مقدّمة
[1] الكتاب الذي نقدم له يحمل عنوان «مقامات بديع الزمان الهمذاني» ويضم إحدى وخمسين مقامة فقط. بيد أن بديع الزمان يفخر بأنه صنف أربع ماية مقامة. وتترتب على صحة هذا العدد الضخم نتيجتان: الأولى أن قسما كبيرا من المقامات قد ضاع ولم يبق سوى إحدى وخمسين مقامة، والثانية أن عنوان الكتاب ليس دقيقا.
والذين ترجموا لصاحب هذه المقامات يقولون ان اسمه أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد الهمذاني، نسبة إلى مدينة همذان الإيرانية، حيث ولد سنة 358هـ / 969م. وفيها نشأ وشب وتأدب على يد العالم اللغوي الكبير أحمد بن فارس (390هـ). وفي الثانية والعشرين من عمره قدم إلى جرجان سنة 380هـ ومكث فيها سنتين اتصل أثناءهما بجماعة الاسماعيلية واطلع على معتقداتهم، كما اتصل بمحمد بن منصور الدهقان ونال رفده ورعايته. وانتقل من ثم إلى
نيسابور والتقى هناك بأبي بكر الخوارزمي (383هـ) الذائع الصيت في الترسل والأدب واللغة، وجرت بين الرجلين مساجلات توجت بمناظرة أثبتها البديع في إحدى رسائله، وادعى أنه انتصر فيها على خصمه وبزه وتفوق عليه، فاشتهر وارتفع قدره عند الأمراء والرؤساء.(1/5)
والذين ترجموا لصاحب هذه المقامات يقولون ان اسمه أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد الهمذاني، نسبة إلى مدينة همذان الإيرانية، حيث ولد سنة 358هـ / 969م. وفيها نشأ وشب وتأدب على يد العالم اللغوي الكبير أحمد بن فارس (390هـ). وفي الثانية والعشرين من عمره قدم إلى جرجان سنة 380هـ ومكث فيها سنتين اتصل أثناءهما بجماعة الاسماعيلية واطلع على معتقداتهم، كما اتصل بمحمد بن منصور الدهقان ونال رفده ورعايته. وانتقل من ثم إلى
نيسابور والتقى هناك بأبي بكر الخوارزمي (383هـ) الذائع الصيت في الترسل والأدب واللغة، وجرت بين الرجلين مساجلات توجت بمناظرة أثبتها البديع في إحدى رسائله، وادعى أنه انتصر فيها على خصمه وبزه وتفوق عليه، فاشتهر وارتفع قدره عند الأمراء والرؤساء.
ثم ترك البديع نيسابور وراح يطوف في أرجاء خراسان وانتهى إلى مدينة سجستان حيث حظي برعاية أميرها خلف بن أحمد وخصه بخمس مقامات يمتدح فيها أخلاقه السامية وكرمه وقوته وعلمه. ويبدو أنه صنف قسما من المقامات ابان هذه الفترة وقدمها إلى أميره هذا.
وألقى عصا ترحاله في مدينة هراة حيث تزوج من ابنة أحد أعيانها العلماء أبي الحسين بن محمد، فاستقر فيها ونظم أموره واطمأنت حياته. ولكن المنية قبضته وهو في شرخ شبابه لم يتجاوز الأربعين سنة 398هـ / 1007م. ويقول ابن خلكان ان الحاكم أبا سعيد عبد الرحمن بن محمد بن دوست كتب في آخر رسائله التي جمعها له ما يلي: «سمعت الثقات يحكون أنه مات من السكتة، وعجّل دفنه فأفاق في قبره، وسمع صوته بالليل، وأنه نبش عنه فوجدوه قد قبض على لحيته ومات من هول القبر». ولكنه يقول أيضا في ترجمته للبديع انه توفي سنة ثمان وتسعين وثلاث ماية مسموما بمدينة هراة.
إن هاتين الروايتين حول سبب موت بديع الزمان متناقضتان.
فالوفاة بالسكتة القلبية تختلف عن الوفاة بالسم. ومن يمت مسموما لا يمكن أن يفيق في قبره بعيد دفنه.
عدا المقامات، خلف الهمذاني رسائل كثيرة ناهزت ثلاثا وثلاثين ومايتي رسالة تدور حول مسائل أدبية وتحاكي رسائل الخوارزمي في أسلوبها الأنيق والمسجع والحافل بالزخارف البيانية والمحسّنات البديعية.(1/6)
كما ترك الهمذاني ديوان شعر حافل كنثره بالصنعة والزخرفة.
[2] ولا يهمنا من آثار البديع سوى مقاماته. وكاد يطبق الباحثون على أنه مبتكر فن المقامة. ويخالفهم الحصري الذي يقول في «زهر الآداب»: إن البديع عارض بمقاماته كتاب الأربعين حديثا لأبي بكر محمد بن دريد الأزدي (321223هـ). بيد أن هذا الكتاب ضاع، فحرمنا ذلك من الحكم على مدى تأثر البديع بابن دريد.
غير أن كتّاب المقامات الذين أتوا بعد البديع اقتفوا آثاره ونسجوا على منواله. وأهمهم اثنان هما القاسم بن علي الحريري (1054 1122م) الذي حاكى البديع بخمسين مقامة، راويتها الحارث بن همام وبطلها أبو زيد السروجي وناصيف اليازجي (18711800م) الذي قلد سلفيه بستين مقامة، راويتها سهيل بن عباد وبطلها ميمون بن خزام. وقد اعترف الحريري بفضل الهمذاني عليه، كما أقر اليازجي بشبه مقاماته بمقامات أسلافه.
والمقامة لغة تعني المجلس، والجماعة من الناس، كما تعني الخطبة أو العظة أو الرواية التي تلقى في مجتمع الناس.
وعرّفها بروكلمان بقوله: «عمد (الهمذاني) إلى أقوال المكدين فصاغ بها صورا قصارا من حياة السيارين، حافلة بالحركة التمثيلية التي تدور المحاورة بين شخصين سمى أحدهما عيسى بن هشام والآخر أبا الفتح الإسكندري، وجعلهما يتهاديان الدرر ويتنافثان السحر في معان تضحك الحزين وتحرك الرصين» (تاريخ آداب اللغة العربية ج 2).
وحددها ناصيف اليازجي بقوله: «إنني قد تطفلت على مقام أهل الأدب من أيمة العرب، بتلفيق أحاديث تقتصر من شبه مقاماتهم على
اللقب، ونسبت وقائعها إلى ميمون بن خزام وروايتها إلى سهيل بن عباد، وكلاهما من أب مجهول النسبة والبلاد. وقد تحريت أن أجمع فيها ما استطعت من الفوائد والقواعد، والغرائب والشوارد، والأمثال والحكم، والقصص التي يجري بها القلم، وتسعى لها القدم، إلى غير ذلك من نوادر التراكيب، ومحاسن الأساليب، والأسماء التي لا يعثر عليها إلا بعد جهد التنقير والتنقيب» (مقدمة المقامات).(1/7)
وحددها ناصيف اليازجي بقوله: «إنني قد تطفلت على مقام أهل الأدب من أيمة العرب، بتلفيق أحاديث تقتصر من شبه مقاماتهم على
اللقب، ونسبت وقائعها إلى ميمون بن خزام وروايتها إلى سهيل بن عباد، وكلاهما من أب مجهول النسبة والبلاد. وقد تحريت أن أجمع فيها ما استطعت من الفوائد والقواعد، والغرائب والشوارد، والأمثال والحكم، والقصص التي يجري بها القلم، وتسعى لها القدم، إلى غير ذلك من نوادر التراكيب، ومحاسن الأساليب، والأسماء التي لا يعثر عليها إلا بعد جهد التنقير والتنقيب» (مقدمة المقامات).
يبدو كلام اليازجي أقرب إلى حقيقة المقامات من كلام بروكلمان. فهي لا تعدو كونها أحاديث ملفقة، كما يقول اليازجي، غرضها إظهار المقدرة البيانية واللغوية، وحظها من الحركة التمثيلية ضئيل، وهي تبعث على الأسى أكثر مما تثير الضحك.
إنها حديث، ولذا نجدها تبدأ بهذه العبارة: «حدثنا عيسى بن هشام قال» أو حدثنا الحارث بن همام، أو حدثنا سهيل بن عباد الخ والحديث هو خبر عن شخص من الأشخاص، يروي ما تعرض له من أمور وما قام به من أفعال وما تفوّه من أقوال. والخبر ضرب من الفن القصصي، ولكنه ضعيف الحبكة لا يعنى بتسلسل الأحداث وتدرجها من بداية إلى عقدة إلى حل، ولا يراعي وحدة الموضوع.
والمقامات مجموعة أحاديث تخبرنا عن شخص اسمه عند الهمذاني أبو الفتح الإسكندري، وتتتبع ما يقوم به من أعمال وما يتفوّه به من أقوال. وهذا البطل لم يوجد في الحقيقة، وقد حاول صاحب المقامات أن يوهمنا بأنه شخص حقيقي فزعم أنه قرشي النسب اسكندري المنبت، وأن له زوجة وولدا. وأنه كان غنيا فانقلب عليه الدهر وغدا فقيرا محتاجا إلى عطاء الناس. ولذلك تراه يجوب الآفاق متنقلا من بلد إلى آخر متنكرا في أزياء مختلفة متوسلا للحصول على المال الكدية والحيلة والدهاء وذرابة اللسان.(1/8)
وهو يحاول أن يعلل سلوكه الشائن هذا بضرورة التكيف مع الأحوال والظروف والبيئة الاجتماعية. لقد قلب له الدهر ظهر المجن ولم يعدل في قسمة الخيرات بين الناس، فجاد بها على الحمقى والأغبياء وحرم العلماء والأذكياء من أمثاله. وخير وسيلة لمقارعة الأيام والحصول على حقوقه الخداع والتقلب والتظاهر بالحمق. وقد عبر عن ذلك بقوله:
أنا أبو قلمون ... في كل لون أكون
اختر من الكسب دونا ... فإن دهرك دون
زج الزمان بحمق ... إن الزمان زبون
لا تكذبن بعقل ... ما العقل إلا الجنون
أو يقول في مقامة أخرى:
هذا الزمان مشوم ... كما تراه غشوم
الحمق فيه مليح ... والعقل عيب ولوم
والمال طيف ولكن ... حول اللئام يحوم
إن أبا الفتح ينصح باختيار طرق الكسب الدنيئة، لأن الدهر دنيء، وينصح بالتخلي عن العقل والتزام الحمق لأن الناس حمقى ولئام. وهي لعمري فلسفة الدناءة والغباوة، فلسفة الاستجداء والاستعطاء والاستعطاف والاستسلام، فلسفة الهوان والذل والحقارة، فلسفة الموت الخلقي.
والسؤال الذي يمكن طرحه هو التالي: هل تعكس هذه الفلسفة واقعا اجتماعيا مترديا في القرن الرابع الهجري في بلاد فارس؟ أو هل تعكس فكر بديع الزمان الهمذاني ذاته؟
يبدو أنها انعكاس لحالة اجتماعية متردية في زمان الهمذاني
كانت تسود بلاد ايران، لأن الذين ترجموا له حصروا تنقلاته في ايران فقط، ويبدو أن الفقر كان منيخا على طبقة واسعة من الشعب، وأن التسول أو التكدي كان منتشرا، وأن عدد المكدين كان كبيرا، وأن حيلهم في كسب المال كانت متنوعة ومعقدة أحيانا. نلفي ذلك واضحا في المقامة الساسانية حيث يقول: «أحلتني دمشق بعض أسفاري، فبينا أنا يوما على باب داري إذ طلع علي من بني ساسان كتيبة قد لفوا رؤوسهم، وطلوا بالمغرة لبوسهم، وتأبط كل واحد منهم حجرا يدق به صدره، وفيهم زعيم لهم يقول وهم يراسلونه، ويدعو ويجاوبونه، فلما رآني قال:(1/9)
يبدو أنها انعكاس لحالة اجتماعية متردية في زمان الهمذاني
كانت تسود بلاد ايران، لأن الذين ترجموا له حصروا تنقلاته في ايران فقط، ويبدو أن الفقر كان منيخا على طبقة واسعة من الشعب، وأن التسول أو التكدي كان منتشرا، وأن عدد المكدين كان كبيرا، وأن حيلهم في كسب المال كانت متنوعة ومعقدة أحيانا. نلفي ذلك واضحا في المقامة الساسانية حيث يقول: «أحلتني دمشق بعض أسفاري، فبينا أنا يوما على باب داري إذ طلع علي من بني ساسان كتيبة قد لفوا رؤوسهم، وطلوا بالمغرة لبوسهم، وتأبط كل واحد منهم حجرا يدق به صدره، وفيهم زعيم لهم يقول وهم يراسلونه، ويدعو ويجاوبونه، فلما رآني قال:
أريد منك رغيفا ... يعلو خوانا نظيفا
أريد منك قميصا ... وجبة ونصيفا الخ
كما نلفي ذلك في المقامة الرصافية حيث يعدد حيل المكدين واللصوص الغريبة العجيبة. فذكر منهم أصحاب الفصوص، وأهل الكف والقف، ومن يعمل بالطف، ومن يحتال في الصف، ومن يخنق بالدف، ومن يكمن في الرف، ومن يبدل بالمسح، ومن يأخذ بالمزح، ومن يسرق بالنصح، ومن يدعو إلى الصلح، ومن باهت بالنرد، ومن غالط بالقرد، ومن جاءك بالقفل، ومن شق الأرض من سفل، ومن نوم بالبنج، واحتال بنيرنج، ومن بدل نعليه، ومن كابر بالسيف، ومن سار مع العير، ومن لاذ من الخوف، ومن يسرق بالبول، ومن ينتهز الهول الخ
وهي لا تعكس فكر بديع الزمان ذاته لأن عيسى بن هشام راوية المقامات والناطق على الأرجح باسم البديع كان تارة يلوم أبا الفتح على تصرفاته ويستغرب سلوكه ويطلب منه تفسيرا لآرائه، وطورا كان يبدي الشفقة عليه، ويعجب بحسن بيانه وبلاغته ومعارفه الأدبية
واللغوية والفكرية الواسعة. فهو يقول له مثلا في آخر المقامة القردية عندما اكتشفه يرقّص قردا ليحصل على مال المشاهدين: فلما فرغ القراد من شغله، وانتفض المجلس عن أهله، قمت وقد كساني الدهش حلته، ووقفت لأرى صورته، فإذا هو والله أبو الفتح الإسكندري، فقلت: ما هذه الدناءة ويحك، فأنشأ يقول:(1/10)
وهي لا تعكس فكر بديع الزمان ذاته لأن عيسى بن هشام راوية المقامات والناطق على الأرجح باسم البديع كان تارة يلوم أبا الفتح على تصرفاته ويستغرب سلوكه ويطلب منه تفسيرا لآرائه، وطورا كان يبدي الشفقة عليه، ويعجب بحسن بيانه وبلاغته ومعارفه الأدبية
واللغوية والفكرية الواسعة. فهو يقول له مثلا في آخر المقامة القردية عندما اكتشفه يرقّص قردا ليحصل على مال المشاهدين: فلما فرغ القراد من شغله، وانتفض المجلس عن أهله، قمت وقد كساني الدهش حلته، ووقفت لأرى صورته، فإذا هو والله أبو الفتح الإسكندري، فقلت: ما هذه الدناءة ويحك، فأنشأ يقول:
الذنب للأيام لا لي ... فاعتب على صرف الليالي
بالحمق أدركت المنى ... ورفلت في حلل الجمال
[3] عدا هذه الناحية الاجتماعية نجد في المقامات ناحية أدبية. ففي المقامة القريضية يصدر أحكاما نقدية على عدد من شعراء الجاهلية والعصر الأموي منهم امرؤ القيس والنابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى، وطرفة بن العبد، وجرير بن عطية والفرزدق. وهذه الأحكام التي تتسم بكثير من الدقة والإيجاز لم يبتكرها وقد سبقه إليها النقاد أمثال ابن قتيبة، وابن سلام الجمحي، وغيرهما.
وفي المقامة الغيلانية يتحدث عن الشاعر الأموي غيلان بن عقبة الملقب بذي الرمة. ويروي شيئا من شعره ويذكر حادثة جرت له مع الفرزدق الذي كان يحتقر ذا الرمة ويرى أن شعره غير مثقف ولا سائر.
وفي المقامة الجاحظية ينتقد الجاحظ لأنه لم يجمع بين شقي البلاغة واقتصر على النثر دون الشعر.
وفي المقامة العراقية يطرح أحاجي عن أبيات من الشعر، فيسأل عن بيت قالته العرب لا يمكن حله، وبيت نظمته مدحا لم يعرف أهله، وبيت سمج وضعه وحسن قطعه، وبيت لا يرقأ دمعه، وبيت يثقل وقعه، وبيت يشج عروضه ويأسو ضربه الخ
[4] ونعثر في المقامات على واحدة في علم الكلام هي المقامة
المارستانية، حيث نجد مجنونا ينتقد آراء المعتزلة القائلين بحرية الإنسان ويذهب مذهب الجبرية القائلة إن الإنسان ليس حرا وإنما أفعاله من صنع الله. ويقول: «إن الخيرة لله لا لعبده، والأمور بيد الله لا بيده، وأنتم يا مجوس هذه الأمة تعيشون جبرا، وتموتون صبرا، وتساقون إلى المقدور قهرا، ولو كنتم في بيوتكم لبرز الذي كتب عليهم القتل إلى مضاجعكم، أفلا تنصفون إن كان الأمر كما تصفون؟».(1/11)
[4] ونعثر في المقامات على واحدة في علم الكلام هي المقامة
المارستانية، حيث نجد مجنونا ينتقد آراء المعتزلة القائلين بحرية الإنسان ويذهب مذهب الجبرية القائلة إن الإنسان ليس حرا وإنما أفعاله من صنع الله. ويقول: «إن الخيرة لله لا لعبده، والأمور بيد الله لا بيده، وأنتم يا مجوس هذه الأمة تعيشون جبرا، وتموتون صبرا، وتساقون إلى المقدور قهرا، ولو كنتم في بيوتكم لبرز الذي كتب عليهم القتل إلى مضاجعكم، أفلا تنصفون إن كان الأمر كما تصفون؟».
فالدليل على أن الإنسان مجبر وليس حرا هو أنه يأتي إلى الحياة دون إرادته، ويموت دون إرادته، ويساق إلى ما قدر له دون إرادته.
ويرد على دعوى المعتزلة القائلين ان الله لو كان خالق أفعال العبد الظالمة أو الشريرة لكان شريرا وظالما لأن خالق الظلم ظالم فيقول لهم: لو صح هذا لوجب القول خالق الهلك هالك. فكما لا يجوز هذا القول كذلك لا يجوز القول إن خالق الظلم ظالم.
ويرد على المعتزلة الذين يقولون إن الإنسان خيّر فاختار أفعاله، قائلا: «كلا، فإن المختار لا يبعج بطنه ولا يفقأ عينه، ولا يرمي من حالق ابنه». كلها أمور تحدث للإنسان وهو مكره عليها. والإكراه نوعان: إكراه داخلي يتمثل بغلبة الغرائز على العقل، وإكراه خارجي يتمثل بالسلطة التي يخضع لها الناس.
وهو يعيبهم لأنهم يؤولون آيات القرآن وأحاديث النبي كما يشاؤون كالصراط وعذاب القبر والميزان.
وينكر عليهم اعتقادهم بحدوث القرآن أو كلام الله ويقول: «وإن ذكر الكتاب قلتم: من القد دفتاه، يا أعداء الكتاب والحديث».
ويعيب عليهم موقفهم من مسألة الخلافة، وقولهم إن عليا أو
معاوية قد فسق، ولكنهم لا يجزمون بواحد منهما. ويرى أنهم في ذلك يقتربون من الخوارج ويرون رأيهم إلا القتال.(1/12)
ويعيب عليهم موقفهم من مسألة الخلافة، وقولهم إن عليا أو
معاوية قد فسق، ولكنهم لا يجزمون بواحد منهما. ويرى أنهم في ذلك يقتربون من الخوارج ويرون رأيهم إلا القتال.
[5] وتحفل المقامات بالوعظ والحكم والحث على العلم، وقد خصص الهمذاني مقامة للوعظ يدعو فيها إلى الزهد في الدنيا والإعداد للآخرة، يقول فيها: «إن بعد المعاش معادا فأعدوا له زادا ألا وإن الفقر حلية نبيكم فاكتسوها، والغنى حلة الطغيان فلا تلبسوها
كذبت ظنون الملحدين الذين جحدوا الدين وجعلوا القرآن عضين
ألا وإن العلم أحسن على علاته، والجهل أقبح على حالاته، وإنكم أشقى من أظلته السماء إن شقي بكم العلماء، الناس بأئمتهم
والناس رجلان: عالم يرعى ومتعلم يسعى، والباقون هامل نعام وراتع أنعام».
أما العلم فلا يدرك بالحظ، ولا بالحلم، ولا بالوراثة، ولا يستعار، وإنما يتوسل إليه بالاجتهاد في الطلب وإدمان السهر وتحمل المشقات والأسفار، وكثرة النظر واعمال الفكر. وهو لا يغرس إلا في النفس ولا يحفظ إلا في الروح والقلب، ومنهجه الدرس والنظر ثم الانتقال إلى التحقيق، ثم الانتهاء إلى التعليق (المقامة العلمية).
ونحن نجد تناقضا في الآراء وتعارضا في المواقف واضطرابا في الأحكام. فهو تارة يدعو إلى العلم وطورا يدعو إلى الحمق. ومرة يحث على طلب اللذة وأخرى يحث على الزهد. وآنا ينصح بالكرم وبذل المال وآونة ينصح بالبخل واكتناز المال. لنسمعه يقول في الحط من شأن المال والغنى: «هل المال إلا عارية مرتجعة ووديعة منتزعة؟
ينقل من قوم إلى آخرين وتخزنه الأوائل للآخرين. هل ترون المال إلا عند البخلاء دون الكرماء والجهال دون العلماء؟ إياكم والانخداع
فليس الفخر إلا في إحدى الجهتين، ولا التقدم إلا بإحدى القسمتين:(1/13)
ينقل من قوم إلى آخرين وتخزنه الأوائل للآخرين. هل ترون المال إلا عند البخلاء دون الكرماء والجهال دون العلماء؟ إياكم والانخداع
فليس الفخر إلا في إحدى الجهتين، ولا التقدم إلا بإحدى القسمتين:
إما نسب شريف أو علم منيف الخ» (المقامة المطلبية).
ولكنه لا يلبث أن يوصي ولده بالحرص على المال ويحذره من التبذير قائلا: «لا آمن عليك لصين: أحدهما الكرم واسم الآخر القرم، فإياك وإياهما، إن الكرم أسرع في المال من السوس، وان الكرم اشأم من البسوس إنه المال عافاك الله فلا تنفقن إلا من الربح وعليك بالخبز والملح الخ». (المقامة الوصية).
[6] ونلفي في مقامات البديع موضوعا خامسا هو المديح. والممدوح واحد هو خلف بن أحمد أمير سجستان الذي اتصل به الكاتب فأكرمه وأجزل له العطاء، فتحركت قريحته، وجادت بخمس مقامات تشيد بمناقب الأمير وجوده وسطوته وحلمه وعلمه، وهي المقامة الخلفية، والمقامة النيسابورية، والمقامة الملوكية، والمقامة السارية، والمقامة التميمية.
[7] والموضوع الأخير الذي يلفت انتباهنا في مقامات البديع هو الفروسية. وقد جعله محور مقامتين هما المقامة الأسدية والمقامة البشرية. ونجد في الأولى معركة تدور رحاها بين الأسد وأحد الفرسان ثم بين فارسين اثنين. والمقامة البشرية تدور حول معركة نشبت بين بشر بن عوانة الذي اخترعته مخيلة البديع شاعرا وفارسا تيمته ابنة عمه، ورفض عمه أن يزوجه إياها ما لم يسق إليها ألف ناقة مهرا من نوق خزاعة. فتوجه بشر إلى خزاعة وكان في الطريق أسد وأفعى يتحاشاهما العرب لشدة فتكهما. أما الأسد فقد ضربه بشر بسيفه وقطعه نصفين. وأما الحية فقد أدخل يده في فمها وحكم سيفه فيها فقطعها. واصطدم بغلام أراد قتل عمه ودارت بينهما معركة حامية الوطيس وتكشفت عن أن الغلام هو ابن بشر.(1/14)
[8] بقي أسلوب المقامات، إنه أسلوب التصنع البياني والزخرفة البديعية. نجد جملة قصيرة مقطعة تقطيعا متوازنا، تنتهي كل منها بسجعة. ويلتزم السجع التزاما تاما ما خلا المقامة الأخيرة التي اعتقد أنها منحولة وليست لبديع الزمان الهمذاني وقد أقحمت عليها إقحاما.
وعدا السجع تحفل المقامات بالتشابيه والاستعارات والمجازات والكنايات والطباق والجناس، وسائر المحسنات البيانية والبديعية.
وثمة صفة أخرى تمتاز بها المقامات هي كثرة الكلمات الغريبة التي لم تعد مألوفة منا اليوم، وكثير منها ساقه إليها التسجيع والطباق والجناس وغيرها.
أما السمة البارزة فهي الجمع بين النثر والشعر. وقلما تخلو مقامة من عدد من الأبيات التي تنسجم مع موضوع المقامة وسياق الكلام. وغالبا ما تختتم المقامة ببيتين أو أكثر يعبّر بها أبو الفتح عن نفسه ومذهبه في الحياة.
وتبدو التعابير التي يستعملها البديع نماذج جاهزة صبت في قوالب خاصة، يفزع إليها الكاتب ليتناول منها حاجته، وتتكرر في مقامات عدة. فهو عندما يريد مثلا وصف الدينار يستعمل التعابير التالية: «من نجار الصفر، يدعو إلى الكفر، ويرقص على الظفر» في المقامة البلخية والمقامة الصفرية الخ. وإذا أراد التعبير عن العودة من السفر إلى الوطن يكرر هذه التعابير: «طويت الريط، وثنيت الخيط» في المقامتين السالفتين وغيرهما. وإذا ابتغى وصف المكدي فزع إلى التعابير التالية: «وفد الليل وبريده، وفل الجوع وطريده، وحر قاده الضر، والزمن المرّ، وضيف وطؤه خفيف وضالته رغيف»، نراها تتكرر في المقامة الكوفية والمقامة الناجمية وسواهما. وإذا حاول
الإفصاح عن افتراقه عن رفيقه المسافر يقول: «جذبني نجد والتقمه وهد، فصعدت وصوّب، وشرقت وغرّب» تتكرر في المقامة الشيرازية وغيرها.(1/15)
وتبدو التعابير التي يستعملها البديع نماذج جاهزة صبت في قوالب خاصة، يفزع إليها الكاتب ليتناول منها حاجته، وتتكرر في مقامات عدة. فهو عندما يريد مثلا وصف الدينار يستعمل التعابير التالية: «من نجار الصفر، يدعو إلى الكفر، ويرقص على الظفر» في المقامة البلخية والمقامة الصفرية الخ. وإذا أراد التعبير عن العودة من السفر إلى الوطن يكرر هذه التعابير: «طويت الريط، وثنيت الخيط» في المقامتين السالفتين وغيرهما. وإذا ابتغى وصف المكدي فزع إلى التعابير التالية: «وفد الليل وبريده، وفل الجوع وطريده، وحر قاده الضر، والزمن المرّ، وضيف وطؤه خفيف وضالته رغيف»، نراها تتكرر في المقامة الكوفية والمقامة الناجمية وسواهما. وإذا حاول
الإفصاح عن افتراقه عن رفيقه المسافر يقول: «جذبني نجد والتقمه وهد، فصعدت وصوّب، وشرقت وغرّب» تتكرر في المقامة الشيرازية وغيرها.
وهو يكرر بيتين من الشعر في آخر المقامة الجاحظية والمقامة العلمية مع تغيير كلمتين فقط. ففي الجاحظية يقول:
اسكندرية داري ... لو قر فيها قراري
لكن ليلي بنجد ... وبالحجاز نهاري
ويقول في العلمية:
اسكندرية داري ... لو قر فيها قراري
لكن بالشام ليلي ... وبالعراق نهاري
[9] بقي أن نقول: إن هذه الطبعة التي نقدم لها ليست الأولى. لقد طبعت مقامات بديع الزمان الهمذاني عدة طبعات منها طبعة بولاق سنة 1291هـ، وطبعة استانبول سنة 1298هـ، وطبعة القاهرة سنة 1304هـ، وطبعة بيروت مع شرح الشيخ محمد عبده 1889م، وطبعة القاهرة مع شرح محمد محي الدين عبد الحميد التي رجع فيها الى طبعة محمد عبده سنة 1923م، وطبعت على الحجر في طهران والهند.
وتوجد المقامات مخطوطة فى پاريس أول 3923، هافينا 224 كمبردج أول 118، 10971096برلين 8535بايزيد 2640 أيا صوفيا 4284، فاتح 40984097نور عثمانية 7042.
وحسبنا أننا قدمنا لها، وشرحناها شرحا سهل المتناول يجلو غامضها ويقرب بعيدها.
بيروت في 10/ 4/ 1993د. علي بو ملحم(1/16)
1 - المقامة القريضيّة (1)
حدّثنا عيسى بن هشام (2) قال:
طرحتني النّوى مطارحها (3) حتّى إذا وطئت جرجان الأقصى (4).
فاستظهرت (5) على الأيّام بضياع أجلت فيها يد العمارة، وأموال
__________
(1) المقامة القريضية: المقامة الشعرية، نسبة إلى القريض أي الشعر، لأنها تدور حول بعض الشعراء وتتضمن أحكاما نقدية على أشعارهم. والمقامة أحد فنون النثر العربي، عبارة عن حديث قصصي السياق يحكى في مجلس من المجالس.
(2) عيسى بن هشام: راوية مقامات بديع الزمان الهمذاني، شخصية اخترعها الهمذاني ونسب إليه مقاماته، ويرد ذكره في جميع المقامات.
(3) النوى: الغربة. وطرحتني النوى: أبعدتني إلى بلاد بعيدة.
(4) وطئت جرجان الأقصى: دست أرضها برجلي، دخلت مدينة جرجان وهي عاصمة بلاد خوارزم قديما.
(5) استظهرت: استعنت.(1/17)
وقفتها على التّجارة، وحانوت جعلته مثابة (1)، ورفقة اتّخذتها صحابة، وجعلت للدّار، حاشيتي النّهار (2)، وللحانوت بينهما، فجلسنا يوما نتذاكر القريض وأهله، وتلقاءنا (3) شابّ قد جلس غير بعيد ينصت وكأنّه يفهم، ويسكت وكأنّه لا يعلم حتّى إذا مال الكلام بنا ميله، وجرّ الجدال فينا ذيله (4)، قال: قد أصبتم عذيقه، ووافيتم جذيله (5)، ولو شئت للفظت وأفضت، ولو قلت لأصدرت وأوردت (6)، ولجلوت الحقّ في معرض بيان يسمع الصّمّ، وينزل العصم، فقلت: يا فاضل ادن فقد منّيت، وهات فقد أثنيت، فدنا وقال: سلوني أجبكم، واسمعوا أعجبكم.
فقلنا: ما تقول في امرىء القيس؟ (7) قال: هو أوّل من وقف بالدّيار وعرصاتها (8)، واغتدى والطّير في وكناتها (9)، ووصف الخيل
__________
(1) مثابة: مكان الإقامة.
(2) حاشيتي النهار: طرفي النهار، أي صباحه ومساؤه.
(3) تلقاءنا: قبالتنا.
(4) جرّ الجد فينا ذيله: جرى بيننا نقاش.
(5) قد أصبتم عذيقه ووافيتم جذيله: العذيق تصغير العذق أي النخلة وثمارها.
والجذيل تصغير الجذل أي العود الذي يحك به الأجرب جلده. والمعنى أنكم أدركتم صاحب البيان الذي تنشدونه. وربما نظر الهمذاني في هذه العبارة إلى القول المأثور عن الحباب بن المنذر «أنا عذيقها المرجب وجذيلها المحلك».
(6) أصدر وأورد: رجع عن الماء وأتاه. والمعنى أنه يقدم الكلام ويؤخره أو يتصرف فيه كما يشاء.
(7) امرؤ القيس: شاعر جاهلي فحل من أصحاب المعلقات العشر. لها في شعره وتغزل ووصف. امتاز قريضه بجودة السبك والجزالة وحسن التشبيه.
(8) عرصات الديار: باحاتها.
(9) وكنات الطير: أعشاشها.(1/18)
بصفاتها، ولم يقل الشّعر كاسبا، ولم يجد القول راغبا (1)، ففضل من تفتّق للحيلة لسانه، وانتجع للرّغبة بنانه (2)، قلنا: فما تقول في النّابغة؟ (3)، قال: يثلب إذا حنق، ويمدح إذا رغب، ويعتذر إذا رهب، فلا يرمي إلّا صائبا، قلنا: فما تقول في زهير؟ (4) قال: يذيب الشّعر والشعر يذيبه، ويدعو القول والسّحر يجيبه (5). قلنا: فما تقول في طرفة (6)؟ قال: هو ماء الأشعار وطينتها، وكنز القوافي ومدينتها، مات ولم تظهر أسرار دفائنه، ولم تفتح أغلاق خزائنه، قلنا: فما تقول في جرير (7)
__________
(1) أي لم يتكسب في شعره.
(2) أي لم يتحرك طلبا للعطاء.
(3) هو النابغة الذبياني: شاعر جاهلي فحل نصب حكما في سوق عكاظ، من أصحاب المعلقات العشر، يدور شعره حول السياسة والمديح والهحاء والرثاء والفخر والغزل والاعتذار. وقد أشار الهمذاني إلى بواعث شعره الهامة وهي الغضب الذي يدفعه إلى الهجاء، والرغبة التي تحمله على المديح، والخوف الذي يجري به إلى الاعتذار.
(4) هو زهير بن أبي سلمى المزني، شاعر جاهلي فحل، ومن أصحاب المعلقات العشر، امتاز شعره بالمتانة والرصانة والحكمة والتنخل، فلقب بحكيم الجاهلية لدعوته إلى السلام والتعقل.
(5) يعني أن شعر زهير يتسم بالعذوبة والسلاسة وقوة التأثير أو السحر.
(6) هو طرفة بن العبد البكري، من شعراء الجاهلية الفحول وأصحاب المعلقات العشر، توفي في السادسة والعشرين من عمره ونظم الشعر مبكرا، ودعا إلى مذهب اللذة في الحياة.
(7) جرير: هو جرير بن عطية بن الخطفي التميمي أحد شعراء المثلث الأموي الذي يضمه مع الأخطل التغلبي والفرزدق التميمي. استعرت بينهم حرب هجائية شغلت عصرهم ودعت للمفاضلة بينهم. والهمذاني يدلو بدلوه فيرى أن جريرا أرق شعرا وأغزر معنى وأوجع هجاء وأشجى نسيبا وأسنى مديحا.
أما الفرزدق فكان أمتن مبنى وأكثر فخرا وأوفى وصفا.(1/19)
والفرزدق؟ (1) أيّهما أسبق؟ فقال: جرير أرقّ شعرا، وأغزر غزرا، والفرزدق أمتن صخرا، وأكثر فخرا، وجرير أوجع هجوا، وأشرف يوما، والفرزدق أكثر روما، وأكرم قوما، وجرير إذا نسب أشجى، وإذا ثلب أردى، وإذا مدح أسنى، والفرزدق إذا افتخر أجزى، وإذا احتقر أزرى، وإذا وصف أوفى، قلنا: فما تقول في المحدثين من الشّعراء والمتقدّمين منهم؟ قال: المتقدّمون أشرف لفظا. وأكثر من المعاني حظّا، والمتأخّرون ألطف صنعا، وأرقّ نسجا، قلنا: فلو أريت من أشعارك، ورويت لنا من أخبارك، قال: خذهما في معرض واحد، وقال:
أما تروني أتغشّى طمرا ... ممتطيا في الضّرّ أمرا مرّا (2)
مضطبنا على اللّيالي غمرا ... ملاقيا منها صروفا حمرا (3)
أقصى أمانيّ طلوع الشّعرى ... فقد عنينا بالأماني دهرا (4)
وكان هذا الحرّ أعلى قدرا ... وماء هذا الوجه أغلى سعرا (5)
__________
(1) الفرزدق: هو همام بن غالب بن صعصعة التميمي عاش في القرن الأول الهجري في العصر الأموي، واتصل بالخلفاء ومدحهم شأنه شأن الأخطل وجرير، ولكنه مدح أيضا زين العابدين علي بن الحسين في ميميته المشهورة.
(2) أتغشى طمرا: ارتدي ثوبا باليا. وممتطيأ أمرا مرا: راكبا العسرة.
(3) مضطبنا: حاملا. غمرا: حقدا. الصروف الحمر: النوازل الشديدة.
(4) الشعرى: نجم في السماء يظهر عند الفجر. يريد أن يقول انه يتطلع إلى انتهاء الليل ليتخلص من الأرق.
(5) هذا الحر: يعني نفسه، إنه كان سيدا عالي القدر لا يريق ماء وجه مستعطيا.
وكان يعيش في السراء بايوان كسرى ودارا من ملوك الفرس. ولكن الدهر قلب له ظهر المجن وتنكر له فغدا فقيرا معدما، ولولا امرأته العجوز وأولاده الصغار المقيمون بسر من رأى لقتل نفسه.(1/20)
ضربت للسّرّا قبابا خضرا ... في دار دارا وإوان كسرى
فانقلب الدّهر لبطن ظهرا ... وعاد عرف العيش عندي نكرا
لم يبق من وفري إلّا ذكرا ... ثمّ إلى اليوم هلمّ جرّا
لولا عجوز لي بسرّ من را ... وأفرخ دون جبال بصرى
قد جلب الدّهر عليهم ضرّا ... قتلت يا سادة نفسي صبرا
قال عيسى بن هشام: فأنلته ما تاح (1)، وأعرض عنّا فراح، فجعلت أنفيه وأثبته (2)، وأنكره وكأنّي أعرفه، ثمّ دلّتني عليه ثناياه، فقلت: الإسكندريّ والله، فقد كان فارقنا خشفا، ووافانا جلفا (3)، ونهضت على إثره، ثمّ قبضت على خصره، وقلت: ألست أبا الفتح (4)؟ ألم نربّك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين؟ فأيّ عجوز لك بسرّ من را؟ فضحك إليّ وقال:
ويحك هذا الزّمان زور ... فلا يغرّنّك الغرور
لا تلتزم حالة، ولكن ... در باللّيالي كما تدور
__________
(1) ما تاح: ما تيسر وأمكن.
(2) أنفيه وأثبته: أنفي معرفته وأثبتها.
(3) الخشف: ولد الظبية، والجلف: الغليظ. يعني أنه فارقهم صغيرا بهيّ المنظر كولد الظبية، وغدا اليوم غليظا.
(4) أبو الفتح الإسكندري: بطل مقامات الهمذاني، وهو شخصية وهمية اخترعها بديع الزمان ونسب إليه هذه الأعمال والأقوال والصفات.(1/21)
2 - المقامة الأزاذيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
كنت ببغذاذ (1) وقت الأزاذ (2)، فخرجت أعتام (3) من أنواعه لابتياعه، فسرت غير بعيد إلى رجل قد أخذ أصناف الفواكه وصنّفها وجمع أنواع الرّطب وصفّفها، فقبضت من كلّ شيء أحسنه، وقرضت من كلّ نوع أجوده، فحين جمعت حواشي الإزار، على تلك الأوزار أخذت عينايّ رجلا قد لفّ رأسه ببرقع حياء، وبسط يده، واحتضن عياله، وتأبّط أطفاله، وهو يقول بصوت يدفع الضّعف في صدره، والحرض في ظهره (4):
__________
(1) بغذاذ: بغداد، عاصمة العراق.
(2) الأزاذ: نوع من التمر.
(3) اعتمام: أقصد.
(4) الحرض: الضعف الشديد.(1/22)
ويلي على كفّين من سويق ... أو شحمة تضرب بالدّقيق (1)
أو قصعة تملأ من خرديق ... يفتأ عنّا سطوات الرّيق (2)
يقيمنا عن منهج الطّريق ... يا رازق الثّروة بعد الضّيق
سهّل على كفّ فتى لبيق ... ذي نسب في مجده عريق
يهدي إلينا قدم التّوفيق ... ينقذ عيشي من يد التّرنيق (3)
قال عيسى بن هشام: فأخذت من الكيس أخذة ونلته إيّاها، فقال:
يا من عناني بجميل برّه ... أفض إلى الله بحسن سرّه
واستحفظ الله جميل ستره ... إن كان لا طاقة لي بشكره
* فالله ربّي من وراء أجره *
قال عيسى بن هشام: فقلت له: إنّ في الكيس فضلا فأبرز لي عن باطنك أخرج إليك عن آخره، فأماط لثامه (4)، فإذا والله شيخنا أبو الفتح الإسكندريّ، فقلت: ويحك أيّ داهية أنت؟ فقال:
فقضّ العمر تشبيها ... على النّاس وتمويها
أرى الأيّام لا تبقى ... على حال فأحكيها
فيوما شرّها فيّ ... ويوما شرّتي فيها (5)
__________
(1) السويق: جريش الشعير أو القمح المقلي. وإذا خلط الشحم بالدقيق سمى عصيدة.
(2) الخرديق: المرق. يفتأ: يسكن.
(3) الترنيق: التكدير. يريد أن يقول انه يتلهف على فتى كريم يسد عوزه وينشله من قارعة الطريق.
(4) أماط لثامه: كشف الحجاب عن وجهه.
(5) إنه يعارك الأيام فتسومه يوما شرها، ويفعل يوما فعلته فيها.(1/23)
3 - المقامة البلخيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
نهضت بي إلى بلخ (1) تجارة البزّ (2) فوردنها وأنا بعذرة الشّباب وبال الفراغ وحلية الثّروة، لا يهمّني إلّا مهرة فكر أستقيدها، أو شرود من الكلم أصيدها، فما استأذن على سمعي مسافة مقامي، أفصح من كلامي، ولمّا حنى الفراق بنا قوسه أو كاد دخل عليّ شابّ في زيّ ملء العين، ولحية تشوك الاخدعين (3)، وطرف قد شرب ماء الرّافدين، ولقيني من البرّ في السّناء (4)، بما زدّته في الثّناء، ثمّ قال:
__________
(1) بلخ: مدينة ايرانية على نهر جيحون.
(2) البز: الثياب المصنوعة من القطن خاصة.
(3) الأخدعان: عرقان في العنق.
(4) السناء: المقابلة والمداناة.(1/24)
أظعنا (1) تريد؟ فقلت: إي والله، فقال: أخصب رائدك، ولا ضلّ قائدك، فمتى عزمت؟ فقلت: غداة غد، فقال:
صباح الله لا صبح انطلاق ... وطير الوصل لا طير الفراق
فأين تريد؟ قلت: الوطن، فقال: بلّغت الوطن، وقضيت الوطر، فمتى العود؟ قلت: القابل، فقال: طويت الرّيط، وثنيت الخيط (2)، فأين أنت من الكرم؟ فقلت: بحيث أردت، فقال: إذا أرجعك الله سالما من هذا الطّريق، فاستصحب لي عدوّا في بردة صديق، من نجار الصّفر، يدعو إلى الكفر، ويرقص على الظّفر، كدارة العين، يحطّ ثقل الدّين، وينافق بوجهين (3).
قال عيسى بن هشام: فعلمت أنّه يلتمس دينارا، فقلت: لك ذلك نقدا، ومثله وعدا، فأنشأ يقول:
رأيك ممّا خطبت أعلى ... لا زلت للمكرمات أهلا
صلبت عودا، ودمت جودا ... وفقت فرعا، وطبت أصلا
لا أستطيع العطاء حملا ... ولا أطيق السّؤال ثقلا
قصرت عن منتهاك ظنّا ... وطلت عمّا ظننت فعلا
يا رجمة الدّهر والمعالي ... لا لقي الدّهر منك ثكلا (4)
__________
(1) الظعن: السفر.
(2) طويت الريط وثنيت الخيط الريط: الملاءة. والعبارة تعني الدعاء له بالعودة إلى بلخ في قابل الأيام، إذ يطوي أيام البعد ويثني خيط الفراق.
(3) يصف هنا الدينار فهو عدو صديق، أصفر اللون، يسهل لصاحبه ارتكاب الآثام، ويحمله الصيارفة على رؤوس أناملهم لينقدوه، وهو مستدير كالعين، وله وجهان مختلفان.
(4) الرحمة: السناد. يقول: إنك كريم أعطيتني أكثر مما طلبت وأملت، دمت للعطاء وزكا أصلك.(1/25)
قال عيسى بن هشام: فنلته الدّينار، وقلت: أين منبت هذا الفضل؟ فقال: نمتني قريش ومهّد لي الشّرف في بطائحها، فقال بعض من حضر: ألست بأبي الفتح الإسكندريّ؟ ألم أرك بالعراق، تطوف في الأسواق، مكدّيا بالأوراق (1)؟ فأنشأ يقول:
إنّ لله عبيدا ... أخذوا العمر خليطا
فهم يمسون أعرا ... با، ويضحون نبيطا (2)
__________
(1) مكديا بالأوراق: سائلا الناس العطاء بأن يكتب أوراقا يفصح فيها عن حاجته.
(2) النبيط: قوم من العجم كانوا يسكنون بين العراقين. والمعنى أن الناس متقلبون مع الأيام لا يثبتون على حال.(1/26)
4 - المقامة السّجستانيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
حدا بي إلى سجستان (1) أرب، فاقتعدت طيّته (2)، وامتطيت مطيّته، واستخرت الله في العزم جعلته أمامي، والحزم جعلته إمامي، حتّى هداني إليها، فوافيت دروبها وقد وافت الشّمس غروبها، واتّفق المبيت حيث انتهيت، فلمّا انتضي نصل الصّباح، وبرز جيش المصباح (3)، مضيت إلى السّوق أختار منزلا، فحين انتهيت من دائرة البلد إلى نقطتها (4)، ومن قلادة السّوق إلى واسطتها، خرق سمعي
__________
(1) سجستان: منطقة في بلاد فارس.
(2) اقتعدت طيته: ركبت نيته، أي عزمت السفر إليه.
(3) أي طلع الصباح.
(4) نقطة دائرة البلد: مركزها.(1/27)
صوت له من كلّ عرق معنى، فانتحيت وفده (1) حتّى وقفت عنده، فإذا رجل على فرسه، مختنق بنفسه (2)، قد ولّاني قذاله (3)، وهو يقول: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي: أنا باكورة اليمن (4) وأحدوثة الزّمن (5)، أنا أدعية الرّجال، وأحجيّة ربّات الحجال (6)، سلوا عنّي البلاد وحصونها، والجبال وحزونها (7)، والأودية وبطونها، والبحار وعيونها، والخيل ومتونها، من الّذي ملك أسوارها، وعرف أسرارها، ونهج سمتها، وولج حرّتها (8)؟ سلوا الملوك وخزائنها، والأغلاق (9) ومعادنها، والأمور وبواطنها، والعلوم ومواطنها، والخطوب ومغالقها، والحروب ومضايقها، من الّذي أخذ مختزنها، ولم يؤدّ ثمنها؟ ومن الّذي ملك مفاتحها، وعرف مصالحها؟ أنا والله فعلت ذلك، وسفرت بين الملوك الصّيد (10)، وكشفت أستار الخطوب السّود، أنا والله شهدت حتّى مصارع العشّاق، ومرضت حتّى لمرض الأحداق، وهصرت الغصون النّاعمات (11)، وأجتنيت ورد الخدود
__________
(1) انتحيت وفده: قصدت أن أفد إليه.
(2) مختنق بنفسه: مختنق الأنفاس جياش بها.
(3) القذال: مؤخر الرأس.
(4) باكورة اليمن: أول السعد، إشارة إلى اسمه أبي الفتح.
(5) أحدوثة الزمن: حديث الناس لشهرته وذيوع صيته.
(6) ربات الحجال: النساء. إنه لغز يحتاج إلى حل من قبل النساء.
(7) حزونها: مرتفعاتها.
(8) الحرة: القطعة المستديرة من الأرض.
(9) الأعلاق: الأقفال التي توصد بها الأبواب. والأصح أن تكون الأغلاق: أي الحلي.
(10) سفر بين الملوك الصيد: سعى للصلح بين الملوك الشجعان الأكارم. فهو رجل ذو شأن ومكانة.
(11) هصر الغصون الناعمات: أمالها وأحناها. يريد أنه أحب النساء وعانقهن.(1/28)
المورّدات، ونفرت مع ذلك عن الدّنيا نفور طبع الكريم عن وجوه اللّئام، ونبوت (1) عن المخزيات نبوّ السّمع الشّريف عن شنيع الكلام، والآن لمّا أسفر صبح المشيب، وعلتني أبّهة الكبر، عمدت لإصلاح أمر المعاد، بإعداد الزّاد، فلم أر طريقا أهدى إلى الرّشاد ممّا أنا سالكه، يراني أحدكم راكب فرس، ناثر هوس (2)، يقول: هذا أبو العجب، لا ولكنّي أبو العجائب، عاينتها وعانيتها، وأمّ الكبائر قايستها وقاسيتها، وأخو الأعلاق: صعبا وجدتها، وهونا أضعتها، وغاليا اشتريتها، ورخيصا ابتعتها (3)، فقد والله صحبت لها المواكب، وزاحمت المناكب، ورعيت الكواكب، وأنضيت المراكب، دفعت إلى مكاره نذرت معها ألّا أدّخر عن المسلمين منافعها، ولا بدّ لي أن أخلع ربقة (4) هذه الأمانة من عنقي إلى أعناقكم، وأعرض دوائي هذا في أسواقكم، فليشتر منّي من لا يتقزّز من موقف العبيد، ولا يانف من كلمة التّوحيد، وليصنه من أنجبت جدوده، وسقي بالماء الطّاهر عوده.
قال عيسى بن هشام: فدرت إلى وجهه لأعلم علمه فإذا هو والله شيخنا أبو الفتح الإسكندريّ، وانتظرت إجفال النّعامة بين يديه (5)، ثمّ تعرّضت فقلت: كم يحلّ دواءك هذا؟ فقال: يحلّ الكيس ما شئت، فتركته وانصرفت.
__________
(1) نبوت: ابتعدت.
(2) ناثر هوس: ينثر كلاما خفيفا.
(3) الأعلاق: الحلي التي تعلق للزينة.
(4) الربقة: الحبل المعقد. يريد أنه ينقل هذه المهمة إلى سواه من الناس.
(5) أجفال النعامة: تفرق عامة الناس عنه.(1/29)
5 - المقامة الكوفيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
كنت وأنا فتيّ السّنّ أشدّ رحلي لكلّ عماية (1)، وأركض طرفي إلى كلّ غواية، حتّى شربت من العمر سائغه، ولبست من الدّهر سابغه (2)، فلمّا انصاح النّهار (3) بجانب ليلي، وجمعت للمعاد ذيلي، وطئت ظهر المروضة، لأداء المفروضة (4)، وصحبني في الطّريق رفيق لم أنكره من سوء، فلمّا تجالينا (5)، وخبّرنا بحالينا، سفرت (6) القصّة
__________
(1) أشد رحلي لكل عمياء، اقترف أو أقصد كل شهوة عمياء ويرادفها الجملة التالية: وأركض طرفي إلى كل غواية.
(2) يريد أنه تمتع في حياته وشبع من الملذات.
(3) انصاح النهار: طلع أو ظهر، ويعني أن الشيب ظهر إلى جانب سواد الشعر.
(4) أي ركب الدابة لأداء فريضة الحج.
(5) تجالينا: تكاشفنا.
(6) سفر: وضح.(1/30)
عن أصل كوفيّ، ومذهب صوفيّ (1)، وسرنا فلمّا أحلّتنا الكوفة ملنا إلى داره، ودخلناها وقد بقل وجه النّهار واخضرّ جانبه (2). ولمّا اغتمض جفن اللّيل وطرّ شاربه (3)، قرع علينا الباب، فقلنا: من القارع المنتاب؟ فقال: وفد اللّيل وبريده، وفلّ الجوع وطريده (4)، وحرّ قاده الضّرّ، والزّمن المرّ، وضيف وطؤه خفيف، وضالّته رغيف، وجار يستعدي على الجوع، والجيب المرقوع، وغريب أوقدت النّار على سفره، ونبح العوّاء على أثره، ونبذت خلفه الحصيّات، وكنست بعده العرصات (5)، فنضوه طليح (6)، وعيشه تبريح، ومن دون فرخيه مهامه فيح (7).
قال عيسى بن هشام: فقبضت من كيسي قبضة اللّيث، وبعثتها إليه وقلت: زدنا سؤالا، نزدك نوالا، فقال ما عرض عرف العود، على أحرّ من نار الجود، ولا لقي وفد البرّ، بأحسن من بريد الشّكر،
__________
(1) اي هو من الكوفة المدينة العراقية المشهورة، وهو صوفي المذهب.
والمتصوفة جماعة من المفكرين يقولون ان معرفة الله لا تتأتى عن طريق العقل بل عن طريق الحدس والرؤية. وتحصل هذه الرؤية لله عندما تصفو نفس الإنسان بالرياضة وقهر الجسد وشهواته، وبذكر الله والانصراف إلى العبادة والتأمل.
(2) بقل وجه النهار: اخضر عند الغروب.
(3) اغتمض جفن الليل وطر شاربه: جنّ الليل وظهر.
(4) فل الجوع وطريده: المنهزم من الجوع.
(5) يريد أنه ضيف خفيف المؤونة لا يبغي أكثر من رغيف يخلصه من الجوع.
وانه غريب تنبح عليه الكلاب، ويرمى بالحصى، وتكنس الدار تنظيفا لها من أثره.
(6) نضوه طليح: بعيره تعب.
(7) مهامه فيح: صحارى واسعة.(1/31)
ومن ملك الفضل فليؤاس، فلن يذهب العرف بين الله والنّاس (1)، وأمّا أنت فحقّق الله آمالك، وجعل اليد العليا لك.
قال عيسى بن هشام: ففتحنا له الباب وقلنا: ادخل، فإذا هو والله شيخنا أبو الفتح الإسكندريّ، فقلت: يا أبا الفتح، شدّ ما بلغت منك الخصاصة. وهذا الزّيّ خاصّة، فتبسّم وأنشأ يقول:
لا يغرّنّك الّذي ... أنا فيه من الطّلب
أنا في ثروة تش ... قّ لها بردة الطّرب
أنا لو شئت لاتّخذ ... ت سقوفا من الذّهب
__________
(1) أي لا يضيع المعروف بين الله والناس. وهو الشطر الثاني من بيت الحطيئة:
من يصنع الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس(1/32)
6 - المقامة الأسديّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
كان يبلغني من مقامات الإسكندريّ ومقالاته ما يصغى إليه النّفور، وينتفض له العصفور (1)، ويروى لنا من شعره ما يمتزج بأجزاء النّفس رقّة، ويغمض عن أوهام الكهنة دقّة (2)، وأنا أسأل الله بقاءه، حتّى أرزق لقاءه، وأتعجّب من قعود همّته بحالته، مع حسن آلته، وقد ضرب الدّهر شؤونه، بأسداد دونه، وهلمّ جرّا (3)، إلى أن اتّفقت لي حاجة بحمص، فشحذت إليها الحرص، في صحبة أفراد كنجوم اللّيل، أحلاس لظهور الخيل (4)، وأخذنا الطّريق ننتهب مسافته،
__________
(1) ينتفض له العصفور: يهتز طربا وتأثرا.
(2) أوهام الكهنة: معاني كلام الكهنة الغامضة.
(3) يريد أن الزمن عاكسه ومنعه من تحقيق أمانية بأسداد أقامها في طريقه.
(4) أحلاس لظهور الخيل: ملازمون لها.(1/33)
ونستأصل شأفته، ولم نزل نفري أسنمة النّجاد (1)، بتلك الجياد، حتّى صرن كالعصيّ، ورجعن كالقسيّ، وتاح لنا واد في سفح جبل ذي ألاء وأثل (2)، كالعذارى يسرّحن الضّفائر، وينشرن الغدائر، ومالت الهاجرة بنا إليها، ونزلنا نغوّر ونغور (3)، وربطنا الأفراس بالامراس، وملنا مع النّعاس، فما راعنا إلّا صهيل الخيل، ونظرت إلى فرسي وقد أرهف أذنيه، وطمح بعينيه، يجذّ قوى الحبل بمشافره، ويخدّ خدّ الأرض بحوافره (4)، ثمّ اضطربت الخيل فأرسلت الأبوال، وقطّعت الحبال، وأخذت نحو الجبال، وطار كلّ واحد منّا إلى سلاحه فإذا السّبع في فروة الموت، قد طلع من غابه، منتفخا في إهابه (5)، كاشرا عن أنيابه، بطرف قد ملىء صلفا، وأنف قد حشي أنفا، وصدر لا يبرحه القلب، ولا يسكنه الرّعب، وقلنا خطب ملمّ، وحادث مهمّ، وتبادر إليه من سرعان الرّفقة فتى:
أخضر الجلدة في بيت العرب ... يملأ الدّلو إلى عقد الكرب (6)
__________
(1) نفري أسنمة النجاد: نقطع ظهور المرتفعات.
(2) تاح: تهيأ. آلاء: شجر مر جميل. أثل: شجر كبير دون ثمر. شبه النساء بهذه الأشجار التي تتدلى أغصانها كشعرهن.
(3) الهاجرة: شدة الحر عند منتصف النهار. نغوّر: ننزل الغور، أي الأرض المستوية. نغور: ننام.
(4) جذّ: قطع. خدّ: شق. خد الأرض: ظهرها أو وجهها.
(5) الاهاب: الجلد.
(6) هذا البيت مأخوذ من بيتين للفضل بن العباس المهلبي هما:
وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة من بيت العرب
من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب(1/34)
بقلب ساقه قدر، وسيف كلّه أثر (1)، وملكته سورة الأسد فخانته أرض قدمه، حتّى سقط ليده وفمه (2)، وتجاوز الأسد مصرعه، إلى من كان معه، ودعا الحين أخاه (3)، بمثل ما دعاه، فصار إليه، وعقل الرّعب يديه، فأخذ أرضه، وافترش اللّيث صدره، ولكنّي رميته بعمامتي، وشغلت فمه، حتّى حقنت دمه، وقام الفتى فوجأ بطنه، حتّى هلك الفتى من خوفه، والأسد للوجأة في جوفه (4)، ونهضنا في أثر الخيل فتألّفنا منها ما ثبت، وتركنا ما أفلت، وعدنا إلى الرّفيق لنجهّزه:
فلمّا حثونا التّرب فوق رفيقنا ... جزعنا ولكن أيّ ساعة مجزع
وعدنا إلى الفلاة، وهبطنا أرضها، وسرنا حتّى إذا ضمرت المزاد، ونفد الزّاد أو كاد يدركه النّفاد (5)، ولم نملك الذّهاب ولا الرّجوع، وخفنا القاتلين الظّمأ والجوع، عنّ لنا فارس فصمدنا صمده (6)، وقصدنا قصده، ولمّا بلغنا نزل عن حرّ فرسه ينقش الأرض بشفتيه، ويلقي التّراب بيديه، وعمدني من بين الجماعة، فقبّل ركابي، وتحرّم بجنابي، ونظرت فإذا هو وجه يبرق برق العارض المتهلّل، وقوام متى ما ترقّ العين فيه تسهّل، وعارض قد اخضرّ (7)،
__________
(1) أثر السيف: فرنده.
(2) سورة الأسد: حدته. سقط ليده وفمه: انكب على وجهه.
(3) الحين: الموت.
(4) حقنت دمه: نجا من الموت. وجأ بطنه: بقرها. أي مات الأسد لأنه شق بطنه، ومات الفتى جزعا.
(5) ضمرت المزاد: المزاد جمع مزادة أي القربة، وضمرت: التصق جلدها بعضه ببعض. والمعنى: نفد ماؤها.
(6) عنّ لنا فارس: ظهر فارس. صمدنا: قصدنا.
(7) العارض: الخد. اخضر: ظهر شعره.(1/35)
وشارب قد طرّ، وساعد ملآن، وقضيب ريّان، ونجار تركيّ، وزيّ ملكيّ، فقلنا: مالك لا أبا لك؟ فقال: أنا عبد بعض الملوك، همّ من قتلي بهمّ، فهمت على وجهي إلى حيث تراني، وشهدت شواهد حاله، على صدق مقاله، ثمّ قال: أنا اليوم عبدك، ومالي مالك، فقلت: بشرى لك وبك، ادّاك سيرك إلى فناء رحب، وعيش رطب، وهنّأتني الجماعة، وجعل ينظر فتقتلنا ألحاظه، وينطق فتفتننا ألفاظه، فقال: يا سادة إنّ في سفح الجبل عينا، وقد ركبتم فلاة عوراء (1)، فخذوا من هنالك الماء، فلوينا الأعنّة إلى حيث أشار، وبلغناه وقد صهرت الهاجرة الأبدان، وركب الجنادب العيدان، فقال: ألا تقيلون في الظّلّ الرّحب، على هذا الماء العذب؟ فقلنا: أنت وذاك (2) فنزل عن فرسه، وحلّ منطقته، ونحّى قرطقته (3)، فما استتر عنّا إلّا بغلالة تنمّ عن بدنه، فما شككنا أنّه خاصم الولدان، ففارق الجنان، وهرب من رضوان (4)، وعمد إلى السّروج فخطّها، وإلى الأفراس فحشّها (5)، وإلى الأمكنة فرشّها، وقد حارت البصائر فيه، ووقفت الأبصار عليه، فقلت: يا فتى ما ألطفك في الخدمة، وأحسنك في الجملة، فالويل لمن فارقته، وطوبى لمن رافقته، فكيف شكر الله على النّعمة بك؟ فقال: ما سترونه منّي أكثر، أتعجبكم خفّتي في الخدمة، وحسني في الجملة؟ فكيف لو رأيتموني في الوقعة؟ أريكم من حذقي
__________
(1) ركبتم فلاة عوراء: سرتم في أرض لا عين فيها.
(2) أنت وذاك: لك ذلك.
(3) حل منطقته: حل حزامه. نحّى قرطقته: خلع لباسه.
(4) يريد أنه أحد ولدان الجنة التي يحرسها رضوان.
(5) حش الأفراس: قدم لها الحشيش.(1/36)
طرفا، لتزدادوا بي شغفا؟ فقلنا: هات، فعمد إلى قوس أحدنا فأوتره.
وفوّق سهما فرماه في السّماء (1)، وأتبعه بآخر فشقّه في الهواء، وقال:
سأريكم نوعا آخر، ثمّ عمد إلى كنانتي فأخذها، وإلى فرسي فعلاه، ورمى أحدنا بسهم أثبته في صدره، وآخر طيّره من ظهره، فقلت:
ويحك ما تصنع؟ قال: اسكت يا لكع (2)، والله ليشدّنّ كلّ منكم يد رفيقه، أو لأغصّنّه بريقه، فلم ندر ما نصنع وأفراسنا مربوطة، وسروجنا محطوطة، وأسلحتنا بعيدة، وهو راكب ونحن رجّالة، والقوس في يده يرشق بها الظّهور، ويمشق بها البطون والصّدور، وحين رأينا الجدّ، أخذنا القدّ (3)، فشدّ بعضنا بعضا، وبقيت وحدي، لا أجد من يشدّ يدي، فقال: اخرج بإهابك، عن ثيابك، فخرجت ثمّ نزل عن فرسه، وجعل يصفع الواحد منّا بعد الآخر، وينزع ثيابه وصار إليّ وعليّ خفّان جديدان، فقال: اخلعهما لا أمّ لك، فقلت: هذا خفّ لبسته رطبا فليس يمكنني نزعه، فقال: عليّ خلعه، ثمّ دنا إليّ لينزع الخفّ، ومددت يدي إلى سكّين كان معي في الخفّ وهو في شغله فأثبتّه في بطنه، وأبنته من متنه (4)، فما زاد على فم فغره (5)، وألقمه حجره، وقمت إلى أصحابي فحللت أيديهم، وتوزّعنا سلب القتيلين، وأدركنا الرّفيق وقد جاد بنفسه، وصار لرمسه (6)، وصرنا إلى الطّريق، ووردنا
__________
(1) أوتر القوس: ركب له وترا. فوّق السهم: سدده.
(2) اللكع: الأحمق.
(3) القد: رباط من الجلد
(4) المتن: الظهر.
(5) فغر فمه: فتحه.
(6) الرمس: القبر.(1/37)
حمص (1) بعد ليال خمس، فلمّا انتهينا إلى فرضة (2) من سوقها رأينا رجلا قد قام على رأس ابن وبنيّة، بجراب وعصيّة، وهو يقول:
رحم الله من حشا ... في جرابي مكارمه
رحم الله من رنا ... لسعيد وفاطمه
إنّه خادم لكم ... وهي لا شكّ خادمه
قال عيسى بن هشام: فقلت إنّ هذا الرّجل هو الإسكندريّ الّذي سمعت به، وسألت عنه، فإذا هو هو، فدلفت إليه (3)، وقلت:
احتكم حكمك (4)، فقال: درهم، فقلت:
لك درهم في مثله ... ما دام يسعدني النّفس
فاحسب حسابك والتمس ... كيما أنيل الملتمس
وقلت له: درهم في اثنين في ثلاثة في أربعة في خمسة، حتّى انتهيت إلى العشرين، ثمّ قلت: كم معك؟ قال: عشرون رغيفا، فأمرت له بها، وقلت: لا نصر مع الخذلان، ولا حيلة مع الحرمان (5).
__________
(1) حمص: مدينة في بلاد الشام تقع شمالي دمشق.
(2) الفرضة: الفرجة.
(3) دلف إليه: سار نحوه.
(4) احتكم حكمك: جعلت مالي تحت حكمك فخذ ما تشاء منه.
(5) أي لشدة جوعه ابدل الرغيف بالدرهم.(1/38)
7 - المقامة الغيلانيّة
حدّثني عيسى بن هشام قال:
بينا نحن بجرجان (1)، في مجتمع لنا نتحدّث، ومعنا يومئذ رجل العرب حفظا ورواية، وهو عصمة بن بدر الفزاريّ، فأفضى بنا الكلام إلى ذكر من أعرض عن خصمه حلما، ومن أعرض عن خصمه احتقارا، حتّى ذكرنا الصّلتان العبديّ والبعيث (2)، وما كان من احتقار جرير والفرزدق لهما، فقال عصمة (3): سأحدّثكم بما شاهدته عيني، ولا أحدّثكم عن غيري، بينما أنا أسير في بلاد تميم مرتحلا نجيبة،
__________
(1) نسبة إلى الشاعر غيلان بن عقبة.
(2) الصلتان العبدي والبعيث المجاشعي شاعران عاشا في العصر الأموي وتبادلا الهجاء مع جرير والفرزدق. ويبدو أن هذين الأخيرين لم يعيرا كبير اهتمام بهما احتقارا كشأنهما.
(3) عصمة بن بدر الفزاري: يبدو أنه أحد الرواة في العصر الأموي.(1/39)
وقائدا جنيبة، عنّ لي راكب على أورق جعد اللّغام، فحاذاني حتّى إذا صكّ الشّبح بالشّبح (1) رفع صوته بالسّلام عليك، فقلت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، من الرّاكب الجهير الكلام المحيّي بتحيّة الإسلام؟ فقال: أنا غيلان بن عقبة (2)، فقلت: مرحبا بالكريم حسبه، الشّهير نسبه، السّائر منطقه، فقال: رحب واديك، وعزّ ناديك، فمن أنت؟ قلت: عصمة بن بدر الفزاريّ، قال: حيّاك الله نعم الصّديق، والصّاحب والرّفيق، وسرنا فلمّا هجّرنا قال: ألا نغوّر يا عصمة فقد صهرتنا الشّمس؟ فقلت: أنت وذاك، فملنا إلى شجرات ألاء كأنهنّ عذارى متبرّجات، قد نشرن غدائرهنّ، لأثلات تناوحهنّ، فحططنا رحالنا، ونلنا من الطّعام، وكان ذو الرّمّة زهيد الأكل، وصلّينا بعد، وآل كلّ واحد منّا إلى ظلّ أثلة يريد القائلة، واضطجع ذو الرّمّة، وأردت أن أصنع مثل صنيعه، فولّيت ظهري الأرض، وعيناي لا يملكهما غمض، فنظرت غير بعيد إلى ناقة كوماء قد ضحيت وغبيطها ملقى (3)، وإذا رجل قائم يكلأها كأنّه عسيف أو أسيف (4) فلهيت عنهما، وما أنا والسّؤال عمّا لا يعنيني؟ ونام ذو الرّمّة غرارا، ثمّ انتبه، وكان ذلك في أيّام مهاجاته لذلك المرّيّ، فرفع عقيرته وأنشد يقول:
__________
(1) النجيبة: الناقة الكريمة، والجنيبة: الناقة المرافقة لناقتك. الأورق: الجميل الذي فيه سواد وبياض. جعد اللغام: كثير الزبد.
(2) غيلان بن عقبة: هو ذو الرمة، شاعر أموي معاصر للفرزدق وجرير والأخطل.
لكنه لم يبلغ شأوهم.
(3) ناقة كوماء: مرتفعة السنام. ضحيت: أصابتها شمس الضحى. الغبيط:
الرحل.
(4) يكلأها: يرعاها. عسيف أو أسيف: أجير أو عبد.(1/40)
أمن ميّة الطّلل الدّارس ... ألظّ به العاصف الرّامس (1)
فلم يبق إلّا شجيج القذال ... ومستوقد ما له قابس (2)
وحوض تثلّم من جانبيه ... ومحتفل دارس طامس (3)
وعهدي به وبه سكنه ... وميّة والإنس والآنس (4)
كأنّي بميّة مستنفر ... غزالا تراءى له عاطس (5)
إذا جئتها ردّني عابس ... رقيب عليها لها حارس
ستأتي امرأ القيس مأثورة ... يغنّي بها العابر الجالس (6)
ألم تر أنّ امرأ القيس قد ... ألظّ به داؤه النّاجس
هم القوم لا يألمون الهجاء ... وهل يألم الحجر اليابس؟
فما لهم في العلا راكب ... ولا لهم في الوغى فارس
ممرطلة في حياض الملام ... كما دعس الادم الدّاعس (7)
__________
(1) الدارس: الممحى. الظ به: لازمه. العاصف: الريح الشديدة. الرامس:
الذي يأتي بالتراب عليه ليخفيه.
(2) شجيج القذال: مكسور الرأس، يعني الوتد. مستوقد: موقد. قابس: طالب النار.
(3) محتفل: مكان الاجتماع.
(4) مية اسم حبيبته. السكن: الساكن.
(5) العاطس: الصبح. يشبه حاله مع مية حال من يستنفر غزالا وقد لاح له الصبح فلا يستطيع إدراكه.
(6) المأثورة: القصيدة الذائعة بين الناس. وامرؤ القيس المرّي أحد مهجوي الشاعر.
(7) ممرطلة. ملطخة. الأدم: الجلد. المعنى أن هذه القبيلة ملطخة بالعار كتلطيخ الجلد الذي تدوسه الأرجل. وهم بلا احساس لذا لا يتألمون من الهجاء.(1/41)
إذا طمح النّاس للمكرمات ... فطرفهم المطرق النّاعس
تعاف الأكارم إصهارهم ... فكلّ أياماهم عانس (1)
فلمّا بلغ هذا البيت تنبّه ذلك النّائم، وجعل يمسح عينيه، ويقول: أذو الرميمة يمنعني النّوم بشعر غير مثقّف ولا سائر (2)؟ فقلت:
يا غيلان، من هذا؟ فقال: الفرزدق، وحمي ذو الرّمّة فقال:
وأمّا مجاشع الأرذلون ... فلم يسق منبتهم راجس (3)
سيعقلهم عن مساعي الكرام ... عقال، ويحبسهم حابس (4)
فقلت: الآن يشرق فيثور (5)، ويعمّ هذا وقبيلته بالهجاء، فو الله ما زاد الفرزدق على أن قال: قبحا لك يا ذا الرّميمة! أتعرض لمثلي بمقال منتحل (6)؟ ثمّ عاد في نومه كأن لم يسمع شيئا، وسار ذو الرّمّة وسرت معه، وإنّي لأرى فيه انكسارا حتّى افترقنا.
__________
(1) تعاف: تكره. أصهارهم: الزواج منهم. الأيامى: النساء. العانس: التي كبرت دون زواج.
(2) شعر غير مثقف ولا سائر: شعر غير مهذب ولا ذائع بين الناس.
(3) مجاشع: قوم الفرزدق. الراجس: السحاب المصحوب بالرعد. معنى البيت: لا سقى الله قوم الفرزدق، وحلّ القحط فيهم.
(4) عقل: منع. وعقال وحالس من آباء الفرزدق. والمعنى أن قوم الفرزدق لن يحرزوا المكرمات.
(5) يشرق ويثور: يغص من الألم ويهيج إلى هجاء ذي الرمة.
(6) منتحل: منسوب إلى غير صاحبه. يريد ان يقول ان شعر ذي الرمّة سبقه إليه جرير حيث يقول:
وما زال معقولا عقال عن الندى ... وما زال محبوسا عن المجد حابس
وهكذا سميت المقامة بالغيلانية لأن الحديث يدور فيها حول الشاعر الأموي غيلان بن عقبة الملقب بذي الرمة، ولا أثر فيها لأبي الفتح الإسكندري.(1/42)
8 - المقامة الأذربيجانيّة
قال عيسى بن هشام: لمّا نطّقني الغنى بفاضل ذيله (1)، اتّهمت بمال سلبته، أو كنز أصبته، فحفزني اللّيل (2)، وسرت بي الخيل، وسلكت في هربي مسالك لم يرضها السّير (3)، ولا اهتدت إليها الطّير، حتّى طويت أرض الرّعب وتجاوزت حدّه، وصرت إلى حمى الأمن ووجدت برده، وبلغت أذربيجان (4) وقد حفيت الرّواحل (5)، وأكلّتها (6) المراحل، ولمّا بلغتها:
__________
(1) نطقني بفاضل ذيله: ألبسني ثوبه الزائد كالمنطقة.
(2) حفزني الليل: حثني على الهرب تحت جناحه.
(3) لم يرضها السير: لم يذللها، فهي وعرة.
(4) أذربيجان: بلاد تقع شمالي ايران وشرقي روسيا.
(5) حفيت الرواحل: غدت حافية رقيقة القدم من كثرة السير. الرواحل:
الركائب.
(6) أكلتها: جعلتها كليلة أي متعبة.(1/43)
نزلنا على أنّ المقام ثلاثة ... فطابت لنا حتّى أقمنا بها شهرا
فبينا أنا يوما في بعض أسواقها إذ طلع رجل بركوة قد اعتضدها (1) وعصا قد اعتمدها، ودنّيّة قد تقلّسها (2)، وفوطة قد تطلّسها (3)، فرفع عقيرته وقال: اللهمّ يا مبدىء الأشياء ومعيدها (4)، ومحيي العظام ومبيدها، وخالق المصباح ومديره (5)، وفالق الإصباح ومنيره، وموصل الآلاء سابغة إلينا (6)، وممسك السّماء أن تقع علينا، وبارىء النّسم أزواجا وجاعل الشّمس سراجا، والسّماء سقفا والأرض فراشا، وجاعل اللّيل سكنا والنّهار معاشا، ومنشىء السّحاب ثقالا، ومرسل الصّواعق نكالا، وعالم ما فوق النّجوم، وما تحت التّخوم، أسألك الصّلاة على سيّد المرسلين، محمّد وآله الطّاهرين، وأن تعينني على الغربة أثني حبلها (7)، وعلى العسرة أعدو ظلّها (8)، وأن تسهّل لي على يدي من فطرته الفطرة، وأطلعته الطّهرة، وسعد بالدّين المتين، ولم يعم عن الحقّ المبين، راحلة تطوي هذا الطّريق، وزادا يسعني والرّفيق.
__________
(1) ركوة اعتضدها: وعاء يوصع فيه الحاصل، جعله في عضده.
(2) دنية قد تقلسها: قلنسوة قد لبسها.
(3) فوطة قد تطلسها: ثوب اتخذه طيلسانا.
(4) مبدىء الأشياء ومعيدها: خالق الأشياء ورادها بعد الفناء إلى مثل حالها الأول.
(5) خالق المصباح ومديره: خالق الشمس ومحركها.
(6) الآلاء السابغة: العطايا الشاملة.
(7) ثنى حبل الغربة: وضع حدا لها، أو كبح جماحها كالدابة.
(8) أعدو ظل العسرة: أتجاوزها وأفارقها.(1/44)
قال عيسى بن هشام: فناجيت نفسي بأنّ هذا الرّجل أفصح من إسكندريّنا أبي الفتح، والتفتّ لفتة فإذا هو والله أبو الفتح، فقلت: يا أبا الفتح بلغ هذه الأرض كيدك، وانتهى إلى هذا الشّعب صيدك؟
فأنشأ يقول:
أنا جوّالة البلا ... د وجوّابة الأفق
أنا خذروفة الزّما ... ن وعمّارة الطّرق
لا تلمني لك الرّشا ... د على كديتي وذق (1)
__________
(1) يقول عن نفسه أنه يتجوّل في البلاد ويقطع المسافات أو يجوبها بسرعة كأنه الخذروف الذي يلعب به الصغار ويدور بسرعة عظيمة، وترى الطرقات آهلة به، ولا ينبغي أن يلام على سؤال الناس لأن طعم الكدية لذيذ.(1/45)
9 - المقامة الجرجانيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
بينا نحن بجرجان، في مجمع لنا نتحدّث وما فينا إلّا منّا، إذ وقف علينا رجل ليس بالطّويل المتمدّد، ولا القصير المتردّد (1)، كثّ العثنون (2)، يتلوه صغار، في أطمار (3)، فافتتح الكلام بالسّلام، وتحيّة الإسلام، فولّانا جميلا، وأوليناه جزيلا، فقال: يا قوم إنّي امرؤ من أهل الإسكندريّة، من الثغور الأمويّة، نمتني سليم ورحّبت بي عبس (4)، جبت الآفاق، وتقصّيت العراق (5)، وجلت البدو والحضر،
__________
(1) المتردد: البالغ القصر.
(2) كث العثنون: كثير شعر اللحية.
(3) أي يتبعه صغار في ثياب بالية.
(4) أي رفعتني قبيلة سليم وكرمته قبيلة عبس.
(5) تقصيت العراق: بلغت أقصاه.(1/46)
وداري ربيعة ومضر، ما هنت، حيث كنت، فلا يزرينّ بي عندكم ما ترونه من سملي وأطماري، فلقد كنّا والله من أهل ثم ورمّ (1)، نرغي لدى الصّباح، ونثغي عند الرّواح (2).
وفينا مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلّين السّماحة والبدل (3)
ثمّ إنّ الدّهر يا قوم قلب لي من بينهم ظهر المجنّ (4)، فاعتضت بالنّوم السّهر، وبالإقامة السّفر، تترامى بي المرامي، وتتهادى بي الموامي (5)، وقلعتني حوادث الزّمن قلع الصّمغة (6)، فأصبح وأمسي أنقى من الرّاحة وأعرى من صفحة الوليد (7)، وأصبحت فارغ الفناء، صفر الإناء، مالي إلّا كآبة الأسفار، ومعاقرة السّفار (8)، أعاني الفقر، وأماني القفر، فراشي المدر، ووسادي الحجر (9).
__________
(1) من أهل رم وثم: من أهل الإصلاح، القليل والكثير.
(2) أي نعطي الراغبة أو الأبل، كما نعطي الناغبة أو الغنم، دلالة على الجود.
(3) البيتان لزهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي الحكيم يفتخر بأبناء قومه ذوي الوجوه الحسان، وبالأندية التي يؤمها من يقول ويفعل، وبالكرم الذي يشمل كل من ينزل بهم.
(4) قلب الدهر ظهر المجن: ناصبني العداء وتنكر لي.
(5) تتهادى بي الموامي: تسلمني كل صحراء إلى أختها.
(6) أي لم يبق له من الثراء مسحة، كالصمغة التي تجتث من الشجرة فلا يبقى لها أثر.
(7) أغدو فقيرا ليس عندي من المال إلا مثل ما في وجه الوليد أو في راحة الكف من الشعر.
(8) السفار: جلدة توضع في أنف البعير وتتصل بمقوده كناية عن ملازمة الأسفار.
(9) أي نيام على الحصى (المدر) ويتوسد (يتخذ مخدة) الحجر.(1/47)
بآمد مرّة وبرأس عين ... وأحيانا بميّا فارقينا
ليلة بالشّآم ثمّت بالاه ... واز رحلي وليلة بالعراق (1)
فما زالت النّوى تطرح بي كلّ مطرح، حتّى وطئت بلاد الحجر وأحلّتني بلد همذان، فقبلني أحياؤها، وأشرأبّ (2) إليّ أحبّاؤها، ولكنّى ملت لأعظمهم جفنة، وأزهدهم جفوة (3).
له نار تشبّ على يفاع ... إذا النّيران ألبست القناعا
فوطّأ لي مضجعا، ومهّد لي مهجعا، فإن ونى لي ونية هبّ لي ابن كأنّه سيف يمان، أو هلال بدا في غير قتمان، وأولاني نعما ضاق عنها قدري، واتّسع بها صدري، أوّلها فرش الدّار، وآخرها ألف دينار، فما طيّرتني إلّا النّعم حيث توالت، والدّيم لمّا انثالت (4)، فطلعت من همذان طلوع الشّارد، ونفرت نفار الآبد، أفري (5)
المسالك، وأقتفر المهالك، وأعاني الممالك، على أنّي خلّفت أمّ مثواي وزغلولا لي (6).
كأنّه دملج من فضّة نبه ... في ملعب من عذارى الحيّ مفصوم (7)
__________
(1) آمد ورأس العين وميافارقين والشام والأهواز والعراق أسماء بلدان في ايران والعراق وسوريا.
(2) اشرأب: تطلع.
(3) أي ذهبت إلى أكرمهم وأكثرهم حفاوة.
(4) الديم لما انثالت: السحب الماطرة.
(5) أفري: أقطع.
(6) أم مثواه: زوجته. الزغلول: الولد.
(7) يشبه ابنه بدملج المرأة المصنوع من الفضة، النفيس القيمة لجماله. ولكنه عندما غاب عنه انكسر قلبه وغدا كالملقى على الأرض.(1/48)
وقد هبّت بي إليكم ريح الاحتياج، ونسيم الإلفاج (1)، فانظروا رحمكم الله لنقض من الأنقاض مهزول، هدته الحاجة، وكدّته الفاقة:
أخا سفر، جوّاب أرض، تقاذفت ... به فلوات فهو أشعث أغبر (2)
جعل الله للخير عليكم دليلا ... ولا جعل للشّرّ إليكم سبيلا
قال عيسى بن هشام: فرقّت والله له القلوب، واغرورقت للطف كلامه العيون، ونلناه ما تاح في ذلك الوقت، وأعرض عنّا حامدا لنا، فتبعته، فإذا هو والله شيخنا ابو الفتح الإسكندريّ.
__________
(1) الإلفاج: الحنين إلى الأهل.
(2) هذا البيت للشاعر الأموي عمر بن أبي ربيعة الذي وقف شعره على الغزل الإباحي. وقد ورد في قصيدته الراية التي مطلعها: أمن آل نعم أنت غاد فمبكر الخ(1/49)
10 - المقامة الأصفهانيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
كنت بأصفهان، أعتزم المسير إلى الرّيّ (1)، فحللتها حلول الفيّ (2)، أتوقّع القافلة كلّ لمحة، وأترقّب الرّاحلة كلّ صبحة، فلمّا حمّ (3) ما توقّعته، نودي للصّلاة نداء سمعته، وتعيّن فرض الإجابة، فانسللت من بين الصّحابة، أغتنم الجماعة أدركها، وأخشى فوت القافلة أتركها، لكنّي استعنت ببركات الصّلاة، على وعثاء الفلاة (4)، فصرت إلى أوّل الصّفوف، ومثلت للوقوف، وتقدّم الإمام إلى
__________
(1) أصفهان والري: مدينتان في ايران.
(2) الفي: أو الوفيء هو الظل، أي وصلت إليها عند الظل.
(3) حم: قدر.
(4) وعثاء الفلاة: مشقة الصحراء.(1/50)
المحراب، فقرأ فاتحة الكتاب، بقراءة حمزة، (1) مدّة وهمزة، وبي الغمّ المقيم المقعد في فوت القافلة، والبعد عن الرّاحلة، وأتبع الفاتحة الواقعة، وأنا أتصلّى (2) نار الصّبر وأتصلّب (3)، وأتقلّى (4) على جمر الغيظ وأتقلّب، وليس إلّا السّكوت والصّبر، أو الكلام والقبر لما عرفت من خشونة القوم في ذلك المقام، أن لو قطعت الصّلاة دون السّلام، فوقفت بقدم الضّرورة، على تلك الصّورة إلى انتهاء السّورة، وقد قنطت من القافلة، وأيست من الرّحل والرّاحلة، ثمّ حنى قوسه للرّكوع، بنوع من الخشوع، وضرب من الخضوع، لم أعهده من قبل، ثمّ رفع رأسه ويده، وقال: سمع الله لمن حمده، وقام، حتّى ما شككت أنّه قد نام، ثمّ ضرب بيمينه، وأكبّ لجبينه، ثمّ انكبّ لوجهه، ورفعت رأسي أنتهز فرصة، فلم أر بين الصّفوف فرجة، فعدت إلي السّجود، حتّى كبّر للقعود، وقام إلى الرّكعة الثّانية، فقرأ الفاتحة والقارعة، قراءة استوفى بها عمر السّاعة، واستنزف أرواح الجماعة، فلمّا فرغ من ركعتيه، وأقبل على التّشهّد بلحييه، ومال إلى التّحيّة بأخدعيه، وقلت: قد سهّل الله المخرج، وقرّب الفرج، قام رجل وقال: من كان منكم يحبّ الصّحابة والجماعة، فليعرني سمعه ساعة.
قال عيسى بن هشام: فلزمت أرضي، صيانة لعرضي، فقال:
حقيق عليّ أن لا أقول غير الحقّ، ولا أشهد إلّا بالصّدق، قد جئتكم
__________
(1) حمزة: أحد القراء.
(2) اتصلى: اصطلى، تعرض للنار.
(3) اتصلب: أتقوى وأتشدد وأصبر.
(4) أتقلى: أنضج في المقلى.(1/51)
ببشارة من نبيكم، لكنّي لا أؤدّيها حتّى يطهّر الله هذا المسجد من كلّ نذل يجحد نبوءته.
قال عيسى بن هشام: فربطني بالقيود، وشدّني بالحبال السّود (1)، ثمّ قال: رأيته صلّى الله عليه وسلّم في المنام، كالشّمس تحت الغمام، والبدر ليل التّمام، يسير والنّجوم تتبعه، ويسحب الذّيل والملائكة ترفعه، ثمّ علّمني دعاء أوصاني أن أعلّم ذلك أمّته، فكتبته على هذه الأوراق بخلوق ومسك، وزعفران وسك (2)، فمن استوهبه منّي وهبته، ومن ردّ عليّ ثمن القرطاس أخذته.
قال عيسى بن هشام: فلقد انثالت عليه الدّراهم حتّى حيّرته، وخرج فتبعته متعجّبا من حذقه بزرقه (3)، وتمحّل رزقه، وهممت بمسألته عن حاله فأمسكت، وبمكالمته فسكتّ، وتأمّلت فصاحته في وقاحته، وملاحته في استماحته (4)، وربطه النّاس بحيلته، وأخذه المال بوسيلته، ونظرت فإذا هو أبو الفتح الإسكندريّ، فقلت: كيف اهتديت إلى هذه الحيلة؟ فتبسّم وأنشأ يقول:
النّاس حمر فجوّز ... وابرز عليهم وبرّز (5)
حتّى إذا نلت منهم ... ما تشتهيه ففروز (6)
__________
(1) الحبال السود: السلاسل الحديدية. يريد أنه أجبر على البقاء.
(2) الخلوق والخلاق: نوع اصطناعي من الطيب. وكذلك السك.
(3) الزرق: رمي الصياد صيده بالمزراق، وأراد هنا حيلة في اصطياد دراهم الناس.
(4) الاستماحة: طلب العطاء.
(5) جوز: قاد.
(6) فروز: مات. يريد ان يقول أن الناس أغبياء كالحمير، فقدهم حيث تشاء وأظهر عليهم وانبه بينهم، وإذا نلت منهم بغيتك فارقهم ولو بالموت.(1/52)
11 - المقامة الأهوازيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
كنت بالأهواز (1)، في رفقة متى ما ترقّ العين فيهم تسهّل (2)، ليس فينا إلّا أمرد بكر الآمال، أو مختطّ حسن الإقبال، مرجوّ الأيّام واللّيال (3)، فأفضنا في العشرة كيف نضع قواعدها، والأخوّة كيف نحكم معاقدها، والسّرور في أيّ وقت نتقاضاه، والشّرب في أيّ وقت نتعاطاه، والأنس كيف نتهاداه، وفائت الحظّ كيف نتلافاه، والشّراب
__________
(1) الأهواز: بلد بين البصرة وفارس.
(2) هو شطر من بيت لأمرىء القيس الشاعر الجاهلي يقول فيه:
ورحنا يكاد الطرف يقصر دونه ... متى ما ترق العين فيه تسهل
يعني أنه لجماله وبهائه يغضي الطرف عنه، ويحسر.
(3) يعني أنهم جميعا أحداث فيهم الأمرد الذي لم ينبت شعر ذقنه، والمختط الذي لاح شاربه، يملأ صدره الأمل.(1/53)
من أين نحصّله، والمجلس كيف نزيّنه. فقال أحدنا: عليّ البيت والنّزل (1)، وقال آخر: عليّ الشّراب والنّقل، ولمّا أجمعنا على المسير استقبلنا رجل في طمرين في يمناه عكّازة، وعلى كتفيه جنازة (2)، فتطيّرنا لمّا رأينا الجنازة وأعرضنا عنها صفحا، وطوينا دونها كشحا (3)، فصاح بنا صيحة كادت لها الأرض تنفطر، والنّجوم تنكدر (4)، وقال:
لترونّها صغرا (5)، ولتركبنّها كرها وقسرا، ما لكم تطيّرون (6) من مطيّة ركبها أسلافكم، وسيركبها أخلافكم (7)، وتتقذّرون سريرا وطئة آباؤكم، وسيطؤه أبناؤكم، أما والله لتحملنّ على هذه العيدان، إلى تلكم الدّيدان، ولتنقلنّ بهذه الجياد، إلى تلكم الوهاد (8)، ويحكم تطيّرون، كأنّكم مخيّرون، وتتكرّهون، كأنّكم منزّهون، هل تنفع هذه الطّيرة، يا فجرة؟
قال عيسى بن هشام: فلقد نقض ما كنّا عقدناه، وأبطل ما كنّا أردناه، فملنا إليه وقلنا له: ما أحوجنا إلى وعظك، وأعشقنا للفظك،
__________
(1) النزل: المنزل.
(2) الجنازة: النعش والميت معا.
(3) أي نفرنا منها.
(4) انفطر: انشق. وانكدر: تناثر.
(5) صغرا: أذلاء.
(6) تطيّر: تشاءم.
(7) أي الموت.
(8) الوهاد: أي القبور. يريد أن يقول انكم ستموتون وتحملون على هذه الأخشاب أو النعش وتحملون إلى القبور.(1/54)
ولو شئت، لزدت، قال: إنّ وراءكم موارد أنتم واردوها، وقد سرتم إليها عشرين حجّة:
وإن امرأ قد سار عشرين حجّة ... إلى منهل من ورده لقريب (1)
ومن فوقكم من يعلم أسراركم، ولو شاء لهتك أستاركم، يعاملكم في الدّنيا بحلم، ويقضي عليكم في الآخرة بعلم (2)، فليكن الموت منكم على ذكر، لئلّا تأتوا بنكر، فإنّكم إذا استشعرتموه لم تجمحوا، ومتى ذكرتموه لم تمرحوا، وإن نسيتموه فهو ذاكركم، وإن نمتم عنه فهو ثائركم، وإن كرهتموه فهو زائركم، قلنا: فما حاجتك؟
قال: أطول من أن تحدّ، وأكثر من أن تعدّ، قلنا: فسانح الوقت (3)، قال: ردّ فائت العمر، ودفع نازل الأمر، قلنا: ليس ذلك إلينا، ولكن ما شئت من متاع الدّنيا وزخرفها، قال: لا حاجة لي فيها، وإنّما حاجتي بعد هذا أن تخدوا (4) أكثر من أن تعوا.
__________
(1) أي لقد انسلخ من عمركم عشرون سنة قربتكم من الموت.
(2) أي أن الله من فوقكم يعلم ما تضمرون ويحاسبكم في الآخرة.
(3) فسانح الوقت: اذكر ما يسمح لك به الوقت من المواعظ.
(4) وخد: أسرع في سيره. يعني يجب أن تجدّوا في العمل أكثر مما تعوا من القول.(1/55)
12 - المقامة البغداذيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
اشتهيت الأزاذ (1)، وأنا ببغداذ، وليس معي عقد، على نقد (2)، فخرجت أنتهز محالّه حتّى أحلّني الكرخ (3)، فإذا أنا بسواديّ (4)
يسوق بالجهد حماره، ويطرّف بالعقد إزاره، فقلت: ظفرنا والله بصيد، وحيّاك الله أبا زيد، من أين أقبلت؟ وأين نزلت؟ ومتى وافيت؟
وهلمّ إلى البيت، فقال السّواديّ: لست بأبي زيد، ولكنّي أبو عبيد، فقلت: نعم، لعن الله الشّيطان، وأبعد النّسيان، أنسانيك طول العهد، واتّصال البعد، فكيف حال أبيك؟ أشابّ كعهدي، أم شاب بعدي؟
__________
(1) الأزاذ: نوع من التمر.
(2) ما معي عقد على نقد: لا مال عندي.
(3) الكرخ: محل في بغداد.
(4) السوادي: من أهل السواد وهو ريف العراق.(1/56)
فقال: قد نبت الرّبيع على دمنته (1)، وأرجو أن يصيّره الله إلى جنّته، فقلت: {إِنََّا لِلََّهِ وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ،} ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم، ومددت يد البدار، إلي الصّدار، أريد تمزيقه، فقبض السّواديّ على خصري بجمعه (2)، وقال: نشدتك الله لا مزّقته، فقلت: هلمّ إلي البيت نصب غداء، أو إلى السّوق نشتر شواء، والسّوق أقرب، وطعامه أطيب، فاستفزّته حمة القرم، وعطفته عاطفة اللّقم (3)، وطمع، ولم يعلم أنّه وقع، ثمّ أتينا شوّاء يتقاطر شواؤه عرقا، وتسايل جوذاباته مرقا (4)، فقلت: افرز لأبي زيد من هذا الشّواء، ثمّ زن له من تلك الحلواء، واختر له من تلك الأطباق، وانضد عليها أوراق الرّقاق، ورشّ عليه شيئا من ماء السّمّاق (5)، ليأكله أبو زيد هنيّا، فأنخى الشّوّاء بساطوره (6)، على زبدة تنّوره، فجعلها كالكحل سحقا، وكالطّحن دقّا، ثمّ جلس وجلست، ولا يئس ولا يئست، حتّى استوفينا، وقلت لصاحب الحلوى: زن لأبي زيد من اللّوزينج (7) رطلين فهو أجرى في الحلوق، وأمضى في العروق، وليكن ليليّ العمر، يوميّ النّشر (8)، رقيق القشر، كثيف الحشو،
__________
(1) أي مات منذ أمد بعيد ونبت العشب على قبره.
(2) جمع اليد: قبضتها.
(3) حمة القرم: شدة الشهوة إلى أكل اللحم. اللقم: سرعة الأكل. المعنى أن شهوته للحم والطعام حملته على موافقتي.
(4) جوذاباته، جمع جوذابة: الرغيف الذي يخبر وفوقه اللحم.
(5) السماق: نبات ينتج حبوبا صغيرة حمراء حامضة الطعم.
(6) الساطور: سكين كبيرة لتقطيع اللحم والعظم.
(7) اللوزينج: نوع من الحلوى يتخذ من العجين ويحشى بالنقل.
(8) أي مضى عليه ليل ونهار.(1/57)
لؤلؤيّ الدّهن، كوكبيّ اللّون، يذوب كالصّمغ، قبل المضغ، ليأكله أبو زيد هنيّا، قال: فوزنه ثمّ قعد وقعدت، وجرّد وجرّدت (1)، حتّى استوفيناه، ثمّ قلت: يا أبا زيد ما أحوجنا إلى ماء يشعشع بالثّلج، ليقمع هذه الصّارّة (2)، ويفثأ (3) هذه اللّقم الحارّة، اجلس يا أبا زيد حتّى نأتيك بسقّاء، يأتيك بشربة ماء، ثمّ خرجت وجلست بحيث أراه ولا يراني أنظر ما يصنع، فلمّا أبطأت عليه قام السّواديّ إلى حماره، فاعتلق الشّوّاء بإزاره (4)، وقال: أين ثمن ما أكلت؟ فقال أبو زيد:
أكلته ضيفا، فلكمه لكمة، وثنّى عليه بلطمة، ثمّ قال الشّوّاء: هاك، ومتى دعوناك؟ زن يا أخا القحة عشرين (5)، فجعل السّوادي يبكي ويحلّ عقده بأسنانه ويقول: كم قلت لذاك القريد، أنا أبو عبيد، وهو يقول: أنت أبو زيد، فأنشدت:
أعمل لرزقك كلّ آله ... لا تقعدنّ بكلّ حاله
وانهض بكلّ عظيمة ... فالمرء يعجز لا محاله (6)
__________
(1) جرد: شمر عن ساعده ليأكل.
(2) الصارة: شدة الحر.
(3) يفثأ: يخفف.
(4) اعتلق: تعلق وتمسك به ليمنعه من الخروج قبل دفع الثمن.
(5) أي ادفع عشرين درهما.
(6) المعنى: اجتهد في تحصيل رزقك قبل أن يوافيك العجز والهرم.(1/58)
13 - المقامة البصريّة
حدّثني عيسى بن هشام قال:
دخلت البصرة وأنا من سنّي في فتاء (1)، ومن الزّيّ في حبر ووشاء، ومن الغنى في بقر وشاء، فأتيت المربد (2) في رفقة تأخذهم العيون، ومشينا غير بعيد إلى بعض تلك المتنزّهات، في تلك المتوجّهات، وملكتنا (3) أرض فحللناها، وعمدنا لقداح اللهو فأجلناها، مطّرحين للحشمة إذ لم يكن فينا إلّا منّا، فما كان بأسرع من ارتداد الطّرف حتّى عنّ لنا سواد تخفضه وهاد، وترفعه نجاد (4)،
__________
(1) الفتاء: الفتوة والشباب.
(2) المربد: سوق قرب البصرة للتجارة وإلقاء الشعر.
(3) ملكتنا: سيطرت عليها بجمالها.
(4) الوهاد: المنخفضات من الأرض. النجاد: المرتفعات منها.(1/59)
وعلمنا أنّه يهمّ بنا، فأتلعنا له (1)، حتّى أدّاه إلينا سيره ولقينا بتحيّة الإسلام، ورددنا عليه مقتضى السّلام، ثمّ أجال فينا طرفه وقال: يا قوم ما منكم إلّا من يلحظني شزرا (2)، ويوسعني حزرا (3)، وما ينبئكم عنّي، أصدق منّي، أنا رجل من أهل الإسكندريّة من الثّغور الأمويّة، قد وطّأ لي الفضل كنفه (4)، ورحّب بي عيش، ونماني بيت، ثمّ جعجع (5) بي الدّهر عن ثمّه ورمّه (6)، وأتلاني زغاليل حمر الحواصل (7):
كأنّهم حيّات أرض محلة ... فلو يعضّون لذكّى سمّهم
إذا نزلنا أرسلوني كاسبا ... وإن رحلنا ركبوني كلّهم (8)
ونشزت علينا البيض، وشمست منّا الصّفر، وأكلتنا السّود، وحطّمتنا الحمر، وانتابنا أبو مالك، فما يلقانا أبو جابر إلّا عن عفر (9)،
__________
(1) أتلعنا: رفعنا أعناقنا لرؤيته.
(2) يلحظني شزرا: ينظر إلي بمؤخرة عينه، نظرة السخط.
(3) يوسعني حزرا: يحاول معرفة أمره.
(4) وطأ لي الفضل كنفه: جعل جانبه لي وطاء.
(5) جعجع: أذل وغضب.
(6) الثم والرم: القليل والكثير.
(7) أتلاني زغاليل حمر الحواصل: أتبعني أطفالا جياعا.
(8) يشبه أولاده بحيات أرض قاحلة لا يرجى الشفاء من سمهم لشدة جوعهم، إذا نزل وإياهم اضطروه إلى التكسب وإذا حاول أن يرحل عنهم لحقوا به.
(9) نشزت علينا: ابتعدت عنا وكرهتنا. البيض: الدراهم. الصفر: الدنانير.
السود: الليالي المهلكة. حطمتنا: كسرتنا. الحمر: السنون المجدبة. أبو مالك: الفقر والكبر والهرم. أبو جابر: الخبز. لا يلقانا إلا عن عفر: لا يزورنا إلا لماما.(1/60)
وهذه البصرة ماؤها هضوم، وفقيرها مهضوم، والمرء من ضرسه في شغل، ومن نفسه في كلّ (1)، فكيف بمن:
يطوّف ما يطوّف ثمّ يأوي ... إلى زغب محدّدة العيون
كساهنّ البلى شعثا فتمسي ... جياع النّاب ضامرة البطون (2)
ولقد أصبحن اليوم وسرّحن الطّرف في حيّ كميت، وبيت كلا بيت، وقلّبن الأكفّ على ليت، ففضضن عقد الضّلوع، وأفضن ماء الدّموع، وتداعين باسم الجوع.
والفقر في زمن اللّئا ... م لكلّ ذي كرم علامه
رغب الكرام إلى اللّئا ... م، وتلك أشراط القيامه (3)
ولقد اخترتم يا سادة، ودلّتني عليكم السّعادة، وقلت قسما، إنّ فيهم لدسما، فهل من فتى يعشّيهنّ، أو يغشّيهنّ؟ وهل من حرّ يغدّيهنّ، أو يردّيهنّ؟
قال عيسى بن هشام: فو الله ما استأذن على حجاب سمعي كلام رائع أبرع، وأرفع وأبدع، ممّا سمعت منه، لا جرم أنّا استمحنا الأوساط، ونفضنا الأكمام، ونحّينا الجيوب، ونلته أنا مطرفي، وأخذت الجماعة إخذي، وقلنا له: الحق بأطفالك، فأعرض عنّا بعد شكر وفّاه، ونشر ملأ به فاه.
__________
(1) ماؤها هضوم: يساعد على الهضم. فقيرها مهصوم: لا يرعى حقه. والمرء من ضرسه في شغل: أي يشغله تحصيل قوته عن غيره.
(2) المعنى: أن أولاده كالأفراخ بلا ريش أو ثياب يشخصون بعيونهم يلتمسون ما معه، متغيرون، جياع.
(3) يعني أن علامات (أشراط) القيامة قد ظهرت وذلك بأن يملق الكرام ويغتني اللئام ويقصد الكرام إلى اللئام يسألونهم العطاء.(1/61)
14 - المقامة الفزاريّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
كنت في بعض بلاد فزارة (1) مرتحلا نجيبة، وقائدا جنيبة، يسبحان بي سبحا (2) وأنا أهمّ بالوطن (3)، فلا اللّيل يثنيني بوعيده، ولا البعد يلويني ببيده (4)، فظللت أخبط ورق النّهار، بعصا التّسيار (5)،
__________
(1) فزارة: قبيلة عربية مشهورة.
(2) النجيبة: الناقة الكريمة، والجنيبة: الناقة التي يأخذها المسافر معه إلى جنب راحلته ليركبها إذا تعبت الأولى. يسبحان بي سبحا: تسيران بي بسرعة السابح في اليم.
(3) أهم بالوطن: أريد السير إليه.
(4) البيد: جمع بيداء أي الصحراء.
(5) أخبط ورق النهار بعصا التسيار: يشبه النهار بغابة فيها نبات كثيف يضطره إلى شق طريقه بالعصا يضرب بها أوراق النبات لتمهد له السبيل.(1/62)
وأخوض بطن الليل، بحوافر الخيل، فبينا أنا في ليلة يضلّ فيها الغطاط (1)، ولا يبصر فيها الوطواط (2)، أسيح سيحا، ولا سانح إلّا السّبع، ولا بارح إلّا الضّبع (3)، إذ عنّ لي راكب تامّ الآلات، يؤمّ الأثلات، يطوي إليّ منشور الفلوات، فأخذني منه ما يأخذ الأعزل من شاكي السّلاح، لكنّي تجلدت فقلت: أرضك لا أمّ لك، فدونك شرط الحداد، وخرط القتاد (4)، وخصم ضخم، وحميّة أزديّة، وأنا سلم إن شئت، وحرب إن أردت، فقل لي: من أنت؟ فقال: سلما أصبت، فقلت: خيرا أجبت، فمن أنت؟ قال: نصيح إن شاورت فصيح إن حاورت، ودون اسمي لثام، لا تميطه الأعلام، قلت: فما الطّعمة؟ قال: أجوب جيوب البلاد، حتّى أقع على جفنة جواد، ولي فؤاد يخدمه لسان، وبيان يرقمه بنان وقصاراي كريم يخفض لي جنيبته، وينفض إليّ حقيبته، كابن حرّة طلع عليّ بالأمس، طلوع الشّمس، وغرب عنّي بغروبها (5)، لكنّه غاب ولم يغب تذكاره، وودّع وشيّعتني آثاره، ولا ينبئك عنها، أقرب منها، وأومأ إلى ما كان لبسه، فقلت: شحّاذ وربّ الكعبة أخّاذ، له في الصّنعة نفاذ، بل هو فيها أستاذ، ولا بدّ من أن ترشح له، وتسحّ عليه (6)، فقلت: يا فتى قد
__________
(1) الغطاط: القطا، مضرب المثل في الهداية.
(2) الوطواط: الخفاش طائر يبصر في الليل ويعمى في النهار.
(3) السانح: الطير الذي يمر عن يمينك. والبارح: الطير الذي يمر عن شمالك
(4) خرط القتاد: انتزاع شوكه أو قشره باليد. والقتاد شجر صلب له شوك كالإبر
(5) يصف نفسه بأنه حواب أفاق يلتمس المال من الكرام، ويعتمد في استدر عطف الناس على فصاحته.
(6) أي تغدق عليه من مالك.(1/63)
جلّيت عبارتك، فأين شعرك من كلامك؟ فقال: وأين كلامي من شعري؟ ثمّ استمدّ غريزته (1)، ورفع عقيرته، بصوت ملأ الوادي، وأنشأ يقول:
وأروع أهداه لي اللّيل والفلا ... وخمس تمسّ الأرض لكن كلا ولا (2)
عرضت على نار المكارم عوده ... فكان معمّا في السّيادة مخولا (3)
وخادعته عن ماله فخدعته ... وساهلته من برّه فتسهّلا (4)
ولمّا تجالينا وأحمد منطقي ... بلاني من نظم القريض بما بلا (5)
فما هزّ إلّا صارما حين هزّني ... ولم يلقني إلّا إلى السّبق أوّلا
ولم أره أغرّ محجّلا ... وما تحته إلّا أغرّ محجّلا (6)
فقلت له: على رسلك يا فتى (7)، ولك فيما يصحبني حكمك، فقال: الحقيبة بما فيها، فقلت: إنّ وحاملتها (8)، ثمّ قبضت بجمعي عليه، وقلت: لا والّذي ألهمها لمسا، وشقّها من واحدة خمسا (9)، لا
__________
(1) أي طلب المدد من قريحته أو سجيته.
(2) الأروع: الشهم. وخمس تمس الأرض لكن كلا ولا: أي خمس أرجل تمشي على الأرض مسرعة.
(3) أي اختبر كرمه فكان عريقا به.
(4) أي خدعه وسهل عليه بذل ماله.
(5) أي أوضح كل منهما نفسه للثاني، ووجد منطقه محمودا فاختبره بالشعر.
(6) الأغر: الجواد الذي في جبهته بياض. والمحجل: الذي في قوائمه بياض، وينعت بهما الرجل الفاضل.
(7) فقلت له على رسلك: أي تمهل وانتظر.
(8) إن: حرف جواب بمعنى نعم.
(9) أي جعل اليد تدرك باللمس، وتتفرع إلى خمسة أصابع.(1/64)
تزايلني أو أعلم علمك، فحدر لثامه عن وجهه (1)، فإذا هو والله شيخنا أبو الفتح الإسكندريّ، فما لبثت أن قلت:
توشّحت أبا الفتح ... بهذا السّيف مختالا (2)
فما تصنع بالسّيف ... إذا لم تك قتّالا؟
فصغ ما أنت حلّيت ... به سيفك خلخالا (3)
__________
(1) حدر لثامه عن وجهه: أزاله.
(2) توشحت بالسيف: أي تقلدته أو زينته بالوشي.
(3) المعنى: أنك لا تحسن القتال، وخير لك أن تصوغ من وشي سيفك خلخالا (نوع من الحلي) تلبسه في رجلك كالمرأة.(1/65)
15 - المقامة الجاحظيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
أثارتني ورفقة وليمة (1) فأجبت إليها، للحديث المأقور عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت» فأفضى بنا السّير إلى دار
تركت والحسن تأخذه ... تنتقي منه وتنتخب
فانتقت منه طرائفه ... واستزادت بعض ما تهب (2)
قد فرش بساطها، وبسطت أنماطها (3)، ومدّ سماطها (4)، وقوم قد
__________
(1) أثارتني وليمة: حركتني دعوة إلى الطعام.
(2) المعنى: هذه الدار جامعة للمحاسن، انتقت منها جديدها، وأخذت المزيد منها لتهبه لغيرها.
(3) الأنماط: جمع نمط وهو غطاء الفرش.
(4) السماط: ما يمد عليه الطعام.(1/66)
أخذوا الوقت بين آس مخضود (1)، وورد منضود (2)، ودنّ مفصود (3)، وناي وعود، فصرنا إليهم وصاروا إلينا، ثمّ عكفنا على خوان (4) قد ملئت حياضه، ونوّرت رياضه، واصطفّت جفانه (5)، واختلفت ألوانه، فمن حالك بإزائه ناصع، ومن قان تلقاءه فاقع (6)، ومعنا على الطّعام رجل تسافر يده على الخوان، وتسفر بين الألوان (7)، وتأخذ وجوه الرّغفان، وتفقأ عيون الجفان، وترعى أرض الجيران (8)، وتجول في القصعة، كالرّخّ في الرّقعة (9)، يزحم باللّقمة اللّقمة، ويهزم بالمضغة المضغة، وهو مع ذلك ساكت لا ينبس بحرف، ونحن في الحديث تجري معه، حتّى وقف بنا على ذكر الجاحظ (10) وخطابته، ووصف ابن المقفّع (11) وذرابته، ووافق أوّل الحديث آخر الخوان، وزلنا عن ذلك
__________
(1) الآس: الريحان. ومخضود: مجمع ومثنى من غير كسر.
(2) منضود: جمع بعضه فوق بعض.
(3) الدن المفصود: وعاء الخمر المفتوح.
(4) الخوان: المائدة قبل وضع الطعام عليها.
(5) الجفان: جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة.
(6) حالك: أسود. ناصع: أبيض. قان: أحمر. فاقع: أصفر.
(7) تسفر بين الألوان: توفق وتتوسط بين مختلف أنواع الطعام.
(8) ترعى أرض الجيران: أي يتناول طعام الآخرين.
(9) الرخ في الرقعة: طابية الشطرنج التي تروح وتجيء في نواحيه الأربعة.
(10) الجاحظ: هو عمرو بن بحر بن محبوب الكناني (250150هـ) ولد وتوفي في البصرة، وجمع الأدب إلى الفلسفة، وكان أحد شيوخ المعتزلة الكبار، وألف نحو مايتي كتاب ورسالة أهمها الحيوان، والبيان والتبيين، والبخلاء، والتربيع والتدوير، والمعرفة، ونفي التشبيه الخ.
(11) ابن المقفع: هو عبد الله أو روزبه بن داذويه (759م). عاش في العصرين الأموي والعباسي واتصل بأعمام المنصور الخليفة العباسي الذي(1/67)
المكان، فقال الرّجل: أين أنتم من الحديث الّذي كنتم فيه؟ فأخذنا في وصف الجاحظ ولسنه، وحسن سننه في الفصاحة وسننه (1)، فيما عرفناه، فقال: يا قوم لكلّ عمل رجال، ولكلّ مقام مقال، ولكلّ دار سكّان، ولكلّ زمان جاحظ، ولو انتقدتم، لبطل ما اعتقدتم، فكلّ كشّر له عن ناب الإنكار (2)، وأشمّ بأنف الإكبار، وضحكت له لأجلب ما عنده، وقلت: أفدنا وزدنا، فقال: إنّ الجاحظ في أحد شقّي البلاغة يقطف، وفي الآخر يقف (3)، والبليغ من لم يقصّر نظمه عن نثره، ولم يزر كلامه بشعره، فهل تروون للجاحظ شعرا رائعا؟ قلنا:
لا، قال: فهلمّوا إلى كلامه، فهو بعيد الإشارات، قليل الاستعارات، قريب العبارات، منقاد لعريان الكلام (4) يستعمله، نفور من معتاصه يهمله، فهل سمعتم له لفظة مصنوعة، أو كلمة غير مسموعة؟ فقلنا:
لا، فقال: هل تحبّ أن تسمع من الكلام ما يخفّف عن منكبيك، وينمّ على ما في يديك؟ فقلت: إي والله، قال: فأطلق لي عن خنصرك، بما يعين على شكرك، فنلته ردائي، فقال:
لعمر الّذي ألقى عليّ ثيابه
لقد حشيت تلك الثّياب به مجدا
__________
أوعز إلى عامله في البصرة بقتله. نقل إلى العربية كتاب كليلة ودمنة، ووضع كتاب الأدب الكبير والأدب الصغير، ورسالة الصحابة.
(1) السنن: الطريقة. السنن: جمع سنة ما أثر من أقوال وأفعال.
(2) كشر عن نابه: أظهر نابه غضبا.
(3) يعني أن الجاحظ لم يجمع نوعي البلاغة أي الشعر والنثر. إنه ناثر وليس شاعر.
(4) عريان الكلام: الكلام الذي يخلو من التوشية والمحسنات.(1/68)
تى قمرته المكرمات رداءه
وما ضربت قدحا ولا نصبت نردا (1)
أعد نظرا يا من حباني ثيابه
ولا تدع الأيّام تهدمني هدّا
وقل للأولى إن أسفروا أسفروا ضحى
وإن طلعوا في غمّة طلعوا سعدا (2)
صلوا رحم العليا، وبلّوا لهاتها
فخير النّدى ما سحّ وابله نقدا
قال عيسى بن هشام: فارتاحت الجماعة إليه، وانثالت (3)
الصّلات عليه، وقلت لمّا تآنسنا: من أين مطلع هذا البدر؟ فقال:
إسكندريّة داري ... لو قرّ فيها قراري
لكنّ ليلي بنجد ... وبالحجاز نهاري
__________
(1) يعني أن هذا الفتى خسر رداءه في لعبة المكرمات لا في لعبة القداح أو النرد.
(2) يعني أن هؤلاء إذا ظهروا في النهار كانوا كالضحى ضياء وإن طلعوا في الليل كانوا كالكوكب السعدي.
(3) انثال: أنهال وتتابع بكثرة.(1/69)
16 - المقامة المكفوفيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
كنت أجتاز، في بعض بلاد الأهواز، وقصاراي لفظة شرود أصيدها، وكلمة بليغة أستزيدها، فأدّاني السّير إلى رقعة فسيحة من البلد، وإذا هناك قوم مجتمعون على رجل يستمعون إليه، وهو يخبط الأرض بعصا على إيقاع لا يختلف، وعلمت أنّ مع الإيقاع لحنا، ولم أبعد لأنال من السّماع حظّا، أو أسمع من الفصيح لفظا، فما زلت بالنّظّارة، أزحم هذا وأدفع ذاك حتّى وصلت إلى الرّجل، وسرّحت الطّرف منه إلى حزقّة كالقرنبى أعمى مكفوف، في شملة صوف، يدور كالخذروف (1)، متبرنسا بأطول منه، معتمدا على عصا
__________
(1) الحزقة: القصير القامة والعظيم البطن. القرنبي: حيوان صغير يشبه الخنفساء. الخذروف: لعبة تنتهي بمسمار وتشد بخيط فتدور على الأرض بسرعة.(1/70)
فيها جلاجل يخبط الأرض بها على إيقاع غنج، بلحن هزج، وصوت شج، من صدر حرج (1)، وهو يقول:
يا قوم قد أثقل ديني ظهري ... وطالبتني طلّتي بالمهر (2)
أصبحت من بعد غنى ووفر ... ساكن قفر وحليف فقر (3)
يا قوم هل بينكم من حرّ ... يعينني على صروف الدّهر
يا قوم قد عيل لفقري صبري ... وانكشفت عنّي ذيول السّتر
وفضّ ذا الدّهر بأيدي البتر ... ما كان لي من فضّة وتبر (4)
آوي إلى بيت كقيد شبر ... خامل قدر وصغير قدر
لو ختم الله بخير أمري ... أعقبني عن عسر بيسر
هل من فتى فيكم كريم النّجر ... محتسب فيّ عظيم الأجر (5)
إن لم يكن مغتنما للشّكر؟
قال عيسى بن هشام: فرقّ له والله قلبي، واغرورقت له عيني، فنلته دينارا كان معي، فما لبث أن قال:
يا حسنها فاقعة صفراء ... ممشوقة منقوشة قوراء (6)
يكاد أن يقطر منها الماء ... قد أثمرتها همّة علياء
نفس فتى يملكه السّخاء ... يصرفه فيه كما يشاء
يا ذا الذي يعنيه ذا الثّناء ... ما يتقضّى قدرك الإطراء
امض إلى الله لك الجزاء
__________
(1) صوت غنج: حسن هزج: مترنم شج: فيه حزن حرج: ضيق.
(2) الطلة: الزوجة.
(3) عيل صبره: فقد ونفد.
(4) البتر: القطع. التبر: الذهب قبل سبكه.
(5) النجر والنجار: الأصل. ومحتسب: صانع الخير غير منتظر جزاء.
(6) يعني بهذه الأوصاف الدينار وهو قطعة ذهبية مستديرة صفراء منقوشة بالرسوم.(1/71)
ورحم الله من شدّها في قرن مثلها، وآنسها بأختها (1)، فناله النّاس ما نالوه، ثمّ فارقهم وتبعته، وعلمت أنّه متعام، لسرعة ما عرف الدّينار، فلمّا نظمتنا خلوة، مددت يمناي إلى يسرى عضديه وقلت:
والله لترينّي سرّك، أو لأكشفنّ سترك، ففتح عن توأمتي لوز (2)، وحدرت لثامه عن وجهه، فإذا والله شيخنا أبو الفتح الإسكندري، فقلت: أنت أبو الفتح؟ فقال: لا.
أنا أبو قلمون ... في كلّ لون أكون (3)
اختر من الكسب دونا ... فإنّ دهرك دون (4)
زجّ الزّمان بحمق ... إنّ الزّمان زبون (5)
لا تكذبنّ بعقل ... ما العقل إلّا الجنون (6)
__________
(1) أي رحم الله من أعطاني دينارا آخر أو قطعة ذهبية ثانية.
(2) يعني بهما عيني أبي الفتح الإسكندري الصحيحتين وأنه ليس أعمى كما يتظاهر.
(3) القلمون: الثوب الكثير الألوان.
(4) يريد أن يقول ان الدهر دنيء، لذا اختار طرق وكسب دنيئة تتلاءم معه.
(5) يشبه الزمان بالناقة التي تدفع من يريد حلبها برجليها. فهو لا يعين أحدا، ولذا ينبغي أن تدفعه بحمق لتتغلب عليه.
(6) أي لا تصدق من يقول لك ان العقل يحقق لك أغراضك. إن الجنون هو الذي يمكنك من بغيتك.(1/72)
17 - المقامة البخاريّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
أحلّني جامع بخارى (1) يوم وقد انتظمت مع رفقة في سمط الثّريّا (2)، وحين احتفل الجامع بأهله طلع إلينا ذو طمرين قد أرسل صوانا (3)، واستتلى طفلا عريانا، يضيق بالضّرّ وسعه، ويأخذه القرّ ويدعه (4)، لا يملك غير القشرة بردة، ولا يكتفي لحماية رعدة، فوقف الرّجل وقال: لا ينظر لهذا الطّفل إلّا من الله طفّله، ولا يرقّ لهذا
__________
(1) بخارى: مدينة في بلاد أوزباكستان بين روسيا وايران والصين.
(2) سمط الثريا: سلك الثريا. وهي نجوم سبعة مجتمعة لا تفترق. يعني أنهم متحابون لا يفترقون كهذه النجوم.
(3) صوانا: وعاء فارغا.
(4) القر: شدة البرد.(1/73)
الضّرّ إلّا من لا يأمن مثله، يا أصحاب الجدود (1) المفروزة، والأردية المطروزة، والدّور المنجّدة، والقصور المشيّدة، إنّكم لن تأمنوا حادثا، ولن تعدموا وارثا، فبادروا الخير ما أمكن، وأحسنوا مع الدّهر ما أحسن، فقد والله طعمنا السّكباج، وركبنا الهملاج، ولبسنا الدّيباج، وافترشنا الحشايا، بالعشايا (2)، فما راعنا إلّا هبوب الدّهر بغدره، وانقلاب المجنّ لظهره، فعاد الهملاج قطوفا (3)، وانقلب الدّيباج صوفا، وهلمّ جرّا إلى ما تشاهدون من حالي وزيّي، فها نحن نرتضع من الدّهر ثدي عقيم، ونركب من الفقر ظهر بهيم، فلا نرنو إلّا بعين اليتيم، ولا نمدّ إلّا يد العديم، فهل من كريم يجلو غياهب هذه البؤوس، ويفلّ شبا هذه النّحوس؟ (4) ثمّ قعد مرتفقا (5) وقال للطّفل: أنت وشأنك، فقال: ما عسى أن أقول وهذا الكلام لو لقي الشّعر لحلقه، أو الصّخر لفلقه، وإنّ قلبا لم ينضجه ما قلت لنيّء، وقد سمعتم يا قوم، ما لم تسمعوا قبل اليوم، فليشغل كلّ منكم بالجود يده، وليذكر غده، واقيا بي ولده، واذكروني أذكركم، وأعطوني أشكركم.
قال عيسى بن هشام: فما آنسني في وحدتي إلّا خاتم ختّمت به خنصره، فلمّا تناوله أنشأ يصف الخاتم على الإصبع، وجعل يقول:
__________
(1) الجدود: الحظوظ.
(2) السكباج: اللحم يطبخ بالخل. الهملاج: الدابة السريعة. الديباج: الحرير.
الحشايا: جمع حشية وهي الوسادة.
(3) القطوف: الدابة البطيئة في سيرها.
(4) شبا: جمع شباة وهي سن الرمح، أو هي حد الشيء.
(5) مرتفعا: مستندا إلى مرفقيه.(1/74)
وممنطق من نفسه ... بقلادة الجوزاء حسنا (1)
كمتيّم لقي الحبي ... ب فضمّه شغفا وحزنا (2)
متألّف من غير أس ... رته على الأيّام خدنا
علق سنيّ قدره ... لكنّ من أهداه أسنى (3)
أقسمت لو كان الورى ... في المجد لفظا كنت معنى (4)
قال عيسى بن هشام: فنلناه ما تاح لنا من الفور، فأعرض عنّا، حامدا لنا، فتبعته حتّى سفرت (5) الخلوة عن وجهه، فإذا هو والله شيخنا أبو الفتح الإسكندريّ، وإذا الطّلا زغلوله (6)، فقلت:
أبا الفتح شبت، وشبّ الغلام
فأين السّلام، وأين الكلام؟
فقال:
غريبا إذا جمعتنا الطّريق
أليفا إذا نظمتنا الخيام (7)
فعلمت أنّه يكره مخاطبتي، فتركته وانصرفت.
__________
(1) المنطقة: حزام يشد به الوسط، القلادة: حلية تتخذ على الصدر. الجوزاء:
مجموعة كواكب. المعنى أنه جميل حسن الخلق.
(2) المتيّم: الذي استعبده الحب. يشبه الخاتم على الإصبع بحبيبين يتعانقان.
(3) العلق: النفيس أو الغالي من الشيء. والسني: الرفيع.
(4) يريد أن يقول انه خير الناس لأن المعنى في الكلام خير من اللفظ.
(5) سفر عن وجهه: أظهره وبيّنه.
(6) الطلاء: ولد الظبية. الزغلول: فرخ الحمام ويعني به ولده.
(7) يريد أن يقول: إنه يتنكر له في الطريق ولكنه يعرفه عندما يختلي به في البيت.(1/75)
18 - المقامة القزوينيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
غزوت الثّغر بقزوين (1)، سنة خمس وسبعين، فيمن غزاه، فما أجزنا حزنا (2)، إلّا هبطنا بطنا (3)، حتّى وقف المسير بنا على بعض قراها، فمالت الهاجرة بنا إلى ظلّ أثلات (4)، في حجرتها عين كلسان الشّمعة، أصفى من الدّمعة، تسيح في الرّضراض، سيح
__________
(1) قزوين: إحدى بلاد الديلم (بحر قزوين).
(2) أجزنا حزنا: قطعنا مرتفعا.
(3) البطن: المنخفض من الأرض، ضد الحزن.
(4) الهاجرة: منتصف النهار. أثلاث: جمع أثلة وهي شجرة عالية ذات ظلال وارفة.(1/76)
النّضناض (1)، فنلنا من الطّعام ما نلنا، ثمّ ملنا إلى الظّلّ فقلنا (2)، فما ملكنا النّوم حتّى سمعنا صوتا أنكر من صوت حمار، ورجعا أضعف من رجع الحوار (3)، يشفعهما صوت طبل كأنّه خارج من ماضغي أسد (4)، فذاد عن القوم (5)، رائد النّوم (6)، وفتحت التّوأمتين (7) إليه وقد حالت الأشجار دونه، وأصغيت فإذا هو يقول، على إيقاع الطّبول:
أدعو إلى الله فهل من مجيب
إليّ ذرا رحب ومرعى خصيب (8)
وجنّة عالية ما تني
قطوفها دانية ما تغيب
يا قوم إنّي رجل تائب
من بلد الكفر وأمري عجيب
إنّ أك آمنت فكم ليلة
جحدت ربّي وأتيت المريب
__________
(1) الرضراض: الأرض الكثيرة الحصى. النضناض: الحية التي تتلوى في سيرها.
(2) قلنا: نمنا عند القيلولة أي الظهيرة.
(3) الحوار: ولد الناقة. والرجع صوت السير.
(4) يشفعهما: يجعلهما اثنين. ماضغي أسد: شدقي أسد.
(5) ذاد عن القوم: منع عنهم.
(6) رائد النوم: أول النوم.
(7) التوأمتين: أي العينين لأنها متشابهتان كالتوأم.
(8) الذرى: الناحية.(1/77)
يا ربّ خنزير تمشّشته
ومسكر أحرزت منه النّصيب (1)
ثمّ هداني الله وانتاشني
من ذلّة الكفر اجتهاد المصيب (2)
فظللت أخفي الدّين في أسرتي
وأعبد الله بقلب منيب
أسجد للّات حذار العدى
ولا أرى الكعبة خوف الرّقيب
وأسأل الله إذا جنّني
ليل وأضناني يوم عصيب
ربّ كما أنّك أنقذتني
فنجّني إنّي فيهم غريب
ثمّ اتّخذت اللّيل لي مركبا
وما سوى العزم أمامي جنيب
فقدك من سيري في ليلة
يكاد رأس الطّفل فيها يشيب (3)
حتّى إذا جزت بلاد العدى
إلى حمى الدّين نفضت الوجيب (4)
فقلت إذ لاح شعار الهدى
نصر من الله وفتح قريب
__________
(1) تمششته: أكلت مشاشه، جمع مشاشة وهي العظمة اللينة.
(2) انتاشني: أخرجني.
(3) قدك، اسم فعل بمعنى: يكفيك.
(4) الوجيب: خفقان القلب.(1/78)
فلمّا بلغ هذا البيت قال: يا قوم وطئت داركم بعزم لا العشق شاقه، ولا الفقر ساقه، وقد تركت وراء ظهري حدائق وأعنابا، وكواعب أترابا (1)، وخيلا مسوّمة، وقناطير مقنطرة، وعدّة وعديدا، ومراكب وعبيدا، وخرجت خروج الحيّة من جحره، وبرزت بروز الطّائر من وكره، مؤثرا ديني على دنياي، جامعا يمناي إلى يسراي، واصلا سيري بسراي (2)، فلو دفعتم النّار بشرارها، ورميتم الرّوم بحجارها، وأعنتموني على غزوها، مساعدة وإسعادا، ومرافدة وإرفادا، ولا شطط فكلّ على قدر قدرته، وحسب ثروته، ولا أستكثر البدرة، وأقبل الذّرّة، ولا أردّ التّمرة، ولكلّ منّي سهمان: سهم أذلّقه للّقاء وآخر أفوّقه بالدّعاء (3)، وأرشق به أبواب السّماء، عن قوس الظلماء.
قال عيسى بن هشام: فاستفزّني رائع ألفاظه، وسروت جلباب النّوم (4)، وعدوت إلى القوم، فإذا والله شيخنا أبو الفتح الإسكندريّ بسيف قد شهره، وزيّ قد نكّره، فلمّا رآني غمزني بعينه، وقال:
رحم الله من أعاننا بفاضل ذيله، وقسم لنا من نيله، ثمّ أخذ ما أخذ، وخلوت به فقلت: أأنت من أولاد النّبيط؟ فقال:
أنا حالي من الزّما ... ن كحالي مع النّسب (5)
نسبي في يد الزّما ... ن إذا سامه انقلب
أنا أمسي من النّبي ... ط وأضحي من العرب
__________
(1) الكواعب: البنات البارزات الثدي. أترابا: في العمر نفسه.
(2) السري: السير في الليل.
(3) ذلق السهم: حدده. وفوّق السهم: أعده للرمي.
(4) سروت جلباب النوم: خلعت ثوب النوم.
(5) يريد أن يقول ان نسبه متقلب كالزمان فتارة نبطي وطورا عربي.(1/79)
19 - المقامة السّاسانيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
أحلّتني دمشق بعض أسفاري، فبينا أنا يوما على باب داري، إذ طلع عليّ من بني ساسان كتيبة (1) قد لفّوا رؤوسهم، وطلوا بالمغرة (2)
لبوسهم، وتأبّط كلّ واحد منهم حجرا يدقّ به صدره، وفيهم زعيم لهم يقول وهم يراسلونه (3)، ويدعو ويجاوبونه، فلمّا رآني قال:
أريد منك رغيفا ... يعلو خوانا نظيفا
أريد ملحا جريشا ... أريد بقلا قطيفا
__________
(1) بنو ساسان: الشحاذون. كتيبة: جماعة. وساسان آخر ملك الفرس، ذل قومه بعد سقوط دولتهم وافتقروا وغدوا كالمتسولين.
(2) المغرة: دهان أحمر.
(3) يراسلونه: يتابعونه.(1/80)
أريد لحما غريضا ... أريد خلا ثقيفا (1)
أريد جديا رضيعا ... أريد سخلا خروفا (2)
أريد ماء بثلج ... يغشى إناء طريفا
أريد دنّ مدام ... أقوم عنه نزيفا (3)
وساقيا مستهشّا ... على القلوب خفيفا (4)
أريد منك قميصا ... وجبّة ونصيفا (5)
أريد نعلا كثيفا ... بها أزور الكنيفا (6)
أريد مشطا وموسى ... أريد سطلا وليفا
يا حبّذا أنا ضيفا ... لكم وأنت مضيفا
رضيت منك بهذا ... ولم أرد أن أحيفا (7)
قال عيسى بن هشام: فنلته درهما، وقلت له: قد آذنت بالدّعوة وسنعدّ ونستعدّ، ونجتهد ونجدّ، ولك علينا الوعد من بعد، وهذا الدّرهم تذكرة معك، فخذ المنقود، وانتظر الموعود، فأخذه وصار إلى رجل آخر ظننت أنّه يلقاه بمثل ما لقيني، فقال:
يا فاضلا قد تبدّى ... كأنّه الغصن قدّا
قد اشتهى اللّحم ضرسي ... فاجلده بالخبز جلدا
__________
(1) اللحم الغريض: اللحم الطريء. الخل الثقيف: الخل الشديد الحموصة.
(2) السخل: ولد الضأن.
(3) الدن: وعاء الخمر. المدام: الخمر. نزيفا: سكران.
(4) الساقي المستهش: السريع الطرب.
(5) النصيف: العمامة أو ما يغطى به الرأس.
(6) الكنيف: الحمّام.
(7) أحيف: أجور، أو أشق عليك.(1/81)
وامنن عليّ بشيء ... واجعله للوقت نقدا
أطلق من اليد خصرا ... واحلل من الكيس عقدا
واضمم يديك لأجلي ... إلى جناحك عمدا
قال عيسى بن هشام: فلمّا فتق سمعي منه هذا الكلام، علمت أنّ وراءه فضلا، فتبعته حتّى صار إلى أمّ مثواه (1)، ووقفت منه بحيث لا يراني وأراه، وأماط السّادة لثمهم، فإذا زعيمهم أبو الفتح الإسكندريّ، فنظرت إليه وقلت: ما هذه الحيلة ويحك؟ فأنشأ يقول:
هذا الزّمان مشوم ... كما تراه غشوم
الحمق فيه مليح ... والعقل عيب ولوم
والمال طيف، ولكن ... حول اللّئام يحوم (2)
__________
(1) أم مثواه: ربة بيته أي زوجته. والمثوى: البيت.
(2) يريد أن يقول في هذه الأبيات ان الزمان مشؤوم وغاشم وبخيل، وخير ما نصنعه هو أن نتصرف تصرف الحمقى لا العقلاء. والمال في هذا الزمان كالطيف الذي يمر في قومك ويدور، ولكنه لا يحوم إلا فوق اللئام، ومن يشاء الحصول عليه ينبغي أن يتصف بصفة اللئام والخبيثين.(1/82)
20 - المقامة القرديّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
بينا أنا بمدينة السّلام (1)، قافلا من البلد الحرام (2)، أميس ميس الرّجلة (3)، على شاطىء الدّجلة (4)، أتأمّل نلك الطّرائف، وأتقصّى تلك الزّخارف، إذ انتهيت إلى حلقة رجال مزدحمين يلوي الطّرب أعناقهم، ويشقّ الضّحك أشداقهم، فساقني الحرص إلى ما ساقهم، حتّى وقفت بمسمع صوت رجل دون مرأى وجهه لشدّة
__________
(1) مدينة السلام: بغداد.
(2) البلد الحرام: مكة.
(3) أميس ميس الرجلة: أميل ميل نبتة الرجلة وهي نوع من البقل تنبت في مجرى الماء وتنمو بسرعة ولا تلبث أن يقتلها الماء.
(4) دجلة: نهر في العراق.(1/83)
الهجمة وفرط الزّحمة، فإذا هو قرّاد يرقص قرده، ويضحك من عنده، فرقصت رقص المحرّج (1)، وسرت سير الأعرج (2)، فوق رقاب النّاس يلفظني عاتق هذا لسرّة ذاك، حتّى افترشت لحية رجلين، وقعدت بعد الاين (3)، وقد أشرقني الخجل بريقه (4)، وأرهقني المكان بضيقه، فلمّا فرغ القرّاد من شغله، وانتفض المجلس عن أهله، قمت وقد كساني الدّهش حلّته، ووقفت لأرى صورته، فإذا هو والله أبو الفتح الإسكندريّ، فقلت: ما هذه الدّناءة ويحك، فأنشأ يقول:
الذّنب للأيّام لا لي ... فاعتب على صرف اللّيالي (5)
بالحمق أدركت المنى ... ورفلت في حلل الجمال (6)
__________
(1) المحرج: الكلب الذي روضه صاحبه على الرقص.
(2) سير الأعرج: أي يتلوى في سيره يمينا وشمالا كالأعرج.
(3) الأين: التعب.
(4) أشرقني: أغصني.
(5) صرف الليالي: مصائبها. والمعنى: لا ذنب لي فيما أصنع، وإنما هو ذنب الليالي.
(6) رفل في حلل الجمال: لبس الثياب الجميلة. والمعنى أنه أدرك ما أراد بتجاهله لأن الزمان لا يساعد إلا الجهلاء.(1/84)
21 - المقامة الموصليّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
لمّا قفلنا من الموصل (1)، وهممنا بالمنزل (2)، وملكت علينا القافلة، وأخذ منّا الرّحل والرّاحلة، جرت بي الحشاشة إلى بعض قراها (3)، ومعي الإسكندريّ أبو الفتح، فقلت: أين نحن من الحيلة؟
فقال: يكفي الله، ودفعنا إلى دار قد مات صاحبها، وقامت نوادبها، واحتفلت بقوم قد كوى الجزع قلوبهم، وشقّت الفجيعة جيوبهم، ونساء قد نشرن شعورهنّ، يضربن صدورهنّ، وشددن عقودهنّ، يلطمن خدودهنّ، فقال الإسكندريّ: لنا في هذا السّواد نخلة (4)، وفي
__________
(1) الموصل: مدينة في شمالي العراق.
(2) هممنا بالمنزل: طلبناه.
(3) الحشاشة: بقية الروح.
(4) السواد: غابة النخيل.(1/85)
هذا القطيع سخلة (1)، ودخل الدّار لينظر إلى الميّت وقد شدّت عصابته لينقل، وسخّن ماؤه ليغسل، وهيّىء تابوته ليحمل، وخيطت أثوابه ليكفّن، وحفرت حفرته ليدفن، فلمّا رآه الإسكندريّ أخذ حلقه، فجسّ عرقه، فقال: يا قوم اتّقوا الله لا تدفنوه فهو حيّ، وإنّما عرته بهتة، وعلته سكتة، وأنا أسلّمه مفتوح العينين، بعد يومين، فقالوا: من أين لك ذلك؟ فقال: إنّ الرّجل إذا مات برد إبطه (2)، وهذا الرّجل قد لمسته فعلمت أنّه حيّ، فجعلوا أيديهم في إبطه، فقالوا: الأمر على ما ذكر، فافعلوا كما أمر، وقام الإسكندريّ إلى الميّت، فنزع ثيابه ثمّ شدّ له العمائم، وعلّق عليه تمائم (3)، وألعقه الزّيت، وأخلى له البيت، وقال: دعوه، ولا تروّعوه، وإن سمعتم له أنينا فلا تجيبوه، وخرج من عنده وقد شاع الخبر وانتشر، بأنّ الميّت قد نشر (4)، وأخذتنا المبارّ (5)، من كلّ دار، وانثالت (6) علينا الهدايا من كلّ جار، حتّى ورم كيسنا فضّة وتبرا (7) وامتلأ رحلنا أقطا وتمرا (8)، وجهدنا أن ننتهز فرصة في الهرب فلم نجدها، حتّى حلّ الأجل المضروب، واستنجز الوعد المكذوب فقال الإسكندريّ: هل سمعتم لهذا العليل
__________
(1) سخلة: ولد الضأن.
(2) الإبط: ما تحت الكتف، يكون عادة حارا.
(3) تمائم: جمع تميمة أي التعويذة.
(4) نشر: عاد إلى الحياة.
(5) المبار: جمع مبرة أي العطية أو الحسنة.
(6) انثال: تدفق.
(7) ورم كيسنا فضة وتبرا: امتلأ كيسنا من الفضة والذهب (التبر).
(8) الرحل: الوعاء الذي يحوي أمتعة المسافرين. الأقط: اللبنة أو اللبن المجفف.(1/86)
ركزا (1)، أو رأيتم منه رمزا (2)؟ فقالوا: لا، فقال: إن لم يكن صوّت مذ فارقته، فلم يجىء بعد وقته، دعوه إلى غد فإنّكم إذا سمعتم صوته، أمنتم موته، ثمّ عرّفوني لأحتال في علاجه، وإصلاح ما فسد من مزاجه، فقالوا: لا تؤخّر ذلك عن غد، قال: لا، فلمّا ابتسم ثغر الصّبح، وانتشر جناح الضّوّ، في أفق الجوّ، جاءه الرّجال أفواجا، والنّساء أزواجا، وقالوا: نحبّ أن تشفي العليل، وتدع القال والقيل، فقال الإسكندريّ قوموا بنا إليه، ثمّ حدر التّمائم عن يده، وحلّ العمائم عن جسده، وقال: أنيموه على وجهه، فأنيم، ثمّ قال: أقيموه على رجليه، فأقيم، ثمّ قال: خلّوا عن يديه، فسقط رأسا، وطنّ الإسكندريّ بفيه وقال: هو ميّت كيف أحييه؟. فأخذه الخفّ، وملكته الأكفّ، وصار إذا رفعت عنه يد وقعت عليه أخرى، ثمّ تشاغلوا بتجهيز الميّت، فانسللنا هاربين حتّى أتينا قرية على شفير واد (3) السّيل يطرّفها (4) والماء يتحيّفها (5)، وأهلها مغتمّون لا يملكهم غمض اللّيل، من خشية السّيل، فقال الإسكندريّ: يا قوم أنا أكفيكم هذا الماء ومعرّته (6)، وأردّ عن هذه القرية مضرّته، فأطيعوني، ولا تبرموا أمرا دوني، قالوا: وما أمرك؟ فقال: اذبحوا في مجرى هذا الماء بقرة صفراء، وأتوني بجارية عذراء، وصلّوا خلفي ركعتين يثن الله عنكم عنان هذا الماء، إلى هذه الصّحراء، فإن لم ينثن الماء فدمي عليكم
__________
(1) الركز: الصوت الخفيف.
(2) الرمز: الإشارة.
(3) شفير الوادي: حافته.
(4) يطرقها: يدخل أطرافها بعضها ببعض.
(5) يتحيفها: يجوز عليها فيجرف منها وينقص من أطرافها.
(6) المعرة: الأذى.(1/87)
حلال، قالوا: نفعل ذلك، فذبحوا البقرة، وزوّجوه الجارية، وقام إلى الرّكعتين يصلّيهما، وقال: يا قوم احفظوا أنفسكم، لا يقع منكم في القيام كبو، أو في الرّكوع هفو، أو في السّجود سهو، أو في القعود لغو، فمتى سهونا خرج أملنا عاطلا، وذهب عملنا باطلا، واصبروا على الرّكعتين فمسافتهما طويلة، وقام للرّكعة الأولى فانتصب انتصاب الجذع، حتّى شكوا وجع الضّلع، وسجد، حتّى ظنّوا أنّه قد هجد (1)
ولم يشجعوا لرفع الرّؤوس، حتّى كبّر للجلوس، ثمّ عاد إلى السّجدة الثّانية، وأومأ إليّ، فأخذنا الوادي وتركنا القوم ساجدين، لا نعلم ما صنع الدّهر بهم، فأنشأ أبو الفتح يقول:
لا يبعد الله مثلي ... وأين مثلي أينا؟
لله غفلة قوم ... غنمتها بالهوينا!
اكتلت خيرا عليهم ... وكلت زورا ومينا (2)
__________
(1) هجد: نام.
(2) الهوينا: تصغير الهونى وهي مؤنث الأهون أي السهل المأخذ. المين:
الكذب. المعنى أنه استغل غفلة هؤلاء القوم وأخذ مالهم وأعطاهم الزور والكذب.(1/88)
22 - المقامة المضيريّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
كنت بالبصرة (1)، ومعي أبو الفتح الإسكندريّ رجل الفصاحة يدعوها فتجيبه، والبلاغة يأمرها فتطيعه، وحضرنا معه دعوة بعض التّجّار، فقدّمت إلينا مضيرة (2)، تثني على الحضارة (3)، وتترجرج في الغضارة (4)، وتؤذن بالسّلامة، وتشهد لمعاوية رحمه الله بالإمامة (5)، في قصعة يزلّ عنها الطّرف، ويموج فيها الظّرف (6)، فلمّا أخذت من
__________
(1) البصرة: مدينة تقع جنوبي العراق.
(2) المضيرة: طعام يتألف من اللحم واللبن الحامض والتوابل.
(3) الحضارة: التقدم في صناعة الأطعمة وغيرها.
(4) تترجرج في الغضارة: تموج في القصعة.
(5) أي أن معاوية يحب هذا النوع من الطعام، وعرف بنهمه.
(6) الظرف: الحسن والدماثة.(1/89)
الخوان مكانها، ومن القلوب أوطانها، قام أبو الفتح الإسكندريّ يلعنها وصاحبها، ويمقتها وآكلها، ويثلبها وطابخها، وظننّاه يمزح فإذا الأمر بالضّدّ، وإذا المزاح عين الجدّ، وتنحّى عن الخوان، وترك مساعدة الإخوان، ورفعناها فارتفعت معها القلوب، وسافرت خلفها العيون، وتحلّبت (1) لها الأفواه، وتلمّظت لها الشّفاه (2)، واتّقدت لها الأكباد، ومضى في إثرها الفؤاد، ولكنّا ساعدناه على هجرها، وسألناه عن أمرها، فقال: قصّتي معها أطول من مصيبتي فيها، ولو حدّثتكم بها لم آمن المقت، وإضاعة الوقت، قلنا: هات، قال: دعاني بعض التّجّار إلى مضيرة وأنا ببغداد، ولزمني ملازمة الغريم، والكلب لأصحاب الرّقيم (3)، إلى أن أجبته إليها، وقمنا فجعل طول الطّريق يثني على زوجته، ويفدّيها بمهجته، ويصف حذقها في صنعتها، وتأنّقها في طبخها ويقول: يا مولاي لو رأيتها، والخرقة في وسطها، وهي تدور في الدّور، من التّنّور إلى القدور ومن القدور إلى التّنّور (4)، تنفث بفيها النّار، وتدقّ بيديها الأبزار (5)، ولو رأيت الدّخان وقد غبّر في ذلك الوجه الجميل، وأثّر في ذلك الخدّ الصّقيل، لرأيت منظرا تحار فيه العيون، وأنا أعشقها لأنّها تعشقني، ومن سعادة المرء، أن يرزق المساعدة من حليلته، وأن يسعد بظعينته (6)، ولا
__________
(1) تحلبت لها الأفواه: سال لعابها.
(2) تلمظت لها الشفاه: لحس اللسان ما على الشفتين من آثار الطعام.
(3) أصحاب الرقيم: أصحاب الكهف الذين ورد ذكرهم في القرآن.
(4) التنور: الفرن، ما يخبز فيه الخبز.
(5) الأبزار: جمع بزر، ما يوضع على الطعام كالفلفل والقرنفل وسائر التوابل.
(6) الظعينة: المرأة.(1/90)
سيّما إذا كانت من طينته، وهي ابنة عمّي لحّا (1)، طينتها طينتي، ومدينتها مدينتي، وعمومتها عمومتي، وأرومتها أرومتي (2)، لكنّها أوسع منّي خلقا، وأحسن خلقا، وصدّعني (3) بصفات زوجته، حتّى انتهينا إلى محلّته، ثمّ قال: يا مولاي ترى هذه المحلّة؟ هي أشرف محالّ بغداد، يتنافس الأخيار في نزولها، ويتغاير الكبار في حلولها، ثمّ لا يسكنها غير التّجّار، وإنّما المرء بالجار وداري في السّطة من قلادتها (4)، والنّقطة من دائرتها، كم تقدّر يا مولاي أنفق على كلّ دار منها؟ قله تخمينا، إن لم تعرفه يقينا، قلت: الكثير، فقال: يا سبحان الله! ما أكبر هذا الغلط! تقول الكثير فقط؟ وتنفّس الصّعداء (5)، وقال:
سبحان من يعلم الأشياء، وانتهينا إلى باب داره، فقال: هذه داري، كم تقدّر يا مولاي أنفقت على هذه الطّاقة (6)؟ أنفقت والله عليها فوق الطّاقة (7)، ووراء الفاقة (8)، كيف ترى صنعتها وشكلها؟ أرأيت بالله مثلها؟ انظر إلى دقائق الصّنعة فيها، وتأمّل حسن تعريجها، فكأنّما خطّ بالبركار (9)، وانظر إلى حذق النّجّار في صنعة هذا الباب، اتخذه
__________
(1) لحا: أي شديدة القرابة.
(2) الأرومة: الأصل.
(3) صدعني: سبب لي الصداع أو ألم الرأس.
(4) السطة: الوسط.
(5) تنفس الصعداء: زفر الهواء من صدره وأطال ذلك دليل التفريج عن الكرب أو الشدة.
(6) الطاقة: الشباك أو النافذة الصغيرة.
(7) الطاقة: القدرة.
(8) الفاقة: الحاجة والعوز. إذ انه أنفق مالا كثيرا على شرائها.
(9) البركار: آلة لرسم الدوائر على الورق يستعملها المهندسون.(1/91)
من كم؟ قل: ومن أين أعلم، هو ساج من قطعة واحدة لا مأروض ولا عفن (1)، إذا حرّك أنّ (2)، وإذا نقر طنّ (3)، من اتّخذه يا سيّدي؟
اتّخذه أبو إسحاق بن محمّد البصريّ، وهو والله رجل نظيف الأثواب، بصير بصنعة الأبواب، خفيف اليد في العمل، لله درّ ذلك الرّجل! بحياتي لا استعنت إلّا به على مثله، وهذه الحلقة تراها اشتريتها في سوق الطّرائف من عمران الطّرائفيّ بثلاثة دنانير معزّيّة (4)، وكم فيها يا سيّدي من الشّبه (5) فيها ستّة أرطال، وهي تدور بلولب في الباب، بالله دوّرها، ثمّ انقرها وابصرها، وبحياتي عليك لا اشتريت الحلق إلّا منه فليس يبيع إلّا الأعلاق (6)، ثمّ قرع الباب ودخلنا الدّهليز، وقال:
عمّرك الله يا دار ولا خرّبك يا جدار، فما أمتن حيطانك، وأوثق بنيانك، وأقوى أساسك، تأمّل بالله معارجها (7)، وتبيّن دواخلها وخوارجها، وسلني: كيف حصّلتها؟ وكم من حيلة احتلتها، حتّى عقدتها (8)؟ كان لي جار يكنى أبا سليمان يسكن هذه المحلّة، وله من المال ما لا يسعه الخزن، ومن الصّامت (9) ما لا يحصره الوزن، مات
__________
(1) الساج: شجر يطول كثيرا ويوجد في بلاد الهند. المأروض ما أكلته الأرضة وهي دويبة صغيرة (السوس). العفن: الذي أصابته العفونة أو الرطوبة.
(2) أنّ: أخرج صوتا مؤلما من فمه.
(3) إذا نقر طن: إذا دق عليه أحدث صوتا اسمه الطنين.
(4) سوق الطرائف: سوق ببغداد لبيع الطرائف أو الأشياء الجديدة والنفيسة.
الدنانير المعزية: نسبة إلى المعز لدين الله الفاطمي.
(5) الشبه: النحاس الأصفر.
(6) الأعلاق: جمع علق أي النفائس.
(7) المعارج: الأدراج أو السلالم.
(8) عقدتها: كتبت فيها العقد الذي يثبت البيع والشراء.
(9) الصامت: الذهب والفضة.(1/92)
رحمه الله وخلّف خلفا أتلفه بين الخمر والزّمر، ومزّقه بين النّرد والقمر، وأشفقت أن يسوقه قائد الاضطرار، إلى بيع الدّار، فيبيعها في أثناء الضّجر، أو يجعلها عرضة للخطر، ثمّ أراها، وقد فاتني شراها، فأتقطّع عليها حسرات، إلى يوم الممات، فعمدت إلى أثواب لا تنضّ تجارتها (1) فحملتها إليه، وعرضتها عليه، وساومته على أن يشتريها نسيّة (2)، والمدبر يحسب النّسيّة عطيّة، والمتخلّف يعتدّها هديّة، وسألته وثيقة بأصل المال، ففعل وعقدها لي، ثمّ تغافلت عن اقتضائه، حتّى كادت حاشية حاله ترقّ، فأتيته فاقتضيته، واستمهلني فأنظرته، والتمس غيرها من الثّياب فأحضرته، وسألته أن يجعل داره رهينة لديّ، ووثيقة في يديّ، ففعل ثمّ درّجته (3) بالمعاملات إلى بيعها حتّى حصلت لي بجدّ صاعد (4)، وبخت مساعد، وقوّة ساعد، وربّ ساع لقاعد (5)، وأنا بحمد الله مجدود (6)، وفي مثل هذه الأحوال محمود، وحسبك يا مولاي أنّي كنت منذ ليال نائما في البيت مع من فيه إذ قرع علينا الباب، فقلت: من الطارق المنتاب (7)، فإذا امرأة معها عقد لآل (8)، في جلدة ماء ورقّة آل (9)، تعرضه
__________
(1) تنض تجارتها: تكسد.
(2) النسية أو النسيئة: البيع مع تأخير دفع الثمن.
(3) درجته: استدرجته وأدنيت نحو فعل الشيء بالحيلة.
(4) جد صاعد: حظ موفور.
(5) رب ساع لقاعد: مثل يضرب لمن يسعى ويتعب فيستفيد من ذلك آخر قعد عن السعي.
(6) مجدود: محظوظ.
(7) الطارق المنتاب: الذي يدق الباب في وقت لا يأتي به أحد.
(8) عقد لآل: عقد من لآلىء.
(9) الآل: السراب.(1/93)
للبيع، فأخذته منها إخذة خلس، واشتريته بثمن بخس، وسيكون له نفع ظاهر، وربح وافر، بعون الله تعالى ودولتك، وإنّما حدّثتك بهذا الحديث لتعلم سعادة جدّي في التّجارة، والسّعادة تنبط الماء من الحجارة، الله أكبر لا ينبئك أصدق من نفسك، ولا أقرب من أمسك، اشتريت هذا الحصير في المنادات، وقد أخرج من دور آل الفرات، وقت المصادرات، وزمن الغارات (1)، وكنت أطلب مثله منذ الزّمن الأطول فلا أجد، والدّهر حبلى ليس يدرى ما يلد، ثمّ اتّفق أنّي حضرت باب الطّاق، وهذا يعرض في الأسواق، فوزنت فيه كذا وكذا دينارا، تأمّل بالله دقّته ولينه، وصنعته ولونه، فهو عظيم القدر، لا يقع مثله إلّا في النّدر، وإن كنت سمعت بأبي عمران الحصيريّ فهو عمله، وله ابن يخلفه الآن في حانوته لا يوجد أعلاق الحصر إلّا عنده فبحياتي لا اشتريت الحصر إلّا من دكّانه، فالمؤمن ناصح لإخوانه، لا سيّما من تحرّم بخوانه (2)، ونعود إلى حديث المضيرة، فقد حان وقت الظّهيرة، يا غلام الطّست والماء، فقلت: الله أكبر، ربّما قرب الفرج، وسهل المخرج، وتقدّم الغلام، فقال: ترى هذا الغلام؟ إنّه روميّ الأصل، عراقيّ النّشء. تقدّم يا غلام واحسر عن رأسك (3)، وشمّر عن ساقك، وانض عن ذراعك (4)، وافترّ عن
__________
(1) المنادات: المزاد العلني. آل الفرات: أسرة كان منها من وزر في عهد الدولة العباسية وصودرت أموالهم لاتهامه باختلاس المال زمن المقتدر، واسمه علي بن محمد ابن موسى بن الحسن بن الفرات.
(2) تحرم من بخوانه: أكل من طعامه وغدا جارا له يجب عليه نصحه ومساعدته.
(3) أحسر عن وجهك: كشف عنه.
(4) انض عن ذراعك: انزع الثوب عنه.(1/94)
أسنانك، وأقبل وأدبر، ففعل الغلام ذلك، وقال التّاجر: بالله من اشتراه؟ اشتراه والله أبو العبّاس، من النّخّاس (1)، ضع الطّست، وهات الإبريق، فوضعه الغلام، وأخذه التّاجر وقلّبه وأدار فيه النّظر ثمّ نقره، فقال: انظر إلى هذا الشّبه كأنّه جذوة اللهب، أو قطعة من الذّهب، شبه الشّام، وصنعة العراق، ليس من خلقان الأعلاق (2)، قد عرف دور الملوك ودارها، تأمّل حسنه وسلني متى اشتريته؟ اشتريته والله عام المجاعة، وادّخرته لهذه السّاعة، يا غلام الإبريق، فقدّمه، وأخذه التّاجر فقلّبه، ثمّ قال: وأنبوبه منه، لا يصلح هذا الإبريق إلّا لهذا الطّست، ولا يصلح هذا الطّست إلّا مع هذا الدّست، ولا يحسن هذا الدّست إلّا في هذا البيت، ولا يجمل هذا البيت إلّا مع هذا الضّيف، أرسل الماء يا غلام، فقد حان وفت الطّعام، بالله ترى هذا الماء ما أصفاه، أزرق كعين السّنّور، وصاف كقضيب البلّور، استقي من الفرات، واستعمل بعد البيات، فجاء كلسان الشّمعة، في صفاء الدّمعة، وليس الشّان في السّقّاء، الشّان في الإناء، لا يدلّك على نظافة أسبابه، أصدق من نظافة شرابه، وهذا المنديل سلني عن قصّته، فهو نسج جرجان، وعمل أرّجان، وقع إليّ فاشتريته، فاتّخذت امرأتي بعضه سراويلا، واتّخذت بعضه منديلا، دخل في سراويلها عشرون ذراعا، وانتزعت من يدها هذا القدر انتزاعا، وأسلمته إلى المطرّز حتّى صنعه كما تراه وطرّزه، ثمّ رددته من السّوق، وخزنته في الصّندوق، وأدّخرته للظّراف، من الأضياف، لم تذلّه عرب العامّة
__________
(1) النخاس: تاجر العبيد.
(2) من خلقان الأعلاق: من النفائس البالية.(1/95)
بأيديها، ولا النّساء لمآقيها (1)، فلكلّ علق يوم، ولكلّ آلة قوم، يا غلام الخوان، فقد طال الزّمان، والقصاع، فقد طال المصاع (2)، والطّعام، فقد كثر الكلام، فأتى الغلام بالخوان، وقلّبه التّاجر على المكان، ونقره بالبنان، وعجمه بالأسنان (3)، وقال: عمّر الله بغداد فما أجود متاعها، وأظرف صنّاعها، تأمّل بالله هذا الخوان، وانظر إلى عرض متنه، وخفّة وزنه، وصلابة عوده، وحسن شكله، فقلت: هذا الشّكل، فمتى الأكل؟ فقال: الآن، عجّل يا غلام الطّعام، لكنّ الخوان قوائمه منه، قال أبو الفتح الإسكندريّ: فجاشت نفسي، وقلت: قد بقي الخبز وآلاته، والخبز وصفاته، والحنطة من أين اشتريت أصلا، وكيف اكترى لها حملا، وفي أيّ رحى طحن، وإجّانة عجن (4)، وأيّ تنّور سجر (5)، وخبّاز استأجر، وبقي الحطب من أين احتطب، ومتى جلب؟ وكيف صفّف حتّى جفّف؟ وحبس، حتّى يبس، وبقي الخبّاز ووصفه، والتّلميذ ونعته، والدّقيق ومدحه، والخمير وشرحه، والملح وملاحته، وبقيت السّكرّجات من اتّخذها (6)، وكيف انتقذها؟ ومن استعملها؟ ومن عملها؟ والخلّ كيف انتقي عنبه أو اشتري رطبه؟ وكيف صهرجت معصرته (7)؟ واستخلص لبّه؟ وكيف قيّر
__________
(1) المآقي: جمع المؤق وهو مؤخر العين مما يلي الأنف، أما اللحاظ فهو مؤخر العين مما يلي الصدغ.
(2) المصاع: المجالدة.
(3) عجمه بالأسنان: اختبره بعض الأسنان.
(4) إجانة: عجانة، وعاء يعجن فيه الطحين.
(5) سجر: أوقد.
(6) السكرجات: جمع سكرّجة أي الصفحة أو الصحن.
(7) صهرجت معصرته: طليت بالصاروج.(1/96)
حبّه (1)؟ وكم يساوي دنّه؟ وبقي البقل كيف احتيل له حتّى قطف؟
وفي أيّ مبقلة رصف؟ وكيف تؤنّق حتّى نظّف؟ وبقيت المضيرة كيف اشتري لحمها؟ ووفّي شحمها؟ ونصبت قدرها، وأجّجت نارها، ودقّت أبزارها، حتّى أجيد طبخها وعقد مرقها؟ وهذا خطب يطمّ (2)، وأمر لا يتمّ، فقمت، فقال: أين تريد؟ فقلت: حاجة أقضيها، فقال: يا مولاي تريد كنيفا يزري بربيعيّ الأمير، وخريفيّ الوزير (3)، قد جحّص أعلاه وصهرج أسفله، وسطّح سقفه، وفرشت بالمرمر أرضه، يزلّ عن حائطه الدّرّ فلا يعلق، ويمشي على أرضه الذّباب فيزلق، عليه باب غيرانه (4) من خليطي ساج وعاج، مزدوجين أحسن ازدواج، يتمنّى الضّيف أن يأكل فيه، فقلت: كل أنت من هذا الجراب، لم يكن الكنيف في الحساب، وخرجت نحو الباب، وأسرعت في الذّهاب، وجعلت أعدو وهو يتبعني ويصيح: يا أبا الفتح المضيرة، وظنّ الصّبيان أنّ المضيرة لقب لي فصاحوا صياحه، فرميت أحدهم بحجر، من فرط الضّجر، فلقي رجل الحجر بعمامته، فغاص في هامته (5)، فأخذت من النّعال، بما قدم وحدث، ومن الصّفع بما طاب وخبث، وحشرت إلى الحبس، فأقمت عامين في ذلك النّحس، فنذرت أن لا آكل مضيرة ما عشت، فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم؟.
قال عيسى بن هشام: فقبلنا عذره، ونذرنا نذره، وقلنا: قديما جنت المضيرة على الأحرار، وقدّمت الأراذل على الأخيار.
__________
(1) قيّر حبه: طلي بالقار دنه (حبّه).
(2) خطب يطم: رزء يشتد.
(3) أي حمائه، يحتقر بأزائه مكان إقامة الأمير أثناء الربيع والخريف.
(4) العيران: الفواصل.
(5) غاص في هامته: دخل في رأسه، أي شجّه.(1/97)
23 - المقامة الحرزيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
لمّا بلغت بي الغربة باب الأبواب (1)، ورضيت من الغنيمة بالإياب (2)، ودونه من البحر وثّاب بغاربه (3)، ومن السّفن عسّاف براكبه (4)، استخرت الله في القفول، وقعدت من الفلك، بمثابة الهلك (5)، ولمّا ملكنا البحر وجنّ علينا اللّيل (6)، غشيتنا سحابة تمدّ
__________
(1) باب الأبواب: ثغر في بلاد الخزر كان يحيط به سور كثير الأبواب.
(2) هذا مثل يضرب فيمن يخيب رجاؤه.
(3) أي يمنعني من العودة، أمواج به هائجة (الغوارب: أعلى الموج).
(4) العساف: الشديد العسف وهو السير في غير الطريق المطلوب.
(5) أي جلست في مكان لا ينجو منه أحد.
(6) جن الليل: خيم وستر البرية.(1/98)
من الأمطار حبالا (1)، وتحدو من الغيم جبالا (2)، بريح ترسل الأمواج أزواجا، والأمطار أفواجا، وبقينا في يد الحين (3)، بين البحرين، لا نملك عدّة غير الدّعاء، ولا حيلة إلّا البكاء، ولا عصمة غير الرّجاء، وطويناها ليلة نابغيّة (4)، وأصبحنا نتباكى ونتشاكى، وفينا رجل لا يخضلّ جفنه (5)، ولا تبتلّ عينه، رخيّ الصّدر منشرحه، نشيط القلب فرحه، فعجبنا والله كلّ العجب، وقلنا له: ما الذي أمّنك من العطب؟
فقال: حرز لا يغرق صاحبه (6)، ولو شئت أن أمنح كلّا منكم حرزا لفعلت، فكلّ رغب إليه، وألحّ في المسألة عليه، فقال: لن أفعل ذلك حتّى يعطيني كلّ واحد منكم دينارا الآن، ويعدني دينارا إذا سلم.
قال عيسى بن هشام: فنقدناه (7) ما طلب، ووعدناه ما خطب (8)، وآبت يده إلى جيبه (9) فأخرج قطعة ديباج، فيها حقّة عاج (10)، قد ضمّن صدرها رقاعا، وحذف كلّ واحد منّا بواحدة منها،
__________
(1) أي غطتنا غيمة يتساقط منها الماء كالحبال.
(2) أي تسوق غيوما كالجبال.
(3) الحين: الموت.
(4) ليلة نابغية: نسبة إلى النابغة الذبياني الشاعر الجاهلي، الذي بالغ في اعتذارياته التي وجهها إلى النعمان أبي قابوس ملك الحيرة، في وصف ما يعانيه من قلق وسهاد وخوف وهم.
(5) يخضل: يبتل.
(6) الحرز: ورقة تكتب وتعلق بالعنق تقي حاملها من الشرور.
(7) نقدناه: دفعنا له نقدا أو مالا.
(8) خطب: طلب.
(9) آبت: رجعت.
(10) حقة عاج: وعاء من عظم الفيل.(1/99)
فلمّا سلمت السّفينة، وأحلّتنا المدينة، اقتضى النّاس ما وعدوه، فنقدوه، وانتهى الأمر إليّ فقال: دعوه، فقلت: لك ذلك بعد أن تعلمني سرّ حالك، قال: أنا من بلاد الإسكندريّة، فقلت: كيف نصرك الصّبر وخذلنا؟ فأنشأ يقول:
ويك لولا الصّبر ما كن ... ت ملأت الكيس تبرا
لن ينال المجد من ضا ... ق بما يغشاه صدرا (1)
ثمّ ما أعقبني السّا ... عة ما أعطيت ضرّا
بل به أشتدّ أزرا ... وبه أجبر كسرا
ولو انّي اليوم في الغر ... قى لما كلّفت عذرا (2)
__________
(1) لن يدرك المجد من لا يصبر.
(2) إن ما نلته آلاف من المال لم يورثني ضررا بل ساعدني. ولو غرقت لم أتكلف العذر.(1/100)
24 - المقامة المارستانيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
دخلت مارستان البصرة (1) ومعي أبو داود المتكلّم (2)، فنظرت إلى مجنون تأخذني عينه وتدعني (3) فقال: إن تصدق الطّير فأنتم غرباء، فقلنا: كذلك، فقال: من القوم لله أبوهم؟ فقلت: أنا عيسى ابن هشام وهذا أبو داود المتكلّم، فقال: العسكريّ؟ قلت: نعم، فقال: شاهت الوجوه وأهلها (4) إنّ الخيرة لله لا لعبده، والأمور بيد الله لا بيده (5) وأنتم يا مجوس هذه الأمّة (6) تعيشون جبرا، وتموتون
__________
(1) مارستان البصرة: مستشفى مدينة البصرة أو مصحها.
(2) المتكلم: المجادل في العقائد.
(3) أي يردد نظره فيه.
(4) شاهت الوجوه: بئست.
(5) أي لا حرية للإنسان.
(6) أي أن المعتزلة هم مجوس أمة الإسلام لقولهم بحرية الإنسان. والمجوسية(1/101)
صبرا، وتساقون إلى المقدور قهرا (1)، ولو كنتم في بيوتكم لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعكم، أفلا تنصفون، إن كان الأمر كما تصفون؟ وتقولون: خالق الظلم ظالم! أفلا تقولون: خالق الهلك هالك (2)؟ أتعلمون يقينا، أنّكم أخبث من إبليس دينا؟ قال: ربّ بما أغويتني، فأقرّ وأنكرتم وآمن وكفرتم، وتقولون: خيّر فاختار (3)، وكلّا فإنّ المختار لا يبعج بطنه، ولا يفقأ عينه، ولا يرمي من حالق ابنه، فهل الإكراه، إلّا ما تراه (4)؟ والإكراه مرّة بالمرّة ومرّة بالدّرّة.
فليخزكم، أنّ القرآن بغيضكم، وأنّ الحديث يغيظكم، إذا سمعتم:
«من يضلل الله فلا هادي له» ألحدتم وإذا سمعتم: «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها» جحدتم (5) وإذا سمعتم: «عرضت
__________
هي الديانة الزرادشتية التي انتشرت في ايران قبل مجيء الإسلام ويقولون ان الله ليس الفاعل الوحيد لما يجري في العالم. فالخير هو فعله والشر من فعل الشيطان.
(1) الدليل على أن الإنسان ليس حرا هو أنه لا يولد ولا يموت بإرادته، ولا يستطيع رد ما قدر له في حياته، وفي ذلك يرد على المعتزلة.
(2) يرد على المعتزلة الذين يقولون ان الله لا يفعل الظلم لأنه يكون ظالما إذا أقدم على ذلك، فيقول: لو كان ذلك صحيحا لوجب القول ان خالق الهلك هالك، والله هو الذي يفعل الهلك أو الموت ومع ذلك لا يوصف بأنه هالك.
(3) يقول المعتزلة ان الله خيّر الإنسان بين الخيرات والشرور فاختار الخيرات والشرور التي أقدم عليها.
(4) إن ما يحدث للإنسان من شرور كشقّ البطن وفقء العين والقاء الأبناء من ارتفاع الخ. أشياء لا يريدها الإنسان ومع ذلك تقع له. إذن هو مكره عليها وليس حرا.
(5) يرى الهمذاني أن الجبر نوعان: جبر داخلي هو غلبة الغرائز (المرة) على العقل، وجبر خارجي يكون من متسلط قوي يكره الإنسان بالعصا (الدرة) على أفعاله.(1/102)
عليّ الجنّة حتّى هممت أن أقطف ثمارها، وعرضت عليّ النّار حتّى اتّقيت حرّها بيدي» أنغضتم رؤوسكم ولويتم أعناقكم (1) وإن قيل:
«عذاب القبر» تطيّرتم (2)، وإن قيل: {«الصِّرََاطَ»} تغامزتم، وإن ذكر الميزان قلتم: من الفرغ كفّتاه (3)، وإن ذكر الكتاب قلتم: من القدّ دفّتاه (4)، يا أعداء الكتاب والحديث، بماذا تطّيّرون؟ أبالله وآياته ورسوله تستهزئون؟ إنّما مرقت مارقة فكانوا خبث الحديث، ثمّ مرقتم منها فأنتم خبث الخبيث (5)، يا مخانيث الخوارج، ترون رأيهم إلّا القتال (6)! وأنت يا ابن هشام تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض؟
سمعت أنّك افترشت منهم شيطانة (7)! ألم ينهك الله عزّ وجلّ أن تتّخذ منهم بطانة؟ ويلك هلا تخيّرت لنطفتك، ونظرت لعقبك (8)؟ ثمّ قال:
اللهمّ أبدلني بهؤلاء خيرا منهم، وأشهدني ملائكتك (9).
__________
(1) انغضتم رؤوسكم: هززتم رؤوسكم تعجبا.
(2) تطيرتم: تشاءمتم.
(3) من الفرغ كفتاه، الفرغ: الفراغ. أي أن كفتي الميزان فارغتان لا تصلحان لوزن الأعمال. هكذا تقول المعتزلة.
(4) القد: الجلد، يعني قولهم أن القرآن حادث وليس قديما، كالجلد.
(5) يهاجم هنا الخوارج بعد هجومه على المعتزلة. وقد نعت الخوارج بالمارقة طبقا للحديث الشريف «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية».
ويمرقون من الدين أي يخرجون منه. وهم خبث الإسلام كما أن الصدأ خبث الحديد.
(6) أي أن المعتزلة يرون رأي الخوارج في علي ومعاوية عدا وجوب مقاتلتهما.
فالخوارج يقولون بوجوب مقاتلة علي ومعاوية لأنهما فسقا. أما المعتزلة فيتوقفون ويرون أن أحدهما قد فسق ولكن لا يجب قتاله.
(7) افترشت منهم شيطانة: أي تزوجت منهم امرأة.
(8) أي اخترت امرأة صالحة تلد لك أولادا.
(9) أشهدني ملائكتك: أمتني لألقى الملائكة بدل هؤلاء الناس الضالين.(1/103)
قال عيسى بن هشام: فبقيت وبقي أبو داود لا نحير جوابا (1)، ورجعنا عنه بشرّ وإنّي لأعرف في أبي داود انكسارا، حتّى إذا أردنا الافتراق قال: يا عيسى هذا وأبيك الحديث، فما الّذي أراد بالشّيطانة؟
قلت: لا والله ما أدرى، غير أنّي هممت أن أخطب إلى أحدهم ولم أحدّث بما هممت به أحدا، والله لا أفعل ذلك أبدا، فقال: ما هذا والله إلّا شيطان في أشطان (2)، فرجعنا إليه، ووقفنا عليه، فابتدر بالمقال، وبدأنا بالسّؤال، فقال لعلّكما آثرتما، أن تعرفا من أمري ما أنكرتما، فقلنا: كنت من قبل مطّلعا على أمورنا، ولم تعد الآن ما في صدورنا، ففسّر لنا أمرك، واكشف لنا سرّك، فقال:
أنا ينبوع العجائب ... في احتيالي ذو مراتب
أنا في الحقّ سنام ... أنا في الباطل غارب (3)
أنا إسكندر داري ... في بلاد الله سارب
أغتدي في الدّير قسي ... سا وفي المسجد راهب (4)
__________
(1) لا نحير جوابا: لا نقول جوابا.
(2) الاشطان: الحبال.
(3) الغارب: الكاهل، أعلى الشيء. المعنى أنه في الحق والباطل متفوق وبارع.
(4) السارب: الذاهب في الأرض. المعنى أنه متقلب متجول لا يبقى على حال.(1/104)
25 - المقامة المجاعيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
كنت ببغداد عام مجاعة، فملت إلى جماعة، قد ضمّهم سمط الثّريّا (1)، أطلب منهم شيّا، وفيهم فتى ذو لثغة بلسانه، وفلج بأسنانه (2)، فقال: ما خطبك، قلت: حالان لا يفلح صاحبهما: فقير كدّه الجوع (3)، وغريب لا يمكنه الرّجوع، فقال الغلام: أيّ الثّلمتين نقدّم سدّها (4)؟ قلت: الجوع فقد بلغ منّي مبلغا! قال: فما تقول في رغيف، على خوان نظيف، وبقل قطيف إلى خلّ ثقيف (5)، ولون
__________
(1) ضمهم سمط الثريا: أي جمعهم وألف بينهم. فالسمط هو السلك أو الخيط، والثريا مجموعة نجوم لا تنفك عن بعضها كأنها جمعها سلك.
(2) الفلج: التباعد بين الأسنان.
(3) كده الجوع: أتعبه.
(4) الثلمتان: مثنى ثلمة وهي الشق، ويقصد بهما هنا جوعه وغربته.
(5) ثقيف: شديد الحموضة.(1/105)
لطيف، إلى خردل حرّيف (1)، وشواء صفيف، إلى ملح خفيف، يقدّمه إليك الآن من لا يمطلك بوعد ولا يعذّبك بصبر، ثمّ يعلك بعد ذلك (2) بأقداح ذهبيّة، من راح عنبيّة (3)؟ أذاك أحبّ إليك أم أوساط محشوّة (4)، وأكواب مملوّة، وأنقال معدّدة، وفرش منضّدة (5)، وأنوار مجوّدة (6)، ومطرب مجيد، له من الغزال عين وجيد (7)؟ فإن لم ترد هذا ولا ذاك، فما قولك في لحم طريّ، وسمك نهريّ، وباذنجان مقليّ، وراح قطربّليّ (8)، وتفّاح جنيّ (9)، ومضجع وطيّ (10)، على مكان عليّ، حذاء نهر جرّار، وحوض ثرثار (11)، وجنّة ذات أنهار؟
قال عيسى بن هشام: فقلت: أنا عبد الثّلاثة، فقال الغلام:
وأنا خادمها لو كانت (12)، فقلت: لا حيّاك الله، أحييت شهوات قد كان
__________
(1) حريف: له لذعة في اللسان.
(2) يعلك: يسقيك مرة بعد مرة.
(3) راح عنبية: خمر مصنوعة من العنب.
(4) وساط محشوة: أماكن مكتظة بالحضور.
(5) فرش منضدة: مرصوفة ومرتبة.
(6) أنوار مجودة: أي أنوار أجيد سراجها.
(7) الجيد: العنق.
(8) راح قطربلي: خمر من قطربل وهي قرية في العراق.
(9) جني: قريب القطف.
(10) مضجع وطي: لين.
(11) ثرثار: له خرير دائم.
(12) أي لو اتيحت لنا هذه الوليمة لكنت متشوقا إليها مثلك.(1/106)
اليأس أماتها (1)، ثمّ قبضت لهاتها، فمن أيّ الخرابات أنت (2)؟ فقال:
أنا من ذوي الإسكندريّه ... من نبعة فيهم زكيّه
سخف الزّمان وأهله ... فركبت من سخفي مطيّه (3)
__________
(1) المعنى أنه أثار شهوته ثم لم يشبعها أو يلبها.
(2) الخرابات: الأمكنة المتخربة حيث تسكن الشياطين.
(3) المعنى أنه من الإسكندرية، من أصل زكي ولكن سخف الزمان وأهله اضطرني إلا أن أتساخف مثلهم أو أكون مثلهم ضعيف العقل.(1/107)
26 - المقامة الوعظيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
بينا أنا بالبصرة أميس (1)، حتّى أدّاني السّير إلى فرضة قد (2) كثر فيها قوم على قائم يعظهم وهو يقول: أيّها النّاس إنّكم لم تتركوا سدى (3)، وإنّ مع اليوم غدا، وإنّكم واردو هوّة (4)، فأعدّوا لها ما استطعتم من قوّة، وإنّ بعد المعاش معادا (5)، فأعدّوا له زادا، ألا لا عذر فقد بيّنت لكم المحجّة، وأخذت عليكم الحجّة (6)، من السّماء
__________
(1) أميس: اختال في مشيتي.
(2) فرضة: فرجة أو ثلمة.
(3) سدى: هملا.
(4) الهوة: الحفرة العميقة ويعني بها هنا القبر.
(5) المعاد: الآخرة.
(6) المحجة: المحجة الطريقة الواضحة. والحجة: الدليل.(1/108)
بالخبر، ومن الأرض بالعبر، ألا وإنّ الّذي بدأ الخلق عليما، يحيي العظام رميما (1)، ألا وإنّ الدّنيا دار جهاز، وقنطرة جواز، من عبرها سلم، ومن عمرها ندم، ألا وقد نصبت لكم الفخّ ونثرت لكم الحبّ فمن يرتع، يقع، ومن يلقط، يسقط، ألا وإنّ الفقر حلية نبيّكم فاكتسوها، والغنى حلّة الطّغيان فلا تلبسوها، كذبت ظنون الملحدين الّذين جحدوا الدّين، وجعلوا القرآن عضين (2)، إنّ بعد الحدث جدثا، وإنّكم لم تخلقوا عبثا، فحذار حرّ النّار، وبدار عقبى الدّار (3)، ألا وإنّ العلم أحسن على علّاته، والجهل أقبح على حالاته، وإنّكم أشقى من أظلّته السّماء، إن شقي بكم العلماء، النّاس بأئمّتهم، فإن انقادوا بأزمّتهم، نجوا بذمّتهم، والنّاس رجلان: عالم يرعى، ومتعلّم يسعى، والباقون هامل نعام، وراتع أنعام، ويل عال أمر من سافله، وعالم شيء من جاهله، وقد سمعت أنّ عليّ بن الحسين كان قائما يعظ النّاس ويقول: يا نفس حتّام إلى الحياة ركونك، وإلى الدّنيا وعمارتها سكونك؟ أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك، وبمن وارته الأرض من ألّافك (4)، ومن فجعت به من إخوانك، ونقل إلى دار البلى من أقرانك؟؟
فهم في بطون الأرض بعد ظهورها محاسنهم فيها بوال دواثر (5)
__________
(1) الرميم: البالي.
(2) عضين: جمع عضة وهي الفرفة.
(3) حذار وبدار: اسما فعل أمر بمعنى حاذر وبادر إلى الفعل.
(4) وارته: غيبته. ألّافك: أحبائك.
(5) بوال دواثر: رثة وهالكة.(1/109)
خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم ... وساقتهم نحو المنايا المقادر (1)
وخلّوا عن الدّنيا وما جمعوا لها ... وضمّتهم تحت التّراب الحفائر (2)
كم اختلست أيدي المنون، من قرون بعد قرون؟ وكم غيّرت ببلاها، وغيّبت أكثر الرّجال في ثراها؟؟؟
وأنت على الدّنيا مكبّ منافس ... لخطّابها فيها حريص مكاثر (3)
على خطر تمشي وتصبح لاهيا ... أتدري بماذا لو عقلت تخاطر؟
وإنّ امرأ يسعى لدنياه جاهدا ... ويذهل عن أخراه لا شكّ خاسر
انظر إلى الأمم الخالية، والملوك الفانية، كيف انتسفتهم الأيام، وأفناهم الحمام (4)؟ فانمحت آثارهم، وبقيت أخبارهم.
فاضحوا رميما في التّراب وأقفرت ... مجالس منهم عطّلت ومقاصر
وخلّوا عن الدّنيا وما جمعوا بها ... وما فاز منهم غير من هو صابر
وحلوا بدار لا تزاور بينهم ... وأنّى لسكّان القبور التّزاور
فما إن ترى إلّا رموسا ثووا بها ... مسطّحة تسفي عليها الأعاصر (5)
كم عاينت من ذي عزّة وسلطان، وجنود وأعوان، قد تمكّن من
__________
(1) أقوت: خلت. عراص: جمع عرصة وهي باحة الدار.
(2) الحفائر: جمع حفرة ويعني بها القبر.
(3) المعنى: أنك مقبل على الدنيا تنافس أو تباري الآخرين في الأعمال والمال.
(4) انتسفتهم: أهلكتهم. وأفناهم الحمام: أفناهم الموت وأبادهم.
(5) الرموس: جمع رمس أي القبر. ثووا بها: رقدوا وأقاموا. الأعاصير: الرياح الشديدة.(1/110)
دنياه، ونال منها مناه، فبنى الحصون والدّساكر، وجمع الأعلاق (1)
والعساكر؟.
فما صرفت كفّ المنيّة إذ أتت ... مبادرة تهوي إليه الذّخائر
ولا دفعت عنه الحصون الّتي بنى ... وحفّت بها أنهارها والدّساكر (2)
ولا قارعت عنه المنيّة حيلة ... ولا طمعت في الذّبّ عنه العساكر
يا قوم الحذر الحذر، والبدار البدار، من الدّنيا ومكايدها، وما نصبت لكم من مصايدها، وتجلّت لكم من زينتها، واستشرفت لكم من بهجتها.
وفي دون ما عاينت من فجعاتها ... إلى رفضها داع وبالزّهد آمر
فجدّ ولا تغفل فعيشك بائد ... وأنت إلى دار المنيّة صائر
ولا تطلب الدّنيا فإنّ طلابها ... وإن نلت منها رغبة لك ضائر
وكيف يحرص عليها لبيب، أو يسرّ بها أريب، وهو على ثقة من فنائها؟ ألا تعجبون ممّن ينام وهو يخشى الموت، ولا يرجو الفوت؟
ألا، لا، ولكنّا نغرّ نفوسنا ... وتشغلها اللّذّات عمّا نحاذر
وكيف يلذّ العيش من هو موقن ... بموقف عدل حيث تبلى السرائر؟
كأنّا نرى أن لا نشور، وأننا ... سدى، مالنا بعد الفناء مصائر! (3)
__________
(1) الأعلاق: النفائس.
(2) الدساكر: جمع دسكرة وهي البناء الفخم.
(3) المعنى: اننا نتصرف في هذه الدنيا كأننا لا نؤمن بالبعث أو نعتقد اننا خلقنا سدى وليس بعد الموت حياة أخرى.(1/111)
كم غرّت الدّنيا من مخلد إليها (1) وصرعت من مكبّ عليها فلم تنعشه من عثرته؟ ولم تقله من صرعته، ولم تداوه من سقمه، ولم تشفه من ألمه.
بلى أوردته بعد عزّ ورفعة ... موارد سوء ما لهنّ مصادر
فلمّا رأى أن لا نجاة وأنّه ... هو الموت لا ينجيه منه المؤازر
تندّم لو أغناه طول ندامة ... عليه وأبكته الذّنوب الكبائر
بكى على ما سلف من خطاياه، وتحسّر على ما خلّف من دنياه، حيث لم ينفعه الاستعبار، ولم ينجه الاعتذار.
أحاطت به أحزانه وهمومه ... وأبلس لما أعجزته المعاذر (2)
فليس له من كربة الموت فارج ... وليس له ممّا يحاذر ناصر
وقد خسئت فوق المنيّة نفسه ... تردّدها منه اللهى والحناجر
فإلى متى ترقّع بآخرتك دنياك، وتركب في ذاك هواك؟ إنّي أراك ضعيف اليقين، يا راقع الدّنيا بالدّين، أبهذا أمرك الرّحمن، أم على هذا دلّك القرآن؟.
تخرّب ما يبقى، وتعمر فانيا ... فلا ذاك موفور، ولا ذاك عامر
فهل لك إن وافاك حتفك بغتة ... ولم تكتسب خيرا لدى الله عاذر؟؟
أترضى بأن تقضى الحياة وتنقضي ... ودينك منقوص ومالك وافر؟؟
قال عيسى بن هشام: فقلت لبعض الحاضرين: من هذا؟
__________
(1) أخلد إلى الشيء: سكن إليه واطمأن.
(2) أبلس: حزن.(1/112)
قال: غريب قد طرأ لا أعرف شخصه، فاصبر عليه إلى آخر مقامته، لعلّه ينبىء بعلامته، فصبرت، فقال: زيّنوا العلم بالعمل، واشكروا القدرة بالعفو، وخذوا الصّفو ودعوا الكدر، يغفر الله لي ولكم، ثمّ أراد الذّهاب، فمضيت على أثره، فقلت: من أنت يا شيخ؟ فقال:
سبحان الله! لم ترض بالحلية غيّرتها، حتّى عمدت إلى المعرفة فأنكرتها! أنا أبو الفتح الإسكندريّ، فقلت: حفظك الله، فما هذا الشّيب؟ فقال:
نذير، ولكنّه ساكت ... وضيف، ولكنّه شامت
وإشخاص موت، ولكنّه ... إلى أن أشيّعه ثابت (1)
__________
(1) إشخاص موت: رسول الموت. وهو يبقى على غير عادة الرسل حتى أودعه بالموت.(1/113)
27 - المقامة الأسوديّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
كنت أتّهم بمال أصبته، فهمت على وجهي هاربا حتّى أتيت البادية فأدّتني الهيمة (1)، إلى ظلّ خيمة، فصادفت عند أطنابها فتى، يلعب بالتّراب، مع الاتراب، وينشد شعرا يقتضيه حاله، ولا يقتضيه ارتجاله، وأبعدت أن يلحم نسيجه، فقلت: يا فتى العرب أتروي هذا الشّعر أم تعزمه (2)؟ فقال: بل أعزمه، وأنشد يقول:
إنّي وإن كنت صغير السّنّ ... وكان في العين نبو عنّي
فإنّ شيطاني أمير الجنّ ... يذهب بي في الشّعر كلّ فنّ
حتّى يردّ عارض التّظنّي ... فامض على رسلك واغرب عنّي (3)
__________
(1) الهيمة: من هام على وجهه، أي سار على غير قصد.
(2) تعزم الشعر: تنظمه وتصوغه.
(3) المعنى: إذا كنت صغير السن تحتقرني الأعين وتستهين بي إلا أن شيطان شعري يلقنني الشعر المتنوع.(1/114)
فقلت: يا فتى العرب أدّتني إليك خيفة، فهل عندك أمن أو قرى؟ قال: بيت الأمن نزلت، وأرض القرى حللت، وقام فعلق بكمّي، فمشيت معه إلى خيمة قد أسبل سترها، ثمّ نادى: يا فتاة الحيّ، هذا جار نبتّ به أوطانه، وظلمه سلطانه، وحداه إلينا صيت سمعه، أو ذكر بلغه، فأجيريه، فقالت الفتاة: اسكن يا حضري.
أيا حضريّ اسكن ولا تخش خيفة ... فأنت ببيت الأسود بن قنان
أعزّ ابن أنثى من معدّ ويعرب ... وأوفاهم عهدا بكلّ مكان
وأضربهم بالسّيف من دون جاره ... وأطعنهم من دونه بسنان
كأنّ المنايا والعطايا بكفّه ... سحابان مقرونان مؤتلفان (1)
وأبيض وضّاح الجبين إذا انتمى ... تلاقى إلى عيص أغرّ يماني (2)
فدونكه بيت الجوار وسبعة ... يحلّونه شفّعتهم بثمان (3)
فأخذ الفتى بيدي إلى البيت الّذي أومأت إليه، فنظرت فإذا سبعة نفر فيه، فما أخذت عيني إلا أبا الفتح الإسكندريّ في جملتهم فقلت له: ويحك بأيّ أرض أنت؟ فقال:
نزلت (4) بالأسود في داره ... أختار من طيّب أثمارها
فقلت: إنّي رجل خائف ... هامت بي الخيفة من ثارها (5)
__________
(1) القرى: الضيافة.
(2) المعنى: كفه تعطي وتقتل وكأنه اجتمعت له سحابتان إحداهما تحيي وتغيث والأخرى تجرف وتدمر لشدة سيلها.
(3) المعنى أنه ينتسب إلى أصل طيب من اليمن. والعيص شجر ينبت بعضه على أصل بعض.
(4) المعنى: أنه نزل بيتا في سبعة ضيوف وهو ثامنهم.
(5) المعنى: قلت لصاحب الدار الأسود بن قنان اني خائف لأن لي أعداء يريدون أن يثأروا مني.(1/115)
حيلة أمثالي على مثله ... في هذه الحال وأطوارها
حتّى كساني جابرا خلّتي ... وماحيا بيّن آثارها (1)
فخذ من الدّهر ونل ما صفا ... من قبل أن تنقل عن دارها
إيّاك أن تبقي أمنيّة ... أو تكسع الشّول بأغبارها (2)
قال عيسى بن هشام: فقلت يا سبحان الله! أيّ طريق الكدية لم تسلكها؟ ثمّ عشنا زمانا في ذلك الجناب حتّى أمنّا، فراح مشرّقا ورحت مغرّبا.
__________
(1) جابرا: مصلحا، من جبر الكسر: أصلحه وعالجه. الحلة: الفقر والحاجة.
محا: أزال. آثارها: ظواهرها الباقية. والمعنى: ظل يحتال على الأسود حتى أعطاه ما أزال فقره وسد خلته.
(2) كسع الناقة: ضرب أخفافها ليرجع اللبن إلى أثدائها. والشول: الناقة التي مضى على ولادتها سبعة أشهر وقل لبنها. والمعنى لا تدخر شيئا للمستقبل.(1/116)
28 - المقامة العراقيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
طفت الآفاق، حتّى بلغت العراق، وتصفّحت دواوين الشّعراء، حتّى ظننتني لم أبق في القوس منزع ظفر (1)، وأحلّتني بغداد فبينما أنا على الشّطّ إذ عنّ لي فتى في أطمار، يسأل النّاس ويحرمونه، فأعجبتني فصاحته، فقمت إليه أسأله عن أصله وداره، فقال: أنا عبسيّ الأصل، إسكندريّ الدّار (2)، فقلت: ما هذا اللّسان؟ ومن أين هذا البيان؟ فقال: من العلم، رضت صعابه (3)، وخضت بحاره، فقلت: بأي العلوم تتحلى؟ فقال: لي في كلّ كنانة سهم فأيّها
__________
(1) منزع: سهم.
(2) عبسي: نسبة إلى قبيلة عبس التي كانت تضرب في الجاهلية في نجد، وكان لها مع قبيلة ذبيان حروب طويلة. ومنها خرج الشاعر والفارس عنترة.
(3) رضت صعابه: ذللت جموحه.(1/117)
تحسن؟ فقلت: الشّعر، فقال: هل قالت العرب بيتا لا يمكن حله (1)؟
وهل نظمت مدحا لم يعرف أهله؟ وهل لها بيت سمج وضعه، وحسن قطعه (2)؟ وأيّ بيت لا يرقأ دمعه (3)؟ وأيّ بيت يثقل وقعه؟ وأيّ بيت يشجّ عروضه ويأسو ضربه (4)؟ وأيّ بيت يعظم وعيده ويصغر خطبه (5)؟
وأيّ بيت هو أكثر رملا من يبرين (6)؟ وأيّ بيت هو كأسنان المظلوم، والمنشار المثلوم (7)؟ وأيّ بيت يسرّك أوّله ويسوءك آخره؟ وأيّ بيت يصفعك باطنه، ويخدعك ظاهره (8)؟ وأيّ بيت لا يخلق سامعه، حتّى تذكر جوامعه (9)؟ وأيّ بيت لا يمكن لمسه (10)؟ وأيّ بيت يسهل عكسه (11)؟ وأيّ بيت هو أطول من مثله، وكأنّه ليس من أهله (12)؟
وأيّ بيت هو مهين بحرف، ورهين بحذف (13)؟؟؟.
__________
(1) حله: أي نثره.
(2) أي ساء معناه، وحسن قطعه عما قبله.
(3) لا يرقأ دمعه: لا يسكن أو ينقطع. والمعنى أنه يثير البكاء.
(4) يشج عروضه: يكسر الكلمة الأخيرة من مصراعه الأول. يأسو ضربه: يداوي الكلمة الأخيرة من مصراعه الثاني.
(5) أي يعظم ما فيه من تهديد ولكن شأنه صغير.
(6) يبرين أو أبرين: موضع قرب الاحساء كثير الرمال.
(7) أي يشبه في زحافاته وتكسره أسنان المظلوم المكسرة من كثرة الضرب عليها، كما يشبه منشار النجار المتكسر.
(8) أي مبناه حسن خادع ومعناه ليس جليلا.
(9) أي لا يفهم السامع معناه حتى تأتي على آخره.
(10) أي لا يمكن فهم معناه.
(11) عكس البيت هو جعل صدره عجزا وعجزه صدرا.
(12) أي يحتوي على كلمات أكثر من سائر الأبيات التي على الوزن نفسه.
(13) أي ينقلب معناه إذا حذف منه حرف.(1/118)
قال عيسى بن هشام: فو الله ما أجلت قدحا في جوابه (1)، ولا اهتديت لوجه صوابه، إلّا «لا أعلم». فقال: وما لا تعلم أكثر، فقلت: ومالك مع هذا الفضل، ترضى بهذا العيش الرّذل؟ فأنشأ يقول:
بؤسا لهذا الزّمان من زمن ... كلّ تصاريف أمره عجب
أصبح حربا لكلّ ذي أدب ... كأنّما ساء أمّه الأدب
فأجلت فيه بصري، وكرّرت في وجهه نظري، فإذا هو أبو الفتح الإسكندريّ، فقلت: حيّاك الله وأنعش صرعك (2)، إن رأيت أن تمنّ عليّ بتفسير ما أنزلت، وتفصيل ما أجملت، فعلت، فقال:
تفسيره: أمّا البيت الّذي لا يمكن حلّه فكثير، ومثاله قول الأعشى (3).
دراهمنا كلّها جيّد ... فلا تحبسنّا بتنقادها
وأما المدح الّذي لم يعرف أهله فكثير، ومثاله قول الهذليّ (4):
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... على أنّه قد سلّ عن ماجد محض
__________
(1) أي ما استطعت أن أضرب سهما في فهمه.
(2) انعش صرعك: أقالك من سقطتك.
(3) الأعشى: هو ميمون بن قيس بن جندل، شاعر جاهلي فحل اشتهر بمدائحه التكسبية وخمرياته الجميلة. أدرك الاسلام وسار إلى النبي ليمدحه فثناه الكفار ومات في الطريق. والبيت لا يحل لأنه جاء كالنثر ليس فيه تقديم وتأخير.
(4) الهذلي: هو أبو خراش من بني هذيل. وهو من أبيات قالها عندما ألقى رجل رداءه على أخيه ليحميه من أعدائه.(1/119)
وأمّا البيت الّذي سمج وضعه، وحسن قطعه، فقول أبي نواس (1):
فبتنا يرانا الله شرّ عصابة ... تجرّر أذيال الفسوق، ولا فخر
وأمّا البيت الّذي لا يرقأ دمعه فقول ذي الرّمّة (2):
ما بال عينك منها الماء ينسكب
كأنّه من كلى مفريّة سرب
فإنّ جوامعه: إمّا ماء، أو عين، أو انسكاب، أو بول، أو نشيئة (3)، أو أسفل مزادة، أو شقّ، أو سيلان.
وأمّا البيت الّذي يثقل وقعه فمثل قول ابن الرّوميّ (4):
إذا منّ لم يمنن بمّنّ يمنّه ... وقال لنفسي: أيّها النّفس أمهلي
__________
(1) أبو نواس: هو الحسن بن هاني (191146هـ) ولد في الأهواز ونشأ في البصرة وأمضى سائر حياته في بغداد يمدح الخلفاء والأمراء منصرفا إلى اللهو والمجون وشرب الخمر. والبيت مقطوع عما قبله لأنه ذكر قبله أنواع الملذات التي أصابوها في ليلتهم.
(2) ذو الرمة: هو غيلان بن عقبة، نسب إليه الهمذاني المقامة السابقة. والبيت الذي استشهد به يصف دمعا ينسكب بغزارة من عين الممدوح كالبول الذي يسيل بلا انقاع من كلية مجروحة.
(3) النشيئة: الحوض.
(4) ابن الرومي: هو علي بن العباس بن جريج الرومي، شاعر عباسي، له ديوان شعر ضخم أحسنه في الوصف والرثاء والهجاء. ولد ونشأ وعاش ومات في بغداد لم يبرحها بسبب خوفه وتطيره. عاش بين سنتي 283221هـ.
والبيت المستشهد به ثقيل الوقع لتكرار المن أربع مرات فيه.(1/120)
وأمّا البيت الذّي تشجّ عروضه ويأسو ضربه فمثل قول الشّاعر:
دلفت له بأبيض مشرفيّ ... كما يدنو المصافح للسّلام (1)
وأمّا البيت الذي يعظم وعيده ويصغر خطبه فمثاله قول عمرو ابن كلثوم (2).
كأنّ سيوفنا منّا ومنهم ... مخاريق بأيدي لا عبينا
وأمّا البيت الذي هو أكثر رملا من يبرين فمثل قول ذي الرّمّة (3).
معروريا رمض الرّضراض يركضه ... والشمس حيرى لها في الجوّ تدويم
وأمّا البيت الّذي هو كأسنان المظلوم، والمنشار المثلوم فكقول الأعشى:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشلّ شلول شلشل شول (4)
__________
(1) هذا البيت عروضه كلمة مشرفي أي السيف الذي يكسر الأعناق. وضربه كلمة السلام التي تعني الأمن، ومن ميزاته أنه يشفي من الآلام.
(2) عمرو بن كلثوم: شاعر جاهلي فحل من أصحاب المعلقات العشر، تغلبي النسب، وفارس قبيلته الشهير وسيدها. قتل عمرو بن هند ملك الحيرة لأنه مال إلى بني بكر خصوم قبيلته في حرب البسوس. وأشار إلى ذلك في معلقته الطافحة بالفخر والتهديد والوعيد. والبيت المستشهد به يعظم وعيده ولكن يصغر خطبه لأنه يشبّه السيوف المخيفة بالمخاريف أو خرق الأولاد المفتولة للعب.
(3) ليس في البيت الذي استشهد به وصفا لكثرة الرمال.
(4) معنى البيت أنه دخل صباحا حانوتا يتبعه شاو للحم سريع الحركة (مشل)، خفيف اليد (شلشل) حامل له (شول). والبيت المستشهد به تشبه شيناته أسنان المنشار.(1/121)
وأمّا البيت الّذي يسرّك أوّله ويسوؤك آخره فكقول امرىء القيس:
مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطّه السّيل من عل (1)
وأمّا البيت الّذي يصفعك باطنه ويخدعك ظاهره فكقول القائل:
عاتبتها فبكت، وقالت: يا فتى ... نجّاك ربّ العرش من عتبي
وأمّا البيت الّذي لا يخلق سامعه، حتّى تذكر جوامعه، فكقول طرفة:
وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم ... يقولون: لا تهلك أسى وتجلّد (2)
فإنّ السّامع يظنّ أنّك تنشد قول امرىء القيس.
وأمّا البيت الّذي لا يمكن لمسه فكقول الخبزرزّيّ (3):
تقشّع غيم الهجر عن قمر الحبّ
وأشرق نور الصّلح من ظلمة العتب
وكقول أبي نواس:
نسيم عبير في غلالة ماء ... وتمثال نور في أديم هواء
وأمّا البيت الذي يسهل عكسه فكقول حسّان (4):
__________
(1) يصف الشاعر حركة حصانه الذي يكر ويفر ويقبل ويدبر، ويشبه في ذلك الصخر الذي يتدحرج من المرتفع.
(2) هذا البيت ورد أيضا في معلقة امرىء القيس مع إبدال «تجلّد» ب «تجمّل».
(3) الخبزرزي: شويعر عراقي عباسي عاش في البصرة، كان أميا يخبز الأرز في دكانه ويبيعه، وينشد أشعاره المقصورة على الغزل ويقصده الناس ليشتروا منه ويسمعوا شعره، ذكره الثعالبي في اليتيمة. والبيت المستشهد به يتضمن معاني متجردة لا يقابلها أجسام يمكن لمسها كالنور والظلمة والقيم الخ.
(4) حسان: هو حسان بن ثابت الأنصاري، شاعر النبي المخضرم. كان في(1/122)
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل
وأمّا البيت الّذي هو أطول من مثله فكحماقة المتنبيّ (1):
عش ابق اسم سد جد قد مر انه اسرفه تسل
غظ ارم صب حم اغز اسب رع زع دل ابن نل
وأمّا البيت الّذي هو مهين بحرف، ورهين، بحذف، فكقول أبي نواس:
لقد ضاع شعري على بابكم ... كما ضاع درّ على خالصه
وكقول الآخر:
إنّ كلاما تراه مدحا ... كان كلاما عليه ضاء
يعني أنّه إذا أنشد «ضاعا» كان هجاء، وإذا أنشد «ضاء» كان مدحا.
قال عيسى بن هشام: فتعجّبت والله من مقاله، وأعطيته ما يستعين به على تغيير حاله، وافترقنا.
__________
الجاهلية يمدح ملوك الغساسنة والمناذرة فلما جاء الإسلام اسلم واقتصر على مدح الرسول. والبيت المستشهد به يمكن تقديم عجزه على صدره دون اختلال المعنى.
(1) المتنبي: هو أحمد بن الحسين الجعفي (354303هـ) ولد في الكوفة واشترك في ثورات ضد حكام عصره في شبابه، فحبسه أمير حمص ثم خلى سبيله، فراح يتنقل بين طبرية وطرابلس وحلب ومصر وفارس وقتل وهو عائد إلى مسقط رأسه الكوفة. معظم شعره في مديح سيف الدولة الحمداني أمير حلب. ولكنه مدح ثم هجا كافورا الأخشيدي صاحب مصر. يمتاز شعره بجزالته وعمق معانيه ومتانة سبكه. والبيت المستشهد به نظمه على الأرجح لإظهار مقدرته اللغوية وهو ظاهر التصنع والسماجة.(1/123)
29 - المقامة الحمدانيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
حضرنا مجلس سيف الدّولة بن حمدان يوما (1)، وقد عرض عليه فرس متى ما ترقّ العين فيه تسهّل (2)، فلحظته الجماعة، وقال سيف الدّولة: أيّكم أحسن صفته، جعلته صلته (3)، فكلّ جهد جهده، وبذل
__________
(1) هو سيف الدولة الحمداني التغلبي أمير حلب ودمشق في القرن العاشر الميلادي. وطد الأمن داخل بلاده وحارب الروم وكانت له وقائع ضدهم على التخوم الشمالية، وجعل قصره في حلب منتدى للأدباء والشعراء والعلماء والفلاسفة واللغويين. وكان شاعرا نقادة محبا للعلم.
(2) أي تنظره العين من أعلى ثم تنتقل إلى أسفله لأنه حسن المنظر من أعلاه إلى أسفله. وهو كما مر معنا عجز بيت لامرىء القيس صدره: ورحنا وراح الطرف ينفض رأسه. ومعنى الطرف هنا الفرس.
(3) الصلة: العطية والجائزة.(1/124)
ما عنده، فقال أحد خدمه: أصلح الله الأمير! رأيت بالأمس رجلا يطأ الفصاحة بنعليه (1)، وتقف الأبصار عليه، يسأل النّاس، ويسقي الياس، ولو أمر الأمير بإحضاره، لفضلهم بحضاره (2)، فقال سيف الدّولة: عليّ به في هيئته، فطار الخدم في طلبه، ثمّ جاؤوا للوقت به، ولم يعلموه لأيّة حال دعي، ثمّ قرّب واستدني، وهو في طمرين قد أكل الدّهر عليهما وشرب (3)، وحين حضر السّماط (4)، لثم البساط، ووقف، فقال سيف الدّولة: بلغتنا عنك عارضة فاعرضها في هذا الفرس ووصفه، فقال: أصلح الله الأمير كيف به قبل ركوبه ووثوبه، وكشف عيوبه وغيوبه؟ فقال: اركبه، فركبه وأجراه، ثمّ قال:
أصلح الله الأمير هو طويل الأذنين، قليل الاثنين، واسع المراث (5)، ليّن الثّلاث، غليظ الأكرع، غامض الأربع، شديد النّفس، لطيف الخمس، ضيّق القلت (6)، رقيق السّتّ، حديد السّمع، غليظ السّبع، دقيق اللّسان، عريض الثّمان، مديد الضّلع، قصير التّسع، واسع الشّجر (7)، بعيد العشر، يأخذ بالسّابح (8)، ويطلق بالرّامح، يطلع
__________
(1) يطأ الفصاحة بنعليه: أي يسيطر عليها.
(2) الحضار: جودة القريحة وقوة البيان.
(3) طمرين: ثوبين. أكل الدهر عليهما وشرب: من قول الشاعر:
سألتني عن أناس هلكوا ... شرب الدهر عليهم وأكل
أي بلوا وماتوا منذ أمد طويل.
(4) السماط: جماعة الحاضرين، المجلس.
(5) المراث: مبعر الفرس.
(6) القلت: النقرة في ورك الفرس.
(7) الشجر: مخرج الفم.
(8) يأخذ بالسابح: يبدأ عدوه بقائمتيه الأماميتين اللتين تشبهان يدي السابح.(1/125)
بلائح، ويضحك عن قارح (1)، يخدّ وجه الجديد، بمداقّ الحديد، يحضر (2) كالبحر إذا ماج، والسّيل إذا هاج، فقال سيف الدّولة: لك الفرس مباركا فيه، فقال: لا زلت تأخذ الأنفاس، وتمنح الافراس، ثم انصرف وتبعته وقلت: لك عليّ ما يليق بهذا الفرس من خلعة إن فسّرت ما وصفت، فقال: سل عمّا أحببت. فقلت: ما معنى قولك:
بعيد العشر؟ فقال: بعيد النّظر، والخطو، وأعالي اللّحيين، وما بين الوقبين (3)، والجاعرتين (4)، وما بين الغرابين (5)، والمنخرين، وما بين الرّجلين، وما بين المنقب والصّفاق (6)، بعيد الغاية في السّباق.
فقلت: لا فضّ فوك، فما معنى قولك: قصير التّسع؟ قال: قصير الشّعرة، قصير الأطرة (7)، قصير العسيب (8)، قصير القضيب (9)، قصير العضدين، قصير الرّسغين، قصير النّسا (10)، قصير الظّهر، قصير
__________
ويطلق بالرامح: أي يتبعهما رجليه الرامحتين أي السريعتين. ويطلع بلائح:
يستقبلك بوجه مشرق ذي غرة. ويضحك عن قارح: أي يظهر لك سنه الدالة على عامه التاسع.
(1) يخد: يشق. الجديد: الأرض. المداق: أي الحوافر.
(2) يحضر: يعدو.
(3) الوقبين، الوقب: كل نقرة في الجسد.
(4) الجاعرتان: طرفا الورك المشرفان على الفخذين.
(5) الغرابان: طرفا الوركين الأسفلان.
(6) المنقب: موضع على السرة. الصفاق: ما بين الجلد والمصران
(7) اللحم المحيط بالظفر.
(8) العسيب: الذنب.
(9) القضيب: الذكر.
(10) النسا: عرق يمتد من الورك إلى الحافر.(1/126)
الوظيف (1). فقلت: لله أنت! فما معنى قولك: عريض الثّمان؟ قال:
عريض الجبهة، عريض الورك، عريض الصّهوة، عريض الكتف، عريض الجنب، عريض العصب (2)، عريض البلدة (3)، عريض صفحة العنق. فقلت: أحسنت، فما معنى قولك: غليظ السّبع؟ قال: غليظ الذّراع، غليظ المحزم (4)، غليظ العكوة (5)، غليظ الشّوى (6)، غليظ الرّسغ، غليظ الفخذين، غليظ الحاذ (7). قلت: لله درّك! فما معنى قولك: رقيق السّتّ؟ قال: رقيق الجفن، رقيق السّالفة (8)، رقيق الجحفلة (9)، رقيق الأديم (10)، رقيق أعالي الأذنين، رقيق العرضين (11). فقلت: أجدت، فما معنى قولك: لطيف الخمس؟
فقال: لطيف الزّور، لطيف النّسر (12)، لطيف الجبهة، لطيف الرّكبة، لطيف العجاية (13). فقلت: حيّاك الله، فما معنى قولك، غامض
__________
(1) الوظيف: مستدق الذراع والساق.
(2) العصب: المفاصل.
(3) البلدة: الصدر.
(4) المحزم: موضع الحزام.
(5) العكوة: أصل الذنب.
(6) الشوى: جلد الرأس.
(7) الحاذ: الظهر.
(8) السالفة: ما تقدم من العنق.
(9) الجحفلة: الشفة.
(10) الأديم: الجلد.
(11) العرضان: جانبا العنق.
(12) النسر: لحمة في حافر الفرس.
(13) العجاية: عصب عند رسغ الدابة.(1/127)
الأربع؟ قال: غامض أعالي الكتفين (1)، غامض المرفقين، غامض الحجاجين، غامض الشظى (2).
قلت: فما معنى قولك ليّن الثّلاث؟ قال: ليّن المردغتين (3)، ليّن العرف، ليّن العنان. قلت: فما معنى قولك: قليل الاثنين؟ قال:
قليل لحم الوجه، قليل لحم المتنين. قلت: فمن أين منبت هذا الفضل؟ قال: من الثّغور الأمويّة، والبلاد الإسكندريّة. فقلت: أنت مع هذا الفضل، تعرّض وجهك لهذا البذل؟ فأنشأ يقول:
ساخف زمانك جدّا ... إنّ الزّمان سخيف
دع الحميّة نسيا ... وعش بخير وريف
وقل لعبدك هذا ... يجيئنا برغيف (4)
__________
(1) غامض أعالي الكتفين: مكتنز أعالي الكتفين.
(2) غامض الشظى: مكتنز عظم الركبة.
(3) المردغتان: ما بين العنق والترقوة.
(4) المعنى: جار الدهر في حماقته لتدرك منه مبتغاك ودع المروءة جانبا وعش في خير واسع، ومرّ لنا بالطعام.(1/128)
30 - المقامة الرّصافيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
خرجت من الرّصافة (1)، أريد دار الخلافة، وحمارّة القيظ، تغلي بصدر الغيظ (2)، فلمّا نصفت الطّريق اشتدّ الحرّ، وأعوزني الصّبر، فملت إلى مسجد قد أخذ من كلّ حسن سرّه، وفيه قوم يتأمّلون سقوفه، ويتذاكرون وقوفه (3)، وأدّاهم عجز الحديث (4)، إلى ذكر اللّصوص وحيلهم، والطّرّارين وعملهم (5)، فذكروا أصحاب
__________
(1) الرصافة: محلة في بغداد.
(2) حمارة القيظ: شدة الحر. تغلي بصدر الغيظ: تثير الغضب.
(3) وقوفه: أعمدته.
(4) عجز الحديث: آخره.
(5) الطرارون: النشالون.(1/129)
الفصوص (1)، من اللّصوص، وأهل الكفّ والقفّ (2)، ومن يعمل بالطّفّ (3)، ومن يحتال في الصّفّ (4)، ومن يخنق بالدّفّ (5)، ومن يكمن في الرّفّ، إلى أن يمكن اللّفّ (6)، ومن يبدّل بالمسح (7)، ومن يأخذ بالمزح (8)، ومن يسرق بالنّصح (9)، ومن يدعو إلى الصّلح (10)، ومن قمش بالصّرف (11)، ومن أنعس بالطّرف (12) ومن باهت
__________
(1) أصحاب الفصوص: الذين ينقشون أسماء أصحاب الخواتم عليها ويذهبون إلى ديارهم أثناء غيبتهم يطلبون من المال ما أرادوا، جاعلين الفص علامة لأهل الدار ودليلا على أنهم موفدون من قبل أصحاب الدار.
(2) أهل الكف والقف: أهل الكف: الذين يتدخلون بين متشاجرين ليكفوهم عن الشجار، ويسرقون أثناء ذلك أموالهم. وأهل القف: الذين يختلسون المال بين أصابعهم.
(3) يعمل بالطف: أي يسرق بالتطفيف في المكيال.
(4) يحتال بالصف: يسرق من صفوف المصلين.
(5) يخنق بالدف: يقتل صاحب البيت ومعه جماعة يضربون الدفوف لكي لا يسمع صوت الاستغاثة.
(6) أي يختبىء في مكان الأمتعة ليتمكن من جمعها والفرار بها.
(7) الذي يضع دراهم زائفة في فمه، ثم يأخذ من الآخرين دراهم صحيحة ويتظاهر أنه يمسحها، فيبدلها بالزائفة.
(8) يأخذ بالمزح: يختلس دراهمك، فإذا عرفت به قال انه كان يمزح.
(9) يسرق بالنصح: يأخذ دراهمك وهو ينصحك. يدخل عليك ويقول لك لا تفعل هذا ولا تكشف دراهمك لغيرك، فإن فلانا دخل عليه لص فوضع يده على كيسه هكذا ثم سار إلى الباب هكذا ثم فر هكذا، ويفر.
(10) الذي يسرق مال اثنين يتشاجران وهو يتظاهر أنه دخل بينهما للصلح.
(11) من قمش بالصرف: سرق الصيرفي، وهو يوهمه أنه يريد صرف النقود.
(12) من أنعس بالطرف: الذي يتظاهر بالنوم لينال صاحبه فإذا نام أخذ ماله.(1/130)
بالنّرد (1)، ومن غالط بالقرد (2)، ومن كابر بالرّيط، مع الابرة والخيط (3)، ومن جاءك بالقفل (4)، وشقّ الأرض من سفل (5)، ومن نوّم بالبنج، أو احتال بنيرنج (6)، ومن بدّل نعليه (7)، ومن شدّ بحبليه (8)، ومن كابر بالسّيف (9)، ومن يصعد في البير (10)، ومن سار مع العير (11)، وأصحاب
__________
(1) من باهت بالنرد: الذي يدخل دارا ومعه نرد فإذا طلب منه صاحبها الخروج ادعى أنه قامره ولم يعطه حقه.
(2) غالط بالقرد: اصطحب قردا ووقف على باب حانوت أو منزل فيشغل صاحبهما بالقرد فيسرقه.
(3) من يتظاهر بأنه يخيط ما تفتق من ثوب رجل (الريط) فيسرق دراهمه.
(4) جاءك بالقفل: باعك قفلا لبيتك أو دكانك، فإذا غادره جاء ففتحه بمفتاح استبقاه معه.
(5) من شق الأرض من سفل: من يحفر حفرة في الأرض تصل الدار فإذا نام أهلها دخل وسرق ما يشاء.
(6) النيرنج: نوع من الشعبذة أو السحر.
(7) بدل نعليه: من يحتذي نعلا باليا يخلعه ليصلي في المسجد مثلا ثم يلبس نعلا جديدا لأحد المصلين وينصرف.
(8) من شدّ بحبليه: من يصعد إلى البناء ويربط ما يريد سرقته بحبل، ثم ينزل متظاهرا بالانصراف ويشد بطرف الحبل الذي تركه على الطريق ويأخذ ما علق به.
(9) من كابر بالسيف: اقتضى المال بالقوة من المارة، وهو قاطع الطريق.
(10) من يصعد في البير: الرجل يختبىء في بئر، فإذا أدلى أحدهم بدلو تعلق به فيخاف صاحب الدلو ويحسبه من الجن فيسلبه ما يشاء.
(11) ومن سار مع العير: من يندس في قافلة المسافرين متظاهرا بأنه منهم ثم يغافلهم ويسرقهم.(1/131)
العلامات (1)، ومن يأتي المقامات (2)، ومن فرّ من الطّوف (3)، ومن لاذ من الخوف (4)، ومن طيّر بالطّير (5)، ومن لاعب بالسّير، وقال: اجلس ولا ضير (6)، ومن يسرق بالبول (7)، ومن ينتهز الهول (8)، ومن أطعم في السّوق، بما ينفخ في البوق (9)، ومن جاء ببستوق (10)، وأصحاب البساتين (11)، وسرّاق الرّوازين (12)، ومن ضبر في الصّرح (13)، ومن سلم
__________
(1) أصحاب العلامات: الذين يتخذون شعارات خاصة كالمتصوفة ليطمئن الناس اليهم فيسرقونهم.
(2) من يأتي المقامات: يتظاهر أنه من علية القوم فيحتفى به فيختلس مال مكرميه وينصرف.
(3) من فر من الطوف: من يهرب من الشرطة الذين يحرسون فيلجأ إلى منزل مدعيا أنه يطلب النجدة والحماية، فيسرق.
(4) من لاذ من الخوف: من يطلب الحماية من أعداء يتعقبونه فإذا غفلت عنه اختلسك.
(5) من طير بالطير: من يقتني حماما ويطيره ويدخل البيوت، فإذا سئل عن بغيته زعم أنه يبحث عن حمامه.
(6) أي الذي يلاعب الآخرين بالجلد، ويختلس مالهم أثناء ذلك.
(7) من يسرق بالبول: من يكشف عن سوأته مدعيا أنه يبول فيخجل صاحب المال الذي يجالسه. فيتمكن من السرقة.
(8) ومن ينتهز الهول: يرتقب حريقا أو كارثة أو معركة فيدخل بين الناس ويسرق.
(9) الذي ينادي في السوق أنه يشفي من الشهوة.
(10) من جاء ببستوق: من يحمل إبريقا ويدخل البيوت يبغي ملأه ماء فإذا لم يجد أحدا سرق وانصرف.
(11) أصحاب البساتين: من يدعي أنه خبير بزراعة البساتين فيوكل إليه ذلك فيسرق وينهب.
(12) سراق الروازين: لصوص الروزنة أو الكوة، يدخلونها ويسرقون.
(13) ضبر في الصرح: وثب إلى البيوت العالية.(1/132)
في السّطح (1)، ومن دبّ بسكّين (2)، على الحائط من طين، ومن جاءك في الحين، يحيّي بالرّياحين (3)، وأصحاب الطّبرزين، كأعوان الدّواوين، ومن دبّ بأنين، على رسم المجانين (4)، وأصحاب المفاتيح (5)، وأهل القطن والرّيح (6) ومن يقتحم الباب، على زيّ المنتاب (7)، ومن يدخل في الدّار، على صورة من زار، ومن يدخل باللّين، على زيّ المساكين، ومن يسرق في الحوض، إذا أمكن في الخوض (8)، ومن سلّ بعودين (9)، ومن حلّف بالدّين (10)، ومن غالط بالرّهن (11)، ومن سفتج بالدّين (12)، ومن خالف بالكيس، ومن زجّ
__________
(1) من سلم في السطح: من معه حبل كالسلم يصعد به إلى الدور.
(2) من دب بسكين: من هجم عليك وهددك بالطعن بسكين.
(3) من جاء في الحين يحيي بالرياحين: من جاءك يحمل رياحين على سبيل الهدية، فإذا لم يجدك سرق وانصرف.
(4) من يجيء ليسرق فإذا اكتشف أمره تظاهر بالجنون.
(5) أصحاب المفاتيح: الذين يحملون مفاتيح كثيرة ليفتحوا بها البيوت ويسرقوها.
(6) اهل القطن والريح: الذين ينفخون القطن ليطير إلى بعض البيوت فيدخلونها بحثا عنها.
(7) ومن يقتحم الباب على زي المنتاب: الذي يدخل البيت ضيفا.
(8) أي الذي يجيء الحمامات فيسرق من يستحم في الحوض.
(9) من سل بعودين: من سرق بواسطة عصا يجذب بها متاع المارة.
(10) حلف بالدين: من يتقاضى أحد الأشراف ويطلب حلف اليمين منه فيأنف هذا من المثول أمام القاضي ويرضيه ببعض المال.
(11) من غالط بالرهن: من أودع مالا أو شيئا عند آخر ثم ادعى أن ماله أكثر من ذلك.
(12) من سفتج بالدين: من تعامل بالسفتجة، وهي ما يسمي اليوم الشيك أو الكمبيالة، دون رصيد.(1/133)
بتدليس (1)، ومن أعطى المفاليس، ومن قصّ من الكمّ، وقال: انظر واحكم (2)، ومن خاط على الصّدر، ومن قال: ألم تدر؟ ومن عضّ، ومن شدّ (3)، ومن دسّ إذا عدّ، ومن لجّ مع القوم، وقال: ليس ذا نوم، ومن غرّك بالألف، ومن زجّ إلى خلف، ومن يسرق بالقيد، ومن يالم للكيد (4)، ومن صافع بالنّعل (5)، ومن خاصم في الحقّ، ومن عالج بالشّقّ (6)، ومن يدخل في السّرب (7)، ومن ينتهز النّقب (8)، وأصحاب الخطاطيف، على الحبل من اللّيف (9)، وانجرّ الحديث إلى ذكر من ربح عليهم، فقال كهل منهم: سأحدّثكم بما يضحك السّامع، ويشبع الجائع، (وذكر كلاما غير متناسب مع الآداب نتركه تعففا).
__________
(1) من زج بتدليس: من ينتقد دراهم الناس فيخفي بعضها ويضع مكانها دراهم مزيفة.
(2) من قص كمه وادعى أن شخصا اغتصبه ماله عنوة.
(3) من عض ومن شد: من يشتبك مع آخر ليسلبه ماله.
(4) من يسرق بالقيد ومن يالم للكيد: الذي يدعي أنه أسير ومظلوم فترقّ له وتأويه فيسرقك.
(5) من صافع بالنعل: الذي يخاصمك فيخلع نعله البالي ويضربك به، فترد عليه بالمثل فيأخذ نعلك الجديد ويهرب.
(6) عالج بالشق: أي سرق بأن يشق كيسك.
(7) السرب: الحفيرة في الأرض يختبىء بها اللص فإذا انس غفلة من أصحاب الدار سرقهم ومضى.
(8) النقب: ثلمة في الجدار يدخلها اللص.
(9) اللصوص الذي يستعملون حبلا من الليف في طرفه خطاف يجذبون به ما يسرقونه.(1/134)
31 - المقامة المغزليّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
دخلت البصرة، وأنا متّسع الصّيت كثير الذّكر، فدخل عليّ فتيان، فقال أحدهما: أيّد الله الشّيخ، دخل هذا الفتى دارنا، فأخذ فنج سنّار (1)، برأسه دوار (2)، بوسطه زنّار، وفلك دوّار، رخيم الصّوت إن صرّ، سريع الكرّ إن فرّ (3)، طويل الذّيل إن جرّ (4)، نحيف المنطّق (5)، ضعيف المقرطق (6)، في قدر الجزر، مقيم بالحضر، لا
__________
(1) فنج سنار: فراء هر، يشبّه المغزل به.
(2) دوار: القسم المستدير من المغزل.
(3) أي يدور بسرعة.
(4) أي خيطه الذي يغزله طويل.
(5) المنطق: مكان المنطقة حيث تلف الخيطان.
(6) المقرطق: مكان القرطقة وهي ثوب ذو طاق واحد.(1/135)
يخلو من السّفر (1)، إن أودع شيئا ردّ، وإن كلّف سيرا جدّ، وإن أجرّ حبلا مدّ، هناك عظم وخشب (2)، وفيه مال ونشب، وقبل وبعد (3)، فقال الفتى: نعم أيّد الله الشّيخ لأنّه غصبني على:
مرهّف سنانه ... مذلّق أسنانه (4)
أولاده أعوانه ... تفريق شمل شانه (5)
مواثب لصاحبه ... معلّق بشاربه (6)
مشتبك الأنياب ... في الشّيب والشّباب (7)
حلو مليح الشّكل ... ضاو زهيد الأكل (8)
رام كثير النّبل ... حوف اللّحى والسّبل (9)
فقلت للأوّل: ردّ عليه المشط ليردّ عليك المغزل.
__________
(1) أي يشّبه الجزرة في الهيئة. ولا يخلو من السفر: دائم الحركة.
(2) أي مركب من الخشب والعظم.
(3) قبل وبعد: يدر خيرا.
(4) مرهف ومذلق: محدد الأسنان، يصف هنا المشط.
(5) أولاد المشط: أسنانه. تفريق الشمل: إنه يفرق الشعرات بعضها عن بعض.
(6) أي يثب على شارب صاحبه ويعمل فيه.
(7) أي يستعمله الشباب والشيوخ.
(8) ضاو: نحيف. زهيد الأكل: لا يعلق به إلا القليل من الشعر.
(9) نبل المشط: أسنانه. السبل: ما على اللحى من شعر.(1/136)
32 - المقامة الشّيرازيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
لمّا قفلت من اليمن، وهممت بالوطن، ضمّ إلينا رفيق رحله، فترافقنا ثلاثة أيّام، حتّى جذبني نجد (1)، والتقمة وهد (2)، فصعّدت وصوّب (3)، وشرّقت وغرّب، وندمت على مفارقته بعد أن ملكني الجبل وحزنه (4)، وأخذه الغور وبطنه، فو الله لقد تركني فراقه، وأنا أشتاقه، وغادرني بعده أقاسي بعده، وكنت فارقته ذا شارة وجمال،
__________
(1) النجد: المرتفع من الأرض.
(2) الوهد: المنخفض من الأرض.
(3) صعدت وصوّب صعدت: سرت بموازاة النجد.
صوّب: سار بموازاة الوهد.
(4) الحزن: المرتفع الشديد.(1/137)
وهيئة وكمال، وضرب الدّهر بنا ضروبه (1)، وأنا أتمثّله في كلّ وقت، وأتذكّره في كلّ لمحة، ولا أظنّ أنّ الدّهر يسعدني به ويسعفني فيه، حتّى أتيت شيراز (2)، فبينا أنا يوما في حجرتي إذ دخل كهل قد غبّر في وجهه الفقر، وانتزف ماءه الدّهر (3)، وأمال قناته السّقم (4)، وقلّم أظفاره العدم (5)، بوجه أكسف من باله، وزيّ أوحش من حاله، ولثة نشفة، وشفة قشفة (6)، ورجل وحلة، ويد محلة (7)، وأنياب قد جرعها الضّرّ والعيش المرّ، وسلّم فازدرته عيني، لكنّي أجبته، فقال: اللهمّ اجعلنا خيرا ممّا يظنّ بنا، فبسطت له أسرّة وجهي، وفتقت له سمعي (8)، وقلت له: إيه (9)، فقال: قد أرضعتك ثدي حرمة، وشاركتك عنان عصمة، والمعرفة عند الكرام حرمة، والمودّة لحمة، فقلت: أبلديّ أنت أم عشيريّ؟ فقال: ما يجمعنا إلّا بلد الغربة، ولا ينظمنا إلّا رحم القربة (10)، فقلت: أيّ الطّريق شدّنا في قرن (11)؟ قال:
طريق اليمن.
__________
(1) ضرب الدهر بنا ضروبه: لحقت بنا المحن.
(2) شيراز: مدينة كبيرة جميلة في إيران.
(3) انتزف ماءه الدهر: سلبه نضارته وشبابه.
(4) أمال قناته السقم: ألوى ظهره المرض.
(5) قلم أظفاره العدم: أضعفه وهون أمره.
(6) شفة قشفة: خشنة.
(7) يد محلة: يد فقيرة.
(8) فتقت له سمعي: أصغيت إليه.
(9) إيه: اسم فعل أمر بمعنى أمض في الحديث.
(10) القربة: الاقتراب في المكان.
(11) القرن: الحبل يربط البعيرين.(1/138)
قال عيسى بن هشام: فقلت: أنت أبو الفتح الاسكندريّ؟
فقال: أنا ذاك، فقلت: شدّ ما هزلت بعدي! وحلت عن عهدي (1)! فانفض إلىّ جملة حالك، وسبب اختلالك، فقال: نكحت خضراء دمنة (2)، وشقيت منها بابنة، فأنا منها في محنة، قد أكلت حريبتي (3)، وأراقت ماء شبيبتي، فقلت: هلّا سرّحت، واسترحت (4).
ثم ذكر كلاما يندى له وجه الأدب فتعفّفنا عن ذكره والخوض فيه.
__________
(1) حلت عن عهدي: تغيرت عما كنت أعرفك في الماضي.
(2) نكحت خضراء الدمن: تزوجت امرأة حسنة في منبت سوء.
(3) الحريبة: المال.
(4) سرحت: طلقت أمرأتك.(1/139)
33 - المقامة الحلوانيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
لمّا قفلت من الحجّ فيمن قفل، ونزلت مع من نزل، قلت لغلامي: أجد شعري طويلا، وقد اتّسخ بدني قليلا، فاختر لنا حمّاما ندخله، وحجّاما نستعمله (1)، وليكن الحمّام واسع الرّقعة، نظيف البقعة، طيّب الهواء، معتدل الماء، وليكن الحجّام خفيف اليد، حديد الموسى، نظيف الثّياب، قليل الفضول (2)، فخرج مليّا، وعاد بطيّا، وقال: قد اخترته كما رسمت، فأخذنا إلى الحمام السّمت (3)، وأتيناه فلم نر قوّامه (4)، لكنّي دخلته ودخل على أثري رجل وعمد إلى قطعة
__________
(1) الحجام: المزين.
(2) قليل الفضول: قليل الكلام والتدخل فيما لا يعنيه.
(3) السمت: الجهة، والمعنى توجهنا إلى الحمام.
(4) قوامه: القائم عليه أو صاحبه.(1/140)
طين فلطّخ بها جبيني، ووضعها على رأسي، ثمّ خرج ودخل آخر فجعل يدلكني دلكا يكدّ العظام، ويغّمزني غمزا يهدّ الأوصال، ويصفّر صفيرا يرش البزاق (1)، ثمّ عمد إلى رأسي يغسله، وإلى الماء يرسله، وما لبث أن دخل الأوّل فحيّا أخدع الثّاني بمضمومة قعقعت أنيابه (2)، وقال: يا لكع ما لك ولهذا الرّأس وهو لي؟ ثمّ عطف الثّاني على الأوّل بمجموعة هتكت حجابه (3)، وقال: بل هذا الرّأس حقّي وملكي وفي يدي، ثمّ تلاكما حتّى عييا، وتحاكما لما بقيا، فأتيا صاحب الحمّام، فقال الأوّل: أنا صاحب هذا الرّأس لأنّي لطّخت جبينه، ووضعت عليه طينه، وقال الثّاني: بل أنا مالكه لأني دلكت حامله، وغمزت مفاصله، فقال الحمّاميّ: ائتوني بصاحب الرّأس أسأله، ألك هذا الرّأس أم له، فأتياني وقالا: لنا عندك شهادة فتجشّم (4)، فقمت وأتيت، شئت أم أبيت، فقال الحمّاميّ: يا رجل لا تقل غير الصّدق، ولا تشهد بغير الحقّ، وقل لي: هذا الرّأس لأيّهما، فقلت: يا عافاك الله هذا رأسي، قد صحبني في الطّريق، وطاف معي بالبيت العتيق (5)، وما شككت أنّه لي، فقال لي: اسكت يا فضوليّ،
__________
(1) البزاق والبصاق والبساق: ماء الفم إذا خرج منه. ويصفر: يصوت.
(2) الأخدع: عرق في العنق. والمضمومة: اليد التي تضم أصابعها. قعقعت:
صوتت. المعنى: ما كاد الثاني يبدأ بدلكي حتى عاد الأول فضربه بجمع يده ضربة اصطكت لها أسنانه.
(3) عطف الثاني على الأول بمجموعة هتكت حجابه: حمل الثاني على الأول بضربة يد أضعفت قوته.
(4) فتجشم: تحمل مشقة الذهاب لأداء الشهادة.
(5) طاف بي في البيت العتيق: كان معي أثناء الطواف في الكعبة المكرمة كتأدية فريضة الحج.(1/141)
ثمّ مال إلى أحد الخصمين فقال: يا هذا إلى كم هذه المنافسة مع النّاس، بهذا الرّأس؟ تسلّ عن قليل خطره، إلى لعنة الله وحرّ سقره (1)، وهب أنّ هذا الرّأس ليس (2)، وأنّا لم نر هذا التّيس.
قال عيسى بن هشام: فقمت من ذلك المكان خجلا، ولبست الثّياب وجلا (3)، وانسللت من الحمّام عجلا، وسببت الغلام بالعضّ والمصّ (4)، ودققته دقّ الجصّ (5)، وقلت لآخر: اذهب فأتني بحجّام يحطّ عنّي هذا الثّقل، فجاءني برجل لطيف البنية، مليح الحلية، في صورة الدّمية، فارتحت إليه، ودخل فقال: السّلام عليك، ومن أيّ بلد أنت؟ فقلت: من قمّ (6)، فقال: حيّاك الله! من أرض النّعمة والرّفاهة وبلد السّنّة والجماعة، ولقد حضرت في شهر رمضان جامعها وقد أشعلت فيه المصابيح، وأقيمت التّراويح، فما شعرنا إلّا بمدّ النّيل، وقد أتى على تلك القناديل، لكن صنع الله لي بخفّ قد كنت لبسته رطبا فلم يحصل طرازه على كمّه (7)، وعاد الصّبيّ إلى أمّه، بعد أن صلّيت العتمة واعتدل الظّلّ، ولكن كيف كان حجّك؟ هل قضيت مناسكه كما وجب، وصاحوا: العجب العجب؟ فنظرت إلى المنارة، وما أهون الحرب على النّظّارة، ووجدت الهريسة على حالها، وعلمت أنّ الأمر بقضاء من الله وقدر، وإلى متى هذا الضّجر؟ واليوم وغد،
__________
(1) سقره: نار جهنم.
(2) ليس: لا وجود له، أصلها لا إيس. والأيس: الوجود.
(3) وجلا: خائفا.
(4) أي قلت: عضّ عن أبيك، ومص عن أمك.
(5) دققته دق الجص: ضربته ضربا أليما أو شديدا.
(6) قم: مدينة إيرانية.
(7) ليس للحق طراز: أي لم يوشّ ويزين.(1/142)
والسّبت والأحد، ولا أطيل، وما هذا القال والقيل؟ ولكن أحببت أن تعلم أنّ المبرّد (1) في النّحو حديد الموسى، فلا تشتغل بقول العامّة فلو كانت الاستطاعة قبل الفعل (2) لكنت قد حلقت رأسك، فهل ترى أن نبتدىء؟
قال عيسى بن هشام: فبقيت متحيّرا من بيانه، في هذيانه، وخشيت أن يطول مجلسه، فقلت: إلى غد إن شاء الله، وسألت عنه من حضر، فقالوا: هذا رجل من بلاد الاسكندريّة لم يوافقه هذا الماء، فغلبت عليه السّوداء، وهو طول النّهار يهذي كما ترى، ووراءه فضل كثير، فقلت: قد سمعت به، وعزّ عليّ جنونه، وأنشأت أقول:
أنا أعطي الله عهدا ... محكما في النّذر عقدا (3)
لا حلقت الرّأس ما عش ... ت، ولو لاقيت جهدا
__________
(1) المبرد: هو محمد بن يزيد الثمالي الأزدي المصري عاش في القرن الثالث الهجري (285210) وأصبح امام النحو واللغة في عصره. أهم كتبه «الكامل» و «المقتضب» و «التعازي».
(2) الاستطاعة قبل الفعل أو معه: مسألة كلامية كثر حولها النقاش بين المعتزلة والأشاعرة.
(3) أي أعاهد الله عهدا محكما لا رجوع عنه، وعقدا واجب النفاذ، على ألا أحلق شعري ما دمت حيا.(1/143)
34 - المقامة النّهيديّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
ملت مع نفر من أصحابي إلى فناء خيمة ألتمس القرى من أهلها (1)، فخرج إلينا رجل حزقّة (2)، فقال: من أنتم؟ فقلنا: أضياف لم يذوقوا منذ ثلاث عدوفا (3)، قال: فتنحنح، ثمّ قال: فما رأيكم يا فتيان في نهيدة فرق (4) كهامة الأصلع (5)، في جفنة روحاء (6)،
__________
(1) النفر: الجماعة. فناء: المكان المتسع من البيت. التمس: أطلب. القرى:
الضيافة.
(2) خزقة: الرجل القصير العظيم البطن.
(3) لم يذوقوا عدوفا: لم يأكلوا شيئا من الطعام.
(4) نهيدة فرق: زبدة الغنم، شبهها برأس الأصلع في النقاء.
(5) هامة الأصلع: رأس الرجل الذي لا شعر عليه.
(6) جفنة روحاء: قصعة واسعة.(1/144)
مكلّلة بعجوة خيبر من أكتار جبّار ربوض (1) الواحدة منها تملأ الفم، من جماعة خمص عطش خمس (2)، يغيب فيها الضّرس، كأنّ نواها ألسن الطّير، يجحفون فيها النّهيدة (3) مع أقعب قد احتلبن من الجلاد الهرميّة الرّبليّة (4)، أتشتهونها يا فتيان؟ فقلنا: إي والله نشتهيها، فقهقه الشّيخ وقال: وعمّكم أيضا يشتهيها، ثمّ قال: فما رأيكم يا فتيان في درمك كأنّها قطع السّبائك (5) تجرثم على سفرة حرتيّة بها ريح القرظ (6) فيثب إليها منكم فتى رفيف (7)، لبق خفيف، فيعجنه من غير أن يرجفه أو يخشفه (8)، فيزيله دون ملك ناعم، ثمّ يلتّه بالسّمار أو المذق لتّا غزيرا (9)، ثمّ يعمد إليه فيلويه ويدعه في ناحية الصّيداء، حتّى إذا تخّ من غير أن يترز عمد إلى قصد الغضا (10)، فأشعل فيه النّار
__________
(1) مكللة: محاطة. خيبر: مدينة في الحجاز قرب المدينة مشهورة بنخيلها.
أكتار: جمع كتر وهو سنام الجمل وأعلى النخلة. جبار: نخلة عظيمة.
ربوض: واسعة الأقطار.
(2) خمص: جياع. عطش: عطاش. خمس: مدة خمسة أيام.
(3) يجحفون فيها النهيدة: يغرقون فيها التمرة.
(4) أقعب: جمع قعب أي وعاء اللبن. الجلاد: الإبل. الهرمية الربلية: نسبة إلى الهرم والربّل وهما نباتان تأكلهما الإبل.
(5) الدرمك: لباب الدقيق. السبائك: قطع من الفضة.
(6) تجرثم: تجتمع، سفرة: جلدة توضع تحت الخوان. حرتية: مقطعة. ريح القرظ: رائحة دباغ القرظ (اسم تمر يدبغ به).
(7) رفيف: حسن الخلق ولبق.
(8) يرجّفه): يحركه بسرعة. يخشفه: يكثر ماءه.
(9) يلتّه: يخلطه. السمار: اللبن الحليب. المذق: اللبن الحامض.
(10) الصيداء: الأرض الحارة مع جودة المناخ، والحجارة التي تصنع منها القدور. تخ: ظهرت فيه الحموضة. يترز: ييبس ويشتد. القصد: الأغصان.
الغضا: شجر كثير النار واللهب.(1/145)
فلمّا خبت ناره، مهّد لقرموصه (1)، ثمّ عمد إلى عجينه ففرطحه بعد ما أنعم تلويثه (2)، ثمّ دحا به عليها (3)، ثمّ خمّره، فلمّا قفّ وقبّ أحال عليه من الرّضف ما يلتقي به الأواران (4)، حتّى إذا غطّاهما على الملّة المشاكهة بطبق وتفلّج شقاقا (5)، وحكى قشرها رقاقا، واحمرارها احمرار بسر الحجاز المشهور بأمّ الجرذان أو عذق بن طاب شنّ عليها ضرب بيضاء كالثّلج (6) إلى أوان رسوخها في خلال الدّهان، ويشرب لبّ الدّرمك ما عليه من الضّرب، قدّمت إليكم فتلقمونها لقم جوين أو زنكل (7)، أفتشتهونها يا فتيان؟ قال: فاشرأبّ كلّ منّا إلى وصفه، وتحلّب ريقه وتلمّظ، وتمطّق (8)، قلنا: إي والله نشتهيها، قال: فقهقه الشّيخ وقال: وعمّكم والله لا يبغضها، ثمّ قال: ما رأيكم يا فتيان في عناق نجديّة، علويّة برّيّة (9)، قد أكلت البرم والشّيح النّجديّ والقيصوم والهشيم (10)، وتبرّضت الحميم (11)، وتملأت من القصيص (12) فورى
__________
(1) القرموص: موضع الخبز.
(2) فرطحه: عرضه ليتسع. أنعم تلويثه: جعل الدقيق (اللواث) الذي يرش على الخوان تحت العجين ناعما.
(3) دحا به عليها: بسطه على النار.
(4) قف: يبس. قب: ارتفع. الرضف: الحجارة المسخنة. الأوار: النار
(5) الملة: الجمر المشاكهة: المشابهة. تفلج: تشقق.
(6) البسر: التمر. عذق بن طاب: النخل بالحجاز. الضرب: العسل. شن: رش.
(7) جوين وزنكل: رجلان مشهوران بالنهم.
(8) اشرأب: مد عنقه متطلعا. تحلب ريقه: سال. تلمظ: مسح بلسانه ما على شفتيه. تمطق: ضرب لسانه في أعلى فمه وأسفله.
(9) العناق: المعزاة.
(10) البرم: ثمر الأراك أو الغضا. والقيصوم: نبات طيب الرائحة.
(11) نبرضت الحميم: شربت الماء البارد.
(12) القصيص: اسم نبات.(1/146)
مخّها (1)، وزهمت كشيتها (2)، تشحط معتبطة ثمّ تنكس (3) في وطيس حتّى تنضج من غير امتحاش أو إنهاء (4)، ثمّ تقدّم إليكم وقد عطّ إهابها (5) عن شحمة بيضاء على خوان منضّد بصلائق كأنّها القباطيّ المنشّر (6)، أو القوهيّ الممصّر (7)، قد احتفّتها نقرات فيها صناب وأصباغ شتّى (8)، فتوضع بينكم تهادر عرقا، وتسايل مرقا، أفتشتهونها يا فتيان؟ قلنا: إي والله نشتهيها، قال: وعمّكم والله يرقص لها، فوثب بعضنا إليه بالسّيف، وقال: ما يكفي ما بنا من الدّقع حتّى تسخر بنا (9)؟ فأتتنا ابنته بطبق عليه جلفة وحثالة ولويّة (10) وأكرمت مثوانا (11)، فانصرفنا لها حامدين، وله ذامّين.
__________
(1) ورى مخها: سمن مخها وربا.
(2) زهمت كشيتها: سمنت شحمة بطنها.
(3) تشحط معتبطة: تذبح بدون سبب. ثم تنكس: توضع منكسة.
(4) الوطيس: التنور. امتحاش: الاحتراق. الإنهاء: المبالغة في الانضاج.
(5) عط اهابها: شق جلدها.
(6) الخوان: ما يمد عليه الطعام ما لم يكن، فإذا مد سمي المائدة. الصلائق:
الخبز الرقاق. القباطي جمع قبطية: ثياب الكتان البيضاء الرقيقة. المنشر:
المبسوط.
(7) القوهي الممصر القوهي: نوع من الثياب. الممصر: المصبوغ بلون أحمر وأصفر.
(8) النقرات: الآنية. الصّناب: توابل.
(9) الدقع: الفقر الشديد.
(10) الجلفة: أردأ الخبز. الحثالة: الرديء من التمر. اللوية: ما أخفيته لغيرك من الطعام.
(11) أكرمت مثوانا المثوى الإقامة. المعنى: كانت الابنة خيرا من والدها لأنها أحسنت إلينا.(1/147)
35 - المقامة الابليسيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
أضللت إبلا لي (1)، فخرجت في طلبها، فحللت بواد خضر، فإذا أنهار مصرّدة، وأشجار باسقة، وأثمار يانعة، وأزهار منوّرة (2)، وأنماط مبسوطة (3)، وإذا شيخ جالس، فراعني منه ما يروع الوحيد من مثله، فقال: لا بأس عليك، فسلّمت عليه، وأمرني بالجلوس فامتثلت، وسألني عن حالي فأخبرت، فقال لي: أصبت دالّتك (4)
ووجدت ضالّتك، فهل تروي من أشعار العرب شيئا؟ قلت: نعم،
__________
(1) أضللت: أضعت.
(2) أنهار مصردة: أنهار جارية. باسقة: مرتفعة. يانعة: ناضجة. منورة: زاهية.
(3) أنماط مبسوطة: بسط مفروشة.
(4) دالتك: ما فقد منك.(1/148)
فأنشدت لآمرىء القيس، وعبيد (1)، ولبيد (2)، وطرفة، فلم يطرب لشيء من ذلك، وقال: أنشدك من شعري؟ فقلت له: إيه، فأنشد:
بان الخليط ولو طوّعت ما بانا ... وقطّعوا من حبال الوصل أقرانا (3)
حتّى أتى على القصيدة كلّها، فقلت: يا شيخ، هذه القصيدة لجرير (4) قد حفظتها الصّبيان، وعرفها النّسوان، وولجت الأخبية، ووردت الأندية، فقال: دعني من هذا، وإن كنت تروي لأبي نواس شعرا فأنشدنيه، فأنشدته:
لا أندب الدّهر ربعا غير مأنوس ... ولست أصبو إلى الحادين بالعيس
أحقّ منزلة بالهجر منزلة ... وصل الحبيب عليها غير ملبوس (5)
__________
(1) عبيد: هو عبيد بن الأبرص الأسدي، أحد شعراء الجاهليّة. كان مقلا في شعره، وعده ابن سلام في الطبقة الرابعة.
(2) لبيد: هو لبيد بن ربيعة العامري. شاعر مجيد حكيم مثل زهير بن أبي سلمى. دافع عن قومه عند ملك الحيرة، ولما جاء الإسلام وفد على النبي مع قومه وأسلم إسلاما حسنا وتاب عن نظم الشعر إلا بيتا واحدا هو قوله:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي
حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وتوفي في عهد معاوية سنة 41هـ. وعمر طويلا فناهز 157سنة.
(3) بان: افترق، بعد. الخليط: الجماعة. طوعت: أطعت. أقران: جمع قرن وهو الحبل.
(4) جرير: هو جرير بن عطية بن الخطفي التميمي. ولد ونشأ في اليمامة وانتقل إلى البصرة واتصل بالحجاج ومدحه فدله على عبد الملك بن مروان فقصده ومدحه ونال جوائزه. وخاض غمار حرب هجائية فلم يصمد له سوى الفرزدق نسيبه والأخطل التغلبي. ومات في اليمامة سنة 110هـ.
(5) يتهكم أبو نواس على الشعراء الذين يستهلون قصائدهم بالوقوف على(1/149)
يا ليلة غبرت ما كان أطيبها ... والكوس تعمل في إخواننا الشّوس (1)
وشادن نطقت بالسّحر مقلته ... مزنّر حلف نسبيح وتقديس (2)
نازعته الرّيق والصّهباء صافية ... في زيّ قاض ونسك الشّيخ إبليس (3)
لمّا ثملنا وكلّ الناس قد ثملوا ... وخفت صرعته إيّاي بالكوس
غططت مستنعسا نوما لأنعسه ... فاستشعرت مقلتاه النّوم من كيسي (4)
وامتدّ فوق سرير كان أرفق بي ... على تشعّثه من عرش بلقيس
وزرت مضجعه قبل الصّباح وقد ... دلّت على الصّبح أصوات النّواقيس
فقال: من ذا؟ فقلت: القسّ زار، ولا ... بدّ لديرك من تشميس قسيس
فقال: بئس لعمري أنت من رجل ... فقلت: كلّا فإنّي لست بالبيس (5)
قال: فطرب الشّيخ وشهق وزعق، فقلت: قبّحك الله من شيخ لا أدري أبانتحالك، شعر جرير أنت أسخف أم بطربك من شعر أبي نواس وهو فويسق عيّار (6)؟؟. فقال: دعني من هذا وامض على وجهك، فإذا لقيت في طريقك رجلا معه نحي صغير يدور في الدّور (7)، حول القدور، يزهى بحليته، ويباهي بلحيته، فقل له: دلّني
__________
الأطلال وبكاء الأحبة ووصف الجمال. ويرى أن أحق منزل بالهجر هو المكان الذي غدا وصال الحبيب فيه غير ممكن.
(1) الكوس: الكؤوس مخففة. الشوس: جمع أشوس: من ينظر إليك بمؤخرة عينه.
(2) الشادن: الغزال. المقلة: العين. مزنر: يلبس الزنار. حلف تسبيح وتقديس: عابد لا ينفك عن تسبيح الله وتقديسه. ويعني بالشادن هنا الغلام.
(3) نازعته: جاذبته. المعنى: شربت واياه الخمر وأنا في زي عابد.
(4) غططت: تردد نفسي. الكيس: الكياسة، ضد الحماقة.
(5) بالبيس: الرجل الذي يقال له: بئس الرجل أنت.
(6) فويسق: تصغير فاسق. العيار: الفاجر المتهتك.
(7) النحى: الزق.(1/150)
على حوت مصرور، في بعض البحور، مخطف الخصور، يلدغ كالزّنبور، ويعتمّ بالنّور، أبوه حجر، وأمّه ذكر، ورأسه ذهب، واسمه لهب، وباقيه ذنب، له في الملبوس، عمل السّوس، وهو في البيت، آفة الزّيت، شرّيب لا ينقع، أكول لا يشبع، بذول لا يمنع، ينمى إلى الصّعود، ولا ينقص ماله من جود، يسوءك ما يسرّه، وينفعك ما يضرّه، وكنت أكتمك حديثي، وأعيش معك في رخاء، لكنّك أبيت فخذ الآن، فما أحد من الشّعراء إلّا ومعه معين منّا، وأنا أمليت على جرير هذه القصيدة، وأنا الشّيخ أبو مرّة (1).
قال عيسى بن هشام: ثمّ غاب ولم أره ومضيت لوجهي، فلقيت رجلا في يده مذبّة، فقلت، هذا والله صاحبي، وقلت له ما سمعت [منه] فناولني مسرجة، وأومأ إلى غار في الجبل مظلم، فقال:
دونك الغار، ومعك النّار، قال: فدخلته فإذا أنا بإبلي قد أخذت سمتها، فلويت وجوهها ورددتها، وبينا أنا في تلك الحالة في الغياض أدبّ الخمر (2)، إذ بأبي الفتح الاسكندريّ تلقّاني بالسّلام، فقلت:
ما حداك ويحك إلى هذا المقام؟ قال: جور الأيّام، في الأحكام، وعدم الكرام، من الأنام، قلت: فاحكم حكمك يا أبا الفتح، فقال: احملني على قعود (3)، وأرق لي ماء في عود، فقلت: لك ذلك، فأنشأ يقول:
__________
(1) الشيخ أبو مرة: إبليس.
(2) أدب الخمر في الغياض: أمشي مشية المحاذر في الغابات.
(3) القعود: الناقة.(1/151)
نفسي فداء محكّم ... كلّفته شططا فأسجح (1)
ما حكّ لحيته، ولا ... مسح المخاط، ولا تنحنح (2)
ثمّ أخبرته بخبر الشّيخ، فأومأ إلى عمامته، وقال: هذه ثمرة برّه، فقلت: يا أبا الفتح شحذت على إبليس؟ إنّك لشحّاذ!!
__________
(1) الشطط: مجاوزة الحد. أسجح: أنصف.
(2) المعنى: لم يتلكأ بل لبى طلبي.(1/152)
36 - المقامة الأرمنيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
لمّا قفلنا من تجارة إرمينيّة (1) أهدتنا الفلاة إلى أطفالها (2)، وعثرنا بهم في أذيالها، وأنا خونا بأرض نعامة (3)، حتّى استنظفوا حقائبنا، وأراحوا ركائبنا (4)، وبقينا بياض اليوم، في أيدي القوم، قد
__________
(1) إرمينية: بلاد تقع جنوبي شرقي روسية واستقلت أخيرا عن الاتحاد السوفياتي بعد أن كانت إحدى جمهورياته.
(2) الفلاة: الأرض الواسعة أو الصحراء التي تخلو من الشجر والنبات: أطفالها:
لصوصها وقطاع الطرق فيها.
(3) عثر: وقع. أرض نعامة: مفازة.
(4) استنظفوا حقائبنا: أخذوا كل ما في أوعية ثيابنا. أراحوا ركائبنا: أخذوا ما عليها من أثقال فاستراحت مما تحمل.(1/153)
نظمنا القدّ أحزابا، وربطت خيولنا اغتصابا (1)، حتّى أردف اللّيل أذنابه، ومدّ النّجم أطنابه (2)، ثمّ انتحوا عجز الفلاة، وأخذنا صدرها، وهلمّ جرّا (3)، حتّى طلع حسن الفجر من نقاب الحشمة، والنتضي سيف الصّبح من قراب الظّلمة (4)، فما طلعت شمس النهار، إلّا على الاشعار والأبشار (5)، وما زلنا بالأهوال ندرأ حجبها، وبالفلوات نقطع نجبها (6)، حتّى حللنا المراغة (7)، وكلّ منّا انتظم إلى رفيق، وأخذ في طريق، وانضمّ إليّ شابّ يعلوه صغار، وتعلوه أطمار (8)، يكنى أبا الفتح الاسكندريّ، وسرنا في طلب أبي جابر (9) فوجدناه يطلع من ذات لظى، تسجر بالغضا (10)، فعمد الاسكندريّ إلى رجل فاستماحه كفّ ملح، وقال للخبّاز: أعرني رأس التّنّور، فإنّي مقرور (11)، ولمّا
__________
(1) القد: رباط من جلد تقيد به الأسرى. اغتصابا: قهرا. المعنى أنهم أوثقوهم بالقيود طوال ذلك النهار وربطوا خيولهم قهرا.
(2) أردف الليل أذنابه: استتبعها وجعل بعضها يلي بعضا. ويعني بالأذناب الظلمة. الأطناب: الحبال وتعني هنا خيوط النور المنبعثة من النجوم.
(3) انتحوا عجز الفلاة: قصدوا آخرها. أخذنا صدرها: قصدنا أولها. المعنى:
ذهبنا إلى الجهة غير الجهة التي ذهبوا إليها. هلمّ جرا: وهكذا استمر الأمر.
(4) شبّه الفجر بوجه المرأة الجميلة. وشبّه الصبح بالسيف الذي يستل من غمده.
(5) الأشعار: جمع شعر. والأبشار: جمع بشرة هي جلد الجسم.
(6) ندرأ: نمنع. النجب: لحاء الشجرة وقشرها، ويعني بها هنا سطح الفلاة.
(7) المراغة: بلدة في اذربيجان المحاذية لارمينيا.
(8) الصغار: الذل والهوان. الأطمار: الثياب الرثة.
(9) أبو جابر: كنية الخبز.
(10) ذات لظى: النار. تسجر: توقد. الغضا: شجر شديد الاشتعال.
(11) استماح: طلب الإذن. التنور: مكان الخبز. مقرور: أصابه القر أي البرد.(1/154)
فرع سنامه جعل يحدّث القوم بحاله، ويخبرهم باختلاله، وينشر الملح في التّنّور من تحت أذياله، يوهمهم أنّ أذى بثيابه، فقال الخبّاز: ما لك لا أبا لك؟! اجمع أذيالك فقد أفسدت الخبز علينا، وقام إلى الرّغفان فرماها، وجعل الاسكندريّ يلقطها، ويتأبّطها، فأعجبتني حيلته فيما فعل، وقال: اصبر عليّ حتّى أحتال على الأدم (1)، فلا حيلة مع العدم، وصار إلى رجل قد صفّف أواني نظيفة فيها ألوان الألبان، فسأله عن الأثمان، واستأذن في الذّوق، فقال: افعل، فأدار في الآنية إصبعه، كأنّه يطلب شيئا ضيّعه، ثمّ قال: ليس معي ثمنه، وهل لك رغبة في الحجامة؟ فقال: قبّحك الله! أنت حجّام؟ قال: نعم، فعمد لأعراضه يسبّها، وإلى الآنية يصبّها، فقال الاسكندريّ: آثرني على الشّيطان (2)، فقال: خذها لا بورك لك فيها، فأخذها وأوينا إلى خلوة، وأكلناها بدفعة، وسرنا حتّى أتينا قرية استطعمنا أهلها، فبادر من بين الجماعة فتى إلى منزله، فجاءنا بصحفة قد سدّ اللّبن أنفاسها، حتّى بلغ رأسها، فجعلنا نتحسّاها، حتّى استوفيناها، وسألناهم الخبز، فأبوا إلّا بالثّمن، فقال الاسكندريّ: ما لكم تجودون باللّبن، وتمنعون الخبز إلّا بالثمن؟ فقال الغلام: كان هذا اللّبن في غضارة، قد وقعت فيه فارة، فنحن نتصدّق به على السّيّارة (3)، فقال الاسكندريّ: إنّا لله! وأخذ الصّحفة فكسرها، فصاح الغلام: واحرباه (4)، وامحروباه، فاقشعرّت منّا الجلدة، وانقلبت علينا المعدة، ونفضنا ما كنّا أكلناه،
__________
(1) الأدم: ما يؤكل مع الخبز.
(2) آثرني على الشيطان: أعطني إياها بدل اراقتها على الأرض.
(3) غضارة: قصعة. السيارة: المارة.
(4) واحرباه: استغاثة تعني استلاب المال بالقوة.(1/155)
وقلت: هذا جزاء ما بالأمس فعلناه، وأنشأ أبو الفتح الاسكندريّ يقول:
يا نفس لا تتغثّي ... فالشّهم لا يتغثا (1)
من يصحب الدّهر يأكل ... فيه سمينا وغثّا
فالبس لدهر جديدا ... والبس لآخر رثّا (2)
__________
(1) تغثى: تقيأ.
(2) المعنى: ينبغي أن يتكيف المرء مع تقلبات الزمان ويتقبّل حلوه ومره وسمينه وغثه.(1/156)
37 - المقامة النّاجميّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
بتّ ذات ليلة في كتيبة فضل من رفقائي (1)، فتذاكرنا الفصاحة، وما ودّعنا الحديث حتّى قرع علينا الباب، فقلت: من المنتاب؟ فقال:
وفد اللّيل وبريده، وفلّ الجوع وطريده (2)، وغريب نضوه طليح وعيشه تبريح، ومن دون فرخيه مهامه فيح (3)، وضيف ظلّه خفيف، وضالّته رغيف، فهل منكم مضيف؟ فتبادرنا إلى فتح الباب وأنخنا راحلته، وجمعنا رحلته (4)، وقلنا: دارك أتيت، وأهلك وافيت، وهلمّ
__________
(1) الكتيبة: قسم من الجيش. وتعني هنا الجماعة.
(2) الوفد: الجماعة الذين يأتون لأمر. بريده: رسوله. الفل: المنهزم.
(3) النضو: البعير الهزيل. طليح: تعب منهوك. تبريح: جهد وعناء. فرخيه:
طفليه. المهامه: الصحارى. فيح: واسعة.
(4) رحلته: متاعه.(1/157)
البيت، وضحكنا إليه، ورحّبنا به، وأريناه ضالّته (1)، وساعدناه حتّى شبع، وحادثناه حتّى أنس، وقلنا: من الطّالع بمشرقه، الفاتن بمنطقه؟؟ فقال: لا يعرف العود كالعاجم، وأنا المعروف بالنّاجم (2)، عاشرت الدّهر لأخبره، فعصرت أعصره، وحلبت أشطره (3)، وجرّبت النّاس لأعرفهم، فعرفت منهم غثّهم وسمينهم، والغربة لأذوقها، فما لمحتني أرض إلّا فقأت عينها، ولا انتظمت رفقة إلّا ولجت بينها (4)، فأنا في الشّرق أذكر، وفي الغرب لا أنكر، فما ملك إلّا وطنت بساطه، ولا خطب إلّا خرقت سماطه (5)، وما سكنت حرب إلّا وكنت فيها سفيرا، قد جرّبني الدّهر في زمني رخائه وبوسه، ولقيني بوجهي بشره وعبوسه، فما بحت لبوسه، إلّا بلبوسه (6):
وإن كان صرف الدّهر قدما أضرّ بي ... وحمّلني من ريبه ما يحمّل
فقد جاء بالإحسان حيث أحلّني ... محلّة صدق ليس عنها محوّل
قلنا: لا فضّ فوك، ولله أنت وأبوك، ما يحرم السّكوت إلّا عليك، ولا يحلّ النّطق إلّا لك، فمن أين طلعت؟ وأين تغرب؟ وما الّذي يحدو أملك أمامك، ويسوق غرضك قدّامك؟؟. قال: أمّا الوطن فاليمن،
__________
(1) ضالته: ما يطلب.
(2) عجم العود: عضه ليختبر صلابته. الناجم: الظاهر الذي لا يخفى على أحد.
(3) الأعصر: الأزمنة. الأشطر: أخلاف الناقة. والمثل «حلبت الدهر أشطره» يعني عرفت حلوه ومره وخيره وشره.
(4) ولج المكان: دخل فيه.
(5) الخطب: الأمر الجسيم والكربة العظيمة. سماطه: جماعة الجيش.
(6) المعنى انه لبس لكل حالة لباسها (لبوسها).(1/158)
وأمّا الوطر فالمطر، وأمّا السّائق فالضّرّ، والعيش المرأ (1)، قلنا: فلو أقمت بهذا المكان لقاسمناك العمر فما دونه، ولصادفت من الأمطار ما يزرع، ومن الأنواء ما يكرع، قال: ما أختار عليكم صحبا، ولقد وجدت فناءكم رحبا، ولكنّ أمطاركم ماء والماء لا يروي العطاش، قلنا: فأيّ الأمطار يرويك؟ قال: مطر خلفيّ (2)، وأنشأ يقول:
سجستان أيّتها الرّاحله ... وبحرا يؤمّ المنى ساحله (3)
ستقصد أرجان إن زرتها ... بواحدة مائة كامله (4)
وفضل الأمير على ابن العميد ... كفضل قريش على باهله (5)
قال عيسى بن هشام: فخرج وودّعناه وأقمنا بعده برهة نشتاقه، ويؤلمنا فراقه، فبينا نحن بيوم غيم في سمط الثّريّا جلوس إذ المراكب تساق، والجنائب تقاد، وإذا رجل قد هجم علينا (6)، فقلنا:
من الهاجم؟ فإذا شيخنا النّاجم، يرفل في نيل المنى، وذيل الغنى،
__________
(1) المعنى ان وطني هو اليمن وغايتي المال (الوطر المطر)، والسبب (السائق) الذي حملني إلى هنا هو الفقر والحاجة.
(2) خلفي: نسبة إلى الأمير خلف بن أحمد الذي أهدى إليه البديع مقاماته.
ويعني أنه كان يجزل له العطاء.
(3) سجستان: بلد في إيران يحكمها الأمير خلف بن أحمد. المعنى اقصدي أيتها الراحلة سجستان حيث تجدين ما تتمنين.
(4) أرجان: بلد في إيران، والمعنى ستنال إذا أممت أرجان أمانيك مضاعفة.
(5) ابن العميد: هو محمد بن الحسن العميد، نبغ في الكتابة واتصل بآل بويه ووزر لهم ووطد دولتهم واكرم الأدباء والشعراء والعلماء ومنهم المتنبي الذي مدحه وأعجب بأدبه وعلمه. وتوفي سنة 360هـ. وقد أولع بالرسائل البديعية الحافلة بالسجع والجناس والمطابقة.
(6) الجنائب: الدابة الرديف. هجم علينا: طلع بغتة.(1/159)
فقمنا إليه معانقين، وقلنا: ما وراءك يا عصام (1)، فقال: جمال موقرة، وبغال مثقلة، وحقائب مقفلة (2)، وأنشأ يقول:
مولاي أيّ رذيلة لم يأبها ... خلف؟ وأيّ فضيلة لم يأتها؟
ما يسمع العافين إلّا هاكها ... لفظا، وليس يجاب إلّا هاتها
إنّ المكارم أسفرت عن أوجه ... بيض، وكان الخال في وجناتها
بأبي شمائله الّتي تجلو العلا ... ويدا ترى البركات في حركاتها
من عدّها حسنات دهر إنّني ... ممّن يعدّ الدّهر من حسناتها (3)
قال عيسى بن هشام: فسألنا الله بقاءه، وأن يرزقنا لقاءه، وأقام النّاجم أيّاما مقتصرا من لسانه، على شكر إحسانه، ولا يتصرّف من كلامه، إلّا في مدح أيّامه، والتّحدّث بإنعامه.
__________
(1) ما وراءك يا عصام: مثل يضرب للاستفسار عن أمر ملح. وعصام هو حاجب النعمان أبي قابوس. وقد أخذ المثل من شعر للنابغة الذبياني عندما وفد على النعمان وهو مريض فمنعه الحاجب فقال:
ألم أقسم عليك لتخبرني ... أمحمول على النعش الهمام
فإني لا ألام على دخول ... ولكن ما وراءك يا عصام
فإن تهلك أبا قابوس يهلك ... ربيع الناس والبلد الحرام
(2) يقصد بالجمال المحملة والبغال المثقلة بأحمالها، والحقائب المملوءة، الخيرات والأموال الكثيرة التي يملكها.
(3) العافين: طالبي الفضل. هاكها: خذها. الخال: نقطة سوداء تكون في الصدغ الأبيض. ومعنى الأبيات أن خلف بن أحمد كريم يغدق العطايا على السائلين وانه صاحب مكرمات وصفات عالية.(1/160)
38 - المقامة الخلفيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
لمّا ولّيت أحكام البصرة، وانحدرت إليها عن الحضرة (1)، صحبني في المركب شابّ كأنّه العافية في البدن، فقال: إنّي في أعطاف الأرض وأطرافها ضائع، لكنّي أعدّ معدّ ألف، وأقوم مقام صفّ، وهل لك أن تتّخذني صنيعة (2)، ولا تطلب منّي ذريعة، فقلت: وأيّ ذريعة آكد من فضلك؟ وأيّ وسيلة أعظم من عقلك؟؟ لا بل أخدمك خدمة الرّفيق، وأشاركك في السعة والضّيق، وسرنا فلمّا وصلنا البصرة غاب عنّي أيّاما، فضقت لغيبته ذرعا (3)، ولم أملك
__________
(1) الحضرة: الخليفة.
(2) الصنيعة: الشخص الذي تربيه وتخرجه وتحسن إليه وتتخذه مساعدا لك وخادما.
(3) ضاق به ذرعا: لم يقدر عليه أو لم يطقه.(1/161)
صبرا، فأخذت أفتّش جيوب البلد حتّى وجدته (1)، فقلت: ما الّذي أنكرت؟ ولم هجرت؟ فقال: إنّ الوحشة تقدح في الصّدر اقتداح النّار في الزّند، فإن أطفئت بادت وتلاشت، وإن عاشت، طارت وطاشت (2)، والقطر إذا تتابع على الإناء امتلأ وفاض (3)، والعتب إذا ترك فرّخ وباض (4)، والحرّ لا يعلقه شرك كالعطاء، ولا يطرده سوط كالجفاء (5)، وعلى كلّ حال، ننظر من عل، على الكريم نظر إدلال، وعلى اللّئيم نظر إذلال، فمن لقينا بأنف طويل، لقيناه بخرطوم فيل، ومن لحظنا بنظر شزر، بعناه بثمن نزر (6)، وأنت لم تغرسني ليقلعني غلامك، ولا اشتريتني لتبيعني خدّامك، والمرء من غلمانه، كالكتاب من عنوانه (7)، فإن كان جفاؤهم شيئا أمرت به فما الّذي أوجب؟ وإن لم تكن علمت به كان أعجب!! ثمّ قال:
ظفرت يدا خلف بن أحمد إنّه ... سهل الفناء مؤدّب الخدّام (8)
أو ما رأيت الجود يجتاز الورى ... ويحلّ من يده بدار مقام (9)
__________
(1) جيوب البلد: جمع جيب وهو المدخل.
(2) بادت: هلكت. تلاشت: تضاءلت، انمحت آثارها.
(3) القطر: المطر.
(4) العتب: البلاء والشدة.
(5) المعنى: لا يملك الحر كالإحسان إليه ولا ينفره سوى الاساءة إليه.
(6) المعنى: من يتكبر علينا نزدريه ونتخلى عنه. نظر إليه. شزرا: بغضب.
الثمن النزر: القليل أو البخس.
(7) المعنى: إن خدام السيد ينبئون عن اخلاف سيدهم.
(8) سهل الفناء: كريم الوفادة. المعنى: ادعو لخلف بالنماء والقوة لأنه جواد.
(9) المعنى: إن الكرم يتجاوز الناس ليصل إلى خلف ويقيم عنده.(1/162)
قال عيسى بن هشام: ثمّ أعرض وتبعته أستعطفه (1)، وما زلت ألاطفه حتّى انصرف، بعد أن حلف، [أن] لا أوردت من أساء عشرته، فوهبت له حرمته (2)
__________
(1) أعرض: سار معرضا. استعطفه: أطلب عطفه وشفقته.
(2) المعنى: انه رد له كرامته الحاصلة من اهانة الخادم إياه بأن طرد ذلك الخادم.(1/163)
39 - المقامة النّيسابوريّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
كنت بنيسابور (1) يوم جمعة، فحضرت المفروضة (2)، ولمّا قضيتها اجتاز بي رجل قد لبس دنّيّة (3) وتحنّك سنّيّة (4)، فقلت لمصلّ بجنبي: من هذا؟ قال: هذا سوس لا يقع إلّا في صوف الأيتام، وجراد لا يسقط، إلّا على الزّرع الحرام (5)، ولصّ لا ينقب إلّا خزانة
__________
(1) نيسابور: مدينة في إيران كانت مركزا من مراكز الثقافة عند الفتح العربي.
واسهم علماؤها في حركة النقل.
(2) المفروضة: فريضة الصلاة.
(3) دنية: قلنسوة طويلة يلبسها القضاة.
(4) تحنّك: جعل عمامة تدور من تحت حنكه. سنية: نسبة إلى أهل السنة والجماعة.
(5) يشبه القاضي بالسوس الذي يأكل الثياب الصوفية والجراد الذي يأكل المحاصيل الزراعية، ليدل على أنه يأكل أموال الناس زورا.(1/164)
الأوقاف، وكرديّ لا يغير إلّا على الضّعاف، وذئب لا يفترس عباد الله إلّا بين الرّكوع والسّجود، ومحارب لا ينهب مال الله إلّا بين العهود والشّهود، وقد لبس دنّيّته، وخلع دينيّته (1)، وسوّى طيلسانه، وحرّف يده ولسانه (2)، وقصّر سباله، وأطال حباله (3)، وأبدى شقاشقه، وغطّى مخارقه (4)، وبيّض لحيته، وسوّد صحيفته (5)، وأظهر ورعه، وستر طمعه، قلت: لعن الله هذا، فمن أنت؟. قال: أنا رجل أعرف بالاسكندريّ، فقلت: سقى الله أرضا أنبتت هذا الفضل، وأبا خلّف هذا النّسل، فأين تريد؟ قال: الكعبة، فقلت: بخّ بخّ بأكلها ولما تطبخ (6)، ونحن إذا رفاق، فقال: كيف ذلك وأنا مصعّد وأنت مصوّب؟! قلت: فكيف تصعّد إلى الكعبة؟ قال: أما إنّي أريد كعبة المحتاج، لا كعبة الحجّاج، ومشعر الكرم، لا مشعر الحرم، وبيت
__________
(1) دينيته: صفته الدينية.
(2) الطيلسان: رداء أخضر يلبسه عادة النساك. حرف يده ولسانه: احدهما.
(3) قصر سباله: قصر شواربه علامة الورع.
حباله: أي شباكه التي يصيد بها أحوال الناس.
(4) الشقاشق، جمع شقشقة: ما يخرج من فحل الابل لدى هياجه وترجيع هديره. وشبّه به الخطيب الذي يعلو صوته مع ذرابة اللسان. مخارقه: جمع مخرقة. ومخرق الرجل إذا أوهم في كلامه انه على حق وهو ليس لذلك في الواقع.
(5) بيض لحيته: خطها الشيب دليل التقدم في السن. وسود صفحته: سيرته سيئة.
(6) بخ بخ: عظم الأمر وفخم. تقال للدلالة على الإعجاب والمديح.(1/165)
السّبي، لا بيت الهدي، وقبلة الصّلات، لا قبلة الصّلاة، ومنى الضّيف، لا منى الخيف (1)، قلت: وأين هذه المكارم؟ فأنشأ يقول:
بحيث الدّين والملك المؤيّد ... وخدّ المكرمات به مورّد
بأرض تنبت الآمال فيها ... لأنّ سحابها خلف بن أحمد
__________
(1) مشعر، مشاعر الحج: معالمه. بيت السبي: بيت الغنائم. منى الخيف:
موضع في مكة تقدم فيها الذبائح.(1/166)
40 - المقامة العلميّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
كنت في بعض مطارح الغربة مجتازا، فإذا أنا برجل يقول لآخر: بم أدركت العلم؟ وهو يجيبه، قال: طلبته فوجدته بعيد المرام، لا يصطاد بالسّهام، ولا يقسم بالأزلام (1)، ولا يرى في المنام، ولا يضبط باللّجام، ولا يورث عن الأعمام، ولا يستعار من الكرام، فتوسّلت إليه بافتراش المدر (2)، واستناد الحجر، وردّ
__________
(1) بعيد المرام: بعيد المطلب. الازلام: جمع زلم، أي القدح، كان العرب في الجاهلية يستقسمون بالاقداح عند أصنامهم فيضع الرجل فيها عشرة في وعاء ويكتب عليها: افعل أو لا تفعل، وقبل أن يقدم على زواج أو سفر أو أمر مهم يدخل يده في الوعاء ويخرج واحدا منها. فإذا كان أمرا مضى في عمله، وإذا خرج نهيا أحجم. منها سبعة سعد أهمها المعلى، ومنها ثلاثة نحس هي وغد وسفيح ومنيح.
(2) توسلت إليه بافتراش المدر: جعلت من تحمل المشقات والصبر والسهر وكثرة التأمل سبيلا إلى العلم.(1/167)
الضّجر، وركوب الخطر، وإدمان السّهر، واصطحاب السّفر، وكثرة النّظر، وإعمال الفكر، فوجدته شيئا لا يصلح إلّا للغرس، ولا يغرس إلّا في النّفس (1)، وصيدا لا يقع إلا في النّدر (2)، ولا ينشب إلّا في الصّدر (3)، وطائرا لا يخدعه إلّا قنص اللّفظ، ولا يعلقه إلّا شرك الحفظ (4)، فحملته على الرّوح، وحبسته على العين (5)، وأنفقت من العيش، وخزنت في القلب، وحرّرت بالدّرس (6)، واسترحت (7) من النّظر إلى التّحقيق، ومن التّحقيق إلى التّعليق، واستعنت في ذلك بالتّوفيق، فسمعت من الكلام ما فتق السّمع ووصل إلى القلب وتغلغل في الصّدر، فقلت: يا فتى، ومن أين مطلع هذه الشّمس؟
فجعل يقول:
إسكندريّة داري ... لو قرّ فيها قراري
لكنّ بالشّام ليلي ... وبالعراق نهاري
__________
(1) يعني أن العلم كالغرس أو الزرع لا ينال دفعة واحدة بل يقتضي غرس النصوب أو البذور أولا ثم تعهدها بالعناية والسقاية والانماء حتى تنمو وتورق وتزهر وتحمل الثمار وتينع الخ. والنفس هي التربة الصالحة للغرس والزرع وليس الجسم.
(2) يعني أن العلم كالصيد يقتنص اقتناصا ولا يحالف المرء التوفيق دائما في إدراكه.
(3) لا ينشب إلا في الصدر: لا يعلق إلا في الصدر.
(4) يعني أن العلم كالطائر لا سبيل لقنصه إلا اشراك اللفظ ولا لتملكه إلا الحفظ.
(5) يعني أنه حمل العلم في روحه ورعاه في عينه.
(6) حررت المسائل: وقفت على دقائقها.
(7) استرحت: أي انتقلت. يعني أنه كان ينظر في المسائل أو يفكر فيها ثم يتحقق منها ويعلق عليها أو يبدي رأيه فيها.(1/168)
41 - المقامة الوصيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
لمّا جهّز أبو الفتح الإسكندريّ ولده للتّجارة أقعده يوصّيه، فقال بعد ما حمد الله وأثنى عليه، وصلّى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم يا بنيّ إنّي وإن وثقت بمتانة عقلك، وطهارة أصلك، فإنّي شفيق، والشّفيق سيّىء الظّنّ، ولست آمن عليك النّفس وسلطانها، والشّهوة وشيطانها، فاستعن عليهما نهارك بالصّوم، وليلك بالنّوم، إنّه لبوس ظهارته الجوع، وبطانته الهجوع (1)، وما لبسهما أسد إلّا لانت سورته (2)، أفهمتهما يا ابن الخبيثة؟ وكما أخشى عليك ذاك، فلا آمن
__________
(1) الهجوع: النوم.
(2) الأسد: التوفيق. السورة: الشدة والسطوة.(1/169)
عليك لصّين: أحدهما الكرم، واسم الآخر القرم (1)، فإيّاك وإيّاهما إنّ الكرم أسرع في المال من السّوس، وإنّ القرم أشأم من البسوس (2). ودعني من قولهم «إنّ الله كريم» إنّها خدعة الصّبي عن اللّبن، بلى إنّ الله لكريم، ولكنّ كرم الله يزيدنا ولا ينقصه، وينفعنا ولا يضرّه، ومن كانت هذه حاله، فلتكرم خصاله، فأمّا كرم لا يزيدك حتّى ينقصني، ولا يريشك حتّى يبريني (3)، فخذلان لا أقول عبقريّ، ولكن بقريّ (4). أفهمتهما يا ابن المشؤومة؟ إنّما التّجارة، تنبط (5)
الماء من الحجارة، وبين الأكلة والأكلة ريح البحر، بيد أن لا خطر، والصّين غير أن لا سفر، افتتركه وهو معرض ثمّ تطلبه وهو معوز (6)؟
أفهمتها لا أمّ لك؟ إنّه المال عافاك الله فلا تنفقنّ إلّا من الرّبح، وعليك بالخبز والملح، ولك في الخلّ والبصل رخصة ما لم تذمّهما،
__________
(1) القرم: شدة الشهوة إلى اللحم أو الطعام عامة.
(2) البسوس: هي خالة جساس بن مرة. نزلت ضيفة عليه ومعها ناقة اسمها سراب، أطلقتها ترعى في حمى كليب وائل، فرآها كليب وأنكرها ورماها بسهم، فاستغاثت البسوس بابن أخيها فذهب وقتل كليبا، فاشتعلت الحرب بين قبيلتي جساس وكليب أبي بكر ووائل واستمرت زمنا طويلا. فكانت البسوس شؤما على قومها جميعا.
(3) يريش: أي يجعل له ريشا. يبريه: ينحته. والمعنى أن الكرم الذي ينقص مال شخص ليزيد في مال آخر ليس فضيلة أو صادرا عن عقل راجح.
(4) عبقري: وليد العبقرية أو شدة الذكاء والحذق. بقري: كذب ودهاء.
(5) تنبط: تخرج.
(6) ريح البحر: الشدة والخطر. الصين: كناية عن البعد. والمعنى: فكر فيما تبذله من جهد في تحصيل قوتك وأن البحر قد هاج عليك وأنت مسافر، فإنك تطلب النجاة. وإذا كان الأمر كذلك فينبغي ألا تنفق مالك بالجود.(1/170)
ولم تجمع بينهما، واللّحم لحمك وما أراك تأكله، والحلو طعام من لا يبالي على أيّ جنبيه يقع، والوجبات عيش الصّالحين (1)، والأكل على الجوع واقية الفوت (2)، وعلى الشّبع داعية الموت، ثمّ كن مع النّاس كلاعب الشّطرنج: خذ كلّ ما معهم، واحفظ كلّ ما معك. يا بنيّ قد أسمعت وأبلغت، فإن قبلت فالله حسبك، وإن أبيت فالله حسيبك، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) الوجبات: الأكلة الواحدة في اليوم.
(2) الفوت: الفقر والحاجة.(1/171)
42 - المقامة الصّيمريّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
قال محمّد بن إسحاق المعروف بأبي العنبس الصّيمريّ (1): إنّ ممّا نزل بي من إخواني الذين اصطفيتهم وانتخبتهم وادّخرتهم للشّدائد ما فيه عظة وعبرة وأدب لمن اعتبر واتّعظ وتأدّب.
وذلك أنّي قدمت من الصّيمرة إلى مدينة السّلام (2)، ومعي جراب دنانير ومن الخرثي (3) والآلة وغير ذلك ما لا أحتاج معه إلى أحد، فصحبت من أهل البيوتات والكتّاب والتّجّار، ووجوه الثّناء من أهل الثّروة واليسار، والجدّة والعقار (4)، جماعة اخترتهم للصّحبة،
__________
(1) نسبة إلى الصيمرة وهي ناحية بالبصرة. ومحمد بن إسحاق هذا الذي نسبت إليه كتب في الهزل، وقد توفي حوالي سنة 275هـ.
(2) مدينة السلام: بغداد.
(3) الخرثي: الأثاث وكل ما يحتاج إليه في الأعمال.
(4) الجدة: الغنى وسعة الرزق ورفاهة العيش.(1/172)
وادّخرتهم للنّكبة، فلم نزل في صبوح وغبوق (1) نتغدّى بالجدايا الرّضّع والطّباهجات الفارسيّة، والمدقّقات الإبراهيميّة، والقلايا المحرقة والكباب الرّشيديّ والحملان (2)، وشرابنا نبيذ العسل، وسماعنا من المحسنات الحذّاق، الموصوفات في الآفاق، ونقلنا اللّوز المقشّر والسّكر والطّبرزد (3)، وريحاننا الورد، وبخورنا النّدّ (4)، وكنت عندهم أعقل من عبد الله بن عبّاس (5) وأظرف من أبي نواس، وأسخى من حاتم (6)، وأشجع من عمرو (7)، وأبلغ من سحبان
__________
(1) الصبوح والغبوق: ما كان عندك من الشراب صباحا ومساء.
(2) الجدايا: جمع جدي أي ولد العنز. الطباهجات: جمع طباهجة وهي ضرب من اللحم المشرح. المدققات: اللحم المقطع قطعا صغيرة ثم يكتل كتلا متوسطة (الكفتة). الإبراهيمية: نسبة إلى إبراهيم بن المهدي الذي اشتهر بتأنقه بها. القلايا: ما يقلى من اللحم وغيره، جمع قليّة. المحرقة: التي تزيد في العطش. الكباب الرشيدي: نسبة إلى هارون الرشيد الذي كان يحبه، والحملان: ولد الغنم.
(3) الطبرزد: نوع من السكر الصلب.
(4) الند: البخور.
(5) عبد الله بن عباس: هو عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، ابن عم الرسول. عرف بتبحره بالدين فكان فقيها عالما بالتأويل حكما. توفي في الطائف سنة 68هـ.
(6) اسخى من حاتم: هو حاتم الطائي أدرك مولد الرسول ومات قبل مبعثه.
اجتمعت فيه خصلتان الشاعرية والكرم وكان لا يرد لسائل طلبا ويجود بكل ما ملكت يداه، فضرب به المثل وقيل: أكرم من حاتم.
(7) أشجع من عمرو: هو عمرو بن معد يكرب الزبيدي. وفد على النبي في السنة العاشرة للهجرة وأسلم ثم ارتد، ثم تاب وأبلى بلاء حسنا في الحروب الإسلامية ولا سيما في معركتي القادسية واليرموك. واعتبر في الإسلام كما كان في الجاهلية بطلا عظيما وفارسا شجاعا يضرب به المثل. وهو عدا ذلك شاعر مطبوع، نسبت إليه أشعار في الفخر ووصف الحرب والغزل.(1/173)
وائل (1)، وأدهى من قصير (2)، وأشعر من جرير، وأعذب من ماء الفرات، وأطيب من العافية، لبذلي ومروءتي، وإتلاف ذخيرتي، فلمّا خفّ المتاع، وانحطّ الشّراع، وفرغ الهراب، تبادر القوم الباب، لمّا أحسّوا بالقصّة، وصارت في قلوبهم غصّة، ودعوني برصة (3)، وانبعثوا للفرار، كرمية الشّرار، وأخذتهم الضّجرة، فانسلّوا قطرة قطرة، وتفرّقوا يمنة ويسرة، وبقيت على الآجرّة، قد أورثوني الحسرة، واشتملت منهم عليّ العبرة، لا أساوي بعرة، وحيدا فريدا كالبوم، الموسوم بالشّوم، أقع وأقوم، كأنّ الّذي كنت فيه لم يكن، وندمت حين لم تنفعني النّدامة، فبدّلت بالجمال وحشة، وصارت بي طرشة، أقبح من رهطة المنادي (4)، كأنّي راهب عباديّ، وقد ذهب المال وبقي الطّنز (5)، وحصل بيدي ذنب العنز، وحصلت في بيتي وحدي متفتّتة كبدي، لتعس جدّي، قد قرّحت دموعي خدّي، أعمر منزلا درست
__________
(1) سحبان وائل: هو سحبان بن زفر بن أياد الوائلي الربيعي. نشأ في الجاهلية ولما جاء الإسلام أسلم وتقلبت به الأحوال حتى اتصل بمعاوية وأيده. كان خطيبا مصقعا ذرب اللسان حاضر البديهة يخطب الساعات دون نحنحة أو سعال أو توقف أو تلكؤ ولا ترديد معنى.
(2) أدهى من قصير: من أصحاب الرأي في الجاهلية. كان مقربا من جذيمة الأبرش، الذي استدعته الزباء ملكة تدمر عارضة عليه الزواج والملك.
فاستشار خاصته فأشاروا عليه بأن يسير إليها عدا قصيرا الذي قال مخالفا لهم: هذا رأي فاتر وعذر حاضر. وأشار عليه باستدعائها بدل الذهاب إليها.
فلم يسمع رأيه وذهب إليها فقتل.
(3) البرصة: دويبة صغيرة حقيرة.
(4) رهطة: رجل ضرب به المثل في الصمم.
(5) الطنز: المهانة والسخرية.(1/174)
طلوله (1)، وعفت معالمه سيوله، فأضحى وأمسى بربعه الوحوش، تجول وتنوش، وقد ذهب جاهي، ونفدت صحاحي (2)، وقلّ مراحي، وسلحت في راحي (3)، ورفضني النّدماء، والإخوان القدماء، لا يرفع لي رأس، ولا أعدّ من النّاس، أوتح من بزيع الهرّاس، ورزين المرّاس (4)، أتردّد على الشّطّ، كأنّي راعي البطّ، أمشي وأنا حافي، وأتبع الفيافي، عيني سخينة، ونفسي رهينة (5)، كأنّي مجنون قد أفلت من دير، أو عير يدور في الحير (6)، أشدّ حزنا من الخنساء على صخر (7)، ومن هند على عمرو (8). وقد تاه عقلي، وتلاشت صحّتي، وفرغت صرّتى، وفرّ غلامي، وكثرت أحلامي، وجزت في الوسواس المقدار، فصرت بمنزلة العمّار، وشيطان الدّار، أظهر باللّيل وأخفى بالنّهار، أشأم من حفّار، وأثقل من كراء الدّار، وأرعن من طيطيء
__________
(1) قرحت دموعي خدي: جرحته. درست طلوله: امحت آثاره.
(2) صحاحي: ما هو صحيح وثابت عندي.
(3) مراحي: مبادرتي للمعروف. سلحت في راحي: أفسدت على نفسي.
(4) أوتح: أضعف، أحط قيمة من الهراس أي صانع الهريسة. المراس: صانع المرس. بزيع ورزين: اسما رجلين كانا يصنعان الهريسة والمرس.
(5) عيني سخينة: ضد عيني قريرة. يقال أسخن الله عينه، وسخنت عينه، كما يقال أقر الله عينه، وقرت عينه. نفسي رهينة: محبوسة، وضيقة.
(6) العير: الحمار. الحير: الحظيرة.
(7) الخنساء: هي تماضر بنت عمرو بن الشريد السلمية شاعرة جاهلية أدركت الإسلام وأسلمت وحسن إسلامها. قتل أخواها صخر ومعاوية فبكتهما بكاء شديدا وظلت ترثيهما بشعرها حتى موتها. فكانت أحزن من بكى وندب.
(8) من هند على عمرو: هو عمرو بن المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة الذي قتله سيد تغلب وشاعرها وفارسها عمرو بن كلثوم. وهند هي أمه ولذا عرف بعمرو بن هند وقد وجدت عليه كثيرا.(1/175)
القصّار (1)، وأحمق من داود العصّار، قد حالفتني القلة، وشملتني الذّلة، وخرجت من الملّة، وأبغضت في الله، وكنت أبا العنبس، فصرت أبا عملّس (2)، قد ضللت المحجّة، وصارت عليّ الحجّة، لا أجد لي ناصرا، والإفلاس عندي أراه حاضرا، فلمّا رأيت الأمر قد صعب، والزّمان قد كلب، التمست الدّرهم فإذا هو مع النّسرين، وعند منقطع البحرين، وأبعد من الفرقدين (3) فخرجت أسيح، كأنّي المسيح، فجلت خراسان، الخراب منها والعمران، إلى كرمان وسجستان، وجيلان إلى طبرستان وإلى عمان إلى السّند، والهند، والنّوبة، والقبط، واليمن، والحجاز، ومكّة، والطّائف، أجول البراريّ والقفار، وأصطلي بالنّار، وآوي مع الحمار، حتّى اسودّت وجنتاي، وتقلّصت خصيتاي، فجمعت من النّوادر والأخبار والأسمار، والفوائد والآثار، وأشعار المتطرّفين، وسخف الملهين، وأسمار المتيّمين، وأحكام المتفلسفين، وحيل المشعوذين، ونواميس المتمخرقين (4)، ونوادر المنادمين، ورزق المنجّمين، ولطف المتطبّبين، وكياد المخنّثين (5) ودخمسة الجرابذة (6)، وشيطنة الأبالسة، ما قصّر عنه فتيا
__________
(1) العمار: الجن. الحفار: حفار القبور. كراء الدار: المستأجر. القصار: الذي صناعته تقصير الثياب. طيطىء: اسم رجل.
(2) العنبس: الأسد. العملس: الذئب.
(3) النسران: كوكبان يدعيان النسر الطائر والنسر الواقع. البحران: المحيط الغربي والمحيط الشرقي. الفرقدان: نجمان يقعان بالغرب من المحيط الشمالي.
(4) نواميس المتمخرقين: طرق الكذابين والمخادعين.
(5) المخنث: الرجل الذي يتشبه بالنساء في لباسه وزينته وحركاته.
(6) دخمسة الجرابذة: خداع المخاتلين.(1/176)
الشّعبيّ (1)، وحقظ الضّبيّ (2)، وعلم الكلبيّ (3). فاسترفدت واجتديت، وتوسّلت وتكدّيت، ومدحت وهاجيت، حتّى كسبت ثروة من المال، واتّخذت من الصّفائح الهنديّة، والقضب اليمانيّة، والدّروع السّابريّة (4)، والدّرق التّبّتيّة، والرّماح الخطّيّة، والحراب البربرية، والخيل العتاق الجرديّة، والبغال الأرمنيّة (5)، والحمر المريسيّة، والدّيابيج الرّوميّة، والخزوز السّوسيّة، وأنواع الطّرف واللّطف (6)، والهدايا والتّحف، مع حسن الحال، وكثرة المال، فلمّا قدمت بغداد ووجد القوم خبري، وما رزقته في سفري، سرّوا بمقدمي، وصاروا بأجمعهم إليّ، يشكون ما عندهم من الوحشة لفقدي، وما نالهم لبعدي، وشكوا شدّة الشّوق، ورزء التّوق، وجعل
__________
(1) الشعبي: هو عامر بن شراحيل الحميري الكوفي. ولد في خلافة عمر بن الخطاب وروى عن عمر وعلي وابن مسعود وعائشة وابن عباس وغيرهم من الصحابة. وروى عنه ابن سيرين الأعمش وشعبة وآخرون.
(2) الضّبي: هو المفضل بن محمد الطبي الكوفي. جمع الأشعار المختارة «المفضليات» وله أيضا كتاب الأمثال وكتاب معاني الشعر وكتاب العروض.
توفي سنة 168هـ.
(3) الكلبي: هو هشام بن السائب بن بشر الكلبي الكوفي، كان نسابة عالما بأخبار العرب وأيامها. أهم كتبه «النسب الكبير» للقبائل العربية الكبرى، وكتاب نسب الخيل وكتاب تنكيس الأصنام. توفي سنة 204هـ.
(4) الصفائح الهندية: السيوف الهندية. القصب اليمانية: السيوف المصنوعة في اليمن. الدروع السابرية: نسبة إلى سابور ملك الفرس.
(5) الدرق التبتية: التروس المصنوعة في هضبة التبت. الرماح الخطية: الرماح المصنوعة في بلدة الخط وهي مرفأ في البحرين.
(6) الديباج: ثوب من حرير. الخزوز، جمع خز: ثوب مصنوع من صوف وحرير. والسوس: بلد في الأهواز.(1/177)
كلّ واحد منهم يعتذر ممّا فعل، ويظهر النّدم على ما صنع، فأوهمتهم أنّي قد صفحت عنهم، ولم أظهر لهم أثر الموجدة عليهم بما تقدّم، فطابت نفوسهم، وسكنت جوارحهم، وانصرفوا على ذلك، وعادوا إليّ في اليوم الثّاني، فحبستهم عندي، ووجّهت وكيلي إلى السّوق فلم يدع شيئا تقدّمت إليه بشرائه إلّا أتى به، وكانت لنا طبّاخة حاذقة، فاتخذت عشرين لونا من قلايا محرقات، وألوانا من طباهجات، ونوادر معدّات، وأكلنا وانتقلنا إلى مجلس الشّراب، فأحضرت لهم زهراء خندريسيّة (1)، ومغنّيات حسان محسنات، فأخذوا في شأنهم وشربنا، فمضى لنا أحسن يوم يكون، وقد كنت استعددت لهم بعددهم خمسة عشر صنّا من صنان الباذنجان، كلّ صنّ بأربعة آذان (2)، واستأجر غلامي لكلّ واحد منهم حمّالا كلّ حمّال بدرهمين، وعرّف الحمالين منازل القوم، وتقدّم إليهم بالموافاة بعشاء الآخرة، وتقدّمت إلى غلامي وكان داهية أن يدفع إلى القوم بالمنّ والرّطل، ويصرف لهم، وأنا أبخّر بين أيديهم النّدّ والعود والعنبر، فما مضت ساعة إلّا وهم من السّكر أموات لا يعقلون، ووافانا غلمانهم عند غروب الشّمس كلّ واحد منهم بدابّة أو حمار أو بغلة، فعرّفتهم أنّهم عندي اللّيلة بائتون، فانصرفوا، ووجّهت إلى بلال المزيّن فأحضرته، وقدّمت إليه طعاما فأكل، وسقيته من الشّراب القطربّلى، فشرب حتّى ثمل، وجعلت في فيه دينارين أحمرين، وقلت: شأنك والقوم، فحلق في ساعة واحدة خمس عشرة لحية، فصار القوم جردا مردا، كأهل الجنّة، وجعلت لحية كلّ واحد منهم مصرورة في ثوبه، ومعها رقعة مكتوب فيها: «من أضمر بصديقه الغدر وترك الوفاء، كان هذا مكافأته والجزاء»، وجعلتها
__________
(1) زهراء خندريسية: خمر متلألئة.
(2) الصن: السلة.(1/178)
في جيبه، وشددناهم في الصّنان، ووافى الحمّالون عشاء الآخرة، فحملوهم بكرّة خاسرة، فحصلوا في منازلهم، فلمّا أصبحوا رأوا في نفوسهم همّا عظيما، لا يخرج منهم تاجر إلى دكّانه، ولا كاتب إلى ديوانه، ولا يظهر لإخوانه، فكان كلّ يوم يأتي خلق كثير من خولهم ومن نساء وغلمان ورجال يشتمونني ويزنّونني، ويستحكمون الله عليّ، وأنا ساكت لا أردّ عليهم جوابا، ولا أعبأ بمقالهم، وشاع الخبر بمدينة السّلام بفعلي معهم، ولم يزل الأمر يزداد حتّى بلغ الوزير القاسم بن عبيد الله (1)، وذلك أنّه طلب كاتبا له فافتقده، فقيل: إنّه في منزله لا يقدر على الخروج، قال: ولم؟ قيل: من أجل ما صنع أبو العنبس لأنّه كان امتحن بعشرته ومنادمته، فضحك حتّى كاد يبول في سراويله أو بال، والله أعلم. ثمّ قال: والله لقد أصاب وما أخطأ فيما فعل، ذروه فإنّه من أعلم النّاس بهم، ثمّ وجّه إليّ خلعة سنيّة، وقاد فرسا بمركب، وحمل إليّ خمسين ألف درهم، لاستحسانه فعلي، ومكثت في منزلي شهرين أنفق وآكل وأشرب، ثمّ ظهرت بعد الاستتار، فصالحني بعضهم لعلمه بما صنع الوزير، وحلف بعضهم بالطّلاق الثّلاث وبعتق غلمانه وجواريه أنّه لا يكلّمني من رأسه أبدا، فلا والله العظيم شانه، العليّ برهانه، ما اكترثت بذلك، ولا باليت، ولا حكّ أصل أذني، ولا أوجع بطني، ولا صرّني، بل سرّني، وإنّما كانت حاجة في نفس يعقوب قضاها.
وإنّما ذكرت هذا ونبّهت عليه ليؤخذ الحذر من أبناء الزّمن، وتترك الثّقة بالإخوان الأنذال السّفل، وبفلان الورّاق النّمّام الزّرّاف الّذي ينكر حقّ الأدباء، ويستخفّ بهم، ويستعير كتبهم لا يردّها عليهم، والله المستعان، وعليه التكلان.
__________
(1) القاسم بن عبيد الله: وزير المعتضد والمكتفي العباسيين.(1/179)
43 - المقامة الدّيناريّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
اتّفق لي نذر نذرته في دينار أتصدّق به على أشحذ رجل ببغداد، وسألت عنه، فدللت على أبي الفتح الإسكندريّ، فمضيت إليه، لأتصدّق [به] عليه، فوجدته في رفقة، قد اجتمعت عليه في حلقة، فقلت: يا بني ساسان (1)، أيّكم أعرف بسلعته، وأشحذ في صنعته، فأعطيه هذا الدّينار؟ فقال الاسكندريّ: أنا، وقال آخر من الجماعة: لا، بل أنا. ثمّ تناقشا وتهارشا حتّى قلت: ليشتم كلّ منكما
__________
(1) بنو ساسان: المتسولون. قيل إن ساسان هو رئيس المكدّين وأقدمهم وواضع سننهم، وقد رووا عنه قوله: «ألا ادلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى! انها الكدية». وقيل ان هذه الطائفة هي من بقايا آل ساسان من الفرس كانوا يطوفون على البلدان بعد سقوط دولة الفرس ويقولون نحن من بني ساسان، ويذكرون تلاعب الدهر بهم وانقلابه عليهم، فيستدرون عطف الناس عليهم.(1/180)
صاحبه، فمن غلب سلب، ومن عزّ بزّ، فقال الإسكندريّ. يا برد العجوز، يا كربة تمّوز (1)، يا وسخ الكوز، يا درهما لا يجوز (2)، يا حديث المغنيّن، يا سنة البوس، يا كوكب النّحوس، يا وطأ الكابوس، يا تخمة الرووس (3)، يا أمّ حبين (4) يا رمد العين، يا غداة البين، يا فراق المحبّين، يا ساعة الحين (5)، يا مقتل الحسين، يا ثقل الدّين، يا سمة الشّين، يا بريد الشّوم، يا طريد اللّوم، يا ثريد الثّوم، يا بادية الزّقّوم، يا منع الماعون (6)، يا سنة الطّاعون، يا بغي العبيد، يا آية الوعيد، يا كلام المعيد (7)، يا أقبح من حتّى، في مواضع شتّى، يا دودة الكنيف، يا فروة في المصيف، يا تنحنح المضيف إذا كسر الرّغيف، يا جشاء المخمور (8)، يا نكهة الصّقور، يا
__________
(1) برد العجوز: أشد الأيام بردا في السنة عددها سبعة، اربعة في آخر شباط، وثلاثة في أول آذار. كربة تموز: أشد الأيام حرا في شهر تموز.
(2) يا درهما لا يجوز: أي لا يتعامل به الناس لزيفه.
(3) تخمة الرؤوس: وجع الرأس المتأتي من التخمة في الطعام.
(4) أم حبين: دويبة صغيرة كريهة المنظر.
(5) غداة البين: ساعة فراق المحبين، وهي كريهة عليهم. ساعة الحين: ساعة الموت.
(6) مقتل الحسين: هو الحسين بن علي بن أبي طالب، رفض مبايعة يزيد بن معاوية، وخرج عليه فقتل في معركة كربلاء. وكان لمقتله أثر سيىء في تاريخ الإسلام.
(7) لشين: العيب. بريد الشؤم: سفير الشؤم. طريد اللؤم: المطرود من القوم للؤمه. بادية الزقوم: الأرض الواسعة الملأى بشجر الزقوم الكريه الرائحة.
الماعون: كل ما يستعمل في قدر وفأس وقدوم ومكنسة الى آخره.
(8) كلام المعيد: الكلام المكرر كثيرا فينبعث على الملل.
حتى: حرف جر اثارت مسائل عويصة بين النحاة. جشاء: تنفس.
نكهة الصقور: رائحة نفس الصقور النتنة.(1/181)
وتد الدّور، يا خذروفة القدور، يا أربعاء لا تدور، يا طمع المقمور، يا ضجر اللّسان (1) يا بول الخصيان (2)، يا مؤاكلة العميان (3)، يا شفاعة العريان، يا سبت الصّبيان (4)، يا كتاب التّعازي، يا قرارة المخازي، يا بخل الأهوازي (5)، يا فضول الرّازي (6)، والله لو وضعت إحدى رجليك على أروند (7)، والأخرى على دنباوند (8)، وأخذت بيدك قوس قزح، وندفت الغيم في جباب الملائكة (9)، ما كنت إلّا حلّاجا.
وقال الآخر: يا قرّاد القرود، يا لبود اليهود (10)، يا نكهة الأسود، يا عدما في وجود، يا كلبا في الهراش، يا قردا في الفراش، يا قرعيّة بماش يا أقلّ من لاش (11)، يا دخان النّفط، يا صنان الابط، يا
__________
(1) الاربعاء: يوم من أيام الأسبوع يعتقد انه نحس. ضجر اللسان: تعبه وعثرته.
(2) بول الخصيان: عندما يخصى الرجل ينتشر بوله ولا يقدرون على حبسه لإجراء العملية.
(3) مؤاكلة العميان: يعني أن العميان يلوثون أيديهم بالطعام لأنهم لا يرون أين يقع، فيتعذر المؤاكلة معهم.
(4) سبت الصبيان: يوم السبت يأتي بعد يوم الجمعة الذي يكون يوم عطلة عند الصبيان. لذا يستثقلون يوم السبت.
(5) بخل الأهوازي: اهل الأهواز مضرب المثل في البخل.
(6) فضول الرازي: أهل الري مشهورون بالثرثرة واللغو في الكلام.
(7) أروند: جبل جميل أخضر مطل على همذان.
(8) دنباوند: جبل عال مطل على الري.
(9) جباب الملائكة: جمع جبة، يعني الارتفاع. الحلاج: من يحصد القطن وغيره.
(10) لبود اليهود: اللبود: دويبة تنشأ على الوساخة إشارة إلى شهرة اليهود بالوسخ.
(11) يا قرعية بماش: طعام يتخذ من القرع والماش (حب شبيه بالعدس) غير لذيذ للطعم. لاش: لا شيء.(1/182)
زوال الملك، يا هلال الهلك، يا أخبث ممّن باء بذلّ الطّلاق، ومنع الصّداق، يا وحل الطّريق، يا ماء على الرّيق، يا محرّك العظم، يا معجّل الهضم، يا قلح الأسنان (1)، يا وسخ الآذان، يا أجرّ من قلس (2)، يا أقلّ من فلس، يا أفضح من عبرة، يا أبغى من إبرة، يا مهبّ الخفّ، يا مدرجة الأكفّ، يا كلمة ليت (3)، يا وكف البيت، يا كيت وكيت، والله لو وضعت استك على النّجوم، ودلّيت رجلك في التّخوم، واتّخذت الشّعرى خفّا، والثريّا رفّا، وجعلت السماء منوالا، وحكت الهواء سربالا، فسدّيته بالنّسر الطّائر، وألحمته بالفلك الدّائر، ما كنت إلّا حائكا.
قال عيسى بن هشام: فو الله ما علمت أيّ الرّجلين أوثر؟! وما منهما إلّا بديع الكلام، عجيب المقام، ألدّ الخصام، فتركتهما، والدّينار مشاع بينهما، وانصرفت وما أدري ما صنع الدّهر بهما.
__________
(1) قلح الأسنان: وسخها وما يعلوها من صفرة.
(2) اجر من قلس: القلس: الحبل الذي يشد السفينة أو تبحر به. ويكون وسخا لكثرة جره على الأرض.
(3) ابغى من إبرة: إشارة إلى شدة وخز الإبرة، مهب الخفّ: رائحته. مدرجة الأكف: مكان ضربها. كلمة ليت: لا تقال إلا لدى الحسرة.(1/183)
44 - المقامة الشّعريّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
كنت ببلاد الشّام، وانضمّ إليّ رفقة، فاجتمعنا ذات يوم في حلقة، فجعلنا نتذاكر الشّعر فنورد أبيات معانيه، ونتحاجى بمعاميه (1)، وقد وقف علينا فتى يسمع وكأنّه يفهم، ويسكت وكأنّه يندم، فقلت: يا فتى قد آذانا وقوفك فإمّا أن تقعد، وإمّا أن تبعد، فقال: لا يمكنني القعود، ولكن أذهب فأعود، فالزموا مكانكم هذا، قلنا: نفعل وكرامة، ثمّ غاب بشخصه، وما لبث أن عاد لوقته، وقال: أين أنتم من تلك الأبيات؟ وما فعلتم بالمعيّات؟ سلوني عنها، فما سألناه عن بيت إلّا أجاب، ولا عن معنى إلا أصاب، ولمّا نفضنا الكنائن (2)، وأفنينا الخزائن، عطف علينا سائلا، وكرّ مباحثا، فقال: عرّفوني أيّ بيت
__________
(1) نتحاجى بمعاميه: يمتحن كل منا حجا صاحبه أي عقله. معاميه: معانيه الخفية.
(2) الكنائن: جمع كنانة وهي الوعاء الذي توضع فيه السهام.(1/184)
شطره يرفع وشطره يدفع (1)؟ وأيّ بيت كلّه يصفع؟ وأيّ بيت نصفه يغضب، ونصفه يلعب؟ وأيّ بيت كلّه أجرب؟ وأيّ بيت عروضه يحارب، وضربه يقارب؟ وأيّ بيت كلّه عقارب؟ وأيّ بيت سمج وضعه، وحسن قطعه؟ وأيّ بيت لا يرقأ دمعه؟ وأيّ بيت يأبق كلّه، إلّا رجله؟ وأيّ بيت لا يعرف أهله؟ وأيّ بيت هو أطول من مثله، كأنّه ليس من أهله؟ وأيّ بيت لا يمكن نقضه، ولا تحتفر أرضه؟ وأيّ بيت نصفه كامل، ونصفه سرابل؟ وأيّ بيت لا تحصى عدّته؟ وأيّ بيت يريك ما يسرّ به؟ وأيّ بيت لا يسعه العالم؟ وأيّ بيت نصفه يضحك ونصفه يألم؟ وأيّ بيت إن حرّك غصنه، ذهب حسنه؟ وأيّ بيت إن جمعناه، ذهب معناه؟ وأيّ بيت إن أفلتناه، أضللناه؟ وأيّ بيت شهده سمّ؟ وأيّ بيت مدحه ذمّ؟ وأيّ بيت لفظه حلو وتحته غمّ؟ وأيّ بيت حلّه عقد، وكلّه نقد؟ وأيّ بيت نصفه مدّ، ونصفه ردّ؟ وأيّ بيت نصفه رفع، ورفعه صفع؟ وأيّ بيت طرده مدح؟ وعكسه قدح؟ وأيّ بيت هو في طوف صلاة الخوف؟ وأيّ بيت يأكله الشّاء، متى شاء؟ وأيّ بيت إذا أصاب الرّاس، هشم الأضراس، وأيّ بيت طال، حتّى بلغ ستّة أرطال؟ وأيّ بيت قام، ثمّ سقط ونام؟ وأيّ بيت أراد أن ينقص فزاد؟
وأيّ بيت كاد يذهب فعاد؟ وأيّ بيت حرب العراق؟ وأيّ بيت فتح البصرة؟ وأيّ بيت ذاب، تحت العذاب؟ وأيّ بيت شاب، قبل الشّباب؟ وأيّ بيت عاد، قبل المعاد؟ وأيّ بيت حلّ، ثمّ اضمحلّ؟
وأيّ بيت أمرّ، ثمّ استمرّ؟ وأيّ بيت أصلح، حتّى صلح؟ وأيّ بيت أسبق من سهم الطّرمّاح؟ وأيّ بيت خرج من عينهم؟ وأيّ بيت
__________
(1) أي البيت من الشعر الذي شطره الأول يرفع من مقام صاحبه وعجزه يحط قدره مثل:
ولله عندي جانب لا اضيعه ... وللهو عندي والخلاعة جانب(1/185)
ضاق، ووسع الآفاق؟ وأيّ بيت رجع، فهاج الوجع؟ وأيّ بيت نصفه ذهب، وباقيه ذنب؟ وأيّ بيت بعضه ظلام، وبعضه مدام؟ وأيّ بيت جعل فاعله مفعولا، وعاقله معقولا؟ وأيّ بيت كلّه حرمة؟ وأيّ بيتين هما كقطار الإبل؟ وأيّ بيت ينزل من عال؟ وأيّ بيت طيرته في الفال؟ وأيّ بيت آخره يهرب، وأوّله يطلب؟ وأيّ بيت أوّله يهب، وآخره ينهب؟
قال عيسى بن هشام: فسمعنا شيئا لم نكن سمعناه، وسألناه التّفسير فمنعناه، وحسبناها ألفاظا قد جوّد نحتها، ولا معاني تحتها، فقال: اختاروا من هذه المسائل خمسا لأفسّرها، واجتهد في الباقي أيّاما، فلعلّ إناءكم يرشح، ولعلّ خاطركم يسمح، ثمّ إن عجزتم فاستأنفوا التّلاقي، لأفسّر الباقي، وكان ممّا اخترنا البيت الذي سمج وضعه وحسن قطعه (1)، فسألناه عنه فقال: هو قول أبي نواس:
فبتنا يرانا الله شرّ عصابة ... تجرّر أذيال الفسوق ولا فخر
قلنا: فالبيت الّذي حلّه عقد، وكلّه نقد (2)، فقال: قول الأعشى:
دراهمنا كلّها جيّد ... فلا تحبسنّا بتنقادها
وحلّه أن يقال * دراهمنا جيّد كلّها * ولا يخرج بهذا الحلّ عن وزنه. قلنا: فالبيت الّذي نصفه مدّ، ونصفه ردّ، قال: قول البكريّ:
أتاك دينار صدق ... ينقص ستّين فلسا
من أكرم النّاس إلّا ... أصلا وفرعا ونفسا
__________
(1) أي البيت الذي ساء معناه وحسن لفظه. وقد مر في المقامة العراقية.
(2) تنقاد الدراهم: فحصها لمعرفة جيدها من زيفها. والنقد: المال من ذهب وفضة.(1/186)
قلنا: فالبيت الّذي يأكله الشّاء، متى شاء، قال: بيت القائل:
فما للّنوى؟ جذّ النّوى، قطع النّوى
رأيت النّوى قطّاعة للقرائن (1)
قلنا: فالبيت الّذي طال، حتّى بلغ ستّة أرطال، قال: بيت ابن الرّوميّ:
إذا منّ لم يمنن بمن يمنّه
وقال لنفسي: أيّها النّفس أمهلي (2)
قال عيسى بن هشام: فعلمنا أنّ المسائل، ليست عواطل (3)، واجتهدنا، فبعضها وجدنا، وبعضها استفدنا، فقلت على أثره وهو عاد (4):
تفاوت النّاس فضلا ... وأشبه البعض بعضا
لولاه كنت كرضوى ... طولا وعمقا وعرضا (5)
__________
(1) النوى: البعد. المعنى: يشكو الشاعر من بعد الأحبة ويدعو أن يقطع لأنه يباعد بين الأقران.
(2) أي البيت الذي كله هجاء. وما أكثره في الشعر.
(3) المعنى: أن الممدوح لا يمنن من أحسن إليه أو يطلب شكره لأنه مطبوع على الكرم. وثقل البيت يرجع إلى تكرار لفظه المن أربع مرات. وقد ورد هذا البيت في المقامة العراقية.
(4) عواطل: أي لا معنى لها. عاد: راكض أو ذاهب.
(5) المعنى: أن الناس يختلفون في فضلهم أو يتشابهون. ولولا هذا الفتى وما أظهر من مقدرة وذكاء لكان عيسى بن هشام يعتبر نفسه أذكى الناس واعلاهم شأنا ومكانة علمية أو أدبية، لقد عرفه قدره.(1/187)
45 - المقامة الملوكيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
كنت في منصرفي من اليمن، وتوجّهي إلى نحو الوطن، أسري ذات ليلة لا سانح بها إلّا الضّبع، ولا بارح إلّا السّبع (1)، فلمّا انتضي نصل الصّباح (2)، وبرز جبين المصباح (3)، عنّ لي في البراح (4)، راكب شاكي السّلاح (5)، فأخذني منه ما يأخذ الأعزل، من مثله إذا
__________
(1) السانح من الطير والحيوان: الذي يمر من يسارك. والبارح الذي يمر من يمينك.
(2) شبه الصباح بنصل السيف.
(3) جبين المصباح: حاجب الشمس.
(4) عن لي في البراح: ظهر لي في الأرض الواسعة.
(5) شاكي السلاح: تام الأسلحة.(1/188)
أقبل (1)، لكنّي تجلّدت فوقفت وقلت: أرضك لا أمّ لك، فدوني شرط الحداد، وخرط القتاد (2)، وحميّة أزديّة، وأنا سلم إن كنت، فمن أنت؟ فقال: سلما أصبت، ورفيقا كما أحببت، فقلت: خيرا أجبت، وسرنا فلمّا تخالينا، وحين تجالينا (3)، أجلت القصّة عن أبي الفتح الاسكندريّ، وسألني عن أكرم من لقيته من الملوك، فذكرت ملوك الشّام، ومن بها من الكرام، وملوك العراق ومن بها من الاشراف، وأمراء الأطراف، وسقت الذّكر، إلى ملوك مصر، فرويت ما رأيت، وحدّثته بعوارف ملوك اليمن، ولطائف ملوك الطّائف، وختمت الجملة، بذكر سيف الدّولة (4)، فأنشأ يقول:
يا ساريا بنجوم اللّيل يمدحها
ولو رأى الشّمس لم يعرف لها خطرا (5)
وواصفا للسّواقي هبك لم تزر ال
بحر المحيط ألم تعرف له خبر
من أبصر الدّرّ لم يعدل به حجرا
ومن رأى خلفا لم يذكر البشر
__________
(1) الأعزل: الذي لا يحمل سلاحا.
(2) أرضك لا أم لك: قف مكانك. دوني شرط الحداد: جروح السيوف. خر القتاد: شوك نبات القثاء الحاد.
(3) تخالينا: خلا أحدنا إلى الآخر. تجالينا: عرف كل منا حقيقة الآخر.
(4) سيف الدولة: هو سيف الدولة الحمداني، أمير حلب عاش في القرن العاش الميلادي، ومدحه المتنبي، وقد مرت ترجمته.
(5) الساري: الماشي في الليل. الخطر: القيمة. يريد انه مدح ملوكا وحكا أصغر مقاما من خلف بن أحمد. انه الشمس وهم النجوم، وهو البحر وهو السواقي، وهو الدر وهم الحجارة (الأبيات 1، 2، 3).(1/189)
زره تزر ملكا يعطي بأربعة
لم يحوها أحد، وانظر إليه ترى (1)
أيّامه غررا، ووجهه قمرا،
وعزمه قدرا، وسيبه مطرا
ما زلت أمدح أقواما أظنّهم
صفو الزّمان فكانوا عنده كدرا
قال عيسى بن هشام: فقلت: من هذا الملك الرّحيم الكريم؟
فقال: كيف يكون، ما لم تبلغه الظّنون؟ وكيف أقول، ما لم تقبله العقول؟ ومتى كان ملك يأنف الأكارم، إن بعثت بالدّارهم (2)؟
والذّهب، أيسر ما يهب، والألف، لا يعمّه إلّا الخلف، وهذا جبل الكحل قد أضرّ به الميل، فكيف لا يؤثّر ذلك العطاء الجزيل (3)؟
وهل يجوز أن يكون ملك يرجع من البذل إلى سرفه، ومن الخلق إلى شرفه، ومن الدّين إلى كلفه (4)، ومن الملك إلى كنفه، ومن الأصل إلى سلفه، ومن النّسل إلى خلفه:
فليت شعري من هذي مآثره
ماذا الّذي ببلوغ النّجم ينتظر؟
__________
(1) يعطي بأربعة: ذكرها في البيت التالي: الأيام الغرر، والوجه الذي يشبه القمر، وعزمه الذي يحكي القدر، وسيبه أو عطاؤه الذي يشبه المطر.
(2) أي يحتقر ما يعطيه الأكارم من المال لأنه يعطي أكثر منها.
(3) أي أن عطاء خلف وكرمه يفنيان ماله، كالخلف (الفأس) التي تحطم الحائط، والميل الذي يفني جبل الكحل.
(4) أي أن خلفا أسرف في البذل وشرّف في الخلق وأحب الدين حبا شديدا.(1/190)
46 - المقامة الصّفريّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
لمّا أردت القفول من الحجّ، دخل إليّ فتى فقال: عندي رجل من نجار الصّفر (1)، يدعو إلى الكفر (2)، ويرقص على الظّفر (3)، وقد أدّبته الغربة (4)، وأدّتني الحسبة إليك، لأمثّل حاله لديك، وقد خطب منك جارية صفراء تعجب الحاضرين، وتسرّ النّاظرين (5)، فإن أجبت ينجب منهما ولد يعمّ البقاع والأسماع (6)، فإذا طويت هذا الرّيط،
__________
(1) نجار الصفر: أصل الدنانير. يشبّه الدينار بالرجل.
(2) يدعو إلى الكفر: أي يغوي صاحبه.
(3) يرقص على الظفر: يوضع على رأس الأصبع لينتقد إن كان صحيحا أو مزيفا.
(4) ادبته الغربة: أي هو في يد غير صاحبه.
(5) جارية صفراء: قطعة من الذهب.
(6) ينجب منهما ولد يعمّ البقاع والاسماع: اراد بالولد المديح والثناء عليه.(1/191)
وثنيت هذا الخيط (1)، يكون قد سبقك إلى بلدك، فرأيك في نشر ما في يدك (2)
قال عيسى بن هشام: فعجبت من إيراده، ولطفه في سؤاله (3)، وأجبته في مراده، فانشأ يقول:
المجد يخدع باليد السّفلى
ويد الكريم ورأيه أعلى (4)
__________
(1) الريط: الثوب المؤلف من ملاءة واحدة. ثنيت هذا الخيط: أعدت هذا الغريب إلى أهله.
(2) رأيك في نشر ما في يدك: فما رأيك في ان تجيبني إلى ما طلبت منك من عطاء؟
(3) ايراده: طريق حكايته وطلب حاهته.
(4) اليد السفلى: المستعطي. اليد العليا: المعطي. المعنى: أن المستعطي يخدع المعطي بكلامه ومديحه اياه، ولكن لا يعني هذا أن المعطي أحمق ضعيف العقل، فهو يبقى صاحب الرأي السديد الراجح.(1/192)
47 - المقامة السّاريّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
بينا نحن بساريّة (1)، عند واليها، إذ دخل عليه فتى به ردع صفار (2)، فانتفض المجلس له قياما، وأجلس في صدره اعظاما، ومنعتني الحشمة له من مسألتي إيّاه عن اسمه، وابتدأ فقال للوالي:
ما فعلت في الحديث الأمسيّ، لعلّك جعلته في المنسي؟! فقال:
معاذ الله، ولكن عاقني عن بلوغه عذر لا يمكن شرحه، ولا يؤسى جرحه (3)، فقال الدّاخل: يا هذا قد طال مطال هذا الوعد، فما أجد غدك فيه إلّا كيومك، ولا يومك فيه إلّا كأمسك، فما أشبّهك في
__________
(1) سارية: بلد في طبرستان.
(2) الردع: اثر الطيب. الصفار: الزعفران.
(3) يؤسى جرحه: يطيب. وهو يعني انه تأثر بإخلافه الوعد أشد من تأثره بجرح لا يشفى.(1/193)
الاخلاف، إلّا بشجر الخلاف (1)، زهره يملأ العين، ولا ثمر في البين (2).
قال عيسى بن هشام: فلمّا بلغ هذا المكان قطعت عليه، فقلت: حرسك الله! ألست الاسكندريّ؟ فقال: وأدام حراستك، ما أحسن فراستك! فقلت: مرحبا بأمير الكلام، وأهلا بضالّة الكرام، لقد نشدتها، حتّى وجدتها، وطلبتها، حتّى أصبتها، ثمّ ترافقنا حتّى اجتذبني نجد، ولقمه وهد (3)، وصعدت وصوّب (4)، وشرّقت وغرّب، فقلت على أثره:
يا ليت شعري عن أخ ... ضاقت يداه وطال صيته (5)
قد بات بارحة لديّ ... فأين ليلتنا مبيته (6)
لا درّ درّ الفقر فه ... وطريده وبه رزيته (7)
لأسلّطنّ عليه من ... خلف بن أحمد من يميته (8)
__________
(1) شجر الخلاف: شجر الصفصاف أو مثله، لا ثمر له رغم عظمه وجمال منظره.
(2) لا ثمر في البين: ليس له ثمر بين أغصانه.
(3) اجتذبني نجد: صعدت في مرتفع من الأرض. ولقمه وهد: نزل إلى منخفض من الأرض.
(4) صعدت وصوب: سرت مرتفعا وسار منخفضا.
(5) المعنى: ليته يعلم شيئا عن ذلك المرء الذي افتقر واشتهر.
(6) المعنى: لقد بات عندي ليلة البارحة، فأين سينام هذه الليلة. كناية عن كثرة تنقله.
(7) لا در دره: لا كثر خيره. واصل الدر: الحليب. ودر: أعطى الحليب أو جاوبه. المعنى: يدعو على الفقر الذي طارد والاسكندري ورزأه.
(8) المعنى: أن خلفا بن أحمد هو الذي يستطيع أن يقبض على الفقر ويقضي عليه بعطائه وكرمه.(1/194)
48 - المقامة التّميميّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
وليت بعض الولايات من بلاد الشّام، ووردها سعد بن بدر أخو فزارة، وقد ولّي الوزارة (1)، وأحمد الوليد، على عمل البريد (2)، وخلف بن سالم، على عمل المظالم (3)، وبعض بني ثوابة، وقد
__________
(1) أخو فزارة: أحد رجال قبيلة فزارة، أحدى قبائل العرب. الوزارة: مهمة سياسية تقوم على وضع الخطط وتدبير الأمور في الدولة، وهي لغويا مأخوذة إما من الموازرة أي المعاونة، وإما من الوزر أي الثقل. كأن الحاكم يحمل معاونه الوزير اوزاره وأثقاله.
(2) البريد: هو إحدى مهام الحكم يتولى صاحبه تفقد أحوال البلدان النائية ويخبر السلطان عنها، ويستعين بعمال كثر في النواحي والأطراف وبسعاة ينقلون الرسائل والأخبار.
(3) المظالم: عمل من أعمال الحكم يجمع بين عمل القضاء وسطوة السلطنة،(1/195)
ولّي الكتابة (1)، وجعل عمل الزّمام، إلى رجل من أهل الشّام، فصارت تحفة الفضلاء (2)، ومحطّ رحالهم، ولم يزل يرد الواحد بعد الواحد، حتّى امتلأت العيون من الحاضرين، وثقلوا على القلوب، وورد فيمن ورد أبو النّدى التّميميّ، فلم تقف عليه العيون، ولا صفت له القلوب، ودخل يوما إليّ فقدرته حقّ قدره، وأقعدته من المجلس في صدره، وقلت: كيف يرجّي الأستاذ عمره؟ وكيف يرى أمره (3)؟
فنظر ذات اليمين وذات اليسار، فقال: بين الخسران والخسار (4)، والذّلّ والصّغار، وقوم كروث الحمار، يشمّهم الإقبال وهم منتنون (5)، ويحسن إليهم فلا يحسنون، أما الله لقد وردت منهم على قوم ما يشبههم من النّاس، غير الرّأس واللّباس، وجعل يقول:
فدى لك يا سجستان البلاد ... وللملك الكريم بك العباد (6)
هب الأيّام تسعدني وهبني ... تبلّغنيه راحلة وزاد
فمن لي بالّذي قد مات منه ... وبالعمر الذي لا يستعاد؟ (7)
__________
يقوم صاحبه بجمع البينات واستجلاء الحق وحمل الخصوم على الصلح واستخلاف الشهود وتنفيذ الأحكام.
(1) الكتابة: ديوان الرسائل الصادرة عن السلطان، تولاها بلغاء أدباء أمثال عبد الله بن المقفع، وعبد الحميد والجاحظ الخ.
(2) أي أصبحت الوزارة نفيسة للأفاضل.
(3) كيف يرجى الأستاذ عمره: كيف يأمل أن تكون حياته وما هو رأيه في أحواله.
(4) الخسران: الفشل وفقدان الآمال. الخسار: الهلاك.
(5) الإقبال: السعادة.
(6) المعنى انه يفدي بلاد سجستان (احدى مدن إيران الشرقية)، كما يفدي ملكها.
(7) المعنى: إذا اسعفتني الأيام بالوصول إلى ملك سجستان، فهل يفيد لي هذا في التعويض عما فات من العمر؟.(1/196)
49 - المقامة الخمريّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
اتّفق لي في عنفوان الشّبيبة خلق سجيح (1)، ورأي صحيح، فعدّلت ميزان عقلي، وعدلت بين جدّي وهزلي (2)، واتّخذت إخوانا للمقة (3)، وآخرين للنفقة (4)، وجعلت النّهار للنّاس، واللّيل للكاس.
قال: واجتمع إليّ في بعض لياليّ إخوان الخلوة، ذوو المعاني الحلوة، فما زلنا نتعاطى نجوم الأقداح، حتّى نفد ما معنا من الرّاح (5)
__________
(1) خلق سجيح: خلق سهل هادىء.
(2) عدلت ميزان عقلي: جعلت كفتيه متساويتين لا ترجح الواحدة على الأخرى.
عدلت بين جدي وهزلي: جعلتهما متساويين.
(3) المقة: المحبة.
(4) للنفقة: أي اتخذت اخوانا آخرين أشاركهم في الأكل والمشرب.
(5) نتعاطى نجوم الأقداح: نشرب الخمر التي تشبه النجوم في صفاتها ولألائها.
الراج: الخمر.(1/197)
قال: واجتمع رأي النّدمان، على فصد الدّنان (1)، فأسلنا نفسها (2)، وبقيت كالصّدف بلا درّ (3)، أو المصر بلا حرّ (4).
قال: ولمّا مسّتنا حالنا تلك دعتنا دواعي الشّطارة (5)، إلى حان الخمّارة (6)، واللّيل أخضر الدّيباج (7)، مغتلم الامواج (8)، فلمّا أخذنا في السّبح (9)، ثوّب منادي الصّبح (10)، فخنس شيطان الصّبوة، وتبادرنا إلى الدّعوة، وقمنا وراء الإمام، قيام البررة الكرام، بوقار وسكينة، وحركات موزونة، فلكلّ بضاعة وقت، ولكلّ صناعة سمت، وإمامنا يجدّ في خفضه ورفعه (11)، ويدعونا بإطالته إلى صفعه، حتّى إذا راجع بصيرته (12)، ورفع بالسّلام عقيرته، تربّع في ركن محرابه، وأقبل بوجهه على أصحابه، وجعل يطيل إطراقه، ويديم استنشاقه، ثمّ قال: أيّها النّاس من خلط في سيرته، وابتلي بقاذورته،
__________
(1) فصد الدنان: أي فتح الدنان (جمع دن أي زق الخمر).
(2) اسلنا نفسها: استخرجنا دمها، أخذنا منها.
(3) المصر بلا حر: البلاد بلا إنسان حر شريف.
(4) الشطارة: الخبث والميل إلى الدعارة والفسق.
(5) حان الخمارة: حانوت بيع الخمر.
(6) الديباج: الثوب المصنوع من الحرير. واللون الأخضر إذا اشتد غدا مظلما.
والمعنى أن الليل غدا أسود الثوب.
(7) مغتلم الأمواج: ثائر الأمواج، من اغتلم أي ثار.
(8) السبح: السباحة. يعني السير.
(9) ثوب: نادى المؤذن داعيا إلى الصلاة، فالتثويب يعني لغة الاجتماع والمجيء.
(10) خنس: انخذل وانقبض.
(11) الخفض والرفع: السجود والإقامة.
(12) راجع بصيرته: راجع عقله وثاب إلى رشده.(1/198)
فليسعه ديماسه (1)، دون أن تنجّسنا أنفاسه، إنّي لأجد منذ اليوم، ريح أمّ الكبائر من بعض القوم، فما جزاء من بات صريع الطّاغوت (2)، ثمّ ابتكر إلى هذه البيوت (3)، الّتي أذن الله أن ترفع (4)، وبدابر هؤلاء أن يقطع (5)، وأشار إلينا، فتألّبت الجماعة علينا (6)، حتّى مزّقت الأردية، ودميت الأقفية، وحتّى أقسمنا لهم لا عدنا، وأفلتنا من بينهم وما كدنا، وكلّنا مغتفر للسّلامة، مثل هذه الآفة، وسألنا من مرّ بنا من الصّبية، عن إمام تلك القرية، فقالوا: الرّجل التّقيّ، أبو الفتح الاسكندريّ، فقلنا: سبحان الله! ربّما أبصر عمّيت (7)، وآمن عفريت، والحمد لله لقد أسرع في أوبته (8) ولا حرمنا الله مثل توبته، وجعلنا بقيّة يومنا نعجب من نسكه، مع ما كنّا نعلم من فسقه.
قال: ولمّا حشرج النّهار أو كاد (9)، نظرنا فإذا برايات الحانات أمثال النّجوم، في اللّيل البهيم (10)، فتهادينا بها السّرّاء، وتباشرنا بليلة غرّاء (11)، ووصلنا إلى أفخمها بابا، وأضخمها كلابا، وقد جعلنا الدّينار
__________
(1) خلط بسيرته وابتلى بقاذورته! أي أخطأ وساء عملا. الديماس: المنزل.
(2) أم الكبائر: الخمر.
(3) الطاغوت: الشيطان.
(4) هذه البيوت: المساجد.
(5) أن ترفع: أن تحترم ويعلى من قدرها.
(6) دابر القوم: آخر من بقي منهم. وأصله الدبر.
(7) عميت: سكران وجاهل وغوي لا يهتدي.
(8) اوبته: رجوعه إلى الله.
(9) حشرج النهار: أوشك على النهاية.
(10) الليل البهيم: الليل الشديد الظلمة.
(11) غراء: بيضاء.(1/199)
إماما (1)، والاستهتار لزاما، فدفعنا إلى ذات شكل ودلّ، ووشاح منحلّ (2)، إذا قتلت ألحاظها، أحيت ألفاظها، فأحسنت تلقّينا، وأسرعت تقبّل رؤوسنا وأيدينا، وأسرع من معها من العلوج، إلى حطّ الرّحال والسّروج، وسألناها عن خمرها، فقالت:
خمر كريقي في العذو ... بة واللّذاذة والحلاوه
تذر الحليم وما علي ... هـ لحلمه أدنى طلاوه (3)
كأنّما اعتصرها من خدّي، ... أجداد جدّي (4)
وسربلوها من القار (5)، بمثل هجري وصدّي، وديعة الدّهور، وخبيئة جيب السّرور، وما زالت تتوارثها الأخيار، ويأخذ منها اللّيل والنّهار، حتّى لم يبق إلّا أرج وشعاع (6)، ووهج لذّاع (7) ريحانة النّفس، وضرّة الشّمس، فتاة البرق، عجوز الملق (8)، كالّلهبّ في العروق، وكبرد النّسيم في الحلوق، مصباح الفكر، وترياق سمّ
__________
(1) جعلنا الدينار إماما: جعلناه قيّما على امورنا. والمعنى أن الدينار هو الذي ينيلهم ما يشتهون.
(2) أي انصرفنا إلى مغازلة امرأة جميلة تمزج الرضا بالغضب (ذات دل) وخصر دقيق (ينحل عنه الوشاح).
(3) تذر الحليم: تتركه. والمعنى أن الخمر تؤثر على الرجل العاقل الحليم ولا تدع لحلمه عليه أي رقابة أو سلطان.
(4) اي انها معتقة.
(5) سربلوها من القار: طلوها بالقار (الزفت) كناية عن لونها الأسود.
(6) الأرج: الرائحة الطيبة.
(7) وهج لذاع: حركة محرقة.
(8) فتاة البرق: فتاة الزينة. عجوز الملق: العجوز تحسن التملق لدهائها.(1/200)
الدّهر، بمثلها عزّز الميّت فانتشر (1)، ودووي الأكمه فأبصر (2)، قلنا:
هذه الضّالّة وأبيك، فمن المطرب في ناديك؟ ولعلّها تشعشع للشّرب، بريقك العذب، قالت: إنّ لي شيخا ظريف الطّبع، طريف المجون، مرّ بي يوم الأحد في دير المربد (3)، فسارّني حتّى سرّني (4)، فوقعت الخلطة، وتكرّرت الغبطة، وذكر لي من وفور عرضه، وشرف قومه في أرضه، ما عطف به ودّي، وحظي به عندي، وسيكون لكم به أنس، وعليه حرص، قال: ودعت بشيخها فإذا هو إسكندريّنا أبو الفتح، فقلت: يا أبا الفتح، والله كأنّما نظر إليك، ونطق عن لسانك الّذي يقول:
كان لي فيما مضى ع ... قل ودين واستقامه
ثمّ قد بعنا بحمد ... الله فقها بحجامه (5)
ولئن عشنا قليلا ... نسأل الله السّلامه (6)
قال: فنخر نخرة المعجب، وصاح وزمهر، وضحك حتّى قهقه (7).
ثمّ قال: ألمثلي يقال، أو بمثلي تضرب الأمثال؟؟
دع من اللوم، ولكن ... أيّ دكّاك تراني
أنا من يعرفه كلّ ... تهام ويماني
__________
(1) عزّز الميت فانتشر: أعين الميت فعاد إلى الحياة.
(2) دووي الأكمه فأبصر: عولج الأعمى بالولادة فابصر.
(3) المربد: سوق قرب البصرة للتجارة وانشاد الشعر والخطابة.
(4) سارّني: القى الي بسره. سرّني: ابهجني وافرحني.
(5) المعنى استبدلنا صنعة الحلاقة (الحجامة) بعلم الفقه.
(6) نسأل الله السلامة: الثوب.
(7) نخر: مد صوته في خياشيمه، قهقه: ضجك عاليا.(1/201)
أنا من كلّ غبار ... أنا من كلّ مكان
ساعة ألزم محرا ... با، وأخرى بيت حان
وكذا يفعل من ... يعقل في هذا الزّمان (1)
قال عيسى بن هشام: فاستعذت بالله من مثل حاله، وعجبت لقعود الرّزق عن أمثاله، وطبنا معه أسبوعنا ذلك، ورحلنا عنه.
__________
(1) الدكاك: المهدم، المحتال الذي يهدم كل بناء عامر. المعنى: أنني رجل محتال يعرفني كل الناس من تهامة إلى اليمن، انزل كل أرض وأكون في جميع الأمكنة، ارد الخمارات والمساجد. وهكذا يفعل كل عاقل.(1/202)
50 - المقامة المطلبيّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
اجتمعت يوما بجماعة كأنّهم زهر الرّبيع، أو نجوم اللّيل بعد هزيع (1)، بوجوه مضيّة، وأخلاق رضيّة، قد تناسبوا في الزّيّ والحال، وتشابهوا في حسن الاحوال، فأخذنا نتجاذب أذيال المذاكرة، ونفتح أبواب المحاضرة، وفي وسطنا شابّ قصير من بين الرّجال، محفوف السّبال (2)، لا ينبس بحرف، ولا يخوض معنا في وصف، حتّى انتهى بنا الكلام إلى مدح الغنى وأهله، وذكر المال وفضله، وأنّه زينة الرّجال، وغاية الكمال، فكأنما هبّ من رقدة، أو حضر بعد غيبة، وفتح ديوانه، وأطلق لسانه، فقال: صه لقد عجزتم عن شيء عدمتموه، وقصّرتم عن طلبه فهجّنتموه، وخدعتم عن الباقي
__________
(1) الهزيع: قسم من الليل، ربعه أو ثلثه، أو نصفه.
(2) محفوف السبال: مقصوص الشارب.(1/203)
بالفاني، وشغلتم عن النّائي بالدّاني (1)، هل الدّنيا إلّا مناخ راكب، وتعلّة ذاهب (2)؟ وهل المال إلّا عارية مرتجعة، ووديعة منتزعة؟ ينقل من قوم إلى آخرين، وتخزنه الأوائل للآخرين، هل ترون المال إلا عند البخلاء، دون الكرماء، والجهّال دون العلماء؟ إيّاكم والانخداع فليس الفخر إلّا في إحدى الجهتين، ولا التّقدّم إلّا إحدى القسمتين:
إمّا نسب شريف، أو علم منيف (3)، وأكرم بشيء يحمل على الرّؤوس حامله، ولا ييأس منه آمله، والله لولا صيانة النّفس والعرض، لكنت أغنى أهل الأرض، لأنّني أعرف مطلبين، أحدهما بأرض طرسوس (4)، تشره فيه النّفوس، من ذخائر العمالقة (5)، وخبايا البطارقة، فيه مائة ألف مثقال، وأمّا الآخر فهو ما بين سورى والجامعين (6)، فيه ما يعمّ أهل الثّقلين، من كنوز الأكاسرة (7)، وعدد الجبابرة، أكثره ياقوت أحمر، ودرّ وجوهر، وتيجان مرصّعة، وبدر مجمّعة (8)، فلمّا أن سمعنا ذلك أقبلنا عليه، وملنا إليه، وأخذنا نستعجز رأيه، في القنوع بيسير المكاسب، مع أنه عارف بهذه
__________
(1) صه: اسكت. يريد ان يقول انهم خدعوا بالمال وشغلوا عن الأعمال الصالحة وعجزوا عنها وبخسوها.
(2) المعنى أن الدنيا تشبه مكانا ينزل به المسافر ليستريح قليلا في سفره الى الآخرة.
(3) يريد العلم الذي يحمل في الرؤوس وهو اكرم شيء.
(4) طرطوس: بلدة في شمالي سوريا على البحر المتوسط.
(5) العمالقة: ملوك حكموا بلاد الشام وآسيا الصغرى، قيل انهم أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح. ومنهم الكنعانيون.
(6) سورى: بلاد السريان. والجامعين: العراق (ارض الرافدين).
(7) الأكاسرة: ملوك الفرس.
(8) البدر: جمع بدرة، كيس يحوي عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار.(1/204)
المطالب، فأشار إلى أنّه يفزع من السّلطان، ولا يثق إلى أحد من الاخوان، فقلنا له: قد سمعنا حجّتك، وقبلنا معذرتك، فإن رأيت أن تحسن إلينا، وتمنّ علينا، وتعرّفنا أحد هذين المطلبين، على أنّ لك الثّلثين فعلت، فأمال إلينا يده، وقال: من قدّم شيئا وجده، ومن عرف ما ينال، هان عليه بذل المال، فكلّ منّا حباه بما حضر، وتشوّق إلى ما ذكر، فلمّا ملأنا كفّه، رفع إلينا طرفه، وقال: لا بدّ أن نقضي علقا (1) وننال ما يمسك رمقا، وقد ضاق وقتنا، والموعد غدا ههنا، إن شاء الله تعالى.
قال عيسى بن هشام: فلمّا تفرّقت تلك الجماعة، قعدت بعدهم ساعة، ثمّ تقدّمت إليه، وجلست بين يديه، وقلت وقد رغبت في معرفته، وتاقت نفسي إلى محادثته: كأنّني عارف بنسبك، وقد اجتمعت بك! فقال: نعم، ضمّنا طريق، وأنت لي رفيق، فقلت: قد غيّرك عليّ الزّمان، وما أنسانيك إلّا الشّيطان، فأنشأ يقول:
أنا جبّار الزّمان ... لي من السّخف معاني (2)
وأنا المنفق بعد ال ... مال من كيس الأماني (3)
من أراد القصف والغر ... ف على عزف المثاني (4)
واصطفى المردان جهلا ... من فلان وفلان
صار من مال وإقبا ... ل تراه في أمان
__________
(1) العلق: الطعام.
(2) السخف: ضعف العقل.
(3) المعنى انه إذا انفق ماله ونفد يعتمد على الأماني كما فعل مع هؤلاء القوم الذين مناهم بالكنوز واخذ مالهم.
(4) القصف: العكوف على ملاذ الطعام والشراب. الغرف: تناول الشراب والطعام. العزف على المثاني: العزف على الأوتار الثنائية.(1/205)
51 - المقامة البشريّة
حدّثنا عيسى بن هشام قال:
كان بشر بن عوانة العبديّ صعلوكا (1) فأغار على ركب فيهم امرأة جميلة، فتزوّج بها، وقال: ما رأيت كاليوم، فقالت:
اعجب بشرا حور في عيني ... وساعد أبيض كاللّجين (2)
ودونه مسرح طرف العين ... خمصانه ترفل في حجلين (3)
__________
(1) الصعلوك: الفقير المعدم. ثم اطلق هذا الاسم على اللصوص لأن الفقر يحمل على السرقة عملا بالمثل «الخلة تدعو إلى السلة» أي الفقر يدعو إلى التسلل والسرقة. ومن صعاليك الجاهلية شعراء أمثال الشنفرى، وتأبط شرا وعمرو بن برّاق.
(2) حور العين: شدة سواد سوادها وشدة بياض بياضها مع استدارتها.
(3) الخمصانة: الضامرة الكشح الخفيفة البطن، أصله الخمص أي الجوع.
ترفل في حجلين: تلبس خلخالين.(1/206)
أحسن من يمشي على رجلين ... لو ضمّ بشر بينها وبيني
أدام هجري وأطال بيني
ولو يقيس زينها بزيني ... لأسفر الصّبح لذي عينين (1)
قال بشر: ويحك من عنيت؟ فقالت: بنت عمّك فاطمة، فقال:
أهي من الحسن بحيث وصفت؟ قالت: وأزيد وأكثر، فأنشأ يقول:
ويحك يا ذات الثّنايا البيض ... ما خلتني منك بمستعيض (2)
فالآن إذ لوّحت بالتّعريض ... خلوت جوّا فاصفري وبيضي (3)
لاضمّ جفناي على تغميض ... ما لم أشل عرضي من الحضيض (4)
فقالت:
كم خاطب في أمرها ألحّا ... وهي إليك ابنة عمّ لحّا (5)
ثمّ أرسل إلى عمّه يخطب ابنته، ومنعه العمّ أمنيّته، فآلى ألّا يرعي على أحد منهم إن لم يزوّجه ابنته، ثمّ كثرت مضرّاته فيهم،
__________
(1) المعنى أنه لو قارن بين جمالها وجمال تلك المرأة لاستقبحها ورفض أن يتزوج منها لأن تلك المرأة أجمل منها بكثير. وهي بذلك تريد أن تصرفه عنها.
(2) الثنايا: الأسنان. الويح: الويل.
(3) المعنى: اصبحت حرة مثل تلك القبرة التي طارت لدى رؤيتها الصياد أو أفلتت من الشباك، وقد ورد هذا التعبير في بيت لطرفة بن العبد الشاعر الجاهلي عندما كان صغيرا يصيد القبر:
يا لك من قبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت ان تنقري.
(4) المعنى: لن تغمض عيناي حتى ارفع (اشيل) عرضي أو شرفي من الحضيض (الضعة واللهوان).
(5) ابنة عم لحا: أي قريبة النسب جدا منك.(1/207)
واتّصلت معرّاته إليهم فاجتمع رجال الحيّ إلى عمّه، وقالوا: كفّ عنّا مجنونك (1).
فقال: لا تلبسوني عارا، وأمهلوني حتّى أهلكه ببعض الحيل، فقالوا: أنت وذاك، ثمّ قال له عمّه: إنّي آليت أن لا أزوّج ابنتي هذه إلّا ممّن يسوق إليها ألف ناقة مهرا، ولا أرضاها إلّا من نوق خزاعة (2).
وغرض العمّ كان أن يسلك بشر الطّريق بينه وبين خزاعة فيفترسه الأسد لأنّ العرب قد كانت تحامت عن ذلك الطّريق، وكان فيه أسد يسمّى داذا، وحيّة تدعى شجاعا، يقول فيهما قائلهم:
أفتك من داذ ومن شجاع ... إن يك داذ سيّد السّباع
فإنّها سيّدة الأفاعي
ثمّ إنّ بشرا سلك ذلك الطّريق، فما نصفه حتّى لقي الأسد، وقمص مهره (3) فنزل وعقره، ثمّ اخترط سيفه إلى الأسد، واعترضه، وقطّه، ثمّ كتب بدم الأسد على قميصه إلى ابنة عمّه:
أفاطم لو شهدت ببطن خبت ... وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
إذا لرأيت ليثا زار ليثا ... هزبرا أغلبا لاقى هزبرا
تبهنس إذ تقاعس عنه مهري ... محاذرة، فقلت: عقرت مهر (4)
أنل قدميّ ظهر الأرض إنّي ... رأيت الأرض أثبت منك ظهرا
__________
(1) المعرة: الأذى والشر. لا يرعي على أحد منهم: لا يبقي عليه. وآلى:
أقسم.
(2) خزاعه: قبيلة عربية كبيرة.
(3) قمص مهره: رفع يديه معا وضرب بهما الأرض معا من شدة الفزع أو الخوف من أمر خطر.
(4) تبهنس: تبختر واختال في مشيته.(1/208)
وقلت له وقد أبدى نصالا ... محدّدة ووجها مكفهرّا (1)
يكفكف (2) غيلة إحدى يديه ... ويبسط للوثوب عليّ أخرى
يدلّ بمخلب وبحدّ ناب ... وبالّلحظات تحسبهنّ جمرا
وفي يمناي ماضي الحدّ أبقى ... بمضربه قراع الموت أثرا
ألم يبلغك ما فعلت ظباه ... بكاظمة غداة لقيت عمرا (3)
وقلبي مثل قلبك ليس يخشى ... مصاولة فكيف يخاف ذعرا؟!
وأنت تروم للأشبال قوتا ... وأطلب لابنة الأعمام مهرا
ففيم تسوم مثلي أن يولّي ... ويجعل في يديك النّفس قسرا
نصحتك فالتمس يا ليث غيري ... طعاما إنّ لحمي كان مرّا
فلمّا ظنّ أنّ الغشّ نصحي ... وخالفني كأنّي قلت هجرا
مشى ومشيت من أسدين راما ... مراما كان إذ طلباه وعرا
هززت له الحسام فخلت أنّي ... سللت به لدى الظّلماء فجرا
وجدت له بجائشة أرته ... بأن كذبته ما منّته غدرا
وأطلقت المهنّد من يميني ... فقدّ له من الأضلاع عشرا
فخرّ مجدّلا بدم كأنّي ... هدمت به بناء مشمخرّا
وقلت له: يعزّ عليّ أنّي ... قتلت مناسبي جلدا وفخرا؟
ولكن رمت شيئا لم يرمه ... سواك، فلم أطق يا ليث صبرا
تحاول أن تعلّمني فرارا! ... لعمر أبيك قد حاولت نكرا!
فلا تجزع فقد لاقيت حرّا ... يحاذر أن يعاب فمتّ حرّا
__________
(1) النصال: جمع نصل، أي حديدة السيف والرمح وأراد بها هنا أسنان الأسد.
(2) بكفكف: يقبض. غيلة: انتهز الفرصة لاغتيال بشر أو قتله، من اغتياله أي قتله.
(3) كاظمة: اسم مكان جنوبي البصرة، أو موضع قرب المدينة. عمر: اسم فارس صرعه بشر.(1/209)
فإن تك قد قتلت فليس عارا ... فقد لاقيت ذا طرفين حرّا
فلمّا بلغت الأبيات عمّه ندم على ما منعه تزويجها، وخشي أن تغتاله الحيّة، فقام في أثره، وبلغه وقد ملكته سورة الحيّة (1)، فلمّا رأى عمّه أخذته حميّة الجاهليّة، فجعل يده في فم الحيّة وحكّم سيفه فيها، فقال:
بشر إلى المجد بعيد همّه ... لمّا رآه بالعراء عمّه
قد ثكلته نفسه وأمّه ... جاشت به جائشة تهمّه
قام إلى ابن للفلا يؤمّه ... فغاب فيه يده وكمّه (2)
ونفسه نفسي وسمّي سمّه
فلمّا قتل الحيّة قال عمّه: إنّي عرّضتك طمعا في أمر قد ثنى الله عناني عنه، فارّجع لأزوّجك ابنتي، فلما رجع جعل بشر يملأ فمه فخرا، حتّى طلع أمرد كشقّ القمر على فرسه مدجّجا في سلاحه، فقال بشر: يا عمّ إني أسمع حسّ صيد، وخرج فإذا بغلام على قيد، فقال: ثكلتك أمّك يا بشر! أن قتلت دودة وبهيمة تملأ ماضغيك فخرا؟
أنت في أمان إن سلّمت عمّك، فقال بشر: من أنت لا أمّ لك؟! قال: اليوم الأسود والموت الأحمر، فقال بشر: ثكلتك من سلحتك (3)، فقال: يا بشر ومن سلحتك، وكرّ كلّ واحد منهما على صاحبه، فلم يتمكّن بشر منه، وأمكن الغلام عشرون طعنة في كلية بشر، كلّما مسّه شبا السّنان حماه عن بدنه إبقاء عليه، ثمّ قال: يا بشر كيف ترى؟ أليس لو أردت لأطعمتك أنياب الرّمح؟ ثمّ ألقى رمحه واستلّ سيفه فضرب بشرا عشرين ضربة بعرض السّيف، ولم يتمكّن
__________
(1) سورة الحية: سطوتها.
(2) ابن الفلا: يعني الحية.
(3) سلحتك: ولدتك.(1/210)
بشر من واحدة، ثمّ قال: يا بشر سلّم عمّك واذهب في أمان، قال:
نعم، ولكن بشريطة أن تقول لي من أنت، فقال: أنا ابنك، فقال:
يا سبحان الله ما قارنت عقيلة قطّ، فأنّى لي هذه المنحة؟؟ فقال: أنا ابن المرأة الّتي دلّتك على ابنة عمّك، فقال بشر:
تلك العصا من هذه العصيّه ... هل تلد الحيّة إلّا الحيّه! (1)
وحلف لا ركب حصانا (2)، ولا تزوّج حصانا. ثمّ زوّج ابنة عمّه لابنه.
__________
(1) تلك العصا من العصية: ما أشبه الولد بأبيه. مثل يضرب.
(2) الحصان: المرأة العفيفة.(1/211)
المحتويات
مقدمة 5
1 - المقامة القريضيّة 17
2 - المقامة الأزاذيّة 22
3 - المقامة البلخيّة 24
4 - المقامة السّجستانيّة 27
5 - المقامة الكوفيّة 30
6 - المقامة الأسديّة 33
7 - المقامة الغيلانيّة 39
8 - المقامة الأذربيجانيّة 43
9 - المقامة الجرجانيّة 46
10 - المقامة الأصفهانيّة 50
11 - المقامة الأهوازيّة 53
12 - المقامة البغداذيّة 56(1/212)
13 - المقامة البصريّة 59
14 - المقامة الفزاريّة 62
15 - المقامة الجاحظيّة 66
16 - المقامة المكفوفيّة 70
17 - المقامة البخاريّة 73
18 - المقامة القزوينيّة 76
19 - المقامة السّاسانيّة 80
20 - المقامة القرديّة 83
21 - المقامة الموصليّة 85
22 - المقامة المضيريّة 89
23 - المقامة الحرزيّة 98
24 - المقامة المارستانيّة 101
25 - المقامة المجاعيّة 105
26 - المقامة الوعظيّة 108
27 - المقامة الأسوديّة 114
28 - المقامة العراقيّة 117
29 - المقامة الحمدانيّة 124
30 - المقامة الرّصافيّة 129
31 - المقامة المغزليّة 135
32 - المقامة الشّيرازيّة 137
33 - المقامة الحلوانيّة 140
34 - المقامة النّهيديّة 144
35 - المقامة الإبليسيّة 148
36 - المقامة الأرمنيّة 153
37 - المقامة النّاجميّة 157(1/213)
38 - المقامة الخلفيّة 161
39 - المقامة النّيسابوريّة 164
40 - المقامة العلميّة 167
41 - المقامة الوصيّة 169
42 - المقامة الصّيمريّة 172
43 - المقامة الدّيناريّة 180
44 - المقامة الشّعريّة 184
45 - المقامة الملوكيّة 188
46 - المقامة الصّفريّة 191
47 - المقامة السّاريّة 193
48 - المقامة التّميميّة 195
49 - المقامة الخمريّة 197
50 - المقامة المطلبيّة 203
51 - المقامة البشريّة 206(1/214)