما ينظر من فصّ زجاج أخضر، فسلّمت فردّ عليّ التحية، فقلت: ممّن الشيخ؟ قال: من بني حمزة بن بكر بن عبد مناف بن كنانة. قلت: فما الاسم؟ قال: خميصة بن قارب. ثم أعرابي أنت؟
قلت: نعم، قال: من أية؟ قلت: من أهل بصرة قال: فإلى من تعتزي؟ قلت قيس بن غيلان، قال: لأيهم؟ قلت: أحد بني يعصر، وأنا أقلّب ألواحا معي.
قال: ما هذه الخشبات المقرونات قلت: اكتب فيهم ما أسمع من كلامكم. قال:
وإنكم مختلّون إلى ذلك. قلت: نعم، وأي خلّه. ثم صمت مليا ثم قال في وصف قومه: كانوا كالصخرة الصلادة تنبو عن صفحاتها المعاول ثم زحمها الدهر بمنكبه فصدعها صدع الزجاجة ما لها من جابر، فأصبحوا شذر مذر، أيادي سبأ، وربّ يوم، والله عارم قد أحسنوا تأديبه، ودهر غاشم قد قوّموا صعره، ومال صامت قد شتّتوا تألّفه، وخطة بؤس قد حسمها إحسانهم، وحرب عبوس ضاحكتها ألسنتهم، أما والله يا أخا قيس، لقد كانت كهولهم جحاجح (4)
وشبابهم مراجح (5)، ونائلهم مسفوح، وسائلهم ممنوح، وجنانهم ربيع، وجازهم منيع. فنهضت لأنصرف فأصرّ بمجامع ذيلي وقال: أجلس فقد أخبرتك عن قومي حتى أخبرك عن قومك فقلت في نفسي: إن الله يشيّد في قيس والله وصمة تبقى على الدهر. فقلت: حسبي، لا حاجة لي إلى ذكرك قومي قال: بلى، هم والله هضبة ململمة العزّ أركانها والمجد أحضانها، تمكّنت في الحسب العدّ، تمكّن الأصابع في اليد، فقمت مسرعا مخافة أن يفسد عليّ ما سمعت.
__________
(1) السحق: الثوب البالي.
(2) صعل الرأس: الرقيق الرأس.
(3) الأثطّ: القليل شعر اللحية والحاجبين.
(4) الجحاجح: جمع جحجاح، وهو السيد الكريم.
(5) المراجح: جمع مرجح، وهو الحكيم الراجح العقل.(6/14)
قال أعرابيّ لقومه وقد ضافوا بعض أصحاب السلطان: يا قوم لا أغرّكم من نشّاب معهم، في جعاب كأنها نيوب الفيلة، وقسيّ كأنها العتل (1) ينزع أحدهم حتى يتفرّق شعر إبطه، ثم يرسل نشّابه كأنها رشاء منقطع فما بين أحدكم وبين أن يصدع قلبه منزلة! قال: فصاروا والله رعبا قبل اللقاء.
ذكر أعرابي امرأة فقال: رحم الله فلانة إن كانت لقريبة بقولها بعيدة بفعلها، يكفّها عن الخنى أسلافها، ويدعونا إلى الهوى كلامها كانت والله تقصر عليها العين ولا يخاف من أفعالها الشّين.
وصف أبو العالية امرأة فقال جاء بها والله كأنّها نطفة عذبة في شنّ خلق ينظر إليه الظمآن في الهاجرة.
قال أبو عثمان: رأيت عبدا أسود لبني أسيد قدم علينا من شق اليمامة فبعثوه ناطورا وكان وحشيا يغرب في الإبل، فلما رآني سكن إليّ، فسمعته يقول: لعن الله بلادا ليس بها عرب، قاتل الله الشاعر حيث يقول (2): [الرجز]
حرّ الثّرى مستغرب التراب
إن هذه العريب في جميع الناس، كمقدار القرحة في جلد الفرس فلولا أن الله رقّ عليهم فجعلهم في حشاه، لطمست هذه العجمان آثارهم، أترى الأعيار إذا رأت العتاق لا ترى لها فضلا، والله ما أمر نبيّه بقتلهم إلا لضنّه بهم ولا ترك قبول الجزية منهم إلا لتركها لهم.
قال حصن بن حذيفة: إياكم وصرعات البغي، وفضحات المزاح.
وقف جبّار بن سلمى على قبر عامر بن الطّفيل فقال: كان والله لا يضلّ حتى يضلّ النّجم، ولا يعطش حتى يعطش البعير، ولا يهاب حتى يهاب السّيل،
__________
(1) العتل: جمع عتلة، وهي المدرة الكبيرة تنقلع من الأرض، وحديدة كأنها رأس فأس، أو العصا الضخمة من حديد، لها رأس مفلطح يهدم بها الحائط، والهراوة الغليظة، والقوس الفارسية.
(2) يروى الرجز بلفظ:
جعد الثرى مستعرب بالتراب
والرجز لجندل بن المثنى الطهوي في أساس البلاغة (عرب).(6/15)
وكان والله خير ما يكون حين لا تظنّ نفس بنفس خيرا.
قيل لشيخ: ما صنع بك الدّهر فقال: فقدت المطعم وكان المنعم واجمت النساء وكنّ الشفاء، فنومي سبات، وسمعي خفات، وعقلي تارات.
وسئل آخر فقال: ضعضع قناتي، وأوهن شواتي وجرّأ عليّ عداتي.
صعد أعرابي منبرا، فلما رأى الناس يرمقونه صعب عليه الكلام فقال:
رحم الله عبدا قصّر من لفظه، ورشق الأرض بلحظه، ووعى القول بحفظه قدم وفد من العراق على سليمان بن عبد الملك فقام خطيبهم فقال: يا أمير المؤمنين، ما أتيناك رهبة، ولا رغبة، فقال سليمان: فلم جئت لا جاء الله بك.
قال: نحن وفود الشّكر، أما الرغبة فقد وصلت إلينا في رحالنا، وأما الرهبة فقد أمنّاها بعدلك، ولقد حبّبت إلينا الحياة، وهونت علينا الموت، فأما تحبيبك الحياء إلينا فبما انتشر من عدلك وحسن سيرتك وأما تهوينك علينا الموت فلما نثق به من حسن ما تخلفنا به في أعقابنا الذين تخلّفهم عليك. فاستحيى سليمان وأحسن جائزته.
ذكر أعرابي في ظلم وال، وليهم فقال: ما ترك لنا فضة إلا فضّها ولا ذهبا إلا ذهب به، ولا غلّة إلا غلّها ولا ضيعة إلا أضاعها، ولا عقارا إلا عقره، ولا علقا إلا اعتلقه، ولا عرضا إلا عرض له، ولا ماشية إلا امتشّها، ولا جليلا إلا جلّه، ولا دقيقا إلا دقّه.
قال عمر لعمرو بن معدي كرب: أخبرني عن قومك. فقال: نعم القوم قومي، عند الطعام المأكول والسيف المسلول.
دخل خالد بن صفوان التميمي على السفاح وعنده أخواله من بني الحارث بن كعب فقال: ما تقول في أخوالي؟ قال: هم هامة الشرف وخرطوم الكرم، وغرس الجود، إنّ فيهم لخصالا ما اجتمعت في غيرهم من قومهم، إنهم لأطولهم أمما، وأكرمهم شيما، وأطيبهم طعما، وأوفاهم ذمما، وأبعدهم همما، هم الجمرة في الحرب، والرّفد (1) في الجدب، والرأس في كل خطب، وغيرهم
__________
(1) الرّفد: العطاء والصلة.(6/16)
بمنزلة العجب (1). فقال له: وصفت أبا صفوان فأحسنت. فزاد أخواله في الفخر فغضب أبو العباس لأعمامه، فقال: أفخر يا خالد؟ فقال: أعلى أخوال أمير المؤمنين؟ قال: نعم، وأنت من أعمامه، فقال: وكيف أفاخر قوما هم بين ناسج برد وسائس قرد، ودابغ جلد، وراكب عرد. دلّ عليهم الهدهد (2)، وغرّقتهم فأرة، وملكتهم امرأة؟ فأشرق وجه أبي العباس وضحك.
حدّث أن صبرة بن شيمان الحراني دخل على معاوية، والوفود عنده، فتكلّموا فأكثروا فقال صبرة: يا أمير المؤمنين، إنّا حيّ فعال، ولسنا بحيّ مقال ونحن بأدنى فعالنا عند أحسن مقالهم فقال: صدقت.
يروى أن معاوية قال لدغفل: ما تقول في بني عامر بن صعصعة؟ فقال:
أعناق ظباء، وأعجاز نساء. قال: فما تقول في بني تميم؟ قال: حجر أخشن إن صادفته آذاك، وإن تركته أعفاك. قال: فما تقول في اليمن؟ قال: سيود أبوك.
قال الجاحظ: رأيت رجلا من غنيّ يفاخر رجلا من بني فزارة ثم أحدّ بني بدر بن عمرو، وكان الغنويّ متمكّنا من لسانه، وكان الفزاريّ بكيّا فقال الغنويّ:
ماؤنا بين الرقم إلى كذا، وهم جيراننا فيه، فنحن أقصر منهم رشاء، وأعذب منهم ماء، لنا ريف السهول ومعاقل الجبال، وأرضهم سبخة، ومياههم أملاح، وأرشيتهم طوال، والعرب من عزّ بزّ فبعزّنا ما تخيّرنا عليهم، وبذلّهم ما رضوا عنا بالضّيم.
ذكر حجل بن نضلة بين يدي النعمان معاوية بن شكل فقال: أبيت اللعن إنه لقعوّ الأليتين، مقبل النعلين، مشّاء بأقراء، تبّاع إماء قتّال ظباء. فقال النعمان: أردت أن تذيمه فمدهته.
__________
(1) العجب: أصل الذّنب ومؤخّر كل شيء.
(2) يشير إلى قصة سليمان عليه السلام مع سبأ، وإرشاد الهدهد إليهم، قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقََالَ مََا لِيَ لََا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كََانَ مِنَ الْغََائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذََاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطََانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقََالَ أَحَطْتُ بِمََا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} (22) [النمل: 20 22].(6/17)
لما ظفر المهلّب (1) بالخوارج وجّه كعب بن معدان إلى الحجاج فسأله عن بني المهلّب فقال المغيرة فارسهم وسيّدهم، وكفى بيزيد فارسا شجاعا، وسخيّهم قبيصة، ولا يستحي الشّجاع أن يفرّ من مدرك، وعبد الملك سمّ ناقع، وحبيب موت ذعاف، ومحمّد ليث غاب، وكفاك بالمفضل نجدة. قال: فكيف خلفت جماعة الناس؟ قال: خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا. قال:
وكيف كان بنو المهلّب فيهم؟ قال: كانوا حماة السرج نهارا، فإذا اليلوا ففرسان البيات. قال: فأيّهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفها. قال: فكيف كنتم أنتم وعدوكم؟ قال: كنا إذا أخذنا عفونا جدّوا فيئسنا منهم، وإذا اجتهدوا واجتهدنا طمعنا فيهم، فقال الحجاج: إن العاقبة للمتقين.
كيف أفلتكم قطري (2)؟ قال: كدناه ببعض ما كادنا به، فصرنا منه إلى التي نحب. قال: فهلّا اتبعتموه؟ قال: كان الحد عندنا أثرا من الفلّ. قال: فكيف كان لكم المهلب وكنتم له؟ قال: كان لنا منه شفقة الوالد، وله منابر الولد.
قال: فكيف اغتباط الناس؟ قال: فشا فيهم الأمن، وشملهم النّفل، قال: أكنت أعددت هذا الجواب؟ قال: لا يعلم الغيب إلّا الله عزّ وجلّ. فقال: هكذا والله يكون الرجال، المهلّب كان أعلم بك حيث وجّهك.
وقال عمر لمتمّم بن نويرة (3): إنك لجزل، فأين كان أخوك منك؟ قال:
__________
(1) هو المهلب بن أبي صفرة ظالم بن سراق الأزدي العتكي. أبو سعيد، أمير بطاش جواد، حارب الخوارج الأزارقة وظفر بهم، قال فيه عبد الله بن الزبير: هو سيد أهل العراق، توفي سنة 83هـ (الأعلام 7/ 315).
(2) هو قطري بن الفجاءة، واسمه جعونة بن مازن بن يزيد الكناني المازني التميمي، من رؤساء الخوارج وأبطالهم توفي سنة 58هـ (الأعلام 5/ 200).
(3) متمم بن نويرة: هو أبو نهشل متمم بن نويرة بن جمرة بن شداد بن عبيد بن ثعلب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، من سادات قومه وأشرافهم وفرسانهم وشعرائهم، شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، فأسلم، وحسن إسلامه وعدّ من الصحابة، يقال له: أبو نهشل، وأبو تميم، وأبو إبراهيم، أخوه مالك بن نويرة الملقب «بالجفول» وهو الذي قتله ضرار بن الأزور بأمر خالد بن الوليد، فرثاه متمم بقصيدة شهيرة. قدم متمم على أبي بكر الصديق فأنشده مراثي أخيه مالك وناشده في دمه وفي سبيهم فردّ أبو بكر إليه السبي، وأغلظ عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد في أمر مالك، وعذره أبو بكر.
توفي متمم بن نويرة نحو سنة 30هـ (معجم الشعراء المخضرمين والأمويين ص 422).(6/18)
كان والله يخرج في الليلة الصّنبر (1) يركب الجمل الثّفال (2)، ومجنب الفرس الحرور، وفي يده الرّمح الخطّيّ، وعليه الشّملة الفلوت (3) وهو بين المزادتين حتى يصبح، فيصبح متبسّما.
يروى أن خالد بن صفوان دخل على يزيد بن المهلب وهو يتغدى فقال:
ادن فكل، فقال: أصلح الله الأمير لقد أكلت أكلة لست ناسيها، قال: وما أكلت؟ قال: أتيت ضيعتي لإبّان الأغراس، وأوان العمارة فجلت فيها جولة حتى إذا صحرت الشمس، وأزمعت بالركود، ملت إلى غرفة لي هفافة، في حديقة قد فتحت أبوابها، ونضح بالماء جوانبها وفرشت أرضها بألوان الرياحين من بين ضيمران (4) نافخ، وسمسق (5) فائح، وأقحوان زاهر، وورد ناضر، ثم أتيت بخبز أرز كأنه قطع العقيق، وسمك جراني بيض البطون، زرق العيون، سود المتون، عراض السّرر: غلاظ القصر، ودقة وخلول، ومري وبقول، ثم أتيت برطب أصفر صاف غير أكدر لم تبتدله الأيدي، ولم تهتشمه كيل المكاييل، فأكلت هذا ثم هذا، قال يزيد: يابن صفوان لألف جريب من كلامك، خير من ألف جريب مزروع.
علم المنصور ابنه صالحا خطبة فقام بها في الناس في مجلسه فلم يشيّع كلامه أحد خوفا من المهديّ، فبدأ شبّة بن عقال المجاشعي من الصف فقال:
والله ما رأيتك اليوم خطيبا أبلّ ريقا ولا أنبض عروقا ولا أثبت جنابا ولا أعذب لسانا، وقليل ذلك لمن كان أمير المؤمنين أباه والمهدي أخاه، هو كما قال الشاعر (6): [البسيط]
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدّما من صالح سبقا
__________
(1) الصنبر: الشديد الحر.
(2) الثفال: البطيء.
(3) الشملة الفلوت: التي لا تكاد تثبت على لابسها لأنها ضيقة أو قصيرة، لا ينضم طرفاها فهي تنفلت عنه كل ساعة.
(4) الضيمران: هو الريحان الفارسي.
(5) السمسق: الياسمين.
(6) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 39.(6/19)
فاستحسن كلامه وعلقه المنصور بيده.
ومن الأخبار القديمة أن لقمان بن عاد ولقيم ابنه أغارا فأصابا إبلا، ثم انصرفا نحو أهلهما، فنحرا ناقة في منزل نزلاه. فقال لقمان: أتعشّي أم أعشّي لك؟ فقال لقيم أي ذلك شئت. قال لقمان: اذهب فارع إبلك وعشّها حتى ترى النجم قمّة رأس، وحتى ترى الجوزاء كأنها قطا نوافر، وحتى ترى الشعرى كأنها نار، فإلا تكن عشيت فقد آنيت. قال له لقيم: واطبخ أنت لحم جزورك فأزّه ماء واغله حتى ترى الكراديس كأنها رؤوس شيوخ صلع، وحتى ترى اللحم يدعو غطيفا أو غنيا أو غطفان، فإن لم تكن أنضجت فقد آنيت.
ذكر عند عمر الزبيب والتمر، أيهما أطيب فقال رجل: الخبلة أفضل أم النخلة؟ فقال: الزبيب إن آكله أضرس وإن أتركه أغرث (1) ليس كالصقر في رؤوس الرقل الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل تحفة الصائم، وتحفة الكبير وصمتة الصّغير وتعلّة الصبي ونزل مريم ابنة عمران، وينضج ولا يغنّى طابخه وتحترش به الضّباب من الصلعاء.
قال: وبعث رجل بنين له يرتادون في خصب فقال أحدهم: رأيت بقلا وماء غيلا (2)، يسيل سيلا، وخوصة تميل ميلا، يحسبها الرائد ليلا، وقال الثاني: رأيت ديمة (3) على ديمة في عهاد غير قديمة، تشبع منها الناب (4) قبل الفطيمة.
وقيل لبعضهم: ما وراءك؟ قال: التراب يابس، والأرض سراب، فالمال عائس عابس.
قال خالد للقعقاع: أنافرك على أيّنا أعظم للسجاح، وأطعن بالرماح، وأنزل بالبراح قال: لا بل عن أينا أفضل أبا وأمّا وجدّا وعمّا، وقديما وحديثا، فقال خالد: أعطيت يوما من سأل وأطمعت حولا من أكل، وطعنت فارسا طعنة
__________
(1) أغرث: أجوع.
(2) الغيل: الماء الذي يجري بين الشجر.
(3) الديمة: مطر يدوم في سكون بلا رعد وبرق.
(4) الناب: الناقة المسنة.(6/20)
شككت فجذبه بجنب الفرس، فأخرج القعقاع نعلين وقال: ربع عليهما أبي أربعين مرباعا لم يثكّل فيهن تميمية ولدا.
ذكر متمم بن نويرة أخاه مالكا فقال: كان يخرج في الليل الصّنّبرة عليه الشّملة الفلوت، بين المزادتين النّضوحتين، على الجمل الثّفّال، معتقل الرّمح الخطّي، فيصبح متبسّما.
وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن الأهتم عن الزبرقان فقال: مانع لحوزته، مطاع في أدنيه فقال الزبرقان أما أنه قد علم أكثر، مما قال ولكنه حسدني شرفي. فقال عمرو: أما لئن قال ما قال فو الله ما علمته إلّا الضّيّق العطن، زمر المروءة، لئيم الخلق، حديث الغنى، فلما رأى أنه قد خالف قوله الأول ورأى النكار في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله رضيت؟ فقلت: بأحسن ما علمت وعضبت، فقلت: بأقبح ما علمت.
كانت خطبة النكاح لقريش في الجاهلية: باسمك اللهمّ ذكرت فلانة، وفلان بها شغوف لك ما سألت، ولنا ما أعطيت.
دخل الهذيل بن زفر على يزيد بن المهلّب في حمالات لزمته ونوائب نابته. فقال له: أصلحك الله قد عظم شأنك عن أن يستعان بك، ويستعان عليك، ولست تصنع شيئا من المعروف وإن عظم إلا وأنت أعظم منه، وليس العجب أن تفعل وإنما العجب ألا تفعل. فقال يزيد: حاجتك؟ فذكرها، فأمر له بها وبمائة ألف درهم فقال: أما الحمالات فقد قبلتها، وأما المال فليس هذا موضعه.
وسأل عمر رضي الله عنه عمرو بن معدي كرب عن سعد فقال: خير أمير، نبطيّ في حبوته، عربيّ في نمرته، أسد في تامورته (1) يعدل في القضيّة، ويقسم بالسّويّة، ينقل إلينا حقّنا، كما تنقل الذّرّة. فقال عمر: لسرّ ما تقارضتما الثّناء.
قيل لواحد من العرب: أين شبابك؟ فقال: من طال أمده وكثر ولده،
__________
(1) التامور: من معانيه: صومعة الراهب، وناموسه، وعرّيسة الأسد.(6/21)
ودفّ عدده، وذهب جلده ذهب شبابه.
وقال رجل من بني أسد: مات لرجل منّا ابن، فاشتد جزعه عليه، فقام إليه شيخ منا فقال: اصبر أبا مهدية، فإنه فرط أفترطته، وخير قدّمته وذخر أحرزته، فقال مجيبا له، بل ولد ودفنته، وثكل تعجّلته، وغيب وعدته والله لئن أجزع من النّقص، لم أفرح بالمزيد.
قال ابن أقيصر: خير الخيل الذي إذا استدبرته حنأ (1)، وإذا استقللته أقعى، وإذا استعرضته استوى، وإذا مشى ردى (2)، وإذا عدا دحا (3). ونظر إلى خيل عبد الرحمن ابن أم الحكم، فأشار إلى فرس منها فقال: تجيء هذه سابقة، قالوا: وكيف ذاك؟ قال: رأيتها مشت فكتفت، وخبّت فوجفت وعدت فنسفت فجاءت سابقة.
قال الحجّاج لرجل من الأزد: كيف علمك بالزرع؟ قال: إني لا أعلم من ذلك علما. قال: فأي شيء خيره؟ قال: ما غلظ قصبته وأعتمّ نبته وعظمت حبّته، قال: فأي العنب خير؟ قال: ما غلظ عموده، واخضرّ عوده، وعظم عنقوده. قال: فما خير التمر؟ قال: ما غلظ لحاه ودقّ نواه ورقّ سحاه.
وتكلّم أهل التمر وأهل الزبيب عند عمر فقال: ارسلوا إلى أبي حثمة الأنصاري، فسألوه فقال: ليس كالصّقر في رؤوس الرّقل الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، تعلّة الصّبي، ينضج ولا يعنّى طابخه به، يحترش به الضّب من الصّلعاء، ليس كالزبيب الذي إن أكلته ضرست، وإن تركته غرثت.
وقال أبو العباس لخالد بن صفوان: يا خالد إنّ الناس قد أكثروا في النساء، فأي النساء أحب إليك، قال: يا أمير المؤمنين، أحبها ليست بالضرع الصغيرة، ولا بالفانية الكبيرة، وحسبي من جمالها أن تكون فخمة من بعيد، مليحة من قريب، أعلاها قضيب، وأسفلها كثيب، غذيت في النعيم، وأصابتها
__________
(1) حنأ: انكبّ على وجهه.
(2) ردى: أي رجم الأرض رجما، وهو المشي بين الشديد والعدو.
(3) دحا: إذا كان الفرس يرى في سيره بيديه لا يرفع سنبكه عن الأرض.(6/22)
فاقة فأدّبها النعيم، وأذلّها الفقر، لم تفتك فتمجّن، الهلوك على زوجها، الحصان من جارها، إذا خلونا كنّا أهل دنيا، وإذا افترقنا كنا أهل آخرة.
قال عمارة بن عقيل: أصابتنا سنون ثلاث لم نحتلب فيهن رئلا، ولم نلقح نسلا، ولم نزرع بقلا.
تكلّم الوفود عند عبد الملك حتى بلغ الكلام إلى خطيب الأزد فقام فقبض على قائم سيفه ثم قال: قد علمت العرب أنا حيّ فعال، ولسنا بحيّ مقال، وأنا نجزي بفعلنا عند أحسن قولهم، ونعمل السيف فمن مال قوّم السيف أوده، ومن نطق الحقّ أرده. ثم جلس، فحفظت خطبته دون كل خطبة.
قال الأصمعي: بلغني عن بعض العرب فصاحة فأتيته لأسمع من كلامه فصادفته يخطب فلما رآني قال: إن الخطاب لمن مقدّمات الضّعف، ولئن كنت قد ضعفت فطالما مشيت أمام الجيوش، وعدوت على صيد الوحوش، ولهوت بالنساء، واختلت في الرداء، وأرويت السيف، وقريت الضيف، وأبيت العار، وحميت الجار، وغلبت القروم، وعاركت الخصوم وشربت الراح، ونادمت الجحجاح، فاليوم قد حناني الكبر، وضعف البصر، وجاءني بعد الصفاء الكدر.
قال: سمعت أعرابيا يعاتب أخاه ويقول: أما والله لربّ يوم كتنّور الطّهاة رقّاص بالحمامة، قد رميت بنفسي في أجيج سمومه أتحمّل منه ما أكره لما نحب.
قال روح بن زنباع لمعاوية: نشدتك الله يا أمير المؤمنين أن تحطّ مني شرفا أنت رفعته، أو أن تهدم مني بيتا أنت شيدّته، وأن تشمت بي عدوّا أنت قمعته.
ذكر عمرو بن معد يكرب بني سليم فقال: بارك الله على حي بني سليم ما أصدق في الهيجاء لقاؤها، وأثبت في النوازل بلاؤها، وأجزل في النائبات عطاؤها، والله لقد قاتلتهم فما أجبنتهم، وهاجيتهم فما أفحمتهم وسألتهم فما أبخلتهم.
جرى بين الخوات وبين جبير والعباس بن مرداس كلام فقال خوات: أما
والله لقد تعرضت لشبابي وشبا أنيابي، وحسن جوابي، لتكرهن غيابي. فقال عباس: أنت والله يا خوات لئن استقبلت لعني وفني، وذكا سني، لتنفرنّ منّي.(6/23)
جرى بين الخوات وبين جبير والعباس بن مرداس كلام فقال خوات: أما
والله لقد تعرضت لشبابي وشبا أنيابي، وحسن جوابي، لتكرهن غيابي. فقال عباس: أنت والله يا خوات لئن استقبلت لعني وفني، وذكا سني، لتنفرنّ منّي.
أإياي توعد يا خوّات، يا مأوى السوآت والله لقد استقبلك اللؤم فودعك، واستدرك فكسعك، وعلاك فوضعك، فما أنت بمهجوم عليك من ناحية إلّا عن فصل أو إياي ثكلتك أمك تروم وعليّ تقوم، والله ما ميطت سوأتك بعد ولا ظهرت منها. فقال عمر: أيّها عنكما، إما أن تسكتا، وإما أن أوجعكما ضربا، فصمتا وكفّا.
كان الربيع بن ضبع من المعمرين ودخل على عبد الملك بن مروان فقال له عبد الملك: وأبيك يا ربيع لقد طلبك جدّ غير عاثر ثم قال: فصل لي عمرك قال: عشت مائتي سنة في الفترة من عيسى ابن مريم وعشرين ومائة في الجاهلية وستين في الإسلام فقال: أخبرني من فتية من قريش المتواطىء الأسماء. قال:
سل عن أيهم شئت. قال: أخبرني عن عبد الله بن عباس قال: فهم وعلم وعظاء، خدم ومقرىء ضخم، قال: فأخبرني عن عبد الله بن عمر قال: حلم وعلم، وطول كظم، وبعد عن الظلم. قال: فأخبرني عن عبد الله بن جعفر قال:
ريحانة طيّب ريحها، ليّن مسّها، قليل عن المسلمين ضرّها. قال فأخبرني عن عبد الله بن الزبير. قال: جبل وعر، تنحدر منه على الصخر. قال: لله درك يا ربيع ما أخبرك بهم؟ قال: يا أمير المؤمنين قرب جواري، وكثر استخباري.
كان كعب بن لؤي يقوم في الناس أيام الحج فيقول: أيها الناس اسمعوا وأنصتوا واعلموا وتعلّموا، ليل ساج، ونهار ضاح والأرض مهاد، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام، والأنثى والذكر زوج، والآخرين كالأولين، وإلف يلي كل ما يهيج، هل رأيتم ظاعنا رجع الدار أمامكم؟ والظن غير ما تقولون، صلوا أرحامكم، واحفظوا أظهاركم، وثمّروا أموالكم. حرمكم زيّنوه وعظّموه، تمسّكوا به، فسيأتي له نبأ ويبعث به نبي.
كان قابوس بن منذر ملكا مترفا قليل الغزو، كثير اللهو وكان له سمّار، وكان يحبه أن يعرى بين أصحابه، ليتسابّوا، فاجتمع في مجلسه أربعة من رجال العرب منهم الحصين بن ضرار الضبي، وأحمير بن بهدلة السعدي، وضمرة بن
جابر النهشلي، وعمارة وابن رشد العبسي فقال قابوس: يا حصين إن هذا وأشار إلى ضمرة يزعم أنك غانم الفري صيّك الذر، إنزال بالغموض، رعّاء بالرفوض، فقال: أيها الملك إن زعم ذلك فإنه خبيث الزاد، لاصق الرماد، قصير العماد تبّاع للأذواد، فقال ضمرة: والله أيها الملك إنه لوعاء خطائط، وزاد مطائط.(6/24)
كان قابوس بن منذر ملكا مترفا قليل الغزو، كثير اللهو وكان له سمّار، وكان يحبه أن يعرى بين أصحابه، ليتسابّوا، فاجتمع في مجلسه أربعة من رجال العرب منهم الحصين بن ضرار الضبي، وأحمير بن بهدلة السعدي، وضمرة بن
جابر النهشلي، وعمارة وابن رشد العبسي فقال قابوس: يا حصين إن هذا وأشار إلى ضمرة يزعم أنك غانم الفري صيّك الذر، إنزال بالغموض، رعّاء بالرفوض، فقال: أيها الملك إن زعم ذلك فإنه خبيث الزاد، لاصق الرماد، قصير العماد تبّاع للأذواد، فقال ضمرة: والله أيها الملك إنه لوعاء خطائط، وزاد مطائط.
ولاج موارط، غير صميم لأواسط. ثم أقبل على أحيمر فقال: إن هذا وأشار إلى عمارة يزعم إنك بقّاق في النزيّ، كلّ على القويّ، مذموم الشيم محجل البرم.
فقال: أبيت اللعن أما إنّه إن زعم ذلك فإنه لمنّاع للموجود سآل عن المفقود، بكّاء على المعهود، فناؤه واسع، وضيفه جائع، وشره شائع وسرّه ذائع. فقال عمارة. هو والله أيها الملك ذريّ المنظر، سيىء المخبر، لئيم المكسر يهلع إذا أعسر، ويبخل إذا أيسر، ويكذب إذا أخبر. إن عاهد غدر وإن اؤتمن ختر، وإن قال أهجر، وإن وعد أخلف. وإن سأل ألحف، يرى البخل حزما، والسفاه حلما، والمرزئة كلما. فقال: قدك ألهمته.
قال رائد مرة تركت الأرض مخضرة كأنها حولا بها قصيصة رقطاء، وعرفجة خاضبة، وعوسج كأنه النعام من سواده.
وقال آخر في صفة ناقة إذا اكحالّت عينها وأللت أذنها (1) وسجح (2)
خدّها (3) وهدل مشفرها، واستدارت جمجمتها فهي كريمة.
__________
(1) أللت أذنها: اهتزت.
(2) سجح خدها: سهل وحسن.
(3) هدل: استرخى.(6/25)
الباب الثاني فقر وحكم للأعراب
ذكروا أن قوما أضلّوا الطريق، فاستأجروا أعرابيا يدلّهم على الطريق فقال:
إني والله ما أخرج معكم حتى أشرط لكم وعليكم، قالوا: فهات مالك. قال:
يدي مع أيديكم في الحارّ والقارّ. ولي موضع في النار موسع عليّ فيها، وذكر والدي مخرّم عليكم، قالوا: فهذا لك فما لنا عليك إن أذنبت؟ قال: إعراضة لا تؤدّي إلى عتب، وهجرة لا تمنع من مجامعة السّفرة. قالوا: فإن لم تعتب؟
قال: حذفة بالعصا أصابت أم أخطأت.
كان الرشيد (1) معجبا بخط إسماعيل بن صبح فقال لأعرابي حضره: صف إسماعيل. فقال: ما رأيت أطيش من قلمه، ولا أثبت من حلمه.
مدح أعرابي رجلا برقّة اللسان فقال: كان والله لسانه أرق من ورقة، وألين من سرقة (2).
وقال آخر: أتيناه فأخرج لسانه كأنه مخراق لاعب.
نظر عمر بن الخطاب إلى نهشل بن قطن وكان ملتفّا في بتّ، في ناحية المسجد، وزاده آهبة وقلّة. وعرف تقديم العرب له في الحكم والعلم فأحبّ أن يكشفه ويسبر ما عنده فقال: أرأيت لو تنافرا إليك اليوم لأيّهما كنت تنفر، يعني علقمة بن علّاثة وعامر بن الطفيل. قال: يا أمير المؤمنين لو قلت فيهما كلمة
__________
(1) هو هارون الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور العباسي، أبو جعفر، خامس خلفاء الدولة العباسية في العراق وأشهرهم، بويع بالخلافة بعد وفاة أخيه الهادي سنة 170هـ، توفي سنة 193هـ (الأعلام 8/ 62).
(2) السّرق، محركة: شقق الحرير الأبيض، أو الحرير عامة، الواحدة: سرقة.(6/26)
لأعدتها جدعة. قال عمر: لهذا العقل تحاكمت إليك العرب.
قال عامر بن الظرب: الرأي نائم، والهوى يقظان فمن هناك يغلب الهوى الداني.
قال أعرابي لهشام بن عبد الملك بن مروان: أتت علينا أعوام ثلاث، فعام أكل الشّحم، وعام أكل اللّحم، وعام أنقى العظم وعندكم فضول أموال، فإن كانت لله فأقسموها بين عباد الله، ولو كانت لكم فتصدقوا، إن الله يجزي المتصدّقين. قال: هل من حاجة غير ذلك؟ قال: ما ضربت إليك أكباد الإبل، ادّرع الهجير، وأخوض الدّجى لخاصّ دون عام.
قيل لأعرابي: ما لك لا تضع العمامة عن رأسك؟ قال: إنّ شيئا فيه السمع والبصر لحقيق بالصون.
كان هشام يسير ومعه أعرابي إذا انتهى إلى ميل (1) عليه كتاب، فقال للأعرابي انظر أيّ ميل هذا؟ فنظر ثم رجع. فقال: عليه محجن، وحلقة وثلاثة كأطباء الكلبة، ورأس كأنه منقار قطاة فعرفه هشام بصورة الهجاء ولم يعرفه الأعرابي، وكان عليه (خمسة).
قال الهيثم بن عدي: يمين لا يحلف بها الأعرابي أبدا أن يقول له: لا أورد الله لك صادرا، ولا أصدر لك واردا، ولا حططت رحلك، ولا خلعت نعلك.
خرج عثمان من داره فرأى أعرابيا في شمله. فقال: يا أعرابي أين ربك؟
قال: بالمرصاد. وكان الأعرابي عامر بن عبد قيس وكان ابن عامر سيّره إليه.
سأل الحجاج أعرابيا عن أخيه محمد بن يوسف فقال: كيف تركته؟ قال:
عظيما سمينا. قال: ليس عن هذا أسألك. قال: تركته ظلوما غشوما. قال: أما علمت أنه أخي؟ قال: أتراه بك أعزّ منّي بالله.
قيل لشيخ من الأعراب: قمت مقاما ما خفنا عليك منه؟ قال: الموت أخّاذ
__________
(1) الميل، بالكسر: منار يبنى للمسافر على مشارف الطرق.(6/27)
شيخ كبير، وربّ غفور، لا دين، ولا بنات.
وقال آخر لبعض السّلاطين: أسألك بالذي أنت بين يديه، أدل مني بين يديك، وهو على عقابك أقدر منك على عقابي، ألّا نظرت في أمري نظر من ير براءتي، أحب إليه من سقمي.
قال إسحاق المدني: جلس إليّ أعرابيّ فقال: إني أحبّ المعرفة، وأجلّك عن المسألة.
حبس مروان بن الحكم رجلا من بني عبس فأتاه بشيخ منه فكلّمه فيه فأبى أن يطلقه. فقال: أما والله لئن كنت حبسته، لقد كان تقيّا، ذا مروءة، قال: وما المروءة فيكم يا أخا بني عبس؟ قال: صدق الحديث وصلة الرحم، وإصلاح المال، فأعجب مروان وكان إذا أعجب الشيء دعا له ابنيه عبد الملك وعبد العزيز ليسمعاه، قال: فدعاهما ثم استعاده، فأعاد الشيخ القوم، وحضر طعام مروان فدعاه إلى طعامه فلم يجبه، فدعا ابنا له كان معه فأجاب. قال مروان للشيخ: ابنك خير منك يا أخا بني عبس، دعوناك إلى طعامنا فلم تجب، ودعوناه فأجاب فقال العبسي: ما أحسبه ضرّ أباه إن كنت خيرا منه. فضحك مروان حتى استلقى وأطلق له صاحبه.
قال عبد الملك بن مروان لرجل من العرب: كيف علمك بالكواكب؟
قال: لو لم أعرف منها غير النجم لكفاني يريد نجم الثريا فقال له:
وكيف ذاك؟ قال: إذا طلعت من المشرق حصدت زرعي، وإذا توسّطت السماء جردت نخلي، وإذا سقطت في الغرب دفنت بذري، هذا تدبير معيشتي. فقال عبد الملك: حسبك بها علما.
قال هشام لأعرابي: كيف أفلت من فلان عامل له؟ قال: ببراءته وعدله.
وقال آخر: نعم أخو الشريف درهمه، يغنيه عن اللئام، ويتجمّل به في الكرام.
دخل أعرابي على بعض الولاة فقال: ممّن الرجل؟ فقال: من قوم إذا أحبّوا ماتوا. قال: عذريّ وربّ الكعبة.
تقول العرب (1): [مجزوء الرمل](6/28)
دخل أعرابي على بعض الولاة فقال: ممّن الرجل؟ فقال: من قوم إذا أحبّوا ماتوا. قال: عذريّ وربّ الكعبة.
تقول العرب (1): [مجزوء الرمل]
طلع النّجم غديّه ... فابتغى الراعي شكيّه
طلع النّجم عشاء ... فابتغى الراعي كساء (2)
يريدون الثريا، ويقولون في الهلال: ابن ليلة عتمه سخيله حلّ أهلها برميلة. ابن ليلتين، حديث أمتين، بكذب ومين ابن ثلاث، حديث فتيات غير جد مؤتلفات. ابن أربع عتمة ربع، غير جائع ولا مرضع. ابن خمس، عشاء خلفات قعس. ابن ست سر وبت، ابن سبع، دلجة الضبع، ابن ثمان، قمر إضحيان. ابن تسع، ملتقط منه الجزع، ابن عشر يؤدّيك إلى الفجر.
قال أعرابي: ما غبنت قطّ حتى يغبن قومي. قيل: وكيف؟ قال: لا أفعل شيئا حتى أشاورهم.
قال أعرابي، ورأى إبل رجل كثرت بعد قلة، فقيل له إنه قد زوّج أمّه فجاءته بمال. فقال: اللهم إنّا نعوذ بك من بعض الرّزق.
سأل أعرابي رجلا حاجة فمنعه فقال: الحمد لله الذي أفقرني من معروفك ولم يعنك عن شكري.
قال أعرابي لابنه، وتكلم فأساء: اسكت يا بني، فإن الصمت صون اللسان، وستر العيّ.
قال آخر: ابذل لصديقك كلّ مودّة، ولا تبذل له كلّ طمأنينة، واعطه من نفسك كلّ مواساة، ولا تفض إليه بكلّ الأسرار.
اجتمع قوم بباب الأوزاعي (3) يتذاكرون، وأعرابيّ من كلب ساكت، قال له
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (شكا)، وتهذيب اللغة 10/ 299.
(2) يروى الرجز بلفظ:
إذا الثريا طلعت عشاء ... فبع لراعي غنم كساء
والرجز بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 369، ولسان العرب (بيع)، وتاج العروس (بيع)، والأضداد للأصمعي ص 30، والأضداد لابن السكيت ص 184.
(3) الأوزاعي: هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد، أبو زرعة الأوزاعي، إمام أهل الشام، ولد في بعلبك سنة 88هـ، وتوفي ببيروت سنة 157هـ، صنّف: «كتاب السنن في الفقه»، «كتاب المسائل» في الفقه. (كشف الظنون 5/ 511، شذرات الذهب 1/ 241، الأعلام 3/ 320).(6/29)
رجل: بحق ما سمّيتم خرس العرب. فقال: يا هذا أما سمعت أن لسان الرجل لغيره وسمعه له.
وشتم رجل أعرابيا فلم يجبه فقيل له في ذلك فقال: أنا لا أدخل في حرب الغالب فيها شرّ من المغلوب.
قال أعرابي: أكثر الناس بالقول مدلّ وبالفعل مقلّ.
وقال آخر: ربّ بعيد لا يفقد برّه، وربّ قريب لا يؤمن شره.
وقال آخر: أبين العجز: قلّة الحيلة، وملازمة الحليلة.
وقال آخر: ألم أكن نهيتك أن تريق ماء وجهك بمسألتك من لا ماء في وجهه؟
وصف آخر عبد الله بن جعفر فقال: كان إذا افتقر نفسه وإذا استغنى لم يستغن وحده.
وقال آخر: أحسن الأحوال حال بغبطك بها من دونك، ولا يحقرك بها من فوقك.
وصف آخر رجلا: إن أتيته احتجب، وإن غبت عنه عتب، وإن عاتبته غضب.
وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ظفر به منهم، ثم ضيّعهم.
وقال آخر: لو عاونني الحال ما استبطأتك إلا بالصّبر ولا استزدتك إلّا بالشكر.
وقال آخر: إنّ يسير مال أتاني عفوا لم أبذل فيه وجها، ولم أبسط إليه كفّا، ولم أغضض له طرفا، أحبّ إليّ من كثير مال أتاني بالكدّ، واستفراغ الجهد.
وقال آخر: لا تصغّر أمر من حاربت أو عاديت، فإنّك إن ظفرت لم تحمد وإن عجزت لم تعذر.
هنّأ بعضهم فتى أراد البناء على أهله فقال: بالبركة وشدّة الحركة والظّفر في المعركة.(6/30)
وقال آخر: لا تصغّر أمر من حاربت أو عاديت، فإنّك إن ظفرت لم تحمد وإن عجزت لم تعذر.
هنّأ بعضهم فتى أراد البناء على أهله فقال: بالبركة وشدّة الحركة والظّفر في المعركة.
قال أعرابي وقد نظر إلى دينار: قاتلك الله ما أصغر قيمتك، وأكبر همتك.
وقال آخر: اجمعوا الدراهم فإنها تلبس اليلمق (1)، وتطعم الجردق (2).
قال أبو عمرو بن العلاء: دفعت إلى ناحية فيها نفير من الأعراب فرأيتها مجدية فقلت لبعضهم ما بلدكم هذا؟ فقال: لا ضرع ولا زرع قلت: فكيف تعيشون؟ قال: نحترش الضّباب ونصيد الدّواب فنأكلها، قلت: كيف صبركم عليه؟ فقال: يا هناه! نسأل خالق الأرض.
هل سوّيت؟ فيقول: بل رضيت.
قال أعرابي: هو أمزح من المطل الواجد، والظمآن الوارد، والعقيم الوالد.
قال أعرابي: العزيز منوع، والذّليل قنوع، والواجد متحير. وقال آخر:
عليك بالأدب فإنه يرفع العبد المملوك حتى يجلسه في مجالس الملوك.
قيل لبعضهم: ما بال فلان يتنقّصك؟ قال: لأنه شقيقي في النّسب، وجاري في البلد، وشريكي في الصّناعة.
وقال آخر: عباد الله، الحذر، الحذر، فو الله لقد ستر كأنه غفر وشكا أعرابيّ ركود الهواء فقال: ركد حتى كأنه أذن تسمع.
وقال آخر: كل مقدور عليه مختور (3)، أو مملوك.
لقي رجل أعرابيا لم يكن يعرفه قال له: كيف كنت بعدي؟ فقال له الأعرابي: وما بعد ما لا قبل له.
__________
(1) اليلمق: القباء، فارسي معرب.
(2) الجردق: الرغيف، فارسي معرب.
(3) الخور: بالتحريك: الضعف، والخوّار: الضعيف كالخائر، والخائر من الجمال: الرقيق الحسن.(6/31)
قيل لأعرابي: أعطى الخليفة فلانا مائة ألف. قال: بل أعطاه إياه الذي لو شاء لأعطاه مكانه عقلا.
قيل لأعرابي له أمة يقال لها زهرة: أيسرّك أنك الخليفة وأنّ زهرة ماتت؟
قال: لا والله! قيل: ولم؟ قال: تذهب الأمة وتضيع الأمّة.
أتى الحجاج بأعرابي في أمر احتاج إلى مسألته عنه، فقال له الحجاج: قل الحقّ وإلا قتلتك، فقال له: اعمل أنت به فإن الذي أمر بذلك أقدر عليك منك عليّ. فقال الحجاج: صدق، فخلوه.
مدح أعرابيّ قوما فقال: يقتحمون الحرب حتى كأنّما يلقونها بنفوس أعدائهم.
قال أعرابي في حكم جليس الملوك أن يكون حافظا للسّمر، صابرا على السّهر.
وقال بعضهم: قلت لأعرابي: كيف رأيت الدّهر؟ فقال: وهوبا لما سلب، سلوبا لما وهب، كالصّبيّ إذا لعب.
وقال أعرابيّ: لا يقوم عن الغضب بذل الاعتذار.
ووصف آخر رجلا فقال: ذاك ممّن ينفع سلمه، ويتواصف حلمه، ولا يستمرا ظلمه.
وقال آخر: فلان حتف الأقران غداة النّزال، وربيع الضّيفان عشيّة النّزول.
وقال آخر: لكلّ كاس حاس، ولكلّ عار كاس.
وقال آخر: لا أمس ليومه، ولا قديم لقومه.
قال آخر: فلان أفصح خلق الله كلاما. إذا حدّث، وأحسنهم استماعا إذا حدّث، وأمسكهم عن الملاحاة (1)، إذا خولف، يعطى صديقه النّافلة ولا يسأله الفريضة، له نفس عن العوراء (2) محصورة وعلى المعالي مقصورة، كالذّهب
__________
(1) الملاحاة: التنازع والتشاتم.
(2) العوراء: الكلمة أو الفعلة القبيحة.(6/32)
الإبريز الذي يعزّ في كل أوان والشمس المنيرة التي لا تخفى بكل مكان، هو النجم المضيء للحيران، والبارد العذب للعطشان.
وقال آخر: فلان ليث إذا عدا، وغيث إذا غدا، وبدر إذا بدا، ونجم إذا هدى، وسمّ إذا أردى.
وقال آخر: الفقير في الأهل مصروم (1)، والغنيّ في الغربة موصول.
وقال آخر: الاغتراب يردّ الجدة ويكسب الجدة.
وقال آخر: أعظم لخطرك، ألا تري عدوّك أنه لك عدوّ.
قيل لأعرابي: كيف أبنك؟ فقال: عذاب رعف به الدّهر فليتني قد أودعته القبر، فلأنه بلاء لا يقاومه الصبر، وفائدة لا يجب فيها الشكر.
قال أعرابي: لا تضع سرّك عند من لا سرّ له عندك.
وقال آخر: من سعى رعى، ومن لزم المنام رأى الأحلام.
قال أعرابيّ لرجل: ويحك! إن فلانا وإن ضحك إليك فإن قلبه يضحك منك، ولئن أظهر الشّفقة عليك، فإنّ عقاربه لتسري إليك فإن لم تتّخذه عدوّا في علانيّتك، فلا تجعله صديقا في سريرتك.
وحذّر آخر رجلا فقال: احذر فلانا فإنه كثير المسألة حسن البحث، لطيف الاستدراج، يحفظ أوّل كلامك على آخره ويعتبر ما أخّرت بما قدّمت فباثّه مباثّة (2) الأرض، وتحفّظ منه تحفّظ الخائف واعلم أنّ من يقظة المرء إظهار الغفلة مع الحذر.
قال أعرابي حاجيتك: ما ذو ثلاث آذان، تسبق الخيل بالرديان؟ يعني:
سهما. ومدح أعرابي نفسه فقيل له: أتمدح نفسك؟ قال: أفآكلها إلى غيري.
__________
(1) المصروم: المقطوع.
(2) بثّ الخبر يبثّه: نشره، وفرقه، وبثثتك السرّ: أظهرته لك، وباثّه: فعل أمر بمعنى اكشف له عما في نفسك.(6/33)
قال آخر: أفآكلها إلى عدوّ يذمّني.
وقال آخر: الخيل تجري في المروج على أعراقها، وفي الحلبة على جدود أربابها، وفي الطّلب على إقبال فرسانها وفي الهزيمة على آجالهم.
وقال آخر: حقّ الجليس إذا دنا أن يرحّب به، وإذا جلس أن يوسّع له، وإذا حدّث أن يقبل عليه.
وقال آخر: هلاك الوليّ في صاحب يحسن القول ولا يحسن العمل.
وقال أعرابيّ في الثناء على الرشيد عام حج، قد أصبح المختلفون مجتمعين على تقريظك ومدحك، حتى أنّ العدوّ يقول اضطرارا، ما يقول الوليّ اختيارا، والبعيد يثق من إنعامك عامّا، بما يثق به القريب خاصّا.
وقال آخر للحسن بن سهل: قد أصبحت للخاصّة عدة، وللعامة عصمة، وللإمام ثقة، وللغني جمالا، وللفقير ثمالا.
ومن كلامهم: اندب إلى طعانك من تدعوه إلى جفانك.
ومنه: الحيلة لعطف المتجنّي، أعسر من نيل المتمنّي.
ومنه: العقل وزير ناصح، والهوى وكيل فاضح.
وقال آخر لصاحب له: لا تقل فيما لا تعلم، فتتّهم فيما تعلم.
وقال آخر: نبوّ النّظر عنوان الشّرّ، وقال آخر: استشر عدوّك العاقل، ولا تستشر صديقك الأحمق، فإن العاقل ينفي على رأيه الزلل، كما يتقي الورع على دينه الحرج.
ومن كلامهم: الحسود لا يسود، ومنه الواقية خير من الرّاقية وقال بعضهم لم تجتمع ضعفا إلا قووا حتى يمتعوا، ولم يتفرقوا قويا إلا ضعفوا حتّى يخضعوا.
قال أعرابيّ: العبوس بؤس، والبشر بشرى، والحاجة تفتق الحيلة والحيلة تشحذ الطّبيعة.
وقال آخر: مجالسة الأحمق خطر، والقيام عنه ظفر.(6/34)
قال أعرابيّ: العبوس بؤس، والبشر بشرى، والحاجة تفتق الحيلة والحيلة تشحذ الطّبيعة.
وقال آخر: مجالسة الأحمق خطر، والقيام عنه ظفر.
قال الأصمعي: جلس إليّ أعرابي تقتحمه العين يحمي دربه. والله ما ظننته يجمع بين كلمتين فاستنطقته، فإذا نار تأجج فقلت: أتحسن شيئا من الحكمة تفيد منه؟ قال: نعم، الرّجوع عن الصّمت أحسن من الرجوع عن الكلام، والعطيّة بعد المنع، أجمل من المنع بعد العطيّة، والإقدام على العمل بعد التأنّي فيه، أحسن من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه.
قال فعظم في عيني حتّى ملأ عيني وقلبي هيبة.
قال أعرابيّ: العذر الجميل أحسن من المطل الطويل، فإذا أردت الإنعام فانجح، فإن تعذّرت الحاجة فأفصح.
قيل لأعرابي: ما وقوفك ها هنا؟ فقال: وقفت مع أخ لي يقول بلا علم، ويأخذ بلا شكر، ويردّ بلا حشمة.
قال أعرابي لآخر: لاكلّ لسانك عن البيان، ولا أسكتك الزّجر والهوان.
وقال آخر لرجل: حاجتي إليك حاجة الضّالّ إلى المرشد، والمضلّ إلى المنشد.
وقال آخر: بالفحول تدرك الذّحول.
وقال آخر: أنا أستنجدك إذا كنت مضافا، وأسترفدك إذا كنت مضيفا.
قيل لأعرابي: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أحتسب على الله الحسنة ولا أحتسب على نفسي السّيّئة.
وقال آخر وقد قيل له: أيسرّك أنك أحمق وأنّ لك مائة ألف درهم؟ قال:
لا. قيل: ولم؟ قال: لأن حمقة واحدة تأتي على مائة ألف، وألفي بعدها أحمق.
قال آخر: من جاد بماله فقد جاد بنفسه، إلا يكن جاد بها فقد جاد بقوامها.
وقال آخر: من هذل جواده في الرخاء، قام به في الشّدّة.
ذكر رجل عند أعرابي بشدة العبادة فقال: هذا والله رجل سوء، يظنّ أنّ الله لا يرحمه حتى يعذّب نفسه هذا التعذيب.(6/35)
وقال آخر: من هذل جواده في الرخاء، قام به في الشّدّة.
ذكر رجل عند أعرابي بشدة العبادة فقال: هذا والله رجل سوء، يظنّ أنّ الله لا يرحمه حتى يعذّب نفسه هذا التعذيب.
قال رجل لشيخ بدويّ: تمرنا أجود من تمركم. فقال: تمرنا جرد (1)
فطس، عراض كأنها ألسن الطّير، تمضغ التمرة في شدقك فتجد حلاوتها في عقبك.
قال أعرابي: سألت فلانا حاجة أقلّ من قيمته، فردّني ردّا أقبح من خلقته.
وقال: مواقعة الرّجل أهله من غير عبث، من الجفاء.
قيل لأعرابي: ما تصنع بالبادية إذا اشتد القيظ، وحمي الوطيس. فقال:
يمشي أحدنا ميلا، حتى يرفضّ عرقا ثم ينصب عصاه، ويلقي عليها كساه، فكأنه في إيوان كسرى.
قال بعضهم: رأيت أعرابيّا يصلّي ويسيء الصّلاة فقال له رجل: يا أعرابي، أحسن صلاتك. فقال: إنّ المطالب بها كريم.
عاب أعرابيّ قوما فقال: هم أقل الناس ذنوبا إلى أعدائهم، وأكثرهم تجرما على أصدقائهم، يصومون عن المعروف، ويفطرون على الفحشاء.
وصف بعض الأعراب النساء فقال: عليك منهنّ بالجاليات العيون، الآخذات بالقلوب، بارع الجمال، وعظم الأكفال، وسعة الصّدور ولين البشرة، ورقّة الأنامل، وسبوطة القصب، وجزالة الأسوق، وجثولة الفروع، ونجالة العيون، وسهولة الخدود، وامتداد القوام، ورخامة المنطق، وحسن الثّغور، وصغر الأفواه وصفاء الألوان.
وصف أعرابيّ امرأة: هي خالية إلا من ألا وليت.
قيل لأعرابيّ: كيف كتمانك للسّرّ؟ فقال: أجحد المخبر، وأحلف المستخبر.
__________
(1) جرد: ناعمة، وفطس: أي صغار الحب لاطئة الأقماع.(6/36)
قيل لآخر: بماذا تغلب النّاس؟ قال: أبهت بالكذب، وأستشهد بالموتى.
قال الأصمعي: سألت أعرابيا عن الدنيا فقال: إن الآمال قطّعت أعناق الرجال، كالسّراب، غرّ من رآه، وأخلف من رجاه، ومن كان الليل والنهار مطيّته، أسرعا السير به والبلوغ. ثم أنشد يقول (1): [الطويل]
المرء يدفع بالأيّام يدفعها ... وكلّ يوم مضى يدني من الأجل
ذكر أعرابي رجلا بقلّة الحياء فقال: لو دقّت بوجهه الحجارة لرضّها ولو خلا بالكعبة لسرقها.
قيل لأعرابي: بم سدّت قومك؟ قال: بحسب لا يطعن عليه، ورأي لا يستغنى عنه.
قيل لآخر: بم تعرفون السّؤدد في الغلام؟ قال: إذا كان سابل الغرّة، طويل الغرلة، ملتاث الأزرة، وكانت فيه لوثة، فلسنا نشكّ في السّؤدد.
وقال آخر لسنّان بن سلمة الهذليّ: ما أنت بأرسح فتكون فارسا، ولا بعظيم الرأس فتكون سيدا.
وقال بعضهم: نحن لا نسوّد إلا من موطننا رحله، ولفرسنا عرضه ويملكنا ماله.
سأل أعرابي عن رجل فقال: أحمق مرزوق. فقال: والله ذاك الرجل الكامل.
قال الأصمعي: سمعت أعرابيّا يقول: تمرنا جرد فطس، يغيب فيها الضّرس عراض كأنّها ألسن الطّير، تضع التمرة في فيك، فتجد حلاوتها في كعبك.
قال أعرابي لأخيه: إن لم يكن مالك لك، كنت أنت له، فإن لم تفنه، أفناك، فكله قبل أن يأكلك.
__________
(1) البيت بلا نسبة في زهر الآداب 2/ 422، ورواية صدر البيت فيه:
والمرء يفرح بالأيام يقطعها(6/37)
وحلف آخر فقال: لا والذي شقّهنّ خمسا من واحد، وأشار إلى كفّه، شق الرجال للخيل، والجبال للسّيل.
وقال آخر في رجل: صغّره في عيني، كبر الدّنيا في عينه.
قيل لأعرابي: كيف حزنك على ولدك؟ قال: ما ترك لنا حب الغداء والعشاء حزنا.
قيل لرجل منهم كان يجمع بين ضرائر: كيف تقدر على جمعهن قال: كان لنا شباب يظأرهنّ (1) علينا، ومال يصيّرهنّ لنا، ثم قد بقي لنا خلق حسن، فنحن نتعايش به.
قال أعرابي: ما تمّ عقل أحد، إلا قلّ كلامه.
وقال أعرابي: إن فلانا ليكنس على أعراض النيل من غيظه.
وقال آخر: مع الشّعاب التّحابّ، والإفراط في الزيارة مملّ، والتفريط فيها مخلّ.
قدم أعرابي على السلطان ومعه كتاب قد كتب فيه قصّته، فجعل يقول:
{هََاؤُمُ اقْرَؤُا كِتََابِيَهْ} (19) [الحاقة: 19]. فقيل له: هذا يقال يوم القيامة.
قال: هذا والله سرّ من يوم القيامة، إنه يؤتى يوم القيامة بحسناتي وسيّئاتي، وأنتم جئتم بسيئاتي، وتركتم حسناتي.
قال أبو العيناء، قلت لأعرابي: إن الله محاسبك فقال: سررتني فإن الكريم إذا حاسب تفضّل.
وقال معاوية لأعرابي: ما العيش؟ قال: ركوب الهوى وترك الحيا.
قيل لأعرابي وقد عمّر مائة وعشرين سنة: ما أطول عمرك؟ قال: تركت الحسد فبقيت.
__________
(1) الظّئر، بالكسر: العاطفة على ولد غيرها ويظأرهنّ: أي يحببهن أو يعطفنّ.(6/38)
حلف أعرابي بالمشي إلى بيت الله ألا يكلم ابنه فحضرته الوفاة فقيل له:
كلّمه قبل أن تفارق الدنيا. قال: والله ما كنت قط أعجز عن المشي إلى بيت الله منّي الساعة.
قال عبد الملك لأعرابي: تمنّ. قال: العافية. قال: ثم ماذا؟ قال: رزق في دعه. قال: ثم ماذا؟ قال: الخمول، فإنّي رأيت الشرّ إلى ذوي النباهة أسرع.
قيل لأعرابي من بني يربوع: ما لكم على مثال واحد؟ قال: لأنّا من بني فحل واحد.
ذم أعرابي رجلا فقال: عليه كل يوم قسامة من فعله تشهد عليه بفسقه وشهادات الأفعال، أعدل من شهادات الرجال.
وذكر آخر رجلا بالعي فقال: رأيت عورات الناس بين أرجلهم وعورة فلان بين فكّيه.
وقال آخر لرجل دفعه: لتجدنّي ذا منكب مزحم، وركن مدعم، ورأس مصدم، ولسان مرجم، ووطء ميثم.
قال الأصمعي: نظر أعرابي إلى الهلال فقال: لا مرحبا بك عقفان يحل الدّين، ويقرب الآجال.
قيل لأعرابي: ما تلبس؟ فقال: {وَاللَّيْلِ إِذََا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذََا تَنَفَّسَ}
(18) [التكوير: 1817].
سئل أعرابي عن ألوان الثياب فقال: الصفرة أشكل والحمرة أجمل، والخضرة أنبل، والسّواد أهول، والبياض أفضل.
وصف أعرابي الكتّاب، وقد دخل الدّيوان فرآهم فقال: أخلاق حلوة وسمائل معشوقة، ووقار أهل العلم، وظرف أهل الفهم، فإن سبكتهم وجدتهم كالزبد يذهب جفاء.
وذم أعرابي رجلا فقال: عبد البدن، خز الثياب، عظيم الرواق، صغير الأخلاق، الدهر يرفعه، وهمّته تضعه.
قيل لأعرابي ينسج: ألا تستحي أن تكون نساجا؟ فقال: إنما أستحي أن أكون أخرق لا أنفع أهلي.(6/39)
وذم أعرابي رجلا فقال: عبد البدن، خز الثياب، عظيم الرواق، صغير الأخلاق، الدهر يرفعه، وهمّته تضعه.
قيل لأعرابي ينسج: ألا تستحي أن تكون نساجا؟ فقال: إنما أستحي أن أكون أخرق لا أنفع أهلي.
مد المأمون يده إلى أعرابي ليقبلها فتناولها بكمّه فقال: أتتقزّز منها؟ قال:
لا، أتقزّز لها.
وصف أعرابي قوما فقال: هم كلاب وفلان من بينهم سلوتي.
سئل رجل عن نسبه فقال: أنا ابن أخت فلان، فقال: أعرابيّ: النّاس ينتسبون طولا، وأنت تنتسب عرضا.
رأى أعرابي عودا فلما عاد إلى البادية وصفه لأصحابه فقال: رأيت خشبا محدودب الظّهر، أرسح البطن، أكلف الجلد، أجوف أغضف، جبينه في استه، وعيناه في صدره، وأمعاءه خارج بطنه، بها يتكلم، وعينه تترجم، معروك الأذن، مخنوق الحلق.
سئل آخر عن امرأته فقال: أفنان أثلة، وجني نخلة، ومسّ رملة وكأني قادم في كلّ ساعة من غيبة.
اجتمع أعرابي مع صاحبة له فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ذكر معاده فاستعصم وقال: إن من باع جنة عرضها السموات والأرض بمقدار فتر بين رجليك، لقليل البصر بالمساحة.
اشتكى أعرابي بالحضر فقيل: ما تشتهي؟ قال: حشك فلاة، وحسي قلاة.
قال أعرابي لرجل: اكتب لابني تعويذا. فقال: ما اسمه؟ قال: فلان، قال: فما اسم أمّه؟ قال: ولم عدلت عن اسم أبيه؟ قال: لأن الأمّ لا يشكّ فيها.
قال: فاكتب: فإن كان ابني فعافاه الله، وإن لم يكن ابني فلا شفاه الله.
قيل لأعرابي: ما تقول في ابن العمّ؟ قال: عدوّك وعدوّ عدوّك.
ووعظ آخر ابنا له أفسد ماله في الشراب فقال: لا الدهر يعظك ولا الأيام تنذرك، ولا الشيب يزجرك، والساعات تعدّ عليك، والأنفاس تعد منك والمنايا تقاد إليك، أحبّ الأمرين إليك، أردهما بالمضرة عليك.
قيل لأعرابي: ما تقول في الجرّيّ (1). قال: تمرة نرسيانة غرّاء الطّرف صفراء السّائر، عليها مثلها من الزبد، أحبّ إليّ منها ولا أحرّمه.(6/40)
ووعظ آخر ابنا له أفسد ماله في الشراب فقال: لا الدهر يعظك ولا الأيام تنذرك، ولا الشيب يزجرك، والساعات تعدّ عليك، والأنفاس تعد منك والمنايا تقاد إليك، أحبّ الأمرين إليك، أردهما بالمضرة عليك.
قيل لأعرابي: ما تقول في الجرّيّ (1). قال: تمرة نرسيانة غرّاء الطّرف صفراء السّائر، عليها مثلها من الزبد، أحبّ إليّ منها ولا أحرّمه.
وقال آخر: كن حلو الصّبر عند مرّ النّازلة.
ومرّ أعرابيّ في أطمار رثّة برجل فقال الرجل: والله ما يسرني أني كنت ضيفك في ليلتي هذه. فقال له الأعرابي: أما والله لو كنت ضيفي، لغدوت من عندي أبطن من أمك قبل أن تضعك بساعة، أما والله إنا وجدنا آكلكم للمأدوم، وأعطاكم للمحروم.
قال أعرابي: رب موثق مؤبق.
قيل لآخر: أتشرب النبيذ؟ فقال: والله ما أرضى عقلي مجتمعا فكيف أفرّقه؟
وقيل لآخر: أما تشرب؟ قال: أنا لا أشرب ما يشرب عقلي.
قال بعضهم: رأيت أعرابيا والإبل قد ملأت الوادي فقلت: لمن هذه؟
فقال: لله في يدي.
قال أبو العيناء: أضفت أعرابيّا قدم من المدينة، فلما قعدنا نأكل، جعلت أذكر غلاء السعر في تلك السنة، فرفع الأعرابي يده عن الطعام، وقال: ليس من المروءة ذكر غلاء الأسعار للضيف. فقام، فاجتهدت به أن يأكل شيئا فأبى، وانصرف.
حكى عن حصين بن أبي الحر، قال: وفدت إلى معاوية فطلبت عامر بن عبد قيس فقال: لا تريه بالنهار فأتيته عند المغرب وهو يتعشّى، فسلّمت عليه فردّ السلام، لم يدعني إلى عشائه ولم يسألني عن أهله، فقلت: العجب منك لم تدعني إلى عشائك ولم تسألني عن أحد من أهلك، فقال: أما عشائي فخشن، وأنت قد تعوّدت النعمة، فكرهت أن أحملك من تجشّمه على ما يشق عليك، وأما أهلي، فأنا أعرف أخبارهم، الماضي فلا يرجع إليهم، وأما الباقي فلاحق بمن مضى منهم.
__________
(1) الجرّيّ: نوع من السمك.(6/41)
قال الأصمعي: سمعت أعرابيّا يقول: المعتذر من غير ذنب، يوجب الذنب على نفسه.
قال: وقلت لغلام عذري: ما بال العشق يقتلكم؟ قال: لأن فينا جمالا وعفة.
قال أعرابي: بلوت فلانا فلم يزدني اختباره إلا اختيارا له.
وقال آخر: هلاك الوالي في صاحب يحسن القول، ولا يحسن العمل.
تكلم أعرابيّ فقال: لا تنكحن واحدة فتحيض، إذا حاضت، وتمرض إذا مرضت، ولا تنكحن اثنتين، فتكون بين شرتين، ولا تنكحن ثلاثا، فيفلسنّك ويهرمنّك، وينحلنّك ويحظرنّك. فقيل له: حرّمت ما أحلّ الله.
وأثنى أعرابي على رجل، فقال: إنّ خيرك لصريح، وإن منعك لمريح وإنّ رفدك لربيح.
قيل لأعرابي: ما أعددت للشتاء؟ فقال: جلة لبوضا وصيصية سلوكا، وشملة مكوّرة قويمصا دفيا وناقة مجالحة.
وقيل لآخر: ما أعددت للشتاء؟ فقال: شدة الرّعدة وقرفصاء القعدة، وذرب المعدة.
وقيل لآخر: كيف البرد عندكم؟ قال: ذاك إلى الريح.
سمع عمر أعرابيا يقول: اللهم اغفر لأم أوفى. فقال: ومن أم أوفى؟ قال:
امرأتي وإنها لحمقاء مرغامة، أكول قامة، لا تبقى لها حامّه، غير أنها حسناء فلا تفرك، وأم غلمان فلا تترك.
قال أبو مهدي: تحرشت بشجاع فخرج يطردني كأنه سهم رابح، ثم استكفّ كأنه كفة في ميتة، فانتظمت ثلاثة اثنان أحدهن رأسه.
قال الأصمعي: كانت العرب تستعيذ من خمشة الأسد، ونفثة الأفعى وضبطة الفالج.
قال أبو زيد (1): رب غيث لم يك غوثا، ورب عجلة تهب ريثا.(6/42)
قال الأصمعي: كانت العرب تستعيذ من خمشة الأسد، ونفثة الأفعى وضبطة الفالج.
قال أبو زيد (1): رب غيث لم يك غوثا، ورب عجلة تهب ريثا.
وقال آخر لرجل رآه يذم قرابته: أما سمعت ما يقول العرب، فإنها تقول:
الرحم بكدرها والمودة بصفائها.
قدم هوذة بن عليّ (2)، على كسرى فسأله عن بنيه، فذكر عددا فقال: أيهم أحب إليك؟ قال: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يقدم، والمريض حتى يصح. فقال له كسرى: ما غداؤك في بلدك؟ قال: الخبز. قال كسرى لجلسائه:
هذا عقل الخبز يفضله على عقول أهل البوادي، الذين يغتذون اللبن والتّمر.
قال الأصمعي: كنت بالبادية فجاء بي أعرابي معه عبد أسود فقال: يا حضريّ، أتكتب؟ قلت: نعم. قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم من عرفجة التغلبي لميمون مولاه، إنك كنت عبد الله فوهبك لي، فرددتك ووهبتك لواهبك للجواز على الصراط، قد كنت أمس لي، وأنت اليوم مثلي ولا سبيل لي عليك إلا سبيل ولاء.
أتى معاوية برجل من جرهم قد أتت عليه الدّهور فقال له: أخبرني عما رأيت في سالف عمرك؟ قال: رأيت بين جامع مالا مفرقا، ومفرق مالا مجموعا، ومن قويّ يظلم، وضعيف يظلم، وصغير يكبر، وكبير يهرم، وحيّ يموت، وجنين يولد، وكلهم بين مسرور بموجود ومحزون بمفقود.
قال أعرابي: خرجنا حفاة والشمس في قلة السماء، حيث انتعل كلّ شيء ظلّه وما زادنا إلا التوكل، وما مطايانا إلا الأجل، حتى لحقنا القوم.
وصف آخر تعادى قوم، فقال: ألحاظهم سهام، وألفاظهم سمام.
__________
(1) أبو زيد: هو سعيد بن أوس بن ثابت بن زيد بن قيس بن زيد الأنصاري الحنفي، أبو زيد البصري اللغوي، توفي سنة 215هـ، له العديد من المصنفات، منها: «تخفيف الهمز الواحد»، «غريب الأسماء»، «قراءة أبي عمرو»، «كتاب الأمثال»، «كتاب تحقيق الهمز»، «كتاب الجمع والتثنية»، «كتاب اللامات»، «كتاب اللغات»، «كتاب المصادر»، «كتاب المنطق في اللغة»، «لغات القرآن».
(كشف الظنون 5/ 388387).
(2) هو هوذة بن علي بن ثمامة بن عمرو الحنفي، من بني حنيفة من بكر بن وائل، صاحب اليمامة، شاعر بني حنيفة وخطيبها قبل الإسلام، توفي سنة 8هـ (الأعلام 8/ 102).(6/43)
وقال آخر: هبت عليهم ريح التعادي، فنسفتهم عن النّوادي والبوادي.
وقال آخر: ما النار بأحرق للفتيلة، من التعادي للقبيلة.
وقال آخر: مع القرابة والثّروة، يكون التّناكر، والتّحاسد ومع الغربة، والخلّة، يكون التناصر والتّحاشد.
وقال الحجاج لأعرابي: أخطيب أنا؟ قال: نعم، لولا أنك تكثر الرّد، وتشير باليد، وتقول أما بعد.
ويقول الأعرابي لراعي إبله إذا استرعاه: إن عليك أن تردّ ضالّتها، وتهنأ جرباتها، وتلوذ حوضها وتترك مبسوطة في الرسل، ما لم تنهك حلبا أو تضر بنسل. فيقول له الراعي: ليس لك أن تذكر أمي بخير ولا شر، ولك حذفة بالعصا عند عضبك أخطأت أم أصبت، ولي مقعدين من النار موضع يدي من الحار.
ذكر أعرابي السلطان فقال: أما والله لإن عزوا في الدنيا بالجور، لقد ذلوا في الآخرة بالعدل.
وقال آخر: العاقل بخشونة العيش مع العقلاء، آنس منه بلين العيش مع السفهاء.
قال بعضهم: رأيت أعرابيا يرعى غنما فقلت له: أنت راعي هذه الغنم؟
فقال: أنا راعيها والله يرعاها.
قال المفضل: قلت لأعرابي: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز من غير عجز، والإطناب من غير خطل.
وكان أعرابي يجالس الشعبي (1) ولا يتكلم، فسئل عن طول صمته فقال:
أسمع وأعلم، واسكت فأسلم.
وصف آخر رجلا: فقال: صغير القدر، قصير الشبر، ضيق الصدر، لئيم الخبر، عظيم الكبر، كثير الفخر.
__________
(1) هو عامر بن شراحيل الشعبي، المتوفى سنة 103هـ، تقدمت ترجمته.(6/44)
قدم وفد طيىء على معاوية فقال: من سيدكم اليوم؟ قالوا: خزيم بن أوس بن حارثة بن لام، من احتمل شتمنا، وأعطى سائلنا وحلم عن جاهلنا، وأغتفر ضربنا إياه بعصيّنا.
حلف أعرابي على شيء فقيل له: قل إن شاء الله، فخضع نفسه حتى لصق بالأرض ثم قال: إن شاء الله تذهب بالحنث، وترضى الرب، وترغم الشيطان، وتنجح الحاجة.
قال أعرابي لابن عمّ له: ما لك أسرع إلى ما أكره من الماء إلى قرارة ولولا ضنّي بإخائك، لما أسرعت إلى عتابك، فقال الآخر: والله ما أعرف تقصيرا فأقلع، ولا ذنبا فأعتب، ولست أقول لك كذبت، ولا أقرّ إني أذنبت.
وقال أعرابي: ما زال يعطيني حتى حسبته يردعني، وما ضاع مال أودع حمدا.
وقال أعرابي: شرّ المال، ما لا أنفق منه، وشرّ الإخوان الخاذل في الشدائد وشرّ السلطان من أخاف البريء، وشرّ البلاد ما ليس فيه خصب وأمن.
وقال: سمعت آخر يقول لابنه: صحبة بليد نشأ مع الحكماء، خير من صحبة لبيب نشأ مع الجهّال.
قال أعرابي لابنه: إياك يا بني وسؤال البلغاء في الرد.
قيل لأعرابي: كيف كتمانك السر؟ قال: ما جوفي له إلا قبر.
وأسرّ رجل إلى بعضهم، ثم قال له: أفهمت؟ قال: بل جهلت. قال:
أحفظت؟ قال: بل نسيت.
قال أعرابي من غطفان: لقد أحببت امرأة من بني ذهل بن شيبان، فكنت أنام وقلبي طائر، وأهبّ ودمعي قاطر.
قيل لأعرابي: على من البرد أشدّ؟ قال: على خلق في خلق.
قيل لطائي مرة: إن امرأتك تبغضك. فقال: ما أبالي إذا نلت منها ذو أحب، أن تنال مني ذو تكره، «وذو في لغة طيىء: الذي».
مدح أعرابي رجلا قال: فهو أكسبكم للمعدوم، وآكلكم للمأدوم، وأعطاكم للمحروم.(6/45)
قيل لطائي مرة: إن امرأتك تبغضك. فقال: ما أبالي إذا نلت منها ذو أحب، أن تنال مني ذو تكره، «وذو في لغة طيىء: الذي».
مدح أعرابي رجلا قال: فهو أكسبكم للمعدوم، وآكلكم للمأدوم، وأعطاكم للمحروم.
قال أعرابي: ما رأيت كفلان، إن طلب حاجة، غضب قبل أن يردّ عنها، وإن سئل، ردّ صاحبها قبل أن يفهمها.
وذم آخر رجلا فقال: لم يقنّع كميا سيفا، ولا قرى يوما ضيفا، ولا حمدنا له شتاء ولا صيفا.(6/46)
وذم آخر رجلا فقال: لم يقنّع كميا سيفا، ولا قرى يوما ضيفا، ولا حمدنا له شتاء ولا صيفا.
الباب الثالث أدعية مختارة وكلام للسّؤال من الأعراب وغيرهم
وقف أعرابيّ في بعض المواسم، فقال: اللهم إن لك حقوقا فتصدق بها عليّ، وللناس تبعات قبلي، فتحمّلها عنّي، وقد أوجبت لكلّ ضيف قرى، وأنا ضيفك، فاجعل قراي في هذه الليلة الجنّة.
قال آخر لرجل سأله: جعل الله للخير عليك دليلا، ولا جعل حظ السائل منك عذرة صادقة.
وقال آخر: اللهم لا تنزلني ماء سوء، فأكون امرأ سوء.
وقف سائل منهم فقال: رحم الله امرء أعطى من سعة، وواسى من كفاف، وآثر من قوت.
ومن دعائهم: أعوذ بك من بطر الغنى، وذلّة الفقر.
وقال آخر: أعوذ بك من سقم وعداوة، وذي رحم ودعواه، وفاجر وجدواه، وعمل لا ترضاه.
وسأل أعرابي فقال له صبيّ في جوف الدار. بورك فيك. فقال: قبّح الفم، لقد تعلّم الشّرّ صغيرا.
ودعا آخر فقال: اللهم إني أعوذ بك من طول الغفلة، وإفراط الفطنة، اللهم لا تجعل قولي فوق عملي، ولا تجعل أسوأ عملي ما قرب من أجلي.
وقال آخر: اللهم هب لي حقّك وارض عني خلقك. وقال آخر: اللهم إنك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، فقد ظلمنا أنفسنا. فاعف عنّا.
وقال آخر: اللهم امتعنا بخيارنا، وأعنّا على شرارنا، واجعل الأموال في سمحائنا.(6/47)
وقال آخر: اللهم هب لي حقّك وارض عني خلقك. وقال آخر: اللهم إنك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، فقد ظلمنا أنفسنا. فاعف عنّا.
وقال آخر: اللهم امتعنا بخيارنا، وأعنّا على شرارنا، واجعل الأموال في سمحائنا.
وقال آخر: اللهم إن كان رزقي في السّماء فأنزله، وإن كان في الأرض فأخرجه، وإن كان بعيدا، فقرّبه، وإن كان قريبا فيسّره، وإن كان قليلا فكثّره، وإن كان كثيرا فبارك فيه.
سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقول في دعائه: اللهمّ اجعلني من الأقلّين، فقال له عمر: وما هذا الدعاء؟ قال: سمعت الله يقول:
{وَقَلِيلٌ مََا هُمْ} [ص: 24] وقال ذكره جلّ وعزّ: {وَمََا آمَنَ مَعَهُ إِلََّا قَلِيلٌ} [هود:
40]. وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبََادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، فقال عمر: عليك من الدعاء بما يعرف.
دعا الغنوي في حبسه: أعوذ بك من السّجن والدّين، والغل والقيد والتعذيب والتحبيس، وأعوذ بك من الجور بعد الكور، ومن سوء الخلافة في النفس والأهل والمال، وأعوذ بك من الحزن والخوف، وأعوذ بك من الهمّ والرّق، ومن الهرب والطّلب، ومن الاستخفاء، ومن الاستخذاء، ومن الأطراد والأعراب، ومن الكذب والعيضهة، ومن السّعاية والنّميمة، ومن لؤم القدرة ومقام الخزي في الدنيا والآخرة: إنك على كل شيء قدير.
وكان بعضهم يقول في دعائه: اللهم احفظني من صديقي. وكان في دعاء آخر: اللهم اكفني بوائق الثقات.
قال أعرابي في دعائه: تظاهرت على بادىء منك النعم، وتكاثفت مني عندك الذنوب، فأحمدك على النعم التي لا يحصيها أحد غيرك، وأستغفرك من الذنوب التي لا يحيط بها إلا عفوك.
سألت أعرابية فقالت: سنة جردت، وأيد جمدت، وحال جهدت، فهل من آمر بمير، أو دال على خير، أو مجيب بخير، رحم الله من رحم، وأقرض من لا يظلم.
قال منصور بن عمّار صاحب المجالس: اللهم اغفر لأعظمنا جرما وأقسانا
قلبا وأقربنا بالخطيئة عهدا، وأشدنا على الذنب إصرارا، فقال له الخريميّ وكان حاضرا. امرأتي طالق إن كنت أردت غير إبليس.(6/48)
قال منصور بن عمّار صاحب المجالس: اللهم اغفر لأعظمنا جرما وأقسانا
قلبا وأقربنا بالخطيئة عهدا، وأشدنا على الذنب إصرارا، فقال له الخريميّ وكان حاضرا. امرأتي طالق إن كنت أردت غير إبليس.
قال: إذا دعت الأعراب لمسافر قالوا: اللهم قو ضعفته، واحرس غفلته، وشد منّته، اللهمّ اطو عنه غول الأرض وهولها، وحبّبه إلى أصحابه، واحمله على ركابه، سلّم له عصيها وقصبها، وألق عليه السّخرة والبلاغ، وادرأ عنه وعنها الأعراض والأمراض، حتى توديه سالما إلى سالمين.
كانوا يقولون: نعوذ بالله من ضربة الجبان، وضبطة الأعمى، وبادرة الصّبي، ودعوة البخيل، وضرط الرقيب، ونادرة المجنون، وذلة العالم.
قال أعرابي في دعائه: اللهم أرزقني صحة لا تلهى، وغنى لا يطغى وسريرة لا فضيحة فيها ولا شنعة، وعلانية لا رياء تطغى فيها ولا سمعة.
سأل رجل من بني كلاب معروف النسب فقال: إني رجل من بلعنبر، ولي سنّ، وبي فقر وعندي دعاء وشكر، وفي إعطائي أجر وذخر. فقيل له: أنت من بني كلاب وتتنسّب إلى بلعنبر قال: إنه مقام خزي، وهم لنا عدوّ، فأحببت أن يلحقهم عاره.
دعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أفتقر في غناك، أو أضلّ في هداك، أو أذلّ في عزّك، أو أضام في سلطانك، أو أضطهد والأمر لك.
قال سفيان بن عيينة (1): إني لواقف بعرفة وأعرابي إلى جانبي فسمعته يقول: اللهم قد أنضيت ظهري، وأبعدت مطلبي، ووقفت ببابك ضارعا خاضعا، فإن كنت لم تقبل تعبي ونصبي، فلا تحرمني أجر المصاب على مصابه. فلما قربت الشمس أن تغرب قال: اللهم عجّت الأصوات بضروب اللّغات، ليسألونك الحاجات، وحاجتي إليك أن لا تنساني على طول البكاء إذا نسيني أهل الدنيا.
__________
(1) هو سفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي، الكوفي، أبو محمد، محدث الحرم المكي، قال عنه الإمام الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز، كان حافظا ثقة، وكان أعور، وحج سبعين سنة، توفي سنة 198هـ (الأعلام 3/ 105، تذكرة الحفاظ 1/ 242، وفيات الأعيان 1/ 210).(6/49)
سأل أعرابي قوما فقال: رحم الله امرءا لم تمجّ أذنه كلامي، وقدّم لنفسه معاذة من سوء مقامي، فإن البلاد مجدبة والدار مضيّعة والحال مسغبة، والحياء زاجر ينهى عن كلامكم، والفقر عاذر يدعو إلى إخباركم، والدّعاء إحدى الصّدقتين، فرحم الله امرءا آسى بمير، أو دعا بخير. فقال له رجل: ممّن يا أعرابي؟ فقال: «ممّن لا تنفعكم معرفته ولا تضركم جهالته» اللهم غفرا، إن يوم الاكتساب يمنع من كرم الانتساب.
دعا أعرابي في الكعبة فقال: اللهم إنك عالم بحوائجي فاقضها، وعارف بذنوبي فاغفرها. فقيل له: اختصرت فقال: لا والله بل بالغت.
وقال آخر في دعائه: اللهم إنّي أسألك الخوف منك، حين يأمنك من لا يعرفك، وأسألك الأمن منك، حين يخافك من يغتر بك.
ودعا آخر فقال: اللهم فما أعرف معتمدا من زيادة فاطلب، ولا أجد غنى فأترك في الحجة، فإن أطنبت في سؤالك فلفاقتي إلى ما عندك، وإن قصّرت في دعائك فلما تعوّذت من ابتدائك.
قالت أعرابية عند الكعبة: إلهي لك أذل، وعليك أدل.
كان من دعاء شريح: اللهم إني أسألك الجنة بلا عمل عملته، وأعوذ بك من النار بلا ذنب تركته.
يقال إنه كان من دعاء يونس في الظلمات: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، وإلا تغفر لي وترحمني، أكن من الخاسرين. مسّني الضّر وأنت أرحم الرّاحمين.
قال أعرابي في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من حاجة إلا إليك، ومن خوف إلا منك، ومن طمع إلا فيما عندك.
قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول وهو متعلق بأستار الكعبة: إلهي! من أولى بالزلل والتقصير مني وقد خلقتني ضعيفا، إلهي! من أولى بالعفو عني منك، وقضاؤك فيّ نافذ، وعلمك بي محيط، أطعتك بإذنك، والمنّة لك عليّ وعصيتك بعلمك، والحجّة لك عليّ، فبثبات حجّتك، وانقطاع حجّتي، وبفقري
إليك، وغناك عني، ألا غفرت لي ذنوبي.(6/50)
قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول وهو متعلق بأستار الكعبة: إلهي! من أولى بالزلل والتقصير مني وقد خلقتني ضعيفا، إلهي! من أولى بالعفو عني منك، وقضاؤك فيّ نافذ، وعلمك بي محيط، أطعتك بإذنك، والمنّة لك عليّ وعصيتك بعلمك، والحجّة لك عليّ، فبثبات حجّتك، وانقطاع حجّتي، وبفقري
إليك، وغناك عني، ألا غفرت لي ذنوبي.
دعا أعرابي فقال: اللهم إنك حصيت ذنوبي فاغفرها، وعرفت حوائجي فاقضها.
وكان بعضهم يقول في دعائه: اللهم أعنّي على ديني بدينا، وأعنّي على آخرتي بتقوى.
ودعا آخر: اللهم إني أعوذ بك من الفاجر وجدواه، والغريم وعدواه، وأعوذ بك من سقم، وعداوة ذي رحم، وعمل لا ترضاه، اللهم أعوذ بك من الفقر إلّا إليك، ومن الذّلّ إلا لك.
سأل أعرابي قوما وهم في مصيبة فقالوا: ما ترى شغلتنا قال: ما بكم بدأت ولا إليكم انتهت.
قال الأصمعي: مرّ بي يوما أعرابي سائل فقلت له: كيف حالك؟ فقال:
اسأل الناس إجحافا، ويعطوننا كرها، فلا يؤخرون ما يعطون ولا يبارك لنا فيما نأخذ، والعمر بين ذلك فان والأجل قريب والأمل بعيد.
قال الأصمعي: اعترضنا أعرابي في طريق مكة فقال: هل عائد عليّ بفضل، أو مواس من كفاف؟ فأمسك عنه القوم. قولي وهو يقول: اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا فنعجز، ولا إلى الناس فنضيع.
وقف أعرابي على حلقة الحسن فقال: رحم الله من عاد بفضل، وواسى من كفاف، وآثر من معروف فقال الحسن: ما بقي منكم أحدا.
دعا عمرو بن عتبة فقال: اللهم أعني على الدنيا بالقناعة، وعلى الدين بالعصمة، اللهم إني أعوذ بك من طول الغفلة وإفراط الفطنة، اللهم لا تجعل قولي فوق عملي، ولا تجعل أسوأ عملي ما ولي أجلي، اللهم إني استغفرك مما أملك، وأستصفحك لما لا أملك، اللهم لا تجعلني ممّن إن مرض شجن، وإن استغنى فتن، وإن افتقر حزن.
سألت أعرابية بالبصرة فقالت: يا قوم! طرائد زمان وفرائس نازلة، نبذتنا
الرحال، ونشرتنا الحال، وأطعمنا السّؤال، فهل من كاسب لأجر، أو راغب في دخر.(6/51)
سألت أعرابية بالبصرة فقالت: يا قوم! طرائد زمان وفرائس نازلة، نبذتنا
الرحال، ونشرتنا الحال، وأطعمنا السّؤال، فهل من كاسب لأجر، أو راغب في دخر.
سأل أعرابي رجلا حاجة فقال: إذهب بسلام، فقال له: أنصفنا من ردنا في حوائجنا إلى الله.
وكانوا يستنجحون حوائجهم بركعتين يقولون بعدهما: اللهم إني بك استفتح، وبك استنجح، وبحمد نبيك إليك أتوجه، اللهم ذلّل لي صعوبته وسهّل حزونته، وارزقني من الخير أكثر مما أرجو، واصرف عنّي من الشّر أكثر مما أخاف.
ودعا بعضهم فقال: اللهم إني أعوذ بك من حياة على غفلة، ومن وفاة على غرة، ومن مرد إلى حسرة، وأسألك العافية من أن أمل عافيتك وأكفر نعمتك، أو أنسى حسن بلائك، أو أستبدل بالسيئة الحسنة.
سأل أعرابيّ فقال: سنة حردت، وحال جهدت، وأيد حمدت، فرحم الله من رحم.
تقول العرب في الدعاء على الرجل: لا طلبته الخيول للغارة أو يتكاره جدب الزمان وعلى هذا المعنى حمل قول الشاعر (1): [الوافر]
وجنّبت الخيول أبا زنيب ... وجاد على منازلك السّحاب
دعا رجل لآخر فقال: لا جعل الله حظ السائل منك عذرة صادقة.
دعا أعرابي أبطأ عنه ابنه، فخاف عليه فقال: اللهم إن كنت أنزلت به بلاء فأنزل به صبرا، وإن كنت وهبت له عافية فافرغ، عليه الشّكر، اللهمّ إن كان عذابا فاصرفه، وإن كان فلاحا، فزد فيه، وهب لنا الصّبر عند البلاء والشكر عند الرخاء.
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (زنب)، والمخصص 10/ 180، وتاج العروس (زنب)، ويروى صدر البيت بلفظ:
فجنّبت الجيوش أبا زينب(6/52)
كان قيس بن سعد، يقول: اللهم ارزقني مجدا وحمدا، فلا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال، اللهم إني أعوذ بك من فقر مكب، وضرع إلى عير مخب.
كان محمد بن المنكدر يقول: اللهمّ قوّ فرحي بأهلي، فإنه لا قوام لهم إلا به.
قال بعضهم: كنت مع سعيد بن عبد الملك فقصدت له إعرابية تريد أن تسأله فمنعت منه، فلم تزل تحتال حتى وقفت عليه، فقالت: أبا عثمان:
[البسيط]
حيّاك من لم تكن ترجو تحيّته ... لولا الحوائج ما حيّاك إنسان
وسألت أعرابية المنصور في طريق مكة، فمنعها فقالت متمثلة: [الطويل]
إذا لم يكن فيكنّ ظلّ ولا جنى ... فأبعدكن الله من شجرات
وسألته أخرى فمنعها، فقالت: [الطويل]
دنوّك إن كان الدّنوّ كما أرى ... عليّ وبعد الدار مستويان
زعموا أنّ الحسين الخادم أطال الجلوس عند الواثق فقال: ألك حاجة؟
فقال: أما إلى أمير المؤمنين فلا، ولكن إلى الله فيه، وهي أن يطيل بقاءه ويديم نعماءه.
قال الحسين بن وهب: شكرت ابن أبي داود فقال لي: أحوجك الله إلى أن تعلم ما لك عند صديقك.
قال رجل لرجل: سترك الله. فقال: وإياك فستر، ولا جعل ما تحت الستر ما يكره، فكم مستور منه على ما يكرهه الله.
قال الأصمعي: كان من دعاء أبي المجيب، اللهمّ اجعل خير عملي ما قارب أجلي. وكان يقول: اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا فنعجز، ولا إلى النّاس فنضيع.
وقال أبو زيد: وقف علينا أعرابي في حلقة يونس فقال: الحمد لله كما هو
أهله، ونعوذ بالله أن أذكر به وأنساه، خرجنا من المدينة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثون رجلا ممن أخرجته الحاجة، وحمل على المكروه لا يمرضون مريضهم، ولا يدفنون ميّتهم، ولا ينتقلون من منزل إلى منزل، وإن كرهوه، والله يا قوم، لقد جعت حتى أكلت النوى المحرق، ولقد مشيت حتى انتعلت الدّم، وحتى خرج من قدمي لحم كثير. أفلا رجل يرحم ابن سبيل، أذل طريق، ونضو سفر، فإنه لا قليل من الأجر، ولا غنى عن الله عز وجل، ولا عمل بعد الموت، وهو يقول جل ذكره: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضََاعِفَهُ} [البقرة: 245] مليّ، وفيّ، ماجد، واجد لا يستقرض من عوذ ولكنه يبلو الأخيار. قال: فبلغني أنّه لم يبرح حتّى أخذ ستّين دينارا.(6/53)
وقال أبو زيد: وقف علينا أعرابي في حلقة يونس فقال: الحمد لله كما هو
أهله، ونعوذ بالله أن أذكر به وأنساه، خرجنا من المدينة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثون رجلا ممن أخرجته الحاجة، وحمل على المكروه لا يمرضون مريضهم، ولا يدفنون ميّتهم، ولا ينتقلون من منزل إلى منزل، وإن كرهوه، والله يا قوم، لقد جعت حتى أكلت النوى المحرق، ولقد مشيت حتى انتعلت الدّم، وحتى خرج من قدمي لحم كثير. أفلا رجل يرحم ابن سبيل، أذل طريق، ونضو سفر، فإنه لا قليل من الأجر، ولا غنى عن الله عز وجل، ولا عمل بعد الموت، وهو يقول جل ذكره: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضََاعِفَهُ} [البقرة: 245] مليّ، وفيّ، ماجد، واجد لا يستقرض من عوذ ولكنه يبلو الأخيار. قال: فبلغني أنّه لم يبرح حتّى أخذ ستّين دينارا.
قال سفيان الثوري (1): سمعت سوداء بعرفة تقول: يا حسن الصّحبة:
أسألك سترا لا تهتكه الرياح، ولا تخرقه الرماح.
وكان من دعاء ابن السّماك: اللهم إنا نحبّ طاعتك وإن قصرنا، ونكره معصيتك وإن ركبناها، اللهم فتفضّل علينا بالجنة وإن لم نكن أهلها، وخلّصنا من النار وإن كنّا قد استوجبناها.
ووقفت امرأة من الأعراب من هوازن على عبيد الرحمن بن أبي بكرة فقالت: أصلحك الله، أقبلت من أرض شاسعة، يرفعني رافعة، ويخفضني خافضة بملمات من البلاء، وملمات من الدهور برين عظمي، وأذهبن لحمي، وتركنني والهة أمشي بالحضيض، وقد ضاق بي البلد العريض، لا عشيرة تحميني، ولا حميم يكفيني، فسألت في أحياء العرب من المرجو سيبه، المأمون عيبه، المكفيّ سائله، الكريمة شمائله، المأمول نائله، فأرشدت إليك، وأنا امرأة من هوازن، مات الوالد، وغاب الرّافد، وأنت بعد الله غياثي، ومنتهى أملي، فاصنع إليّ إحدى ثلاث: إما أن تقيم أودي، أو تحسن صفدي، أو تردّني إلى
__________
(1) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله الكوفي، إمام في علم الحديث وغيره من العلوم، وأحد الأئمة المجتهدين، توفي سنة 161هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 4/ 111، وفيات الأعيان 1/ 263، وتاريخ بغداد 1/ 151).(6/54)
بلدي. قال: بل أجمعهنّ لك وحيّا.
ووقفت أعرابية على قوم فقالت: بعدت مشقّتي، وظهرت محارمي، وبلغت حاجتي إلى الرّمق، والله سائلكم عن مقامي.
وسألت أخرى فقالت: سألتكم، فسؤلكم القليل الذي يوجب لكم والكثير، رحم الله واحدا أعان محقا.
ووقفت أخرى فقالت: يا قوم، تغير بنا الدهر إذ قل منّا الشكر ولزمنا الفقر، فرحم الله من فهم بالعقل، وأعطى من فضل، وآثر من كفاف، وأعان على عفاف.
كان بعضهم يقول: اللهم قني عثرات الكرام.
وكان بعض السلف يقول: اللهم أحملنا من الرّجلة (1) وأغننا من العيلة.
وسأل أعرابي فقيل له: بورك فيك ونوالي عليه ذلك من غير مكان فقال:
وكّلكم الله إلى دعوة لا تحضرها نية.
وقال بعضهم: اللهم أعني على الموت وكربته، وعلى القبر وغمّته، وعلى الميزان وحقّته، وعلى الصّراط وذلّته، وعلى يوم القيامة وروعته.
وقال آخر: اللهمّ أغنني بالافتقار إليك، ولا تفقرني بالاستغناء عنك.
وقال آخر: اللهمّ أعنّي على الدّنيا بالقناعة، وعلى الدّين بالعصمة.
وقال آخر: اللهم أمتعنا بخيارنا، وأعنّا على أشرارنا، واجعل المال في سمحائنا.
ولما ولي مسروق (2) السلسلة انبرى له شاب فقال له: وقاك الله خشية الفقر، وطول الأمل، ولا جعلك ذرية للسفهاء، ولا شينا للفقهاء.
__________
(1) الرّجلة، بضم الراء: السفر على الرجلين.
(2) مسروق: هو مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية، أبو عائشة الهمداني، تابعي، توفي سنة 63هـ، (انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 10/ 109، الإصابة 3/ 492، غاية النهاية 2/ 294).(6/55)
وقال أعرابيّ في دعائه! اللهمّ لا تحيني وأنا أرجوك، ولا تعذّبني، وأنا أدعوك، اللهمّ قد دعوتك كما أمرتني، فأجبني كما وعدتني.
وقالت امرأة من الأعراب: اللهمّ إني أعوذ بك من شرّ قريش وثقيف وما جمعت من اللّفيف، وأعوذ بك من ملك امرأة، ومن عبد ملأ بطنه.
كان قوم في سفينة فهاجت الرّيح فقال رجل منهم: اللهمّ إنّك أريتنا قدرتك، فأرنا رحمتك.
ورأى آخر رجلا سائلا يسأل يوم عرفة فقال: أيهذا إلام تسأل غير الله؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه، منهم البراء بن مالك، فاجتمع إليه الناس وقد دهمهم العدو، فأقسم على الله فمنحهم الله أكتافهم.
ودعا سعيد بن المسيب (1) فقال رغّبك الله فيما أبقى، وزهّدك فيما يفنى، ووهب لك اليقين الّذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا تعول في الدّين إلّا عليه.
وكان مطرف يقول: اللهم إنّك أمرتنا بأمرك، ولا نقوى عليه إلا بعونك، ونهيتنا عما نهيتنا عنه، ولا ننتهي عنه إلا بعصمتك، واقعة علينا حجتك غير معذورين فيما بيننا وبينك، ولا منجوسين فيما عملنا لوجهك.
ودعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك من الفقر المدقع. والذّل المضرع.
وقال آخر وقد سمع صوت الصواعق: اللهم إن كان عذابا فاصرفه، وإن كان صلاحا فزد فيه، وهب لنا الصّبر عند البلاء، والشّكر عند الرخاء، اللهمّ إن كانت محنة فمن علينا بالعصمة، وإن كانت عقابا فمن علينا بالمغفرة.
__________
(1) هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي، أبو محمد المدني المخزومي، سيد التابعين على الإطلاق، ولد لسنتين مضتا، وقيل: بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب، وكان يقال له: فقيه الفقهاء، وكان من أروع الناس فيما يدخل بيته وبطنه، وكان من أزهد الناس في فضول الدنيا. ومن أكثر الناس أدبا في الحديث، توفي سنة 94هـ (البداية والنهاية 9/ 110108، كتاب الثقاب 4/ 273، الطبقات الكبرى لابن سعد 5/ 89).(6/56)
قال طاوس (1): يكفي من الدعاء مع الورع، ما يكفي العجين من الملح.
دعا أعرابي فقال: اللهم إني أسألك البقاء، والنّماء، وحطّ الأعداء، وطيب الإتاء.
وقف أعرابي في جامع البصرة فقال: أما بعد فإنا أبناء السبيل، وأنضاء الطريق، تصدقوا علينا، فإنه لا قليل من الأجر، أما والله إنا لا نقوم هذا المقام، وفي الصدور حزازة، وفي القلب غصة.
قال الأصمعي: سمعت أعرابيّا على باب الكعبة وهو يقول: اللهم سائلك ببابك نفدت أيّامه، وبقيت آثامه، وانقطعت شهواته، وبقيت تبعاته، اللهمّ فاغفر لي، فإن تغفر لي فاعف عنّي فربّما عفا المليك عن مملوكه وهو مغضبه.
قال: وسمعت آخر وهو يقول: اللهم إني أعوذ بك من المفر منك إلا إليك ومن الذّل إلا لك، ومن التعزز إلا بك، فاعطني الخير، واجعلني له آهلا، وجنبني الشر، ولا تجعلني له مثلا.
قال: وسمعت آخر يدعو في يوم عرفة يقول: اللهم لا تحرمني خير ما عندك، لسوء ما عندي، وإن كنت لم تقبل تعبي، ونصبي، فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته.
وقف أعرابي على قوم فسألهم فانتهروه فقال: اللهم إني أسألك من القناعة ما يقلل عندي المستفاد، ويهوّن عليّ الأسف على ما فات. ثم أقبل على القوم وقال: وأنتم فحرمكم الله من الشّكر ما تستوجبون به الزيادة.
وقف أعرابي على قوم فقال: أخ في كتاب الله، وجار في بلاد الله وطالب إليكم من رزق الله، فهل من أخ موات في ذات الله؟!
كان يوسف بن الحسين المرازي يقول في دعائه: اللهم إنك تعلم أني
__________
(1) هو طاوس بن كيسان الخولاني الهمداني، أبو عبد الرحمن اليماني، من كبار التابعين، توفي سنة 106هـ (انظر ترجمته في كتاب الثقات 4/ 391، الطبقات الكبرى 6/ 66، وفيات الأعيان 1/ 291، تهذيب التهذيب 5/ 8).(6/57)
نصحت الناس قولا، وخنت نفسي فعلا، فهب خيانتي لنفسي لنصيحتي للناس.
دعا أعرابي فقال: يا رب إن كنت تدع رزقي لهواني عليك، فنمروذ كان أهون منّي، وإن كنت تدعه لكرامتي عليك، فسليمان كان أكرم مني.
حجّ رجل من الأعراب فقال: اللهم حضّرني إليك الرّغب والرّهب فأدأبت النهار، وأسأدت الليل، غير وعد ولا رسل أصل الجعجاع، وأدمن الإيضاع، فأنقيت الخفّ، وبريت العظم، وأكلت السنام، لك بذلك الامتنان، وفي قديم إليّ منك الإحسان، أنا ضيفك أرجو قراك فلينلني عفوك وليسعني فضلك، اللهم أحيني العاقبة، والغفران، بإله الطّول والإحسان.
دعا أعرابي على آخر فقال: رماك الله بليلة لا أخت لها.
ودعا آخر فقال: اللهم إني أسألك طعم الأهل، وخصب الرجل.
وكان آخر يقول: اللهم إني أعوذ بك من قرع الغناء، وكساد أيّم، وغضب العاقل.(6/58)
وكان آخر يقول: اللهم إني أعوذ بك من قرع الغناء، وكساد أيّم، وغضب العاقل.
الباب الرابع أمثال العرب
هذا الباب نذكر فيه صورا من أمثال العرب مما يحسن المحاضرة به في المحاورات، وإيراده في أثناء المكاتبات مجنّس أجناسا، ويتبع في تجنيسه الألفاظ: دون المعاني. يقدم في كل باب ما جاء منها على لفظ «أفعل» فإنها أكثر تكرارا في الكلام، والحاجة إليها أمسّ، والنّاس بها ألهج.
في أسماء الرجال وصفاتهم
(1) آبل من حنيف الحناتم.
(2) أبخل من مادر.
(3) أبلغ من سحبان وائل.
(4) أبين من قسّ.
(5) أبخل من ذي معذرة.
(6) أبخل من الضّنين بنائل غيره.
(7) أبرّ من فلحس. وهو رجل من شيبان، حمل أباه على ظهره وحجّ به.
(8) أبطأ من فند: بعثته مولاته ليقتبس نارا فعاد إليها بعد سنة.
(9) أجمل وأجمل من ذي العمامة: وهو سعيد بن العاص بن أمية.
(10) أجود من حاتم.
(11) أجود من كعب بن مامة.
(12) أجود من هرم.(6/59)
(11) أجود من كعب بن مامة.
(12) أجود من هرم.
(13) أجنّ من دقّة: هو دقّة بن عباية بن أسماء بن خارجة.
(14) أحمق من هبنّقة: ذي الودعات.
(15) أحمق من شرنبث.
(16) أحمق من بيهس.
(17) أحمق من حجينة، رجل من بني الصّيداء.
(18) أحمق من أبي غبشان: باع مفاتيح الكعبة لقصي بزقّ خمر.
(19) أحمق من حذنّة.
(20) أحمق من شيخ: فهو بطن من عبد القيس اشترى الفسو من إياد، وكانوا يعيّرون به، فيروى خيره، فعيّرت بعد ذلك عبد القيس بالفسوة.
(21) أحمق من ربيعة البكّاء: هو ربيعة بن عامر بن ربيعة بن صعصعة رأى أمّه وهو رجل تحت زوجها، فقرر أن يقتلها فبكى، وصاح، فقيل له:
أهون مقتول أم تحت زوج.
من الحكمة
(22) أحكم من لقمان.
(23) أحكم من هرم بن قطبة.
(24) أحمى من مجير الجراد: وهو مدلج بن سويد الطائي.
(25) أحمى من مجير الظعن: وهو ربيعة بن مكدّم.
(26) أحلم من الأحنف.
(27) أحلم من قيس بن عاصم.
(28) أحزم من سنان بن أبي حارثة.
(29) أخسر من شيخ مهو.(6/60)
(28) أحزم من سنان بن أبي حارثة.
(29) أخسر من شيخ مهو.
(30) أخسر صفقة من أبي غبشان.
(31) أخلى من جوف حمار: رجل من عاد وجوفه واد كان ينزل به فلما كفر أخرب الله واديه.
(32) أخنث من هيت.
(33) أخيب من حنين.
(34) أخنث من طويس.
(35) أخنث من الدلال.
(36) أخجل من مقمور، وهو صاحب الخفّين.
(37) أخطب من قس.
(38) أدلّ من حنيف الحناتم.
(39) أدلّ من دعيميص الرّمل.
(40) أدهى من قيس بن زهير.
(41) أرمى من ابن تقن. وهو رجل من عاد.
(42) أروى من معجل أسعد: كان رجلا أحمق وقع في غدير فجعل ينادي ابن عم له يقال له: «أسعد» ويقول: ناولني شيئا أشرب به الماء ويصيح بذلك حتى غرق.
(43) أزنى من قرد.
(44) أسأل من فلحس: وهو رجل من بني شيبان كان سيّدا عزيزا يسأل سهما في الجيش وهو في بيته فيعطي لعزّه فإذا أعطيه، سأل لامرأته، فإذا أعطيه سأل لبعيره، وكان له ابن يقال له «زاهر» فكان مثله فقيل فيه: العصا من العصية:
هكذا رواه ابن حبيب، فأما أبو عبيد فإنه يقول: الفلحس: الذي يتحين طعام الناس يقال: أتانا فلان يتفلحس، كما يتطفل.
(45) أسأل من قرثع.(6/61)
هكذا رواه ابن حبيب، فأما أبو عبيد فإنه يقول: الفلحس: الذي يتحين طعام الناس يقال: أتانا فلان يتفلحس، كما يتطفل.
(45) أسأل من قرثع.
(46) أسرق من شظاظ: رجل من بني ثعلب.
(47) أسرق من برجان.
(48) أشأم من خوتعة.
(49) أشأم من قدار.
(50) أشأم من أحمر عاد.
(51) أشأم من طويس.
(52) أصبر من قضيب: رجل من بني ضبة.
(53) أشد من لقمان بن عاد.
(54) أسبل من جذل الطّعان.
(55) أضيع من دم سلّاغ جبّار: هو رجل من عبد القيس.
(56) أضل من سنان: هو سنان بن أبي حارثة المرّي، وكان قومه عنّفوه على الجود فركب ناقته، ورمى بها الفلاة، فلم ير بعد ذلك وسمّته العرب: ضالّة غطفان. وقالوا: إن الجن استفحلته تطلب كرم فحله.
(57) أضبط من عائشة بن عثم: هو رجل من بني عبد شمس بن سعد من حديثه أنه كان يسقي إبله يوما، فأنزل أخاه في الركيّة ليميحه، فازدحمت الإبل فهوت بكرة في البئر، فأخذ ذنبها، وصاح بها أخاه: يا أخي الموت! فقال: ذلك إلى ذنب البكرة ثم اجتذبها فأخرجها.
(58) أطمع من أشعب.
(59) أظلم من جلندى.
(60) أطمع من مقمور.
(61) أعزّ من قنوع.
(62) أفرس من ملاعب الأسنّة.(6/62)
(61) أعزّ من قنوع.
(62) أفرس من ملاعب الأسنّة.
(63) أفرغ من حجّام ساباط.
(64) أعزّ من كليب وائل.
(65) أعزّ من مروان القرظ.
(66) أعدى من الشّنفرى.
(67) أعدى من السّليك.
(68) أعيى من الباقل.
(69) أعزل من امرىء القيس.
(70) أغدر من قيس بن عاصم.
(71) أغدر من عتيبة بن الحارث.
(72) أغلى فداء من حاجب بن زرارة.
(73) أغلى فداء من بسطام بن قيس.
(74) أفتك من البرّاض.
(75) أفتك من الحارث بن ظالم.
(76) أفتك من عمرو بن كلثوم.
(77) أكذب من حجينة.
(78) أفلس من ابن المذلّق.
(79) أفلس من العريان: (وهو العريان بن شهلة القطامي).
(80) أكذب من المهلّب بن أبي صفرة.
(81) أكذب من قيس بن عاصم.
(82) أقرى من زاد الرّكب. وهم ثلاثة نفر من قريش.
(83) أقرى من غيث الضريك: وهو قتادة بن مسلمة الحنفيّ.(6/63)
(82) أقرى من زاد الرّكب. وهم ثلاثة نفر من قريش.
(83) أقرى من غيث الضريك: وهو قتادة بن مسلمة الحنفيّ.
(84) أقرى من مطاعيم الريح: وهم أربعة أحدهم أبو محجن الثقفي.
(85) أقرى من أرماق المقوين: وهم كعب وحاتم وهرم.
(86) أقرى من آكل الخبز: وهو عبد الله بن حبيب العنبري.
(87) أكفر من ناشرة: وهو عبد الله من كفران النعمة.
(88) أكفر من حمار.
(89) ألأم من ابن قرصع: رجل من أهل اليمن.
(90) ألأم من جدرة.
(91) ألأم من البرم القرون.
(92) ألأم من ضبارة: وهما رجلان معروفان باللّؤم. سأل بعض ملوك العرب عن الأم الناس فذكر إليه وجاؤوه بجدرة، فجدع أنفه وفرّ ضبارة، فقالوا في المثل: نجا ضبارة لما جدع الجدرة.
(93) ألأم من راضع.
(94) ألهف من قضيب: رجل من العرب كان تمّارا بالبحرين وله حديث.
(95) أمضى من سليك المقانب.
(96) أمنع من عنز: رجل من عاد.
(97) أمطل من عقرب: رجل تاجر بالمدينة.
(98) أنعم من خزيم: رجل من ولد سنان بن أبي حارثة كان في زمن الحجاج.
(99) أنعم من حيّان: أخي جابر.
(100) أنوم من عبود: عبد نام في محتطبه أسبوعا.
(101) أنكح من ابن ألغز.
(102) ألوط من راهب.(6/64)
(101) أنكح من ابن ألغز.
(102) ألوط من راهب.
(103) أنكح من حوثرة: رجل من قيس.
(104) أكذب من أسير السّند: رجل من عبد القيس.
(105) أكذب من أخيذ الديلم.
(106) أكذب من أخيذ الجيش.
(107) أكذب من أخيذ الصّحبان.
(108) أكذب من الشّيخ الغريب.
(109) أكذب من مجرب.
(110) أندم من أبي غبشان.
(111) أندم من شيخ مهو.
(112) أندم من الكسعيّ.
(113) أوفى من أبي حنبل.
(114) أوفى من الحارث: تقول مضر: هو الحارث بن ظالم. وتقول ربيعة: هو الحارث بن عباد.
(115) أوفى من عوف بن محلّم.
(116) أوفى من السّموأل.
(117) أوفر فداء من الأشعث: أسرته مذجح ففدى نفسه بثلاثة آلاف بعير.
(118) أهون من تبالة على الحجّاج: تبالة بلدة صغيرة من بلدان اليمن يقال إنها أوّل بلدة وليها الحجّاج، فيقال إنه لما سار إليها قال للدّليل: أين هي؟
قال: قد سترتها هذه الأكمة عنك. فقال: أهون عليّ بعمل بلدة تسترها أكمة، ورجع.
(119) أهون من قعيس على عمّته: رهنته على صاع من برّ فلم تفكّه.(6/65)
قال: قد سترتها هذه الأكمة عنك. فقال: أهون عليّ بعمل بلدة تسترها أكمة، ورجع.
(119) أهون من قعيس على عمّته: رهنته على صاع من برّ فلم تفكّه.
(120) أهدى من دعيميص الرّمل: دليل معروف.
(121) أجبن من المنزوف ضرطا.
(122) أجرأ من فارس خصاف.
(123) أجرأ من خاصي الأسد.
(124) أجرأ من الماشي بترج: وهي مأسدة.
سائر ما جاء من الأمثال في أسماء الرجال
(125) مواعيد عرقوب. يضرب في الخلف والمطل.
(126) يلقى ما لاقى يسار الكواعب: يضرب لمن يطمع فيما يورطه.
(127) لا أفعل كذا حتى يؤوب القارظان.
(128) لا أفعل كذا حتى يؤوب المنخّل: يضرب لما يكون صفقة لم يشهدها حاطب لأمر، لو شهده من غاب عنه لأنكره.
(129) أسعد أم سعيد؟
(130) أنج سعد فقد هلك سعيد.
(131) أينما أوجه ألق سعدا.
(132) إن تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه.
(133) نفس عصام سوّدت عصاما.
(134) كبر عمرو عن الطوق.
(135) أوردها سعد وسعد مشتمل.
(136) سد ابن بيض الطريق.
(137) جزاء سنّمار.
(138) أودى كما أودى درم.(6/66)
(137) جزاء سنّمار.
(138) أودى كما أودى درم.
(139) جار كجار أبي دؤاد.
(140) إنما سميت هانئا لتهنأ: ويقال لتهنأ.
(141) لا حرّ بوادي عوف.
(142) هما كند ماني جذيمة.
(143) عند جهينة الخبر اليقين.
(144) ما وراءك يا عصام.
(145) أنا منه فالح بن خلاوة.
(146) لا يطاع لقصير أمر.
(147) لأمر ما جدع قصير أنفه.
(148) خذ من جذع ما أعطاك.
(149) لا آتيك حتى يؤوب هبيرة بن سعد.
(150) تجشّأ لقمان من غير شبع.
(151) إذا أتلف الناس، أخلف إلياس.
(152) إنما خدش الخدوش أبونا أنوش. يعني بذلك أول من كتب.
(153) من يطع عريبا يمس غريبا، عريب بن عمليق.
(154) من يطع نمرة يفقد ثمرة.
(155) من يطع عكبا يمس منكبّا.
(156) إن لام المعدى ونفر إذا لام ارتفع.
(157) بمثل جارية فلتزن الزانية سرا أو علانية هو جارية بن سليمان بن الحارث بن يربوع بن حنظلة وكان جميلا له حديث.
(158) إن الشّقيّ وافد البراجم.(6/67)