كلمة الناشر
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تعتبر «دار الكتب العلمية» أن من صميم رسالتها خدمة الأدب واللغة العربية. وقد عمدت في سبيل ذلك إلى تقديم النفيس والنادر من أمهات كتب وتراث اللغة العربية لقرائها الكرام.
وكتابنا هذا «مقامات الزمخشري» لمؤلفه أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري. يحتوي على خمسين مقامة توزعت مراميها في الحكمة والوصايا والأدب والتاريخ نهل المؤلف فيها وغرف من بحر الأدب ما عذب بيانه، وأحكم إتقانه من لآلىء الكلم. كما عمد إلى شرح ما جاء فيها من بليغ اللغة وجمانات الألفاظ.
واعتمدنا في إخراج هذا السفر النفيس لقرائنا الأعزاء بحلته القشيبة هذه على النسخة التي طبعتها المكتبة الأزهرية بمصر سنة 1325هـ.
وقد دفعنا بها إلى لجنة من محققي التراث والأدب، ممن يوثق بأدبهم وعلمهم. فعمدوا إلى مقارنتها على عدة نسخ تيسرت لنا. وقد تبين فيها بعض الاختلافات الجزئية، فجرى اختيار أقربها لأسلوب المؤلف وأحسنها لغة وإعرابا.
راجين أن نكون بذلك قد أدينا خدمة للأدب والقراء.
الناشر(1/5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة الكتاب
قال الامام الأجل جار الله. العلامة أستاذ الدنيا شيخ العرب والعجم.
فخر خوارزم أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري رضي الله عنه وعن أسلافه:
تحققت، أحسن الله توفيقك، رغبتك في ازدياد العلم وحرصك على ارتياد الحكمة واستيهالك للنظر في النصائح لما أنت متسم به من حيازة منقبتين. وهما إيثار الجد على الهزل. والتهالك على الكلم الجزل. فأسعفتك إلى طلبتك من بيان ما أشكل عليك من ألفاظ النصائح ومعانيها. وأنا أقدم قبل الخوض في ذلك تنبيهك على أن لا تطالع هذه النصائح إلا ملقيا فكرك إلى معانيها. محضرا ذهنك لأوامرها ونواهيها حتى يكون اقتباسك منها في أخلاقك. رافعا لك أوفر من استفادتك لبلاغتها وبراعتها، فقد علمت أن العمل ببعض ما فيها مما يهذب النفس ويطهر القلب، وتوصيتك أن لا تمكن منها إلا من يوازيك في صفتك. أو يدانيك من أولي الفضل والديانة. وأن تربأ بها عن أولئك الذين يحسبون أنهم يحسنون ولا يحسنون.
لتكون من العمال بقول عيسى عليه السلام «لا تطرحوا الدر تحت أرجل الخنازير». فإن العلم بنقلته يكبر بكبرهم ويصغر بصغرهم. ولقد رأينا
من المشايخ من يحتاط في إكرام مصنفه حتى لا يرضى له إلا أن يكتب بخط رشيق. وبقلم جليل وفي ورق جياد. وأن يخط مضبوطا بالنقط والشكل، فقد قيل الخط الحسن يزيد الحق وضوحا، وأن تأمر من انتسخها بأن يوشح نسخته بإثبات اسم المنشىء وتفخيمه والدعاء له بالرضوان والرحمة فإنه أقل ما يستوجبه منه على ما وصل اليه من فوائده وتكليفك أن لا تمر على شيء من تلك الاسجاع وغيرها من أبواب الصنعة إلا متأملا وجه تمكنه وثبات قدمه والاستعداد له قبل مورده. لتعلم أن ما سماه الناس البديع من تحسين الألفاظ وتزيينها بطلب الطباق فيها والتجنيس والتسجيع والترصيع لا يملح ولا يبرع حتى يوازي مصنوعه مطبوعه وإلا فما قلق في أماكنه ونبا عن مواقعه فمنبوذ بالعراء مرفوض عند الخطباء والشعراء وأن تنبه على من يدرسه على مواقع النكت فيها واللطايف وما روعي في مناظمها من رائع الترتيب وتفهيمك أن كلمات السجع موضوعة على أن تكون ساكنة الاعجاز موقوفا عليها لأن الغرض أن يجانس بين القرائن ويزاوج بينها وما يتم ذلك إلا بالوقف وإلا ذهبت أيادي سبا، ألا ترى إلى قولهم «لا مرحبا بحجين يحل الدين ويقرب الحين».(1/7)
لتكون من العمال بقول عيسى عليه السلام «لا تطرحوا الدر تحت أرجل الخنازير». فإن العلم بنقلته يكبر بكبرهم ويصغر بصغرهم. ولقد رأينا
من المشايخ من يحتاط في إكرام مصنفه حتى لا يرضى له إلا أن يكتب بخط رشيق. وبقلم جليل وفي ورق جياد. وأن يخط مضبوطا بالنقط والشكل، فقد قيل الخط الحسن يزيد الحق وضوحا، وأن تأمر من انتسخها بأن يوشح نسخته بإثبات اسم المنشىء وتفخيمه والدعاء له بالرضوان والرحمة فإنه أقل ما يستوجبه منه على ما وصل اليه من فوائده وتكليفك أن لا تمر على شيء من تلك الاسجاع وغيرها من أبواب الصنعة إلا متأملا وجه تمكنه وثبات قدمه والاستعداد له قبل مورده. لتعلم أن ما سماه الناس البديع من تحسين الألفاظ وتزيينها بطلب الطباق فيها والتجنيس والتسجيع والترصيع لا يملح ولا يبرع حتى يوازي مصنوعه مطبوعه وإلا فما قلق في أماكنه ونبا عن مواقعه فمنبوذ بالعراء مرفوض عند الخطباء والشعراء وأن تنبه على من يدرسه على مواقع النكت فيها واللطايف وما روعي في مناظمها من رائع الترتيب وتفهيمك أن كلمات السجع موضوعة على أن تكون ساكنة الاعجاز موقوفا عليها لأن الغرض أن يجانس بين القرائن ويزاوج بينها وما يتم ذلك إلا بالوقف وإلا ذهبت أيادي سبا، ألا ترى إلى قولهم «لا مرحبا بحجين يحل الدين ويقرب الحين».
لو ذهبت تصل ما لم يكن لك بد من جر حجين وتنوينه ونصب قرينتيه فعطلت عمل الساجع وفوت غرضه وهدمت بناءه. وتأمل كلام سجاعة العرب في الانواء وغيرها تجد الأمر على ما فهمتك وإذا رأيتهم يخرجون الكلم عن أوضاعه لطلب الازدواج والتشاكل فيقولون: «آتيك بالغدايا والعشايا». و «إذا طلع النطح طاب السطح». يريدون الغدوات والناطح فما ظنك بهم في ذلك أسأل الله ان يفعم لك سجال النعم. ويعينك على إفادة أهل الحرم. وإفادة الوفاد. من أقاصي البلاد. ويكتبك ببركة هذا البيت العتيق في زمرة العتقاء من النار. ويثبت اسمك في جملة الأبرار. الذين لهم عقبى الدار.(1/8)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
خطبة الكتاب
بسم الله الرّحمن الرّحيم خطبة الكتاب وأحمده (1) على ما أدرج (2) من ألائه. في تضاعيف (3) إبتلائه.
وما رزقني من درك الغبطة. بما أذاقني من مسّ السخطة. وما تهدّل (4) عليّ من ثمر ألطافه (5). حتى استمكنت أصابعي من شرح الخطبة: (1) واحمده عطف على الفعل المضمر الذي تعلقت به الباء في آية التسمية كأنه قيل: بسم الله افتتح وأحمده.
(2) الإدراج: الطي كأنه شيء بعد شيء كالدرجة، مرقاة بعد مرقاة.
(3) التضاعيف: الأضعاف. سمي الضعف بالتضعيف الذي هو مصدر، كما سمي النبات بالتنبيت قال رؤبة: «وبلدة ليس بها تنبيت هـ».
والمراد بذلك ما وفق الله من الارعواء والفيئة في المرضة التي تسمى المنذرة.
(4) تهدلت الثمار إذا تدلت ودنت من القاطف، ومنه إبل هدل المشافر.
(5) الألطاف عند المتكلمين هي المصالح، وهي الأفعال التي
اقتطافه. واستعينه في الاستقامة على سواء (1) سبيله. وأستعيذ به من الاستنامة (2) إلى الشيطان وتسويله (3). وأصليّ على المبتعث بالفرقان السّاطع. والبرهان (4) القاطع. محمّد وآله هذه مقامات أنشأها الإمام فخر خوارزم أبو القاسم محمود بن عمر الزّمخشريّ والّذي ندبه لإنشائها أنه أري في بعض إغفا آت (5) الفجر كأنّما صوّت به من يقول له يا أبا القاسم أجل مكتوب. وأمّل (6) (عندها يطيع المكلف أو يكون أقرب إلى الطاعة على سبيل الاختيار، ولولاها لم يطع، أو لم يكن أقرب مع تمكنه في الحالين، والواحد لطف، وقد لطف الله بعبده يلطف به وأما الألطاف الهدايا، فالواحد لطف قال: «وليكن لنا عنده التكريم واللطف».(1/9)
(5) الألطاف عند المتكلمين هي المصالح، وهي الأفعال التي
اقتطافه. واستعينه في الاستقامة على سواء (1) سبيله. وأستعيذ به من الاستنامة (2) إلى الشيطان وتسويله (3). وأصليّ على المبتعث بالفرقان السّاطع. والبرهان (4) القاطع. محمّد وآله هذه مقامات أنشأها الإمام فخر خوارزم أبو القاسم محمود بن عمر الزّمخشريّ والّذي ندبه لإنشائها أنه أري في بعض إغفا آت (5) الفجر كأنّما صوّت به من يقول له يا أبا القاسم أجل مكتوب. وأمّل (6) (عندها يطيع المكلف أو يكون أقرب إلى الطاعة على سبيل الاختيار، ولولاها لم يطع، أو لم يكن أقرب مع تمكنه في الحالين، والواحد لطف، وقد لطف الله بعبده يلطف به وأما الألطاف الهدايا، فالواحد لطف قال: «وليكن لنا عنده التكريم واللطف».
(1) سواء الشيء وسطه لاستواء ما بينه وبين الأطراف في المساحة.
(2) الاستنامة استفعال من النوم ومعنى استنام اليه سكن اليه سكون النائم.
(3) التسويل التسهيل من السحاب الاسول وهو المسترخي الوهيّ العزالي ودلو سولا: مسترخية لامتلائها قال:
تعلمنّ أنها الربوض ... سولاء فيها وذمات بيض
(4) البرهان نونه مزيدة وقد ابره الرجل، وهو من تركيب البرهة وهي المرأة البيضاء، لأن الحجة توصف بالإنارة والبياض وبرهن مولد.
(5) في أمثالهم الذمن إغفاءة الفجر.
(6) وأمل مكذوب كأن النفس تقول للأمل ليكونن ما تعلقت به وهي كاذبة في ذلك، ونحوه قراءة: {(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ)} (1) ونصب الظن كأن إبليس قال لظنه «لأغوينهم أجمعين» فكان كما قال.
__________
(1) سورة سبأ، الآية 20.(1/10)
مكذوب. فهبّ من إغفاآته تلك مشخوصا (1) به ممّا هاله من ذلك وروّعه. ونفّر طائره وفزّعه. وضمّ إلى هذه الكلمات ما ارتفعت به مقامة وآنسها بأخوات قلائل ثمّ قطع لمراجعة الغفلة عن الحقائق وعادة الذهول عن الجدّ بالهزل فلما أصيب في مستهلّ شهر الله الأصم (2) الواقع في سنة ثنتي عشرة بعد الخمسمائة بالمرضة النّاهكة (3) التي سمّاها المنذرة كانت سبب إنابته وفيئته.
وتغير حاله وهيئته. وأخذه على نفسه الميثاق لله إن منّ الله عليه بالصّحة أن لا يطأ بأخمصه عتبة السلطان. ولا واصل بخدمة السلطان أذياله وأن يربأ بنفسه ولسانه عن قرض الشّعر فيهم.
ورفع العقيرة (4) في المدح بين أيديهم. وأن يعفّ عن ارتزاق عطيّاتهم. وافتراض (5) صلاتهم. مرسوما وإدرارا وتسويفا ونحوه.
ويجدّ في إسقاط اسمه من الديوان ومحوه. وأن يعنّف نفسه حتى تقىء ما استطعمت في ذلك فيما خلالها في سي جاهليّتها وتتقنّع يقال شخص به إذا قلق في مكانه واستفز. أو شخص به الباء الأولى للتعدية والثانية صلة مؤكدة. ويقال شخص به إذا اغتابه.
(2) كانوا يسمون رجبا الأصم، لأن السلاح لا يتقعقع فيه، ولذلك سموه منصل الاسنة.
(3) نهكه المرض وهو الفصيح. ونهكه وأنهكه إذا بلغ منه. ومنه فلان ينهك في العدو. وشجاع نهبك.
(4) عقرت رجل رجل فرفعها وهو يصيح، فضرب رفع العقيرة مثلا في التصويت.
(5) فرض العطاء رسمه. وفروض الجند مراسمهم وافترضه أخذه كقولك: «افترض فرضا واجتلى العروس».(1/11)
بقرصيها وطمريها وأن يعتصم بحبل التوكل ويتمسك. ويتبتّل إلى ربّه ويتنسّك. ويجعل مسكنه لنفسه محبسا. ويتخذه لها مخيسا (1). ولا يريم (2) عن قراره ما لم يضطرّه أمر ذو خير لا يجد الصالح بدّا من تولّيه بخطوة. وأن لا يدرّس من العلوم التي هو بصددها إلّا ما هو مهيب (3) بدارسه إلى الهدى. رادع له عن مشايعة الهوى. ومجد عليه في علوم القراآت والحديث وأبواب المخيس موضع التخيس، وهو السجن كالمقيد لموضع التقييد في قوله:
«خليليّ بالبوباه عوجا فما أرى ... بها منزلا إلّا جديب المقيّد»
والتخييس التذليل والتليين. وهو من خاست البيضة إذا فسدت، ولانت. وقالوا: «خاس بضمانه» أفسده بأن لم يف به. وفي دالية النابغة: «وخيس الجن». ويعزى إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
«أما تراني كيسا مكيّسا ... بنيت بعد نافع مخيسا»
يريد سجنين، وعن ابن دريد أنه بكسر الياء، وعن الأصمعي أنه فتحه، فقيل له: أما يخيس من فيه؟ فقال: هذا كما قيل لبعض الملوك المكعبر بفتح الباء وإنما لقب بذلك، لأنه ضرب كعابر الرؤوس.
والوجه في ذلك التسمية بالمصدر أو بالمكان.
(2) لا يريم لا يبرح يقال رام المكان ولا ترمه وقال الأعشى:
«تقول ابنتي حين جدّ الرحيل ... أرانا سواء ومن قد يتسم
أبانا فلا رمت من عندنا ... فأنا بحير إذا لم ترم»
(3) أهاب به إلى كذا دعاه اليه وهو من إهابة الراعي بالابل لما فيها من الأرباب.(1/12)
الشرع من (1) عرف منه أنه يقصد بارتياده وجه الله تعالى ويرمي به الغرض الراجع إلى الدين ضاربا (2) صفحا (3) عمّن يطلبه ليتّخذه أهبة للمباهاة وآلة للمنافسة ويتسوّر (4) على اقتباسه إلى الحظوة عند الخائضين في غمرات الدّنيا والتسمّي بين ظهرانيهم بالفاضل والتلقب بالبارع وذريعة إلى ما نزع هو يده منه وتاب التوبة النّصوح من الرجوع اليه أو يرجع اللّبن في الضّرع وحين أتاح الله له الصّحة التي لا يطاق شكرها وألطف له في الوفاء بما عهد. والضّمان الذي لا يخيسنّ به إلا ظالم نفسه (5) انتدب للرجوع إلى رئاس عمله من عرف منه مفعول يدرس ودرس متعد إلى مفعولين. لأنك تقول درس العلم فإذا ثقلته ثقلته إلى مفعولين ويكون أيضا درس بمعنى درس على التكثير والتكرير. ويحتمل قراءة من قرأ {(وَمََا آتَيْنََاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهََا)} (1). الوجهين.
(2) ضاربا نفسه وطاردا لها، كما تضرب عن الحوض غريبة الابل.
(3) صفحا: إعراضا على أنه مفعول له، أو جانبا على أنه ظرف.
ويدل عليه قراءة من قرأ {(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً)} (2)
بالضم.
(4) التسور والتسلق بمعنى يقال: «تسور الجدار وعليه إذا إذا ركب سوره. أي أعلاه ثم هبط عليه، ونظيره تسنمه وتذراه وتفرعه إذا ركب سنامه، وذروته وفرعه وهو أعلاه وأما تسلقه فمستعار من التفعل من سلق المرأة، إذا تغشاها مستلقيه. شبّه ركوبه الجدار بذلك.
(5) ندب إلى كذا فانتدب له من كلام العرب ورجع إلى رياس
__________
(1) سورة سبأ، الآية 44.
(2) سورة الزخرف، الآية 5.(1/13)
في إنشاء المقامات حتى تمّمها خمسين مقامة يعظ فيها نفسه وينهاها أن تركن إلى ديدنها الأوّل بفكر فيه وذكر له إلا على سبيل التندم والتحسر ويأمرها أن تلجّ في الاستقامة على الطريقة المثلى وإلقاء الشراشر (1) على ما يقتضيه ما أبرمه من الميثاق وأكّده من العقد فعل الحازم الذي استثناه الله في عقله وفضله وجدّه وثباته. من كثير من الناس ولم يأتل فيما يعود على مقتبسيها بجليل النّفع وعظيم الجدوى. في بابي العلم والتقوى. من انتقاء ألفاظها. وإحكام أسجاعها وتفويف (2) نسجها. وإبداع نظمها. وإيداعها المعاني الّتي (عمله، وكن على رياس أمرك، ورياس السيف مقبضه ومن تحريف العامة «رجع إلى رأس عمله».
(1) ألقى شراشره على كذا إذا ركب عليه وقال ذو الرمة:
«وكائن تري من رشدة في كريهة
ومن غية تلقى عليها الشراشر»
وحقيقة الشراشر ما تفرق من همه وانتشر، كما تقول جمع له همه من قولهم: شرشر الشيء إذا قطعه قطعا ولا واحد لها كالجراميز في جمع له جراميزه. ويجوز أن تكون جمع المصدر الذي هو الشرشرة مسمى به المشرشر كما ذكر في التضاعيف.
(2) التفويف التوشية، وبرد مفوف فيه خطوط بيض. قال ابن دريد المفوف: الموشى فيه رقة ويقال للوشي أفواف قال ابن الزبعري:
«قد كذبتم ما لباسكم ... جيد الأفواف والحبرة
بل ثياب القين بذّكم ... وثياب القين مشتهره»
ويقال برد أفواف قال عبد العزيز زرار الكلابي:
«لئن مررت على تثليث منطلقا ... لأكسونّك بردا غير أفواف»
تزيد المستبصر في دين الله استبصارا. والمعتبر من أولي الألباب اعتبارا. والله يسأل أن يلقي عليها قبولا من القلوب ويرزقها ميلا من النفوس وإنصاتا من الأسماع وتسييرا في البلاد وأن يستنطق ألسنة من طرأت عليه من أفاضل المسلمين بالدعوة الطيّبة لمنشئها والترحم على مقتضبها (1) والله تعالى مرجوّ الإجابة. لمن يسأله من أهل الإنابة.(1/14)
«لئن مررت على تثليث منطلقا ... لأكسونّك بردا غير أفواف»
تزيد المستبصر في دين الله استبصارا. والمعتبر من أولي الألباب اعتبارا. والله يسأل أن يلقي عليها قبولا من القلوب ويرزقها ميلا من النفوس وإنصاتا من الأسماع وتسييرا في البلاد وأن يستنطق ألسنة من طرأت عليه من أفاضل المسلمين بالدعوة الطيّبة لمنشئها والترحم على مقتضبها (1) والله تعالى مرجوّ الإجابة. لمن يسأله من أهل الإنابة.
(وقال في الواحدة فوف، ويقال فلان يلبس الفوف والفوف نكت بيض في أظفار الأحداث.
(1) اقتضاب الكلام اختصاره وارتجاله، من قولهم اقتضب الغصن إذا اقتطعه بسرعة، واقتضب الناقة اعتسرها وهو أن يركبها قبل أن تراض. وناقة قضيب، وقصيدة قضيب، وقال ابن دريد كل من كلفته عملا قبل أن يحسنه فهو مقتضب فيه. ومنه كتاب المقتضب لأبي العباس المبرد.(1/15)
مقامة المراشد
مقامة (1) المراشد (2) يا أبا القاسم إنّ خصال (3) الخير كتفّاح (4) لبنان. كيف ما المقام والمقامة كالمكان والمكانة، موضع القيام فاتسع فيهما حتى استعملا استعمال المكان والمجلس، وقال الله تعالى (خير مقاما وأحسن نديّا). وقال نهشل بن جرى الدارمي:
«إنّا نظرنا في المقامة مالكا ... نظر المسافر اين ضوء الفرقد»
وقال المسيب بن غلس:
«وكالمسك ترب مقاماتهم ... وترب قبورهم أطيب»
ثم قيل لما يقام به فيها من خطبة أو شبهها مقامة كما يقال له مجلس.
ويقال مقامات الخطباء ومجالس القصاص، كما يسمى الجالسون فيها مقامة. قال زهير:
«وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل»
ومجلسا. قال مهلهل:
«نبّئت أنّ النار بعدك أوقدت ... واستبّ بعدك يا كليب المجلس»
(2) المراشد جمع مرشد بمعنى الرشد، وفي الاعلام مرشد ورشد.
(3) الخصلة أصلها المرة من الخصل في النضال، وهو الغلبة فيه.
يقال: خاصلته فخصلته وتخاصلا في الرمي.
(4) تفاح لبنان موصوف بحسن اللون وطيب الرائحة والطعم ويجلب
قلّبتها دعتك إلى نفسها. وإنّ خصال السوء كحسك السّعدان (1) أنّى وجّهتها نهتك عن مسّها. فعليك بالخير إن أردت الرفول (2) في القوارير إلى الخلفاء، ووصفه المأمون فقال: «فيه البياض الفضي والحمرة الياقوتية والخضرة الزمردية لو فرقت الواحدة منه لكانت قوس قذح ولو جمعت قوس قذح لكانت تفاحة لبنانية». وعلى نمط وصف المأمون قال الخليع الشامي:(1/16)
(4) تفاح لبنان موصوف بحسن اللون وطيب الرائحة والطعم ويجلب
قلّبتها دعتك إلى نفسها. وإنّ خصال السوء كحسك السّعدان (1) أنّى وجّهتها نهتك عن مسّها. فعليك بالخير إن أردت الرفول (2) في القوارير إلى الخلفاء، ووصفه المأمون فقال: «فيه البياض الفضي والحمرة الياقوتية والخضرة الزمردية لو فرقت الواحدة منه لكانت قوس قذح ولو جمعت قوس قذح لكانت تفاحة لبنانية». وعلى نمط وصف المأمون قال الخليع الشامي:
«الراح تفاح جرى ذائبا ... وهكذا التفاح خمر جمد
فاشرب على جامدها ذوبها ... ولا تدع لذة يوم لغد»
وقال أبو الطيب:
«لما التقى خدّها وتفاح لبنان وثغري على حمياها»
(1) السعدان نبات تغزر عليه ألبان الابل، وفي المثل مرعى ولا كالسعدان، ويقال أطيب الابل لحما ما أكل السعدان، وينبت متفرشا على الأرض. وقيل لبعض أهل البدو: أما تخرج إلى البادية؟ فقال:
أما ما استلقي السعدان فلا، ويقال له القطب، وهو كثير الحسك.
يقال قطبة حسكة. وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (ولتألمنّ النوم على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان).
(2) الرفول في الثوب الضافي: التبختر فيه، ورمح أذياله. ورجل رفل وامرأة رافلة. والرفل الذيل. يقال: شمر رفله لغة يمانية.(1/17)
في مطارف (1) العزّ الأقعس (2) وإياك والشرّ فإنّ صاحبه ملتف (3) في أطمار (4) الأذلّ الأتعس. أقبل على نفسك فسمها (5) النظر في المطرف بكسر الميم وضمها ثوب في طرفيه علمان، ونحوه المصحف والمصحف والمسجد والمسجد والأصل الضم والكسرة بدل، وهذا في الحركات كالابدال في الحروف.
(2) عز أقعس وعزة قعسا. وأصله وصف العزيز المتكبر بالقعس.
وهو خروج الصدر للكبر كما يوصف بالشوس والصيد والصعر والصور فنقل إلى العز كقولهم: جد جده. وإياك والشر. واتقي نفسك واتقي الشر.
(3) التف في ثوبه وتلفف في ثوبه، وعن عبد الرحمن بن حسان أنه لسعه زنبور فقال له أبوه: ما لك؟ قال: لسعني شيء كان ملتفا في بردي حبرة.
(4) الطمر الثوب الخلق وفي الحديث: (ربّ أشعث أغبر ذي طمرين). وأتانا فلان في طمره كما تقول في هدمه، أي في قطعه من الأخلاق واطمر بطمرته إذا اشتمل بها وهو في الأصل فعل بمعنى مفعول من طمره إذ ستره لأن العيون تقتحمه ولا تتعلق به فكأنه مطمور.
(5) فسمها النظر من قولهم سامه خسفا وقوله تعالى: {(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ)} (1). أي يبغونكم إياه ويريدونكم عليه من سوم السلعة.
__________
(1) سورة البقرة، الآية 49.(1/18)
العواقب. وبصّرها عاقبة الحذر (1) المراقب. (2) وناغها (3) بالتذكرة الهادية إلى المراشد. ونادها إلى العمل (4) الرّافع والكلم الصاعد.
وألجمها عمّا يكلم دينها. ويثلم يقينها. وحاسبها قبل أن تحاسب:
وعاتبها قبل أن تعاتب. وأخلص اليقين. وخالص المتّقين. وامش في جادّة الهادين الدّالين. وخالف عن بنيّات (5) طرق العادين الحذر والحذر كالندس والندس الشديد الحذر.
(2) المراقب من راقب الله إذا حذره. وفلان لا يراقب ربه وحقيقته لا يراعي ما يجب عليه مراعاته بالتفكر فيه والعمل به، وتقديره لا يراقب أمر ربه.
(3) المناغاة كالمناغمة والنغية النغمة يقال نغى إليّ فلان نغية حسنة، ونغيت اليه أخرى إذا تكالما بما يحسن ويعجب وفي أمثالهم: «واها لها من نغية ما أبردها على الكبد». يضرب عند الخبر السار. ومن فصيح كلامهم ناغى الماء الكواكب إذا روءي خيالها فيه.
(4) العمل الرافع والكلم الصاعد من قوله تعالى: {(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصََّالِحُ يَرْفَعُهُ)} (1).
(5) بنيات الطرق ما يتشعب في صغار المسالك، ويسمى الترهات.
والنزارة والمخالفة عنها تركها يقال: خالف عنه إذا تركه، وخالف اليه إذا أقبل نحوه. قال الله تعالى: {(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخََالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)} (2) وقال عبد الله بن الزبعري:
«أكلل أظفاري وآمر بالتقى
ومن لا يخالف عن روى الجهل يندم».
__________
(1) سورة فاطر، الآية 10.
(2) سورة النور، الآية 63.(1/19)
الضالين. واعلم أنّ الحامل على الضلال. صل (1) اصلال. لسعته لا ينفعك منها الرّقي. إلا إذا كانت رقيتك التقى. سقى الله أصداء قوم هفوا ثم انتعشوا. وجدّوا فيما أجدى عليهم وانكمشوا (2) ويحك إخلط نفسك بغمارهم. واحملها على شقّ غبارهم. فعسيت (3) بفضل الله تنجو. وتفوز ببعض ما ترجو.
الصل الحية التي لا تنفع منها الرقية. ويقال للرجل الداهي:
إنه لصل اصلال، والإضافة إلى الاصلال لجعله واحدا منها متناهيا في الخبث كافة، قيل: خبيث خباث.
(2) انكمش في الأمر: سعى فيه بسرعة وجلد ومنة «كميش الازار خارج نصف ساقه». وكمش أذياله: شمرها. كانوا يقولون إذا قتل قتيل خرجت من رأسه هامة فلا تزال تزقو بأسقوني حتى يدرك ثأره. والصدى ذكر الهام فمن ثم قالوا: سقى الله صدى فلان أي سهل درك ثأره. وقال الفرزدق:
«فلا أثقى الإله صدى تميم ... فقد أزرى بنا في كلّ باب».
يقال: دخل في غمار الناس وخمارهم وهو جماعتهم وكثرتهم، من غمره وخمره إذا ستره لأنهم يسترون الأرض بكثرتهم أو من يندس في وسطهم.
(3) عسيت أن أفعل هي اللغة الحجازية العالية وبها نزل القرآن {(فَهَلْ عَسَيْتُمْ)} (1) ويقال عساك وعساني مثل لعلك ولعلني.
__________
(1) سورة محمد، الآية 23.(1/20)
مقامة التقوى
مقامة التقوى يا أبا القاسم العمر قصير. وإلى الله المصير. فما هذا التقصير.
إنّ زبرج (1) الدّنيا قد أضلّك. وشيطان الشهوة قد استزلّك (2).
لو كنت كما تدّعي من أهل اللّب والحجى (3). لأتيت بما هو أحرى بك وأحجى. ألا إنّ الأحجى بك أن تلوذ بالرّكن الأقوى. ولا ركن أقوى من ركن التقوى. الطرق شتى فاختر منها منهجا يهديك.
ولا تخط قدماك في مضلّة ترديك. ألجادّة (4) بيّنة. والمحجّة الزبرج الزخرف وهو من أسماء الذهب، وزبارج في الاعلام تسميته بجمعه كما سميت الضبع بحضاجر والبلدة بمدائن.
(2) لما كانت الشهوة حاملة للانسان على الذلة، جعل لها شيطانا يستزل على سبيل الاستعارة.
(3) الحجى العقل واشتقاقه من حجا إذا ثبت. ومنه حاجيتك كأنه عاقلتك لأن المحاجاة كالمباراة في العقل. وفلان حجى بكذا إذا كان خليقا به وهو به أحجى كأن معناه ثابت فيه متمكن بدليل قولهم حقيق به ومعنى حق ثبت.
(4) الجادة معظم الطريق وقصده، يقال: فلان ركب الجادة إذا انطلق وهي فاعلة من الجدة، لأنها ليست بعافية الأثر خافية المسلك كالطرق العادية التي ترك الناس سلوكها.(1/21)
نيرة. والحجة متّضحة. والشبهة مفتضحة. ووجوه الدلالة وضاء. والحنيفية (1) نقيّة (2) بيضاء. والحقّ قد رفعت (3) ستوره.
وتبلّج فسطع نوره فلم تغالط (4) نفسك. ولم تكابر (5) حسّك.
ليت شعري ما هذا التواني. والمواعظ (6) سير السّواني.
الحنيفية: الملة الحنيفية. وهي ملة الاسلام نسبت إلى الحنيف، وهو الذي مال عن جميع الأديان الباطلة إلى دين الحق. وتحنف الرجل كما يقال تهوّد وتنصر.
(2) نقية بيضاء من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعمر حين سمعه يقول: «إنا نسمع أحاديث من يهود وتعجبنا أفترى أن نكتب بعضها»: (أمتهوّ كون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى لقد جئتم بها بيضاء نقية).
(3) رفعت ستوره: كشف وبين ولم يبق فيه خفاء.
(4) المغالطة أن تحاول بصاحبك الغلط فيما لا يغلط في مثله الفطن.
فيقول لك: أتغالطني؟ وجيء بها على المفاعلة لما فيها من المراودة ومغالطة النفس، أن تحدثها بما عرفت خلافه وتبينت خدره.
(5) والمكابرة المغالبة بإنكار المعروف وغير المنكر. وفي أمثلة كتاب سيبويه: أزيدا أنت محبوس عليه وازيدا أنت مكابر عليه. بمعنى اتنتظر زيدا أنت محبوس عليه. وأسلبت زيدا أنت مكابر عليه، لأن معنى كوبر على الشيء غولب عليه وأخذ منه غصبا وقهرا وقال أبو زبيد الطائي في صفة الأسد:
«عبوس شموس مصلخد مكابر ... جريء على الأقران للقرن قابر»
(6) والمواعظ سير السواني، يريد أنها متصلة غير منقطعة لا تزال تدور عليك وفي أمثالهم: «سير السواني سفر لا ينقطع».(1/22)
مقامة الرضوان
مقامة الرضوان يا أبا القاسم أجل مكتوب. وأمل مكذوب. وعمل خيره يقطر وشره يسيل. وما أكثر خطأه وصوابه قليل. أنت بين أمرين لذّة ساعة بعدها قرع السنّ (1) والسقوط في اليد. ومشقّة ساعة يتلوها الرضوان وغبطة الأبد. فما عذرك في أن ترقل كلّ هذا الإرقال (2) يقال للنادم قرع سنه وسقط في يده، وأكل كفه وعض أنامله وبنانه. وهذا من باب الكناية لأن ذلك مما يرادف الندم، ومعنى سقط في يده سقط فوه وأسنانه في يده يعضها. قال الله تعالى: {(وَلَمََّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ)} (1) فحذف الفاعل وبني للجار والمجرور، وقرىء:
ولما أسقط في أيديهم، وأصله أسقطت أفواههم في أيديهم فحذفت الأفواه وأسند إلى الجار والمجرور، كقولك بلغ بالهدي، ورفع إلى زيد إذا لم ترد ذكر المبلوغ والمرفوع.
(2) الإرقال الإسراع، مستعار من أرقلت الناقة فهي مرقال كما استعار حسان في قوله:
«وأصيد نهاضا إلى السيف صارما ... إذا ما دعى داع إلى الموت أرقلا»
وزاد عليه الهذلي حيث قال:
«أما أنه لو كان غيرك أرقلت ... اليه القنا بالراعفات اللهاذم».
__________
(1) سورة الأعراف، الآية 149.(1/23)
إلى الشقاء وطول الحرمان. وأن تغذّ (1) كلّ هذا الإغذاذ إل النار وغضب الرحمن. وأين علتك في أن تشرد شراد (2) الظليم.
عن رضوان الله ودار النعيم. هيهات لا عذر ولا علّة إلا أنّ عاجلا حداك (3) حبّه على إيثاره. ودعاك داعي الشهوة (4) إلى اختياره.
ألا إنّ تمام الشقوة (5) أن تقعد أسير الشهوة. أيها العاقل لا يعجبنّك هذا الماء (6) والرّونق. فإنه صفو مخبو تحته الرّنق. ولا يغرّنك هذا الرواء (7) يقال جاء مغذا أي مسرعا، وقال أبو عبيد الانجذاب سرعة المشي والاغذاذ مثله.
(2) شراد الظليم: مثل. يقال: «أشرد من ظليم» وهو ذكر النعام، وكأنه سمي ظليما لأنه يظالم غيره بأن يأخذ بيض ذاك يحضنه كما يأخذ ذاك بيضه.
(3) حداه على الأمر بعثه عليه وحثه وهو من حدو الابل.
(4) جعل للشهوة داعيا مجازا كما جعل لها شيطانا.
(5) الشقوة والشقوة لغتان. وحق هذه أن تفتح شينها لوقوعها قرينة الشهوة. وإذا ورد نحو قوله عليه السلام: (ارجعن مأزورات غير مأجورات). كان اختيار إحدى اللغتين السابقتين على الأخرى للازدواج أولى.
(6) أراد بالماء البهاء والآس، ومنه ماء السيف لفرنده وهو مستعار من الماء المشروب. وهذا مثل لزهرة الدنيا وزخارفها.
(7) وكذلك الرواء المونق والرواء المنظر. تقول العرب: ما لفلان رواء ولا شاهد أي منظر ولا لسان. قال أبو علي الفارسي:
المونق (1). فوراء البلاء الموبق. سبحان الله. أيّ جوهرة كريمة أوليت. وبأيّ لؤلؤة يتيمة (2) حلّيت. وهي عقلك ليعقلك.(1/24)
(7) وكذلك الرواء المونق والرواء المنظر. تقول العرب: ما لفلان رواء ولا شاهد أي منظر ولا لسان. قال أبو علي الفارسي:
المونق (1). فوراء البلاء الموبق. سبحان الله. أيّ جوهرة كريمة أوليت. وبأيّ لؤلؤة يتيمة (2) حلّيت. وهي عقلك ليعقلك.
وحجرك ليحجرك. ونهيتك لتنهاك وأنت كالخلو (3) العاطل. لفرط تسرعك إلى الباطل.
يكون من الرؤية ويجوز ان يكون من الري ويكون المعنى أن عليه طرأة وعليه نضارة لأن الري يتبعه ذلك كما في العطش يتبعه الذبول والجهد.
(1) أنق الشيء فهو انق وانيق إذا عظم حسنه. وآنق غيره إذا أعجبه وآنقه غيره فهو مونق.
(2) اليتيمة التي لا شبه لها لانفرادها عن الاشباه. وكل شيء انفرد فقد يتم ويتم فهو يتيم. وقيل لها فريدة والجمع فريد وفرائد.
وقال ابن دريد: الفريدة كل خرزة فصل بها بين ذهب في نظم.
(3) كالخلو كالخالي من العقل العاطل من حليته، لأن التسرع إلى الباطل ليس من قضية العقل، كما قال الله تعالى: (لا يعقلون) فيمن لا يعمل على مقتضى عقله، وإن كانوا عقلاء مراجيح العقول.(1/25)
مقامة الإرعواء
مقامة الإرعواء (1) يا أبا القاسم شهوتك يقظى فأنمها. وشبابك فرصة فاغتنمها.
قبل أن تقول قد شاب القذال. وسكت العذّال. أكفف قليلا من غرب شطارتك. وانته عن بعض شرارتك. حين عيدان (2) نشاطك (3) تخفق. وألسنة عذّالك تنطق. وعيون الغواني. اليك الارعواء افعلال واصل ارعوى أرعو نحو أحمر، فأعلت إحدى الواوين كما فعلوا في أفعال نحوه وهو أحواوي واصله احواو، ومعناه الانقياد والميل إلى الرشد، قال عدي بن زيد العبادي:
«فارعوى قلبه فقال وما غب ... طة حي إلى الممات يصير».
وليس من الرعوى لأن لأمه واو ولام الرعوى ياء لأنها من الرعاية.
ألا ترى أن معنى ارعى عليه ورعاه واحد، وإنما قلبت واوا فرقا بين الاسم وبين الصفة التي هي خزيا وصديا.
(2) العيدان جمع العود الذي يضرب به، وخفقها اصطفاقها واضطراب أوتارها، يقال: خفقت العيدان.
(3) جعل للنشاط عيدانا تخفق، على طريق المجاز. وهو من لطيف الاستعارة وأوقعها.(1/26)
رواني. (1) وعودك ريّان. وظلك فينان. وخطية قدّك عسّالة.
وفي عمرو (2) قوّتك بسالة (3). ثمّ إياك أن تنزل (4) على طاعة هواك في الاستنامة إلى الشيطان وخطراته. والرّكون إلى اتباع خطواته.
فإنّ من تسويلاته لك. وتخييلاته اليك. أن لات (5) حين ارعواء، الرنو: دوام النظر. ومنه كاس رنوناة دائمة الدور. وعين رانية وعيون روان. والوقف بإثبات الياء فيما لا ينون كالوقف بحذفها فيما ينون أعني أن الفصيح هذا القاضي وهذا قاض. أراد وصف شبابه فجعل نفسه كالغصن الأخضر واستعار له أوصافه. فلذلك قال وعودك ريان وظلك فينان، كأنه يخاطب الغصن والفينان الظليل وهو فيعال من الفين وأصله في صفة الشجر يقال شجرة فينانة إذا التفت أفنانها وأسود ظلها فوصف به الظلّ كما يقال ذيل ذائل. قال أبو نواس:
«فينان ما في أديمه جوب». ومنعه الصرف وهم منه كما وهم الطائي في عريان فقال: «والنبع عريان ما في عوده ثمر».
(2) أراد بعمرو عمر بن معدي كرب، وكان يعد بألف فارس وجعله لقوّته عمرا من بديع المجاز وبارعه.
(3) والبسالة مصدر الباسل وهو الشجاع الشديد العبوس. قيل:
هو أبلغ من الباسر.
(4) نزل على طاعته وعلى حكمه إذا قبل ذلك قبول راض غير ناب عنه مطمئنة به نفسه.
(5) لات: هي لا التي بمعنى ليس عند سيبويه، زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على ثمّ وربّ للتوكيد وتغير بذلك حكمها فلم تعمل إلا في الأحيان ولم يبرز اسمها وخبرها معا ولكن أحدهما، فإما أن
وأين (1) عنك زمان الانتهاء. على رسلك (2) حتى ينحني غصن القامة. ويبرق ضلع الهامه. وترى التنومة (3) ثغامة (4). فأمّا وميعة (5) يقال ولات حين مناص بالنصب يعني وليس الحين حين مناص. وإما أن يرفع على معنى وليس حين مناص لهم. وعند الأخفش هي لا النافية للجنس والمعنى ولا حين مناص.(1/27)
(5) لات: هي لا التي بمعنى ليس عند سيبويه، زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على ثمّ وربّ للتوكيد وتغير بذلك حكمها فلم تعمل إلا في الأحيان ولم يبرز اسمها وخبرها معا ولكن أحدهما، فإما أن
وأين (1) عنك زمان الانتهاء. على رسلك (2) حتى ينحني غصن القامة. ويبرق ضلع الهامه. وترى التنومة (3) ثغامة (4). فأمّا وميعة (5) يقال ولات حين مناص بالنصب يعني وليس الحين حين مناص. وإما أن يرفع على معنى وليس حين مناص لهم. وعند الأخفش هي لا النافية للجنس والمعنى ولا حين مناص.
(1) واين عنك اسبعاد للزمان الذي ينتهي فيه عن الصبوات.
(2) الرسل اسم من الترسل في الأمر، وهو الاتئاد فيه ومنه الحديث: (إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاجذم)، ومعنى على رسلك كن على رسلك أو أثبت عليه. وسمعتهم يقولون: امش على رسلك، وخلّ الاباعر على رسلها، وقيل للبن رسل لاسترساله في حلق شاربه وسهولة مروره فيه. ومنه قوله تعالى: {(لَبَناً خََالِصاً سََائِغاً لِلشََّارِبِينَ)} (1) ويقال: لم يغصّ أحد باللبن قط.
(3) التنومة نبات أسود وفي الحديث: (انكسفت الشمس. على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى آضت كأنها تنومة).
(4) والثغامة: نبت أبيض. وفي الحديث: (أتى بأبي قحافة وكأنّ رأسه ثغامة). شبّه الشعر الفاحم بالتنومة والأبيض بالثغامة.
(5) النشاط والحدة، يقال: ميعة الشباب وميعة الفرس في عدوه.
قال أمية بن أبي الصلت:
«إذ نحن في ميعة الشباب وإذ ... بعلك غيران واله قطم».
__________
(1) سورة النحل، الآية 66.(1/28)
الشبيبة معك. فإن صاح بك واعظ فلا أسمعك (1). هذه حبائله ومصايده. (2) وحيله ومكايده. والعجب من نفسك أنها تستلذ الوقوع فيها. وإن لم ترج الخلاص منها.
فلا أسمعك دعاء من إبليس لعنه الله على الواعظ.
(2) المصايد والمكايد: ياؤهما كياء المعايش في وجوب التصريح بها، ونقطها، وأما نحو الصحائف والرسائل والقائم والبائع فحقها أن لا تنقط، ولكن ترقم بهمزة فوق الياء أو تحتها. ونقطها خطأ قبيح عند العلماء المتقنين والتصريح بها في اللفظ كذلك لا يخرج إلا بين بين أو بهمزة صريحة.(1/29)
مقامة الزاد
مقامة الزاد يا أبا القاسم اترك الدّنيا قبل أن تتركك. وافركها (1) قبل أن تفركك. طلّق القائلة بملء (2) فيها أنا غدّارة غرّارة. ختّالة (3).
الفرك: البغض، وفركه يفركه وامرأة فروك خلاف عروب.
والمفرّك الذي تفركه النساء. وكان امرؤ القيس مفركا، وسأل بعض نسائه فقالت: إنك لخفيف، العجزة، ثقيل الصدرة، سريع الاراقة، بطيء الافاقة، وتوجد منك ريح كلب وكان قد أرضع بلبن كلبة.
(2) الملء: مصدر ملأ، والملء بالكسر: القدر الذي يملأ به الشيء. ونحوهما السكر في مصدر سكر النهر والسكر فيما يسكر به.
ويقال: أعطني ملأ القدح وملائه وثلثة املائه. قال الله تعالى {(فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً)} (1).
(3) الختل: الخدع. وكلب ختال يختل الانسان حتى يثب عليه.
وقال ابن دريد ختلت الرجل عن الشيء: ارغته عنه، وختل الذئب الصيد: تخفى له.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية 91.(1/30)
ختّارة (1). وما الفائل (2) رأيه إلا من رآني على الأخرى مختاره.
لاتني (3) أيامها ولياليها ينحتن (4) من أقطارك. فقضّ فيها أسرع (5) ما تقضي أهمّ أوطارك. إنّ أهمّ أوطارك فيها تزودك منها. فالبدار البدار قبل إشخاصك عنها. لكلّ رفقة ظاعنة يوم يتواعدونه.
وميقات مضروب لا يكادون يظعنون دونه. فيتمهّلون (6) في الاستعداد قبل حلول الميعاد. ويتدبّرون تعبية الجهاز وتهيئة الزّاد. حتى إذا الختر أقبح الغدر وفي كلام بعضهم:
«ربّ من هو عند الناس مختار ... وهو عند الله ختار»
(2) فائل الرأي: ضعيفه، وقد فال رأيه وفيل رأيه ضعفه.
(3) لا تني لا تفتر {(وَلََا تَنِيََا فِي ذِكْرِي)} (1). ويستعمل لا ينى بفعل استعمال لا يفتا.
(4) ينحتن من اقطارك: يأخذن من جوانبك، بمعنى ينقصن قواك، ويضعفن بدنك. قال العجاج:
«كأنه من طول جذع العفس ... ورملان الخمس بعد الخمس
ينحت من أقطاره بفائس
(5) أسرع: منصوب نصب المصدر لأن المعنى فقض أسرع تقضيتك. ويجوز أن يكون ظرفا أي في أسرع أوقات تقضيتك.
(6) تمهل في الأمر: اتئد فيه وارتاض ووجد مهلة حتى قضى منه وطره. ومنه قول الطائي: «تمهل في روض المعاني العوازب».
__________
(1) سورة طه، الآية 42.(1/31)
نهضوا نهضوا ملأ المزاود (1) والمزاد. ألا إنّ النّذير بمفاجأة رحيلك يصيح بك في بكرتك وأصيلك. فقل لي أين جهازك المعبّأ. وأين زادك المهيّأ. وأين ما يقتل به الطّوى (2) والظّمألا أين. كأنّي (3) بك قد فوجئت بركوب السفر (4) الشّاسع. والشقة ذات الأهوال والفظائع. وليس في مزودك كفّ سويق يفثأ من سورة طواك.
ولا في إدواتك جرعة ماء تطفىء من وقدة صداك. فيا حسرتا (5).
لو أنّ يا حسرتا تغني. ويا أسفا لو أنّ يا اسفا تجدي.
المزادة الزائدة على السطيحة بجلد، لأن السطيحة من جلدين، والمزادة من ثلاثة. قال الأصمعي: المزادة والراوية والشعيب شيء واحد وهو الذي يفأم بجلد ثالث بين الجلدين حتى يتسع.
(2) الطوى: الجوع. يقال: طوى يطوي إذا جاع. وطوى يطوي إذا أرى من نفسه الجوع، وليس به. ونظيره عرج يعرج وعرج يعرج وقتله مجاز عن تسكينه:
أبى جوده لا البخل واستعجلت به ... نعم من فتى لا يمنع الجوع قاتله
(3) كأني بك: كأني أبصر بك. ومعناه أعرف لما أشاهد من حالك اليوم كيف تكون حالك غدا، كأني أنظر إليك وأنت على تلك الحال.
(4) السفر الشاسع: سفر الآخرة وكف السويق، وجرعة الماء كناية عن الشيء القليل.
(5) والألف في يا حسرتا منقلبة عن ياء الإضافة.(1/32)
مقامة الزهد
مقامة الزهد يا أبا القاسم ما لك لا ترفض هذه الفانية رفضا. ولا تنفض يديك عن طلبها نفضا. ألم تر كيف أبغضها الله وأبغضها أنبياؤه.
ومقتها ومقتها أولياؤه. ولولا استيجابها أن تكون مرفوضة.
لوزنت (1) عند الله جناح بعوضه. إن راقك رواؤها الجميل فما وراءه مشوّه. ما هي إلا سمّ ذعاف (2) بالعسل مموّه (3). منغّصة لوزنت عند الله جناح بعوضة. من قول النبي عليه السلام:
(لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء).
(2) الذعاف: السم الذي يقتل وحيا. والزعاف بالزاي مثله وزعفه وذعفه قصعه مكانه.
(3) المموّه أصله أن يطلي الحديد ونحوه بماء الذهب ليظن أنه ذهب ثم صار مثلا في كل شيء مزور. والتمويه تفعيل من تركيب الماء لأن أصله ماه بدليل مويه وأمواه. وماهت الركية، ورجل ماه القلب.
وسمعت في طريق مكة من يقول لبدوي كيف ماء؟ وإن قال ميهة، قال أميه مما كانت. قال نعم أموه مما كانت. وأمهيت السكين مقلوب من اموهت. وقد ملح بعضهم في قوله:
«إنّ الأديب ابن موّه ... هو الأديب المموه»
المسارّ لم تخل من أذى. مطروقة (1) المشارب لم تصف من قذى.(1/33)
«إنّ الأديب ابن موّه ... هو الأديب المموه»
المسارّ لم تخل من أذى. مطروقة (1) المشارب لم تصف من قذى.
مع كلّ استقامة فيها اعوجاج. وفي كلّ دعة من المشقّة مزاج. (2)
شهدها مشفوع بإبر النّحل. رطبها مصحوب بسلّاء (3) النّخل.
أمام الظفر بغنيمتها الاصطلاء بنار الحرب. قبل اعتناق سيبها معانقة أبناء الطعن والضرب. إذكر المرواني (4) وما مني به من خطّة على يقال ماء طرق ومطروق وهو الذي طرقته الدوابّ وخاضته وبالت وبعرت فيه. ومنه قولهم هذا معنى مطروق للذي ألم به غير واحد.
(2) المزاج: ما يمزج به الشيء. قال الله تعالى (ومزاجه من تسنيم) ومن أبيات الكتاب:
«كأنّ سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء».
والقطاف مثله.
(3) السلاء: شوك النخل، والواحد سلاءة. وفي أمثالهم:
«إستغنت السلاءة عن التنقيح»: قال علقمة بن عبدة:
«أسلاءة كعصا الهنديّ غل لها ... محطم من نوى قرآن معجوم».
(4) المرواني هو يزيد بن عبد الملك بن مروان، إشترى جارية إسمها حبابة، بأربعة آلاف دينار. وبلغ من استهتاره بها أنه لهى بها عن تدبير الخلافة، فكان لا يقعد للناس في الأيام إلا يوما واحدا.
فأصبح ذات يوم فقال لا كذبن اليوم من قال: لا تصفو الدنيا لبشر يوما. فأمر فحملت المفارش والآلات إلى بستان له بظاهر الرصافة وفرش له حول بركة ثمة، واجتمع من كان يستأنس به من ندمائه واندفعت حبابة تضرب وتغني فاهتز على غنائها وطرب وصفق بيديه
رأسه مصبوبه، حين غصّت بحبة الرمّان حبابته المحبوبة. ثمّ هبها مروّقة (1) المشارب. مصفّقة من الشوائب. قد صفت لصاحبها كلّ لذّة. وأظلّته سحابة اللهو هاطلة مرذّة (2). أما يكفي تيقّن المسرور بزوال ما هو فيه منغّصا لسرورها. وزاجرا للعاقل أن يلوي (3) على غرورها. بلى إن نزل اللبيب على قضية لبّه. إن دعاه داعي الشهوة لم يلبّه. وهيهات إنّ مدعوّ الهوى لمجيب. وإنّ سهم دعوة الدّاعي لمصيب. اللهمّ إلا عبدا بحبل الله يعتصم. ويتمسّك بعروته التي لا تنفصم.(1/34)
فأصبح ذات يوم فقال لا كذبن اليوم من قال: لا تصفو الدنيا لبشر يوما. فأمر فحملت المفارش والآلات إلى بستان له بظاهر الرصافة وفرش له حول بركة ثمة، واجتمع من كان يستأنس به من ندمائه واندفعت حبابة تضرب وتغني فاهتز على غنائها وطرب وصفق بيديه
رأسه مصبوبه، حين غصّت بحبة الرمّان حبابته المحبوبة. ثمّ هبها مروّقة (1) المشارب. مصفّقة من الشوائب. قد صفت لصاحبها كلّ لذّة. وأظلّته سحابة اللهو هاطلة مرذّة (2). أما يكفي تيقّن المسرور بزوال ما هو فيه منغّصا لسرورها. وزاجرا للعاقل أن يلوي (3) على غرورها. بلى إن نزل اللبيب على قضية لبّه. إن دعاه داعي الشهوة لم يلبّه. وهيهات إنّ مدعوّ الهوى لمجيب. وإنّ سهم دعوة الدّاعي لمصيب. اللهمّ إلا عبدا بحبل الله يعتصم. ويتمسّك بعروته التي لا تنفصم.
وقال: أطير أطير. قالت: فعلى من تدع الخلافة يا أمير المؤمنين؟
قال عليك: فبينا هم على ذلك إذ أخذت حبابة حبة رمان فرمت بها في حلقها فغصت بها وكانت فيها نفسها. وكذب الله دعوى الفاسق ومات بعدها بسبعة أيام.
(1) روّق الشراب وصفقه: صفاه. قال الأصمعي: صفق الشراب: حوّله من اناء إلى اناء ليصفو. والتصفيق الصرف والتحويل من صفق إلى صفق وهو الناحية.
(2) المرذة التي أتت بالرذاذ وهو الضعيف من المطر، وأرذت السماء. وأرض مرذ: عليها رذاذ. قال الأصمعي وعن الكسائي:
أرض مرذة.
(3) لا يلوي على شيء: أي لا يعرّج عليه. قال الله تعالى:
{(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلََا تَلْوُونَ عَلى ََ أَحَدٍ)} (1) وحقيقة لوى عليه: عطف عليه.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية 153.(1/35)
طوبى لعبد بحبل الله معتصمه
على صراط سويّ ثابت قدمه
رثّ اللباس جديد القلب مستتر
في الأرض مشتهر فوق السماء سمه (1)
إذا العيون اجتلته (2) في بذاذته (3)
تعلو (4) نواظرها عنه وتقتحمه (5)
ما زال يستحقر الدّنيا بهمته
حتى ترقّت إلى الأخرى به هممه
فذاك أعظم من ذي التاج متّكئا
على النّمارق محتفا به حشمه
السم بكسر السين وضمها الإسم. قال: «بسم الذي في كل سورة سمه» ومعنى البيت مبني على قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كونوا جدد القلوب خلقان الثياب تخفون في الأرض تعرفون في السماء).
(2) إجتلى الشيء إذا أبصره كأنما جلي عليه فاجتلاه قال:
«أنا ابن كلاب وابن أوس فمن تكن ... قناعه مغطيا فإني لمجتلي».
(3) البذاذة ترك التكلف في الملبس والمطعم. وفي الحديث:
(البذاذة من الإيمان). ورجل باذ الهيئة وبذها ولقد بذذت بعدي.
(4) يقال علت عنه العين إذا نبت عنه وفي الحديث: إنه دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل باذ الهيئة تعلو عنه العيون فضرب بيده على كتفه وقال: (هذا خير من الدنيا وما فيها).
(5) إقتحمته إذا جاوزته ولم تتعلق به ازدراء له.(1/36)
مقامة الإنابة
مقامة الإنابة يا أبا القاسم. هل لك (1) في جآذر (2) جاسم. (3) إن أنعمت (4) يقال: هل لك في كذا وإلى كذا، لأن المعنى هل ترغب؟
يقال: رغبت فيه ورغبت إليه. وقيل لأبي الدقيش: هل لك في ثريدة كان ودكها عيون الضياون؟ فقال: أشد الهل واوحاه يريد أشد الرغبة، ولا يخلو اما إن يركب من حروف هل لك إسما كالحولقة وإما أن يجعل هل إسما بزيادة حرف من جنس آخره كما فعل بلو، ثم تسمى به الرغبة حيث رأى قولهم: هل لك في معنى أترغب؟
(2) الجآذر: أولاد بقر الوحش. الواحد جؤذر وجوذر واصله فارسي.
(3) جاسم مكان وهو من قول عدي بن الرقاع:
«لولا الحياء وأنّ رأسي قد عثا ... فيه المشيب لزرت أمّ القاسم
فكأنّها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم»
(4) إن أنعمت: إن قلت نعم. يقال: طلبت منه كذا فأنعم لي به إذا أجابك إليه. وقال نعم. فإن قلت كيف صح الإشتقاق من نعم والحروف لا تكون مشتقة ولا مشتقا منها لأنها جوامد لا تتصرف، ولذلك لم يوزن؟ قلت هو بناء مقتضب من غير اشتقاق وإنما ضمن حروف نعم إرادة أن تكون في لفظه دلالة على معناه. كما قالوا: لا ليت إذا قلت لا ونحوه أمّن وهلل.(1/37)
فلا أنعم الله بالك (1) ولا وصل حبالك. ولا فضّ (2) فومن ماءك بالحقّ ونبّهك. وعضّك بالملام وعضهك (3). أصبوة (4) وحق مثلك أن يصحو لا أن يصبو أنزاعا وقد حان لك أن تنزع لا أن تنزع (5) نعم باله إذا حسنت حاله. ولانت وانعمه الله.
(2) قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للنابغة الجعدي: لا فض الله فاك فكان ثغره ما عاش كأنه برد ينهل. والفض الكسر مع التفريق ومنه انفض القوم وقال ذو الرمة:
«كأنّ إدمانها والشمس جانحة ... ودع بارجائها فض ومنظوم».
والمراد بالفم الأسنان، ومثه المثل متى عهدك بأسفل فيك.
(3) العضه: الشتم، وحقيقة عضهه قطع عضاهه، كما يقال نحت أثلته وعصب سلمته.
(4) أصبوة: أتصبو صبوة.
(5) أن ينزع الأول من النزوع. يقال: نزع عن الأمر نزوعا إذا أمسك عنه. وقد عيب على أبي نواس النزع بمعنى النزوع في قوله:
«وإذا نزعت عن الغواية فليكن ... لله ذاك النزع لا للناس».
والقول فيه: إن اصل نزع عن الأمر نزع نفسه عنه. فكثر استعماله محذوف المفعول حتى أشبه الفعل غير المتعدي. فقيل: نزع نزوعا كقعد قعودا. وقد ذهب أبو نواس إلى أن استعمله على أصله. وللشاعر أن يلمح الملامح البعيدة والأصول المجهولة. ألا تراهم كيف جوّزوا صرف غير المنصرف وقصر الممدود لأن الأصل القصر والصرف.(1/38)
ما أقبح لمثلك الفكاهة (1) والدّعابة (2) وديدن (3) الممزاح (4) التّلعابة (5). يا هذا الجدّ الجد. فقد بلغت الأشد (6) وخلّفت (7) الفكاهة المزاحة. وتفكه وفاكه صاحبه وأصله من الفكاهة لأنه كلام يتلذذ به كما يتلذذ بالفاكهة.
(2) والدعابة مثلها. وقال عمر بن الخطاب في علي رضي الله عنهما: (ذاك رجل فيه دعابة). وقد روي في بعض الحديث:
(المؤمن دعب لعب، والمنافق عبس قطب).
(3) الديدن: الدأب والعادة. وأما الددن فاللعب، وهو أحد ما كانت فاؤه وعينه من جنس واحد على فيعل نحو قبقب وسبسب.
(4) الممزاح: الكثير المزح. قال وقد أوقر جملا ممزاحا.
(5) التلعابة: الكثير اللعب ونظيره التلقامة والتعجابة والتبذارة لصاحب الأعاجيب ومبذر ماله.
(6) الأشد مثل الأكياس والسدوس في كونه مفردا غير جمع وإن كان على زنة الجموع. ونظيره على وزنه أسلم ابن عافق بن عكّ، وبلوغ الأشد أن يكتهل ويستوفي السنّ التي يستحكم فيها عقله وتمييزه وقوته وذلك إذا ناف على الثلاثين وناطح الأربعين. وعن قتادة ثلاث وثلاثون سنة. وقيل: لم يبعث نبي قط إلا بعد أربعين سنة.
(7) وخلفت ثنية الأربعين تمثيل مثل حال من يقطع سني عمره بحال المسافر الذي يقطع المراحل ويطوي الثنايا ويخلفها وراءه.(1/39)
ثنيّة الأربعين. ولهز (1) الفتير لداتك (2) أجمعين. أبعد ما عطّلت شبيبتك في التغزل والتشبيب. وذهبت بصفوة عمرك في صفة الحبّ والحبيب. وأضللت حلمك في أودية الهوى. وعكفت همّك على أبرق الحمى وسقط اللّوى. واتخذت بقر الجواء (3) بلائك وفتنتك.
ووهبت لظباء وجرة ذكائك وفطنتك. تريد ويحك أن تصرّ على ما فعلت. وأن تشيّع (4) النار التي أشعلت. مهلا مهلا. فلست لذلك أهلا. وعليك بالخروق الواهية متنوّقا في رفوها. وبالكلوم الدامية لهزه: القتير. وخط فيه الشيب وخالطه، واللهز الضرب والقتير رؤوس المسامير، فاستعير لبدوّ طوالع الشيب وجرى مجرى الحقيقة لتكاثره في استعمالهم واستمراره فيه وفي شعر التهاني:
«قد كان مغفر رأسي لا قتير به ... فسمرته قتيرا صنعة الكبر».
(2) اللدة: من ولد كالعدة من وعد. ثم قيل لدة الرجل لمن وافق ميلاده ميلاده تسمية بالمصدر. وهذا الكلام من باب الكناية لأنه إذا شاب أقرانه في السنّ فهو من الشيب.
(3) الجواء ووجرة مكانان قال:
«صفراء من بقر الجواء كأنما ... ترك الحياء بها رواع سقيم».
وقال النابغة: من وحش وجرة موشي اكارعه. وقال الأصمعي:
وجرة أربعون ميلا، ليس فيها منزل وهي مربّ الوحش، وهي في الأجناس إسم المرة من وجره الدواء بمعنى أوجره وجرا تقول وجره وجرة واحدة والجواء الوادي الواسع والجادة يقال نزلنا جواء بني فلان.
(4) شيع النار: ألقى عليها ما يذكيها وحقيقته اتبع وقودها الدقاق من الحطب لتشتعل. ويسمى ما يشيع من الشياع.(1/40)
متنطّسا (1) في أسوها. أنب إلى الله لعلّ الإنابة (2) تمحّص. وافزع إلى الله لعلّ الفزع يخلّص. وما أكاد أظن لسعة آثامك إلّا أنّ عفو الله أوسع. ولا أكاد أشك نظرا في كرمه الشامل إلّا أنّي مع ذلك أفزع.
تنطس في الأمر: تنوق فيه ومنه النطاسي.
(2) الإنابة: الرجوع. وقال عبد الله بن الزبعري:
أبوك الذي كانت قريش اذا انتدوا ... أنابوا إليه في الأمور العظايم».
يخاطب عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة، وهو العدل عدل قريش كان يكسو الكعبة عاما، وتكسوها قريش عاما. وكان أكثر الناس مالا في الجاهلية. ويقال: أتاني فلان فما أنبت إليه. أي لم أحفل به وهو من ناب ينوب نوبة إذا رجع مرة بعد أخرى. وكأنّ حقيقته دخل في النوبة.(1/41)
مقامة الحذر
مقامة الحذر يا أبا القاسم إحزر (1) نفسك إن تعلّقت ببعض أطرافها جمره.
أو أصابته من الماء المغليّ قطره. هل تتمّ عند صدمة (2) ذلك لأن تقلّب فكرا في خطب مهم. أو ترفع (3) رأسا لحبيب ملم. أو تلقي سمعا إلى ما تتهاوى (4) اليه الأسماع. وتتقاذف نحوه القلوب والطّباع.
أم بها في تلك الوهلة (5) ما يشغلها عن أن تنطق في شأن يعنيها إحزر نفسك قدر حالها، وقس أمرها.
(2) الصدم: المسّ بشدة اعتماد ويقال: صدم به الحائط، واصطدم الفحلان. ومنه صدمة الكأس لحمياها وصدمة الخطب. وفي الحديث: (الصبر عند الصدمة الأولى حين تصدم المصيبة صاحبها).
(3) كلمته فما رفع لي رأسا: أي فما أبه لي ولم يبال بي.
ومعناه: كلمته وهو مطرق لا يرفع بسببي وبسبب كلامي بعض رأسه والتنكير لذلك.
(4) تتهاوى إليه الأسماع: تتسارع إليه. ويقال: الهويّ بالضم إلى فوق وبالفتح إلى أسفل. وقال بشار بن برد:
«كأنّ مثار النقع فوق رؤوسهم ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه».
أي تتسارع في السقوط.
(5) فعل ذلك في أول وهلة: أي في أول ساعة. وهي من وهلت إلى الشيء وهلا ووهمت إليه وهما إذا ذهب وهمك إليه. وحقيقتها في أول خطرة.(1/42)
بحرف. أو ترمي إلى أحبّ خلق الله اليها بطرف. كلّا ولو كنت ممّن يعطف (1) الأعنة بإصبع. ويتبسّط (2) في مهابّ الرياح الأربع (3) لشغلك التألم عن كبرياء سلطانك. ولأدرج تلك الأعنة تحت مطاوي نسيانك. هذا وإنّ الجمرة والقطرة كلتاهما هنة (4) يسيره. ومدّة إيلامها ساعة قصيره. ثمّ إنها على ذلك لتنسيك جميع ما همّتك ممن يعطف الأعنة باصبع، هو الملك العظيم السلطان، الذي استوى على الناس وقهرهم. فكأنهم خيل امتلك أعنتها. فهو يعطفها كيف شاء باصبع واحد لا يكترث بها لعزة سلطانه ونفاذ أمره. وهو من باب التخييل وتصوير الحالة الدالة على التصرف كقوله عزّ وجل {(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ)} (1)
وهو من قول البحتري: «يثني الأعنة كلهنّ باصبع».
(2) تبسط في البلاد تغلب عليها وانتشرت فيها آثار غلبته وسلطانه.
من قولهم: تبسط فلان في بلد كذا إذا سار فيه طولا وعرضا، وتبسط في الأرض: تمدّد عليها مستلقيا.
(3) الرياح الأربع: القبول التي تهب إلى قبل الكعبة: وهي الصبا والدبور التي تهب إلى دبرها، والجنوب التي تهب إلى جنبها الأيمن، والشمال التي تهب إلى شمالها.
(4) الهن والهنة: كنايتان عن المذكر والمؤنث من الأجناس، كما كني بفلان وفلانة عن الاعلام. ونظير هنة سنة وعضة في أن لامها واو أو هاء بدليل هنيهة وهنوات كما يقال: سنوات وسانهت النخلة وعضوات وعضاة.
__________
(1) سورة الزمر، الآية 67.(1/43)
اليه عائره (1). وأفكارك عليه دائره. وتشخص بك عن المضجع الممهود. وتطلق حسبوتك في المحفل المشهود. فنار الله التي حسبك ما سمعت من فظاعة وصفها وهوله. وكفاك فيها ما قاله الصادق المصدّق في قوله. وأفظع ذلك كله أنّ عذابها أبد سرمد. (2) ليس له منتهى ولا أمد. هلّا جعلتها ممثّلة قدّام ناظريك كأنك تشاهد عينها. (3) وكأنّه لا برزخ بينك وبينها. إن كنت كما تزعم بما نطق به الوحي مؤمنا. وكما تدّعي بصحته موقنا. فإنّ أدنى ما يحتكم عليك تبصر تلك الحال. ويقتال (4) تصور تلك الأهوال. أن تكون في جميع ساعاتك إمّا لا (5) على صفتك في الساعة التي آلمك فيها عائره من عار الفرس ذهب ها هنا وها هنا من مراحه. وقال ابن دريد: انطلق من مربطه فذهب على وجهه. ومنه العيّار الذي لا يستقر في مكان يتردد في الشر وهو بين العيارة. وقالوا: أعير بيت قالته العرب:
«فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره
ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما».
(2) السرمد وزنه فعمل لأن ميمه مزيدة واشتقاقه من التسرد وهو التتابع.
(3) تشاهد عينها أي ذاتها وحقيقتها.
(4) الاقتيال الاحتكام وهو افتعال من القول أو من القيل، لأن الاقيال يحتكمون على الناس في ممالكهم قال كعب الغنوي:
«ومنزلة في دار صدق وغبطة
وما اقتال من حكم عليّ طبيب»
(5) يقال افعل هذا اما لا. أي أن لا تفعل غيره. فحذف الفعل
مسّ الجمرة التي خطبها هيّن. وآذتك إصابة القطرة التي مقدار أذاها بيّن. قلقا متأوّها. نزقا متولّها. لا تلتفت إلى الدنيا التفاتة راغب. ولا ترتاح لأجل ما تعطيك من عجالة (1) الرّاكب، ولا تفطن لكرّاتها ودولها أساءت أم سرّت. ولا لأيامها ولياليها أعقّت أم برّت.(1/44)
«ومنزلة في دار صدق وغبطة
وما اقتال من حكم عليّ طبيب»
(5) يقال افعل هذا اما لا. أي أن لا تفعل غيره. فحذف الفعل
مسّ الجمرة التي خطبها هيّن. وآذتك إصابة القطرة التي مقدار أذاها بيّن. قلقا متأوّها. نزقا متولّها. لا تلتفت إلى الدنيا التفاتة راغب. ولا ترتاح لأجل ما تعطيك من عجالة (1) الرّاكب، ولا تفطن لكرّاتها ودولها أساءت أم سرّت. ولا لأيامها ولياليها أعقّت أم برّت.
وجعل ما عوضا منه. والمعنى: أن تكون على صفتك عند مس الجمرة ان لا تكن على أشد منها وأعظم.
(1) العجالة ما تعجلت من شيء وعجالة الراكب ما يستعجله الراكب العجلان غاديا في مهم، يقال: عجالة الراكب تمر وسويق يراد لا يستأنى به إلى أن يخبز ويطبخ لعجلته.(1/45)
مقامة الإعتبار
مقامة الإعتبار يا أبا القاسم قد رأيت العصرين (1) كيف يقرضان الأعمار.
ويهدمان العمارة والعمّار (2). ويسكنان الديار غير بناتها. ويورثان الأشجار جناة بعد جناتها. ويملكان (3) صاحبة الغيران غيره بعدما كان ينهالك عليها غيره. ويقسمان ما دوّخ (4) في اكتسابه العصران الليل والنهار وقال المتلمس:
«ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما»
(2) العمار الكثير العمارات، وبه سمي الرجل عمارا كما سمي عامرا.
(3) املك وملك أخوان في النقل من ملك، نحو انزل ونزّل إلا أن ملك عام واملك خاص. يقال: كنا في املاك فلان واملك فلان فلانة واملكه خطبته. هذا مما يشهد لك في وجوب الوقف على الاسجاع فإنك لو وصلت لزمك أن تقول غيره.
(4) دوّخ الرجل: قهره وذلله. ودوّخني الهجر: ذللني. منقول من داخ له يدوخ دوخا إذا ذلّ له. وقالوا: أداخ له أي ذلّ له.
وأنشدوا:
«وحوثرة المهديّ بمصر جياده ... وأسيافه حتى أداخت له مصر
القرى والمدائن. وأقفل عليه المخابىء والمخازن. بين حي كحيّات الوادي. كلّهم له حسّاد وأعادي. فرويدك (1) بعض هذا الحرص ثم قيل على الاستعارة: دوخ البلاد: أي ذللها بكثرة وطئه. وفي معناه طريق معبد أي مذلل. ويقال للطرق الاذلال الواحد ذل ومنه المثل أجر الأمور على إذلالها أي على طرقها الموطأة.(1/46)
«وحوثرة المهديّ بمصر جياده ... وأسيافه حتى أداخت له مصر
القرى والمدائن. وأقفل عليه المخابىء والمخازن. بين حي كحيّات الوادي. كلّهم له حسّاد وأعادي. فرويدك (1) بعض هذا الحرص ثم قيل على الاستعارة: دوخ البلاد: أي ذللها بكثرة وطئه. وفي معناه طريق معبد أي مذلل. ويقال للطرق الاذلال الواحد ذل ومنه المثل أجر الأمور على إذلالها أي على طرقها الموطأة.
(1) رويد رويدا في معنى امهل، وهو من الأسماء المقتضبة على لفظ التصغير نحو جميل وكعيت. ومعناه امهل قليلا وهي من جملة الأصوات التي سميّت بها الأفعال كبله وايه واف وفي معناه تيدك فإن قلت تيدك من أين هو قلت هو من التؤدة التي هي الاناة والرفق، وتأد في الأمر. وسمعت منهم من يقول على تيدك، فسألته عن معناه.
فقال: معناه التؤدة والتاء منقلبة عن الواو من الوئيد وهو مشي المقثل.
قالت الزباء: «ما للجمال مشيها وئيدا»؟ ووأدت الخيل. وقال ضرار:
«والجرد ترفل بالابطال شازبة ... كأنها حدأ في سيرها تئد»
ومنه الموؤدة فإن قلت وأده وآده من قوله تعالى {(وَلََا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمََا»} (1) أيهما مقلوب من صاحبه؟ قلت: كلاهما أصل برأسه لاستوائهما في التصرف، ونظيرهما جذب وجبذ. فإن قلت: التأيد بمعنى التأني في قول أبي الطيب: «نحتي من خطوها تأيدها».
أما كان قياسه بالواو دون الياء. قلت: هو تفعيل كالتدير وليس بنفعل. فإن قلت: أرأيت إن كان تفعلا من الايد؟ قلت: لا يبعد لأن من شأن المتحامل على ضعفه أن يتكلف قوة. فإن قلت: فلم قلبوا الهمزة في تئدك ياء وقياس تخفيفها تادك بالألف كنظائره من راس
__________
(1) سورة البقرة، الآية 255.(1/47)
الشديد. على تشييد البناء الجديد. ولا يصدّنّك إبار (1) السّحق (2) الجبّار. عن التّبتّل إلى الملك الجبّار (3) وإيّاك والكلف ببيضات (4) وفاس: قلت: هو قلب خارج عن القياس ونظيره الذيم في الذأم، يقال ذأمه ذيما في ذأمه ذأما.
(1) ابار النخل تلقيحها يقال ابر النخل وابره، ومنه قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (من باع نخلا موبرا فمثرته للبائع إلّا أن يشترط المبتاع).
وبه احتجّ الشافعي على أنه إن كان مؤبرا فالثمرة للبائع وان كان غير مؤبر فهي للمبتاع لأن من أصله العمل بدليل الخطاب. وأبو حنيفة رحمه الله يسوّي بين المؤبر وغير المؤبر في أن ثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع.
(2) السحوق النخلة التي بعدت في الارتفاع من السحق، والجمع سحق. قال زهير:
«كأنّ عينيّ في غربي مقتلة ... من النواضح تسقي جنّة سحقا»
(3) والجبار العظام الطوال من النخل الواحدة جبارة. وقال الأعشى:
«طريق وجبار رواء أصوله ... عليه أبابيل من الطير ينعب».
(4) تشبه الحسان البيض من النساء ببيض النعام: قال الله تعالى:
{(كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ)} (1) ويقال: بيضات الخدور، على طريق الاستعارة وأضافهن إلى الخدور للدلالة على أن المراد النساء. كما يقال أسد اللقاء ورأيت أسد تميم وثعالب قيس تريد رجالهم الموصوفين بالشجاعة والخبّ. وقال امرؤ القيس:
__________
(1) سورة الصافات، الآية 49.(1/48)
الخدور. وقسماتهنّ (1) المشبهة بالبدور. وأن تعلّق همّتك بأعلاق (2) الأموال. والاستيثاق منها بالأبواب والأقفال. واستنظر نفسك إن تقاضتك (3) إيثار الملاهي. واستمهلها إن طالبتك بارتكاب المناهي، إلى أن يتفضّل عليك ذو الطول والمنّة. بالوصول إلى دار الجنّة.
«وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت عن لهو بها غير معجل
فكم عقعق قد رام مشية قبجة ... فانسي ممشاه ولم يمش كالحجل»
وفي لغز بعضهم: «بيضة الحجلة أكلت أختها».
(1) القسمة أعلى الوجنة: وقيل وسط الوجه الأنف والوجنتان.
وقيل مجاري الدموع وقال:
«كأن دنانيرا على قسماتهم ... وإن كان قد شفّ الوجوه لقاء»
(2) العلق النفيس الذي تعلق به النفس. قال نهشل بن جري الدارمي:
«إني وقومي إن رجعت اليهم
كذا العلق آلى لا ينول ولا يشري»
أي لا يعطيه نوالا ولا يبيعه لعزته عليه ونفاسته عنده. وقيل:
لا يستعمل إلا فيما لا روح فيه كالثوب ونحوه.
(3) اقتضاه الدين وتقاضاه إذا طلب اليه قضاءه.(1/49)
مقامة التسليم
مقامة التسليم جديدان (1) يبلى بتناسخهما كلّ جديد. ويكلّ على تعاقبهما كلّ حديد. وطلوع شمس وغروب شمس. يطّرحان كلّ إنسي تحت الرّمس (2). وما الدّهر إلّا أمس (3) ويوم وغد. وما العيش الجديدان والاجدان الليل والنهار وتناسخهما نسخ كل واحد منهما الآخر.
(2) الرمس تراب القبر ورمسته دفنته.
(3) الامس له ثلاثة أحوال يكون اسم جنس منصرفا متصرفا كاليوم والغد وغيرهما من أسماء الأحيان فيستعمل نكرة ومعرفا باللام والإضافة. فيقال: ما الدهر إلا أمس ويوم وغد. ومضى الأمس وامسك. قال الله تعالى: {(كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)} قال نهشل بن جري الدارمي:
«ولا تدرك الأمس القريب إذا مضى
بمرّ قطاميّ من الطير أجدل».
وعلما غير منصرف فيقال مضى أمس وما رأيته منذ أمس قال:
«لقد رأيت عجبا مذامسا ... عجائزا مثل السعالي خمسا»
إلا ضنك (1) ورغد (2). وأيهما قيّض لإنسان. فقد وكّل بإزالته مرّ الزمان. فذو اللبّ من جعل لذاته كأوصابه. وسوّى بين حالتي عرسه ومصابه. ولم يفصل بين طعمي أريه وصابه. فإذا اعتوره النعيم والبوس. لم يعتقب عليه التهلّل والعبوس. ذاك لأنه مسلّم لمجتلب القضا. عالم أنّ كلّ ذلك إلى انقضا. والذي ومبنية على الكسر كقولك مضى أمس بما فيه. قال سيبويه: كسروها كما كسروا غاق. وقال الكسائي: سمي بأمس الذي هو أمر من أمسى وإذا نسب اليه كسر أوله وهو من تغييرات النسب.(1/50)
«لقد رأيت عجبا مذامسا ... عجائزا مثل السعالي خمسا»
إلا ضنك (1) ورغد (2). وأيهما قيّض لإنسان. فقد وكّل بإزالته مرّ الزمان. فذو اللبّ من جعل لذاته كأوصابه. وسوّى بين حالتي عرسه ومصابه. ولم يفصل بين طعمي أريه وصابه. فإذا اعتوره النعيم والبوس. لم يعتقب عليه التهلّل والعبوس. ذاك لأنه مسلّم لمجتلب القضا. عالم أنّ كلّ ذلك إلى انقضا. والذي ومبنية على الكسر كقولك مضى أمس بما فيه. قال سيبويه: كسروها كما كسروا غاق. وقال الكسائي: سمي بأمس الذي هو أمر من أمسى وإذا نسب اليه كسر أوله وهو من تغييرات النسب.
(1) الضنك مصدر من ضنكه يضنكه ضنكا إذا ضيقه ومنه المضنوك للمزكوم. ولذلك وصف بالمذكر والمؤنث. قال الله تعالى: {(مَعِيشَةً ضَنْكاً)} (1) وقرىء ضنكي على فعلي. وقالوا: ضنك ضناكة وضنوكة فهو ضنك فإذا يكون الضنك صفة كالضخم والفخم ويكون مصدرا كما يكون الضيق بمعنى الضيق والضيق. فإن وصف به المذكر احتمل الأمرين، وإن وصف به المؤنث كان مصدرا. ومنه الضناك السمينة لأن جلدها يضيق عنها، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام:
(لا مقورة الالياط ولا ضناك). كيف قابل بها المقورة وهي المهزولة المتسعة الجلد من قولهم دار قوراء.
(2) الرغد سعة العيش والرفاهية وقد رغد العيش رغدا فهو راغد ورغد رغادة فهو رغد ورغيد.
__________
(1) سورة طه، الآية 124.(1/51)
بين دفّيه (1) قلب هواء (2). قد تياسرته (3) الشهوات والأهواء.
لا استبصار (4) يزعه. ولا روية تردعه. لا يعرف الغناثة والسّمن إلّا في بدنه وماشيته. ولا يفطن للقلة والكثرة إلّا في ضبنته (5) وحاشيته. لا يعبأ بدينه أغث هو أم سمين. بل هو بالغثاثة قمين.
ولا يكترث بخيره أقليل هو أم كثير. بل هو بالقلّة جدير. ولا يرى النقصان إلا ما وقع في ماله. ولا يبالي به في سيره وأعماله.
الدفان: الدفان ومنه المثل مثقل استعان بدفيه. وهذا من جملة ما استدركه ابن السكيت على الحياني حين قعد لاملاء نوادره، وقد أملاه مثقل استعان بذقنه.
(2) هواء خال فارغ قال الله تعالى: {(وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوََاءٌ)} (1)
وقال حسان: «فأنت مجوّف نخب هوآء» وهو وصف بالهواء الذي هو الجو.
(3) تياسرته: تقاسمته من الميسر. قال ذو الرمة:
«بتفريق اظعان تياسرن قلبه ... وخان العصا من عاجل البين فادح»
(4) الاستبصار لبصيرة القلب كالابصار لبصر العين. يقال:
استبصر في أمره ودينه إذا كان ذا بصيرة.
(5) ضبنة الرجل: عياله وتبعه، لأنه يضطبنهم أي يجعلهم تحت ضبنه، وهو ما بين الابط والكشح ويؤويهم اليه ويكنفهم.
__________
(1) سورة إبراهيم، الآية 43.(1/52)
قد ران (1) على قلبه حبّ الدنيا رينا. وزانه الشيطان في عينه زينا فذاك إن نزل به بعض الّلأواء. رزء فيه أيضا (2) بمثوبة العزاء.
ولا يدري أنّ الرّزء بالثواب أطم (3). وإن سال به البحر الغطم (4).
الرين والران: ما يغشى القلب ويغطيه من القسوة والغلظة.
قال ابن دريد: أصل الرين الصدا الذي يركب السيف. ويقال رين بفلان وران به السكر والنوم وفيه وعليه. وقال عبدة بن الطبيب:
«أوردته القوم قد ران النعاس بهم
فقلت إذ نهلوا من مائه قيلوا»
وقال الشماخ:
«مخافة أن يرين النوم فيهم ... بسكر سناتهم كلّ الريون»
وفي التنزيل: (بل ران على قلوبهم).
(2) الايض: الصيرورة. وآض الرجل عالما صار عالما. ويكون بمعنى العود يقال آضت المياه. ومنه قولهم: قد آضت ذكاء وانتشرت الرعاء. وقد وقع موضعا مكينا يعني الرزء بفقد ثواب المصيبة مصيبة أخرى. فمن جزع فقد جمع على نفسه مصيبتين.
(3) أطم: أغلب. ومنه الطامة النازلة التي تطم أي تغلب قال البحتري:
«جرى الوادي فطم على القرى»
وطم الركية كبسها.
(4) الغطم: الكثير الماء. وفي معناه الغطامط وهو من تركيبه، إلا أن عينه مكرره ومنه غطمط البحر وتغطمط إذا زخر وعبّ.(1/53)
رزء الفتى بثوابه لعزائه (1)
ينسي الشديد الصّعب من أرزائه
ليس الفتى إلّا فتى إن نابه
عزّاء (2) دهر عزّ في عزّائه
والعزّ أن يلوي على الصّبر الّذي
يمشي (3) ثواب الله تحت لوائه
اللام في لعزائه تتعلق بثوابه أي بما أثيب به لأجل عزائه.
(2) العزّاء: الشديدة من شدائد الدهر. قال دريد بن الصمة:
«كميش الازار خارج نصف ساقه ... صبور على العزاء طلاع أنجد
(3) يمشي ثواب الله تحت لوائه: من أبرع كلام وابدعه(1/54)
مقامة الصمت
مقامة الصمت يا أبا القاسم زعمت أنّك ما ألممت (1) بمعاطاة كأس العقار.
لا في أوقات الطّيش ولا إذ لبست ثوب الوقار. وإنّ حميّاها (2) لم تطر (3) في هامتك. ولا دبّت في مفاصلك. ولم تقف على حقيقة شرح مقامة الصمت.
(1) الالمام: الاقلال من كل شيء. فالالمام بالمكان ما قل من اللبث فيه، وبالطعام والشراب ما قلّ من إصابتهما. قال:
«يكفيه حزة فلذان ألمّ بها
من الشواء ويروي شربه الغمر».
ولقد بالغ في هذا البيت من وجوه حيث جعل المتباول فلذا ثم حزة منه ثم من الشواء الذي هو أشهى من القدر، ثم ان جعله كافيا مع قلته ونذارته بعد أن جعله ملما به، وجعل الغمر الذي هو القدح الصغير مرويا له ثمّ مرويا شربه ومنه اللمم في المس وإصابة الذنب واللمام فيما أنشده الأصمعي:
«لقاء إخلاء الصفاء لمام».
(2) الحميا: سورة الشراب، واشتقاقها من الحمى وهي في صوغها على لفظ التصغير نظيرة الثريا.
(3) والطيران في الهامة والدبيب في المفاصل من الطباق الحسن.
أثرها وعملها. ولا عرفت ما معنى نشوتها (1) وثملها (2). وأنّك من المصونين عمّا يدنّيها (3) ويدني منها. والآمنين أن تسئل يوم العرض أعمالك عنها. إيها وإن صدرت زعمتك عن مصدوقه (4).(1/55)
(3) والطيران في الهامة والدبيب في المفاصل من الطباق الحسن.
أثرها وعملها. ولا عرفت ما معنى نشوتها (1) وثملها (2). وأنّك من المصونين عمّا يدنّيها (3) ويدني منها. والآمنين أن تسئل يوم العرض أعمالك عنها. إيها وإن صدرت زعمتك عن مصدوقه (4).
وكانت كلمتك محضة غير ممذوقه. فغيبة الأخ المسلم من تعاطي الكأس أحرم. (5) والإمساك عن عرضه من ترك المعاقرة ألزم.
النشوة أول السكر. وكأنها من النشوة بكسر النون وهي رائحة الخمر. كأنها رايحة من السكر: أي طرف منه. ويقال نشى فلان إذا سقى قليلا.
(2) الثمل الثقل من الشراب. قال الأعشي:
«أقول للركب في درنا وقد ثملوا
شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل»
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حين بقر حمزة بطن شارفيه واجتبّ اسنمتهما، فدخل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: مه يا عم فصوّب النظر فيه ثم قال ألستم عبيدا لأبي فرجع القهقرى: «إنّ عمك قد ثمل ومالك علىّ».
(3) ما يدنيها هو أن تتخذها أو تسباها أو تستهديها وما يدنى منها ان تشتهيها أو تخالط أهلها أخوان الشياطين فيزينوها لك أو يزينها كبيرهم أبو مرة.
(4) المصدوقة والمكذوبة: بمعنى الصدق والكذب ونظيرتهما الماوية مصدر أوى له إذا رحمه.
(5) احرم أشد حرمة: تقول أحلّ من ماء السماء واحرم من لحم الخنزير.(1/56)
إنّ المغتاب فضّ الله فمه. يأكل لحم المغتاب (1) ويشرب دمه.
وذاك لعمر الله شر من شرب ماء الكرم. وأغمس لصاحبها في غمار الإثم والجرم. فاسجن يا أبا القاسم لسانك. وأطبق عليه شفتيك وأسنانك. ثمّ لا تطلق عنه إلا ما ترى النطق من الصمت أفضل. وإلى رضى الله وما يزلف اليه أوصل. وإلّا فكن كأنّك أخرس. واحذر لسانك فإنّه سبع أو أفرس. حسبك ما أوردك إيّاه من الموارد (2). وما صبّ في الأعراض من الصّوارد. (3) شعر:
ألا ربّ عبد كفّ أذياله ولم
يكفّ عن الجار القريب أذاته
رطيب بثلب المسلمين لسانه
وإن كان لم يبلل براح لهاته
ويرجو نجاة من توجّه سخطة
عليه وكلّا ما أعزّ نجاته
المغتاب في اسم الفاعل واسم المفعول بلفظ واحد وكذلك المختص والتقدير مختلف لأن الألف في أحدهما منقلبة عن ياء مكسورة وفي الأخرى عن مفتوحة وكذلك تقدير الحرف المدغم.
(2) دخل على أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وهو ينضنض لسانه ويقول: «إن ذا أوردني الموارد».
(3) الصوارد: النوافذ. يقال: سهم صارد وصرد وقد صرد يصرد وصرد يصرد. قال ذو الرمة:
«والتارك الكبش مصفرا أنامله ... في صدره قصدة من عامل صرد»(1/57)
«والتارك الكبش مصفرا أنامله ... في صدره قصدة من عامل صرد»
مقامة الطاعة
مقامة الطاعة يا أبا القاسم تبتل إلى الله وخلّ ذكر الخصر المبتل (1). ورتّل (2) القرآن وعدّ عن صفة الثغر المرتل. أدر عينيك في وجوه الصّلاح لتعلق أصلحها. لا في وجوه الملاح لتعشق أصبحها. وابك على ما مضى في غير طاعة الله من شبابك. ودع البكاء على الظاعنين من أحبابك. وعليك بآثار من قبلك ممّن تعزّز بالبروج المشيدة.
واعتصم بالصّروح الممرّدة (3). وتجبر في القصور المنجده (4). ثمّ المبتل: المخصر كأنما بتل لحمه أي قطع حتى دق. الا تراهم يقولون: محطوطة المتنين كأنما حط لحمها حطا حتى كانت ممشوقة.
(2) ورتل القرآن واتئد في قراءته والثغر المرتل المفلج. يقال:
ثغر رتل ومرتل.
(3) الممرّد: المملس. قال الله تعالى: {(إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ)} (1).
وقال أبو عبيدة مرد البناء طوله والممرد الطويل من النخل. قال المرار:
«نفجت جوانبها واسند صلبها ... وسمت بمثل ممرد النخل»
(4) المنجدة. المزينة، ونجود البيت ستوره التي تزين بها حيطانه ونجد البيت رفع ستوره والتركيب المنجد المرفع، ومنه نجاد السيف لما
__________
(1) سورة النمل، الآية 44.(1/58)
خرج من الدّنيا راغما (1) لم ينجه من الإذعان لمذلّة الخروج.
تعززه بالبروج. ولم ينقذه من قابض الروح. اعتصامه بالصروح.
ولم يخلّصه من الاستكانة (2) في القبور. تجبره في القصور. قف على يرفع به ونجود الأرض. وفي كلام علي رضي الله تعالى عنه: «أين من بنى وشيد، وزخرف ونجد، وجمع وعدد؟».
(1) رغم أنفه لصق بالرغام وهو التراب ومعناه الذل، وفعل ذلك على الرغم أي على الذل والكره. ورغم يرغم أفصح. وبه روى قول كعب بن زهير:
«فان تسألى الأقوام عنّي فإنني
أنا ابن أبي سلمى على رغم من رغم
أنا ابن الذي قد عاش تسعين حجة
فلم يخز يوما في معد ولم يلم
أقول شبيهات بما قال عالما ... بهنّ ومن يشبه أباه فما ظلم»
الرغم والرّغم والمرغم واحد. ويقال للأنف وما حوله الرغامي.
(2) استكان إذا ذل وخضع وهو استفعل من الكون أي صار له كون خلاف كونه كما يقال استحال إذا تغير من حال إلى حال قال الله تعالى: {(وَمََا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكََانُوا)} (1). وقال ابن أحمد:
«فلا تصلي بمطروق إذا ما ... سرى القوم أصبح مستكينا»
إلا أن استحال عام في كل حال، واستكان خاص بالتغيير عن كون مخصوص، وهو خلاف الذل والتطامن. وقيل: هو استفعل من
__________
(1) سورة آل عمران، الآية 146.(1/59)
أطلالها بالتّأوه (1) والاستعبار (2) ولا يكوننّ تأوّهك واستعبارك إلّا للتذكر والاعتبار. ولا تستوقف الركب في أوطان سلمى ومنازل سعدى مقترحا عليهم أن يساعدوك بالقلوب والعيون. ويساعفوك (3) ببذل ذخائر الشؤون (4). متردّدا في العراص والملاعب. متلدّدا (5) الكين وهو البطر أي صار مثله في الحقارة والذل. ويجوز ان يكون أصله استكن افتعل من السكون وزيدت الألف لإشباع الفتحة كقوله:
«ينباع من ذفرى غضوب جسرة
وأنت من الغوائل حين ترمى»
وكقوله:
«ومن ذم الرجال بمنتزاح»
ولم يرضه الشيخ أبو علي الفارسي لثبات الحرف في متصرفات الفعل نحو مستكين وتستكين إلا أنه يجوز أن يكون من الزيادات المستمر على إثباتها. كما قالوا: مكان وهو مفعل من الكون، ثم قالوا:
أمكنة وأماكن وتمكن واستمكن.
(1) التأوه من أوه كالتأفيف من أفف.
(2) الاستعبار: البكاء من العبرة. وهي تردد البكاء في الصدر.
ومن أبيات الكتاب:
«لما رأت ساتيد ما استعبرت ... لله درّ اليوم من لامها»
(3) المساعفة: المواتاة والمواساة.
(4) وذخائر الشؤون الدموع والجمع بين المساعفة والبذل والذخائر من الكلام المناسب المتلاحظ الذي يشترطه البلغاء.
(5) تلدد إذا تحير فترددها هنا. وهاهنا من لديدي الوادي، وهما جانباه. وقيل تلفت يمينا وشمالا من لديدي العنق وهما صفحتاها.
في مساحب أذيال الكواعب. تقول أين أيامنا بحزوى. ومن لنا بليالي العقيق واللّوى. حسبك ما أوضعت من مطايا الجهل في سبل الهوى. وما سيرت من ركاب الضّلال في ثنيّات الصبا. ما لك لا تحلّ عنها أحمالك. ولا تحطّ عن ظهورها أثقالك. ألق حبالها على غواربها. واضرب في وجوهها تطر إلى مساربها (1). وأدإب نفسك في سبل الله فطالما أرحتها على مضاجع الشيطان. وأحمضها (2) فقد حان لها أن تسأم من خلة العصيان.(1/60)
(5) تلدد إذا تحير فترددها هنا. وهاهنا من لديدي الوادي، وهما جانباه. وقيل تلفت يمينا وشمالا من لديدي العنق وهما صفحتاها.
في مساحب أذيال الكواعب. تقول أين أيامنا بحزوى. ومن لنا بليالي العقيق واللّوى. حسبك ما أوضعت من مطايا الجهل في سبل الهوى. وما سيرت من ركاب الضّلال في ثنيّات الصبا. ما لك لا تحلّ عنها أحمالك. ولا تحطّ عن ظهورها أثقالك. ألق حبالها على غواربها. واضرب في وجوهها تطر إلى مساربها (1). وأدإب نفسك في سبل الله فطالما أرحتها على مضاجع الشيطان. وأحمضها (2) فقد حان لها أن تسأم من خلة العصيان.
المسارب مواضع السروب. يقال: سرب في الأرض سروبا إذا سار فيها. من قوله تعالى: {(وَسََارِبٌ بِالنَّهََارِ)} (1). والسرب: الطريق لأنه يسرب فيه قال مزاحم بن الحارث العقيلي يصف ممنعات:
«أباحت لهنّ المشرفية والقنا ... مسارب نجد من فلاة ومنهل»
لما جعل للضلال ركابا اتبعها ذكر الثنيات وحل الأحمال وحط الأثقال والقاء الحبال على الغوارب والضرب في وجوهها والطيران في مساربها، وهو المجاز المرشح الذي لا تعثر عليه إلا في كلام الفحولة.
(2) الحمض: ما ملح من المرعى، والخلة ما حلا منه. وإذا سئمت الابل الخلة تحمضت حتى إذا لم تجد الحمض تعللت برفات العظام، وتقول العرب الخلة خبز الابل والحمض فاكهتها فضرب بذلك مثلا للالمام بالطاعة بعد طول الإقامة على العصيان في أمثالهم: «قد اختللت فتحمض». وفي أبيات الحماسة.
«وإنك مختل فهل أنت حامض».
__________
(1) سورة الرعد، الآية 10.(1/61)
مقامة المنذرة
مقامة المنذرة يا أبا القاسم فيئتك (1) إلى الله من صنعه وفضله الغامر. فهنيئا (2) مريئا غير داء مخامر. لقد رآك عن سواء المنهج زائغا وعن من يحوشك (3) على الحق الأبلج رائغا. هائما (4) على وجهك راكبا رأسك (5) فيئتك: رجعتك وتوبتك، من فاء إذا رجع ومنه فيء المولى وهو رجوعه إلى المرأة بجماع أو بقول ان عجز.
(2) فهنيئا مريئا هو من قول كثير:
هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلت»
وسمع علي رضي الله تعالى عنه قوما في المسجد ينالون منه، فأخذ بعضادتي الباب وأنشده متمثلا. وانتصب هنيئا انتصاب المصادر وهو صفة في أصله وتقديره هنيئا لعزة ما استحلت من أعراضنا هنيئا، وغير داء حال مما استحلت ولو قدر ليكن هنيئا ما استحلت فكان ما استحلت اسم كان، وهنيئا خبرها، وغير داء صفة لهنيئا لكان وجيها. ولكن سيبويه يقول إن كان لا تضمر في كل موضع فضايق فيه والوجه الأول أجرى على أساليبه التي نهجها.
(3) حاش عليه الصيد إذا جمعه. وفلان يحوش لعياله. واحتوشوه أحاطوا به وأخذوا أقطاره.
(4) هام: إذا اعتسف البرية لا يبالي أين يذهب على وجهه على صوب وجهه أينما استقبل وجهه.
(5) وركب رأسه أصله في الوعل إذا أراد الانحدار من الشاهق
راكضا في تيه الغيّ رواحلك وأفراسك. بطّالا مبطلا قد أصررت إصرارا. وإن أعلن لك النّاصح أو أسرّ إسرارا. تنقضي عنك شهور سنتك. وأنت غارز رأسك في سنتك. لا تشعر بانصاف لهنّ ولا سرار، ولا تحس أتحت أهلّة أنت أم أقمار. تستن في الباطل استنان (1) ركب قرنيه فتزلق عليهما حتى يبلغ الحضيض وترك الثنايا التي يصعد فيها وينحدر، فضرب مثلا لكل معتسف لا يأخذ في طريق مسلوك.(1/62)
(5) وركب رأسه أصله في الوعل إذا أراد الانحدار من الشاهق
راكضا في تيه الغيّ رواحلك وأفراسك. بطّالا مبطلا قد أصررت إصرارا. وإن أعلن لك النّاصح أو أسرّ إسرارا. تنقضي عنك شهور سنتك. وأنت غارز رأسك في سنتك. لا تشعر بانصاف لهنّ ولا سرار، ولا تحس أتحت أهلّة أنت أم أقمار. تستن في الباطل استنان (1) ركب قرنيه فتزلق عليهما حتى يبلغ الحضيض وترك الثنايا التي يصعد فيها وينحدر، فضرب مثلا لكل معتسف لا يأخذ في طريق مسلوك.
هذه اقتباسات من الشعراء أولها من قول زهير:
«صحا القلب عن سلمى واقصر باطله ... وعري افراس الصبا ورواحله»
والثاني من بيت الحماسة:
«نبثت عمرا غارزا رأسه ... في سنة يوعد أخواله»
والثالث من قوله:
«شهور ينقضين وما شعرنا ... بإنصاف لهنّ ولاسرار»
وفي السرار لغتان فتح السين وكسرها وذلك حين يستسر القمر في آخر الشهر.
(1) الاستنان العدو في نشاط وتقدم وأن يمضي لا يردعه رادع، وقال الشاعر:
«ألا قاتل الله الهوى ما أشده ... وأصرعه للمرء وهو جليد
دعاني إلى ما يشتهي فأجبته ... فاصبح بي يستنّ حيث يريد»
ويقال: جاء من الخيل سنن ما يرد وهو اسم من الاستنان.(1/63)
المهر الأرن (1) ما كل رائض لشماسك بمقرن (2). فرماك عرن قدرته بسهم من سهامه ليقفك. وعضّك بمغمز (3) من بلائه ليثقّفك.
ومسّك بضر أن عرّى عظامك وأنحفك. فأيّ دثار من صحة اليقين ألحفك. كذلك الدّواء الإلهي النافع. والشفاء السماوي النّاجع.
فبما وسع (4) كل شيء من رحمته. ولا يعدّ ولا يحصى من نعمته.
لئن ظللت أيام الغابر من عمرك صائما. وبتّ لياليه قائما. لتشكر ما أطلق لك من هذه اليد البيضاء. وخوّلك من هذه النعمة الخضراء، لبقيت تحت قطرة من بحرها غريقا في التيّار (5). وتحت حصاة من طودها مرضوض الفقار.
الآرن: المرح النشيط. وقد أرن أرنا وفي المثل: «سمنوا فأرنوا». وهو من قول عدى بن زيد العبادي للنعمان بن المنذر حين وصل إلى خافقين وأحاطت به الخيل وقال له: «يا بن الفاعلة لالحقنك بأبيك» وكان قد أغرى به كسرى: «هيهات قد شددت لك أخية لا يحلها المهر الأرن».
(2) بمقرن بمطيق من قوله تعالى {(وَمََا كُنََّا لَهُ مُقْرِنِينَ)} (1). وقد ذكرت حقيقته في الكشاف عن حقائق التنزيل.
(3) المغمز ما يغمز به وهو الثقاف.
(4) فبما وسع قسم جوابه لبقيت. وهذا الجواب قد سد مسد جواب اليمين والشرط الذي هو لئن ظللت، واللام في لئن ظللت موطئة للقسم.
(5) التيار: الموج، واشتقاقه من التارة لأن له تارات يرتفع فيها وينحط.
__________
(1) سورة الزخرف، الآية 13.(1/64)
أصحّك بالعلّة المضنية ... قضاء (1) تردّ له الأقضيه
فسبحان من جعل الدّاء في ... تماديه أشفى من الأدوية
ألا إنها نعمة لو جرت ... لسالت بأيسرها أوديه
قضاء ترد له الأقضية هو قضاء الله الذي لا يرد كل قضاء مردود لأجله.(1/65)
مقامة الإستقامة
مقامة الإستقامة يا أبا القاسم نصبت (1) لك غاية فتجشّم في ابتدارها النصب.
وأحرز قبل أن يحرز غيرك القصب. إملأ فروج (2) دابّتك من الإحضار (3). حتى تحسر (4) عنك أعين النظّار. من طلب الخير لم نصبت لك غاية يريد ما ألزم من موجب التكليف. في بدارها في مبادرتها، يقال: بادرته الغاية واليها إذا سارعته اليها وقال:
«رأى أرنبا سنحت بالفضا. فبادرها ولجأت الخمر».
كانوا يغرزون في رأس الغاية التي يجري نحوها قصبة من سبق أخذها، فلذلك قالوا للسابق احرز القصبة، واستولى على القصبة، وهو من باب الكناية.
(2) الفروج ما بين القوائم من الفضاء. وملأ فروج دابته إذا أجهدها في الركض ومن أبيات الحكمية:
«مولى بالركض الفروج لفتكة ... بمهجة فراج يسدّ به الفرج»
(3) لإحضار العدو الشديد: يقال: أحضر الفرس كأنه أحضر جهده في العدو وهو الحضر وفرس محضير وجرد محاضير.
(4) حسر بصره يحسر وحسر يحسر إذا أعيا من طول النظر.
ومنه قوله تعالى: {(وَهُوَ حَسِيرٌ)} (1) نحو علم فهو عليم أو هو فعيل بمعنى مفعول من حسره فهو محسور.
__________
(1) سورة الملك، الآية 4.(1/66)
تحمد هويناه (1) وأناته (2). ومن قارع الباطل وجب أن تصلب قناته.
قبيح بمثلك أن يحيد عن الحقّ. ويصيف (3). ويطيش سهمه عن القرطاس ويحيف. إمض على ما جرّدت من عزيمتك الجادّة. واستقم على مفرق (4) المنهاج ووضح (5) الجادّة. فلن يحلّ دار المقامة. إلّا أهل الاستقامة. وإنّ بهاء العمل الصالح أن يطّرد ويستمر. وهجينته أن تنزو اليه نزوة طامح ثمّ تستعر. ألإعصار عصفته خفيفه. والسحابة الصيفية مطرتها طفيفة (6). فأعيذك بالله أن تشبه عزمتك عصفة الإعصار في سرعة مرورها. وفيئتك سحابة الصيف في قلّة درورها.
ليكن عملك ديمه (7). فليس للعمل الأبتر قيمة. الأمر جد فلا تزده الهويني تصغير الهوني تأنيث الأهون وهي المشبهة صفة المشبهة.
قال الأعشى:
«تمشي الهويني كما يمشي الوجى الوجل»
(2) الاناة: اسم من التأني، وامرأة اناة وهمزتها عن واو من الوني وهو الفتور لأنها توصف بالكسل. فيقال: كسول ومكسال، ويقال: فتور القيام.
(3) صاف السهم بالصاد والضاد عدل عن الرمية، وعن ابن الأعرابي أنه لم يقل عربي قط بالضاد المنقوطة.
(4) مفرق المنهاج: محجته شبه بمفرق الرأس.
(5) ووضح الجادة: ما وضح منها واستبان.
(6) الطفيف: القليل، ومنه تطفيف المكيال.
(7) الديمة: المطر يدوم أياما. وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان عمله ديمة) استعارت له اسم الديمة لدوامه واتصاله.(1/67)
كلّ يوم إلّا جدا. واشدد يديك بغرزه شدا (1). واكدد فيه الطاقة كدّا. ورض نفسك فإنها صعبة أبيّة. وألن هذه الشّكيمة والعبّيّة (2) إلا في احياء حق أو إماتة باطل فعلى المؤمن أن يوجد فيها أشدّ من الشديد. وأقسى من الحجر وأصلب من الحديد.
يقال: شد يديه بغرزه إذا لزمه ولم يخل عنه. والغرز ركاب الرجل وأصله أن يأخذ الرجل بغرز الراكب أخذا وثيقا يتبعه ولا يفارقه وهو من باب التمثيل.
(2) العبية والغمية: الانفة والحمية، وفي الحديث (إياكم وعبية الجاهلية) وقد فسرت الكلمتين بحقيقتهما في كتاب الفائق.(1/68)
مقامة الطيب
مقامة الطيب يا أبا القاسم تمنّ على فضل الله أن يجعل سقياك (1) من زلال المشرب. ورزقك من حلال المكتسب. فالطيّب لا يرد إلا الطيّب من المناهل. والكريم لا يريد إلّا الكريم من المآكل. والحرّ عزوف (2) عروف (3) لموارد السوء عيوف. (4) يربأ بنفسه عن استحباب الريّ اسم ما يسقى قال الله تعالى: {(نََاقَةَ اللََّهِ وَسُقْيََاهََا)} (1). والغيث سقيا الله تعالى. وسقيا فلان كذا يريد حظه في الماء.
(2) عزفت نفسه عن الشيء عزوفا إذا ارتفعت عنه. وقال الفرزدق:
«عزفت بأعشاش وما كدت تعزف
وأنكرت من حدراء ما كنت تعرف»
(3) عروف: صبور. يقال: عرف يعرف عرفا بكسر العين إذا صبر واعترف اصطبر وهو من العرفان لأن من تأمل واطلع على حقيقة الأمر صبر.
(4) عيوف من عافت الابل الماء إذا كرهت شربه، قال:
«وإنّي لوحشي إذا ما زجرتني ... وإني إذا آلفتني لألوف
وإنّي لورّاد المياه إذا صفت ... وإنّي إذا كدرتها لعيوف»
__________
(1) سورة الشمس، الآية 13.(1/69)
الفاضح. على احتمال الظمأ الفادح. ويستنكف أن يكون الحرام عنده أثيرا (1). إذا لم يجد الحلال كثيرا. فهو وإن بقي حرّان ينضنض (2) لسانه ويلهث. وشارف أن يقضي عليه الإقواء (3) والغرث. يتعاظمه بلّ الغليل بماء طرق. ويطول عليه مد اليد إلى ما ليس بطلق (4).
ألا إنّ اتقّاء المحارم. من أجل المكارم. فاتّقها إمّا لكرم الغريزة. (5)
أثيرا: مقدما أولا. يقال: فلان أثير عند الملك وله عنده أثره وقد آثر إثارة. ومنه قولهم: افعل كذا آثر ذى أثير أي أول كل شيء. وقال شعر:
«وقالوا ما تشاء فقلت ألهو ... إلى الاصباح آثر ذي أثير»
(2) النضنضة: تحريك اللسان في الفم. وعن عيسى بن عمر:
سألت ذا الرمة عن النضناض؟ فلم يزدني أن حرك لسانه في فيه، وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: أنه دخل عليه وهو ينصنص لسانه بالصاد غير المعجمة، قال أبو عبيد: إذا أخرج لسانه وحركه بيده فقد نصنصه.
(3) الاقواء: فناء الزاد. قال الله تعالى {(وَمَتََاعاً لِلْمُقْوِينَ)} (1).
وقيل أقوى وقع في في من الأرض تكاءده الأمر وتصاعده إذا شقّ عليه وتعاظمه من الصعود والكؤود.
(4) والطلق الحلال المطلق يقال هو لك طلقا.
(5) غريزة الرجل وطبيعته وضريبته ونحيزته ونحيتته وخليقته ما غرز عليه وطبع وضرب ونحز ونحت وخلق.
__________
(1) سورة الواقعة، الآية 73.(1/70)
وحميّة النفس العزيزة. وإمّا للتوقف عند حدود الشارع. وتخوّف الزواجر والقوارع. وأيّة (1) سلكت. فنفسك في السّعداء سلكت.
وعلى أيهما وقعت (2) فقد دفعت. إلى جنب طيّب. وسرارة (3) واد مخصب. ينبت لك من الثّناء الدّوح الأعلى ويخرج لك من الثّواب الثمر الأحلى. وإن ظاهرت بين الأمرين مظاهرة الدارع. وكما تكون بزّة البطل المقارع. فجعلت شعارك الإباء والحمية. ودثارك التقيّة (4) الإسلاميه. وذلك هو المظنون بأشباهك من أولي الشهامة (5) والحزم. وأضرابك من ذوي الجدّ والعزم. فأهلا بمن اختار الخير من قواصيه وأطرافه. وقبض بكفيّه من نواصيه وأعرافه.
أية سلكت: أي أية طريقة سلكت. وشبه سيبويه إدخال التاء في أي بقول بعض العرب: كلتهن فعلت. والقياس أن يستوي في أي المذكر والمؤنث لأنه إسم غير وصف ومنه قوله تعالى: {(فَأَيَّ آيََاتِ اللََّهِ تُنْكِرُونَ)} (1).
(2) وقع على كذا إذا وجده. ونحوه سقط عليه وحصل عليه ووقع ربيع بالأرض إذا حصل.
(3) سرارة الوادي: وسطه وأكرم موضع منه وسرارة العيش.
(4) التقية: التقوى. كما أن الشكية الشكوى. والبلية البلوى.
(5) الشهامة: حدة الذهن ورجل شهم. ومنه الشهيم للذكر من القنافذ وناقة مشهومة ذكية الفؤاد مذعورة.
__________
(1) سورة غافر، الآية 81.(1/71)
محارم تبتغى منها التقيّه ... فظاهر بين دينك والحميّه
هما درعان من يلبسهما لم ... يكن للنّابل المصمي (1) رميّه
وليس يقي ركوب الشرّ إلّا ... حذار النار أو خوف الدّنيّه
ولما قلّ في الناس التّوقيّ ... تهافت في محارمها البريّه
رماه فأصماه إذا قتله مكانه حيث يراه ورماه فأنماه إذا تحامل الصيد بالسهم فيغيب عن الرامي. قال شاعر:
«وما الدهر إلا صرف يوم وليلة ... فمخطفة تنمي ومقصعة تصمي»
وحقيقتهما جعله صاميا وناميا. يقال: صمى الصيد يصمي إذا مات مكانه ونمى ينمي إذا ارتفع. قال امرؤ القيس: فهو لا ينمي رميته.
وروي لا ينمي رميته.(1/72)
مقامة القناعة
مقامة القناعة يا أبا القاسم إقنع (1) من القناعة لا من القنوع. تستغن عن كلّ معطاء (2) ومنوع. لا تخلق (3) أديم وجهك. إلّا عند من خلقه وخلقك. ولا تسترزق إلّا من رزقه وإن شاء رزقك. ألقناعة مملكة تحتها كل مملكة. مملكة لا سبيل عليها لمهلكه. لا يتوقّع صاحبها إقنع يكون أمرا من قنع يقنع بمعنى رضى يرضي، وزنته:
ومن قنع يقنع بمعنى سأل يسأل وزنته والقناعة والقنع الرضي باليسير.
قال الشماخ:
«لمال المرء يصلحه فيغنى ... مفاقره أعفّ من القنوع»
ومنه قوله تعالى {(وَأَطْعِمُوا الْقََانِعَ وَالْمُعْتَرَّ)} (1). أي السائل والمتعرض الذي لا يسأل.
(2) المعطاء: الكثير العطاء، كالمهداء والمحذاء والمقراء من الهدية والحذيا والقري ويستوي فيه الرجل والمرأة وهو على وزن الآلات كالمفتاح والميزان.
(3) خلق الثوب خلوقة وخلوقا إذا بلى. فهو خلق واخلق دخل في الخلوقة. ويقال: اخلقه على نقل خلق بالهمز نحو رذل وارذله.
ويقال: رجل مخلق إذا كانت ثيابه خلقانا. قال ابن هرة:
__________
(1) سورة الحج، الآية 36.(1/73)
أن يفتقر بعد غنيته. ولا يقع النفاد في كنزه وقنيته (1). ثمّ إنّه مع أنّ يساره لا يفضله يسار. ولا يضبط حسبان (2) ما يملك يمين ولا يسار. أخفّ الناس شغلا ومؤونة. وأغناهم عن إرفاد ومعونه.
لا يهمه مكيل ولا موزون. ولا يعنيه مدّخر ولا مخزون. مفاتحه لا تنوء (3) بالعصبة أولي القوّة. على أنّه أوفر من قارون سعة وثروة.
من قنع بالنّزر اليسير أيسر. ومن حرص على الجمّ (4) الغفير أعسر.
«عجبت اثيلة أن رأتني مخلقا ... ثكلتك أمك إن ذاك يروع
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع»
وأصله من الصخرة الخلقاء وهي الملساء. لأن الثوب إذا بلي املاس ومعنى اخلاق أديم الوجه وهو بشرته الذهاب بمائه وطرآته إذا ابتذل بالسؤال.
(1) القنية: إسم ما يقتني من المال. يقال: قناه يقنوه إذا جمعه واقتناه. مثل اجتمعه كقولك: ذخر المال وادّخره وخبأه واختبأه.
(2) الحسبان بالضم: الحساب. وبالكسر المحسبة. قال الله تعالى {(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبََانٍ)} (1).
(3) ناء ينوء إذا مال. وناء به أماله ومعنى قوله تعالى: لتنوء بالعصبة: لتميلهم لثقلها فلا يقدرون على النهوض بها، ومنه قولهم إفعل كذا على ما يسوءه وينوءه قال الفراء: أراد ينيئه ولكنه قيل ينوءه للإزدواج ويجوز أن يكون اتباعا للتأكيد لا غير أراد أن القانع أغنى من قارون وهو خفيف الظهر عن جر ثقاله.
(4) الجم الكثير والغفير اتباع له يؤكده من الغفر وهو الستر كأنه يستر الأرض بكثرته.
__________
(1) سورة الرحمن، الآية 5.(1/74)
إنّ القانع أصاب كلّ ما أراد وزاد. ولن تجد حريصا يبلغ المراد.
ألحريص وإن استمرء المطعم. لا يترك أن يطلب الأنعم فالأنعم.
وإن استسرى (1) اللّباس. واستفره (2) الأفراس. وجدته أحرص وأشره. على أسرى وأفره. يوغر أبدا أن ينعموا (3) له المهاد. ويقول خشن يورث السهاد. حتى إذا بلغ كلّ مبلغ في التوطئة والإنعام.
وكسي بشكير (4) السمور (5) وزف (6) النّعام. دعته نفسه إلى تمنّي بيتوتة أهنأ مهجعا. وأوطأ مضجعا. وإن اجتلى أنور من القمر عضّ على الخمس. وقال هلّا كان أضوء من الشّمس. شقي تصبّ (7) إستسرى اللباس وجده سريا.
(2) واستفره الأفراس وجدها فارهة.
(3) نعم المهاد وغيره إذا لان نعمة فهو ناعم وأنعمه جعله ناعما.
(4) الشكير الزغب واشتكر الجنين. وقالوا: إذا تحاص الشعر فبقي شعر قصار تحت الشعر لين فهو الشكير وفي الحديث: (هل بقي من شيوخ بني مجاعة قال نعم وشكير كثير). يريد الاحداث.
(5) السمور: ضرب من الدواب وهو من أغلا الوبر وأرفعه ثمنا وربما بلغ ثمن جلد سمورة واحدة على صغرها عشرة دنانير وأكثر.
وسمعت أن بعض الخلفاء كان يشتري له السمور بالأثمان الغالية فيحلق شعره ثم ينحل فيجمع منه ما أشبه الزغب في لينه فيحشى به حشاياه ولحفه ودواويجه للشتاء.
(6) الزف ما لان من ريش النعام وهو زغبه.
(7) صب إليه صبابة فهو صب وهو رقة الشوق وأما صبا إليه صبوة فمعناه مال إليه هوى ومحبة قال الحطيئة:
«يصبّ إلى الحياة ويشتهيها ... وفي طول الحياة له عناء»
إلى كلّ مشتهى لهاته. وتضبّ (1) لكلّ متمنّى لثاته. فليس له إذن حدّ ينتهي إلى مطلبه. ولا أمد يتوقّف وراء مرغبه. فأمّا القانع فقد قدّر مبلغ حاجته وبيّنه. ومثّل مقدار إربه وعيّنه. (2) وذاك رثّ (3) يواري سوأته. وغثّ يطفىء (4) سورته. فإذا ظفر بذلك وقال حميد بن ثور الهلالي رضي الله عنه:(1/75)
«يصبّ إلى الحياة ويشتهيها ... وفي طول الحياة له عناء»
إلى كلّ مشتهى لهاته. وتضبّ (1) لكلّ متمنّى لثاته. فليس له إذن حدّ ينتهي إلى مطلبه. ولا أمد يتوقّف وراء مرغبه. فأمّا القانع فقد قدّر مبلغ حاجته وبيّنه. ومثّل مقدار إربه وعيّنه. (2) وذاك رثّ (3) يواري سوأته. وغثّ يطفىء (4) سورته. فإذا ظفر بذلك وقال حميد بن ثور الهلالي رضي الله عنه:
«فلا يبعد الله الشباب وقولنا ... إذا ما صبونا صبوة سنتوب»
(1) ضبت لثاته لكذا كناية عن الشره إليه والحرص عليه. يقال:
جاء تضب لثاته. وقال عنترة:
«وبني نمير قد لقينا منهم ... خيلا تضبّ لثاتها للمغنم»
والضبيب نحو البضيض وهو السيلان وذلك أن المشتهي للشيء يتحلب له فوه.
(2) عين الشيء: إذا جعله معلوما بعينه. يقال: في معناه شخصه.
وسمعت شيخا من الطائف يقول: ما بعثك إلا ادما مشخصة يريد معينة.
(3) الرّث الخلق وقد رثّ رثاثة والرثاثة الضعفاء، ومنه ارتثّ من المعركة إذا احتمل مثخنا بالجراح ضعيفا، وفي كلام الخنساء:
«أترونني تاركة بني عمي ... كأنهم عوالي الرماح ... ومرتثة شيخ بني جشم»
تريد دريد بن الصمة حين خطبها. ويقال: مرّ فلان ببني فلان فارتثهم وقال:
«يممت ذا شرف يرتث نائله ... من البرية جيلا بعده جيل»
(4) يطفىء سورته أي حدة جوعه وشدته. يقال: سورة الشراب وسورة الغضب وسورة السلطان لسطوته واعتدائه، وهي من سار إذا وثب وفلان سوار على نداماه أي معربد.(1/76)
فقد حاز النّعيم بحذافيره (1). وأصبح أثرى (2) من النّعمان بعصافيره (3).
بحذافيره بجملته من قوله عليه الصلاة والسلام: (من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) وهو جمع حذفار وحذفور وهو أعلى الشيء. وقيل: الحذفار الناحية وأنشد في وصف روضة:
«خضاضة بخضيع النبات قد ... بلغ الماء حذفارها».
أي رأسها وأعلاها.
(2) أثرى من النعمان من قولهم ثري يثرى وثرا يثر وثروة بمعنى أثرى وروى أبو عبيد الله أغنى منه ثري يثري ثريا وثراء والمشهور غيره ويجوز أن يكون من أثري يثري على مذهب سيبويه وبناء إسم التفضيل من باب أفعل قياس عنده وجعله أبو العباس مقصورا على السماع.
(3) عصافير النعمان إبل ادم كانت له وقد أجاز النابغة بمائة منها بريشيها ورعاتها وكلبها وظعينتها حين أنشده عينيته في اعتذاره إليه وهي من نتائج فحل له اسمه عصفور وكأنه سماه عصفورا تفاؤلا ليكثر نتاجه، فإن العصفور سفاد نثور. وكانت للنعمان أربعة فحول:
عصفور وداغر وشاغر وذو الكليتين.(1/77)
مقامة التوقي
مقامة التوقي يا أبا القاسم لا تقولنّ لشيء من سيّئاتك حقير. فلعلّه عند الله نخلة وعندك نقير. (1) وروّ (2) في جلالة قدر النّاهي وكبره. ولا تنظر إلى دقّة شأن المنهيّ عنه وصغره. فإنّ الأشياء تتفاضل بتفاضل عناصرها (3). وإنّ الأوامر والنّواهي تجلّ وتدق بحسب مصادرها.
لا تسمّ الهنة من الخطيّة هنه. فإنّ ذمّتك باجتنائها مرتهنة. وتذكّر حساب الله وموازينه المعدّلة. والنّقاش (4) في مثقال الذرّة ووزن النقير: النقرة في ظهر النواة التي تخرج منها النخلة. وهو مثل في القلة قال الله تعالى: {(وَلََا يُظْلَمُونَ نَقِيراً)} (1) والجمع بين النخلة والنقير من تناسب الكلام الذي هو أصول البلاغة.
(2) روّأت به الأمر: إذا أفكرت فيه ورويت عامية والروية كالبرية في أن أصلها الهمزة فخففت.
(3) العنصر الأصل وهو فيعل نونه مزيد من العصر وهو الملجأ لأن الأصل تأوي إليه شعبه وتلتجىء.
(4) النقاش: المناقشة وهي المداقة في الحساب والتفتيش عن جليله
__________
(1) سورة النساء، الآية 124.(1/78)
الخرد له. واستعظم أن تنفلت عن ملتقى أجفانك لحظة. أو تفرط من عذبة لسانك (1) لفظه. أو تخالج (2) من ضميرك خطرة. أو تتصل.
بقدمك خطوة. ولحظتك بمقلة مريب. ولفظتك لا عن لهجة (3) ودقيقه، من نقش الشوكة. وفي الحديث من نوقش الحساب عذب.
وأنشدوا للحجاج:
«إن تناقش يكن نقاشك يا ربّ ... عذابا لا طوق لي بالعذاب
أو تجاوز فأنت رب كريم ... عن مسيء ذنوبه كالتراب»
(1) وعذبة اللسان طرفه فرط منه كذا إذا سبق وبدر. وقال:
اللهم إغفر لي فرطات اللسان. وفرس فرط: يسبق الخيل ومنه قوله تعالى: {(إِنَّنََا نَخََافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنََا أَوْ أَنْ يَطْغى ََ)} (1). أي أن يقدم علينا ويعجل علينا بالعقوبة.
(2) خالج قلبه كذا: جاذبه ونازعه فكره. والخلج الجذب ومنه الخليج لأنه خلج من البحر.
(3) اللهجة: اللسان. وقالوا الفصيح اللهجة بالتحريك سميت للهجه بالمنطق والإستكثار منه ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: (إن ذا أوردني الموارد). وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (من وقي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقي الشرّ كله). وسمته العرب بالشبدع الذي هو العقرب وقال:
«عض على شبدعه الأريب ... فظلّ لا يلحي ولا يحوب»
__________
(1) سورة طه، الآية 45.(1/79)
أريب. وخطرتك فكر في خلاف سدد (1) وخطوتك مشي على غير جدد (2). فقد علمت أنّك مأمور بالغضّ من البصر. وحذف فضول النظر، وبأن تجعل الصمت من ديدنك ودينك (3). إذا لم يعنك المنطق في دنياك ودينك. وأن لا تدير في خلد (4) ولا تخطر ببال.
السدد: السداد. يقال: سد فعله يسد سددا وسدادا ونحوها الرشد والرشاد والفلح والفلاح.
(2) الجدد: المستوي من الأرض والجدجد مثله.
(3) الدين: العادة. قال المثقب العبدي:
«تقول إذا درأت لها وضيني ... أهذا دينه أبدا وديني».
(4) الخلد والبال: القلب. تقول: ما دار هذا في خلدي ولا خطر ببالي وكلمه فما ألقى لقوله بالا والبال الحال والشأن يقال هذا أمر ذو بال بمعنى ذو حال يعتد بها وذو خطر. ومنه حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم:
(كل أمر ذو بال لا يبدء فيه ببسم الله تعالى فهو أبتر) وقال مزاحم ابن الحارث العقيلي:
فما للنوى لا بارك الله في النوى ... وأمر لها بعد الخلاج غريم
كأنّ لها ذحلا عليّ فتبتغي ... إذا أتى وغيظي أنها لظلوم
وذلك بال للنوى ليس مخلفا ... إذا كان لي جار عليّ كريم»
وقال سحيم:
فإن تقبلي بالودّ أقبل بمثله ... وإن تدبري أذهب إلى حال باليا
وقال الحسن رحمه الله تعالى:
(ذهبت الدنيا بحال بالها وبقيت الأعمال قلائد في الأعناق).(1/80)
إلّا كلّ أمر ذي خطر وبال. وأن لا تنقل قدمك إلّا إلى مشهد خير يحمد عناؤك فيه. أو إلى موطن شرّ تخمد ضرامه وتطفيه فراقب الله عند فتح جفنك وإطباقه. وإمساك نظرك وإطلاقه. وأمام كلمك وصمتك. وما ترفع وتخفض من صوتك. وبين (1) يدي نسيانك وذكرك. وما تجيل من رويّتك وفكرك. ودون تقديم قدمك وتأخيرها. وتطويل خطاك وتقصيرها. وحاول (2) أن يقع جميع ذلك متّصفا (3) بالسّداد ومتّجها (4) بالصّواب. بعيدا من المؤاخذة قريبا من الثواب.
بين يديك بمعنى أمامك وحقيقته بين جهتيك المسامتتين ليديك من قرب سميتا يدين للملابسة كما سميت النعمة يدا لذلك.
(2) المحاولة طلب فيه شبه احتيال. كما أن الاراغة طلب فيه شبه روغان.
(3) إتصف: مطاوع وصفه. واتصف الشيء: صار متواصفا يصفه الناس. يقال: فلان متصف بالكرم. وقال طرفة:
«إني كفاني من أمر هممت به ... جار كجار الحذاقي الذي اتصفا»
أراد بالحذاقي أبا داود الأيادي وحذاق بطن من اياد وجار أبي داود مضروب به المثل متواصف بحسن الجوار.
(4) واتجه بمعنى توجه يقال اتجهت له ضربة.(1/81)
مقامة الظلف
مقامة الظلف (1) يا أبا القاسم ليت شعري أين يذهب بك. عن ثمرات علمك وأدبك. ضلّة لمن رضي من ثمرة علمه. بأن يشاد (2) بذكره وينوّه باسمه. ولمن قنع من ريع (3) أدبه. بأن يصل من الدنيا إلى أربه الظلف منع النفس عما تشتهيه وأصله من ظلف الأرض وهو الخشونة التي تمنع اظلاف البهائم إن تطأها وأرض ظلفة. قال عوف ابن الأخوص:
«ألم أظلف عن الشعراء عرضي ... كما ظلف الوسيقة بالكراع»
أي أخذ بها في ظلف من الأرض لئلا يقتفي أثرها. والكراع الحرة.
(2) أشاد البناء وشيده إذا رفعه. ثم قالوا أشاد بذكره بزيادة الباء وذلك أنهم لما نقلوه عن سبيل الإستعارة عن البناء إلى الثناء وسموه بضرب من التصرف. كما قالوا أعطي بيده في الإنقياد وجذب بضبعه في النعشة وألقى بيده في إسلام النفس ونحوه. قولهم البناء بكسر الباء في البنيان والبنا في المكارم. وقال الحطيئة:
«اولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا»
وهذا باب كثير المحاسن جم النكت. ويقال أشاد بالضالة إذا أنشدها.
(3) الريع: الزيادة. والفضل. ومنه ريع الطعام لنزله وبركته
وأف لمن حسبهما للتّكسب والمباهاة متعلّمين. ونصبهما إلى أبواب الملوك سلّمين. فإن اتّفقت له إلى أحد هؤلاء زلفة. والتأمت بينه وبين خدمه ألفه. وقيل أهبّ الملك لفلان قبول قبوله (1) رخاء وأرخى له عزالى (2) سحابه إرخاء. وقصارى (3) ذاك أنّه يصيبه في العجن والخبز وقد راعت الحنطة تريع وأراعت. ريع الدرع فضولها ومنه الريع بالكسر والفتح المكان المرتفع لتزايده عن الصعيد.(1/82)
(3) الريع: الزيادة. والفضل. ومنه ريع الطعام لنزله وبركته
وأف لمن حسبهما للتّكسب والمباهاة متعلّمين. ونصبهما إلى أبواب الملوك سلّمين. فإن اتّفقت له إلى أحد هؤلاء زلفة. والتأمت بينه وبين خدمه ألفه. وقيل أهبّ الملك لفلان قبول قبوله (1) رخاء وأرخى له عزالى (2) سحابه إرخاء. وقصارى (3) ذاك أنّه يصيبه في العجن والخبز وقد راعت الحنطة تريع وأراعت. ريع الدرع فضولها ومنه الريع بالكسر والفتح المكان المرتفع لتزايده عن الصعيد.
(1) جعل للقلوب ريحا قبولا ثم جعلها رخاء لينة الهبوب طيبة واستعارات هذه المقامة لمن تأملها بعين البصيرة ممن تلمظ بذوق من علم البيان غريبة نادرة.
(2) العزلاء فم المزادة وهي مسكبتها التي في أسفلها كأنها في الأصل صفة للمسكبة تأنيث الأعزل شبهت بالذنب الأعزل وهو المائل في شق قال:
«بضاف فويق الأرض ليس بأعزل».
(والجمع عزالي كعذارى وعذاري وبها تشبه مخارج الودق وتستعار لها فتراها واردة على طريق التشبيه تارة، وعلى طريق الإستعارة أخرى وقرأت في مقطعات الإعراب للأصمعي:
«وأسقاها فرواها بودق ... مخارجه كأفواه المزاد».
فجاء هذا بتفسير العزالي.
(3) قصاراك أن تفعل كذا وقصارك وقصرك أي غايتك التي تقصرك أي تحبسك أن تجاوزها. ومن توقيعات عبد الله بن طاهر فيما سمعته من أبي: غرّك عزك فصار قصار ذلك ذلك فاحش فاخش فعلك فعلك هدا؟؟؟ بهذا.(1/83)
بنفحة (1) من السحت. ورضخة (2) من الحرام البحت. هزّ من عطفه ونشط. وكشف غطاء الهمّ وكشط. واستطير فرحا وازدهي (3).
ورمح أذياله وزهي (4). وما شئت من اغتباط مع نخوه. وطربات من غير نشوه. وكاد يبارى كبيدات (5) السّماء. ويناطح هامة الجوزاء. وأقبل على العلم يبوس الأرض بين يديه. وعلى الأدب يعتنقه ويلثم خدّيه، بعد ما كان يتطير منهما ويسمّي التشاغل بهما النفحة أصلها في الرائحة ثم استعملت في القليل من العطية.
يقال أصابه بنفحة ونفحات ونفحته الدابة إذا خبطته خبطة يسيرة هينة ونفحه بالسيف نفحة خفيفة. ونفحت الريح تحركت اوائلها.
(2) رضخ له أقل له من العطاء ورضخ له في الدلو إذا سكب له فيها شيئا من الماء وأعطاه رضيخة من مال ورضاخة.
(3) ازدهاه استخفه وهو افتعال من زهاه إذا رفعه. يقال: زهاهم السراب.
(4) وزهي فلان تكبر وترفع على لفظ ما لم يسم فاعله فهو منه مزهو. ومثله نخى فهو منخو وفلان ينتخي من كذا يستنكف.
(5) يقال بلغ كبد السماء، وحلق الطائر في كبد السماء. قال الأعشي يصف الخورنق:
«يباري كبيدات السماه ودونه ... بلاط ودارات وكأس وخندق»
يريد أوساطها العالية في البعد والتصغير لذلك ونحوه قول لبيد:
«وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفرّ منها الأنامل»
وقولهم لقيت منه اللتيا والتي يريدون باللتيا الداهية الكبرى.(1/84)
حرمانا وحرفه (1). ويتمنّى الجهل والنقص ويحسبهما سببي النعيم والتّرفه. يقول بملء فيه بارك الله في العلم والأدب. هما خير من كنوز الفضة والذهب. ما أنا (2) لولاهما والأخذ بذؤابة الشرف الأفرع. والقبض على هادية (3) هذا الفخر الأتلع (4). ومالي ولمساورة هذا العزّ الأقعس. ومشاورة هذا الملك الأشوس. ومن لي بهذا الرّزق الواسع النّطاق. المحلّق (5) على قمم الأرزاق. والله ما كان ذلك الاتفاق السماوي والإلهام الإلهيّ إلّا خيرة وبركة. وما زالت البركة في الحركه. لقد صحّ قولهم والحركة ولود والسكون عاقر. وإلّا الحرف بمعنى الحرفة. وقال:
«ما ازددت من أدبي حرفا أسرّ به ... الا تزيدت حرفا تحته شوم»
(2) ما أنا والأخذ بالرفع ويجوز النصب. ويقولون ما أنت وزيد؟
وهو الكثير الشائع ومنه بيت الكتاب ما أنت وبيت أبيك والفخر؟
وحكى سيبويه عن بعض العرب: ما أنت وقصعة من ثريد؟ بالنصب على تأويل ما كنت وقصعة.
(3) الهادية ما تقدم من العنق وأقبلت هوادي الجمل.
(4) الأتلع: الطويل العنق. وقد تلع تلعا واتلعت الظبية من كناسها إذا رفعت جيدها.
(5) حلق الطائر دار في السكاك وهو الحلقة. وفي مجاوبات الشريف:
«تسف إلى صوب العراق عزائمي ... وتزجرها أمّ القرى فتحلّق»
فمن أين تنزاح تلك المفاقر (1). يمين (2) الله لو لزمت جثومي واعتزالي. لحرمت صوب هذه العزالي. هبلت (3) الهبول. من لم تهبّ له هذه القبول. وما يدريك ما شقي لعلّ الاعتباط (4) أنجى من ذلك الاغتباط. ونشطة (5) الأراقم (6) أرجى من ذلك النّشاط.(1/85)
«تسف إلى صوب العراق عزائمي ... وتزجرها أمّ القرى فتحلّق»
فمن أين تنزاح تلك المفاقر (1). يمين (2) الله لو لزمت جثومي واعتزالي. لحرمت صوب هذه العزالي. هبلت (3) الهبول. من لم تهبّ له هذه القبول. وما يدريك ما شقي لعلّ الاعتباط (4) أنجى من ذلك الاغتباط. ونشطة (5) الأراقم (6) أرجى من ذلك النّشاط.
المفاقر: جمع فقر كالمكاره في جمع كره. ويجوز أن يكون جمع مفقر أو مفتقر بمعنى الإفتقار.
(2) يمين الله على حذف الباء واتصال فعل القسم كقولهم: الله لافعلن. وأمانة الله لأخرجن. قال امرؤ القيس:
«فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو ضربوا رأسي لديك وأوصالي»
(3) هبلت الهبول: ثكلت الثكول. يقال: لامك الهبل وهبلتك أمك.
(4) الإعتباط النحر من غير علة. يقال: عبط البعير واعتبط.
ثم استعير فقيل: عبط الثوب إذا شقه جديدا واعتبط فلان ومات عبطة إذا اختضر حتى قالوا عبطته الدواهي إذا نالته من غير استحقاق.
واعتبطوا عليه الكذب إذا تكذبوا عليه وبهتوه.
(5) نشطته الحية، ضربته بأنفها. كأن فيه نشطة أي جذبة من نشط المائح الحيل إذا جذبه وكذلك نشط الصقر بمخلبه.
(6) الأرقم الذي فيه سواد وبياض. والذي يقال لهم الأراقم من بني تغلب بن وائل وهم ستة: بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم، وعتاب ابن سعد بن زهير بن جشم، وفد وكس بن عمرو بن مالك بن جشم، وغير بن وائل من ولد أراشة. نظرت إليهم امرأة وهم نيام تحت دثار فقالت لامهم كأن عيونهم عيون الأراقم فسموا بذلك.(1/86)
وأن تزرق في ثغرتك بالمزراق (1). خير من أن ترزق مثل تلك الأرراق. من حمل العلم والأدب لمثل هذه الثّمار. فقد حمل منهما أثقالا على ظهر حمار. إنّ من ثمراتها النزول على قضيّات الحكم. ورياضة صعاب الشيم. وعزّة النفس وبعد الهمم. وعزّة النفس أن لا تدعها تلمّ بالعمل السّفساف (2). وأن تسفّ (3) إلى الدناءة بعض الإسفاف. وأن تظلفها عن المطامع الدّنية. لا أن تعلفها المطاعم الهنيّة. وبعد الهمّة أن توجّهها إلى طريق الآخرة وسلوكها.
والاستهانة بالدنيا وملوكها. وأن لا تلتفت إلى ما يتفيّئون من الظل الوارف. ويعلقون (4) فيه المخارف. ويعلّقون به من الزّين المزراق: الحربة. زرقه ضربه به. كما يقال: نزكه إذا ضربه بالنيزك ومنه أن شهرا نزكوه واللحانات عليّ نزكوه. ويقال للمعيبة من النساء النزيكة. ويقال: نزكوا السفينة إذا أخرجوها من معمر البحر إلى ضحضاحه وكوروها على العكس.
(2) السفساف: الدنيّ الساقط. ومنه الحديث: (إن الله تعالى يحبّ معالي الأمور ويبغض سفاسفها) وقال ابن دريد: سفسف الرجل عمله إذا لم يبالغ في أحكامه.
(3) واسف إلى الدنية، دنى منها. من أسف الطائر إذا دنى من الأرض وقال عبيد:
«دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح»
(4) ويعلقون فيه: يرتعون وفي الحديث: (إنّ أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق في الجنة). وقال يعقوب: علقت الإبل
والزخارف. وأن لا تقول لما عجّل لهم من المراتب ما أفخمه.(1/87)
«دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح»
(4) ويعلقون فيه: يرتعون وفي الحديث: (إنّ أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق في الجنة). وقال يعقوب: علقت الإبل
والزخارف. وأن لا تقول لما عجّل لهم من المراتب ما أفخمه.
وأن تتصوّر ما ادخر لهم من العواقب ما أوخمه. عيش هني عن قليل يتنغّص. ظل ظليل عمّا قليل يتقلّص. ملك ثابت الأطناب يقوّض تقويض الخيام. ونعيم دائم التّسكاب يقلع إقلاع الغمام. ولله عبد لم يطرق باب ملك ولم يطأ عتبته. ولم يلمح ببصره مرتبته. ولم يعرف حسّابه ولا كتبته. ولم يصفّ قدميه إلّا بين يدي الملك الجبار جابر ما كسرته الجبابرة. وكاسر ما جبرته الأكاسره.
العضاه إذا تسنمتها. وقد استعاروه فقالوا: «علق فلان فلانا» أي تناوله بلسانه كما يقال: وقع في لحمه.(1/88)
مقامة العزلة
مقامة العزلة يا أبا القاسم أزل نفسك عن صحبة الناس واعزلها. وائت فرعة (1) من فراع الجبل فانزلها. ولذ ببعض الكهوف والغيران. بعيدا من الرفقاء والجيران. حيث لا تعلّق (2) طرفك إلّا بسوادك (3). ولا تجري مؤامرتك (4) إلّا مع فؤادك. ولا توصل إلى سمعك إلّا الفرعة: المكان المرتفع من الجبل. وفرع كل شيء أعلاه وكأن الفرعة تخصيص فيه كقولهم: عسلة ونبيذة وسويقة. وفي بعض أمثالهم: «إذا أخذت بذنبة الضبّ أغضبته».
(2) علق طرفه بكذا ينظر إليه. كقولك: مد إليه عينه وأدركه ببصره.
(3) السواد: الشخص. والبياض مثله. يقال: لا يزايل سوادي بياضك أي شخصك ومنه السواد للسرار بالكسر لأن المسارّ يدني سواده إلى سواد صاحبه.
(4) المؤامرة: المشاورة لأنها مباثة أمر من الأمور والأمير المؤامر وفي الحديث: (إن أميري من الملائكة جبريل).(1/89)
همسك (1) ومناجاتك. وإلّا جؤارك (2) ومناداتك. ولا تفطن لعيب أحد سوى عيبك. ولا يهمك إلّا دنس (3) ردنيك وجيبك.
قاتل الله بني هذه الأيام. فإنهم طلائع (4) الشرور والآثام. لقاهم لقاء وحوارهم غوار. ونقالهم (5) نقار. ووفاقهم نفاق الهمس: الصوت الخفي. قال الله تعالى: {(فَلََا تَسْمَعُ إِلََّا هَمْساً)} (1) ويقال: همس إليّ بحديثه. قال الراجز:
«قد خطب القوم إليّ نفسي ... همسا وأخفى من نجيّ الهمس
وما بأن أطلبه من باس».
وهامسه وتهامسوا. والهمس الوطيء الخفي وبه سمى الأسد هموسا ومنه الحروف المهموسة.
(2) الجؤار: رفع الصوت بالدعاء والإستغاثة. جأر إلى الله وفي التنزيل {(إِذََا هُمْ يَجْأَرُونَ»} (2). ومن الإستعارة جأرت الأرض: طال نبتها وارتفع.
(3) أريد بدنس الثوب تلطخ النفس بالعيب وخص الجيب والرءدن لأنهما أول ما يتدنس، وإنما كني عن دنس النفس بدنس الثوب لاشتماله عليها والتباسه بها. كما يقال: الكرم في برده والجود تحت جلده.
(4) الطليعة: التي تتقدم الجيش. جعلوا لشرارتهم طلائع للشرور إذا أبصروا مقبلين علم أن الشرور قد أقبلت. لقاؤهم: ملاقاتهم.
لقاء قتال من قولهم: أسد اللقاء وقوله:
«كأنّ دنانيرا على قسماتهم ... وإن كان قد شفّ الوجوه لقاء».
(5) نقالهم: مناقلتهم الكلام. نقار: منافرة ينقر بعضهم بعضا بالغيب. وفي نوابغ الكلم: لن يسود النقار ما اسودّ القار.
__________
(1) سورة طه، الآية 108.
(2) سورة المؤمنون، الآية 64.(1/90)
تسلق (1) بألسنتهم الأعراض. كما ترشق بسهامهم الأغراض. تجمع النّدوة (2) كبارهم فلا يتواصون بالصبر. بل يتناصون (3) على الصّدر (4). ولا يتشاورون في حسم الفساد. كما يتساورون (5) على قسم الوساد. إن سلقه بلسانه. وسلقه: ضربه. قال الله تعالى: {(سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدََادٍ)} (1) وخطيب سلاق ومسلاق. رشق الغرض بالسهم:
رماه. ورموا رشقا ورشقه بالكلام. ورشقته المرأة بنظرها. وتراشقته النساء. ولبعضهم:
«تراشقني أهل الزمان بأعين ... لو اني صفاة خفت أن أتصدعا
وذنبي أني كنت آدب منهم ... وأبرع منهم في الفنون وأبدعا».
(2) الندوة والنادي والندي والمنتدي: المجمع. ومنها دار الندوة كانت لقصي وكان يسمى المجمع لأن قريشا كانت تجتمع إليه للمشورة.
(3) ويتناصون: يأخذ بعضهم بناصية بعض. يقال: ناصاه مناصاة ونصاء وتناصيا. قال:
«أما تريني أشمط العناصي ... كأنما فرّقها مناصي»
ومن الإستعارة: ناصاه إذا وصله وخالطه. والفلاة تناصي الفلاة قال العجاج:
«وبلدة نياطها نطي ... قي تناصيها بلاد قيّ».
(4) على الصدر: على صدر المجلس.
(5) يتساورون: أي يساور بعضهم بعضا، أي يواثبه على قسم الوسادة على أن يقسموا أرصاد صاحب المجلس حتى لا يأخذ أحدهم منه أكثر مما أخذ الآخر، كما يتصافن المشرف على الموت عطشا من السفر ماءهم بالمقلة. وهذا داء فقهاء الزمن خصوصا وهو داء الضرائر
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية 19.(1/91)
آنسوك حمدت الوحشة. وإن جالسوك وددت الوحدة. بينا أنت في خلواتك وانفرادك. مكبّا على أحزابك (1) وأورادك. مردّدا فكرك كما يجب فيه ترديده. مجدّدا ذكر الله الذي لا ينبغي (2) إلّا تجديده. مشتغلا بخويصة (3) نفسك وما يعنيك. عاكفا على ما يدعوك إلى الخير ويدنيك. ويلفتك عن الشر ويثنيك. إذ فوجئت بمثافنة (4) بعضهم. من الذين أخذك الله (5) ببغضهم. فضرب بينك وبين ما كنت وقانا الله شره قد بلوا به من بين طبقات الناس لما فسد من نياتهم وأنهم لم يتفقهوا إلا لضدّ ما وضع الله له التفقه وأمر به من الاقتداء بالانبياء في عقد الهمة بالإنذار والتحذير بل للحظوظ الخسيسة فلذلك لم يكن مهمهم إلا التكالب عليها والتصافع على نيلها.
(1) الحزب: الورد. يقال: قرأت حزبي من القرآن.
(2) ينبغي مطاوع يبغي كأنه ينطلب ولم يرد ماضيه مستعملا إلا في موضع واحد من كتاب سيبويه.
(3) خويصة نفسك: حويلتها الخاصة. بسكون الياء كأصيم ودويبة. وهذا من التقاء الساكنين على حده. وهو أن يكون الأول حرف لين والثاني حرفا مدغما.
(4) المثافنة: المجالسة. وقال اللحياني: ثافنه: لازمه ولم يبارحه وهي مفاعلة من الثفنة وثفنات البعير. وما في قول العجاج:
«خوّ على مستويات خمس ... كركرة وثفنات ملس».
(5) أخذك الله ببغضهم: كلفك بغضهم وألزمكه. ومنه قوله عزّ وجل: {(أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ)} (1) أي كلفته عزته أن يأثم برد قول آمره بالتقوى أو بالوثوب عليه أو بالزيادة في فساده.
__________
(1) سورة البقرة، الآية 206.(1/92)
فيه بأسداد (1). ورماك بأمور من تلك الأول بأضداد. وافتنّ في الأحاديث كحاطب (2) الليل. واستنّ في الأكاذيب كعائر الخيل.
ملقيا أسباب الفتن بين يدي افتنانه. مخلّفا للآداب والسنن وراء استنانه.
لا يدفع في صدره من حياء دافع. ولا يزعه من دين حق وازع.
ولا ينزعه من عرق صدق نازع. فإذا أنشأ يأكل لحم أخيه بالنقيصة والثّلب. ويلغ في دمه الحرام ولوغ الكلب. ويصوّب ويصعّد في تمزيق فروته. ويقوم ويقعد في قرع مروته. ويخلط ذلك باستهزاء متتابع. واستغراب (3) متدافع. لم يملك حينئذ عنانه. ولم يثبط عن استهزائه جنّانه (4) فإن لم تقبل عليه بوجهك وصفك بالكبرياء.
وإن لم ترعه سمعك نسبك إلى الرّياء. مسجّلا (5) عليك بالشكاسة والكزازه (6). وناهضا عنك بملء الصدر من الحزازه. وإن أعطيته الضرب بالأسداد عبارة عن الحيلولة والمنع. قال الأسود بن يعفر:
«ومن الحوادث لا أبالك أنني ... ضربت عليّ الأرض بالأسداد»
(2) شبهه بحاطب الليل: لأنه يخلط بين جيد الحطب ورديئه.
(3) الإستغراب: أقصى مراتب الضحك كأن التبسم أدناها.
يقال: استغرب في ضحكه كأنه طلب الغرب فيه. أي الحد وحكي الكسائي: استغرب على البناء للمفعول.
(4) الجنان: جمع جان قال أوس:
«تبدل حالا بعد حال عهدته ... تناوح جنان بهنّ وخبل»
(5) سجل عليه بكذا: شهره به ووسمه. كأنما كتب عليه سجلا.
(6) الكزازة: الإنقباض وضيق القلب. ورجل كز، ونفس فلان كزّة، وقال شعر:(1/93)
من نفسك ما يريد فكلاكما (1) والشيطان المريد. قد جرى أحدكما في طلق (2) الضلال والثاني رسيله (3). واستوى الأول على صهوة (4) الباطل والآخر زميله (5). بل استبقتما إلى غاية الغواية «يمارس نفسا بين جنبيه كزة ... إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا»
ويقال للشحيح: كزّ اليدين.
(1) وكلاكما والشيطان، أي وكل واحد منكما والشيطان سواء.
(2) الطلق والشوط والشأو واحد.
(3) والرسيل: الذي يراسلك في قراءة أو غناء. ثم يستعار في غيرهما فيقال: هو رسيله في النضال: أي مغالبه ومباريه في إرسال النبل.
(4) الصهوة: مكان السرج من ظهري الفرس وقال خداش بن زهير:
«إذن أكون كمن ألقى رحالته ... على الحمار وخلّى صهوة الفرس»
ثم يستعار فيقال: تيس ذو صهوات إذا كان سمينا قد تراكم الشحم على ظهره جعلت له صهوات تشبيها لركام الشحم بذلك. وفي النبويات:
«لما رمى الكفر بالإسلام لم يقه ... باس على صهوات الراي محموله»
(5) الزميل: الرديف. قال ابن دريد: زملت الرحل على البعير وغيره. فهو مزمول وزميل إذا أردفته. وفي حديث عمر رضي الله عنه:
(كنت زميل محمد صلّى الله عليه وسلّم في غزوة قرقرة الكدر).(1/94)
معنقين (1). وتردّيتما في هوّة الرّدى معتنقين. فيالها محنة ما أضرّها.
ويالها فتنة وقى (2) الله شرّها.
الإنس مشتقق من الأنس
والأنس أن تنأى عن الإنس
ثيابهم ملس ولكنها
على ذئاب منهم طلس
نفسك فاغنمها وشرّد بها
عنهم وقل أفلت يا نفس
إن لم تشرّدها (3) تجدها لقى (4)
للفرس بين الظفر والضّرس
العنق والعنيق: السير السهل الفسيح. جاء القوم عنقا واحدا وجاؤوا مثل عنق الفرس. والفعل منه أعنق وحقيقته من قولك أعنق فلان إذا شخص عنقه، لأن الدابة إذا سارت العنق أشخصت عنقها، ومما استعير من ذلك أعنقت الريح بالتراب أذرته وأعنق الزرع طال وخرج سنبله.
(2) وقي الله شرها، من قول عمر رضي الله تعالى عنه: (كانت بيعة أبي بكر فلتة وقي الله شرها).
(3) يقال: اشرده وشرد به إذا طرده. وفي الباء وجهان أن تكون صلة كما في قوله تعالى {(وَلََا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)} (1) أو على فعل به التشريد. وقال:
__________
(1) سورة البقرة، الآية 195.(1/95)
أطوف بالأباطح كلّ يوم ... مخافة أن يشرد بي حكيم»
يريد بحكيم رجلا من بني سليم ولته قريش الأخذ على سفائهم.
وقيل على معنى أن يشرد بي أن يسمع بي ويندد. وقال:
«شرّد بأهلك عني حيث شئت ولا ... تكثر عليّ ودع عنك الأباطيلا»
وأما قوله تعالى: {(فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ)} (1) فمعناه:
ففرق بالنكاية فيهم من وراءهم من الكفرة.
(4) اللقى: الشيء الملقي. وقال القطامي:
«تروي لقى القي في صفصف ... تصهره الشمس فما ينصهر»
يقال: شيء لقي واشياء لقى. وقد يثنى ويجمع، فيقال: لقيان والقاء ومنه وادي الالقاء.
__________
(1) سورة الأنفال، الآية 57.(1/96)
مقامة العفة
مقامة العفة يا أبا القاسم بسأت (1) نفسك بالشهوات فافطمها عن هذا البسوء. ولا تطعها إنّ النفس لأمّارة بالسوء. تطلب منك أن يكون مسكنها دارا قوراء (2). وسكنها (3) مهاة (4) حوراء، تجرّ بسأ بالأمر وبسيء وبهأ وبهيء إذا اعتاده. وقال زهير:
«بسأت بنيئها فبشمت منها ... وعندك لو أردت لها دواء».
وسمع أعرابي يقول لرجل: لقد بسىء بكرمك فعطفت إليك الأعناق.
(2) القوراء: الواسعة. وتقوير الجيب توسيعه. وقور الجلد إتسع من الهزال.
(3) السكن: ما يسكن إليه ويؤنس به من جليس وحبيب وغيرهما ومنه قوله تعالى: {(وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً)} (1) وقوله: {(إِنَّ صَلََاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)} (2). وقيل: للنار سكن كما قيل لها مؤنسة. وقال «وسكن يوقد في مظله».
(4) المهاة: بقرة الوحش. سميت لبياضها تشبيها بالمهاة وهي البلورة والدرة. قال ابن الزبعري:
__________
(1) سورة التوبة، الآية 103.
(2) سورة الانعام، الآية 96.(1/97)
في عرصتها فضول مرطها. وتمسّ عقوتها (1) بهدّاب (2) ريطها.
وترقرق (3) المسك السحيق في ترابها إذا لعبت فيها مع أترابها تطلع اليك من جانب الخدر. كما أنجابت السماء عن شقّة البدر. وأن تكون سماء رواقها منمقة بالرقم الزّريابي (4). وأرضها منجدة بالبسط والزّرابي (5). وأنت متّكى فيه على الأريكه. مع تركية كالتريكة (6). وتقترح عليك وصيفا موصوفا بالجمال. واصفا للغزالة (7) «وهم لعمرك في الهياج إذا أتى ... أحيا وأحسن من مها الأصداف»
قيل لها مهاة تشبيها بالماء مقلوبة عن ماهة. كما قالوا: أمهيت السكين ومهاة الفرس لمائه.
(1) العقوة: الساحة. لأن الدار تنتهي عندها من عقاه بمعنى عاقه.
(2) الهداب: الهدب. قال امرء القيس: (وشحم كهدّاب الدمقس المفتل).
(3) ترقرق المسك: من قول الأعشى:
«وتبرد برد رداء العرو ... س بالصيف رقرقت فيه العبيرا»
(4) الزرياب: ماء الذهب. فارسية معربة.
(5) الزريبة: بالكسر والضم واحدة الزرابي. وهي بساط عريض وقيل طنفسة لها خمل رقيق.
(6) الترائك والترك: بيض النعام. الواحدة تريكة وتركة وهو من الترك. كما في قوله شعر:
«كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا».
وقيل للخود بيضة وتركة تشبيها.
(7) الغزالة والغزال للأنثى والذكر من الغزلان أو للشمس، ولا
والغزال. مقرطعا مخنق (1) الخصر. ينفث في عقد السّحر. إسم أبيه يافث (2). واسمه نافث (3). يقبل اليك بخوط (4) البان. ويدبر عنك ببعض (5) الكثبان. وتسألك أن تلبس ما يدق ويرق من حرّ الملابس. (6) وما يروق ويفوق من الحلل والنّفائس. مستشعرا (7) يقال للشمس الغزالة إلا عند طلوعها. يقال: طلعت الغزالة ولا يقال:(1/98)
(7) الغزالة والغزال للأنثى والذكر من الغزلان أو للشمس، ولا
والغزال. مقرطعا مخنق (1) الخصر. ينفث في عقد السّحر. إسم أبيه يافث (2). واسمه نافث (3). يقبل اليك بخوط (4) البان. ويدبر عنك ببعض (5) الكثبان. وتسألك أن تلبس ما يدق ويرق من حرّ الملابس. (6) وما يروق ويفوق من الحلل والنّفائس. مستشعرا (7) يقال للشمس الغزالة إلا عند طلوعها. يقال: طلعت الغزالة ولا يقال:
غابت. كما لا يقال لها الجونة إلا عند غروبها. ولقيت فلانا غزالة الضحى. وذلك عند إشراق الشمس وانبساط شعاعها. قال شعر:
«دعت سليمى دعوة هل من فتى ... يسوق بالقوم غزالات الضحى»
(1) مخنق الخصر: لأنه يحزم خصره فكأنه يخنقه أو جعله مخنقا لضمره ورقته.
(2) يافث: أحد أولاد نوح عليه السلام. وهو أبو الترك وعن وح صلوات الله عليه: (كثر الله يافث فتراهم قد كبسوا الدنيا بكثرتهم).
(3) واسمه نافث: لنفثه في عقد السحر وهي صنعة مليحة.
(4) خوط البان: قده.
(5) وبعض الكثبان ردفه.
(6) حر الملابس: أجودها وأكرمها. وكذلك حر كل شيء ومنه حر الوجه.
(7) مستشعرا: متدثرا متخذا شعارا ودثارا. وقال الافوه الأودي:
«والليل كالدماء مستشعرا ... من دونه لونا كلون السدوس»
ما لان من الحرير. متدثّرا بما راق من الخير. مراوحا (1) في مصيفك ومشتاك بين اللّاذ والرّدن (2). منتقيا منهما ما هو أخف وأدفأ للبدن.(1/99)
«والليل كالدماء مستشعرا ... من دونه لونا كلون السدوس»
ما لان من الحرير. متدثّرا بما راق من الخير. مراوحا (1) في مصيفك ومشتاك بين اللّاذ والرّدن (2). منتقيا منهما ما هو أخف وأدفأ للبدن.
وتحدوك على ركوب أعتق المراكب وأروعها. وأسلسها قيادا وأطوعها.
موشّى بالآلات المزينة. مغشّى بالحلية الرّزينة. من الذهب الحمراء.
والفضة البيضاء. كأنّما يسبح في لجّة من اللجين. أو تسيح عليه عين من العين (3). وتدعوك إلى أكل الطّيّب الناعم. من الوان المطاعم. الدّجاج المسمن بكسكر (4). والرّجراج (5) بالسّمن والسكر.
وكلّ ما يرتب على موائد أولي المراتب. من أصناف الحلاوى والأطايب.
ويحك لا تجبها إلى شيء من طلبتها (6). وارجعها ناكصة على أخيب (7) المراوحة بين الأمرين: أن تعمل ذا مرة وذا مرة وقال لبيد:
«وولي عامدا طيات فلج ... يراوح بين صون وابتذال»
وراوح الماشي بين رجليه.
(2) الردن: الخز. قال عدي بن زيد:
«ولقد الهو ببكر شادن ... مسّها الين من مسّ الردن»
(3) العين: الخالص من الذهب. وهو ما يسبك ومنه الحديث:
(الذهب بالذهب تبرها وعينها) وعين كل شيء خالصه.
(4) كسكر: بلد بسواد العراق ينسب إليها الدجاج الكسكري.
(5) الرجراج: الفالوذ الذي يترجرج. وفي كلام الأستاذ أبي بكر الخوارزمي: نزلنا بفلان فجاءنا بشواء رشراش، وفالوذ رجراج.
(6) الطلبة: ما يطلب ومن أخواتها التبعة والتركة والسرفة.
(7) على أخيب خيبتها: جعل الخيبة خائبة. كقولهم: ذيل ذائل وشعر شاعر.(1/100)
خيبتها. واحمل عليها بتصريد (1) شهواتها. وانزع بقيء من طعم اللهو في لهواتها. واعلم أنّك إن تعصها الساعة. تجدها بعد ساعتك مطواعه. وإن أطعتها أرتك العجب من معاصاتها. وقعدت لا يدي لك بمعاناتها. ويئست دعوتك من إنصاتها بمناصاتها. يكفيك من الرّواق المزخرف وبساطه الموشي. كنّ كأنّه كناس الوحشي.
يسع الفقير وما يصلحه في يومه وليلته. ويطابق ما له في تصعلكه وعيلته. لعمرك إنّ ما ترمّه الورقاء (2) من ثلاثة (3) أعواد. وما شيده فرعون ذو الأوتاد. سيّان عند من فكر في العواقب. وتأمل آثار هذا الدور (4) المتعاقب. ويغنيك عن صاحبة المرط المرحل. (5)
وساحبة الرّيط المرقل (6) تقية تتبلغ بها مرغما للفتّان اللّعين. إلى التصريد: القطع قبل بلوغ الحاجة. يقال: شرب مصرد وصردت الشارب: قطعت عليه شربه. وقال النابغة:
«وتسقى إذا ما شئت غير مصرد ... وكأسك في حافاتها المسك قارع»
(2) الورقاء: الحمامة.
(3) من ثلاثة أعواد من قول عبيد:
«عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامه
جعلت لها عودين من ... نشم وآخر من ثمامه»
(4) الدور: دور الزمان وما يدور به من الأحوال المختلفة. ويقال:
ادور الدهر ودوائره.
(5) المرحل الموشى بصور الرحال.
(6) المرفل: المذيل.(1/101)
أن يبعثها الله تعالى من الحور العين. وتنوب عن الحصان قدماك تسعى بهما في سبل الهدى. وتتسابق بهما في مضمار البرّ إلى المدى.
ويقنعك عن الأطايب التي وصفتها. وسردت نعوتها ورصفتها.
قرصا شعير في غدائك وعشائك. وما عداهما عدّة لكظّتك (1) وجشائك. ويجزئك عن يمنة (2) اليمن. والخسروانيّ (3) الغالي الثمن.
وبرود صنعاء وعدن. بردة (4) تستر بها معرّاك. وما يواري سوأتك عمن يراك. والعبد الصالح من استحبّ رقة الحال وخفة الحاذ (5).
على المراوحة بين الرّدن واللّاذ. واعتقد أنّ لبس الخسروانيّ من الكظة: الإمتلاء من الطعام ومنها ما جاء في حديث رقية بنت صيفي بن هاشم واكتظ الوادي بثجيجه. وفي الحديث: (سيأتي على باب الجنة زمان وله كظيظ من الزحام).
(2) اليمنة: ضرب من برود اليمن.
(3) الخسرواني: من ثياب الأكاسرة منسوب إلى خسرو.
(4) البردة: شملة يأتزرون بها. قال شمر: رأيت اعرابيا يجر يمنة وعليه شبه منديل قد ائتزر به. فقلت: ما تسميه؟ فقال بردة.
وبردة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: التي في أيدي الخلفاء، وبها ضرب المثل «اخلق من بردة» وكان قد كساها كعب بن زهير حين أنشده اللامية وقال حبيب بن أوس الطائي فأحسن: «فهم يميسون البخترية في بردة والأنام في بردة».
(5) الحاذ والحال: اخوان ومنه الحديث: (يجيء على الناس زمان يغبط فيه الرجل بحفة الحاذ).(1/102)
الخسران. ووثق أنّ العسر قرن (1) به يسران. وإن أردت التزين من الثياب بأسناها. ومن الحلل بحسناها. فأين أنت من الحلّة التي لا يعبأ لابسها بنسيج الذّهب على عطفي بعض الملوك. وكأنه في عينه سحق (2) عباءة على كتفي صعلوك. وما هي إلا لباس التّقوى الذي هو اللّباس (3). لباس تلقى فيه الله وتلقى فيما سواه الناس.
فافرق ما تفرق بين الملقيّين (4) بين اللّباسين. فليسا بسيّين.
وتذكّر ما بلغك من قول الحسن. وما جرى له مع الحسناء في قرن به يسران من قول ابن عباس في قوله تعالى: {(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)} (1)، «لن يغلب عسر يسرين».
(2) السحق: الخلق. وعليه سحق عمامة وجرد قطيفة. وقد سحق الثوب سحوقه: خلق خلوقة واخلق.
(3) هو اللباس: يريد هو اللباس الكامل الذي كل لباس إليه كلا لباس.
(4) أراد بالملقيين الله تعالى والناس. وعن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه مرّ على قبر جديد وعنده امرأة حسناء في أحسن اللباس تبكي عليه، فوقف متعجبا من حالها فسألها؟ فقالت: هذا زوجي، وما كان أحد أحب إليه مني ولا لباس يراني فيه أحب إليه من هذا اللباس فقلت أزور حبيبي في أحب اللباس إليه فانتزع الحسن العبرة من كلامها وغشى عليه فعكفت عليه المارة حتى أفاق. فقال: هذه تلقى حبيبها الميت في أحب اللباس إليه يريد لباس التقوى.
__________
(1) سورة الشرح، الآيتان 65.(1/103)
الثوب الحسن. وما سجمه (1) من العبره. ووجم (2) عليه من العبره. وأمّا المقرطق فخله لإخوان الفئة المشركه. وهم أصحاب المؤتفكة (3). واستعصم الله لعله يعصمك. وصم عن جميع ما يزري بك ويصمك (4).
سجم دمعه سجما. وسجم بنفسه سجوما. ودمع ساجم، وقال:
«أأن توسمت من خرقاء منزلة ... ماء الصبابة من عينيك مسجوم»
(2) وجم وجوما: إذا سكت لغم.
(3) المؤتفكة: القرى المنقلبة. وائتفك مطاوع أفكه. ومنه الحديث: (إذا كسرت المؤتفكات زكّت الأرض).
(4) يصمك: يعيبك. وإنه لموصوم النسب. الوصم في القناة الصدع ومنه توصيم الكسل.(1/104)
مقامة الندم
مقامة الندم يا أبا القاسم إنك لفي موقف صعب بين حوبة ركبتها. وبين توبة تبتها. فمتى ياسرت بنظرك إلى جانب حوبتك وهو أوحش جانب. وأجدره بالمخاوف والمهايب. جانب قد سدّه الغبار المضب (1).
وأطبق عليه الظلام المرب (2). لا يتراءى فيه شبحان (3) وإن اقتربت بينهما المسافه. وإن لم تعتور أبصارهما آفه. رأيت الشرّ يهرول (4) اليك مقعقعا (5) بأقرابه. مخترطا منصله من قرابه. يؤآمر (6) فيك المضب: ذو الضباب. يقال: أضب يومنا فهو مضب.
(2) ارب بالمكان: والب والث إذا قام ولزم.
(3) الشبح: الشخص. وقولهم: هو أدقّ من شبح باطل:
هو الهباء. وقد يسكّن باؤه. وأنشد سيبويه لذي الرمة:
«هجوم عليها نفسه غير أنّه ... متى يوم في عينيه بالشبح ينهض».
(4) الهرولة: عدو شبيه بالقفز، ومنه الحديث: (وإن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة).
(5) مقعقعا بأقرابه من قوله:
«أشارت له الحرب العوان فجاءها ... يقعقع بالأقراب أول من أتى»
يعني أنه أتى سرعان القوم وقد تلبب وتحزم وشد قرنه بقربه وهو خصره فهو يقعقعه به في سعيه، وأراد القرب بما حواليه فجمعه.
(6) إذا تردد الرجل في أمر واتجه له داعيان لا يدري على أيهما
نفسيه. ويداور فيك رأييه. أيقدّك (1) أم يقطك. وفي أيّ الغمرتين يغطك. والوعيد يتلقّاك بوجه جهم (2). ويزحف تلقاءك بجيش دهم (3). والعقاب يحدّ لك نابه. ويشمّر عن مخلبه قنابه (4).(1/105)
(6) إذا تردد الرجل في أمر واتجه له داعيان لا يدري على أيهما
نفسيه. ويداور فيك رأييه. أيقدّك (1) أم يقطك. وفي أيّ الغمرتين يغطك. والوعيد يتلقّاك بوجه جهم (2). ويزحف تلقاءك بجيش دهم (3). والعقاب يحدّ لك نابه. ويشمّر عن مخلبه قنابه (4).
وبنات الرّجاء يبرزن اليك في جداد. وأفواه الناس تكشر لك عن أنياب حداد. ومتى يامنت ببصرك. إلى جانب توبتك. وهي آنس يعرج. قالوا: فلان يؤامر نفسيه. يريدون داعي النفس وهاجسها.
فسموها نفسين إما لصدورهما عن النفس وإما لأن الداعين لما كانا كالمشيرين عليه، والآمرين له شبهوهما بذاتين. فسموهما نفسين وقال:
«كلا شافعي سؤاله من ضميره ... إذا ائتمرت نفساه في السرّ خاليا»
وقال حاتم:
«أشاور نفس الجود حتى تطيعني ... وأترك نفس البخل لا استشيرها»
(1) القد بالطول، والقط بالعرض. كما تشق القلم وتقطعه. يقال:
قدّ لي هذا القلم وقطه. وكان علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إذا استطال قدّ وإذا اعترض قط.
(2) الجهم: الغليظ الباسر. وقد جهم جهومة فهو جهم وجهيم وتجهمني فلان كلح في وجهه. وقيل: تجهمني بكذا إذا غلط في قوله والجهم من صفات الأسد.
(3) الدهم: الذي يدهم بالغلبة لكثرته وقوّته، وقال:
«جئنا بدهم يدهم الدهوما ... بحر كأنّ فوقه نجوما»
(4) القناب والمقنب: كمّ المخلب.(1/106)
جهة وآنقها. وأوفقها بالمؤمن وأرفقها. جهة كأنّ الفجر (1) المستطير تنفس (2) في أعراضها (3). وكأنّ النهار المستنير اقتبس من بياضها.
يبرق (4) البصر في سطوع إياتها (5). وكاد يهدي العمي وضوح آياتها.
الفجر المستطير: المعترض في الأفق وهو غرة النهار. وأما المستطيل الذي سمي ذنب السرحان فهو من الليل.
(2) تنفس الصبح: ما يتقدمه من نسيمه. شبه بنفس المتنفس قال الله تعالى {(وَالصُّبْحِ إِذََا تَنَفَّسَ)} (1) قال العجاج: «حتى إذا الصبح له تنفسا».
(3) في أعراضها: في جوانبها. الواحد عرض. يقال: ضرب به عرض الحائط، ونظر اليه بعرض وجهه. وأعطه من عرض المال أي من شقه.
(4) أبرق البصر: تحير فلم يطرف. وأصله أن يحار بصر شائم البرق. كما يقال: بقر وذهب إذا حار بصره عند رؤية بقر كثير.
وقالوا: برقت الغنم إذا اشتكت بطونها من أكل البروق.
(5) الإياة والإيا بالقصر والكسر والأياء بالفتح والمد: ضوء الشمس. وقد كره بعضهم قراءة عمرو بن فائد (إياك نعبد) بالتخفيف لئلا يشبه معنى ضياك. وقال طرفة:
«سقته اياة الشمس إلّا لثاته ... أسف ولم تكدم عليه بإثمد»
ومنها اشتقاق الآية لبيانها وإنارتها. والعين واللام كلتاهما ياء كما في الحياة.
__________
(1) سورة التكوير، الآية 18.(1/107)
وجدت الخير مقبلا بوجه متطلّق. بسّاما عن مثل وميض متألّق.
يلازمك لزام الحميم المشفق. ويلاثمك لثام الحبيب المتشوّق.
والوعد ينفض على خدّيك ورد الاستبشار. ويذيق قلبك برد الاستبصار. والثواب يمسح أركانك بجناح. ويغسلك عن كلّ مأثم وجناح. والرّجاء واليأس يتقارعان (1) فيخرج سهم الرّجاء بالفوز والفلج (2). ويبقى اليأس مقروعا داحض الحجج. فخذ حذارك أن يزلك الشيطان ويضلك. بأن يلقي على إحدى الجهتين ظلّك.
وتهب لها دون الأخرى كلّك. فإنّك إن فعلت ذلك ملكك القنوط والفزع. واستولى عليك الأمن والطمع. وكلاهما لعمر الله أكل وبيل (3). ومنهل ليس له إلى المساغ سبيل. القانط الفزع جامد لا يرتاح للعمل. والآمن الطّمع متلكّىء متّكىء على الأمل.
فإن حاولت أن لا تقعد يائسا بائسا ولا آملا آمنا فقطّع بين الجهتين نظرك. وشطّر (4) اليهما بصرك. حتى تجعل نفسك مترجّحة بين يتقارعان: من القرعة. والمقروع: المغلوب فيها كالمقمور.
(2) الفلج والفلج: كالرّشد والرّشد. وهو الظفر وفلج على خصمه وفلجه: غلبه بالحجة. وفي المثل: «من يأتي الحكم وحده يفلج».
وفي حديث علي رضي الله تعالى عنه: (كالياسر الفالج أصاب فوزة من قداحه).
(3) الوبيل: الوخيم الثقيل. يقال: كلاء وبيل إذا لم تمرئه الراعية. وطعام وبيل متخم. ومنه سموا العصا الضخمة وبيلا لثقلها.
ووبل المرتع واستوبلته الراعية.
(4) شطر الشيء: نصفه. ويقال: شطر بالناقة إذا صرّ خلفين
الرجاء والحذار. مترنّحة (1) بين البشارة والإنذار. تلمّظها طورا حلاوة الطمع إرادة الرّغبة والنشاط. وطورا مرارة الفزع خيفة الاسترسال والانبساط. امزج اليأس والطّمع. والبس الأمن والفزع.(1/108)
(4) شطر الشيء: نصفه. ويقال: شطر بالناقة إذا صرّ خلفين
الرجاء والحذار. مترنّحة (1) بين البشارة والإنذار. تلمّظها طورا حلاوة الطمع إرادة الرّغبة والنشاط. وطورا مرارة الفزع خيفة الاسترسال والانبساط. امزج اليأس والطّمع. والبس الأمن والفزع.
لا تذر من كلا النّفيسين شيئا ولا تدع. من يكن يقتنيهما فقد استكمل الورع.
وترك خلفين. ومعناه فعل بها التشطير، وهو التصنيف. وهو منقول من شطر بصره شطورا إذا كان نظره شطرين كأنه ينظر اليك وإلى آخر.
(1) مترنحة: متميلة. يقال: رنحه فترنح. وأصله أن يضرب الرجل على رنحه وهو ما تحت أم الفراخ فيدار به. وقال: رؤية «يكسر عن أم الفراخ الرنحا».
ثم كثر حتى قيل: لكل دوار ترنيح.
ثم استعير للتمثيل حتى قيل: رنحت الريح الأغصان، أنشدني الأستاذ أبو مضر الضبي.
«كأنما رنحت ريح يمانية ... غصنا من البان غضا طله الديم
في حلة من طراز السوس معلمة ... تمحو بأذيالها ما أثر القدم».(1/109)
«كأنما رنحت ريح يمانية ... غصنا من البان غضا طله الديم
في حلة من طراز السوس معلمة ... تمحو بأذيالها ما أثر القدم».
مقامة الولاية
مقامة الولاية يا أبا القاسم تأمّل بيت النّاظم
تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنّني ... صديقك ليس النوك عنك بعازب (1)
وتبصر (2) كيف حدّ لك المصافاة بحدّها. ودلّك على هزل المودّة وجدّها. وفهمك أنّ صفيك من كان لك على ما ترضى عزب عنه كذا: إذا بعد عنه. قال الله تعالى {(لََا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقََالُ ذَرَّةٍ)} (1) ومنه (1) العزب لبعده عن الزواج. وقد عزب عزوبة وعزبة.
(2) التبصر: التأمل. وطلب الأبصار وتبصر الهلال. قال زهير:
«تبصر خليلي هل ترى من ظعائن». وهذا المصراع من المصاريع التي تداولها الشعراء وتواردوها حتى جرى مجرى الكلمات المفردة والجمل التي لكل واحد أن يدخلها في كلامه. فلم ينسب مورده في شعره إلى السرقة.
__________
(1) سورة سبأ، الآية 3.(1/110)
وتسخط وفقا (1) وفي جميع ما تهوى وتمقت لفقا (2). فيصفو لمن يعاضدك ويصافيك. ويكدر (3) على كلّ من يعاديك وينافيك (4).
وأنّ موادّ متضادّك. محادّك وليس بموادّك. وعلمك أنّ من ادّعى مقة أخيه وهو يركن إلى ماقته. فقد سجّل بسفهه وحماقته.
حيث صرّح بأنّ النّوك عنه ليس بعازب. ونصّ له أنّه ضربة (5) ويقال: جاء القوم وفقا أي متوافقين. ويقال: حلوبته وفق عياله أي يخرج من لبنها ما يكفي عياله، ويوافق كفافهم. قال الراعي:
«أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبد»
وهو مصدر وصف به بمعنى الموافق. يقال: وفق مراده يفق وفقا نحو وثق يثق. ووفق يوفق، كوجل يوجل.
(2) اللفق: أحد لفقى الملاءة، فاستعير للضميم. ويقال: لفق بين الشيئين وأحاديث ملفقة. مضموم بعضها إلى بعض بالزور والزخرفة.
وتلافق القوم: تلاءمت أمورهم.
(3) كدر عليه. وعن المأمون أنه سمع من ينشد:
«وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ... يرق ويصفو ان كدرت عليه»
فقال: خذوا مني الخلافة واعطوني هذا الأخ. وقد جوز ابن الأعرابي في كدر اللغات الثلاث.
(4) المنافاة: أن ينفى أحد الشيئين الآخر، كتنافي الضدين.
(5) قولهم ما هو بضربة لازب وما هو بضربة لازم. يريدون ما هو بشيء يلزم ويتحتم أصله في الشيء اللزج كالريق والطين إذا
لازب. ثمّ انظر في أيّ منزلة من الله يراك. وبأيّ صفة يصفك من ذراك. إن واليت من ليس لربّك لوليّ. أو صافيت من ليس للأولياء بصفي. إن صحّ أنّك عبد محب لربّه. فلا تشعر (1) قلبك إلّا محبّة محبّه. من لم يوالي الله ومواليه (2) فلا تطر (3) حراه. (4)(1/111)
(5) قولهم ما هو بضربة لازب وما هو بضربة لازم. يريدون ما هو بشيء يلزم ويتحتم أصله في الشيء اللزج كالريق والطين إذا
لازب. ثمّ انظر في أيّ منزلة من الله يراك. وبأيّ صفة يصفك من ذراك. إن واليت من ليس لربّك لوليّ. أو صافيت من ليس للأولياء بصفي. إن صحّ أنّك عبد محب لربّه. فلا تشعر (1) قلبك إلّا محبّة محبّه. من لم يوالي الله ومواليه (2) فلا تطر (3) حراه. (4)
ولا تلخ راحلتك في ذراه. وإيّاك أن تتناظر (5) داراكما. أو ضرب به على شيء لزب أي لزق ولزم فجرى مثلا في كل ما يلزم صاحبه والضربة من الفعل المبني للمفعول لأن اللازب هو المضروب وأكثر ما يستعمل في النفي.
(1) أشعره الشعار: ألبسه إياه. ثم قالوا: أشعره الشر إذا غشيه به، وأشعره البأس والخوف والهم: إذا أبطنه إياه. ومعناه ألبسه قلبه وجعله شعارا له. قال ابن الزبعري:
«نام الخليّ وبتّ مرتقبا ... ليل التمام كمشعر السقم»
ومطاوعه استشعروا وصيته فاستوصى.
(2) ومواليه: بسكون الياء لأنها ياء جمع.
(3) طاره يطوره إذا غشيه. وهو من طوار الدار وطورها وهو حدها.
(4) والحرا: الساحة. يقولون: لا تطر حرانا. والعراء مثله.
وفي نوابغ الكلم: (حرّا غير مطور حرى أن يكون غير ممطور).
(5) تناظر الدارين: أن يتقابلا كأن إحداهما تنظر إلى الأخرى على سبيل المجاز. وكذلك ترائي الجبلين. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (لا ترأى ناراهما). ولبعضهم:
«ربأت بناري أن تناظر نارهم
وابغضهم بغض الحسين بني صخر»
تتراءى ناراكما. واستحي من الله وقلبك قلبه. وكلك فهو فاطره وربه. أن تشغل بمقة من شغل بمقته قلبه قلبك (1). وأن تعكف على موادّة من عكف على محادّته لبه لبك. وإن كان الصّنو الشقيق. والعمّ الشفيق. والأب البار. والأخ السّار. وإن استطعت أن لا تظلكما سماء فاحرص. وأن لا تقلكما أرض فافترص.(1/112)
«ربأت بناري أن تناظر نارهم
وابغضهم بغض الحسين بني صخر»
تتراءى ناراكما. واستحي من الله وقلبك قلبه. وكلك فهو فاطره وربه. أن تشغل بمقة من شغل بمقته قلبه قلبك (1). وأن تعكف على موادّة من عكف على محادّته لبه لبك. وإن كان الصّنو الشقيق. والعمّ الشفيق. والأب البار. والأخ السّار. وإن استطعت أن لا تظلكما سماء فاحرص. وأن لا تقلكما أرض فافترص.
وليكن (2) منك على بال ما نقم الله من حاطب (3). وما كاد يقع به من المعاطب (4).
قلبك: متعلق بتشغل. وكذلك ولبك بتعكف.
(2) وليكن منك على بال ولا تنسه ولا تغفل عنه. تقول لصاحبك:
ما زلت مني على بال واجعله على بالك.
(3) هو حاطب بن بلتعة من البدرين. بعث إلى قريش كتابا على يد امرأة يخبرهم بمسير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليهم عام الفتح، وينصحهم فيه. فأخبر جبريل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فوجه عليا رضي الله عنه مع آخرين حتى لحقوا بالمرأة ولزوها، حتى أخرجته من عقاص شعرها.
ونزلت سورة الممتحنة في شأنه. وقال عمر رضي الله عنه. (دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق). فقال عليه الصلاة والسلام:
(يا عمر لعلّ الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم).
(4) المعاطب: المهالك. والمعطبة: المهلكة. وعطب الرجل عطبا.
وفي كلام بعضهم: المعتبة: المعطبة.(1/113)
مقامة الصلاح
مقامة الصلاح يا أبا القاسم حتى م (1) تلهو وتلعب: وغراب البين فوقك ينعب (2). وإلى م تروح في التماس الغنى وتغدو. وسائق الرّدى وراءك يحدو. وفيم تجوب لارتياد المال الأودية والمفاوز. وليس الحريص لما قدّر له بمجاوز. ألا وإنّ بذل الاستطاعه. واستقصاء الجدّ في الطّاعة. أولى بمن يركب الآلة (3) الحدباء بعد ساعة.
والسّعي النّجيح في العمل الدائر بين حقوق الله. أحقّ من لعب اللّاعب ولهو اللّاه. والولوع (4) بنيل المفازة في الأخرى. أجدر من ما الاستفهامية إذا اتصلت بها حروف الجر سقطت الفها في اللغة الشائعة كقولك. لم وبم وفيم وعم وإلى م وعلى م وحتى م.
(2) النعيب: أن يمد عنقه في نعاقه. ومنه الابل النعب: التي تمد أعناقها في السير. وناقة نعوب. وفي الغريب زعب الغراب زعيبا بالزاي.
(3) آلة الخيمة: عيدانها. وآلة الرجل: حسبه. والآلة الحدباء النعش وقال طفيل:
«وكلّ حي وإن طالت سلامته ... يوما على الآلة الحدباء محمول»
(4) القياس المنقاد في المصادر الواردة على فعول ضم الفاء كالقعود وخلوف الفم وغيرها. وقد شذ الوروع والولوع والقبول. ومن أخواتها:
الخصوصية واللصوصية والحرورية.(1/114)
جوب؟؟؟ المفاوز وأحرى. كأنّي بجنازتك (1) يجمز (2) بها إلى بعض الأجداث. وبأهل ميراثك هجروك بعد الثلاث. وشغلهم عنك تناجزهم على الميراث. وغادروك وأنت معفّر طريح. فقد ضمّك لحد (3) وضريح. (4) رهين هلكة مبسلا (5) في يد المرتهن. أسير محنة الجنازة: بالكسر والفتح. وقالوا: هي بالكسر الشرجع.
وبالفتح الميت. وعن ابن دريد: أنها من جنزه إذا ستره، قال: صخر ابن معاوية أخو الخنساء:
«وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغترّ بالحدثان»
أي أثقل عليك ثقل الجنازه على حامليها يبادرون أن يحطوها عن أكتافهم. يخاطب امرأته وقد رأى منها فتورا ما به يطول مرضه.
(2) يجمز بها: يسرع بها. يقال: جمزت الناقة ومنه الجمازة والجمزي. وأما قول لبيد:
«وإذا حركت غرزي اجمزت ... أو قرابى عد وجون قد ابل»
فبالراء وهو قوة العدو ومنه حافر مجمر إذا كان وقاحا.
(3) اللحد: ما كان في شق.
(4) والضريح: الشق في استواء، وهو صفة غالبة فعيل بمعنى مفعول من ضرحه إذا شقه. ويقال أيضا: ضرجه بالجيم. ومنه قول ذي الرمة:
«وقبرن عن أبصار مضروجة كحل»
(5) المبسل: المسلم. قال الله تعالى {(أُولََئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمََا كَسَبُوا)} (1)
__________
(1) سورة الانعام، الآية 70.(1/115)
مبلسا (1) من إطلاق الممتحن. لم يبق بعد هجر العشيرة وجفوة العشير (2) ووداع المستشير من جلسائك والمشير. إلّا عملك الذي لزمك في حياتك لزوم صحبك. ويستبقي صحبتك بعد قضاء نحبك. فيصحبك على التّخت مغسولا. ويألقك على النعش محمولا.
ويرافقك موضوعا على الأكتاف في المصلّى. ويحالفك وأنت في الحفرة مدلّى. ويضاجعك غير هائب من مضجعك الخرب.
ويعانقك غير مستوحش من خدّك الترب. ولا يفارقك ما دمت في غمار الأموات. وإن أصبحت ومؤلفاتك أشتات. وعظامك ناخرة ورفات. فإذا راعتك نفخة النّشر: وفاجأتك أهوال الحشر. وفرّ منك أبوك. وأمك وأخوك. ولكلّ منهم مهم يعنيه. وشأن حينئذ يغنيه. وجدت عملك في ذلك اليوم الأغبر. وساعة الفزع الأكبر (3).
أتبع لك من ظلّك وألزم (4) من شعرات قصّك. يفد معك أينما تفد. ويرد حيثما ترد. ثمّ إمّا أن يدلّك على فوز مبين. وإما أن المبلس: اليائس. وهم فيه مبلسون.
(2) العشير، المعاشر. نحوه الصديق والخليل والخليط بمعنى مفاعل وفي الحديث: (ويكفرن العشير أراد الزوج).
(3) الفزع الأكبر: النفخة الأخيرة. لقوله تعالى: {(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)} (1).
(4) في أمثالهم: «ألزم له من شعرات قصه» لأنها تحلق ولا تنتف والقص والقصص الصدر.
__________
(1) سورة النمل، الآية 87.(1/116)
يدعّك (1) إلى عذاب مهين. فاجهد نفسك فعل كادح غير ملول.
واركب (2) كلّ صعب وذلول. ولعلّك تستصحب من هذا القرين المواصل الملازم. وهذا الرّفيق المخاصر (3) المحازم (4). صاحب صدق يؤنسك في مواقيت وحدتك ووحشتك. ويلقي عليك السّكينة (5) في مقامات حيرتك ودهشتك. ويمهّد لك في دار السّلام المهاد الأوثر (6). ويرد بك سلسبيلا والكروثر.
الدّع: الدفع العنيف ({يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى ََ نََارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}) (1).
(2) ركوب الصعب والدلول مثل في بذل المجهود.
(3) المخاصر: المماشي. قال عبد الرحمن بن حسان:
«ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء نمشي في مرمر مسنون».
وهو من الخصر لأن خصره إلى خصر صاحبه. وقيل: هو من الخنصر لأنه يأخذ بخنصره. ونون الخنصر زائدة لأنها أخصر الأصابع.
(4) المحازم: المسائر. وأصله من الحزامة وهو ان تكون حزامة بعيره إلى حزامة بعير صاحبه.
(5) السكينة: السكون. ونظيرها في المصادر الشتيمة والبهيمة والعقيرة. وروى أبو زيد: السكينة بتشديد الكاف مع فتح السين وهو وزن غريب.
(6) الأوثر: من الوثير وهو الوطيء. وقد وثر وثارة.
__________
(1) سورة الطور، الآية 13.(1/117)
مقامة الاخلاص
مقامة الاخلاص يا أبا القاسم للسيد سيادته. وعلى العبد عبادته. ولك سيّد ما أجلّه. وأنت عبد ما أذله. فاعبد (1) سيّدك الذي كلّ من يسوّد فله يسجد. وكلّ من يعبد فإيّاه يعبد. ترى كلّ ذي خد أصعر (2).
وطرف أصور (3). وجيد من الزّهو منتصب. ورأس بالتّاج عبد عبدا: إذا أنف أنفا شديدا. ومنه ثوب ذو عبدة إذا كان قوي النسج. وعن علي رضي الله عنه. (عبدت فصمت) أي اشتد أنفي فسكت. والصوم: السكوت. ورجل عبد وعابد. وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {(فَأَنَا أَوَّلُ الْعََابِدِينَ)} (1)
بالأنفين وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وابن المسمع اليماني العبدين.
وقال الفرزدق:
«أولئك قومي إن هجوني هجوتهم ... وأعبد أن يهجى تميم بدارم»
(2) الصعر والصور في وصف المتكبر بالصعر مثل في الخد والعنق.
يقال: رقبة صعراء وخد أصعر.
(3) والصور الميل. قال:
«الله يعلم أن في تلفتنا ... يوم الرحيل إلى إخواننا صور»
ومنه: صاره يصوره إذا أماله. قال الله تعالى: {(فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ)}
__________
(1) سورة الزخرف، الآية 81.(1/118)
معتصب (1). يضع لعزّته صحيفة خدّة. ويخضع بخدّه لتعالي جدّه.
يخفض ما نصب من جيده. عند تقديسه (2) وتمجيده. ويطأطىء تاجه المرفع. وإكليله المرصّع (3). مشعّثا رأسه إذا دهي. كأنّه لم يتجبّر قطّ ولا زهي. وادعه بالليل متضرّعا مخفيا وناده. أن يعصمك من مقام المتصدّي من عباده لعناده. واخشع له بما تنطوي عليه جوانحك. وإن لم يخشع له أعطافك وجوارحك. فهو المطلع على ما استكنّ من ضمائرك. وما اجتنّ في أحشائك من سرائرك. وإنما يتقبل ما نصعت (4) له طويتك. ونقيت فيه رويتك. وأنصع ما المعتصب: المتتوج. وقد عصبوه. إذا توجوه. ويقال للملك المعتصب لتعالى جده من قوله تعالى وأنه تعالى جدر بنا أي عظمته.
ومنه حديث عمر رضي الله تعالى عنه: (كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة وآل عمران جد فينا). أي عظم. وهو مستعار من الجد الذي هو الدولة والبخت الذي يعظم به المجدود ويقحم في العيون والقلوب.
(2) التقديس: البعد من القبائح. من قدس في الأرض إذا ذهب فيها. فأبعد. والقادس سفينة لا تقدس في البحر.
(3) الرصيع: ما يجيئك من السيور وشبه النسع. ومنه ترصيع الاكليل بالجواهر وهو ان يركب فيه تركيبا متراصا كحبل الرصيع وأصل الرصع الدق. يقال: رصع النبق إذا دقه بفهر. وهو المرصعة ويقال: رصيع النبق لما رصع منه. وارتصع فلان: إذا أكل رصيع النبق.
(4) نصعت نيته: إذا خلصت. نصوعا ونصاعة. ويقال: أبيض ناصع إذا كان يققا خالصا.(1/119)
عملت وأنقاه ما هو مزوي. وعن الناس مطوي. لا يحسّ بينهم مرئي ولا مروي. وكان من العمل المزين بحسن المعتقد. دون المزيف عند المنتقد (1). فلن يرجح في الميزان المدخول (2) المنتحل (3).
ولن يجوز على الصّراط إلّا المنخول المنتخل (4).
المنتقد: مصدر بمعنى الانتقاد، كقولك: امرأة حسنة المختمر.
(2) المدخول: الذي به دخل. والدخل والدغل: الفساد. وقد دخل ووغل إذا فسد. وقد جاء الدخل بالسكون. وقال:
«ترى الفتيان كالدخل ... وما يدريك ما الدخل»
(3) المنتحل: الذي ينتحله أي يدعيه كاذبا، كمن ينتحل شعر غيره، قال الأعشى:
«فكيف أنا وانتحالي القوافي ... بعد المشيب كفى ذاك عارا»
(4) المنتخل: المنتخب. يقال: انتخلت الشيء وتنخلته مثل اخترته وتخيرته وانتخبته وتنخبته مثل اخترته وتخيرته.(1/120)
مقامة العمل
مقامة العمل يا أبا القاسم لا تسمع لقولهم فضل مبين. وأدب متين. واسم في المهارة بهما شهير. وصيت (1) في إتقانهما جهير. وفتى طيّان (2) من المناقص والرّذائل. ريّان (3) من المناقب والفضائل. إن ذكر متن اللغة فحلس (4) من أحلاسه. أو قياسها (5) فسائس أفراسه. أو الصيت من الصوت. يقال: طار له صيت في الناس وهو ما يصوت به من ذكره. ومنه قيل للمطرقة والصقيل الصيت لتصويته.
وأنشدوا للخنساء:
«كأنما جلل الرحمن صورته ... دينار عين جلاه الصيت منقودا»
(2) طيان: من المناقص مجاز عن خلوه وبراءة ساحته ونزاهته.
(3) وريان: من المناقب عن استكثاره منها وتبختره فيها.
(4) حلس من أحلاسه: فارس من فرسانه. من قولهم للعارف بركوب الخيل المعاود له هو من احلاس الخيل، شبه في ثباته على متن الفرس بالحلس الذي يجلل به. ويقال لمن لا يثبت: كفل من الأكفال، كأنه قال: شبه بالكفل وهو كساء يلقى طرفاه على كاهل البعير وعجزه للركوب لأنه يزل كل ساعة ولا يثبت وجمعه بين المتن والحلس من الصنعة.
(5) أراد بقياس اللغة علم الاشتقاق ويسمى علم المقاييس والأبنية
أبنيتها فليسمر السمّار به وبدقّة تصريفه. لا بسنّمار (1) وغرابة علم التصريف الذي هو أدق شطري النحو وأعوصهما. ولذلك أخره سيبويه ليرتاض الناس بعلم الاعراب فيفهم دقائق التصريف وإدراكها وإلا فكان حقه أن يقدم لأن علم ذوات الكلم مقدم على علم أحوالها.(1/121)
(5) أراد بقياس اللغة علم الاشتقاق ويسمى علم المقاييس والأبنية
أبنيتها فليسمر السمّار به وبدقّة تصريفه. لا بسنّمار (1) وغرابة علم التصريف الذي هو أدق شطري النحو وأعوصهما. ولذلك أخره سيبويه ليرتاض الناس بعلم الاعراب فيفهم دقائق التصريف وإدراكها وإلا فكان حقه أن يقدم لأن علم ذوات الكلم مقدم على علم أحوالها.
(1) سنمار هو الذي بنى الخورنق للنعمان فلما أتمه رقى به معه ليريه صنعته، فتعجب من مهارته في عمله وتنقيته في بنائه. فقال له:
أيها الملك اعجب من هذا كله أني أعرف في هذا البناء حجرا إن نزع تزعزع كله، فخاف أن يطلع بعض أعدائه على مكان الحجر وقيل غار أن يبتني لغيره مثله. فأمر فرمي به من رأس الخورنق فهلك. فضرب جزاء سنمار مثلا في عقوبة المحسن. قال شرحبيل الكلبي:
«جزاني جزاه الله شرّ جزائه
جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
سوى رصة البنيان سبعين حجة
يعل عليه بالقراميد والسكب
فلما رأى البنيان تمّ سحوقه
وآض كمثل الطود ذي الباذخ الصعب
وظنّ سنمار به كل خيره
وفاز لديه بالمودة والقرب
فقال اقذفوا بالعلج من رأس شاهق
فذاك لعمر الله من أعظم الخطب»
وقيل السنمار في كلام العرب: الذي لا ينام بالليل. والسنمار اللّص وكأنه من السمر والنون مزيدة.(1/122)
ترصيفه (1). أو النّحو فهو سيبويه وكتابه. ينطق عنه تراجمه وأبوابه. أو علم المعاني فمن مساجله (2) ومسانيه (3). ومزاوله ومعانيه. ومن يغوص على معان كمعانيه. أو نقد الكلام فالنقدة اليه كأنهم النقد. وقد عاث فيه الذئب الأعقد (4). أو العروض فابن (5) بجدتها. وطلّاع أنجدتها (6). أو القوافي فإبداعه فيها يلقّطك ثمرات (7) الترصيف والترصيص واحد. وقد رصف رصافة ومنه الرصف حارة المرصوفة.
(2) المساجل: المباري في السقي من السجل وهو الدلو. وقال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب:
«من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب»
(3) والمساني مثله من السانية.
(4) الأعقد: المتلوي الذنب. يقال: ذئب اعقد. وسلقة عقداء وفي كلام بعض الاعراب: أعوذ بالله من الأسد والأسود، والذئب الأعقد، ومن الشيطان والانسان، ومن عمل ينكس برأس المسلم ويغري به لئام الناس.
(5) يقال للدليل الماهر: هو ابن بجدتها. وهو من بجد بالمكان إذا أقام به. أنه أقام بالبلدة زمانا حتى خبرها وقبلها علما.
(6) الأنجدة: جمع نجد في غرابة كالأندية في جمع ندي. يقال:
فلان طلاع انجد وطلاع انجدة.
(7) ثمرة الغراب: مثل في الطيب المنتقى. لأنه لا يأكل من الثمر إلا أعلاه وأينعه.(1/123)
الغراب. وإغرابه فيها يحثو التراب في وجوه أهل الإغراب. أو الشعر فزيّاده (1) وحسّانه. وإحسانه كما دبج (2) الرّوض نيسانه.
أو النثر فلو راء ابن لسان الحمرة حمرة لسانه لجهش (3) وما بهش (4). ولو سمع قول قائل من صحبانه سحبان بن وائل لا استبقل (5) من الدّهش. أو معرفة الكتابة والخط. فقد لجج (6) زياد هو النابغة الذبياني.
(2) دبج الربيع الأرض يدبجها. ودبجها تدبيجا إذا حسنها بالنبات والزهر وزينها. ومنه قولهم: ما بالدار دبيج لأن الاناسي يزينون الديار بسكناهم. وقيل الجيم بدل من إحدى ياءى النسب في دبي وليس بصحيح لا يبدلان إلا معا كقوله:
«خالي عويق وأبو علج ... المطعمان الشحم بالعشج»
وروى دبيخ بالخاء من التدبيخ.
(3) جهش واجهش: تهيأ للبكاء.
(4) بهش اليه: هش اليه وارتاح. وقال:
«وإذا رأيت الباهشين إلى العلى ... غبرا أكفهم بقاع ممحل»
وهو مفتبس مما روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدلع لسانه للحسين وللحسن رضي الله تعالى عنهما، فإذا رأى الصبي حمزة لسانه بهش اليه.
(5) استبقل: كلمة موضوعة استفعل. من باقل المضروب به المثل في العي قيس على استنوق الجمل ونظائره، ونحوه ما في قول معدي بن امرىء القيس والعذاري إذ مال بجنبه. الغبيط استنبط العرب في الموامى بعدك واستعرب النبيط.
(6) لحجت السفينة: خاضت اللج. ومن الاستعارة قولهم: لحج فلان في الحرب.(1/124)
وترك الناس على الشّط. أو حفظ ما يحاضر به. فصيّب يفيض.
وبحر لا يغيض. وليس بعريان كعود النبع. من ثمر علوم الشّرع.
نعم يا أبا القاسم إن سمعتهم يقولون ما أكثر فضلك فقل إنّ فضولي أكثر. وما أغزر أدبك فقل إنّ قلة أدبي أغزر. فلعمر الله ليس بأديب ولا أريب. كلّ مغرب وحافظ غريب. الأديب من أخذ نفسه بآداب الله فهذّبها. ونقح أخلاقه من العقد الشّاثنة فشذّ بها.
والأريب الفاضل من لم يكن له أرب ولا وطر. إلّا أن يكون له عند الله فضل وخطر. ما غناء من قوي علمه وعمله قد فتر.
إنّ علما بلا عمل كقوس بلا وتر. حاملها حيران مرتبك (1) في العماية. لا يهتدي وإن كان ابن تقن (2) إلى وجه الرّماية. متى نظر إلى الرّماة موترين منبضين (3). مسدّدين (4) غير محبضين (5).
ارتبك في الأمر إذا وقع فيه وتورط. وهو من الاختلاط ومنه الربيكة وربكها خلطها واتحادها وفي المثل: «غرثان فاربكوا له».
وقيل: ربك الرجل اختلط عليه عمله وأمره.
(2) عمرو بن تقن: من عاد ضربت به العرب المثل في جودة الرمي فقالوا: «أرمى من ابن تقن» قال: يرمى بها ارمى من ابن تقن.
(3) نبض القوس وأنبضها، إذا جذب وترها وانبض عنها ومن زائية الشماخ:
«إذا نبض الرامون عنها ترنمت ... ترنّم ثكلى أوجعتها الجنائز»
(4) المسدد: الذي يسدد السهم نحو الغرض.
(5) والمحبض: الذي حبض سهمه أي سقط، وسهم حابض واقع بين يدي الرامي، وقال. رؤبة «والنبل يهوي خطأ وحبضا». ومنه قولهم.
حبض حقه إذا بطل.(1/125)
قعودا من الوحش على المراصد. يشقون خصورها بالقواصد (1).
أقبل على مقلاة الغمّ يتقلى. وبجمرة الغيظ يتصلّى. لا يزيد على تنفيز (2) سهامه. والعضّ على إتهامه. فإذا اشتوى غيره انشوى. بنار من الحسرة نزّاعة للشوى (3) أغد عاقدا بين علمك وعملك صهرا (4).
وسق إلى العمل من اجتهادك مهرا. ولا تظلم (5) منهما شيئا من إقبالك. ولا تبخسهما حظّا من إشبالك (6). ولا تدع أن تضرب (7) القواصد: السهام الصوائب. يقال: أصابه سهم قاصد وهو الذي يستوي إلى الرمية غير عادل عنها، ومنه طريق قاصد مستو.
(2) نفز السهم (بالفاء) إذا أداره على ظفره. ويقال للتنفيز الإدارة. قال الكميت:
«فاستلّ اهزع حنانا يعلله ... عند الإدارة حتى يرنق الطرب»
(3) الشوا: الأطراف. وقيل: شواة الرأس وهي جلدتها تنزعها نزعا فتنسكها (نعوذ بالله من سخطه).
(4) الصهر: من النكاح كالنسب من القرابة.
(5) ولا تظلم لا تمنع ولا تنقص. قال الله تعالى: {(وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً)} (1).
(6) الإشبال: العطف والشفقة. يقال: اشبل على ولده ومنه شبل الأسد لإشباله عليه.
(7) ضرب أخماسا لأسداس: مثل مضروب في المحتال، وأصله الرجل يريد أن يفوز بابله فيدرجها في الاظماء حتى يضريها بالصبر
__________
(1) سورة الكهف، الآية 33.(1/126)
أخماسا لأسداس. حتى تلفّهما ونفسك في بردة أخماس. (1) واعلم أنّ العلم إنما يتعلم. لأنه إلى العمل سلم. كما أنّ العمل إلى ما عند الله ذريعة (2). ولولاهما ما علم علم ولا شرعت شريعة.
على العطش فيأخذها بالخمس، فإذا رآها قد قويت على احتماله وصبرت عليه نقلها إلى السدس. والمعنى ضرب لإبله أخماسا أي وضعها لها لأجل أسداس.
(1) يقال بردة أخماس: خمس أذرع. كقولك: برمة أعشار، وثوب أخلاق. وقولهم: لقني وإياك في بردة أخماس. ومعناه:
لا يضيقن عني وعنك هذه البردة القليلة الذرع لتحابنا واتحادنا. ودخل رجل على أبي عمرو وهو على حصير صغير، فاستجلسه معه فتفادى الرجل أن يضيق عليه. فقال له أبو عمرو: إن سم الابرة لا يضيق عن متحابين كما أن الدنيا لا تسع متباغضين. ومنه قول العرب: «ضع رحلي رحلك في فعل ما وسعهما القتال».
(2) الذريعة: الوسيلة. وتذرعت إلى فلان توصلت اليه، وأصل الذريعة: الدريئة: وهي البعير الذي يستخفي به الصائد فلا يزال يدرأه شيئا فشيئا إلى جهة الصيد. حتى إذا تمكن منه رماه.(1/127)
مقامة التوحيد
مقامة التوحيد يا أبا القاسم أفلاك مسخرة. وكواكب مسيّرة. تطلع حينا وحينا تغرب. وينأى بعضها عن بعض ويقرب. وقمر في منازله (1) يعوم (2).
وشمس في دورانها تدوم فما تقوم (3). وسحاب تنشئها القبول (4) منازل القمر ثمانية وعشرون ينزل كل ليلة في منزل منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستو لا يتفاوت. يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر.
وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت اليه العرب الانواء المستمطرة.
وهي الشرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، العواء، السماك، الزباني، الاكليل القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الاخبية، فرع الدلو المقدم، فرع الدلو المؤخر، الرشا.
(2) يعوم: يسبح. والسفينة تعوم في الماء. والابل يعمن في لجى السراب.
(3) فما تقوم. فما تقف. وغير قوام: وقاف ويروى للمأمون ابن الرشيد: والله ما تخلف النجوم وتصرف الشمس فلا يقوم قمر في فلك يقوم إلا لأمر شأنه عظيم يقصر دون علمه العلوم.
(4) القبول والجنوب. موكلتان بالسحاب. فالقبول ينشئها والجنوب يدرها ومنه ما أنشده سيبويه للأعشى:
«وما له من مجد تليد وما له ... من الريح حظ لا الجنوب ولا الصبا»
وتلقحها. وتمري (1) أخلافها الجنوب وتمسحها. وأرض مذللة لراكبها. مقتلة (2) للمشي (3) في مناكبها. ممهّدة موطّدة. بالرّاسيات موتّده. وبحران أحدهما بالآخر ممروج (4). وماء الأجاج منهما بالعذب ممزوج. وحجر صلد ينشقّ عن الماء الفرات. وينفلق عن الشجر والنبات. وحب ينشأ منه عروق وعيدان. ونوى ينبت منه جبّار وعيدان (5)، ونطفة هي بعد تسعة إنسان. له قلب وبصر المرى والمسح واحد: وهو أن يمر الحالب يده على الضرع.(1/128)
«وما له من مجد تليد وما له ... من الريح حظ لا الجنوب ولا الصبا»
وتلقحها. وتمري (1) أخلافها الجنوب وتمسحها. وأرض مذللة لراكبها. مقتلة (2) للمشي (3) في مناكبها. ممهّدة موطّدة. بالرّاسيات موتّده. وبحران أحدهما بالآخر ممروج (4). وماء الأجاج منهما بالعذب ممزوج. وحجر صلد ينشقّ عن الماء الفرات. وينفلق عن الشجر والنبات. وحب ينشأ منه عروق وعيدان. ونوى ينبت منه جبّار وعيدان (5)، ونطفة هي بعد تسعة إنسان. له قلب وبصر المرى والمسح واحد: وهو أن يمر الحالب يده على الضرع.
وفي كلام بعضهم:
«ما يطيق لإخلافه مريا ... ولا لزيادته وريا»
قال الحطيئة:
«وقد مريتكم لو أنّ درتكم ... يوما يجيء بها مسحي وابساسي»
(2) قتل الناقة: ذللها. قال زهير:
(كأن عيني في غربي مقتلة).
ورجل مقتل: للمجرب وأصل القتل إسكان الحركة.
(3) المشي في مناكبها: مثل لفرط التذليل كما قال تعالى {(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا)} (1) رشح معنى الذل بوطيء المناكب والتقلب فيها كما ذكرنا في الكشاف عن حقائق التنزيل. ولبعضهم:
«ومواكب سيارة ككواكب ال ... خضراء فوق مناكب الغبراء
يخفى ويحقب برق كل سحابة ... والرعد بالأضواء والضوضاء».
(4) ممروج: من مرج البحرين أي خلاهما. يقال: مرج الدواب وأمرجها إذا خلاها ترعى. ومنه المرج الذي تمرج فيه الدواب.
(5) العيدانة: والجمع عيدان. ويقال للرجل الطويل: عيدان.
__________
(1) سورة الملك، الآية 15.(1/129)
ولسان. في كلّ جارحة منه غرائب حكم يعجز اللّسان الذّليق (1) أن يحصرها ويحصيها. ويعزّ على الفهم الدقيق أن يبلغ كنهها ويستقصيها.
ما هذه إلّا دلائل على أنّ وراءها حكيما قديرا. عليما خبيرا. تنصرّف هذه الأشياء على قضائه ومشيئته. ويتمشّى أمرها على حسب إمضائه وتمشيته. وهي منقادة مذعنة لتقديره وتكوينه. كائنة أنواعا وألوانا بتنويعه وتلوينه. قد استأثر هو بالأوليّة (2) والقدم. وهذه كلها محدثات (3) عن عدم. فليملإ اليقين صدرك بلا مخالجة ريب. ولا تزلّ عن الإيمان بالغيب وعالم الغيب. ولا يستهوينك الشيطان عن الاستدلال بخلقه فهو الحجه. ولا يستغوينك عن سبيل معرفته فإنّه محجه (4). واجتهد أن لا تجد أعمر منك اليه طريقا. ولا أبلّ (5) بأسمائه المقدّسة ريقا. وارحم نفسك بابتغاء رحمته. وأنعم عليها بالشكر على نعمته. ولينكشف عن بصرك غطاؤه. فأنت وجميع ما عندك عطاؤه.
يقال لسان طليق ذليق. وطلق ذلق وطلق ذلق.
(2) الأولية: الصفة والحالة أو الحقيقة المنسوبة إلى الأول.
وكذلك الإلهية والمهيمنية.
(3) محدثات عن عدم: صادرة الحدوث عن عدم.
(4) فإنه محجة: مثل محجة الطريق. وهي واضحة في الظهور والإستبانة.
(5) يقال: فلان أرطب الناس لسانا بذكرك، وأبلهم ريقا بالثناء عليك.(1/130)
مقامة العبادة
مقامة العبادة يا أبا القاسم من أهان نفسه لربّه فهو مكرم لها غير مهين.
ومن امتهن (1) في طاعة الله فذاك عزيز غير مهين (2). ألا أخبرك بكلّ مهان ممتهن. في قبضة الذّلّ مرتهن. كلّ متهالك على حبّ هذه الهلوك (3). منقطع إلى أحد هؤلاء الملوك. يدين له ويخضع.
ويخبّ في طاعته ويضع (4). لا يطمئن قلبه ولا تهدأ قدمه. ولا إمتهن: إبتذل. ومنه المهنة الخدمة. والأصمعي على فتح ميمها.
(2) والمهين: الحقير. مهن مهانة.
(3) الهلوك: الفاجرة. جعل ما فيها من الفجور والفساد هلاكا.
وقيل: الهلاك الشبق والشره. وقيل لأنها تتهالك في مشيها وهو استرخاء فيه تخنث ضربها مثلا للدنيا. وفي كلام بعضهم: الدنيا قحبة يوما تراها عند عطار ويوما تراها عند بيطار. قال أبو الطيب:
«فذي الدار أخون من مومس ... وأخدع من كفة الحابل».
(4) يقال: وضع البعير وضعا ورفعا وهما سيران. والوضع دون الرفع. وأوضعه صاحبه ورفعه. ورفعه وله مرفوع وموضوع.
وقال:
«موضوعها زول ومرفوعها ... كمرصوب لجب وسط ريح»
ينحرف عن خدمته همه ولا سدمه (1). ينتصب قدامه انتصاب الجذل وهو ملآن من الجذل. بعرض يحسبه مصونا وهو كمنديل الغمر (2) مبتذل. له ركوع في كلّ ساعة وتكفير (3). وخرور على ذقنه وتعفير.(1/131)
«موضوعها زول ومرفوعها ... كمرصوب لجب وسط ريح»
ينحرف عن خدمته همه ولا سدمه (1). ينتصب قدامه انتصاب الجذل وهو ملآن من الجذل. بعرض يحسبه مصونا وهو كمنديل الغمر (2) مبتذل. له ركوع في كلّ ساعة وتكفير (3). وخرور على ذقنه وتعفير.
واجما لاحترازه من سخطة الملك واحتراسه. مقسما إن أقسم (4) يقال: ما له هم ولا سدم غيره. قال ابن دريد: السدم اللهج بالشيء. ولذلك قالوا: نادم سادم. وقيل: هو التحير والتغير والولوع من فرط الفم الفحل. السدم وهو القطم الهائح والماء والاسدام المتغير لطول المكث.
(2) الغمر: الوسخ والدسم. يقال: غمرت يده غمرا. وهو منديل الغمر ورجل غمر العرض دنسه. وغمر صدره غمرا وهو الغمر لأنه دنس في الصدر. وفي الحديث: (من بات وفي يده غمر فأصابه شيء فلا يلومنّ إلا نفسه). وهو نحو قوله عليه الصلاة والسلام ينفي اللمم.
(3) تكفير العلج: أن يضع يده على صدره وينحني. قال جرير:
«وإذا سمعت بحرب قيس بعدها ... فضعوا السلاح وكفروا تكفيرا»
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: (إذا أصبح ابن آدم فإنّ الاعضاء كلها تكفر للسان تقول ننشدك الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا). وهو من الكافرة وهو أصل الفخذ لأنه ينعطف على كافرتيه أو من التكفير بمعنى التغطية لأنه يحكي في ذلك هيئة من يكفر شيئا أو لأنه من باب الشكر وإزالة الكفران كقولهم فرع وجلد.
(4) إقسم جهد اليمين من: باب ارسلها العراك. أي اقسم بجهد يمينه جهدا أي يبلغ مجهودها وأقصى ما يطاق منها.(1/132)
جهد اليمين على راسه. فإن حانت منه اليه التفاتة وكلفه شوينا فأيّ خطب على رأسه عصب. ولكفاية أي مهمّ من المهمات نصب.
لا يقرّ به قرار. ولا يرنّق في عينه غرار (1). لفرط تشاغله واهتمامه.
وركضه من وراء إتمامه. فإن قيل له يا هذا خفّض (2) من غلوائك (3) وهوّن. وأرخ من شكيمة (4) هذا الجدّ وليّن. قال لا والله هكذا أمرني الأمير وبأجدّ من هذا أوعز (5) وأشار. ولو وصفت لكم وصاياه الغرار: القليل من النوم. وقال لا أذوق النوم إلا غرارا مثل حسو الطير ماء الثار، ومنه المسوق درة وغرار. وغرت الناقة غرارا قل درها.
(2) وخفض منها: غض منها. وانغض يقال للمأمور بتسهيل الخطب على نفسه: خفض عليك. كقولهم: هون عليك. والمفعول محذوف وهو الخطب. وقال:
«وخفض عليك القول واعلم بأنني ... من الأنس الطاحي عليك العرمرم»
(3) الغلواء: الغلو، ومثلها العرواء والمطواء.
(4) الشكيمة: الحديدة المعترضة في فم الفرس التي فيها الفاس والفرس الشديد الشكيمة: الصعب الرأس الجامح. ورخو الشكيمة على سبيل التمثيل. وارخاء شكيمة الحد مثل لترك المبالغة واستعمال بعض المساهلة. ومن الشكيمة قوله عليه الصلاة والسلام: حين حجمه أبو طيبة (اشكموه) أراد أعطوه ما يكتفي به من الشكاية. كما قال في العباس ابن مرداس: (إقطعوا لسانه) والشكم: العطاء.
(5) وعز إليه بكذا: ووعز إليه. وواعز بمعنى تقدم إليه. قال:
«قد كنت وعزت إلى علاء ... في السرّ والإعلان والنجاء».
«مان بحق ودم الدلاء».(1/133)
إليّ لما بلغت المعشار (1). الإيمان بالله عنده والاقتداء برسوله. أن ينتهي من خبث الطّعمة (2) إلى طلبته ورسوله. فاستعذ بالله من مقام هذا الشقي. وانتصب في المحراب على قدمي الأوّاب (3) التّقي. وذلّ لربّك اليوم تعزّ غدا. وتعنّ أياما قلائل تسترح أبدا. وإياك وتضجيع (4) المتثاقل. وحاشاك من توصيم (5) المتكاسل. إنّ المكسال من نعوت المعشار: العشر. قال الله تعالى: {(وَمََا بَلَغُوا مِعْشََارَ مََا آتَيْنََاهُمْ)} (1) وآخره المرباع ولا ثالث لهما.
(2) الطعمه (بوزن الحرفة): الجهة التي منها يطعم الإنسان من دهقنة أو تجارة أو غير ذلك من وجوه المكاسب. وأما الطعمة بالضم فاسم ما يطعم. كالفرقة والأكلة. يقول: طعمة فلان التجارة أو الفلاحة. وهذه طعمة لك أي أكل ورزق. ويقا للمأدبة الطعمة السول بمعنى المسؤول. كالخبز بمعنى المخبوز. والعرف بمعنى المعروف. والنكر بمعنى المنكور. وفي السوال بالواو وجهان: أن يكون تخفيف المهمزة كالبوس في البؤس وأن يكون في لغة من يقول سال يسأل كخاف يخاف وسلت كخفت. وفي كلام بعضهم: من ابطأ رسوله فما اخطأ سوله.
(3) الاواب: الرجاع إلى الله بالتوبة والإنابة والكثير التأويب وهو ترجيع التسبيح وترديده يا جبال أوبى معه.
(4) ضجع في الأمر ومرض فيه إذا فرط وتوانى. ومنه ضجعت الشمس إذا دنت للغروب.
(5) التوصيم: الفتور. يقال: إني لأجد توصيما في عظامي.
__________
(1) سورة سبأ، الآية 45.(1/134)
بيض الحجال. لا من أوصاف بيض (1) الرّجال. واستحي من ربّك ربّ العزة. خالق العزّ والأعزّة. أن يفضلك في الطاعة والانقياد.
مستخدم بعض الأذلّاء من العباد.
البياض في صفة الرجل: نقاء العرض مما يدنسه. يراد ليس فيه ما إذا عبر به خجل وأربد. وقيل لأولاد إسماعيل عليه السلام الخلص الذين لم تضرب فيهم عروق السودان بيض (كوصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) قال أبو طالب فيه:
«وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل»
ومنه قول حسان في آل غسان:
«بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول»(1/135)
«بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول»
مقامة التصبر
مقامة التصبر يا أبا القاسم نفسك إلى حالها الأولى نزّأة. فاغزها بسريّة من الصبر غزّأه. لعلّك تفلّ شوكتها وتكسرها. وتجبرها على الصّلاح وتقسرها.
فإن عصت وعتت وعدت طورها. (1) وألقت بصحراء التمرد زورها.
وانقشعت عن غلبتّها. ووقعت على مصابرتك الدّبره (2). وعلمت أنّ صبرك وحده لا يقوم عنادها. ولا يقاوم أجنادها. فاضمم إلى الصّبر من التصبر مددا. وأوله من التشدّد عدّة وعددا. واعتقد طور الدنيا وطوارها: حدها. ومنه قولهم: عدا طوره والزور مقدم الصدر. واستعير فقيل: زور القوم لرئيسهم. كما يقال: صدر الموكب. وألقى زوره كقولهم ألقى بركه وكلكله.
(2) الدبرة: الهزيمة (بسكون الياء). وهي فعلة من دبر بمعنى أدبر وبتحريكها. المنهزمون جمع دابر. فإذا قيل: وقعت عليهم الدبرة فالمعنى وقعت عليهم حال الدابرين ومحنتهم.(1/136)
أنّ الخطب ليس من الدّد (1) إنما هو من الإدد (2). ومما إن (3) أعضل وتفاقم له يكفه التعارك. وعجز عنه التّلافي والتدارك. فإن رأيت الصّبر والتصبر لا يفيان. وعلمت أنهما لا يكفيان، ووجدت شرّها يزداد ويربو. وشرّتها تمضي ولا تكبو. وزرع باطلها يزكو. وضرام غيّها يذكو. فخادعها عمّا تنزو اليه وتطمح. وتمدّ عينيها اليه وتلمح.
واستقبلها بما يذهلها ويلهيها. عن المطالب التي تشتهيها. وينأى بجانبها عما يخلجها (4) من النّظر، ويتولّى بركنها عمّا ينزعها من البطر.
الدّد: اللعب. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (ما أنا من دد ولا الدّد مني) ويروى (ولا دد مني بمعنى ولا شيء من اللعب مني).
ونقصانه اللام الددا بوزن القضاء وفي الددن بوزن البدن.
(2) إلادة من قولهم: «لقيت منه إدا وإدة» قال الله تعالى {(لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا)} (1) وكان يسمع مني الحديث بمكة فسأل بعض السمعة عن قول نائحة عمر رضي الله تعالى عنه: ماذا لقينا بعدك من الادد؟ فقال اعرابي. من وراء الحلقة: الإدة: الشدة.
(3) الجملة الشرطية وقعت صلة لما في قوله مما أن أعضل وتفاقم لم يكفه التعارك. وتعارك الأبطال: اعتراكهم. وهو تزاحمهم.
والمعترك: المزدحم. أعضل الأمر: إشتد وضاق. المخلص منه. ومنه عضلت الحامل. وداء عضال. والعضلة: الخطة التي ينشب فيها الإنسان فلا يكاد ينجو، وفلان عضلة من العضل.
(4) يخلجها: يجذبها. قال الحارث بن حلزة:
«بينا الفتى في الدهر يسعى له ... تاح له من أمره خالج»،
__________
(1) سورة مريم، الآية 89.(1/137)
جرّدها عن الملبس البهي. وافطمها عن المطعم الشهي. وزحزحها عن وطأة المطرح (1). ووضاءة المطمح (2). وجافها عن الفراغ المورث للكسل، والرقاد المعقب للرّهل (3). وأذقها أكل الخشب (4) ولبس الخشن وخذها بالنوم المشرّد. والشرب المصرّد. ومسها بالجواد (5) والجوع. ونحّها عن الهجود والهجوع. وعرّضها لكلّ مضجع مقض (6). وحدّثها بكلّ مفجع ممض. واستفزز بها في المطارح: المفارش. الواحد مطرح ومفرش.
(2) المطمح: ما تطمح نحوه العين من الوجوه الملاح.
(3) الرهل: الاسترخاء. وفي حديث أبي زبيد الطائي في صفة الأسد: وقصرة ذبلة ولهزمة رهلة.
(4) الخشب: الخشن من الطعام. والجسب بالجيم مثله. وقد جسب وخشب. ويروى حديث عمر رضي الله تعالى عنه: (إخشوشنوا واخشوشبوا وتبغددوا واجعلوا الرأس رأسين ولا تلثوا بدار معجزة) باللغتين.
(5) جيد يجاد جوادا إذا عطش. قال ذو الرمة:
«تعاطيه أحيانا إذا جيد جودة ... رضابا كطعم الزنجبيل المعلل»
قيل ذاك على طريق التفاؤل بأنه يجاد، أي يصاب بالجودة.
(6) المقض: من القضض وهو الحصى الصغار. قال ذويب:
«أم ما لجنبك لا يلائم مضجعا ... إلا أقضّ عليه ذاك المضجع».
ويقال: اقضّ عليه الهم مضجعه. وأقضّ السويق إذا ألقى فيه رصاصا من قند أو سكر شبه ذلك بالقضض. واستعاروا فقالوا: اقضّ له العطاء إذا أجزل له. وأقضّ فلان إذا تابع المطامع الدنية.(1/138)
الأحايين. بمثل ما يؤثر عن بعض الصالحين. من إيلامها بلذع الجمرة.
ووخز الإبرة. وغسّلها بالطهور البارد في حدّ السّبره (1). وتدويرها في المقابر والخراب. وتعفير وجهها بالتراب. فلا تفتر في خلال ذلك أن تعرض عليها ما وعد الله الأتقياء. وما أوعد به الأشقياء. وأن تكرّر على مسامعها السور التي تروع وتردع. والآيات التي تقرع وتقدع (2). وأن تقذف عليها كلّ عبء (3) من العبادة باهظ (4).
السبرة: الغداة الباردة: من سبره إذا اختبره. لأنها محنة من المحن وفي الحديث: (الوضوء في السبرات) وروي أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما رأى رجلا من أهل خوارزم. فقال: من أي البلاد أنت؟ فقال: من بلدة يتوضأ فيها فيجمد الماء على وجهه.
فقال: بشر تلك الوجوه بالجنة.
(2) القدع: الكف. يقال: قدع فرسه باللجام إذا كبحه.
وقدع الرجل كفه عن مراده. وإذا هم الفحل الذي ليس بنجيب أن يقرع نجيبة قرع أنفه بالعصا ليكف عنها، فمن ثم قالوا للخاطب الشريف هو الفحل الذي لا يقرع أنفه. ويروى أن خويلد بن أسد بن عبد العزي ابن قصي أبا خديجة رضي الله تعالى عنها أفاق من سكره فرأى أثر العرس فقال: ما هذا الخبير وما هذا العبير وما هذا العقير؟ فقيل: إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلّى الله عليه وسلّم خطب خديجة رضي الله تعالى عنها.
فقال: ذلك فحل لا يقدع. ومن الإستعارة قولهم قدع الخمسين سنة إذا جاوزها.
(3) العبء: الحمل الثقيل. قال تأبط شرا.
«قذف العبء عليّ وولّى ... انا بالعبء له مستغل»
(4) الباهظ: المستغل الغالب.(1/139)
وترميها بما يحكّ في قلبها ويحيك من المواعظ. فإنّك إن فعلت ذلك استبدلت من نزوتها سكونا واعتاضت. ولانت بعد جماحها وارتاضت.
ولم تأب عليك خيرا تريده. ولا عملا صالحا تبدئه وتعيده.
واحتفظ بما ألقي اليك من باب الرياضة من جوهرة (1) ابن عبيد.
فإنّه خير لك من جمهرة ابن دريد.
أراد بجوهرة ابن عبيد كلمة عمرو بن عبيد التي هي أنفس من كل جوهرة يتيمة. قال رحمه الله. لقد رضت نفسي رياضة لو أردتها على ترك الماء لتركته. وما يقذف مثل هذه الجوهرة الا مثل ذلك البحر القذاف بجواهر الحكمة.(1/140)
مقامة الخشية
مقامة الخشية يا أبا القاسم ما بالك وبال كل من ترى. ممّن يدبّ على وجه الثرى. إذا دعا أحدكم هذا الملك المستولي، والسلطان المستعلي.
راعه ذلك روعا عجيبا. وامتلأ قلبه زفرة ووجيبا. وعرته (1) الرّعدة والرّعشة كأنّما دهي وشغل عن نفسه شغلا أضلّ له الحلم والسكينة. وأغفل له الوقار والطمأنينه. واستطير واستطرب (2) وامتقع (3) لونه وانتقع، وحسب أنّه وقّع له بخراج مصر أو عرى الرجل: يعرى من العرواء، وهي رعدة الحمى.
وقيل: هي القرة التي تصيب المريض. وقال ابن دريد: عرواء الحمى عرقها وتكسيرها.
(2) إستطربه وتطربه: حمله على الطرب، كأنه طلبه منه. قال الكميت:
«ولم تلهني دار ولا رسم دمنة ... ولم يتطربني بنان مخضب».
ويقال: استطرب إذا أنبط طربه كاستعجب واستسخر.
(3) يقال: إمتقع لونه وانتقع والتقع واهتقع واستقتع إذا تغير.
وإنما قال وانتقع على وجه التوكيد والتهكم بمدعو الملك.(1/141)
ببيضته (1) أوقع. للخوف والرّجاء في قلبه مضطرب (2). يتعاقب عليه الحرب والطرب. ومرّ مشدوها (3) لا يدري أيّ طرفيه (4) أطول.
الطائر يحمي بيضته ويرفرف عليها. فضرب مثلا لمن يذب عنه الإنسان من حوزته وحقيقته. فيقال: فلان يحمي بيضته. ولو قيل فلان يرفرف بجناحه على بيضة الاسلام لكان مجازا مرشحا، فإن قلت:
ما بالهم؟ قالوا أذل من بيضة البلد مع قولهم: أعز من بيضة البلد. قلت:
هي بيضة النعامة وأضيفت إلى البلد وهي المفازة لأنها تباض فيها، وأمها تتركها فتحضنها أخرى. فلما كانت متروكة من ناحية، محضونة من أخرى وصفت بالعزة والذلة. فقيل:
«لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... بكيته ما أقام الروح في جسدي
لكنّ قاتله من لا يعاب به ... وكان قدما يسمى بيضة البلد».
والقائل أخت عمرو بن ود في علي رضي الله تعالى عنه وقتله أخاها وقيل: إن أبا نضلة ليس من أحد ضل أباه فهو بيضة البلد. وقيل:
المراد بالبيضة التي هي مثل في الذل الكمأة البيضاء، لأن الأرض تبيضها أو تشبيها بالبيضة. فهو كقولهم: «أذل من فقع بقرقر».
(2) المضطرب: مصدر أو مكان. أنشد الأصمعي:
«لكان لي مضطرب واسع ... في الأرض ذات الطول والعرض».
(3) شده: شغل وهو مشدوه واشتده، إشتغل. وفلان في مشادة:
أي في مشاغل والمشادة دائرة على ألسنة أهل الحجاز.
(4) في أمثالهم: «لا يدري أي طرفيه أطول». يريدون نسبته من قبل أبيه وأمه. ويقال: فلان كريم الطرفين. وقال:
«فكيف بأطرافي إذا ما شتمتني ... وما بعد شتم الوالدين صلوح».
مدهوشا. (1) يتراءى له الشخص شخصين كأنه أحول (2). فإذا رفعت له الأعلام والقباب. وملأ عينيه الفناء والباب. وأفضى إلى ما وراء الحجاب. من الوجه المحتجب. والرّأس المعتصب. فلا تسأل حينئذ عن مضلعة (3) من التهيب تكاد تقوّم أضلاعه. وفادحة من الاحتشام تفوّت استقلاله واضطلاعه. ثمّ إمّا أن يمسّ بسوط من السخط فما أهونه وأهون منه من يخشاه ويرهبه. وإما أن يلبس ثوبا من الرّضى فما أدونه وأدون منه من يرجوه ويطلبه. ولو أنك أجلت عينيك في هذا السواد (4) كله لا في أكثره. وأدرتهما على أسوده (5) وأحمره. لما أبصرت أحدا إذا نودي للصّلاه والنداء نداء مالك ودهش دهشة تحير فهو مدهوش، ودهش دهشا فهو دهش.(1/142)
«فكيف بأطرافي إذا ما شتمتني ... وما بعد شتم الوالدين صلوح».
مدهوشا. (1) يتراءى له الشخص شخصين كأنه أحول (2). فإذا رفعت له الأعلام والقباب. وملأ عينيه الفناء والباب. وأفضى إلى ما وراء الحجاب. من الوجه المحتجب. والرّأس المعتصب. فلا تسأل حينئذ عن مضلعة (3) من التهيب تكاد تقوّم أضلاعه. وفادحة من الاحتشام تفوّت استقلاله واضطلاعه. ثمّ إمّا أن يمسّ بسوط من السخط فما أهونه وأهون منه من يخشاه ويرهبه. وإما أن يلبس ثوبا من الرّضى فما أدونه وأدون منه من يرجوه ويطلبه. ولو أنك أجلت عينيك في هذا السواد (4) كله لا في أكثره. وأدرتهما على أسوده (5) وأحمره. لما أبصرت أحدا إذا نودي للصّلاه والنداء نداء مالك ودهش دهشة تحير فهو مدهوش، ودهش دهشا فهو دهش.
(2) الأحول يرى الشخص شخصين. وذكر ذلك لبعض الحول وبين يديه ديك. فقال: سبحان الله كأني أرى هذين الديكين أربعة.
(3) المضلعة: الداهية العظيمة التي يزفر لها المدهي زفرة تكاد تسوي أضلاعه.
(4) السواد: الجماعة العظمى. ومنه قول الطائي:
«إن شئت أن يسود ظنك كله ... فاجعله في هذا السواد الأعظم»
شبهت بسواد الليل في كثافته. كما يقال: جاءوا كالليل. ومن ثم سميت الدهماء. قال الطائي:
«لا يدهمنك من دهمائهم عدد ... فإن جلهم بل كلهم»
(5) الأسود والأحمر: العرب والعجم. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
(بعثت إلى الأسود والأحمر). ويقال: ما يخفى ذلك على الأسود والأحمر.(1/143)
الملوك وممالكهم. ومتولّي معايشهم ومهالكهم. والصلاة عبادته التي صبّها في الرّقاب. وأدار فعلها وتركها بين الثّواب والعقاب.
والثواب ما لا ثواب أبهى منه وأسر. والعقاب ما لا عقاب أدهى منه وأمر. يرهقه نبذ (1) ممّا رهقه مع دعوة العبد الذليل. أو يدهمه ذرو مما دهمه عند نداء البشر الضئيل. هل رأيت في عمرك وأنت بين ألف نفس مسلمة. وفي كنف (2) من أعلام العلم وفوارسه المعلمة. وقد نعق (3) المؤذّن شخصا قد تحيّر. أو وجها قد تغير. أو جبينا قد عرق. أو جفنا بدمعه شرق. وهل شعرت بصدر يزفر وقلب يجب. وهل أحسست أحدا يؤدّي بعض ما يجب. لو لم تكن إلّا النبذ: الذر. والشيء القليل. يقال: ذهب ماله وبقي نبذ منه. وفي أرض بني فلان نبذ منهم. وأصاب الأرض نبذ من مطر.
وفي رأسه نبذ من الشيب وبلغني ذرو من قول أي طرف منه فهما في الأصل مصدران من نبذ الشيء إذا طرحه، وذرا الحب إذا بذره.
(2) هو في كنف من الناس بوزن كشف أي في كثرة منهم.
(3) نعق المؤذن ونعر أي رفع صوته بالأذان ولبعضهم:
«الجموا يا موذني همدان ... فم مناديكم فقد آذاني
كلما قام ناعقا بالأذان ... أخذ المسلمون بالآذان»
وقال:
«كلا ورب الكعبة المستورة ... وما تلا محمد من سورة
والنعرات من أبي مخدورة»(1/144)
هذه الواحدة لكفى بها موجبة (1) أن نعذّب عن آخرنا. ونكبّ (2) في النار على مناخرنا.
جاءت الموجبة بمعنى الطاعة التي توجب لصاحبها الجنة وبمعنى المعصية التي توجب لصاحبها النار.
(2) وفي الحديث وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.(1/145)
مقامة اجتناب الظلمة
مقامة اجتناب الظلمة يا أبا القاسم إن رأيت أن لا تزور عاتكة متغزّلا. وأن تزورّ (1) عن بيتها متعزّلا. (2) وأن يشغلك عن ذكرها وذكر أختها لعوب.
داوم الفكر في سكرات شعوب (3). فافعل صحبك التّوفيق. ونعم الصّاحب والرّفيق. كم زرت أبياتهما وزوّرت (4) فيهما أبياتك.
أزور: أفعل من الزور. كأحور. قال عامر بن الطفيل يوم فيف الريح وهو مكان بالبادية:
«وقد علم المزنوق أني أكرّه ... على جمعهم كر المنيح المشهر
إذا ازور من وقع الرماح زجرته ... وقلت له ارجع مقبلا غير مدبر»
(2) التعزل الإعتزال: وهو معنى قول الأحوص بن محمد:
«يا بيت عاتكة الدي أتعزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل»
ويحكى أن ابن المقنع مرّ ببيت النار فتمثل به، فاتهم بالمجوسية فقتل. وكان من آل كسرى.
(3) يقال للمنية الشعوب وشعوب، فيجعل إسم جنس وعلما.
ونظيره الهنيدة وهي صفة غالبة فعول من الشعب بمعنى الصدع. كما سميت منونا من المن: وهو القطع.
(4) وزورت فيهما أبياتك وزينت في شأنهما أبيات شعرك،
وبعت بأدنى لقائهما وتحيتهما حياتك. وكأيّن لك من تشبيب ونسيب. وتخلص إلى امتداح دخيل (1) أو نسيب. ومن كلمة (2) مخزية (3) شاعره. وقافية طنّانة ناعره. ومطلع كما حدرت الحسناء وفي حديث عمر رضي الله تعالى عنه: (وهو من الزور) وهو الصنم لأنه يزين. قال الأغلب: «جاؤا بزورهم وجئنا بالأصم».(1/146)
(4) وزورت فيهما أبياتك وزينت في شأنهما أبيات شعرك،
وبعت بأدنى لقائهما وتحيتهما حياتك. وكأيّن لك من تشبيب ونسيب. وتخلص إلى امتداح دخيل (1) أو نسيب. ومن كلمة (2) مخزية (3) شاعره. وقافية طنّانة ناعره. ومطلع كما حدرت الحسناء وفي حديث عمر رضي الله تعالى عنه: (وهو من الزور) وهو الصنم لأنه يزين. قال الأغلب: «جاؤا بزورهم وجئنا بالأصم».
وفي معناه الزون بالنون والزور ما يزخرفه الرجل من الكذب. هكذا فسر الحديث أبو عبيد وعليه بنيت كلامي. والذي سمعته من العرب روّزت في نفسي كذا بتقديم الراء على الزاي بمعنى قدرته. وهو من راز الشيء يروزه إذا أراده وجربه.
(1) الدخيل: الذي يداخل القوم وليس منهم. وخلافه النسيب:
وهو الذي يناسبهم.
(2) يقال لجماعة الكلم كلمة لاتحادها باتصال بعضها ببعض. قال الله تعالى: {(إِلى ََ كَلِمَةٍ سَوََاءٍ بَيْنَنََا وَبَيْنَكُمْ أَلََّا نَعْبُدَ إِلَّا اللََّهَ وَلََا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلََا يَتَّخِذَ بَعْضُنََا بَعْضاً أَرْبََاباً مِنْ دُونِ اللََّهِ)} (1).
فسمى هذا الكلام المشتمل على أكثر من عشرين كلمة. ونظيرها قولهم:
باع فلان ثمرة بستانه. وقولهم للقرية مدرة. وإنما هي ثمار لا تنعد.
ومدر لا ينحصر. وقالوا كلمة الجويدرة لقصيدة العينية.
(3) وقالوا: كلمة مخزية للقصيدة التي يقال لصاحبها أخزاك الله لحسنها. وكلمة شاعرة كأنها تشعر بنفسها لتعلقها في جودة شعرها.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية 64.(1/147)
من لثامها. ومقطع كما استلذّت الصّهباء بطيب ختامها. أية نار شببت على كبدك إذ شبّبت (1). وإلى أيّ عار نسبت نفسك حين نسبت (2). وغاية الخزي والشّنار. في الجمع بين العار والنار. أنّ صاحب الغزل (3) والنّسيب. ليس له عند الله من نصيب. سحقا لما يجري من القوافي على ألسن المنشدين. ومرحبا بالنفوس (4) القوافي في آثار المرشدين. من أين يفكّر في الاستهلال (5) والمطلع. من التشبيب: في الأصل أن يذكر الشاعر أيام شبيبته، وأن يقول: ولقد ألهو ولقد أروح وكنت أفعل ولعهدي في تقدم ذلك في قصيدته قبل الخوض في غرضه من أنسابها في مدح أو هجاء أو فخر أو غير ذلك مما ينتجه الشعراء. ثم كثر حتى قيل نسيب القصيدة ونسوها، وإن لم يكن على ذلك الأسلوب.
(2) النسيب: أصله أن تنسب المرأة وترفع نسبها وتصف قومها ثم اتسع كما اتسع في التشبيب.
(3) الغزل: أن تقول: قالت فقلت كما ترى في شعر عمرو بن أبي ربيعة المخزومي وغيره من المغازلة وهي محادثة النساء.
(4) النفوس: القوافي التوابع من قفا أثره.
(5) يقال لأول القصيدة، الإستهلال، والمطلع. ولآخرها المقطع المطلع، وقت الإحتضار لأنه وقت الإطلاع على حقيقة الأمر أو وقت اطلاع وهو صعوده وخروجه من اطلع الجبل إذا صعده. ويجوز أن يراد مكان الإطلاع على السرائر وهو موقف الحساب أو وقت الإطلاع وهو يوم القيامة. والإطلاع: التخلص لخروج النسيب إلى المدح أو
هو منوط الفكر بأهوال المطلع. وكيف يفرغ للإغراب في التخلص (1) إلى المدح. من هو من طلب تخلص آخر في الكدّ والكدح. لقد أضللت همتك في وادي الشّعر فاصخ (2) لمنشدها. وإن أنشدت نفاثات (3) الشعراء فلا تصغ إلى منشدها. ناد أمّ الشعراء يا خباث (4).(1/148)
(5) يقال لأول القصيدة، الإستهلال، والمطلع. ولآخرها المقطع المطلع، وقت الإحتضار لأنه وقت الإطلاع على حقيقة الأمر أو وقت اطلاع وهو صعوده وخروجه من اطلع الجبل إذا صعده. ويجوز أن يراد مكان الإطلاع على السرائر وهو موقف الحساب أو وقت الإطلاع وهو يوم القيامة. والإطلاع: التخلص لخروج النسيب إلى المدح أو
هو منوط الفكر بأهوال المطلع. وكيف يفرغ للإغراب في التخلص (1) إلى المدح. من هو من طلب تخلص آخر في الكدّ والكدح. لقد أضللت همتك في وادي الشّعر فاصخ (2) لمنشدها. وإن أنشدت نفاثات (3) الشعراء فلا تصغ إلى منشدها. ناد أمّ الشعراء يا خباث (4).
وعجّل بتاتها بالثلاث. ولا تراجع الرّكون إلى أهل الحيف.
غيره. وقد تلطف فيه المتأخرون وتنوقوا حتى جاؤا بما لا شيء ملح منه كقول أبي الطيب:
«نودعهم والبين فينا كأنه ... قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق»
وقد وقعت لي عدة تخلصات بديعة:
«كأن شكلي غدة أجد بهم ... رحيلهم شكل شارب ثمل
بالحد قاضي القضاة أنذره ... فقلبه قلب خائف وجل».
(1) التخلص الآخر: أن يتخلص من عذاب الله تعالى.
(2) أصاخ له وإليه إذا استمع قال الكميت:
«ويصيح أحيانا كما اس ... تمع المضل لصوت ناشد»
(3) النفاثة: كاللفاظة واللحاحة. ما نفثته من فيك من شظية سواك أو نحوها. يقال: لو سألتني نفاثة سواك ما أعطيتك. وأراد بها ما ينفثه من الشعر.
(4) يا خباث: كقولهم يا فجار ويا فساق. وهو في المؤنث كقولهم في المذكر يا فسق ويا عقق(1/149)
وإن عرضوك على غرار السّيف. وأجرّ (1) لسانك أن تنطق بثناء لهم وامتداح. وسافر بمطعمك عن امتيار لهم وامتياح. وقل عقرى (2) لمن يرفع عقيرته بالنّشيد بين أيديهم. وتربت يدا من بسطهما إلى أعطياتهم وأياديهم. من وقف وقفة لأحدهم على ربع. فليغسل قدميه سبعين فضلا (3) عن سبع. ويحك لا يرينّ جسمك في أبوابه ولا يجرينّ اسمك في ديوانه. ولا يخطونّ قدمك في إيوانه (4) أجر لسان الفصيل وحله إذا شقه، وجعل فيه عويدا لئلا يرتضع وقال:
«فكر إليه بميزانه ... كما حل ظهر اللسان المجر».
(2) عقري: حلقي في دعاء السوء مصدران على فعلى كالطفوى والشكوى من عقر الإبل إذا عرقبها وحلقها إذا قطع حلوقها. وفي حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لصفية بنت حي حين قيل له يوم النفر أنها حائض.
(عقري حلقي ما أراها إلا حابستنا) وهي دعوة للعرب على الرجل بأن يعقر إبله وينحر. وقال: أبو عبيد الصواب عقرا حلقا.
(3) فضلا عن سبع يعني الاناء يغسل من ولوغ الكلب سبع مرات من الوقوف بباب السلطان.
(4) الايوان والأوان: بناء كالصفة ومنه قيل: ايوان كسرى وهو أعجمي عند ابن دريد. ويحتمل أن يكون عربيا فإن الأوان عمود من أعمدة الخباء. ولا يبعد أن يسمى البناء المتطاول به أو يشتق من أوّن الحمار إذا انتفخ جنباه من السري. وقال رؤبة:
«وسوس يدعو مخلصا رب الفلق ... سرا وقد اوّن تأوين العفق»
لأنه بناء مسع مرتفع.(1/150)
وطيّب نفسك عمّا ليس بطيب من أرزاقه. ولا تلوّثها بالطمع في إرفاده وإرزاقه. وإيّاك وهذه المراسم (1) المسمّاه. فإنها والمواسم الممحاه. ولا تفرّق بين تسويلات الشياطين. وبين تسويفات السّلاطين.
ولا بين إضرار الأهوال. وإدرار تلك الأموال. ولا تقف إلّا بين يدي ربّك ولا يكن ظلك عن فنائه قالصا. واجعل ثناءك لوجهه خالصا. واسأله الطيب في جميع ما تكتسب. واتّقه يرزقك من حيث لا تحتسب.
أثن على ربّ البشر ... على الّذي أعطى الشّبر (2)
أعطى الذي عيّ الورى ... بحصره ولا حصر
حسبك ما أولاك من ... قلب وسمع وبصر
ومن لسان مطلق ... للذكر كالسيف الذّكر
آيات صدق وعبر ... وهنّ آلات العبر
المراسم: جمع مرسم بمعنى الرسم. وهو ما يرسم من العطاء ويجوز أن يكون أصل المراسم جمع مرسوم فخففت بإسقاط الياء يعني فإنهما والمراسم سواء فحذف الخبر كما حكى سيبويه، من قولهم: أن عيرها وابلا.
(2) الشبر: العطية. وهو من الشبر. كما قالوا: اليد للنعمة، والباع للكرم. قال: الحمد لله الذي أعطى الشبر. ويقال شبره كذا.
واشبره إذا أعطاه.(1/151)
مقامة التهجد
مقامة التهجد (1) يا أبا القاسم أكرم النفوس أتقاها. وخير الأعمال. أنقاها.
فليكن عملك نقيّا ناصعا وجيبك في ذات (2) الله تعالى ناصحا لا تكن العامل الأخرق الذي يأمل بعمله حوز الثّواب. والفوز في التهجد: قيام الليل. وهو تجنب الهجود ونظائره التأثم والتحرج والتحوب. ويقال أيضا إذا نام وهجدته نومته. قال لبيد:
«هجدنا فقد طال السرى ... وقدرنا أن جنى الدهر عقل»
(2) ذات: تأنيث ذو. الذي هو وصلة إلى الوصف باسماء الأجناس. قالوا: لقيته ذات يوم، وذات ليلة، وذات العويم، وذات الزمين، وذات مرة. على إضافتها إلى الاسماء دون المسميات. بمعنى:
لقيته مرة ذات يوم. أي صاحب الإسم الذي هو يوم. وكذلك غيرها، ثم جرت مجرى حقيقة الشيء. فقالوا: أعطانيه من ذات نفسه. وقيل ذات الله لحقيقته ونفسه. وقال أبو تمام:
«ونضرب في ذات الله فيوجع».
يريد في حق الله ومن أجله ومنه قوله:
«وجئتك في ذات الله ناصحا».(1/152)
المآب. ثمّ يخيس (1) آخر الأمر بأمله. إنّه كان لا يكيس (2) في تنقية عمله. عملك للملك القدوس (3) فائت به مقدّسا. وحاذر أن يجيء ما توجه اليه مدنسا. إغسل درن (4) الرّياء عن صفحاته.
واحترس أن يصيبه التكلف بنفحاته. إقصد به وجهه دون سائر المقاصد. تقعد ممّا ترجو من فواضله بالمراصد. أصفه فلن يقبل منك إلّا الأصفى. وأخف دعاءه فقد أمرك بالإخفا. وترقب به جنح الليل إذا أسدل (5) جناحه وأسدف. (6) وأرخى قناعه خاس به: أفسده. يقال: ضمن ثم خاس بضمانه. من خاست الجيفة إذا فسدت. ومنه خيس الأسد لما يخيس فيه من الفراش.
(2) الكيس: العقل والفطنة. ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: (إن أكيس الكيّس التّقى، وأحمق الحمق الفجور).
(3) القدوس: البليغ في القدس الذي يستحيل عليه ما يستقبح من الصفات والأفعال.
(4) الدرن: الوسخ المتراكب. ورأى بعضهم ثوب خز وسخا فقال: هذا درن وما هو بردن.
(5) أسدل جناحه: أرخاه. ومنه أرخى الليل سدوله، أي ستوره الواحد سدل كستر وسجف وسدل ثوبه فانسدل، والسدل الذي كره في الصلاة هو أن يطرح وسط ثوبه على رأسه أو عاتقه ويسدل طرفيه.
وعن علي رضي الله تعالى عنه أن أهل الكوفة استقبلوه وقد سدلوا ثيابهم فقال: (كأنهم اليهود خرجوا من فهرهم).
(6) أسدف الليل: أظلم. وفي لغة هوازن أسدف الفجر: اضاء.
وقال: اسدفوا لنا: أي أسرجوا. وسمعت أهل الطائف يقولون: أسدف لنا البيت. بمعنى أسرج.(1/153)
وأغدف (1). وضرب (2) السبات (3) على الآذان. وخيط ملاقي (4) الأجفان (5). ولفّ صرعاه في الأكفان. وبقيت كأنّك وحدك على الصّعيد. ليس لك ما خلا القعيدين (6) من قعيد. لا تشعر حركة ولا حسّا. ولا تسمع ركزا ولا همسا. واستبدل حينئذ تهجدك من هجودك. واعقد عينيك بموقع سجودك. واخشع لمن تخشع أغدف الليل: غطى كل شيء بظلامه. وأغدف البحر اعتكرت أمواجه.
(2) الضرب على الآذان من قوله تعالى: {(فَضَرَبْنََا عَلَى آذََانِهِمْ)} (1)
وهو من ضرب الحجاب: معناه فضربنا على آذانهم حجابا من أن تستمع بالنوم الثقيل.
(3) السبات: الموت. والمسبوت: الميت. وبه سمي النوم على التشبيه.
(4) الملاقي: جمع ملقى أو ملتقى ويخيط الأجفان. من بيت الحماسة:
«إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل ... له كالىء من قلب شيحان فاتك»
(5) ولف صرعاه في الأكفان: ولف الذين صرعهم السبات في الملاحف. لما شبه النوم بالموت شبه ما يلحفون به بالأكفان.
(6) القعيدان: الحفيظان والقعيد الجليس. قال الله تعالى: {(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمََالِ قَعِيدٌ)} (2).
__________
(1) سورة الكهف، الآية 11.
(2) سورة ق، الآية 17.(1/154)
له الملائكة في سمواته. واخش الّذي تخشى السموات سطواته.
وارحم أجفانك أن يتشبث النعاس بملاقيها. وخلها والبكاء وإن قرحت مآقيها. إبك على ما حملت من أوزارك وخطاياك. وما رحلت مع اشياع الجهل من مطاياك. وتضرّع إلى ربّك وتضوّر (1).
واستجر عائذا به واجأر. فربّ عبد تنزل بتضوره وجؤاره. في الحرم الآمن من كريم جواره.
التضور: التفعل. من الضور بمعنى الضير وهو إظهار الضر الواقع به بالتقلقل والإضطراب والشكوى أو التضعف. من قولهم:
رجل ضورة: وهو الضعيف الذي لا يدفع عن نفسه.(1/155)
مقامة الدعاء
مقامة الدعاء يا أبا القاسم حسبك ما أسلفت من الصّبوات فأمسك. واحرص أن يكون يومك وغدك خيرا من أمسك. جناياتك على نفسك تترى. والأمور الألهيّة كما تسمع وترى. عزم لا لين ولا هوادة (1).
وجد لا هزل ولا مكاده (2). وبطشة جبّار لا تطاق. وسطوة مقتدر يضيق عنها النّطاق (3). فما هذه الجسارة ولا جسر إلى النّجاة إلّا أن تجني. ومن غرس القتاد لم يجن منه الثمر ولن يجني. هات الهوادة: اللين والسكون. ومنها قيل لا هوادة بينهم بمعنى لا صلح لأنهم إذا تواعدوا سكنوا ولانوا. وقال:
«ونركب خيلا لا هوادة بينها ... ونسقي الرماح بالضياطرة الحمر»
وهاد إليه يهود. إذا رجع وأناب كما يرجع المصالح وينيب إلى صاحبه. قال الله تعالى: {(إِنََّا هُدْنََا إِلَيْكَ)} (1).
(2) المكادة والكيدودة: مصدر كاد يفعل. ومعناه لا هزل ولا مقاربة للهزل ولا إلمام به كما تقول ما فعلت وما كدت.
(3) عبر عن القدرة والإستطاعة بسعة النطاق. وعن العجز بضيقه وهو من باب التمثيل لأن من اتسع نطاقه احتمل فيه شيئا كثيرا بخلاف من ضاق نطاقه.
__________
(1) سورة الأعراف، الآية 156.(1/156)
سلطانك فيما ارتكبت. وهلمّ (1) برهانك فيما احتقبت. (2)
هيهات (3) لا سلطان. إلّا أنك أطعت الشّيطان. وكلّا ولا برهان.
إلّا أنّك أخذت العاجل بما عزّ (4) وهان. ولا معذرة إلّا أنّك هلم برهانك: أحضره. قال الله تعالى: {(هَلُمَّ شُهَدََاءَكُمُ)} (1)
وهي مركبة من هاء ولمّ عند البصريين من لم الشيء إذا جمعه. وعند الفراء من هل وأم بمعنى. إقصد وإذا قيل هلمّ لك باللام للبيان كما في هيت لك وهي عند أهل الحجاز مستوفيها المخاطب والمذكر والمؤنث والمفرد والمجموع بخلاف بني تميم. ويقال في جواب هلم لا أهلم بفتح الهمزة والهاء وضم اللام. وحكى قطرب: لا أهلم بضم الهمزة وفتح الهاء وكسر اللام ويقال: هلممت بالرجل وهلممته قلت له هلم.
(2) إحتقبه واستحقبه: إحتمله. وهو من الحقيبة التي يجعلها الراكب وراء رحله. وأحقبه المتاع جعله حقيبة. ومنه ما روي عن عبد الله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: «لا يكونن أحدكم امعة» قالوا:
وما الأمعة؟ قال: المحقب الناس دينه. يريد المتبع الناس دينه. وهو المقلد.
(3) هيهات صوت يريد به الإستبعاد قال الله تعالى {(هَيْهََاتَ هَيْهََاتَ لِمََا تُوعَدُونَ)} (2) ويقال ايهات وايهان.
(4) في أمثالهم: «خذه بما عز وهان» يريد بأي ثمن أمكنك أخذه عز عليك أو هان. يضرب في الشيء المرضي الذي لا شرك فيه. ونحوه قولهم: خذه ولقر بقرط مارية.
__________
(1) سورة الانعام، الآية 150.
(2) سورة المؤمنون، الآية 36.(1/157)
ذقت طعم الإتراف فاستطبته. ودعاك داعي الإسراف فاستجبته.
هذه براهين السامدين (1) اللّاهين. والله الصّمد لا يقبل هذه البراهين. وهذه علل المبطلين ومعاذرهم. وبمثلها لا تؤمن أفزاعهم ومحاذرهم. إعطف على سيّئات قدّمتها فندّمك تقديمها. بحسنات تدمن إقامتها وتديمها. إنّ الحسنة لتسحق السيّئة عن صاحبها وتسحوها (2). وتمحق آثارها وتمحوها. كما تسحو المبراة الرّصيفة الحبر عن الطّرس. وكما يمحو الماء الطهور أثر الرّجس.
وابسط يديك إلى ذي المنة والطّول. وابرأ اليه من القوّة والحول.
وقل وجناحك من الخشوع خفيض. ودمعك على الخدّين يفيض. وحلقك بالبكاء شرق. وجبينك من الحياء عرق.
وصوتك لا يكاد يسمع وجلا. ولسانك لا يكاد ينطق خجلا.
يا ربّ قد فضحت نفسي بينك وبيني. وقد اطلعت على عيبي وشيني.
ولم يخف عليك دخلتي (3) وسري الخبيث. وعرفت قصّتي وحديثي وبئس القصّة والحديث. وكفتني فضيحة ألفّ لها رأسي من السامد: الرافع رأسه كبرا، وسئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: (وأنتم سامدون) فقال: البرطمة والمبرطم الشامخ بأنفه من الكبر. وقيل رفع الرأس بالغناء. وقال بعضهم لجاريته إسمدي لنا غني.
(2) السحو: القشر. ومنه المسحاة وسحاة الكتاب.
(3) دخلة الرجل ودخلله: باطنه. يقال: أطلعت فلانا على دخلة أمري ودخل أمري إذا أبثثته مكنونك.(1/158)
التشوّر (1). وألفّع وجهي من التخفّر (2). على أنك دون قناع كلّ متقنّع. ووراء لثام كلّ متلفّع. فلا تفضحني بين خلقك يوم تبلى (3) السرائر، وينعى (4) على المجرمين بالجرائم والجرائر.
فاعطف بكرمك على عبدك. فلا خير عنده إلّا من عندك. فالمولى الكريم يصفح عن جرم العبد وذنبه. إن عرف منه النّدم على ما فرّط (5) في جنبه.
التشور: الخجل. وشوره فضحه وخجله. والأصل فيه اهداء الشوار وهو العورة في أدعيتهم: «أهدى الله شوارك».
(2) خفرت المرأة خفرا وتخفرت وامرأة خفرة: حيية. وخفزة من أعلام نسائهم وقد أملت عليّ أم هبة أم مثواي بالطائف في كتاب لها إلى أقاربها بمكة خفرة. تقول: لكم يا عمتي أشكو إليك حر العرى في وجهي فأرسلوا إليّ من مخاضب حنائكم ما أتحقق به.
(3) إبلاء السرائر تعرفها وتصفحها والتمييز بين ما طاب منها وما خبث وعن الحسن أنه سمع رجلا ينشد:
«ستبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ود يوم تبلى السرائر»
فقال. ما أغفله عما في والسماء والطارق.
(4) يقال: نعى عليه سيئاته إذا عيره بها. مستعار من نعي الميت لأنه خبر سوء.
(5) فرطت في جنب الله. قصرت في جانبه. أي في حقه. وفيما يختص به من طاعته.(1/159)
مقامة التصدق
مقامة التصدق يا أبا القاسم ضروب السخاء جمة دثره (1). ولا تكاد تحصيها كثره، وليس السخاء كلّ السخاء أن يتلقى الضيف بكوس (2) العقير وكاس العقار. وأن توقر ركائبه يوم ظعنه بالأوقار. وأن يقرى الطّارق في الجفنة (3) الغرّاء وتسبق البدره (4) بين جماعة الدثر: الكثير. ومنه الحديث ذهب أهل الدثور بالأجور.
(2) الكوس: أن يعرقب البعير فيمشي على ثلاث. وهذا من غريب المجنس وفحله وأحسنه وأدله على قدرة صاحبه وسعة نجره ما ورد منه نحو هذا المورد. فأما ما تداول منه وأشبه اشتقاق الكلم بعضها من بعض فمن أرك الكلام واسخفه ومما لا يلتفت اليه. وقد وقع لي نحوه في مقطوعة لي:
«ونار قراة ما أدلّ وقودها ... على روح السير لأشعث ساري
إذا انتابها ضيف تلقاه عنده ... بكوس عقير قبل كاس عقار»
(3) الجفنة الغراء: البيضاء من كثرة الدسم والشحم. وقيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنت سيدنا وأنت الجفنة الغراء».
فقال: قولوا بقولكم ولا يستجرينكم الشيطان.
(4) يقال: سبق بينهم بدرة: إذا جعل بينهم سيفا من غلب أخذها. وقد فعل ذلك عبد الملك بن مروان غيرة من المسرفين.(1/160)
من الشعراء. ويجاز (1) زياد بالبريّات من الصّدف (2) النعمانية.
أو يحشى فم فلان ببنات (3) الصّدف العمانيّه. وأن يفعل ما يحكى عن أبناء برمك وابن (4) الفرات. وما طمّ من رفدهم على الرّافدين دجلة والفرات. إنّ من أنزلت به أملك. فتسخى عليك بما ملك. فما ترك كرما إلّا أدركه. ولا أدرك لؤما إلّا تركه. وإن أخفى عورتك بخريقة تكتسيها. أو أطفأ سورتك بمريقة تحتسيها. فإن ضاقت عن ذلك طاقته. وفاقت المفاقر كلها فاقته. فتلقّاك ببشر يؤنس وخلق يونق وتحيّة تعلو. وكلمة تحلو. فلله درّه من قرى (5) غير عاتم. وياله من جود يمثّل يجاز: من الجائزة. وهي الهدية. يقال: أجازه بكذا إذا أهداه اليه. وزياد هو النابغة أجازه النعمان بمائة من عصافيره وهي البريات من الصدف النعمانية.
(2) الصدف: من عيوب الابل أن يميل خف البعير إلى الجانب الوحشي. والقفد: أن يميل إلى الجانب الانسي. وقد صدف وقفد.
وهو أصدف وأقفد.
(3) وبنات الصدف الدرر من الملوك من أعجبه بيت شاعر فملأ فاه بالدرر، وقد استحسن بعض الرؤساء قول بعض الشعراء. فقال:
لو كان معي در لحشوت به فاه. قال:
«وقلت لو أنّ لي درا حشوت به ... فاه فإن لم يكن در فدراعه»
(4) ابن الفرات هو علي بن محمد الفرات ووزير المقتدر. وكان كريما سخيا سريا يتبرمك في أيام وزارته.
(5) قرى عاتم: بطيء. وهو من العتمة. قال عبد الله بن الزبعري:
«بجبر بن ذي الرمحين قرب مجلس ... وراح علينا فضله غير عاتم»
بجود حاتم. فلا تدع أجدب (1) ما تغدو رحلا. وأصعب ما تروح محلا. وأضيق ما يكون يدا. وأقلّ ما تصير جدا. أن تجعل الصّدقة على بالك. وللنّحلة (2) حظّا من مالك. إنّ الله قد أملكك عققيلة (3) ما يملك. فسق (4) اليه الصّدقة والصّدقة لا أب لك (5).(1/161)
«بجبر بن ذي الرمحين قرب مجلس ... وراح علينا فضله غير عاتم»
بجود حاتم. فلا تدع أجدب (1) ما تغدو رحلا. وأصعب ما تروح محلا. وأضيق ما يكون يدا. وأقلّ ما تصير جدا. أن تجعل الصّدقة على بالك. وللنّحلة (2) حظّا من مالك. إنّ الله قد أملكك عققيلة (3) ما يملك. فسق (4) اليه الصّدقة والصّدقة لا أب لك (5).
أجدب ما يغدو رحلا، انتصابه على الظرف، ومعناه لا تدع أن تجعل الصدقة على بالك في أجدب أوقات غدوك رحلا، ورحلا نعت على التمييز من أجدب. كقوله تعالى: {(وَأَقْوَمُ قِيلًا)} (1) جعل وقته جديب الرحل على الاسناد المجازي.
(2) النحلة والنحلة: العطية عن طيب نفس من غير عوض. وقد نحله كذا ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: (ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن). وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لعائشة رضي الله عنها: (إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا بالعالية).
(3) العقيلة: المختارة من النساء. ومن أبيات الحماسة:
معاذ الإله أن يكون كظبية ... ولا دمنة ولا عقيلة ربرب»
وعقيلة كل شيء: أكرمه لأن صاحبه يعتقله عند نفسه صيانة.
وقالوا: عقيلة القوم لسيدهم. وقال الخليل: العقيلة المخدرة التي عقلت في بيتها. وقد استعار العقيلة للمختار من المال وقد رشح استعارتها بالاملاك.
(4) ويسوق الصدقة. وهي الصداق قال الله تعالى: {(وَآتُوا النِّسََاءَ صَدُقََاتِهِنَّ نِحْلَةً)} (2) فحسنت الاستعارة وتمكنت.
(5) الأصل في قولهم: لا أبا لك ولا أم لك: نفي أن يكون له أب حر وأم حرّة. وهو من الأقراف والهجنة المذمومين عندهم.
__________
(1) سورة المزمل، الآية 6.
(2) سورة النساء، الآية 4.(1/162)
هي الصّدقة تصيب بها عباده (1) الّذين إنما استقرضك من أجلهم.
ونبهك بذلك على نباهة فضلهم. وتعمد بها المتعفّفين. ولا ترزأ نصيب المتكففين (2). لا تمنع خيرك لأنّه نذر. ولا درّك لأنّه مزر (3). فربما تناولت المعترّ بالحفنه. وأنت أفضل من القاري في الجفنة. وربّما رضخت اليتيم بالقيراط وأطعمته الفدره (4). وأنت أكرم ممّن عقر وممّن سبق البدره. المتصدّق لوجه الله بقطمير.
فوق المتخرّق (5) لأعين الناس بقناطير. وعجّل ما تهب فإنّ ما عجلت وإن قل. خير ممّا أجلت وإن جل.
عباده الذين استقرضك من أجلهم: هم الفقراء. وهو دليل على فضل الفقر والفقراء.
(2) المتكفف: الذي يبسط كفه للسؤال. أو الذي يطلب بكف به حاجته. ومنه قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسعد: (ولإن تدع أولادك أغنياء خير من أن تدعهم عالّة يتكففون الناس).
(3) المزر: من قولك تمزرت الشراب إذا شربته قليلا قليلا، وقال النابغة الجعدي:
«تمزرتها والديك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فيصوتوا»
ومنه المزر من الأشربة لأنه يتمزر.
(4) الفدرة: القطعة من اللحم.
(5) يقال: تخرق بالنوال إذا أكثر منه. كأن يده تخرقت فتساقط اللحم منها. وفي شعر الطائي:
«منخرق الكفين بالعطاء ... مكيث سطو الجانبين متئد».(1/163)
«منخرق الكفين بالعطاء ... مكيث سطو الجانبين متئد».
مقامة الشكر
مقامة الشكر يا أبا القاسم نعم الله عليك لا تحصر ولا تحصى. ومن يقدر على حصر الرّمل وإحصاء الحصى. وإن أخذت في أصغرها حجما وأخصرها (1). وأضيقها باعا وأقصرها. برد فهمك الوقّاد وخصر.
ووقف لسانك الوقاع (2) وحصر على أنّ وصف شيء منها بالصّغر كنود (3). واستقلاله انحراف عن الواجب وعنود. فكّر في النفس الواحد وبلة اللهاة بالرّيق. تعرف الخطأ في صفته بالقلة والضّيق.
رقاك عزّت قدرته إلى صلب طاهر. وترائب أم لم تكن بعاهر.
ثمّ حطك إلى رحم نقيه. وأجنك في بطن أم تقية. ثمّ أطلعك حيوانا سويّ الأطراف. وإنسانا سليم الجوارح والأعطاف. ذا سمع قولهم هو أخصر منه: بمعنى أشد اختصارا فيه خروجان عن القياس. بناؤه من الزائد على ثلاثة. وبناؤه من المفعول.
(2) الوقاع: الذي يقع في كل شعب من شعاب الكلام.
(3) كند النعمة: كنودا مثل كفرها كفورا. وسمي كندة لأنه كند أباه ففارقه وهو ثور بن عري بن مرة بن أد.(1/164)
وبصر وفؤاد. ذا نور بصّاص (1) في سواد. وهو نور البصر في سواد ناظريك. ونور البصيرة في سواد (2) أحد أصغريك. وأنزلك في سعة (2) المضطرب بعد الأرهاق. (4) وأعدّ لك قبل ذاك أهناء الأنزال والأرزاق. وقيض لك على حين ضعفك وقرب عهدك.
واستلقائك عاجز النهض (5) على مهدك. رطب العظام رخو يقال: بص بصيصا، ووبص وبيصا: إذا برق. وما وجدنا في ملتكم وابصة واستعير فقيل سألت فلانا فما بص لي شيء وما وبص لي.
(2) في سواد أحد أصغريك: أراد في سواد قلبك. من قول شقة بن ضمرة للنعمان حين وفد عليه فاقتحمته عينه فقال النعمان:
ان تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. فقال: شقة أبيت اللعن أن الرجال ليسوا يحرز ذمتهم الأجسام إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، إن قال قال بلسان وان صال صال بجنان فسماه ضمرة بن ضمرة تشبيها بأبيه في فصاحته وعقله.
(3) في سعة: المضطرب في فسحة الدنيا.
(4) بعد الارهاق: بعد التضييق في بطن الأم. وأهناء الانزال:
اللبن
(5) عاجز النهض، عاجزا نهضك: جعل النهض عاجزا من الاسناد المجازي أو عاجزا في النهض، كقولك ثابت العذر وهو من قول الخطيئة:
«لرعب كأفراخ القطارات خلفها ... على عاجزات النهض ممر حواصله»
المفاصل. كأنّك أزيغب من حمر الحواصل. مهيمنة (1) ترأف بك وترحمك. وترفرف عليك وترأمك (2). وتظأرك وتحضنك.(1/165)
«لرعب كأفراخ القطارات خلفها ... على عاجزات النهض ممر حواصله»
المفاصل. كأنّك أزيغب من حمر الحواصل. مهيمنة (1) ترأف بك وترحمك. وترفرف عليك وترأمك (2). وتظأرك وتحضنك.
وتصونك ممّا يؤذيك وتحصّنك. تضعك على لبانها (3). وترضعك بلبانها. وتؤنسك بالمناغاة إذا استوحشت. وتصمّتك بالتّعليل إذا أجهشت. ولمّا طفق يرشّحك لإصابة الطيّبات الّتي يرزقك.
وأنشأ ينشئك للتوصل إلى غرائب حكم يسددك لها ويوفقك.
جعل أسنانك في مغارزها مركبه. وصيرها على مراتب الحكمة مرتبة. ودبر في فيك للأصوات مدارج. وللحروف (4) المبسوطة مخارج. وأطلق لسانك فتكلمت. وعلمك طرق البيان فتعلمت.
ولقنك الشّهادتين. وحفظك ما بين الدفتين (5). وهداك النجدين (6).
مهيمنة: حاضنة مشفقة. من هيمن الطائر إذا رفف على بيضه.
(2) رئمه ورحمه أخوان.
(3) اللبان (بالفتح) الصدر. (وبالكسر) جمع لبن. وقيل:
هي الملابنة بمعنى المراضعة. في قولهم هو آخره بلبان أمه.
(4) الحروف المبسوطة: حروف المعجم قبل ان تركب فإن ركبت فهي كلم. فإذا ركبت الكلم تركيبا مخصوصا فهي كلام.
(5) ما بين الدفتين: يعني القرآن. والدفتان دفتا المصحف وهما الصدفتان المنطبقتان عليه من جلده. وكانتا تعملان من خشب مغشى بالجلد.
(6) وهداك النجدين: علمك طريق الخير والشر.(1/166)
وألقى اليك الصّفتين. فوصف لك ما تؤدّي منهما إلى النّجاة مسالكه. وعرّف لك ما لا تؤمن بوائقه ومهالكه. لئلّا تقع في أعقال الباطل ومجاهله. ولتنصبّ إلى شرائع الحقّ ومناهله. ثمّ خوّلك من جزالة الفضل ما حلق (1) على هام أمانيك. ولم تطمح اليه ظنون عشيرتك وأدانيك. ورفع لك في ذلك صيتا (2) صيّتا.
وحسن ذكر يضمن لك الحياة ميّتا. ثمّ أوسعك تقلبا في الجناب الأخضر. وافتراشا للمهاد الأوثر. من العيش الرّافغ (3). والبال الفارغ. والمشرب الرّافه. والمركب الفاره. والمنظر المرموق. والمسكن الموموق. والدّار ذات الزّخارف والزّفارف. والحديقة ذات الأكل والظلّ الوارف. والقنية المغنية. والغنية المقنيه (4). إنما أولاك ما أولاك لتنظر في وجوه نعمائه مفكّرا. وتتوفر على محامده متشكّرا.
حلق على هام أمانيك: نوع من المجاز لا تراه إلا في كلام من هو من البلاغة بالمنظر الأعلى. كما حكي عن النابغة أنه استأذن على النعمان. فقال له الحاجب أن الملك على شرابه، فقال النابغة: «فهو وقت الملق يقبله الأفئدة وهي جذلى للرحيق والسماع فإن تبلج فلق المجد عن غرة مواهبه فأنت قسيم ما أفدت).
(2) صيتا صيتا: ذكرا طنانا.
(3) الرافغ والرافه: الواسع. وفلان في رفاغة من العيش ورفاهة.
والرفه في الوردان يشرب متى شاء.
(4) المرضية. ومنه حديث عبد الله (الاثم ما حك في قلبك أفتاك الناس واقنوك).(1/167)
فخالفت عمّا أرادك عليه. ونبذت ما أهاب بك اليه. مخلدا إلى الشيطان ونزغاته، مقبلا على الشّباب ونزقاته. مائلا على الطّيش ونزواته.
موغلا (1) في التّصابي ونشواته. تسدّ مسامعك دون من يتنصّح.
وتودّ لو رمي بعيّ فلا يتفصّح. يكاد يزيدك (2) على الشرّ إغراء.
وعلى ارتكابه إضراء. ولقد فعلت ما فعلت ممّا هو الخبير بخباياه.
والمطلع على خفاياه. وهو يرخي على معايبك سترا لا يشف (3) جافيا (4) ويسبل على مثالبك ذيلا لا يصف (5) ضافيا. ويحامي عليك أوغل في المفازة وتوغل فيها: إذا أمعن ثم استعمل في كل إمعان.
(2) يزيدك على الشر اغراء من قول أبي نواس:
«دع عنك لومي فإن اللوم إغراء»
(3) شف الستر: حتى رق ورؤي ما وراءه. وشيء شفاف.
ويقال: شف عليه ثوبه شفوفا وشفيفا واستشففت ما وراءه بصرته.
وفي شعر ابن الرومي:
«تنفذ العين فيه حتى تراها ... أخطأته من رقة المستشف
كهواء بلا هباء مشوب ... بضياء أرفق بذاك واصف»
(4) جافيا: ثخينا.
(5) لا يصف: لا يعلم ما وراءه. لأنه إذا علم حجم الأعضاء تحته لرقته والتصاقه باللابس. فكأنه يصفه وهو في حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (عليكم بجفاء الحقو فإنه لا يصف).(1/168)
ممّا يشوّر بك ويفضحك. ويشوّهك عند النّاس ويقبّحك.
كلما ازددت بلؤمك غمصا لأياديه وكفرانا. زادك بكرمه الواسع طولا وإحسانا. هذا إلى أن بلغت الأربعين أو نيفت (1) عليها وهي الثنية التي على الأريب العاقل إذا شارفها أن يرعوي. وعلى اللّبيب الفاضل إذا أناف عليها أن يستوي. فكان أقرب شيء منك التواؤك.
وأبعد شيء عنك استواؤك. فلم يشأ لكرمه خذلانك. وأن يخليّك وشانك. بل شاء أن يسوق نحوك النّعمة بكمالها وتمامها. وأن يحدوها ويهديها اليك من خلفها وأمامها. فأذاقك (2) من بلائه مسة خفيفة إلّا أنها طحنت يا مسكين متنك وصلبك. وكبست شدائدها صدرك وقلبك. وداستك وعركتك بالرّجل واليد. ووطئتك وطأ (3) المقيد. فكانت لعمري زجرة أعقبتك من رقاد الغفلة يقظه. وصبت في أذنيك أنفع نصيحة وأنجع موعظه. وقذفت في قلبك روعة خفقت منها أحشاؤك. وكاد ينقطع أبهرك (4) وتنشق مريطاؤك (5).
نيف على الأربعين وورف عليها: زاد عليها. وهو من الإنافة.
(2) فأذاقك من بلائه مسة خفيفة: يريد المنذرة.
(3) وطاء المقيد: مثل في الثقل والرزانة وفي أبيات الحماسة:
«ووطئتنا وطء على حنق ... وطاء المقيد نابت الهدم»
(4) الابهر عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام (ما زالت أكلة خيبر تعادني فهذا أوان قطعت ابهري).
(5) المريطاء: جلدة رقيقة في الجوف. ومنه قول عمر رضي
فلم يكن لك بد من أن تعوذ بحقوي الإنابة والأرعواء. وأن تلوذ بركني الإلتجاء اليه والإنضواء. فأفرغ عليك ذنوبا من رحمته.(1/169)
(5) المريطاء: جلدة رقيقة في الجوف. ومنه قول عمر رضي
فلم يكن لك بد من أن تعوذ بحقوي الإنابة والأرعواء. وأن تلوذ بركني الإلتجاء اليه والإنضواء. فأفرغ عليك ذنوبا من رحمته.
وأعفاك من التّعريض لمغافصة نقمته. ومنّ عليك بمسحة لضرّك.
وأحظاك بفسحة في أمرك. وبصرك ما حقيقة شأنك وفهمك.
وأخطر ببالك ما يصلحك وألهمك. وأخذ إلى المراشد بيدك. وجرّك حاثّا لك من مقودك. وتابع عليك ألطافه الزّائدة في إيقانك.
الشادّة لأعضاد إيمانك. فبشكر أية نعمة تنهض أيها العبد العاجز.
هيهات قد حجزت دون ذلك الحواجز.
الله تعالى عنه لأبي محذورة حين أذن فرفع صوته (أما خشيت يا أبا محذورة أن تنشقّ مريطاؤك).(1/170)
مقامة الاسوة
مقامة الاسوة يا أبا القاسم لله عباد رهنوا (1) بحقّ الله ذممهم. وعقدوا بابتغاء رضوانه هممهم. وصيروا نفوسهم حبسا (2) على المجاهدة بها في سبيله. وسيروها ذللا في أزمة التقوى على آثار دليله (3). لها من يقينهم هاد لا يضل. ومن جدّهم حاد لا يمل. شدّة مراسهم في ذات الله تقضب الأمراس. (4) وصلابة معاجمهم في الدّين تنبي رهنوا بحق الله ذممهم. من باب التمثيل. ومعناه: ضمنوا قضاء حق الله وجعلوا ذممهم رهائن بذلك. ومنه قول علي رضي الله عنه (ذمتي رهينة وانا به زعيم).
(2) الحبس: جمع حبيس من قولك: احبس فرسا في سبيل الله. وحبسه إذا وقفه، وإنما جاز جمعه على فعل. وهو فعيل بمعنى مفعول. لأنه جرى مجرى الأسماء فأشبه سبيلا وسبلا.
(3) الضمير في دليله للسبيل أو لله تعالى. وأراد بالدليل الرسول أو الكتاب شبه بالدليل في المفازة لما ذكر السبيل.
(4) الامراس: جمع مرس. وهو الحبل. شبهوا في جدهم وتصلبهم بالصعاب من الخيل أو الابل التي تقطع الحبال.(1/171)
الأضراس. هينون لينون غير أن لا هوادة في الحقّ ولا إدهان.
بله سوى أنّ غوصهم على الحقائق يعمر الألباب والأذهان. مستمرون على وتيرة (1) لا تخاف حراناتهم (2). ثقاة لا تعرف النكث عهودهم وأماناتهم. كلما تبرّجت (3) لهم الدنيا وتزينت بأبهج زينتها. وتحلت بأبهى حليتها. مفتخرة بوشيها. متبخترة في مشيها. خطارة بيديها متثنّية. بأمّ السرور متكنّيه. غضّوا دون رؤيتها أجفانهم. وضربوا على اللبات أذقانهم. لم يذهب عليهم أنها أمّ الغرور. لا أمّ السرور.
وأنها إذا تبخترت حيرت. وإذا خطرت أخطرت. ومتى برزت متبرّجه. تركت الأحشاء متضرّجه. ومتى تزينت وتحلت. تبينت شرورها وتجلت. وعاذوا بالله من لبسها المخشي. تحت لبسها الموشي. فإن خاطبتهم بكلمة في معناها استبشعوها. ومرّوا عليها متصامّين كأن لم يسمعوها. وذهبوا عن حديثها وهربوا. وهضبوا (4) الوتيرة: الطريقة المستقيمة. يقال: ما زال على وتيرة واحدة من أمره، وبيوتهم على وتيرة واحدة أي على صف واحد. وهي فعيلة من الوتر الفرد.
(2) الحران في الخيل: كالحلاء في الابل، وجمعه بالألف والتاء.
كما قيل بوانات جمع بوان.
(3) تبرجت: أظهرت محاسنها. ومنه البارج السفينة التي لا غطاء عليها.
(4) هضبوا في الحديث: أفاضوا فيه.(1/172)
في حديث الآخرة فأسهبوا. ورأيت عيونهم عند ذلك مغرورقة (1).
وأناسيها في فيض شؤنهم غرقة. تصوّرا لأهوالها كأنّ المتوقع منها واقع. وكأنّ أجلها ثابت لديهم ناقع (2). تكاد تقرأ من سحناتهم (3). أنهم نسّاؤن لحسناتهم. ملقون بين أعينهم السيّئات وجزاءها. لا تبرح ممثلة لها ماثلة إزاءها. لأنفسهم يمهدون فيسهدون.
ولمنجاتهم يجتهدون فيتهجدون. بين جنوبهم أنفس السعداء. وفي صدورهم تنفس الصّعداء. أولئك الّذين من تشبه بهم فقد فاز اغرورق: افعوعل من الغرق. كاحلولى من الحلاوة. وهذا البناء بناء المبالغة.
(2) ناقع: ثابت، ومنه استنقع الماء إذا ثبت في مكانه.
(3) السحنة: الهيئة. والسحناء مثلها. وعن الفراء بفتح الفاء والعين كالسحنة سواء لا فرق بينهما إلا اختلاف حرف التأنيث.
وكذلك التأداء للأمة. وأنكر ذلك أبو عبيد وما ذكر سيبويه على فعلاء بفتحتين الاجنفاء في اسم مكان الصّعداء صفة كالنفساء والعشراء.
ومنه قوله:
«وإنّ سياسة الأقوام فاعلم ... لها صعداء مطلعها طويل»
أي ثنية متصاعدة. ومنه قول الأصمعي: الصعداء النفس. إلى فوق ونظيرتها في الصفات امرأة طلعة. أعني أنها فيما أنث بالتاء نظيرة تلك فيما أنث بالألف.(1/173)
وسعد. وفرع (1) ذؤابة العزّ وصعد. فاستوفق الله يهدك لذلك الطريق. ويجعلك رفيق ذلك الفريق.
فرعه، ومنه جبل فارع. إذا كان أطول مما يليه. وسميت المرأة فارعة. ويقال: فرعت رأسه بالعصا. وتفرع القوم كبهم وشتمهم.(1/174)
مقامة النصح
مقامة النصح يا أبا القاسم العجب منك تعمل أعمال الأشرار. وتأمل آمال الأبرار. هكذا أهل الغفلة وأحوالهم المتشاخسه. (1) وأفعالهم المتشاكسه. حقك لو فطنت لما أنت عليه أيها الجامد البائس. والقنوط اليائس. ستعلم عند معايرة (2) الأعمال ومثاقيلها. والموازنة بين خفيفها وثقيلها. أنّ عملك من الخافية في مهبّ الريح أخف.
ومن لا شيء في العدد أطف. أطمع من أشعب. (3) وأحمق من تيس (4) أشعب من يعمل ما يوجب عقوبة قارون. لم يأمل مثوبة موسى وهارون، لو تأملت حقّ تأملّ لقلّ تأميلك. ولم يكثر تشاخس الأسنان: ان يختلف نبتها. وكذلك غير الأسنان.
يقال: تشاخس القوم: افترقوا، وتباينوا. وضرب على رأسه فتشاخس قحفه فرقتين، وتشاخس بين القوم: فسد واختلف.
(2) عاير المكاييل: قايس بينها حتى يعرف وافيها من ناقصها.
(3) أشعب الطماع: رجل من أهل المدينة مضروب به المثل، وقد ذكرت بعض نوادره في المستقصى في أمثال العرب.
(4) والتيس: الأشعب المتباعد ما بين القرنين، ومن الخيل المتباعد ما بين الرجلين.(1/175)
تحاملك على نفسك وتحميلك. لا تزال تتحامل عليها وتحمّلها ثقال الخطيئات والأوزار. إلّا أنّك إذا استحملت الطّاعة قلت ضعيف لا يقوى على هذه الأوقار. فأنت عاصيا أقوى (1) قوّة من الفيل. ومحمولا على الطّاعة أضعف من رأي الفيل (2). وإن سبقت منك صالحة في النّدرة (3) شيّعتها بما يحبطها. وإن صعدت لك كلمة طيّبة أبردت (4) وراءها ما يهبطها. فأنت بمنزلة من يلد.
ثمّ يئد. وبمثابة من يصل. ثم يستأصل. كم من نصيحة نصحت بها فلم يوجد لك قلب واع. ولا سمع راع. كأنّ أذنك بعض الأقماع. وليست من جنس الأسماع. وكم من عظة ضرب بها وجهك فوجدتها أبرد من جمد. ووجدتك أقسى من جلمد.
أقوى قوة: من باب جدّ جده.
(2) الفيل الضعيف الرأي. قال:
«بني ربّ الجواد فلا تفيلوا ... فما أنتم فنعذركم بفيل»
(3) يقال لقيته في الندرة وفي الندرى، إذا لقيته بين الأيام وهي من الشيء النادر الخارج عن الألف. والعادة مصدر منه. بمعنى:
لقيته في الحال ذات الندرة يريد في الحال الخارجة عن العادة وهو عدم اللقاء بيني وبينه. والندرى إما مصدر كالندرة، وإما صفة للحال، بمعنى لقيته في الحال الندرى. كقولك: ناقة.
(4) ابردت: أرسلت من البريد، وهو الرسول المستعجل. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إذا أبردتم إليّ بريدا فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم). وقال: (رأيت للموت بريدا مبردا).(1/176)
لم تعتصر من جبينك رشحة من حياء. ولا من وجنتك قطرة من ماءه على أن الحجر الصّلد قد يبض. والصّخرة الصّماء ربما تنض (1).
لا حيا الله مثل هذا الوجه الصّفيق. الخذلان أحق بحامله من التوفيق.
نض الماء نضيضا ونص نصيصا. وهو الرشح القليل. وفي المثل ما تنض صفاته. يضرب للبخيل.(1/177)
مقامة المراقبة
مقامة المراقبة يا أبا القاسم ما أنت وإن خلوت وحدك بفريد. معك من هو أقرب اليك من حبل (1) الوريد. وجنابتيك (2) حفيظان يتلقيان (3).
لا يغفلان ولا ينتقيان. وما يدريك ما لم تنظر بعيني الفطنة والعقل.
أنك رميت بخصم (4) ألدّ وشاهدي (5) عدل. إستكف لصحة الحبل شبه بواحد الحبال. الا ترى إلى قوله: «كأن وريديه رشاء خلب». واضافته إلى الوريد لبيان النوع. كقولهم: بعير كذا.
والوريدان: العرقان المكتنفان لصفحتي العنق المتصلان بالوتين وهو مثل في القرب. قال الله تعالى: {(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)} (1)
قال ذو الرمة: (والموت أدنى لي من الوريد) وقرب الله مجاز عن تعلقه بالمعلوم، وأنه لا يخفى عليه أينما كان.
(2) يقال: مروهم يستروا حفافيه وجنابتيه بكسر الجيم بمعنى جنبتيه وناحيتيه.
(3) يتلقيان من قوله تعالى: {(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيََانِ)} (2) والتلقي والتلقن والتلقف واحد. ولا ينتقيان ولا يستنقيان. ومنه المثل لا ينفعك من زاد ينتقى. وقال ذو الرمة:
«وأدرك المنتقى من يمينه ... ومن شمائلها واستثنى الغرب»
(4) الخصم الالد من قوله تعالى: {(وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصََامِ).} (3)
(5) وشاهدي عدل: يريد الحفيظين.
__________
(1) سورة ق، الآية 16.
(2) سورة ق، الآية 17.
(3) سورة البقرة، الآية 204.(1/178)
إيمانك ومعتقدك. وطمأنينة اليقين في خلدك. وما أوتيت من فضل مبين. ورأي (1) ليس بغبين. وبصيرة كالكوكب الثاقب.
في الغيهب (2) الواقب (3). وهمة علية المرقى قصية المرمى وعزّة نفس لا تستخذي (4) للحمل على الدّنيه. وإن افترشت ذراعيها على صدرها المنيه. (5) أن تراقب عند مقارنة الرّيبة أقلّ الناس وأدونهم.
وأذل الخلق وأهونهم. وأعجزهم عن التمرس (6) بك. وأبعدهم عن التعرض لك. وآمنهم جاشا أن ينم بسرك. أو يهمّ بهتك سترك.
وإن كان صبيّا في حدّ الطفولة دارجا. (7) أو مصابا عن حيّز التّمييز الرأي الغبين: الضعيف. يقال: غبين الرأي. وحكى الكسائي: «غبن رأيه». وقالوا: الغبن في الرأي بالفتح والغبن في البيع. وفي نوابغ الكلم الغبن في المشترى أهون من الغبن فيما ترى.
(2) الغيهب: الظلام. وليل غيهب: مظلم.
(3) والواقب الداخل في كل شيء من قوله تعالى: {(وَمِنْ شَرِّ غََاسِقٍ إِذََا وَقَبَ)}.
(4) استخذى له: إذا خضع ولان. ومن الخذاء في الأذن.
وفرس خذواء. وعن أبي زيد قلت لأعرابي: «كيف تقول استخذيت أم استخذأت؟ فقال: إن العرب لا تستخذي.
(5) استعار للمنية صفة السبع، فجعل لها ذراعين وجعلها مفترشة لهما.
(6) أتمرس به: إذا تخلل.
(7) درج الصبي والشيخ درجانا. وهو مشي ضعيف. ومنه الدراجة. وقال: «أم صبى قد حبا أو دارج» وفي المثل: «اكذب
خارجا. ما بك إلّا الحياء والتشوّر من محضره. واستقباح مواقعة المحظور أمام نظره. فأنت تبالغ في الإحتجاب منه والإحتجاز. (1)(1/179)
(7) درج الصبي والشيخ درجانا. وهو مشي ضعيف. ومنه الدراجة. وقال: «أم صبى قد حبا أو دارج» وفي المثل: «اكذب
خارجا. ما بك إلّا الحياء والتشوّر من محضره. واستقباح مواقعة المحظور أمام نظره. فأنت تبالغ في الإحتجاب منه والإحتجاز. (1)
ولا تبالغ في الإحتراس والإحتراز. ولا تألو مبالاة بتظنّيه (2) أن يتسلق إلى عوارك. ومحاذرة من حدسه أن يتجانف للإطّلاع على شوارك. ثمّ لا تراقب الله ومعقّباته (3). وما أعد للمجرمين من معاقباته. أليس الملك الحافظ أحق بتحفظك. والملكان الحفيظان لتنفسك وتلفظك. وهب أنّ أحدا من الملائكة والثقلين (4) لا يراك. وأنّ الله قد غطاك منهم بستره ووراك. أليس هو وحده أجلّ من الخلائق وأعلى. واخلق بأن يستحيى منه واولى. ما كل ما خلق إلّا حفنة من حفناته. وأرزاقهم في أصغر جفنة من جفناته. فمن هم إن تبصرت يا غافل جلالته الّتي البصائر دونها حيرى. وكبرياءه الّتي الأذهان عن كنهها حسرى. ويحك أيها من دبّ ودرج» أي دبّ لصغره ودرج لكبره. وقيل: «من دبّ على الأرض ومات».
(1) احتجزه مطاوع: حجز إذا منعه. يقال: احتجز عن كذا.
(2) التظني: مثل التقضي. في إبدال يائه من إحدى حروف التضعيف.
(3) المعقبات: ملائكة الليل والنهار: ويعتقب في حفظه ويعقب بعضها بعضا من عقبه بمعنى لقاه.
(4) الثقلان: الانس والجن، لأنهما ثقلا الأرض ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي). شبههما بالثقلين لأن الدين يعمر بهما كما تعمر الأرض بالثقلين.(1/180)
الخاسر البائر. الذي انقضت (1) ظهره الكبائر. تب اليه ولا تبال إلّا به وبعظمة شانه. ولا تهب إلّا عزّته وجلالة سلطانه. فهو الكبير وما خلاه اليه حقير. وهو الغني وكلهم اليه فقير.
إذا كنت فردا لا بمرأى ومسمع
من الناس فاحذر منشىء السمع والبصر
ولا ترتكب ما لو دراه ابن آدم
لبرقع خدّيك التشوّر والخفر
مساويك تخفيها حذارا من الورى
أليس إله الخلق أخلق بالحذر
بلى فتصوّن في خلائك فوق ما
تصوّنت قدما بين ظهراني البشر
وكن رجلا ما سرّ ما هو معلن
من الخير إلّا دون ما سرّ ما اسر
فما قصبات المخلصين محوزة
بمثل خفيّات يصغّرن ما ظهر
أنقضته: حملته على النقيض. وهو الصرير. لثقلها وانقضت الفروجة إذا ركب في صوتها انقاض: الدجاجة بصوتها إذا باضت.
وكذلك انقاض الرجل ونحوه. وقال:
«وحزن ينقض الأضلاع منه ... مقيم في الجوانح لن يزولا»
فانقض إذا متعد، وغير متعد. بمثل خفيان. يريد أنه لا يبلغ أحد حدّ الاخلاص بشيء من الطاعات الخفية ونحوه قوله تعالى:
{(وَلََا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)} (1) أي: لا يخبرك مخبر يماثل الخبير في صحة خبره.
__________
(1) سورة فاطر، الآية 14.(1/181)
مقامة الموت
مقامة الموت يا أبا القاسم لقد صحبت طويلا (1) رجالات (2) قومك. وكأنّك رأيت خيالات في نومك. تلقطتهم أيدي المنون فرادى (3) ومثنى.
وكأنّهم لم يتديروا (4) دارا ولم يغنوا بمغنى. خربت أعمارهم بعد ما عمروا عمّارا. وأصبحوا أسمارا بعد ما كانوا سمارا. أين جدّك طويلا: زمانا طويلا. ونحوه قديما وحديثا و «قريبا ذاقوا وبال أمرهم».
(2) الرجالات: خاص بأولى الشرف. يقال: رجالات قريش لأشرافهم وكبرائهم. ونحوه: بيوتات. يقال: فلان من أهل البيوتات.
(3) فرادى ومثنى من الاعداد المعدولة. ومنعها الصرف بعدلين وهما العدل من الصيغة والعدل من التكرير.
(4) تدير المكان: اتخذه دارا. ووزنه تفعيل ولو كان تفعل لقيل تدور لأن عين الدار واو.(1/182)
بعد ما حلب (1) أشطر الزّمان. وجمع هنيدة (2) نصر بن دهمان.
وكلّ من نفّس له وعمّر. أدركه سنان الموت فدمّر. لا فصل حلب الدهر اشطره: مثل في الرجل المنجد الذي مارس الأمور وذاق أحوال الدهر وخبرها. مثل الدهر بالحلوب وجعل كأنه حلب جميع أخلافها الأربعة القادمين والآخرين لم يترك منها. والمعنى حلب شطرى أخلافه وزاد حلب شطر ثالث وذلك ما لا يكون ولكن قصدت المبالغة في استقصاء الحلب ونحوه ما يروى عن ابن جريج أنه سئل: «كم قيظكم بمكة» فقال: ثلاثة عشر شهرا. أراد السنة كلها قيظ وزيادة، وجمع هنيدة نصر بن دهمان بمعنى وعاش مائة سنة وهو مقتبس من قول الشاعر:
«ونصر بن دهمان الهنيدة عاشها ... وخمسين عاما ثم قوم فانصاتا
وعاد سواد الرأس بعد بياضه ... وعاوده شرخ الشباب الذي فاتا
وراجع علما بعد جهل وحكمة ... ولكنه من بعد ذا كله ماتا»
(2) وهنيدة اسم للمائة من الابل، كما أن امامة اسم للثمانين منها.
فاستعارها للمائة من السنين وهي الاستعارة اللفظية كالشفر والمشفر للشفة في ثغر الثورة المتضاجم «ولكن زنجى غليظ المشافر». ويترع من سقية الصغار أو ليست من التي ينتحيها البلغاء. وهما علمان قال جرير:
«أعطوا هنيدة تحدوها ثمانية ... ما في عطائهم منّ ولا سرف»
وقال الأعشى:
«فمر وأعطاني الجزيل وزادني ... أمامة تحدوها إليّ حداتها»
وقد يقال الهنيدة والامامة.(1/183)
إذا احتضر. (1) بينه وبين من اختضر. (2) سيان عند الموت شيخ القوم وشرخها (3). وشكلان عنده قشعم (4) الطير وفرخها.
لا يتخطى محدّثا (5) ليعرّج على معمر. ولا يحترم محدثا فيخترم دونه المغمر. بل يسوقهما بسوط واحد إلى مدى. ويسبق بهما معا إلى قصبة الرّدى. كأنّك لم تتقلب في حجره تقلبا. ولم تتخذ منكبه مركبا. ولا عهدت على لبانه تلعب (6). ولا شهدت أمامه احتضر الرجل: احتضرته شدائد الدهر.
(2) ويقال: اختضر إذا اختضرته الواردة. قال جرير:
«نحن اختضرنا حياض الورد قبلكم ... والمجد قبل لئام الناس مختضر»
واختضر: مات شابا كالغصن يقطع أخضر. وفي نوابغ الكلم:
«كل حي يحتضر فطوبى لمن يختضر».
(3) الشرخ: عنوان الشاب. قال حسان:
«إنّ شرخ الشباب والشعر الاس ... ود ما لم يعاص كان جنونا»
ثم يقال للمقتبل: هو شرخ قومه. وهو من شرخهم. ويقال:
هذا شرخي، وأنا شرخه: بمعنى القرن. وقيل: الشرخ بمعنى شارخ، من قولك غلام شارخ.
(4) القشعم: المسن من النسور، وكنيت الموت بأم قشعم لوقوع النسور على القتلى.
(5) المحدث: الصادق الحدس. كأنما يحدث بالكائن قبل كونه.
قال أوس بن حجر في فضالة بن كلدة:
«نجيح مليح أخو ما قط ... نقاب يحدث بالغائب»
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم (انّ في كلّ أمة محدثين وإن عمر منهم). كما قال: (إنّ السكينة تنطق عن لسان عمر).
(6) لعب الصبي، يلعب إذا سال لعابه.(1/184)
تلعب. ولا اتفق لك إلى مجلسه رواح ولا غدو. ولا بين يديه للإستفادة جثو. وأين من انتضيت من صلبه. ثمّ أغمدك الهوى في قلبه (1). فكنت أخصّ بفؤاده من سواده. لفرط مقته لك ووداده. أباك وأبي إلّا كلّ خير لك وفيك. وربّاك وحباك ما قدر عليه من مباغيك. ورشّحك لما أصلحك ترشيحا.
ورقّح (2) لك ما عشت به ترقيحا. ونقّح عودك من العقد تنقيحا. ولقّح ذهنك بالعلم والأدب تلقيحا. إختلسه (3) الحمام قبل أن يخلس عارضه. وهيّج قبل أن يهيج بارضه (4).
وأين من عشيرتك كل معمّ (5) مخول. قلّب (6) حوّل.
من بديع الكلام الذي لا يكاد يعثر على مثله: «يريد ابن الذي كنت نطفة في صلبه». وانتضاك الله منه ثم حباك ما تحت قلبه لك غمدا فكأنما انتقلت من صلبه إلى قلبه.
(2) الترقيح: الكسب والاصلاح، قال الحارث بن حلزة:
«يترك ما رقح من عيشه ... يعبث فيه همج هامج»
(3) يقال: شعر مخلس وخليس، إذا اختلط بياضه بسواده وكذلك النبات المختلط هائجه بأخضره كأنه الذي استولى عليه اللونان فهما يتخالسانه.
(4) البارض: أول ما يطلع من البهمى قبل ان يطول. وهاج إذا يبس وهو مجاز عن شيبه، وأنه لم يبلغ أو ان الشيب.
(5) المعم المخول: الذي جعل له أعمام وأخوال.
(6) القلب الحول: المتصرف في الأمور. المحتال. وهكذا كان معاوية بن أبي سفيان قال لبناته عند موته: «إنكنّ لتقلبن قلبا إن نجا
مخلط (1) مزيل (2). مبرم نقّاض عند مزاولة الخطوب.(1/185)
(6) القلب الحول: المتصرف في الأمور. المحتال. وهكذا كان معاوية بن أبي سفيان قال لبناته عند موته: «إنكنّ لتقلبن قلبا إن نجا
مخلط (1) مزيل (2). مبرم نقّاض عند مزاولة الخطوب.
خفّاق القدم إذا سعى في كشف الكروب. لين العطف للخلصان (3) من الخلّان. أشوس الطّرف على أولي المقت والشنئان. مزور البيت غير زوّار. مزور عن الفحشاء عف الإزار. تقدّموك فرّاطا إلى ورد لا يصدر عنه وارده. ولا يرش الأكباد بارده. من ورده يبس من الغلّة بليله.
ويئس من البلّة غليله. ما هو إلّا العطش القاتل دون الري.
وإن تطاير إليه الورّاد كالقطا الكدري. وها أنت لأعقابهم واط. وعلى آثارهم خاط. وكأن قد لحقت بهم. فألقيت رشاءك مع أرشيتهم. وملأت سقاءك مع أسقيتهم.
من كية النار». ولقد صدقت لهجته في ذلك فإن الدهاء كل الدهاء أن يعمل الرجل فطنته وشهامته فيما ينجيه من عذاب الله تعالى، فأما البغي على إمام الحق والعقد للفسيق ونحوهما من العظائم فليست من الدهاء والفطنة في شيء. ويقال حولى قلبي للمبالغة.
(1) المخلط: الذي يخلط الأمور ويزيلها أي يفرقها.
(2) المزيل المزاولة الممارسة.
(3) الخلصان: يكون جمع خالص كراكب وركبان، وصاحب وصحبان، وواحدا يقول: هو خلصان فلان، كما تقول هو قربان الملك لمن يختص به، ونظيره الرهبان في كونه جمع راهب على تقدير جمع رهابين.(1/186)
مقامة الفرقان
مقامة الفرقان يا أبا القاسم اجعل كتاب الله نجيّك فنعم النّجي. وإنّك لحري بمناجاته حجي. إن شئت أن يخاصرك إلى منجاتك.
فلا يخلونّ ساعة من مناجاتك. وهو حبل الله المتين. وصراطه المستبين. به أحيى رسوم الشّرع الطّامسه. وجلّى ظلمات الشّرك الدّامسة. نور مستصبح (1) به في ليالي الشّك. سيف (2) سقّاط وراء ضرائب الشّرك. جبل يعصم من اعتصم بمعاقله.
ويقصم ظهر العادل عنه بجنادله. بحر لجي لا تزل تزخر لججه. ذو عباب يروّع التطامه وتموجه. لا يبلغ عابر (3) عبره. ولا غائص قعره. عذب فرات إلّا أنّه مليء بكلّ لؤلؤة يتيمة. قذّاف لكلّ جوهرة كريمه. أين منها ما استصبح به: استضاء واتخذه مصباحا.
(2) سيف سقاط وراء ضرائبه: أي يقطعها حتى يجوزها إلى الأرض.
(3) عبر النهر: شطه. والعبري من السدر النابت على شطوط الأنهار منسوب اليه. وضم العين من تغييرات النسب.(1/187)
غالى به الأكاسرة من الفرائد (1). وما رصّعوا به تيجانهم من وسائط القلائد. كلّ درّة في تقاصير (2) بنات القصور. مقرّة بالتقصير عنها والقصور. إن عدّت عجائب البحار لم تعدّ عجائبه.
وإن حدّت غرائب الأسمار لم تحدّ غرائبه. كلّما ذهبت بفكرك في بلاغته التي حصرت دونها البلغاء. حتى سخرت من فصاحتهم الببغاء (3). ونظرت في سلامة سبكه المستغرب.
وسلاسة مائه المستعذب. ورصانة نظمه المرصّف. ومتانة نسجه المفوّف. وغرابة كنايته (4) ومجازه. وندرة الفريد والفرائد جمع الفريدة، وهي خرزة فصل بها بين ذهب في النظم.
(2) التقصار: قلادة قصيرة. وهي المخنقة التي تطيف بالعنق.
(3) يقال الببغاء والببغا بتشديد الباء والقصر وبإسكانها والمد.
قال أبو الفرج الملقب به.
«فإن كنت بالببغاء قدما ملقبا
فكم لقب بالزور لا الحق يخترص»
(4) الكناية نحو قوله تعالى: {(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمََانِهِمْ ثُمَّ ازْدََادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} (1)). كنى بنفى قبول التوبة عن الموت على الكفر لأن ذلك يردف الموت على الكفر لا محالة. كما يردف طول العنق بعد مهوى القرط والمجاز الذي يسمى استعارة نحو الاشتعال المستعار لانتشار الشيب في الرأس وأخذه منه كل ما أخذ في قوله تعالى {(وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)} (2). والّذي يسمى تمثيلا نحو قوله تعالى: {(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ)} (3) مثلت حاله في الذل والمهانة
__________
(1) سورة آل عمران، الآية 90.
(2) سورة مريم، الآية 4.
(3) سورة القلم الآية، 16.(1/188)
إشباعه (1) وإيجازه (2). وروعة إظهاره (3) وإضماره (4). وبهجة بحال الموسوم على أعز موضع منه.
(1) والاشباع نحو قوله تعالى: {«أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمََاءِ} (1)).
بعد قوله كمثل الذي استوقد نارا حيث ثنى تمثيل المنافق كشفا لحالهم بعد كشف. وكما يجب على البليغ في مظان الاجمال والإيجاز أن يجمل ويوجز، فعليه في مواد التفصيل والإشباع أن يفصل ويشبع. أنشد الجاحظ:
«يرمون بالحطب الطوال وتارة ... وحى الملاحظ خيفة الرقباء»
ونحوه: {«وَمََا يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمََاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمََا يَسْتَوِي الْأَحْيََاءُ وَلَا الْأَمْوََاتُ».} (2)
(2) والإيجاز نحو قوله تعالى: {(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجََاهِلِينَ».} (3) قد جمع الله فيه مكارم الأخلاق على اختصاره ونحو ما ذكرنا في الكشاف في الفواتح من ذكر الأشطار من أجناس الحروف دلالة على أعقابها وغير ذلك من الاختصارات والرموز التي يقفك عليها الاستقراء.
(3) والاظهار نحو قوله تعالى: {(مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللََّهَ لََا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ»} (4) {(مَنْ كََانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلََّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً)} (5) لأن المعنى لا يضيع أجره. وكذلك المعنى من كان يريد العزة فهي لله.
(4) والاضمار. نحو قوله تعالى: (في تسع آيات انتهوا خيرا لكم).
__________
(1) سورة البقرة، الآية 19.
(2) سورة فاطر، الآية 21.
(3) سورة الاعراف، الآية 199.
(4) سورة يوسف، الآية 90.
(5) سورة فاطر، الآية 10.(1/189)
حذفه (1) وتكراره (2). وإصابة تعريفه (3) وتنكيره. وإفادة تقديمه (4) وتأخيره. ودلالة إيضاحه وتصريحه. ودقّة تعريضه (5) وتلويحه. وطلاوة مباديه (6) ومقاطعه وفصوله (7) ووصوله.
وما تناصر فيه من فروع البيان وأصوله. إرتدّ فهمك وغراره والحذف، نحو قوله تعالى: {(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنََّا فِيهََا).} (1)
(2) والتكرار نحو تكرار القصص والذي في سورة الرحمن والمرسلات.
(3) والتعريف والتنكير. نحو قوله تعالى: {(وَلَكُمْ فِي الْقِصََاصِ حَيََاةٌ).} (2)
(4) والتقديم والتأخير: نحو قوله تعالى: {«إِيََّاكَ نَعْبُدُ} (3) {قُلِ اللََّهَ أَعْبُدُ».}
(5) والتعريض نحو ذكر الكافرين في آخر سورة التحريم: (وإنّ النبيين {فَلَمْ يُغْنِيََا عَنْهُمََا مِنَ اللََّهِ شَيْئاً}) تعريضا بحفصة وعائشة.
وقصتهما في أول السورة. ونحو قوله تعالى {«كََانََا يَأْكُلََانِ الطَّعََامَ)} (4).
(6) والمبادي: مفتتحات السور ومقاطعها خواتيمها.
(7) والفصول والوصول: ما في الجمل من توسيط العاطف وتركه.
__________
(1) سورة يوسف، الآية 82.
(2) سورة البقرة، الآية 179.
(3) سورة الفاتحة، الآية 5.
(4) سورة المائدة، الآية 75.(1/190)
كهام. ومدّراره جهام. حيرة في أسلوبه (1) الذي يكاد يسلب بحسنه العاقل فطنته وهو يزيده فطنه. وافتنانه الذي يكاد يفتن الناظر فيه وهو يميط عنه الفتنه. لم يمش إليك وعده المرغّب إلّا واطئا عقبه وعيده المرهّب. قد شفع هذا بذاك إرادة تنشيطك لكسب ما يزلف. وتثبيطك عن اكتساب ما يتلف مع اقتصاص ما أجرى إليه عصاة القرون. وما جرى عليهم من فظائع الشؤون. وما ركب أعداء الله من أوليائه. غير مكترثين لعتوّهم بكبريائه. ردعوهم عن المناكير (2).
فقطّعوهم بالمناشير. ودعوهم إلى أعمال الأبرار. فعرضوهم على السّيف وحرّقوهم بالنار. ثمّ اصطبروا لوجه الله وثبتوا.
وما استكانوا لهم ولا أخبتوا (3). حتّى اشتروا النعيم الخالد في جنّات عدن. ببؤس وطّنوا عليه أنفسهم طرفة عين.
ليريك سوء منقلب المعتدين. ويبصّرك حسن عواقب المهتدين. فحادث (4) لسانك بدراسته حتى ترقّ عذبته.
الأسلوب: الطريق. يقال: أخذ في أساليب من القول.
وأخذ في أسلوب حسن وانف فلان في أسلوب. إذا كان متكبرا ألا يلتفت يمنة ولا يسرة، معناه أنه في وجه واحد وسمت واحد. وسميت الطريقة لامتدادها أسلوبا من قولهم للطويل سلب وسليب وأسلوب.
(2) المناكير: جمع منكر أو منكر من نكر الشيء إذا أنكره.
(3) الاخبات: الخشوع والخبت المطمئن من الأرض.
(4) حادث السيف: تعهده بالصقل. ومنه قول الحسن رحمه الله: (حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور، واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة، فإنكم ألا تقدعوها تنزع بكم).(1/191)
ومرّنه على تلاوته حتى لا تطوع لغيره أسلته. وتعمّده بمتلوّه من اللسن ما ساعدتك عليه المكنه. وترفع له بمخارج الحروف عن ارتضاخ اللكنه (1). واقرأه مرتّلا كالتّرتيل في بعض الأسنان. والتّفليج في نور الأقحوان.
واجتنب ما لا يؤمن في الهذّ (2) والهذرمه. من اللّحن والحضرمه (3). واجتهد أن لا تقرأ إلّا وضميرك مقاود للسانك. وتبينك مساوق لبيانك. لا تمرّ على جملة إلّا عاقدا بمعناها تأملك وتفكّرك. عاكفا على مؤادّها تفهمك وتبصرك. مجيلا في حقيقتها بصيرتك ونظرك. ممتاحا منها مواعظك وعبرك. وإلّا كانت قراءتك راعدة صلفة (4) ليس لها درر. وصدفة فارغة ما في جوفها درر. وأكرم نجيّك هذا فإنّه كريم يستوجب غاية الإكرام. وعظيم ارتضاخ اللكنة: أن يكون في لسانه لكنة يسيرة. وهو من رضخ له شيئا فارتضخه. وعن رؤبة بن العجاج: «ما رأيت أفصح من أبي مسلم من رجل يرتضخ لكنة أعجمية».
(2) الهذ والهذرمة: سرعة القراءة. يقال: هذ ورده وهذرمه.
وفي حديث عمر رضي الله تعالى عنه: (شر السير القحقحة، وشرّ القراءة الهذرمة).
(3) الحضرمة: أن لا يعرب كلامه بكلام أهل حضرموت.
والثاني أن يشبه بكلام أهل الحضر، على زيادة الميم.
(4) الصلفة: التي لا ماء فيها. وفي أمثالهم: «رب صلف تحت الراعدة». ويقال طعام صلف: قليل النزول: وامرأة صلفة: خلاف حظية.(1/192)
يستدعي قصارى الإعظام. فلا تمسّ (1) له إلا على طهرك مسطورا. واحتط أن لا تفرق بين أن يكون مكشوفا أو مستورا.
واحفظ فيه حقّ من إليه انتماؤه. وإلى اسمه إضافته تباركت اسماؤه.
ليس لغير المتطهر أن يمس المصحف مكشوفا أو مستورا. ولو كان في كارة من الثياب عند الشافعي رحمه الله تعالى، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن يمسه مستورا بثوب أو غيره.(1/193)
مقامة النهي عن الهوى
مقامة النهي عن الهوى يا أبا القاسم إنّ الذي خلقك فسوّاك (1). ركّب فيك عقلك وهواك. وهما في سبل الخير والشرّ دليلاك، وفي مراحل الرشد والغيّ نزيلاك (2). أحدهما بصير عالم يسلك بك في البردين (3) المحجّة البيضاء ويرد بك زرق (4) المناهل.
والآخر أعمى جاهل يخبط بك في بيضة (5) الهاجرة البيد فسواك: فجعلك مستوي الخلقة متناسبها غير متفاوتها.
(2) نزيلك: الذي ينزل معك. ويقال للضيف النزيل.
(3) البردان: الغداة، والعشى. وأنشدني الكبير المنتجب أبو علي محمد بن أرسلان لنفسه بيتا لو وقع في شعر المتقدمين لسيرته الرواة وخلدته الأئمة في كتبهم. وكم من أخوات له ضيع بضياع الأدب وقلة النقلة واتضاع الهمم وتراجع الأمور على أعقابها:
«وبرداه مسحوران مثل هجرة ... كأن ليس فيه بكرة وأصيل»
وما أظن البردين وقعا مثل هذا الموقع منذ نطق بهما واضع العربية.
(4) الماء الأزرق الصافي. قال زهير:
«ولمّا وردن الماء زرقا حمامه ... وضعن عصى الحاضر المتخيم»
(5) وبيضة القيظ: وسطه وأشده. في رائية الشماخ:
«طوى ظمئها في بيضة القيظ بعدما
جرى في عنان الشعر بين الأماغر»
ذات المعاطش (1) والمجاهل، فأي دليليك أمهر بالدّلالة وأحذق. وأيهما أجدر بأن يتبع وأخلق. أمن تفوز منه بالهداية وحسن الدّلاله. أم من يفوّز (2) بك في تيه الغيّ والضّلاله. تعلّم (3) أنّه ليس من العدل. أن تستحبّ الهوى على العقل. إنّ جانب العقل أبيض كطرّة (4) الفلق. وجهة الهوى سوداء كجدّة (5) الغسق. إن اتّجه لك أمر فعرضته على نفسك فانظر أيهما إليه المائل. وله القابل. فإن كان العقل فأحربه أن تلتزمه التزام الصّب وتعتلقه. وأن تجعل المعاطش: جمع معطشة.(1/194)
«طوى ظمئها في بيضة القيظ بعدما
جرى في عنان الشعر بين الأماغر»
ذات المعاطش (1) والمجاهل، فأي دليليك أمهر بالدّلالة وأحذق. وأيهما أجدر بأن يتبع وأخلق. أمن تفوز منه بالهداية وحسن الدّلاله. أم من يفوّز (2) بك في تيه الغيّ والضّلاله. تعلّم (3) أنّه ليس من العدل. أن تستحبّ الهوى على العقل. إنّ جانب العقل أبيض كطرّة (4) الفلق. وجهة الهوى سوداء كجدّة (5) الغسق. إن اتّجه لك أمر فعرضته على نفسك فانظر أيهما إليه المائل. وله القابل. فإن كان العقل فأحربه أن تلتزمه التزام الصّب وتعتلقه. وأن تجعل المعاطش: جمع معطشة.
(2) فوزه: أدخله في المفازة. ومنه قولهم فوز إذا هلك لأن المفازة مهلكة. ويقال هوز إذا هلك لنقله بالاستعارة. كما قالوا: عاتقه الله لنقله إلى البناء.
(3) تعلم: بمعنى اعلم. واستعماله في الأمر قد غلب عليه كما غلب على، تعال، قال كعب بن زهير:
«تعلم رسول الله أنك مدركي ... وأنّ وعيد الله كالأخذ باليد»
(4) الطرة: الحاشية. يقال طرة الثوب وكفته وصنفته.
(5) الجدة، الخط في حبل أو على ظهر عير أو غير ذلك. وفي القرآن: {(جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ)} (1) فإن كان العقل في كان ضمير معناه فإن كان أحدهما العقل جعل اليدين وشاحا يكنى به عن العناق.
قال:
«جعلت يديّ وشاحا له ... وبعض الفوارس لا يعتنق»
__________
(1) سورة فاطر، الآية 27.(1/195)
يديك له وشاحا وتعتنقه. وأن لا تخلّى عنه وإن اشتجرت (1) دونه الرّماح. واخترطت بينك وبينه الصّفاح. واعترض الموت الذّعاف (2). وجاء كلّ ما تكره وتعاف. وإن كان الهوى ففرّ منه فرارك من الأسد. واحذره حذارك من الأسود. وإن رأيته بكلّ ما يسرك مصحوبا. وكلّ ما تتمنّاه إليه مجنوبا. وإن كان الأمر بين (3) بين فتبيّن (4) وتثبّت واستعمل الأناة والتؤده (5). وشاور من استنصحت منهم الجيوب والأفئده. وعرفت أنّهم ممّن يوصي بالحق.
اشتجرت: اختلفت. ومنه اشتجار القوم وتشاجرهم واشتجر بينهم أمر وشجر. قال الله تعالى: {(فِيمََا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)} (1).
(2) الموت الذعاف: القاتل. وذعفه قتله.
(3) بين بين: بين العقل والهوى. وهو من جعل الاسمين اسما واحدا كقولهم: هو جاري بيت بيت. قال عبيد:
«نحمي حقيقتنا وبع ... ض القوم يسقط بين بينا»
ومنه قول سيبويه في نحو أأنذرتهم: تخرج الهمزة الثانية بين بين.
يريد مخرج الهمزة ومخرج الحرف الذي منه حركتها وهو الألف.
(4) التبين والتثبيت واحد. وهو أن تتأنى حتى تعرف كنه الأمر.
وقرىء قوله تعالى: (فتبينوا) على اللغتين.
(5) التؤدة: السكون والوقار. وهو فعلة من اتأد كالتؤبة من اتاءب والتقاة من اتقى.
__________
(1) سورة النساء، الآية 65.(1/196)
ويومي إلى الصّدق. فإن طلع من كنانتهم سهم صائب (1).
وأضاء لهم رأي ثاقب. فذاك (2) وإلّا فاتّق (3) النّفع الّذي يلوح لك من جيبه. بضرر تحسبه كمينا وراء غيبه. واعمل على الإخلال به وتخليته. ولا تحدّث نفسك بتولّيه (4) ولا توليته. وكن في تقواك كسالك (5) طريق شائك لا بدّ له من أن يتوقّى ويتحفّظ. ويأخذ حذره ويتيقّظ.
هواك أعمى فلا تجعله متّبعا
لا يعتسف بك عن بيضاء مسلوكه
مثل للقول المختار وصواب الرأي. ومنه قول كليب لكوثر:
«إنّ أمير المؤمنين نكت كنانته فعجم عيدانها عودا فوجد في أصلها مكسرا فرماكم من كنانته بسهم صائب».
(2) فذاك: فالأمر ذاك. أو فذاك المطلوب.
(3) فاتق النفع. نحو قول أبي الدرداء رضي الله عنه في اللقطة:
«اتق خيرها بشرها وشرها بخيرها» يعني قابل كل واحد من الخير والشر المتعلقين باللقطة بالآخر فلا ترفعها من كنانته بسهم صائب.
(4) بتوليه ولا توليته: أي لا تتول أنت العمل به ولا تكلف غيرك أن يعمل به.
(5) من قول وهب بن منبه لعمر رضي الله تعالى عنه حين سأله عن التقوى: «يا أمير المؤمنين هل مشيت قط في طريق شائك».(1/197)
إتركه وامش على آثار عقلك في
محجّة مثلها ليست بمتروكه
فالعقل هاد بصير لا يزيغ إلى
بصيرة عن سداد الرّأي مأفوكه
ومن يقده هواه في خزامته
فذاك بين ذوي الألباب أضحوكه(1/198)
إتركه وامش على آثار عقلك في
محجّة مثلها ليست بمتروكه
فالعقل هاد بصير لا يزيغ إلى
بصيرة عن سداد الرّأي مأفوكه
ومن يقده هواه في خزامته
فذاك بين ذوي الألباب أضحوكه
مقامة التماسك
مقامة التماسك يا أبا القاسم إنّ رداء الوقار والحلم. أزين ما تعطّف (1) به ذو العلم. فتحلّم وتوقّر (2) وإن لم يكونا من جدائلك (3) وتعلّمهما إن عدما في شمائلك. أوّل ما يستدل به على عقل الرّجل أن تتناسب حركاته وسكناته. وأن تحمد في مواطن الطّيّش والنّزق طمأنينته وأناته. فباشر أكثر تعطف به: تردى. والعطاف والمعطف الرداء. قال سحيم:
«وبان الشباب بطياته ... وقد كنت رويت منه عطافا»
وفي بعض الحديث في وصفه جلّ ثناؤه تعطف بالعز وقال به أي تردى به وملك به من القيل وهو الملك وهو مجاز عن اتصافه بالعزة والملكوت. وظهور ذلك فيما يدل من أفعاله الناطقة بعظمته الشاهدة على كبرياء شأنه.
(2) فتحلم وتوقر: فتكلف الحلم والوقار. قال حاتم:
«تحلم عن الادنين واستبق ودهم ... ولن تستطيع الحلم حتى تحلما»
(3) من جدائلك: من طبائعك. وجديلة الرجل ما جدل عليه أي أحكم عليه خلقه والجدل شدة الفتل وامرأة مجدولة الخلق إذا لم تكن رهلة.(1/199)
الأمور بالتّأنّي والأون (1). وإذا مشيت على الأرض فامش بالهون (2). ولا تكن مطار القلب وإن لقيت بمبهج.
ولا محلول الحبوة (3) وإن رميت بمزعج، وكن ربيط الجاش (4) دون الطّوارق ولا تهل. وتلقّها بيّن التّماسك الاون: الرفق. يقال: أن على نفسك وبين أرضك وأرض فلان أون وليلة اينة قاصدة السير وادعة.
(2) الهون من قوله تعالى: {(يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً)} (1).
وهو خلاف قوله: {(وَلََا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ).} (2)
(3) كنى بحل الحبوة عن القلق، وبعقدها عن الوقار. ومنه حديث قيس بن عاصم أنه كان في نادي قومه فجيء برجل قتيل وآخر مكتوف فقيل له إن ابن عمك هذا قتل ابنك هذا فما حل حبوته ولا قطع حديثه ولكن مضى عليه. ثم قال: اذهب بابني هذا فادفنه، وحل الكتاف من ابن عمي وسق إلى أم القتيل مائة ناقة فإنها غريبة فينا لعلها تسلو عنه. وكان الأحنف بن قيس حاضرا. فمنه تعلم الحلم وعمل به حتى ضرب به المثل. وقال سليمان بن يزيد العدوي القرشي:
«وإذا الحبا نقض الحبا في مجلس
ورأيت أهل الطيش قاموا فاقعد»
(4) ربيط الجاش: قوي القلب. وهو فعيل بمعنى مفعول من قولهم ربط الله على قلبك.
__________
(1) سورة الفرقان، الآية 63.
(2) سورة الاسراء، الآية 37.(1/200)
ولا تنهل (1). رزينا لا تحملك خيفة على خفّه. شبيه جبل لا تهزّ مناكبه رجفه. الأريب لا يحمل على رقبته رأس نزق (2) طيّاش. ولا بين جنبيه صدر حنق كمرجل جيّاش. عليك بالكظم. وإن شجيت بالعظم. إن هفا أخوك فعاتبه بالإغضاء. وإن أسخطك فعاقبه بالإرضاء.
وإن استطير صاحبك وثار ثائره فولّه منك ساكنا طائره (3).
إنّ ضرام الغضب. أشد من ضرام اللهب. فخف على نفسك ثقوب شهابه. واتّق السّاطع من اتقاده والتهابه. ولا تزل بشواظه حتّى ينطفي. وبضرامه إلى أن ينتفي. ولن يطفأ ولا تنهل: مستعار من انهيال الرمل وعدم تماسكه.
(2) نزق: من النزق. وهو الخفة لأن النزق والطيش في الرأس.
ومنه قولهم: في رأسه شيطان لمن به طيش. وفي أمثال أهل بغداد:
«فلان خالي العرق» يرون خفيف الرأس. وقال الزبعري:
«وتخالهم وسط الهدى كأم ... ثال الرماح معمى الحلم»
يعني كأن على رؤوسهم الطير لوقارهم.
(3) وسكون الطير: كناية عن الطمأنينة. لأن الطائر ينفر من أدنى حس ولا يقر إلا على ما لا يستريب به. وعن عبد الله بن الزبير:
أن حمام الحرم كان يقع على رأسه يحسبه جذعا مركوزا لدوام قيامه للصلاة، وسكونه. وفي الحديث كان على رؤسهم الطير لما مثل الغضب في التهابه بالنار مثل الحلم في المهابة بالماء يراق على جوانبه لينطفىء.(1/201)
بمثل حلم يراق على جوانبه. وعفو تفرغ سجاله على ذوائبه (1).
وذوائب النار ما سطع واستطار من أعالي لهبها. ومنه بيت المعري:
«حمراء ساطعة الذوائب في الدجى ... ترمي بكل شرارة كطراف»
والذؤابة تستعار لأعلى كل شيء، فيقال ذؤابة الجبل وذؤابة بني فلان، لإشرافهم وعليتهم. وذوائب الشجر: أعالي فرعها. وقال:
«قالوا صدقت ورفعوا لمطيهم ... سيرا يطير ذوائب الأكوار»
واستعار الذوائب للغضب لما شبهه بالنار.(1/202)
مقامة الشهامة
مقامة الشهامة يا أبا القاسم ما ضرّك لو أطعت ناهي النهى وإن كان نهيه أمرّ من الصّاب (1). وعصيت آمر الهوى وإن كان أمره أعذب من ماء اللّصاب (2). ولم تبال بتلك البشاعة والإمرار (3).
لما تستحليه في المغبة (4) من ثواب الأبرار. ولم تلتفت إلى هذه اللذّة والعذوبة. لما أنت مرصد به في العاقبة من العقوبه.
أللبيب من لا ينضو (5) ثوب المراقب. ولا يدع تدبر العواقب.
الصاب: نبات مر.
(2) اللصاب: جمع لصب. وهو الشّعب الصغير في الجبل.
(3) أمر الشيء، فهو ممر. يقال: ممر ممقر. ولبعضهم:
«نصاب بني يزداد أكرم نبعة ... وليست من النبع الذي ليس يثمر
أتت بثمار حلوة غير أنها ... على حبك الغاوي تمر وتمقر»
ومر يمر بوزن بريبر فهو مر.
(4) غب الأمر ومغبه (بكسر الغين وفتحها) عاقبته، وآخره.
(5) نضا الثوب: نزعه. ونضا الجل عن الفرس. والفرس ينضو الخيل أي يسبقها لأنه إذا كان بينها فكأنه لابسها وإذا سبقها تجرد عنها، وهو من فصيح كلامهم.(1/203)
وإلّا فهو تبيع الجاهل في اغتراره. ورسيله في خلع الرّسن واجتراره. لا فضل بينهما إلّا أنّ الجاهل ربما (1) مهد جهله عذره. وسهل عند الناس أمره. وأمّا اللبيب فممزّق (2) الفروة مفنّد (3). كل لسان سيف عليه مهنّد. معه ما يكفه (4) ويقفه فلا يكف ولا يقف. وما يصدّه ويصدفه فلا يصدّ ولا يصدف. قد أحاط به الخذلان. وهو مرح جذلان.
إتّسعت شهوته حتى غطّت فطانته ولبّه. وفاضت حتّى غمرت شهامته وإربه (5). إن كنت يا هذا من أهل التمييز. فميز ربما مهد جهله عذره. كرجل يطأ جارية أحد أبويه أو امرأته المطلقة ثلاثا، ثم يقول: ما علمت أنها حرام علي درأ عنه الحد جهله ويحد ان كان عالما. ومن ثم قال الله تعالى {(وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتََابَ} {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ََ مََا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)} (1).
(2) مزق فروته ودق في فروته، إذا ذمه وقدح فيه. وقال تأبط شرا:
«يا من لعذاله خذالة أشب ... مزقت باللوم جلدي أي تمزيق»
(3) فنده: نسبه إلى الفند. وهو الخرف وضعف الرأي.
(4) كف ووقف، وصد وصدف: أربعتها تتعدى ولا تتعدى وهي صيغة غريبة.
(5) الارب: الدهاء والنكر. ورجل أرب وأريب وقد أرب
__________
(1) سورة آل عمران، الآية 135.(1/204)
بين الخبث والإبريز (1). واعلم أنهما عملان فجيّد مجد على صاحبه. وردي مرد لراكبه. وإنما يختار ذو اللبّ ما يمتار به الجدا. ويجتنب ما يجتلب إليه الرّدى. وحاشا لمثلك أن يتولى مثلته. وينحت بفأسه أثلته. ويضرب بلسانه سواء قذاله، وعرضه بألسنة عذّاله، فلا تحد عن مر يفضي بك إلى ثواب. بعذب تفارقه إلى عذاب. ولا تشبهنّ في إيثار زهرة الدنيا بأكلة الخضر (2) هجمت عليه فآنقها ريه (3) وأرب. ومنه حديثه عليه الصلاة والسلام: (من خشي أوّتهن فليس منا). يريد ما يذهب اليه جهلة الناس وحشويتهم من أن الحيات مسيخ الجن. وانك إذا تعرضت لشيء منها انتصر له منك أخوه أو ابن عمه. وكان هذا من معتقدت أهل الجاهلية الجهلاء فبقي في الاعراب.
وأشباههم من الأغنام. ولهم في الجن حماقات وحكايات قد تكاذبوا فيها أو وضعها من أراد أن يتلهى بهم ويضحك من عقولهم.
(1) الابريز: الخالص من الذهب والفضة. وهو ما أبرز من صفوته إذا سبك.
(2) الخضر: الأخضر من النبات. قال الله تعالى: {(فَأَخْرَجْنََا مِنْهُ خَضِراً)} (1) ومما ينبت منه في أول الربيع ما يولي. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (وإنّ مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم».
(3) ريه ونضرته، من قوله تعالى {(أَثََاثاً وَرِءْياً)} (2) هو الهيئة الحسنة. وهو فعل بمعنى مفعول من راي.
__________
(1) سورة مريم، الآية 74.
(2) سورة الانعام، الآية 99.(1/205)
وخضرته. وملأ عيونها زيه ونضرته. وما يشعرها أنه مسرح وبيء وكلاء وبيل. فرمت فيه برؤسها ضحاء (1) لا تنتره.
وعشاء لا تبتره. حتى إذا امتلأت بطونها. وامتدت غضونها شعرت ولكن شعور بعد لأي. ودبري (2) من رأي. ولا خير في قضاء وطر. / يشفي / بك / على خطر.
الضحاء: من الضحى. كالغداء والعشاء من الغداة والعشي.
وضحيت الابل كقولك غديتها وعشيتها ومنه المثل ضحى رويدا.
(2) في أمثالهم: شر الرأي الدبري وهو يعن بادبار الأمر والقبلي الذي يعن عند استقباله. ومنه بيت القطامي:
«وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا»
وفي كلام بعضهم: وقد وعد له رجل من أهل الطبرية عدة فاخلف شر الرأي الطبري وشر الرأى الدبري.(1/206)
مقامة الخمول
مقامة الخمول يا أبا القاسم يا أسفي على ما أمضيت من عمرك. في طلب أن يشاد بذكرك. ويشار إليك بأصابع بني عصرك. عنيت على ذلك طويلا. فما أغنيت عنك فتيلا (1). حسبت أنّ من ظفر بذاك فقد استصفى (2) المجد بأغباره (3). واستوفى الفخر الفتيل: ما في شق النواة، من نحو الشعرة وقيل هو ما تفتله بين اصبعيك قال الله تعالى {(وَلََا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)} (1).
(2) استصفى الشيء: أخذه كله. مثل استنظفه وقيل هو بالضاد من نضب الفصيل ما في ضرع أمه وانتضفه إذا استفه.
(3) باغباره: بأجمعه. والأغبار جمع غبر وهو بقية اللبن في الضرع. يقال: «كسع الناقة بغبرها» إذا ضرب ضرعها بالماء البارد فيزاد اللبن يفعلون ذلك إذا خافوا عليه الحر استبقاء لقوتها. واستعير في قولهم: فلان مكتسع بغبره إذا كان عزما. قال:
«أقسم لا يخرجها من قصره ... إلا فتى مكتسع بغبره»
أي لا ينزعها إلا فتى قوي.
__________
(1) سورة النساء، الآية 77.(1/207)
بأصباره (1). وقدّرت أنّ الشارة (2) البهية هي الجمال. وأنّ الشهرة في الدنيا هي الكمال. وما أدراك يا غافل ما الكامل.
الكامل هو العامل الخامل. ألذي هو عند الناس منكور (3).
وهو عند الله مذكور. مجفو في الأرض ليس له ظهير ولا ناصر.
ولا تثني (4) به أباهيم ولا خناصر. ما قلت لأحد هل تشعر به إلّا قال لا. لا يدعى في النقرى (5) ولا في الجفلى (6). خلا أصبار الاناء: حروفه وأعاليه. يقال: ملأ الإناء إلى أصباره.
وأخذ بأصباره أي كله. قال: «وطفأ يملؤها إلى أصبارها». والصبر والصمر واحد.
(2) الشارة: الهيئة. يقال فلان حسن الشارة حلو الإشارة. ورجل صير شير حسن الصورة والشارة.
(3) منكور: (من نكره) بمعنى أنكره، قال الله تعالى: {(فَلَمََّا رَأى ََ أَيْدِيَهُمْ لََا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ)} (1) ومنه الاسم المنكور والنكرة.
(4) يعني: لا يذكر أول الناس ولا آخرهم لخموله. أي لا يذكر البتة.
(5) النقري: الدعوة الخاصة. وهو أن يدخل المجلس فينقر بين واحد واحد. قال الهذلي:
«وليلة يصطلي بالفرس حارزها ... يختص بالنقري المثرين داعيها»
(6) الجفلى: الدعوة العامة. أن يقول للناس اجفلوا. قال طرفة:
«نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر»
__________
(1) سورة هود، الآية 70.(1/208)
أنّ له في السماء إسما لا يخفى. وجانبا مرعيا لا يجفى.
وسببا قويا لا تسترخي قواه. ولا تبلغ هذه الأسباب قوّة (1) من قواه. فعدّ إذن عن هذه الأسامي (2) والأصوات. وعدّ شخصك في عداد الأموات. كفّنه بالخمول قبل أن يكفّن. وادفنه في بعض الزوايا قبل أن يدفن. واجعل له قعر بيتك قبرا. واصبر على معاناة الوحدة صبرا. وطب عن زيارات النّاس نفسا. ولا ترض سوى الوحشة أنسا.
ولا تنشط إلّا إلى زائر إن ضللت عن المحجّة أرشد. وإن أضللت الحجّة أنشد. وإن خفي عليك الصّواب جلىّ.
وإن أصابك هم في دينك سلّى. لا يزورك إلّا ليوصيك بالحقّ وينصحك. ويرأب (3) ثأيك (4) ويصلحك. ويعالجك من قوة من قواه. أراد قوي الحبل. وهي طاقاته الواحدة قوة لما ذكر الأسباب والسبب الحبل قرن بها القوي. وهذه الصيغة تسمى الابهام.
(2) يريد بالأسامي: الألقاب المسروقة، والأصوات. من قولك:
ذهب صوته في الناس وصيته.
(3) الرأب: الاصلاح. يقال: رأب الصدع. واسم ما يرأب به الرؤبة وهي كالرقعة للقدح ونحوه. قال:
«تدهدي فطاحت رؤبة من صميمه ... فبدّل أخرى بالعراء وبالشعب»
وبها سمي رؤبة بن العجاج.
(4) الثأى: أن يتفق الخرز فتصير الخرزتان واحدة. وقد ثأى الخرز واثآه الخارز. فاستعير للفساد. قال نهشل بن جري:
«ولكنني قد أحسن الرأب في الثأى ... وانصح للمولى وفيه صدود»
مرضك وشكاتك. بما يصف من أمر مبكياتك. لا أمر مضحكاتك (1). ذاك لا يتنفّس في جنابك. إلّا عبق نسيم الفردوس بثيابك. ولا يخطر في عرصة دارك إلّا أصبحت مباركه. وبسطت أجنحتها فيها الملائكة. فلا تبغ به بدلا وإن أفاء عليك بيض النّعم. وساق إليك حمر النّعم.(1/209)
«ولكنني قد أحسن الرأب في الثأى ... وانصح للمولى وفيه صدود»
مرضك وشكاتك. بما يصف من أمر مبكياتك. لا أمر مضحكاتك (1). ذاك لا يتنفّس في جنابك. إلّا عبق نسيم الفردوس بثيابك. ولا يخطر في عرصة دارك إلّا أصبحت مباركه. وبسطت أجنحتها فيها الملائكة. فلا تبغ به بدلا وإن أفاء عليك بيض النّعم. وساق إليك حمر النّعم.
أطلب أبا القاسم الخمول ودع ... غيرك يطلب أساميا وكنى
شبّه ببعض الأموات شخصك لا
تبرزه إن كنت عاقلا فطنا
إدفنه في البيت قبل ميتته ... واجعل له من خموله كفنا
عساك تطفي ما أنت موقده ... إذ أنت في الجهل تخلع الرّسنا
وفي أمثالهم: «أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك». أرادوا عليك أمر من صدقك في حقيقة فأبكاك دون من كذبك فسرك وأضحكك وهو نحو قول الحسن «إنّ من خوّفك حتى تبلغ الأمن خير ممن آمنك حتى تبلغ الخوف». قال بعض الحشوية: ذاك في الفتانين من قصاص الشام الذين قطعوا للعامة طريق الدين بتوسيع أمر الرحمة عليهم وإغرائهم بذلك على المعاصي وفي الآمرين بالتقوى من أهل الوعيد المحذرين من عقاب الله تعالى: وعن ابن مسعود رضي الله عنه:
أنهم كانوا لا يسمعون منه إلا ذكر النار ووصف ما أعد الله فيها للفجار من أنواع العذاب. فقيل له في ذلك. فقال من نجا فقد بلغ، قصدت بهذا الزائر الذي وضعته أخا لي في الله جمعني الله وإياه في ظل رحمته. فما وجدت هذا النعت في غيره مع كثرة من لقيت وكان لعمر الله حسن بلده.(1/210)
مقامة العزم
مقامة العزم يا أبا القاسم يا خابط عشوات (1) الغي. ويا صريع نشوات البغي.
ويا معطّل صفايا عمره (2) متولّيا عن أمر المتولّي لأمره. ويا متثاقلا عمّا يجب فيه الإنكماش. ويا آمن كبوة ليس بعدها انتعاش. ويا من همه مبثوث. فيما هو على ضدّه محثوث. وقلبه صب مشوق. إلى خلاف ما هو اليه مسوق. ويا مدلى بغرور الفتان ومكره. ومستدرجا بدهائه ونكره. (3) فيما لا يذهب اليه عاقل بفكره. خفّض قليلا من غلوائك. وأدل من معاصاتك لإرعوائك. وشمّر عن ساق العشوة (بالحركات الثلاث) ظلمة الليل. يقال: أوطأه العشوة في أمره إذا حيره وورطه. وفلان خابط عشوة. شبه بمن يخبط الظلمة لا يدري أين يضع قدمه فربما وقع في حفرة أو وطىء على حية.
(2) الصفايا: جمع صفى. قال الأصمعي: الناقة الصفي والحنجور واللهوم والدهشوش. كل هذا للغزيرة اللبن ومعنى تعطيل صفايا العمر:
تضييع أيام الشباب والقوة التي هي خير أيام العمر في غير طاعة الله.
(3) النكر (بالفتح): من الخبث والدهاء، والنكر (بالضم):
نقيض العرف.(1/211)
الجدّ في ترك الهزل. واصدر في تدبير أمرك عن الرأي الجزل. لا تغرس إلّا ما تلين غدا ليدك مثانيه ومعاطفه. ويطعمك الحلو الطيب مجانيه ومقاطفه. ولن يتمّ لك ذلك إلّا إذا حفظت شربك ممّا يعافه السّاقي والشّارب. ونفضت سربك (1) ممّا يخافه السّاري والسّارب (2).
إنّ معاصي المسلم كالسّباع العادية في شوارعه (3). وكالأقذاء المتعادية (4) في شرائعه. وأنّى لك أن تضرب في طريق عمّاره سباع. وأن تشرب من اناء أقذاؤه (5) تباع. واجعل مرمى بصرك السرب: الطريق. يقال: خل سربه. قال ذو الرمة:
«خلى لها سرب أولاها وهيجها ... من خلفها لا حق الصقلين هميم»
وفلان ينفض الطريق. وهو من فصيح الكلام. أي: ينفى عنه ما يقذره ومن يعبث فيه وينفض الثوب لينفى عنه التراب وغيره من الأذى وفصاحته الاستعارة.
(2) السروب: السير بالنهار. قال الله تعالى {(وَسََارِبٌ بِالنَّهََارِ)} (1).
(3) الشارع: الطريق الأعظم الذي يشرع فيه الناس عامة. والجمع شوارع. والدور الشوارع: التي تشرع أبوابها إلى الشارع. يقال دار فلان شارعة.
(4) المتعادية: المتتابعة. وقد عادى بين الشيئين إذا والى بينهما عداء. قال رجل من بني ضبة يوم الجزع:
«قتلنا عداء خمسة من سراتهم ... نواء فما أوفوا بزيد الفوارس»
(5) اقذاؤه تباع: بمعنى متتابعة. وهو مصدر تابعه، إذا والاه.
يقال تابع أيام الصوم متابعة وتباعا فتتابعت.
__________
(1) سورة الرعد، الآية 13.(1/212)
الغاية التي انتهى إليها أولو العزم الصابرون. وممشى قدمك الطريقة التي انتهجها الفائزون. ولا تقتد ببني أيامك فإنهم رعاع. قد لأموا صدع (1) دنياهم ودينهم شعاع (2). والمقتدي بهؤلاء أطفّ منهم في البرّ مكيالا. وأخف في الخير مثقالا.
لأم الصدع ملائمة. ويقال لأمه فالتأم وقال:
«شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتأم العطور»
(2) الشعاع: المتفرق. يقال: طار الناس شعاعا، ورأي شعاع، وشعاع السنبل سفاه إذا يبس وحان تطايره.(1/213)
مقامة الصدق
مقامة الصدق يا أبا القاسم كلّ سيف يحادث (1) بالصّقال. دون لسان يحدّث بصدق المقال. فلا تحرّك لسانك بالنطق. إلّا إذا كان النطق بالصّدق. وصنه من خطأ الكذب وعمده. كما يصان اليمانيّ في غمده. إنّ الحسام يذهب برونقه الصّدا. والكذب للّسان من الصّدأ أردى. أصدق حيث تظن أنّ الكذب يفيء عليك المغانم. ولا تكذب حيث تحسب أن الصدق يجر إليك المغارم. فما يدريك لعلّ الصّدق يفيض عليك بركته فتجدي وتسعد. والكذب يدهمك بشؤمه فتكدي وتبعد (2). وهب (3) أن الأمر جرى على حسب محادثة السيف: تعهده بالصقل. قال زيد الخيل:
«أحادثه بصقل كلّ يوم ... وأعجمه بهامات الرجال»
(2) وتبعد: أي تهلك. والبعد والبعد بمعنى كالرشد والرشد إلا أنهم خصوا البعد بالبعد الذي هو البعد الأعظم وهو بعد الفناء. وقالوا فيه، بعد يبعد فغيروا بناء فعله عن بناء فعل البعد ونظيره قولهم في الضمان الخاص بالشر الوعيد. وقولهم في فعله أوعد وتوعد فغيروه عن بناء الوعد الذي هو ضمان في الخير وعن بناء فعله الذي هو وعد.
والدليل على أن معناهما واحد قوله:
«يقولون لا تبعد وهم يدفونني ... ولا بعد إلا ما يواري الصفائح»
(3) معنى هب: اجعل. يقال: وهبني الله تعالى فداك. ورأيتها
الحسبان. ورميت ممّا تخافه بالحسبان (1). وصدقت فدهيت بكلّ مساءة ومضرّة. ولو كذبت لظفرت بكلّ مرضاة ومسرّه.(1/214)
«يقولون لا تبعد وهم يدفونني ... ولا بعد إلا ما يواري الصفائح»
(3) معنى هب: اجعل. يقال: وهبني الله تعالى فداك. ورأيتها
الحسبان. ورميت ممّا تخافه بالحسبان (1). وصدقت فدهيت بكلّ مساءة ومضرّة. ولو كذبت لظفرت بكلّ مرضاة ومسرّه.
أما يكفي الصّادق أنّه صادق إجداء. والكاذب أنّه كاذب إكداء. وإن رجع الصّادق ورجلاه (2) في خفّي خائب. وآب الكاذب بملء العياب والحقائب. لو مثّل الصّدق لكان أسدا يروع ولو صوّر الكذب لكان ثعلبا يروغ، فلأن تكون فجوة (3) لغة شائعة للعرب. يقولون: وهبت كذا على كذا. سمعت منهم من يقول: وقد وكف السقف. هب عليه التراب فيقف.
(1) قوله تعالى: {(حُسْبََاناً مِنَ السَّمََاءِ)} (1) والحسبانة أيضا الوسادة الصغيرة. وحسبه وسده. فإن قلت كيف طريق اشتقاقه قلت الأصل فيه الحسب وهو القديم الحسيب. وهو ما يعد من مكارم الرجل ثم التحسيب لأنه تكريم واعتداد بحسب من يحتسب. ألا ترى إلى قول يعقوب: «حسبوا ضيفهم» أي كرموه. ثم الحسبانة من التحسيب.
ثم المرماة سبيلها التهكم والتعكس كقوله «فاعتبوا بالصيلم».
(2) من قوله: رجع بخفي حنين.
(3) فجوة الفم: متسعه. ومنها الفجوة بين المنازل وكل فرجة واسعة بين الشيئين، فهو فجوة. وقوس فجواء وترها بائن عن كبدها.
يقال: قوس فجاء. ويجوز ان تكون الواو بدلا من حرف التضعيف وأن يكون من الفجوة.
__________
(1) سورة الكهف، الآية 40.(1/215)
فيك كأنّها عرين (1) ليث أغلب (2). خير من أن تكون كأنّها وجار ثعلب. ولأن تقبض أخاك روعة ممّا أشبه من صدقك الصّاب. أولى من أن تبسطه جذلا ممّا أحلولى من كذبك وطاب. وإذا عقدت ميثاقا فأوف بعقدك. أو وعدت فسارع إلى إنجاز وعدك. ولا يكوننّ موعدك مثل لمع البروق (3) بالذّنب. ولا مشبّها بلمع البروق الخلّب (4). وإن أردت أن تمسح (5) ناصية الكرم السابق. وتضرب قونس (6) عرين الأسد: مأواه. من عرن اللحم إذا فسد والعرين اللحم المتغير كما سمي خيسا من خاست الجيفة.
(2) الأغلب: الغليظ الرقبة، وقد غلب غلبا، وليوث غلب.
(3) البروق: الناقة التي تلمع بذنبها من غير لقاح.
(4) الخلب: يجوز ان يكون صفة للمع كقولك: برق خلب.
على أن الخلب مفرد كالحول والقلب وأن يكون صفة للبروق على أنه جمع خالب.
(5) لما وصف الكرم بالسابق أثبت له ناصية وجعلها ممسوحة.
لأن الجواد إذا سبق مسحت ناصيته، وعن أبي هريرة رضي الله عنه:
(إذا أراد الله تعالى أن يخلق خلقا للخلافة مسح ناصيته بيده). وهو من فصيح الكلام ولطيف المجاز.
(6) القونس: مقدم البيضة. وإنما قالوا قونس الفرس لمقدم رأسه على الاستعارة. عن الأصمعي ومن أبيات الحماسة:
المجد الباسق. فأشبه سحابا تقدّم ودقه على رعده. وكن رجلا قدّم عطاؤه قبل وعده.(1/216)
(6) القونس: مقدم البيضة. وإنما قالوا قونس الفرس لمقدم رأسه على الاستعارة. عن الأصمعي ومن أبيات الحماسة:
المجد الباسق. فأشبه سحابا تقدّم ودقه على رعده. وكن رجلا قدّم عطاؤه قبل وعده.
«أكرّ وأحمي للحقيقة منهم ... وأضرب منا بالسيوف القوانسا
اضرب عنك الهومّ طارقها ... ضربك بالسوط قونس الفرس»(1/217)
«أكرّ وأحمي للحقيقة منهم ... وأضرب منا بالسيوف القوانسا
اضرب عنك الهومّ طارقها ... ضربك بالسوط قونس الفرس»
مقامة النحو
مقامة النحو يا أبا القاسم أعجزت أن تكون مثل همزة الإستفهام (1).
إذ أخذت على ضعفها صدر الكلام (2). ليتك أشبهتها متقدّما في الخير مع المتقدّمين. ولم تشبه في تأخرك حرف (3) التأنيث ضعف همزة الاستفهام أنه لا عمل لها، وإنما لم تعمل لأنها دخلت على القبيلين ومن حق العامل ان يختص بقبيل واحد ويلزمه حتى يستوجب العمل فيه لأن التأثير للوازم دون العوارض ولأن عوامل الأسماء غير عوامل الأفعال لأن العمل في الاسم لمعنى والعمل في الفعل لغير معنى.
(2) وإنما أخذت صدر الكلام لأنها تدخل على الجمل لتعطي معناها فيها وتنقلها من الأخبار إلى الاستفهام. فالجملة بعدها كالمفرد بعد حرف الجر مثلا. فكما وجب وقوع الجار قبل معموله فكذلك حروف الاستفهام قبل الجملة المستفهم عنها.
(3) حرف التأنيث التاء والألف في قائمة وحبلى. وإنما تأخرت العلامات كحروف التأنيث والتنوين وحركات الإعراب وحروفه وياءي النسب ونحوها، لأنها دلائل على أحوال الكلم. ومن حق الذوات أن يترتب عليها أحوالها وهيئاتها.(1/218)
والتّنوين. المتقدّم في الخير خطره أتم. وديدن العرب تقدمة (1) ما هو أهم. ضارع الأبرار بعمل التّوّاب الأوّاب.
فالفعل لمضارعته الإسم فاز بالإعراب. ومادّة الخير أن تؤثر العزلة ولا تبرز عن الكن. وتخفي شخصك إخفاء الضّمير تقدمة ما هو أهم، قال سيبويه: واعلم أنهم يقدمون ما هو أهم وهم ببيانه أعنى وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم. ومثال ذلك:
أنك إن قصدت أخبار مخاطبك بوجود الضرب من زيد. قلت: ضرب زيد. فإن أردت أن تخبره بأن زيدا هو الذي تولى الضرب. قلت:
زيد ضرب. الأتراك تقول: أضرب زيد أم قتل؟ إذا أردت الاستفهام عن الواقع من الفعلين من زيد. وتقول: أزيد ضرب أم عمرو؟ إذا استفهمت عن متولي الضرب من المسميين. وتكت هذا الباب وفقره لا تكاد تنحصر ولا يهتدي إلى الافصاح عن الفروق فيه إلا من أرهف الله حد ذهنه من العلماء المبرزين. وهو أم من أمهات علم البيان فإن قلت لم وجب تقدمة ما هو أهم قلت هو أمر معقول يشهد لوجوبه كل نفس ألا ترى أن نفوس الناس تنازعهم في كفاية ما أهمهم من أوطارهم وعناهم من شؤونهم أن يقدموا كفاية الأهم فالأهم. وكان العباس بن عبد المطلب يتمثل بهذين البيتين:
«أبى دهرنا إسعافنا في أمورنا ... وأسعفنا فيمن نحبّ ونكرم
فقلت له نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن الأهمّ المقدم»
المستكن (1). فإنّ الخفاء يجمع يديك على النّجاة والإستعصام (2)، كما استعصمت الواو من القلب بالإدغام. ولا يكوننّ ضميرك عن الهمّ الدّينيّ ساليا. كما لا يكون أفعل (3) من الضّمير الضمير المستكن: المستتر، الذي في نيتك. إذا قلت زيد ضرب، الدليل على أن فيه ضميرا مستكنا بروزه في فعل المتكلم والمخاطب.(1/219)
«أبى دهرنا إسعافنا في أمورنا ... وأسعفنا فيمن نحبّ ونكرم
فقلت له نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن الأهمّ المقدم»
المستكن (1). فإنّ الخفاء يجمع يديك على النّجاة والإستعصام (2)، كما استعصمت الواو من القلب بالإدغام. ولا يكوننّ ضميرك عن الهمّ الدّينيّ ساليا. كما لا يكون أفعل (3) من الضّمير الضمير المستكن: المستتر، الذي في نيتك. إذا قلت زيد ضرب، الدليل على أن فيه ضميرا مستكنا بروزه في فعل المتكلم والمخاطب.
إذا قلت ضربت زيدا وضربت. وقولك للاثنين والجمع ضربا وضربوا.
وهذا الضمير واجب أن يثبت في النية دون اللفظ. فلو قلت: ضرب هو لم يكن هو هو الفاعل وإنما الفاعل الضمير المنوي وهو تأكيد له.
الأتراك تقول ضربا هما وضربوا هم. فتأتي بالمتصل ثم بالمنفصل. ولو قلت: ضرب هما وضرب هم لم تكن ناطقا بكلامهم، فيجب أن تفعل ذلك إذا وجدت.
(2) استعصام الواو من القلب بالادغام، في نحو الاجلواذ والإعلواط والعواد. ولم تقل الاجليواذ والقيوام. كما قيل: الميزان والميقات.
فإن قلت من أين كان الادغام مؤثرا في ترك القلب؟ قلت: لأن الادغام يذهب بالمدة التي في الواو والياء حتى لا يبق فرق بينهما مدغمتين وبين الحروف الصحاح. ومصداقه أن للشاعر أن يجمع الروي بين الدو والدلو والطي والظبي، مع امتناع أن يجمع بين الروض والبعض والعبص والعنص.
(3) افعل لا يخلو قط من ضمير منوي فيه ولا ينفك عن استناده اليه فلا يسند إلى اسم ظاهر، ولا إلى مضمر لا متصل بارز:
كضربت. ولا منفصل كقوله: ما قطر الفارس إلا أنا. وإذا قلت افعل أنا. فانا تأكيد لما استكن فيه. وكذلك حكم نفعل. وأما أمر المخاطب الذي هو افعل فيخلو من الضمير ولا يخلو. لأنك تسنده تارة
خاليا. وعوّضه من تلك السلوة ذلك الهم. كما عوّضت الميم (1) من حرف النّداء في اللهم. وقف لربّك على العمل الصّعب الشديد. كما تقف (2) بنو تميم على التشديد. واثبت على دين الحقّ الذي لا يتبدّل ولا يحول. ثبات الحركة البنائيّة (3) التي لا تزول. ولا تكن في التّرجيح بين مذهبين. كالهمزة الواقعة بين بين. فانظر إلى السود والبيض (4)، كيف تعتقب على إلى المستتر. كقولك: افعل. وإلى البارز تارة. كقولك: افعلا وافعلوا وافعلين.(1/220)
كضربت. ولا منفصل كقوله: ما قطر الفارس إلا أنا. وإذا قلت افعل أنا. فانا تأكيد لما استكن فيه. وكذلك حكم نفعل. وأما أمر المخاطب الذي هو افعل فيخلو من الضمير ولا يخلو. لأنك تسنده تارة
خاليا. وعوّضه من تلك السلوة ذلك الهم. كما عوّضت الميم (1) من حرف النّداء في اللهم. وقف لربّك على العمل الصّعب الشديد. كما تقف (2) بنو تميم على التشديد. واثبت على دين الحقّ الذي لا يتبدّل ولا يحول. ثبات الحركة البنائيّة (3) التي لا تزول. ولا تكن في التّرجيح بين مذهبين. كالهمزة الواقعة بين بين. فانظر إلى السود والبيض (4)، كيف تعتقب على إلى المستتر. كقولك: افعل. وإلى البارز تارة. كقولك: افعلا وافعلوا وافعلين.
(1) الميم في اللهم عوض عن يائه. معنى العوض أن يقع نقصان في الكلمة فيجبر بزيادة. والفصل بين الابدال والتعويض: أن البدل لا يقع إلا في موقع المبدل منه. كقولك: في ماه: ماء، وفي شراز:
شيراز، وفي ثعالب وضفادع ثعالى وضفادي. والتعويض غير مرعي فيه ذلك. ألا ترى أن الهمزة في اسم وابن عوض من اللام الساقطة.
كما أن النون في ضاربون عوض من الحركة والتنوين.
(2) الوقف على التشديد: قولهم في فرج وخالد وعمر فرجّ وخالدّ وعمرّ. وقد أجري الوصل مجرى الوقف. من قال ضخم يحب الخلق الا ضخما.
(3) الحركة البنائية على ضربين: ضرب لازم: كحركة اين وكيف وهؤلاء. وعارضة: كحركة من عل لأنك تقول من عل ويا رجل. لأنك تقول يا رجلا خذ بيدي. فإنما قال التي لا تزول إرادة للبنائية اللازمة دون العارضة ليجعل الثبات أصيلا.
(4) السود والبيض: الليالي والأيام. ولبعضهم:
«قد سودت وبيضت أحواله ... نظرا لنا بيض الزمان وسوده»
ما تحت السماء. إعتقاب العوامل المختلفة على الأسماء. فإنّك لا ترى شيئا إلّا مستهدفا (1) للحوادث والنوائب. كما ترى الإسم عرضة للخوافض والرّوافع والنواصب. وتجلّد في المضيّ في على عزمك وتصميمه. ولا تقصر عمّا في الفم (2) من جلادة استهدف بكذا: إذا صار هدفا له وعرضة.(1/221)
«قد سودت وبيضت أحواله ... نظرا لنا بيض الزمان وسوده»
ما تحت السماء. إعتقاب العوامل المختلفة على الأسماء. فإنّك لا ترى شيئا إلّا مستهدفا (1) للحوادث والنوائب. كما ترى الإسم عرضة للخوافض والرّوافع والنواصب. وتجلّد في المضيّ في على عزمك وتصميمه. ولا تقصر عمّا في الفم (2) من جلادة استهدف بكذا: إذا صار هدفا له وعرضة.
(2) والفم: أصله فوه بفتح الواو فحذفت لامه لأنه كما حذفت لامات أخواته التي هي أب وأخ وحم وهن فبقيت الواو متعقبا لحركات الإعراب. فلو تركوها على حالها لوجب قلبها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. ولو قلبوها ألفا لأسقطها التنوين فبقي الاسم المتمكن على حرف واحد فأبدلوا من الواو حرفا أجلد منها وهي الميم واختاروها لمقاربتها لها في المخرج. فإن قلت فما بال العجاج لم يبدل منها الميم في قوله:
«خالط من سلمى خياشيم وفا» قلت: قد أمنه من بقائه على حرف واحد وقوعه موقعا لا سبيل عليه للتنوين. فإن قلت: فمقتضى قولك أن هذه الألف هي المنقلبة عن الواو وليست بألف الاطلاق التي في قوله: «كان ذا قدامه منطفا». وهذا يؤدي إلى أن تخالف بين حروف الروي فتطلق بعضا وتقيد بعضا. وكأنه قال: وفومع قوله: منطفا قلت قد سوغ ذلك استواؤهما في اللفظ وحرف بين النغمة وإن اختلفا في التقدير. كقوله: صهاريج الصفا أو نسفا الا ترى أن غرضه من الترنم حاصل بهذه الألف حصوله بالألف المزيدة لاطلاق الصوت. فإن قلت فما تقول في قول الفرزدق:
«هما بعثا في فيّ من فمويهما ... على الغالب العلوي أشد رجائي»
قلت رأى اسما على حرفين، فقاسه على أب وأخ وهن وحم
ميمه. وليحجبك همك عن الرّكون إلى هؤلاء المستولية (1).(1/222)
«هما بعثا في فيّ من فمويهما ... على الغالب العلوي أشد رجائي»
قلت رأى اسما على حرفين، فقاسه على أب وأخ وهن وحم
ميمه. وليحجبك همك عن الرّكون إلى هؤلاء المستولية (1).
كما تحجب عن الإمالة الحروف المستعلية (2). واحذر أن يعرفك الدّيوان (3) وعطاؤه. ما دامت مبدلة من واوه ياؤه.
ونحوها من الأسماء التي أواخرها واوات محذوفة. ولم يلتفت إلى أصله، ولأنه رأى نحو سنة وعضة قد تعاقب فيها الهاء والواو، حيث قالوا: سانهت النخلة وسنوات وسنيهة وسنية وعضوات وبعير عاض وعضاه وعضة وبعير عاضه ووجد بين الهاء وحروف اللين مناسبة أبصرها واقعة بدلا من أخت حروف اللين والهمزة في غير موضع. فلم لذلك.
أن يوقع الواو موقع الهاء حين عزم على رد اللام. ومما يعضد ما قدمت قول سيبويه في باب الإضافة: من قال في التثنية فمان. جاز ان يقول في فمي فمويّ. كما يقال: في دم دموي. ومن قال: فموان. فلا يجوز الا فموي. كما تقول: في أخ أخوي. حيث قال أخوات. وأما أبو العباس المبرد فقال: من لم يقل فمي فحقه أن ترده إلى أصله فتقول فومي. فعلى قياس قول أبي العباس كان حق الفرزدق أن يقول فميهما ان ترك الاسم على حاله، أو فوميهما ان رده إلى أصله. وقوله فمويهما تخليط وعدول عن المحجتين.
(1) عن هؤلاء المستولية: يريد الملوك السلاطين المتغلبة.
(2) والحروف المستعلية سبعة: الصاد والضاد والطاء والظاء والقاف والغين والخاء. في نحو صاعد وضاجع وطالب وظالم وقاسط وغالب وخالط. ولقد أصاب في تشبيه الهمم بالحروف المستعلية حيث توصف بالعلو.
(3) الياء في الديوان بدل الواو. والأصل دوان بدليل قولهم دواوين ودون الكتب ونحو قيراط ودينار.(1/223)
مقامة العروض
مقامة العروض يا أبا القاسم لن تبلغ أسباب الهدى بمعرفة الأسباب (1) والأوتاد (2). أو يبلغ أسباب السموات فرعون ذو الأوتاد.
إن الهدى في عروض (3) سوى علم العروض. في العلم والعمل السبب: اسم لحرفين فإن كان أولهما متحركا والثاني ساكنا.
نحو: قل، ومثاله لن من فعولن وفا من فاعلن فهو سبب خفيف وإن كانا متحركين. نحو لم وبم فمثاله مت من متفاعلن أو على من مفاعلتن فهو سبب ثقيل. والسبب الخفيف على نوعين مضطرب وجامد، فالمضطرب ما يزول بالزحاف كسين مستفعلن وفائه في الرجز. فلا يستقر على حاله والجامد ما يزول بالزحاف كعين فعلن ونونه.
(2) والوتد: اسم لثلاثة أحرف متحركان بعدهما ساكن نحو:
نعم وبلى ومثاله فعومن فعولن أو علن من فاعلن ويسمى المقرون. أو متحركان بينهما ساكن كقال وكان ومثاله لات من مفعولات ويسمى المفروق. ويقال «للمقرون مجموع وسالم، وللمفروق مفصول.
(3) في عروض: في جانب. يقال: إنا في عروض فلان إذا كان في ناحيته وكنفه. قال:(1/224)
بالسنن والفروض. ما أحوج مثلك إلى الشّغل بتعديل أفاعيله.
عن تعديل وزن الشّعر بتفاعيله. من تعرّض لابتغاء صنوف الخير وضروبه. أعرض عن أعاريض (1) الشّعر وأضرب عن ضروبه. ما تصنع بالضروب (2) والأعاريض. في الكلام الطويل «فكلّ أناس من معدّ عمارة ... عروض اليها يلجؤن وجانب»
ويقال: أجد في عروض ما يعجبني. ويقال: لمكة والمدينة:
العروض. وقال ابن دريد: مكة والطائف وما حولهما. فإن قلت لم سمي هذا العلم بالعروض؟ قلت: لأنه ناحية من نواحي العلم كما سمي علم الإعراب النحو لأنه علم بأنحاء الكلام: وقيل: سمي باسم الجزء الأخير من أجزاء المصراع الأول. كما قيل لعلم المواريث: علم الفرائض. لقول الفرضيين فريضة الزوج كذا. وفريضة الأم كذا.
وقيل العروض: عمود البيت. وقيل: السعة التي تكون في وسطه.
والخليل أخذ هذه الأسماء من بيت العرب وهي: السبب والوتد والفاصلة والعروض والضرب تشبيها لبيت الشّعر ببيت الشّعر. بتعديل أفاعيله لتقويم أفعاله وتسويتها والأفاعيل جمع أفعال وأفعولة كأساطير. تفاعيل الشعر سبعة: خماسيان: وهما فعولن وفاعلن. وخمسة سباعية: وهي الأفاعيل والأركان والعضادات والمساطع والأوزان.
(1) الأعاريض: جمع العروض الذي هو آخر المصراع الأول على غير قياس ويحتمل أن يكون جمع أعروضة.
(2) الضرب: مصراع الثاني كالعروض للأول. وذلك نحو:
منزلي فحوملي. وقيل سمي بالضرب الذي هو أسفل الخباء ورفرفه الذي تضربه الريح.(1/225)
العريض. في صناعة القريض. (1) ووراء ذلك حيلولة الجريض (2).
لأن تنطق بكلمة فاضلة بين الحقّ والباطل فاصله. خير من منطقك في بيان الفاضلة والفاصلة (3). عليك بتقوى الله ومراقبته.
ولترعد فرائصك خوف معاقبته. ودع ما يجري من القريض: الشعر. وقرض له الشاعر وهو من القرض وهو القطع كأنه شيء يقتطعه من رويته وقريحته. ومنه قيل للجرة: القريض لأن المجتر يقرضها مما في كرشه.
(2) حيلولة الجريض: من قولهم حال الجريض. دون القريض وهو ان يجرض بريقه إذا غص به عند الموت. والجريض مصدر بمعنى الجرض وسئل عنه أبو الدقيس. فقال: الجريض: الغصة. وفي قوله:
وأقلهن جريضا، ولو أدركته. صفر الوطاب: يحتمل أن يكون صفة بمعنى جرض، كسقيم وسقم. وأن يكون مصدرا موضوعا موضع الصفة ويجوز أن يوصل في المثل وقت الاحتضار بالجريض. كقولهم:
نهاره صائم.
(3) الفاصلة: اسم لشيئين ثقيل وخفيف. نحو ضربا. ومثاله متفا من متفاعلن أو علتن من مفاعلتن. والفاضلة بالضاد المعجمة اسم لسبب ثقيل. ووتد مجموع نحو ضربتا ومثاله فعلتن وهو من فروع مستفعلن.
ويقال للفاصلة: الفاصلة الصغرى. وللفاضلة: الفاضلة الكبرى. وقيل:
سميتا بذلك لأنهما فصل فيهما بين الشيئين. أو بين السبب والوتد بالحركة التي في آخر السبب. الثقيلى، وقيل الفاصلة ملتقى السببين من الخباء وبهما سماه الخليل. ويسميها: بعضهم الواصلة لوصلها بين السببين وبين السبب والوتد، وسميت الكبرى فاضلة لفضلها على الصغرى وزيادتها.
وقد تسمى الغاية لأن ما تواتر فيها من الحركات لا يزاد عليها.(1/226)
المعاقبة (1) والمراقبة بين الحرفين. وعدّ عن الصّدر والعجز والطّرفين. ما ضرّك إذا تمّ ووفر دينك. وسلم (2) وصحّ (3) يقينك. واتّصفا بالوفور (4) والإعتدال (5). وخلصا عن الإنتقاص (6) والإعتلال (7). وإن وجد في شعرك كسر (8) المعاقبة: بين ساكني السببين المتجاورين أن يثبت أحدهما أو كلاهما ولا يذهبا معا. وذلك في نحو آخر الرمل يعاقب نون بين الف فا. فيقال فاعلات. فإن زوحف الجزء لمعاقبة ما قبله وهو فاعلاتن فعلات فهو مصدر. وإن زوحف لمعاقبة ما بعده وهو فاعلاتن فاعلاتن فهو عجوز. وإن زوحف لمعاقبة ما قبله وما بعده وهو فاعلاتن فعلات فاعلاتن فهو طرفان. تقع المعاقبة في أربعة أبحر في الرمل، والمديد، والخفيف، والمجتث، والمراقبة بينهما أن لا يذهبا معا ولا يثبتا معا.
التام كل مصراع يستوفي دائرته والوافي ما لم يأت الانتقاص على جميع أجزائه الأخيرة.
(2) والسالم: الجزء الذي خلا من الزحاف.
(3) والصحيح: العروض أو الضرب إذا سلم من الانتقاص.
(4) والوافر: البحر الذي كرر فيه مفاعلتن ست مرات سمي لوفور حركاته لأن حركات هذا البحر أوفر من حركات غيره، لأن أركانه في الدائرة خمس عشرة حركة وليس ذلك لغيره. والموفور الجزء الذي لا خرم فيه.
(5) والاعتدال: ان يستوي المصراعان من خلف بين أجزائهما.
(6) والانتقاص: الحذف اللازم.
(7) والاعتلال: أن يخالف العروض والضرب الحشو بسلامة أو بزحاف.
(8) والكسر: ما خرج من الزحافات المذكورة. قالوا: الزحاف
أو زحاف. أو وقع بين مصاريعه خلاف. ويلك إن كنت من أهل الفضل والحزم. فلا تهتمّ بنقصان الخرم (1) وزيادة الخزم (2). ولا تفكّر في الأثلم (3) والأثرم (4). والأخرب (5) جائز كالأصل. والكسر ممتنع. والزحاف ما خالف الأصل من نقصان أو زيادة. ومعنى زوحف بوعد من الأصل وأخر عنه.(1/227)
(8) والكسر: ما خرج من الزحافات المذكورة. قالوا: الزحاف
أو زحاف. أو وقع بين مصاريعه خلاف. ويلك إن كنت من أهل الفضل والحزم. فلا تهتمّ بنقصان الخرم (1) وزيادة الخزم (2). ولا تفكّر في الأثلم (3) والأثرم (4). والأخرب (5) جائز كالأصل. والكسر ممتنع. والزحاف ما خالف الأصل من نقصان أو زيادة. ومعنى زوحف بوعد من الأصل وأخر عنه.
(1) والخرم: نقصان حرف من الوتد المجموع الواقع في الصدر، وقد جوز في الابتداء وقد جمعهما من قال:
«لكنّ عبد الله لمّا أتيته ... أعطى عطاء لا قليلا ولا نذرا»
شبه بما خرم منه شيء أي قطع.
(2) والخزم (بالزاي): نقيض الخرم، وهو زيادة في الصدر خاصة حرف أو حرفان أو ثلاثة أو أربعة. شبه بخزم أنف البعير وهو ان تزاد الحلقة التي تسمى الخزامة.
(3) الاثلم: ما خرم من فعولن سالما. شبه بما وقعت فيه الثلمة من إناء أو غيره.
(4) والاثرم: ما خرم منه مقبوضا. شبه بالاثرم الذي تقلعت ثنيته من أصلها. وقيل الثرم فيما دون خمس أسنان فإذا سقط أكثر من أربع فهو أحتم.
(5) الاخرب: من مفاعيلن. ما خرم مكفوفا. والاخرم ما خرم سالما، شبها بما في أذنه خرق أو في أنفه خرم، والخرب: أن يكون فيها شق أو ثقب فيه سعة. وأهل السند حرف ويكثر في الضأن. وقال الزجاج: سمي أخرب لذهاب أوله وآخره. فلحقه الخراب والخرم الشق في الأهم.(1/228)
والأخرم، والأجمّ (1) والأقصم (2). والأعضب (3) والأصلم (4).
والمخبون (5) والمخبول (6). والمطويّ (7) والمشكول (8).
الاجمّ من مفاعلتن. ما خرم معقولا. والعقل اسقاط خامسه بعد اسكانه. قال الزجاج: شبه بالذي قطع قرناه. ويقال للبيت الذي يقع في هذا الجزء: بيت أجم.
(2) والأقصم: ما خرم معصوبا. والعصب إسكان الخامس من مفاعلتن. شبه بالاقصم الثنية. وهو المنكسرها من النصف وقال أبو زيد:
القصماء من الصم المكسورة، القرن الخارج.
(3) والاعضب: مفاعلتن إذا خرم سالما. شبه بالكبش الاعضب وهو المكسور القرن الداخل. ويتشاءم به. وقد يكون العضب في الاذن ومنه العضباء، ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والأعضب: من لا أخوة له ولا أحد. ورجل أعضب قصير اليد أو مقطوعها.
(4) والاصلم: مفعولات إذا سقط وتده شبه بمن استؤصلت أذناه. وقيل: أصرم بمعنى الأصلم.
(5) والمخبون: ما سكن ثانيه شبه بالثوب الذي يخبن طرفه أي يكسر، ثم يخاط ليقصر. قال الزجاج: كأنك نقصت الجزء وإن شئت أتممته كما أن ما خبن من ثوب أمكنك إرساله.
(6) والمخبول: ما جمع عليه الخبن والطيّ. والطي إسقاط ساكن السبب الثاني من مستفعلن. شبه بمن خبلت يداه أي قطعتا قال يعقوب:
خبلت يد فلان أشللتها. وقال الزجاج: قطعتها. قال أوس:
«أبني لبيني لستم بيد ... إلا يدا مخبولة العضد»
(7) والمطوي: مستفعلن إذا حذفت فاؤه وهو وسطه فقد بقي بعد حذفها متعادل الطرفين كثوب طوي لفقين مستويين لا تفاوت بينهما.
(8) والمشكول: ما جمع عليه الخبن والكف، والكف إسقاط
والمقصور (1) والمحزول (2). والمقطوع (3) والمحذوف (4).(1/229)
(8) والمشكول: ما جمع عليه الخبن والكف، والكف إسقاط
والمقصور (1) والمحزول (2). والمقطوع (3) والمحذوف (4).
والمعصوب (5) والمكفوف (6) والمعقول (7) والمقطوف (8).
السابع الساكن. شبه بالدابة التي شكلت يدها ورجلها.
(1) والمقصور: ما أسقط ساكن سببه وسكن متحركه. كما قيل في فعولن فعول بسكون اللام، شبه بما قصر بنقص نقصه كالصلاة المقصورة.
(2) والمحزول: ما أسقط رابعه بعد إسكان ثانيه. نحو فعل بمتفاعلن حتى صار مفتعلن شبه بالسنام المحزول وهو الذي يقطع يقال حزل السنام وحزلة. نحو عصف وعصفة وقيل هو المخزول بالخاء العجمة، وقد خزل البعير فهو أخزل وخزل فهو مخزول. والحزل والخزل: القطع.
(3) والمقطوع: ما أسقط ساكن وتده المجموع في آخره وأسكن متحركه كما فعل بفاعلن حتى صار فعلن. شبه بالمقطوع الرجل.
(4) والمحذوف: ما أسقط السبب الخفيف من آخره كما فعل بفعولن فصار فعو، شبه بالفرس المحذوف وهو الذي قطع بعض عسيب ذنبه. يقال: البريد محذوفة الأذناب.
(5) والمعصوب: مفاعلتن إذا سكن خامسه حتى يوازن مفاعيلن.
قالوا: لأنك عصبته من ان يتحرك أي منعته.
(6) والمكفوف: ما أسقط سابعه الساكن. شبه بالثوب المكفوف الذي عطفت كفته وهي طرف ذيله.
(7) والمعقول: مفاعلتن إذا حذف خامسه بعد تسكينه، شبه بالبعير الذي عقلت يده.
(8) والمقطوف: ما حذف بعد العصب. قال الزجاج: لأنك
والمشعّث (1) والأشتر (2). والأحذّ (3) والأبتر (4).(1/230)
(8) والمقطوف: ما حذف بعد العصب. قال الزجاج: لأنك
والمشعّث (1) والأشتر (2). والأحذّ (3) والأبتر (4).
والمقبوض (5) والمضمر (6). والموقوف (7) قطعت الحرفين ومعهما حركة قبلهما فصار نحو الثمرة التي تقطعها حتى تعلق بها شيء من الشجرة.
(1) والمشعث: ما أسقطت متحركي وتده كما فعل بفاعلاتن فصار فاعاتن أو فالاتن. وقيل: بل خبن فصار فعلاتن ثم سكن العين من قولهم شعث فلان من فلان شيئا أخذه ولم يأخذه أجمع.
(2) والاشتر: ما خزم مقبوضا كما فعل بمفاعيلن حتى صار فاعلن شبه بالاشتر الذي ينشق جفنه حتى ينفصل شقه.
(3) والأخذ: ما سقط وتده المجموع كما فعل بمتفاعلن حتى صار متفا ورد إلى فعلن من الحذذ وهو الخفة لأن الجزء بإسقاط وتده أجمع قد خف لقلته وقصره.
(4) والأبتر: ما اجتمع فيه الحذف والقطع كما فعل بفعولن حتى بقي فع شبه بالأبتر، وهو المقطوع الذنب. ويقال حلف له بتراء وهي اليمين المقطوعة التي ليس بعدها شيء.
(5) والمقبوض: ما أسقط خامسه الساكن كما فعل بمفاعيلن فصار مفاعلن من القبض الذي هو نقيض البسط. لأنه كان بالحركات مبسوطا فقبض.
(6) والمضمر: ما أسكن ثانيه كما فعل بمتفاعلن حتى وازن مستفعلن.
شبهت حال حركته في إزالتها مع جواز إثباتها بما يضمر مع جواز إظهاره ويجوز ان يقال السببان في الركن أحدهما ثقيل والآخر خفيف فإذا سكن متحرك السبب الثقيل وبقي السببان ساكني الثاني شبه سكون ثانيهما معا بحال أذني الشاة المضمرة وهي التي انثنت أذناها.
(7) والموقوف: ما أسكن آخر متحركي وتده المفروق كما فعل بمفعولات فصار مفعولات لأنه كالشيء الموقوف على الحركة.(1/231)
والمنقوص (1). والمكسوف (2) والموقوص (3).
إنّ لباس التّقوى خير لباس. وأزينه عند الله والنّاس. فلا تك عن اضفائه (4) مغفلا. والبسه مذالا (5) والمنقوص: ما كف بعد العصب كما فعل بمفاعلتن حتى رد إلى مفاعيل سمي لما وقع فيه من النقص البين باجتماع الزحافين فيه من إسكان ثاني سببه الثقيل وحذف ثاني الخفيف.
(2) والمكسوف: ما حذف متحرك وتده المفروق كما فعل بمفعولات فصار مفعولن. شبه بالبعير المكسوف وهو المعرقب، ومن رواه بالشين المعجمة فقد صحف.
(3) الموقوص: ما أسقط ثانيه بعد إسكانه كرد متفاعلن إلى مفاعلن شبه بالموقوص العنق ووقصها دقها. قال:
«ما زال شيبان شديدا هبصه ... حتى أتاه قرنه فوقصه»
(4) إضفاء اللباس: اسباغه وتوسعته. يقال: ضفا الثوب يضفو ضفوا، وثوب ضاف سابغ طويل. وقال ابن دريد: واسع. وفلان في ضفوة من العيش أي في سعة ورغد. وفي كلام بعضهم: من أضيف الكريم أضفى عليه لباس البر وأفيض عليه سجل الاحسان وأفضى عليه بكل خير.
(5) المذال: ما زيد على تعريته حرف ساكن. نحو مستفعلات في مستفعلن والتعرية سلامة الجزء من الزيادة.(1/232)
مسبّغا (1) مرفّلا (2). ولا تقتصر منه على الأقصر الأعجز (3).
كمخلّع (4) البسيط (5) أو مشطور (6) الرّجز (7). وأعرف والتسبيغ: نحو الاذالة إلا أن ذاك في السبب وهذه في الوتد.
(2) والمرفل: ما زيد على تعريته سبب خفيف وهو متفاعلاتن في متفاعلن والثلاثة متقاربة المعاني فإذالة الثوب ان تجعل له ذيلا. قال كثير:
«على ابن أبي العاصي دلاص حصينة ... أجاد المسدى سردها وأذالها»
وتسبيغه تكميله وتطويله من الدرع السابغة والترفيل نحو الاذالة وأزيد منها. والرفل بوزن السفل الذيل الطويل. يقال: شمر رفله، وهي لغة يمانية وعن بعضهم في المسبغ المشبع بالشين المعجمة من الاشباع شبه الركن المزيد على تعريته بالثوب على تلك الصفات وإنما وصف بها لباس التقوى قصدا إلى استعمال عبارات أهل العروض.
(3) الأعجز: من قولهم ثوب عاجز إذا كان قصيرا.
(4) المخلع: مسدس البسيط. شبه قطع الجزئين بقطع اليدين.
يقال: رجل مخلع لمن قطعت يداه.
(5) والبسيط: البحر المركب من مستفعلن وفاعلن أربع مرات.
سمي بذلك لأنه بسط بسطا حيث بدىء بالأسباب في أركانه. وقفت وقفة عند كل ركن في الانشاد فجاء الانشاد مرتلا مبسوطا.
(6) والمشطور: ما ذهب شطره كقوله:
«ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا».
من قولهم: شطر الشيء إذا جعله نصفين وشطر بصره شطرا وشطورا كأنه ينظر اليك وإلى آخر.
(7) والرجز: ما ركب من مستفعلن ست مرات، سمي رجزا
الفضل بين السكيت (1) والسابق إلى الغاية. وإن لم تعرف الفضل بين الفصل (2) والغاية (3). وإيّاك والخطو (4) المتقارب. ولا ترض من الناقة الرجزاء وهي التي ترتعد رجلها ثم تسكن وقد رجزت رجزا لأن أول ركن منه حركة وسكون.(1/233)
(7) والرجز: ما ركب من مستفعلن ست مرات، سمي رجزا
الفضل بين السكيت (1) والسابق إلى الغاية. وإن لم تعرف الفضل بين الفصل (2) والغاية (3). وإيّاك والخطو (4) المتقارب. ولا ترض من الناقة الرجزاء وهي التي ترتعد رجلها ثم تسكن وقد رجزت رجزا لأن أول ركن منه حركة وسكون.
(1) السكيت: مخفف ومشدد. فالمخفف مصغر المشدد تصغير الترخيم. وما كان بوزن فعّيل كالجميز والقليس فمكبر لأن ياء التصغير لا تقع رابعة.
(2) والفصل: اسم العروض المخالف لسائر أركان البيت بنقصان أو زيادة لازمة.
(3) والغاية: اسم الضرب الذي يكون كذلك. اعقد همتك بأبواب الدين وأهلها، واعرف الفضل بين من كان منهم مسبوقا متخلفا في طريقة التقوى وبين من كان سابقا متقدما حتى تجهد نفسك العمل، وترغبها في أعمال السابقين وفي نيل درجاتهم فإن تلك المعرفة أعود عليك من معرفة أحوال العروض وتسميتها فصلا وغاية.
(4) والخطو المتقارب: القصير. يعني فسح خطوك في سبيل الدين ولا تقطف قطوف المتواني والمتقارب والركض والرمل من البحور فالمتقارب مركب من فعولن ثماني مرات، سمي بذلك لتقارب أوتاده وأسبابه. وقيل لأنه تقاصرت أركانه لكونها خماسية. والركض: من فاعلن ثماني مرات ويسمى بحر الغريب ولم يأت إلا مخبونا أو مقطوعا نحو قوله:
«أوقفت على طلل طربا ... فسحاك واخرسك الطلل»
وقوله:
«أهل الدنيا كل فيها ... هلا هلا وقتا وقتا»
سمي بركض الفارس دابته يستحثها لما في إنشاده من الخفة والسرعة.(1/234)
بدون الرّكض والرّمل (1). وأبطر نفسك ذرعها (2) في مضمار (3) العمل. فإنّما يلحق الخفيف (4) السّريع والرمل: مركب من فاعلاتن ست مرات. شبه بالرمل في الطواف لأن الوتد في كل ركن بين سببين فإذا نطق بالسبب الأول سارع اللسان إلى السبب الثاني كما يفعل الرامل في سعيه، وقيل هو من رمل الحصير لتساوي أجزائه كما يتساوى أجزاء الحصير المرمول
(2) الذرع: مصدر ذرع الثوب وغيره إذا قدره بالذراع فاستعير لقدر الطاقة، ثم قيل نظر فلان ذرعه أي نظر في مقدار وسعه، ونظره فيه أن لا يعمل على حسبه ويتجاوزه إلى ما لا يطيق ويعدو طوره فيه.
وانتصاب ذرعه على الظرف كقولك في قوله تعالى: {(بَطِرَتْ مَعِيشَتَهََا)} (1).
وتقول العرب: لا يبطر صاحبك ذرعه. أي لا يكلفه ما لا يطيق.
ومراده: إذا أرسلت نفسك في مضمار العمل فأكذبها وحدثها بالمتجاوز لوسعها لتعلو همتها ويفرط حرصها على توليه ومباشرته.
(3) المضمار: المكان أو الزمان الذي يضمر فيه الخيل.
(4) والخفيف، والسريع، والمنسرح: من أسماء البحور. فالخفيف:
مركب من فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن مرتين. سمي لأنه أخف ما في دائرته وقيل يخف إنشاده وقول الشعر عليه. والسريع مركب من مستفعلن مستفعلن مفعولات مرتين. سمي لأن إنشاده يشهد على المنشد الطيب وزنه فيسرع فيه. وذلك لأن الوتد المفروق واقع في آخره فيسهل ما قبله ويخف على اللسان. وقيل: لأن قول الشعر عليه يسهل ويسرع وقيل لأن أسبابه مقدمة على أوتاده والسبب أخف من الوتد. والمنسرح: مركب من مستفعلن مفعولات مستفعلن مرتين. سمي لأنه انسرح عن حال أخواته بشيء ليس لهن وهو تواتر ثلاثة أسباب وأربعة في حشوه.
__________
(1) سورة القصص، الآية 58.(1/235)
المنسرح (1). وادأب ليلك الطّويل المديد (2) ولا تقل أصبح (3). وليكن لكلامك المقتضب (4) المنسرح: السهل في سيره. يقال: ناقة منسرحة في السير.
وانسرح من ثيابه إذا خرج.
(2) والطويل والمديد أيضا من البحور. فالطويل: مركب من فعولن مفاعيلن أربع مرات، سمي لأنه أطول أوزان العرب، البيت التام منه يرتقى إلى ثمانية وأربعين حرفا، وأقصى ما يرتقى اليه غيره اثنان وأربعون حرفا، وقيل لأن الطول لازم له لوقوع الوتد فيه أولا والوتد أطول من السبب. وهو المقدم على سائر البحور لأن العرب أكثر ما تقول الشعر عليه. والمديد: من فاعلاتن فاعلن أربع مرات. قالوا:
الطويل والمديد والبسيط أخوات من دائرة واحدة والطول فيهن جميعا ففرق بينهن في التسمية والمعنى واحد للتمييز وقيل: سمي مديدا لأن أسبابه مدت فوقع في السباعي سبب في أوله وسبب في آخره. فقيل:
لأن منشده لا ينفك عن مد الصوت كقوله:
«يا لبكر انشروا لي كليبا ... يا لبكر أين أين الفرار».
(3) ولا تقل أصبح أي لا يستطيل ليلك حتى تدعو بصباحه وتتمناه.
قال الشماخ:
«ألا أيها الليل الطويل ألا أصبح ... بتم وما الاصباح منك بأروح».
وفي أمثال العرب: «أصبح ليل».
(4) المقتضب: المرتجل. شبه بالغصن الذي يقتضب من الشجرة أي يقطع سريعا. والمقتضب من البحور ما ركب من مفعولات مستفعلن مرتين لأنه اقتطع من المنسرح. وقيل من الضارع. وقيل اقتطع منه الركن الثالث وهو مفعولات.(1/236)
سائق من التّنبّه محتث (1). وإلّا فكلماتك في الشّجر المجتث. وليطربك الحقّ الأبلج. كما يطرب الشارب الهزج (2). وإيّاك ثمّ إيّاك. أن ترى (3) إلّا في ذاك.
ولأن تفكّ نفسك عن دائرة الجرائر. أولى بك من فكّ البحور والدّوائر.
المجتث: المتأصل. يقال جثه واجتثه وحقيقة أخذ خبثه من قوله تعالى: {(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مََا لَهََا مِنْ قَرََارٍ).} (1) والمجتث من البحور ما ركب من مستفعلن فاعلاتن فاعلات مرتين. فهو نحوه إلا في اختلاف الترتيب.
(2) الهزج: مدك الصوت مترنما. وقال الأصمعي: فرس هزج:
خفيف المشي سريع رفع القوائم متداركها. وكل كلام متدارك متقارب على إيقاع واحد هزج. والهزج من البحور مفاعيلن ست مرات، سمي بذلك لأنهم كانوا يترنمون به أكثر ترنمهم لمواتاته له وطيبه به.
(3) أن ترى مضارعه: أي مشابهه. يريد لا تمايل الشارب إلا في تلك الهزة بحسب. والمضارع من البحور المركب من مفاعيلن فاعلاتن مفاعيل لأنه ضارع الخفيف في خفته. وقيل ضارع الهزج في أنه مربع مثله، وفي أن الهزج مركب من وتد وسببين إلا أن وتد هذا مفروق. وقيل ضارع المجتث في أن مفاعيلن فيه يصير مفاعلن ومستفعلن في المجتث يصير مفاعلن فيضارعان، في قولك. مفاعلن فاعلاتن فيهما جميعا.
سمي كل جنس من أجناس الشعر بحرا تشبيها بالبحر في تشعب الأبيات المختلفة الأعاريض والضروب منه كما تتشعب الخلجان والأنهار من البحر. ومثال فك البحور من الدوائر.
__________
(1) سورة إبراهيم، الآية 26.(1/237)
مقامة القوافي
مقامة القوافي يا أبا القاسم شأنك (1) بقافية رأسك وعقدها. وبدعوة السّحر تحلّلها بيدها. إن كنت ممّن ينفعه استغفاره. أو يسمع منه نداؤه وجؤاره. واستغن بكلمات الله الشافية.
عن التكلم في حدود القافيه (2). فما يؤمنك أن يورّط بك في اقتراف جرم. انتصارك لأخوي (3) فرهود وجرم. ولعلّ شأنك: بمعنى عليك شأنك. إلا أنه لما اطرد ترك استعمال هذا المضمر معه وكان هو بنفسه سادا مسده ومستقلا بنفسه اعتقد فيه أنه هو. فقيل: شأنك بكذا، كما يقال: عليك بكذا. وهو من الحديث المروي: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد، فإذا قام من الليل فتوضأ وصلى انحلت عقده). ومعناه: أن الشيطان يأسر الانسان ويوثقه بخطام يخطمه به وهو تمثيل لاغرائه وتأثير وسوسته كأنه جعله في ملكته فإذا تهجد تفصى من وثاقه.
(2) والقافية: اسم ما تقفو. كقافية البيت وقافية الرأس وهي القفا.
(3) أخو فرهود وجرم: وهما الخليل بن أحمد الفرهودي والفراهيدي. والفراهيد فخذ من بطن خزاعة يقال لهم اليحمد، وهي منقولة من جمع فرهود. والفرهود والفاهود الغلام الحسن الممتلىء. وأبو عمر الجرمي، وابن مسعدة أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش، وابن
قدحك في بني مسعدة والمستنير وكيسان. يسمك بما سمّته بنو فهم بكيسان. واذهل عن المتكاوس (1) منها والمتدارك (2). بتكاوس ذنوبك وعجز المتدارك. وعن المتواتر (3) والمتراكب (4) والمترادف (5). بآثام المستنير أبو علي محمد بن المستنير قطرب، وابن كيسان. وبينهم اختلاف في حد القافية. فعند الخليل والجرمي هي آخر حرف من البيت إلى أول ساكن يقدمه مع المتحرك الذي قبله وذلك كقامها من مقامها. وعند الأخفش آخر كلمة في البيت كأنقين من قوله:(1/238)
(3) أخو فرهود وجرم: وهما الخليل بن أحمد الفرهودي والفراهيدي. والفراهيد فخذ من بطن خزاعة يقال لهم اليحمد، وهي منقولة من جمع فرهود. والفرهود والفاهود الغلام الحسن الممتلىء. وأبو عمر الجرمي، وابن مسعدة أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش، وابن
قدحك في بني مسعدة والمستنير وكيسان. يسمك بما سمّته بنو فهم بكيسان. واذهل عن المتكاوس (1) منها والمتدارك (2). بتكاوس ذنوبك وعجز المتدارك. وعن المتواتر (3) والمتراكب (4) والمترادف (5). بآثام المستنير أبو علي محمد بن المستنير قطرب، وابن كيسان. وبينهم اختلاف في حد القافية. فعند الخليل والجرمي هي آخر حرف من البيت إلى أول ساكن يقدمه مع المتحرك الذي قبله وذلك كقامها من مقامها. وعند الأخفش آخر كلمة في البيت كأنقين من قوله:
«لا تشتكين عملا ما انقين ... ما دام مخ في سلامي أو عين»
وعند قطرب الحرف الذي تبني عليه القصيدة وهو المسمى رويا.
وعند ابن كيسان كل شيء لزمت إعادته في آخر البيت. وقالوا الحق مع الخليل والجرمي وقولهما هو المنصور. وكيسان علم للغدر وقال:
«إذا ما دعوا كيسان كان كهولهم ... إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد»
(1) والمتكاوس: كل قافية توالت فيها أربع متحركات بين ساكنين. وذلك نحو فعلتن أربعة أحرف متحركة بين نونها ونون الجزء الذي قبلها.
(2) والمتدارك: كل قافية توالى فيها متحركان بين ساكنين نحو متفاعلن.
(3) والمتواتر: كل قافية فيها حرف متحرك بين حرفين ساكنين.
نحو مفاعيلن.
(4) والمتراكب: كل قافية توالت فيها ثلاثة أحرف متحركة بين ساكنين. نحو مفاعلتن.
(5) والمترادف: كل قافية اجتمع في آخرها ساكنان نحو مستفعلان.(1/239)
كأنّها (1) هي في وصف الواصف. وعن الفصل بين الخروج (2) والوصل (3). بالخروج عن الأجداث يوم الفصل. ولا تحسب أنّ من لا يعرف نفاذا (4) كأنها هي في وصف الواصف. يعني أن أثامك موصوفة بالتكاوس وهو التراكم، يقال: تكاوس النبات، إذا تراكم لالتفافه وكثافة نبته. قال عطارد بن قران أحد بلعدويه:
«ودوني من نجران ركن ممرد ... ومعتلج من نخله متكاوس»
وبالتدارك وهو التتابع. يقال: تداركت الخيل. ومعناه أن يدرك بعضها بعضا لتتابعها. ودارك الطعن، وطعن دارك، وبالتواتر من تواتر القوم، إذا تتاموا فكان ذلك. فالصحابة متواترون. وبالتراكب والترادف أن يركب ويردف بعضها بعضا.
(2) الخروج: حرف اللين بعد الوصول إذا كان ها في مثل قوله مقامها وبلادها. وقد يحبون بالخروج متبعا على الوزن ايثارا لرخاوة الصوت للترنم ثم قال:
«لما رأيت الدهر جما خيله» ... لبعده من الروي، وخروجه من حيزه.
(3) الوصل: الحرف بعد الروي كحروف الاطلاق وهاء التأنيث وهاء الضمير متحركة أو ساكنة لأنه وصل بالروي تابعا له.
(4) النفاذ حركة هاء الوصل التي للاضمار لأن نفاذ الخروج ومضاره بهذه الحركة. كما سميت حركة الروي مجرى لأن جري حرف الاطلاق وامتداده بها، ولولا هاتان الحركتان لما كان طريق إلى مد الصوتين ولا يتحرك من حروف الأصل غيرها، نحو فتحة هاء إجمالها وكسرة كسائه وضمة اغماده لأن الألف إذا وقعت وصلا لا تتحرك، وهاء التأنيث إذا حركت وصارت تاء وانقلبت حرف روي إذا قلت: «وبكى النساء على خمرتي». فالتاء هي الروي وما دامت هاء فوصل.(1/240)
ولا توجيها (1). لم يكن عند الله وجيها. ومن لم يراع ردفا (2) ورويّا (3). لم يصب من الكوثر شربا رويّا. ومن أخطأ مجرى (4) أو دخيلا (5). وجد بين أهل التوجيه: حركة الحرف الذي إلى جنب الروي المقيد كحركة ياء الخير من الثوب الموجه الذي له وجهان لمجيء هذه الحركة على وجوه.
(2) الردف: حرف لين ساكن قبل حرف الروي. كالألف قبل الميم في مقامها لأنه خلف الروي كالردف للراكب. والألف لا تجامع الواو والياء ويجتمعان والذي يدعو إلى الردف الترنم.
(3) الروي: الحرف الذي يبني عليه الشاعر القصيدة. وجميع حروف المعجم روي إلا حروف الاطلاق وهاء التأنيث والاضمار والتنوين والألف المبدلة من التنوين والهمزة المبدلة من التنوين في الوقف والحروف اللاحقة للضمير في بهى ولهو وغلامها. فإن كان واحد منها فيجاوزه إلى الذي قبله. فإنه الروي سمي بذلك لأنه يجمع الأبيات من رويت الحبل الذي تشد به الأحمال وتضم. ولذلك يسمى القري والقر.
ويقال: القصيدتان على قري واحد وقرو واحد من قروت. بمعنى:
قريت. إذا جمعت ويجوز ان يكون من الري لأن البيت يرتوي عنده أي ينقطع كما ينقطع الشرب عند الارتوي.
(4) المجرى: حركة حرف الروي فتحته أو ضمته أو كسرته، وليس لروي المقيد مجرى.
(5) الدخيل: الحرف بين الروي وحرف التأسيس. كالزاي من المنازل، لأنه دخل بين شيئين في كونهما لازمين على هيئة واحدة لا يجوز
الحق دخيلا. ومن أسّس (1) بيتا لم يساند (2) فيه ولا أقوى (3). كمن بنى بيتا أسّس من أوّل يوم على التقوى.(1/241)
(5) الدخيل: الحرف بين الروي وحرف التأسيس. كالزاي من المنازل، لأنه دخل بين شيئين في كونهما لازمين على هيئة واحدة لا يجوز
الحق دخيلا. ومن أسّس (1) بيتا لم يساند (2) فيه ولا أقوى (3). كمن بنى بيتا أسّس من أوّل يوم على التقوى.
خلافها. ألا ترى أنه لا بد من الألف واللام في جميع قوافي قصيدة ذي الرمة:
«خليليّ عوجا من صدور الرواحل
على دارمي فابكيا في المنازل
(1) التأسيس: الف ساكنة دون حرف الروي بحرف متحرك يلزم ذلك الموضع من القصيدة كلها كألف فاعل لأنها تراعي مراعاة الروي.
وهي مقدمة عليه فكأنها أساس له وأصل وأنه مبني عليها ومسند اليها.
(2) السناد: كل فساد قبل حرف الروي. كقوله: عيون عين واللجين. وقوله: ثم اسلمي والعالم فجاء بألف التأسيس في هذا البيت دون سائر البيوت. من قولهم: خرج بنو فلان متساندين إذا خرجوا على رايات شتى فهم مختلفون غير متفقين. وقال ذو الرمة:
«وشعر قد ارقت له غريب
أجنّبه المساند والمحالا»
(3) الأقواء: رفع بيت وجر آخر. شبهت المخالفة بين القوافي بالمخالفة بين قوى الحبل من قولهم أقويت حبلك أي فتلته فتلا خالفت فيه بين قواه فجعلت بعضها أغلظ من بعض، ويهينك ويرمونك ليس باقواء لأن الكاف هو الروي وقد جاء الاقواء بالنصب قال امرؤ القيس:
«فخر لروقيه وامضيت مقدما
طويل القري والروق أخنس ذيالا»
ويسمى الاصراف. ذكره المبرد.(1/242)
ومن عرف الإشباع (1) والحذو (2). صادف النّصب (3) والبأو (4). وتنكّب التّحريد (5) والإيطاء (6).
الاشباع: حركة الدخيل ككسرة زاي منازل إذا كانت القافية مطلقة. قال ابن جني: سمي بذلك لأنه ليس قبل الروي حرف إلا ساكنا كالتأسيس والردف. فلما كان هو متحركا صارت الحركة فيه كالاشباع.
(2) الحذو: حركة الحرف الذي قبل الردف. كحركة باء لبيدوسين رسول من حذا النعل بالمثال حذوا إذا قابلها به وقدرها عليه كأنه حذي بالرأس في ثباته ولزومه.
(3) النصب: كل قافية سليمة من الفساد تامة البناء من الانتصاب والاستقامة أو من النصب. بمعنى الرفع من قولهم نصب القوم الستر إذا رفعوه. وقال صمة القشيري:
«سقيت الغوادي در خود غزيرة ... أصاخت لخفض من غنائك أو نصب»
أراد المنخفض منه والعالي.
(4) والبأو مثل النصب. وهو من بأوت أي افتخرت وتعاليت.
(5) التحريد: فساد في القافية كالحرد في الرجلين وهو داء مزعج يأخذ البعير فيضرب بيده الأرض. ويستعار لغيره. والمحرد بالمعوج من كل شيء. يقال: حرد الجلد إذا عوج قطعه بعضه دقيقا وبعضه عريضا.
وقال طرفة:
«ووجه كقرطاس الشآمي ومشفر ... كسبت اليماني قده لم يحرد»
ويجوز ان يكون معنى حرد البيت جعله حريدا منفردا عن النظائر مخالفالها.
(6) الايطاء: تثنية القافية الواحدة وإذا كانت في إحديهما لام
والتضمين (1) والإكفاء (2). وما صنع في ارتجازه (3) أبو جهل. فهو السّالم من كلّ خطأ وجهل.(1/243)
(6) الايطاء: تثنية القافية الواحدة وإذا كانت في إحديهما لام
والتضمين (1) والإكفاء (2). وما صنع في ارتجازه (3) أبو جهل. فهو السّالم من كلّ خطأ وجهل.
التعريف والثانية نكرة فلا إيطاء كالظباء وظباء في قصيدة زهير وأصله أن يطأ الانسان في طريقه على أثر وطىء قبله فيعيد الوطىء على ذلك الموضع. وعن ابن الاعرابي آطا الشاعر واطأ بمعنى أوطأ. قلبت الواو الفا كما في ما حل وقلبت واو وطأ همزة كما في أجم بمعنى وجم.
(1) التضمين: ان لا يتم معنى البيت إلا بما يليه، لأن كل واحد من البيتين مضمن معنى صاحبه محتاج اليه.
(2) الاكفاء: اختلاف الروي كالميم والطاء والدال.
(3) وارتجاز أبي جهل قوله:
«بازل عامين حديث سنى ... بمثل هذا ولدتني أمي».
ويسمى الاكفاء الإجازة بالزاي ورويت بالراء ذكرهما البارقي في كتاب له في القوافي. وعن ابن دريد أنه اختلاف ما قبل الروي في القافية المقيدة. كقوله أفر صبر فر. وقيل هو من السناد. وهو من اكفأت البيت إذا جعلت له كفاء. وهو ستره من أعلاه إلى أسفله من مؤخره. وقال ابن دريد: كساء يطرح حول الخباء كالأزار حتى يبلغ الأرض. لأنه شيء مخالف للبيت شبهت مخالفته مخالفة بعض الروي بعضا، أو من اكفأت القوم إذا أرادوا وجها فصرفتهم إلى غيره. واكفأت في مسيري إذا جرت عن القصد لأنه صرف للروي عن وجهه وطريقته ولذلك سمي الاجارة بمعنى اجاره عن وجهه أي جعله جائرا عنه، أو جائرا له أي متخطيا فيمن قالها بالزاي، وقال الأزهري: الإجارة من أجور الكسر إذا جبر على غير استواء وهي فعالة من أجر يأجر كالإمارة من أمر يأمر.(1/244)
فربّ كبير من علماء الرّس. (1) هو شرّ من أصحاب الرّس. وكم من ماهر في معرفة الغلوّ (2) والتعدي (3). هو من أهل الغلوّ في الباطل والتعدّي.
الرس: فتحة الذي قبل التأسيس. كفتحة عين عالم. من رس الحديث في نفسه أثبته فيها، ورسه الحديث كرره عليه ليثبته في قلبه، سمي بذلك لثباته لأن ما قبل الألف لا يكون إلا مفتوحا.
(2) الغلو: حركة القاف في قوله: خاوي المخترقن. والنون هو الغالي لما في ذلك من مجاوزة حد الوزن.
(3) التعدي: حركة الهاء التي للمضمر المذكر التي هي ساكنة في الوقف في قوله:
«لما رأيت الدهر جما خيلهو».
والواو هو التعدي.(1/245)
مقامة الديوان
مقامة الديوان يا أبا القاسم الله خلع من رقبتك ربقة المطامع. واقتحامك عقبة صعبة المطالع. إلّا أنّ خلع هذه الرّبقة من الرّقبه.
هي العقبة وأصعب من العقبه. عقبة لا يقتحمها إلا قوي ضابط. وإلّا من أمدّه الله بجاش رابط. أبيت أن يبقى لإسمك في الجريدة (1) السّوداء إثبات. وأن يطلق رزقك إذا أطلقت الأطماع والرّزقات (2). وقطعت كلّ سبب عمّا هو أولى بك يخرجك. أو إلى المرتّبين في الدّيوان يحرجك.
الجريدة السوداء: دفتر في ديوان الجيش فيه مبالغ أرزاقهم وفيوضهم وحلاهم وسائر أحوالهم، وهو الأصل الذي يرجع اليه في كل شيء في هذا الديوان. والجريدة اسم مولد وهي الصحيفة التي جردت لوجه. وقيل لها السوداء لأنهم سودوا دفتيها ليميزوها عن سائر الجرائد لكثرة ما يتناوبوها ويرجعون اليها. أو لما فيها من التسويد بالضرب والإثبات وفي كلام بعضهم: «ويلي عليك إذا نشرت صحيفتك النكراء وعرضت جريدتك السوداء».
(2) الأطماع والرزقات: هي أرزاق الجند في ديوان العراق. جمع رزقة. وهي المرة من الرزق والأعطية والانزال. يقال: فلان أخذ طعمه ونزله. أي أخذوا أنزالهم وأطماعهم وأعطيتهم. ويسمى أيضا التقديرات والمقدرات وأخذ فلان تقديره ومقدره وقدر له كذا. ويقال لما يجري
فقعدت خلي البال خالي الذّرع. لا فكر لك في زرع ولا ضرع لا يعرف شقصك (1) في الطّساسيج (2). ولا خراجك في العريضة (3) والتأريج (4). ولا يمرّ ذكرك في القانون (5) والأوارج (6).(1/246)
(2) الأطماع والرزقات: هي أرزاق الجند في ديوان العراق. جمع رزقة. وهي المرة من الرزق والأعطية والانزال. يقال: فلان أخذ طعمه ونزله. أي أخذوا أنزالهم وأطماعهم وأعطيتهم. ويسمى أيضا التقديرات والمقدرات وأخذ فلان تقديره ومقدره وقدر له كذا. ويقال لما يجري
فقعدت خلي البال خالي الذّرع. لا فكر لك في زرع ولا ضرع لا يعرف شقصك (1) في الطّساسيج (2). ولا خراجك في العريضة (3) والتأريج (4). ولا يمرّ ذكرك في القانون (5) والأوارج (6).
من الرزق: الجراية، يقال: جرايته من السلطان كذا، ويقال لأشياء خارجة من الرزق يعطيها السلطان الجيش. والمعاون الواحدة معونه.
وإقامة الأطماع الابتداء في العطاء.
(1) الشقص: الطائفة من الشيء والحصة. ومنه تشقيص الجزار اللحم. وهو التعضية وفي الحديث: (من باع الخمر فليشقص الخنازير).
(2) الطساسيج: أقساط السواد. سميت بأقساط المثقال وهو أربعة وعشرون طسوجا.
(3) العريضة: مسودة شبيهة بالتأريج يعمل لأبواب يحتاج إلى علم الفصل بينها.
(4) والتأريج: تعريب تأريك. وهو المظلم. وهو سواد يعمل للعقد إذا احتاجوا إلى حمل الأبواب. والتأريج في كلام العرب التحريش يقال حرش بين القوم وارش وارج.
(5) القانون: أصل الخراج الذي يرجع اليه ويبني عليه الحسابيات.
ويقال: اعمل على هذا القانون يريدون على هذا الأصل والترتيب فإن كانت الكلمة عربية فهي من قولهم قن الشيء يقنه قنا إذا أجال فيه بصره وتفقد لأن الترتيب وبناء الأمر على الأصل يحتاج إلى تفقد وإجالة بصر وتصفح. ويقال للطنبور القنين بوزن السكين لأنه مما رتب واجيل في صنعته البصر.
(6) الأوارج: تعريب أواره بالفارسية. ومعناه المنقول لأنه ينقل اليه من القانون ما على انسان. ويقال: الأوارجة.(1/247)
ولا في الدّستور (1) والرّوزنامج (2). ولا تهتمّ بالمنكسر (3) والرائج. والكرّ (4) المعدّل والفالج (5). والحساب والحسّاب.
والقصب والباب. (6) والحشريّ (7) والأخلاب (8) والمثلّث (9) الدستور: نسخة الجماعة المنقولة من السواد.
(2) الروزنامج: تعريب روزنامه. وهو ما يكتب فيه ما يجري كل يوم من استخراج ونفقة.
(3) المنكسر: ما يتعذر استخراجه من المال والرائج عكسه. يقال:
راج الشيء رواجا وروجه صاحبه إذا سهل إمضاه.
(4) الكر: المعدل ستون قفيزا.
(5) الفالج: مكيال ضخم أكبر من الفالج. يقال: كر بالفالج.
(6) القصب: أربعة مكاكيك. والمكوك سبعة أمناء، ونصف الباب في المساحة ستة أذرع طولا.
(7) والحشري: ميراث من لا وارث له كأنه منسوب إلى يوم الحشر.
(8) الاخلاب: جمع خلب. وهو من الجباية ما لا يكون وظيفة معلومة سمي بالخلب الذي هو بمعنى المخلوب. ويقال لأعشار الزروع الخليبة وصدقات المواشي. وأخماس المعادن الأخلاب.
(9) المثلث والمربع في المساحة. والقبضة سدس الذراع والاصبع ثمن الذراع. والقفيز عشر الجريب. والجريب عشرة الف ذراع.
والاشل ستون ذراعا طولا بلغة أهل البصرة. يقولون: كذا وكذا أشلا وكذا احيلا.(1/248)
والمربّع. والقبضة والإصبع. والقفيز والأشل. والتحويل (1) والنّقل. والتّسويغ (2) والموافقة (3). والتوظيف (4) والمواصفة (5) والتّلميظ (6) والسّلف (7). والسّاقط (8) والمتلف. والتّكسير (9) التحويل في ديوان الجيش: أن يحول من جريدة إلى جريدة.
والنقل: أن ينقل بعض المال إلى رجل آخر.
(2) التسويغ: أن يسوغ الرجل شيئا من خراجه. قال ابن دريد:
سوغ فلانا كذا إذا أعطاه إياه. ويسمى: الحطيطة والتريكة.
(3) الموافقة: حساب يرفعه العامل بعد فراغه من العمل باتفاق بين الرافع والمرفوع اليه، وموافقة بينهما على تفصيلاته، فإذا لم يكن موافقة بينهما فهي محاسبة.
(4) التوظيف: أن يوظف على عامل جمل مال معلوم.
(5) والمواصفة: ما يوصف فيه أحوال تقع وتتجدد.
(6) والتلميظ: أن يطلق لطائفة من المرتزقة بعض الرزقات قبل وقتها. من قولهم: لمظ فلان فلانا من حقه إذا أعطاه بعضه. وهو من التلمظ الذي هو تتبع الآكل بقية الطعام بين أسنانه بعد الأكل. واسم ما يتلمظ به اللماظة. يقال: ألقى لماظة من فيه ويشبه به الشيء اليسير.
فيقال: ما عنده إلا لماظة.
(7) السلف: تسلف الجند أرزاقهم قبل وقت استحقاقهم.
(8) الساقط في ديوان الجيش: من يموت أو يستغنى عنه.
والمتلف: نحوه.
(9) التكسير في المساحة: ما يجتمع من ضرب بعض الجوانب في بعض. يقال: كم تكسير هذه الأرض؟ فيقال: كذا وكذا ذراعا.(1/249)
والختمه. (1) وضياع الحوز (2) والطعمه (3) والرّقم (4) والتّرقين (5). والحاصل (6) والتّخمين (7). وآثرت مناقلة (8) الختمة: حساب يرفعه الجهبذ كل شهر كأنه يختم به الشهر.
والختمة الجامعة تعمل كل سنة.
(2) ضياع الحوز: هي التي أخذها السلطان لنفسه من أقوام ذكر أنهم خرجوا عليه. يقال: فلان يتولى ضياع السلطان وضياع الحوز.
(3) الطعمة: أن يدفع السلطان إلى رجل ضيعة ليعمرها ويؤدي عشرها مدة حياته. فاذا مات ارتجعت من ورثته وإذا بقيت نفقته فهي قطيعة.
(4) الرقم: من رقوم الحسبة.
(5) الترقين: خط يخط في التأريج أو العريضة إذا خلا باب.
كالصفر في حساب الهند وحساب الجمل. قالوا: اشتقاقه من رقان وهو بالنبطية فارغ. والترقين في العربية المقاربة بين السطور. ورقن الكتاب قرمط سطوره. ورقن رأسه خضبه بالرقون. وهو الحناء. وهو الرقان. وعن ابن دريد، الرقان: الزعفران. وفي نوابغ الكلم: (العلم درس وتلقين، لا طرس وترقين).
(6) الحاصل: يكون في بيت المال أو على العامل. والباقي على الرعية.
(7) التخمين: الحزر. قال ابن دريد: قول العامة خمن كذا:
احزره احسبه، مولدا. ويقال: قال ذلك بالتخمين: أي بالشك والتقدير.
وأصله من كمان وهو الشك بالفارسية.
(8) المناقلة: المناظرة. لأن المتناظرين يتناقلان الكلام ويتجاذبان أهدابه.(1/250)
الأئمّة. على مناقرة (1) الأزمّه (2). وأعفيت سمعك عن استماع الجباية (3) والخراج (4). والتسبيب (5) والإستخراج (6).
والتّحرير (7) والإزار (8). والمؤامرة (9) والإستقرار (10).
المناقرة: مراجعة الكلام والمخاصمة.
(2) الأزمّة: الذين يكونون مع الوكلاء، يشاهدون أعمالهم ويحفظونهم. الواحد زمام. ويقال: جعل فلان زماما على فلان. وهذا زمام الأمر أي ملاكه. وأصله زمام البعير.
(3) الجباية: ما يجبي من الخراج وغيره. أي يستخرج ويجمع من جبي الماء في الحوض. ويقال: الجباوة.
(4) الخراج: المضروب على الأرض وهو الخرج أيضا. قال الله تعالى: {(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرََاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ).} (1)
(5) التسبيب: من سبب له إذا جعل له سببا.
(6) الاستخراج: فعل المستخرج. وهو الذي يستخرج بواقي الأموال على البنادرة على الرعية المنكرة.
(7) التحرير: نقل الكتاب من سواد نسخة إلى بياض. بمعنى الاخلاص من قوله تعالى: {(إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مََا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً)} (2).
أي مخلصا للعبادة. وقيل: الناسخ الذي ينقل النسخ إلى الدفاتر والمحرر الذي ينقلها إلى الخط الحسن. من قولهم شيء حر للحسن. وحر الوجه أحسن موضع منه.
(8) الازار: ما يكتب في آخر الكتاب من نسخة عمل أو فصل في بعض المهمات. مأخوذ من إزار المؤتزر.
(9) المؤامرة: كتاب يجمع ما يحتاج فيه إلى استيمار السلطان واستدعاء توقيعه.
(10) الاستقرار: ما يستقر عليه أمر الاطماع.
__________
(1) سورة المؤمنون، الآية 72.
(2) سورة آل عمران، الآية 35.(1/251)
والعبرة (1) والإيغار (2). والثّبت (3) والأسكرار (4). صكّ الله من يرقم في الصّك (5). ولا انفكّ من الخزي من يصدر العبرة: أن تجمع الارتفاعات ويؤخذ نصفها بعد أن يعتبر الأسعار والعوارض الواقعة.
(2) الايغار: استيفاء الخراج. واوغر العامل الخراج من إيغار الماء. وهو أن يغلي إغلاء شديدا متناهيا. وفي المثل: «كرهت الخنازير الماء الموغر». وقيل الإيغار الحماية وأن تحمي القرية فلا يدخلها أحد من العمال. وكأنه من أوغر صدره والوغر الحقد. لأن ذلك مما يوغر صدروهم ويثبطهم.
(3) الثبت: في ديوان الرسائل أن تنسخ الكتب بأعيانها أو ثبت جوامعها ونكتها. ومنه قيل لفهرس الكتب الثبت. وهو في الأصل مصدر بمعنى الثبات يقال ثبت الشيء ثباتا وثبتا. وهو رجل له ثبت عند الحملة ومن أبيات الدائرة المؤتلفة في العروض:
«وعندهم مصادق من وقائعنا ... فما لهم لدى حملاتنا ثبت»
وفلان ثبت من الاثبات إذا كان ثقة مأمونا فيما يروي. وأما الإثبات: فهو أن يثبت اسم رجل في الجريدة السوداء.
(4) الاسكرار: كتاب يكتب فيه عدد الخرايط والكتب الواردة والنافذة.
(5) الصك: يعمل لكل طمع يجمع فيه أسماء المستحقين وعدتهم.
فيوقع السلطان بالاطلاق.
في الفك (1). ولا وقعت الرّحمة على الموقع (2). ولا تتابع الخير للمتتبّع (3). ولا شكر الله سعي الشّاكري (4) والفرانق (5) ولا أسعد أبا العيش الغرانق (6). وطلا بفحمة الغسق.(1/252)
فيوقع السلطان بالاطلاق.
في الفك (1). ولا وقعت الرّحمة على الموقع (2). ولا تتابع الخير للمتتبّع (3). ولا شكر الله سعي الشّاكري (4) والفرانق (5) ولا أسعد أبا العيش الغرانق (6). وطلا بفحمة الغسق.
وجوه أهل الطّسق (7). وأغلق باب الرّحمة ولا فتح. على كلّ الفك: أن يصحح اسم الرجل ورزقه في الجريدة بعد ما وضع.
(2) الموقع: الذي يوقع على الاسكرار بوقت الورود والصدر والتوقيع. من قولهم: بعين موقع الظهر. إذا كانت له آثار الدبر.
وطريق موقع معبد أثرت فيه السنابك لأنه تأثير وتعليم، وقوع الرحمة عبارة عن العطف والرقة. ويقال: عليه وقعت رحمته وألقى عليه رحمته إذا رق عليه وأحبه مثل وقوع محبته عليه بوقوع الرحمة على ما تقع عليه ولزومها له قد اشتقوا من ذلك قولهم رحمته إذا رققت له.
(3) المتتبع: الذي يتتبع على العمال والبنادرة ليقف على مجاري أحوالهم.
(4) الشاكري: من دون الجندي من السلطانية، يقال: فلان من طبقة الجند وفلان من الشاكرية. وهو معرب.
(5) الفرانق: الذي يحمل الخرائط. تعريب بروانك وهو الخادم.
يقال: فرانق البريد للذي يتقدمه. قال امرؤ القيس:
«فإنى زعيم إن رجعت مسلما ... لسير ترى منه الفرانق ازورا»
وفرانق الأسد دويبة يعدو بين يديه كأنه ينذر به ويقال: هو شبيه بابن آوى.
(6) الغرانق: الناعم.
(7) الطسق والطسك (بالسكون): ما يوضع على الجريب من وظيفة الخراج. كلمة معربة.(1/253)
من أغلق (1) الخراج وافتتح. ولا صفح عن المتصفّح (2) وآثامه.
ونسخ عن الناسخ (3) ظلّ إكرامه. ولا أنشأ على المنشىء (4) سحاب إنعامه. وأشرط في الهلكة نفوس الشرط (5) والجلاوزه.
وضربهم بالشّدّة المتناهية والمتجاوزة. ولا أصلح الله الموسومين بالمصالح. فهم من المفاسد لا المصالح.
إغلاق الخراج: الفراغ من جبايته. وافتتاحه: ابتداؤه.
(2) المتصفح: الناظر في الكتب يصلح ما فيها من غلط أو سقط.
يقال: فلان يتولى التصفح.
(3) الناسخ: محول النسخ الى الدفاتر.
(4) المنشىء في ديوان الرسائل: الذي ينشىء الكتب. وفلان يتولى ديوان الانشاء.
(5) الشرطة: أعوان السلطان الذين لهم زيه وهيئته. والجمع شرط، والواحد شرطي. وصاحبو الشرط الذين هم محبوه. وهم الجلاوزة. الواحد جلواز. وأشرط نفسه في الهلكة: جعلها علما لها.
من الشرط وهو العلامة. ومن اشتقاق الشرط لأنهم أعلموا أنفسهم بزي يعلمون المصالح القوام لمصالح الناس، وكف شرورهم. الواحد مصلحة ومصلحي. ومن قال لهم اليوم مفاسد ولواحدهم مفسدة ومفسدي لما الناس فيه من فسادهم وجورهم لم أعنفه. ويقال: لهم مسالح بالسين الواحد مسلحة ومسلحي لأنهم كانوا يرتبون في موضع ومعهم السلاح ليدفعوا عن المارة ويحفظونهم.(1/254)
مقامة أيام العرب
مقامة أيام العرب يا أبا القاسم استنكف أن تشتري المتاع القليل الفاني بالملك الكبير والنعيم الخالد. فقد استنكف أن يدفع ابنه عتبة بحصين ابن ضرار شتير بن خالد. وقد عرضت (1) عليه ثلاث وقيل وقد عرضت عليه ثلاث: أي خصال خير بينهن. وقصة ذلك أن عتبة بن شتير بن خالد بن نفيل بن عمرو بن كلاب قتل حصين ابن ضرار بن عمرو الضبي أبا زيد الفوارس وزيد الفوارس حينئذ حدث لم يذكر في غزوة غزاها بنو ضبة فأغار أبوه ضرار على ابن عمرو بن كلاب يطلب ثاره فأسر شتيرا وأفلت عتبة. وشتير شيخ أعور. فقال له: اختر واحدة من ثلاث. قال: اعرضهنّ عليّ.
قال: ترد على ابني حصينا، قال: علمت يا أبا قبيصة أني لا أنشر الموتى. قال فادفع إليّ ابنك عتبة. قال: لا يرضى بنو عامر أن يدفعوا فارسهم شابا معتبلا لشيخ أعور هامة اليوم أو غد. قال: فاقتلك مكانه.
قال: أما هذه فنعم فامر ابنه ادهم بن ضرار بقتله. فنادى شتير يا لعامر اصبر بضبي. أي بسبب ضبي يضرب في حلول البلاء بالشريف من الوضيع فسيرها مثلا: وقال شمعلة بن الأخضر الضبي في كلمة له:
«وخيرنا شتيرا في ثلاث ... وما كان الثلاث له خيارا
جعلنا السيف بين الميت منه ... وبين قصاص لمته عذارا»
له اختر. فلم يرض إلّا أن يعطي أعور بأعور. ولا تجعل الدّنيا لك مونسه. فإنها لا أمّ لك مومسه (1). تجرّ على طالبها من جهد البلاء. ما جرّته أسماء على راكب الشّيماء (2). وعلى هاشم ودريد (3) ابني حرمله. من وقع السّنان ونفوذ المعبله (4). إنّ لك أجلا مكتوبا لن تعدوه. وأمدا مضروبا المومسة: المرأة الفاجرة من الومس. وهو الكلام الخفي واسم بغي كانت في بني مرّة بن سعد بن ذبيان.(1/255)
«وخيرنا شتيرا في ثلاث ... وما كان الثلاث له خيارا
جعلنا السيف بين الميت منه ... وبين قصاص لمته عذارا»
له اختر. فلم يرض إلّا أن يعطي أعور بأعور. ولا تجعل الدّنيا لك مونسه. فإنها لا أمّ لك مومسه (1). تجرّ على طالبها من جهد البلاء. ما جرّته أسماء على راكب الشّيماء (2). وعلى هاشم ودريد (3) ابني حرمله. من وقع السّنان ونفوذ المعبله (4). إنّ لك أجلا مكتوبا لن تعدوه. وأمدا مضروبا المومسة: المرأة الفاجرة من الومس. وهو الكلام الخفي واسم بغي كانت في بني مرّة بن سعد بن ذبيان.
(2) والشيماء: فرس معاوية بن عمرو بن الشريد.
(3) هاشم ودريد: رجلان من ساداتهم.
(4) والمعبلة: من النصال. ما عرّض وطوّل. والمشقص: ما عرّض ولم يطول. وقد عبلت السهم: ركبت فيه معبلة. وقصة ذلك أن أخا الخنساء الشاعرة معاوية بن عمر الشريد السلمي وافى عكاظ في بعض المواسم: فلقي اسماء المرية. فدعاها إلى نفسه فامتنعت عليه وقالت: أما علمت أن سيد العرب هاشم بن حرملة فاحفظته؟ فقال:
والله لأقارعنه عنك. فأخبرت هاشما بما دار بينهما. فلما تراجع الناس عن عكاظ غزا معاوية بن مرة فسنح له ظبي وغراب. فتطير ورجع وتقدّم عظيم جيشه. ونزل هو في تسعة عشر على ماء فبصرت بهم مرية فدلت هاشما على مكانهم. فركب في عدّتهن من بني مرة فلقوهم فاعتور معاوية هاشم ودريد ابنا حرملة فقتلاه. ثم إن صخرا أخا معاوية أغار على بني مرة فقتل دريد بن حرملة، وقال: ولقد قتلناهم ثناء وموحدا ويركب مرة مثل امس المدبر. ولقد رفعت إلى دريد بن حرملة غازيا فلما كان ببلاد بني جشم بن بكر بن هوازن نزل وخلا
لن تخطوه. ولا يدفع عنك عمرو ولا زيد. ولا يجدي عليك مكر ولا كيد. وهل أغنى يوم البطن (1) عن علباء الجشميّ. مضغ إبهام ابن خارجة الجرميّ. بل أصابه ما أصاب دفافة بن هوذة بن شماس. من عضب أصاب ففلق سواء الرّاس. وربما اقتحم الرّجل الغمار. وركب الأخطار.(1/256)
والله لأقارعنه عنك. فأخبرت هاشما بما دار بينهما. فلما تراجع الناس عن عكاظ غزا معاوية بن مرة فسنح له ظبي وغراب. فتطير ورجع وتقدّم عظيم جيشه. ونزل هو في تسعة عشر على ماء فبصرت بهم مرية فدلت هاشما على مكانهم. فركب في عدّتهن من بني مرة فلقوهم فاعتور معاوية هاشم ودريد ابنا حرملة فقتلاه. ثم إن صخرا أخا معاوية أغار على بني مرة فقتل دريد بن حرملة، وقال: ولقد قتلناهم ثناء وموحدا ويركب مرة مثل امس المدبر. ولقد رفعت إلى دريد بن حرملة غازيا فلما كان ببلاد بني جشم بن بكر بن هوازن نزل وخلا
لن تخطوه. ولا يدفع عنك عمرو ولا زيد. ولا يجدي عليك مكر ولا كيد. وهل أغنى يوم البطن (1) عن علباء الجشميّ. مضغ إبهام ابن خارجة الجرميّ. بل أصابه ما أصاب دفافة بن هوذة بن شماس. من عضب أصاب ففلق سواء الرّاس. وربما اقتحم الرّجل الغمار. وركب الأخطار.
لحاجته بين شجر فرأى غفلته بعض بني جشم. فقال: هذا قاتل معاوية لا والت نفسي وإن وال. ففتر له بين الشجر حتى إذا كان خلفه أرسل عليه معبلة فعلق حاقّ فجفجه. فقالت الخنساء:
«فدى للفارس الجشميّ نفسي ... أفديه غزالي من حميم
كما من هاشم أقررت عيني ... وكانت لا تنام ولا ينيم».
(1) البطن: موضع كانت فيه وقعة بين بني فريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة وبين بني عدي بن عبد مناة بن اد. والخزمي منسوب إلى بني خزيمة بن تميم من بني عدي. وقصة ذلك أن بني دفافة ابن هوزة بن شماس الفريعي غزا بقومه بني فريع بن عدي بن عبد مناة بن اد بالبطن. فشد عوف بن شريك العدوي على دفافة فقتله وانهزمت بنو فريع وعانق يزيد بن خارجة أحد بني جزيمة علباء أحد بني جشم بن عوف ابن كعب. فمضغ علباء إبهامه. فقال: له ما يغني عنك ما تصنع لقد علمت بنو عدي أني إذا أخذت قرني لم ينفلت مني، ثم صرعه فشده وثاقا وفي ذلك يقول يزيد بن سلامة:
«هم قتلوا دفافة يوم شدّوا ... وعلباء الذي عضّ الاسارا»
ثمّ نجا منها بمهجة سليمة. كأنّما مرّ ذاك برأس ظبي (1) بالصّريمه. ولعلّه بلغك ما أصاب دريدا يوم اللّوى. وكيف رشقه (2) الموت من كثب (3) ثمّ أشوى (4). وما أقدم عليه من شدّها وتشنيجها. وكشف ميتة الزّهدمين (5) ذاك الظبي: مثل في الصحة. وفي أمثالهم: «أصح من ظبي».(1/257)
«هم قتلوا دفافة يوم شدّوا ... وعلباء الذي عضّ الاسارا»
ثمّ نجا منها بمهجة سليمة. كأنّما مرّ ذاك برأس ظبي (1) بالصّريمه. ولعلّه بلغك ما أصاب دريدا يوم اللّوى. وكيف رشقه (2) الموت من كثب (3) ثمّ أشوى (4). وما أقدم عليه من شدّها وتشنيجها. وكشف ميتة الزّهدمين (5) ذاك الظبي: مثل في الصحة. وفي أمثالهم: «أصح من ظبي».
ويقال به: ألا بظبي في الدعاء على المنكوب. قال الفرزدق:
«أقول له لما أتاني نعيه ... به الا بظبي بالصريمة أعفرا»
(2) رشقه: رماه.
(3) والكثب: القرب. من قولهم أكثب الصيد. وحقيقته أمكنه من كاثبه أي من كاهله.
(4) واشوى: من الشوى. وهي الأطراف وما ليس بمقتل.
والضمير في شدها وتشنيجها للاست.
(5) وزهدم وكردم: أخوان من بني غطفان قيل لهما الزهدمان بحكم التغليب. قال:
«جزاني الزهدمان جزاء سوء ... وكنت المرء أجزى بالكرامة»
وقصة ذلك أن عبد الله بن الصمة أخا دريد غزا غطفان فصرعوه.
وصرع أخوه دريد. وهو ينهنه عنه وتركوهما صريعين. فمات عبد الله ودريد حي وهم يحسبونهما مقتولين فمر بهما الزهدمان. فقال زهدم لكردم: انزل فانظر إلى جنازة فإن تحرك فهو حي قال دريد فسمعت بها، يعني المقالة فشددتها يعني استه. وشنجتها لئلا يتحرك. فكشف
وتفريجها. وما نفّس عنه بعد احتقان الدّم. من طعنة أهوى بها كردم. وإيّاك والإباء إذا نصحت. والشماس إذا استصلحت. فلو أطاع ذو الأسماء (1) الثلاثة والكنى الثلاث صنوه (2). لما تنازعت ضباع بني غطفان شلوه. ولو أطاع عني فنظر فقال هو ميت ثم ركب فرسه واهوى إليّ فطعنني في جعباي.(1/258)
وصرع أخوه دريد. وهو ينهنه عنه وتركوهما صريعين. فمات عبد الله ودريد حي وهم يحسبونهما مقتولين فمر بهما الزهدمان. فقال زهدم لكردم: انزل فانظر إلى جنازة فإن تحرك فهو حي قال دريد فسمعت بها، يعني المقالة فشددتها يعني استه. وشنجتها لئلا يتحرك. فكشف
وتفريجها. وما نفّس عنه بعد احتقان الدّم. من طعنة أهوى بها كردم. وإيّاك والإباء إذا نصحت. والشماس إذا استصلحت. فلو أطاع ذو الأسماء (1) الثلاثة والكنى الثلاث صنوه (2). لما تنازعت ضباع بني غطفان شلوه. ولو أطاع عني فنظر فقال هو ميت ثم ركب فرسه واهوى إليّ فطعنني في جعباي.
وهي الاست. وكانت قد أصابتني جراحه فقد احتقن دمها فلما طعنني خرج الدم فوجدت افاقه وراحة. وبقيت حتى جنني الليل. ومرت سيارة من هوازن فحملوني وغسلوا عني الدم وداووني حتى برئت.
(1) هو أخو دريد بن الصمة. كانت له ثلاثة أسامي عبد الله ومعبد وخالد وثلاث كنى أبو فرعان وأبو دفافة وأبو أوفى. وقد أوردها دريد فيما رثاه به فقال في أسمائه:
«فإن يك عبد الله خلي مكانه ... فما كان وقافا ولا طائش اليد
فإن بقيت الأيام والدهر يعلموا ... بني تارب انا قصاب لمعبد
أعاذل ان الرزء في مثل خالد ... ولا رزء فيما أهلك المرء عن يد
دعاني أبو فرعان والخيل دونه ... فلما دعاني لم يجدني بقعدد»
وقال في كناه:
«أبا دفافة من للخيل إذ طردت ... واضطرها الطعن في وعث والحاف
وفارس ما أبو أوفى إذا شغلت ... كلتا اليدين كرور غير وقاف»
(2) وصنوه هو دريد. وتركه طاعته أنه حين غزا بني غطفان واستاق نعمهم أقام بمنقطع اللوى. وقال: لا أبرح حتى انتقع وأجيل السهام. فقال له أخوه دريد: بأبي أنت لا تغفل. فإن القوم لن يتركوا
بشر بن عمرو (1) بن مرثد ذا الكف الأشل. لما حلّ به وبعلقمة وحسّان وشرحبيل ما حل. إحتط في أمورك فلو احتاط حمران بن ثعلبة لم ينطلق مع أسيريه اللّدان.(1/259)
«أبا دفافة من للخيل إذ طردت ... واضطرها الطعن في وعث والحاف
وفارس ما أبو أوفى إذا شغلت ... كلتا اليدين كرور غير وقاف»
(2) وصنوه هو دريد. وتركه طاعته أنه حين غزا بني غطفان واستاق نعمهم أقام بمنقطع اللوى. وقال: لا أبرح حتى انتقع وأجيل السهام. فقال له أخوه دريد: بأبي أنت لا تغفل. فإن القوم لن يتركوا
بشر بن عمرو (1) بن مرثد ذا الكف الأشل. لما حلّ به وبعلقمة وحسّان وشرحبيل ما حل. إحتط في أمورك فلو احتاط حمران بن ثعلبة لم ينطلق مع أسيريه اللّدان.
وبشر بن حجوان لم يلق ما لقي بقصوان (2). حين أقبل طلبك فاجلوّذ حتى يأتي قومك فأبى. وولج بحر البقيعة فإذا الخيل دوائس. وكان ما كان وتنازع بنو غطفان شلوه مثل لاستيلائهم عليه وقتلهم له.
(1) وكان من قصة بشر بن عمرو بن مرتد أنه وعمرو بن عبد الله ذا الكف الاشل سيدا بني ضبيعة أغارا متساندين على بني أسد بن جذيمة والحيّ خلوف. فأخذا حاجتهما ثم أقبلا حتى إذا كانا في قبل عقبة فلات. وهي من محلة بني أسد اتبعهما بنو أسد وبادروهما العقبة بجيش لا قبل لهما به فقال عمرو لبشر أن القوم قد سبقوك إلى العقبة فأعدل ذات اليمين نحو اليمامة وكان بشر تياها متكبرا فأبى فامتاز عنه عمرو وعدل ذات اليمين بقومه بني رهم فنجا واستوى بشر على طريقه فثارت اليه بنو أسد فقتل هو وبنوه الثلاثة علقمة وحسان وشرحبيل وعامة قومه.
فقالت خرنق بنت هفان وهي امراته:
«لا وابيك آسي بعد بشر ... على حي يموت ولا صديق
وبعد الخبو علقمة بن بشر ... إذا ما الموت كان لذا الخلوق
منيت لهم بوابلة المنايا ... بخوف قلاف للحين المسوق
فكم نهلات من أوصال خرق ... أخي ثقة وجمجمة فليق»
(2) قصوان: ماء لبني تيم الله بن ثعلبه.(1/260)
على عضّ الإبهام. ولم يغن عنه يالعجل (1) ويا لهمّام. إيّاك واللام في يا لعجل ويا لهمام للاستغاثة. وهي لام الاضافة وإنما فتحت فتحها عند الضمائر لأن المنادي في حكم كاف الخطاب. وقصة ذلك أن اللدان بن عمرو أحد بني ضبيعة بن عجل بن لجيم، وبشر بن حجوان أحد بني السمين من بني همام بن مرة. أغارا في افناء بكر بن وائل على بني عدي بن مناة. فناصبوهم الحرب فانهزمت بكر بن وائل وأسر الرجلين عمران بن ثعلبة المخيط العدوي. والمخيط لقب ثعلبة وبقيا في قدة حولا محرما. فقالا له: هل لك أن تنطلق معنا فتجيرنا في بلاد تميم فإذا صرنا في بلادنا أعطيناك فداءنا وأجرناك حتى ترجع إلى بلادك؟ فقال عمران أن كنانة بن دهر أخا بني تيم اللات أصابه أخي خليفة بن ثعلبة يوم الصعاب فأخاف أن لا يقدرا على أن يمنعاني. فقالا:
بلى. فذهب معهما فلما نزلوا قصوان تركوا ابن المخيط في الرحل وذهبا براحلته يسقيانها فقال أحدهما لصاحبه يسرّ كلامه: هل عللت راحلة ابن المخيط؟ فسمع ذلك بعض بني تيم اللات. فقال: يا قوم هذا ثاركم ابن المخيط في رحل فلان وفلان فدخلوا عليه بالسيوف فتعاوروه وهو ينادي يا لعجل ويا لهمام. ولم يجبه أحد حتى قتل. فقال: أدهم بن عصيم التيمي:
«فدى لهلاك كهلها ووليدها ... سلاحي وما ضمت إلى المحامل
هم تركوا بشر بن حجوان ثاويا ... بقصوان منضودا عليه الجنادل
فهان علي والدي أبا عبدة ... دعاؤك هماما ورأسك مائل
ترجي عدي أن يؤوب ابن مخيط ... وقد غال جار ابن السمين الغوائل»
والغدرة فإنّها شنيعة (1) الكنية والإسم. قبيحة الأثر والرسم ولا تنس ما فعل بأحد الصّمتين (2) مالك. وما دفعته إليه من ركوب المهالك. حين منّ عليه الجعد (3). ثمّ غدر به مالك من بعد. لا جرم أنّ أبا مرحب (4) لم يحيّه بأهلا ولا مرحب. بل حيّاه بأبيض ذي شطب (5). أورده حياض شنع: اسم الغدرة وقبح لسماجته معناها. كما قال:(1/261)
«فدى لهلاك كهلها ووليدها ... سلاحي وما ضمت إلى المحامل
هم تركوا بشر بن حجوان ثاويا ... بقصوان منضودا عليه الجنادل
فهان علي والدي أبا عبدة ... دعاؤك هماما ورأسك مائل
ترجي عدي أن يؤوب ابن مخيط ... وقد غال جار ابن السمين الغوائل»
والغدرة فإنّها شنيعة (1) الكنية والإسم. قبيحة الأثر والرسم ولا تنس ما فعل بأحد الصّمتين (2) مالك. وما دفعته إليه من ركوب المهالك. حين منّ عليه الجعد (3). ثمّ غدر به مالك من بعد. لا جرم أنّ أبا مرحب (4) لم يحيّه بأهلا ولا مرحب. بل حيّاه بأبيض ذي شطب (5). أورده حياض شنع: اسم الغدرة وقبح لسماجته معناها. كما قال:
«تبغى ابن كوز والسفاهة كاسمها»
فجعل السفاهة سمجة كاسمها. لأن الاسماع تمج اسم السفاهة كما تمج به الطباع معناها.
(2) والصمتان: الصمة أبو دريد، ومالك أخوه. وكان مالك أنبه وأذكر من الصمة وهما من جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن.
(3) والجعد بن الشماخ أحد بني عدي بن مالك بن حنظلة.
(4) وأبو مرحب ثعلبة بن الحارث بن حصبة بن ازنم من بني يربوع. وهو الذي قال فيه الجعدي:
«وكيف يواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب».
(5) والشطب: فرند السيف. وقصة ذلك أن مالكا أغار على بني حنظلة يوم عاقل فأسره الجعدي ثم منّ عليه وجز ناصيته وأطلقه. فقال له: إنك قد اتخذت عندي يدا فاطلب ثوابها إذا شئت فإنك. ذو واحدة عندي. فمكث الجعدي زمنا ثم أصابته سنة فأتاه يطلب جزاءه. فوثب عليه فقتله ثم أتى عكاظ وكان بها حرب ابن أميه بن عبد شمس يطعم
هلك وعطب. كن في حماية حقيقة (1) دينك. والذّبّ عنها بسيفك ويمينك. أحمى من ربيعة بن مكدّم أخي بني فراس. ذاك اللّيث الهزّام (2) الغرّاس (3). حمى الظعائن وهو طعين اليمنى في مأبضه (4). مشغول الكفّ عن السّيف ومقبضه. حماها وطعنته رشّاشه. وبعد أن لم تبق له الناس فاجتمع عنده مالك وثعلبة اليربوعي فقدم اليه تمرا. فجعل مالك يلقى النوى بين يدي ثعلبة. ثم قال له يا أبا مرحب أما ترى ما بين يديك من النوى. قال إني ألقي النوى وأنت تبتلعه وهو الذي أعظم بطنك. قال: كلا ولكنما أعظم بطنى دماء بني حنظلة هل عرفت عمك الجعد ومصرعه. قال ما فخرك برجل أسرك ثم منّ عليك فغدرت به. أما والله لئن التقينا لتعرفنّ مكاني ثم خرج معية بن مالك مغيرا على بني يربوع فأسروه. فخرج مالك مستجيرا بالحارث بن هبه المجاشعي حتى يفدي ابنه فركب معه المجاشعي إلى بني يربوع فاستقبلهما القوم وفيهم أبو مرحب، فلما أبصر مالكا خنس راجعا فأخذ السيف فضربه حتى أثبته.(1/262)
(5) والشطب: فرند السيف. وقصة ذلك أن مالكا أغار على بني حنظلة يوم عاقل فأسره الجعدي ثم منّ عليه وجز ناصيته وأطلقه. فقال له: إنك قد اتخذت عندي يدا فاطلب ثوابها إذا شئت فإنك. ذو واحدة عندي. فمكث الجعدي زمنا ثم أصابته سنة فأتاه يطلب جزاءه. فوثب عليه فقتله ثم أتى عكاظ وكان بها حرب ابن أميه بن عبد شمس يطعم
هلك وعطب. كن في حماية حقيقة (1) دينك. والذّبّ عنها بسيفك ويمينك. أحمى من ربيعة بن مكدّم أخي بني فراس. ذاك اللّيث الهزّام (2) الغرّاس (3). حمى الظعائن وهو طعين اليمنى في مأبضه (4). مشغول الكفّ عن السّيف ومقبضه. حماها وطعنته رشّاشه. وبعد أن لم تبق له الناس فاجتمع عنده مالك وثعلبة اليربوعي فقدم اليه تمرا. فجعل مالك يلقى النوى بين يدي ثعلبة. ثم قال له يا أبا مرحب أما ترى ما بين يديك من النوى. قال إني ألقي النوى وأنت تبتلعه وهو الذي أعظم بطنك. قال: كلا ولكنما أعظم بطنى دماء بني حنظلة هل عرفت عمك الجعد ومصرعه. قال ما فخرك برجل أسرك ثم منّ عليك فغدرت به. أما والله لئن التقينا لتعرفنّ مكاني ثم خرج معية بن مالك مغيرا على بني يربوع فأسروه. فخرج مالك مستجيرا بالحارث بن هبه المجاشعي حتى يفدي ابنه فركب معه المجاشعي إلى بني يربوع فاستقبلهما القوم وفيهم أبو مرحب، فلما أبصر مالكا خنس راجعا فأخذ السيف فضربه حتى أثبته.
(1) الحقيقة ما حقت عليك حمايته وبنو فلان حماة الحقائق.
(2) والهزم: الكسر.
(3) والغرس: الدق.
(4) والمأبض: باطن الذراع.(1/263)
حشاشه (1). إلى أن بلغت المأمن ونجت. ولم تنل منها بنو سليم ما رجت. أغث من استغاث بك وإن كان أعدى عداك. وأذرعهم (2) سعيا في رداك. وأبغض ما فعله فتيا هذيل بعمرو بن عاصيه. ولو شاء لمنّأ عليه وجزّا الناصيّة.
لكنّهما لم يفعلا رغبة بأنفسهما عن بعد الهمم.
ومعاصاة لأوامر العطف والكرم. بل حرماه ما يفئأ به اللهاث. وقد استغاث بسقيه فأبيا أن يغاث. فتعاوراه بأسيافهما وهو يلهث حرّه (3). وما كان ذلك منهما بفعل والحشاشة: بقية النفس. وقصة ذلك أنه كان بين بني سليم ابن منصور وبني فراس بن مالك بن كنانة تدراء. فقتل بنو فراس من بني سليم رجلين وودوهما. ثم خرج بعد ذلك نبيشة بن حبيب في ركب من قومه يطلبون دماءهم. فلقوا نفرا من بني فراس فيهم ربيعة ابن مكدم ومعهم ظعن لهم. فطعنه نبيشة في مأبض يده فلحق بالظعن وهو يستدمي. فقال: أوضعن ركابكن حتى ينتهين إلى أدنى الحي فإني لمكاني وسوف أقف دونكن ولن يقدموا عليكن لمكاني. فاعتمد على رمحه وهو واقف على متن فرسه حتى بلغن مأمنهن ولقد مات وما يقدم عليه فما علم أحد حمى حقيقته ميتا غيره وهو غلام له ذؤابه، ضرب المثل أحمى من ربيعة بن مكدم.
(2) وأذرعهم: أسرعهم. وهو ذريع المشي وقد ذرع ذراعه.
(3) واللهاث والحرة: العطش. وقصة ذلك أن عمرو بن عاصية من بني بهز بن سليم عزم على غزو بني سهم بن معاوية من هذيل.
وكانت امرأة هذلية عند رجل بهزي. فبعثت ابنا لها إلى قومها فأنذرهم
ابني حرّه. إتّق مضارّة عشيرتك. ومماظّة (1) جيرتك.(1/264)
وكانت امرأة هذلية عند رجل بهزي. فبعثت ابنا لها إلى قومها فأنذرهم
ابني حرّه. إتّق مضارّة عشيرتك. ومماظّة (1) جيرتك.
وسر فيهم بأحسن سيرتك. فلولا. أنّ بني تميم كانوا أعقّ (2) من ضبّه. لعمومتهم (3) بني ضبّه. لما لحقت فنذروا واستعدوا. فنزل ابن عاصية على جبل يشرف على بني سهم وقال لأصحابه أرى القوم حذرين ان لهم لشأنا ولقد أنذروا علينا وقد عطش هو وأصحابه فقال من يرتوي لنا فلم يجسر أحد. فركب فرسه وأخذ قربته فبلغ البئر وثم رصد يرمقونه من حيث لا يراهم فدخل البئر وطفق يملأ القربة. وأقبل فتيان وشيخ من هذيل فأشرفوا عليه وقالوا قد أخزاك الله يا ابن عاصية وأمكن منك. فرمى الشيخ بسهم فأصاب أخمصه فانفذه. وشغل الفتيان بنزع السهم. ووثب ابن عاصية شدا فأدركه الفتيان فأسراه، فقال: لهم اروياني من الماء ثم اصنعا ما بدا لكما فلم يسقياه وتعاوراه بأسيافهما حتى قتلاه. فقالت أخته تبكيه:
«يا لهف نفسي لهفا لا مردّ له ... على ابن عاصية المقتول بالوادي
هلّا سقيتم بني سهم أسيركم ... نفسي فداؤك من ذي غلّة صادي»
(1) المماظة: المخاشنة والمخالفة. ومنها قيل لرمان البر: المظّ.
وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: (لا تماظّ جارك فإنه يبقى ويذهب الناس).
(2) وعقوق الضبة: أنها تأكل أولادها، كفعل الهرة.
(3) والعمومة والخؤولة والأبوة. جموع ومصادر. وكان بنو ضبة أعمام لأن ضبة ولد اد وتميم ولد مرّ بن أد.(1/265)
الرّباب (1) ببني أسد (2) يوم هم حلفاء لبني ذبيان. ولما استعووا حليفيهم طيّئا وغطفان. ولم يجر على تميم وعامر ما جرى عليهم من الإسار والنّفار (3). في يومي النّسار والجفار (4). ولما قتل الهصّان (5) طليق ابن أزنم. ولما أعتب (6) غضاب تميم بالصّيلم (7). تحفّظ من نطاح جارك وهراشه.
والرباب: أربع قبائل تيم وعدي وعكل وثور أطحل، وهم بنو عبد مناة. وعبد مناة وضبة أخوان ابنا ادّ بن طابخة. وسموا أربابا لأنهم ترببوا أي تجمعوا. وهو جمع ربة بمعنى الجماعة والنسبة اليهم ربي على الرد إلى الواحد. كما يقال: في الإضافة إلى القبائل قبليّ.
(2) وبنو أسد هم الذين كانوا حلفاء لبني ذبيان وهم الذين استعووا طيئا وغطفان أي استنصروهم. وأصله أن يعوى الذئب ليسمع الذئاب عواه. فتقبل عليه تسانده على الصياح وتعاونه. وكانت طيء وغطفان حليفي بني أسد.
(3) والنفار: الشراد.
(4) والنسار والجفار: مكانان للوقعتين.
(5) والهصان: عامر بن كعب بن عضد بن أبي بكر بن كلاب.
وكان ثعلبة بن الحارث بن عصية بن ازنم اليربوعي أسر الهصان يوم ذي نجب فمنّ عليه.
(6) والاعتاب: الارضاء.
(7) والصيلم: من أسماء الداهية. وهو من قول بشر بن أبي حازم:
«غضبت تميم أن يقتل عامر ... يوم النسار فاعتبوا بالصيلم»
واحفظه أن يغار منك على فراشه. فو الله ما ذهب بدم شاس ابن زهير أدراج الرياح (1). ولا وضع في مستدقّ صلبه بين وهو نحو قولهم: لك العتبى بازلا رضيت. وقصة ذلك أن بني ضبة قتلوا رهطا من بني تميم. فطلبتهم بنو تميم. فلحقت الرباب وهم بنو عبد مناة بني أسد بن خزيمة وبنو أسد يومئذ حلفاء لبني ذبيان.(1/266)
«غضبت تميم أن يقتل عامر ... يوم النسار فاعتبوا بالصيلم»
واحفظه أن يغار منك على فراشه. فو الله ما ذهب بدم شاس ابن زهير أدراج الرياح (1). ولا وضع في مستدقّ صلبه بين وهو نحو قولهم: لك العتبى بازلا رضيت. وقصة ذلك أن بني ضبة قتلوا رهطا من بني تميم. فطلبتهم بنو تميم. فلحقت الرباب وهم بنو عبد مناة بني أسد بن خزيمة وبنو أسد يومئذ حلفاء لبني ذبيان.
فنادى صريخ بني صريخ بالخندف. وهو أول يوم تخندفت فيه خندف.
فأصرختهم بنو أسد واستنجدت طيئا وغطفان واستمد بنو تميم عامر بن صعصعة. فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا فاستحر القتل في بني عامر وفرت تميم. ثم غضبت تميم لبني عامر فساروا إلى بني أسد فاقتتلوا بالجفار فلقيت تميم أشد مما لقيت عامر. وقتل الهصان الكلابي وناس من رؤسائهم.
(1) الدروج: السبل. ومنه المثل «خله درج الضب» ومر في أدراجه إذا ذهب في طريق مجيئه. وذهب دمه أدراج الرياح إذا ذهب هدرا.
وقصة ذلك: أن شاس بن زهير بن جذيمة بن رواحة أقبل من عند الملك النعمان بن المنذر اللخمي. وكان بينه وبين زهير صهر وقد حباه جنا من قطف وطنافس وكساء وطيب فورد متعجبا وقت الهاجرة، وقيل في آخر الليل وعليه خبا الرياح بن الاشل الغمري فيه أهله فألقي بفنائه ثم تجرد يغتسل وهو مثل الثور الأبيض والمرأة تنظر اليه. فقال رياح: انطيني قوسي وسهمي فاستدبره فرماه في مستدق صلبه بين الفقارين يفصلهما، وحضر له حفيرا فهدمه عليه وأولج متاعه وأكل باقيه. وقال زهير بن جذيمة أبوه يبكيه:
«بكيت لشاس حين خبّرت أنه ... بماء غني آخر الليل يسلب
لقد كان مأتاه الرواء لحتفه ... وما كان لولا غرة الليل يغلب»
فقاريه سهم رياح. إلّا ما اجترأ عليه من الغدوّ بفناء بيته متبرّدا. وانتصابه فيه كالثّور الأبيض متجرّدا.(1/267)
«بكيت لشاس حين خبّرت أنه ... بماء غني آخر الليل يسلب
لقد كان مأتاه الرواء لحتفه ... وما كان لولا غرة الليل يغلب»
فقاريه سهم رياح. إلّا ما اجترأ عليه من الغدوّ بفناء بيته متبرّدا. وانتصابه فيه كالثّور الأبيض متجرّدا.
وكان ذلك بمرأى من امرأته وملمح ومطلع. من ظعينته ومطمح.
أبسط من زائرك وأكرمه. وإن استوهبك فلا تحرمه.
فإنّ المستهين بزائره من اللؤم ألأم. وله السّهم الأخيب والبارح الأشأم. وانظر ما ألصق بعجوز بني هوازن من الهوان. زهير بن جذيمة بن رواحة صاحب الأريان (1).
حين جاءته بعكاظ تحمل السّمن في نحيها. وهي تهدج (2) في مشيها. فشكت إليه ما أجحف بها من المحل. وما جلفت من قومها كحل. (3) فدعّها بقوسه فألقاها.
مستلقية على حلاوة قفاها (4). فبدا منها الشّوار. وتعلّق الاريان: الخراج. لأنه شيء ضرب على الناس وألصق بهم من اري به إذا لصق. قال الحيقطان:
«وقلتم لقاح لا يؤدي اتاوة ... واعطاء اريان من الضر أيسر»
وعن عبد الرحمن بن يزيد، أن محمدا ابنه قال له في أمرة الحجاج:
يا أبت اثغره؟ فقال: يا بني لو كان رأي الناس مثل رأيك ما أدى الاريان.
(2) والهدجان: مشى في مقاربة خطو. قال:
«وهدجانا لم يكن من مشيتي ... كهدجان الرال حول آله»
(3) وكحل: علم للسنة. قال إذا جلفت كحل هو الأم والأب.
(4) وحلاوة القفا: وسطه وحاقه. والضمير في عنقه لزهير بن جذيمة وفي ذراعه لخالد بن جعفر. والمجدع. زهير.(1/268)
به الشّنار. فانبعثت أحقاد بني هوازن من مكامنها. وحدّثت أنفسها بالعنق من ضغائنها. وآلى خالد بن جعفر لمّا سمع بذلك فراعه. ليجعلنّ وراء عنقه ذراعه. ثمّ برّت فيه أليّته. وحلّت بالمجدّع بليّته. وقد انخلعت رجل قعسائه (1) ولم يغن عنه توطيس (2) حارثه وورقائه. لا تبغ على أحد والقعساء: اسم فرس زهير. والحارث وورقاء: ابناه.
(2) والتوطيس: الذب. يقال: وطست القوم عني. وما في فلان قوة يوطس بها. وقصة ذلك: أن زهير بن جذيمة كان يجبي الأتاوة للنعمان بن المنذر من هوازن ابن منصور فإذا كانت عكاظ حضر وابنه هوازن بالأتاوة التي كانت في أعناقهم. فيأتوه بالغنم والسمن والأقط.
فأتته عجوز رهيس منهم بسمن في نحى. واعتذرت اليه بسنين تتابعت عليهم. فذاقه فلم يرضه. فدعها بقوس في يده فاستلقت وبدا شوارها.
فغضبت من ذلك هوازن فقال خالد بن جعفر بن كلاب: والله لأجعلن ذراعي وراء عنقه فأغار على زهير في قومه. فما شعر إلا والخيل دواس.
فوثب فتدبر القعساء، واعروري الحارث وورقاء فرسهما، وجعل خالد يقول: لا نجوت ان نجا المجلاع ولحقه على فرسه حذيفة. والحارث وورقاء يوطسان عن أبيهما. وطعنت القعساء في نساها. فجعل خالد يده وراء عنق زهير واستخف تاده عن الفرس حتى قلبه وخرا جميعا.
ورفع المغفر عن رأس زهير. ولحق حندج بن البكاء فضرب رأسه وأجهض ابناه القوم عنه وانتزعاه مرميا. فظن خالد أن الضربة كانت هشة فلام حندجا. فقال حندج: السيف حديد والساعد شديد وقد ضربته ورجلاي ممتليان في الركابين وسمعت السيف قال قب حين وقع.
ورأيت عليه طسة مثل ثمر الراي ودفنه مكان مالك. فقال خالد: قتلته بأبي أنت فمات لثالثة.(1/269)
فالباغي وخيم المرتع. ذميم المصرع. قاعد بمرصاد المعاقب.
منتظر لسوء العواقب. وفي قصّة الحارث بن ظالم. زجرة لكلّ باغ ظالم. حين بغى على خالد بن جعفر. في جوار الأسود ابن المنذر. أتى قبّته بالليل. والليل أخفى للويل. فهتك شرجها (1). ثمّ ولجها. فعلاه وهو راقد بذي حيّاته (2).
الشرج: العري. وقد أشرج المغيبة.
(2) وذو الحيات: سيف الحارس بن ظالم المرى من بني غيط ابن مرة. وقصة ذلك أن خالد بن جعفر بن كلاب والحارث بن ظالم وفدا على الأسود بن المنذر أخي النعمان بن المنذر: فبيناهما يأكلان عنده إذ قال خالد: يا جار ما أراني عندك إلا حسنا أما تشكرني؟ قال:
وما بلاؤك عندي. قال: قتلت عنك أشرف قومك زهير بن جذيمة.
وتركتك سيدهم. فقال الحارث: سأجزيك ببلائك وخرج إلى مناخه فطفق يكدم واسطة رحله غيظا وحنقا. فلما كان الليل أتى قبة خالد وهو فيها قائم مع عروة الرحال فهتك شرجها. فعلا رأسه بالسيف.
قال وخرجت فذكرت قول ورقاء بن زهير:
«فشلت يميني يوم أضرب خالدا ... وأحرزه مني الحديد المظاهر
فياليتني من قبل أيام خالد ... ويوم زهير لم تلدني تماضر».
فرجعت أدراجي فوضعت ظبة السيف بين ضلعيه ثم غمزته حتى نجم من الجانب الآخر. واتخذ الليل جملا حتى نجا إلى بني عجل فاجاروه، ثم لحق ببلاد طيء فسئل الأسود عن أمر يبلغ منه. فقال له عروة: إن له جارات من بلى لا شيء أغيظ من أخذهن. فأخذهن واستاق أموالهن. فسمع بذلك الحارس فاندس في بلاد غطفان وكانت أخته سلمى
حتّى فجعه بحياته. وبغى على الأسود في إبنه شرحبيل.(1/270)
فرجعت أدراجي فوضعت ظبة السيف بين ضلعيه ثم غمزته حتى نجم من الجانب الآخر. واتخذ الليل جملا حتى نجا إلى بني عجل فاجاروه، ثم لحق ببلاد طيء فسئل الأسود عن أمر يبلغ منه. فقال له عروة: إن له جارات من بلى لا شيء أغيظ من أخذهن. فأخذهن واستاق أموالهن. فسمع بذلك الحارس فاندس في بلاد غطفان وكانت أخته سلمى
حتّى فجعه بحياته. وبغى على الأسود في إبنه شرحبيل.
بالمكر الذي أصبح منه بسبيل. وكان في حجر سنان وعنده بنت ظالم عند سنان بن أبي حارثة وهي أم هرم صاحب زهير ابن أبي سلمى. وكان الأسود قد جاءه ابنه شرحبيل. فكانت سلمى ترضعه.
فاستعار الحارث سرج سنان. وسنان لا يعلم فأتى به أخته سلمى. وقال:
يقول لك ابعثي بابن الملك مع الحارث حتى أستأمن له منه وينحفر به وهذا سرجه إنه اليك. فزينته ثم دفعته اليه فذهب به فقتله ثم أنشأ يقول:
«خشيت أبيت اللعن إنك فائت ... ولما تذق نكلا وأنفك راغم
فإن تك أذواد أخذن ونسوة ... فهذا ابن سلمى رأسه متفاقم
بدأت بتلك ثم أثنى بهذه ... وثالثة تبيض منها المقادم
علوت بذي الحيات مفرق رأسه ... وكان سلاحي تحتويه الجماجم
فتكت به لما فتكت بخالد ... ولا يركب المكروه إلا الأكارم»
وقال عقيل بن علقمة في الاسلام يفتخر بذلك:
«قتلنا سرحبيلا ربيب أبيكم ... بناحية المغلوب صاحبه عصا»
يريد بالمغلوب ذا الحيات. وكان له اسمان. ثم لم يزل يتردد مستجيرا بناس بعد ناس حتى لحق بالشام. فاستجار ملكا من غسان يقال له النعمان. وكانت له ناقة محمية في عنقها مدية ورفاد وصرة ملح يبريها رعبته. هل يجسر أحد منهم عليها، فوحمت امرأة الحارث فطلبت اليه الشحم في عام لزبة وألحت عليه. فعمد إلى الناقة فنحرها. فوجدت سحرا لم يؤخذ منها إلا سنامها. فأرسل الملك إلى الخمس رجل من تغلب كان يتكهن فخبر أن الحارث نحرها. فدس إلى امرأته امرأة
أخته سلمى. وسنان أبو هرم صاحب ابن أبي سلمى. ثمّ ما زال ينتقل في الأحياء. وتطاوحه أقطار الغبراء. خيفة من نهس الأسود. وهي كناية عن قتل الأسود. إلى أن طرح نفسه إلى جوار النعمان. بعض ملوك بني غسّان. فرماه أيضا بالبغي والعناد. ونحر ذات المدية والصرّة والرّفاد. ووثب على طالبة الشّحم فأضافها إلى طلبته. وعلى الخمس العارف بدخلته. فملّك الغسّانيّ مالك بن الخمس خطامه. ووضع في يده زمامه. حتى استسقى بدمه شرّ الدّماء. وهان عليه قوله يا ابن شرّ الاظماء. إيّاك والملاحّات فإنّها توغر (1) صدور الإخوان. وتنبت أصول الأضغان. وتوقد نيران الفتنة تطلب منها شحما، فدخل الحارث وهي تعطيها الشحم فقتل المرأة المدسوسة ودفنها في بيته فلما فقدت. قال: الخمس غالها ما غال الناقة.(1/271)
«قتلنا سرحبيلا ربيب أبيكم ... بناحية المغلوب صاحبه عصا»
يريد بالمغلوب ذا الحيات. وكان له اسمان. ثم لم يزل يتردد مستجيرا بناس بعد ناس حتى لحق بالشام. فاستجار ملكا من غسان يقال له النعمان. وكانت له ناقة محمية في عنقها مدية ورفاد وصرة ملح يبريها رعبته. هل يجسر أحد منهم عليها، فوحمت امرأة الحارث فطلبت اليه الشحم في عام لزبة وألحت عليه. فعمد إلى الناقة فنحرها. فوجدت سحرا لم يؤخذ منها إلا سنامها. فأرسل الملك إلى الخمس رجل من تغلب كان يتكهن فخبر أن الحارث نحرها. فدس إلى امرأته امرأة
أخته سلمى. وسنان أبو هرم صاحب ابن أبي سلمى. ثمّ ما زال ينتقل في الأحياء. وتطاوحه أقطار الغبراء. خيفة من نهس الأسود. وهي كناية عن قتل الأسود. إلى أن طرح نفسه إلى جوار النعمان. بعض ملوك بني غسّان. فرماه أيضا بالبغي والعناد. ونحر ذات المدية والصرّة والرّفاد. ووثب على طالبة الشّحم فأضافها إلى طلبته. وعلى الخمس العارف بدخلته. فملّك الغسّانيّ مالك بن الخمس خطامه. ووضع في يده زمامه. حتى استسقى بدمه شرّ الدّماء. وهان عليه قوله يا ابن شرّ الاظماء. إيّاك والملاحّات فإنّها توغر (1) صدور الإخوان. وتنبت أصول الأضغان. وتوقد نيران الفتنة تطلب منها شحما، فدخل الحارث وهي تعطيها الشحم فقتل المرأة المدسوسة ودفنها في بيته فلما فقدت. قال: الخمس غالها ما غال الناقة.
فوثب على الخمس فقتله. فأمر الملك بقتله فقال: إنك قد أجرتني فلا تغدر بي. قال: لا خير إن غدرت بك مرة فقد غدرت بي مرارا. فأمر مالك بن الخمس أن يقتله بأبيه، فقال: يا ابن شر الأظماء أنت تقتلني؟
فقتله وأراد بشر الاظماء الخمس. تقول العرب: هذا ضر اظماء الابل واسوأه أثر فيها يؤثر في انتهاء البانها واخوائها. ويقولون: إذا خمست الابل ظهر أثره فيها في أعقاب السنة. وعن ابن الكلبي أنه حين قال له:
أنت تقتلني يا ابن شر الاظماء؟ قال له: أنا أقتلك يا ابن شر الأسماء أراد ظالما.
(1) أوغر صدره إذا أضغنه. والوغر والوغم: الحقد.(1/272)
والشّر. وتوبس الأرحام (1) المبلولة بالبّر. وهي أم من أمهات الآثام نثور غير (2) نزور. ولّادة بنات كلهنّ نثور. فعليك أن تمحض (3) منها التوبة. وتذكر ما جرى بين ثور وتوبه.
حين استعر بينهما اللحاء وجرّد (4) العوفيّ للخفاجيّ العصا على اللّحاء. فثار عليه بفظاظته وعنفه. وجرحه تحت البيضة بجرزه على أنفه واستجرّ بذلك على حلمة ثديه تحت مرفع ترسه.
رشقة خفاجيّة أتت على نفسه. ثمّ ركب السّليل سليل (5) ابن أبي سمعان. الفتى السيّاف الطّعّان. وهو يمسح بحوافر خيله نجدا بعد غور. طلّابا لثأر أبيه ثور. حتى أصاب ببيت هند ولما كان بعض الأشياء يخلط مبلولا ويتفرق يابسا جعلوا اليبس والبلة عبارة عن الألفة والفرقة. قالوا في أمثالهم: «لا يوبس الثرى بيني وبينك». وقال عليه الصلاة والسلام: (بلوا احامكم ولو بالسّلام).
وعن عمر بن عبد العزيز: (إذا استشنّ ما بينك وبين الله فابلله بالإحسان إلى عباده).
(2) النثور الكثيرة: الأولاد خلاف النزور، وفي النوابغ: (أم الزائر نزور وام النائح نثور».
(3) ويقال: محض النصيحة. وامحضها: أخلصها.
(4) وتجريد العصا عن اللحا: عبارة عن المكاشفة بالعداوة. وفي أمثالهم: «قشر له العصا».
(5) والسليل الأول علم لابن ثور. والثاني بمعنى الولد.(1/273)
من كبد المضجع (1). ما أصاب ابن الحمير من سوء المصرع.
لا تملك لأخيك نصرا عند الإستنصار. ولا تدّخر عنه إظهارا يوم الإستظهار. واصنع ما صنع يوم القرن. رئيس فزارة عيينة ابن حصن. حين أتاه ذو الجوشن كليل الظفر والناب. قد خذلته قومه بنو الضّباب. يستنجده في درك الثّار. من إحدى الرّضفات الفجّار. فركب لهم مع أحلاس الخيل. حتّى أخذ منهم ثار الصّميل. وصقعهم صقعة لا ينؤن بعدها بجناح وافر. ولا ينشبون بأنياب ولا أظافر. وردّاه بين ذلك بأبهى من الوشي الأتحمي. ما صنع بأنس بن مدركة الخثعمي. عليك باليقظة والحذر. فلا خير في ذي الغفلات والغرر. فلو أنّ شعلا كان يقظان مشتعل الضمير. حذرا من نفثات المقادير. وغرز رأسه في سنته وغطيطه. ولم يحسّ بوتر النفاثيّ وخطيطه.
والمضجع: صحراء دشت في أرض بني كلاب. وكبده:
وسطه. وبيت هند هضبة هناك. وقصة ذلك أنه وقع بين توبة بن حمير الخفاجي وبين ثور بن أبي سمعان العوفي لحاء عند همام بن مطرف العقيلي. فوثب ثور على توبة فضربه بجرز وعليه البيضة. فجرح أنف البيضة وجهه، فخرج ثور إلى ماء من مياه قومه فاتبعه توبة في ناس من أصحابه فغشيه ومن معه فارتموا، فوافق توبة من ثور عند رفع القوس مرمى فرماه على حلمة ثديه فقتله. وكان السليل بن ثور نظير توبة في القوة والنجدة. فلم يزل يطلب غرة منه فلم يجدها حتى أغار توبة على ناس من بني عوف واستاق ابلهم فتبعوه فأدركوه ببيت هند.
فقاتلهم حتى قتلوه والله تعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب.(1/274)
ولم يركب رجلي عدّاء مشمعل. مضطلع بالأعباء مستقل.
لصلي بنار بني نفاثه. مستغيثا بحيث لا إغاثه. كما استغاث سيّد الصّعاليك عامر بن الأخنس. فوجد كلّ من سمع صراخه كالأخرس. على أنّ القدر يعمي البصر والبصيره. وتظلم معه الآراء المستنيره. وإلّا فلم انتظم السهم قلب تأبّط شرّا. وكان الذي رماه غلاما غرّا. وكان ثابت أخو بني فهم.
موصوفا بثبات القدم وثقابة الفهم. لا تتّبع الهوى. فكلّ من اتّبع الهوى هوى. في هوّة البوار والتّوى. ألم تر أنّ الشّيبانيّ فارس الشّهباء سمّ الفرسان غداة اللّقاء. وما لقي منه من الشدائد والكرب. صاحب الصّمصامة عمرو بن معدي كرب. وقد كاد يوجره لهذم السّنان. حين وكّد أغلظ الأيمان. كيف عثر به الهوى عثرة لم يسمع لعا من بعدها.
وكأنّ بني شيبان لم يغن بين أظهرها ابن سعدها. حين استصحب عمرا إلى قبّة فيها الرّشأ الأحور. بل الموت الأحمر.
فلقي من الشيخ نفحة نثرت أمعاه. وإن فلق هو من رأسه سواه. والحمد لله على نواله. والصلاة والسلام على نبيه محمد وصحبه وآله.
تمت(1/275)
الفهرس
الموضوع الصفحة
كلمة الناشر 5
مقدمة الكتاب 7
خطبة الكتاب 9
مقامة المراشد 16
مقامة التقوى 21
مقامة الرضوان 23
مقامة الارعواء 26
مقامة الزاد 30
مقامة الزهد 33
مقامة الانابة 37
مقامة الحذر 42
مقامة الاعتبار 46
مقامة التسليم 50
مقامة الصمت 55
مقامة الطاعة 58
مقامة المنذرة 62
مقامة الاستقامة 66
الموضوع الصفحة
مقامة الطيب 69
مقامة القناعة 73
مقامة التوقي 78
مقامة الظلف 82
مقامة العزلة 89
مقامة العفة 97
مقامة الندم 105
مقامة الولاية 110
مقامة الصلاح 114
مقامة الاخلاص 118
مقامة العمل 121
مقامة التوحيد 128
مقامة العبادة 131
مقامة التصبر 136
مقامة الخشية 141
مقامة اجتناب الظلمة 146
مقامة التهجد 152(1/277)
الموضوع الصفحة
مقامة الدعاء 156
مقامة التصدق 160
مقامة الشكر 164
مقامة الاسوه 171
مقامة النصح 175
مقامة المراقبة 178
مقامة الموت 182
مقامة الفرقان 187
مقامة النهي عن الهوى 194
مقامة التماسك 199
الموضوع الصفحة
مقامة الشهامة 203
مقامة الخمول 207
مقامة العزم 211
مقامة الصدق 214
مقامة النحو 218
مقامة العروض 224
مقامة القوافي 238
مقامة الديوان 246
مقامة ايام العرب 255(1/278)