الجزء الثّانى مسائل نافع بن الأزرق
* فى تراث السلف والدراسات الحديثة * فى مخطوطات الظاهرية ودار الكتب المصرية * المسائل: نص ودراسة(1/287)
* فى تراث السلف والدراسات الحديثة * فى مخطوطات الظاهرية ودار الكتب المصرية * المسائل: نص ودراسة
المسائل فى تراث السلف
بسم الله الرّحمن الرّحيم اللهمّ يسّر وأعن فى الطبعة الأولى من كتابى هذا، قدمت محاولة تطبيقية فى دراسة قرآنية بيانية لمسائل نافع بن الأزرق لعبد الله بن عباس، رضى الله عنهما، فى نحو مائتى كلمة من غريب القرآن مع شاهد من كلام العرب لتفسير كل مسألة.
المسائل معروفة لعلماء اللغة والشعر والقرآن، على خلاف بينهم فى طرقهم إليها وأسانيدهم، وفى مساقها وعددها، وربما اختلفوا كذلك فى المروى عن ابن عباس فى تفسير بعضها وشواهده عليها.
ذكرها «المبرد 285هـ» جملة فى خبر الخوارج من كتابه (الكامل) فى سياق الكلام عن نافع بن الأزرق، أبى راشد الذهلى رأس الأزارقة (65هـ) وما كان من حرصه على طلب العلم وتحريه فيه وغيرته عليه قبل أن يبتلى فى الفتنة. وروى المبرد ثلاث مسائل منها، مما حدث به أبو عبيدة معمر بن المثنى (210110هـ) عن أسامة بن زيد الليثى مولاهم، 153هـ عن عكرمة مولى ابن عباس (105هـ) ومعها بضع مسائل دون الشعر، «مما حدث به أبو عبيدة وغيره»
وعقب المبرد عليها بهذا الخبر:
«ويروى عن أبى عبيدة من غير وجه، أن ابن الأزرق أتى ابن عباس فجعل يسائله حتى أملّه، فجعل ابن عباس يظهر الضجر. وطلع «عمر بن أبى ربيعة» على ابن عباس وعمر يومئذ غلام، فسلم وجلس، فقال له ابن عباس: ألا تنشدنا شيئا من شعرك، فأنشده:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجّر
ونقل المبرد أربعة عشر بيتا من أول القصيدة إلى قوله: رأت رجلا البيت حتى أتمها عمر وهى ثمانون بيتا. فقال ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس، أنضرب إليك نسألك فى الدين فتعرض، ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفها فتسمعه؟ فقال: تالله ما سمعت سفها. فقال ابن الأزرق: أما أنشدك:(1/289)
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجّر
ونقل المبرد أربعة عشر بيتا من أول القصيدة إلى قوله: رأت رجلا البيت حتى أتمها عمر وهى ثمانون بيتا. فقال ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس، أنضرب إليك نسألك فى الدين فتعرض، ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفها فتسمعه؟ فقال: تالله ما سمعت سفها. فقال ابن الأزرق: أما أنشدك:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى، وأما بالعشىّ فيخسر
فقال: ما هكذا قال، وإنما قال: ... فيضحى وأما بالعشى فيخصر» (1)
وبعد أن علق «المبرد» على البيت وشرحه، استأنس له بقوله تعالى: {وَأَنَّكَ لََا تَظْمَؤُا فِيهََا وَلََا تَضْحى ََ} واتجهت عنايته إلى شرح الغريب والاستشهاد له.
وسياق المسائل فى كتابه، يأخذ صفة الأمالى الأدبية اللغوية، لا الدراسة القرآنية.
وسيأتى انفراد المبرد بهذا الخبر عن عمر ورائيته دون سائر الرواة لمسائل ابن الأزرق فيما وصل إلينا.
* * * وأخرجها «أبو بكر ابن الأنبارى» ت 328هـ فى مقدمات كتابه الجليل (إيضاح الوقف والابتداء من كتاب الله عز وجل) سماعا من شيخه بشر بن أنس، قال: حدثنا محمد بن على بن الحسن بن شقيق قال: حدثنا أبو صالح هدية بن مجاهد، قال: أخبرنا محمد بن شجاع قال: أخبرنا محمد بن زياد اليشكرى الميمونى عن ميمون بن مهران قال:
«دخل نافع بن الأزرق إلى المسجد الحرام فإذا هو بابن عباس جالسا على حوض من حياض السقاية قد دلّى رجليه فى إناء، وإذا الناس قيام عليه يسألونه عن التفسير فإذا هو لا يحبسهم تفسيره. فقال نافع: تالله ما رأيت رجلا أجرأ على ما تأتى به منك يا ابن عباس! فقال له ابن عباس: ثكلتك أمّك، أولا أدلّك على
__________
(1) المرد: (الكامل) والنقل من متنه فى (بغية الأمل فى كتاب الكامل) للشيخ المرصفى: 7/ 157154 ط أولى 1348هـ / 1929م.(1/290)
من هو أجرأ منى؟ قال: ومن هو؟ قال: رجل تكلم بغير علم أو كتم علما عنده.
فقال نافع: يا ابن عباس، إنى أريد أن أسألك عن أشياء فأخبرنى بها: قال: سل ما شئت. قال: أخبرنى عن قوله تعالى {حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} قال: الخيط الأبيض ضوء النهار، والخيط الأسود سواد الليل. قال:
فهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل القرآن؟ قال نعم، قال أمية بن أبى الصلت:
الخيط الأبيض ضوء الصبح منبلج ... والخيط الاسود لون الليل مكموم
وعلى هذا النسق مضى ابن الأنبارى فى رواية المسائل وعددها عنده، من طريق محمد بن زياد اليشكرى الميمونى عن ميمون بن مهران الرقّى الحافظ، خمسون مسألة. (1) معها جملة غيرها مما سئل عنه علماء السلف فى غريب القرآن فاستشهدوا لتفسيره بأبيات من الشعر (2) احتجاجا من ابن الأنبارى للشعر وتفسير القرآن به قال: «وهذا كثير من الصحابة والتابعين، إلا أنا نجتزئ بما ذكرنا كراهية لتطويل الكتاب. وإنما دعانا إلى ذكر هذا أن جماعة لا علم لهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا معرفة لهم بلغة العرب، أنكروا على النحويين احتجاجهم على القرآن بالشعر» وأورد أقوالهم، ورد عليها محتجا فى الرد بنصوص من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعملهم، رضى الله عنهم (3)
* * * وأخرجها «الطبرانى» (360260هـ) فى معجمه الكبير فى سياق مناقب ابن عباس، رضى الله عنهما، وما روى من سعة علمه وفضله. تقدمة لما فى المعجم الكبير من حديث ابن عباس رضى عنهما. ومساقها عند الطبرانى بهذا الإسناد:
__________
(1) ابن الأنبارى: (إيضاح الوقف والابتداء) ص 9876الفقرة 116ومعها الفقرات: 105101، 114، 115، 117.
(2) الوقف والابتداء 10099.
(3) الوقف والابتداء ص 109100، الفقرات 128120.(1/291)
حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحى، ثنا إبراهيم بن بشار الرمادى، ثنا أبو عبد الرحمن الحرانى وهو عثمان بن عبد الرحمن ثنا عبيد الله وموسى ابنا يزيد الحرانيان، قالا: ثنا جويبر عن الضحاك بن مزاحم الهلالى قال:
«خرج نافع بن الأزرق ونجدة بن عويمر الحرورى، قتل سنة 69هـ فى نفر من رءوس الخوارج (ينقرون) عن العلم ويطلبونه حتى قدموا مكة، فإذا هم بعبد الله بن عباس قاعدا قريبا من زمزم وعليه رداء له أحمر وقميص، وإذا ناس قيام يسألونه عن التفسير يقولون: يا ابن عباس ما تقول فى كذا وكذا؟ فيقول: هو كذا وكذا. فقال له نافع بن الأزرق: ما أجرأك يا ابن عباس على ما (تخبر به) منذ اليوم! فقال له ابن عباس: ثكلتك أمك يا نافع، وعدمتك، ألا أخبرك من هو أجرأ منى؟ قال: من هو يا ابن عباس؟ قال: رجل تكلم بما ليس (له) به علم، ورجل كتم علما عنده. قال: صدقت يا ابن عباس، أتيتك لأسألك. قال: هات يا ابن الأزرق، فسل»
وساق المسائل والجواب عنها والشواهد عليها، وعددها عنده من طريق «جويبر بن سعيد الأزدى، أبى القاسم البلخى»، توفى بعد سنة 140هـ عن «الضحاك بن مزاحم الهلالى، مولاهم، أبى القاسم الخراسانى» التابعى المفسر (105هـ) إحدى وثلاثون مسألة (1).
وكذلك موضعها وعددها فى زوائد الطبرانى بمجمع الزوائد للحافظ نور الدين الهيثمى (807هـ): فى كتاب المناقب، مناقب ابن عباس: باب جامع فيما جاء فى علمه وما سئل عنه (2) وفى كتاب التفسير: باب كيف يفسر القرآن (2).
وذكرها «البدر الزركشى» 794هـ مجملة فى كتابه (البرهان فى علوم القرآن): النوع الثامن عشر، معرفة غريبة. ومساقها عنده، أن معرفة هذا الفن للمفسر ضرورى، وإلا فلا يحل له الإقدام على كتاب الله تعالى. ونقل أقوالا فى
__________
(1) الطبرانى: المعجم الكبير: 10/ 312304ف 10597
(2) الهيثمى: مجمع الزوائد 9/ 284278والمقابلة عليه، 6/ 310303(1/292)
ذلك، عن الإمام مالك ومجاهد وابن عباس، ثم قال:
«ومسائل نافع له عن مواضع من القرآن، واستشهاد ابن عباس فى كل جواب ببيت، ذكرها الأنبارى فى كتاب (الوقف والابتداء) بإسناده، وقال: «فيه دلالة على بطلان قول من أنكر على النحويين احتجاجهم على القرآن بالشعر وأنهم جعلوا الشعر أصلا للقرآن، وليس كذلك» (1)
ونقل احتجاج ابن الأنبارى للشعر وتفسير القرآن الكريم به، وبعده:
«وهذا الباب عظيم الخطر، ومن هنا تهيب كثير من السلف تفسير القرآن وتركوا القول فيه حذرا أن يزلوا فيذهبوا عن المراد، وإن كانوا علماء باللسان فقهاء فى الدين. وكان الأصمعى، وهو إمام اللغة، لا يفسر شيئا من غريب القرآن، وحكى عنه أنه سئل عن قوله تعالى: (شغفها حبا) فسكت وقال: هذا فى القرآن، ثم ذكر قولا لبعض العرب فى جارية لقوم أرادوا بيعها: أتبيعونها وهى لكم شغاف؟ ولم يزد على هذا. ولهذا حث النبى صلى الله عليه وسلم على تعلم إعراب القرآن وطلب معانى العربية» وذكر تحرج أبى بكر وعمر، رضى الله عنهما من تفسير كلمة الأبّ فى قوله تعالى:
(وفاكهة وأبا) قال: «وما ذاك بجهل منهما معنى الأب، وإنما يحتمل والله أعلم، أن يكون من الألفاظ المشتركة فى لغتهما أو فى لغات فخشيا إن فسراه بمعنى من معانيه أن يكون المراد غيره. ولهذا اختلف المفسرون فى معنى الأبّ على سبعة أقوال»
وذكرها (1).
ولم ينقل الزركشى فى هذا السياق مسائل مما فى كتاب (الوقف والابتداء) وإن أورد عددا منها فى المسرد الخاص بغريب القرآن.
* * * «الجلال السيوطى 911هـ هو الذى جاء بأكبر مجموعة منها فى كتابه
__________
(1) الزركشى: (البرهان) 1/ 296295، مقابلا على (إيضاح الوقف والابتداء).(1/293)
(الاتقان فى علوم القرآن). ذكرها أولا فى معرفة غريب القرآن، ثم أفرد لها فصلا منه استهله بقوله:
«قال أبو بكر ابن الأنبارى: قد جاء عن الصحابة والتابعين كثير من الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر. وأنكر جماعة لا علم لهم، على النحويين ذلك وقالوا: إذا فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلا للقرآن. قالوا: وكيف يجوز أن يحتج بالشعر على القرآن، وهو مذموم فى القرآن والحديث؟ قال: وليس الأمر كما زعموه من أنا جعلنا الشعر أصلا للقرآن بل أردنا تبين الحرف الغريب من القرآن بالشعر، لأن الله تعالى قال: {إِنََّا جَعَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} وقال: {بِلِسََانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} وقال ابن عباس: الشعر ديوان العرب. فإذا خفى علينا الحرف من القرآن الذى أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه. ثم أخرج أبو بكر من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: إذا سألتمونى عن غريب القرآن فالتمسوه فى الشعر»
قال السيوطى (1): «وأوعب ما رويناه عنه (مسائل نافع بن الأزرق) وقد أخرج بعضها ابن الأنبارى فى (كتاب الوقف) والطبرانى فى (معجمه الكبير) وقد رأيت أن أسوقها هنا بتمامها لتستفاد: أخبرنى ابن هبة الله محمد بن على الصالحى بقراءتى عليه، عن أبى إسحاق التنوخى، عن القاسم بن عساكر: أنا أبو نصر محمد بن هبة الله الشيرازى أنا أبو المظفر محمد بن أسعد العراقى، أنا أبو على محمد بن سعيد ابن نبهان الكاتب، أنا أبو على بن شاذان:
حدثنا أبو الحسين عبد الصمد بن على بن محمد بن مكرم المعروف بابن الطستى، حدثنا أبو سهل السرى بن سهل الجنديسابورى، حدثنا يحيى ابن أبى عبيدة (بحر بن فروخ السلمى) أنا سعيد بن أبى سعيد، أنا عيسى بن دأب عن حميد الأعرج وعبد الله بن أبى بكر بن محمد عن أبيه قال:
«بينا عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة وقد اكتنفه الناس يسألونه عن
__________
(1) السيوطى: (الإتقان) 1/ 149.(1/294)
تفسير القرآن (والحلال والحرام) فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذى يجترئ على تفسير القرآن والفتيا بما لا علم له به. فقاما إليه فقالا له: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا وتأتينا بمصادقه من كلام العرب، فإن الله إنما أنزل القرآن بلسان عربى مبين. فقال ابن عباس: سلانى عما بدا لكما» (1).
وعدد المسائل فى (الإتقان) عن طريق «أبى الحسين عبد الصمد بن على بن محمد بن مكرم الطستى» (346266هـ.) بإسناده عن عيسى ابن دأب، أبى الوليد بن يزيد بن أبى بكر الأخبارى، عن حميد الأعرج، أبى صفوان المكى (130هـ) وعبد الله بن أبى بكر بن محمد الأنصارى المدنى (135هـ) عن أبيه «أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصارى المدنى، أميرها وقاضيها التابعى الفقيه الحافظ القدوة (120هـ): مائة وتسعون مسألة (2) قال السيوطى بعد أن ساقها:
«هذا آخر مسائل نافع بن الأزرق، وقد حذفت منها يسيرا، نحو بضعة عشر سؤالا. وهى أسئلة أخرج الأئمة أفرادا منها بأسانيد مختلفة إلى ابن عباس. وأخرج أبو بكر بن الأنبارى فى (كتاب الوقف والابتداء) قطعة منها هى المعلم عليها بالحمرة وصورة (ك) وذكر إسناد أبى بكر إلى ابن عباس وخرج الطبرانى فى (معجمه الكبير) منها قطعة وهى المعلم عليها بحرف (ط) من طريق جويبر عن الضحاك بن مزاحم، قال: خرج نافع بن الأزرق وذكره» (2).
قلت: ولم تصل إلينا النسخة العتيقة المعلم عليها بالحمرة وحرف ك على المنقول من كتاب الوقف والابتداء، وبحرف (ط) على المنقول من معجم الطبرانى الكبير.
وقد نبه الشيخ العلامة المحقق «نصر أبو الوفا» الهورينى فى تصحيحه نسخته من الإتقان على أنه «مما تعسر الوصول إليه أن المؤلف السيوطى ذكر فى آخر.
__________
(1) السيوطى: الإتقان 1/ 149.
والقابلة على نسختى دار الكتب المصرية، من المسائل، من طريق ابن الطستى بمثل إسناده هنا.
(2) السيوطى: الإتقان 1/ 165149.(1/295)
صفحة 164من الأول، أنه أشار بصورة ك حمراء على بعض مسائل نافع بن الأزرق. وما وجدت تلك الصورة إلا فى نسخة عتيقة أتلف العرق معظم صفحاتها (1)».
والذى في طبعتنا من الإتقان وهى الطبعة المذكورة آنفا مما له نظير فى (الوقف والابتداء) ست وعشرون مسألة، لا نملك الجزم بأنها المنقولة منه، لاحتمال أن يكون النقل من مصادر أخرى. ويقال مثل ذلك في ثمانى عشرة مسألة بالإتقان، لها نظائر فى المعجم الكبير للطبرانى، وليس فى مطبوعة الإتقان علامة (ط) التى كانت بالحمرة فى النسخة العتيقة.
* * * وأجوبة ابن عباس، رضى الله عنهما، عن المسائل مبثوثة فى كتب التفسير والكتب المفردة فى غريب القرآن، ومعانى القرآن، والفصول والأبواب الخاصة بالغريب من الكتب الجامعة لعلوم القرآن. وأوردها، نقلا من الإتقان، خادم القرآن والسنة «الاستاذ محمد فؤاد عبد الباقى» رضى الله عنه فى (معجم غريب القرآن) مرتبة على حروف الهجاء لألفاظ الغريب فى المسائل بالإتقان.
وتأخذ موضعها كذلك، فى قضية الإسلام والشعر، وغالبا ما يئول المتأخرون فى ذلك إلى «أبى بكر ابن الأنبارى» فيما قاله، بعد إيراد المسائل من احتجاج للشعر ثم نقله البدر الزركشى فى (البرهان) والجلال السيوطى فى (الإتقان) على ما ذكرنا آنفا.
ومن طريق السيوطى نقله الفقيه الأديب «أبو العباس السلاوى. أحمد بن خالد» فى (زهر الأفنان) شرحا لقول الشاعر المغربى «أحمد بن محمد الونان» فى منظومته الفريدة (الشمقمقية) تنويها بفضل الشعر بعد ذكر مكانته لدى النبى صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) ص 12من الملحق الخاص بالمستدرك، فى آخر الجزء الثانى من الطبعة المصرية للإتقان، سنة 1278هـ.(1/296)
لو لم يكن له عند من مضى ... فضل، على الكعبة لم يعلّق
لو لم يكن فيه بيان آية ... ما فسّرت مسائل ابن الأزرق
ما هو إلا كالكتابة وما ... فضلهما إلا كشمس الأفق
وإنما نزه عنهما النبى ... ليدرك الإعجاز بالتحقق
عقد شارحها «ابو العباس السلاوى» فصلين بعنوان (ذكر مسائل ابن الأزرق وما يتعلق بها، وذكر فضل الشعر والكتابة، وتنزيه النبى صلى الله عليه وسلم عنهما) وفى أولهما ذكر الشارح ما روى من سؤال عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، عن قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى ََ تَخَوُّفٍ} النحل 47فسكت القوم إلا شيخا من هذيل قال: فى لغتنا التخوف التنقص. فسأله أمير المؤمنين: فهل تعرف العرب ذلك فى أشعارها؟ فأجاب: نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهذلى:
تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السّفن (1)
وأضاف الشارح ما فى إتقان السيوطى من احتجاج أبى بكر ابن الأنبارى للشعر فى (الوقف والابتداء) ثم نقل من رواية السيوطى للمسائل الثلاث الأولى منها.
وختم الفصل بقوله:
«ومضى السيوطى يذكرها مسألة مسألة حتى ملأ منها نحو الكراسة، فانظرها فى كتابه الإتقان فى علوم القرآن، والله الموفق.» (2)
وكذلك أضافها الزميل الأستاذ الدكتور محمد الراوندى من علماء القرويين، فى دراسته الجامعية الجليلة (الصحابة الشعراء، رضى الله عنهم) (3) إلى ملف الدراسات المعاصرة لقضية الإسلام والشعر.
* * * __________
(1) لم أجده فى أشعار الهذليين. وعزاه الجوهرى إلى ذى الرمة ولم أجده فى ديوانه. واختلفوا فيه: انظر الحاشية على الشاهد فى (اللسان: سفن).
(2) أبو العباس: السلاوى (زهر الأفنان من حديقة ابن الونان. 2/ 27272
(3) مخطوط مع الرسائل الجامعية، فى خزانة دار الحديث الحسنية بالرباط.(1/297)
من (إتقان السيوطى) نقلتها فى الطبعة الأولى من كتابى هذا، حيث لم تتجه العناية إلى غير الدراسة القرآنية لألفاظ الغريب فى مسائل ابن الأزرق، دون بيان لطرق أسانيدها وأسماء رواتها وتحقيق متونها وتخريج شواهدها، فكذلك كان علماء الغريب من سلفنا الصالح، يوجهون العناية إلى معانى الألفاظ، على ما هو واضح فى (مفردات القرآن للراغب الأصبهانى) 502هـ وفى (كتاب الغربيين لأبى عبيد الهروى) 401هـ ذكره «ابن الأثير الجزرى، المجد أبو السعادات» فى خطبة كتابه (النهاية فى غريب الحديث والأثر) فيمن سبقوه إلى التصنيف فيه، قال:
«فلما كان زمن أبى عبيد أحمد بن محمد الهروى 401هـ صاحب الإمام أبى منصور الأزهرى 370هـ صنف كتابه المشهور السائر، فى الجمع بين غريبى القرآن العزيز والحديث. ورتبه مقفّى على حروف المعجم، على وضع لم يسبق فى غريب القرآن والحديث إليه، فاستخرج الكلمات اللغوية الغريبة من أماكنها وأثبتها فى حروفها وذكر معانيها، إذ كان الغرض والقصد من هذا التصنيف معرفة الكلمات الغريبة لغة وإعرابا ومعنى، لا معرفة متون الأحاديث والآثار وطرق أسانيدها وأسماء رواتها، فإن ذلك علم مستقل بنفسه مشهور بين أهله» (1).
وأعددت هذه الطبعة الجديدة وقد أتيح لى الظفر بثلاث نسخ خطية من (مسائل ابن الأزرق) فى أجزاء مفردة مستقلة لم تكن بين يدى أثناء إعداد الطبعة الأولى:
نسخة الظاهرية (ظ) فى المجموع رقم 3849م. الأوراق من (108وجه 119ظهر) من وقف الشيخ موفق الدين رضى الله عنه» (2)
ونسختا دار الكتب بالقاهرة:
__________
(1) ابن الأثير: (النهاية) ص 7ط اخيرية بالقجهرة 1322هـ
(2) الشيخ موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسى شيخ الحنابلة الإمام العلامة القدوة توفى بدمشق فى سنة 620هـ وقبره بسفح قاسيون يزار.(1/298)
فى المجموع رقم 166م (132و 143ظ) ورمزها: ك طلعت، فى المجموع رقم 266م (331) ورمزها: ط أما نسخة الظاهرية بدمشق فأصل عتيق، من رواية «أبى بكر أحمد بن جعفر ابن محمد بن سلم الختّلى» (1) من مخضرمى القرنين الثالث والرابع (365278هـ).
سماعه من ابن عمار أبى العباس أحمد بن عبيد الله بن محمد بن عمار الثقفى، باسناده إلى جويبر عن الضحاك بن مزاحم الهلالى، قال:
«خرج نافع بن الأزرق ونجدة بن عويمر فى نفر من رءوس الخوارج ينقرون عن العلم ويطلبونه حتى قدموا مكة فإذا هم بعبد الله بن عباس قاعدا إلى جنب زمزم عليه رداء له أحمر وقميص أبيض، وإذا الناس قيام يسألونه عن التفسير ويقولون:
يا ابن عباس يا ابن عباس، ما تقول فى كذا؟ فيقول: كذا وكذا. فقال له نافع ابن الأزرق: ما أجرأك يا ابن عباس على ما تجىء به منذ اليوم؟ فقال له ابن عباس: ثكلتك أمك يا نافع، أفلا أخبرك عمن هو أجرأ منى؟ قال: ومن هو يا ابن عباس؟ قال: هو رجل تكلم بما ليس له به علم، ورجل كتم علما عنده.
قال: صدقت. ثم قال: إنى أتيتك لأسألك. قال هات يا ابن الأزرق» وذكر المسائل وعددها فى رواية ابن عمار الثقفى من طريق جويبر عن الضحاك، خمسون مسألة (108ظ 112ظ).
بعدها (من ص 112ظ) إسناد آخر من رواية أبى شهاب الحناط عبد ربه بن نافع (171هـ) عن أبى بكر الهذلى (167هـ) عن عكرمة مولى ابن عباس (105هـ) قال: خرج نافع بن الأزرق ونجدة» فذكر الخبر بنحو ما فى رواية أبى بكر الختلى عن ابن عمار الثقفى من طريق جويبر عن الضحاك. ثم فى صفحة (115و) بعنوان مسائل ابن الأزرق، رواية ثالثة لها من طريق عثمان
__________
(1) ابن سلم، بسكون اللام، الختلى بالمعجمة وتشديد التاء المثناة من فوق (طبقات القراء 1/ 44ت 181) مع (اللباب: الختلى)(1/299)
ابن عبد الرحمن الحرانى لعله الطرائفى ت 203هـ أسنده عن جويبر عن الضحاك كذلك، قال: خرج نافع بن الأزرق ونجدة بن عويمر فى نفر من رءوس الخوارج ينقرون عن العلم ويطلبونه حتى قدموا مكة فإذا هم بابن عباس قاعدا إلى جنب زمزم عليه قميص أبيض ورداء أحمر والناس قيام يسألونه عن التفسير فيجيبهم» فذكر الخبر والمسائل، وعددها خمسون مسألة كذلك، مع تحويل الإسناد فى السؤال عن قوله تعالى: (مكاء وتصدية) إلى الكلبى 117وو النسخة فى هذا الأصل العتيق دقيقة الخط صعبة القراءة، لا يؤمن فيها التباس حرف بآخر، واشتباه اسم وطمس كلمة من قدم وبلى. على أنها فى المقروء منها، وهو جملتها، غاية فى الضبط والتوثيق. وعلى وجه المخطوط بأعلى الصفحة الأولى توقيعات سماع بخطوط علماء أئمة:
سماع أحمد بن محمد بن قدامة المقدسى.
والد الشيخ الموفق (558هـ) مفروغ: أحمد بن محمد بن سلفة الأصبهاني نسخا وسماعا هو الحافظ أبو طاهر السلفى (576هـ) فرغ منه الساجى سماعا وانتقاء هو الحافظ أبو نصر المؤتمن بن أحمد البغدادى (507هـ) وعلى هذه الصفحة الأولى، تصحيح سماع لطبقات من الأعلام والحفاظ الأئمة، منها سماع الشيخ أبى الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفى (500هـ) على أبى طاهر محمد بن على بن محمد بن يوسف العلاف، عن أبى بكر ابن مسلم الختلى عن ابن عمار. ثم توالت تقييدات السماع للجزء كله. على الشيخ الجليل أبى الحسين المبارك، منها:
سمعه عليه الشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقى (540هـ) بقراءة عبد الخالق بن عبد القادر بن يوسف محدث بغداد (548هـ) وأبو الفضل محمد بن الحسن بن محمد الإسكاف، بقراءة محمد بن ناصر
ابن محمد، أبى الفضل البغدادى محدث العراق (550هـ) وذلك فى يوم الاثنين الثالث والعشرين من المحرم سنة اثنتين وتسعين وأربع مائة.(1/300)
سمعه عليه الشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقى (540هـ) بقراءة عبد الخالق بن عبد القادر بن يوسف محدث بغداد (548هـ) وأبو الفضل محمد بن الحسن بن محمد الإسكاف، بقراءة محمد بن ناصر
ابن محمد، أبى الفضل البغدادى محدث العراق (550هـ) وذلك فى يوم الاثنين الثالث والعشرين من المحرم سنة اثنتين وتسعين وأربع مائة.
ثم سماع الآخرين عليه، فى شهر رمضان فى سنة أربع وتسعين، وفى شهر ربيع الأول من سنة ست وتسعين وأربع مائة (108و) وعلى الصفحة الأخيرة، تصحيح سماع طبقة قبل هؤلاء، لجميع الجزء، من الشيخ أبى طاهر محمد بن على بن محمد، بكتابه، عن أبى بكر أحمد بن جعفر ابن مسلم الختلى، بقراءة محمد بن عبد الملك بن على بن عيسى بن النحوى أبى سعيد البغدادى سمعه:
أبو عبد الله محمد بن على بن عبد الله الصورى الحافظ (442هـ) وأبو الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفى، فى آخرين من الطبقة، وذلك فى جمادى الآخرة من سنة 438هـ وتعاقب السامعون للجزء على الشيخ أبى الحسين المبارك. سمعه عليه بقراءة أبى نصر المؤتمن بن أحمد بن على الساجى (507هـ):
ابن أخيه أبو منصور محمد، والقاضى الأجل أبو نصر محمد بن هبة الله بن مميل الشيرازى، والشيخ الأجل أبو الفضل عبد الملك بن على بن عبد الملك ابن يوسف، وأبو الفضل ناصر بن محمد بن على، وأبو منصور موهوب بن أحمد ابن محمد بن الخضر الجواليقى، وأبو طاهر أحمد بن محمد بن سلفة، وأبو العباس أحمد بن محمد بن أبى القاسم، الأصبهانيان، وأبو طالب مهلهل بن على بن الخضر المعمر الهمدانى، وهزارست بن عوض بن الحسن الهروى.
وذلك بتاريخ شهر رمضان من سنة 494والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد النبى وآله.
يليه سماع عدد من الشيوخ لهذا الجزء، على الشيخ الصالح أبى الحسين المبارك ابن عبد الجبار الصيرفى «أيده الله» بقراءة الشيخ أبى البركات عبد الوهاب
ابن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطى (538هـ).(1/301)
يليه سماع عدد من الشيوخ لهذا الجزء، على الشيخ الصالح أبى الحسين المبارك ابن عبد الجبار الصيرفى «أيده الله» بقراءة الشيخ أبى البركات عبد الوهاب
ابن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطى (538هـ).
فى ذى الحجة سنة أربع وتسعين وأربع مائة، 494هـ.
* * * وأما نسختا دار الكتب بالقاهرة بالمجموعتين:
166 - م، 226م طلعت، بعنوان (سؤالات نافع بن الأزرق لابن عباس رضى الله عنه) فالراجح أنهما منقولتان من أصل واحد من القرن الرابع للهجرة، ويحتمل كذلك أن إحداهما نسخت من الأخرى. فتكون ط هى المنقولة، ترجيحا، من (ك) لوجود نقص فى موضعين من ط، يختل به السياق.
والنسختان، كلتاهما، عاريتان على أى حال، من تقييد سماع أو توقيع ناسخ وتاريخ نسخ.
ويبدأ المخطوط فيهما بهذا الإسناد:
حدثنا أبو الحسين عبد الصمد بن على بن محمد بن مكرم المعروف بابن الطّستى، قراءة عليه من لفظه فى مسجده بدرب زباج يوم الخميس لعشر خلون من ربيع الآخر من سنة أربع وأربعين وثلاثمائة قال: نا أبو سهل السرى بن سهل بن خربان الجنديسابورى بجنديسابور قراءة عليه سنة ثمان وثمانين ومائتين، قال: نا يحيى بن أبى عبيدة المسلى واسم أبى عبيدة بحر بن فروخ قال: أخبرنا سعيد بن أبى سعيد، قال: أنا عيسى بن دأب عن حميد الأعرج وعبد الله بن أبى بكر بن محمد عن أبيه، قال: بينا عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد أسدل رجله فى حوض زمزم إذ الناس قد اكتنفوه من كل ناحية يسألونه عن تفسير القرآن وعن الحلال والحرام، وإذا هو لا يتعايا بشيء مما يسألونه عنه، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذى يجترئ على تفسير القرآن والفتيا بما لا علم له به. فقالا: يا ابن عباس، ما يحملك على تفسير القرآن والفتيا بما لا علم لك به؟ أشيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم هذا منك تخرصا؟ فإن كل هذا منك تخرصا فهذه والله الجرأة على الله عز وجل. فقال ابن
عباس لنافع بن الأزرق: لا والله، ما هذا منى تخرصا لكنه علم علمنيه الله.(1/302)
حدثنا أبو الحسين عبد الصمد بن على بن محمد بن مكرم المعروف بابن الطّستى، قراءة عليه من لفظه فى مسجده بدرب زباج يوم الخميس لعشر خلون من ربيع الآخر من سنة أربع وأربعين وثلاثمائة قال: نا أبو سهل السرى بن سهل بن خربان الجنديسابورى بجنديسابور قراءة عليه سنة ثمان وثمانين ومائتين، قال: نا يحيى بن أبى عبيدة المسلى واسم أبى عبيدة بحر بن فروخ قال: أخبرنا سعيد بن أبى سعيد، قال: أنا عيسى بن دأب عن حميد الأعرج وعبد الله بن أبى بكر بن محمد عن أبيه، قال: بينا عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد أسدل رجله فى حوض زمزم إذ الناس قد اكتنفوه من كل ناحية يسألونه عن تفسير القرآن وعن الحلال والحرام، وإذا هو لا يتعايا بشيء مما يسألونه عنه، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذى يجترئ على تفسير القرآن والفتيا بما لا علم له به. فقالا: يا ابن عباس، ما يحملك على تفسير القرآن والفتيا بما لا علم لك به؟ أشيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم هذا منك تخرصا؟ فإن كل هذا منك تخرصا فهذه والله الجرأة على الله عز وجل. فقال ابن
عباس لنافع بن الأزرق: لا والله، ما هذا منى تخرصا لكنه علم علمنيه الله.
ولكنى سأدلك على من هو أجرأ منى يا ابن أم الأزرق. قال: دلنى عليه. فقال:
رجل تكلم بما لا علم له به، أو رجل كتم الناس علما علمه الله عز وجل. فذاك أجرأ منى يا ابن أم الأزرق. وقال نجدة: فإنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله عز وجل فتفسره لنا وتأتينا بمصداقه من كلام العرب، فإن الله عز وجل، إنما أنزل القرآن بلسان عربى مبين. قال ابن عباس: سلانى عما بدا لكما تجدا علمه عندى حاضرا إن شاء الله تعالى»
وساق المسائل، فبلغت من هذا الطريق فى النسختين مائتين وخمسا وخمسين مسألة، ختامها فيهما:
(تمت مسائل ابن الأزرق لابن عباس) رضى الله عنه، والحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبى بعده).
* * *
بمقابلة هذه الأجزاء المخطوطة الجامعة لمسائل ابن الأزرق، بعضها على بعض، وعلى ما فى (كامل المبرد، وإيضاح الوقف والابتداء لابن الأنبارى، والمعجم الكبير للطبرانى ومعه مجمع الزوائد للهيثمى وإتقان السيوطى) تبين لنا:(1/303)
* * *
بمقابلة هذه الأجزاء المخطوطة الجامعة لمسائل ابن الأزرق، بعضها على بعض، وعلى ما فى (كامل المبرد، وإيضاح الوقف والابتداء لابن الأنبارى، والمعجم الكبير للطبرانى ومعه مجمع الزوائد للهيثمى وإتقان السيوطى) تبين لنا:
أن «المبرد» انفرد بذكر الخبر عن عمر بن أبى ربيعة وإنشاده رائيته عبد الله بن عباس، فى الحرم المكى.
وأن نسخة الظاهرية (ظ) أصل عتيق، تتفق مع (المعجم الكبير للطبرانى) مساقا ومتنا، وعدد المسائل فى كل منهما إحدى وثلاثون. ويلتقى الإسناد فيهما عند عثمان ابن عبد الرحمن الحرانى. عن عبيد الله عن جويبر عن الضحاك بن مزاحم الهلالى.
وأن نسختى دار الكتب بالقاهرة (ك، ط) تتفقان مع ما فى إتقان السيوطى مساقا ومتنا، مع زيادة فيهما. لما صرح السيوطى بأنه اختصره من المسائل. ويلتقى إسناده معهما عند «أبى الحسين عبد الصمد بن على بن محمد بن مكرم، ابن الطستى» من طريق عيسى بن دأب، أبى الوليد بن يزيد بن بكر الأخبارى، عن حميد الأعرج وعبد الله بن أبى بكر بن محمد، عن أبيه أبى بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم الأنصارى، التابعى الفقيه الحافظ.
مع إثبات تاريخ السماع ومكانه، عن أبى الحسين ابن الطستى، فى النسختين الخطيتين.
وبذلك يكون لدينا لرواية أبى القاسم الطبرانى فى طبعة معجمه الكبير.
مرجعان للمقابلة والتصحيح: مخطوطة الظاهرية وزوائد الطبرانى فى مجمع الزوائد لنور الدين الهيثمى.
ولرواية السيوطى فى (الإتقان) ما له نظائر فى مصدريه اللذين نص عليهما:
(الوقف والابتداء، والمعجم الكبير) مع نسختى دار الكتب المصرية (ك، ط).
* * *
ما اجتمع لى من المسائل من مختلف الطرق فى أصولها خطية ومطبوعة، يسعف على ما لم يكن متاحا لى من قبل، من توثيقها وإخراجها على سعة من الوقت فى نص محقق إذا يسر الله تعالى وأعان. وإنما أقتصر هنا على الانتفاع بهذه النسخ فى المقابلات والمراجعات، استكمالا لنقص وترميما لخرم وضبطا لسياق وتصحيحا لتصحيف أو تحريف. إذ القصد من إيراد المسائل هنا، كما ذكرت من قبل، خدمة قضية الإعجاز البيانى، بما روى عن ابن عباس، رضى الله عنهما، حبر هذه الأمة وترجمان القرآن، من تفسير لكلمات قرآنية فى مسائل ابن الأزرق، وما يكون لعلماء العربية والقرآن من أقوال فى تفسيرها، وعرض هذا التفسير على الدلالة القرآنية التى يهدى إليها التدبر والاستقراء، وصولا إلى إدراك فوتها جهد المحاولة لتفسيرها بغير لفظها فى البيان المعجز، إلا على وجه الشرح والتقريب.(1/304)
* * *
ما اجتمع لى من المسائل من مختلف الطرق فى أصولها خطية ومطبوعة، يسعف على ما لم يكن متاحا لى من قبل، من توثيقها وإخراجها على سعة من الوقت فى نص محقق إذا يسر الله تعالى وأعان. وإنما أقتصر هنا على الانتفاع بهذه النسخ فى المقابلات والمراجعات، استكمالا لنقص وترميما لخرم وضبطا لسياق وتصحيحا لتصحيف أو تحريف. إذ القصد من إيراد المسائل هنا، كما ذكرت من قبل، خدمة قضية الإعجاز البيانى، بما روى عن ابن عباس، رضى الله عنهما، حبر هذه الأمة وترجمان القرآن، من تفسير لكلمات قرآنية فى مسائل ابن الأزرق، وما يكون لعلماء العربية والقرآن من أقوال فى تفسيرها، وعرض هذا التفسير على الدلالة القرآنية التى يهدى إليها التدبر والاستقراء، وصولا إلى إدراك فوتها جهد المحاولة لتفسيرها بغير لفظها فى البيان المعجز، إلا على وجه الشرح والتقريب.
«وعلى الله قصد السبيل»(1/305)
«وعلى الله قصد السبيل»
المسائل نص، ودراسة فى الكتب المطبوعة
(وق) كتاب إيضاح الوقف والابتداء فى كتاب الله عز وجل، لأبى بكر ابن الأنبارى: ط دمشق 1390هـ 1971م.
(ط ب) المعجم الكبير للطبرانى: ط وزارة الأوقاف ببغداد.
(تق) الإتقان فى علوم القرآن، للجلال السيوطى.
ط الموسوية بالقاهرة 1278هـ.
النسخ الخطية (ظ) الخزانة الظاهرية بدمشق (3849) مجموع.
(ك) دار الكتب المصرية (166م) مجاميع.
(ط) دار الكتب المصرية: طلعت (266) مجاميع.(1/307)
(ط) دار الكتب المصرية: طلعت (266) مجاميع.
1 {عِزِينَ}
قال نافع بن الأزرق لابن عباس: أخبرنى عن قوله تعالى:
{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمََالِ عِزِينَ}
قال ابن عباس: عزين، الحلق الرفاق. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال:
نعم، أما سمعت قول «عبيد بن الأبرص» (1):
فجاءوا يهرعون إليه حتى ... يكونوا حول منبره عزينا
(تق، ك، ط) (2)
الكلمة من آية المعارج 37، والكلمة وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة:
{فَمََا لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمََالِ عِزِينَ}
معناها فى آية المعارج عند الفراء: والعزون الحلق الجماعات واحدها عزة، وأصلها عزوة، قال أبو عبيدة فى مجاز القرآن: جماعات فى تفرقة.
وفسرها البخارى بمثل قول الفراء. وقال الطبرى فى تأويل الآية: أى فرقا حول النبى صلى الله عليه وسلم لا يرغبون فى كتاب الله ولا فى نبيه. ثم أسند عن قتادة: العزين الحلق المجالس، وعن الضحاك: حلقا ورفقاء، وفى الحديث المرفوع: «ما لى أراكم حلقا» أخرجه مسلم أسند الطبرى عن أبى هريرة:
والعزين الحلق المتفرقة. وعن جابر بن سمرة قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن متفرقون فقال: «ما لى أراكم عزين» وفى رواية أنهم كانوا جلوسا فقال صلى الله عليه وسلم: «ما لى أراكم عزين حلقا» نستأنس به لدلالة العزوة
__________
(1) من (ك، ط) ووقع فى مطبوعة (تق): عبيد بن الأحوص.
(2) الحروف مع كل مسألة، ترمز إلى ما نقلت منه بدءا بالحرف الأول منها.
ومن علامة تبدأ خدمتى للمسألة.(1/309)
والعزين، على العزو والانتماء. لحظها الراغب فقال: الجماعة المنتسب بعضها إلى بعض (المفردات).
ولعل تأويل «عزين» فى المسألة بالحلق الرفاق، بملحظ من الدلالة على الجماعة يعتزى بعضها إلى بعض: محاصرة عن اليمين والشمال فى الآية، وتأييدا ونجدة ونصرة فى الشاهد من بيت عبيد، والله أعلم.
* * *2 {الْوَسِيلَةَ}:
قال: أخبرنى عن قول الله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} ما الوسيلة؟
قال: القربة، قال فيه عنترة (1):
أن العدو لهم إليك وسيلة (2) ... أن يأخذوك تكحّلى وتخضّبى
(وق) وفى (تق، ك، ط) قال:
الوسيلة الحاجة.
الكلمة من آية المائدة 35:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجََاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
ومعها آية الإسراء 57:
{أُولََئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى ََ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخََافُونَ عَذََابَهُ، إِنَّ عَذََابَ رَبِّكَ كََانَ مَحْذُوراً.}
__________
(1) لعنترة فى الأربعة، وفى ديوانه مع (الشعراء الستة الجاهلين) وشعراء الجاهلية (النصرانية 6/ 801) والمجاز لأبى عبيدة 1/ 164، والمعانى للفراء 1/ 91، وشواهد الطبرى والقرطبى لآية المائدة. وانظر تخريجه على هامش معانى القرآن للفراء.
(2) «إن العدو» فى الوقف ومعانى الفراء، وفى (تق، ك، ط): إن الرجال، وهى الرواية فى الديوان ومجاز أبى عبيدة وتفسير الطبرى وجامع القرطبى.(1/310)
وليس فى القرآن غيرهما من المادة.
تأويلها فى المسألة بالقربة، فى (وق)، أولى من تأويلها فى (ك، ط) بالحاجة، ولم أقف عليه فيما قرأت لهم فى معنى آية المائدة. قال أبو عبيدة فى (مجاز القرآن): أى القربة، أى اطلبوا واتخذوا ذلك بطاعته، يقال: توسلت إليه، تقربت. قال عنترة: البيت.
وفى تأويل الطبرى: اطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه، والوسيلة فعيلة من:
توسلت إلى فلان بكذا، بمعنى تقربت، ومنه قول عنترة البيت. يعنى بالوسيلة القربة. ونحوه فى تفسير القرطبى للآية، ولم ينقلا فيها خلافا بين أهل التأويل فى تفسيرها بالقربة.
وقال الراغب: الوسيلة التوصل إلى الشيء برغبة، وهى أخص من الوصيلة، لتضمنها معنى الرغبة. قال تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} والوسيلة إليه تعالى مراعاة سبيله وهى كالقربة، بالعلم والعبادة وتحرى الشريعة (المفردات).
وفى حديث الآذان: «اللهم آت محمدا الوسيلة» قال ابن الأثير: الوسيلة هى فى الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به. والمراد بها فى الحديث القرب من الله تعالى، وقيل هى الشفاعة يوم القيامة، وقيل هى منزلة من منازل الجنة.
(النهاية) * * *
3 {شِرْعَةً وَمِنْهََاجاً}:
قال ابن عباس، أخبرنى عن قول الله عز وجل: {شِرْعَةً وَمِنْهََاجاً}
قال: الشرعة الدين، والمنهاج الطريق. قال: وهل تعرف العرب ذلك» قال:
نعم. واستشهد بقول أبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
لقد نطق المأمون بالصدق والهدى ... وبيّن للإسلام دينا ومنهجا
(ك، ط، تق)
الكلمتان من آية المائدة 48خطابا للرسول عليه الصلاة والسلام، بعد ذكر التوراة والإنجيل:(1/311)
لقد نطق المأمون بالصدق والهدى ... وبيّن للإسلام دينا ومنهجا
(ك، ط، تق)
الكلمتان من آية المائدة 48خطابا للرسول عليه الصلاة والسلام، بعد ذكر التوراة والإنجيل:
{وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتََابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ وَلََا تَتَّبِعْ أَهْوََاءَهُمْ عَمََّا جََاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنََا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهََاجاً، وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَلََكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مََا آتََاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرََاتِ، إِلَى اللََّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمََا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.}.
ولم تأت صيغة «شرعة» إلا فى هذه الآية. وجاء منها الفعل الثلاثى ماضيّا فى آيتى الشورى (13، 21) و «شريعة من الأمر» فى آية الجاثية (18) و «شرّعا» فى آية الأعراف (163) وأما «منهاجا» فوحيدة فيه، صيغة ومادة.
الشريعة فى اللغة، المشرع والمورد إلى الماء. ويقال: شرعت الباب إلى الطريق وأشرعته، أى فتحته على الشارع: الطريق الواسع، جمعه شوارع. واستعير الشرع والشريعة لما شرعه الله تعالى لعباده.
«وأما المنهاج فإن أصله الطريق البيّن الواضح، يقال عنه: طريق نهج ومنهج، كما قال الراجز:
من يك فى شك فهذا فلج ... ماء روى وطريق نهج
ثم يستعمل فى كل شىء كان بينا واضحا» قاله الطبرى.
تأويلهما فى المسألة عن ابن عباس: الشرعة الدين والمنهاج الطريق. والذى أسنده الطبرى عن ابن عباس: من عدة طرق، قال: سبيلا وسنة. وأسند مثله عن قتادة، وقال: والسنن مختلفة: للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة. ولكن الدين الواحد الذى لا يقبل غيره: التوحيد والإخلاص الذى جاءت به الرسل. ثم أسند عن قتادة: الدين واحد والشريعة مختلفة.
والشرع من الدين، بصريح قوله تعالى فى سورة الشورى:
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مََا وَصََّى بِهِ نُوحاً} الآية 13وقوله عز وجل، فيها: {أَمْ
لَهُمْ شُرَكََاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مََا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللََّهُ} الآية 21.(1/312)
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مََا وَصََّى بِهِ نُوحاً} الآية 13وقوله عز وجل، فيها: {أَمْ
لَهُمْ شُرَكََاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مََا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللََّهُ} الآية 21.
وتتعدد الشرائع: {لِكُلٍّ جَعَلْنََا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهََاجاً} والدين واحد، فليس فى القرآن كله لفظ: أديان، جمعا.
* * *4 {يَنْعِهِ}:
وسأله عن قوله تعالى: {إِذََا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ}:
قال: نضجه وبلاغه. واستشهد بقول الشاعر:
إذا ما مشت وسط النساء تأوّدت ... كما اهتز غصن ناعم النبت يانع
(تق، ك، ط) الكلمة من آية الأنعام 99:
{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَخْرَجْنََا بِهِ نَبََاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنََا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرََاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهََا قِنْوََانٌ دََانِيَةٌ وَجَنََّاتٍ مِنْ أَعْنََابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمََّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشََابِهٍ، انْظُرُوا إِلى ََ ثَمَرِهِ إِذََا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ، إِنَّ فِي ذََلِكُمْ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
وتفسير الينع بالنضج والبلاغة، قريب منه ما أسنده الطبرى عن ابن عباس وغيره من أهل التأويل. ولا يفوتنا معه أن الينع لأوج الازدهار الطبيعى فى النبت والثمر، على حين جاء النضج، لما تنضجه النار فى قوله تعالى فى سورة النساء 56.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيََاتِنََا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نََاراً كُلَّمََا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنََاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهََا لِيَذُوقُوا الْعَذََابَ} ولم يأت فيه غيرها من المادة.
* * *
5 {رِيشاً}:(1/313)
* * *
5 {رِيشاً}:
وسأله عن قوله تعالى: {وَرِيشاً}
قال: المال، واستشهد بقول الشاعر:
فرشنى بخير طال ما قد بريتنى ... وخير الموالى من يريش ولا يبرى (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية الأعراف 26:
{يََا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنََا عَلَيْكُمْ لِبََاساً يُوََارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً، وَلِبََاسُ التَّقْوى ََ ذََلِكَ خَيْرٌ، ذََلِكَ مِنْ آيََاتِ اللََّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة.
وجاء المال فيه، نكرة ومعرفة، مفردا وجمعا، ستّا وثمانين مرة. مما يؤذن بفرق بين مال وريش، فى آية الأعراف.
وذكر الفراء والطبرى قراءة لغير السبعة: «ورياشا» ووجهه عندهما إما أن يكون مصدرا مثل لبس ولباس، أو جمعا واحده ريش كصحب وصحاب. وأورده أبو عبيدة فى مجاز القرآن بلفظ «ورياشا» قال: الرياش والريش واحد وهو فى الآية ما ظهر من اللباس والشارة. والرياش أيضا الخصب والمعاش.
وقال الطبرى: الرياش فى كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب والمتاع مما يلبس أو يحشى من فراش أو دثار. والريش إنما هو فى المتاع والأموال عندهم وربما استعملوه فى الثياب والكسوة، دون سائر المال، وقد يستعمل فى الخصب ورفاهة العيش. ثم أسند عن ابن عباس وآخرين أنه المال. وعنه أيضا وآخرين أنه اللباس والعيش الناعم. وفى قول: المعاش، والجمال.
وسياق الآية: أقرب فى الريش إلى اللباس، مستعار من الريش لأنه كالثياب
__________
(1) الشاهد فى (السيرة الهشامية: 2/ 67) لسويد بن الصامت الأوسى. وهو فى مفردات الراغب والأساس (ر ى ش) غير معزو. وفيها * فخير الموالى * وهى رواية فى البيت بالسيرة.(1/314)
للإنسان على ما قال الراغب. وأما فى الشاهد فهو من: راش السهم يريشه إذا ألصق به الريش وسدده، واستعبر للإصلاح. كما أن البرى مجاز من براية القلم واستعير للعجز والضعف.
* * *6 {كَبَدٍ}:
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {فِي كَبَدٍ} ما الكبد؟
قال: فى اعتدال [واستقامة] قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال:
نعم، أما سمعت قول لبيد بن ربيعة:
يا عين هلا بكيت أريد إذ ... قمنا وقام الخصوم فى كبد (1)
(ظ، ك، ط، تق) الكلمة من آية البلد 4:
{لََا أُقْسِمُ بِهََذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهََذَا الْبَلَدِ * وَوََالِدٍ وَمََا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ فِي كَبَدٍ}.
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة.
وفى معانى القرآن للفراء: منتصبا معتدلا. ويقال خلق فى كبد يكابد أمر الدنيا والآخرة.
وهما روايتان عن ابن عباس فى الطبرى وفتح البارى (8/ 498) ورواية ثالثة عنه فى الطبرى: فى شدة، فى معيشته وحمله وحياته ونبات أسنانه. واختار الطبرى بعد نقل اختلاف أهل التأويل فيها: فى شدة يكابد الأمور، لأن ذلك هو المعروف فى كلام العرب من معانى الكبد ومنه قول لبيد / الشاهد.
وأكثر المفسرين على أنه المكابدة والمشقة وأنشدوا فيه بيت لبيد. وفى شرحه
__________
(1) الديوان بشرح الطوسى، والمعانى للفراء 1/ 375، والمجاز لأبى عبيدة 1/ 213. وقابل على رواية ابن إسحاق فى السيرة 4/ 215، والكامل للمبرد، وشواهد الطبرى والقرطبى وأبى حيان لآية البلد.(1/315)
للطوسى قال: القيام على الأمر الشديد هو الكبد.
وذلك غير معنى الاعتدال فى المسألة.
ودلالة المشقة أصل فى المادة، فالعربية استعملت الكبد فى المعاناة من كبد مريضة، ثم نقلتها إلى المكابدة المعنوية، على سبيل المجاز، فقيل: وقع فى كبد، فى مشقة وتقول للخصماء: إنهم لفى كبد من أمرهم، وبعضهم يكابد بعضا، والمسافر يكابد الليل، إذا ركب هوله وصعوبته.
وأطمئن إلى أنه فى الآية الكريمة من المكابدة لتبعات التكليف ومخاطر اقتحام العقبة: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسََاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنََاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْعَقَبَةُ *} (1)
وكذلك يبدو معنى المشقة فى بيت لبيد، أقرب من معنى الاعتدال والاستقامة.
* * *7 {سَنََا}:
وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {يَكََادُ سَنََا بَرْقِهِ}
قال: السنا، الضوء. واستشهد ببيت أبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
يدعو إلى الحقّ لا يبغى به بدلا ... يجلو بضوء سناه داجى الظّلم
(تق، ك، ط) الكلمة من آية النور 43:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ يُزْجِي سَحََاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكََاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلََالِهِ، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ جِبََالٍ فِيهََا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشََاءُ، وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشََاءُ، يَكََادُ سَنََا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصََارِ.}
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة.
__________
(1) بمزيد تفصيل، سورة البلد فى الجزء الأول من (التفسير البيانى).(1/316)
ولفظ الضوء فى تفسير المسألة ليس من مفردات القرآن، والذى فيه من المادة:
«ضياء» فى آيات: يونس 5، والأنبياء 48، والقصص 31.
ومعها الفعل الثلاثى ماضيّا فى آيتى البقرة:
{فَلَمََّا أَضََاءَتْ مََا حَوْلَهُ} {كُلَّمََا أَضََاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} ومضارعا فى آية النور:
{يَكََادُ زَيْتُهََا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نََارٌ}
وتفسير السنا بالضوء لا يشهد له بيت أبى سفيان بن الحارث، من حيث لا يقال فيه:
يجلو بضوء ضوئه داجى الظلم
فيضاف الشيء إلى مثله. وأقرب منه أن يكون فى السنا معنى الساطع المتألق المرتفع من الضوء. وهو فى اللغة يستعمل فى العلو، فالسناء، بالمد: العلو والرفعة، والسنىّ: العالى المرتفع. وفى تفسير الطبرى للآية، أنه لمعان البرق ولم يشر إلى خلاف فى تأويله وقال الراغب: السنا: الضوء الساطع. (المفردات).
* * *8 {حَفَدَةً}:
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {بَنِينَ وَحَفَدَةً}
قال: أما بنوك فإنهم يعاطونك ويكفونك، وأما حفدتك فإنهم خدمك. قال:
وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أمية بن أبى الصلت الثقفى (1):
__________
(1) من (ظ) فى روايتين، والطبرانى وزوائده فى مجمع الهيثمى. ولم أجده فى ديوان أمية. وغير منسوب فى (تق، ك، ط) وفى الطبرى والكشاف ومفردات الراغب. وفى رواية ثالثة فى (ظ) من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: أما جميل فقد كان يعرفه حيث يقول: حفد الولائد / البيت وعلى هامشه بخط النسخة: وهذا خلاف رواية الحرانى، واستشهاد ابن عباس ببيت جميل، فيه نظر، وعزاه القرطبى وغيره لكثير عزة، وفيه أيضا نظر.(1/317)
حفد الولائد حولهنّ وألقيت ... بأكفّهنّ أزمّة الإجمال
(ظ، طب) وفى (ك، ط): ولد الولد وفى (تق) قال: الحفدة ولد الولد وهم الأعوان.
الكلمة من آية النحل 72:
{وَاللََّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوََاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبََاتِ، أَفَبِالْبََاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللََّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة.
والخلاف فى تأويلها بالمسألة عن ابن عباس، مثله وأكثر منه فيما ذكر الطبرى من اختلاف أهل التأويل فى المعنيين بحفدة، وأسند عن ابن عباس وغيره أنهم الأنصار، وعن ابن عباس أيضا أنه سئل عن «بنين وحفدة» فقال: من أعانك فقد خدمك، أما سمعت قول الشاعر: حفد الولائد / البيت، وعن عدد من أهل التأويل أنهم أختان الرجل على بناته، وأنهم الخدم، وفى (مفردات الراغب) فى قوله تعالى {بَنِينَ وَحَفَدَةً}: جمع حافد وهو المتحرك المتبرع بالخدمة أقارب كانوا أو أجانب، وحكى عن المفسرين أنهم الأسباط، وذلك لأن خدمتهم أصدق، قال الشاعر: حفد الولائد * وفى الدعاء: إليك نسعى ونحفد.
وأصل الحفد عند الأصمعى مداركة الخطو. وعن الخليل قال: الحفدة عند العرب الخدم. قال الزمخشرى. ومن المجاز حفدت فلانا خدمته وخففت إلى طاعته، فهو محفود، مخدوم مطاع. وهم حفدة فلان أى خدمه وأعوانه ومنه قيل لأولاد الابن: حفدة (س) لعل القريب من سياق الآية أن الحفدة أولاد البنين، ومن حيث يكونون أعوانا لأهلهم جوزت العربية استعمال الحفدة للأعوان يخفون لخدمة المحفود وطاعته ولو
لم يكونوا من أولاد ولده، وهو المفهوم من * حفد الولائد *، الشاهد. ومن حديث الدعاء: «وإليك نسعى ونحفد».(1/318)
وأصل الحفد عند الأصمعى مداركة الخطو. وعن الخليل قال: الحفدة عند العرب الخدم. قال الزمخشرى. ومن المجاز حفدت فلانا خدمته وخففت إلى طاعته، فهو محفود، مخدوم مطاع. وهم حفدة فلان أى خدمه وأعوانه ومنه قيل لأولاد الابن: حفدة (س) لعل القريب من سياق الآية أن الحفدة أولاد البنين، ومن حيث يكونون أعوانا لأهلهم جوزت العربية استعمال الحفدة للأعوان يخفون لخدمة المحفود وطاعته ولو
لم يكونوا من أولاد ولده، وهو المفهوم من * حفد الولائد *، الشاهد. ومن حديث الدعاء: «وإليك نسعى ونحفد».
والله أعلم.
* * *9 {حَنََاناً}.
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل {وَحَنََاناً مِنْ لَدُنََّا} ما الحنان؟
قال: الرحمة. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت يقول طرفة بن العبد وهو يقول للنعمان بن المنذر:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
(ظ، تق، ك، ط) الكلمة من آية مريم 13:
{يََا يَحْيى ََ خُذِ الْكِتََابَ بِقُوَّةٍ، وَآتَيْنََاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنََاناً مِنْ لَدُنََّا وَزَكََاةً وَكََانَ تَقِيًّا}
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة.
وأما الرحمة فى تفسيرها بالمسألة فكثيرة الورود فى القرآن الكريم، نكرة ومعرفة و «المرحمة» والفعل الثلاثى ماضيّا ومضارعا وأمرا، ورحماء و «أرحم الراحمين» والرحمن والرحيم من الأسماء الحسنى.
ومن المادة جاءت الأرحام اثنتى عشرة مرة، و «أقرب رحما» فى آية الكهف.
ومعنى الكلمة بالآية: الرحمة، عند أبى عبيدة والفراء. وفيما نقل الطبرى فيها من اختلاف أهل التأويل: القول بأن «حنانا» الرحمة، والتعطف والمحبة، وأسند عن ابن جريح عن عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة عن ابن عباس قال: لا والله ما أدرى ما حنانا. وقال الطبرى: وللعرب فيها لغتان: حنانك وحنانيك، واختلفوا فى حنانيك: هل هو تثنية حنان، أو كقولهم: حواليك؟ وأصل الحنان
من قولهم: حنّ إلى كذا، ارتاح إليه واشتاق، وتحنن: تعطف عليه ورقّ (سورة مريم).(1/319)
ومعنى الكلمة بالآية: الرحمة، عند أبى عبيدة والفراء. وفيما نقل الطبرى فيها من اختلاف أهل التأويل: القول بأن «حنانا» الرحمة، والتعطف والمحبة، وأسند عن ابن جريح عن عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة عن ابن عباس قال: لا والله ما أدرى ما حنانا. وقال الطبرى: وللعرب فيها لغتان: حنانك وحنانيك، واختلفوا فى حنانيك: هل هو تثنية حنان، أو كقولهم: حواليك؟ وأصل الحنان
من قولهم: حنّ إلى كذا، ارتاح إليه واشتاق، وتحنن: تعطف عليه ورقّ (سورة مريم).
وفى إعراب القرآن لأبى جعفر النحاس وفى جامع القرطبى أنه من حنين الناقة.
وأنشدوا فى حنانيك بيت طرفة، وفى حنان قول امرئ القيس:
حنانك ذا الحنان
وحكى القرطبى فيها قول جمهرة المفسرين: الحنان الشفقة والرحمة والمحبة، وهو من أفعال القلوب.
وفى الرحمة ملحظ من التسامح واللطف والعفو، إذا كانت من الله سبحانه وتعالى: ذى الرحمة، الرحمن الرحيم، أرحم الراحمين. فإذا كانت من الناس فبملحظ من القربى والرحم، والتراحم بين أولى الأرحام، والأخوة فى الدين:
والوجهان فى آية الإسراء 24: فى الإحسان بالوالدين:
{وَاخْفِضْ لَهُمََا جَنََاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمََا كَمََا رَبَّيََانِي صَغِيراً}
صدق الله العظيم.
* * *10 {يَيْأَسِ}:
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا}
قال: أفلم يعلم. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت بقول مالك بن عوف: (1)
لقد ييئس الأقوام أنى أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
(ظ) زاد فى (تق، ك، ط): أفلم يعلم، بلغة بنى مالك.
__________
(1) مالك بن عوف، فى الأربعة. وهو النصرى الصحابى الشاعر، كان رئيس هوازن يوم حنين وأسلم رضى الله عنه ومدح النبى صلى الله عليه وسلم. وعزاه القرطبى لرباح بن عدى.
(2) فى رواية أخرى فى (ظ) لقد يئس الأقوام * ومثلها فى (تق) وفى ك، ط (قد يئس) وفى تفسير الطبرى والقرطبى وأبى حيان وفتح البارى: ألم ييأس وفى (س) ألم تيأس / وإن كنت عن عرض العشيرة /.(1/320)
الكلمة من آية الرعد 31:
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبََالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ََ، بَلْ لِلََّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً، أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشََاءُ اللََّهُ لَهَدَى النََّاسَ جَمِيعاً، وَلََا يَزََالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمََا صَنَعُوا قََارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دََارِهِمْ حَتََّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللََّهِ، إِنَّ اللََّهَ لََا يُخْلِفُ الْمِيعََادَ}
وفى القرآن غيرها، الماضى والمضارع من يئس سبع مرات، واستيأس، واستيأسوا، ويئوس ثلاث مرات.
تأويل «أفلم ييأس» فى المسألة: أفلم يعلم، قاله جمهور أهل التأويل، بلفظه أو بلفظ: أفلم يتبين، كما فى تفسير البخارى. وإن ذكروا اختلاف أهل العلم بكلام العرب، فيه:
قال أبو عبيدة، فى الآية: أى أفلم يعلم ويتبين. وعن الكلبى أنها لغة النخع، أو حىّ منهم. حكاه الفراء، والجوهرى فى (ص) وبها فسر الآية، ومعها فى الطبرى عن القاسم بن معن أنها لغة هوازن، وحكاهما القرطبى وأبو حيان، وابن حجر فى فتح البارى عن الطبرى.
وأنشدوا جميعا فيها شاهد المسألة، وبيت سحيم:
أقول لهم بالشعب إذ يأسروننى ... ألم تيأسوا أنى ابن فارس زهدم
وأوردها ابن قتيبة فى باب المقلوب من (تأويل مشكل القرآن) قال: ويئست بمعنى علمت، من قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} الآية لأن فى علمك الشيء وتيقنك له يأسك من غيره. وأنشد بيت سحيم.
وهى عند الزمخشرى من المجاز: تقول قد يئست أنك رجل صدق بمعنى علمت وأنشد الشاهدين. وذلك أنه مع الطمع القلق، ومع انقطاعه السكوت والطمأنينة كما مع العلم، ولذلك قيل: اليأس إحدى الراحتين. (س) وهو نحو من توجيه الفراء، مع إنكاره أن يكون ييأس بمعنى يعلم محفوظا من
كلام العرب. وردّه الطبرى بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ. وحكاه عنه ابن حجر فى (فتح البارى) وفى القرآن الكريم غير آية الرعد، إحدى عشرة كلمة، والذى أطمئن إليه، والله أعلم، أن اليأس فيها على أصل معناه فى القنوط وانقطاع الرجاء، بصريح السياق فى آياتها البينات:(1/321)
وهى عند الزمخشرى من المجاز: تقول قد يئست أنك رجل صدق بمعنى علمت وأنشد الشاهدين. وذلك أنه مع الطمع القلق، ومع انقطاعه السكوت والطمأنينة كما مع العلم، ولذلك قيل: اليأس إحدى الراحتين. (س) وهو نحو من توجيه الفراء، مع إنكاره أن يكون ييأس بمعنى يعلم محفوظا من
كلام العرب. وردّه الطبرى بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ. وحكاه عنه ابن حجر فى (فتح البارى) وفى القرآن الكريم غير آية الرعد، إحدى عشرة كلمة، والذى أطمئن إليه، والله أعلم، أن اليأس فيها على أصل معناه فى القنوط وانقطاع الرجاء، بصريح السياق فى آياتها البينات:
الطلاق 4: {وَاللََّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسََائِكُمْ}
المائدة 3: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}
الممتحنة 13: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمََا يَئِسَ الْكُفََّارُ مِنْ أَصْحََابِ الْقُبُورِ}
ومعها آية العنكبوت 23 يوسف 87: {وَلََا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللََّهِ، إِنَّهُ لََا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللََّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكََافِرُونَ}.
يوسف 80: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا}
يوسف 110: {حَتََّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جََاءَهُمْ نَصْرُنََا}
هود 9: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنََّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنََاهََا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ} ومعها آيتا الإسراء 83وفصلت 49.
ولا يبعد أن نستأنس بها لفهم اليأس فى آية الرعد بمعنى أنه قد آن للذين آمنوا أن يقنطوا من الذين كفروا، ويقطعوا الرجاء فيهم، بما علموا {أَنْ لَوْ يَشََاءُ اللََّهُ لَهَدَى النََّاسَ جَمِيعاً} نظير قوله عز وجل:
{وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ََ، فَلََا تَكُونَنَّ مِنَ الْجََاهِلِينَ} الأنعام 35 {وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النََّاسَ حَتََّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} يونس 99.
وإجماع أهل التأويل على القول بأن معنى «أفلم ييأس» أفلم يعلم أو: أفلم يتبين، هو مقتضى اليأس من الذين كفروا، كما يفهم من توجيه الفراء وابن قتيبة
والزمخشرى، وهو صريح قول الراغب: اليأس انتفاء الطمع، يقال: يئس واستيأس، قال تعالى: {حَتََّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} {إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ} {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} وقيل معناها أفلم يعلموا، ولم يرد أن اليأس موضوع فى كلامهم للعلم، إنما قصد أن يأس الذين آمنوا من ذلك يقتضى العلم، فإذا ثبوت يأسهم مقتضى حصول علمهم». والله أعلم.(1/322)
وإجماع أهل التأويل على القول بأن معنى «أفلم ييأس» أفلم يعلم أو: أفلم يتبين، هو مقتضى اليأس من الذين كفروا، كما يفهم من توجيه الفراء وابن قتيبة
والزمخشرى، وهو صريح قول الراغب: اليأس انتفاء الطمع، يقال: يئس واستيأس، قال تعالى: {حَتََّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} {إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ} {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} وقيل معناها أفلم يعلموا، ولم يرد أن اليأس موضوع فى كلامهم للعلم، إنما قصد أن يأس الذين آمنوا من ذلك يقتضى العلم، فإذا ثبوت يأسهم مقتضى حصول علمهم». والله أعلم.
وأحسب أن الشاهد للمسألة، أقوى بمثل هذا التوجيه، مما لو حمل على علم الأقوام بأنه ابن أبيه، وإن كان عن أرض العشيرة نائيا.
* * *11 {مَثْبُوراً}:
وسأله عن معنى قوله تعالى: {مَثْبُوراً}
قال: ملعونا محبوسا من الخير، واستشهد بقول عبد الله بن الزبعرى:
[إذ أبارى الشيطان فى سنن الغىّ ... ومن مال ميله مثبور]
(تق، ك، ط) (1)
الكلمة من آية الإسراء 102فى الآيات التسع لموسى عليه السلام: {لَقَدْ عَلِمْتَ مََا أَنْزَلَ هََؤُلََاءِ إِلََّا رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ بَصََائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يََا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} (2).
وحيدة الصيغة فى القرآن، ومن مادتها جاء «ثبورا» أربع مرات: ثلاث فى آيتى الفرقان:
{وَإِذََا أُلْقُوا مِنْهََا مَكََاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنََالِكَ ثُبُوراً * لََا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وََاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} 13، 14
__________
(1) وقع الشاهد فى الثلاث: إذ أتانى الشيطان فى سنة النوم. وما هنا رواية ابن اسحاق فى السيرة (4/ 61) ومثلها فى ترجمة عبد الله بن الزبعرى، رضى الله عنه، بالإضافة. وقبل البيت:
يا رسول المليك إن لسانى ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
والشاهد فى تفسير الطبرى، غير معزو، وفى القرطبى لابن الزبعرى بلفظ: إذ أجارى الشيطان.
(2) قر الكسائى: «لقد علمت» بالضم، تاء متكلم وقرأ الباقون بالفتح، تاء مخاطب (التيسير 141)(1/323)
والرابعة فى آية الانشقاق.
{وَأَمََّا مَنْ أُوتِيَ كِتََابَهُ وَرََاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً * وَيَصْلى ََ سَعِيراً} 11 وهذا هو كل ما فى القرآن من المادة.
تأويلها فى المسألة باللعنة والحبس عن الخير، أسنده الطبرى عن ابن عباس.
ونقل «الراغب» فى (المفردات) فى معنى الكلمة بآية الإسراء: «قال ابن عباس رضى الله عنه: يعنى ناقص العقل، ونقصان العقل أعظم هلك» وهو ما أسنده الطبرى عن ابن زيد وأسند معه عن مجاهد وقتادة: هالكا. والتفسير على القولين، تقريب لا يفوتنا معه ما فى «الثبور» من حس الهلاك الذى لا ينفك ولا يتراخى.
وهو ما لم يفت «الراغب» فى تفسير الثبور بالهلاك والفساد المثابر على الإتيان. وفى (الأساس): ثابر على الأمر مثابرة. وثبره الله أهلكه هلاكا دائما لا ينتعش منه.
ومن ثم يدعو أهل النار ثبورا.
* * *12 {فَأَجََاءَهَا}:
وسأله عن معنى قوله تعالى: {فَأَجََاءَهَا الْمَخََاضُ}
فقال ابن عباس: ألجأها. واستشهد بقول حسان بن ثابت:
إذ شددنا شدّة صادقة ... فأجأناكم إلى سفح الجبل (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية مريم 23:
{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكََاناً قَصِيًّا * فَأَجََاءَهَا الْمَخََاضُ إِلى ََ جِذْعِ النَّخْلَةِ قََالَتْ يََا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هََذََا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا} (2).
__________
(1) من لامية حسان، ردا على لامية ابن الزبعرى فى يوم أحد. انظرها فى ديوانه (302) وفى (السيرة الهشامية: 3/ 144) وفى تهذيب اللغة:
وشددنا شدة صادقة ... فأجاءتكم إلى سفح الجبل
(2) «نسيا» بفتح النون، قراءة حفص وحمزة الزيات. وقرأ الباقون «نسيا» بكسرها (التيسير 148)(1/324)
ولم يأت الفعل: أجاء، رباعيّا مزيدا بالهمزة، إلا فى هذه الآية.
وأما الثلاثى منه فكثير، مبنيا للمعلوم وللمجهول. ذهب الفراء إلى أن «فأجاءها المخاض» من: جئت، كما تقول: فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة كما تقول: آتيتك زيدا، تريد: أتيتك بزيد. ولغة أخرى لا تصلح فى الكتاب وهى تميمية: فأشاءها المخاض. ومن أمثال العرب: شرّ ما ألجأك إلىّ وأهل الحجاز والعالية يقولون: شرّ ما أجاءك، وتميم تقول: شر ما أشاءك.
وحكاه عنه الأزهرى فى (التهذيب: ج أى) ونحوه عند الطبرى. وتأويلها فى المسألة ب: ألجأها، أسنده الطبرى عن ابن عباس، وأسند عن قتادة، قال:
اضطرها. واختاره الطبرى والقرطبى، وأنشدوا بيت زهير:
وجار سار معتمدا إلينا ... أجاءته المخافة والرجاء
وهو شاهد أبى حيان لمعنى: ساقها وفى الإجاءة بها من معنى شدة الموقف وعسر الاضطرار، ما ليس فى كلمة «ألجأها» بما تفيد من معنى الملجأ والملاذ، بصريح آياتها الثلاث فى الكتاب المحكم:
التوبة 57، فى المنافقين المتخاذلين: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغََارََاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}
التوبة 118، فى الصحابة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك (1)، لغير نفاق، فتاب الله عليهم:
{وَعَلَى الثَّلََاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتََّى إِذََا ضََاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمََا رَحُبَتْ وَضََاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لََا مَلْجَأَ مِنَ اللََّهِ إِلََّا إِلَيْهِ ثُمَّ تََابَ عَلَيْهِمْ}.
__________
(1) انظر حديث الثلاثة المخلفين، فى غزوة تبوك من السيرة الهشامية: 4/ 175.(1/325)
الشورى 47: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لََا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللََّهِ، مََا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمََا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ}.
والأمر كذلك فى بيت حسان، رضى الله عنه، شاهدا على أن السيطرة على الموقف كانت للمسلمين بعد الجولة الأولى من أحد، فأجاءوا المشركين إلى سفح الجبل. وتفسير الإجاءة بهم بالإلجاء، يفيد أن المسلمين جعلوا لعدوهم ملجأ، وليس المراد. وإنما يريد حسان تقرير ما كان للمسلمين من سيطرة على الموقف، فكانوا هم الذين أجاءوا عدوهم إلى سفح أحد.
* * *13 {نَدِيًّا}:
وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}
فقال ابن عباس: النادى، المجلس واستشهد له بقول الشاعر:
يومان، يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب (1)
(تق) زاد فى (ك، ط): المجلس والتكأة الكلمة من آية مريم 73:
{وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُنََا بَيِّنََاتٍ قََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقََاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} (2).
وحيدة الصيغة فى القرآن. وجاء النادى مرتين فى آيتى:
العلق 17: {فَلْيَدْعُ نََادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبََانِيَةَ}.
__________
(1) السيرة الهشامية (1/ 333) و (الكامل للمبرد) والبيت فيهما للشاعر «سلامة بن جندل» أحد بنى سعد بن زيد بن تميم.
من قصيدته المفضلية:
أودى الشباب حميدا ذو التعاجيب ... أودى وذلك شأو غير مرغوب
(2) قرأ ابن كثير المكى «مقاما» بضم الميم، وقرأ الباقون بفتحها.(1/326)
والعنكبوت 29، فى قوم لوط:
{أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجََالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نََادِيكُمُ الْمُنْكَرَ، فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ إِلََّا أَنْ قََالُوا ائْتِنََا بِعَذََابِ اللََّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصََّادِقِينَ}.
وسائر ما فى القرآن من النداء: فعلا ومصدرا واسم فاعل. ومن التنادى فى آية القلم 21: {فَتَنََادَوْا مُصْبِحِينَ}.
وأما مقام، فيأتى مصدرا نحو {عَسى ََ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقََاماً مَحْمُوداً}
{فَآخَرََانِ يَقُومََانِ مَقََامَهُمََا} ونحوه «يا قوم إن كان كبر عليكم قيامى وتذكيرى بآيات الله» ويأتى اسم زمان {وَمََا مِنََّا إِلََّا لَهُ مَقََامٌ مَعْلُومٌ} واسم مكان {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقََامِ إِبْرََاهِيمَ مُصَلًّى} {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقََامِكَ} لا يراد به منزل إبراهيم ومقعد سليمان عليهما السلام، بل حيث كانا يقومان أو باعتبار قيامهما كما قال الراغب.
والسؤال عن قوله تعالى «نديا» والجواب: النادى المجلس. والمعاجم تجمع بين الندى والنادى والمنتدى والندوة، لمجتمع القوم ومجلسهم. وفى تأويل الآية قال البخارى: «نديا» والنادى واحد، مجلسا. وأسنده الطبرى عن ابن عباس من عدة طرق، قال: المقام المنزل والندى المجلس. وعنه أيضا بلفظ: المقام المسكن والندى المجلس والنعمة والبهجة التى كانوا فيها. وعن قتادة: قال: مجلسا، وقرأ {فَلْيَدْعُ نََادِيَهُ}.
وفى الندى والنادى، دلالة التنادى والتجمع، وهى أصل فى المادة. قيده الجوهرى باجتماع القوم فى المجلس، فإن تفرقوا فليس بندى (ص) وقال الراغب: وعبّر عن المجالسة بالنداء حتى قيل للمجلس: النادى والمنتدى والندى. وقيل ذلك للجليس {فَلْيَدْعُ نََادِيَهُ} المفردات.
والمقام والندى في الآية وفى الشاهد، فى موضع الفخر والمباهاة، فلا يكونان مجرد مسكن ومنزل ومجلس، بل ما هو منهما من العظمة والجاه والكثرة بحيث يباهى بهما ويفاخر، والله أعلم.(1/327)
والمقام والندى في الآية وفى الشاهد، فى موضع الفخر والمباهاة، فلا يكونان مجرد مسكن ومنزل ومجلس، بل ما هو منهما من العظمة والجاه والكثرة بحيث يباهى بهما ويفاخر، والله أعلم.
14 {أَثََاثاً وَرِءْياً}:
وسأله عن معنى قوله تعالى: {أَثََاثاً وَرِءْياً»} (1).
قال: الأثاث المتاع، والرئى الشراب. واستشهد بقول الشاعر:
كأن على الحمول غداة ولّوا ... من الرئى الكريم من الأثاث
(تق، ك، ط) وفيهما: الرى الكلمة من آية مريم 74:
{وَكَمْ أَهْلَكْنََا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثََاثاً وَرِءْياً}
ومعها أثاث فى آية النحل 80:
{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعََامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهََا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقََامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوََافِهََا وَأَوْبََارِهََا وَأَشْعََارِهََا أَثََاثاً وَمَتََاعاً إِلى ََ حِينٍ}.
وأما رئى، فوحيدة الصيغة فى القرآن، على كثرة ما جاء فيه من المادة فى الرؤية والرأى والرؤيا، ورئاء والمراءاة والترائى
وتفسير الأثاث فى المسألة بالمتاع، أخرجه البخارى فى كتاب التفسير عن ابن عباس وأسنده الطبرى عنه. وقال الفراء فى معنى الآية: الأثاث المتاع، لا واحد لهما، وقد يجمعان. وخص الأزهرى الأثاث بمتاع البيت. وخصه الهروى فى (الغريبين) بما يلبس ويفترش.
ويظهر من استقراء الآيات فى الكلمتين أن الأثاث يستعمل، أكثر ما يستعمل، فى متاع البيت بخاصة، ومع ملحظ الوفرة والكثرة. وقلما استعمل فى المعنوى.
وأما المتاع، فعامّ فيما هو من متاع الدنيا، غير مقصور على الأثاث. وتتصرف العربية فى المتاع، على سبيل المجاز بمثل قولهم: متع النهار متوعا، إذا ارتفع غاية
__________
(1) قرأ قالون المدنى وابن ذكوان الدمشقى: «أثاثا وريّا» بتشديد الياء من غير همز، والباقون بالهمز.
(التيسير 149)(1/328)
الارتفاع ما قبل الزوال وشىء ماتع: بالغ فى الجودة، ورجل ماتع: كامل فى خصال الخير (س) ويقوى هذا الملحظ فى الفرق بين خصوص الأثاث وعموم المتاع، بعطف أحدهما على الآخر فى آية النحل. مع تدبر آيات فى المتاع، لا يقبل سياقها أن تحمل الكلمة على معنى الأثاث.
الحجر 88: {وَلََا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ََ مََا مَتَّعْنََا بِهِ أَزْوََاجاً مِنْهُمْ} معها:
آية طه 131 البقرة 36: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتََاعٌ إِلى ََ حِينٍ} معها:
الأعراف 24 المائدة 96: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعََامُهُ مَتََاعاً لَكُمْ}
الرعد 17: {وَمِمََّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النََّارِ ابْتِغََاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتََاعٍ}
يس 44: {إِلََّا رَحْمَةً مِنََّا وَمَتََاعاً إِلى ََ حِينٍ}
البقرة 241: {وَلِلْمُطَلَّقََاتِ مَتََاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}
معها: البقرة 236والنساء 24والأحزاب 49و 28 محمد 12: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمََا تَأْكُلُ الْأَنْعََامُ}
آل عمران 14: {ذََلِكَ مَتََاعُ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَاللََّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}
آل عمران 185: {وَمَا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا إِلََّا مَتََاعُ الْغُرُورِ} معها: الحديد 35 الأنبياء 111: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتََاعٌ إِلى ََ حِينٍ}
واضح أن المتاع فيها، عام لمتاع الحياة الدنيا، وليس كذلك «الأثاث» بخصوص دلالته فى آيتيه من الكتاب المحكم.
وتفسير «رئى» بأنه: من الشراب، كأنه أخذ من الرّىّ، وليست قراءة الأئمة السبعة. وفيها قال الطبرى: وقرأ الجمهور «ورئيا» بالهمزة، من رؤية العين، فعل بمعنى مفعول كالطحن والسقى. ثم أسند عن ابن عباس قال: الرئى المنظر. وفى رواية عنه: المنظر الحسن. والمهموز من مادة رأى، لا تنفك عنه دلالة الرؤية
بالحاسة، أو الرأى لما يرى بالفكر والعقل، والرؤيا لما يرى فى المنام. فكذلك الرئى، فيه ما يرى شهودا، أو بالوهم والتخييل كقولهم للتابع من الجن: رئى.(1/329)
وتفسير «رئى» بأنه: من الشراب، كأنه أخذ من الرّىّ، وليست قراءة الأئمة السبعة. وفيها قال الطبرى: وقرأ الجمهور «ورئيا» بالهمزة، من رؤية العين، فعل بمعنى مفعول كالطحن والسقى. ثم أسند عن ابن عباس قال: الرئى المنظر. وفى رواية عنه: المنظر الحسن. والمهموز من مادة رأى، لا تنفك عنه دلالة الرؤية
بالحاسة، أو الرأى لما يرى بالفكر والعقل، والرؤيا لما يرى فى المنام. فكذلك الرئى، فيه ما يرى شهودا، أو بالوهم والتخييل كقولهم للتابع من الجن: رئى.
ولا يبدو لى وجه تقريب لتفسير الرئى، من الشراب. فى «هم أحسن أثاثا ورئيا» بل تظل له دلالة الرؤية الملحوظة فى سائر استعمال العربية للمادة فيقرب أن يكون: مشهدا، ومنظرا يرى بالعين أو يتخيل على الوهم والظن والفتنة.
كما لا يبدو تخريج الشاهد الشعرى على معنى: * من الشراب الكريم من الأثاث * قريبا. وأقرب منه أن نفهمه بمعنى المشهد المرئى والمنظر.
* * *15 {قََاعاً صَفْصَفاً}
وسأله عن معنى قوله تعالى: {فَيَذَرُهََا قََاعاً صَفْصَفاً}.
فقال: القاع الأملس والصفصف المستوى. سأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
بملمومة شهباء لو قذفوا بها ... شماريخ من رضوى إذا عاد صفصفا
(تق، ك، ط) الكلمتان من آية طه 106فى يوم القيامة:
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبََالِ فَقُلْ يَنْسِفُهََا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهََا قََاعاً صَفْصَفاً * لََا تَرى ََ فِيهََا عِوَجاً وَلََا أَمْتاً}
القاع، واحد القيعان، وحيدة الصيغة فى القرآن.
واوية، قلبت ياء قيعان، لكسر ما قبلها (ص) ومن المادة جاءت قيعة، فى آية النور 39:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمََالُهُمْ كَسَرََابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مََاءً}
ودلالة الهبوط والانخفاض فى القاع أقرب من دلالة الملاسة. وهو فى الأصل اللغوى لما انخفض من الأرض وهبط.(1/330)
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمََالُهُمْ كَسَرََابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مََاءً}
ودلالة الهبوط والانخفاض فى القاع أقرب من دلالة الملاسة. وهو فى الأصل اللغوى لما انخفض من الأرض وهبط.
وصيغة صفصف، وحيدة فى القرآن كذلك، وجاء فيه من المادة صفّ، وصافات والصافات، وصواف، ومصفوفة.
ومعناهما عند الفراء: القاع، والقيعة: المستنقع، وما انبسط من الأرض ويكون فيه السراب وهما: والصفصف الأملس الذى لا نبات فيه. وفى تفسير البخارى: قاعا، يعلوه الماء، والصفصف المستوى من الأرض. وفى تأويل الطبرى: قاعا، أرضا ملساء. صفصفا: مستويا لا نبات فيه. وأسنده عن ابن عباس وغيره من أهل التأويل.
وتفسيره بالمستوى، نظر فيه إلى الصفّ. ومعنى الخلاء فى الصفصف أقرب.
والعربية تقول: صفصف، إذا سار وحده. ودلالة الاستواء فى الصفصف على ما فسرها به ابن عباس وغيره، من حيث لا ترى فى القاع الخالى الأجرد علامة تتميز من غيرها أو تظهر بارزة.
وأما الصف، فيأخذ معنى الاستواء فيه، دلالة النظام والترتيب. ومنه «صافات، وصوافّ، ومصفوفة» والله أعلم.
* * *16 {تَضْحى ََ}:
وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {وَأَنَّكَ لََا تَظْمَؤُا فِيهََا وَلََا تَضْحى ََ}
فقال ابن عباس: لا [تعرق] (1) فيها من شدة الحر. ولما سأله: وهل تعرف
__________
(1) فى تق: [لا تغرق] وما هنا من (م ط) ومعانى القرآن للفراء، وتفسير القرطبى والطبرى، غير منسوب فيه، ووقع فى طبعته [فيحصر] والبيت لعمر بن أبى ربيعة من رائيته المشهورة.
وسبق فى مقدمة المسائل، نقل ما جاء فى (الكامل للمبرد) عن موقف كان بين ابن عباس وابن الأزرق حول هذا البيت. انظره فى (رغبة الآمل: 7/ 166) والقصيدة فى ديوانه (6764) واقرأ معه تفسير آية الضحى، فى الجزء الأول من (التفسير البيانى)(1/331)
العرب ذلك؟ أجاب: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى، وأما بالعشىّ فيخصر
(تق، ك، ط) الكلمة من آية طه 119:
{فَقُلْنََا يََا آدَمُ إِنَّ هََذََا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلََا يُخْرِجَنَّكُمََا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ََ * إِنَّ لَكَ أَلََّا تَجُوعَ فِيهََا وَلََا تَعْرى ََ * وَأَنَّكَ لََا تَظْمَؤُا فِيهََا وَلََا تَضْحى ََ} (1)
وحيدة الصيغة فى القرآن.
وجاء «الضحى» الوقت من النهار فى آية الضحى. وجاء نكرة: ضحّى، فى آيتى طه (59) والأعراف (98) وضحاها، ثلاث مرات فى آيات النازعات 46، 49والشمس وضحاها.
وتفسير «لا تضحى» ب: لا تعرق من شدة الحر، إنما يكون على وجه تقريب لا يفوتنا معه أصل دلالة الضحى على الوقت بعينه من النهار فويق ارتفاع الشمس. ومنها يجيء الاستعمال فى كل ما وقع أو فعل فى هذا الوقت، ومشتقات المادة تدور حول هذا المعنى. وقيل لمن ضربته الشمس: ضحا. ولعله أقرب إلى معنى الكلمة فى آية طه، من العرق من شدة الحر.
قال الفراء فى معنى الكلمة: لا تصيبك شمس مؤذية. وذكر فى بعض التفسير:
لا تعرق، والأول أشبه بالصواب. قال الشاعر ... رأت رجلا ... البيت. وفى تأويل
الطبرى: لا تظهر للشمس فيؤذيك حرها، وأسند نحوه عن ابن عباس وعدد من أهل التأويل. وقد فسره «الراغب» بنحو هذا فقال فى (المفردات): أى لك أن تتصون من حرّ الشمس.
وهو أيضا ما يفهم به الشاهد من بيت عمر على ما قال الفراء وقد فسره المبرد فى الكامل بقوله: يضحى، يظهر للشمس، ويخصر: فى البردين: برد العشىّ وما بعده. وتلا الآية.
__________
(1) قرأها أبو بكر ابن عياش الكوفى «وإنك لا تظمأ» بكسر الهمزة، والباقون بفتحها (التيسير 153)(1/332)
17 {خُوََارٌ}:
وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {لَهُ خُوََارٌ}
فقال ابن عباس: صياح. واستشهد بقول الشاعر:
كأن بنى معاوية بن بكر ... إلى الإسلام صائحة تخور
(تق، م ط) الكلمة من آيتى:
الأعراف 148: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى ََ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوََارٌ، أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لََا يُكَلِّمُهُمْ وَلََا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا، اتَّخَذُوهُ وَكََانُوا ظََالِمِينَ}
طه 88: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوََارٌ فَقََالُوا هََذََا إِلََهُكُمْ وَإِلََهُ مُوسى ََ}
وليس فى القرآن غيرهما من المادة.
ولا يبدو قريبا وجه سؤال عن «خوار» والجواب عنه بصياح، فالخوار من المصادر القياسية فى العربية، لصوت البقر بخاصة، كالمواء والنباح والعواء لأصوات الهر والكلب والذئب. ولعل السؤال عن خوار عجل جسد، مجوف كما فى معانى القرآن للفراء (آية الأعراف) أو مصمت كما فى تفسير القرطبى للآية.
وفى آية الأعراف: «ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا». وآية طه متلوة بقوله تعالى: {أَفَلََا يَرَوْنَ أَلََّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلََا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلََا نَفْعاً}.
وبخوار هذا العجل الجسد الذى لا يكلمهم ولا يرجع لهم قولا، شغل المفسرون وعلماء القرآن، مع قوله تعالى فى ردهم على موسى عليه السلام:
{قََالُوا مََا أَخْلَفْنََا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنََا وَلََكِنََّا حُمِّلْنََا أَوْزََاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنََاهََا فَكَذََلِكَ أَلْقَى السََّامِرِيُّ}.
فى معانى الفراء: وجاء فى التفسير أنه خار مرة واحدة. وفى تفسير البخارى عن مجاهد: من حليهم: زينة القوم التى استعاروا من آل فرعون: وفى فتح البارى:(1/333)
{قََالُوا مََا أَخْلَفْنََا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنََا وَلََكِنََّا حُمِّلْنََا أَوْزََاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنََاهََا فَكَذََلِكَ أَلْقَى السََّامِرِيُّ}.
فى معانى الفراء: وجاء فى التفسير أنه خار مرة واحدة. وفى تفسير البخارى عن مجاهد: من حليهم: زينة القوم التى استعاروا من آل فرعون: وفى فتح البارى:
وصله الفريابى عن مجاهد. وأخرج الحاكم من حديث على كرم الله وجهه، قال:
عمد السامرى إلى ما قدر عليه من الحلى فضربه عجلا ثم ألقى القبضة فى جوفه فإذا هو عجل له خوار (8/ 302).
والقصة بتفصيل فى كتاب الأنبياء فى تفسير البخارى، وفى المطولات من كتب التفسير كالطبرى وجامع القرطبى.
وفى تأويل المسألة، فجاءت منه صيحة فى أخذة العدو (المنافقون) وأخذة الدمار الساحق (هود، والحجر، والعنكبوت) وصيحة البعث ليوم القيامة (يس، ق).
كذلك لا يبدو حمل الخوار على الصياح فى الشاهد، قريبا: وإنما الخوار فيه مستعار من خوار البقر.
* * *18 {وَلََا تَنِيََا}
وسأله عن معنى قوله تعالى: {وَلََا تَنِيََا فِي ذِكْرِي}.
قال: لا تضعفا عن أمرى. وشاهده قول الشاعر:
إنى وجدّك ما ونيت ولم أزل ... أبغى الفكاك له بكل سبيل
(تق، ك، ط) الكلمة من آية طه 42، خطابا لموسى وأخيه هارون عليهما السلام:
{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيََاتِي وَلََا تَنِيََا فِي ذِكْرِي}.
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة.
وأما الضعف فكثير: الفعل الثلاثى ومصدره، وضعف وضعفان وأضعاف.
والرباعى من المضاعفة ومصدره، والسداسى من الاستضعاف، وضعيف وضعفاء والمستضعفون.(1/334)
وأما الضعف فكثير: الفعل الثلاثى ومصدره، وضعف وضعفان وأضعاف.
والرباعى من المضاعفة ومصدره، والسداسى من الاستضعاف، وضعيف وضعفاء والمستضعفون.
فى كتاب الأنبياء من صحيح البخارى عن مجاهد أيضا: لا تضعفا. وأسنده الطبرى عن ابن عباس وجمهور أهل التأويل بلفظه أو بلفظ لا تبطئا. لم يذكر خلافا بينهم إلا ما أسنده عن ابن زيد قال: الوانى الغافل.
والروايتان عن ابن عباس فى جامع القرطبى. وفيه عن أبان، قال: لا ينى، لا يزال. وبها فسر الآية واستشهد بقول طرفة:
كأنّ القدور الراسيات أمامهم ... قدور بنوها لا تنى أبدا تغلى
قال القرطبى: والونى الضعف والفتور والكلال والإعياء، وكله مراد فى الآية.
وفى الونى من دلالة الإبطاء والتقصير وفتور الهمة والعزيمة، ما ليس فى الضعف، أكثر ما يكون فى العجز وضعف القوة والطاقة، لا عن توان وتقصير بالضرورة. والعربية فرقت بين ما يكون من التوانى تراخيا وفتورا وإبطاء، ومن الأناة حلما وتمهلا.
ومعنى التقصير والفتور أقرب إلى «ما ونيت» فى شاهد المسألة من تفسيره بمطلق الضعف قد يكون عن اضطرار وعجز.
* * *19 {الْقََانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}
وسأله عن معنى قوله تعالى: {الْقََانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}
فقال: القانع الذى يقنع بما أعطى، والمعترّ الذى يعترض الأبواب. سأله نافع: هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول (1):
__________
(1) زهير بن أبى سلمى. انظره فى (ديوانه): ص 114وهو من شواهد القرطبى للمعتر، وقال: والمعترى كالمعتر، يقال: اعتره واعتراه، وعرّه وعراه، إذا تعرض لما عنده أو طلبه. ذكره النحاس.(1/335)
على مكثريهم حقّ من يعتريهم ... وعند المقلّين السماحة والبذل
(تق) ووقع فى مخطوطتى (ك، ط):
والمعتر الذى يعترض الكلمتان من آية الحج 36فى الأحكام:
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنََاهََا لَكُمْ مِنْ شَعََائِرِ اللََّهِ لَكُمْ فِيهََا خَيْرٌ، فَاذْكُرُوا اسْمَ اللََّهِ عَلَيْهََا صَوََافَّ، فَإِذََا وَجَبَتْ جُنُوبُهََا فَكُلُوا مِنْهََا وَأَطْعِمُوا الْقََانِعَ وَالْمُعْتَرَّ، كَذََلِكَ سَخَّرْنََاهََا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
وحيدتان فى القرآن صيغة.
ومن مادة (ق ن ع) جاء اسم الفاعل جمعا من الإقناع فى آية إبراهيم 43:
{مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لََا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ}.
ومن مادة (ع ر ر) جاءت معرة فى آية الفتح 25:
{فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
ذهب الفراء إلى أن معناهما فى الآية: القانع الذى يسألك فما أعطيته من شىء قبله. والمعتر ساكت يتعرض لك عند الذبيحة ولا يسألك».
على أن الأصمعى عدّ القانع من الأضداد قال: القانع الراضى بما قسم الله ومصدره القناعة. والقانع السائل ومصدره القنوع. ورأيت أعرابيا يقول فى دعائه: «اللهم إنى أعوذ بك من القنوع والخنوع والخضوع، وما يغض طرف المرء ويغرى به لئام الناس».
قال عدى:
وما خنت ذا عهد وأبت بعهده ... ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعا
فالقانع السائل. والمعتر الذى يأتيك ويتعرض لك ولا يسأل. قال الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغنى ... مفاقره أعفّ من القنوع
أى أعف من المسألة. قال لبيد فى القناعة:(1/336)
وما خنت ذا عهد وأبت بعهده ... ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعا
فالقانع السائل. والمعتر الذى يأتيك ويتعرض لك ولا يسأل. قال الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغنى ... مفاقره أعفّ من القنوع
أى أعف من المسألة. قال لبيد فى القناعة:
فمنهم سعيد آخذ بنصيبه ... ومنهم شقى بالمعيشة قانع
ومثله بلفظه وشواهده فى الأضداد لابن السكيت. وقريب منه فى الأضداد للسجستانى ولابن الأنبارى (1).
وفى تأويل الآية، نقل الطبرى من اختلاف أهل التأويل فى المعنى بالقانع والمعتر، ما لا يسهل التوفيق بين أقوالهم فيهما: فالقانع المستغنى بما أعطيته وهو فى بيته، والمعتر الذى يتعرض لك أن تطعمه ولا يسأل: عن ابن عباس وآخرين من أهل التأويل بلفظ مقارب.
وعنه أيضا، وآخرين: القانع والمتعفف والمعتر السائل. وعن غيرهم: القانع هو السائل والمعتر الذى يعتريك ولا يسأل. واختار الطبرى قول من قال: عنى بالقانع السائل، والمعتر الذى يأتيك معترا بك لتعطيه وتطعمه.
زاد القرطبى، على ما فى الطبرى من مختلف الأقوال:
وقال مالك رضى الله عنه: سمعت أن القانع الفقير، والمعتر الزائر. والله أعلم.
* * *20 {مَشِيدٍ}:
وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}
__________
(1) الأضداد للأصمعى (49/ 74) ولابن الأنبارى (33/ 66) ولأبى حاتم السجستانى (116/ 170) ولابن السكيت (202/ 348).(1/337)
فقال ابن عباس: مشيد (1) بالجص والآجرّ. واستشهد ببيت عدى بن زيد:
شاده مرمرا وكلله كل ... سا فللطير فى ذراه وكور
(تق، م، ط) الكلمة من آية الحج 45:
{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنََاهََا وَهِيَ ظََالِمَةٌ فَهِيَ خََاوِيَةٌ عَلى ََ عُرُوشِهََا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}.
وحيدة الصيغة فى القرآن، اسم مفعول من شاد، الثلاثى.
ومعها «مشيّدة» من الرباعى المضعف العين، فى آية النساء 78:
{أَيْنَمََا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}.
قال أبو عبيدة: المشيّد المطوّل والمعمول بالشيد وهو كل شىء طليت به الحائط من جص أو بلاط. وعن الكسائى: «مشيد» مخففا للواحد، من قوله تعالى:
{وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} ومشيّد للجمع، من قوله تعالى «فى بروج مشيدة».
حكاهما الأزهرى فى (التهذيب) وأنشد بيت عدى. ومثله فى (الصحاح) بغير الشاهد.
والذى فى معانى القرآن للفراء (آية النساء): يشدّد ما كان من جمع مثل قولك ثياب مصبغة وأكبش مذبحة فجاز التشديد لأن الفعل متفرق فى جمع، فإذا أفردت الواحد من ذلك، فإن كان الفعل يتردد فى الواحد ويكثر جاز فيه التشديد والتخفيف مثل ثوب ممزق وكبش مذبوح، ولا تقل مذبّح لأن الذبح لا يتردد فيه كتردد التمزق فى الثوب. «وبئر معطلة وقصر مشيد»، يجوز فيه التشديد لأن التشييد بناء فهو يتطاول ويتردد. يقاس على هذا ما ورد (1/ 277).
__________
(1) من (نق) وفى (م، ط): شيد.
من رائيته فى العظة والاعتبار بمصير الماضين. والكلام فى البيت عن كسرى وإيوانه. انظره فى (شعراء الجاهلية / شعراء النصرانية) وفى عيون الأخبار لابن قتيبة: 3/ 115ط دار الكتب المصرية، وتهذيب اللغة للأزهرى (شاد) 11/ 394.(1/338)
فى تفسير البخارى: عن مجاهد، مشيد بالقصّة، جصّ الضبط من فتح البارى 8/ 308وأسنده الطبرى عن مجاهد من عدة طرق، وفى رواية منها بالقصة أو الفضة. وعن قتادة: كان أهله شيدوه وحصنوه. ونحوه عن السدى والضحاك: قصر رفيع طويل. واختار الطبرى: المجصص، لأن الشيد فى كلام العرب الجص. قال: وقد يجوز أن يكون معنيا بالمشيد المرفوع بناؤه. وأنشد بيت عدى بن زيد.
ودلالة رفع البنيان أصل فى شاد، ونقل مجازا إلى الإشادة بالذكر أو بالصوت والعورات (الأساس والنهاية) والتشييد يفيد بالتضعيف ملحظ تقوية وتحصين كما «فى بروج مشيدة».
ويتعين فى الشاهد من قول «عدى» أن القصر مشيد بالمرمر مكلل بالكلس، بصريح لفظه.
* * *21 {شُوََاظٌ}:
قال: أخبرنى عن قول الله عز وجل: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمََا شُوََاظٌ مِنْ نََارٍ}
ما الشواظ؟
قال: هو اللهب الذى لا دخان له. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، أما سمعت بقول أمية بن خلف وهو يهجو حسان بن ثابت وهو يقول:
ألا من مبلغ حسان عنى ... مغلغلة تدب إلى عكاظ
أليس أبوك فينا كان قينا ... لدى القينات فسلا فى الحفاظ
يمانيا يظل يشب كيرا ... وينفخ دائبا لهب الشواظ
من (ظ) فى روايتى الحرانى من طريق جويبر عن الضحاك. ومثلها فى (ق) وفى رواية الحناط من طريق عكرمة
عن ابن عباس، جاء فى (ظ): فأجابه بمثل الجواب فى حديث الحرانى، غير أنه قال: الشعر لأمية بن أبى الصلت.(1/339)
ألا من مبلغ حسان عنى ... مغلغلة تدب إلى عكاظ
أليس أبوك فينا كان قينا ... لدى القينات فسلا فى الحفاظ
يمانيا يظل يشب كيرا ... وينفخ دائبا لهب الشواظ
من (ظ) فى روايتى الحرانى من طريق جويبر عن الضحاك. ومثلها فى (ق) وفى رواية الحناط من طريق عكرمة
عن ابن عباس، جاء فى (ظ): فأجابه بمثل الجواب فى حديث الحرانى، غير أنه قال: الشعر لأمية بن أبى الصلت.
مثلها فى (طب) وكذلك فى (تق، ك، ط) مع الاقتصار فيها على البيت الثالث محل الشاهد وصدره فيها:
يظل يشب كيرا بعد كبر (1)
* * * الكلمة من آية الرحمن 35:
{يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطََارِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لََا تَنْفُذُونَ إِلََّا بِسُلْطََانٍ * فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمََا شُوََاظٌ مِنْ نََارٍ وَنُحََاسٌ فَلََا تَنْتَصِرََانِ * فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ}.
وحيدة صيغة ومادة.
تأويلها فى المسألة باللهب الذى لا دخان فيه، قاله الزجاج فيما حكى عنه الأزهرى فى (التهذيب: شواظ) ومعه عن ابن شميل قال: يقال لدخان النار شواظ، ولحرها شواظ، وحر الشمس شواظ».
وفى (معانى القرآن للفراء: آية الرحمن): والشواظ النار المحضة.
وفى (الكشاف): والشواظ اللهب الخالص. وفى (مفردات الراغب) مثل ما فى المسألة. على أن الطبرى نقل فيه عن ابن عباس: لهب النار. وعن الضحاك وقتادة: لهب من نار (سورة الرحمن) ولا يبدو قريبا من الشاهد من بيت «أمية بن خلف» حمله على معنى: وينفخ دائبا لهب اللهب بلا دخان. والله أعلم.
__________
(1) أبيات أمية بن خلف الجمحى فى هجاء حسان ورده عليها، فى (ديوان حسان: 197والسيرة 1/ 382) والشاهد فيها.
وأنشده القرطبى لأمية بن خلف، عن الوقف لابن الأنبارى. وذكر قبله رواية البيت لأمية ابن أبي الصلت، عن ابن عباس وقال: كذا وقع فى تفسيرى الثعلبى والماوردى (الجامع 17/ 171). سورة الرحمن(1/340)
22 {أَفْلَحَ}:
وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}.
فقال ابن عباس: فازوا وسعدوا. واستشهد بقول لبيد بن ربيعة:
فاعقلى إن كنت لمّا تعقلى ... ولقد أفلح من كان عقل (1)
(تق) ك، ط، وزاد فيهما فى جواب ابن عباس: يوم القيامة الكلمة من آية المؤمنون الأولى:
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلََاتِهِمْ خََاشِعُونَ}.
وفى القرآن منه: أفلح، الماضى من الرباعى، أربع مرات، ومضارعه ثلاثا وعشرين مرة واسم الفاعل منه، جمع مذكر سالم، مرتين.
إثباتا للفلاح وبشرى: للمؤمنين والمتقين، والصابرين، والمجاهدين، وحزب الله، والذين على هدى من ربهم
ونفيا له عن: الكافرين، والظالمين، والمكذبين، والساحر، والذين يفترون على الله الكذب.
وتفسير الإفلاح بالفوز والسعادة قريب.
ومن معانى الفلاح فى العربية: النجاح وإدراك البغية. وميز «الراغب» بين ضربين منه: الدنيوى وهو الظفر بالسعادات التى تطيب بها الحياة الدنيا من بقاء وغنى وعز. قال: وإياه عنى الشاعر بقوله:
أفلح بما شئت فقد يدرك بالض ... عف وقد يخدع الأريب
__________
(1) وقع فى مطبوعة الإتقان: [من كان له عقل] ولا يسلم به الوزن والروى. ووقع فى (ك، ط): [فاغفلى إن كنت لما تغفلى * غفل] تصحيف، والتصحيح من (ديوان لبيد) ط الكويت وهو من شواهد الطبرى (1/ 250).(1/341)
والضرب الآخر: فلاح أخروى: بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل (المفردات).
وإلى الفوز فى الآخرة، وجّهه الطبرى فى تأويله للآية، والقرطبى فى آية البقرة:
{أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 5.
وهى الرواية فى جواب المسألة فى (ك، ط): فازوا وسعدوا يوم القيامة.
وفسره الطبرى بمعنى «ظفر بحاجته وأصاب خيرا».
وقد نميل إلى فهم إفلاح المؤمنين، بدلالة إسلامية على التوفيق إلى ما يرضى الله سبحانه ويرضيهم. والله أعلم. وهو فى الشاهد من بيت «لبيد» أقرب إلى معنى نجاح المسعى وإدراك الطلب المراد.
* * *23 {يُؤَيِّدُ}:
وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشََاءُ}.
فقال ابن عباس: يقوى. واستشهد ببيت حسان بن ثابت:
برجال لستم أمثالهم ... أيّدوا جبريل نصرا فنزل (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية آل عمران 13:
{قَدْ كََانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتََا فِئَةٌ تُقََاتِلُ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَأُخْرى ََ كََافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وَاللََّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشََاءُ، إِنَّ فِي ذََلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصََارِ}.
__________
(1) وقع فى مطبوعة الإتقان الموسوية: [لسموا أمثالهم].
وبعده فى (ك، ط):
وعلونا يوم بدر بالتقى ... طاعة الله وتصديق الرسل
والبيتان فى ديوان حسان، وفى شعره يوم أحد: السيرة الهشامية (3/ 145)(1/342)
وحيدة الصيغة، فعل مضارع، فى القرآن الكريم.
ومعها الفعل الماضى ثمانى مرات، و (الأيد) فى آية:
ص 17: {وَاذْكُرْ عَبْدَنََا دََاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوََّابٌ}.
والملحظ الاستقرائى لسياقها، هو أن كل تأييد فى القرآن، من الله تعالى. يطرد ذلك فى آياته التسع التى جاء الفعل فيها مسندا إليه سبحانه، مثبتا غير منفى.
وتفسير التأييد بالتقوية قريب، على ألا يفوتنا هذا الملحظ من الدلالة الإسلامية فى اختصاص التأييد فى القرآن، بكونه من الله تعالى وحده، فليس إلا لحزبه المؤمنين المتقين المجاهدين. وكذلك «الأيد» لعبده داود فضلا من الله ومنّة.
وأما القوة، فقد تأتى بمعنى البأس والجبروت، كالذى فى آيات:
النمل 32فى الملأ من سبأ: {قََالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ}.
محمد 13: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنََاهُمْ فَلََا نََاصِرَ لَهُمْ}.
فاطر 44: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكََانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَلََا فِي الْأَرْضِ، إِنَّهُ كََانَ عَلِيماً قَدِيراً}.
معها آيات: (القصص 78، الروم 9، غافر 21، 82وفصلت 15) وقد يوصف المخلوق بالقوة، كالذى فى آيتى: القصص 78، والروم 54. كما قد تكون القوة من العباد، كالذى فى آيتى هود 80والكهف 95.
وليس كذلك التأييد فى الكتاب المحكم، مسندا إلى الله سبحانه ومتعلقا بالصفوة من عباده، لا بطاغوت الكفر وبأس الجبابرة.
* * *
24 {نُحََاسٌ}:(1/343)
* * *
24 {نُحََاسٌ}:
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {وَنُحََاسٌ فَلََا تَنْتَصِرََانِ} ما النحاس؟
قال: هو الدخان الذى لا لهب فيه. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال:
نعم، أما سمعت بقول النابغة الجعدى: (1).
يضيء كضوء سراج السل ... يط لم يجعل الله فيه نحاسا
من (ظ) فى روايتى الحرانى. وفى رواية الحناط: نابغة بنى ذبيان. ومثله فى (طب) ولم ينسبه فى (تق، ك، ط).
الكلمة من آية الرحمن 35:
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمََا شُوََاظٌ مِنْ نََارٍ وَنُحََاسٌ فَلََا تَنْتَصِرََانِ * فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ}.
وحيدة فى القرآن.
ومن المادة جاء نحس ونحسات فى آيتى القمر 19: {إِنََّا أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ}.
فصلت 16: {فَأَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيََّامٍ نَحِسََاتٍ}.
فى معانى القرآن للفراء (سورة الرحمن): الشواظ النار المحضة. والنحاس الدخان. وأنشد الشاهد.
وروى الطبرى بأسانيده، من اختلاف أهل التأويل فى معناه: أنه الدخان، عن ابن عباس، وعنه أيضا: الصفر يعذبون به. وعن مجاهد وسفيان: يذاب الصفر من فوق رءوسهم. واختار القول بأنه الدخان، وأنشد بيت النابغة.
وكذلك نقل القرطبى عن مجاهد وقتادة ورواية عن ابن عباس، أنه الصفر
__________
(1) البيت للنابغة الجعدى فى ديوانه، وتهذيب الألفاظ لابن السكيت (330) وشواهد الكشاف (الشرح 65) والقرطبى والبحر المحيط. وعزاه الطبرى لنابغة بنى ذبيان. ولم ينسبه الفراء فى (معانى القرآن).(1/344)
المذاب يصب على رءوسهم. وعنه أيضا، وعن سعيد بن جبير: الدخان الذى لا لهب فيه. وهو قول الخليل. وعن ابن مسعود أنه المهل، وعن الضحاك: وهو دردى الزيت المغلى. وعن الكسائى: النار التى لها ريح شديدة.
وفى البحر المحيط: الدخان لا لهب فيه وهو معروف من كلام العرب وأنشد بيت الجعدى والنار لها ريح شديدة، وقيل الصفر المذاب.
قال الراغب: {مِنْ نََارٍ وَنُحََاسٌ}: فالنحاس اللهيب بلا دخان، وذلك تشبيه فى اللون بالنحاس: والنحس ضد السعد {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} {فِي أَيََّامٍ نَحِسََاتٍ} وأصل النحس أن يحمر الأفق فيصير كالنحاس أى لهب بلا دخان، فصار ذلك مثلا للشؤم (المفردات).
والآيات الثلاث، فى العذاب والشؤم. وأغنى سياقها من فسروا النحاس بمثل ما فى المسألة. عن الاحتراز بأن اللهب بغير دخان قد ينفع فى الدفء والاصطلاء، وفى الشى والإنضاج.
والله أعلم.
* * *25 {أَمْشََاجٍ}:
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {أَمْشََاجٍ نَبْتَلِيهِ} ما الأمشاج؟ قال:
ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا فى الرحم كان مشيجا. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال نعم، أما سمعت بقول أبى ذؤيب الهذلى (1):
__________
(1) لأبى ذؤيب كذلك فى (الأساس) ولزهير بن حرام الهذلى فى (خلق الإنسان)، والكامل للمبرد، بغية 7/ 9، والصحاح (م ش ج) وللهذلى، غير مسمى، فى جامع القرطبى والبحر المحيط، سورة الإنسان) وهو فى ديوان الهذليين من قصيدة لعمرو بن الداخل، وعلى هامشه بشرح السكرى: وقال الأصمعى: هذه القصيدة لرجل من هذيل يقال له الداخل، واسمه زهير بن حرام (3/ 103)(1/345)
كأن النّصل والفوقين منه ... خلال الريش سيط به مشيج
فجالت فالتمست به حشاها ... فخرّ كأنه خوط هديج
(ظ) واقتصر فى (طب، تق، ك، ط) على البيت الأول وفيه محل الشاهد الكلمة من آية الإنسان 2:
{إِنََّا خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشََاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنََاهُ سَمِيعاً بَصِيراً}.
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة.
فسره الفراء فى معانى القرآن، بالأخلاط، ماء الرجل وماء المرأة والدم والعلقة.
ويقال للشيء من هذا إذا خلط: مشيج وممشوج كخليط ومخلوط. نقله القرطبى وحكى معه عن المبرد: واحد الأمشاج مشج وهو هنا اختلاط النطفة بالدم. ومثله فى (خلق الإنسان) وفيه عن ابن الأعرابى: يكون مشيج من لونين فهو مشج ومشيج. وفى رواية عن ابن عباس عند القرطبى «الأمشاج الحمرة فى البياض والبياض فى الحمرة» قال: وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة.
وفسره البخارى بمثل ما نقلنا عن الفراء. قال ابن حجر فى الفتح: هو قول الفراء، قاله فى «أمشاج نبتليه» وأخرج ابن أبى حاتم من طريق عكرمة قال: من الرجل الجلد والعظم ومن المرأة الشعر والدم. ومن طريق الحسن: من نطفة مشجت بدم المرأة وهو دم الحيض. ومن طريق على بن أبى طلحة عن ابن عباس:
مختلفة الألوان: ومن طريق ابن جريج عن مجاهد: أحمر وأسود. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود قال: الأمشاج العروق.
ولا يخرج عن هذه الأقوال ما فى التفاسير الموسعة كالطبرى والقرطبى وابن كثير والبحر المحيط. والله أعلم.
* * *
26 {فُومِهََا}:(1/346)
* * *
26 {فُومِهََا}:
وسأله عن قول الله عز وجل: {وَفُومِهََا} ما الفوم؟ قال: الحنطة. أما سمعت قول أبى محجن الثقفى (1):
قد كنت أحسبنى كأغنى واحد ... قدم المدينة عن زراعة فوم
(ظ، طب، تق) وزاد فى (ك، ط) بعد بيت أبى محجن: قال: ومن قرأها على قراءة عبد الله بالثاء (2)
فهو هذا المنتن، قال أمية بن أبى الصلت:
كانت منازلهم إذا ذاك ظاهرة ... فيها الفراديس والفومان والبصل
الكلمة من آية البقرة 61:
{وَإِذْ قُلْتُمْ يََا مُوسى ََ لَنْ نَصْبِرَ عَلى ََ طَعََامٍ وََاحِدٍ فَادْعُ لَنََا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنََا مِمََّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهََا وَقِثََّائِهََا وَفُومِهََا وَعَدَسِهََا وَبَصَلِهََا، قََالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى ََ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
فى مجاز القرآن لأبى عبيدة أنه الحنطة، وقالوا هو الخبز (1/ 4) وقال الفراء إن الفوم فيما ذكر لغة قديمة وهى الحنطة والخبز جميعا قد ذكرا. قال بعضهم: سمعنا العرب من أهل هذه اللغة يقولون: فوّموا لنا بالتشديد لا غير. يريدون:
اختبزوا. وهى فى قراءة عبد الله: «وثومها» بالثاء، فكأنه أشبه المعنيين بالصواب لأنه مع ما يشاكله من العدس والبصل. والعرب تبدل الفاء ثاء (1/ 41)
__________
(1) فى طب: أبو ذؤيب. ووقع فى مطبوعته: [تحسبنى] وهو فى الزوائد للهيثمى: أحسبنى. والشاهد فى الطبرى والقرطبى لأبى محجن: قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا، ورد المدينة / وبعده فى القرطبى: وأنشد الأخفش، البيت كما فى المسألة.
(2) ابن مسعود رضى الله عنه. وقراءة الجمهور بالفاء. والشاهد فى القرطبى وديوان أمية.(1/347)
وحكاه الطبرى عن بعض أهل العلم بلغات العرب، ولم يسمه كعادته وابن حجر فى فتح البارى (8/ 783) والقرطبى فى الجامع، ونقل فى الفوم بمعنى الثوم، أنه قول الكسائى والنضر بن شميل، وقيل: الفوم الحنطة، روى عن ابن عباس أيضا، وأكثر المفسرين، واختاره النحاس وقال: هو أولى وإن كان الكسائى والفراء اختارا القول الأول لإبدال العرب الفاء من الثاء، والإبدال لا يقاس عليه.
* * *27 {سََامِدُونَ} (1)
وسأله عن معنى قوله عز وجل {سََامِدُونَ} ما السمود؟
قال: لاهون. أما سمعت قول هزيلة بنت بكر وهى تبكى عادا:
قيل قم فانظر إليهم ... ثم دع عنك السمودا (2)
(ظ، طب، تق، ك، ط) الكلمة من آية النجم 61:
{أَفَمِنْ هََذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلََا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سََامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلََّهِ وَاعْبُدُوا}.
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة لم يوردها أبو بكر ابن الأنبارى فى المسائل بالوقف والابتداء، وأوردها فى
__________
(1) المسألة أوردها ابن الأنبارى كذلك فى (الأضداد 4743) بنص ما فى (ظ)
(2) انفقت الروايات على هذا البيت، محل الشاهد. وقبله فى (ظ) بعثت عاد لقيما ... وأبا سعد مريدا
وأبا جلهمة الخير ... فتى الحى العنودا
قيل قم / البيت وفى (طب) بعثت عاد. قبل قم وفى (تق، ك، ط) قبل الشاهد:
ليت عادا قبلوا الحق ... ولم يبدوا جحودا
زاد بعدها فى (ك، ط):(1/348)
(الأضداد: 17) وقال: السامد فى كلام أهل اليمن: اللاهى، وفى كلام طيئ:
الحزين. ثم روى المسألة من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، بمثل ما هنا فى المسألة، مع بيت هزيلة، وقال: وعن أبى عبيدة: السمود اللهو واللعب، وقال بعض أهل اللغة: الحزن والتحير.
وبيت هزيلة أنشده أبو حاتم السجستانى فى (الأضداد 143) شاهدا على السمود بمعنى السكون. وقال: وهو اللهو فى كلام أهل اليمن، وأنشد لأبى زبيد الطائى:
وتخال العزيف فينا غناء ... لندامى من شارب مثمود
وعن ابى ثروان: السامد الحزين فى كلام طيئ واللاهى فى كلام اليمن. ثم قال: وأما الذى فى القرآن فلا علم لى به. واختلفوا فيه عن الصحابة وغيرهم.
ويروى عن علىّ عليه السلام أنه خرج ليصلى بهم وإذا هم قيام يترددون فقال:
«ما لى أراكم سامدين؟» والله أعلم بذلك.
اقتصر الفراء فى معنى الكلمة بآية النجم، على: لاهون وفى تأويل الطبرى: وأنتم لاهون عما فيه من العبر والذكر معرضون عنه، وبنحو ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظهم بالعبارة عنه. ومما روى منها عن ابن عباس، قال: هو الغناء وهى لغة أهل اليمن. وعنه أيضا: لاهون. وعنه: شامخون. ثم أخرج حديث على رضى الله عنه، من عدة طرق، وفيه قال ابن الأثير: كأنه أنكر قيامهم قبل أن يروا إمامهم. والسامد القائم فى تحير (النهاية).
واقتصر فى الكشاف على أن السمود الغناء فى لغة حمير.
وتوسع القرطبى فأورد مختلف الأقوال فى معناها. وفى الصحاح: سمد سمودا رفع رأسه تكبرا. وقال ابن الأعرابى: سمدت سمودا علوت. والسمود: اللهو، والسامد: اللاهى، والمغنى، والقائم، والساكت، والخاشع.
وأقول مع أبى حاتم: هذا فى اللغة، وأما الذى فى القرآن فلا علم لى به، والله أعلم.
وأما بيت هزيلة، فلا يشهد للّاهين كما فى المسألة، والأقرب أن يكون بمعنى الهمود أو السكوت كما قال أبو حاتم.(1/349)
وأقول مع أبى حاتم: هذا فى اللغة، وأما الذى فى القرآن فلا علم لى به، والله أعلم.
وأما بيت هزيلة، فلا يشهد للّاهين كما فى المسألة، والأقرب أن يكون بمعنى الهمود أو السكوت كما قال أبو حاتم.
* * *28 {غَوْلٌ}:
وسأله عن معنى قوله عز وجل: {لََا فِيهََا غَوْلٌ}
قال: ليس فيها نتن ولا كراهية خمر الدنيا. واستشهد بقول امرئ القيس:
ربّ كأس شربت لا غول فيها ... وسقيت النديم منها مزاجا
(تق، ك، ط) الكلمة من آية الصافات 47فى شراب أهل الجنة:
{يُطََافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضََاءَ لَذَّةٍ لِلشََّارِبِينَ * لََا فِيهََا غَوْلٌ وَلََا هُمْ عَنْهََا يُنْزَفُونَ} (1).
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة فى تفسير البخارى عن مجاهد: غول وجع بطن. وفى (فتح البارى): وصله الفريابى عنه كذلك. وروى فيها الطبرى من اختلاف أهل التأويل فى معناها: أنه الصداع. عن ابن عباس. وعنه أيضا وعن مجاهد: وجع بطن، وعن قتادة وغيره: لا وجع فيها ولا صداع رأس. وعن السدى: لا تغول عقولهم. وعن ابن جبير: لا يصيبهم أذى ولا مكروه. وقال آخرون: إثم. واختار القول بأنها تغتال عقولهم. وقد يحتمل أن لا يكون فيها ما يؤذيهم من مكروه.
وعن الشعبى والسدى وأبى عبيدة: لا تغتال عقولهم فتذهب بها. حكاه القرطبى وأنشد:
__________
(1) قرأها حمزة والكسائى، الكوفيان: «ينزفون» بكسر الزاى. والباقون بفتحها، ولا خلاف فى ضم الياء (التيسير: 186)(1/350)
وما زالت الكأس تغتالنا ... وتذهب بالأوّل فالأول
أى تصرعنا واحدا واحدا.
وهذا المعنى أصل فى المادة بمختلف صيغها واشتقاقها: الغول، والغول، والتغوّل، والغيلة، والاغتيال، والدواهى وكل ما يغول المرء. قال ابن الأثير:
كانت العرب تزعم أن الغول فى الفلاة تتراءى للناس فتتغول تغولا، أى تتلون فى صور شتى، وتغولهم أى تضلهم وتهلكهم (النهاية) ويحتمل الغول فى الخمر كل هذه الدلالات من اغتيال للعقل وهلاك وضلال وضياع، ومن تلبيس الوهم وأباطيل الخيال
* * *29 {اتَّسَقَ}
وسأله عن معنى قول الله عز وجل: {إِذَا اتَّسَقَ} ما اتساقه؟
قال: اجتماعه. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت «ابن صرمة الأنصارى» (1) حيث يقول:
إنّ لنا قلائصا نقانقا ... مستوسقات لو يجدن سائقا
(ظ، وق، طب، تق، ك، ط) الكلمة من آية الانشقاق 18:
{فَلََا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمََا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ}.
__________
(1) اختلفت الروايات فى اسمه: ابن صرمة فى (ظ، طب) وفى مجمع الزوائد «أبو صرمة» فى التفسير، وفى المناقب.
وأبو صرمة الأنصارى، الصحابى الشاعر، مشهور بكنيته. وفى ترجمته بالإصابة قول بأن اسمه قيس بن صرمة.
وجاء فى (وق) أبو طالب. والشاهد فى (تق، ك، ط) لطرفة بن العبد. وغير منسوب فى الطبرى شطره الأول وفى شواهد المبرد بالكامل، والقرطبى، وأبى حيان، والصحاح.
وفى (ل: وسق) للعجاج(1/351)
وليس فى القرآن من المادة غير هذين الفعلين: وسق، اتسق. قال الفراء:
واتساقه امتلاؤه، ثلاث عشرة إلى ست عشرة، فيهن اتساقه.
وفى تأويل الطبرى: إذا تم واستوى. وأسند عن ابن عباس، وآخرين: إذا استوى. وعنه: إذا اجتمع واستوى. وعن مجاهد وابن جبير: إذا امتلأ لثلاث عشرة ليلة، وبلفظ: إذا امتلأ واستدار، عن آخرين.
حكى القرطبى هذه الأقوال ثم قال: وهو افتعال من الوسق الذى هو الجمع، يقال وسقته فاتسق كوصلته فاتصل. ويقال: أمر فلان متسق، أى مجتمع على الصلاح منتظم. ويقال: اتسق الشيء إذا تتابع. نحوه فى (مفردات الراغب) وقال المبرد فى شاهد المسألة: «استوسق القوم إذا اجتمعوا».
ولعل محكمات أقرب إلى مستوسقات، من: مجتمعات.
وفى الاتساق من اطراد النسق والإحكام والنظام ما يفوت لفظ الاجتماع فى تأويل المسألة. ولعل الاجتماع منظور فيه إلى الوسق، فكل شىء وسقته فقد جمعته، ثم جاء الاتساق للإحكام وانتظام النسق واطراده. والله أعلم.
* * *30 {خََالِدُونَ}:
وسأل نافع عن معنى قوله تعالى: {وَهُمْ فِيهََا خََالِدُونَ}.
فقال ابن عباس: باقون لا يخرجون منها أبدا. واستشهد بقول «عدى بن زيد»:
فهل من خالد إمّا هلكنا ... وهل بالموت، يا للنّاس، من عار (1)
__________
(1) وقع فى نسختى (ك، ط): يا للناس من عام * تصحيف. وهو فى (شعراء الجاهلية / النصرانية) كما فى (تق) 4/ 456(1/352)
(تق، ك، ط) وزاد فى الأخيرتين:
وقال لبيد بن ربيعة:
كلّ بنى أمّ وإن كثروا ... يوما يصيرون إلى واحد
فالواحد الباقى كمن قد مضى ... ليس بمتروك ولا خالد
الكلمة من آية البقرة 25:
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ، كُلَّمََا رُزِقُوا مِنْهََا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قََالُوا هََذَا الَّذِي رُزِقْنََا مِنْ قَبْلُ، وَأُتُوا بِهِ مُتَشََابِهاً، وَلَهُمْ فِيهََا أَزْوََاجٌ مُطَهَّرَةٌ، وَهُمْ فِيهََا خََالِدُونَ}.
وتفسير ابن عباس للكلمة، هو من قبيل الشرح، والخلود فى العربية نقيض الفناء.
واستقراء ما فى القرآن من مادة (خ ل د) وقد جاءت فيه بصيغ عدة سبعا وثمانين مرة، يضيف إلى الدلالة اللغوية ملحظا هامّا من خصوص الدلالة القرآنية للخلود، فلا خلود فى القرآن إلا فى الحياة الآخرة: فى دار الخلود، أو فى عذاب الخلد. وحيث يأتى الخلود متعلقا بالحياة الدنيا، فعلى وجه الوهم أو الإنكار والنفى كالذى فى آيات:
الشعراء 129: {وَتَتَّخِذُونَ مَصََانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}
الهمزة 3: {يَحْسَبُ أَنَّ مََالَهُ أَخْلَدَهُ}.
الأنبياء 34: {وَمََا جَعَلْنََا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخََالِدُونَ}.
ولا غنى عن هذا الملحظ فى فهم الدلالة الإسلامية للكلمة القرآنية. وفى (مفردات الراغب) أن معنى هذا الخلود هو أن يبرأ الخالد من أعراض الفساد.
* * *31 - الجوابى
وسأله عن معنى قوله تعالى: {وَجِفََانٍ كَالْجَوََابِ}.
قال: كالحياض الواسعة. وشاهده قول طرفة بن العبد:(1/353)
وسأله عن معنى قوله تعالى: {وَجِفََانٍ كَالْجَوََابِ}.
قال: كالحياض الواسعة. وشاهده قول طرفة بن العبد:
كالجوابى لا تنى مترعة ... لقرى الأضياف أو للمحتضر (1)
(تق) وبمعناه فى (ك، ط) وزاد فيهما بعد الشاهد:
تجبر المحروب فينا ماله ... بقباب وجفان وخدم
الكلمة من آية سبأ 13فيما سخر لسليمان عليه السلام من الجن:
{يَعْمَلُونَ لَهُ مََا يَشََاءُ مِنْ مَحََارِيبَ وَتَمََاثِيلَ وَجِفََانٍ كَالْجَوََابِ وَقُدُورٍ رََاسِيََاتٍ، اعْمَلُوا آلَ دََاوُدَ شُكْراً، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبََادِيَ الشَّكُورُ}.
وحيدة الصيغة، ومعها آية الفجر «وثمود الذين جابوا الصخر بالواد» تأتى فى المسألة 176، وسائر ما فى القرآن من المادة غيرهما، فى الإجابة والجواب والاستجابة.
فى تفسير البخارى: وقال ابن عباس: كالجوابى، كالجوبة من الأرض (سورة سبأ) قال ابن حجر: قيل الجوابى فى اللغة جمع جابية، وهو الحوض الذى يجتبى فيه الشيء أى يجمع، وأما الجوبة فهى الموضع المطمئن، فلا يستقيم تفسير الجوابى بها. وأجيب باحتمال أن يكون فسر الجابية بالجوبة، لم يرد أن اشتقاقهما واحد (فتح البارى) وأسند الطبرى عن الضحاك: «وجفان كالجواب»: جمع جابية، الحوض الذى يجبى فيه الماء. عن ابن عباس: كالجوبة من الأرض، وعنه: كالحياض الواسعة.
وحكى القرطبى عن ابن عرفة: الجوابى جمع جابية حفيرة كالحوض. وعن ابن القاسم عن الإمام مالك: كالجوبة من الأرض. وعن مجاهد: الجوابى جمع جوبة، الحفرة الكبيرة فى الجبل فيها ماء المطر. وفى الكشاف: والجوابى الحياض الكبار لأن
__________
(1) فى (تق): بقرى الأضياف. ومثلها فى مختارات ابن الشجرى. وفى (ك، ط): لقرى الأضياف، وهى الرواية فى (العقد الثمين: 62) وجامع القرطبى(1/354)
الماء يجبى إليها أى يجمع (سورة سبأ) والجوبة الحفرة، وفجوة ما بين البيوت، أو الفرجة فى السحاب والجبال، جمعها جوب (ص، ق) وهى الحفرة المستديرة الواسعة فى (النهاية) كالغائط من الأرض (المفردات) * * *
32 {فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}
وسأله عن معنى قوله تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}
قال: الفجور والزنا. واستشهد له بقول الأعشى (1):
حافظ للفرج راض بالتقى ... ليس ممن قلبه فيه مرض
(تق، ك، ط) الكلمة من آية الأحزاب 32:
{يََا نِسََاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسََاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ، فَلََا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً}.
معها ثلاث وعشرون مرة، فى مرض فى القلب، ومرض فى القلوب يأتى فى المسألة 179 يكون بالنفاق والارتياب والرجس والكفر والضغن من أفعال القلوب.
تأويلها فى المسألة بالفجور والزنا، فيه أن الفجور مما يعلن ويجاهر به، والزنا اقتراف للفاحشة يوجب الحد. وليس من أفعال القلوب.
والأقرب أن يكون طمع شهوة، وإن لم يبلغ حد الفجور المعلن والزنا المقترف.
وقد أسند الطبرى عن قتادة والسدى، أنه شك ونفاق. وعن عكرمة أنه شهوة.
وحكى القرطبى القولين فى تأويله بالنفاق، والتشوف لفجور، وقال: وهو أصوب، وليس للنفاق مدخل إلى هذه الآية.
* * * __________
(1) فى مطبوعة (تق): [ليس ممن قبله](1/355)
33 {لََازِبٍ}
وسأله عن معنى قوله تعالى: {مِنْ طِينٍ لََازِبٍ}.
قال: اللازب الملتصق: وشاهده قول النابغة:
ولا يحسبون الخير لا شرّ بعده ... ولا يحسبون الشرّ ضربة لازب (1)
(تق) وفى (ك، ط) قال: الملتزق الجيد، وهو الطين الحر.
الكلمة من آية الصافات 11:
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنََا، إِنََّا خَلَقْنََاهُمْ مِنْ طِينٍ لََازِبٍ}.
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
القولان فى المسألة، أسندهما الطبرى عن ابن عباس بلفظ مقارب: الملتصق، والطين الحر الجيد اللزج.
وعن ابن زيد: يلتصق كأنه غراء، ذلك اللازب وقال الطبرى فى تأويلها:
ولاصق، وصفه جل ثناؤه باللزوب لأن التراب إذا خلط بماء صار طينا لازبا.
وعن الضحاك: المنتن، والعرب تبدل أحيانا هذه الياء ميما نقول طين لازم ومن اللازب قول النابغة / البيت. ومن اللازم قول النجاشى الحارثى: * ضربة لازم * وقيل: اللازق (1) وفى مفردات الراغب: اللازب الثابت الشديد الثبوت: «من طين لازب» قال القرطبى بعد أن حكى الأقوال فى تأويلها: وقال الماوردى: والفرق بين اللاصق واللازق، أن اللاصق هو الذى ألصق بعضه ببعض «واللازق الذى
__________
(1) الذبيانى، من بائيته فى مدح عمرو بن الحارث الغسانى (الديوان: 54) وعلى هامشه فى (شعراء الجاهلية 5/ 648):
لازب: ثابت ولازم، واللغة الفصيحة لازب.(1/356)
يلتزق بما أصابه.» ثم قال: والعرب تبدل الباء من الميم فتقول: ضربة لازب، وهو أفصح من لازم. وأنشد بيت النابغة ونحوه فى حاشية الشيخ نصر الهورينى على القاموس.
* * *34 {أَنْدََاداً}
وسأله عن معنى قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدََاداً}
قال: الأشباه والأمثال. وشاهده قول لبيد (1):
أحمد الله فلا ندّ له ... بيديه الخير ما شاء فعل
(تق) وزاد فى (ك، ط): وقال حسان ابن ثابت يرد على أبى سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب:
أتهجوه ولست له بندّ ... فشرّكما لخيركما الفداء (2)
الكلمة من آية فصّلت 9:
{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدََاداً}
ومعها آيات:
البقرة 165: {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللََّهِ أَنْدََاداً}
إبراهيم 30: {وَجَعَلُوا لِلََّهِ أَنْدََاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} والزمر: 8 سبأ 33: {إِذْ تَأْمُرُونَنََا أَنْ نَكْفُرَ بِاللََّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدََاداً}
البقرة 21: {فَلََا تَجْعَلُوا لِلََّهِ أَنْدََاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.}
__________
(1) ديوان لبيد (174) والسيرة (2/ 181) هشامية، وأنشده أبو عبيدة فى مجاز القرآن 1/ 34وتخريجه على هامشة.
وابن الأنبارى فى الأضداد 151والسجستانى فى الأضداد 73والطبرى والقرطبى وأبو حيان.
(2) من همزيته المشهورة يوم فتح مكة، وهى أولى القصائد فى ديوانه، وأولى القصائد يوم الفتح فى (السيرة 4/ 63) هشامية(1/357)
الآيات الست، على وجه النكير والنهى، وليس فى القرآن غيرها من المادة.
والكلمة عندهم فى كتب الأضداد: النّدّ النظير والمثل، والند الضد. وحكى ابن الأنبارى عن ابن عباس: أندادا أعدالا، وعن أبى عبيدة: أضدادا. وحكى الأزهرى القولين عن ابن السكيت والأخفش. وفى مجاز القرآن: أندادا واحدها ند، معناها أضداد.
قال أبو حاتم السجستانى: اجتمعت العرب على أن ندّ الشيء مثله وشبهه وعدله، ولا أعلمهم اختلفوا فى ذلك.
وأنشدوا فيها شاهدى المسألة.
وأخرج البخارى فى باب (فلا تجعلوا لله أندادا) حديث عبد الله بن مسعود، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أى الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله أندادا وهو خلقك» قال ابن حجر: جمع ندّ، وهو النظير. وروى ابن أبى حاتم من طريق أبى العالية قال: الند العدل. ومن طريق الضحاك عن ابن عباس، قال: الأنداد الأشباه والنظائر (فتح البارى) وحكاه القرطبى عن ابن عباس، وغيره، وقال: أندادا: أكفاء ونظراء. وأنشد الشاهدين (سورة البقرة) وقال الراغب فى الند، أنه مشاركة فى جوهره وذلك ضرب من المماثلة، فإن المثل يقال فى أى مشاركة كانت، وليس كل مثل ندّا.
ووضحه فى (مثل) قال: والمماثلة [أعم] الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك أن الند يقال فيما يشارك فى الجوهر، والشبه فيما يشارك فى الكيفية فقط، والمساوى فيما يشارك فى الكمية فقط، والشكل فيما يشارك فى القدر والمساحة، والمثل عام فى جميع ذلك. (المفردات) وفى الحديث الشريف قال ابن الأثير: الأنداد جمع ندّ، وهو مثل الشيء الذى يضادّه فى أموره وينادّه، أى يخالفه وينأى عنه. (النهاية)
وفى (الفروق اللغوية لأبى هلال العسكرى) بيان للفرق الدقيق بين الند، والمثل، والشبه، والعدل، والنظير، والمساوى، والشكل وما يجرى مجراها. وقال فى الفرق بين المثل والند: أن الند هو المثل المنادّ من قولك: نادّ فلان فلانا إذا عاداه وباعده، ولهذا سمى الضد ندّا. وقال صاحب العين: الند ما كان مثل الشيء يضاده فى أموره، والنديد. والندود الشرود والتنادّ التنافر وأصل الباب التشريد (الباب التاسع من الفروق) كأن البيان القرآنى فى عدوله عن الأشباه والأمثال إلى أنداد، لم يرد أن يعطيها صفة المشابهة أو المماثلة. والله أعلم.(1/358)
ووضحه فى (مثل) قال: والمماثلة [أعم] الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك أن الند يقال فيما يشارك فى الجوهر، والشبه فيما يشارك فى الكيفية فقط، والمساوى فيما يشارك فى الكمية فقط، والشكل فيما يشارك فى القدر والمساحة، والمثل عام فى جميع ذلك. (المفردات) وفى الحديث الشريف قال ابن الأثير: الأنداد جمع ندّ، وهو مثل الشيء الذى يضادّه فى أموره وينادّه، أى يخالفه وينأى عنه. (النهاية)
وفى (الفروق اللغوية لأبى هلال العسكرى) بيان للفرق الدقيق بين الند، والمثل، والشبه، والعدل، والنظير، والمساوى، والشكل وما يجرى مجراها. وقال فى الفرق بين المثل والند: أن الند هو المثل المنادّ من قولك: نادّ فلان فلانا إذا عاداه وباعده، ولهذا سمى الضد ندّا. وقال صاحب العين: الند ما كان مثل الشيء يضاده فى أموره، والنديد. والندود الشرود والتنادّ التنافر وأصل الباب التشريد (الباب التاسع من الفروق) كأن البيان القرآنى فى عدوله عن الأشباه والأمثال إلى أنداد، لم يرد أن يعطيها صفة المشابهة أو المماثلة. والله أعلم.
* * *35 {لَشَوْباً}:
وسأله عن معنى قوله عز وجل {لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ}
قال: الخلط بماء الحميم، والحميم الغساق. واستشهد بقول الشاعر: (1)
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
(ك، ط، تق) الكلمة من آية الصافات 67فى شجرة الزقوم:
{إِنَّهََا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهََا كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّيََاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهََا فَمََالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهََا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ}.
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة
__________
(1) لأبى الصلت بن أبى ربيعة الثقفى من قصيدة يمدح أهل فارس بها، فى (طبقات ابن سلام 66شعراء ثقيف) ومنها 12بيتا أنشدها ابن إسحاق فى السيرة، قال ابن هشام: وتروى لابنه أمية. وعقب عليها بقوله: هذا ما صح لى مما روى ابن إسحاق منها إلا آخرها بيتا: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... فإنه للنابغة الجعدى. والبيت من قصيدة للجعدى فى (الأغانى 5/ 66) وعلى هامشه: رواه صاحب العقد الفريد لأبى الصلت. وهو فى أبيات لأبى الصلت فى (الشعراء والشعراء: 1/ 461ط الأستاذ أحمد شاكر) ولأمية بن أبى الصلت فى (شعراء النصرانية 2/ 232)(1/359)
وتفسير الشوب بالخلط وإليه ذهب الفراء فى (معانى القرآن 2/ 387) «والراغب» كذلك فى المفردات تقريب لا يفوتنا معه ما للشوب من دلالة خاصة على المزج والسوط. واستعماله أصلا، فى الشراب والسوائل، تشاب فلا يتميز منها سائل عن آخر. ويستعار بهذا الملحظ من المزج، لغير السوائل فى الاستعمال المجازى.
وأما الخلط فتتميز فيه عناصر المخلوط ومواده، كأن تخلط القمح بالشعير.
ويستعار للناس يخالط بعضهم بعضا دون أن تتماحى الخصائص أو تذوب الفروق بينهم. وقد جاءت مادته فى القرآن فى خلط عمل صالح بآخر سيئ (البقرة 102) وفيما اختلط من شحوم بعظم (الأنعام 146) ومن ماء المطر بنبات الأرض (يونس 24، والكهف 45) وجاء الفعل المضارع من المخالطة فى آية (البقرة 220) والخلطاء يبغى بعضهم على بعض (ص: 24) وتميز عناصر الخليط واضح فى دلالة المادة على اختلاف صيغها واستعمالها، على حين لا يتميز فى الشوب سائل أو عنصر عما شيب به. وهو واضح فى آية الصافات المسئول عنها، وواضح كذلك فى الشاهد من بيت الشاعر.
و «الراغب» وإن فسر الشوب فى الآية بالخلط، قال فى (خلط): الخلط هو الجمع بين أجزاء الشيئين فصاعدا، سواء كانا مائعين أو جامدين، أو أحدهما مائع والآخر جامد وهو أعم من المزج (المفردات).
وقال ابن الأثير فى «الخلاط» من حديث الزكاة: والمراد به أن يخلط الرجل إبله بإبل غيره، أو بقره وغنمه، ليمنع حق الله فيها أو يبخس المصدق فيما يجب له.
وفى حديث الشفعة: «الشريك أولى من الخليط، والخليط أولى من الجار» قال ابن الأثير: الشريك المشارك فى الشيوع، والخليط المشارك فى حقوق الملك كالشرب والطريق (النهاية).
ولعل فى هذا كله، ما يوضح تميز عناصر الخليط، فيفترق بذلك عن الشوب بما فيه من معنى النشوب والمزج لا يتميز عنصر من آخر ولا ينفصل عنه. والله أعلم.(1/360)
ولعل فى هذا كله، ما يوضح تميز عناصر الخليط، فيفترق بذلك عن الشوب بما فيه من معنى النشوب والمزج لا يتميز عنصر من آخر ولا ينفصل عنه. والله أعلم.
36 - قط
وسأله عن معنى قول الله عز وجل: {عَجِّلْ لَنََا قِطَّنََا}
قيل: القط: الجزاء. وشاهده قول الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بأمته يعطى القطوط ويطلق (1)
(تق) وزاد فى (ك، ط):
وهو الحساب أيضا الكلمة من آية ص 16فى المشركين:
{إِنْ كُلٌّ إِلََّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقََابِ * وَمََا يَنْظُرُ هََؤُلََاءِ إِلََّا صَيْحَةً وََاحِدَةً مََا لَهََا مِنْ فَوََاقٍ * وَقََالُوا رَبَّنََا عَجِّلْ لَنََا قِطَّنََا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسََابِ}.
وحيدة فى القرآن، وأما الجزاء أو الحساب فى تأويل المسألة فكثير.
القطوط، والقططة، جمع القط، كقرود وقردة. والقط فى كلام العرب الصحيفة المكتوبة (الفراء) أو الكتاب (أبو عبيدة)، وصكوك العطاء (الصحاح).
فى تفسير البخارى للآية: القط الصحيفة، هو هاهنا صحيفة الحسنات (سورة ص) فقال ابن حجر: فى رواية الكشمهينى يعنى عن الفربرى عن البخارى الحساب. وكذلك عند النسفى عن مسلم قال أبو عبيدة: القط الكتاب
وأصله من قط الشيء أى قطعه، والمعنى قطعة من العطية، وأكثر استعماله فى الكتاب (فتح البارى).
وكذلك هو الكتاب والصحيفة والصك، أو الحظ والنصيب، عند جمهرة المفسرين، مع رده إلى أصل معناه فى القطع (الطبرى، والكشاف، والجامع،
__________
(1) فى (ك، ط): «بنعمته» وهى فى الطبرى. وفى جامع القرطبى والبحر المحيط والصحاح: بغبطته * رواية أيضا.
وفى (تق ك، ط): ويطلق * والمشهور فى البيت: ويأفق * كما فى الديوان وشعراء النصرانية، وسائر مراجعنا.
من: أفق فهو آفق، غالب فى فضله.(1/361)
والبحر، والمفردات) وإنما اختلف أهل التأويل فى معنى مسألة المشركين ربهم التعجيل لهم بكتابهم على وجه الاستهزاء والاستخفاف. قيل هو من قوله تعالى:
{فَأَمََّا مَنْ أُوتِيَ كِتََابَهُ بِيَمِينِهِ} {وَأَمََّا مَنْ أُوتِيَ كِتََابَهُ بِشِمََالِهِ}. وقيل: سألوه أن يريهم فى الدنيا منازل أهل النار وأهل الجنة ليؤمنوا به. وقيل: سألوا أن يعجل لهم بنصيبهم من العذاب، كقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذََابِ}.
الأقوال فى تأويلها عند الطبرى بأسانيده إليهم. وحكاها القرطبى وأبو حيان.
وذكروا معها اختلاف أهل العلم بكلام العرب فيها. وإن ردوها إلى القطع وهو الأصل. ومنه استعمال حرف قط فى النفى البات. والمقطع الأول من الكلمة مشترك فى ألفاظ عدة تدل على القطع، ثم تتميز بالحرف الثالث فروق الدلالات باعتبار الشيء المقطوع، كالقطب والقطش والقطف والقطل والقطم
وأما «المقطوط» فى الشاهد من بيت الأعشى، فلم يختلفوا فى أن معناها صكوك الجوائز أو كتب الصلات. وانظر فيه (مقاييس اللغة لابن فارس) باب قط 5/ 13.
* * *37 {حَمَإٍ مَسْنُونٍ}:
وسأله عن معنى قوله تعالى: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}.
قال: الحمأ السواد. واستشهد بقول حمزة بن عبد المطلب:
أغرّ كأن البدر سنة وجهه ... جلا الغيم عنه ضوءه فتبددا
(تق) وزاد فى (ك ط): وهو الشاط أيضا (1)
الكلمتان من ثلاث آيات من سورة الحجر:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ صَلْصََالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}. 26.
__________
(1) من: قول حمزة، إلى: «الشاعر» فى المسألة 39، سقط من (ط) فاختل السياق. والنقل من (تق، ك) وقابل الشاهد على رواية (الأغانى 11/ 325).(1/362)
{وَإِذْ قََالَ رَبُّكَ لِلْمَلََائِكَةِ إِنِّي خََالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصََالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}. 28.
{قََالَ يََا إِبْلِيسُ مََا لَكَ أَلََّا تَكُونَ مَعَ السََّاجِدِينَ * قََالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصََالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}. 33.
ومعها من مادة حمأ، آية الكهف 86:
{حَتََّى إِذََا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهََا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}.
وأما مسنون فجاء من مادتها كثير: سنة الله، وسنتنا، وسنة الأولين، وسنن جمعا.
وجاءت السّن فى أحكام القصاص: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصََاصٌ}.
اختلف أهل اللغة فى حمأ وفى مسنون.
عدّ بعضهم الحمأ من الأضداد: تقول منه حمأت الركية حمأ إذا أخرجت منها الحمأة، وأحمأتها إحماء إذا جعلت فيها الحمأة. حكاه ابن الأنبارى عن قطرب، وقال: وليس هذا عندى من الأضداد، لأن لفظ حمأت، يخالف أحمأت، فكل واحدة منهما لا تقع إلا على معنى واحد، وما كان على هذا السبيل لا يدخل فى الأضداد (الأضداد 304/ 396).
وقال ابن السكيت فى الأضداد: والحمأ الطين الأسود، وكذلك الحمأة. تقول منه حمئت البئر إذا نزعت حمأتها، وأحمأتها ألقيت فيها الحمأة. وحكاه القرطبى فى تفسير آية الحجر 26.
وفى (مسنون) بالآية، قال أبو عبيدة فى المجاز: المسنون المصبوب، وهو من قول العرب: سنت الماء وغيره على الوجه إذا صببته. وحسّنه النحاس فيما حكاه القرطبى عنه.
وقال سيبويه: المسنون المصوّر. أخذ من سنة الوجه وهو صورته. وقال الأخفش فى المعانى: المسنون المنصوب القائم، من قولهم: وجه مسنون إذا كان
فيه طول. وقال الفراء فى معنى الآية: وهو المتغير، وأصله من قولهم: سننت الحجر على الحجر إذا حككته. وما يخرج من الحجرين يقال له السنانة والسنين.(1/363)
وقال سيبويه: المسنون المصوّر. أخذ من سنة الوجه وهو صورته. وقال الأخفش فى المعانى: المسنون المنصوب القائم، من قولهم: وجه مسنون إذا كان
فيه طول. وقال الفراء فى معنى الآية: وهو المتغير، وأصله من قولهم: سننت الحجر على الحجر إذا حككته. وما يخرج من الحجرين يقال له السنانة والسنين.
ومنه المسنّ.
والمعاجم تجمع بين هذه الأقوال، مع شواهدهم لها: (ص، ل، ق، س).
واختلف أهل التأويل كذلك فى معناهما فى الآية: نقل فيه الطبرى قول بعض أهل العلم بلغات العرب من البصريين، ومن الكوفيين، كالذى نقلنا عن سيبويه والفراء ولم يسمهما وأسند عن ابن عباس، قال: الحمأ المنتن، وعنه: هو الطين الرطب، وعن مجاهد وقتادة بلفظ: الحمأ المسنون الذى قد تغير وأنتن. وعن ابن عباس أيضا، قال: خلق الإنسان آدم من ثلاثة: من طين لازب، وصلصال، وحمأ مسنون. فالطين اللازب اللازق الجيد، والصلصال المرقق الذى يصنع منه الفخار، والمسنون الطين فيه الحمأة.
قال الطبرى: والذى هو أولى بتأويل الآية: أن يكون الصلصال فى هذا الموضع الذى له صوت من الصلصلة وذلك أن الله تعالى شبهه بالفخار {مِنْ صَلْصََالٍ كَالْفَخََّارِ} ليبسه. وأما قوله {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} فإن الحمأ جمع حمأة، وهو الطين المتغير إلى السواد.
وذكر الراغب فى الباب: السّن واحد الأسنان، وسنّ الحديد بالمسنّ، وسنان الرمح، وسنن الطريق، وسنة الوجه، وسنة النبى صلى الله عليه وسلم طريقته، وسنة الله تعالى قد يقال لطريقة حكمته وطريقة طاعته. وقوله تعالى: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} * قيل: متغير. (المفردات).
ولا يخرج عن هذا ما أورده الزمخشرى من معانى سن، الأصلية والمجازية (س) وبمزيد تفصيل فى جامع القرطبى. والله أعلم.
وأما الشاهد من بيت حمزة رضى الله عنه فى النبى صلى الله عليه وسلم، فما أدرى وجه الاستشهاد به لتأويل حمأ مسنون فى المسألة، بالسواد المصور، أو الشاط كما زاد فى (ك، ط) وهو فى اللغة الزيت المحروق.(1/364)
وأما الشاهد من بيت حمزة رضى الله عنه فى النبى صلى الله عليه وسلم، فما أدرى وجه الاستشهاد به لتأويل حمأ مسنون فى المسألة، بالسواد المصور، أو الشاط كما زاد فى (ك، ط) وهو فى اللغة الزيت المحروق.
38 {الْبََائِسَ الْفَقِيرَ}:
وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {الْبََائِسَ الْفَقِيرَ}.
فقال ابن عباس: البائس الذى لا يجد شيئا من شدة الحال. واستشهد له بقول «طرفة بن العبد»:
يغشاهم البائس المدفّع والضي ... ف وجار مجاور جنب
(تق، ك) (1)
الكلمة من آية (الحج 27) خطابا لإبراهيم عليه السلام:
{وَأَذِّنْ فِي النََّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجََالًا وَعَلى ََ كُلِّ ضََامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنََافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللََّهِ فِي أَيََّامٍ مَعْلُومََاتٍ عَلى ََ مََا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعََامِ، فَكُلُوا مِنْهََا وَأَطْعِمُوا الْبََائِسَ الْفَقِيرَ}.
وحيدة الصيغة فى القرآن.
ومعها {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذََابٍ بَئِيسٍ} فى آية الأعراف 165.
ومن المادة، جاءت «البأساء» مع الضراء فى آياتها الأربع: البقرة 177، 214 والأنعام 42، والأعراف 94.
وآيتا هود 36ويوسف 96 {فَلََا تَبْتَئِسْ بِمََا كََانُوا يَفْعَلُونَ} {تَعْلَمُونَ}.
وجاء الفعل الجامد «بئس» تسعا وثلاثين مرة، و «بأس» نكرة ومعرفة، خمسا وعشرين مرة.
فى تأويل الطبرى: «البائس هو الذى أضر به الجوع والزمانة والحاجة. والفقير الذى لا شىء له». يوهم أن الإطعام للبائس وللفقير. والفقير فى الآية من صفة البائس كما لحظ القرطبى وقال: وهو الذى ناله البؤس وشدة الفقر.
__________
(1) المسألة كلها، فى السقط من (ط).(1/365)
وفى البائس صريح الدلالة على البؤس، وكذلك البأساء. والشدة أصل فى المعنى وتفرق العربية بين صيغ المادة لملاحظ من فروق الدلالات: فتجعل البأس للقوة والسطوة والشدة فى الحرب، وفعله: بؤس بأسا. حين تجعل البؤس والبؤسى، من: بئس، لشدة الكرب والحاجة، وتجعل البأساء للمكاره. وقالوا للشجاع القوى: بئيس، وللأسد: بيأس، على وزن ضيغم. وللمحتاج المكروب: بائس. وليس كل بائس فقيرا، ولا كل فقير بائسا، فمع الزهد والتعفف لا يكون بؤس. ومن هنا جمعت الآية بين الصفتين «البائس الفقير» ولو لم يلحظ فى البائس سوى العوز، لأغنى الفقير عن ذكره، كما فى آيات: البقرة 268، 271، وآل عمران 181، والنساء 135، والتوبة 60، وفاطر 15، ومحمد 38.
وقول «الراغب» فى (المفردات): «البؤس والبأس والبأساء، الشدة والمكروه.
إلا أن البؤس فى الفقر والحرب أكثر، والبأس والبأساء فى النكاية».
يرد عليه أن البأساء جاءت فى آياتها الأربع مقترنة بالضراء، فهى إلى المكاره أقرب منها إلى النكاية.
كما يرد على قوله: البؤس فى الفقر والحرب أكثر أن القرآن يستعمل الفقر مقابل الغنى بصريح آيات:
آل عمران 181: {لَقَدْ سَمِعَ اللََّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قََالُوا إِنَّ اللََّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيََاءُ}
النور 32: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرََاءَ يُغْنِهِمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.
فاطر 15: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرََاءُ إِلَى اللََّهِ، وَاللََّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.
محمد 38: {وَاللََّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرََاءُ}.
وكذلك يأتى البأس، لا البؤس، فى الحرب والقتال وفى الجبروت والسطوة، بصريح آيات:
الأنعام 65: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}.
النساء 84: {عَسَى اللََّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
النمل 33: {نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ}. ومعها: الفتح 16 الحشر 14: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتََّى}.(1/366)
النساء 84: {عَسَى اللََّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
النمل 33: {نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ}. ومعها: الفتح 16 الحشر 14: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتََّى}.
والبائس فى الشاهد من قول طرفة. موصوف بالمدفّع، وهو المهان (ق) ومن المجاز: فلان مدفع، وهو الذى يدفعه كل أحد عن نفسه (س).
وانظر الفرق بين الفقير والبائس، فى (الفروق اللغوية: 147).
* * *39 {مََاءً غَدَقاً}:
وسأله عن معنى قوله تعالى: {مََاءً غَدَقاً} (1).
قال: كثيرا جاريا. وشاهده قول الشاعر:
تدنى كراديس ملتفّا حدائقها ... كالنبت جادت بها أنهارها غدقا
(تق، ك) الكلمة من آية الجن 16:
{وَأَنْ لَوِ اسْتَقََامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنََاهُمْ مََاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذََاباً صَعَداً}.
وحيدة، صيغة ومادة.
جمهرة المفسرين على أن الماء الغدق الكثير. أو الماء الطاهر الكثير، بلفظ ابن عباس فيما أسنده الطبرى عنه. والذين تأولوه منهم بسعة فى الرزق ورغد من العيش، فلأن الخير والرزق بالمطر، فأقيم مقامه على سبيل المجاز، ومنه مكان غدق ومغدق: كثير الماء مخصب، وهم فى غدق من العيش: رغد وسعة. وذلك معروف. فلعل وجه السؤال هنا، يتعلق بما اختلف فيه أهل التأويل فى «وأن لو استقاموا على الطريقة» فقال بعضهم: على طريق الحق والهدى والطاعة، نظير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى ََ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنََا عَلَيْهِمْ بَرَكََاتٍ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ}. وهو اختيار الطبرى، وأسند نحوه عن ابن عباس وآخرين.
وقال بعضهم: وأن لو استقاموا على الضلالة لأعطيناهم سعة من الرزق لنستدرجهم بها. أسنده الطبرى عن الربيع بن أنس بن مالك.(1/367)
جمهرة المفسرين على أن الماء الغدق الكثير. أو الماء الطاهر الكثير، بلفظ ابن عباس فيما أسنده الطبرى عنه. والذين تأولوه منهم بسعة فى الرزق ورغد من العيش، فلأن الخير والرزق بالمطر، فأقيم مقامه على سبيل المجاز، ومنه مكان غدق ومغدق: كثير الماء مخصب، وهم فى غدق من العيش: رغد وسعة. وذلك معروف. فلعل وجه السؤال هنا، يتعلق بما اختلف فيه أهل التأويل فى «وأن لو استقاموا على الطريقة» فقال بعضهم: على طريق الحق والهدى والطاعة، نظير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى ََ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنََا عَلَيْهِمْ بَرَكََاتٍ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ}. وهو اختيار الطبرى، وأسند نحوه عن ابن عباس وآخرين.
وقال بعضهم: وأن لو استقاموا على الضلالة لأعطيناهم سعة من الرزق لنستدرجهم بها. أسنده الطبرى عن الربيع بن أنس بن مالك.
وهو قول الفراء فى معنى الآية: على طريقة الكفر، ونظّر لها بقوله تعالى:
{وَلَوْلََا أَنْ يَكُونَ النََّاسُ أُمَّةً وََاحِدَةً لَجَعَلْنََا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمََنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} الآية: ليكون فتنة عليهم فى الدنيا وزيادة فى عذاب الآخرة.
والله أعلم.
* * *40 {بِشِهََابٍ قَبَسٍ}:
وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {بِشِهََابٍ قَبَسٍ}.
فقال ابن عباس: شعلة من نار يقتبسون منها (1). واستشهد بقول «طرفة بن العبد»:
همّ عرانى فبتّ أدفعه ... دون سهادى (2)، كشعلة القبس
الكلمتان من آية النمل 7:
{إِذْ قََالَ مُوسى ََ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نََاراً سَآتِيكُمْ مِنْهََا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهََابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}.
وجاء شهاب، مفردا وجمعا، فى آيات:
الحجر 18: {إِلََّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهََابٌ مُبِينٌ}. ومعها الصافات 10.
والجن 8، 9: {وَأَنََّا لَمَسْنَا السَّمََاءَ فَوَجَدْنََاهََا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنََّا كُنََّا نَقْعُدُ مِنْهََا مَقََاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهََاباً رَصَداً}.
__________
(1) زاد فى (ك، ط) ما هو من شرح الآية: «وذلك أن موسى لما خرج من أرض مدين يريد مصر، وذلك فى ليلة مظلمة وطمست السماء فأنزل أهله وولده وقدح النار فلم تقدح شيئا، فرفعت له نار من الشجرة فقال لأهله:
امكثوا / الآية.
يقول: بجمرة أو آتيكم بشهاب قبس تقتبسون منه.»
(2) وقع فى (ك، ط): [دون شعارى](1/368)
وسياق آياتها، فى الجن، غير سياق «شهاب قبس» من النار التى آنسها «موسى» فى آية النمل.
وقد جاء «قبس» مرة أخرى فى السياق نفسه بآية طه 10:
{وَهَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ مُوسى ََ * إِذْ رَأى ََ نََاراً فَقََالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نََاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهََا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النََّارِ هُدىً}.
ومعهما فعل الاقتباس فى آية الحديد 13: {انْظُرُونََا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}.
تفسير الشهاب بشعلة، تقريب يلحظ فيه دلالة السطوع والتوهج. والشهب فى العربية: الدرارى والشهب، بفتحتين: الجبل علاه الثلج. وقد فسر «الراغب» الشهاب بالشعلة الساطعة من النار الموقدة أو من العارض فى الجو (المفردات) ويقال: فيه شهبة وشهب، وهو بياض يصدعه خلال سواده (س) فكأنه النور يصدع الظلمة.
وقوله تعالى: {بِشِهََابٍ قَبَسٍ} قرأها الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائى:
{بِشِهََابٍ قَبَسٍ} بتنوين بشهاب، وقرأها الباقون بغير تنوين. قال الأخفش فى (معانى القرآن: آية النمل 7): {بِشِهََابٍ قَبَسٍ} إذا جعل القبس بدلا من الشهاب. نوّن، وإن أضاف الشهاب إلى القبس لم ينون. وكلّ حسن.
ومن معانى القبس فى اللغة: شعلة نار تقتبس من معظم النار، كما فى تأويل المسألة.
ثم لا يفوتنا حس الكلمة فى البيان القرآنى، لم تأت فى آياتها الثلاث إلا مع الإيناس والهدى والنور، فوجهت كلمة «بشهاب» معها، إلى غير سياقها الرادع الزاجر، فى آيات الحجر والصافات والجن. وبهذا الملحظ فى القبس، قال ابن
الأثير فى حديث الإمام علىّ كرم الله وجهه «حتى أورى قبسا لقابس»: أى أظهر نورا من الحق لطالبه. (النهاية).(1/369)
ثم لا يفوتنا حس الكلمة فى البيان القرآنى، لم تأت فى آياتها الثلاث إلا مع الإيناس والهدى والنور، فوجهت كلمة «بشهاب» معها، إلى غير سياقها الرادع الزاجر، فى آيات الحجر والصافات والجن. وبهذا الملحظ فى القبس، قال ابن
الأثير فى حديث الإمام علىّ كرم الله وجهه «حتى أورى قبسا لقابس»: أى أظهر نورا من الحق لطالبه. (النهاية).
* * *41 {أَلِيمٌ}:
وسأله عن معنى قوله تعالى: {لَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ}.
قال: الوجيع، واستشهد بقول الشاعر:
نام من كان خليّا من ألم ... وبقيت الليل طولا لم أنم
(تق، ك، ط) وفى (ظ، وق) المسألة عن قوله عز وجل: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمََا تَأْلَمُونَ} ما الألم؟ قال: الوجع.
واستشهد فى (ظ) بقول الحارث بن حلزة اليشكرى:
ألموا القتل حين دارت رحاهم ... ورحانا على عنان الدماء
وشاهده فى (وق) قول الأعشى:
لا نقيهم حدّ السلاح ولا نأ ... لم جرحا، ولا نبالى السهاما
الكلمة فى الرواية الأولى من آيات:
التوبة 61: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللََّهِ لَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ}. وإبراهيم 22، والنور 16، والعنكبوت 223والشورى 21، 42 ومعها: {لَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ}.
فى آيات: البقرة 10، 104، 174، 178، وآل عمران 77، 177، 188، والمائدة 36، والتوبة 79، والنحل 63، 104، 117، والحشر 15، والتغابن 5فى ثمان وستين آية، وصف فيها عذاب والعذاب، بعذاب أليم، من عذاب أليم، عذابا أليما، العذاب الأليم.
وأما الرواية فى (ظ، وق): {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ}.(1/370)
فى آيات: البقرة 10، 104، 174، 178، وآل عمران 77، 177، 188، والمائدة 36، والتوبة 79، والنحل 63، 104، 117، والحشر 15، والتغابن 5فى ثمان وستين آية، وصف فيها عذاب والعذاب، بعذاب أليم، من عذاب أليم، عذابا أليما، العذاب الأليم.
وأما الرواية فى (ظ، وق): {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ}.
فمن آية النساء 104:
{وَلََا تَهِنُوا فِي ابْتِغََاءِ الْقَوْمِ، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمََا تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللََّهِ مََا لََا يَرْجُونَ، وَكََانَ اللََّهُ عَلِيماً حَكِيماً}.
لم يأت فى غيرها، أىّ فعل من الألم.
وأقوال اللغويين والمفسرين، تأتى فى آية البقرة 10:
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزََادَهُمُ اللََّهُ مَرَضاً، وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ بِمََا كََانُوا يَكْذِبُونَ}.
إذ هى المرة الأولى التى جاء فيها «عذاب أليم» فى ترتيب المصحف.
تأويل الألم فى المسألة بالوجع، وأليم بوجيع، يبدو قريبا ظاهر القرب.
والجمهرة من المفسرين تأولوه بالوجع، وقال الراغب: الوجع الشديد. وهو معروف من كلام العرب، والشواهد فيه كثر، وإن لم يكن الوجع من ألفاظ القرآن.
وفى (مجاز القرآن: آية البقرة 10)، قال أبو عبيدة: «عذاب أليم» أى موجع، من: الألم. وهو فى موضع مفعل أى مؤلم قال ذو الرمة:
ونرفع فى صدور شمردلات ... يصكّ وجوهها وهج أليم
الشمردلة: الطويلة.
والبيت من شواهد الطبرى والقرطبى، لأليم بمعنى وجيع.
* لكن «ابن عرفة» أنكره فيما حكى عنه الهروى، قال فى (الغريبين، باب الهمزة مع اللام): قوله تعالى: {عَذََابٌ أَلِيمٌ} قال أبو عبيدة: أى مؤلم. يقال: ألمنى الشيء وألمت الشيء، قال تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمََا تَأْلَمُونَ}.
وقال ابن عرفة: أليم ذو ألم، وسميع ذو سماع، ولا أدرى معنى ما قال أبو عبيدة.
«ابن عرفة» إبراهيم بن محمد بن عرفة العتكى الأزدى، نفطويه، واسطى سكن بغداد وتوفى بها سنة 323هـ: نحوى راوية ثبت، محدث صدوق ثقة،
وفقيه ظاهرى حجة. له كتاب فى (غريب القرآن) ذكره ابن النديم وياقوت والقفطى.(1/371)
«ابن عرفة» إبراهيم بن محمد بن عرفة العتكى الأزدى، نفطويه، واسطى سكن بغداد وتوفى بها سنة 323هـ: نحوى راوية ثبت، محدث صدوق ثقة،
وفقيه ظاهرى حجة. له كتاب فى (غريب القرآن) ذكره ابن النديم وياقوت والقفطى.
ولعله إنما أنكر قول أبى عبيدة من جهة الاشتقاق، وكان ينكره ويحيله وله فيه كتاب، كما قال القفطى فى (الإنباه).
ويظهر لى أن الوجع أقرب إلى ما يعترى الجسم من مرض أو أذى بدنى عارض. وفى (ق): الألم الوجع، والألم من العذاب الذى يبلغ غاية البلوغ.
وغلبة مجىء أليم صفة لعذاب الآخرة. عذاب يوم أليم، وأخذ الله تعالى الكفار والفاسقين {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} يؤذن والله أعلم بأن الأليم أخص وأفدح من وجع يعرض لعامة البشر. وتفسير «ألم» فى شاهد المسألة الأول، يقوى بدلالة عذاب من وجد وسهد وأرق، مما لو كان مجرد وجع لعارض من مرض أو جرح كما فى الشاهد من قول الأعشى: ولا نألم جرحا *.
* * *42 {قَفَّيْنََا}:
وسأل نافع عن معنى قوله تعالى: {وَقَفَّيْنََا عَلى ََ آثََارِهِمْ}.
فقال ابن عباس: أتبعنا على آثار الأنبياء. أى بعثنا. واستشهد بقول عدى ابن زيد:
يوم قفّت عيرهم من عيرنا ... واحتمال الحىّ فى الصّبح فلق
(تق، ك، ط) السؤال فى روايتى (ظ) عن قوله عز وجل: {وَلََا تَقْفُ مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}
قال ابن عباس: لا تقل ما ليس لك به علم (1). وشاهده بيت زهير:
إذا ما رأيت المرء يقفو نفسه ... والمحصنات فما لذاك حوير
__________
(1) انظر فى المسألة: تهذيب الألفاظ لابن السكيت (458) وحواشيه (816) ومفردات الراغب (ق ف 1) وجامع القرطبى، سورة الإسراء (10/ 257).(1/372)
الكلمة من آية المائدة 46، فى الأنبياء المرسلين:
{وَقَفَّيْنََا عَلى ََ آثََارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرََاةِ}.
ومعها: آية الحديد 27.
وآية البقرة 87: {وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ وَقَفَّيْنََا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ}.
وجاء الفعل الثلاثى فى آية الإسراء 36: {وَلََا تَقْفُ مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤََادَ كُلُّ أُولََئِكَ كََانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا}. وفيها السؤال فى (ظ).
وهذا هو كل ما فى القرآن من المادة.
وما نقل عن ابن عباس فى تفسيرها، تقريب. وقيدها «الراغب» فى (المفردات) باتباع من خلف. راجعا بها إلى أصل مأخذها من القفا، كالإرداف من الردف، والتعقيب من العقب، والتذييل من الذيل.
وتعلّق «على آثارهم» ب: قفّينا، يفيد معنى التأييد واتباع نهج من مضى من الرسل عليهم السلام، من حيث يأتى النبى المرسل، مصدقا لمن سبقه من الرسل، تقفية على آثارهم. والعرب تقول: قفوت أثره، إذا تتبعت خطوه لا أحيد عنه.
وأغنت «على آثارهم» فى السياق، عن الاحتراز بما يكون من التقفية مطاردة أو صدّا وإدبارا، ومنه فى الحديث: «فلما قفى قال» أى ذهب موليا.
قال ابن الأثير: كأنه من القفا، أى أعطاه قفاه وظهره.
ومثله الحديث: «ألا أخبركم بأشدّ حرّا منه يوم القيامة؟ هذينك الرجلين المقفّين» أى الموليين. (النهاية) واضح من سياق الكلمة القرآنية فى آياتها الثلاث، أن التقفية على آثار الرسل عليهم السلام، إتباع تصديق وتأييد.
ويرد على الاستشهاد لمعنى الإتباع فى الآية، بقول عدى بن زيد: يوم قفّت عيرهم من عيرنا * أن الفعل فيه تعدى بحرف «من» فأفاد التولى والإدبار ممن
احتملوا للرحيل، وهو فى الآية متعد بحرف «على» آثارهم، فأفاد تتبع النهج والسير على الأثر. والله أعلم.(1/373)
ويرد على الاستشهاد لمعنى الإتباع فى الآية، بقول عدى بن زيد: يوم قفّت عيرهم من عيرنا * أن الفعل فيه تعدى بحرف «من» فأفاد التولى والإدبار ممن
احتملوا للرحيل، وهو فى الآية متعد بحرف «على» آثارهم، فأفاد تتبع النهج والسير على الأثر. والله أعلم.
* * *43 {تَرَدََّى}
وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {إِذََا تَرَدََّى}
فقال ابن عباس: إذا مات وتردى فى النار. ولما سأله: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول «عدى بن زيد»: (1)
خطفته منيّة فتردّى ... وهو فى الملك يأمل التعميرا
الكلمة من آية الليل 11:
{وَأَمََّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ََ * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى ََ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ََ * وَمََا يُغْنِي عَنْهُ مََالُهُ إِذََا تَرَدََّى}
ومن التردى، المتردية بآية المائدة 3:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمََا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللََّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمََا أَكَلَ السَّبُعُ إِلََّا مََا ذَكَّيْتُمْ وَمََا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلََامِ، ذََلِكُمْ فِسْقٌ}
واضح أن المتردية فيها ليست من الموت والتردى فى النار، وإنما هى على أصل دلالتها فى الهلاك بالمرداة، أى الصخرة. وبه «فسر» الراغب الكلمة فى (المفردات). أو التى تردّت من جبل أو فى بئر فماتت، كما فى (الكشاف) ومنه جاء الردى، بمعنى الموت. ومطلق الهلاك. ويأتى الفعل ثلاثيا بمعنى الهلاك الساحق، مع ملحظ سقوط وهبوط، ومنه آية:
__________
(1) فى ديوانه، وشعراء الجاهلية النصرانية (4/ 468)(1/374)
طه 16: {فَلََا يَصُدَّنَّكَ عَنْهََا مَنْ لََا يُؤْمِنُ بِهََا وَاتَّبَعَ هَوََاهُ فَتَرْدى ََ}
وفى الحديث: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ترديه» قال ابن الأثير: أى توقعه فى مهلكة (النهاية).
وكونه فى النار، على تفسير ابن عباس، دلالة إسلامية خاصة لأن ذلك هو المعروف من التردى، كما قال الإمام الطبرى فى تفسيره لآية الليل.
ويؤيده سياق الآية بعدها، فى النذير والوعيد:
{فَأَنْذَرْتُكُمْ نََاراً تَلَظََّى * لََا يَصْلََاهََا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلََّى}
ويستفاد من صريح النص فى آيتى:
الصافّات 56: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوََاءِ الْجَحِيمِ * قََالَ تَاللََّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ}
وفصّلت 23: يوم يحشر أعداء الله إلى النار:
{وَمََا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلََا أَبْصََارُكُمْ وَلََا جُلُودُكُمْ وَلََكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللََّهَ لََا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمََّا تَعْمَلُونَ * وَذََلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدََاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخََاسِرِينَ}.
وأما بيت «عدى بن زيد» فلا يبدو لنا قريبا وجه الاستشهاد به على معنى التردى فى النار بهذه الدلالة الإسلامية، بل سياقه فى العظة والاعتبار، أقرب إلى معنى السقوط إلى مهواة الردى من المنية، بصريح لفظه.
* * *44 {نَهَرٍ}
وسأل نافع عن معنى قوله تعالى: {فِي جَنََّاتٍ وَنَهَرٍ}
فقال ابن عباس: النهر السعة، واستشهد بقول «لبيد بن ربيعة» (1).(1/375)
وسأل نافع عن معنى قوله تعالى: {فِي جَنََّاتٍ وَنَهَرٍ}
فقال ابن عباس: النهر السعة، واستشهد بقول «لبيد بن ربيعة» (1).
ملكت بها كفّى فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
(تق، ك، ط) الكلمة من آية القمر 54:
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنََّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}
وجاء نهر، واحد الأنهار، مفردا فى آيتى البقرة 249والكهف 33.
وأما أنهار، جمعا، فجاء إحدى وخمسين مرة.
ذهب الفراء فى آية القمر، أن معنى نهر: أنهار، وهو فى مذهبه كقوله تعالى:
{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ»} بمعنى الأدبار. ونقل فيه عن الكسائى أن معنى نهر الكثير. وقيل: فى ضياء وسعة وسمع بعض العرب ينشد إن تك ليليّا فإنى نهر أى صاحب نهار (معانى القرآن 3/ 111) وهو من شواهد الطبرى والقرطبى.
وتفسير ابن عباس النهر فى آية القمر بالسعة، منظور فيه، كما قال الراغب فى (المفردات) إلى التشبيه بنهر الماء. ويقال: أنهر الماء جرى. وأنهرته أجريته.
ويبقى للنهر مع هذه الدلالة المجازية على السعة، ملحظ من خير ونعمة، فى حسّ العربية للنهر واحد الأنهار، مياهها عذبة. ويضفى عليها القرآن معنى البركة والخير، فى الجنة «تجرى من تحتها الأنهار» وهو الغالب على الاستعمار القرآنى.
__________
(1) كذا فى (تق، ك، ط) [لبيد بن ربيعة] وليس فى ديوانه ط، الكويت 1962بل ليس فيه قصيدة على هذا الروى.
وهو فى ديوان قيس بن الخطيم ط دار العروبة 1962من قصيدته الأولى المشهورة:
تذكر ليلى حسنها وصفاءها ... وبانت فأمسى ما ينال لقاءها
وبهامشه تخريج للبيت من تحقيق الدكتور ناصر الدين الأسد.
وهو لقيس بن الخطيم فى: طبقات ابن سلام (57ط أوربا) والشعر والشعراء (مقدمات: 132) والحماسة (مرزوقى 1/ 184، تبريزى 1/ 178) ومؤتلف الآمدى (112) ومعجم المرزبانى (322) والأغانى (2/ 160) وكذلك هو لقيس بن الخطيم فى تفسير الآية بالبحر المحيط (8/ 184)(1/376)
وحين يذكر الأنهار فى الدنيا، فعلى وجه المنّ بنعمته تعالى على عباده:
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهََارَ}
إبراهيم 32 أو على وجه المباهاة بها فى الحكاية عن فرعون:
{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهََذِهِ الْأَنْهََارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} الزخرف 51 وفيما اقترح المشركون على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يأتيهم به من آيات ليؤمنوا بنبوته: {وَقََالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتََّى تَفْجُرَ لَنََا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهََارَ خِلََالَهََا تَفْجِيراً} الإسراء 91 والشاهد من بيت «قيس بن الخطيم» يحتمل معنى السعة فحسب.
وأما فى آية القمر: مع جنات للمتقين، فمعنى الفيض من الخير والبركة والنعيم، أولى بالمقام {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}.
* * *45 - الأنام
وسأل نافع عن معنى قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهََا لِلْأَنََامِ}
فقال ابن عباس: الخلق. واستشهد بقول لبيد بن ربيعة:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحّر (1)
(تق، ك، ط)
__________
(1) وقع فى (تق، ك، ط): [عصافير من هذى الأنام المسخر] وما هنا من ديوان لبيد، البيت 35من القصيدة الثامنة: ص 56ط الكويت 1962. قال الطوسى فى شرحه: عصافير، صغار ضعاف مسخر، معلل بالطعام والشراب. ومنه: (إنما أنت من المسحرين).
وهو الشاهد فى (ظ، طب) فى السؤال عن قوله تعالى: {إِنَّمََا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}. قال: من المخلوقين وابن الأنبارى، فى غير المسائل، وفسره بالمخدوعين (الوقف فقرة 103) واستشهد به القرطبى فى آية السحر بسورة البقرة، وآية الإسراء (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا). وآية الشعراء 153: {قََالُوا إِنَّمََا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} وفيه المرويّات والأقوال فى تفسيرها.(1/377)
الكلمة من آية الرحمن 10:
{وَالْأَرْضَ وَضَعَهََا لِلْأَنََامِ * فِيهََا فََاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذََاتُ الْأَكْمََامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحََانُ * فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ}
وحيدة فى القرآن كله.
ومعناها عند الفراء كذلك: جميع الخلق (3/ 113) وتفسيرها بالخلق، على ما يبدو من قربه، لا يجيب عن وجه تفرّدها فى القرآن، مع كثرة ورود الخلق فيه: فعلا ماضيا مبنيّا للمعلوم 150مرة وللمجهول سبع مرات، ومضارعا للمعلوم ثلاثا وعشرين مرة وللمجهول أربع مرات. ومصدرا أو اسما خمسا وأربعين مرة، واسم فاعل مفردا ثمانى مرات، وجمع مذكر سالم أربع مرات. ومعها «الخلاق» و «مخلقة» مرتين.
ومجموعها، مائتان وخمس وأربعون.
والدلالة المعجمية تذكر فى الأنام: الخلق، أو الجن والإنس، أو جميع ما على الأرض (القاموس).
وفى (الكشاف): «للأنام: للخلق، وهو كل ما على ظهر الأرض من دابة، وعن الحسن: الإنس والجن فهى كالمهاد لهم يتصرفون فوقها» وآيات الخلق، تؤذن بفرق بينه وبين الأنام. فالخلق عام لكل ما خلق الله فى السموات والأرض وما بينهما من ملائكة وإنس وجن، ومن حيوان ونبات وجماد، ما نعلم منها وما لا نعلم: إن ربك هو الخلاق العليم، فتبارك الله أحسن الخالقين، الذى أحسن كلّ شىء خلقه، خلق لكم ما فى الأرض جميعا، ويخلق ما لا تعلمون
فهل يكون الأنام لمن خلق الله لهم الأرض من الأحياء، دون ما فى السموات وسائر الكائنات المخلوقة فى الأرض وما بينهما؟ والله أعلم.
* * *
46 {يَحُورَ}:(1/378)
* * *
46 {يَحُورَ}:
قال نافع: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ}
قال: لن يرجع. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ فقال: نعم، أما سمعت بقول «لبيد بن ربيعة»:
وما المرء إلّا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع (1)
(ظ، طب) وفى (تق، ك، ط):
لن يرجع، بلغة الحبشة.
الكلمة من آية الانشقاق 14:
{وَأَمََّا مَنْ أُوتِيَ كِتََابَهُ وَرََاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً * وَيَصْلى ََ سَعِيراً * إِنَّهُ كََانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلى ََ، إِنَّ رَبَّهُ كََانَ بِهِ بَصِيراً}
وحيدة الصيغة فى القرآن.
ومن المادة، جاء مضارع الرباعى «يحاوره» فى آيتى الكهف 34، 37والمصدر «تحاوركما» فى آية المجادلة.
وجاءت «حور» أربع مرات، و «الحواريّون» خمس مرات.
وقول ابن عباس: «لن يرجع، بلغة الحبشة» يسوّغ الترادف. وفسرها «الزمخشرى» ب: لن يرجع. دون أن يشير إلى لغة فيها، بل نقل عن ابن عباس:
«ما كنت أدرى ما معنى يحور، حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها: حورى، أى ارجعى» الكشاف.
والعربية على أى حال تصرفت فى الكلمة، إن صح أنها بلغة الحبشة، فأعطتها دلالة من أقرب مادتها: حير، بمعنى التردد، ثم خصّت اليائى بالحيرة، والواويّ
__________
(1) غير منسوب فى (تق، ك، ط) وهو من قصيدة لبيد العينية، فى رثاء أخيه أربد، ومطلعها:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الديار بعدنا والمصانع
(ديوانه: ص 168ط الكويت) وهو من شواهد الكشاف، والقرطبى، وأبى حيان غير منسوب فى تفسير آية الانشقاق.(1/379)
بالرجوع، مع ملحظ دلالى مشترك بينهما: فكان التحاور رجعا للكلام يتردد بين المتحاورين، والمحور: العود الذى تدور فيه البكرة، والحوارى: النصير يرجع إليه، والمحارة: شبه حارة يتردد الهواء فيها برجع الصوت. وشبهت بها الحور لاستدارة الأعين ونصوع البياض فيها حول سواد المقلة.
وأما الحيرة، يائية، فخالصة للتردد.
وفسر الفراء «لن يحور» لن يعود إلينا فى الآخرة (3/ 251) وعند القرطبى: لن يرجع مبعوثا فيحاسب ثم يثاب أو يعاقب (19/ 271) وكذلك فسرها «الراغب» فى المفردات بالبعث، وهى دلالة إسلامية متعينة فى الآية.
وأما الشاهد الشعرى، فأقرب إلى أن يفهم بمعنى يصير كما قال «الطوسى» فى شرح البيت من ديوان لبيد.
* * *47 {أَدْنى ََ أَلََّا تَعُولُوا}:
وسأل نافع عن معنى قوله تعالى: {ذََلِكَ أَدْنى ََ أَلََّا تَعُولُوا}
فقال ابن عباس: أجدر ألا تميلوا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال:
نعم، أما سمعت قول الشاعر (1):
إنا اتبعنا رسول الله واطّرحوا ... قول النبى وعالوا فى الموازين (2)
(تق، ك، ط) الكلمتان من آية النساء 3:
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلََّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتََامى ََ فَانْكِحُوا مََا طََابَ لَكُمْ مِنَ النِّسََاءِ مَثْنى ََ وَثُلََاثَ وَرُبََاعَ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلََّا تَعْدِلُوا فَوََاحِدَةً أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ، ذََلِكَ أَدْنى ََ أَلََّا تَعُولُوا}
__________
(1) عبد الله بن الحارث بن قيس، الصحابى رضى الله عنه (السيرة الهشامية: 1/ 354)
(2) وقع فى مطبوعة الإتقان: [ومالوا فى الموازين] ولا محل للشاهد فيها. ورواية البيت فى السيرة والأساس (ع ول) وجامع القرطبى (1/ 255غير منسوب فيها كما فى (ك، ط)(1/380)
ويأتى الدنو فى (القرآن) فعلا ماضيا ومضارعا، واسم فاعل «دان» «ودانية» ومعنى الجدارة فى «أدنى» يأتى من دلالة الدنو على القرب. والكلمات الثلاث:
أدنى وأجدر، وأقرب، قرآنية. وهى متقاربة، وإن كان اختلاف ألفاظها يؤذن باختلاف فى المعنى. ولعل الأصل فى الأقرب أنه يقابل الأبعد، وفى الأدنى أنه مقابل الأنأى، والأجدر بمعنى الأولى.
وأما كلمة «تعولوا» فوحيدة الصيغة فى القرآن.
وجاء اسم الفاعل فى آية الضحى: {وَوَجَدَكَ عََائِلًا فَأَغْنى ََ}
والمصدر فى آية التوبة 28: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
والواوى واليائى منه متقاربان، لتداخلهما فيما يلحق عينهما من إعلال وإبدال.
وقيل: أكثر ما يستعمل الواويّ فى العول والعالة والعويل. واليائيّ فى العيلة، من: عال يعيل عيلا وعيلة إذا افتقر، والاسم العيلة. قاله الفراء، (1/ 255) وشاهد اليائى منه بمعنى الفقر، بيت «أحيحة بن الجلاح»:
ولا يدرى الفقير متى غناه ... ولا يدرى الغنى متى يعيل
ونحوه فى جامع القرطبى، بالشاهد لأحيحة. وهو اشتقاقه فى (القاموس) واستدرك عليه محشّيه فنقل على هامشه: فى (شرح الشفا): «والصحيح ورود العيلة بمعنى العيال».
وتقول فى الواوى: «عال اليتامى يعولهم فهو عائل وهم عيال. كما تقول فى اليائى: يتيم عائل، أى فقير» وفسره الأخفش فى الآية، بالفقر (معانى القرآن 2/ 329) وتفسير العول بالميل، فيما نقل من قول ابن عباس، على وجه تقريب أشار إليه «الراغب» فقال: ومعنى الجور جاء من ترك النصفة، بأخذ الزيادة: {ذََلِكَ أَدْنى ََ أَلََّا تَعُولُوا} المفردات. وإليه ذهب «أبو عبيدة» قال: أى أقرب ألا تجوروا (مجاز القرآن 1/ 117) واختاره الطبرى.
فيفهم الميل، بمعنى الجور ميلا عن الإنصاف.(1/381)
وتقول فى الواوى: «عال اليتامى يعولهم فهو عائل وهم عيال. كما تقول فى اليائى: يتيم عائل، أى فقير» وفسره الأخفش فى الآية، بالفقر (معانى القرآن 2/ 329) وتفسير العول بالميل، فيما نقل من قول ابن عباس، على وجه تقريب أشار إليه «الراغب» فقال: ومعنى الجور جاء من ترك النصفة، بأخذ الزيادة: {ذََلِكَ أَدْنى ََ أَلََّا تَعُولُوا} المفردات. وإليه ذهب «أبو عبيدة» قال: أى أقرب ألا تجوروا (مجاز القرآن 1/ 117) واختاره الطبرى.
فيفهم الميل، بمعنى الجور ميلا عن الإنصاف.
ولا يفوتنا مع هذا التقريب، ما فى دلالة العول من الضيق وثقل العبء على العائل.
* * *48 {مُلِيمٌ}:
قال: فأخبرنى عن قوله عز وجل: {وَهُوَ مُلِيمٌ}.
قال: وهو مذنب. واستشهد بقول أمية بن أبى الصلت:
برئ من الآفات ليس لها بأهل ... ولكن المسيء هو المليم (1)
(ظ، وق، طب) وفى (تق، ك، ظ):
المليم المسيء المذنب الكلمة من آيتى:
الصافات 142، فى يونس عليه السلام:
{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}.
الذاريات 40فى فرعون:
{فَأَخَذْنََاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنََاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ}
وجاء ملوم، مفردا فى آيات (الذاريات 54، الإسراء 29، 39) وجمعا (ملومين) فى آيتى (المعارج 30، المؤمنون 6) والفعل الثلاثى فى آيتى يوسف 32، إبراهيم 22، ومضارع التلاوم فى آية القلم 30 (يتلاومون) و (لومة لائم) فى المائدة 54، و (النفس اللوامة) فى آية القيامة: 2
__________
(1) رواية الديوان: 55 برىء النفس ليس لها بأهل ... ولكن المسيء هو الملوم(1/382)
فرّق الطبرى بين المليم والملوم، بأن المليم من أتى ما يلام عليه وإن لم يلم، فأما الملوم فهو الذى يلام باللسان ويعذل بالقول. وقال القرطبى فى الفرق بينهما: فأما الملوم فهو الذى يلام، استحق ذلك أو لم يستحق، وقيل: المليم المعيب (سورة الصافات) ومعنى مليم عند الفراء: أتى باللائمة، وقد ألام (المعانى 30/ 87) وأسند فيها الطبرى عن مجاهد وقتادة وابن زيد، أنه المذنب.
وعدول القرآن الكريم فى آيتى الصافات والذاريات عن ملوم إلى «مليم» يوجه إلى كونه فاعلا لموجب اللوم. والله أعلم.
* * *49 {تَحُسُّونَهُمْ}
وسأله عن معنى قوله تعالى: {تَحُسُّونَهُمْ}.
قال: تقتلونهم بإذنه. واستشهد بقول عتيبة الليثى (1):
نحسّهم بالبيض حتى كأنما ... نفلّق منهم بالجماجم حنظلا
(ظ، طب) وفى (تق) تقتلونهم زاد فى (ك، ط) بأمر محمد. والشاهد فى الثلاثة قول الشاعر:
ومنا الذى لاقى بسيف محمد ... فحسّ به الأعداء عرض العساكر
الكلمة من آية آل عمران 152فى يوم أحد:
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللََّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ، حَتََّى إِذََا فَشِلْتُمْ وَتَنََازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مََا أَرََاكُمْ مََا تُحِبُّونَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيََا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفََا عَنْكُمْ، وَاللََّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.
__________
(1) فى (طب): عتبة الليثى ولم أقف على الشاهد.(1/383)
وحيدة فى القرآن، من الفعل الثلاثى: حسّ ومن الرباعى آيات:
آل عمران 50: {فَلَمََّا أَحَسَّ عِيسى ََ مِنْهُمُ الْكُفْرَ}
الأنبياء 12: {فَلَمََّا أَحَسُّوا بَأْسَنََا}
مريم 98: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ}
ومعها {فَتَحَسَّسُوا} فى آية يوسف 87 و {حَسِيسَهََا} فى آية الأنبياء 102 والحسّ هو أصل المعنى للمادة، وهو المفهوم من قرب فى الاستعمال القرآنى للإحساس والتحسس والحسيس، وإلى الحسّ رده «الراغب» فقال: نقل الحسّ إلى القتل من قولهم: أحسّه بحسّى، نحو رعته وكبدته. ولما كان ذلك قد يتولد منه القتل، عبّر به عنه فقيل: حسسته، أى قتلته (المفردات: حس) وقريب منه، فى (جامع القرطبى 4/ 235).
وقد نقل الطبرى فى تفسير الكلمة بالقتل فى آية آل عمران، ما روى عن ابن عباس وغيره.
والقتل كثير الورود فى القرآن بصيغ عدة: الفعل الثلاثى ماضيا ومضارعا وأمرا، ومصدره. والرباعى من القتال ماضيا ومضارعا وأمرا ومصدرا، ومن التقتيل ماضيا ومضارعا، ومن الاقتتال.
فلفت ذلك إلى فرق فى الدلالة بين القتل، والحسّ وحيدة الصيغة فى القرآن الكريم.
وتدبر سياق الآيات فى القتل، على اختلاف الصيغ، يفيد دلالة العموم فيه، إذ يقع على الفرد وعلى الجمع، بالسلاح أو بغيره كما فى قتل الأولاد، خشية إملاق، وأدا. وجاء ماضى الثلاثى مبنيا للمجهول، دعاء عليه، من المجاز، كالآيات:
المدثر 20: {فَقُتِلَ، كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ، كَيْفَ قَدَّرَ}
عبس 17: {قُتِلَ الْإِنْسََانُ مََا أَكْفَرَهُ}
الذاريات 10: {قُتِلَ الْخَرََّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سََاهُونَ}
البروج 4: {قُتِلَ أَصْحََابُ الْأُخْدُودِ}
والقتل فى هذه الآيات، دعاء عليهم.(1/384)
وتدبر سياق الآيات فى القتل، على اختلاف الصيغ، يفيد دلالة العموم فيه، إذ يقع على الفرد وعلى الجمع، بالسلاح أو بغيره كما فى قتل الأولاد، خشية إملاق، وأدا. وجاء ماضى الثلاثى مبنيا للمجهول، دعاء عليه، من المجاز، كالآيات:
المدثر 20: {فَقُتِلَ، كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ، كَيْفَ قَدَّرَ}
عبس 17: {قُتِلَ الْإِنْسََانُ مََا أَكْفَرَهُ}
الذاريات 10: {قُتِلَ الْخَرََّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سََاهُونَ}
البروج 4: {قُتِلَ أَصْحََابُ الْأُخْدُودِ}
والقتل فى هذه الآيات، دعاء عليهم.
فهل يكون الحسّ فى الآية بدلالة خاصة على استئصال الجمع قتلا؟ فى مجاز أبى عبيدة: «إذ تحسونهم، تستأصلونهم قتلا، يقال حسسناهم عن آخرهم أى استأصلناهم، قال رؤبة:
إذا شكونا سنة حسوسا ... تأكل بعد الأخضر اليبيسا (1/ 104)
وقال الفراء: الإحساس الوجود، تقول: هل أحسست أحدا، وكذلك «هل تحس منهم من أحد» وإذا قلت حسست بغير ألف فهى فى معنى الإفناء والقتل (معانى القرآن، آية آل عمران 52) ونقل القرطبى عن أبى عبيد: الحس الاستئصال بالقتل. وأنشد بيت رؤبة (الجامع 4/ 235) ومعناه عند الزمخشرى: القتل الذريع (س) وقال ابن هشام بعد رواية ابن إسحاق للظروف العصيبة التى لابست نزول آية آل عمران:
«الحس: الاستئصال. يقال حسست الشيء أى استأصلته بالسيف أو بغيره، قال جرير:
تحسّهم السيوف كما تسامى ... حريق النار فى الأجم الحصيد»
ومعنى الاستئصال واضح فى الشاهد، لكنه ليس استئصالا لشىء بالسيف أو بغيره، بل هو استئصال للجمع بالسيوف، بصريح النص.
وكذلك الشاهدان فى تفسير ابن عباس، ليس الحسّ فيهما مطلق قتل، وإنما هو حس استئصال للأعداء بالبيض، وبسيف محمد، عليه الصلاة والسلام. والله أعلم.
* * *
50 {أَلْفَيْنََا}:(1/385)
* * *
50 {أَلْفَيْنََا}:
وسأل نافع بن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {مََا أَلْفَيْنََا}
فقال ابن عباس: يعنى، وجدنا. واستشهد بقول نابغة بنى ذبيان (1):
فحسبوه فألفوه كما زعمت ... تسعا وتسعين لم تنقص ولم تزد
(تق، ك، ط) الكلمة من آية البقرة 170:
{وَإِذََا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ قََالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مََا أَلْفَيْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا، أَوَلَوْ كََانَ آبََاؤُهُمْ لََا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلََا يَهْتَدُونَ}
ومعها آيتا:
الصافات 69: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبََاءَهُمْ ضََالِّينَ}
ويوسف 25: {وَاسْتَبَقَا الْبََابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيََا سَيِّدَهََا لَدَى الْبََابِ}
وهذه الثلاث، هى كل ما فى القرآن من الكلمة، صيغة ومادة.
وتفسير «ألفينا» ب: وجدنا، قريب. وكذلك فسرها «الراغب» فى (المفردات) فى آيتى البقرة ويوسف، وأبو عبيدة فى آية البقرة (مجاز القرآن 1/ 63) ويؤنس إلى هذا القرب بين ألفى ووجد، أن الفعل (وجد) يأتى فى مثل هذا السياق: {وَجَدْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا} بآيات: المائدة 104، والأعراف 28، ويونس 78، ولقمان 21. ومعها: الأنبياء 53، والشعراء 74، والزخرف 22، 23.
ولا يفوتنا مع ذلك، أن القرآن لم يستعمل «ألفى» إلا ثلاث مرات، بصيغة
__________
(1) من معلقته والكلام فيه عن زرقاء اليمامة وقد نظرت إلى حمام سراع إلى الورد، فعدته فألفوه كما قالت: انظره فى (شرح التبريزى للقصائد العشر) ص 295ط المنيرية. وفى ديوان النابغة: القصيدة الأولى: ط بيروت 1968. وهو من شواهد الكشاف.(1/386)
واحدة هى الفعل الماضى، على حين كثر استعماله للفعل «وجد»: ماضيا ومضارعا، للمعلوم، وللمجهول.
وفى اللغة، تتصرف العربية فى (وجد) فيكون منه الوجد والوجود والوجدان والموجدة، والوجادة فى مصطلح الحديث. كما تتصرف فيه مجردا ومزيدا، مع مشتقاتهما.
ولا نعرف لها مثل هذا التصرف فى (ألفى) الذى لا يكاد يأتى إلا بمعنى وجد، رباعيّا مزيدا بهمزة. ومعه لفاء، كسحاب، مهموزا، بمعنى التراب وكل خسيس حقير.
ولا بدّ أن يكون لهذه الفروق الاستعمالية بين وجد وألفى، فى البيان القرآنى وفى اللغة، ملحظ من فرق الدلالة لم أهتد إليه، أو لعلهما من اختلاف اللغات وإن لم أجد فيه نصّا، والله أعلم.
* * *51 {جَنَفاً}:
قال نافع: يا ابن عباس، أخبرنى عن قوله عز وجل: {فَمَنْ خََافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً}
قال: الميل والجور فى الوصية. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت «عدى بن زيد» وهو يقول:
وأمّك يا نعمان فى أخواتها ... يأتين ما يأتينه جنفا (1)
(ك، ط، تق) الكلمة من آية البقرة 182، فى الوصية:
{فَمَنْ خََافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلََا إِثْمَ عَلَيْهِ، إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
__________
(1) وقع فى مطبوعة (تق) ومعجم غريب القرآن: [تأتين ما يأتينه].(1/387)
وحيدة الصيغة، وليس معها من مادتها فى القرآن إلا اسم الفاعل من التجانف فى آية المائدة 3، فيما حرّم من طعام: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجََانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
وتفسير الجنف بالميل والجور فى الوصية، واضح القرب. وقال «الراغب»:
أصل الجنف ميل فى الحكم، وذكر الكلمتين من آيتى البقرة والمائدة (المفردات).
ومعنى الجنف في الآية: الجور، عند الفراء (1/ 111) والهروى فى الغريبين (1/ 410) وهو الجور عن الحق والعدول عنه فى مجاز أبى عبيدة (1/ 66) ونقل فيه الطبرى: الخطأ والإثم العمد، والجور والعدول عن الحق، والميل (2/ 72) وفى تهذيب الأزهرى عن الزجاج: الميل والإثم (11/ 111) وهى معان متقاربة.
وقال ابن الأثير: الجنف الميل والجور، يقال: جنف وأجنف إذا مال وجار
وقيل: الجانف يختص بالوصية، والمجنف المائل عن الحق. ومنه حديث عمر، وقد أفطر الناس فى يوم من رمضان ثم ظهرت الشمس: «نقضيه، ما تجانفنا فيه لإثم» أى لم نمل فيه لارتكاب الإثم. (النهاية) وفى (ق) أجنف مختص بالوصية، وجنف كفرح، فى مطلق الميل عن الحق.
يرد عليه، أن القرآن استعمل الجنف، لا الإحناف فى الوصية. وفى (س) أن العرب تقول: جنف فى الوصية، وجنف علينا فى الحكم.
ويبدو أن الميل أصل فى الدلالة، نقلا من قولهم: رجل أجنف، مائل فى أحد شقيّه (خلق الإنسان 242، والمخصص 2/ 19) ثم تخالف العربية بين الألفاظ المشتركة فى معنى الميل، لفروق فى الدلالات، فتجعل الازورار للإعراض، والصدّ نقيض الإقبال، والزور للباطل والميل عن الهدى، والجور للميل عن العدل على وجه القهر والغلبة، والجنف للميل عن الحق الواجب، فيكون منه الجور فى الوصية، والميل عن الإنصاف فى الحكم.
والجنف فى آية البقرة، متعلق بالوصية بصريح اللفظ. وعطف «إثما» عليه بحرف أو: {فَمَنْ خََافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} من حيث يميل الموصى
عما ينبغى له من إنصاف لأهله، أو يأثم بالميل عن حدود الله فى الوصية. على ما هو مبين بتفصيل فى تفسير الطبرى (2/ 72).(1/388)
والجنف فى آية البقرة، متعلق بالوصية بصريح اللفظ. وعطف «إثما» عليه بحرف أو: {فَمَنْ خََافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} من حيث يميل الموصى
عما ينبغى له من إنصاف لأهله، أو يأثم بالميل عن حدود الله فى الوصية. على ما هو مبين بتفصيل فى تفسير الطبرى (2/ 72).
* * *52 {الْبَأْسََاءِ وَالضَّرََّاءِ} *
وسأل نافع عن معنى قوله تعالى: {بِالْبَأْسََاءِ وَالضَّرََّاءِ}
قال: البأساء الخصب، والضراء الجدب. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت زيد بن عمرو (1) وهو يقول:
إن الإله عزيز واسع حكم ... بكفّه الضرّ والبأساء والنعم
(تق، ك، ط) الكلمتان من آيتى:
الأنعام 42: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا إِلى ََ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنََاهُمْ بِالْبَأْسََاءِ وَالضَّرََّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}
والأعراف 94: {وَمََا أَرْسَلْنََا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلََّا أَخَذْنََا أَهْلَهََا بِالْبَأْسََاءِ وَالضَّرََّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}
ومعهما آيتا البقرة:
{وَالصََّابِرِينَ فِي الْبَأْسََاءِ وَالضَّرََّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} 177 {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمََّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسََاءُ وَالضَّرََّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتََّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى ََ نَصْرُ اللََّهِ، أَلََا إِنَّ نَصْرَ اللََّهِ قَرِيبٌ} 214.
وقد نفهم وجه التقريب فى تفسير الضراء بالجدب، على أن يكون تخصيصا من
__________
(1) وقع فى (ك، ط): [أما سمعت يزيد بن عمر وهو يقول] تصحيف. وزيد بن عمرو بن نفيل، والد سعيد بن زيد الصحابى رضى الله عنه، وابن عم عمر بن الخطاب، تحنف فى الجاهلية قبيل المبعث، انظر خبره وشعره فى (السيرة الهشامية) 1/ 239وما بعدها، وشعراء الجاهلية، النصرانية (4/ 619).(1/389)
عموم: فالجدب ضراء، والضرّاء تكون من جدب وتكون من غيره، أذى أو محنة وبلاء.
وأما تفسير البأساء بالخصب، كما روى عن ابن عباس، فلا ندرى ما وجهه.
فإن يكن نظر فيه إلى فتنة الخصب، كما فى آيات: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}
{أَنَّمََا أَمْوََالُكُمْ وَأَوْلََادُكُمْ فِتْنَةٌ} فإن سياق آيات البأساء الأربع لا يعين عليه، مع الأخذ والتضرع فى آيتى الأنعام والأعراف، ومع الصبر والمسّ فى آيتى البقرة.
كما لا أجد فيما بين يدىّ من كتب اللغة، ما يؤنس إلى معنى الخصب فى البأساء، على الحقيقة أو المجاز. بل تدور فى الاستعمال على الشدة والعذاب والداهية والحزن. ومن مادتها. البؤس والبأس والبؤسى، والابتئاس، وفى (الأساس) وقع فى البؤس والبأساء، وفى أمر بئيس: شديد، وابتأس بذلك، إذا اكتأب واستكان من الكآبة: {فَلََا تَبْتَئِسْ بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ}
قال الهروى فى تفسير آية البقرة بالغريبين: البأساء الشدة وسمعت الأزهرى يقول: البأساء فى الأموال وهو الفقر، والضراء فى الأنفس وهو القتل.
قال: والبؤس شدة الفقر. (1/ 118).
وقابل على (تهذيب اللغة للأزهرى 13/ 108) وبيت «زيد بن عمرو» لا يتعين شاهدا على الخصب، بل يحتمل من قرب أن تكون البأساء فيه مع الضر، ثم قال: * والنعم * ناظرا إلى نقيض الضر والبأساء.
وفرّق «أبو هلال» بين البأساء والضراء فقال: «الضراء هى المضرة الظاهرة والفرق بينهما، أن البأساء ضراء معها خوف، وأصلها البأس وهو الخوف يقال:
لا بأس عليك، أى لا خوف عليك. وسميت الحرب بأسا لما فيها من الخوف» (1).
وصريح كلامه، أن البأساء أشد من الضراء.
__________
(1) أبو هلال العسكرى: الفروق اللغوية: 163.(1/390)
وقد نطمئن إلى أن الشدة أصل فى معنى الكلمة، ثم تخالف العربية بين صيغها لملاحظ من فروق الدلالات: فتجعل البأس للقوة وشدة السطوة، والبؤس لشدة الكرب والتعاسة، والبأساء لوطأة المحنة على ما سبقت الإشارة إليه في المسألة رقم 38: {وَأَطْعِمُوا الْبََائِسَ الْفَقِيرَ} والله أعلم.
* * *53 {رَمْزاً}:
قال: فأخبرنى عن قول الله تعالى: {إِلََّا رَمْزاً} ما الرمز؟
قال: الوحى بالحاجب، واستشهد بقول الشاعر:
ما فى السماء من الرحمن من رمز (1) ... إلا إليه، وما فى الأرض من وزر
من (وق) وفى (تق، ك، ط) قال:
الرمز، الإشارة باليد، والوحى بالرأس.
الكلمة من آية آل عمران 41، فى زكريا عليه السلام:
{قََالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، قََالَ آيَتُكَ أَلََّا تُكَلِّمَ النََّاسَ ثَلََاثَةَ أَيََّامٍ إِلََّا رَمْزاً، وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكََارِ}
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
تفسير الرمز بالإشارة بالحاجب أو الوحى بالرأس، تقريب لا يفوتنا معه أن الإشارة الرمزية تكون باليد وبالحاجب، وبغيرهما. قال «الفراء» فى معنى الآية:
والرمز يكون بالشفتين والحاجبين والعينين، وأكثره فى الشفتين، كل ذلك رمز» (معانى القرآن 2/ 213). وقال الراغب: الرمز إشارة بالشفة، والصوت الخفى، والغمز بالحاجب، وعبّر عن كل كلام كالإشارة بالرمز: {أَلََّا تُكَلِّمَ النََّاسَ ثَلََاثَةَ أَيََّامٍ إِلََّا رَمْزاً}
__________
(1) فى (تق): مرتمز. وفى (ك، ط): رامزة.(1/391)
وما ارمأزّ أى لم يتكلم. وكتيبة رمّازة: لا يسمع منها من كثرتها.
(المفردات) وفصّله «الفيروزآبادي» فقال: الرمز، ويضم ويحرك، الإشارة أو الإيماء بالشفتين أو العينين أو الحاجبين أو الفم أو اللسان، والرمازة: الكتيبة التى ترتمز أى تتحرك وتضطرب من جوانبها، وهذه ناقة ترتمز أى لا تكاد تمشى من ثقلها وسمنها (ق) وكذلك قوله فى المسألة: الوحى بالرأس فيه أن الوحى يغلب استعماله فى الإلهام، ملحوظا فيه أصل دلالته على السرعة والخفاء. ويأخذ فى القرآن دلالة إسلامية، مما يوحى به الله تعالى إلى رسله الأنبياء، فإذا تعلق بغير الأنبياء فهو من الإلهام كآية القصص 7: {وَأَوْحَيْنََا إِلى ََ أُمِّ مُوسى ََ} أو التسخير كآية النحل 68:
{وَأَوْحى ََ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبََالِ بُيُوتاً}.
وكل وحى وإيحاء فى القرآن، من الله تعالى، باستثناء آيتى الأنعام 112، 121 فيما يوحى الشياطين إلى أوليائهم زخرف القول غرورا.
وكلام زكريا للناس رمزا، يبدو أقرب إلى الإيماء والإشارة، غير مقيد بحاجب وبيد أو بوحى من رأس، ودون أن يفهم من الرمز، كلاما للناس، وحى بمعنى إلهام أو تسخير. والله أعلم.
* * *54 {فََازَ}
وسأل نافع بن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {فَقَدْ فََازَ}
فقال ابن عباس: سعد ونجا، واستشهد بقول عبد الله بن رواحه:
وعسى أن أفوز ثمّت ألقى ... حجّة أتّقى بها الفتّانا
الكلمة من آيتى:
آل عمران 185: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النََّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فََازَ}
والأحزاب 71: {وَمَنْ يُطِعِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فََازَ فَوْزاً عَظِيماً}
وجاء معهما الفوز، نكرة ومعرفا بال، سبع عشرة مرة، وجمع المذكر السالم أربع مرات، و {لِلْمُتَّقِينَ مَفََازاً} و {بِمَفََازَةٍ مِنَ الْعَذََابِ} و {بِمَفََازَتِهِمْ لََا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ}.(1/392)
وعسى أن أفوز ثمّت ألقى ... حجّة أتّقى بها الفتّانا
الكلمة من آيتى:
آل عمران 185: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النََّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فََازَ}
والأحزاب 71: {وَمَنْ يُطِعِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فََازَ فَوْزاً عَظِيماً}
وجاء معهما الفوز، نكرة ومعرفا بال، سبع عشرة مرة، وجمع المذكر السالم أربع مرات، و {لِلْمُتَّقِينَ مَفََازاً} و {بِمَفََازَةٍ مِنَ الْعَذََابِ} و {بِمَفََازَتِهِمْ لََا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ}.
وتفسير الفوز بالسعادة والنجاة واضح القرب. مع ملحظ من اختصاصه فى القرآن بدلالة إسلامية، فى الفوز برضى الله ورحمته ورضوانه، ونعيم جنته للمتقين من عباده، فهو الفوز العظيم والمبين.
وما جاء من الفوز متعلقا بالمغانم فى آية النساء {وَلَئِنْ أَصََابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللََّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يََا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} 73 فعلى سبيل الوهم والغرور. أو كما قال «الراغب»: يحرصون على أعراض الدنيا ويعدون ما ينالونه من الغنيمة فوزا عظيما (المفردات) والمفاز فى القرآن، إنما هو للمتقين والمفازة، من العذاب، لا يمسهم السوء، والشاهد من بيت الشاعر الصحابى «عبد الله بن رواحة الأنصارى» رضى الله عنه يأخذ الدلالة الإسلامية كذلك، على الفوز برضوان الله والنجاة من الضلال.
على أن الأصمعى عدّ الفوز من (الأضداد) قال: وسموا المفازة، مفعلة من:
فاز يفوز، إذا نجا. وهى مهلكة، قال الله جل ثناؤه {فَلََا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفََازَةٍ مِنَ الْعَذََابِ} أى بمنجاة. وأصل المفازة مهلكة، فتفاءلوا بالسلامة والفوز كقولهم للملدوغ: سليم، والسليم المعافى (38/ 46).
ونحوه فى (الأضداد لابن السكيت. (192/ 319)
* * *55 {سَوََاءٍ}:
وسأل نافع بن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {سَوََاءٍ بَيْنَنََا وَبَيْنَكُمْ}
فقال ابن عباس: عدل. واستشهد بقول الشاعر:(1/393)
وسأل نافع بن الأزرق عن معنى قوله تعالى: {سَوََاءٍ بَيْنَنََا وَبَيْنَكُمْ}
فقال ابن عباس: عدل. واستشهد بقول الشاعر:
تلاقينا فقاضينا سواء ... ولكن جرّ عن حال بحال
(تق، ك، ط) [الكلمة من آية آل عمران 64، خطابا للنبى عليه الصلاة والسلام:] {قُلْ يََا أَهْلَ الْكِتََابِ تَعََالَوْا إِلى ََ كَلِمَةٍ سَوََاءٍ بَيْنَنََا وَبَيْنَكُمْ أَلََّا نَعْبُدَ إِلَّا اللََّهَ وَلََا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلََا يَتَّخِذَ بَعْضُنََا بَعْضاً أَرْبََاباً مِنْ دُونِ اللََّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنََّا مُسْلِمُونَ}.
وجاءت الكلمة فى ست وعشرين آية، سياقها أقرب إلى معنى المساواة. ومعها من المادة: (الصراط السوىّ) فى آيتى طه 35ومريم 43و (ثلاث ليال سويّا)، فى مريم 10 (فتمثل لها بشرا سويّا) فى مريم 17.
كما جاء الفعل «سوى» ماضيا عشر مرات، ومضارعا مرتين.
والفعل «استوى» ماضيا خمس عشرة مرة، ومضارعا عشرين مرة، ومرة واحدة، جاء الفعل «ساوى» فى آية الكهف 96: {سََاوى ََ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ}
وتفسير سواء بعدل، فى آية آل عمران، قريب، ففي العدل دلالة المساواة الأصيلة فى المادة، لا تنفك عنها فى السوىّ المعتدل المستقيم، وفى الاستواء بمعنى الاعتدال، أو التعادل إذا كان من طرفين، والوسط.
وإن كان العدل قد غلب استعماله فى الأحكام وما يجرى مجراها، والسوىّ فى الاعتدال والاستقامة، وسواء فى التساوى والتعادل والتكافؤ. (1)
ويأتى (سواء الجحيم) فى المسألة 95.
* * * __________
(1) انظر (الفروق اللغوية لأبى هلال) ص 128و (مفردات الراغب) مادتى: سوى، وعدل.(1/394)
56 {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}
وسأل نافع عن معنى قوله تعالى: {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}.
فقال ابن عباس: السفينة الموقرة الممتلئة، واستشهد بقول عبيد بن الأبرص:
شحنّا أرضهم بالخيل حتى ... تركناهم أذلّ من الضّراط
(تق، ك، ط) الكلمتان من آيات:
الشعراء 119، فى نوح: {فَأَنْجَيْنََاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}
يس 41: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنََّا حَمَلْنََا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}
والصافات 140: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}.
ومعها الفلك بمعنى السفينة، فى عشرين آية أخرى: فى فلك نوح. وفيما سخر لنا الله من فلك تجرى فى البحر.
وجاء فلك فى آيتى الأنبياء 33ويس 40 {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}
وأما مشحون فلم تأت إلا مع الفلك، فى الآيات الثلاث.
وتفسير الفلك بالسفينة هو القريب المتبادر، ويؤنس إليه أن القرآن استعمل «السفينة» فى قصة نوح والطوفان بآية العنكبوت 15:
{فَأَنْجَيْنََاهُ وَأَصْحََابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنََاهََا آيَةً لِلْعََالَمِينَ}
وإن كنت مع ذلك أطيل التدبر فى آيات الفلك الثلاث والعشرين، وليس فى القرآن كلمة السفينة إلا فى آية العنكبوت، وآيتى الكهف خبرا عن موسى وصاحبه: {فَانْطَلَقََا * حَتََّى إِذََا رَكِبََا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهََا} {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكََانَتْ لِمَسََاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهََا وَكََانَ وَرََاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً}
فهل يكون فى الفلك ما يربطها بالفلك فى آيات القدرة الإلهية والنظام الكونى، وتكون السفينة لمجرد المركب المائى؟ ذلك ما ألمحه من بعيد.(1/395)
{فَأَنْجَيْنََاهُ وَأَصْحََابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنََاهََا آيَةً لِلْعََالَمِينَ}
وإن كنت مع ذلك أطيل التدبر فى آيات الفلك الثلاث والعشرين، وليس فى القرآن كلمة السفينة إلا فى آية العنكبوت، وآيتى الكهف خبرا عن موسى وصاحبه: {فَانْطَلَقََا * حَتََّى إِذََا رَكِبََا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهََا} {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكََانَتْ لِمَسََاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهََا وَكََانَ وَرََاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً}
فهل يكون فى الفلك ما يربطها بالفلك فى آيات القدرة الإلهية والنظام الكونى، وتكون السفينة لمجرد المركب المائى؟ ذلك ما ألمحه من بعيد.
وكذلك تفسير المشحون بالممتلئ، قريب، وإن كنت ألمح فى الشحنة حسّ الدلالة على أقصى ما تحتمله الفلك من امتلاء. وقد تقول ملأت المكان، لا تريد إلا القدر الذى يتسع له، دون أن تشحنه بنوع من الضغط والحشد، والله أعلم.
* * *57 {زَنِيمٍ}:
وسأله نافع عن قوله تعالى: {زَنِيمٍ}
فقال ابن عباس: ولد الزنا. واستشهد بقول الشاعر (1):
زنيم تداعته (2) الرجال زيادة ... كما زيد فى عرض الأديم الأكارع
من (تق) وفى (ك، ط): الزنيم كزنمة الشاة وكذلك ولد الزنا (2).
الكلمة من آية القلم 13:
{وَلََا تُطِعْ كُلَّ حَلََّافٍ مَهِينٍ * هَمََّازٍ مَشََّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنََّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذََلِكَ زَنِيمٍ}
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
وتفسيرها بولد الزنى قد يبدو قريبا، فمن معانيها فى اللغة: اللئيم المعروف بلؤمه وشره، والدعىّ فى القوم ليس منهم. وربما كان مأخوذا لهذا المعنى، من:
الزنمة، وهى جزء يقطع من أذن البعير فيترك معلقا. وقد ذكره «الراغب» فى (المفردات) ومعناه فى آية القلم عند الفراء: الزنيم الملصق بالقوم وليس منهم، وهو المدّعى (3/ 173)
__________
(1) وقع هذا الجواب، فى موضع سؤال ابن الأزرق بنسخة (ط) عن الفلك المشحون، فاختل السياق.
(2) رواية الأساس: [زنيم تداعاه الرجال] وانظره فى السيرة: 1/ 387والكامل (رغبة 1/ 156)(1/396)
وفى صحيح البخارى عن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة (ك التفسير، سورة ن) وذكر له ابن حجر طرقا أخرى، منها من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال أبو عبيدة: الزنيم المعلق فى القوم ليس منهم، قال الشاعر:
زنيم ليس يعرف من أبوه وقال حسان: وأنت زنيم ليط فى آل هاشم
قال: ويقال للتيس: زنيم، له زنمتان (فتح البارى 8/ 467) ونقل فيه «الطبرى»، معنى الفاحش اللئيم، والملصق بالقوم وليس منهم، واستشهد بقول حسان بن ثابت، وبقول آخر:
زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغىّ الأمّ ذو حسب زنيم
وخصه «الزمخشرى» فى تفسير آية القلم، بالوليد بن المغيرة، قيل: كان دعيّا فى قريش، ادعاه أبوه بعد أن بلغ الثامنة عشرة من عمره. نقله «أبو حيان» ومعه:
أن الوليد كان له ست أصابع فى يده، فكأنها الزنمة. ثم علق قائلا: «والذى يظهر أن هذه الأوصاف فى آيات القلم ليست لمعيّن، وإنما تصدق على عامة من يتصف بها» (1).
وتضيف: إن سياق الآية يخرجها من الخصوص إلى العموم المستفاد صراحة من لفظ «كل» وإذا قيل فى أسباب النزول إنها نزلت فى الوليد بن المغيرة، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذى نزلت فيه الآية، على ما قرره الأصوليون.
والملحظ الذى نلتفت إليه فى تفسير الزنيم بولد الزنى، على ما يبدو من قربه، هو أن القرآن فى محقه للزنى إنما يقصر اللعنة على الزانى والزانية، لا على أولادهما.
من هنا نرجح فى الزنيم معنى اللؤم والفحش. والعربية فى إطلاقها الزنيم على الدعىّ الملحق بالقوم ليس منهم، وعلى ولد الزنى، قد لحظت فيه لؤم الأصل وما يغلب عليه من دناءة الطباع. والله أعلم.
__________
(1) تفسير الطبرى، والكشاف للزمخشرى، والجامع للقرطبى، والبحر المحيط لأبى حيان: سورة القلم.(1/397)
58 {قِدَداً}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {طَرََائِقَ قِدَداً}
قال ابن عباس: المتقطعة فى كل وجه. وشاهده قول الشاعر:
ولقد قلت وزيد حاسر ... يوم ولّت خيل زيد قددا
(تق) وفى (ك، ط): من كل وجه.
الكلمة من آية الجن 11:
{وَأَنََّا مِنَّا الصََّالِحُونَ وَمِنََّا دُونَ ذََلِكَ، كُنََّا طَرََائِقَ قِدَداً}
وحيدة الصيغة فى القرآن، وليس معها فيه من مادتها غير الفعل الماضى فى آيات يوسف، وامرأة العزيز، (2825):
{وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ}، {وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ أَهْلِهََا إِنْ كََانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكََاذِبِينَ * وَإِنْ كََانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصََّادِقِينَ * فَلَمََّا رَأى ََ قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قََالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}
والقد فيها على أصل معناه فى التمزيق.
وتفسيره «طرائق قددا» بالمتقطعة فى كل وجه، لعله عنى به التقطع المجازى فى الهدى والضلال، ونظر فيه، والله أعلم، إلى آيات:
الأعراف 168: {وَقَطَّعْنََاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصََّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذََلِكَ} ومعها 160فى تقطيع قوم موسى أسباطا
والمؤمنون 53: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمََا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.} وآية الأنبياء 93:
وإن جاء التقطع والتقطيع كذلك فى تقطيع الأرحام (محمد 22) وتقطع القلوب حسرة (التوبة 111) كما جاء على أصل معناه فى تقطيع الأيدى فى حد السرقة (المائدة 38) والأيدى والأرجل فى حد الحرابة (التوبة 33) وتقطيع النسوة أيديهن فى
آيتى (يوسف 31، 50) ووعيد فرعون لمن آمن من السحرة بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف (الأعراف 124، طه 71، الشعراء 49) وجاء فى النذير بعذاب الكفار فى الجحيم: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيََابٌ مِنْ نََارٍ}
الحج 19 {وَسُقُوا مََاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعََاءَهُمْ} محمد 15 وذهب الفراء فى معنى آية الجن إلى: كنا فرقا مختلفة أهواؤنا (3/ 191) ونقل فيها القرطبى عن الضحاك: أديانا مختلفة. وعن قتادة: أهواء متباينة، وأنشد:(1/398)
وإن جاء التقطع والتقطيع كذلك فى تقطيع الأرحام (محمد 22) وتقطع القلوب حسرة (التوبة 111) كما جاء على أصل معناه فى تقطيع الأيدى فى حد السرقة (المائدة 38) والأيدى والأرجل فى حد الحرابة (التوبة 33) وتقطيع النسوة أيديهن فى
آيتى (يوسف 31، 50) ووعيد فرعون لمن آمن من السحرة بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف (الأعراف 124، طه 71، الشعراء 49) وجاء فى النذير بعذاب الكفار فى الجحيم: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيََابٌ مِنْ نََارٍ}
الحج 19 {وَسُقُوا مََاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعََاءَهُمْ} محمد 15 وذهب الفراء فى معنى آية الجن إلى: كنا فرقا مختلفة أهواؤنا (3/ 191) ونقل فيها القرطبى عن الضحاك: أديانا مختلفة. وعن قتادة: أهواء متباينة، وأنشد:
القابض الباسط الهادى بطاعته ... فى فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد
قال: ويقال القوم طرائق، جمع طريقة، أى على مذاهب شتى. والقدد نحو منها وهو توكيد لها واحدها قدّة، وأصلها من قدّ السيور وهو قطعها (الجامع 19/ 14) وكذلك فسرها أبو حيان بالسير المختلفة، وأنشد:
القابض الباسط البيت، وبيت الكميت:
جمعت بالرأى منهم كلّ رافضة ... إذ هم طرائق فى أهوائها قدد
(البحر 8/ 344) والتفاوت بين الصلاح وما دونه، هو صريح آية الجن. ومعها فى سياقها:
{وَأَنََّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقََاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولََئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً * وَأَمَّا الْقََاسِطُونَ فَكََانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً}
وأما الشاهد فى جواب المسألة وهو للبيد بن ربيعة فصريح فى تشتت الخيل وتقطعها فى كل وجه.
* * *59 {الْفَلَقِ}
وسأله عن معنى قوله عز وجل: {بِرَبِّ الْفَلَقِ}.
قال: الصبح. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت
بقول «لبيد بن ربيعة (1)» وهو يقول:(1/399)
قال: الصبح. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت
بقول «لبيد بن ربيعة (1)» وهو يقول:
الفارج الهمّ مسدولا عساكره (2) ... كما يفرّج غمّ الظلمة الفلق
(ظ، فى الروايتين) وفى (طب): ضوء الصبح وفى (تق، ك، ط): الصبح إذا انفلق من ظلمة الليل.
الكلمة من آية الفلق:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}
ومعها من مادتها اسم الفاعل فى آيتى الأنعام: {إِنَّ اللََّهَ فََالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ََ} 95 {فََالِقُ الْإِصْبََاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} 96 وفعل المطاوعة فى آية الشعراء 63: {فَأَوْحَيْنََا إِلى ََ مُوسى ََ أَنِ اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ}.
تأويل الفلق فى المسألة بالصبح أو بضوئه، يبدو قريبا. وقد يؤنس إلى انفلاقة «فالق الإصباح» إلا أنه مختلف فيه: بالصبح فسره البخارى عن مجاهد (ك التفسير، سورة الفلق) ونقل فيه ابن حجر قول الفراء أنه الصبح (الفتح 8/ 524) وهو الصواب عند الطبرى، عن ابن عباس وغيره. وإن نقل فيه من اختلاف التأويل، أن الفلق الخلق، عن ابن عباس. وسجن فى جهنم، عنه أيضا من طريقين، وقيل اسم من أسمائها، أو جبّ فيها عن القرظى والسدّى (30/ 225) ونقل فيه القرطبى نحو ذلك، وقيل شجرة فى النار (الجامع
__________
(1) من (ظ، طب) وفى (تق، ك، ط): زهير بن أبى سلمى. ولم أجده فى ديوانيهما
(2) من (ظ، تق، ك، ط) وفى طب:
الفارج الهم مبذول عساكره ... كما يفرج ضوء الظلمة الفلق
وكذلك هو فى زوائده بمجمع الهيثمى، فى التفسير 6/ 305والمناقب 9/ 179 ورواية (الأساس: فرج) للشاهد، غير منسوب يا فارج الكرب مسدولا عساكره(1/400)
20/ 252). وأصل الفلق فى العربية الشقّ، والفلوق: الشقوق، والفالق:
النخلة المنشقة عن الطلع، والمطمئن من الأرض بين ربوتين، كأنه شق بينهما والفلّيق: الخوخ ينفلق عن نواه.
وعند الراغب: قيل هو الصبح، وقيل: الأنهار، وقيل: الكلمة التى علّمها الله موسى فانفلق بها البحر (المفردات) وفى (الصحيحين) أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى الرؤيا فتأتى «مثل فلق الصبح» فسره ابن الأثير بضوء الصبح وإنارته، أو هو الصبح نفسه (النهاية).
* * *60 {خَلََاقٍ}
وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {خَلََاقٍ}
فقال ابن عباس: نصيب. وشاهده قول أمية بن أبى الصلت:
يدعون بالويل [فيها] لا خلاق لهم (1) ... إلا سرابيل من قطر وأغلال
(تق، ك، ط) الكلمة من آيات:
البقرة 102فى السّحر: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرََاهُ مََا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلََاقٍ}.
والبقرة 200: {فَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنََا آتِنََا فِي الدُّنْيََا وَمََا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلََاقٍ}.
آل عمران 77: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللََّهِ وَأَيْمََانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولََئِكَ لََا خَلََاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ}
__________
(1) سقطت [فيها] من الثلاثة، وعلى هامش (ك) تجاه موضع السقط: لعله: يوم.
والشاهد فى ديوان أمية، ومن شواهد الطبرى وأبى حيان(1/401)
ومعها آية التوبة 69:
{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كََانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوََالًا وَأَوْلََاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلََاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلََاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلََاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خََاضُوا، أُولََئِكَ حَبِطَتْ أَعْمََالُهُمْ فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ، وَأُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ}.
ولم تأت الكلمة بهذه الصيغة، إلا فى هذه الآيات الأربع.
وجاء «خلق» مرتين فى آيتى: الشعراء 137 {خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} والقلم 4:
{وَإِنَّكَ لَعَلى ََ خُلُقٍ عَظِيمٍ}
و {اخْتِلََاقٌ} فى آية ص 7: {مََا سَمِعْنََا بِهََذََا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هََذََا إِلَّا اخْتِلََاقٌ.}
وجاء فى الخلق نحو مائتين وخمسين مرة، بصيغ: المصدر، والفعل ثلاثيّا ماضيا ومضارعا، واسم فاعله.
وخلّاق (مرتين) ومخلّقة (مرتين) الخلق فى معجم العربية: التقدير. فإذا أسند إلى الخالق، فهو إبداع الشيء على غير مثال سبق. وخلق الكلام: صنعه: واختلقه: افتراه. والخلاق النصيب الوافر من الخير (ق) والخلق: السجية والطبع.
وقال «الراغب»: الخلق التقدير المستقيم، واستعمل فى إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء. وليس الخلق الذى هو الإبداع، إلا الله تعالى. ولا يستعمل فى كافة الناس إلا على وجهين: أحدهما فى معنى التقدير والثانى الكذب:
«وتخلقون إفكا» وكل موضع استعمل الخلق فيه فى وصف الكلام، فالمراد به الكذب، ومن هذا الوجه منع كثير من الناس إطلاق لفظ الخلق على القرآن
والخلق يقال فى معنى المخلوق، والخلق والخلق فى الأصل واحد، لكن خص الخلق
بالهيئات والأشكال والصور، المدركات بالبصر. واختص الخلق بالقوى المدركة بالبصيرة قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى ََ خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقرئ: {إِنْ هََذََا إِلََّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} (1).(1/402)
والخلق يقال فى معنى المخلوق، والخلق والخلق فى الأصل واحد، لكن خص الخلق
بالهيئات والأشكال والصور، المدركات بالبصر. واختص الخلق بالقوى المدركة بالبصيرة قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى ََ خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقرئ: {إِنْ هََذََا إِلََّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} (1).
والخلاق: ما اكتسب الإنسان من الفضيلة بخلقه: {وَمََا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلََاقٍ} (المفردات) ومن الخلق فى التقدير والإبداع، جاء الخلق كأنه خلقة فى صاحبه وسجية. فإذا اخترع الكلام كذبا فذلك الاختلاق.
وتفسير «خلاق» بنصيب، هو معناه فى آية البقرة عند الفراء (1/ 122) وأبى عبيدة فى آية آل عمران (المجاز 1/ 97) لكنه قيده فى آية البقرة بنصيب من خير (1/ 48) ونحوه فى (ق) وقيده الراغب بما اكتسب الإنسان من فضيلة. ونقل الطبرى من اختلاف أهل التأويل فيه: أنه النصيب، عن مجاهد والسدى وسفيان. والحجّة، عن قتادة، والدين، عن الحسن. وأخرج من طريق ابن جريح عن ابن عباس، قال: ما له من قوام.
وأولى هذه الأقوال عنده، أنه النصيب، وذلك أنه معناه فى كلام العرب. قال:
ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم: «ليؤيدن الله هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم» يعنى لا نصيب لهم ولا حظ فى الإسلام والدين. وأنشد شاهد المسألة.
وسياق الكلمة فى آياتها الثلاث، صريح فى أنه النصيب من الجزاء الأخروى على كسب الأعمال. وقد جاءت كلمة «نصيب» المفسّر بها خلاق، فى نظير ذلك:
غافر 47: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنََّا نَصِيباً مِنَ النََّارِ}
والشورى 20: {وَمَنْ كََانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيََا نُؤْتِهِ مِنْهََا وَمََا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ.}
لكنها جاءت كذلك فى واحد الأنصبة بأحكام المواريث (النساء 7) ونصيب من
__________
(1) هى قراءة الجمهور. وفيه قراءة بالفتح والسكون: «إن هذا إلا خلق الأولين» وفسّر بالاختلاق.(1/403)
الحرث والأنعام (الأنعام 136) ومن الملك (النساء 53) ومن الدنيا (القصص 77) وفى (الفروق اللغوية) أن الخلاق: النصيب الوافر من الخير خاصة، بالتقدير لصاحبه أن يكون نصيبا له.
قد يهدى هذا الاستقراء إلى أن الخلاق إذا فسّر بالنصيب بمعنى القدر، فملحوظ فيه خصوص دلالته على جزاء ما يكسب الإنسان بخلقه ومسعاه. ويكون النصيب بدلالة أعم، فيأتى بمعنى القدر من كسب الخلق والعمل، ويأتى كذلك بمعنى القدر المفروض، والحظ المقسوم. والله أعلم.
* * *61 {قََانِتُونَ}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قََانِتُونَ}
فقال: مقرّون. واستشهد بقول عدىّ بن زيد:
قانتا لله يرجو عفوه ... يوم لا يكفر عبد ما ادّخر
(تق، ك، ط) الكلمة من آيتى:
البقرة 116: {سُبْحََانَهُ، بَلْ لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ، كُلٌّ لَهُ قََانِتُونَ}
والروم 26: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ، كُلٌّ لَهُ قََانِتُونَ}
ومعهما اسم الفاعل، مفردا، وجمعا فى آيات:
الزمر 9: {أَمَّنْ هُوَ قََانِتٌ آنََاءَ اللَّيْلِ سََاجِداً وَقََائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ}
النحل 120: {إِنَّ إِبْرََاهِيمَ كََانَ أُمَّةً قََانِتاً لِلََّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
البقرة 238: {حََافِظُوا عَلَى الصَّلَوََاتِ وَالصَّلََاةِ الْوُسْطى ََ وَقُومُوا لِلََّهِ قََانِتِينَ}
آل عمران 17: {الصََّابِرِينَ وَالصََّادِقِينَ وَالْقََانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحََارِ}
النساء 34: {فَالصََّالِحََاتُ قََانِتََاتٌ حََافِظََاتٌ لِلْغَيْبِ بِمََا حَفِظَ اللََّهُ}.(1/404)
الزمر 9: {أَمَّنْ هُوَ قََانِتٌ آنََاءَ اللَّيْلِ سََاجِداً وَقََائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ}
النحل 120: {إِنَّ إِبْرََاهِيمَ كََانَ أُمَّةً قََانِتاً لِلََّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
البقرة 238: {حََافِظُوا عَلَى الصَّلَوََاتِ وَالصَّلََاةِ الْوُسْطى ََ وَقُومُوا لِلََّهِ قََانِتِينَ}
آل عمران 17: {الصََّابِرِينَ وَالصََّادِقِينَ وَالْقََانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحََارِ}
النساء 34: {فَالصََّالِحََاتُ قََانِتََاتٌ حََافِظََاتٌ لِلْغَيْبِ بِمََا حَفِظَ اللََّهُ}.
ومعها آيتا: الأحزاب 35، والتحريم 5فى نساء النبى عليه الصلاة والسلام، وآية التحريم 12فى مريم عليها السلام.
وجاء الفعل مرة واحدة فى آية الأحزاب 31، خطابا لنساء النبى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلََّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صََالِحاً نُؤْتِهََا أَجْرَهََا مَرَّتَيْنِ}
وتفسير القنوت بالإقرار، لا يكون إلا على وجه تقريب لا يفوتنا فيه أن الإقرار يغلب أن يصدر على وجه الإلزام، وقد يكون عن تقيّة وخوف، ولا يكون القنوت إلا عن خشوع صادق. يؤيد هذا الملحظ أن القرآن لم يستعمل القنوت إلا لله ورسوله، والقانتون والقانتات فيه هم الصفوة المؤمنون العابدون.
وجوهر الفرق أن القنوت من أفعال القلوب كالخشوع والتقوى، وليس الإقرار كذلك. وفى القرآن منه، آية البقرة 84خطابا لبنى إسرائيل فيما نقضوا من ميثاق بعد الإقرار: {وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ لََا تَسْفِكُونَ دِمََاءَكُمْ وَلََا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيََارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هََؤُلََاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيََارِهِمْ تَظََاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوََانِ}.
وآية آل عمران 81: {وَإِذْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ النَّبِيِّينَ لَمََا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتََابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمََا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قََالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ََ ذََلِكُمْ إِصْرِي، قََالُوا أَقْرَرْنََا، قََالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشََّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلََّى بَعْدَ ذََلِكَ فَأُولََئِكَ هُمُ الْفََاسِقُونَ}.
ملحظ الإلزام فى الإقرار واضح، فاحتاج إلى الإشهاد عليه وكان نقضه بعد إقراره، إثما وعدوانا وفسقا.
وقول «الراغب»: القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع، وفسّر بكلّ واحد منهما فى قوله: {وَقُومُوا لِلََّهِ قََانِتِينَ} {كُلٌّ لَهُ قََانِتُونَ} قيل: خاضعين، وقيل طائعين، وقيل ساكتين، لم يعن به: عن الكلام، وإنما عنى به ما قال عليه السلام: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شىء من كلام الآدميين، إنما هى قرآن وتسبيح».(1/405)
ملحظ الإلزام فى الإقرار واضح، فاحتاج إلى الإشهاد عليه وكان نقضه بعد إقراره، إثما وعدوانا وفسقا.
وقول «الراغب»: القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع، وفسّر بكلّ واحد منهما فى قوله: {وَقُومُوا لِلََّهِ قََانِتِينَ} {كُلٌّ لَهُ قََانِتُونَ} قيل: خاضعين، وقيل طائعين، وقيل ساكتين، لم يعن به: عن الكلام، وإنما عنى به ما قال عليه السلام: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شىء من كلام الآدميين، إنما هى قرآن وتسبيح».
(المفردات) يرد عليه أن الخضوع، قد يكون أيضا عن قسر وخوف أو عن تقية ومداراة.
وهذا وجه تخصيصه عند الفراء، فقال فى معنى آية البقرة 116: يريد مطيعين، وهذه خاصة لأهل الطاعة، ليست بعامة (1/ 141) ومن معانى القنوت عند ابن الأثير: الطاعة، والخشوع وهو غير الخضوع والصلاة. والدعاء والعبادة وطول القيام والسكوت (النهاية) ولا يخرج عما فى المعاجم. وهى معان متقاربة، وفيها من الخشوع والتواضع لله عز وجل، ما ليس فى الإقرار الذى قد يكون عن إلزام بالخضوع.
والله أعلم.
* * *62 {جَدُّ رَبِّنََا}
وسأله عن معنى قوله عز وجل: {تَعََالى ََ جَدُّ رَبِّنََا}.
قال عظمة ربنا. واستشهد له بقول أمية بن أبى الصلت:
لك الحمد والنعماء والملك ربّنا ... فلا شىء أعلى منك جدّا وأمجد
(تق، ك، ط) (1)
(ظ، طب)
__________
(1) لأمية بن أبى الصلت فى الثلاثة، وهو مطلع قصيدة له دالية مطولة فى (الديوان 27، وشعراء النصرانية (2/ 272).
وفى (ظ، طب): طرفة بن العبد. وكذلك هو فى مجمع الزوائد: فى التفسير وفى المناقب.(1/406)
الكلمة من آية الجن 23:
{وَأَنَّهُ تَعََالى ََ جَدُّ رَبِّنََا مَا اتَّخَذَ صََاحِبَةً وَلََا وَلَداً}.
وحيدة الصيغة. ومن مادتها جاء «جديد» ثمانى مرات، كلها صفة لخلق جديد، للبعث والقيامة. و «جدد» فى آية فاطر 27:
{وَمِنَ الْجِبََالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوََانُهََا وَغَرََابِيبُ سُودٌ}.
ومن معانى الجد فى العربية: العظمة والجلال، ووالد الأب، والحظ والحظوة.
والجادة: الطريق المسلوك الممهد، والسوى. والجد، بالكسر، الاجتهاد، والجديدان الليل والنهار، لما فى تعاقبهما من جديد، أو من تجدد آيتهما.
وفى قوله تعالى: {جَدُّ رَبِّنََا} قال ابن قتيبة فى تأويل المشكل سورة الجن:
يقال: جدّ فلان فى قومه إذا عظم.
وقال أبو عبيدة فى (مجاز القرآن): علا ملك ربنا وسلطانه. وأسند الفراء فى معناها عن مجاهد: جلال ربنا.
ومما رواه الطبرى بإسناده من اختلاف أهل التأويل فى معناها: تعالت عظمة ربنا، وأمره وسلطانه، وجلاله، وقدرته: عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة، بألفاظ مقاربة، واختاره.
وقيل: غنى ربنا، وقيل: الجد الذى هو أب الأب، من كلام جهلة الجن.
وأسنده عن مجاهد. وعن أنس رضى الله عنه، قال: كان الرجل منا إذا حفظ البقرة وآل عمران، جدّ فى أعيننا. ذكره القرطبى.
وقال الراغب: «تعالى جد ربنا» أى فيضه، وقيل: عظمته. وإضافته إليه، سبحانه، على سبيل الاختصاص بملكه. وسمى ما جعل الله من الحظوظ الدنيوية جدّا، وهو البخت (المفردات) سياق الآية يؤنس إلى عظمة ربنا وجلاله وتفرده، بتمام آيته {وَأَنَّهُ تَعََالى ََ جَدُّ رَبِّنََا مَا اتَّخَذَ صََاحِبَةً وَلََا وَلَداً} صدق الله العظيم(1/407)
وقال الراغب: «تعالى جد ربنا» أى فيضه، وقيل: عظمته. وإضافته إليه، سبحانه، على سبيل الاختصاص بملكه. وسمى ما جعل الله من الحظوظ الدنيوية جدّا، وهو البخت (المفردات) سياق الآية يؤنس إلى عظمة ربنا وجلاله وتفرده، بتمام آيته {وَأَنَّهُ تَعََالى ََ جَدُّ رَبِّنََا مَا اتَّخَذَ صََاحِبَةً وَلََا وَلَداً} صدق الله العظيم
63 {حَمِيمٍ آنٍ}:
وسأله عن معنى قوله عز وجل: {حَمِيمٍ آنٍ} ما الآن؟
قال: الحار الذى اشتد حره. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال:
نعم، أما سمعت بقول النابغة: (1)
وتخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف آن
(ظ، طب) وفى (تق، ك، ط) قال: الآنى الذى انتهى طبخه وحرّه.
الكلمة من آية الرحمن 44:
{هََذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهََا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}
من أنى يأنى فهو آن.
معها آنية فى آية الغاشية 5: {تَصْلى ََ نََاراً حََامِيَةً * تُسْقى ََ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ}
والفعل المضارع عن آية الحديد 16:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللََّهِ}
والمصدر فى آية الأحزاب 53:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلََّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى ََ طَعََامٍ غَيْرَ نََاظِرِينَ إِنََاهُ}.
وجاءت {آنََاءَ اللَّيْلِ} ثلاث مرات (آل عمران 113، طه 130، الزمر 9) و {بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} فى آية (الإنسان 15) وأنّى، فى ثمان وعشرين آية.
وتفسير {حَمِيمٍ آنٍ} بالذى اشتد حره وانتهى، قال بنحوه الفراء فى معنى
__________
(1) فى مطبوعة (تق):
ويخضب لحية خدرت وخانت ... بأحمى من نجيع الجوف أن
وما هنا من (ظ، طب، ك، ط) وهى رواية الديوان، من قصيدة للنابغة يهجو بها يزيد بن عمرو بن خويلد ابن الصعق (149)(1/408)
الكلمة بالآية: والآنى الذى قد انتهت شدة حره (3/ 118) ونقل فيه ابن الأنبارى: وقال بعض الناس، الحميم من الأضداد يقال للحار وللبارد، ولم يذكر شاهدا. (الأضداد 82/ 138) أحسبه عنى الأصمعى. وقد صرح به أبو حاتم السجستانى فقال: وزعموا أن الأصمعى قال: الحميم الماء الحار والماء البارد، ولا أعرفه (الأضداد 152/ 267) وذكر فيه القرطبى ثلاثة أوجه: أنه الذى انتهى حره وحميمه، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدى. وأنشد بيت النابغة. وقال قتادة: طبخ منذ خلق الله السموات والأرض، وقال كعب القرطبى: واد من أودية جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار (الجامع 17/ 175) «الراغب» لحظ فيه أصل دلالة المادة على الزمن، فقال: حان وقته وبلغ إناه فى شدة الحر (المفردات) وبه تتقارب الأقوال فى تفسير الكلمة بشدة الحر، وانتهائه، ونضجه. والله أعلم.
* * *64 {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدََادٍ}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدََادٍ}
فقال ابن عباس: الطعن (1) باللسان. وشاهده قول الأعشى:
فيهم الخصب والسماحة والنج ... دة فيهم، والخاطب المسلاق
(تق، ك، ط) الكلمة من آية الأحزاب 19، فى المعوّقين عن الجهاد:
{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ، فَإِذََا جََاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى ََ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِذََا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدََادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ، أُولََئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللََّهُ أَعْمََالَهُمْ، وَكََانَ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيراً}.
__________
(1) فى مطبوعة (تق): [العطن باللسان] تصحيف.
والشاهد فى ديوان الأعشى، وحيوان الجاحظ 3/ 485.(1/409)
«سلقوكم» وحيدة فى القرآن مادة وصيغة.
وأما «حداد» فوحيدة الصيغة، وجاء من المادة: «حديد» ست مرات و «حدود الله»، ثلاث عشرة مرة كما جاء الفعل «حادّ» ماضيا مرة، ومضارعا مرتين.
وملحظ الحدّة والعنف واضح فى: ألسنة حداد، وفى لجج المحادة ولدد الجدل وفى الحديد ظاهرة القوة، وفى حدود لله ما يعطيها قوة الإلزام والحرمة.
والسؤال فيما يبدو، متعلق بكلمة «سلقوكم» وتفسير السلق بالطعن باللسان احتراز يغنى عنه التصريح {بِأَلْسِنَةٍ حِدََادٍ} فيأخذ السلق دلالته على التجريح والطعن، من أصل مادته فى سلق الشيء بالماء الحار. وقال الفراء فى معنى الآية آذوكم فى الأمن (2/ 339) وفى حديث «ليس منا من سلق أو حلق» قال ابن الأثير: أى رفع صوته عند المصيبة، وقيل هو أن تصك المرأة وجهها وتمرشه، والأول أصح. (النهاية) وفى القاموس: سلقه بالكلام أذاه، واللحم عن العظم: التحاه، وفلانا:
طعنه، والبرد النبات: أحرقه، وفلانا بالسوط: نزع جلده، وشيئا بالماء الحار:
أذهب شعره ووبره.
والمسلاق فى الشاهد من قول الأعشى، أخذ السلق فيه كونه باللسان، من لفظ * الخاطب * أى الخطيب. وكل هذا من الاستعمال المجازى للمادة، منقولا إليه من أصل استعماله فى السلق بالماء الحار. والله أعلم.
* * *65 {أَكْدى ََ}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {وَأَكْدى ََ}.
فقال ابن عباس: كدّره بمنّه. واستشهد بقول الشاعر:
أعطى قليلا ثم أكدى بمنّه ... ومن ينشر المعروف فى الناس يحمد
الكلمة من آية النجم 34:(1/410)
فقال ابن عباس: كدّره بمنّه. واستشهد بقول الشاعر:
أعطى قليلا ثم أكدى بمنّه ... ومن ينشر المعروف فى الناس يحمد
الكلمة من آية النجم 34:
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلََّى * وَأَعْطى ََ قَلِيلًا وَأَكْدى ََ}
والمنّ فى الشاهد الشعرى، لا يؤخذ من قوله: * ثم أكدى * وإنما يؤخذ من صريح قوله * بمنّه * وقد فسره الراغب فى آية النجم، بالمعطى المقل، ويرد عليه أيضا أن «أكدى» فى الآية، معطوفة على: وأعطى قليلا، فلزم أن يكون هناك فرق بين الإكداء وإعطاء القليل. ومعناه عند الفراء: أمسك بعد عطاء قليل (3/ 101) ومن المجاز: بلغ الناس كديته وكداه، إذا أمسك بعد عطاء (س).
ولعل الشح أقرب إلى الإكداء. مأخوذا من الكدية، وهى فى العربية الأرض الغليظة، والصفاة الشديدة. وحفر فأكدى: صادفها ومن هذا المعنى نقلت الكدية فى الاستعمال المجازى، إلى شدة الدهر ومسك كدي: لا رائحة له.
والأقرب أن يكون الإكداء فى الآية، البخل والشح بعد عطاء قليل. دون قيده بتكدير المن الذى صرح به الشاعر فى الشاهد.
* * *66 {وَزَرَ}:
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {كَلََّا لََا وَزَرَ} ما الوزر؟.
قال: الوزر الملجأ. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت بقول «ابن الدّثنية» (1) وهو يذكر حمير وما أصابها:
__________
(1) زاد فى ظ من رواية أبى بكر الخزاعى عن الحرانى: قال أبو بكر: قال بعض الثقفيين: ابن الدثنيّة.
وذكر أنه جده. قال أبو الحسين هو المبارك بن عبد الجبار: وحدثنى بن حسن بن الربيع عن ابن دريد».(1/411)
لعمرك ما للفتى من مفر ... من الموت يلحقه والكبر (1)
لعمرك ما إن له صخرة ... لعمرك ما إن له من وزر
من (ظ فى الروايتين، تق، ك، ط) الكلمة من آية القيامة 11:
{فَإِذََا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسََانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلََّا لََا وَزَرَ * إِلى ََ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}
وحيدة الصيغة فى القرآن الكريم.
ومن المادة، جاء الوزر والأوزار بمعنى الحمل الثقيل فى آيتى الشرح، وطه 187. ومعهما آية محمد {حَتََّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزََارَهََا}
ووزير فى آيتى طه 29والفرقان 35 وغلب مجىء الوزر فى معنى الإثم والذنب فعلا مضارعا: ثمانى مرات، واسم فاعل «وازرة» خمس مرات، واسما ومصدرا فى آيات: الأنعام 31، 164وفاطر 18، والزمر 7والنحل 25وطه 100.
والدلالة المشتركة فيها جميعا: ثقل العبء، حسيّا ماديّا فى الأحمال والأعباء، ومعنويّا فى الإثم والذنب، وفى الوزير يحمل الهم والعبء.
فتفسير الوزر بالملجإ، ملحوظ فيه هذه الدلالة الأصيلة للمادة، فى الملاذ لمثقل بعبء مادى أو همّ نفسى أو ذنب وخطيئة. والعربية تسمى الجبل وزرا، بملحظ من مناعته وصلاحيته لأن يكون حصنا وملاذا، وقد ذكر فيه جمهرة المفسرين واللغويين: الملجأ، والمفر، والمهرب، والحصن، والحرز، والمعقل. وأنشد فيه «ابن السكيت» فى باب الاجتماع بالعداوة قول الشاعر الأنصارى: (2)
والناس ألب علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القنا وزر
__________
(1) اقتصر فى (تق، ك، ط) على البيت الثانى، وهو فيها لعمرو بن كلثوم. واستشهد القرطبى بالبيت الأول.
(2) حسان بن ثابت رضى الله عنه. وانظر مع (تهذيب الألفاظ): تفسير الطبرى، والقرطبى: سورة القيامة، وصحيح البخارى: ك التفسير. وفتح البارى (8/ 481).(1/412)
وقد نظر إليه الراغب فقال: الوزر الملجأ الذى يلجأ إليه من الجبل: {كَلََّا لََا وَزَرَ}. (المفردات).
ونراه اعتبر الدلالة المعجمية، وهو فى الآية أقرب إلى المهرب والملاذ من هول القيامة: {يَقُولُ الْإِنْسََانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلََّا لََا وَزَرَ * إِلى ََ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}. صدق الله العظيم.
* * *67 {نَحْبَهُ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {قَضى ََ نَحْبَهُ}
فقال ابن عباس: أجله الذى قدر له. واستشهد بقول لبيد بن ربيعة (1):
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
(تق، ك، ط) الكلمة من آية الأحزاب 23:
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ صَدَقُوا مََا عََاهَدُوا اللََّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى ََ نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَمََا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
تفسير النحب بالأجل، اقتصر عليه الفراء فى معنى الآية وحكاه «ابن سيده» فى (المحكم) عن الزجاج. وفسره البخارى فى آية الأحزاب بالعهد (ك التفسير) ونقل فيه ابن حجر عن أبى عبيدة قال: أى نذره. والنحب أيضا النفس، والخطر العظيم. وقال غيره: النحب فى الأصل النذر، ثم استعمل فى آخر كل شىء.
وأسند عن الحسن فى الآية: قضى أجله على الوفاء والتصديق. وتعقبه (فتح البارى
__________
(1) الشاهد، فى ديوان لبيد، وهو من شواهد رسالة الغفران. وفيها تخريجه. ط الذخائر.(1/413)
8/ 366) وقال ابن الأثير: النحب النذر، كأنه ألزم نفسه أن يصدق أعداء الله فى الحرب وقيل: النحب الموت. كأنه يلزم نفسه أن يقاتل حتى يموت. (النهاية) ومن معانى النحب، والنحيب: فى اللغة، أشد البكاء، وحشرجة السعال، والموت، والأجل (المحكم) والذى فى (الأساس) النحب: النذر، ومن المجاز:
قضى نحبه: مات، كأن الموت نذر فى عنقه.» وربما كان أصل النحيب حشرجة السعال، فكان منه حشرجة الموت، والنحيب على الموتى، ومن حتمية قضاء الأجل، جاء استعمال النحب فى النذر. والله أعلم.
68 {مِرَّةٍ}
قال: يا ابن عباس، أخبرنى عن قول الله عز وجل: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ََ}
قال ابن عباس: ذو شدة فى أمر الله. وهو جبريل عليه السلام. واستشهد له بقول نابغة بنى ذبيان:
قد كنت أقريه إذا ضافنى ... وهنا قرى ذى مرّة حازم (1)
من (ك، ط) بزيادة: وهو جبريل عليه السلام عما فى (تق) الكلمة من آية النجم 6:
{إِنْ هُوَ إِلََّا وَحْيٌ يُوحى ََ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ََ * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ََ * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ََ}.
وحيدة الصيغة فى القرآن، وأما مادتها فأكثر ما جاء منها: مرّة، فى ثلاثة عشر موضعا، ومثناها فى خمسة مواضع، وجمعها فى موضع واحد.
وجاء الفعل من المرور إحدى عشرة مرة، واسم فاعل «مستمر» مرتين وأفعل
__________
(1) اكتفى فى (تق) بالشطر الثانى، ووقع فى مطبوعته:
وهنا ترى ذى مرة حازم تصحيف ولم أجده فى ديوان النابغة.(1/414)
التفضيل من المرارة، فى آية القمر: {وَالسََّاعَةُ أَدْهى ََ وَأَمَرُّ}.
وتفسير ذى مرّة، بذى شدة فى أمر الله، هو من قبيل الشرح والتقريب. ودلالة الشدة جاءت من استعمال العربية لإمرار الحبل، بمعنى كرر فتله فأحكمه. ونقل إلى الإحكام المجازى فى المرّة كما نقل الصبر من النبات المر، إلى احتمال المكاره والصبر عليها.
* * *69 {الْمُعْصِرََاتِ}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنََا مِنَ الْمُعْصِرََاتِ}.
فقال: السحاب يعصر بعضها بعضا فيخرج الماء من بين السحابتين.
واستشهد بقول نابغة بنى ذبيان:
تجرّ بها الأرواح من بين شمأل ... وبين صباه المعصرات الدوامس (1)
(ص، ط، تق) الكلمة من آية النبأ 14:
{وَأَنْزَلْنََا مِنَ الْمُعْصِرََاتِ مََاءً ثَجََّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبََاتاً * وَجَنََّاتٍ أَلْفََافاً}.
وحيدة الصيغة فى القرآن. وجاء من مادتها:
العصر، بمعنى الزمن، فى آية العصر.
والعصر بمعناه اللغوى فى عصر الخمر، بآية يوسف 36:
{إِنِّي أَرََانِي أَعْصِرُ خَمْراً} ومعها آية يوسف 49:
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ عََامٌ فِيهِ يُغََاثُ النََّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}.
والإعصار فى آية البقرة 266: {فَأَصََابَهََا إِعْصََارٌ فِيهِ نََارٌ فَاحْتَرَقَتْ}.
__________
(1) لم أجد الشاهد فى ديوان النابغة الذبيانى ط بيروت. وليس فيه قصيدة على هذا الروى. ووقع فى طبعة (تق): وبين صباها المعصرات الدوامى.(1/415)
تفسير المعصرات بالسحاب يعصر بعضها بعضا فيخرج الماء من بين السحابتين، هو من قبيل الشرح، ولا نرى ضرورة لقيد المعصرات بسحابتين بل تكفى دلالتها على ما تعتصر من مطر وما تجود به من عصارة السحب تخرج حبّا ونباتا وجنات ألفافا. و «الراغب» لم يحدد سحابتين، بل فسر المعصرات بالسحائب التى تعتصر بالمطر أى تغص، وقيل: التى تأتى بالإعصار (المفردات).
والعصر فى كل صيغه واستعماله، يرجع إلى أصل دلالته على الضغط لاستخلاص العصارة. استعملته العربية حسيّا فى عصر العنب ونحوه. ومنه «أعصر خمرا» على المجاز، والمعصرة: آلة العصر، والمعصرة: مكانه.
والعواصر: ثلاثة أحجار كانوا يعصرون بها العنب. وسميت السحب الممطرة معصرات، لما تعتصر من المطر. وأعصر القوم: أمطروا. كما أطلق الإعصار على الريح الشديدة تسوق السحب.
وتسمية الدهر عصرا، ملحوظ فيه أنه يستخلص عصارة الإنسان بالضغط والابتلاء والمعاناة. وأخذه «الراغب» من نفاية ما يعصر. وليس الوجه. وما نقله فى المعصرات من قول بأنها تأتى بالإعصار، لا يؤنس إليه سياق الآية فى المنّ بإخراج الحب والنبات وجنات ألفافا بالمعصرات، مع الاستعمال القرآنى لإعصار فيه نار أصاب جنة من نخيل وأعناب فاحترقت. كما لا يعين عليه مألوف استعمال العربية للإعصار: الريح العاتية، وللمعصرات: السحب الممطرة.
* * *70 - عضد
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ}.
فقال ابن عباس: العضد، المعين الناصر، واستشهد بقول نابغة بنى ذبيان (1):
__________
(1) من (ك، ط) وفى (تق): قول نابغة. ولم أجده فى طبعة بيروت من ديوانه.(1/416)
فى ذمّة من أبى قابوس منقذة ... للخائفين ومن ليست له عضد
(تق، ك، ط) الكلمة من آية القصص 35خطابا لموسى عليه السلام:
{قََالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخََافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هََارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسََاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي، إِنِّي أَخََافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قََالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمََا سُلْطََاناً فَلََا يَصِلُونَ إِلَيْكُمََا، بِآيََاتِنََا أَنْتُمََا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغََالِبُونَ *}
ومعها آية الكهف 51، فى إبليس وذريته:
{مََا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَلََا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمََا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}
وهما كل ما فى القرآن من المادة.
وتفسير العضد بالمعين والناصر قريب. وذكر «الراغب» استعارة العضد للمعين، كاليد، وأصله ما بين المرفق إلى الكتف (المفردات) وذلك فى الاستعمال المجازى للعضد، فى المؤازرة والتقوية، كأنه أعانه بعضده. كما استعمل الظهير فى نحو ذلك، كناية عن التقوية والمؤازرة كأنه أسنده بظهره، والساعد كأنه قواه بساعده. قال القرطبى فى تفسير الآية: أى نقويك به وهذا تمثيل، لأن قوة اليد بالعضد، قال طرفه: (1)
بنى لبينى لستم بيد ... إلّا يدا ليست لها عضد
ويقال فى دعاء الخير: شد الله عضدك. وفى ضده: فتّ فى عضدك. (الجامع 13/ 287) ومن هذا الاستعمال المجازى، جاء التعاضد والتظاهر والمساعدة، فى معنى المساندة والتقوية. والله أعلم.
__________
(1) أنشده ابن فارس فى (المقاييس) وأبو العلاء لأوس بن حجر، وروايته عندهما، كالديوان * أبنى لبينى * (الصاهل والشاحج: 467ذخائر)(1/417)
71 {فِي الْغََابِرِينَ}
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {إِلََّا عَجُوزاً فِي الْغََابِرِينَ}
فقال: عجوز فى الباقين. واستشهد بقول عبيد بن الأبرص:
ذهبوا وخلّفنى المخلّف فيهم ... فكأننى فى الغابرين غريب
(ك، ط، تق) الكلمة من آيتى الشعراء 171والصافات 135فى امرأة لوط عليه السلام:
{فَنَجَّيْنََاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلََّا عَجُوزاً فِي الْغََابِرِينَ}.
{إِذْ نَجَّيْنََاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلََّا عَجُوزاً فِي الْغََابِرِينَ}.
ومعها {مِنَ الْغََابِرِينَ} فى السياق نفسه، من آيات:
الأعراف 83، الحجر 60، النمل 57، العنكبوت 32، 33 وفيما عدا هذه الصيغة، لم يأت من المادة فى القرآن إلا «غبرة» فى آية عبس:
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهََا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهََا قَتَرَةٌ * أُولََئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}
وتفسير الغابرين بالباقين، قاله الفراء أيضا فى معنى آية الشعراء وأنشد فى معناه بيت الحارث بن حلزة:
لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدرى من الناتج (2/ 282)
لكن الأصمعى قال فى (الأضداد): الغابر الباقى، والغابر الماضى (58/ 97) قال أبو حاتم السجستاني فى أضداده: ومن الأضداد، الغابر: الباقى والماضى، والأكثر على الباقى. ومن شواهده قول العجاج:
فما ونى محمد مذ أن غفر ... له الإله ما مضى وما غبر
(153/ 269) ويبدو الفرق بين «الغابرين» والباقين، فى أن القرآن لم يستعمل «الغابرين» إلا فى سياق هذا الحديث عن امرأة لوط وقومه الفاسقين. وأما البقاء فيأتى فى
القرآن نقيض النفاد والفناء، فيما يبقى عند الله من عمل صالح، وما عند الله خير وأبقى (القصص 60والشورى 36) ورزق ربك خير وأبقى (طه 131) وفيما يخلد.(1/418)
فما ونى محمد مذ أن غفر ... له الإله ما مضى وما غبر
(153/ 269) ويبدو الفرق بين «الغابرين» والباقين، فى أن القرآن لم يستعمل «الغابرين» إلا فى سياق هذا الحديث عن امرأة لوط وقومه الفاسقين. وأما البقاء فيأتى فى
القرآن نقيض النفاد والفناء، فيما يبقى عند الله من عمل صالح، وما عند الله خير وأبقى (القصص 60والشورى 36) ورزق ربك خير وأبقى (طه 131) وفيما يخلد.
{وَيَبْقى ََ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلََالِ وَالْإِكْرََامِ} الرحمن 27 {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ََ}. الأعلى 17 {مََا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمََا عِنْدَ اللََّهِ بََاقٍ} النحل 96 {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنََا أَشَدُّ عَذََاباً وَأَبْقى ََ} طه 71ومعها: 131 {وَالْبََاقِيََاتُ الصََّالِحََاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوََاباً} الكهف 46 ومعها مريم 76وهو 86.
{وَجَعَلْنََا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبََاقِينَ} الصافات 77 {وَجَعَلَهََا كَلِمَةً بََاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} الزخرف 28 {وَبَقِيَّةٌ مِمََّا تَرَكَ آلُ مُوسى ََ} البقرة 248 ولا يقرب أن نفهمها بمعنى: غبر، فهل يحتمل (فى الغابرين) أن يكون بمعنى: فى الباقين، أو بمعنى فى الماضين الدابرين؟ فى تفسير القرطبى لآية (الشعراء 171) عن قتادة: غبرت فى عذاب الله عز وجل، أى بقيت.
وأبو عبيدة يذهب إلى أن المعنى: من الباقين فى الهرم، أى بقيت حتى هرمت.
والعربية تستعمل الغابر فيمن بقى وطال عمره، مأخوذا من الغبرة البقية فى الضرع. والغبار ما يبقى من النقع المثار. ويذهب «الراغب» فى المفردات، إلى أن الباقى قيل له غابر «تصورا بتخلف الغبار عن الذى يعدو» وأراه من الغبرة البقية، أولى.
* * *72 {لِكَيْلََا تَأْسَوْا}
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {لِكَيْلََا تَأْسَوْا عَلى ََ مََا فََاتَكُمْ}
قال: يقول، لا تحزنوا. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت بقول لبيد بن ربيعة حيث يقول (1):(1/419)
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {لِكَيْلََا تَأْسَوْا عَلى ََ مََا فََاتَكُمْ}
قال: يقول، لا تحزنوا. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت بقول لبيد بن ربيعة حيث يقول (1):
قليل الأسى فيما أتى الدهر دونه ... كريم الثنا حلو الشمائل معجب
(ظ، فى الروايتين، طب) والمسألة فى (تق، ك، ط) فى:
(فلا تأس) قال: لا تحزن، وشاهده بيت امرئ القيس (2)
وقوفا بها صحبى علىّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل
الكلمتان من آية الحديد:
{لِكَيْلََا تَأْسَوْا عَلى ََ مََا فََاتَكُمْ وَلََا تَفْرَحُوا بِمََا آتََاكُمْ، وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتََالٍ فَخُورٍ *} 23 وآيتى المائدة:
{قََالَ فَإِنَّهََا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ، فَلََا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفََاسِقِينَ *} 26 {قُلْ يََا أَهْلَ الْكِتََابِ لَسْتُمْ عَلى ََ شَيْءٍ حَتََّى تُقِيمُوا التَّوْرََاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمََا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيََاناً وَكُفْراً، فَلََا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكََافِرِينَ *} 68 ومعهما آية الأعراف {فَكَيْفَ آسى ََ عَلى ََ قَوْمٍ كََافِرِينَ} 93 فى معنى آية الحديد قال الفراء: أى لا تحزنوا (3/ 136) وفى آية المائدة قال أبو عبيدة فى المجاز: أى لا تأس ولا تجزع. والأسى الحزن. يقال أسى يأسى، وأنشد للعجاج: وانحلبت عيناه من فرط الأسى ... وللشاعر طرفه ... يقولون
__________
(1) الديوان، بشرح الطوسى: 8قال: أى متجمل فى حزنه. والثنا حسن الثناء عليه. والشمائل الطباع واحدها شمال.
(2) من لا ميته المعلقة.(1/420)
لا تهلك أسى وتجلد ... (1/ 171) وبالحزن فسر الطبرى آية الحديد عن ابن
عباس. وعنه أيضا قال: الصبر عند المصيبة والشكر عند النعمة (27/ 135) ونحوه ما فى الكشاف، وجامع القرطبى وأنشد يقولون لا تهلك أسى وتجمل
(17/ 258) وفسر «الراغب» الأسى بالحزن، وقال: وحقيقته اتباع الفائت بالغم.
وأصله من الواو لقولهم: رجل أسوان أى حزين.
وتفسير الأسى بالحزن قريب، وفيه مع هذا القرب، أن الأسى يكون على ما فات، والحزن قد يكون على حاضر أو آت: {فَلََا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخََافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلََّا يَجِدُوا مََا يُنْفِقُونَ} صدق الله العظيم.
* * *73 {يَصْدِفُونَ}
قال: يا ابن عباس، أخبرنى عن قول الله عز وجل: {يَصْدِفُونَ} (1)
قال: يعرضون عن الحق، نزلت فى قريش. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول أبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
عجبت لحلم الله عنا وقد بدا ... له صدفنا عن كلّ حقّ منزّل (2)
من (ك، ط) مع (تق) الكلمة من آيتى الأنعام:
{انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيََاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ *} 46 {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيََاتِ اللََّهِ وَصَدَفَ عَنْهََا، سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيََاتِنََا سُوءَ الْعَذََابِ بِمََا كََانُوا يَصْدِفُونَ *} 157
__________
(1) فى طبعة تق: [يصدفوك] تحريف.
(2) فى تق: قول أبى سفيان: عجبت لحكم الله فينا(1/421)
ومعها من المادة الصّدفان فى آية الكهف 96، فى ذى القرنين: {حَتََّى إِذََا سََاوى ََ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قََالَ انْفُخُوا}
وتفسير «يصدفون» ب «يعرضون عن الحق» هو من قبيل الشرح للكلمة فى سياقها، وإن كان الصّدف لمطلق الإعراض، وفيه ملحظ شدة وصلابة فى الصدّ والنفور، يأتيه من أصل استعماله اللغوى فى الصدف: صلابة فى خف البعير، يميل به فى المشى. والصّدف بفتحتين جانب الجبل المائل. وغلاف اللؤلؤ يصد عنه الأذى بصلابته. ونقل إلى الصدف مجازا، فى الصدّ وشدة النفور.
* * *74 {تُبْسَلَ}
وسأل نافع عن قوله تعالى {أَنْ تُبْسَلَ}
فقال ابن عباس: تحبس. واستشهد بقول زهير (1):
وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فقلبى مبسل غلقا
(تق) زاد فى (ك، ط): تحبس بما كسبت، فى النار الكلمة من آية الأنعام 70، خطابا للنبى عليه الصلاة والسلام:
{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا، وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمََا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهََا مِنْ دُونِ اللََّهِ وَلِيٌّ وَلََا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لََا يُؤْخَذْ مِنْهََا، أُولََئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمََا كَسَبُوا لَهُمْ شَرََابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذََابٌ أَلِيمٌ بِمََا كََانُوا يَكْفُرُونَ}.
وليس فى القرآن من المادة، غير الفعلين فى هذه الآية، مبنيين للمجهول.
معنى «أن تبسل» عند الفراء: أى ترتهن قال: والعرب تقول: هذا عليك
__________
(1) من قافيته فى مدح هرم بن سنان (الديوان 33ط الثقافة المصرية) وروايته: فأمسى الرهن قد غلقا.(1/422)
بسل، أى حرام (1/ 339) وهو فى الأضداد لابن الأنبارى يقال: للحلال والحرام (30/ 63) وفى مجاز أبى عبيدة: «أن تبسل» أى ترتهن وتسلم [الآية]: {أُولََئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا} (1/ 194).
الأقرب فى البسل أن يكون، من حبس ارتهان حرموا به الثواب كما قال الراغب، ومنه قولهم للمحروم والمرتهن مبسل.
* * *75 {أَفَلَتْ}
وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {فَلَمََّا أَفَلَتْ}
فقال ابن عباس: زالت عن كبد السماء. وشاهده قول كعب بن مالك:
فتغيّر القمر المنير لفقده ... والشمس قد كسفت وكادت تأفل
الكلمة من آية الأنعام 78، فى إبراهيم عليه السلام:
{فَلَمََّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى ََ كَوْكَباً قََالَ هََذََا رَبِّي، فَلَمََّا أَفَلَ قََالَ لََا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمََّا رَأَى الْقَمَرَ بََازِغاً قََالَ هََذََا رَبِّي، فَلَمََّا أَفَلَ قََالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضََّالِّينَ * فَلَمََّا رَأَى الشَّمْسَ بََازِغَةً قََالَ هََذََا رَبِّي هََذََا أَكْبَرُ، فَلَمََّا أَفَلَتْ قََالَ يََا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمََّا تُشْرِكُونَ}.
وفيما عدا هذه الآيات، لم ترد المادة فى القرآن الكريم.
وتفسير أفول الشمس بزوالها عن كبد السماء، هو من قبيل الشرح على وجه التقريب، فلا يفوتنا معه لمح ما فى الأفول من دلالة الغروب. والقرآن لم يستعمله إلا فى النيرات: الكوكب والقمر والشمس، إذ يغيب ضوؤها فى مغيب الغروب. وفى مجاز القرآن لأبى عبيدة: «فلما أفل» أى غاب (1/ 199) وفى الغريبين للهروى: «لا أحب الآفلين» أى التى تغيب، يقال أفلت النجوم إذا غابت (1/ 59) ولعله منقول من الآفل: المرضع ذهب لبنها، * * *(1/423)
وتفسير أفول الشمس بزوالها عن كبد السماء، هو من قبيل الشرح على وجه التقريب، فلا يفوتنا معه لمح ما فى الأفول من دلالة الغروب. والقرآن لم يستعمله إلا فى النيرات: الكوكب والقمر والشمس، إذ يغيب ضوؤها فى مغيب الغروب. وفى مجاز القرآن لأبى عبيدة: «فلما أفل» أى غاب (1/ 199) وفى الغريبين للهروى: «لا أحب الآفلين» أى التى تغيب، يقال أفلت النجوم إذا غابت (1/ 59) ولعله منقول من الآفل: المرضع ذهب لبنها، * * *
76 {كَالصَّرِيمِ}
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ}
قال: كالليل المظلم.
قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم أما سمعت بقول النابغة وهو يقول:
لا تزجروا مكفهرّا لا كفاء له ... كالليل يخلط أصراما بأصرام (1)
من (ظ، فى الروايتين، طب) وفى (تق ك، ط) قال ابن عباس:
كالذاهب. واستشهد له بقول الشاعر:
غدوت (2) عليه غدوة فوجدته ... قعودا لديه بالصريم عواذله
الكلمة من آية القلم 20:
{إِنََّا بَلَوْنََاهُمْ كَمََا بَلَوْنََا أَصْحََابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهََا مُصْبِحِينَ * وَلََا يَسْتَثْنُونَ * فَطََافَ عَلَيْهََا طََائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نََائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ *}
تأويل الصريم بالذاهب قد يراد به المصروم. وتأويله فى رواية (ظ، طب) مثل ما قاله الفراء فى معنى الآية: كالليل الأسود. وقال ابن قتيبة فى تأويل المشكل:
أى سوداء كالليل لأن الليل ينصرم عن النهار، والنهار ينصرم عن الليل (باب المقلوب) ولعل هذا وجه عدّه من الأضداد: يقال لليل وللنهار: صريم، لأن كل واحد منهما ينصرم من صاحبه فأصبحت كالصريم معناه كالليل الأسود قال زهير: غدوت عليه * البيت (الأضداد لابن الأنبارى).
__________
(1) الديوان: 221وروى الأصمعى: أز تزجروا.
(2) وقع فى مطبوعة (تق): * غدوة عليه * تصحيف. والشاهد من لامية زهير فى مدح حصن بن حذيفة بن بدر الفزازى * صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله *. ورواية الديوان:
«بكرت عليه». وعلى هامشه: ويروى * غدوت عليه * (140) وشرح المعلقات للتبريزى: ص 7ط المنبرية 313أهـ.(1/424)
وكذلك ذكره الأصمعى فى (الأضداد) وقال: ومن الصريم الليل قوله تعالى:
{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أى كالليل. وفى (الأضداد لأبى حاتم السجستانى):
والصريم الليل إذا تصرم من النهار، والنهار إذا تصرم من الليل، والصريم أيضا المصروم، وعن أبى عمرو الشيبانى، وأنشد بيت زهير: يريد الليل.
وأسند الطبرى عن ابن عباس، قال: الليل المظلم. وعنه أيضا: كالرماد الأسود وعن سفيان: كالزرع المحصود، فالصريم بمعنى المصروم.
والراغب فسر الصرم بالقطيعة. وقال فى الآية:
قيل: أصبحت كالأشجار الصريمة، أى المصروم حملها. وقيل كالليل، أى صارت سوداء لاحتراقها (المفردات) وكذلك فسر ابن الأثير والصرم بالجدع والقطع (النهاية).
ونرى دلالة القطع فى الصرم. وفى الهجر والقطيعة، وفى الصرم: البت، والصارم: القاطع، ومعنى الآية يقوى بالقطع، دون الذهاب، من حيث لا يطمئن السياق على تأويل: إذ أقسموا ليذهبن بها فأصبحت كالذاهب
والله أعلم.
* * *77 {تَفْتَؤُا}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {تَفْتَؤُا}
فقال ابن عباس: لا تزال. وشاهده قول الشاعر:
لعمرك ما تفتأ تذكر خالدا ... وقد غاله ما غال تبّع من قبل (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية يوسف 85فى حديث إخوته لأبيه:
__________
(1) كذا فى (الإتقان) والذى فى (معجم غريب القرآن): عن الإتقان:
* وقد غاله ما غال من قبل تبع * دون إشارة إلى وجه هذا العدول عن رواية الإتقان.(1/425)
{قََالُوا تَاللََّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتََّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهََالِكِينَ}
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة. وتأتى «حرضا» فى المسألة (127) وتفسيرها بمعنى: لا تزال، قاله الفراء كذلك فى معانى القرآن (2/ 54) والبخارى فى كتاب التفسير (سورة يوسف) وحكاه ابن حجر عن أبى عبيدة.
وروى الطبرى من طريق ابن أبى نجيح عن مجاهد تفتأ، أى لا تفتر عن حبه، وقيل معنى تفتأ تزال، فحذف حرف النفى (فتح البارى)، (8/ 251) وقال «الراغب»: «هى من أخوات «ما زال» تلتقى معها فى كونها مع النفى من أفعال الاستمرار».
والظاهر أن جمهرة النحاة والمفسرين حملوها على تقدير حرف لا محذوف. صرح بذلك نصر الهورينى فى حاشيته على القاموس:
قوله: «أى ما تفتأ، كذا فى سائر النسخ، والصواب: لا تفتأ، كما قدره جميع النحاة والمفسرين».
ولا نقف هنا عند الخلاف فى الحرف المحذوف المقدر: ما تفتأ، أو لا تفتأ، وإنما الذى يعنينا هو تقدير حرف نفى محذوف.
وفى «سر الحرف» بالمبحث الثانى من هذا الكتاب، سبق النظر فى هذا الحرف الذى قدروه محذوفا من آية يوسف. حملا لفعل «تفتأ»: على: لا تزال. وهدى التدبر إلى أن «فتئ» تفيد الاستمرار مستغنية عن حرف النفى، فنقول: فتئ يفعل كذا، أى استمر يفعله. وليس الأمر كذلك مع «زال»: تفيد الاستمرار بحرف النفى، فإذا زال عنها النفى كانت تامة، وأفادت معنى الزوال والذهاب.
كما فى آيات: فاطر 41وإبراهيم 41، 46 وكقولك برح وانفك، يفيدان الاستمرار مع النفى، فيلحقان ب: لا زال، فإذا زال عنهما النفى، فهما فعلان تامان على أصل معناهما فى البراح والانفكاك.
وتظل آية {تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ} على وجهها فى البيان القرآنى مفيدة معنى الاستمرار مستغنية عن تقدير حرف نفى محذوف. والله أعلم.(1/426)
كما فى آيات: فاطر 41وإبراهيم 41، 46 وكقولك برح وانفك، يفيدان الاستمرار مع النفى، فيلحقان ب: لا زال، فإذا زال عنهما النفى، فهما فعلان تامان على أصل معناهما فى البراح والانفكاك.
وتظل آية {تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ} على وجهها فى البيان القرآنى مفيدة معنى الاستمرار مستغنية عن تقدير حرف نفى محذوف. والله أعلم.
* * *78 {إِمْلََاقٍ}
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {خَشْيَةَ إِمْلََاقٍ}
فقال ابن عباس: مخافة الفقر. واستشهد بقول الشاعر:
وإنى على الإملاق يا قوم ماجد ... أعدّ لأضيافى الشواء المصهبا (1)
(تق، ك، ظ) الكلمة من آية الإسراء 31:
{وَلََا تَقْتُلُوا أَوْلََادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلََاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيََّاكُمْ}
ومعها آية الأنعام 151:
{وَلََا تَقْتُلُوا أَوْلََادَكُمْ مِنْ إِمْلََاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيََّاهُمْ}
وليس فى القرآن غيرهما، من المادة.
فسرها البخارى فى آية الإسراء بالإنفاق، وقال: يقال: أنفق الرجل أملق، ونفق الشيء ذهب (ك التفسير) قال ابن حجر: كذا ذكره هنا، والذى قاله أبو عبيدة فى «ولا تقتلوا أولادكم من إملاق» أى من ذهاب مال وفى قوله تعالى «خشية إملاق» أى فقر. (فتح البارى) 8/ 275.
وتفسير الإملاق بالفقر، على ما يبدو من قربه، فيه أن القرآن لم يستعمل الإملاق إلا فى هذا الموضع بخاصة، على حين استعمل الفقر والفقير والفقراء اثنتى عشرة مرة، لا يحتمل أن يقوم سياقها بالإملاق، فى مثل الصدقات «للفقراء
__________
(1) لم أقف على قائله. وفى (الأساس): ومن المجاز شربوا الصهباء وأكلوا المصهب وهو اللحم المختلط بالشحم (ص هـ ب) وفى الصحاح: المصهب: صفيف الشواء. وبالضاد: لحم مضهب، شوى ولم يبالغ فى نضجه.(1/427)
والمساكين» التوبة 61، البقرة 271، 273والفيء {لِلْفُقَرََاءِ الْمُهََاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيََارِهِمْ وَأَمْوََالِهِمْ} الحشر 8.
{إِنْ يَكُونُوا فُقَرََاءَ يُغْنِهِمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ} النور 32. وكذلك فى آيات:
{عَلى ََ مََا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعََامِ فَكُلُوا مِنْهََا وَأَطْعِمُوا الْبََائِسَ الْفَقِيرَ} الحج 28.
{أَنْتُمُ الْفُقَرََاءُ إِلَى اللََّهِ} فاطر 15 {وَاللََّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرََاءُ} محمد 38.
والعربية تستعمل الملق فى غسل الثوب، ورضاع الصغير أمّه. والمالق ما يملس به الحارث الأرض المثارة، ومن التمليس جاء الملق بمعنى التلطف، وأن تعطى باللسان ما ليس فى القلب.
فهل يكون الإملاق بمعنى الإنفاق، يمتص المال كما يملق الصبى أمه؟
«ابن الأثير» يذهب إلى أن الإملاق إنفاق ينفد به المال، قال: وأصل الإملاق الإنفاق، يقال أملق ما معه إملاقا، وملقه ملقا إذا أخرجه من يده ولم يحبسه، والفقر تابع لذلك، فاستعملوا لفظ السبب فى موضع المسبب حتى صار به أشهر.
(النهاية) وعلى هذا، يكون وجه التقريب فى تفسير الإملاق بالفقر، أنه إنفاق يئول إلى فقر.
وقد ألمح معه من بعيد، احتمال أن يكون البيان القرآنى فى إيثاره لفظ الإملاق فى نهى الآباء عن قتل أولادهم خشية إملاق، قد اتجه إلى لمس عاطفة الأبوة فيهم، بالكلمة التى ألفوا استعمالها فى رضاع الولد الصغير أمه. والله أعلم.
* * *79 {حَدََائِقَ}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {حَدََائِقَ}.
فقال ابن عباس: البساتين. واستشهد بقول الشاعر:
بلاد سقاها الله أمّا سهولها ... فقضب ودرّ مغدق وحدائق
(تق) (ك، ط) والسؤال فيهما فى قوله تعالى: «حدائق وأعنابا» الكلمة من آيات:(1/428)
فقال ابن عباس: البساتين. واستشهد بقول الشاعر:
بلاد سقاها الله أمّا سهولها ... فقضب ودرّ مغدق وحدائق
(تق) (ك، ط) والسؤال فيهما فى قوله تعالى: «حدائق وأعنابا» الكلمة من آيات:
النبأ 32: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفََازاً * حَدََائِقَ وَأَعْنََاباً * وَكَوََاعِبَ أَتْرََاباً}
عبس 30: {فَأَنْبَتْنََا فِيهََا حَبًّا * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا * وَحَدََائِقَ غُلْباً}.
النمل 60: {فَأَنْبَتْنََا بِهِ حَدََائِقَ ذََاتَ بَهْجَةٍ مََا كََانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهََا}.
وليس فى القرآن من المادة، غير هذه الكلمات الثلاث.
واضح أن تفسير الحدائق بالبساتين، هو من التفسير بمعرّب من لغة أخرى.
فالبستان فارسى معرب، ولم يستعمله القرآن.
والعربية تستعمل الحديقة، فيما يحدق به بناء، من شجر أو نخل. ثم شاع إطلاقه على القطعة من النخل توسعا بملحظ من إحداقه بها. وذهب «الراغب» فى المفردات، إلى أنها سميت حديقة تشبيها بحدقة العين فى الهيئة وحصول الماء فيها.
* * *80 {مُقِيتاً}
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً}
قال: قادرا. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت بقول «أحيحة بن الجلاح» (1) حيث يقول:
__________
(1) فى (وق، تق، ك، ط) لأحيحة بن الجلاح، وفى طب: للنابغة. وليس فى ديوانه. وفى شواهد الطبرى والكشاف: للزبير ابن عبد المطلب، وللزبير، أو لأبى قيس بن رفاعة، فى (اللسان: مقت) وغير منسوب فى مقاييس اللغة، والمخصص. وانظره فى شواهد الكشاف، آخر المجلد الرابع: ص 19.(1/429)
وذى ضغن كففت النفس عنه ... وكنت على مساءته مقيتا (1)
(ظ، فى الروايتين، طب) وفى (وق): قال قادرا.
وفى (تق، ك، ط) قادرا مقتدرا الكلمة من آية النساء 85:
{مَنْ يَشْفَعْ شَفََاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهََا، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفََاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهََا، وَكََانَ اللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً *}
وحيدة الصيغة فى القرآن الكريم، ومعها من مادتها «أقوات» جمع قوت، فى آية فصلت: {وَقَدَّرَ فِيهََا أَقْوََاتَهََا} 10 واللغويون والمفسرون على أن «مقيتا» من قوت، وربطها الفراء فى معنى الآية بالقوت، قال: المقيت المقدر والمقتدر، كالذى يعطى كل رجل قوته (1/ 80) وقال أبو عبيدة فى الآية: أى حفيظا محيطا، قال اليهودى (2) فى غير هذا المعنى:
ليت شعرى وأشعرنّ إذا ما ... قرّبوها مطوية ودعيت
ألى الفضل أم علىّ إذا حوس ... بت إنى على الحساب مقيت
ونقل الطبرى من اختلاف أهل التأويل فيه: حفيظا، عن ابن عباس، شهيدا عن مجاهد، وفى رواية عنه: حسيبا. وعن السدى وغيره: قديرا. والصواب قول من قال: معنى المقيت القدير، وذلك فيما ذكروا بلغة قريش وينشد للزبير بن عبد المطلب: ... وذى ضغن البيت ... قال: وأما المقيت فى بيت اليهودى،
وأنشد بيتى السموأل، فإن معناه: فإنى على الحساب موقوف، وهو من غير هذا المعنى (5/ 118).
وذكر أبو حيان فى البحر الأقوال فى تأويل الكلمة بآية النساء، وقال: «وهذه أقوال متقاربة» لاستلزام بعضها معنى بعض و «لأن القوت يمسك النفس
__________
(1) انفرد فى (طب) برواية الشطر الثانى وإنى فى مساءته مقيت
(2) يعنى السموأل: وانظر تخريج البيتين على هامش مجاز القرآن لأبى عبيدة (1/ 135).(1/430)
ويحفظها» كما قال الزمخشرى والراغب. وابن فارس فى (المقاييس: قوت).
ولعل تأويل مقيت بمقتدر، أقرب إلى سياق الآية. وإن لفت إلى فرق بين الكلمتين، أن «مقيتا» وحيدة فى القرآن، على حين كثر مجىء قادر: نكرة ومعرفة، مفردا وجمعا (14مرة) وقدير: اسما لله تعالى وصفة (45مرة) ومقتدر: مفردا أربع مرات ومرة بصيغة الجمع «فإنا عليهم مقتدرون».
وهذا الفرق الواضح فى الاستعمال، يبقى لكلمة مقيت دلالة اتصال بمادتها:
القوت، منقولة إلى الاقتدار عن طريق هذا المعنى الخاص، كما فى معانى الفراء.
قال ابن فارس فى مادة (قوت): القاف والواو والتاء أصل صحيح يدل على إمساك وحفظ وقدرة على الشيء من ذلك قوله تعالى: {وَكََانَ اللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً}.
وأنشد شاهد المسألة: ... وكنت على مساءته مقيتا ... . غير منسوب. (مقاييس
اللغة) * * *
81 {لََا يَؤُدُهُ}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {وَلََا يَؤُدُهُ}
فقال ابن عباس: لا يثقله، واستشهد بقول الشاعر:
يعطى المئين ولا يئوده حملها ... محض الضرائب ماجد الأخلاق
(تق، ك، ط) الكلمة من آية الكرسى:
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ، وَلََا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمََا، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}.
البقرة 255.
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
فسرها الطبرى كذلك ب لا يثقله. ومعه مما روى أهل التأويل: لا يكثر عليه.(1/431)
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
فسرها الطبرى كذلك ب لا يثقله. ومعه مما روى أهل التأويل: لا يكثر عليه.
لا يعز عليه. وقال القرطبى: لا يثقله، عن ابن عباس وغيره. آده الحمل أثقله.
وفى (س) من المجاز: آدنى هذا الأمر، بلغ منى المجهود والمشقة.
ولا يفوتنا مع ذلك أن القرآن استعمل الثقل نحو أربعين مرة، إما على أصل معناه فى الوزن والموازين والمثقال، وإما فى الأثقال حسية ومعنوية.
ولعل الفرق بين الثقل والأود، أن الوزن أصل فى معنى الثقل، وأما الأود ففيه معنى العوج والمشقة، فكأن الإثقال فيه جاء من جهد المشقة، لاحتماله أو لإقامة اعوجاجه. والله أعلم.
* * *82 {سَرِيًّا}
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}
ما السرى؟ قال: هو النهر الصغير. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت بقول لبيد بن ربيعة؟ وهو يقول:
فتوسّطا عرض السرىّ وصدّعا ... مسجورة متجاورا أقلامها (1)
(ظ) فى الروايتين. وزاد فى الأولى بالإسناد عن ابن عباس، قال: أما سمعت قول القائل:
سلم ترى الدالى منه أزورا ... إذا يعجّ فى السرىّ هرهرا (2)
وفى (تق): السرى النهر الصغير. زاد
__________
(1) من معلقته، وضمير المثنى للحمار والأتان.
ورواية الديوان: * متجاورا قلّامها * ومثلها فى شواهد الطبرى والكشاف والقرطبى والبحر، فى تفسير الآية.
والقلام نبت، قيل هو القصب. (شرح التبريزى).
(2) فى شواهد القرطبى: إذا يعبّ فى السرىّ هرهرا(1/432)
فى (ك، ط): وهو الجدول أيضا وشاهده فيها:
سهل الخليفة (1) ماجد ذو نائل ... مثل السرىّ تمده الأنهار
وأورده ابن الأنبارى فى غير المسائل فأسند عن الحسن البصرى، أبى سعيد أنه تلا الآية وقال: كان والله سريا. يعنى عيسى عليه السلام فقال له خالد بن صفوان:
يا أبا سعيد، إن العرب تسمى الجدول سريا. قال: صدقت (وق:
فقرة 114).
الكلمة من آية مريم 24:
{فَنََادََاهََا مِنْ تَحْتِهََا أَلََّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} (2)
وحيدة الصيغة فى القرآن.
ومعها من مادتها جاء فعل السّرى مضارعا فى آية الفجر {وَاللَّيْلِ إِذََا يَسْرِ}
وفعل الإسراء ماضيا فى آية الإسراء: {سُبْحََانَ الَّذِي أَسْرى ََ بِعَبْدِهِ} وجاء فعل الأمر منه خمس مرات، كلها من الأمر الإلهى للنبىّ لوط فى آيتى هود 81والحجر 65، وموسى فى آيات طه 77والشعراء 53والدخان 23: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ}:
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ}.
تفسير السرى بالنهر الصغير، والجدول هو المعروف من كلام العرب (معانى القرآن للفراء، فى الآية، والوقف والابتداء: 114، وشرح التبريزى للشاهد من معلقة لبيد، ومعاجم اللغة) لكنه فى آية مريم عليها السلام، أحد الأقوال فى
__________
(1) وقع فى مطبوعة (تق): [سهل الخليفة]
(2) (من تحتها) قراءة نافع وحمزة والكسائى، وحفص عن عاصم. وقرأ الباقون: (من تحتها) (التيسير للدانى: 148).(1/433)
تأويلها. ومعه مما روى الطبرى من اختلاف أهل التأويل: أنه نهر عيسى، عن ابن عباس. وعنه أيضا: الذى كان تحت مريم حين ولدته عليهما السّلام. وهو نهر بالسريانية عن مجاهد والضحاك، والجدول الصغير بالقبطية عن سعيد بن جبير.
وقيل: هو عيسى نفسه، عن الحسن وغيره. قالوا: لو كان النهر لكان إنما يكون إلى جنبها، لا: من تحتها. والقولان فى (مفردات الراغب، وجامع القرطبى والبحر لأبى حيان) ولعلهما من اختلاف القراء الأئمة فى قراءة الآية.
والشواهد من الشعر، صريحة فى معنى النهر أو الجدول. وكون النهر من تحتها، فيه ملحظ الخفاء فى استعمال القرآن، والعربية، للسّرى والإسراء. قد يؤنس إلى دلالة السرى، بمعنى النهر الصغير والجدول، أن دلّت عليه مريم عليها السلام، من حيث لم تتوقع، مع سياق الآيات فى الأكل من رطب النخلة، والشرب. قال تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكََاناً قَصِيًّا * فَأَجََاءَهَا الْمَخََاضُ إِلى ََ جِذْعِ النَّخْلَةِ قََالَتْ يََا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هََذََا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا * فَنََادََاهََا مِنْ تَحْتِهََا أَلََّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسََاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً}.
ولعل ملحظ الخفاء، هو الفرق الدقيق بين سرى، لم تأت غير مرة واحدة، والنهر والأنهار، وقد جاءا فى القرآن الكريم خمسين مرة. والله أعلم * * *
83 {دِهََاقاً}
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {وَكَأْساً دِهََاقاً}
قال ابن عباس: ممتلئة. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت بقول خداش بن زهير:
أتانا عامر يرجو قرانا ... فأترعنا له كأسا دهاقا (1)
(ظ، فى الروايتين، وفى (تق): ملاء وفى (ك، ط): الكأس الخمر، والدهاق الملآن الكلمة من آية النبأ 34:(1/434)
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {وَكَأْساً دِهََاقاً}
قال ابن عباس: ممتلئة. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت بقول خداش بن زهير:
أتانا عامر يرجو قرانا ... فأترعنا له كأسا دهاقا (1)
(ظ، فى الروايتين، وفى (تق): ملاء وفى (ك، ط): الكأس الخمر، والدهاق الملآن الكلمة من آية النبأ 34:
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفََازاً * حَدََائِقَ وَأَعْنََاباً * وَكَوََاعِبَ أَتْرََاباً * وَكَأْساً دِهََاقاً}
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
وتفسير دهاق بممتلئة، كما عند الجمهرة من اللغويين والمفسرين، أو مفعمة كما قال «الراغب» فى (المفردات) مترعة كما فى (الكشاف) على ما يبدو من قربه، يلحظ معه أن البيان القرآنى خصّ «كأسا دهاقا» بذلك المقام فى نعيم المتقين بدار الخلد، على كثرة استعماله لمادة ملأ: فعلا سبع مرات، ومصدرا مرة، واسم فاعل للجمع مرتين.
ويغلب أن تأتى على اختلاف صيغها فى سياق خاصّ، كآية الكهف 18 {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرََاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً}
والوعيد كآية آل عمران 91:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمََاتُوا وَهُمْ كُفََّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى ََ بِهِ، أُولََئِكَ لَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ وَمََا لَهُمْ مِنْ نََاصِرِينَ}
أو النذير بعذاب المجرمين فى جهنم، وما يملئون به بطونهم من طلع شجرة الزقوم، بصريح آيات:
الأعراف 17: خطابا لإبليس: {قََالَ اخْرُجْ مِنْهََا مَذْؤُماً مَدْحُوراً، لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}
ومعها آيات: هود 119، السجدة 13، ص 85
__________
(1) وقع فى مطبوعة الإتقان: [يرجو قرأنا فانزعنا له] ولم ينسب الشاهد فيها ولا فى (ك، ط).(1/435)
ق 30: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}
الواقعة 53: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضََّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمََالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشََارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشََارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} ومعها آية الصافات 66 ثم إن العربية تتصرف فى مادة (ملأ) على سعة، خلافا للدهق الذى قلما يستعمل إلا فى كأس دهاق، وأدهقت الكأس، والحوض. فلعل بين المادتين فرق عموم وخصوص. والله أعلم.
* * *84 {لَكَنُودٌ}
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {إِنَّ الْإِنْسََانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} ما الكنود؟
قال: الكفور. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت بقول أبى زبيد الطائى:
إن تفتنى [فلم] أطب عنك نفسا ... غير أنى أمنّى بدهر كنود
(ظ) فى الروايتين. وفى (تق) كنود للنعم، وهو الذى يأكل وحده ويمنع رفده. زاد فى (ك، ط): ويجيع عبده. وشاهده فى الثلاثة، قول الشاعر:
شكرت له يوم العكاظ نواله ... ولم أك للمعروف ثمّ كنودا
* * * الكلمة من آية العاديات 6:
{إِنَّ الْإِنْسََانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلى ََ ذََلِكَ لَشَهِيدٌ *}.(1/436)
شكرت له يوم العكاظ نواله ... ولم أك للمعروف ثمّ كنودا
* * * الكلمة من آية العاديات 6:
{إِنَّ الْإِنْسََانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلى ََ ذََلِكَ لَشَهِيدٌ *}.
نقل فيها الفراء فى (معانى القرآن): قال الكلبى: وزعم أنها لغة فى كندة وحضرموت: لكنود: لكفور بالنعمة. وقال الحسن: لوام لربه يعد المسيئات وينسى النعم (3/ 285) وتأويلها فى المسألة، رواه الطبرى، والقرطبى وأبو حيان، عن ابن عباس وغيره، ورووا فيه حديث أبى أمامة الباهلى عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال:
(الكنود هو الذى يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده) وعن ابن عباس مرفوعا بلفظ: (من نزل وحده ومنع رفده وجلد عبده) أخرجهما الحكيم الترمذى فى نوادر الأصول.
وعن ابن عباس أيضا أنه قال: الكنود بلسان كندة وحضرموت: العاصى، وبلسان ربيعة ومضر: الكفور، وبلسان كنانة: البخيل السيئ الملكة (الطبرى، والزمخشرى، والقرطبى، وأبو حيان) والمعانى متقاربة، وفى (مفردات الراغب) أنه الكفران بنعمة الله.
والأرجح أنها ترجع إلى الأرض الكنود: تعصى على الزرع فلا تنبت، فهى عاصية وبخيلة، ثم كثر استعماله فى الكافر بالنعمة، لا يؤدى حقها، وذلك أسوأ البخل. وقريب منه: الجحود بمعنى نكران الجميل والمعروف.
وأقرب معانيها إلى آية العاديات، أنه الجحود والكفران بنعمته تعالى، والله أعلم (1).
* * *85 {فَسَيُنْغِضُونَ}
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ}
فقال ابن عباس: يحركون رءوسهم استهزاء. واستشهد بقول الشاعر:
__________
(1) قدمت شرح الآية فى سياق سورتها، بالجزء الأول من (التفسير البيانى): سورة العاديات.(1/437)
أتنغض لى يوم الفخار وقد ترى ... خيولا عليها كالأسود ضواريا (1)
(تق) (ك، ط) وفيهما: استهزاء «برسول الله صلى الله عليه وسلم» الكلمة من آية الإسراء 51: خطابا للنبى عليه الصلاة والسلام فى الظالمين من قومه:
{وَقََالُوا أَإِذََا كُنََّا عِظََاماً وَرُفََاتاً أَإِنََّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُوا حِجََارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمََّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ، فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنََا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى ََ هُوَ، قُلْ عَسى ََ أَنْ يَكُونَ قَرِيباً}.
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة.
وتأويلها فى المسألة بتحريك الرأس استهزاء، رواه الطبرى بإسناده عن ابن عباس وقتادة. وتأويلها عنده: فسيهزون لك رءوسهم برفع وخفض، وكذلك المنغض فى كلام العرب إنما هو حركة ارتفاع ثم انخفاض، أو انخفاض ثم ارتفاع ولذلك سمى الظليم نغضا لأنه إذا عجل المشى ارتفع وانخفض وحرك رأسه. وهو قريب من قول الفراء فى معانى القرآن.
فالإنغاض بمعنى التحريك، من التقريب الذى لا يفوتنا معه ما لم يفت الفراء والطبرى والراغب من ملحظ اضطراب الحركة وارتجافها فى النغض والإنغاض، فليس كل تحرّك إنغاضا بل الاهتزاز والاضطراب أصل فى دلالة النغض (مقاييس اللغة).
ويقوى المعنى إذا فهمنا الآية بهذا الملحظ من الارتجاف والاضطراب حين يصك سمعهم البرهان المفحم: {قُلْ كُونُوا حِجََارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمََّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ، فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنََا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
وتخونهم الطمأنينة، فينم عنها إنغاض رءوسهم، وإن لجوا فى العناد:
__________
(1) فى مطبوعة (تق): (كالأسور ضراريا) بالراء، تصحيف.(1/438)
{وَيَقُولُونَ مَتى ََ هُوَ، قُلْ عَسى ََ أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} صدق الله العظيم.
86 {يُهْرَعُونَ}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ}.
فقال ابن عباس: يقبلون إليه بالغضب. وشاهده قول الشاعر: (1)
أتونا يهرعون وهم أسارى ... نسوقهم على رغم الأنوف
(تق، ك، ط) الكلمة من آية هود 78 {وَلَمََّا جََاءَتْ رُسُلُنََا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضََاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقََالَ هََذََا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجََاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كََانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئََاتِ، قََالَ يََا قَوْمِ هََؤُلََاءِ بَنََاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللََّهَ وَلََا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}
ومعها آية الصافات 70، فى الظالمين الضالين:
{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبََاءَهُمْ ضََالِّينَ * فَهُمْ عَلى ََ آثََارِهِمْ يُهْرَعُونَ * وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ}.
وليس فى القرآن غيرهما من المادة.
ولعل قيد الغضب فى التفسير المروى عن ابن عباس، احتراز من قوله: يقبلون إليه. وفى الإقبال ملحظ قبول. وكذلك قيده اللغويون بالرعدة أو الضعف والخوف، وإن لحظ فيه معنى المشى فى سرعة واضطراب. الهراع كغراب، مشى فى اضطراب، وسرعة وأقبل يهرع بالضم. وأهرع فهو مهرع: قال ابن السكيت فى باب الجبن وضعف القلب: «وجاء قومه يهرعون إليه» إهراعا وهى الرعدة إذا ذهبت عقولهم (تهذيب الألفاظ 181). ونقل القرطبى فى تفسير الآية: قال الكسائى والفراء وغيرهما من أهل اللغة: لا يكون إهراع إلا إسراعا مع رعدة.
وأنشد بيت مهلهل.
__________
(1) البيت لمهلهل، وفى شعراء الجاهلية: نقودهم على رغم الأنوف وهى الرواية فى تفسير الطبرى والقرطبى وأبى حيان لآية هود.(1/439)
والمهروع: المجنون يصرع، والمصروع من الجهد (س، ق) وأخذه «الراغب» من السوق بعنف وتخويف، قال: هرع وأهرع، ساقه سوقا بعنف وتخويف، قال تعالى: يهرعون إليه المفردات.
وإن كان سياق آية هود فى قوم لوط، يفهم أنهم ما جاءوه يهرعون إليه غاضبين أو خائفين، وإنما يهرعون إليه فى جنون الشهوة. لفعل السيئات مع ضيفه.
كما أن سياق آية الصافات، أقرب إلى أن يعطى أنهم على آثار آبائهم «يهرعون» تقليدا أهوج ومتابعة حمقاء طائشة.
وفى الكلمة حس السرعة مع الاضطراب والعنف وطيش الاندفاع، وبناؤه للمجهول، فى آيتى هود والصافات، يعطيه دلالة هذا الاندفاع غير الإرادى كأنهم يساقون بعنف مغلوبين على أمرهم بشهوة فسقهم، أو بتقليد أعمى ومسايرة طائشة على آثار آباء لهم ضالين.
وكذلك الشاهد من قول الشاعر:
أتونا يهرعون وهم أسارى
لا يشهد للإقبال بالغضب، وإنما هو اضطراب أسارى مغلوبين على أمرهم يساقون إلى الأسر على رغم الأنوف.
* * *87 {الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}
فقال ابن عباس: بئس اللعنة. بعد اللعنة. واستشهد بقول نابغة بنى ذبيان (1):
لا تقذفنّى بركن لا كفاء له ... وإن تأثّفك الأعداء بالرفد
(وق، ك، ط) وفى (تق): بئس اللعنة.
__________
(1) لم ينسبه فى (تق) ووقع فيها [وان تأسفك] وهو كما فى (وق، ك، ط) للنابغة، من داليته:
يا دارمية بالعلياء فالسند * ورواية الديوان كما هنا، وفى شرحه: تأثفك اجتمعوا حولك مثل الأثافى من القدر.
والرفد واحدها رفدة، يرفد بعضهم بعضا.(1/440)
الكلمتان من آية هود 99، فى فرعون وملئه:
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النََّارَ، وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هََذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ، بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}.
وحيدتان فى القرآن، صيغة ومادة.
وتأويلها فى المسألة، باللعنة بعد اللعنة، مستفاد من التصريح بلعنة أتبعوها فى هذه، ويوم القيامة.
والرفد فى العربية الصلة والعطاء، يقال: رفده، وصله وأعطاه، والرفود الناقة لا ينقطع لبنها، والرافدان: نهرا دجلة والفرات. والترافد: التعاون، ومنه الرفادة، كانت لقريش فى الجاهلية يترافدون فيها لطعام الحاج فى الموسم.
وملحظ التتابع يفهم فى آية هود من لعنة فى هذه ويوم القيامة، مع سياق الآية قبلها: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النََّارَ، وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}.
* * *88 {تَتْبِيبٍ}
وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {غَيْرَ تَتْبِيبٍ}.
فقال ابن عباس: تخسير. واستشهد بقول بشر بن أبى خازم:
هم جدعوا الأنوف فأوعبوها (1) ... وهم تركوا بنى سعد تبابا
(تق، ك، ط) الكلمة من آية هود 101بعد الآية فى المسألة السابقة:
__________
(1) فى مطبوعة تق: [هم جذعوا الأنوف فأوعبوها] وفى (ك، ط) فأوهنوها * وقوله: تبابا * رواية ابن الشجرى فى مختاراته. ورواية الديوان، تحقيق د. عزة حسن للشطر الثانى:
* وهم تركوا بنى سعد يبابا قال فى شرحه: «أوعبوها، استأصلوها. وبنو سعد، بن زيد مناة. واليباب الخراب». وليس محل الشاهد.(1/441)
{ذََلِكَ مِنْ أَنْبََاءِ الْقُرى ََ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهََا قََائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمََا ظَلَمْنََاهُمْ وَلََكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَمََا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمََّا جََاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمََا زََادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}.
وحيدة الصيغة فى القرآن، وجاء فى مادتها:
الفعل الثلاثى ماضيا فى آية المسد 1: {تَبَّتْ يَدََا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}.
وتباب فى آية غافر 37:
{وَكَذََلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ، وَمََا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلََّا فِي تَبََابٍ}.
وهذا كل ما فى القرآن من المادة.
وتأويل التتبيب بالتسخير، تقريب لا يفوتنا معه أن القرآن لم يستعمله إلا فى لعنة الضلال، وأما الخسر فقد يحتمل الخسارية المادة، نقيض الربح، فى التجارة ومثلها. ومنه فى القرآن ثلاث آيات مع الوزن والكيل (المطففون 3، والرحمن 9، والشعراء 181) ومنه نقل إلى الخسر المجازى فى المعنويات، وإلى المعنى الدينى فيمن خسروا الدنيا والآخرة، وهو الغالب فى الاستعمال القرآنى (1).
ومن معانى التّبّ فى العربية: النقص والخسار، والهلاك. وإليه ذهب ابن الأثير فى حديث أبى لهب: «تبّا لك، ألهذا جمعتنا»؟ قال: التبّ الهلاك وهو منصوب بفعل مضمر متروك الإظهار (النهاية) وأورده ابن السكيت فى باب الدعاء على الإنسان بالبلاء والأمر العظيم (تهذيب الألفاظ) وتبب على القوم دعا عليهم بالتب (س).
والعربية قلما تستعمل التبّ إلا فى الهلاك، والتبّوب، كالتنور: المهلكة، وما انطوت عليه الأضلاع من ضغن أو هم. وتقول: تبّا له أى سحقا وهلاكا.
ولا أعرف أنها استعملت التبّ فى الخسارة المادية أو التعامل التجارى. وهذا الملحظ، فى الفرق بين الخسر والتبّ، يجلوه البيان القرآنى فى استعماله للكلمتين يظن أنهما تترادفان فتفسر إحداهما بالأخرى. والله أعلم.
__________
(1) انظر استقراء الاستعمال القرآنى للخسر، فى تفسير سورة العصر، بالجزء الثانى من (التفسير البيانى).(1/442)
89 {هَيْتَ لَكَ}:
قال: أخبرنى عن قول الله تعالى: {هَيْتَ لَكَ} (1)
قال: هلم لك، قال فيه أحيحة بن الجلاح (2):
به أحمى المضاف إذا دعانى ... إذا ما قيل للأبطال هيتا
(وق) وفى (تق) قال ابن عباس:
تهيأت لك.
زاد فى (ك، ط): قم فاقض حاجتى.
الكلمة من آية يوسف 23فى امرأة العزيز:
{وَرََاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهََا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوََابَ وَقََالَتْ هَيْتَ لَكَ، قََالَ مَعََاذَ اللََّهِ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوََايَ، إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الظََّالِمُونَ}.
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
وتفسير ابن عباس، كأنه على قراءة من قرأ: هيت لك، بالكسر أى تهيأت.
وفسره الراغب فقال: هيت، قريب من هلمّ، وقرئ: هيت، أى تهيأت (المفردات).
ولم يذكر الفيروزآبادى: هيت، فى المهموز، والذى قاله فيه: (الهيئة) الهيء والهيء الدعاء إلى الطعام والشراب، ودعاء الإبل للشرب
وأما كلمة: هيت، فجاء بها فى حرف التاء، لا الهمزة. وذكر فيها كسر أوله
__________
(1) قرأ نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر (هيت) بفتح الهاء والتاء، وبغير همز، وقرأ ابن كثير: (هئت) بكسر الهاء والهمزة. وقرأ باقى السبعة: هيت) بفتح الهاء، وبغير همز (التيسير للدانى).
(2) فى (تق): أحيحة الأنصارى، وتصحف فى (ك، ط) وانظره رضى الله عنه، فى الاصابة: القسم الأول من حرف الهمزة.(1/443)
قال: وهيت لك، مثلثة الآخر وقد يكسر أوله، أى هلم. والهيت الغامض من الأرض.
على أنهم نقلوا فى تفسير آية يوسف عن ابن عباس، والحسن: هيت كلمة سريانية تدعوه إلى نفسها. وقال السدى: معناها بالقبطية: هلم لك. قال أبو عبيد: كان الكسائى يقول: هى لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز:
معناه: تعال. وبه قال عكرمة. وقال مجاهد وغيره: هى لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها وهى كلمة حث وإقبال.
(جامع القرطبى: سورة يوسف) 9/ 164 * * *
90 {عَصِيبٌ}
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {يَوْمٌ عَصِيبٌ}.
فقال ابن عباس: شديد. ولما سأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ أجاب:
نعم، أما سمعت قول الشاعر:
هم ضربوا قوانس خيل حجر (1) ... بجنب الرّده فى يوم عصيب
(تق، ك) الكلمة من آية هود 77:
{وَلَمََّا جََاءَتْ رُسُلُنََا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضََاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقََالَ هََذََا يَوْمٌ عَصِيبٌ}.
وحيدة الصيغة فى القرآن.
ومن مادتها، جاءت كلمة «عصبة» أربع مرات فى آيات: يوسف 8، 14 والنور 11والقصص 76.
وتأويل «عصيب» بشديد فى المسألة، هو ما فى جمهرة كتب التفسير، وأورده
__________
(1) فى مطبوعة الإتقان: [هم ضربوا فونس خل حجر] وفى (ك) * بجنب الرد * ولم ينسبه فيهما، والقوانس، جمع قونس: أعلى الرأس. وانظر جنب الرأس. وانظر جنب الرد. وجنب الردة، فى حرف الراء من بلدان ياقوت، مع ديوان بشر ابن أبى حازم: 26ط دمشق 1960.(1/444)
ابن السكيت فى باب نعوت الأيام فى شدتها (ته 422) وكذلك فسره «الراغب» فقال: يوم عصيب، شديد. يصح أن يكون بمعنى فاعل وأن يكون بمعنى مفعول، أى يوم مجموع الأطراف. والعصبة جماعة متعصبة متعاضدة. (المفردات).
نظر فى معصوب إلى معنى الجمع فى العصبة. وأما شديد، فوجه التقريب فيه واضح، مع ملحظ من شدة وطأته على العصب بخاصة، فيفترق بذلك عن «شديد» الذى قد يأتى بمعنى قوىّ وحصين محكم، ومنه فى القرآن آية الحديد {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنََافِعُ لِلنََّاسِ} وآية هود 80، فى لوط وقومه: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى ََ رُكْنٍ شَدِيدٍ}
ولا يحتمل مثل هذا السياق، أن يفسر شديد بعصيب: كما لا يحتمله سياق آيات الشدّ فى التقوية والإحكام، كقوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنََاهُمْ وَشَدَدْنََا أَسْرَهُمْ وَإِذََا شِئْنََا بَدَّلْنََا أَمْثََالَهُمْ تَبْدِيلًا} الإنسان 28ومعها:
ص 20، فى داود عليه السلام: {وَشَدَدْنََا مُلْكَهُ وَآتَيْنََاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطََابِ}.
طه 31: فى حديث موسى عليه السّلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هََارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}.
قال القرطبى فى تفسير يوم عصيب، أى شديد فى الشر. مكروه، مجتمع الشر (9/ 74).
* * *91 {مُؤْصَدَةٌ}
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {مُؤْصَدَةٌ}.
قال ابن عباس: مطبقة. واستشهد بقول الشاعر:
تحنّ إلى أجبال مكة ناقتى ... ومن دوننا أبواب صنعاء موصده
(تق) وفى (ك، ط) قال ابن عباس:(1/445)
تحنّ إلى أجبال مكة ناقتى ... ومن دوننا أبواب صنعاء موصده
(تق) وفى (ك، ط) قال ابن عباس:
أبواب النار على الكفار مطبقة. وسقط من (ط).
الكلمة من آيتى: الهمزة فى نار الله الموقدة، نذيرا لكل همزة لمزة:
{إِنَّهََا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} 7 (1).
والبلد 20: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيََاتِنََا هُمْ أَصْحََابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نََارٌ مُؤْصَدَةٌ *}.
ولم يأت فى القرآن من المادة غير هذه الصيغة فى الآيتين، ومعهما (الوصيد) فى آية الكهف 18: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقََاظاً وَهُمْ رُقُودٌ، وَنُقَلِّبُهُمْ ذََاتَ الْيَمِينِ وَذََاتَ الشِّمََالِ، وَكَلْبُهُمْ بََاسِطٌ ذِرََاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ، لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرََاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً}.
فسرها ب: مطبقة كذلك، البخارى وأبو عبيدة والفراء. وقيل فيها أيضا:
مغلقة، وقيل مبهمة لا يدرى ما داخلها (القرطبى)، يقال: آصدت، وأوصدت إيصادا، وقيل: يجوز أن تكون قراءة موصدة، من آصدت وسهل الهمزة.
وتفسير مؤصدة بمطبقة أولى من مغلقة. ومعنى الإطباق مستفاد كذلك من لفظ «عليهم» إذ تفيد من الملاصقة والإطباق المباشر ما لا تفيد «فوقهم» لاحتمال أن تكون الفوقية غير ملاصقة ولا مطبقة.
وأما الإيصاد فأصل معناه: الإغلاق المحكم. والعربية استعملت الوصيد للبيت الحصين يتخذ للمال من حجارة فى الجبال. واستوصد فى الجبل: اتخذ فيه وصيدا. ولا نخطئ دلالة الإيصاد على الإغلاق المحكم فى الآيات الثلاث للمادة: نار الله الموقدة، مؤصدة على كل همزة لمزة، وعلى الذين كفروا أصحاب المشأمة، وكلب أهل الكهف باسط ذراعيه بالوصيد. وقد لمح «الراغب» معنى الإحكام مع الإطباق، فقال فى آيتى الهمزة والبلد: يقال أوصدت الباب أى أطبقته وأحكمته. والوصيد المتقارب الأصول (المفردات).
__________
(1) قرأ حفص وأبو عمرو وحمزة فى الآيتين: مؤصدة بالهمزة، وحمزة إذا وقف أبدلها واوا. وقرأ الباقون (موصدة) بغير همز (التيسير للدانى).(1/446)
ولم أدر وجه تقارب الأصول فى الوصيد، وإنما يفهم من قرب بمعنى الباب الموصد بإحكام. واكتفى «ابن الأثير» بالإغلاق فقال فى حديث الغار «فوقع الجبل على باب الكهف فأوصده»: أى سده. يقال: أوصدت الباب وأصدته إذا أغلقته. (النهاية).
ولا نرى الإيصاد مجرد إغلاق، وإنما هو السدّ المحكم والإطباق كما يفهم من نص الحديث: فوقع الجبل على باب الكهف فأوصده.»
وهو القريب المتبادر أيضا فى الشاهد من قول الشاعر:
ومن دوننا أبواب صنعاء موصده (1)
* * *
92 {يَسْأَمُونَ}
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {لََا يَسْأَمُونَ}
فقال ابن عباس: لا يفترون ولا يملّون، واستشهد بقول الشاعر:
من الخوف لا ذو سأمة من عبادة ... ولا هو من طول التعبّد يجهد
(تق، وبزيادة فى (ك، ط):
الملائكة لا يفترون ولا يملون عن العبادة.
الكلمة من آية فصلت 38:
{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَهُمْ لََا يَسْأَمُونَ}.
ومعها آيتا، فصلت 49:
{لََا يَسْأَمُ الْإِنْسََانُ مِنْ دُعََاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ}
والبقرة 282فى كتابة الدّين:
__________
(1) خدمت الإيصاد بمزيد تفصيل، فى آية الهمزة، الجزء الثانى من (التفسير البيانى). والبيت من شواهد الكشاف وجامع القرطبى والبحر المحيط، غير منسوب فيها.(1/447)
{وَلََا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى ََ أَجَلِهِ، ذََلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللََّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهََادَةِ وَأَدْنى ََ أَلََّا تَرْتََابُوا}.
وتفسير «لا يسأمون» ب: لا يفترون ولا يملون، وجه التقريب فيه أن فى السآمة معنى الملل. قال فى (القاموس): سئم الشيء ومنه، كفرح ملّ فهو سئوم.
وكذلك فسره «ابن الأثير» بالملل فى حديث: «إن الله لا يسأم حتى تسأموا» قال:
لا يمل حتى تملوا، وهو الرواية المشهورة. والسآمة الملالة والضجر (النهاية) على ألا يفوتنا فى السآمة، معنى الملل مما يتكرر. وهو ما التفت إليه الراغب فقال إنها: الملالة مما يتكرر ويكثر لبثه، فعلا كان أو انفعالا قال تعالى: «وهم لا يسأمون وقال: «لا يسأم الإنسان من دعاء الخير» وقال الشاعر زهير بن أبى سلمى:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا، لا أبا لك، يسأم
وأما الفتور، فيما نقل عن ابن عباس فى تفسير الكلمة، فيأتى نتيجة للسآمة أو مظهرا لها، من حيث يفتر الإنسان عما سئمه وملّه.
* * *93 {أَبََابِيلَ}
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {أَبََابِيلَ}
فقال ابن عباس: ذاهبة وجائية تنقل الحجارة بمناقيرها، فتبلبل عليهم رءوسهم. ولما سأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ أجاب: نعم، أما سمعت قول الشاعر: (1)
وبالفوارس من ورقاء قد علموا ... أحلاس خيل على جرد أبابيل
(تق) زاد فى (ك، ط) بمناقيرها، وأرجلها.
__________
(1) الشاهد غير منسوب فى الثلاثة. وهو للبيد بن ربيعة، ورواية الديوان بشرح ثعلب لعجز البيت.
إخوان صدق على جرد أبابيل.(1/448)
الكلمة من آية الفيل، فى أصحابه:
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبََابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجََارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}.
وحيدة فى القرآن كله.
لا واحد لها من لفظها، وقيل فى واحدها: أبالة بالتخفيف وأبّالة بالتشديد، وأبول وأبابيل كعجول وعجاجيل، وإيبالة كدينار ودنانير (الفراء، والأزهرى عنه، وثعلب فى شرح ديوان لبيد، والهروى فى الغريبين) وقيل إبّيل كسكين وسكاكين، قياسا لا سماعا. وأبّول (القرطبى).
قال أبو عبيدة فى مجاز القرآن، وذكر الآية: ولم نر أحدا يجعل لها واحدا (2/ 312) وفسرها البخارى بمتتابعة مجتمعة، عن مجاهد. قال ابن حجر: وصله الفريابى عنه فى قوله: شتى متتابعة (فتح البارى 8/ 516) وقال ثعلب فى شرح ديوان لبيد:
متفرقة تأتى من كل وجه يتبع بعضها بعضا.
والعربية كررت الباء واللام فيما فيه ملحظ اضطراب واختلاط، بلبلة الأسنّة، أى اختلاطها. وبلبل القوم: هيّجهم. ومنه البلبلة فى عجمة اللسان واضطراب مسلكه فى النطق من اختلاط الألسنة، والبلبل: للطائر المعروف ينطق مرددا الصوت والنغم دون وعى أو إبانة. وفارقت العربية بين الحسى فى البلبلة، والمعنوى فى البلبال، للهم الشديد يضطرب له البال من اختلاط الوساوس وكثرة الهواجس. وكل ذلك مما يعطى كلمة «أبابيل» حس البلبلة والبلبال، ثم تأخذ من سياق الآية، ما فى شرح ابن عباس من «بلبلة رءوسهم بما تنقل من حجارة».
وإن قصّرت جملة: تنقل من حجارة، عن التعبير القرآنى: «ترميهم بحجارة من سجيل» وقصّر الشرح: تبلبل عليهم رءوسهم، عن التدمير الساحق الماحق، فى قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}.
فضلا عما لا وجه له من تقييد نقل الحجارة بمناقيرها، والآية أطلقت الرمى من قيد بالمناقير، أو بالأرجل كما فى (ك، ط) أو بالمخاطب والله أعلم.(1/449)
وإن قصّرت جملة: تنقل من حجارة، عن التعبير القرآنى: «ترميهم بحجارة من سجيل» وقصّر الشرح: تبلبل عليهم رءوسهم، عن التدمير الساحق الماحق، فى قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}.
فضلا عما لا وجه له من تقييد نقل الحجارة بمناقيرها، والآية أطلقت الرمى من قيد بالمناقير، أو بالأرجل كما فى (ك، ط) أو بالمخاطب والله أعلم.
* * *94 {ثَقِفْتُمُوهُمْ}
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {ثَقِفْتُمُوهُمْ}.
فقال ابن عباس: وجدتموهم. سأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال:
نعم، أما سمعت قول حسان:
فإمّا تثقفنّ بنى لؤىّ ... جذيمة إنّ قتلهم دواء
الكلمة من آيتى: البقرة 191:
{وَقََاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ الَّذِينَ يُقََاتِلُونَكُمْ وَلََا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، وَلََا تُقََاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ حَتََّى يُقََاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قََاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذََلِكَ جَزََاءُ الْكََافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
والنساء 91: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ، كُلَّمََا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهََا، فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، وَأُولََئِكُمْ جَعَلْنََا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطََاناً مُبِيناً}
ومعهما الفعل الماضى مبنيّا للمجهول فى آيتى: آل عمران 112فى الفاسقين من أهل الكتاب {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مََا ثُقِفُوا}.
والأحزاب 61: فى المنافقين والذين فى قلوبهم، مرض والمرجفين فى المدينة {مَلْعُونِينَ أَيْنَمََا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}
وجاء الفعل مضارعا، فى آيتى:
الأنفال 57:
{الَّذِينَ عََاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لََا يَتَّقُونَ * فَإِمََّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.(1/450)
الأنفال 57:
{الَّذِينَ عََاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لََا يَتَّقُونَ * فَإِمََّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
والممتحنة 2: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيََاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمََا جََاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيََّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللََّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهََاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغََاءَ مَرْضََاتِي، تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمََا أَخْفَيْتُمْ وَمََا أَعْلَنْتُمْ، وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوََاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدََاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ، وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}.
وهذه الكلمات الست، هى كل ما فى القرآن من المادة.
حرصت على نقل آياتها جميعا، ليتضح سياقها فى القتال والعداوة. فتفسيرها ب: وجدتموهم لا يفوتنا معه ملحظ اختصاص الكلمة بهذا السياق، فى كل آياتها.
بالقرآن، وكذلك فى الشاهد الشعرى من همزية حسان رضى الله عنه. وقد فسرها الطبرى ولم يذكر فيها خلافا ب: اقتلوهم حيث أصبتم مقاتلهم وأمكنكم قتلهم. وهو معنى (حيث ثقفتموهم) ومعنى الثقفة بالأمر الحذق به والبصر. يقال:
إنه ثقف لقف، إذا كان جيد الحذر بصيرا بمواقع القتل. فأما التثقيف فمعنى غير هذا وهو التقويم. فمعنى الآية، اقتلوهم فى أى مكان تمكنتم من قتلهم وأبصرتم مقاتلهم (2/ 111البقرة) ومعنى الكلمة عند الفراء: أسرتهم (1/ 414).
وردّ «الراغب» الكلمة فى آيات آل عمران والأنفال والأحزاب، إلى معنى الحذق والإدراك (المفردات).
وابن الأثير فسرها بالفطنة والذكاء فى حديث الهجرة: «وهو غلام لقن ثقف» وفى حديث أم حكيم بنت عبد المطلب: «إنى حصان فما أكلّم، وثقاف فما أعلّم» وأخذه من التثقيف والإصلاح فى قول السيدة عائشة أم المؤمنين تصف أباها:
«وأقام أودها بثقافه» تعنى أنه سوّى عوج المسلمين، وأما فى حديث: «إذا ملك اثنا عشر من بنى عمرو بن كعب كان الثقف والثقاف» ففسرهما ابن الأثير بالخصام والجلاد (النهاية).
والعربية تعرف فى المادة معنى الفطنة، فى الثقافة بمعنى الحذق. وتقول: ثقف فلانا، إذا أخذه وظفر به أو أدركه. كما تعرف الثّقاف بمعنى الخصام والجلاد، مأخوذا من الثقاف: ما تسوى به الرماح تهيئة للجلاد (ص، س، ق) وغير بعيد أن نلمح فى آيات (ثقف) فى القرآن، دلالة فطنة المأخذ وإدراك العدو وجلاده. ويتضح الفرق بينها وبين (وجد) إذا ذكرنا مع ما تقدم من استقراء لمواضع استعمال الكلمة فى سياق العداوة والقتال، أن القرآن وإن استعمل (وجد) فى السياق نفسه، فى آيتى: النساء فى المنافقين {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمََا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوََاءً فَلََا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيََاءَ حَتََّى يُهََاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلََا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلََا نَصِيراً} 89 والتوبة فى المشركين: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تََابُوا وَأَقََامُوا الصَّلََاةَ وَآتَوُا الزَّكََاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 5 إلا أن «وجد» تأتى كثيرا فى البيان القرآنى فى غير هذا السياق، أذكر منها آيات الضحى خطابا للرسول عليه الصلاة والسلام:(1/451)
«وأقام أودها بثقافه» تعنى أنه سوّى عوج المسلمين، وأما فى حديث: «إذا ملك اثنا عشر من بنى عمرو بن كعب كان الثقف والثقاف» ففسرهما ابن الأثير بالخصام والجلاد (النهاية).
والعربية تعرف فى المادة معنى الفطنة، فى الثقافة بمعنى الحذق. وتقول: ثقف فلانا، إذا أخذه وظفر به أو أدركه. كما تعرف الثّقاف بمعنى الخصام والجلاد، مأخوذا من الثقاف: ما تسوى به الرماح تهيئة للجلاد (ص، س، ق) وغير بعيد أن نلمح فى آيات (ثقف) فى القرآن، دلالة فطنة المأخذ وإدراك العدو وجلاده. ويتضح الفرق بينها وبين (وجد) إذا ذكرنا مع ما تقدم من استقراء لمواضع استعمال الكلمة فى سياق العداوة والقتال، أن القرآن وإن استعمل (وجد) فى السياق نفسه، فى آيتى: النساء فى المنافقين {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمََا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوََاءً فَلََا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيََاءَ حَتََّى يُهََاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلََا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلََا نَصِيراً} 89 والتوبة فى المشركين: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تََابُوا وَأَقََامُوا الصَّلََاةَ وَآتَوُا الزَّكََاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 5 إلا أن «وجد» تأتى كثيرا فى البيان القرآنى فى غير هذا السياق، أذكر منها آيات الضحى خطابا للرسول عليه الصلاة والسلام:
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ََ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ََ * وَوَجَدَكَ عََائِلًا فَأَغْنى ََ}.
ص 44، فى أيوب: {إِنََّا وَجَدْنََاهُ صََابِراً، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوََّابٌ}
طه 10: {وَهَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ مُوسى ََ * إِذْ رَأى ََ نََاراً فَقََالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نََاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهََا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النََّارِ هُدىً}.
يوسف 94: {قََالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}.
الكهف 37: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى ََ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهََا مُنْقَلَباً}.
الجن 22: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللََّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً}
المزمل 20: {وَمََا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللََّهِ} والبقرة 110.
مما يؤنس إلى أن (وجد) أعم فى الدلالة من (ثقف) التى تأخذ فى العربية دلالة
الثقافة والثقاف، وتأتى فى البيان القرآنى بملحظ من فطنة للعدو، وبصر بموضعه ومأخذه والله أعلم.(1/452)
مما يؤنس إلى أن (وجد) أعم فى الدلالة من (ثقف) التى تأخذ فى العربية دلالة
الثقافة والثقاف، وتأتى فى البيان القرآنى بملحظ من فطنة للعدو، وبصر بموضعه ومأخذه والله أعلم.
* * *95 {نَقْعاً}
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً}
فقال ابن عباس: النقع ما يسطع من حوافر الخيل. سأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول حسان:
عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع، موعدها كداء (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية العاديات:
{وَالْعََادِيََاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيََاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرََاتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً * إِنَّ الْإِنْسََانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة.
وتفسير النقع المثار بما يسطع من حوافر الخيل، تقريب أخذ السطوع من الآية قبله: {فَالْمُورِيََاتِ قَدْحاً} دون أن يكون فى النقع نفسه معنى السطوع. فالنقع الغبار، أو التراب كما فى تفسير الطبرى للآية ولم ينقل فيها خلافا. وهو ما فى معانى القرآن للفراء (3/ 285) وأكثر ما تستعمله العربية بهذا المعنى، فيما يثار من الخيل العاديات، ولعل ملحظ التقريب فى شرحه بما يسطع من حوافر الخيل، جاء من كون النقع المثار فى الغارة، يسطع فيه من شدة العدو، ما توريه حوافر الخيل من قدح الشرر (2).
* * * __________
(1) وقع فى مطبوعة الإتقان: [قدمنا خيلنا] وفى (ك ط) [موعدها كفاء] والبيت من همزية حسان بن ثابت رضى الله عنه يوم فتح مكة. روجع على رواية الديوان (73) وابن اسحاق فى السيرة (الهشامية 4/ 64)
(2) انظر سورة العاديات فى الجزء الأول من (التفسير البيانى)(1/453)
96 {سَوََاءِ الْجَحِيمِ}
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {فِي سَوََاءِ الْجَحِيمِ}.
فقال ابن عباس: فى وسط الجحيم. سأله ابن الأزرق: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
رماها بسهم فاستوى فى سوائها ... وكان قبولا للهوادى الطوارق (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية الصافات 55، فى عباد الله المخلصين، فى الجنة:
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ يَتَسََاءَلُونَ * قََالَ قََائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كََانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذََا مِتْنََا وَكُنََّا تُرََاباً وَعِظََاماً أَإِنََّا لَمَدِينُونَ * قََالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوََاءِ الْجَحِيمِ * قََالَ تَاللََّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ}.
ويأتى معها لفظ سواء فى ست وعشرين آية، سياقها فى معنى التساوى والتسوية والعدل. وسبقت المسألة (55) فى {سَوََاءٍ بَيْنَنََا وَبَيْنَكُمْ}
وتفسير الكلمة فى آية الصافات بالوسط، قريب من أصل دلالة الكلمة على الموضع الوسط بين الأطراف. والعربية تستعمل المساواة فى المعادلة المعتبر فيها بالموازين والمقادير والمقاييس، ملحوظا فيها التساوى بين مقدارين، كما تستعمل سواء فى المكان المتوسط بين مكانين. وينقل ذاك مجازيّا إلى المعنويات، فى مثل كلمة {سَوََاءٌ} أى عدل، و {سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ}، أى يستوى الأمران.
وفى آية الصافات، ذهب الراغب كذلك إلى أن «سواء الجحيم» بمعنى وسط الجحيم، وقال: ومكان سوى وسواء، وسط أى يستوى طرفاه. ويستعمل ذلك وصفا وظرفا، وأصل ذلك مصدر (المفردات) وبالوسط فسرها الفراء فى المعانى.
والأصمعى وابن السكيت وابن الأنبارى، فى (الأضداد) لهم.
__________
(1) وقع فى مطبوعة (تق): [للهوادى الطوارق](1/454)
وقال ابن الأثير فى (النهاية): «وسواء الشيء وسطه، لاستواء المسافة إليه من الأطراف» والوسط المكانى هو المعنى القريب، ولعله ليس مرادا، بل هو من الكناية المراد بها: صميم الجحيم.
والشاهد من بيت الشاعر يقوى أيضا بحمله على الكناية. وكذلك حديث أبى بكر رضى الله عنه: «أمكنت من سواء الثغرة» قال ابن الأثير فى النهاية: «أى وسط ثغرة البحر» وأطمئن فيه إلى دلالة الكناية فيه، على معنى صميم الثغرة.
والله أعلم.
* * *97 {مَخْضُودٍ}
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {سِدْرٍ مَخْضُودٍ}
فقال ابن عباس: الذى ليس له شوك. واستشهد بقول أمية بن أبى الصلت:
إن الحدائق فى الجنان ظليلة ... فيها الكواعب سدرها مخضود (1)
(تق) وفى (ك، ط) قال: الذى ليس بشوك الكلمة من آية الواقعة 28فى نعيم الآخرة:
{وَأَصْحََابُ الْيَمِينِ * مََا أَصْحََابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}.
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
وأما كلمة سدر، فجاءت فى آية سبأ 16: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}.
__________
(1) فى مطبوعة الإتقان: [إن الحدائق فى الجبان ظليلة] روجع فى ديوان أمية (26) وهو من شواهد القرطبى وأبى حيان فى تفسير الآية.(1/455)
وتفسير سدر مخضود بالذى ليس له شوك، يفهم منه أنه نبت بغير شوك، وقد يكون كذلك فى الجنة والله أعلم. وقد روى فيه الطبرى بإسناده عن ابن عباس وعكرمة وقتادة: الذى ذهب شوكه فلا شوك له. على أن كلمة مخضود تدل على معنى قطع الشوك منه، من قول العربية خضد الشجر فهو مخضود وخضيد، بمعنى مقطوع الشوك. وفيه يفترق مخضود عن مقطوع بأن الخضد يكون للشوك أو لما هو ليّن منه (ص، س، ق) وأما القطع ففيه معنى الإبانة والبتر والبتّ.
وبهذا الملحظ فى الفرق بين الخضد والقطع أو الكسر، تحتفظ الكلمة القرآنية بخاصّ دلالتها على التشذيب والتجريد من الشوك، دون حاجة إلى التصريح بلفظه. على حين لو قلنا: سدر مكسور أو مقطوع، لاقتضى أن نقيدهما بالشوك صراحة، وهو قول الطبرى والزمخشرى والقرطبى وأبى حيان، فى تفسير الآية، وقول «الراغب» فى الآية: أى مكسور الشوك. وقول ابن الأثير: أى الذى قطع شوكه.
* * *98 {هَضِيمٌ}
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {طَلْعُهََا هَضِيمٌ}
فقال ابن عباس: منضم بعضه إلى بعض، ولما سأله نافع وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول امرئ القيس:
دار لبيضاء العوارض طفلة ... مهضومة الكشحين ريّا المعصم (1)
(تق) وفى (ك، ط) قال: متصل بعضه إلى بعض الكلمة من آية الشعراء 148، فى ثمود، قوم صالح:
__________
(1) من (ك، ط) ووقع فى مطبوعة (تق):
دار لبيضاء [العواذل] [رياء المعصم] ولم أجده فى ديوان امرئ القيس.(1/456)
{أَتُتْرَكُونَ فِي مََا هََاهُنََا آمِنِينَ * فِي جَنََّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهََا هَضِيمٌ}.
وحيدة الصيغة فى القرآن، وليس معها فيه من مادتها غير المصدر فى آية طه 112:
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصََّالِحََاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلََا يَخََافُ ظُلْماً وَلََا هَضْماً}
تأويل هضيم فى المسألة بانضمام، أو اتصال، بعضه ببعض، كأنه نظر فيه إلى * مهضومة الكشحين * فى الشاهد الشعرى، والهضم فيهما لطف تضام (تهذيب الألفاظ: باب صفات النساء، ومعاجم: (مقاييس اللغة، ص، س: ك ش ح) والطبرى روى فى الآية من اختلاف أهل التأويل بإسناده عن ابن عباس، قال:
أينع ونضج فهو هضيم. وعن آخرين: هو المتهشم المتفتت، وقال آخرون: هو من الرطب اللين تهضمه، وقال غيرهم: الراكب بعضه بعضا. وأولى الأقوال عنده بالصواب، أن الهضيم هو المتكسر من لينه ورطوبته وقال الراغب: الهضم شدخ ما فيه رخاوة «طلعها هضيم» أى داخل بعضه فى بعض كأنه شدخ (المفردات) والعربية تعرف هذه المعانى الثلاثة فى المادة، ولعلها ترجع فيها إلى هضم الطعام، والهضوم والهاضوم كل ما هضم طعاما، وبملحظ منه جاء الهضم خمص البطن ولطف الكشح وقلة انجفار الجنبين. وتجوّزت فاستعملته فى هضم المال ومنه جاء مطلق الهضم فى الإنهاك والجور، ومنه آية طه: {فَلََا يَخََافُ ظُلْماً وَلََا هَضْماً}.
فلعل كلمة «هضيم» فى آية الشعراء، من انضمام طلع النخل، وتراكبه، مع حس دلالته الأصيلة على يسر الهضم ولين الجنى. والله أعلم.
* * *
99 {سَدِيداً}(1/457)
* * *
99 {سَدِيداً}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {قَوْلًا سَدِيداً}
فقال ابن عباس: قولا عدلا. واستشهد بقول حمزة:
أمين على ما استودع الله قلبه ... فإن قال قولا كان فيه مسددا
(تق) وفى (ك، ط): قولا عدلا حقا الكلمة من آيتى:
النساء 9: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعََافاً خََافُوا عَلَيْهِمْ، فَلْيَتَّقُوا اللََّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً}.
والأحزاب 70: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً}
وليس فى القرآن من السداد غيرهما. وفيه من المادة سدّ، مفردا فى آيتى يس 9: {وَجَعَلْنََا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنََاهُمْ فَهُمْ لََا يُبْصِرُونَ}
والكهف 94: {قََالُوا يََا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى ََ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنََا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}.
ومثنى فى آية الكهف 92: {حَتََّى إِذََا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمََا قَوْماً لََا يَكََادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا}.
فى آية النساء، روى الطبرى من اختلاف أهل التأويل، أنه الحق، عن ابن عباس، والعدل والإحسان، والنهى عن الحيف والجور، وقيل هو التعريف بما أباح الله فى الوصية، وهذا أولى الأقوال عنده بالصواب، ولا تكاد أقوال المفسرين تخرج عن هذا، وإن بسطوا القول فى شرح الآية وسبب نزولها.
وتفسير «سديد» بعدل وحق، لا يفوتنا معه ملحظ اختصاص الكلمة بالقول فى الآيتين وفى الشاهد من قول حمزة، بن عبد المطلب رضى الله عنه. مع التفات إلى ما فى السداد من معنى الاستقامة والصواب (الراغب).
وأصل السدد فى العربية ما تسدّ به الثلمة، ومنه السدادة، والسّدة: واقية من
المطر. والسدّ: الحاجز المانع أو الواقى. ونقل إلى السداد بمعنى الاستقامة، والسداد التوفيق إلى الصواب من القول والعمل والأمر، على حين يغلب اختصاص العدل بالأحكام، نقيض الظلم والجور، ومنه العدل بمعنى المساواة.(1/458)
وأصل السدد فى العربية ما تسدّ به الثلمة، ومنه السدادة، والسّدة: واقية من
المطر. والسدّ: الحاجز المانع أو الواقى. ونقل إلى السداد بمعنى الاستقامة، والسداد التوفيق إلى الصواب من القول والعمل والأمر، على حين يغلب اختصاص العدل بالأحكام، نقيض الظلم والجور، ومنه العدل بمعنى المساواة.
ويبدو الفرق الدقيق بين سديد وعدل، إذا تدبرنا الاستعمال القرآنى للعدل.
فيهدينا سياق آياته، إلى معنى المساواة فى مثل آيات:
الأنعام 1: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}. ومعها آية الأنعام 150 النساء 3: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلََّا تَعْدِلُوا فَوََاحِدَةً} ومعها آية النساء 129 النساء 135: {فَلََا تَتَّبِعُوا الْهَوى ََ أَنْ تَعْدِلُوا}.
وقريب منه معنى العوض فى آيات: البقرة 48، 123، والأنعام 70.
وبمعنى العدالة فى الحكم وما يجرى مجراه كالتحكيم والشهادة، بصريح آيات الأحكام.
المائدة 95، 106، والطلاق 2.
النساء 58: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا وَإِذََا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النََّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ومعها آية الحجرات 9 البقرة 282: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}
المائدة 8: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوََّامِينَ لِلََّهِ شُهَدََاءَ بِالْقِسْطِ وَلََا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ََ أَلََّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ}.
ويأتى العدل فى البيان القرآنى متعلقا بالكلمة والقول، فى سياق الحكم العادل نقيض الظلم والجور، كآيتى الأنعام:
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لََا مُبَدِّلَ لِكَلِمََاتِهِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 115 {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزََانَ بِالْقِسْطِ لََا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا، وَإِذََا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كََانَ ذََا قُرْبى ََ وَبِعَهْدِ اللََّهِ أَوْفُوا، ذََلِكُمْ وَصََّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 152 فلعل السداد أخص بالقول والرأى، صوابا وإصلاحا. ودلالة العدل أعم، مع غلبة مجيئها فى الأحكام، والله أعلم.
* * *
100 - الإلّ(1/459)
* * *
100 - الإلّ
قال: أخبرنى عن قول الله تعالى: {لََا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلََا ذِمَّةً} ما الإلّ؟
قال: الرحم، قال فيه حسان:
لعمرك إنّ إلّك من قريش ... كإلّ السّقب من رأل النعام (1)
(وق) وفى (تق، ك، ط) قال: الإل القرابة، وشاهده فيها قول الشاعر:
جزى الله إلّا كان بينى وبينهم ... جزاء ظلوم لا يؤخّر عاجلا
الكلمة من آيتى التوبة 8، 10فى المشركين:
{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لََا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلََا ذِمَّةً، يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوََاهِهِمْ وَتَأْبى ََ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فََاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيََاتِ اللََّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، إِنَّهُمْ سََاءَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ * لََا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلََا ذِمَّةً، وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}
وحيدة الصيغة والمادة، لم ترد فى غير هذا الموضع.
ممن فسرها بالقرابة: ابن الأنبارى فى (الأضداد) والهروى فى (الغريبين) والزمخشرى فى (س) وابن الأثير فى حديث أم زرع: «وفىّ الإلّ كريم الخلّ» (النهاية).
وقال الراغب: الإلّ كل حالة ظاهرة من عهد حلف أو قرابة (المفردات).
ومن معانى الإلّ فى العربية: العهد والحلف والجار والقرابة
وأسند الطبرى عن مجاهد من عدة طرق: أن {إِلََّا} * فى آية التوبة: الله عز وجل. قال الطبرى: الأولى أن يقال إن الإل على معان ثلاثة: العهد والعقد والحلف والقرابة: وهو أيضا بمعنى الله، ولم تخص الآية معنى دون آخر، فالصواب أن يعم ذلك (10/ 59).
__________
(1) من أبيات له فى هجاء الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومى قبل إسلامه (الديوان: 105).(1/460)
101 {خََامِدُونَ}
: وسأل نافع عن قوله تعالى: {خََامِدِينَ}.
فقال ابن عباس: ميتين. واستشهد له بقول لبيد:
خلّوا ثيابهم على عوراتهم ... فهم بأفنية البيوت خمود (1)
(تق) وفى (ك، ط) قال:
أصبح قوم صالح فى ديارهم ميتين.
الكلمة من آية الأنبياء 15:
{وَكَمْ قَصَمْنََا مِنْ قَرْيَةٍ كََانَتْ ظََالِمَةً وَأَنْشَأْنََا بَعْدَهََا قَوْماً آخَرِينَ * فَلَمََّا أَحَسُّوا بَأْسَنََا إِذََا هُمْ مِنْهََا يَرْكُضُونَ * لََا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ََ مََا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسََاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ * قََالُوا يََا وَيْلَنََا إِنََّا كُنََّا ظََالِمِينَ * فَمََا زََالَتْ تِلْكَ دَعْوََاهُمْ حَتََّى جَعَلْنََاهُمْ حَصِيداً خََامِدِينَ}. ومعها آية «يس» فى أصحاب القرية:
{إِنْ كََانَتْ إِلََّا صَيْحَةً وََاحِدَةً فَإِذََا هُمْ خََامِدُونَ} 29.
لم يأت غيرهما من المادة.
والأكثر عند أهل العربية وأهل التأويل، تفسيرها بالهمود كما تخمد النار وتطفأ (البخارى: ك التفسير، سورة الأنبياء. وأبو عبيدة فى مجاز القرآن) ولم يذكر الطبرى خلافا فى تأويلها بالهمود كما تخمد النار. وأسنده عن ابن عباس بلفظ:
خامدين خمود النار إذا طفئت. قال الزمخشرى: نار خامدة وقد خمدت، سكن لهبها وذهب حسيسها، وللنار وقدة ثم خمدة. على أنه ذكر من المجاز: خمدت الحمى سكنت، وخمد فلان مات أو أغمى عليه «فإذا هم خامدون» (س) ونحوه فى مفردات الراغب.
__________
(1) وقع فى مطبوعة (تق) [حلوا ثيابهم] وقوله: * خمود * كما فى الثلاثة، هو محل الشاهد. ورواية الديوان، ط الكويت:
فهم بأفنية البيوت همود ... ولا محل فيها للشاهد.(1/461)
فلنذكر معه أن القرآن الكريم لم يستعمل الكلمة إلا فى أهل القرية، وقرية كانت ظالمة، وقد استعمل الموت نحو مائة وعشرين مرة، بمختلف الصيغ، الفعل الماضى ثلاثيا ورباعيا، ومضارعهما وأمر الثلاثى، والاسم والمصدر: موت وممات، واسمى المرة والهيئة: موتة وميتة، وميت، وأموات وموتى وميتون
واضح من سياقها الموت مقابل الحياة، فهو تعالى الذى يحيى ويميت، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وكل نفس ذائقة الموت.
وطبيعية الموت المحتوم على كل كائن حى، ليست الملحوظة فى الذين حقّت عليهم، بظلمهم، لعنة القصم الماحق لا يبقى ولا يذر، والهلاك المباغت لا مفر منه.
ودلالة الأخذ المباغت، صريحة فى «صيحة واحدة» بآية يس، وفى «إذا» الفجائية فى آية الأنبياء. فالخمود فى هذا السياق، والله أعلم، همود يباغت من أخذتهم صيحة واحدة، وهم فى عنفوان الحياة وغرور الأمل وضجيج التكالب على الدنيا، وهو شلل الحركة فيمن يركضون التماسا لمهرب لما رأوا بأس الله عز وجل، حين لا يجدى ركضهم ولا ينفعهم إقرارهم بظلمهم {حَتََّى جَعَلْنََاهُمْ حَصِيداً خََامِدِينَ} صدق الله العظيم.
* * *102 {زُبَرَ الْحَدِيدِ}
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {زُبَرَ الْحَدِيدِ}.
فقال ابن عباس: قطع الحديد. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول كعب بن مالك:
تلظّى عليهم حين أن شدّ حميها ... بزبر الحديد والحجارة ساجر (1)
(تق، ك، ط)
__________
(1) فى (ك، ط) * والحجارة زابر * وما هنا من (تق) ورواية ابن إسحاق للبيت فى رائية كعب بن مالك الأنصارى، رضى الله عنه يوم بدر: تلظى عليهم وهى قد شبّ حميها / ساجر * ضبط فى طبعة الحلبى: شبّ حميها * وليس السياق.(1/462)
الكلمة من آية الكهف 96:
{قََالُوا يََا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى ََ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنََا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قََالَ مََا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتََّى إِذََا سََاوى ََ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قََالَ انْفُخُوا حَتََّى إِذََا جَعَلَهُ نََاراً قََالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطََاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطََاعُوا لَهُ نَقْباً}
وحيدة الصيغة فى القرآن، ومعها زبر، بضمتين: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً، كُلُّ حِزْبٍ بِمََا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}
المؤمنون 53.
والزبور، فى آية: الأنبياء 105، وزبور، مفردا فى آيتى النساء 162 والإسراء 55. والجمع زبر، بآيات: آل عمران 184، والنحل 44، والشعراء 196، وفاطر 25، والقمر 43، 52.
ولم يذكر الطبرى خلافا فى تأويل زبر الحديد بقطع الحديد عن ابن عباس وغيره. أو فلق الحديد، عن قتادة (سورة الكهف) مع التفات إلى أن القرآن استعمل قطعا من الليل ثلاث مرات، ومعها قطع فى الأرض متجاورات بآية الرعد (4).
ويبدو أن الزّبرة، واحدة الزبر، يغلب استعمالها فى قطع الحديد بوجه خاص، منقولا إليها بملحظ القوة، من الزبرة بمعنى الكاهل، والشعر المجتمع بين كتفى الأسد. (س) فى (مقاييس اللغة) لمادة زبر أصلان: أحدهما يدل على إحكام الشيء، ومنه زبرة الحديد، القطعة منه، والجمع زبر. والآخر يدل على قراءة وكتابة وما أشبه ذلك، ومنه الزبور، جمعة زبر.
وفى الزبر دلالة القوة والشدة، ويذهب «الراغب» إلى أن الزبور كل كتاب غليظ الكتابة، وخص الكتاب المنزل على داود. وقيل بل الزبور كل كتاب صعب الوقوف عليه من الكتب الإلهية: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} المفردات.(1/463)
وفى الزبر دلالة القوة والشدة، ويذهب «الراغب» إلى أن الزبور كل كتاب غليظ الكتابة، وخص الكتاب المنزل على داود. وقيل بل الزبور كل كتاب صعب الوقوف عليه من الكتب الإلهية: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} المفردات.
103 {فَسُحْقاً}
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {فَسُحْقاً}.
فقال ابن عباس: بعدا. واستشهد بقول حسان:
ألا من مبلغ عنّى أبيّا ... فقد ألقيت فى سحق السعير (1)
(تق) ورد فى (ك، ط): يهجو أبى بن خلف الكلمة من آية الملك 11:
{وَقََالُوا لَوْ كُنََّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مََا كُنََّا فِي أَصْحََابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحََابِ السَّعِيرِ}.
وحيدة الصيغة فى القرآن، ومعها سحيق فى آية الحج 31:
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللََّهِ فَكَأَنَّمََا خَرَّ مِنَ السَّمََاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكََانٍ سَحِيقٍ}
سحقا: بعدا، هو تأويل الطبرى للكلمة وأسنده بهذا اللفظ عن ابن عباس.
والقرآن خصّ السحق بهذا السياق فى نذير الكفار المشركين، على حين استعمل البعد بدلالة أعم، فمنه البعد المكانى فى الشقة والأسفار وبعد المشرقين، والبعد الزمانى فى أمد بعيد، وفى مقابل قريب زمنا، ومنه البعد المجازى فى شقاق وضلال ورجع بعيد، وبعدا للقوم الظالمين، ولعاد ولثمود ولمدين
والبعد نقيض القرب، حسيّا ومعنويّا. وأمّا السحق ففيه دلالة انسحاق وتفتّت، من أصل معناه فى تفتيت المسحوق، ومنه قيل السحق، للثوب البالى.
وفى (مقاييس اللغة) لمادة سحق أصلان: أحدهما البعد ومنه {فَسُحْقاً لِأَصْحََابِ السَّعِيرِ}
__________
(1) البيت من إضافات الديوان (389) وهو من أبيات رواها ابن اسحاق لحسان رضى الله عنه، فى مقتل «أبى بن خلف» من طواغيت قريش قافلا من أحد (السيرة: 3/ 90).(1/464)
والآخر إنهاك الشيء حتى يبلغ به إلى حال البلى، ومنه السحق الثوب البالى.
ودلالة الهلاك فى {فَسُحْقاً} واضحة. ويقرب كذلك أن يفهم «سحيق» فى آية الحج، بالهاوية، من نصها {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكََانٍ سَحِيقٍ} كما يفهم قول حسان رضى الله عنه * سحق السعير * بغور السعير.
* * *104 {غُرُورٍ}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {إِلََّا فِي غُرُورٍ}.
فقال ابن عباس: فى باطل. ولما سأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال:
نعم، أما سمعت قول حسان:
تمنّيك الأمانى من بعيد ... وقول الكفر يرجع فى غرور (1)
(تق) زاد فى (ك، ط): يهجو أبىّ بن خلف الكلمة من آية الملك 20:
{أَمَّنْ هََذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمََنِ، إِنِ الْكََافِرُونَ إِلََّا فِي غُرُورٍ}.
ومعها آية الأعراف، فى الشيطان وآدم وزوجته:
{فَدَلََّاهُمََا بِغُرُورٍ فَلَمََّا ذََاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمََا سَوْآتُهُمََا}
وآيتا النساء 120، والإسراء 64: {وَمََا يَعِدُهُمُ الشَّيْطََانُ إِلََّا غُرُوراً}
وفاطر 40: {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظََّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلََّا غُرُوراً}
__________
(1) فى مطبوعة (تق): [تمنتك] وما هنا من (ك، ط) وهى رواية ابن إسحاق لأبيات حسان، رضى الله عنه فى مقتل أبى بن خلف، مرّ منها شاهد المسألة 103 (السيرة 3/ 90).
وهو من إضافات الديوان، بلفظ ... تمنى بالضلالة من بعيد (389).(1/465)
والأنعام 112: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}
والأحزاب 12: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنََافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مََا وَعَدَنَا اللََّهُ وَرَسُولُهُ إِلََّا غُرُوراً}
لقمان 33، فاطر 5: {وَلََا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللََّهِ الْغَرُورُ} ومعها الحديد 14.
الحديد 20: {وَمَا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا إِلََّا مَتََاعُ الْغُرُورِ} وآل عمران 185.
وسياقها فيمن غرتهم الدنيا، والشيطان والأمانى وزخرف القول، وما يعد الظالمون بعضهم بعضا، يحتمل التفسير بالباطل عن قرب، مع التفات إلى ما فى الغرور من غفلة ظاهره، ينخدع فيها المغرور لا يدرى زيف ما يغره. ومنه قولهم صبحهم الجيش وهم غارون، أى غافلون (س) وأطلق الراغب: الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشيطان (المفردات).
* * *105 {حَصُوراً}
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {وَحَصُوراً}.
فقال ابن عباس: الذى لا يأتى النساء. واستشهد بقول الشاعر:
وحصور عن الخنا يأمر النا ... س (1) بفعل الخيرات والتشمير
(تق، ك، ط) الكلمة من آية آل عمران 39، خطابا لزكريا عليه السلام:
{فَنََادَتْهُ الْمَلََائِكَةُ، وَهُوَ قََائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرََابِ أَنَّ اللََّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى ََ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللََّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصََّالِحِينَ}.
وحيدة الصيغة فى القرآن، ومعها من مادتها آيات:
{حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} النساء 90 {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} التوبة 5 {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} البقرة 196
__________
(1) فى مطبوعة الإتقان: [يأمر أنا لنا].(1/466)
{لِلْفُقَرََاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ} البقرة 273 لم يختلف أهل اللغة فى أن أصل الحصر من الحبس والمنع. ومنه قيل: حصور لمن يمتنع عن النساء لا يأتيهن (ص، س، ل، ق).
وهو القول فى معنى «حصور» عند الفراء (1/ 213) وردّها أهل التأويل كذلك إلى هذا الأصل، مع تعدد أقوالهم فى تأويلها: قيل الذى لا يأتى النساء كأنه ممنوع عنهن، وهو قول الطبرى وأسنده عن ابن مسعود. وعنه أيضا وعن ابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء والحسن والسدى، وغيرهم: أنه الذى يكف نفسه عن النساء ولا يقربهن مع القدرة. وهذا أصح الأقوال عند القرطبى، فى مقام المدح والثناء، لأن الثناء لا يكون إلا عن الفعل المكتسب دون الجبلّة. وهو قريب من قول الراغب: فالحصور الذى لا يأتى النساء إما من أنفته وإما من العفة والاجتهاد فى إزالة الشهوة. والثانى أظهر فى الآية لأنه بذلك يستحق المحمدة (المفردات).
وسياق البشرى فى الآية يؤنس إليه. وهو متعين فى الشاهد:
وحصور عن الخنا ... وإلا انصرف إلى الذم والهجاء.
* * *106 {عَبُوساً قَمْطَرِيراً}
قال: يا ابن عباس، أخبرنى عن قول الله عزّ وجلّ: {عَبُوساً قَمْطَرِيراً}
قال: الذى ينقبض وجهه من شدة الوجع، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر (1) وهو يقول:
ولا يوم الحساب وكان يوما ... عبوسا فى الشدائد قمطريرا
(ك، ط، تق) الكلمة من آية الإنسان 10، فى الأبرار:
{إِنََّا نَخََافُ مِنْ رَبِّنََا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقََاهُمُ اللََّهُ شَرَّ ذََلِكَ الْيَوْمِ وَلَقََّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً}.
__________
(1) لم ينسبه فى الثلاثة، وهو بيت مفرد فى ديوان أمية بن أبى الصلت: 37.(1/467)
السؤال فيما يبدو، عن قمطرير.
وحيدة فى القرآن كله، صيغة ومادة.
وتفسيرها بالذى ينقبض وجهه من شدة الوجع، لا يبدو قريبا فى صفة يوم عبوس قمطرير، وقد فسره البخارى فى سورة الإنسان: بالشديد. يقال يوم قمطرير ويوم قماطر. والعبوس والقمطرير والقماطر العصيب، أشد ما يكون من الأيام فى البلاء. قال ابن حجر: هو كلام أبى عبيدة بتمامه. وقال الفراء:
والقمطرير الشديد، يقال يوم قمطرير وقماطر (فتح البارى 8/ 483ومعانى القرآن للفراء 3/ 216) وأورده ابن السكيت فى باب نعوت الأيام وشدتها من (تهذيب الألفاظ: 422) وفسره الراغب بشديد. وإنما يجيء تقبض الوجه من الشدة والبلاء والضيق كما فى (تهذيب الألفاظ) وقاله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة (فتح البارى).
* * *107 {يُكْشَفُ عَنْ سََاقٍ}:
قال: يا ابن عباس، أخبرنى عن قول الله عز وجل: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سََاقٍ}
قال: عن شدة الآخرة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر وهو يقول اسلم عصام إن شرّ باق ... قبلك سرّ الناس ضرب الأعناق
قد قامت الحرب بنا على ساق (1)
(ك، ط) واقتصر فى (تق) على الشطر الثالث. والمسألة فى (ظ): {وَالْتَفَّتِ السََّاقُ بِالسََّاقِ} قال: الحرب، قال أبو ذؤيب الهذلى (2)
__________
(1) فى رواية بالبحر المحيط:
صبرا أمام إن شرّ باق ... وقامت الحرب بنا على ساق.
(2) البيت فى (ديوان الهذليين) ليس لأبى ذؤيب، بل من شعر حذيفة بن أنس. (3/ 21) وأنشده فى البحر المحيط: لحاتم، وغير معزو فى (الكشاف) وهو فى شواهده: لجرير والذى فى (ديوان جرير، 241ط أولى):
ألا ربّ سامى الطرف من آل مازن ... إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا(1/468)
أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
الكلمة فى المسألة الأولى، من آية القلم 42:
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سََاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلََا يَسْتَطِيعُونَ * خََاشِعَةً أَبْصََارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، وَقَدْ كََانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سََالِمُونَ *}
ومعها آية النمل 44، والكشف عن الساق فيها على أصل معناه:
{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ، فَلَمََّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سََاقَيْهََا}.
الكشف عن الساق، والتشمير فى مثل سياق آية القلم، عند اللغويين: كناية عن شدة الحرب والخوف (مجاز القرآن لأبى عبيدة والأساس: ش م ر» وقال الفراء فى معنى آية القلم، عن ابن عباس: يريد القيامة والساعة لشدتها (3/ 177) وفى الطبرى: قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل: يبدو عن أمر شديد، وأسند عن ابن عباس قال: هو يوم حرب وشدة، وأنشد * وقامت الحرب بنا على ساق * وفى القرطبى عنه أيضا: يكشف عن أمر عظيم، وأنشد بيت الهذلى بلفظ: * فتى الحرب * غير منسوب، وعن مجاهد عنه: هى أشد ساعة يوم القيامة
والأقوال فيها متقاربة، كناية عن هول الموقف يوم الحشر، والله أعلم. وانظر فى صحيح البخارى: ك التفسير: باب يوم يكشف عن ساق، وفتح البارى معه.
قال فى الكشاف: وأصله فى الروع ومعنى الآية: يشتد الأمر ويتفاقم هوله، ولا كشف ثم ولا ساق (سورة القلم).
* * *108 {إِيََابَهُمْ}
قال: يا ابن عباس، أخبرنى عن قول الله عز وجل: {إِنَّ إِلَيْنََا إِيََابَهُمْ}.
قال: الإياب المرجع. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول:
وكل ذى غيبة يئوب ... وغائب الموت لا يئوب (1)
وقال الأول:(1/469)
قال: الإياب المرجع. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول:
وكل ذى غيبة يئوب ... وغائب الموت لا يئوب (1)
وقال الأول:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر (2)
(ك، ط) واقتصر فى (تق) على الشاهد الأول الكلمة من آية الغاشية 25:
{إِنَّ إِلَيْنََا إِيََابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنََا حِسََابَهُمْ}
وحيدة الصيغة فى القرآن.
ومعها من المادة (مآب) تسع مرات، و (أوّبى) فى آية سبأ 10، و (أوّاب) مفردا خمس مرات، وجمعا فى آية الاسراء 25:
فى تفسير سورة الغاشية بصحيح قال ابن عباس: إيابهم مرجعهم وتأولها الطبرى: إن إلينا رجوع من كفر ومعادهم. لم يذكر فيها خلافا.
تأويل إيابهم فى المسألة بمرجعهم، أولى من التأويل برجوعهم. إذ كل إياب ومآب فى البيان القرآنى إنما هو إلى الله وحده. وكذلك صيغتا المرجع والرجعى.
وأما صيغة الرجوع فليست من الألفاظ القرآنية. وكثر مجىء الفعل منها، ماضيا ومضارعا وأمرا، واسم الفاعلين والرجوع فيها إلى الله تعالى، وإلى غيره: إلى الناس الكفار، وإليهم، إلى قومهم، إلى قومه، إلى طائفة منهم، إلى أبيهم، إلى أمّك، إلى أنفسهم إلى المدينة، يثرب، إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم إلى الأصنام.
ثم إن المحققين من العلماء، لهم فى ترادف الأوب والرجوع نظر:
__________
(1) من بائية عبيد: فى القصائد العشر للتبريزى. وانظر الشاهد فى (المقاييس: أوب).
(2) الشاهد من رائية مشهورة لمعقر البارقى: شاعر جاهلى محسن، فى (مؤتلف الآمدى، ومعجم المرزبانى، وأمثال الميدانى) وانظره فى شواهد (الصاهل والشاحج. ذخائر وفيها تخريجه ومقاييس اللغة، واللسان: عصا).(1/470)
لحظ الراغب أن الأوب ضرب من الرجوع وذلك أن الأوب لا يقال إلا فى الحيوان الذى له إرادة، والمآب مصدر منه، والأواب كالتواب، وهو الراجع إلى الله تعالى بترك المعاصى وفعل الطاعات، والتأويب يقال فى سير النهار (المفردات).
ونتدبر سياق الآيات فيهما، فيؤنس إلى قريب مما لحظه الراغب، حيث يأتى الإياب والمآب للخلق، وأما الرجوع فيأتى الفعل غالبا مسندا إليهم، وإن جاء متعلقا بالأمر فى آية هود 123 {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} وإلى الأمور فى آية البقرة 210: {وَإِلَى اللََّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} ومعها آل عمران 109والأنفال 45والحج 86 وفاطر 4والحديد 5. وآية الطارق {وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الرَّجْعِ}.
فى (أوب) حكى ابن فارس عن أبى حاتم السجستانى، قال: كان الأصمعى يفسر الشعر الذى فيه ذكر الإياب أنه مع الليل، ويحتج بقوله: تأوّبنى داء مع الليل متصب.
وكذلك يفسر جميع ما فى الأشعار. فقلت له: إنما الإياب الرجوع، أىّ وقت رجع، تقول: قد آب المسافر. فكأنه أراد أن أوضح له فقلت: قول عبيد:
وكل ذى غيبة يئوب ... وغائب الموت لا يئوب
أهذا بالعشى؟ فذهب يكلمنى فيه، فقلت: فقول الله عز وجل: {إِنَّ إِلَيْنََا إِيََابَهُمْ} أهذا بالعشىّ؟ فسكت» قال أبو حاتم، مستدركا: ولكن أكثر ما يجيء على ما قال، رحمنا الله وإياه».
(مقاييس اللغة: 1/ 153) وأما (رجع) فعند ابن فارس أن الراء والجيم والعين أصل كبير مطّرد منقاس يدل على ردّ وتكرار. تقول: رجع رجوعا إذا عاد، وراجع امرأته ردّها وهى الرجعة، واسترجع استرد، والترجيع فى الصوت ترديده، ومنه رجع الصدى. فأما الرجع فالغيث فى قوله عز وجل: {وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الرَّجْعِ} وذلك أنها تغيث وتصبّ ثم ترجع فتغيث (المقاييس 2/ 490).
وأبو هلال العسكرى، فرّق بين الرجوع والإياب، بأن الإياب هو الرجوع إلى منتهى القصد، ومنه {إِنَّ إِلَيْنََا إِيََابَهُمْ}.
فلعل هذا الفرق فى الدلالة، أحسّه نافع فى سؤاله عن الإياب، وليس مرادفا
للرجوع، مع دلالة إسلامية للإياب، والمآب والمرجع والرجعى، إلى الله عز وجل. وهو سبحانه وتعالى أعلم.(1/471)
فلعل هذا الفرق فى الدلالة، أحسّه نافع فى سؤاله عن الإياب، وليس مرادفا
للرجوع، مع دلالة إسلامية للإياب، والمآب والمرجع والرجعى، إلى الله عز وجل. وهو سبحانه وتعالى أعلم.
* * *109 {حُوباً}
وسأله نافع عن قوله تعالى: {إِنَّهُ كََانَ حُوباً كَبِيراً}
قال: إثما. واستشهد ببيت الأعشى:
فإنى وما كلفتمونى من أمركم ... ليعلم من أمسى أعقّ وأحوبا
(تق، ك، ط) وفى (وق): قال فيه الأعشى:
وإنى وما كلفتمونى وربكم ... لأعلم من أمسى أعقّ وأظلما
ولا محل فيه للشاهد.
الكلمة من آية النساء 2:
{وَآتُوا الْيَتََامى ََ أَمْوََالَهُمْ، وَلََا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، وَلََا تَأْكُلُوا أَمْوََالَهُمْ إِلى ََ أَمْوََالِكُمْ، إِنَّهُ كََانَ حُوباً كَبِيراً} وحيدة فى القرآن صيغة ومادة.
وبالإثم تأولها أبو عبيدة فى (مجاز القرآن) وقال الفراء فى (معانى القرآن، آية النساء) الحوب الإثم العظيم، ورأيت بنى أسد يقولون: الحائب القاتل. وقد حاب يحوب. ومنه الحديث «اللهم اغفر لى حوبتى» وهو يتحوب من القبح يتحرج منه (1/ 253) وفعلت كذا لحوبة فلان، أى لحرمته. وما يأثم الرجل إن لم يفعله (س) وفى الطبرى عن ابن عباس: إثما عظيما، وعن قتادة: ظلما كبيرا وهو الإثم كذلك فى جامع القرطبى، عن ابن عباس والحسن وغيرهما. قال: وأصله الزجر للإبل فسمى الإثم حوبا لأنه يزجر عنه، والحوبة أيضا. وقال الأخفش هى لغة بنى تميم، وعن مقاتل: لغة الحبشة. وفسره الراغب بالإثم كذلك: لكونه مزجورا عنه. والأصل فيه: حوب، لزجر الإبل وفلان يتحوب من كذا: يتأثم،
وقولهم: ألحق به الحوبة، أى المسكنة والحاجة وحقيقتها هى الحاجة التى تحمل صاحبها على ارتكاب الإثم (المفردات).(1/472)
وبالإثم تأولها أبو عبيدة فى (مجاز القرآن) وقال الفراء فى (معانى القرآن، آية النساء) الحوب الإثم العظيم، ورأيت بنى أسد يقولون: الحائب القاتل. وقد حاب يحوب. ومنه الحديث «اللهم اغفر لى حوبتى» وهو يتحوب من القبح يتحرج منه (1/ 253) وفعلت كذا لحوبة فلان، أى لحرمته. وما يأثم الرجل إن لم يفعله (س) وفى الطبرى عن ابن عباس: إثما عظيما، وعن قتادة: ظلما كبيرا وهو الإثم كذلك فى جامع القرطبى، عن ابن عباس والحسن وغيرهما. قال: وأصله الزجر للإبل فسمى الإثم حوبا لأنه يزجر عنه، والحوبة أيضا. وقال الأخفش هى لغة بنى تميم، وعن مقاتل: لغة الحبشة. وفسره الراغب بالإثم كذلك: لكونه مزجورا عنه. والأصل فيه: حوب، لزجر الإبل وفلان يتحوب من كذا: يتأثم،
وقولهم: ألحق به الحوبة، أى المسكنة والحاجة وحقيقتها هى الحاجة التى تحمل صاحبها على ارتكاب الإثم (المفردات).
والذى فى (النهاية لابن الأثير) أن الحوب الإثم، تفتح الحاء وتضم، وقيل:
الفتح لغة الحجاز، والضم لغة الحبشة. وذكر الحديث أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم الإذن فى الجهاد، قال: «ألك حوبة» قال: نعم.
قال ابن الأثير فى الحوبة: يعنى ما يأثم به إن صنعه. وتحوب من الإثم توقاه وألقى الحوب عن نفسه. وقيل: الحوبة هاهنا: الأم والحرم اللائى لا يستغنين عمن يقوم عليهن ويتعهدهن، ولا بد فى الكلام من حذف مضاف تقديره: ذات حوبة وذات حوبات. والحوبة الحاجة، ومنه حديث الدعاء: «إليك أرفع حوبتى» أى حاجتى. وفى الحديث أن أبا أيوب أراد أن يطلق أم أيوب فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: «إن طلاق أم أيوب لحوب» أى: لوحشة أو إثم (النهاية).
وتجمع الدلالة المعجمية بين هذه المعانى جميعا، ففيها: الحوب والحوبة الأبوان والأخت والبنت. ولي فيهم حوبة: أى قرابة من الأم، والحوبة: رقة فؤاد الأم:
والحوبة أيضا: الإثم، كالحاجة والحاب والحاب والحوب، ويضم، والوجع، والجهد والمسكنة، وزجر الإبل. والحوب بالضم: الهلاك والبلاء والمرض والنفس
وفى (مقاييس اللغة) أن الحاء والواو والباء «أصل واحد يتشعب إلى: إثم، أو حاجة، أو مسكنة. وكلها متقاربة».
والقرآن قد خص الحوب بأكل الأوصياء على اليتامى أموالهم، وأطلق الإثم عامّا فى أكل أموال اليتامى، وفى الخطيئة والخيانة والفواحش والكفر. مما يؤنس إلى أن ملحظ القربى فى الضعاف من ذوى الأرحام، أصيل فى الدلالة. ومن رقة فؤاد الأم، جاء الحوب فى الضعف والألم والجهد، ومنه جاء معنى الإثم فى ظلم الضعفاء من ذوى القربى بخاصة. والله أعلم.
ويؤنس إلى هذا الفهم، حديث «ألك حوبة؟» بمعنى الأم والحرم اللائى لا يستغنين عمن يقوم عليهن. وهو واضح كذلك فى حديث طلاق أم أيوب وفى الشاهد من بيت الأعشى(1/473)
ويؤنس إلى هذا الفهم، حديث «ألك حوبة؟» بمعنى الأم والحرم اللائى لا يستغنين عمن يقوم عليهن. وهو واضح كذلك فى حديث طلاق أم أيوب وفى الشاهد من بيت الأعشى
110 {الْعَنَتَ}
: وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {الْعَنَتَ}.
فقال ابن عباس: الإثم. ولما سأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال:
نعم، أما سمعت قول الشاعر:
رأيتك تبتغى عنتى وتسعى ... مع الساعى علىّ بغير ذحل (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية النساء 25فى النكاح من الفتيات المؤمنات:
{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنََاتٍ غَيْرَ مُسََافِحََاتٍ وَلََا مُتَّخِذََاتِ أَخْدََانٍ، فَإِذََا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفََاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مََا عَلَى الْمُحْصَنََاتِ مِنَ الْعَذََابِ، ذََلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ، وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ، وَاللََّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
وحيدة الصيغة فى القرآن.
ومعها من المادة، فعل الإعنات ماضيا، فى آية البقرة 220:
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتََامى ََ، قُلْ إِصْلََاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخََالِطُوهُمْ فَإِخْوََانُكُمْ، وَاللََّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَأَعْنَتَكُمْ، إِنَّ اللََّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
وفعل العنت، ماضيا كذلك فى آيات:
آل عمران 118 {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا بِطََانَةً مِنْ دُونِكُمْ لََا يَأْلُونَكُمْ خَبََالًا وَدُّوا مََا عَنِتُّمْ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضََاءُ مِنْ أَفْوََاهِهِمْ وَمََا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}.
__________
(1) فى تق: [بغير دحل] والدحل، بمهملتين: حفرة غامضة ضيقة الأعلى (س).
والذحل بالذال المعجمة والحاء المهملة: الثأر (ص. ق)(1/474)
التوبة 128: {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} ومعها آية الحجرات: 7 وهذه الكلمات الخمس، هى كل ما فى القرآن من المادة.
وسبق النظر فى استعمال القرآن لكلمة الإثم، فى تفسير الحوب فى المسألة رقم 109.
العنت فى اللغة المشقة، وقال أبو عبيدة والزجاج: الهلاك. وقال الزمخشرى:
وقع فلان فى العنت، أى فيما شق عليه. وأكمة عنوت: طويلة شاقة المصعد.
وعنت العظم: انكسر بعد الجبر، وأعنته: هاضه (س) وهو فى آية النساء، الفجور عند الفراء. والزنا فى تأويل الطبرى، وعن ابن عباس وكثير من أهل التأويل. وقال غيرهم: إنه الحد الذى تخشى منه العقوبة.
والصواب من القول عنده: لمن خاف منكم ضررا فى دينه وبدنه، فالذين وجهوه إلى الزنا، هو ضرر فى الدين، وإلى الحد ضرر فى البدن. ونحوه فى (مفردات الراغب. والبحر المحيط لأبى حيان والنهاية لابن الأثير).
وملحظ المشقة لا ينفك عن استعمال المادة فى العنت والإعنات. والشاهد من قول الأعشى، صريح فى الإعنات إلحاحا فى التحامل وطلب العثرة.
* * *111 {فَتِيلًا}
: قال: فأخبرنى عن قول الله تعالى: {وَلََا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}
ما الفتيل: قال: ما فى شق النواة، وما فتلت بين أصابعك من الوسخ، قال فيه زيد الفوارس (1):
أعاذل بعض لومك لا تلجّى ... فإن اللوم لا يغنى فتيلا
__________
(1) زيد الفوارس الضبى (المؤتلف للآمدى: 131) ط كرنكو(1/475)
(وق) واقتصر فى (تق، ك، ط) على: التى تكون فى شق النواة وشاهده فى الثلاثة قول النابغة: (1)
يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ الأعادى فتيلا
زاد فى (ك، ط) وقال الأول:
زاد فى (ك، ط) وقال الأول:
أعاذل بعض لومك ... البيت
الكلمة فى آيات:
النساء 49: {بَلِ اللََّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشََاءُ وَلََا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}.
77: {قُلْ مَتََاعُ الدُّنْيََا قَلِيلٌ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى ََ وَلََا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}.
الإسراء 71: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتََابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولََئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتََابَهُمْ وَلََا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}.
وليس فى القرآن من المادة سواها. وسياقها جميعا فى حساب الله تعالى عباده، لا يظلم أحد فتيلا.
القولان فى تأويلهما فى المسألة، قالهما الفراء فى معنى الكلمة بآية النساء (1/ 273) وابن قتيبة فى باب الاستعارة من (مشكل اعراب القرآن 1/ 104) وكذلك رواهما الطبرى بإسناده عن ابن عباس وغيره من أهل التأويل، والقرطبى فى الجامع، والراغب فى (المفردات). وذكر معه: ما تفتله بين أصابعك من خيط أو وسخ.
مع التوجيه إلى معناه المجازى: أى أن الله تعالى لا يظلم عباده بأقل الأشياء ولو كان لا خطر له ولا قيمة (الطبرى) وكناية عن الحقير والتافه (ابن قتيبة) وعن التحقير والتصغير (القرطبى).
__________
(1) رواية الديوان لعجز البيت ثم لا يرزأ العدو فتيلا ومثلها رواية ابن قتيبة فى (مشكل إعراب القرآن:
104) وعلى هامشه تخريج البيت للمحقق السيد صقر والقرطبى فى الجامع: 5/ 248.(1/476)
وكذلك الفتيل فى الشاهدين، لا يراد بهما حقيقة المفتول أو ما فى شق النواة، بل المعنى المجازى من الضآلة والتفاهة هو المراد.
* * *112 {قِطْمِيرٍ}
: وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {مِنْ قِطْمِيرٍ}.
فقال ابن عباس: الجلدة البيضاء التى على النواة. واستشهد بقول أمية ابن أبى الصلت:
لم أنل منهم فسيطا ولا رب ... ذا ولا فوفة ولا قطميرا (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية فاطر 13:
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهََارِ وَيُولِجُ النَّهََارَ فِي اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، ذََلِكُمُ اللََّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مََا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}.
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
والتفسير تقريب، يقال فيه ما نقلنا فى «فتيل» بالمسألة السابقة (111) فهو يرد الكلمة إلى معناها القريب فى أصل اللغة، والمراد معناه المجازى، يكنى عن القطمير بأهون الأشياء وأخفها، ومثله الشاهد من بيت أمية لا يريد بالقطمير أصل معناه فى القشرة وسحاة النواة، وإنما يكنى بها عن أضأل الأشياء وأحقرها.
* * * __________
(1) فى (تق) [لم أنل منهم نشيطا] ورواية الديوان (36) لم أنل منهم فسيطا ولا زبدا ولا فوقة ولا قطميرا الفسيط: القلامة. والربذ، واحدته ربذة: العهن، والصوفة والخرقة. (س). والفوفة: القشرة التى تكون على حبة القلب والنواة، دون لحمة التمر، وكل قشر فوف.(1/477)
113 {أَرْكَسَهُمْ}
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {أَرْكَسَهُمْ}
فقال ابن عباس: حبسهم، واستشهد بقول أمية بن أبى الصلت:
فأركسوا فى حميم النار إنهم ... كانوا عتاة تقول الإفك والزورا (1)
(تق) زاد فى (ك، ط): حبسهم فى جهنم بما عملوا.
الكلمة من آية النساء 88:
{فَمََا لَكُمْ فِي الْمُنََافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللََّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمََا كَسَبُوا، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللََّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}
ومعها آية النساء 91فى السياق نفسه:
{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمََا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهََا}.
ولم يأت من المادة فى القرآن الكريم، غير هذا الفعل الرباعى فى آيتى النساء.
الركس فى اللغة النكس وقلب الشيء على رأسه، أو ردّ أوله على آخره، وهو أصل المادة فى (مقاييس اللغة: ركس) وشاهده آية النساء، فى المسألة والمركوس المنكوس (س، ص) وحكاه القرطبى وأبو حيان عن الكسائى والنضر ابن شميل.
وفى معنى آية النساء 88قال الفراء: ردهم إلى كفرهم (1/ 280) وفى تفسير البخارى لسورة النساء، باب (فما لكم فى المنافقين فئتين) الآية: قال ابن عباس:
بددهم فئة فئة. ومعه فى (فتح البارى) عن ابن عباس أيضا: أوقعهم، وعنه:
__________
(1) فى تق: [فأركسوا فى جهنم إنهم كانوا عتاتا يقولون كذبا وزورا] وفى (ك، ط): [كانوا عتاة تقول كذبا.]
ورواية الديوان: أركسوا فى جهنم إنهم كانوا عتاة تقول إفكا وزورا (436).
وفى شواهد الطبرى وأبى حيان لآية النساء 88:
فاركسوا فى حميم النار إنهم ... كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا(1/478)
أهلكهم. وهو تفسير باللازم لأن الركس معناه الرجوع (8/ 178).
وفى تأويل الطبرى: ارتدوا فصاروا مشركين، وفى مفردات الراغب:
(والله أركسهم) ردهم إلى كفرهم.
ولعل تأويلها فى المسألة بالحبس فى جهنم، أقرب إلى الشاهد من قول أمية ابن أبى الصلت، منه إلى سياق الكلمة فى القرآن الكريم، ومن إركاس فى الضلال وفى الفتنة. والله أعلم.
* * *114 {أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا}:
قال: يا ابن عباس، أخبرنى عن قول الله عز وجل: {أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا}.
قال: سلطنا عليهم الجبابرة فساموهم سوء العذاب. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت لبيد بن ربيعة يقول:
إن يغبطوا ييسروا وإن أمروا ... يوما يصيروا للهلك والفقد (1)
(ك، ط) وفى (تق) قال ابن عباس:
سلطنا.
الكلمة من آية الإسراء 16:
{وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا فَفَسَقُوا فِيهََا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنََاهََا تَدْمِيراً}.
تأويل «أمرنا» فى المسألة بالتسليط، كأنه على قراءة «أمّرنا» بالتشديد، كما صرح بذلك الفراء فى معنى الآية، قال بعد ذكر القراءات فيها: وفسر بعضهم
__________
(1) فى مطبوعة الإتقان: [يصير للهلك والفقد.] ورواية الديوان بشرح الطوسى:
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ... يوما يصيروا للهلك والنكد
وهى رواية (س: هبط) وقال الطوسى: ويروى: للهلك والنفد. ورواه ابن اسحاق فى السيرة يوما فهم للهلك والفند وفى الطبرى: يوما يصيروا للقلّ والنفد (4/ 316)(1/479)
«أمرنا» بالطاعة «ففسقوا» أى أن المترف إذا أمر بالطاعة خلف إلى الفسوق، وقرأ الحسن: آمرنا، وروى عنه: أمرنا، ولا ندرى أنها حفظت عنه، لأنا لا نعرف معناها هاهنا، ومعنى آمرنا، بالمد: كثّرنا. وقرأ أبو العالية الرياحى: أمّرنا، وهو موافق لتفسير ابن عباس، وذلك أنه قال: سلطنا رؤساءها ففسقوا فيها (2/ 119) والجمهور على القراءة بالتخفيف: «أمرنا» وأسند البخارى عن عبد الله، بن مسعود رضى الله عنه، قال: كنا نقول للحى إذا كثروا فى الجاهلية: أمروا (ك التفسير) الإسراء، باب «وإذا أردنا أن نهلك قرية» الآية ومعه فى (فتح البارى) بعد نقل كلام الفراء: واختار الطبرى قراءة الجمهور، واختار فى تأويلها حملها على الظاهر وقال: المعنى: أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا، ثم أسنده عن ابن عباس. وقد أنكر الزمخشرى هذا التأويل وبالغ كعادته، وعمدة إنكاره حذف ما لا دليل عليه، وتعقب بأن السياق يدل عليه، كقولك: أمرته فعصانى، أى بطاعتى، وكذا: أمرته فامتثل (8/ 275) ومعه تأويل الطبرى لآية الإسراء (15/ 42) وأنشد الشاهد من قول لبيد. وقال الراغب: أى أمرناهم بالطاعة، لا يؤخذ من ظاهر النص وإنما على تقدير الطاعة مأمورا بها
وفى الآية قراءة بالتشديد «أمّرنا مترفيها» أى جعلناهم أمراء. (المفردات) وبالتخفيف «أمرنا» قراءة الأئمة السبعة، وجهها كما قال الحافظ ابن حجر فى الفتح. والله أعلم.
* * *115 {يَفْتِنَكُمُ}
وسأل نافع عن معنى قول الله عز وجل: {أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}
قال ابن عباس: أن يضلكم الذين كفروا بالعذاب والجهد.
واستشهد بقول الشاعر (1):
كلّ امرئ من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور ومفتون
__________
(1) غير منسوب فى (تق) ولامرئ القيس فى (ك، ط) وهو فى السيرة النبوية، والإصابة: للصحابى الشاعر «عبد الله بن الحارث بن قيس بن عدى القرشى السهمى» من مهاجرة الحبشة. وكذلك الشاهد فى المسألة 117 (الهشامية 1/ 354، والإصابة، 1/ 52ترجمة 4596).(1/480)
الكلمة من آية النساء 101:
{وَإِذََا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنََاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلََاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، إِنَّ الْكََافِرِينَ كََانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً}
مادة (فتن) أصل يدل على ابتلاء واختبار، ومنه الفتنة الامتحان، فتن الدينار، والمعدن، بالنار. وفتنه الشيطان وفتنته الدنيا، وقيل للشيطان فتان (المقاييس والأساس) قال الفراء: أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل وربيعة وقيس وأسد وجميع أهل نجد يقولون: أفتنته وفرق بينهما الخليل وسيبويه فقالا: فتنته، جعلته فتنة وأفتنته جعلته مفتتنا (جامع القرطبى، فى آية النساء) وقال ابن فارس فى (المقاييس) يقال: فتنة وأفتنه وأنكر الأصمعى أفتن.».
اقتصر «الطبرى فى الآية، على ذكر وجه الفتنة، قال: وفتنتهم إياهم فيها، حملهم عليهم وهم ساجدون حتى يقتلوهم أو يأسروهم فيمنعوهم من إقامتها ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له.» وبينه الراغب، قال: أصل الفتن إدخال الذهب فى النار لتظهر جودته من رداءته وجعلت الفتنة كالبلاء فيما تدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء. وهما فى الشدة أظهر وأكثر استعمالا.
«وهم لا يفتنون، أى لا يختبرون» (المفردات) وقريب منه قول ابن الأثير: وقد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار، للمكروه.
ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والإزالة، والصرف عن الشيء (النهاية) بكل من الامتحان، والبلاء والابتلاء، والفتنة، جاء القرآن ولعل استقراء آياتها جميعا يهدى إلى ملحظ فى سياق الاستعمال لكل منها:
الامتحان بمعنى الاختبار، فى آيتين، وهو من الله تعالى فى آية الحجرات 9
{أُولََئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ََ} ومن الذين آمنوا للمهاجرات فى آية الممتحنة 10: {فَامْتَحِنُوهُنَّ اللََّهُ أَعْلَمُ بِإِيمََانِهِنَّ}
وجاء الابتلاء مرة واحدة فى ابتلاء الأوصياء رشد اليتامى (النساء 6) وغلب مجيئه فيما يبتلى به الله تعالى عباده: {وَفِي ذََلِكُمْ بَلََاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} {وَآتَيْنََاهُمْ مِنَ الْآيََاتِ مََا فِيهِ بَلََؤُا مُبِينٌ} {وَنََادَيْنََاهُ أَنْ يََا إِبْرََاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيََا إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هََذََا لَهُوَ الْبَلََاءُ الْمُبِينُ} {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ وَإِنْ كُنََّا لَمُبْتَلِينَ}
ونظائرها. ومعها الآيتان فى اليوم الآخر، بدلالة السياق:(1/481)
الامتحان بمعنى الاختبار، فى آيتين، وهو من الله تعالى فى آية الحجرات 9
{أُولََئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ََ} ومن الذين آمنوا للمهاجرات فى آية الممتحنة 10: {فَامْتَحِنُوهُنَّ اللََّهُ أَعْلَمُ بِإِيمََانِهِنَّ}
وجاء الابتلاء مرة واحدة فى ابتلاء الأوصياء رشد اليتامى (النساء 6) وغلب مجيئه فيما يبتلى به الله تعالى عباده: {وَفِي ذََلِكُمْ بَلََاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} {وَآتَيْنََاهُمْ مِنَ الْآيََاتِ مََا فِيهِ بَلََؤُا مُبِينٌ} {وَنََادَيْنََاهُ أَنْ يََا إِبْرََاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيََا إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هََذََا لَهُوَ الْبَلََاءُ الْمُبِينُ} {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ وَإِنْ كُنََّا لَمُبْتَلِينَ}
ونظائرها. ومعها الآيتان فى اليوم الآخر، بدلالة السياق:
الطارق 9: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرََائِرُ} ويونس 30 وأما الفتنة فتكون من الله تعالى فى مثل آيتى العنكبوت {أَحَسِبَ النََّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنََّا وَهُمْ لََا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللََّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكََاذِبِينَ} ونظائرها.
وتكون الفتنة من الشيطان (الأعراف 27) والسّحر (البقرة 102) والمنافقين (الحديد 14) ومن الكفار والمشركين فى آية النساء 101وفيها المسألة وآيات (يونس 83، التوبة 47، الإسراء 74، المائدة 49، العنكبوت 10، البروج 10) ومن فتنة الناس بعضهم لبعض (الفرقان 20) وقول الراغب وابن الأثير، إن البلاء والفتنة أظهر فى الشدة وأكثر استعمالا، يؤيده الاستقراء. ويقلّ مجيئهما فى الابتلاء بالنعمة والخير، ومع اقترانه بالابتلاء بالضيق والشر، كما فى آيات:
النمل 40 {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} الأنبياء 35 {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}
والأعراف 167، والملك 2، والفجر 15. ومنه الحديث: «ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم، وستبتلون بفتنة السراء» * * *(1/482)
النمل 40 {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} الأنبياء 35 {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}
والأعراف 167، والملك 2، والفجر 15. ومنه الحديث: «ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم، وستبتلون بفتنة السراء» * * *
116 {لَمْ يَغْنَوْا}
قال: فأخبرنى عن قول الله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}
قال: لم يعمروا فيها. قال فيه مهلهل:
غنيت دارنا تهامة فى الده ... ر فيها بنو معدّ حلولا
وقال فيه لبيد:
وغنيت سبتا قبل مجرى داحس ... لو كان للنفس اللجوج خلود (1)
(وق) وفى (تق) كأن لم يكونوا. زاد فى (ك، ط) فى الدنيا حين عذبوا فيها.
والشاهد فى الثلاثة بيت لبيد الكلمة من آيات:
الأعراف 92: فى كفار مدين: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دََارِهِمْ جََاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كََانُوا هُمُ الْخََاسِرِينَ}.
هود 68فى الثمود: {فَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا نَجَّيْنََا صََالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنََّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيََارِهِمْ جََاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهََا، أَلََا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ، أَلََا بُعْداً لِثَمُودَ}.
هود 95فى مدين: {وَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا نَجَّيْنََا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنََّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيََارِهِمْ جََاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهََا أَلََا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمََا بَعِدَتْ ثَمُودُ}.
وفى المعنى نفسه، جاءت فى مثل الحياة الدنيا بآية يونس 24
__________
(1) ديوانه، وإصلاح المنطق 10، والروض الأنف 1/ 283وهو من شواهد أبى حيان فى تفسير الآية والسبت: الدهر (ق) وشرح الطوسى للديوان: 35، أى عشت دهرا ويقال: السبت 50سنة. وضبط مجرى، بفتح الميم وقال: هو أجود الوجهين.(1/483)
{حَتََّى إِذََا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهََا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهََا أَنَّهُمْ قََادِرُونَ عَلَيْهََا أَتََاهََا أَمْرُنََا لَيْلًا أَوْ نَهََاراً فَجَعَلْنََاهََا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}.
وفيما عدا هذه الآيات الأربع، جاءت المادة فى معنى الغنى، نقيض الفقر والحاجة.
تأويل «كأن لم يغنوا فيها» فى (وق:) كأن لم يعمروا، أولى من: كأن لم يكونوا. والشائع فى: غنى بالمكان، أنه بمعنى أقام. وإليه ذهب ابن الأثير فى حديث علىّ كرم الله وجهه: «ورجل سماه الناس عالما ولم يغن فى العلم يوما سالما» قال: أى لم يلبث فى العلم يوما تامّا، من قولك: غنيت بالمكان أغنى، إذا أقمت (النهاية) وهو لا يفيد معنى التعمير وهو صريح فى الشاهدين لمهلهل ولبيد على أن بين (لم يغنوا) ولم يعمروا أو لم يقيموا، فرقا دقيقا فى الدلالة، التفت إليه «الراغب» حين ربط الغنى فى المكان بأصل دلالته فى نقيض الحاجة والفقر. قال: غنى فى المكان بمعنى طال مقامه فيه، مستغنيا به عن غيره (المفردات).
ونضيف إليه ملحظا آخر من دلالة قرآنية خاصة: فالعربية تستعمل غنى بالمكان ولم يغن، إيجابا ونفيا. ولم تأت الكلمة فى القرآن إلا منفية، فى خبر ديار ثمود ومدين، ومثل الحياة الدنيا. فكأن القرآن لا يرى مقاما فى الدنيا، يمكن أن يغنى أو يستغنى به. وإنما غرّ ثمود ومدين مقامهم بديارهم فأخذتهم الصيحة والرجفة فأصبحوا جاثمين كأن لم يغنوا فيها. وهو السياق فى مثل الحياة الدنيا، «حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس» وفى هذا السياق لا تؤدى عمّر، وأقام، معنى «غنى» بما تفيد من وهم الغنى والاستغناء فيما نظنه مغنى، إذ ليس من شأن الدنيا الفانية أن يكون فيها مغنى إلا غرورا ووهما. والله أعلم(1/484)
ونضيف إليه ملحظا آخر من دلالة قرآنية خاصة: فالعربية تستعمل غنى بالمكان ولم يغن، إيجابا ونفيا. ولم تأت الكلمة فى القرآن إلا منفية، فى خبر ديار ثمود ومدين، ومثل الحياة الدنيا. فكأن القرآن لا يرى مقاما فى الدنيا، يمكن أن يغنى أو يستغنى به. وإنما غرّ ثمود ومدين مقامهم بديارهم فأخذتهم الصيحة والرجفة فأصبحوا جاثمين كأن لم يغنوا فيها. وهو السياق فى مثل الحياة الدنيا، «حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس» وفى هذا السياق لا تؤدى عمّر، وأقام، معنى «غنى» بما تفيد من وهم الغنى والاستغناء فيما نظنه مغنى، إذ ليس من شأن الدنيا الفانية أن يكون فيها مغنى إلا غرورا ووهما. والله أعلم
117 {الْهُونِ}
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {عَذََابَ الْهُونِ} ما الهون؟
فقال ابن عباس: عذاب الهوان. واستشهد بقول عبد الله بن الحارث (1):
إنا وجدنا بلاد الله واسعة ... تنجى من الذلّ والمخزاة والهون
(وق) وفى (تق، ك، ط) الشاعر (2)
وفسرت فى (ك، ط) بالعذاب الشديد.
الكلمة من آيتى:
الأنعام 93: {وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الظََّالِمُونَ فِي غَمَرََاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلََائِكَةُ بََاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذََابَ الْهُونِ بِمََا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللََّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيََاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}.
الأحقاف 20: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النََّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبََاتِكُمْ فِي حَيََاتِكُمُ الدُّنْيََا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهََا، فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذََابَ الْهُونِ بِمََا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمََا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}.
ومعهما العذاب الهون فى آية فصلت 17:
{وَأَمََّا ثَمُودُ فَهَدَيْنََاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى ََ عَلَى الْهُدى ََ فَأَخَذَتْهُمْ صََاعِقَةُ الْعَذََابِ الْهُونِ بِمََا كََانُوا يَكْسِبُونَ}.
وجاء العذاب وعذاب، موصوفين بالمهين ومهين، أربع عشرة مرة. ومعها اسم المفعول فى آية الفرقان 69:
__________
(1) عبد الله بن الحارث بن قيس، بن عدى القرشى السهمى. من مهاجرة الحبشة. رضى الله عنهم.
(2) غير منسوب فى الثلاثة، وهو كما فى (وق) عبد الله بن الحارث بن الأنصارى، من قصيدة له فى مهاجرة الحبشة، مر منها شاهد المسألة (115) والأبيات فى (السيرة 1/ 354) وفى ترجمته بالإصابة (ق أول، 4/ 52/ 4595)(1/485)
{يُضََاعَفْ لَهُ الْعَذََابُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهََاناً}.
والفعل من الإهانة فى آيتى الفجر 16 {فَيَقُولُ رَبِّي أَهََانَنِ} والحج 18: {وَمَنْ يُهِنِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}.
وفى غير هذا السياق، آية الفرقان 68: {وَعِبََادُ الرَّحْمََنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً}.
قال أبو عبيدة «يجزون عذاب الهون» مضموم وهو الهوان. وإذا فتحوا أوله فهو الرفق واللين (مجاز القرآن) 1/ 200ونحوه فى (س).
ويفرق (الراغب) بين نوعين من الهوان: أحدهما تذلل الإنسان نفسه لما لا يلحق به غضاضة فيمدح، نحو: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} وأن يكون من جهة متسلط مستخف به فيذم، وعليه قوله تعالى: {عَذََابٌ مُهِينٌ،} {وَمَنْ يُهِنِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} (المفردات).
ثم لا يفوتنا أن تفسير الهون بالهوان، على ما يبدو من قربه، فيه أن القرآن لم يستعمل صيغة الهوان. والهوان والهون كلاهما من مصادر (هان) لكن العربية حين تخالف بين المصادر فلملحظ من فروق الدلالات. فيكون: الهون بالفتح، للسهولة واليسر ومنه يؤخذ معنى الدعة واللين، والهوينى: سير على مهل
والاستهانة والتهاون للتساهل والتفريط، كأنك تجده هينا سهلا، والهوان والمهانة، للاحتقار والازدراء. والهون، بالضم، للخزى.
* * *118 {نَقِيراً}:
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {فَإِذاً لََا يُؤْتُونَ النََّاسَ نَقِيراً}
ما النقير؟
قال: النقير ما فى شق النواة، قال فيه الشاعر:
لقد رزحت كلاب بنى زبيد ... فما يعطون سائلهم نقيرا
(وق) زاد فى (تق): ومنه تنبت النخل
وفى (ك، ط): ما فى ظهر النواة.(1/486)
لقد رزحت كلاب بنى زبيد ... فما يعطون سائلهم نقيرا
(وق) زاد فى (تق): ومنه تنبت النخل
وفى (ك، ط): ما فى ظهر النواة.
ومنه تنبت النخلة. وشاهده فى الثلاثة قول الشاعر:
وليس الناس بعدك فى نقير ... وليسوا غير أصداء وهام (1).
والمسألة فيها: {وَلََا يُظْلَمُونَ نَقِيراً}
الكلمة فى (وق) من آية النساء 53: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لََا يُؤْتُونَ النََّاسَ نَقِيراً}
وفى (تق، ك، ط) من آية النساء 124:
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصََّالِحََاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ََ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولََئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلََا يُظْلَمُونَ نَقِيراً}.
ومن المادة: «فإذا نقر فى الناقور» بآية المدثر 8.
وليس فى القرآن من المادة غير هذه الكلمات الثلاث.
تأويلها فى المسألة بما فى شق النواة أو ظهرها، أوضح منه قول أبى عبيدة فى (مجاز القرآن 1/ 130) والفراء فى (معانى القرآن 1/ 273): النقرة فى ظهر النواة.
وجهها أهل اللغة وأهل التأويل بمثل ما وجهوا به «فتيلا» و «قطميرا» فى المسألتين: 111، 112غير مراد بها أصل معناها، بل المراد المعنى المجازى كناية عن الضئيل الحقير والتافه لا قيمة له.
«وأصل النقير النكتة التى فى ظهر النواة». الأساس.
* * * __________
(1) غير منسوب فيه، وأنشده ابن الأنبارى فى الأضداد غير منسوب:
فليس الناس بعدك فى نقير ... ولا هم غير أصداء وهام
ومثله فى (مقاييس اللغة: صدى) وأنشده فى (اللسان: صدى، نقر) للبيد. وهو فى ديوانه.(1/487)
119 {فََارِضٌ}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {لََا فََارِضٌ}.
فقال ابن عباس: الهرمة. ولما سأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال:
نعم، أما سمعت قول الشاعر (1):
لعمرى لقد أعطيت ضيفك فارضا ... تساق إليه ما تقوم على رجل
(تق) وزاد فى (ك، ط) الكبيرة المسنة الكلمة من آية البقرة 68فى قوم موسى:
{قََالُوا ادْعُ لَنََا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنََا مََا هِيَ، قََالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهََا بَقَرَةٌ لََا فََارِضٌ وَلََا بِكْرٌ عَوََانٌ بَيْنَ ذََلِكَ فَافْعَلُوا مََا تُؤْمَرُونَ}
وحيدة الصيغة والاستعمال فى القرآن. وسائر ما فيه من المادة، إنما هو فى الفرض، والفريضة، والمفروض.
معناها عند الفراء: ليست بهرمة ولا شابة. والفارض قد فرضت وبعضهم يقول فرضت (1/ 44).
وهى المسنة فى شرح شواهد الكشاف. وردها الراغب إلى معنى القطع، قال:
ورجل فارض: بصير بحكم الفرائض الحجج القاطعة منقولا إليه من الفارض، المسنّ من البقر. وقيل إنما سمى فارضا لكونه فارضا للأرض أى قاطعا، أو فارضا لما يحمل من المشاق. وقيل: بل لأن فريضة البقر اثنتان: تبيعة ومسنّة، فالتبيع يجوز فى حال دون حال، فسميت الفارضة لذلك، فعلى هذا يكون الفارض اسما إسلاميا (المفردات). قال فى الكشاف: الفارض المسنة التى انقطعت ولادتها من الكبر وكأنها سميت فارضا لأنها فرضت سنها وانقطعت وأنشد الشاهد.
__________
(1) غير منسوب فى الثلاثة. وجاء فى تق: يساق إليه ما يقوم على رجل وهو فى الكشاف: لخفاف ابن ندبة السلمى. وفى اللسان لعلقمة بن عوف. والرواية فيهما كما فى (ك، ط)(1/488)
والبكر الفتية، والعوان النصف. وفى تفسير القرطبى عن ابن قتيبة، أن الفارض التى ولدت. وذهب ابن فارس فى (المقاييس / فرض) إلى أن الفارض فى الآية.
بمعنى المسنة، مما شذ عن الأصل فى الفرض، وهو عنده: الحزّ فى الشيء. ولا يبعد عن أصله، أن تكون المسنة قد حز فيها الزمن.
* * *120 {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} من {الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}
: قال: أخبرنى عن قول الله تعالى: {حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}
قال: الخيط الأبيض نور الفجر، والخيط الأسود سواد الليل. قال: فهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل القرآن؟ قال: نعم، قال أمية بن أبى الصلت:
الخيط الأبيض نور الصبح منفلق ... والخيط الأسود لون الليل مكموم (1)
(وق) وفى (تق، ك، ط) قال:
بياض النهار من سواد الليل.
الكلمات فى آية البقرة 187فى أحكام الصيام:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيََامَ إِلَى اللَّيْلِ}
وفى (مجاز القرآن لأبى عبيدة) الخيط الأبيض هو الصبح المعروف، والخيط الأسود هو الليل، والخيط: اللون (1/ 68) واقتصر الفراء فى معناها على حديث من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: هو الليل من النهار (1/ 114).
وأخرج البخارى فى (ك التفسير، باب: وكلوا واشربوا) الآية، عن عدى بن حاتم رضى الله عنه، من وجهين، أنه أخذ عقالا أبيض وعقالا أسود فوضعهما
__________
(1) فى (ك، ط): [مكهوم] وما هنا من (تق) وهى الرواية فى الديوان (59).(1/489)
تحت وساده حتى كان بعض الليل فلم يستبينا فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنك إذا لعريض القفا، بل هو سواد الليل من بياض النهار» ثم أخرج عن سهل بن سعد رضى الله عنه أنه لما نزلت قوله تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} كان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم فى رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعد: {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أنه يعنى سواد الليل من بياض النهار.
ونقل الطبرى اختلاف أهل التأويل فيه على قولين. أنه ضوء النهار بطلوع الفجر من سواد الليل. وقال آخرون: هو ضوء الشمس من سواد الليل. وأولاهما بالصواب عنده القول الأول، وقوله تعالى «من الفجر»، يعنى حتى يتبين الخيط الأبيض من الفجر، وليس ذلك هو جميع الفجر، فمن حينئذ فصوموا «ثم اتموا الصيام الليل» والخيط الأبيض إنما يتبين عند ابتداء أوائل الفجر، وقد جعله الله تعالى حدّا لمن لزمه الصوم.
* * *121 {شَرَوْا}
وسأله نافع عن معنى قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ مََا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ}
قال: باعوا نصيبهم من الآخرة بطمع يسير من الدنيا
أما سمعت قول الشاعر: (1)
يعطى بها ثمنا فيمنعها ... ويقول صاحبها ألا تشرى
(تق) والمسألة فى (ك، ط): «بئسما اشتروا به أنفسهم» وليس الشاهد لها.
__________
(1) المسيب بن على.(1/490)
الكلمة من آية البقرة 102فى السّحر:
{وَيَتَعَلَّمُونَ مََا يَضُرُّهُمْ وَلََا يَنْفَعُهُمْ، وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرََاهُ مََا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلََاقٍ * وَلَبِئْسَ مََا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ}.
وأما الكلمة فى (ك) فمن آية البقرة 90فى بنى إسرائيل:
{وَلَمََّا جََاءَهُمْ كِتََابٌ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ مُصَدِّقٌ لِمََا مَعَهُمْ وَكََانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمََّا جََاءَهُمْ مََا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللََّهِ عَلَى الْكََافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى ََ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ، فَبََاؤُ بِغَضَبٍ عَلى ََ غَضَبٍ، وَلِلْكََافِرِينَ عَذََابٌ مُهِينٌ}.
الكلمتان: شروا، واشتروا فى الآيتين، ونظائرهما، بمعنى باعوا عند أهل التأويل. وشرى واشترى عند علماء اللغة فى الأضداد: بمعنى باع وبمعنى اشترى:
أوردهما الأصمعى فى: (باع) للمشترى والبائع، وفى (شراه): ملكه بالبيع، وأيضا باعه (الأضداد) وفى (باع) قال أبو حاتم السجستانى فى الأضداد: يقال بعت الشيء وأخذت ثمنه، وبعض العرب يقول: بعت الشيء أى اشتريته
وقالوا اشتريت الشيء وأعطيت ثمنه، وقد يقال اشتريت الشيء إذا بعته. وبعته أوضح فى الوجهين، وفى القرآن «الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة» أى يبيعون.
و «من يشرى نفسه» يبيعها. ومن شواهده لشرى بمعنى البيع بيت «المسيب ابن علس» وبمعنى الشراء قول «طرفة» فى معلقته:
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له ... بتاتا ولم تضرب له وقت موعد
وأورده ابن الأنبارى كذلك فى: اشتريت، وفى بعت، وأنشد فيه بيت المسيب (الأضداد) وابن السكيت فى شرى، وباع، من كتابه (الأضداد.)
وقال ابن قتيبة فى باب المقلوب من (مشكل إعراب القرآن): يقال للمشترى شار، وللبائع شار، لأن كل واحد منهما اشترى، فكذلك قولهم لكل واحد منهما: بائع، لأنه باع وأخذ عوضا مما دفع فهو شار وبائع. وقال الله عز وجل:
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} {لَبِئْسَ مََا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ}
وفى مجاز القرآن لأبى عبيدة، آية البقرة 102أى باعوا به أنفسهم. وقال ابن مفرغ الحميرى:(1/491)
وقال ابن قتيبة فى باب المقلوب من (مشكل إعراب القرآن): يقال للمشترى شار، وللبائع شار، لأن كل واحد منهما اشترى، فكذلك قولهم لكل واحد منهما: بائع، لأنه باع وأخذ عوضا مما دفع فهو شار وبائع. وقال الله عز وجل:
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} {لَبِئْسَ مََا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ}
وفى مجاز القرآن لأبى عبيدة، آية البقرة 102أى باعوا به أنفسهم. وقال ابن مفرغ الحميرى:
وشريت بردا ليتنى ... من بعد برد كنت هامه
أى بعته. وبرد غلام له كان باعه.
وفى آية البقرة 90: فى معانى القرآن للفراء: معناه والله أعلم، بئس ما باعوا به أنفسهم وللعرب فى شروا واشتروا مذهبان، فالأكثر منهما أن شروا: باعوا، واشتروا: ابتاعوا. وربما جعلوهما باعوا، وكذلك البيع يقال: بعت الثوب على معنى أخرجته من يدى. وبعته اشتريته، وهذه اللغة فى تميم وربيعة، سمعت أبا ثروان العكلى يقول لرجل: بع لى تمرا بدرهم، يريد: اشتر لي. وأنشدنى بعض ربيعة لطرفة، من معلقته:
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له ... بتاتا، ولم تضرب له وقت موعد
على معنى: لم تشتر له بتاتا. قال الفراء: والبتات الزاد».
وكون ذلك من اختلاف اللغات، أقرب من القول بالضدية. على أن «ابن فارس» فى (المقاييس) ردّ (شرى) فى الشراء والبيع، إلى أصل «المماثلة:
أخذا وإعطاء: شريت الشيء واشتريته، إذا أخذته من صاحبه بثمنه. وربما قالوا: شريت، إذا بعت، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ}.
والمماثلة ليست متعينة فيما يؤخذ ويعطى، بيعا وشراء، إلا أن يعنى بها المبادلة، فيقرب. وذهب الزمخشرى إلى أن: من المجاز (اشتروا الضلالة بالهدى):
استبدلوه (يشرون الحياة الدنيا بالآخرة) الأساس.
والقاعدة فى الاستبدال، أن الباء تدخل على المتروك: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى ََ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}؟.
ولم يطرد دخولها على المبيع المتروك، فى: شرى، واشترى، كما يتضح بعد، بالاستقراء.(1/492)
والقاعدة فى الاستبدال، أن الباء تدخل على المتروك: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى ََ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}؟.
ولم يطرد دخولها على المبيع المتروك، فى: شرى، واشترى، كما يتضح بعد، بالاستقراء.
ولم يفرق «ابن الأثير» بين شرى، واشترى، وباع، قال فى حديث الزبير لابنه عبد الله، رضى الله عنهما «والله لا أشرى عملى بشيء من الدنيا»: لا أشرى أى لا أبيع. يقال: شرى، بمعنى باع، واشترى (النهاية).
والوجه عند «الراغب» أن: الشراء والبيع يتلازمان، فالمشترى دافع الثمن وآخذ المثمّن، والبائع دافع المثمّن وآخذ الثمن، هذا إذا كانت المبايعة والمشاراة بيع سلعة بسلعة فصح أن يتصوّر كل واحد منهما مشتريا وبائعا. ومن هذا الوجه صار لفظ البيع والشراء يستعمل كل واحد منهما فى موضع الآخر. وشربت بمعنى بعت أكثر، وابتعت بمعنى اشتريت أكثر. قال الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ}
أى باعوه، وكذلك قوله: {يَشْرُونَ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا بِالْآخِرَةِ}. ويجوز الشراء والاشتراء فى كل ما يحصل به شىء وليس سلعة نحو {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللََّهِ} وقوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ اشْتَرى ََ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} فقد ذكر ما اشترى به وهو قوله: {يُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَيَقْتُلُونَ} الآية ويسمى الخوارج بالشراة متأولين فيه بقوله تعالى: {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغََاءَ مَرْضََاتِ اللََّهِ}
فمعنى يشرى، يبيع. (المفردات: شرى)
ما أضيفه إلى المسألة، مما هدى إليه الاستقراء، هو أن (شرى) الثلاثى لم تأت فى القرآن ولا فى شواهدهم إلا بمعنى باع، ودخلت الباء على المشترى المطلوب، لا على المبيع المتروك. يطرد ذلك فى آياتها الأربع:
البقرة 102: {وَلَبِئْسَ مََا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ}
البقرة 207: {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغََاءَ مَرْضََاتِ اللََّهِ}
النساء 74: {فَلْيُقََاتِلْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا بِالْآخِرَةِ}
يوسف 20: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرََاهِمَ مَعْدُودَةٍ}
وأما اشترى، فجاءت احدى وعشرين مرة، فعلا ماضيا ومضارعا، للواحد
وللجماعة. يفيد سياقها فى تسعة عشر موضعا أنها بمعنى الشراء، والباء فيها دخلت على المبيع المتروك، مثل:(1/493)
البقرة 102: {وَلَبِئْسَ مََا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ}
البقرة 207: {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغََاءَ مَرْضََاتِ اللََّهِ}
النساء 74: {فَلْيُقََاتِلْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا بِالْآخِرَةِ}
يوسف 20: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرََاهِمَ مَعْدُودَةٍ}
وأما اشترى، فجاءت احدى وعشرين مرة، فعلا ماضيا ومضارعا، للواحد
وللجماعة. يفيد سياقها فى تسعة عشر موضعا أنها بمعنى الشراء، والباء فيها دخلت على المبيع المتروك، مثل:
البقرة 16: {أُولََئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلََالَةَ بِالْهُدى ََ}
البقرة 86: {أُولََئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيََاةَ الدُّنْيََا بِالْآخِرَةِ}
البقرة 175: {أُولََئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلََالَةَ بِالْهُدى ََ وَالْعَذََابَ بِالْمَغْفِرَةِ}
التوبة 9: {اشْتَرَوْا بِآيََاتِ اللََّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ}
ونظائرها.
وفى آيتين، دخلت الباء على الثمن المبذول المأخوذ، لا على المبيع المتروك المنبوذ، فأفادت اشترى معنى باع: البقرة 90فى الكافرين من أهل الكتاب جاءهم كتاب القرآن من عند الله مصدق لما معهم فكفروا به: {فَلَعْنَةُ اللََّهِ عَلَى الْكََافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى ََ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ} أي: باعوا أنفسهم.
والتوبة 111 {إِنَّ اللََّهَ اشْتَرى ََ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوََالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} وهم هنا بائعون، باعوا أنفسهم لله تعالى، بصريح نص الآية:
{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بََايَعْتُمْ بِهِ، وَذََلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
صدق الله العظيم * * *
122 {حُسْبََاناً}
وسأله عن قوله تعالى: {حُسْبََاناً مِنَ السَّمََاءِ}
فقال: نارا من السماء. ولما سأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ أجاب:
نعم، أما سمعت قول حسان:
بقية معشر صبّت عليهم ... شآبيب من الحسبان شهب
(تق، ك، ط)
الكلمة من آية الكهف 40:(1/494)
بقية معشر صبّت عليهم ... شآبيب من الحسبان شهب
(تق، ك، ط)
الكلمة من آية الكهف 40:
{وَلَوْلََا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مََا شََاءَ اللََّهُ لََا قُوَّةَ إِلََّا بِاللََّهِ، إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مََالًا وَوَلَداً * فَعَسى ََ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهََا حُسْبََاناً مِنَ السَّمََاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مََاؤُهََا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً}
ومعها آية الأنعام 96 {فََالِقُ الْإِصْبََاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبََاناً}.
وآية الرحمن 5: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبََانٍ} وجاء الحساب بدلالة إسلامية على المحاسبة يوم الحساب، باستثناء آيتى يونس 5: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسََابَ} والإسراء 12.
لم يفت «الراغب» ربط الكلمة فى آية الكهف، بأصل معنى الحساب فى العدد. قال: الحساب استعمال العدد: (عدد السنين والحساب) (وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا) (ويرسل عليها حسبانا من السماء): نارا وعذابا. وإنما هو فى الحقيقة ما يحاسب عليه فيجازى به (المفردات). وحكاه أبو حيان فى البحر، عن الزجاج.
ودلالة المادة أصلا على العدد والحساب، لا تنفك عنها فى كل صيغها واستعمالها. ومنه جاء «الحساب» بدلالته الإسلامية على حساب الله لعباده على أعمالهم وكفى به حسيبا.
ولم يفرق «الراغب» بين الحسبان والحساب، كما ترى فيما نقلت من عبارته فى (المفردات). واختلاف الصيغتين يوجب اختلافا فى المعنى وراء دلالتهما المشتركة:
الاستعمال فى العدد، أصل الدلالة فى الحساب. ومنه أخذ الحسبان بمعنى التقدير الزمنى كما فى آيتى الأنعام «وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا» والرحمن:
«والشمس والقمر بحسبان».
واستعماله فى العقاب، ملحوظ فيه معنى المحاسبة على العمل، كما هو واضح من سياق آية الكهف: «ويرسل عليها حسبانا من السماء» يحتمل أن يكون نارا كما
قال ابن عباس، ويحتمل أن يكون مرامى من السماء، قاله الأخفش وأبو عبيدة، أو جرادا كما نقل عن أبى زياد الكلابى، أو البرد فيما روى عن الضحاك، أو الصواعق والإعصار كما فى آية البقرة 266، أو آفة مجتاحة (الطبرى، والقرطبى، وأبو حيان) والله أعلم.(1/495)
واستعماله فى العقاب، ملحوظ فيه معنى المحاسبة على العمل، كما هو واضح من سياق آية الكهف: «ويرسل عليها حسبانا من السماء» يحتمل أن يكون نارا كما
قال ابن عباس، ويحتمل أن يكون مرامى من السماء، قاله الأخفش وأبو عبيدة، أو جرادا كما نقل عن أبى زياد الكلابى، أو البرد فيما روى عن الضحاك، أو الصواعق والإعصار كما فى آية البقرة 266، أو آفة مجتاحة (الطبرى، والقرطبى، وأبو حيان) والله أعلم.
* * *123 {عَنَتِ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ}.
فقال ابن عباس: استسلمت وخضعت. واستشهد بقول الشاعر: (1)
ليبك عليك كلّ عان بكربة ... وآل قصىّ من مقلّ وذى وفر
الكلمة من آية طه 111 {يَوْمَئِذٍ لََا تَنْفَعُ الشَّفََاعَةُ إِلََّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمََنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمََا خَلْفَهُمْ وَلََا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ، وَقَدْ خََابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً}.
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة. من: عنا يعنو.
واليائى منها: عنى، ليس فى القرآن كذلك.
تفسيرها بالاستسلام والخضوع، فى المسألة، قاله الفراء فى معناها بآية طه.
وقال الطبرى: استأسرت وجوه الخلق واستسلمت، وأصل العنو الذل: عنا وجهه لربّه يعنو عنوا: خضع له وذل. وكذلك قيل للأسير عان لذلة الأسر. فأما قولهم:
أخذت الشيء عنوة، فهو أخذه غلبة، وقد يكون عن تسليم وطاعة. و «الراغب» فسر الكلمة كذلك بالخضوع، مع ربطها بالنصب والعناء، قال: وعنت الوجوه
__________
(1) غير منسوب فى الثلاثة، وأنشده ابن إسحاق لحذيفة بن غانم، من بنى كعب بن لؤى، فى أبيات يبكى بها عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف (السيرة 1/ 185) وعلى هامشها: ويقال إن الشعر لحذافة بن غانم، وهو أخوه، ووالد خارجة بن حذافة.(1/496)
للحى القيوم، أى خضعت مستأسرة بعناء. وعنّيته بكذا: أنصبته. وعنى: نصب واستأسر، ومنه العانى الأسير (المفردات).
والعربية تفرق بين الواوى واليائى من المادة، فتجعل الواوى للعناء والأسر والخضوع. ومنه العانى: الأسير، والمعاناة: المكابدة والمقاساة، والعنوة، القهر، والتعنى: التجشم.
واليائى للاهتمام والعناية، ومنه الحديث: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) أى: ما لا يهمه كما فى (النهاية).
* * *124 {ضَنْكاً}:
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {مَعِيشَةً ضَنْكاً}
فقال ابن عباس: الضنك الشديد. واستشهد بقول الشاعر:
(1) والخيل قد لحقت بها فى مأزق ... ضنك نواحيه، شديد المقدم
(تق، ك) الكلمة من آية طه 124:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ أَعْمى ََ * قََالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى ََ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قََالَ كَذََلِكَ، أَتَتْكَ آيََاتُنََا فَنَسِيتَهََا وَكَذََلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى ََ.}
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة.
معناها عند الفراء، الضيقة الشديدة، بالتأنيث، لأن الضيّق ليست كضنك:
يستوى فيه الواحد والاثنان والجمع، والمذكر والمؤنث: عيش ضنك ومعيشة ضنك، وصف بالمصدر. وهى عند أهل التأويل كذلك الضيق، أو الضيق
__________
(1) وقع فى مطبوعة الإتقان: [والخيل لقد لحقت بها فى مأزق].
وسقط من (ط) هذا الشاهد إلى الشاهد للمسألة 127 (حرضا) فاضطرب السياق واختل إيراد الشواهد.(1/497)
الشديد واختلاف أقوالهم فيها إنما هو فى وجه هذا الضنك: قيل عذاب القبر، وقيل الكسب الحرام، وقيل الزقوم (الطبرى، القرطبى.) والقرآن لم يستعمل ضنكا إلا فى هذا الموضع، نذيرا لمن أعرض عن ذكره تعالى، يحشره سبحانه يوم القيامة أعمى.
وأما الضيق، فجاء فى ضيق النفس والأرض على الثلاثة الذين خلفوا عن الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك، لغير نفاق: {حَتََّى إِذََا ضََاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمََا رَحُبَتْ وَضََاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لََا مَلْجَأَ مِنَ اللََّهِ إِلََّا إِلَيْهِ ثُمَّ تََابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} التوبة 118وفى ضيق الصدر بآيات الحجر 97، والشعراء 13، والأنعام 135ومعها، آيات: النحل 127 {وَلََا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمََّا يَمْكُرُونَ} والنمل 71، وهود 12 {فَلَعَلَّكَ تََارِكٌ بَعْضَ مََا يُوحى ََ إِلَيْكَ وَضََائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} والخطاب فى الآيات الثلاث، للنبى عليه الصلاة والسلام. وآيتا هود 77، والعنكبوت 33فى ضيق لوط عليه السلام بضيفه: «سىء بهم وضاق بهم ذرعا».
وجاء الضيق فى سياق عذاب الآخرة، فى آية الفرقان 13:
{بَلْ كَذَّبُوا بِالسََّاعَةِ وَأَعْتَدْنََا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسََّاعَةِ سَعِيراً * إِذََا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهََا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذََا أُلْقُوا مِنْهََا مَكََاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنََالِكَ ثُبُوراً}.
يبدو أن الضنك، فى البيان القرآنى، أشد الضيق وهو فى الشاهد للمأزق.
وضنك السعال يأخذ بالخناق.
وأما الضيق، فأعمّ فى الدلالة من الضنك، يكون من عذاب كآية الفرقان، ويكون من ضيق الصدر همّا وكربا، كما يكون من ضيق الأرض والمكان. والله أعلم أو بعبارة موجزة: الضيق نقيض السعة، على الحقيقة أو المجاز.
والضنك: أشد الضيق والمأزق. «ويقال: إن المال الحرام ضنك، وإن كثر واتّسع فيه» الأساس.(1/498)
وأما الضيق، فأعمّ فى الدلالة من الضنك، يكون من عذاب كآية الفرقان، ويكون من ضيق الصدر همّا وكربا، كما يكون من ضيق الأرض والمكان. والله أعلم أو بعبارة موجزة: الضيق نقيض السعة، على الحقيقة أو المجاز.
والضنك: أشد الضيق والمأزق. «ويقال: إن المال الحرام ضنك، وإن كثر واتّسع فيه» الأساس.
* * *125 {فَجٍّ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {مِنْ كُلِّ فَجٍّ}
فقال ابن عباس: طريق. واستشهد بقول الشاعر:
حازوا العيال وسدّوا الفجا ... ج بأجساد عاد لها آبدات
(تق) وفى (ك): الشاعر يرثى قوم عاد.
الكلمة من آية الحج 27: خطابا لإبراهيم عليه السّلام:
{وَأَذِّنْ فِي النََّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجََالًا وَعَلى ََ كُلِّ ضََامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}.
ومعها، بصيغة الجمع، آيتا:
الأنبياء 31: {وَجَعَلْنََا فِي الْأَرْضِ رَوََاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنََا فِيهََا فِجََاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}.
نوح 20: {وَاللََّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسََاطاً * لِتَسْلُكُوا مِنْهََا سُبُلًا فِجََاجاً}.
وهذا كل ما فى القرآن من المادة.
الفجّ واحد الفجاج عند أهل اللغة: كل سعة بين نشازين (تهذيب الألفاظ باب أسماء الطرق) أو هو الطريق الواسع بين جبلين. والفجّة، بالضم الفرجة (ق) وفرّق الراغب بين طريق وفج، فقال: الطريق السبيل الذى يطرق بالأرجل، وعنه استعير كل مسلك يسلكه الإنسان فى فعله، محمود ومذموم. والفج: شقة يكتنفها جبلان، ويستعمل فى الطريق الواسع (المفردات).
وقيده ابن الأثير كذلك بالسعة فى حديث الحج: «وكل فجاج مكة منحر» قال: الفجاج جمع فج، وهو الطريق الواسع (النهاية).(1/499)
الفجّ واحد الفجاج عند أهل اللغة: كل سعة بين نشازين (تهذيب الألفاظ باب أسماء الطرق) أو هو الطريق الواسع بين جبلين. والفجّة، بالضم الفرجة (ق) وفرّق الراغب بين طريق وفج، فقال: الطريق السبيل الذى يطرق بالأرجل، وعنه استعير كل مسلك يسلكه الإنسان فى فعله، محمود ومذموم. والفج: شقة يكتنفها جبلان، ويستعمل فى الطريق الواسع (المفردات).
وقيده ابن الأثير كذلك بالسعة فى حديث الحج: «وكل فجاج مكة منحر» قال: الفجاج جمع فج، وهو الطريق الواسع (النهاية).
ومما هدى إليه التدبر لآيات القرآن فى الفج والطريق:
الفج والفجاج فى آياتهما الثلاث، على أصل معناها فى الطريق الحسى المطروق.
وأما الطريق، فيأتى حسيّا فى آية طه 77خطابا لموسى عليه السّلام: {أَنْ أَسْرِ بِعِبََادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً}
ومعها المؤمنون 17، فى مجرى الأفلاك: «ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق».
ويأتى فى سائر الآيات بدلالة معنوية مجازية، كآيات:
الأحقاف 30: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى ََ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}.
النساء 168: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللََّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلََا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلََّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً}
وفى المعنوى كذلك، تأتى طريقة وطرائق فى آيات:
طه 104: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخََافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلََّا عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمََا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلََّا يَوْماً}
الجن 11: {وَأَنََّا مِنَّا الصََّالِحُونَ وَمِنََّا دُونَ ذََلِكَ، كُنََّا طَرََائِقَ قِدَداً}
الجن 16: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقََامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنََاهُمْ مََاءً غَدَقاً}
ولاختصاص فجاج، بالطرق الحسية، جاءت: «فجاجا سبلا» «سبلا فجاجا» ولم تأت سبل مع طرائق وطريق وطريقة إذ يغلب استعمالها بدلالة مجازية معنوية للمسلك محمودا أو مذموما، استعارة من الطريق المطروق، كما قال «الراغب» والله أعلم.
* * *
126 {الْحُبُكِ}(1/500)
* * *
126 {الْحُبُكِ}
: قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الْحُبُكِ}
قال: الطرائق. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول زهير ابن أبى سلمى:
مكلّل بأصول النجم تنسجه ... ريح الشمال لضاحى مائه حبك (1)
(ظ فى الروايتين، طب) وفى (تق، ك): ذات طرائق والخلق الحسن. وشاهده قول زهير:
هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا ... لا ينكصون (2) إذا ما استلحموا وحموا
الكلمة من آية الذاريات 7:
{إِنَّمََا تُوعَدُونَ لَصََادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوََاقِعٌ * وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}.
وحيدة فى القرآن، مادة وصيغة.
الحبك فى شرح الديوان: طرائق الماء، الواحد حبيك. وعلى هامشه: والذى فى كتب اللغة أن مفرد الحبك حباك، ككتب وكتاب. والنقل من (ق).
فى (معانى القرآن) قال الفراء: وواحد الحبك حباك وحبيكة أيضا.
وقاله الزمخشرى فى (س) وأبو حيان فى (البحر) والجوهرى فى (ص) ولفظه:
الحبيكة والحباك الطريقة فى الرمل. وجمع الحبك حباك، وجمع الحبيكة حبيك وحبائك وحبك كسفينة وسفين وسفائن وسفن.
__________
(1) الديوان، والبحر المحيط. والمسألة فى خمس مسائل سقطت من (ط) بالمقابلة على (ك) وينتهى السقط عند المسألة فى (يدع)
(2) * لا ينكصون * رواية الأعلم، ومثلها فى شواهد الطبرى والبحر والأساس. ورواه ثعلب * لا ينكلون * استلحموا أدركوا. وفى رواية: استلأموا (الديوان).(1/501)
وهى عندهم الطرائق، فى الرمل، إذا مرت به الريح الساكنة فتكسر، والماء كذلك وطرائق النجوم، والدرع محبوكة لأن حلقها مطرق طرائق، والمحبوك الشديد الخلق من فرس وغيره والمجعد من خصل الشعر ومن العرى.
وسبق النظر فى طريق وطرائق، فى المسألة 125 {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} وقال الراغب فى الحبك: الطرائق فمن الناس من تصور أنها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرة. ومنهم من اعتبر ذلك بما فيها من الطرائق المعقولة المدركة بالبصيرة.
وأصله من قولهم: محبوك العرى أى محكمه. والاحتباك شدّ الإزار (المفردات).
فتأويلها فى المسألة بالطرائق، والخلق الحسن، لا يفيد دلالة الإحكام الملحوظة فى الحبك.
* * *127 {حَرَضاً}
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {حَتََّى تَكُونَ حَرَضاً}
قال: الحرض البالى. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم أما سمعت طرفة حيث يقول:
أمن ذكر ليلى أن نأت غربة النوى ... كأنك حمّ للأطباء محرض (1)
(ظ) فى الروايتين وفى (وق): الفاسد الدنف، وفى (طب): البالى.
والشاهد فيها بيت طرفة. وفى (تق ك): الحرض الدنف الهالك من شدة الوجع. والشاهد فيهما بيت طرفة، غير منسوب.
__________
(1) من (ظ، تق، ك) وفى (وق): أمن ذكر سلمى * وفى (طب) مقابلا على زوائده فى مجمع الهيثمى:
أمن ذكر ليلى إن نأت غربة بها ... أعد حريضا للكرام محرم(1/502)
الكلمة من آية يوسف 85، فى أبيه عليهما السلام، وإخوته:
{وَتَوَلََّى عَنْهُمْ وَقََالَ يََا أَسَفى ََ عَلى ََ يُوسُفَ، وَابْيَضَّتْ عَيْنََاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قََالُوا تَاللََّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتََّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهََالِكِينَ}
وحيدة الصيغة، وليس معها فى القرآن من مادتها سوى فعل الأمر «حرّض» المؤمنين على القتال فى آيتى الأنفال 85، والنساء 84.
يقال: حرض، للمذكر والمؤنث، الواحد والاثنين والجمع، وصف بالمصدر.
ويقال: حارض وحارضة فيثنى ويجمع. وهو الفاسد فى جسمه أو عقله (معانى القرآن للفراء 2/ 54).
وعن أبى عبيدة: الحرض الفساد فى الجسم، أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم. وفى (تهذيب الألفاظ): الحارض: الرذل الفسل الذاهب العقل، والحرض الذى لا يرجى خيره ولا يخاف منه. وفى (س) المنهك المشفى على الهلاك. ومعه فى (ق) الكالّ المعيى، والمضنى مرضا وسقما وفى (المقاييس) لمادة حرض أصلان.
أحدهما نبت الأشنان، والإحريض العصفر، والآخر دليل التلف والإشراف على الهلاك، ومنه {حَتََّى تَكُونَ حَرَضاً}.
وتأوله آخرون بالتالف الدنف من المرض وهو دون الموت، عن ابن عباس ومجاهد. وقيل اليابس الجلد على العظم، والذائب من الهم. (الطبرى والقرطبى) وهى معان متقاربة، وفى قول: هالكا، وليس السياق.
وفسره الراغب بنحو ما نقلناه عن ابن السكيت والزمخشرى.
تأويله فى المسألة بالبالى، لا يفيد دلالة من أذابه الهم وأضناه الأسف والحزن.
وتأويله بالهالك، يمنعه سياق الآية {حَتََّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهََالِكِينَ}
فالأقرب إلى حرض، المشفى على الهلاك. والله أعلم.
* * *128 {يَدُعُّ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {يَدُعُّ الْيَتِيمَ}.
فقال ابن عباس: يدفعه عن حقه. واستشهد بقول أبى طالب:(1/503)
وسأل نافع عن قوله تعالى: {يَدُعُّ الْيَتِيمَ}.
فقال ابن عباس: يدفعه عن حقه. واستشهد بقول أبى طالب:
يقسّم حقّا لليتيم ولم يكن ... يدعّ لدى أيسارهن الأصاغرا
(تق، ك، ط) الكلمة من آية الماعون 2:
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذََلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلََا يَحُضُّ عَلى ََ طَعََامِ الْمِسْكِينِ}.
معها فى القرآن من مادتها آية الطور 13 {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى ََ نََارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}
فى (مقاييس اللغة): الدال والعين أصل واحد منقاس مطرد، وهو يدل على حركة ودفع واضطراب. ومعنى {يَدُعُّ الْيَتِيمَ} عند الفراء كالذى فى المسألة:
يدفعه عن حقه ويظلمه، (3/ 264) وهو أحد الأقوال فى تأويلها عند الطبرى، ومعه: يقهره، ويدفعه. وفسر ابن الأثير الدفع بالطرد.
ولعل القهر والدفع بقسوة وجفوة. أولى من تأويلها فى المسألة بدفعه عن حقه، ونستأنس لها بآية الطور:
{فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى ََ نََارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هََذِهِ النََّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهََا تُكَذِّبُونَ}
ولا حق فيها للمكذبين يدعّون عنه ويدفعون، وإنما الدعّ سوق بقهر ونهر وغلظة ودع اليتيم، قد يكون مع عدم دفعه عن حقه وظلمه، وقد يتصور بعض الناس أنهم إذا أدوا لليتيم حقه وماله، فليس عليهم وراء ذلك أن ينهروه ويصدوه فى جفاء وقسوة وغلظة. وفى (الأساس): دع اليتيم دفعه بجفوة.
اللهم إلا أن يدخل فى حقه، على تأويلها بالدفع عنه، ما أمر به الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام من إكرام اليتيم والرفق به والمرحمة، وأنه تعالى جعل
دعّ اليتيم فى الآية تكذيبا بالدين. وفيما منّ به الله تعالى على نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ََ}
صدق الله العظيم.(1/504)
اللهم إلا أن يدخل فى حقه، على تأويلها بالدفع عنه، ما أمر به الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام من إكرام اليتيم والرفق به والمرحمة، وأنه تعالى جعل
دعّ اليتيم فى الآية تكذيبا بالدين. وفيما منّ به الله تعالى على نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ََ}
صدق الله العظيم.
* * *129 {مُنْفَطِرٌ}
: وسأل نافع عن قوله تعالى: {السَّمََاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ}
فقال ابن عباس: منصدع من خوف يوم القيامة. واستشهد بقول الشاعر:
طباهنّ حتى أعوص الليل دونها ... أفاطير وسمّى رواء جذورها
(تق، ك، ط) الكلمة من آية المزمل 18:
{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدََانَ شِيباً * السَّمََاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ، كََانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا}.
وحيدة الصيغة فى القرآن، ومعها الفعل الماضى فى آية الانفطار: {إِذَا السَّمََاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوََاكِبُ انْتَثَرَتْ}.
ومن المادة، جاء الفعل الثلاثى ماضيا ثمانى مرات، الإسناد فيها جميعا لله سبحانه الذى «فطر» السموات والأرض، وفطرنى وفطرنا وفطركم أول مرة. كما جاء اسم الفاعل ست مرات، لله تعالى: {فََاطِرِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} ومعها {فِطْرَتَ اللََّهِ الَّتِي فَطَرَ النََّاسَ عَلَيْهََا}.
و «فطور» فى آية الملك 3: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى ََ مِنْ فُطُورٍ} و {يَتَفَطَّرْنَ}
فى آيتى مريم 90، والشورى 5.
فى معنى آية المزمل، قال الفراء: منفطر به بذلك اليوم. والسماء تذكر وتؤنث، فهى هاهنا على وجه التذكير (3/ 199).
وفى المجاز لأبى عبيدة، قال: جعلت السماء بدلا من السقف، بمنزلة تذكير سماء
البيت (1/ 15) ونحوه عن أبى عمرو بن العلاء، والكسائى، حكاه أبو حيان والقرطبى فى تفسير الآية. مع خلاصة لأقوال علماء اللغة فى توجيه التذكير.(1/505)
وفى المجاز لأبى عبيدة، قال: جعلت السماء بدلا من السقف، بمنزلة تذكير سماء
البيت (1/ 15) ونحوه عن أبى عمرو بن العلاء، والكسائى، حكاه أبو حيان والقرطبى فى تفسير الآية. مع خلاصة لأقوال علماء اللغة فى توجيه التذكير.
وجاءت فى القرآن على وجه التأنيث، فى {إِذَا السَّمََاءُ انْفَطَرَتْ}.
وفسر البخارى «منفطر به»، بمثقلة به. ذكر ابن حجر تخريجه عن الحسن قال:
مثقلة به يوم القيامة، وبلفظ: مثقلة موقرة، كذلك (فتح البارى 8/ 478).
وفى تأويل الطبرى: السماء مثقلة بذلك اليوم متصدعة مشققة. وأسند عن ابن عباس قال: يعنى تشقق السماء حين ينزل الرحمن عز وجل يوم القيامة. وعنه أيضا: ممتلئة به، بلسان الحبشة.
ورده الراغب إلى: أصل الفطر الشق طولا، يقال فطر فلان كذا فطورا وانفطر «من فطور» من اختلال. وذلك على سبيل الفساد. وقد يكون على سبيل الصلاح، قال تعالى «السماء منفطر به» (المفردات).
وأسند ابن الأنبارى، فى غير المسائل، من طريق مجاهد عن ابن عباس، قال:
ما كنت أدرى ما «فاطر السموات والأرض» حتى أتانى أعرابيان يختصمان فى بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، أنا ابتدأتها. (الوقف، فقرة 109).
وفى القرآن الكريم، لا يأتى (فطر، وفاطر) إلا بدلالة إسلامية، لله عز وجل فاطر السموات والأرض، والفطرة الخلقة الأصيلة التى فطر الله الناس عليها.
ومن استعمال المادة فى العربية: فطر الناب، ورءوس العنب عن تشقق، ومنه: تفطرت قدماه إذا تشققت. والإفطار لوجبة الصباح، تكسر جوع الليل، وانتقل إلى إفطار الصائم وزكاة الفطر. والفطور خلل، منظور فيه إلى الأصل فى التصدع، وهو واضح فى انفطار السماء وتفطر السموات والأرض.
والضمير فى {مُنْفَطِرٌ بِهِ} الله عز وجل عند من تأولوه بذلك، وليوم القيامة على التأويل الأرجح.
وإسناد الانفطار والتفطر إلى السماء والأرض، هو من الإسناد المجازى الدال على طواعية تلقائية كأنه يستغنى بها عن فاعل، ونظيره فى آيات القيامة: {إِذَا
السَّمََاءُ انْشَقَّتْ} {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} {وَإِذَا الْكَوََاكِبُ انْتَثَرَتْ} وقد مضى النظر فيها فى مباحث الإعجاز.(1/506)
وإسناد الانفطار والتفطر إلى السماء والأرض، هو من الإسناد المجازى الدال على طواعية تلقائية كأنه يستغنى بها عن فاعل، ونظيره فى آيات القيامة: {إِذَا
السَّمََاءُ انْشَقَّتْ} {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} {وَإِذَا الْكَوََاكِبُ انْتَثَرَتْ} وقد مضى النظر فيها فى مباحث الإعجاز.
* * *130 {يُوزَعُونَ}
وسأله عن معنى قوله تعالى: {فَهُمْ يُوزَعُونَ}
قال: يحبس أولهم على آخرهم حتى تنام الطير، وشاهده قول الشاعر:
وزعت رعيلها بأقبّ نهد ... إذا ما القوم شدّوا بعد خمس
(تق، ك، ط) الكلمة من آيات:
النمل 17: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمََانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}.
«82: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيََاتِنََا فَهُمْ يُوزَعُونَ}
فصلت 19: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدََاءُ اللََّهِ إِلَى النََّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}
وليس فى القرآن من المادة، غير هذا الفعل المضارع مبنيّا للمجهولين فى الآيات الثلاث.
ومعها فعل الأمر فى آيتى النمل 19والأحقاف 15: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ}.
الوزع عند أهل اللغة: الكف والمنع. وأوزعه بالشىء أغراه به، قاله الفراء فى معنى آية الصافات، والجوهرى والزمخشرى فى (ص، س) «وقال بعض أهل اللغة: أوزعت حرف من الأضداد، يقال أوزعت الرجل إذا أغريته بالشىء، وإذا نهيته وحبسته عنه «فهم يوزعون» والصحيح عندنا أن يكون أوزعت بمعنى أمرت وأغريت، ووزعت بمعنى حبست. والدليل عليه قوله تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} (الأضداد 83/ 139).
قال أبو حاتم السجستانى: وقالوا، زعموا: أوزعنى به أولعنى به، وهذا معروف. وقالوا: أوزعته نهيته وكففته، وقال تعالى: {فَهُمْ يُوزَعُونَ}، أى يكفون ويمنعون. قال أبو حاتم: لا علم لى بهذا، وهو قرآن فلا أقدم عليه. ولكن يقال: وزعته نهيته وكففته. ومنه قيل: يوزعون. ومنه وزعة السلطان الذين يكفون عنه الناس. وفى الحديث «لا بدّ للسلطان من وزعة» وقال الذبيانى:(1/507)
الوزع عند أهل اللغة: الكف والمنع. وأوزعه بالشىء أغراه به، قاله الفراء فى معنى آية الصافات، والجوهرى والزمخشرى فى (ص، س) «وقال بعض أهل اللغة: أوزعت حرف من الأضداد، يقال أوزعت الرجل إذا أغريته بالشىء، وإذا نهيته وحبسته عنه «فهم يوزعون» والصحيح عندنا أن يكون أوزعت بمعنى أمرت وأغريت، ووزعت بمعنى حبست. والدليل عليه قوله تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} (الأضداد 83/ 139).
قال أبو حاتم السجستانى: وقالوا، زعموا: أوزعنى به أولعنى به، وهذا معروف. وقالوا: أوزعته نهيته وكففته، وقال تعالى: {فَهُمْ يُوزَعُونَ}، أى يكفون ويمنعون. قال أبو حاتم: لا علم لى بهذا، وهو قرآن فلا أقدم عليه. ولكن يقال: وزعته نهيته وكففته. ومنه قيل: يوزعون. ومنه وزعة السلطان الذين يكفون عنه الناس. وفى الحديث «لا بدّ للسلطان من وزعة» وقال الذبيانى:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألمّا تصح والشيب وازع
(الأضداد: أوزع).
والمعنيان فى: وزع، كف ومنع، وأوزع أغرى. فى (ص، س) والنهاية لابن الأثير. وفى (المقاييس): وزعته عن الأمر: كففته، قال الله سبحانه: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أى يحبس أولهم على آخرهم. وجمع الوازع وزعة.
تأويلها فى المسألة بحبس أولهم على آخرهم حتى تنام الطير، لا يبدو وجه قيد الإيزاع بنوم الطير الذى فى معانى القرآن للفراء: وجاء فى التفسير يحبس أوّلهم على آخرهم حتى يدخلوا النار، وأسنده الطبرى عن ابن عباس، وعنه أيضا: يجعل على كل صنف من يرد أولاها على أخراها لئلا يتقدموا كما تصنع الملوك. وعن قتادة: يرد أولهم على آخرهم. واختاره الطبرى لأن الوازع فى كلام العرب هو الكافّ. يقال منه: وزع فلانا عن الظلم إذا كفه عنه. وإنما قيل للذين يدفعون الناس عن الأمراء: وزعة، لكفهم إياهم عنهم.
وفسر الراغب الوزع بالكف. على سبيل القمع فى آية النمل 17، وعلى سبيل العقوبة فيمن يدعّون إلى جهنم فى آيتى النمل 82وفصلت 19، وقيل الوزع الولوع. ومنه «رب أوزعنى أن أشكر نعمتك» معناه ألهمنى. وتحقيقه: أولعنى بذلك واجعلنى بحيث أزع نفسى عن الكفران (المفردات).
والكلمة المسئول عنها مبنية للمجهولين، مما يؤنس إلى دلالة السوق إلى المحشر
وعلى وجه الدع والقسر والإرغام. والله أعلم.(1/508)
والكلمة المسئول عنها مبنية للمجهولين، مما يؤنس إلى دلالة السوق إلى المحشر
وعلى وجه الدع والقسر والإرغام. والله أعلم.
ولعل أصل المعنى فى اللغة: الدفع والسّوق قسرا، فالموزع مساق بإرادة غيره.
ويأخذ الدفع صفة الإرغام فيمن يوزعون إلى المحشر، ويأخذ صفة الحمل والتوجيه فى الدعاء.
ومن ملحظ التشتت والحيرة والبعثرة فى سوق الجمع قسرا، جاء معنى التفرق فى الأوزاع.
* * *131 {خَبَتْ}
: وسأله نافع عن قوله تعالى: {كُلَّمََا خَبَتْ}.
فقال ابن عباس: الخبوّ الذى يطفأ مرة ويسعر أخرى. واستشهد له بقول الشاعر:
والنار تخبو عن آذانهم ... وأضرمها إذا ابتردوا سعيرا (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية الإسراء 97:
{وَمَنْ يَهْدِ اللََّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيََاءَ مِنْ دُونِهِ، وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ عَلى ََ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا، مَأْوََاهُمْ جَهَنَّمُ، كُلَّمََا خَبَتْ زِدْنََاهُمْ سَعِيراً}.
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة.
تأويلها فى المسألة بالانطفاء مرة والسعير أخرى، قد يفهم منه أن سياق الخبو فتور حدة اللهب وانطفاء وهجه، مع القابلية للتسعير المستمر. وهو صريح فيما أسنده الطبرى عن ابن عباس، قال: كلما أحرقتهم تسعر بهم حطبا فإذا أحرقتهم
__________
(1) لم أقف على الشاهد فى مراجعى لأصحح لفظه وأقيم سياقه. والنقل من (ك، ط) وفى (نق):
والنار تخبو عن أراهم ... وأحرمها إذا بردوا سعيرا(1/509)
فلم تبق منهم شيئا صارت جمرات تتوهج. فذلك خبوها.
وفسرها «الراغب» بسكون لهبها، كأنه صار عليها خباء من رماد، أى غشاء.
وهو قريب من قول الزمخشرى فى الأساس: «ومن المجاز: وخبا لهبه إذا سكن أوار غضبه. والحب فى خبائه، وهو غشاوة من السنبلة. واحترز القرطبى فقال:
وسكون التهابها من غير نقصان فى آلامهم ولا تخفيف عنهم من عذابهم.
* * *132 {كَالْمُهْلِ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {كَالْمُهْلِ}.
فقال ابن عباس: كدردىّ الزيت. ولما سأل نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
تبارى بها العيس (1) السموم كأنها ... تبطنت الأقراب من عرق مهلا
(تق) زاد فى (ك، ط): وسواد العرق من خوف يوم القيامة الكلمة من آيات ثلاث:
الكهف 29: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ شََاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شََاءَ فَلْيَكْفُرْ، إِنََّا أَعْتَدْنََا لِلظََّالِمِينَ نََاراً أَحََاطَ بِهِمْ سُرََادِقُهََا، وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغََاثُوا بِمََاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ، بِئْسَ الشَّرََابُ وَسََاءَتْ مُرْتَفَقاً}.
الدخان 45: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعََامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}.
المعارج 8: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمََاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبََالُ كَالْعِهْنِ * وَلََا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً}.
__________
(1) وقع فى (ك، ط): تبارى بنا العيم *(1/510)
ومن المادة، جاء فعل الأمر من التمهيل والإمهال فى آيتى المزمل 11 والطارق 17.
من معانى المهل فى اللغة: القطران الرقيق. وما ذاب من صفر أو حديد، والزيت أو درديه أو رقيقه، وما يتحاتّ من الرماد، والجمر والسم والقيح وصديد الميت. والمهل، بالفتح، التؤدة والسكينة والرفق. وأمهله ترفق به، ومهّله: أجّله.
وتمهل اتأد (ص، ق، س) فلعل المهل فى الأصل لذوب المعدن المنصهر ذكره ابن فارس فى المقاييس بلفظ: وقالوا هو النحاس الذائب لحظ فيه بطء الانصهار فجاء المهل بمعنى التؤدة والبطء، والإمهال بمعنى الإرجاء والتأخير، والتمهيل بمعنى الصبر على من تمهله. وبملحظ من توقد الانصهار قيل للجمر مهل، ونقل إلى كل سائل كريه مؤذ، كدردى الزيت والقيح وصديد الميت.
وروى الطبرى من اختلاف أهل التأويل فى المهل: أنه كل شىء أذيب وانماع.
وقيل هو القيح والدم الأسود، عن مجاهد. وعن ابن عباس: أسود كهيئة الزيت.
وعنه أيضا: هو ماء غليظ مثل دردى الزيت. وفسره الراغب كذلك بدردى الزيت.
وعند الطبرى: «أن هذه الأقوال وإن اختلفت ألفاظ قائليها فمتقاربات المعنى» والله أعلم.
* * *133 - وبيل
: وسأل نافع عن قوله تعالى: {أَخْذاً وَبِيلًا}
فقال ابن عباس: شديدا ليس له ملجأ. واستشهد له بقول الشاعر:
أخزى الحياة وخزى الممات ... وكلّا أراه طعاما وبيلا (1)
الكلمة من آية المزمل 16:
{فَعَصى ََ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنََاهُ أَخْذاً وَبِيلًا}.
__________
(1) وفى معجم غريب القرآن: أذل الحياة وعز الممات. وهى الرواية فى (عيون الأخبار 1/ 191) وبعده:
فإن كان لا بدّ من واحد ... فسيروا إلى الموت سيرا جميلا(1/511)
وحيدة الصيغة فى القرآن.
ومن مادتها، جاء «وبال أمره» فى آية المائدة 95، {وَبََالَ أَمْرِهِمْ} فى آية الحشر 15، {وَبََالَ أَمْرِهََا} فى آية الطلاق 9.
وجاء «وابل» ثلاث مرات فى آيتى البقرة 264، 265.
فى تفسير البخارى: قال ابن عباس: وبيلا شديدا. وفى فتح البارى: وقال أبو عبيدة مثله. وحكاه القرطبى كذلك عن ابن عباس. وقال الزجاج: ثقيلا غليظا، وقيل: مهلكا (سورة المزمل).
وردّه «الراغب» إلى معنى الثقل فى المطر الوابل والوبل، ولمراعاة الثقل قيل للأمر الذى يخاف ضرره: وبال، ويقال طعام وبيل وكلأ وبيل، يخاف وباله، قال تعالى: {أَخْذاً وَبِيلًا} (المفردات).
وقال ابن الأثير: الوبال فى الأصل الثقل والمكروه، وفى حديث «فاستوبلوا المدينة» أى استوخموها ولم توافق أبدانهم. ويقال أرض وبلة، أى وبئة وخمة.
وفى (المقاييس): الواو والباء واللام أصل يدل على شدة فى شىء وتجمع (وبل 6/ 82).
قد نرى أن العربية خالفت بين الصيغ لفروق فى الدلالات، فجعلت الوابل للثقل الشديد التدفق والانهمار، وأكثر ما يختص به المطر. وجعلت الوبال للويل وثقل العذاب، وجعلت الوبل للوبيء الوخيم، والوبيل للفادح المهلك.
* * *134 {فَنَقَّبُوا}
: وسأل نافع عن قوله تعالى: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلََادِ}.
فقال ابن عباس: هربوا، بلغة اليمن. واستشهد بقول عدى بن زيد (1):
__________
(1) كذا فى (تق، ك، ط) ولم أجده فى ديوان عدى. وهو فى شواهد الكشاف للحارث بن كلدة، وفى البحر المحيط: للحارث بن خلدة. ولعله من تصحيف الطبع للحارث بن حلزة كما فى جامع القرطبى.(1/512)
نقبوا فى البلاد من حذر المو ... ت وجالوا فى الأرض أى مجال
(تق، ك، ط) الكلمة من آية (ق) 36:
{وَكَمْ أَهْلَكْنََا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلََادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ}.
وحيدة الصيغة فى مادتها.
وجاء النقب فى آية الكهف 97، فى خبر ذى القرنين:
{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتََّى إِذََا سََاوى ََ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قََالَ انْفُخُوا، حَتََّى إِذََا جَعَلَهُ نََاراً قََالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطََاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطََاعُوا لَهُ نَقْباً}.
ونقيب فى آية المائدة 12:
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ بَنِي إِسْرََائِيلَ وَبَعَثْنََا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً}
القراءة {فَنَقَّبُوا} قراءة الأئمة السبعة.
معناها عند الفراء: خرقوا البلاد فساروا فيها فهل كان لهم من الموت محيص؟
(3/ 79) وعن النصر بن شميل: دوّروا. وفى (س): ساروا.
وفى تأويل الطبرى: فخربوا فى البلاد فساروا فيها فطافوا وتوغلوا إلى الأقاصى منها. وفى تفسير القرطبى: ساروا فيها طلبا للمهرب وقيل: أثروا، عن ابن عباس. وقال مجاهد: ضربوا وطافوا، وقال قتادة طوّفوا، وقال المؤرج السدوسى تباعدوا.
وقال أبو حيان: أى دخلوا البلاد من أنقابها، والمعنى طافوا فى البلاد. وقيل:
نقروا وبحثوا. والتنقيب التنقير والبحث. وقال الراغب: النقب فى الحائط والجلد كالثقب ونقب القوم ساروا (المفردات).
ودلالة البحث والتنقير بفتح الشيء كما فى المقاييس أصل فى المادة وقد يجمع
بين الأقوال المتعددة فى تأويل الكلمة أنهم ساروا فى البلاد وطافوا بالآفاق وتباعدوا بحثا عن محيص من الموت ومنجى من الهلاك وهيهات. ولحظ أبو حيان أن تنقيبهم فى البلاد متسبب عن شدة بطشهم، أقدرتهم على التنقيب وقوّتهم عليه. ونظّر لها الفراء والطبرى بقوله تعالى فى سورة محمد عليه الصلاة والسلام:(1/513)
ودلالة البحث والتنقير بفتح الشيء كما فى المقاييس أصل فى المادة وقد يجمع
بين الأقوال المتعددة فى تأويل الكلمة أنهم ساروا فى البلاد وطافوا بالآفاق وتباعدوا بحثا عن محيص من الموت ومنجى من الهلاك وهيهات. ولحظ أبو حيان أن تنقيبهم فى البلاد متسبب عن شدة بطشهم، أقدرتهم على التنقيب وقوّتهم عليه. ونظّر لها الفراء والطبرى بقوله تعالى فى سورة محمد عليه الصلاة والسلام:
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنََاهُمْ فَلََا نََاصِرَ لَهُمْ}. صدق الله العظيم.
* * *135 {هَمْساً}
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {فَلََا تَسْمَعُ إِلََّا هَمْساً}.
قال: الهمس خفى الأقدام. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال:
نعم، أما سمعت بقول أبى زبيد الطائى:
فباتوا ساكنين (1) وبات يسرى ... بصير بالدّجى هاد هموس
(ظ، فى الروايتين) وفى (تق، ك، ط) قال: الوطء الخفى والكلام الخفى، وشاهده بيت أبى زبيد غير منسوب.
الكلمة من آية طه 108:
{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدََّاعِيَ لََا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوََاتُ لِلرَّحْمََنِ فَلََا تَسْمَعُ إِلََّا هَمْساً}.
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة.
فى معناها عند الفراء: يقال: نقل الأقدام إلى المحشر ويقال إنه الصوت الخفى
__________
(1) من ظ فى الروايتين. وفى (تق، ك، ط): فباتوا يدلجون * وهى رواية أبى على القالى، أنشده لأبى زبيد (سمط اللآلى 1/ 438) وابن فارس فى (المقاييس 2/ 338) وشواهد الكشاف وفى شرحها: الإدلاج سير أول الليل وأبى العلاء فى الصاهل والشاحج، فى أربعة أبيات، فى صفة الأسد (645ذخائر) وفيها تخريجه.(1/514)
وذكر عن ابن عباس أنه تمثل بقول الراجز: ... وهن يمشين بنا هميسا ... فهذا صوت
أخفاف الإبل فى سيرها (المعانى: سورة طه).
وبناء (هـ م س) أصله الخفاء كيفما تصرف. ومنه الحروف المهموسة. قال القرطبى. وفى تأويل الطبرى أنه وطء الأقدام إلى المحشر، وأصله الصوت الخفى. وأسند عن ابن عباس قال: يعنى همس الأقدام وهو الوطء، وعنه:
الصوت الخفى.
ولا يخرج عن هذين القولين، جمهرة أهل التأويل وهو قول الراغب: الصوت الخفى وهمس الأقدام أخفى ما يكون من صوتها. وذكر الآية. وقال ابن الأثير فى حديث: (فجعل بعضنا يهمس إلى بعض): أى بالكلام الخفى لا يكاد يسمع.
والهموس فى الشاهد، من خفى وطء الأقدام. ولعله فى الآية، والله أعلم، أقرب إلى أن يكون من همس الأصوات خشوعا وهيبة، بصريح قوله تعالى:
{وَخَشَعَتِ الْأَصْوََاتُ لِلرَّحْمََنِ فَلََا تَسْمَعُ إِلََّا هَمْساً} صدق الله العظيم.
* * *136 {مُقْمَحُونَ}:
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {مُقْمَحُونَ}.
فقال ابن عباس: المقمح الشامخ بأنفه المنكس رأسه. ولما سأله ابن الأزرق:
وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر (1):
ونحن على جوانبها قعود ... نغضّ الطّرف كالإبل القماح
(تق، ك، ط) الكلمة من آية يس 8:
__________
(1) غير منسوب فى الثلاثة. وهو لبشر بن أبى خازم، يصف سفينة (ديوانه 48) وفى شواهد الأصمعى (الأضداد 16) وغريب القرآن لابن قتيبة (363ط الحلبى) ومقاييس اللغة لابن فارس (5/ 24) غير منسوب ومختارات ابن الشجرى، وفى مادة: ق م ح من (ل، س) ولبشر كذلك فى شواهد القرطبى وأبى حيان، فى تفسير الآية.(1/515)
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى ََ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ * إِنََّا جَعَلْنََا فِي أَعْنََاقِهِمْ أَغْلََالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقََانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنََا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنََاهُمْ فَهُمْ لََا يُبْصِرُونَ}.
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة.
قال الأصمعى: والقوامح التى ترفع رءوسها عن الماء فلا تشرب، قال بشر يذكر سفينة وركبانها: ونحن على جوانبها ... البيت. ويقال للشهرين اللذين يشتد
فيهما البرد شهرا قماح، لأن الإبل تقامح فيهما، أى تكره شرب الماء من شدة البرد. (الأضداد: قمح). وخصه ابن فارس أصلا بصفة تكون عند شرب الماء، وهو أن يرفع رأسه، فهو القامح، من إبل قماح (المقاييس).
وفى (س): وقمح البعير عن الماء وقامح، إذا رفع رأسه عنه لا يشربه ليعافه أو لبرد الماء أو لبعض العلل ومنه شهرا قماح. قال بشر بن أبى خازم البيت.
ومن المجاز: أقمح المغلول فهو مقمح إذا لم يتركه عمود الغل الذى ينخس ذقنه أن يطأطىء رأسه «فهم مقمحون» نقله الشيخ نصر الهورينى فى حاشيته على (ق) ونقل معه من قول الأزهرى: «وأراد عز وجل أن أيديهم لما غلّت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورءوسهم صعدا كالإبل القماح الرافعة رءوسها» اهـ.
والمقمح فى تأويل الطبرى، هو المقنع، وهو أن يحدر الذقن حتى يصيره فى الصدر ثم يرفع رأسه فى قول بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين. وفى قول بعض الكوفيين: هو الغاض بصره بعد رفع رأسه
وقال الراغب: الإقماح من أخذ القمح ورفع الرأس لسفّه. ثم يقال لرفع الرأس كيفما كان: قمح. قمح البعير رأسه، وأقمحت البعير شددت رأسه إلى خلف. وقوله تعالى: {مُقْمَحُونَ} تشبيه بذلك ومثل لهم وقصد إلى وصفهم بالتأبى عن الانقياد للحق وعن الإذعان لقبول الرشد وقيل: إشارة إلى حالهم فى القيامة إذ الأغلال فى أعناقهم والسلاسل (المفردات).
قد نرى أن تأويل المقمح فى المسألة بالشامخ بأنفه المنكس رأسه يحتاج شموخ
الأنف فيه إلى قيد بالأغلال. أو لعل وجه الاحتراز فيه أنه الشامخ الأنف المنكس رأسه. والله أعلم * * *(1/516)
قد نرى أن تأويل المقمح فى المسألة بالشامخ بأنفه المنكس رأسه يحتاج شموخ
الأنف فيه إلى قيد بالأغلال. أو لعل وجه الاحتراز فيه أنه الشامخ الأنف المنكس رأسه. والله أعلم * * *
137 {مَرِيجٍ}:
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}.
فقال ابن عباس: المريج الباطل. ولما سأله ابن الأزرق: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
فراغت فالتمست بها حشاها ... فخرّ كأنه خوط مريج (1)
(تق) وفى (ك، ط):
قال: المريج الباطل الفاسد الكلمة من آية (ق) 5:
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}
وحيدة الصيغة. ومن مادتها جاء:
{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} فى الفرقان 53، والرحمن 19.
{مِنْ مََارِجٍ مِنْ نََارٍ} فى الرحمن 15.
و {الْمَرْجََانُ} مع اللؤلؤ فى الرحمن 22، ومع الياقوت فى الرحمن 58.
تأويلها فى المسألة بالباطل، نحو قول الفراء فى معناها: فى ضلال. وفى تأويل الطبرى: فهم فى أمر مختلط عليهم ملتبس لا يعرفون حقه من باطله، وقد مرج أمر الناس إذا اختلط وأهمل. ثم أسند عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى:
__________
(1) غير منسوب فى الثلاثة، ولا فى تفسير الطبرى والقرطبى وأبى حيان. وهو فى ديوان الهذليين، رواية السكرى، لعمرو بن الداخلى الهذلى. على هامشه عن الأصمعى، قال: هذه القصيدة لرجل من هذيل يقال له الداخل، واسمه زهير بن حرام (3/ 103) وأنشده القالى فى (الأمالى 2/ 314) لأبى ذويب. قال البكرى: وهذا وهم، والبيت إنما هو للداخل زهير بن حرام (سمط اللآلى 2/ 957).(1/517)
{فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} فقال: المريج المنكر، أما سمعت قول الشاعر: فجالت والتمست به حشاها البيت. وقال آخرون: بل معناه فى أمر مختلف، وقيل فى أمر ضلالة، وقيل فى أمر ملتبس عليهم.
وكلمة الباطل جاءت فى القرآن ستا وعشرين مرة نقيضا للحق. كما جاء الفعل منها خمس مرات واسم الفاعل المبطلون خمس مرات كذلك، للضالين المفسدين الخاسرين.
وليس فى سياقها ما فى «مريج» من دلالة يؤنس إليها قوله تعالى فى آيتى الفرقان والرحمن: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} بما يفيد المرج من معنى الاختلاط.
وقد ذكر «الراغب» الخلط أصلا لمعنى المرج، من معنى الاختلاط.
وقد ذكر «الراغب» الخلط أصلا لمعنى المرج، وفسر «فى أمر مريج» بمختلط، و {مََارِجٍ مِنْ نََارٍ} أى لهب مختلط، وأمرجت الدابة فى المدعى: أرسلتها فيه (المفردات).
وكذلك فسر ابن الأثير المرج بالخلط، وذكر فى {مََارِجٍ مِنْ نََارٍ} لهبها المختلط بسوادها، والمرج الأرض الواسعة ذات النبات تمرج فيه الدواب، أى تخلى تسرح مختلطة كيف شاءت (النهاية).
ودلالة الاختلاط والاضطراب أصل فى المادة كيفما تصرفت (مقاييس اللغة:
مرج 5/ 315) ومنه فى المعنوى الالتباس المفضى إلى ضلال. والله أعلم.
فإذا كان تفسير ابن عباس لكلمة «مريج» بالباطل، من قبيل التقريب فليس يفوتنا فى الكلمة حسّ الاختلاط والاضطراب من ارتياب الذين اختلط عليه أمر الحق لما جاءهم فكذبوا وضلوا وزاغوا عن الحق. والله أعلم.
* * *138 {حَتْماً مَقْضِيًّا}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {حَتْماً مَقْضِيًّا} ما الحتم؟
فقال ابن عباس: الحتم الواجب، واستشهد بقول أمية:
عبادك يخطئون وأنت ربّ ... بكفّيك المنايا والحتوم (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية مريم 71:(1/518)
فقال ابن عباس: الحتم الواجب، واستشهد بقول أمية:
عبادك يخطئون وأنت ربّ ... بكفّيك المنايا والحتوم (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية مريم 71:
{فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيََاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمََنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى ََ بِهََا صِلِيًّا * وَإِنْ مِنْكُمْ إِلََّا وََارِدُهََا، كََانَ عَلى ََ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظََّالِمِينَ فِيهََا جِثِيًّا}
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
فى تأويل الطبرى: قضاء مقضيا.
وقيل قسما واجبا. وقال القرطبى: الحتم إيجاب القضاء وفسرها ابن الأثير كذلك، باللازم الواجب الذى لا بدّ من فعله، (النهاية).
وذهب ابن فارس، بأكثر ظنّ، إلى أن الحتم من إبدال التاء من الكاف، لما فيه من إحكام الشيء (المقاييس 2/ 134).
والأقوال فى تأويل الكلمة فى الآية، متقاربة. وفى الوجوب، ملحظ من دلالة اللفظ على القطع والحسم، وقد استعملته العربية فى القضاء وإيجابه، والحاتم:
القاضى، كما استعملته فى القضاء المحتوم، وسمّت غراب البين حاتما لنذيره بحتم الفراق. ثم لا يبلغ تأويل الكلمة القرآنية بأى قول فيها، ما يعطيه صريح نصها فى إيجابه {عَلى ََ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا}. والله أعلم.
* * *139 {أَكْوََابٍ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {وَأَكْوََابٍ}
قال ابن عباس: القلال التى لا عرا لها. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الهذلى: (2)
__________
(1) فى تق: [يكفيك]. والبيت لأمية بن أبى الصلت (الديوان: 54).
(2) كذا للهذلى فى الثلاثة وفى (معجم غريب القرآن) وليس فى ديوان الهذليين. وإنما هو للأعشى من رائيته فى مدح قيس بن معد يكرب (الديوان: 35ط أوربا) ومعه (رسالة الغفران) 227ط خامسة، ذخائر وفيها تخريجه.(1/519)
فلم ينطق الديك حتى ملأت ... كوب الدّنان له فاستدارا
(تق، ك، ط) الكلمة جاءت أربع مرات بآيات:
الزخرف 71: {يُطََافُ عَلَيْهِمْ بِصِحََافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوََابٍ وَفِيهََا مََا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}.
الإنسان 15: {وَيُطََافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوََابٍ كََانَتْ قَوََارِيرَا * قَوََارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهََا تَقْدِيراً}.
الغاشية 14: {فِي جَنَّةٍ عََالِيَةٍ * لََا تَسْمَعُ فِيهََا لََاغِيَةً * فِيهََا عَيْنٌ جََارِيَةٌ * فِيهََا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوََابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمََارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرََابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}.
الواقعة 18: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدََانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوََابٍ وَأَبََارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}.
كلها فى سياق البيان لنعيم أهل الجنة. واحدها: كوب.
الأقوال فيها متقاربة عند أهل اللغة وأهل التأويل، وإن زاد بعضهم فى وصفها فقال الفراء فى آية الزخرف: الكوب المستدير الرأس الذى لا أذن له. ونحوه فى تأويل الطبرى، وأسند عن الضحاك أنها: جرار ليست لها عرى وهى بالنبطية كوبا. وعن ابن عباس: الجرار من فضة.
وفسرها «الراغب» كذلك، بالقدح لا عروة له، وذكر معه الكوبة، الطبل الذى يلعب به. ومثله فى (ق) ويبدو من شواهدهم لها، أنها أكواب الخمر. واقتصر فى (س) على قولهم:
«لا يزال معه كوب خمر.»
ثم لا يفوتنا أن أكوابا لم تأت إلا فى آيات نعيم الجنة.
* * *
140 {يُنْزَفُونَ}:(1/520)
* * *
140 {يُنْزَفُونَ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {وَلََا هُمْ عَنْهََا يُنْزَفُونَ}.
فقال ابن عباس: لا يسكرون. أما سمعت قول «عبد الله بن رواحة»:
ثم لا ينزفون عنها ولكن ... يذهب الهمّ عنهم والغليل
(نق) زاد فى (ك، ط) إذا شربوا الخمر فى الجنة.
الكلمة من آية الصافات 47، فى خمر الجنة: {يُطََافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضََاءَ لَذَّةٍ لِلشََّارِبِينَ * لََا فِيهََا غَوْلٌ وَلََا هُمْ عَنْهََا يُنْزَفُونَ} ومعها آية الواقعة 19، فى السياق نفسه:
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدََانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوََابٍ وَأَبََارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لََا يُصَدَّعُونَ عَنْهََا وَلََا يُنْزِفُونَ}.
{يُنْزِفُونَ} فى آية الصافات، قرأها حمزة والكسائى بكسر الزاى، والباقون بفتحها، ولا خلاف فى ضم الياء. وفى آية الواقعة قرأها عاصم وحمزة والكسائى بكسر الزاى والباقون بفتحها (1).
قال الفراء: وله معنيان: يقال قد أنزف الرجل إذا فنيت خمره، وأنزف إذا ذهب عقله من سكر، وإذا ذهب دمه وغشى عليه ومات، قيل: منزوف (المعانى فى الآيتين) والأصل فى المادة (فى مقاييس اللغة): يدل على نفاد وانقطاع. نزف دمه خرج كله، والسكران نزيف: نزف عقله. والنزف نزح ماء البئر شيئا فشيئا.
وأنزفوا انقطاع شرابهم (5/ 416).
قال ابن قتيبة فى خطبة (مشكل إعراب القرآن): وتبين قوله تعالى: {وَلََا يُنْزِفُونَ} فى وصف خمر الجنة. كيف نفى عنها بهذين اللفظين جميع عيوب الخمر:
عدم العقل وذهاب المال، ونفاد الشراب».
__________
(1) التيسير لأبى عمرو الدانى: 187، 207.(1/521)
والقولان: ذهاب العقل، ونفاد الشراب، عند أهل التأويل فى الآيتين، والراغب فى (المفردات) بمزيد تفصيل.
وتأويلهما بالكسر، فى المسألة، مقيد عندهم بنفى نزف العقل وذهابه. وهو صريح النص فى الآية: {لََا فِيهََا غَوْلٌ} يغتال العقل ويذهب به.
* * *141 {كََانَ غَرََاماً}
: قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {إِنَّ عَذََابَهََا كََانَ غَرََاماً}
قال: البلاء أما سمعت بقول بشر بن أبى خازم:
ويوم الجفار ويوم النسا ... ر كانا عذابا وكانا غراما (1)
(ظ) فى الروايتين وفى (وق):
قال: المولع، قال فيه عبد الله بن عجلان:
وما أكلة إن نلتها بغنيمة ... ولا جوعة إن عفتها بغرام
وفى (تق، ك، ط) قال: ملازما شديدا كلزوم الغريم للغريم.
وشاهده بيت بشر.
الكلمة من آية الفرقان 65، فى عباد الرحمن.
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنََّا عَذََابَ جَهَنَّمَ، إِنَّ عَذََابَهََا كََانَ غَرََاماً}
وحيدة الصيغة، وفى القرآن مادتها:
اسم الفاعل فى آية التوبة 60 {وَفِي الرِّقََابِ وَالْغََارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللََّهِ}
__________
(1) من ظ، بتقديم * ويوم الجفار * عما فى (تق، ك، ط) ووقع فى الأخيرتين: ويوم النيار * ورواية (ديوان بشر: 190): ويوم النسار ويوم الجفار وهى الرواية فى شرح المفضليات (370) والبكرى، ومختارات ابن الشجرى (71)، وياقوت فى البلدان، وشواهد الطبرى والقرطبى وأبى حيان.(1/522)
واسم المفعول من الرباعى فى آية الواقعة 66 {إِنََّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}.
والمصدر الميمى فى آيتى:
التوبة 98: {وَمِنَ الْأَعْرََابِ مَنْ يَتَّخِذُ مََا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوََائِرَ}.
والقلم 46: {أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ}.
الملازمة والإلحاح أصل فى المادة، مطرد، كما فى (مقاييس اللغة) ومنه {كََانَ غَرََاماً} 4/ 419.
قال الفراء فى آية الفرقان: كان ملحا دائما، والعرب تقول إن فلانا لمغرم بالنساء إذا كان مولعا بهن، وإنى بك لمغرم إذا لم تصبر عن الرجل.
وتأويل الطبرى لآية الفرقان: كان ملحّا دائما، لازما غير مفارق، ومنه قولهم:
رجل مغرم، من الغرم والدّين. وقيل للغريم غريم لطلبة حقه وإلحاحه على صاحبه فيه ومنه قيل للمولع بالنساء إنه لمغرم بهن. قال: وبنحو ذلك قال أهل التأويل. ثم أسند عن الحسن البصرى، قال: كل غريم مفارق غريمه إلا غريم جهنم. ونحوه فى (جامع القرطبى، ومفردات الراغب، والنهاية لابن الأثير).
وقد اختلفت الروايات عن ابن عباس فى المسألة. (ظ) البلاء، وفى (تق ك ط) الملازم كلزوم الغريم والشاهد من بيت بشر قريب منه وفى (وق): مولع، ولا يشهد له قول ابن عجلان: ... ولا جوعة إن عفتها بغرام ... بل هو أقرب إلى معنى
الغرم فى آية الواقعة، ومغرم فى آيتى التوبة والقلم. والله أعلم.
* * *142 {التَّرََائِبِ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {التَّرََائِبِ}.
فقال ابن عباس: الترائب موضع القلادة من المرأة. واستشهد بقول الشاعر: (1).(1/523)
وسأل نافع عن قوله تعالى: {التَّرََائِبِ}.
فقال ابن عباس: الترائب موضع القلادة من المرأة. واستشهد بقول الشاعر: (1).
والزعفران على ترائبها ... شرقا به اللّبات والنّحر
(تق، ك، ط) الكلمة من آية الطارق 7:
{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسََانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مََاءٍ دََافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرََائِبِ * إِنَّهُ عَلى ََ رَجْعِهِ لَقََادِرٌ}.
وحيدة الصيغة، وفى القرآن من مادتها:
تراب: فى سبع عشرة آية.
وأتراب: فى ثلاث آيات.
ومتربة: فى آية البلد: {أَوْ إِطْعََامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذََا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذََا مَتْرَبَةٍ}
الترائب واحدتها التربية.
اختلف أهل اللغة فى معناها: فهى فى باب الصدر من كتاب (خلق الإنسان) وما اكتنف لبات المرأة مما تقع عليه القلائد (معانى الفراء) وعظام الصدر ما بين الترقوة إلى الثندؤة أى مغرز الثدى أو اللحم الذى حوله (ص) وهى عظام الصدر، أو ما ولى الترقوتين منه، أو بين الثديين والترقوتين، أو أربع أضلاع من يمينه الصدر وأربع من يسرته، أو اليدان والرجلان، أو موضع القلادة (ق) وقيل: عصارة القلب ومنها يكون الولد. (حكاه أبو حيان).
واختلف أهل التأويل فيها كذلك، فيما قال الطبرى. وأسند عن ابن عباس.
__________
(1) غير منسوب فى الثلاثة، ولا فى (خلق الإنسان 245، ومعانى القرآن للفراء: والطبرى والكشاف والقرطبى والبحر المحيط آية الطارق) وهو فى (الأغانى 8/ 323) لأبى بكر بن المسور بن مخرمة الزهرى، أو للحارث ابن خالد المخزومى، وفى (ل: شرق) للمخبل السعدى. واختلفت الروايات فى لفظ منه:
فى معانى الفراء والطبرى والقرطبى: شرقا به * كما فى المسائل. وفى خلق الإنسان والأغانى واللسان والكشاف:
شرق به * وفى البحر المحيط: شرقت به *(1/524)
قال: بين ثدييها. وعنه أيضا، وعن غيره: الصدر.
وعنه أيضا: اليدان والرجلان والعينان. والصواب عند أبى جعفر أنها موضع القلادة من صدر المرأة، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وبه جاءت أشعارهم. ونحوه فى الكشاف، وجامع القرطبى. واقتصر أبو حيان فى البحر، على تأويلها بموضع القلادة من الصدر.
وذهب الراغب إلى أن الترائب هى ضلوع الصدر، ومنه الكلمة فى آية الطارق والأتراب اللّدات ينشأن معا، تشبيها فى التساوى والتماثل بالترائب التى هى ضلوع الصدر وقيل لأن الترائب فى حال الصّبى تلعب بالتراب: (المفردات) وهو قريب من مذهب ابن فارس إلى أصلين للمادة: أحدهما التراب وما يشتق منه، وتساوى الشيئين ومنه الترب الخدن، والتريب الصدر عند تساوى رءوس العظام (المقاييس 5/ 200).
وتأويلها فى المسألة بموضع القلادة من المرأة، هو ما يقبله الشاهد وسائر شواهدهم لها، وليس العينين أو اليدين والرجلين، والله أعلم.
* * *143 {بُوراً}
: وسأل نافع عن قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} فقال ابن عباس: هلكى، بلغة عمان، وهم من اليمن. واستشهد له بقول الشاعر:
فلا [تكفروا] (1) ما قد صنعنا إليكم ... وكافوا به فالكفر بور لصانعه
(تق) (1)
الكلمة من آية الفتح 12فى المخلفين من الأعراب:
{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى ََ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذََلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً}. ومعها آية الفرقان 18:
__________
(1) فى تق: [فلا تفكروا].
وسقط شاهد المسألة من (ك، ط) مع المسألة بعدها (نفشت) فورد شاهد النفش على «بور».(1/525)
{قََالُوا سُبْحََانَكَ مََا كََانَ يَنْبَغِي لَنََا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيََاءَ وَلََكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبََاءَهُمْ حَتََّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكََانُوا قَوْماً بُوراً}.
وفى القرآن من مادتها، الفعل مضارعا مرتين فى آيتى فاطر:
{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئََاتِ لَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ، وَمَكْرُ أُولََئِكَ هُوَ يَبُورُ} 10 {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتََابَ اللََّهِ وَأَقََامُوا الصَّلََاةَ وَأَنْفَقُوا مِمََّا رَزَقْنََاهُمْ سِرًّا وَعَلََانِيَةً يَرْجُونَ تِجََارَةً لَنْ تَبُورَ} 29 والبوار، فى آية إبراهيم 28:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللََّهِ كُفْراً، وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دََارَ الْبَوََارِ}.
الهلاك وما يشبهه من تعطل، أصل أول فى المادة (المقاييس 1/ 316).
والبور فى كلام العرب: لا شىء، يقال: أصبحت أعمالهم بورا ودورهم قبورا (الفراء)، ومثله فى الطبرى، حكى أبو عبيدة: امرأة بور، والمثنى والجمع. وقيل يجوز أن يكون جمع بائر كحائل وحول (الطبرى وأبو حيان) وفى معناها، أسند الفراء عن ابن عباس، قال: البور فى لغة أزد عمان الفاسد {وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً}
قوما فاسدين (معانى القرآن)، آية الفتح.
وفى تأويل الطبرى: هلكى قد غلب عليهم الشقاء والخذلان ومنه: بارت السوق وبار الطعام إذا خلا من الطالب والمشترى فصار كالشيء الهالك. ورده «الراغب» كذلك إلى فرط الكساد، يؤدى إلى الفساد. فيعبر بالبوار عن الهلاك.
{وَكََانُوا قَوْماً بُوراً}، أى هلكى، جمع بائر، وقيل هو مصدر يوصف به الواحد والجمع. وأنشد الشاهد من قول الشاعر: (1)
يا رسول المليك إن لسانى ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
وكل ما فى مادة «بور» فى القرآن الكريم، هو من الخسر بالضلال والكفر، وإنه لأفدح الفساد والهلاك، منقولا إليها من أصل معناها فى البوار والكساد.
__________
(1) عبد الله بن الزبعرى القرشى السهمى، فى إسلامه رضى الله عنه (السيرة 4/ 61) ومقاييس اللغة، والصحاح (بور) وتفسير الطبرى، والقرطبى (آية الفرقان).(1/526)
144 {نَفَشَتْ}:
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {نَفَشَتْ}
فقال ابن عباس: النفش الرعى ليلا. واستشهد ببيت لبيد:
بدّلن بعد النفش الوجيفا ... وبعد طول الجرّة الصّريفا
(تق) (1).
الكلمة من آية الأنبياء 78:
{وَدََاوُدَ وَسُلَيْمََانَ إِذْ يَحْكُمََانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنََّا لِحُكْمِهِمْ شََاهِدِينَ}.
وحيدة الصيغة. وليس فى القرآن من مادتها سوى اسم المفعول فى آية القارعة:
{يَوْمَ يَكُونُ النََّاسُ كَالْفَرََاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبََالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}.
تفسير النفش بالرعى ليلا، يلحظ معه دلالة المادة أصلا على التشعث والتفرق.
وقد ذكر (القاموس) فى النفش الرعى ليلا، مع تقييده: «بغير راع» وذلك أبلغ فى التشعيث والنفش. وكذلك قيده «الراغب» فقال فى المادة: النفش نثر الصوف، قال: {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} ونفش الغنم انتشاره، والنفش: الغنم المنتشر قال تعالى: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} والإبل النوافش المترددة ليلا فى المرعى بلا راع.
وقال ابن الأثير: نفشت السائمة تنفش نفوشا، إذا رعت ليلا بلا راع، وهملت إذا رعت بالنهار (النهاية).
ويقرب فهم الآية، بالمعنى المجازى كناية عن الاختلاط والفوضى، يلتبس معها أمر غنم القوم وراء المعنى القريب من أصل استعمال النفش للغنم والإبل، ترعى ليلا بغير راع، فلا تكاد تتميز أو تضبط. والله أعلم.
* * * __________
(1) سقطت المسألة والجواب من (ك، ط) وبقى شاهدها واردا على: «بورا»(1/527)
145 {أَلَدُّ الْخِصََامِ}:
وسأله عن قوله تعالى: {أَلَدُّ الْخِصََامِ}.
فقال: الجدل المخاصم فى الباطل. واستشهد بقول مهلهل:
إن تحت الأحجار حزما وجودا ... وخصيما ألدّ ذا مغلاق (1)
(تق) زاد فى (ك، ط): فى الباطل، من كل وجه.
الكلمة من آية البقرة 204:
{وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَيُشْهِدُ اللََّهَ عَلى ََ مََا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصََامِ}.
ومعها آية مريم 97: خطابا للنبى عليه الصلاة والسلام: {فَإِنَّمََا يَسَّرْنََاهُ بِلِسََانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} جمع ألدّ.
قال الفراء: يقال للرجل هو ألدّ من قوم لدّ، والمرأة لدّاء ونسوة لدّ. إذا غلبت الرجل فى الخصومة فقد لددته (المعانى: آية البقرة).
وقال أبو عبيدة: الألد شديد الخصومة، ويقال للفاجر: أبلّ وألدّ مصدره اللدد، والجميع قوم لدّ (مجاز القرآن: آية البقرة) وأخرج فيه البخارى حديث عائشة رضى الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» (ك التفسير باب وهو ألد الخصام) قال فى فتح البارى: ألد، أفعل تفضيل من اللدد، شدة الخصومة.
__________
(1) بالغين المعجمة فى الثلاثة، وهو «معلاق» فى شعراء النصرانية، وعلى هامشه: وفى رواية: مغلاق (1/ 178) وأنشده الجوهرى فى (ع ل ق) شاهدا على رجل ذى معلاق، شديد الخصومة (ص) وأورده الزمخشرى كذلك فى (ع ل ق) وقال: يقال للألد الخصومة إنه لذو معلاق وذو معلاق، قال المبرد: من رواه بالعين فمعناه إذا علق خصما لم يتخلص منه. ومن رواه بالغين فتأويله أنه يغلق الحجة على الخصم. وروى بيت مهلهل بالروايتين فى (الأساس) وهو فى (علق) بمقاييس اللغة شاهدا على: رجل معلاق، شديد الخصومة. حكاه عن الخليل.(1/528)
ويحتمل أن يكون مصدرا. وقيل: أفعل هنا ليست للتفضيل بل بمعنى الفاعل، وهو لديد الخصام أى شديد المخاصمة (8/ 130) والألد، عند الراغب، الخصيم الشديد التأبى لحجته وجمعه لدّ، قال تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصََامِ} {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} وفسره ابن الأثير فى حديث عائشة رضى الله عنها، ترفعه بالشديد الخصومة (النهاية) والمعاجم تذكر فى اللدد: اللديدان جانبا الوادى وصفحتا العنق، ومنه اشتقاق التلدد، أى الالتفات يمينا وشمالا. واللدود من الأدوية ما يصب فى أحد شقى الفم، واللدد شدة الخصومة واللجاج (ص، س، ق) والمقاييس (لا) وتأويلها فى المسألة بالجدل المخاصم فى الباطل، مستفاد من سياق الآية، والله أعلم.
* * *146 {حَنِيذٍ}:
وسأله عن معنى قوله تعالى: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}
قال: الحنيذ النضيج مما يشوى بالحجارة، واستشهد بقول الشاعر:
لهم راح وفار المسك فيهم ... وشاويهم إذا شاءوا حنيذا
(تق، ك، ط) الكلمة من آية هود 69:
{وَلَقَدْ جََاءَتْ رُسُلُنََا إِبْرََاهِيمَ بِالْبُشْرى ََ قََالُوا سَلََاماً قََالَ سَلََامٌ، فَمََا لَبِثَ أَنْ جََاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}.
وحيدة، صيغة ومادة.
تأويلها فى المسألة بالنضيج مما يشوى بالحجارة، هو قول فى حنيذ، أسنده الطبرى عن ابن عباس فيما روى من اختلاف أهل التأويل فيه.
وقيل: هو الذى يحنذ فى الأرض، والذى يقطر ماء وقد شوى. وحكاه عن بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين: كل ما انشوى فى الأرض إذا خددت له فدفنته وغممته فهو الحنيذ والمحنوذ. والخيل تحنذ إذا ألقيت عليها الجلال بعضها على بعض لتعرق.(1/529)
تأويلها فى المسألة بالنضيج مما يشوى بالحجارة، هو قول فى حنيذ، أسنده الطبرى عن ابن عباس فيما روى من اختلاف أهل التأويل فيه.
وقيل: هو الذى يحنذ فى الأرض، والذى يقطر ماء وقد شوى. وحكاه عن بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين: كل ما انشوى فى الأرض إذا خددت له فدفنته وغممته فهو الحنيذ والمحنوذ. والخيل تحنذ إذا ألقيت عليها الجلال بعضها على بعض لتعرق.
وفى (باب اللحم من تهذيب الألفاظ) قال ابن السكيت: والحنيذ الذى تلقى فيه الحجارة المحماة لتنضجه. وقد حنذ الفرس إذا ألقى عليه الجلال ليعرق.
ونحوه فى (مقاييس اللغة: حنذ).
وهذه الأقوال فى حنيذ، فى المعاجم، وجمهرة كتب التفسير، ومفردات الراغب.
وقد قال الطبرى بعد ذكر الأقوال والمرويات فى حنيذ: «وهذه الأقوال عن أهل العربية والتأويل متقاربات المعانى، بعضها من بعض». والله أعلم * * *
147 {الْأَجْدََاثِ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {مِنَ الْأَجْدََاثِ}
فقال ابن عباس: القبور. واستشهد بقول ابن رواحة:
حينا يقولون إذ مروا على جدثى ... أرشده يا ربّ من عان وقد رشدا (1)
(تق) (ك، ط) والمسألة فيهما:
(فإذا هم من الأجداث) الكلمة جاءت ثلاث مرات، فى آيات:
القمر 7: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدََّاعِ إِلى ََ شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصََارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدََاثِ كَأَنَّهُمْ جَرََادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدََّاعِ يَقُولُ الْكََافِرُونَ هََذََا يَوْمٌ عَسِرٌ}
__________
(1) رواية ابن إسحاق فى مطبوعة (السيرة: 4/ 61):
حتى يقال إذا مروا على جدثى ... أرشده الله من غاز وقد رشدا
من أبيات قالها رضى الله عنه فى استشهاده بغزوة مؤتة.(1/530)
يس 51: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذََا هُمْ مِنَ الْأَجْدََاثِ إِلى ََ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قََالُوا يََا وَيْلَنََا مَنْ بَعَثَنََا مِنْ مَرْقَدِنََا، هََذََا مََا وَعَدَ الرَّحْمََنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}.
المعارج 43: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتََّى يُلََاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدََاثِ سِرََاعاً كَأَنَّهُمْ إِلى ََ نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خََاشِعَةً أَبْصََارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، ذََلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كََانُوا يُوعَدُونَ}.
ويبدو تفسير الأجداث بالقبور قريبا. ومثله فى (النهاية لابن الأثير) وفى المعاجم واقتصر «الراغب» فى (المفردات) على: الأجداث جمع الجدث، يقال جدث وجدف. وتأويلها فى المسألة بالقبور هو ما فى المعاجم (ص، س، ق) والشاهد له.
ولا يفوتنا مع ما يبدو من قرب تفسير الأجداث بالقبور، أن القرآن قصر الأجداث، فى آياتها الثلاث، على المخرج إلى الحشر يوم القيامة وهذا الملحظ الدلالى، يفرق بين الأجداث وبين القبور التى تأتى فيه بدلالة عامة: فى سياق البعث (الحج 7، الانفطار 4، العاديات 9).
كما تأتى فى سياق مضجع الموتى، قبل البعث والنشور، فى مثل آيات:
عبس 21: فى الإنسان: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمََاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذََا شََاءَ أَنْشَرَهُ}.
التوبة 84: فى المنافقين: {وَلََا تُصَلِّ عَلى ََ أَحَدٍ مِنْهُمْ مََاتَ أَبَداً وَلََا تَقُمْ عَلى ََ قَبْرِهِ}.
فاطر 22: {وَمََا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}
الممتحنة 13: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمََا يَئِسَ الْكُفََّارُ مِنْ أَصْحََابِ الْقُبُورِ}
ومعها المقابر فى آية التكاثر:
{أَلْهََاكُمُ التَّكََاثُرُ * حَتََّى زُرْتُمُ الْمَقََابِرَ}.(1/531)
فاطر 22: {وَمََا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}
الممتحنة 13: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمََا يَئِسَ الْكُفََّارُ مِنْ أَصْحََابِ الْقُبُورِ}
ومعها المقابر فى آية التكاثر:
{أَلْهََاكُمُ التَّكََاثُرُ * حَتََّى زُرْتُمُ الْمَقََابِرَ}.
يظهر، والله أعلم، أن القرآن خصّ الخروج من الأجداث بالمخرج يوم القيامة، وهو صريح السياق فى آياتها الثلاث.
* * *148 {هَلُوعاً}:
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {هَلُوعاً}.
فقال ابن عباس: ضجرا جزوعا. وشاهده قول بشر بن أبى خازم:
لا مانعا لليتيم نحلته ... ولا مكبّا لخلقه هلعا
(تق، ك، ط) الكلمة من آية المعارج 19:
{إِنَّ الْإِنْسََانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذََا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}.
وحيدة فى القرآن. صيغة ومادة. فى معانى القرآن للفراء: الهلوع الضجور، وصفته كما قال تعالى: {إِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذََا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} يقال منه هلع يهلع هلعا، مثل: جزع يجزع جزعا، وحكاه القرطبى عن ثعلب. وخصها المعجميون بأفحش الجزع أو الجزع الشديد. وقيدها بعضهم بالجزع والفزع من الشر، وعدم الصبر على المصائب. والهالع: النعام السريع فى مضيه لخفته وسرعة فزعه. والهلواع: الناقة السريعة السير. (س، ص، ق) ونقول مع الفراء، وثعلب: وصفته كما قال تعالى: {إِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذََا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}
صدق الله العظيم.
* * *149 {لََاتَ حِينَ مَنََاصٍ}:
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {وَلََاتَ حِينَ مَنََاصٍ}
قال: ليس بحين فرار. وشاهده قول الأعشى:
تذكرت ليلى حين لات تذكر ... وقد بنت منها والمناص بعيد (1)
(تق، ك، ط) واقتصر فى (ظ) على:(1/532)
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {وَلََاتَ حِينَ مَنََاصٍ}
قال: ليس بحين فرار. وشاهده قول الأعشى:
تذكرت ليلى حين لات تذكر ... وقد بنت منها والمناص بعيد (1)
(تق، ك، ط) واقتصر فى (ظ) على:
أما الأعشى فقد كان يعرفه حيث يقول: تذكرت ليلى وعلقت منها حاجة ليس تبرح الكلمتان من آية ص {كَمْ أَهْلَكْنََا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنََادَوْا وَلََاتَ حِينَ مَنََاصٍ} 3 وحيدتان فى القرآن.
تأويلها فى المسألة: ليس بحين فرار، هو بلفظه عند الفراء على القول بأن لات فى معنى ليس. وقال ابن قتيبة: لات حين لا مهرب. والمناص المنجى فى (س) والملجأ والمفر فى (ص) والمادة فى (المقاييس) أصل يدل على تردد ومجىء وذهاب، والمناص المصدر، والملجأ أيضا.
والأقوال فى (مناص) متقاربة كذلك عند أهل التأويل (الطبرى).
وإنما الاختلاف فى: لات، تبعا لاختلاف أهل اللغة فيها. قال الفراء: ومن العرب من يضيف لات فيخفض أنشدونى: ... ولات ساعة مندم ... ولا أحفظ
صدره (2). والكلام أن ينصب بها لأنها فى معنى ليس، وأنشدنى المفضل:
تذكر حبّ ليلى لات حينا ... وأضحى الشيب قد قطع القرينا
وأنشدنى بعضهم:
طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء
فهذا خفض: وفى الآية أقف على «لات» بالتاء، والكسائى يقف بالهاء (3)
__________
(1) فى ملحقات ديوان الأعشى: وقد نئت * ووقع فى (ك ط): [وقد تبت]
(2) أنشده ابن الأعرابى فى أخلاق مشمولة:
فلتعرفنّ خلائقا مشمولة ... ولتندمنّ ولات ساعة مندم
الأضداد للأصمعى: 18، ومثله فى الأضداد لابن السكيت: 173.
(3) لم يذكر أبو عمرو الدانى فى (التيسير) خلافا فى قراءتها بين الأئمة السبعة. والكسائى منهم.(1/533)
(المعانى، سورة ص 2/ 397) ونقله عنه فى (اللسان، والمفردات).
ونقل فيها ابن قتيبة قول سيبويه: لات شبيهة بليس فى بعض المواضع ولم تمكن تمكنها، ولم يستعملوها إلا مضمرا فيها لأنها ليست كليس فى المخاطبة والإخبار عن غائب، ألا ترى أنك تقول: ليست وليسوا وعبد الله ليس ذاهبا، ولات لا يكون فيها ذاك؟ قال تعالى: {وَلََاتَ حِينَ مَنََاصٍ}.
وقال الراغب بعد أن حكى كلام الفراء: تقديره: لا حين، والتاء زائدة فيه كما زيدت فى ثمت وربت. وقال بعض البصريين: معناه ليس. وقال أبو بكر العلاف: أصله ليس، فقلبت الياء ألفا، وأبدل من السين تاء كما قالوا: نات فى ناس. وقال بعضهم أصله لا، وزيد فيه تاء التأنيث تنبيها على الساعة والمدة، كأنه قيل: ليست الساعة والمدة حين مناص (المفردات).
وفى النفس شىء من هذه التأويلات، فالقول بأن التاء زائدة كما زيدت فى ثمت وربت، قد يمنعه أن هذين الحرفين يبقى لهما معناهما. وأما (لات) فتئول إلى لا.
وتأويلها بليس على القلب والابدال، فيه أن لغة نات فى ناس، أبدل فيها حرف واحد، وأما لات فلا يبقى منها بعد القلب والإبدال سوى حرف اللام.
وعلى التأويلين: نرى أن (لا) و (ليس) كثير مجيئهما فى القرآن، فالعدول عنهما إلى (لات) فى آية (ص) يفيد فرقا فى الدلالة، قد نراه فى أن (لا) تجىء أصلا لنفى الجنس، و (ليس) للنفى نسخا. وأما (لات) فأقرب ما تكون إلى معنى البعد والاستحالة.
ولو ترك لنا مجال اجتهاد فى النحو الذى قرروا أنه نضج واحترق، لفكت عقدة (لات) دون تأويل وقلب وإبدال، بحملها على اسم فعل قريب من هيهات، والفرق بينهما أن تكون هيهات لمطلق البعد، و (لات) للبعد مع استحالة، مقربة من (ليت) التى تتعلق بالتمنى للمستحيل أو ما يقاربه.
* * *
150 {دُسُرٍ}:(1/534)
* * *
150 {دُسُرٍ}:
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {وَدُسُرٍ}.
فقال ابن عباس: الدسر الذى تخرز به السفينة. وشاهده:
سفينة نوتيّ قد أحكم صنعها ... منحّتة الألواح منسوجة الدسر
(تق، ك، ط) الكلمة من آية القمر 13، فى فلك نوح عليه السلام:
{وَحَمَلْنََاهُ عَلى ََ ذََاتِ أَلْوََاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنََا، جَزََاءً لِمَنْ كََانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنََاهََا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
وتفسير الدسر، بالذى تخرز به السفينة يحتاج إلى مزيد إيضاح لا يقدمه الشاهد، لما تخرز به السفينة. ومعناها عند الفراء: مسامير السفن وشرطها التى تشد بها. وفى تفسير البخارى، عن مجاهد: دسر، أضلاع السفينة. قال ابن حجر: وصله الفريابى بلفظه من طريق ابن أبى نجيح عن مجاهد، وأسند من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: الألواح ألواح السفينة والدسر معاريضها التى تشدّ بها السفينة. وعنه أيضا: المسامير، وبه جزم أبو عبيدة (فتح البارى 8/ 436) جمع دسار، وهو المسمار فى (س، ص).
وعند الراغب كذلك أن الدسر فى الآية، المسامير، الواحد: دسار، قال:
وأصل الدّسر الدفع الشديد بقهر، يقال: دسره بالرمح. ورجل مدسر، كقولك:
مطعن (المفردات).
وكذلك فسرها «ابن الأثير» بالمسامير فى حديث «علىّ»: «رفعها بغير عمد يدعمها ولا دسار ينتظمها» أى مسمار، جمعه دسر.
وبالدفع الشديد فى حديث «عمر»: «إن أخوف ما أخاف عليكم أن يؤخذ الرجل المسلم، البرىء عند الله، فيدسر كما يدسر الجزور» أى يدفع ويكبّ للقتل كما يفعل بالجزور عند النحر.
وفى حديث «ابن عباس»، وسئل عن زكاة العنبر فقال:(1/535)
وبالدفع الشديد فى حديث «عمر»: «إن أخوف ما أخاف عليكم أن يؤخذ الرجل المسلم، البرىء عند الله، فيدسر كما يدسر الجزور» أى يدفع ويكبّ للقتل كما يفعل بالجزور عند النحر.
وفى حديث «ابن عباس»، وسئل عن زكاة العنبر فقال:
«إنما هو شىء دسره البحر» أى دفعه وألقاه فى الشط (النهاية).
والمعاجم تذكر فى الدسر: الطعن والدفع، وإصلاح السفينة بالدسار للمسمار، وإدخال الدسار فى شىء بقوة. وتذكر معها: الدسار، خيط من ليف تشد به ألواحها. جمعه دسر. والدسر السفن تدسر الماء بصدورها، الواحدة دسراء (ص، ق). وابن فارس جعل المادة أصلا فى الدفع، الشديد، ومنه أحاديث الباب فى (النهاية) ثم أضاف: «ومما شذ عن الباب وهو صحيح: الدسار، خيط من ليف تشد به السفينة، والجمع دسر / الآية / ويقال: الدسر: المسامير.
والله أعلم.
* * *151 {رِكْزاً}
قال: فأخبرنى عن قول الله عز وجل: {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً}
قال: صوتا (1) قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول خداش بن زهير:
فإن سمعتم بخيل هابطى سرفا ... أو بطن مرّ فأخفوا الصوت واكتتموا (2)
(ظ، طب) وفى (تق، ك، ط) قال:
حسّا. وشاهده قول الشاعر: (3)
وقد توجّس ركزا مقفر ندس ... بنبأة الصوت ما فى سمعه كذب
الكلمة من آية مريم 98:
{وَكَمْ أَهْلَكْنََا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً}
__________
(1) وقع فى مطبوعة (طب): (صوابا) وفى زوائده: صوتا (9/ 283).
(2) فى ظ: إذا سمعتم. بالرواية الأولى، وفى الأخرى: فإن سمعتم * ووقع فى مطبوعة (طب): فإن سمعتم بحبل هابط سرفا أو بطن قوم وفى زوائده بمجمع الهيثمى: أو بطن قو *.
(3) غير منسوب فى الثلاثة. وهو لذى الرمة يصف ثورا تسمع إلى صوت صائد وكلابه. ورواية الديوان:
إذا نوجس ركزا (21ط كمبردج) ومثلها فى شواهد القرطبى لذى الرمة، والشطر الأول فى (ص) له.(1/536)
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
الركز فى اللغة: الصوت الخفى. من: ركزت كذا دفنته، والركاز المال المدفون فى الأرض (س، ص، ق). وفى (المقاييس) لمادة ركز أصلان: أحدهما إثبات شىء فى شىء يذهب سفلا، والآخر صوت (2/ 433).
فى تأويل الآية، أسند الطبرى عن ابن عباس وغيره، قالوا: صوتا. وعن آخرين:
حسّا. قال أبو جعفر: والركز فى كلام العرب الصوت الخفى. (سورة مريم).
وهو فى الآية الصوت الخفى، فى (مفردات الراغب والنهاية لابن الأثير). وفيهما الركاز، المال المدفون فى الأرض.
تأويله فى المسألة بالصوت، يحتاج إلى قيد بالخفى وأقرب منه: حسّا، فى الرواية الأخرى، والله أعلم.
* * *152 {بََاسِرَةٌ}
وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {بََاسِرَةٌ}
فقال ابن عباس: كالحة، وشاهده قول عبيد بن الأبرص:
صبحنا تميما غداة النسار ... بشهباء ملمومة باسره (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية القيامة 29:
{كَلََّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعََاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ * إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بََاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهََا فََاقِرَةٌ}.
ومعها الفعل الماضى فى آية المدثر:
{ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ}.
__________
(1) لم أجده فى شعر عبيد. وهو فى شواهد القرطبى (آية المدثر) لبشر بن أبى خازم، ولم أجده فى ديوانه، والرواية فى القرطبى: ... صبحنا تميما ... غداة الجفار ... وانظر المسألة 141 «كان غراما»(1/537)
وليس فى القرآن من المادة غيرهما.
وتفسير باسرة بكالحة قاله الفراء فى معناها بآية القيامة. وفى تأويل الطبرى:
متغيرة الألوان مسوّدة كالحة. بسر وجهه فهو باسر بيّن البسور. وبنحو ذلك قال أهل التأويل.
وتأولها «الراغب» على وجه آخر، فردها إلى الابتسار بمعنى التعجل قبل الأوان. قال: البسر الاستعجال بالشىء قبل أوانه. ومنه قيل لما لم يدرك من التمر: بسر. وقوله عز وجل: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} أى أظهر العبوس قبل أوانه وفى غير وقته. فإن قيل: فقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بََاسِرَةٌ} ليس يفعلون ذلك قبل الوقت، قيل: إن ذلك إشارة إلى حالهم قبل الانتهاء بهم إلى النار، فخص لفظ البسر، تنبيها إلى أن ذلك مع ما ينالهم يجرى مجرى التكلف ومجرى ما يفعل قبل وقته. ويدل على ذلك قوله عز وجل: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهََا فََاقِرَةٌ}
وفسره «ابن الأثير» بالقطوب فى حديث «سعد»: «لما أسلمت راغمتنى أمى فكانت تلقانى مرة بالبشر، ومرة بالبسر» البشر بالمعجمة: الطلاقة، وبالمهملة:
القطوب (النهاية) بسر فى (المقاييس) أصلان، أحدهما الطراءة ومنه قولهم لكل شىء غض:
بسر، وأن يكون الشيء قبل إناه، والأصل الآخر وقوف الشيء وجموده.
والمعاجم تذكر فى البسر: التعجل، والعبوس والقهر. ومنه الابتسار تعجل الشيء قبل أوانه، من البسر للتمر قبل نضجه، أو من بسر القرحة نكأها قبل النضج. ولعل دلالة العبوس جاءت من ملحظ الغضاضة فى بسر التمر، وما يقترن بنكء القرحة قبل نضجها من ضيق وألم وانقباض.
والكلمة فى الآية الكريمة مقابلة بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ}
صدق الله العظيم.
* * *
153 {ضِيزى ََ}:(1/538)
* * *
153 {ضِيزى ََ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {ضِيزى ََ}.
فقال ابن عباس: جائرة. وشاهده قول امرئ القيس:
ضازت بنو أسد بحكمهم ... إذ يعدلون الرأس بالذنب
(تق، ك، ط) الكلمة من آية النجم 22:
{أَفَرَأَيْتُمُ اللََّاتَ وَالْعُزََّى * وَمَنََاةَ الثََّالِثَةَ الْأُخْرى ََ * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ََ * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ََ}.
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
معناها فى اللغة: جائرة: ضاز فى الحكم، أى جار، وضازه حقه بخسه.
وضأزه كذلك، و {قِسْمَةٌ ضِيزى ََ} أى جائرة. وللعرب فيها ثلاث لغات:
ضيزى، وضؤزى، وضئزى، ولم يقرأ أحد بهذه اللغات. قال الطبرى:
وعندهم أن ضيزى، فعلى، كسروا الفاء لتسلم الياء. قال الفراء:
وإنما قضيت على أولها بالضم لأن النعوت للمؤنث تأتى إما بفتح وإما بضم، فالمفتوح سكرى وعطشى، والمضموم الأنثى والحبلى (المعانى، 3/ 98سورة النجم) وحكاه عنه الطبرى بلفظه، والجوهرى تضمينا.
فى تأويل الطبرى للآية: يقول جل ثناؤه: قسمتكم هذه قسمة جائرة غير مستوية، ناقصة غير تامة، لأنكم جعلتم لربكم من الولد ما تكرهون لأنفسكم.
وآثرتم أنفسكم بما ترضونه وبنحو ما قلناه قال أهل التأويل، وإن اختلفت ألفاظهم بالعبارة عنها: فقال بعضهم: عوجاء، وآخرون: جائرة، وعن ابن عباس جائرة لا حق فيها، وقال آخرون: مخالفة.
وفى مفردات الراغب: ناقصة.
قلت: تأويلها بالجور والنقصان مما يحتمله سياق الآية. وهو صريح فى شاهد
المسألة، وسائر شواهدهم للمخفف والمهموز.(1/539)
قلت: تأويلها بالجور والنقصان مما يحتمله سياق الآية. وهو صريح فى شاهد
المسألة، وسائر شواهدهم للمخفف والمهموز.
وفى القرآن الكريم كلمة «جائر» من الجور، وفيه «نقص» فعلا ومصدرا.
ولا أحقق وجه انفراد آية النجم بكلمة «ضيزى» وقصارى ما ألمحه فيها، عن بعد، حس مادتها فيما يلوك عبدة الأوثان، منقولة من: ضاز التمرة: لاكها.
والله أعلم.
* * *154 {لَمْ يَتَسَنَّهْ}:
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} (1).
فقال ابن عباس: لم تغيره السنون. ولما سأله ابن الأزرق: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
طاب منه الطعم والريح معا ... لن تراه تغير من أسن (2)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية البقرة 259:
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى ََ قَرْيَةٍ وَهِيَ خََاوِيَةٌ عَلى ََ عُرُوشِهََا قََالَ أَنََّى يُحْيِي هََذِهِ اللََّهُ بَعْدَ مَوْتِهََا، فَأَمََاتَهُ اللََّهُ مِائَةَ عََامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ، قََالَ كَمْ لَبِثْتَ قََالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قََالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عََامٍ فَانْظُرْ إِلى ََ طَعََامِكَ وَشَرََابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ، وَانْظُرْ إِلى ََ حِمََارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنََّاسِ، وَانْظُرْ إِلَى الْعِظََامِ كَيْفَ نُنْشِزُهََا ثُمَّ نَكْسُوهََا لَحْماً، فَلَمََّا تَبَيَّنَ لَهُ قََالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1)
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
وهى صيغة يتفعّل من (س ن هـ) وفى قول إن أصله من الواو (الفراء، وابن الأنبارى) ولم أفهم محل الشاهد فى * أسن * وليس المادة. قال أبو عبيدة فى الآية:
لم تأت عليه السنون فيتغير وليست من الأسن، ولو كانت منها لكانت لم يتأسن (مجاز القرآن 1/ 80)
__________
(1) قرأ حمزة والكسائى «لم يتسنه» بحذف الهاء فى الوصل خاصة، والباقون بإثباتها فى الحالين. (التيسير 82).
(2) من (تق) وفى (ك، ط): لن تراه يتغير. ولم أقف عليه لأضبطه.(1/540)
فى تفسير البخارى: لم يتغير. ومعه فى (فتح البارى): أخرجه ابن أبى حاتم من وجهين عن ابن عباس، وعن السدى مثله، قال: لم يحمض التين والعنب ولم يختمر العصير بل هما حلوان كما كانا. وفى تأويل الطبرى: يعنى لم تغيره السنون التى أتت عليه، ولم ينتن. وقال الراغب: لم يتغير بمر السنين ولم تذهب طراوته.
وتفسير السنة، بالتغير بمر السنين، من شرح الكلمة فى سياقها بعد «مائة عام» ولعل التعفن أقرب إلى السنة بمر السنين، من التغير وجفاف الطراوة، من حيث يحتمل حدوثهما للطعام والشراب دون عفن وفساد.
وبالتعفن. يفترق السنة عن التغير، بدلالته على مطلق التغير من حال إلى حال، وهو المعنى المفهوم من التغير فى آيات:
الرعد 11: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُغَيِّرُ مََا بِقَوْمٍ حَتََّى يُغَيِّرُوا مََا بِأَنْفُسِهِمْ}.
الأنفال 53: {ذََلِكَ بِأَنَّ اللََّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهََا عَلى ََ قَوْمٍ حَتََّى يُغَيِّرُوا مََا بِأَنْفُسِهِمْ}.
النساء 119: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللََّهِ}.
* * *155 {خَتََّارٍ}:
وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {كُلُّ خَتََّارٍ كَفُورٍ}
فقال: هو الغدار الظلوم الغشوم. وشاهده قول الشاعر:
لقد علمت واستيقنت ذات نفسها ... بأن لا تخاف الدهر صرمى ولاخترى
(تق، ك، ط) الكلمة من آية لقمان 32:
{وَإِذََا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللََّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمََّا نَجََّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمََا يَجْحَدُ بِآيََاتِنََا إِلََّا كُلُّ خَتََّارٍ كَفُورٍ}.
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
قال الفراء: الختار الغدار. من الختر، الغدر (س، ص) ومن ظاهر دقتها، أن
ابن عباس احتاج فى شرحها إلى ذكر ثلاث صفات متتابعات. بصيغ المبالغة:(1/541)
قال الفراء: الختار الغدار. من الختر، الغدر (س، ص) ومن ظاهر دقتها، أن
ابن عباس احتاج فى شرحها إلى ذكر ثلاث صفات متتابعات. بصيغ المبالغة:
الغدار الظلوم الغشوم. فكان أقرب إلى حسّ السياق من قول «الراغب»: الختر غدر يختر فيه الإنسان، أى يضعف ويكسر لاجتهاده فيه، قال تعالى: {كُلُّ خَتََّارٍ كَفُورٍ}.
ولحظ فيه «ابن الأثير» المبالغة فى الغدر. ففي حديث: «ما ختر قوم بالعهد إلا سلّط عليهم العدوّ» قال: الختر الغدر، يقال ختر يختر فهو خاتر، وختار للمبالغة (النهاية).
والغدر من معانى الختر فى المعاجم، ومعه الخبث والخديعة والغدر. وإنما جاء الفتور والضعف بملحظ من تختر الشارب الثمل، وقد خترت نفسه خبثت وفسدت. فالفتور من ظواهر الختر، والخبث والفساد من أصل معناه. والله أعلم.
* * *156 {الْقِطْرِ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {عَيْنَ الْقِطْرِ}.
فقال ابن عباس: عين الصّفر، وشاهده قول الشاعر:
فألقى فى مراجل من حديد ... قدور القطر ليس من البرام (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية سبأ 12:
{وَلِسُلَيْمََانَ الرِّيحَ، غُدُوُّهََا شَهْرٌ وَرَوََاحُهََا شَهْرٌ، وَأَسَلْنََا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ، وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنََا نُذِقْهُ مِنْ عَذََابِ السَّعِيرِ}.
ومعها آية الكهف 96فى سدّ ذى القرنين:
__________
(1) من (ك، ط) وفى مطبوعة تق [البراءة] وفى معجم غريب القرآن: [البراة] ولم أعثر على الشاهد لأحقق الكلمة. ولعل البرام، جمع برمة، قدر من حجارة، أقرب إلى قوله: * قدور القطر *(1/542)
{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتََّى إِذََا سََاوى ََ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قََالَ انْفُخُوا حَتََّى إِذََا جَعَلَهُ نََاراً قََالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً}.
القطر بالكسر: النحاس المذاب (ص، س، ق) وفى الطبرى عن ابن عباس:
عين النحاس. ومثله فى جامع القرطبى.
وفسره الراغب فى آية الكهف بالنحاس المذاب.
والصفر فى تفسير ابن عباس للمسألة، هو النحاس، وصانعه الصفّار، وأما المذاب، فمستفاد من الإسالة فى الآية: {وَأَسَلْنََا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ}.
* * *157 {خَمْطٍ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {أُكُلٍ خَمْطٍ}.
فقال ابن عباس: الأراك. واستشهد له بقول الشاعر:
ما مغزل فرد تراعى بعينها ... أغنّ غضيض الطرف من خلل الخمط
(تق، ك، ط) الكلمة من آية سبأ 16:
{لَقَدْ كََانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ، جَنَّتََانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمََالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنََاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوََاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} (1).
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
الخمط فى اللغة الأراك أو هو شجر له شوك. والحامض المر، ومنه الخمطة الخمر إذا حمضت. وفسرها الفراء وابن الأنبارى والزمخشرى، فى الآية، بالأراك،
__________
(1) قرأ أبو عمرو ابن العلاء {ذَوََاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} بغير تنوين أكل، والباقون بالتنوين. وخفف الحرميان، نافع وابن كثير، فيها. (التيسير: 180).(1/543)
والأكل ثمره. وبنحوه قال أهل التأويل (الطبرى) وقال الراغب: الخمط شجر لا شوك له، قيل هو الأراك. (المفردات).
واختلفوا فى توجيه إعرابه على القراءتين فيه. فقال ابن الأنبارى: من قرأ بتنوين أكل، جعل الخمط عطف بيان على الأكل، ولا يجوز أن يكون وصفا لأنه اسم شجرة بعينها، ولا بدلا لأنه ليس هو الأول ولا بعضه. ومن لم ينوّن أضاف «أكل» إلى خمط، لأن الأكل هو الثمرة والخمط هو الشجرة (البيان 2/ 278).
والذى فى تأويل الطبرى: أنه على قراءة عامة قراء الأمصار بالتنوين، جعلوا الخمط هو الأكل فردوه عليه فى إعرابه، وأما على قراءة أبى عمرو، فإنه يضيفها إلى خمط، بمعنى ذواتى ثمر خمط. وذلك ما لم يتضح فى تأويل الخمط بالمسألة.
* * *158 {اشْمَأَزَّتْ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {اشْمَأَزَّتْ}
فقال ابن عباس: نفرت، واستشهد له بقول عمرو بن كلثوم:
إذا عضّ الثقاف (1) بها اشمأزت ... وولّته عشوزنة زبونا
(تق، ك، ط) الكلمة من آية الزمر 45:
{وَإِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَإِذََا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذََا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}.
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة.
فسرها «الراغب» كذلك فى الآية بقوله: أى نفرت.
وفى حديث: «سيليكم أمراء تقشعر منهم الجلود وتشمئز منهم القلوب» قال
__________
(1) فى تق [الثقات]. ورواية البيت فى (معلقته) كما فى (ك، ط) والضبط من الديوان.(1/544)
ابن الأثير: أى تتقبض وتجتمع، وهمزته زائدة (النهاية).
يعنى أن أصل الكلمة شمز.
والشمز فى اللغة: نفور النفس مما تكره. والتشمّز التقبض، واشمأز: انقبض واقشعر، أو ذعر. والمشمئز: النافر الكاره، والمذعور. حكاه الأزهرى فى التهذيب عن عدد من أهل اللغة. ومعه (س، ص، ق) والكلمة فى الآية، فيها حسّ الكراهة والنفور مع صريح مقابلتها بالاستبشار.
فالاشمئزاز نقيض الاستبشار. ولا يشمئز الإنسان إلا مما يكره وينفر منه.
* * *159 {جُدَدٌ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {جُدَدٌ}
فقال ابن عباس: طرائق. وشاهده قول الشاعر:
قد غادر النسع (1) فى صفحاتها جددا ... كأنها طرق لاحت على أكم
(تق، ك، ط) الكلمة من آية فاطر 27، 28:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَخْرَجْنََا بِهِ ثَمَرََاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوََانُهََا، وَمِنَ الْجِبََالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوََانُهََا، وَغَرََابِيبُ سُودٌ}.
وحيدة الصيغة فى القرآن، ومن مادتها، جاء «جديد» عشر مرات، نقيض قديم. ومعها «جدّ» فى آية الجن: {وَأَنَّهُ تَعََالى ََ جَدُّ رَبِّنََا مَا اتَّخَذَ صََاحِبَةً وَلََا وَلَداً}. سبقت فى المسألة (62) الجدد، جميع جدّة، الطرائق والخطط المسلوكة، ومنه: سلك الجدد، ومشى على الجادة (س) وفى تأويل الطبرى: الخطط تكون فى الجبال كالطرق. قال:
__________
(1) فى مطبوعة تق: [التسع] تصحيف.(1/545)
وبنحو ذلك قال أهل التأويل. وقال الراغب فى الآية: جمع جدّة أى طريقة. من قولهم: طريق مجدود، أى مسلوك مقطوع، ومنه جادة الطريق.
وإن لم يبد لنا وجه كون الجبال جددا، بمعنى طرائق، فى سياق اختلاف ألوانها:
بيض وحمر وغرابيب سود. والله أعلم.
* * *160 {أَغْنى ََ، وَأَقْنى ََ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {أَغْنى ََ وَأَقْنى ََ} فقال ابن عباس: أغنى من الفقر وأقنى من الغنى فقنع. واستشهد بقول عنترة العبسى:
فاقنى حياءك لا أبا لك واعلمى ... أنى امرؤ سأموت إن لم أقتل
(تق) وسقط من (ك، ط) الكلمة من آية النجم 48:
{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى ََ وَأَقْنى ََ * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ََ}.
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
ومن الواوى جاءت {قِنْوََانٌ} فى آية الأنعام 99:
{وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهََا قِنْوََانٌ دََانِيَةٌ وَجَنََّاتٍ مِنْ أَعْنََابٍ}.
وفى «أقنى» قال الراغب: أى أعطى منه الغنى وما فيه القنية، أى المال المدخر.
وقيل: أقنى وأرضى. وتحقيق ذلك أنه له قنية من الرضى والطاعة (المفردات).
وفى حديث: «إذا أحب الله عبدا اقتناه فلم يترك له مالا ولا ولدا» قال ابن الأثير: أى اتخذه واصطفاه.
ونقل فى حديث النهى عن ذبح قنى الغنم، قول أبى موسى: «هى التى تقتنى للدّار والولد، واحدتها قنوة، بالضم والكسر، وقنية بالياء. قال الزمخشرى: القنى والقنية ما اقتنى من شاة أو ناقة».
ودلالة الاقتناء واضحة فى المادة بصريح لفظها، ولا يكون إلا لما يعزّ ويصان ويدخر، لقيمته ونفعه، المادى أو المعنوى. ويجوز استعماله فى مطلق الادخار على أصل معناه، أو فى المجاز، ومنه الشاهد من بيت عنترة.(1/546)
ونقل فى حديث النهى عن ذبح قنى الغنم، قول أبى موسى: «هى التى تقتنى للدّار والولد، واحدتها قنوة، بالضم والكسر، وقنية بالياء. قال الزمخشرى: القنى والقنية ما اقتنى من شاة أو ناقة».
ودلالة الاقتناء واضحة فى المادة بصريح لفظها، ولا يكون إلا لما يعزّ ويصان ويدخر، لقيمته ونفعه، المادى أو المعنوى. ويجوز استعماله فى مطلق الادخار على أصل معناه، أو فى المجاز، ومنه الشاهد من بيت عنترة.
* * *161 {لََا يَلِتْكُمْ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {لََا يَلِتْكُمْ} فقال ابن عباس: لا ينقصكم، بلغة بنى عبس. واستشهد له بقول الحطيئة العبسى:
أبلغ سراة بنى سعد مغلغلة (1) ... جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا
(تق، ك، ط) الكلمة من آية الحجرات 14.
{قََالَتِ الْأَعْرََابُ آمَنََّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلََكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنََا وَلَمََّا يَدْخُلِ الْإِيمََانُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَإِنْ تُطِيعُوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ لََا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمََالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
ومعها الفعل الماضى من المهموز فى آية الطور 21:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمََانٍ أَلْحَقْنََا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمََا أَلَتْنََاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمََا كَسَبَ رَهِينٌ}.
{لََا يَلِتْكُمْ} قراءة الأئمة، سوى أبى عمرو ابن العلاء فقرأها «يألتكم» بهمزة ساكنة بعد الياء، وإذا خفف أبدلها ألفا: يالتكم. (التيسير).
وهما لغتان: لاته يليته ليتا، وألته يألته ألتا، نقصه ومنعه. وفيها لغة ثالثة:
ألاته، من الرباعى، حكاها أبو عبيدة والأزهرى، والهروى فى الغريبين. واقتصر الفراء على اللغتين فى القراءة، وكذلك ابن الأنبارى وقال: والقراءتان بمعنى
__________
(1) مثلها رواية الديوان، وابن الشجرى فى مختاراته (129). والبحر المحيط. وأنشده القرطبى، فى شواهده، غير منسوب بلفظ: أبلغ بنى ثعل عنى مغلظة(1/547)
واحد: نقصهم وشاهدهم، لقراءة أئمة الحجاز والشام والبصرة، غير مهموز، قول رؤبة:
وليلة ذات ندى سريت ... ولم يلتنى عن سراها ليت
وللمهموز، قول الحطيئة: أبلغ سراة ... البيت، وهو الشاهد فى المسألة، فكأن
ابن عباس فسرها على قراءة «يألتكم» التى انفرد بها أبو عمرو. واختارها السجستانى كذلك، اعتبارا بقوله تعالى: {وَمََا أَلَتْنََاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}
وأنشد بيت الحطيئة. وفى الكشاف: لا ينقصكم ولا يظلمكم يقال ألته السلطان حقه أشد الألت. وهى لغة غطفان وعبس منهم ولغة أسد وأهل الحجاز:
لاته ليتا.
لكنها ليست اختيار أبى عبيدة، والفراء، قال:
{لََا يَلِتْكُمْ} لا ينقصكم ولا يظلمكم من أعمالكم شيئا وهى من: لات يليت، والقراء مجمعون عليها. قد قرأ بعضهم «لا يألتكم» ولست أشتهيها، لأنها بغير ألف كتبت فى المصاحف وليس هذا بموضع يجوز فيه سقوط الهمزة. ألا ترى إلى قوله تعالى: «يأتون» و «يأمرون» و «يأكلون» لم تلق الألف فى شىء منه لأنها ساكنة، وإنما تلقى الهمزة إذا سكن ما قبلها، فإذا سكنت هى ثبتت ولم تسقط.
وإنما اجترأ على قراءتها «يألتكم» أنه وجد {مََا أَلَتْنََاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} فى موضع، فأخذ ذا من ذاك، والقرآن يأتى باللغتين المختلفتين، ألا ترى قوله {تُمْلى ََ عَلَيْهِ} وفى موضع آخر {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ} ولم تحمل إحداهما على الأخرى فتتفقا، ولات يليت وألت يألت: لغتان. (معانى القرآن، الحجرات: 3/ 74).
وهو الصواب عند الطبرى، وحكاه عن أهل التأويل قال: {لََا يَلِتْكُمْ}
لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئا ولا ينقصكم من ثوابها شيئا. وبنحو الذى قلناه فى ذلك قال أهل التأويل. وقرأت قراء الأمصار {لََا يَلِتْكُمْ} بغير همز ولا ألف، سوى أبى عمرو فإنه قرأ «لا يألتكم» اعتبارا منه بقوله تعالى:
{وَمََا أَلَتْنََاهُمْ} وأما الآخرون فإنهم جعلوا ذلك من: لات يليت كما قال رؤبة:
وليلة ذات ندى سريت ... ولم يلتنى عن سراها ليت
والصواب عندنا ما عليه قراء المدينة ومكة والشام والكوفة {لََا يَلِتْكُمْ}
لعلتين: إجماع الحجة من القراء عليها، والثانية أنها فى المصحف بغير ألف ولا تسقط الهمزة من مثل هذا الموضع وإنما تسقط إذا سكن ما قبلها. ولا يحمل حرف فى القرآن إذا أتى بلغة على آخر جاء بلغة خلافها إذا كانت اللغتان معروفتين فى كلام العرب، وقد ذكرنا أن ألت ولات معروفتان من كلامهم.(1/548)
{وَمََا أَلَتْنََاهُمْ} وأما الآخرون فإنهم جعلوا ذلك من: لات يليت كما قال رؤبة:
وليلة ذات ندى سريت ... ولم يلتنى عن سراها ليت
والصواب عندنا ما عليه قراء المدينة ومكة والشام والكوفة {لََا يَلِتْكُمْ}
لعلتين: إجماع الحجة من القراء عليها، والثانية أنها فى المصحف بغير ألف ولا تسقط الهمزة من مثل هذا الموضع وإنما تسقط إذا سكن ما قبلها. ولا يحمل حرف فى القرآن إذا أتى بلغة على آخر جاء بلغة خلافها إذا كانت اللغتان معروفتين فى كلام العرب، وقد ذكرنا أن ألت ولات معروفتان من كلامهم.
وجاء بها الراغب فى «ليت» عن كذا يليته صرفه عنه ونقصه حقا له «لا يلتكم» أى لا ينقصكم من أعمالكم شيئا، وأنشد ... ولم يلتنى عن هواها ليت
(المفردات).
* * *162 {أَبًّا}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {وَفََاكِهَةً وَأَبًّا}.
فقال ابن عباس: الأبّ ما يعتلف منه الدواب. واستشهد بقول الشاعر:
ترى به الأبّ واليقطين مختلطا ... على الشريعة يجرى تحتها الغرب
(تق، ك، ط) الكلمة من آية عبس 31:
{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسََانُ إِلى ََ طَعََامِهِ * أَنََّا صَبَبْنَا الْمََاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنََا فِيهََا حَبًّا * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا * وَحَدََائِقَ غُلْباً * وَفََاكِهَةً وَأَبًّا * مَتََاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعََامِكُمْ}.
وحيدة فى القرآن.
وتفسيرها بما يعتلف منه الدواب هو نحو ما فى تأويل الطبرى: والأب ما تأكله البهائم من العشب والنبات. وبنحوه قال أهل التأويل. وأسنده عن ابن عباس من ثلاث طرق بألفاظ متقاربة: نبت الأرض مما تأكل الدواب ولا يأكله الناس،
ما أنبتت الأرض للنعام، الكلأ والمرعى كله. وهى الألفاظ المتداولة فى كتب التفسير، فى تأويل الأب.(1/549)
وتفسيرها بما يعتلف منه الدواب هو نحو ما فى تأويل الطبرى: والأب ما تأكله البهائم من العشب والنبات. وبنحوه قال أهل التأويل. وأسنده عن ابن عباس من ثلاث طرق بألفاظ متقاربة: نبت الأرض مما تأكل الدواب ولا يأكله الناس،
ما أنبتت الأرض للنعام، الكلأ والمرعى كله. وهى الألفاظ المتداولة فى كتب التفسير، فى تأويل الأب.
واقتصر أبو حيان فى (النهر) على: ما تأكله البهائم من العشب، وفى (البحر المحيط) ذكر معه المرعى. وعن الضحاك: هو التبن خاصة.
وذهب «ابن الأثير» إلى أن الأب: المرعى المتهيئ للرعى والقطع، وقيل:
الأب من المرعى للدواب، كالفاكهة للإنسان. وذلك فى حديث أنس أن عمر بن الخطاب قرأ قوله الله تعالى: {وَفََاكِهَةً وَأَبًّا} وقال: فما الأب؟ ثم قال: ما كلفنا وما أمرنا بهذا (النهاية).
وذهب «الزمخشرى» إلى أن الأب هو المرعى لأنه يؤبّ، أى يؤمّ وينتجع. ثم قال:
«وعن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه سئل عن الأب فقال: أى سماء تظلنى وأى أرض تقلنى إذا قلت فى كتاب الله ما لا علم لى به؟ وعن عمر رضى الله عنه أنه قرأ هذه الآية فقال: كل هذا قد عرفنا، فما الأبّ؟ ثم رفض عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلف. وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدرى ما الأبّ؟ ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه». (الكشاف) وذكره البدر الزركشى بلفظ مقارب، ثم قال: وما ذاك بجهل منهما رضى الله عنهما لمعنى الأب، وإنما يحتمل والله أعلم، أن يكون من الألفاظ المشتركة فى لغتهما أو فى لغات، فخشيا إن فسراه بمعنى من معانيه أن يكون المراد غيره (البرهان فى علوم القرآن: النوع الثامن عشر، فى معرفة الغريب).
* * * وأما الزمخشرى فتعلق بجدل كلامى فيما قدّر أن الموقف يشبه أن يحتمله: «فإن قلت: فهذا يشبه النهى عن تتبع معانى القرآن والبحث عن مشكلاته، قلت: لم يذهب إلى ذلك، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به، تكلفا عندهم. فأراد أن الآية مسوقة فى الامتنان على
الإنسان بمطعمه، واستدعاء شكره. وقد علم من فحوى الآية، أن الأبّ بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له أو لأنعامه. فعليك بما هو أهم: من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك ولم يشكل مما عدّد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأبّ ومعرفة النبات الخاص الذى هو اسم له، واكتف بالمعرفة الجمليّة إلى أن يتبين لك فى غير هذا الوجه، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن» (الكشاف).(1/550)
* * * وأما الزمخشرى فتعلق بجدل كلامى فيما قدّر أن الموقف يشبه أن يحتمله: «فإن قلت: فهذا يشبه النهى عن تتبع معانى القرآن والبحث عن مشكلاته، قلت: لم يذهب إلى ذلك، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به، تكلفا عندهم. فأراد أن الآية مسوقة فى الامتنان على
الإنسان بمطعمه، واستدعاء شكره. وقد علم من فحوى الآية، أن الأبّ بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له أو لأنعامه. فعليك بما هو أهم: من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك ولم يشكل مما عدّد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأبّ ومعرفة النبات الخاص الذى هو اسم له، واكتف بالمعرفة الجمليّة إلى أن يتبين لك فى غير هذا الوجه، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن» (الكشاف).
ومع ندرة استعمال الكلمة، جاءت المعاجم بعدد من مشتقاتها وصيغها ومعانيها فذكرت فى الأب: الكلأ أو المرعى والخضر أو ما أنبتت الأرض. وأبّ للسير يئب ويؤب أبّا وإبابا وأبيبا وأبابة: تهيأ، وإلى وطنه اشتاق. وأب أبّه: قصد قصده
والأباب: الماء والسراب. وبالضم: معظم السيل والموج.
وهى دلالات تبدو متباعدة، وإن أمكن ردها إلى الكلأ، والمرعى قريب منه.
وانتقل مجازا إلى الماء ينبته، وإلى السراب على التخييل. ومن حيث ينتجع الكلأ، جاءت دلالة القصد والتهيؤ، ومن حيث يلتمس ويطلب، جاء استعماله فى الحنين إلى الوطن.
وسياق الكلمة فى الآية، قريب من معنى الكلأ والمرعى. ثم نتأسى بالمروى عن أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، فنقول: والله أعلم.
* * *163 - السر:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {لََا تُوََاعِدُوهُنَّ سِرًّا}
فقال ابن عباس: السر، الجماع. واستشهد بقول الشاعر (1):
ألا زعمت بسباسة اليوم أننى ... كبرت وأن لا يحسن السرّ أمثالى (1)
(تق) وفى (ك، ط) قال الأعشى:
__________
(1) غير منسوب فى الثلاثة، وهو لامرئ القيس فى ديوانه وفى العقد الثمين. ومن شواهد الفراء. وابن قتيبة فى تأويل المشكل، والقرطبى.(1/551)
ولا تقربن جارة كان سرّها ... عليك حراما فانكحن أو تأبدا (1)
الكلمة من آية البقرة 235:
{وَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ فِيمََا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسََاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ، عَلِمَ اللََّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلََكِنْ لََا تُوََاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلََّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً}.
السر فى اللغة نقيض العلن، ويقال لكل ما أخفاه المرء وأكنه سر. وهو فى الآية مجاز عن الإفضاء بالنكاح عند أبى عبيدة، وكناية عن الجماع فى تأويل المشكل لابن قتيبة، وأسند الفراء، فى معنى الآية، عن ابن عباس قال: السر فى هذا الموضع النكاح، وأنشد بيت امرئ القيس: ... ألا زعمت ... وهو ما فى
تأويلها بالمسألة.
وقال الطبرى: اختلف أهل التأويل فى معنى السر المنهى عن مواعدة المعتدات به. وأسند عن ابن عباس وغيره أنه الزنا. وعن آخرين: لا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن فى عددهن أن لا ينكحها غيركم، وعن ابن عباس: لا تقل لها إنى عاشق وعاهدينى أن لا تتزوجى غيرى. وعن غيرهم: بل معناه: لا تستبقينى بنفسك أو لا تفوتينى بنفسك، فإنى ناكحك. وقيل: لا تنكحوهن فى عدتهن سرا حتى إذا حلت أظهرتم النكاح. وأولى الأقوال عنده من قال إن السر فى هذا الموضع الزنا، وذلك أن العرب تسمى الجماع سرا، لأن ذلك مما يكون فى خفاء، غير مطّلع عليه. وفى المفردات: كنى عن النكاح بالسر من حيث إنه يخفى.
ويقصرون بعد هذا كله، عن الاتيان بكلمة تقوم مقام السر
* * *164 {تُسِيمُونَ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {فِيهِ تُسِيمُونَ}
فقال ابن عباس: ترعون. واستشهد له بقول الأعشى:
__________
(1) من داليته المشهورة فى مدح النبى صلى الله عليه وسلم وأراد أن يذهب بها إليه ويسلم، فصدته قريش (الهشامية 2/ 28).(1/552)
ومشى القوم بالعماد إلى [المر (1) ... عى] وأعيا المسيم أين المساق
الكلمة من آية النحل 10:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرََابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ}
ولم تأت الكلمة فى هذا المعنى إلا هنا، وجاء من المادة: يسومهم، يسومونكم، مسوّمة، مسوّمين، سيماهم.
والسوم فى اللغة الرعى، والمساومة المقاولة بين المتبايعين. ومن المجاز: سمته كذا أردته منه، وعرضته عليه، وسمته خسفا، وفيه سيما الصلاح وسيماؤهم (ص، ق) ومعناها عند الفراء: ترعون إبلكم، وفى الطبرى: ترعون، وأسنده عن أهل التأويل، لم يذكر بينهم فيه خلافا.
وعند «الراغب» أن أصل السوم الذهاب فى ابتغاء الشيء: وأجرى مجرى الذهاب فى قولهم: سام الإبل بمعنى رعاها، ومجرى الابتغاء فى «يسومكم سوء العذاب» ومنه قيل: سيم فلان الخسف. ومنه السوم فى البيع والمساومة قصد الغبن (المفردات).
وبالرعى فسرها «ابن الأثير» فى حديث النهى عن السوم قبل طلوع الشمس، لأنه وقت تذكر الله تعالى، أو لأن الإبل إذا رعت فى الندى أصابها منه الوباء وذلك معروف عند العرب. وقال فى حديث «السائمة جبار»: يعنى أن الدابة المرسلة فى مرعاها إذا أصابت أحدا، كانت جنايتها هدرا (النهاية).
والرعى هو المعنى المتبادر للسوم فى الآية. وأما انتقاله إلى سوم العذاب، فأقرب مما ذكره «الراغب» فيه من مجرى الابتغاء، أن يكون من: أسام الإبل أرعاها، وأرسلها فى المرعى. وأسام الخيل: أرسلها، ومنه قيل: أسام على القوم، أى أرسل خيله وأغار فعاث فيهم. وتتميز فروق الدلالات بما يتعلق به السوم: فهو للماشية رعى، وللخيل غارة، وللإنسان، أذى وتسلط. والله أعلم.
* * * __________
(1) فى تق: [إلى الدرخاء] وفى (ك، ط): [إلى الدخل] وما هنا رواية الديوان. والحيوان للجاحظ 3/ 483.(1/553)
165 {لََا تَرْجُونَ لِلََّهِ وَقََاراً}:
وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله عز وجل: {لََا تَرْجُونَ لِلََّهِ وَقََاراً}
فقال ابن عباس: لا يخافون لله عظمة. واستشهد بقول أبى ذؤيب:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وحالفها فى بيت نوب عوامل (1)
(ظ فى الروايتين) وفى (تق، ك، ط) قال: لا تخشون لله عظمة.
والكلمة من آية نوح 13، خطابا لقومه:
{مََا لَكُمْ لََا تَرْجُونَ لِلََّهِ وَقََاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوََاراً}.
الرجاء فى (الأضداد: للأصمعى، وأبى حاتم السجستانى،) وابن الأنبارى، وابن السكيت) بمعنى الطمع وبمعنى الخوف.
وأورده ابن قتيبة فى باب المقلوب من تأويل المشكل: رجوت بمعنى خفت، قال الله سبحانه {مََا لَكُمْ لََا تَرْجُونَ لِلََّهِ وَقََاراً}.
وقيل هى لغة حجازية، وفى لغة كنانة وخزاعة ونصر وهذيل، بمعنى المبالاة (السجستانى وابن الأنبارى) وحكاه الأزهرى والزمخشرى والقرطبى: عن أهل اللغة.
والجمهرة من أهل التأويل على أن معناها فى آية نوح: لا تخافون لله عظمة، أو: لا تخشون، ولا تبالون. سوى الزمخشرى فإنه ذهب إلى أنها بمعنى الأمل.
وعلق الوقار بالمخاطبين، والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم فى دار الثواب. ووجه هذا التأويل عنده تقدّم لفظ الجلالة «لله وقارا»
__________
(1) مثلها رواية ابن قتيبة فى تأويل المشكل، وابن الأنبارى فى الأضداد، والزمخشرى فى الأساس (نوب) وفى الكشاف: ... عواسل
ورواية الديوان، يصف عسّالا:
إذا لسعته الدّبر لم يرج لسعها ... وحالفها فى بيت نوب عواسل
وهما روايتان فى البيت (شرح السكرى، وشرح شواهد الكشاف). وبإحداهما أو الأخرى، يأتى فى كتب اللغة والتفسير.(1/554)
فهو بيان له، ولو تأخر أى: وقارا لله لكان صلة للوقار (الكشاف) وفيه بعد من تكلف الصنعة.
والفعل من الرجاء يأتى فى القرآن الكريم على الوجهين، قال الراغب:
«لا ترجون»: لا تخافون وأنشد بيت أبى ذؤيب وبالضد قال تعالى:
{وَتَرْجُونَ مِنَ اللََّهِ مََا لََا يَرْجُونَ} {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللََّهِ} المفردات.
قال الفراء فى الآية: وقد قال بعض المفسرين أن معناه: تخافون، ولم نجد معنى الخوف يكون رجاء إلا ومعه جحد، والعرب لا تذهب بالرجاء مذهب الخوف إلا مع الجحد. وحكاه عنه الأزهرى فى تهذيب اللغة.
وقال السجستانى: والرجاء يكون طمعا ويكون خوفا، وفى القرآن فى معنى الطمع {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخََافُونَ عَذََابَهُ} {وَمََا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى ََ إِلَيْكَ الْكِتََابُ} {ابْتِغََاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهََا} قال كعب (بن زهير):
أرجو وآمل أن تدنو مودتها ... وما إخال لدينا منك تنويل
والرجاء فى القرآن بمعنى الخوف كثير: {مَنْ كََانَ يَرْجُوا لِقََاءَ اللََّهِ} {وَقََالَ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا} {ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} وقال أبو ذؤيب:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها فى بيت نوب عوامل
(الأضداد، ف 8/ 110).
فهل من ضابط لهذه الضدية، فى البيان القرآنى؟
قد يشهد القول الفراء إنها لا تجىء فى معنى الخوف إلا جحدا، الاستقراء للكلمة فى القرآن الكريم وتدبر سياقها:
جاءت فى مثل سياق آية نوح مع الجحد، فى قوله تعالى:
{لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا} يونس 7، 11، 15، والفرقان 21.
{لََا يَرْجُونَ أَيََّامَ اللََّهِ} الجاثية 14.
{لََا يَرْجُونَ نُشُوراً} الفرقان 40.
{إِنَّهُمْ كََانُوا لََا يَرْجُونَ حِسََاباً} النبأ 27ومعها آية النور 60 {وَالْقَوََاعِدُ مِنَ النِّسََاءِ اللََّاتِي لََا يَرْجُونَ نِكََاحاً}.(1/555)
{لََا يَرْجُونَ نُشُوراً} الفرقان 40.
{إِنَّهُمْ كََانُوا لََا يَرْجُونَ حِسََاباً} النبأ 27ومعها آية النور 60 {وَالْقَوََاعِدُ مِنَ النِّسََاءِ اللََّاتِي لََا يَرْجُونَ نِكََاحاً}.
وأما فى غير الجحد، فأكثر ما تجىء بمعنى الطمع والأمل:
القصص 86: {وَمََا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى ََ إِلَيْكَ الْكِتََابُ إِلََّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}
الإسراء 28: {ابْتِغََاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهََا}
البقرة 218: {أُولََئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللََّهِ}
الإسراء 57: {يَبْتَغُونَ إِلى ََ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ}
فاطر 29: {يَرْجُونَ تِجََارَةً لَنْ تَبُورَ}
الزمر 9: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ}
هود 62: {قََالُوا يََا صََالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينََا مَرْجُوًّا قَبْلَ هََذََا} لكنها أقرب إلى معنى الخوف، فى آيات.
العنكبوت 5: {مَنْ كََانَ يَرْجُوا لِقََاءَ اللََّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللََّهِ لَآتٍ}
الأحزاب 21: {لَقَدْ كََانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللََّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كََانَ يَرْجُوا اللََّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} ومعها الممتحنة 6.
الكهف 110: {فَمَنْ كََانَ يَرْجُوا لِقََاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صََالِحاً}
العنكبوت 36: {فَقََالَ يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ}
فلعل الوجه فى تأويل الرجاء بالخوف أن الراجى غير مستيقن من تحقق رجائه، فالراجى يخاف فوت المرجو وإخلافه «فالرجاء والخوف متلازمان لأن من يرجو الشيء يخاف ألا يكون» كما قال الراغب. والله أعلم.
* * *166 {مَتْرَبَةٍ}:
وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {ذََا مَتْرَبَةٍ}
فقال ابن عباس: ذا حاجة وجهد. واستشهد بقول الشاعر:
تربت يد لك ثمّ قلّ نوالها ... وترفعت عنها السماء سجالها
(تق، ك، ط) الكلمة من آية البلد 16:(1/556)
وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {ذََا مَتْرَبَةٍ}
فقال ابن عباس: ذا حاجة وجهد. واستشهد بقول الشاعر:
تربت يد لك ثمّ قلّ نوالها ... وترفعت عنها السماء سجالها
(تق، ك، ط) الكلمة من آية البلد 16:
{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعََامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذََا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذََا مَتْرَبَةٍ}.
وحيدة الصيغة فى القرآن.
ومن مادتها جاء «تراب» و «التراب» سبع عشرة مرة.
والمتربة: الفقر، نقلا من أصل المادة فى التراب. ويقال أتربه: عفّره بالتراب، ويرب فلان بعد ما أترب، أى افتقر بعد غنى (س).
والآية ذكرها ابن السكيت فى (تهذيب الألفاظ 575) شاهدا على المتربة:
الفقر، وفى تفسير البخارى: «ذا متربة الساقط فى التراب». ومعه فى (فتح البارى) تخريجه عن مجاهد بلفظ: المطروح فى التراب ليس له بيت، وعن ابن عباس مثله، وعنه بلفظ: الذى لا يقيه من التراب شىء، أو: الذى ليس بينه وبين التراب شىء.
وأسند الفراء فى معنى آية البلد، عن ابن عباس، أنه مر بمسكين لاصق بالتراب حاجة، فقال: هذا الذى قال الله تبارك وتعالى: {أَوْ مِسْكِيناً ذََا مَتْرَبَةٍ}
وفى مفردات الراغب: أى ذا لصوق بالتراب.
وأما الشاهد فى المسألة * تربت يداك * فكذلك وجهه ابن السكيت والزمخشرى إلى الدعاء عليه. ولكن ابن الأثير ذكر فيه وجها آخر، وهو الدعاء فى حديث: «عليك بذات الدين تربت يداك»، وقال: وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب يريدون بها الدعاء، كقولهم: قاتله الله ويعضده قوله فى حديث خزيمة: «أنعم صباحا تربت يداك» وكثيرا ما ترد للعرب ألفاظ ظاهرها الذمّ وإنما يريدون بها المدح كقولهم: لا أب لك، ولا أم لك، ونحو ذلك.
ومنه حديث أنس: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبابا ولا فحاشا،
كان يقول لأحدنا عند المعاتبة: تربت جبينه» قيل: أراد به دعاء له بكثرة السجود (النهاية).(1/557)
ومنه حديث أنس: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبابا ولا فحاشا،
كان يقول لأحدنا عند المعاتبة: تربت جبينه» قيل: أراد به دعاء له بكثرة السجود (النهاية).
فترى أن الكلمة على أى وجه تأولوها فى الآية، متصلة بأصل دلالتها على التراب، وإن كانت الدلالة المجازية هى المرادة فى آية البلد، المسألة، كناية عن شدة الفقر وجهد العوز. والله أعلم.
* * *167 {مُهْطِعِينَ}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدََّاعِ}
فقال ابن عباس: مذعنين خاضعين. واستشهد بقول تبّع (1):
تعبّدنى نمر بن سعد وقد درى ... ونمر بن سعد لى مدين ومهطع
(تق، ك، ط) الكلمة من آية:
القمر 8: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدََّاعِ إِلى ََ شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصََارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدََاثِ كَأَنَّهُمْ جَرََادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدََّاعِ يَقُولُ الْكََافِرُونَ هََذََا يَوْمٌ عَسِرٌ}
ومعها آيتا:
إبراهيم 43: {وَلََا تَحْسَبَنَّ اللََّهَ غََافِلًا عَمََّا يَعْمَلُ الظََّالِمُونَ، إِنَّمََا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصََارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لََا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ، وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوََاءٌ}
المعارج 36: {فَمََا لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمََالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ}
__________
(1) تبع الحميرى. والبيت فى (ص، س، ل: هـ ط ع) غير منسوب، وروايته فيها:
تعبدنى نمر بن سعد وقد أرى ... ونمر بن سعد لى مطيع ومهطع
ومثلها فى (الكشاف والقرطبى والبحر المحيط): آية القمر.(1/558)
وليس فى القرآن من المادة غير هذه الكلمة فى الآيات الثلاث.
فى الوقف والابتداء، فى غير المسائل: سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله عز وجل: «مهطعين إلى الداع» قال: المهطع المسرع، واحتج بقول الشاعر:
بدجلة دارهم ولقد أراهم ... بدجلة مهطعين إلى السماع (1)
(فقرة 102/ 67).
من أهطع فى سيره مدّ عنقه وصوب رأسه (ص، س) وأسند الطبرى عن ابن عباس، وغيره: يعنى بالإهطاع النظر من غير أن يطرف. وعن آخرين: مديمى النظر. وعن الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد.
وقال الأخفش فى معانى القرآن: كأنه قال: يشخص أبصارهم مهطعين و «الراغب» فهمها من: هطع الرجل ببصره إذا صوّبه، وبعير مهطع إذا صوب عنقه (المفردات).
وقال «الزمخشرى» فى مهطعين: أى مسرعين مادّى أعناقهم إليه وقيل:
ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم قال: ... تعبدنى نمر ... البيت (الكشاف) ونقل
أبو حيان فى (البحر المحيط): قال أبو عبيدة: مسرعين وقال قتادة:
عامدين. وقال الضحاك: مقبلين، وقال عكرمة: فاتحين آذانهم إلى الصوت.
وقال سفيان خاشعين وقيل: خاضعين مادى أعناقهم.
والمعانى متقاربة كما قال القرطبى.
وعلى أى وجه تأولوا الكلمة، يظل لها ملحظ الذلة والخضوع، فى شخوص البصر أو فى الإسراع ومد العنق. قال الجوهرى: وأهطع مد عنقه وصوب رأسه
__________
(1) مثله فى البحر المحيط والقرطبى (آية القمر) غير منسوب. وفى (ل: هـ ط ع): بدجلة أهلها *(1/559)
وكمحسن: من ينظر فى ذل وخضوع لا يقلع بصره (ق).
* * *168 {سَمِيًّا}
وسأل نافع عن قوله تعالى {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}
فقال ابن عباس: ولدا، واستشهد بقول الشاعر:
أما السّمىّ فأنت منه مكثر ... والمال فيه تغتدى وتروح
(تق، ك، ط) الكلمة من آية مريم 65:
{رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبََادَتِهِ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}
ومعها آية مريم 7:
{يََا زَكَرِيََّا إِنََّا نُبَشِّرُكَ بِغُلََامٍ اسْمُهُ يَحْيى ََ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}
ومن المادة جاء «اسم» سبعا وعشرين مرة، وجمعه: أسماء، والأسماء اثنتى عشرة مرة و «تسمية» فى آية النجم 23، وفعلها ماضيا ومضارعا ثمانى مرات، واسم المفعول منها «مسمّى» إحدى وعشرين مرة.
تأويل الكلمة فى المسألة بولد، فيه أن القرآن الكريم جاء فيه ولد وأولاد ستا وأربعين مرة، ولم أقف على تأويل «سميا» بولد، فى آيتى مريم، كلتيهما.
سميّك فى اللغة: من اسمه اسمك ونظيرك. وساماه باراه، وتساموا تباروا.
والسمة العلامة، والاسم اللفظ الموضوع على العرض والجوهر، للعلميّة والتمييز.
وفى تأويل الطبرى لآية مريم 65: هل تعلم يا محمد لربك مثلا أو شبيها: عن ابن عباس، وعن آخرين: لا سمّى لله ولا عدل له، كل خلقه يقر له ويعترف أنه خالقه، لا شريك له ولا مثل.
وأما فى آية مريم (7) فروى بإسناده من اختلاف أهل التأويل: لم تلد العواقر مثله، عن ابن عباس، وقال آخرون: لم نجعل له من قبله مثلا، وقال غيرهم:(1/560)
وفى تأويل الطبرى لآية مريم 65: هل تعلم يا محمد لربك مثلا أو شبيها: عن ابن عباس، وعن آخرين: لا سمّى لله ولا عدل له، كل خلقه يقر له ويعترف أنه خالقه، لا شريك له ولا مثل.
وأما فى آية مريم (7) فروى بإسناده من اختلاف أهل التأويل: لم تلد العواقر مثله، عن ابن عباس، وقال آخرون: لم نجعل له من قبله مثلا، وقال غيرهم:
بل معناه أنه لم يسمّ باسمه أحد قبله. وهذا القول الأخير، هو أشبه بتأويلها عند الطبرى.
وقال «الراغب»: وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}، أى نظيرا له يستحق اسمه، وموصوفا يستحق صفته على التحقيق. وليس المعنى: هل تجد من يتسمى باسمه، إذ كان كثير من أسمائه تعالى قد يطلق على غيره، لكن ليس معناه إذا استعمل فيه سبحانه، كمعناه إذا استعمل فى غيره (المفردات).
قلت: لعله يشير بذلك إلى مثل: علىّ، وعزيز، ورءوف وكريم وقلما يسمى بها أحد معرفة بال، كالأسماء الحسنى.
ولعلها اختصار عبد العلى وعبد العزيز وعبد الكريم.
وجرى السلف على التلقيب ب: العلى بالله، والمقتدر بالله، والظاهر بأمر الله ونحوها.
* * *169 {يُصْهَرُ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {يُصْهَرُ}
فقال ابن عباس: يذاب. واستشهد له بقول الشاعر:
سخنت صهارته فظلّ عثاله (1) ... فى سيطل كفيت به يتردد
(تق، ك، ط) وفى (وق) قال:
الصهر، الإذابة، قال فيه ميّاس المرادى:
__________
(1) كذا فى (تق) وفى (ك، ط) [عنانه]. ولم أقف على الشاهد لأحققه، وليس فى مادة عثل ما يقوم به المعنى فلعلها «عثانه» صحفت فى المخطوطين ب: عنانه.
والعثان كغراب، واحد العواثن، وككتف: الفاسد من الطعام خالطه دخان (تق) وعثن علينا، من العثان، الدخان (س). وانظر مادة (عثن) فى مقاييس اللغة: 4/ 230.(1/561)
فظلنا بعد ما امتد الضحى ... بين ذى قدر ومنا مصهر
الكلمة من آية الحج 20:
{هََذََانِ خَصْمََانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيََابٌ مِنْ نََارٍ، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مََا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ}.
وحيدة فى القرآن، بصيغتها ومعناها.
ومعها من المادة: الصهر مع النسب فى آية الفرقان 54:
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمََاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً}.
الصهر فى اللغة الإذابة للشحم والمعدن، والصهارة ذوبهما. ومنه المصاهرة بدلالة الاختلاط والانصهار، وفى تأويل الطبرى: يذاب بالحميم الذى يصب من فوق رءوسهم، ما فى بطونهم من الشحوم وتشوى جلودهم فتتساقط. وأسند نحوه عن ابن عباس. وخصه المفسرون كذلك بإذابة الشحوم، وهو ما فى (مفردات الراغب والنهاية لابن الأثير).
* * *170 {لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ}.
فقال ابن عباس: لتثقل. واستشهد بقول امرئ القيس (1):
تمشى فتثقلها عجيزتها ... مشى الضعيف ينوء بالوسق
(تق، ك، ط) الكلمة من آية القصص 76:
{إِنَّ قََارُونَ كََانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى ََ فَبَغى ََ عَلَيْهِمْ، وَآتَيْنََاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مََا إِنَّ مَفََاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قََالَ لَهُ قَوْمُهُ لََا تَفْرَحْ، إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}.
__________
(1) كذا فى الثلاثة. وهو فى (الأغانى 11/ 191) من شعر الحارث بن خالد المخزومى، فى عائشة بنت طلحة التيمية.(1/562)
السؤال عن: تنوء وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة.
فى أضداد الأصمعى (ناء) عن أبى عبيدة، يقال: نؤت بالحمل إذا نهضت به مثقلا، وناءنى الحمل إذا أثقلك وغلبك ومنه «ما إن مفاتحه» الآية. وبلفظه فى الأضداد لابن السكيت (ناء).
وفى الأضداد للسجستانى (ناء): وقالوا ناء بزيد الحمل إذا ناء زيد بالحمل، وقال تعالى: {مََا إِنَّ مَفََاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ} والعصبة تنوء بها.
وأبو عبيدة أورد الكلمة فى مجاز ما يحوّل الفاعل منه إلى المفعول أو إلى غير المفعول، قال تعالى: {مََا إِنَّ مَفََاتِحَهُ} الآية، والعصبة هى التى تنوء بها.
(مجاز القرآن 1/ 12) وهو فى باب المقلوب فى تأويل المشكل لابن قتيبة: «لتنوأ بالعصبة» أى تنهض بها مثقلة. نقله ابن الأنبارى فى (الأضداد: ف 8/ 144) ونقل معه قول الفراء فى معانى القرآن، آية القصص: معناه ما إن مفاتحه لتنىء العصبة، أى تثقلهم وتميلهم فلما [انفتحت] التاء سقطت الباء، كما يقولون هو يذهب ببصر فلان، وهو يذهب بصر فلان. وقال الجوهرى: ناء ينوء نوءا، نهض بجهد ومشقة وناء:
سقط. وهو من الأضداد (ص: ن وأ).
وفى (س: ن وأ) نؤت بالحمل نهضت به، وناء بى الحمل: مال بى إلى السقوط. والمرأة تنوء بعجيزتها. وقال تعالى: {مََا إِنَّ مَفََاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ}
والكلمة فى (مقاييس اللغة) من مهموز مادة نوى. ودلالتها لمحض النهوض مع ملحظ ثقل. قال ابن فارس فى مادة نوى: وبالهمز: كلمة تدل على النهوض، ناء ينوء نوءا: نهض. وكل ناهض بثقل فقد ناء. والمرأة تنوء بها عجيزتها وهى تنوء بها، فالأولى: تثقل بها، والثانية تنهض والمناوأة المناهضة (5/ 366).
فى تأويل الكلمة، أسند الطبرى عن ابن عباس وغيره من أهل التأويل:
«لتنوأ» لتثقل. ثم قال: وكيف تنوء المفاتح بالعصبة، وإنما العصبة هى التى تنوء بها؟ ونقل اختلاف أهل العلم بالعربية فى معناها: فقال بعض البصريين مجاز
ذلك نحو: تنوء بها عجيزتها، وإنما تنوء البعير بحمله. وبعض الكوفيين ينكره وقالوا: نوؤها بالعصبة أن تثقلهم، كما قال تعالى: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} أى آتونى بقطر وهذا القول الآخر أولى بالصواب، وإذا وجّه: ما إن العصبة لتنهض بمفاتحة لم يكن فيه دلالة على كثرة كنوزه، على نحو ما إذا وجّه إلى أن معناه إذ مفاتحه تثقل العصبة وتميلها لأنه قد تنهض العصبة بالقليل وبالكثير وإنما قصد جل ثناؤه الخبر عن كثرة ذلك. وإذا أريد به الخبر عن كثرته كان قول من قال: لتنوأ العصبة بمفاتحه، لا معنى له. هذا مع خلافه تأويل السلف.(1/563)
«لتنوأ» لتثقل. ثم قال: وكيف تنوء المفاتح بالعصبة، وإنما العصبة هى التى تنوء بها؟ ونقل اختلاف أهل العلم بالعربية فى معناها: فقال بعض البصريين مجاز
ذلك نحو: تنوء بها عجيزتها، وإنما تنوء البعير بحمله. وبعض الكوفيين ينكره وقالوا: نوؤها بالعصبة أن تثقلهم، كما قال تعالى: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} أى آتونى بقطر وهذا القول الآخر أولى بالصواب، وإذا وجّه: ما إن العصبة لتنهض بمفاتحة لم يكن فيه دلالة على كثرة كنوزه، على نحو ما إذا وجّه إلى أن معناه إذ مفاتحه تثقل العصبة وتميلها لأنه قد تنهض العصبة بالقليل وبالكثير وإنما قصد جل ثناؤه الخبر عن كثرة ذلك. وإذا أريد به الخبر عن كثرته كان قول من قال: لتنوأ العصبة بمفاتحه، لا معنى له. هذا مع خلافه تأويل السلف.
وقال القرطبى: أحسن ما قيل فيه: إن المعنى لتنىء العصبة أى تميلهم بثقلها، فلما انفتحت التاء دخلت الباء كما قالوا: «هو يذهب بالبؤس ويذهب البؤس».
وهو قول الفراء.
وفى البحر المحيط لأبى حيان: قال أبو زيد: نؤت بالحمل إذا نهضت به
ويقال: ناء ينوء إذا نهض بثقل. وقال أبو عبيدة: هو مقلوب، وأصله: لتنوأ بها العصبة. والقلب بابه الشعر، والصحيح أن الباء للتعدية، أى لتنىء العصبة، كما تقول: ذهبت به وأذهبته ونقل هذا عن الخليل وسيبويه والفراء، واختاره النحاس، وروى معناه عن ابن عباس وأبى صالح والسدى.
ورده الراغب إلى النوء: سقوط النجم وميله للغروب وقالوا: ناء به الحمل أثقله وأماله، وناء فلان أثقل فسقط. (المفردات).
والذى يظهر لنا من إمعان النظر فى أقوالهم، أن: ناء بالحمل بمعنى نهض به مثقلا، وناء به الحمل أثقله وأعياه وأماله. فكأن وجه العدول فى البيان القرآنى عن لتنوأ بها العصبة، إلى {لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} تقرير لكونها من الكثرة بحيث يعييهم النهوض بها. والله أعلم * * *(1/564)
والذى يظهر لنا من إمعان النظر فى أقوالهم، أن: ناء بالحمل بمعنى نهض به مثقلا، وناء به الحمل أثقله وأعياه وأماله. فكأن وجه العدول فى البيان القرآنى عن لتنوأ بها العصبة، إلى {لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} تقرير لكونها من الكثرة بحيث يعييهم النهوض بها. والله أعلم * * *
171 {بَنََانٍ}:
وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {كُلَّ بَنََانٍ}.
فقال ابن عباس: أطراف الأصابع. وشاهده قول عنترة العبسى:
فنعم فوارس الهيجاء قومى ... إذا علق الأعنة بالبنان (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية الأنفال 12:
{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلََائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنََاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنََانٍ}
ومعها آية القيامة 4: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسََانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظََامَهُ * بَلى ََ قََادِرِينَ عَلى ََ أَنْ نُسَوِّيَ بَنََانَهُ}.
وليس القرآن غيرهما من المادة.
البنان واحدته بنانه، وهى الأصابع أو أطرافها (ق) يقال: ما زاد عليه بنانة، أى إصبعا واحدة (س).
وفى تأويلها بآية الأنفال: أنها أطراف أصابع اليدين والرجلين، وقيل: هى الأطراف، وقيل: كل مفصل (الطبرى).
حكاها أبو حيان وقال: والمختار أنها الأصابع (البحر / آية الأنفال).
وفسرها الراغب كذلك بالأصابع، خصها الله تعالى بالذكر لأجل أنهم بها يقاتلون ويدافعون.
(المفردات) وفى حديث جابر، بن عبد الله بن عمرو الأنصارى، وذكر استشهاد أبيه رضى الله عنهما يوم أحد قال: «ما عرفته إلا ببنانه».
__________
(1) كذا فى تق ط، وكلمة الأعنة غير مقروءة فى (ك) ورواية الديوان وشعراء النصرانية 6/ 814:
إذا علقوا الأسنة، الأعنة.(1/565)
قال ابن الأثير: البنان الأصابع، وقيل أطرافها، واحدتها بنانة (النهاية).
والزمخشرى فى آية القيامة: ذكر الأطراف على أنها أصابع الإنسان «التى هى أطرافه وآخر ما يتم من خلقه، أو: بلى قادرين على أن نسوى بنانه ونضم سلامياته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض، كما كانت أولا من غير نقصان ولا تفاوت. وقيل معناه، بلى نجمعها عظام الإنسان ونحن قادرون على أن نسوى أصابع يديه ورجليه، أى نجعلها مستوية شيئا واحدا كخفّ البعير وحافر الحمار، ولا فرق بينهما، فلا يمكن أن يعمل بها شيئا مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل، من فنون الأعمال والبسط والقبض والتأتّى لما يريد من الحوائج (الكشاف).
ورأى أبو حيان فى قول الزمخشرى تكلفا وتنميق ألفاظ، قال: أى نحن قادرون على أن نسوى، بناته وهى الأصابع، أكثر العظام تفرقا وأدقها أجزاء، وهى العظام التى فى الأنامل ومفاصلها. وهذا عند البعث. وقال ابن عباس والجمهور: نجعلها فى حياته هذه بضعة أو عظما واحدا، فتقل منفعته بها، وهذا القول فيه توعد. والمعنى الأول هو الظاهر والمقصود من رصف الكلام.
وذكر الزمخشرى هذين القولين بألفاظ منمقة على عادته فى حكاية أقوال المتقدمين. (البحر المحيط).
* * *172 {إِعْصََارٌ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {إِعْصََارٌ فِيهِ نََارٌ}.
فقال ابن عباس: الريح الشديدة. واستشهد له بقول الشاعر:
فله فى آثارهنّ خوار ... وحفيف كأنه إعصار
(تق)، زاد فى (ك، ط):
التى تجرى بالعذاب
الكلمة من آية البقرة 266:(1/566)
التى تجرى بالعذاب
الكلمة من آية البقرة 266:
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنََابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ لَهُ فِيهََا مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ وَأَصََابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفََاءُ فَأَصََابَهََا إِعْصََارٌ فِيهِ نََارٌ فَاحْتَرَقَتْ، كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمُ الْآيََاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}.
وحيدة الصيغة، ومعها فى القرآن من مادتها:
الفعل من العصر فى آيتى يوسف: {إِنِّي أَرََانِي أَعْصِرُ خَمْراً} 36 {فِيهِ يُغََاثُ النََّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} 49.
والمعصرات فى آية النبأ 14، والعصر بمعنى الدهر والزمن فى آية العصر.
وتفسير الإعصار بالريح الشديدة، قريب، مع ملحظ دلالة مادته على الاعتصار. بالضغط لاستخلاص العصارة {أَعْصِرُ خَمْراً} وسميت السحب الممطرة «المعصرات» لما تعتصر من المطر. كما أطلق الإعصار على الريح الشديدة أو هو «الغبار الذى يسطع مستديرا ويقال فى غبار العجاجة أيضا إعصار» ومنه الآية (مقاييس اللغة). وقال الجوهرى: والإعصار ريح تهب تثير الغبار فيرتفع فى السماء كأنه عمود {إِعْصََارٌ فِيهِ نََارٌ} ويقال: هى ريح تثير سحابا ذات رعد وبرق (ص) وهو بلفظه تأويل الطبرى للكلمة، ثم أسند عن ابن عباس، قال: ريح فيها سموم شديدة. وعنه أيضا: هى السموم الحارة. وعند الراغب:
الإعصار ريح تثير الغبار (المفردات).
* * *173 {مُرََاغَماً}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {مُرََاغَماً}.
فقال ابن عباس: منفسحا، بلغة هذيل. واستشهد له بقول الشاعر:
وأترك أرض جهرة إن عندى ... رجاء فى المراغم والتعادى (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية النساء 100:(1/567)
فقال ابن عباس: منفسحا، بلغة هذيل. واستشهد له بقول الشاعر:
وأترك أرض جهرة إن عندى ... رجاء فى المراغم والتعادى (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية النساء 100:
{وَمَنْ يُهََاجِرْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرََاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً، وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهََاجِراً إِلَى اللََّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللََّهِ، وَكََانَ اللََّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة.
وليس الانفساح من معانيها القريبة إلا أن يستفاد من «مراغما وسعة» وأصل استعمالها لغة الرغام التراب، ومنه قولهم: أنفه فى الرغام، كناية عن المذلة والانكسار. واستعمل فى القسر والإرغام، ونقل إلى المنأى والمهرب، كما نقل المفزع لما يلاذ به عند الفزع (الأساس، وانظر معه مقاييس اللغة: رغم) 2/ 413قال الفراء: مراغما ومراغمة مصدران فالمراغم المضطرب والمذهب فى الأرض. ومثله تأويل الطبرى للكلمة، ثم أسند عن ابن عباس، قال: المراغم التحول من الأرض إلى الأرض، وعن الضحاك: متحولا. وعن آخرين:
متزحزحا، وقال الراغب: أى مذهبا يذهب إليه إذا رأى منكرا يلزمه أن يغضب منه. كقولك: غضبت إلى فلان من كذا ورغمت إليه (المفردات)
فلعل «مراغما» ملحوظ فيها، مع سعة فى الأرض، إرغام الاضطرار إلى الهجرة. والله أعلم.
* * *174 - صلد
: وسأل نافع عن قوله تعالى: {صَلْداً}.
فقال ابن عباس: أملس، واستشهد بقول أبى طالب:
__________
(1) من تق: وفى (ك، ط) رخاء * ولم أقف على الشاهد.(1/568)
وإنى لقرم وابن قرم لهاشم ... لآباء صدق مجدهم معقل صلد
تق)، زاد فى (ك، ط):
أملس لا شىء عليه.
الكلمة من آية البقرة 264:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُبْطِلُوا صَدَقََاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ََ كَالَّذِي يُنْفِقُ مََالَهُ رِئََاءَ النََّاسِ وَلََا يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوََانٍ عَلَيْهِ تُرََابٌ فَأَصََابَهُ وََابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً، لََا يَقْدِرُونَ عَلى ََ شَيْءٍ مِمََّا كَسَبُوا، وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكََافِرِينَ}.
وحيدة فى القرآن صيغة ومادة.
تأويلها بالملاسة يحتاج إلى قيد بالصلابة والجدب، فليس كل أملس صلدا.
وأكثر ما يستعمل فى الحجر وفى الأرض الصلداء الغليظة الصلبة، ونقل إلى الشحّ والضنّ، فقيل للبخيل: أصلد. وصلد الزند لم يور، والصلود الناقة ضنت بلبنها.
(مقاييس اللغة: صلد 3/ 303) قال الطبرى: والصلد من الحجارة: الصلب الذى لا شىء عليه من نبات ولا غيره. وهو من الأرضين ما لا ينبت فيه شىء وبنحو الذى قلنا فى ذلك قال أهل التأويل. (سورة البقرة) * * *
175 {مَمْنُونٍ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ}.
فقال ابن عباس: غير منقوص. ولما سأله ابن الأزرق: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول زهير بن أبى سلمى (1):
__________
(1) من ديوانه: ص 49ط الثقافة بمصر.
والذى فى (الكامل) أن ابن عباس قال: «قد عرفه أخو بنى يشكر حيث يقول:
وترى خلفهن من سرعة الرج ... ع منينا كأنه أهباء
قال المبرد: منين، يعنى الغبار» بغية الآمل: 7/ 164.(1/569)
فضل الجواد على الخيل البطاء فلا ... يعطى بذلك ممنونا ولا نزقا
(تق، ك، ط) الكلمة من آية القلم 3، خطابا للمصطفى عليه الصلاة والسلام.
{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى ََ خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
ومعها فى الذين آمنوا وعملوا الصالحات:
{لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} فى آيات: فصلت 8، الانشقاق 25، والتين 6، ومن مادتها جاء: المن 16مرة.
و {رَيْبَ الْمَنُونِ} فى آية الطور فسره الطبرى كذلك، بغير منقوص ولا مقطوع، من قولهم: حبل منين. وفى معنى الكلمة عند الفراء: غير مقطوع، والعرب تقول ضعفت مُنّتي عن السفر.
ويقال للضعيف: المنين. وهذا من ذاك، والله أعلم (المعانى 3/ 172).
وعن مجاهد: غير محسوب. وعن الحسن: غير مكدر بالمن، وقيل: غير مقدر، وهو التفضل لأن الجزاء مقدر والتفضل غير مقدر. ذكره الماوردى (جامع القرطبى).
ومما قاله الزمخشرى فيها: غير ممنون به عليك، لأنه ثواب تستوجبه على عملك وليس بتفضّل ابتداء وإنما تمنّ الفواضل، لا الأجور على الأعمال (الكشاف).
أنكره أبو حيان ورأى فيه «دسيسة اعتزال» البحر المحيط.
وكذلك أنكره ناصر الدين ابن المنير الإسكندرى المالكى قاضى القضاة قال:
«ما كان النبى صلّى الله عليه وسلّم يرضى من الزمخشرى بتفسير الآية هكذا، وهو صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله) قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدنى الله بفضل منه ورحمة) لقد بلغ الزمخشرى سوء الأدب إلى حدّ يوجب الحدّ! وحاصل قوله أن الله لا منة له على أحد ولا فضل فى دخول الجنة لأنه قام بواجب عليه؟ نعوذ بالله من الجرأة عليه».
(الانتصاف، على هامش الكشاف)
ويهدينا تدبر ما فى القرآن من آيات المن، إلى أن لله تعالى أن يمن على عباده تفضلا، وتذكيرا بنعمه. وإنما يكره المنّ من البشر حين يكون على وجه الحساب والعدّ والتفضل. وأصل المن فى اللغة القطع. قاله ابن السكيت فى (تهذيب الألفاظ). ومعه: اصطناع الخير، أصلا ثانيا فى (مقاييس اللغة: 5/ 267) ومن معانى المن ما يوزن به، والممنون الموزون. ومنه جاءت المنّة بمعنى النعمة ذات الوزن والقيمة. وبملحظ من الوزن جاء الممنون بمعنى المحسوب المعدود من متفضّل يعد مننه على من نالته. وقال الراغب: وذلك مستقبح من الناس وفيه قالوا: المنة تهدم الصنيعة، لأنها تقطع الشكر وتنقص النعمة. والمنون: المنية تنقص العدد وتقطع المدد (المفردات).(1/570)
(الانتصاف، على هامش الكشاف)
ويهدينا تدبر ما فى القرآن من آيات المن، إلى أن لله تعالى أن يمن على عباده تفضلا، وتذكيرا بنعمه. وإنما يكره المنّ من البشر حين يكون على وجه الحساب والعدّ والتفضل. وأصل المن فى اللغة القطع. قاله ابن السكيت فى (تهذيب الألفاظ). ومعه: اصطناع الخير، أصلا ثانيا فى (مقاييس اللغة: 5/ 267) ومن معانى المن ما يوزن به، والممنون الموزون. ومنه جاءت المنّة بمعنى النعمة ذات الوزن والقيمة. وبملحظ من الوزن جاء الممنون بمعنى المحسوب المعدود من متفضّل يعد مننه على من نالته. وقال الراغب: وذلك مستقبح من الناس وفيه قالوا: المنة تهدم الصنيعة، لأنها تقطع الشكر وتنقص النعمة. والمنون: المنية تنقص العدد وتقطع المدد (المفردات).
* * *176 {جََابُوا}:
سأل نافع عن قوله تعالى: {جََابُوا الصَّخْرَ}.
فقال ابن عباس: نقبوا الحجارة والجبال فاتخذوها بيوتا. وشاهده قول أمية (1):
وشقّ أبصارنا كيما نعيش بها ... وجاب للسمع أصماخا وآذانا
(تق، ك، ط) الكلمة من آية الفجر 9:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعََادٍ * إِرَمَ ذََاتِ الْعِمََادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهََا فِي الْبِلََادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جََابُوا الصَّخْرَ بِالْوََادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتََادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلََادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسََادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذََابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصََادِ}.
السؤال عن: جابوا، وحيدة فى القرآن بصيغتها واستعمالها.
__________
(1) أمية بن أبى الصلت (ديوانه: 63).(1/571)
ومعها الجوابى فى آية سبأ 130: {وَجِفََانٍ كَالْجَوََابِ} سبقت فى المسألة (31).
والذى فى القرآن من المادة غيرهما، يأتى فى معنى الإجابة والاستجابة والجواب.
وما قاله ابن عباس فى {جََابُوا الصَّخْرَ} هو نحو ما فى تأويل الطبرى: خرقوا الصخر ونحتوه ونقبوه، واتخذوه بيوتا. ونظّر له بقوله تعالى: {وَكََانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبََالِ بُيُوتاً آمِنِينَ}. ونحوه فى الغريبين للهروى: باب الجيم مع الواو.
وقيل: معناه قطعوا الوادى. وقيل: بل معناه أنهم شقوا الصخر واتخذوه واديا يخزنون فيه الماء لمنافعهم «ولا يفعل ذلك إلا أهل القوة والفهم من الأمم».
والجوب، بمعنى القطع، أصل فى الدلالة: جاب الثوب قطعه، والجوب: درع يقطع للمرأة. والجوبة الحفرة وفجوة بين أرضين: يقال منه: جاب الوادى يجوبه جوبا، بمعنى قطعه، لا يعنون به القطع بمعنى النقب والحفر، وإنما هو مجاز من قبيل قولهم: جوّاب آفاق وجواب ليل (الأساس. ومعه مقاييس اللغة، جوب 1/ 491).
ومن الباب: الجواب عن السؤال. ويذهب «الراغب» إلى أنه قطع الفجوة بين فم المجيب إلى أذن السامع (المفردات) وليس قريبا. والأولى عندنا أن يكون قطعا مجازيّا، بما يلتمس فيه من إجابة.
وعلى ما يبدو من قرب تفسير «جابوا الصخر» بنقبه أو قطعه، نلتفت إلى أن القرآن استعمل النقب فى آية البقرة 36: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلََادِ} واستعمل القطع:
فعلا ماضيا من الثلاثى ومضارعا وأمرا واسم فاعل: قاطعة، واسم مفعول:
مقطوع، ومقطوعة. وقطع. وجاء الفعل من التقطيع والتقطع.
والجوب فى آية الفجر: {جََابُوا الصَّخْرَ}.
وسبق من تدبر النقب فى السؤال عن: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلََادِ} أن فى التنقيب دلالة الفحص والبحث.
وفى القطع دلالة الحسم والنفاذ.(1/572)
وسبق من تدبر النقب فى السؤال عن: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلََادِ} أن فى التنقيب دلالة الفحص والبحث.
وفى القطع دلالة الحسم والنفاذ.
وأما «جابوا الصخر» ففي سياق ما كان لثمود من قوة ومنعة، ولعل فيها خصوص الدلالة على المجاوبة فى القطع بمعنى أن الصخر، على صلابته، طاع لهم واستجاب حين جابوه بالوادى، وقد كانت لهم فيه ديارهم ومساكنهم المشيدة المأهولة، قبل أن تأخذهم الصيحة {فَأَصْبَحُوا فِي دِيََارِهِمْ جََاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهََا} صدق الله العظيم.
* * *177 {جَمًّا}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {حُبًّا جَمًّا}.
فقال ابن عباس: كثيرا، واستشهد له بقول أمية (1).
إن تغفر اللهم تغفر جمّا ... وأىّ عبد لك ما ألمّا
(تق، ك، ط) الكلمة من آية الفجر 20:
{كَلََّا بَلْ لََا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلََا تَحَاضُّونَ عَلى ََ طَعََامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرََاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمََالَ حُبًّا جَمًّا}.
وحيدة فى القرآن، صيغة ومادة:
والعربية تستعمل الجمّ فى الكثرة مع التجمع يقال: جمّ الكيل، إذا بلغ به رأس المكيال. وجم الماء: كثر واجتمع. والجمة مجتمع شعر الرأس، وجفنة جماء:
__________
(1) ابن أبى الصلت، فى (طبقات الشعراء لابن سلام: 68ط ليدن، وشعراء النصرانية 2/ 225) قاله وهو يحتضر.
وغير منسوب فى تأويل المشكل لابن قتيبة، وتفسير القرطبى وعلى هامشه: هو لأبى خراش الهذلى والبحر المحيط: وعزاه فى (ل) لأمية أو لأبى خراش. وفى شرح شواهد المغنى للسيوطى: لأبى خراش.
وليس فى ديوان الهذليين.(1/573)
ملأى. وجاءوا الجماء الغفير، أى بأجمعهم. وقولهم: فلان جمجمة قومه، أى مجتمع عزّهم، منقول من الجمجمة التى هى مجتمع عظم الدماغ.
ولعل الاستجمام ملحوظ فيه، أخذ الراحة لجمع القوى.
وتأويلها بالكثير، قاله ابن فارس فى (المقاييس: جم)، ومثله عند «الراغب» مع ربطه باستعماله فى جمة الماء، أى معظمه ومجتمعه الذى جم فيه عن السيلان.
(المفردات).
وقريب منه قول «ابن الأثير» فى الجم الغفير: وأصل الكلمة من الجموم والجمة وهو الاجتماع والكثرة. والغفير من الغفر وهو التغطية والستر، فجعلت الكلمتان فى موضع الشمول والإحاطة. ولم تقل العرب: جماء، إلا موصوفا وهو منصوب على المصدر كقاطبة وطرّا، فإنها أسماء وضعت للمصدر (النهاية).
وفى تأويل الطبرى: وتحبون جمع المال واقتناءه حبا شديدا، من قولهم: جمّ الماء فى الحوض إذا اجتمع وبنحو الذى قلنا، قال أهل التأويل. وقال الزمخشرى: حبا كثيرا شديدا مع الحرص والشره ومنع الحقوق (الكشاف) وقيده القرطبى بحلاله وحرامه (الجامع) وسياق الآية يؤنس إليه، مع الآية بعدها {وَتَأْكُلُونَ التُّرََاثَ أَكْلًا لَمًّا} لا يتميز فيه حلال من حرام. والله أعلم.
* * *178 {غََاسِقٍ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {غََاسِقٍ}.
فقال ابن عباس: الغسق الظلمة، واستشهد بقول زهير بن أبى سلمى (1):
ظتّ تجوب يداها وهى لاهية ... حتى إذا جنح الإظلام والغسق (2)
__________
(1) لزهير بن أبى سلمى فى الأربعة، ولم أجده فى ديوانه ولا فى شعراء النصرانية ومختارات ابن الشجري، والطبقات. وهو من شواهد القرطبى لزهير، وأبى حيان فى آية الإسراء غير منسوب.
(2) من (تق، وق) ووقع فى (ك، ط): [حتى إذا أظلم] وفى شواهد القرطبى وأبى حيان لآية الإسراء:
ظلت تجود.(1/574)
والمسألة فى (ظ، وق) عن {إِلى ََ غَسَقِ اللَّيْلِ} قال فى (ظ): إذا أظلم، وفى (وق): دخول الليل بظلمته.
والشاهد بيت زهير * ظلت * وفى (ظ) بيت النابغة:
وكأنّ ما قالوا وما وعدوا ... إلّ تضمّنه من دامس غسق
الكلمة من آية الفلق 3:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مََا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غََاسِقٍ إِذََا وَقَبَ}.
وحيدة الصيغة، ومعها من مادتها:
غسق، فى آية الإسراء 78: {أَقِمِ الصَّلََاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى ََ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}.
وغساق فى آيتى:
ص 57: {هََذََا، وَإِنَّ لِلطََّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهََا فَبِئْسَ الْمِهََادُ * هََذََا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسََّاقٌ}.
والنبأ 25: {إِنَّ جَهَنَّمَ كََانَتْ مِرْصََاداً * لِلطََّاغِينَ مَآباً * لََابِثِينَ فِيهََا أَحْقََاباً * لََا يَذُوقُونَ فِيهََا بَرْداً وَلََا شَرََاباً * إِلََّا حَمِيماً وَغَسََّاقاً * جَزََاءً وِفََاقاً}.
وهذه الكلمات الأربع هى كل ما فى القرآن من المادة.
قال ابن السكيت فى باب صفة الليل: وغسق الليل دخول أوله حين اختلط:
غسق يغسق غسقا، وغسقا، وأتيته فى غسق الليل، أى فى اختلاطه ودخوله (تهذيب الألفاظ).
والغسق أول ظلمة الليل، وقد غسق يغسق أى أظلم، والغاسق الليل إذا غاب فى الشفق (ص)
وهو دخول الليل حين يختلط الظلام: وقد غسق الليل غسقا وغسوقا، وبنو تميم على: أغسق، نحو: دجى وأدجى. وغسق القمر أظلم بالخسوف (س) وعن الزجاج: قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار، والغاسق البارد، ولأن فى الليل تخرج السباع من آجامها والهوام من أماكنها، وينبعث أهل الشر والفساد. حكاه القرطبى.(1/575)
والغسق أول ظلمة الليل، وقد غسق يغسق أى أظلم، والغاسق الليل إذا غاب فى الشفق (ص)
وهو دخول الليل حين يختلط الظلام: وقد غسق الليل غسقا وغسوقا، وبنو تميم على: أغسق، نحو: دجى وأدجى. وغسق القمر أظلم بالخسوف (س) وعن الزجاج: قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار، والغاسق البارد، ولأن فى الليل تخرج السباع من آجامها والهوام من أماكنها، وينبعث أهل الشر والفساد. حكاه القرطبى.
وفى الأضداد لابن الأنبارى: والغساق البارد يحرق كما يحرق الحار، ويقال:
البارد المنتن بلسان أهل الترك، ويقال: ما يغسق من صديد أهل النار، أى ما يسيل.
وفى معنى آية الفلق، قال الأخفش: تقول: غسق الليل يغسق غسوقا، وهى الظلمة. ووقب يقب وقوبا وهو الدخول فى الشيء (معانى القرآن 2/ 549) قال الفراء: والغاسق الليل «إذا وقب» إذا دخل فى كل شىء وأظلم. ويقال:
غسق وأغسق (معانى القرآن 3/ 301).
فى تفسير البخارى: وغاسق، الليل، إذا وقب: غروب الشمس (ك التفسير، الفلق) قال ابن حجر: وصله الطبرى من طريق مجاهد بلفظ: غاسق إذا وقب، الليل إذا دخل وجاء فى حديث مرفوع: الغاسق القمر. أخرجه الترمذى والحاكم من طريق أبى سلمة، عبد الرحمن بن عوف الزهرى، عن عائشة، رضى الله عنها، أن النبى صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال: «يا عائشة، استعيذى بالله من شر هذا» قال: هذا الغاسق إذا وقب» إسناده حسن (فتح البارى 8/ 524).
وفى تأويل الطبرى للآية: ومن شر مظلم إذا دخل علينا بظلامه. واختلف أهل التأويل فى المظلم المستعاذ منه. وأسند عن مجاهد أنه القمر، وروى فيه حديث عائشة رضى الله عنها. وعن ابن عباس وآخرين أنه الليل. واختاره الطبرى.
وعند الراغب: الغاسق الليل المظلم {مِنْ شَرِّ غََاسِقٍ إِذََا وَقَبَ} وذلك عبارة عن النائبة. وابن الأثير الغاسق فى حديثه عائشة رضى الله عنها: بأنه من:
غسق غسوقا فهو غاسق، إذا أظلم. وأغسق مثله. وإنما سماه غاسقا لأنه إذا خسف أو أخذ فى المغيب، أظلم (النهاية).(1/576)
وعند الراغب: الغاسق الليل المظلم {مِنْ شَرِّ غََاسِقٍ إِذََا وَقَبَ} وذلك عبارة عن النائبة. وابن الأثير الغاسق فى حديثه عائشة رضى الله عنها: بأنه من:
غسق غسوقا فهو غاسق، إذا أظلم. وأغسق مثله. وإنما سماه غاسقا لأنه إذا خسف أو أخذ فى المغيب، أظلم (النهاية).
قد نستخلص من هذا العرض لأقوال أهل اللغة وأهل التأويل أن الغسق ظلمة الليل ذا غاب فى الشفق، والغاسق الطارق فيه من شر يخاف ويستعاذ منه. وعلى تفسيره بالقمر، فإنه مقيد فى الآية وفى الحديث ب: (إذا وقب)، أى دخل فى الخسوف وأظلم. وأما الغساق فبدلالة إسلامية على ما يسيل من صديد أهل النار، منقولا إليها من الغساق، ما يسيل من صديد الجرح المنتن. والله أعلم.
* * *179 {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}
فقال ابن عباس: النفاق. واستشهد بقول الشاعر:
أجامل أقواما حياء وقد أرى ... صدورهم تغلى علىّ مراضها
(تق، ك، ط) الكلمة من آية البقرة 10:
{وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنََّا بِاللََّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمََا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخََادِعُونَ اللََّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمََا يَخْدَعُونَ إِلََّا أَنْفُسَهُمْ وَمََا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزََادَهُمُ اللََّهُ مَرَضاً، وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ بِمََا كََانُوا يَكْذِبُونَ}.
ومعها آيات: الأنفال 49الأحزاب 12، 60المائدة 50التوبة 125الحج 53 محمد 20، 29، المدثر 21.
وسبقت المسألة (132) عن قوله تعالى: {فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}.
وقد جاء الفعل منه مرة واحدة فى آية الشعراء 10: {وَإِذََا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}
والمرض فيها على أصل معناه، بصريح قوله: {فَهُوَ يَشْفِينِ} وكثر مجىء مرض ومريض والمريض، ومرضى. والمرض يكون من علة فى البدن، أو فساد فى القلب. قال ابن فارس فى (مرض): الميم والراء والضاد: أصل صحيح يدل على ما يخرج به الإنسان عن حد الصحة فى أى شىء كان (المقاييس 5/ 311).(1/577)
وقد جاء الفعل منه مرة واحدة فى آية الشعراء 10: {وَإِذََا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}
والمرض فيها على أصل معناه، بصريح قوله: {فَهُوَ يَشْفِينِ} وكثر مجىء مرض ومريض والمريض، ومرضى. والمرض يكون من علة فى البدن، أو فساد فى القلب. قال ابن فارس فى (مرض): الميم والراء والضاد: أصل صحيح يدل على ما يخرج به الإنسان عن حد الصحة فى أى شىء كان (المقاييس 5/ 311).
وأما ضابط الدلالتين فى القرآن الكريم، فحيثما جاء المرض فى آيات الأحكام فهو من علة فى البدن. وكذلك (مريض والمريض) ومرضى، وكلها فى آيات أحكام.
وحيثما جاء مرض فى القلب، أو فى القلوب، انصرف عن أصل معناه إلى الدلالة المجازية.
وتأويله فى المسألة فى آية البقرة بالنفاق، مستفاد من صريح سياقها وفى (مجاز القرآن لأبى عبيدة) أنه فى هذا الموضع: شك ونفاق. وهو النفاق فى (مقاييس اللغة).
ثم لا يكون مرض فى القلب والقلوب، هو النفاق على إطلاق. وقد عطف على المنافقين فى آيات:
الأنفال 49: {إِذْ يَقُولُ الْمُنََافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هََؤُلََاءِ دِينُهُمْ}.
الأحزاب 12: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنََافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مََا وَعَدَنَا اللََّهُ وَرَسُولُهُ إِلََّا غُرُوراً}.
الأحزاب 60: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنََافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لََا يُجََاوِرُونَكَ فِيهََا إِلََّا قَلِيلًا}.
فشهد بدلالة أعم لمرض فى قلوبهم.
وقد عمّ «الراغب» مرض القلب فى الرذائل الخلقية كالجهل والجبن والبخل والنفاق (المفردات).(1/578)
فشهد بدلالة أعم لمرض فى قلوبهم.
وقد عمّ «الراغب» مرض القلب فى الرذائل الخلقية كالجهل والجبن والبخل والنفاق (المفردات).
وفيه نظر، إذ ليس عموم الجهل والجبن والبخل بمرض فى القلب يقتضى النذير بعقاب والوعيد بعذاب. إنما يتعلق مرض فى القلب بما هو من أفعال القلوب: يكون نفاقا كما فى آية البقرة وفى نظائرها (المائدة 52، والنور 50، محمد 20) وجاء مع الرجس والكفر فى:
براءة 125: {وَإِذََا مََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زََادَتْهُ هََذِهِ إِيمََاناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزََادَتْهُمْ إِيمََاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزََادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمََاتُوا وَهُمْ كََافِرُونَ}.
المدثر 31: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكََافِرُونَ مََا ذََا أَرََادَ اللََّهُ بِهََذََا مَثَلًا}
ومع الارتياب فى:
النور 50: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتََابُوا}.
وهو الأضغان فى آية:
محمد 29: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللََّهُ أَضْغََانَهُمْ}. وفتنة الشيطان فى آية:
الحج 53: {لِيَجْعَلَ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقََاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ}. وخبث الشهوة فى آية:
الأحزاب 32: {يََا نِسََاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسََاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلََا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً}.
تأويلها فى المسألة (132) بالفجور والزنا وليس الأولى. والله أعلم.(1/579)
الأحزاب 32: {يََا نِسََاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسََاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلََا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً}.
تأويلها فى المسألة (132) بالفجور والزنا وليس الأولى. والله أعلم.
والملحظ الاستقرائى لجميع الآيات فى هذا المرض. أنه يأتى دائما: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ،} {فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}. فهل يكون مرض فى القلب ملحظ دلالة مجازية ليست فى مرض القلب، على الإضافة، بما يحتمل أن يكون عضويا للجارحة، وليس مرادا؟
المسألة فى حاجة إلى استقراء للنظائر، والله ولى التوفيق.
* * *180 {يَعْمَهُونَ}:
وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
فقال: يلعبون ويترددون. وشاهده قول الأعشى:
أرانى قد عمهت وشاب رأسى ... وهذا اللعب شين بالكبير (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية البقرة 15:
{وَإِذََا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قََالُوا آمَنََّا وَإِذََا خَلَوْا إِلى ََ شَيََاطِينِهِمْ قََالُوا إِنََّا مَعَكُمْ إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ * اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
ومعها {فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ} بآيات: الأنعام 110، الأعراف 186، يونس 11، المؤمنون 75.
وآيتا: الحجر 72، فى الفاسقين من آل لوط: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
والنمل 4فى الكافرين: {إِنَّ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنََّا لَهُمْ أَعْمََالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ}.
__________
(1) فى ملحقات ديوانه (544ط أوربا) أحد بيتين مفردين.(1/580)
وليس فى القرآن من المادة غير هذا الفعل المضارع فى الآيات السبع. والعمه فيها ضلال وطغيان، وغفلة سكر وعمى بصيرة، كأنه قريب من العمى. والأرض العمهاء فى العربية، التى لا أعلام فيها. وقالوا: ذهبت إبله العمهى، حين لا يدرى أين ذهبت. (المقاييس: عمه) وحكاه عن الخليل ويعقوب. وفسر بها «يعمهون» والتفت «ابن الأثير» إلى صلة بين العمه والعمى، قال: العمه فى البصيرة كالعمى فى البصر، وقد تكرر فى الحديث (النهاية).
وفى تأويل آية البقرة 15، قال أبو عبيدة فى (مجاز القرآن): يقال: رجل عمه وعامه، أى جائر عن الحق. قال رؤبة:
ومهمه أطرافه فى مهمه ... أعمى الهدى بالجاهلين العمّه
وفى تأويل ابن قتيبة (بكتاب القرطين 1/ 23): يعمهون، يركبون رءوسهم فلا يبصرون، ومثله {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى ََ وَجْهِهِ أَهْدى ََ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
ونقل قول أبى عبيدة، وشاهده من رجز رؤية. فتأويلها فى المسألة بالتردد واللعب، يقبل فى آل لوط {لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} لكنه فى سائر الآيات من الضلال وعمى البصيرة. أو كما فى تأويل الطبرى: والعمه نفسه: الضلال، يقال منه: عمه عمها وعمهانا وعموها إذا ضل. والعمّه جمع عامه وأنشد رجز رؤبة فمعنى {فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ}: فى ضلالهم وكفرهم الذى [غمرهم] دنسه وعلاهم رجسه، يترددون حيارى ضلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا.
وبنحو الذى قلناه جاء تأويل المتأولين.
* * *181 {إِلى ََ بََارِئِكُمْ}
وسأله ابن الأزرق عن معنى قوله عز وجل: {إِلى ََ بََارِئِكُمْ}.
قال: إلى خالقكم. واستشهد بقول تبّع (1):(1/581)
وسأله ابن الأزرق عن معنى قوله عز وجل: {إِلى ََ بََارِئِكُمْ}.
قال: إلى خالقكم. واستشهد بقول تبّع (1):
شهدت على أحمد أنه ... رسول عن الله بارئ النّسم
(تق، ك، ط) الكلمة جاءت مرتين، فى آية البقرة 54:
{وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ يََا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخََاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى ََ بََارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، ذََلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بََارِئِكُمْ فَتََابَ عَلَيْكُمْ، إِنَّهُ هُوَ التَّوََّابُ الرَّحِيمُ}.
وجاء «البارئ» اسما من أسماء الله تعالى الحسنى فى آية الحشر 24:
{هُوَ اللََّهُ الْخََالِقُ الْبََارِئُ الْمُصَوِّرُ، لَهُ الْأَسْمََاءُ الْحُسْنى ََ}.
كما جاء منه الفعل المضارع فى آية الحديد 22:
{مََا أَصََابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلََّا فِي كِتََابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهََا، إِنَّ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيرٌ}.
ومن غير المهموز، جاءت {الْبَرِيَّةِ} مرتين فى آيتى البينة:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نََارِ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا أُولََئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أُولََئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}.
وفى غير معنى الخلق جاءت المادة فى البراءة والتبرؤ والتبرئة ومادة (برأ) فى مقاييس اللغة أصلان إليهما ترجع فروع الباب: أحدهما الخلق يقال برأ الله الخلق، والبارئ جل ثناؤه. والآخر التباعد من الشيء ومزايلته (المقاييس 1/ 236).
__________
(1) تبع الحميرى، من ملوك اليمن مستهل عصر المبعث. والبيت من ثلاثة أبيات له مشهورة فى دلائل المبعث. خبره بتفصيل فى السيرة النبوية، ومعها الأبيات فى (الروض الأنف 1/ 35) وفى تفسير أبى حيان لآية الدخان: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ}.(1/582)
وتفسير البارئ فى المسألة، بالخالق يبدو قريبا. وقاله الطبرى فى تأويله: أى إلى خالقكم. وهو من برأ الله الخلق يبرؤه فهو بارئ، والبرية الخلق فعيلة بمعنى مفعولة غير أنها لا تهمز» لولا أن آية الحشر جمعت بين «الخالق البارئ المصور» ثم إن فعل الخلق يجيء فى القرآن مسندا إلى الله تعالى فى أكثر من مائة وستين موضعا، ومعها «خلق الله» «وخلق الرحمن»، سبحانه «خالق كل شىء» «هل من خالق غير الله» {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلََّاقُ الْعَلِيمُ} {بَلى ََ وَهُوَ الْخَلََّاقُ الْعَلِيمُ}
فهل من فرق دلالة بين الخالق البارئ؟
ذكر «الراغب» أن «البارئ» خصّ بوصفه تعالى.
والزمخشرى فسر «الخالق البارئ» فى آية الحشر فقال: الخالق، المقدر لما يوجده، البارئ: المميّز بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة.
ومثله فى (البحر المحيط) لأبى حيان.
وذهب «ابن الأثير» إلى وجه آخر فى الفرق بين الخالق والبارئ، قال: فى أسماء الله تعالى البارئ. وهو الذى خلق الخلق لا عن مثال. ولهذه اللفظة من الاختصاص بخلق الحيوان، ما ليس لها بغيره من المخلوقات، وقلما تستعمل فى غير الحيوان، فيقال: برأ الله النسمة، وخلق السماوات والأرض (النهاية).
وهذا الوجه الدقيق من التمييز بين الخالق والبارئ هو ما يؤنس إليه استقراء ما فى القرآن من آياتهما، وتدبر سياقها: فالخلق شامل لكل شىء، سبحانه خلق السموات والأرض وما بينهما. وكلمة «بارئكم» الخطاب فيها لقوم موسى، و «البرية» فى آيتيها بسورة البينة، متعلقة بالكفار والمؤمنين: شر البرية وخير البرية.
لكن آية الحديد، يتعلق فيها الفعل «نبرأها» بما أصابكم من مصيبة فى الأرض ولا فى أنفسكم، أعنى أنها فى غير الحيوان. ولعل ابن الأثير نظر إليها فاحترز من التعميم والإطلاق فى (برأ) بقوله: وقلما تستعمل فى غير الحيوان. والله أعلم.
* * *
182 {رَيْبَ}:(1/583)
* * *
182 {رَيْبَ}:
وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {لََا رَيْبَ فِيهِ}.
فقال ابن عباس: لا شك فيه. وشاهده قول عبد الله بن الزبعرى:
ليس فى الحق يا أمامة ريب ... إنما الريب ما يقول الكذوب
(تق، ك، ط) الكلمة جاءت فى {الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ} بآيات البقرة 2ويونس 37 والسجدة 2.
وفى {يَوْمِ الْقِيََامَةِ لََا رَيْبَ فِيهِ} بآيات: آل عمران 9، 25والنساء 87 والأنعام 12، والشورى 7، والجاثية 26.
{وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لََا رَيْبَ فِيهِ} بآية الإسراء 99.
و {السََّاعَةَ لََا رَيْبَ فِيهََا} بآيات: الكهف 21والحج 7، وغافر 59والجاثية 32.
وجاء «ريب» غير منفى، فى آيات:
البقرة 23: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمََّا نَزَّلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا}.
الحج 5: {فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ}.
الطور 30: {أَمْ يَقُولُونَ شََاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}.
ومعها: {فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} بآية التوبة 45، {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} بالتوبة 110.
ومن المادة جاء الفعل من الارتياب تسع مرات، واسم الفاعل {مُسْرِفٌ مُرْتََابٌ} بآية غافر 3، و {مُرِيبٍ} سبع مرات.
وقد يبدو تفسير الريب بالشك قريبا، لولا أن البيان القرآنى أتى بالريب وصفا لشكّ فى {شَكٍّ مُرِيبٍ} ست مرات، فلفت ذلك إلى فرق بين اللفظين لا يترادفان، لأن الشيء لا يوصف بنفسه.
وفى تأويل الطبرى لقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كََانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ}: مريب موجب لصاحبه ما يريبه من مكروه، من قولهم أراب الرجل أتى ريبة وركب فاحشة، كما قال الراجز:(1/584)
وقد يبدو تفسير الريب بالشك قريبا، لولا أن البيان القرآنى أتى بالريب وصفا لشكّ فى {شَكٍّ مُرِيبٍ} ست مرات، فلفت ذلك إلى فرق بين اللفظين لا يترادفان، لأن الشيء لا يوصف بنفسه.
وفى تأويل الطبرى لقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كََانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ}: مريب موجب لصاحبه ما يريبه من مكروه، من قولهم أراب الرجل أتى ريبة وركب فاحشة، كما قال الراجز:
يا قوم ما لى وأبا ذؤيب ... كنت إذا أتيته من غيب
يشم عطفى ويبز ثوبى ... كأنما أريبه بريب
وذكر «الراغب» فى الريب معنى التوهم كما ذكر التشكك. قال: الريب أن تتوهم بالشىء أمرا فينكشف عما تتوهمه، ولذا قال تعالى: {لََا رَيْبَ فِيهِ} والإرابة إن تتوهم {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} وقوله: {رَيْبَ الْمَنُونِ} لا أنه مشكك فى كونه، بل من حيث تشكك فى وقت حصوله. فالإنسان أبدا فى ريب المنون من جهة وقته لا من جهة كونه. والارتياب يجرى مجرى الإرابة. وريب الدهر صرفه، لما يتوهم فيه من المكر، والريبة اسم من الريب، أى تدل على دغل وقلة يقين (المفردات).
وقال القرطبى: «لا ريب فيه، نفى عام ولذلك نصب الريب وفى الريب ثلاثة معان: أحدهما الشك ومنه قول ابن الزبعرى / البيت. وثانيهما التهمة ومنه قول جميل:
بثينة قالت يا جميل أربتنى ... فقلت كلانا، يابثين، مريب
وثالثها الحاجة، قال كعب بن مالك الأنصارى: قضينا من تهامة كل ريب
فى (مقاييس اللغة) ريب: أصل يدل على شك، أو شك وخوف تقول:
رابنى هذا الأمر، إذا أدخل عليك شكا وخوفا وريب الدهر صروفه، والقياس واحد.
وقال «ابن الأثير» فى الريب: هو بمعنى الشك. وقيل هو الشك مع التهمة، يقال: رابنى الشيء وأرابنى بمعنى شككنى. وقيل أرابنى كذا، أى شككنى وأوهمنى الريبة، فإذا استيقنت يعنى من الاتهام قلت: رابنى، بغير ألف (النهاية) وعند «أبى هلال العسكرى» فى الفرق بين الارتياب والشك: أن
الارتياب شك مع تهمة، وعرّف الشكّ بأنه استواء الطرفين (الفروق اللغوية).(1/585)
وقال «ابن الأثير» فى الريب: هو بمعنى الشك. وقيل هو الشك مع التهمة، يقال: رابنى الشيء وأرابنى بمعنى شككنى. وقيل أرابنى كذا، أى شككنى وأوهمنى الريبة، فإذا استيقنت يعنى من الاتهام قلت: رابنى، بغير ألف (النهاية) وعند «أبى هلال العسكرى» فى الفرق بين الارتياب والشك: أن
الارتياب شك مع تهمة، وعرّف الشكّ بأنه استواء الطرفين (الفروق اللغوية).
183 {خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ}
وسأل ابن الأزرق عن قوله تعالى: {خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ}.
فقال ابن عباس: طبع عليها، واستشهد بقول الأعشى:
وصهباء طاف يهوديّها ... فأبرزها، وعليها ختم (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية البقرة 7، فى الذين كفروا:
{خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ، وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ}
ومعها آيتا:
الأنعام 46: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللََّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصََارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى ََ قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلََهٌ غَيْرُ اللََّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ}.
والجاثية 23: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلََهَهُ هَوََاهُ وَأَضَلَّهُ اللََّهُ عَلى ََ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى ََ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى ََ بَصَرِهِ غِشََاوَةً، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللََّهِ، أَفَلََا تَذَكَّرُونَ}.
ومن المادة جاء الفعل الثلاثى مضارعا فى آيتى: يس 65 {نَخْتِمُ عَلى ََ أَفْوََاهِهِمْ}
والشورى 24: {يَخْتِمْ عَلى ََ قَلْبِكَ}.
و {رَسُولَ اللََّهِ وَخََاتَمَ النَّبِيِّينَ} فى الأحزاب 40.
ومختوم وختام فى آيتى المطففين فى نعيم أصحاب الجنة:
{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتََامُهُ مِسْكٌ، وَفِي ذََلِكَ فَلْيَتَنََافَسِ الْمُتَنََافِسُونَ}.
__________
(1) ديوان الأعشى: (29) والمحبر لابن حبيب: (321).(1/586)
وتأويلها فى المسألة: طبع على قلوبهم، نحو ما قاله الطبرى فى تأويله. وعلى ما يبدو من وضوحه وقربه، فيه أن البيان القرآنى استعمل الطبع على القلب والقلوب، فى إحدى عشرة آية، سياقها جميعا فيما يطبع الله على قلوب الكفار والمنافقين والمعتدين، وكل متكبر جبار.
ولا يبعد عنه سياق آيات الختم على القلب والقلوب، لكن الكلمة جاءت على أصل معناها القريب فى {رَحِيقٍ مَخْتُومٍ. خِتََامُهُ مِسْكٌ} وفى {خََاتَمَ النَّبِيِّينَ} فلعل فى الختم على القلوب دلالة الإغلاق وغاية الإقفال، منقولا إليها من قولهم: ختم الكتاب أنهاه، والأمور بخواتيمها، والله أعلم.
وواضح أن الختم على القلوب، لا يراد به أصل معناه، وإنما هو كناية عن رسوخ الغفلة والضلال، وراء معناه القريب فى الختم. وكذلك الطبع على القلوب كناية عن الدمغ.
ونقل «الراغب» قول من ذهبوا فيه إلى أن المعنى القريب من الختم هو المراد أى: يجعل الله ختما على قلوب الكفار، ليكون دلالة للملائكة على كفرهم.
ثم رده، بقوله: وليس ذلك بشيء، فإن هذه الكناية إن كانت محسوسة، فمن حقها أن يدركها أصحاب التشريح وإن كانت معقولة غير محسوسة، فالملائكة باطلاعها على اعتقاداتهم مستغنية عن الاستدلال (المفردات).
يعنى: الاستدلال على كفر الكافرين بعلامة حسية، ختما على قلوبهم.
* * *184 {صَفْوََانٍ}:
وسأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: {صَفْوََانٍ}.
فقال: الحجر الأملس. واستشهد بقول أوس بن حجر:
على ظهر صفوان كأن متونه ... عللن بدهن يزلق المتنزلا (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية البقرة 264:(1/587)
فقال: الحجر الأملس. واستشهد بقول أوس بن حجر:
على ظهر صفوان كأن متونه ... عللن بدهن يزلق المتنزلا (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية البقرة 264:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُبْطِلُوا صَدَقََاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ََ كَالَّذِي يُنْفِقُ مََالَهُ رِئََاءَ النََّاسِ وَلََا يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوََانٍ عَلَيْهِ تُرََابٌ فَأَصََابَهُ وََابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً، لََا يَقْدِرُونَ عَلى ََ شَيْءٍ مِمََّا كَسَبُوا، وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكََافِرِينَ}.
وحيدة الصيغة فى القرآن.
والصفوان قيل واحدة صفوانة، وقيل هو واحد الصّفىّ. وقد جاء من مادته فى القرآن الكريم، الفعل «أصفاكم» مرتين، وفعل الاصطفاء ماضيا ومضارعا اثنتى عشرة مرة، واسم المفعولين {الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيََارِ} و {عَسَلٍ مُصَفًّى} و {الصَّفََا وَالْمَرْوَةَ}.
وسبق فى المسألة (129) تأويل قوله تعالى: {صَلْداً} بالحجر الأملس، فكان تأويل الآية عنده: كمثل حجر أملس أصابه طلّ فتركه حجرا أملس.
ولا يبدو قريبا.
وذهب الراغب فى صفا، إلى أن أصل الصفاء خلوص الشيء من الشوب. ومنه الصفا للحجارة الصافية. ثم قال: والصفوان كالصفا، الواحدة صفوانة، قال تعالى: {صَفْوََانٍ عَلَيْهِ تُرََابٌ} ويقال: يوم صفوان، صافى الشمس شديد البرد. (المفردات).
وتذكر المعاجم فى صفوان: الحجر الصلد الضخم لا ينبت وقالوا: أصفت الدجاجة إذا انقطع بيضها، وأصفى الرجل من كذا: خلا، وأصفى الشاعر:
__________
(1) من (ك، ط) وفى مطبوعة (تق): [غللن].
وفى شعراء النصرانية 4/ 795: عللن بدهن يزنق المتنزلا(1/588)
انقطع لم يقل شعرا، والصوافى الأراضى جلا عنها أهلها فخلت من مالك، والضياع يستخلصها السلطان لخاصته. ومنه جاء الصفو والصفاء لما خلا من شائبة تكدره، والاصطفاء لمن تتخذه صفيا، والصفوة: الخلاصة النقية.
وفى تأويل الآية قال ابن قتيبة: يريد سبحانه أنه محق كسبهم فلم يقدروا عليه حين حاجتهم إليه، كما أذهب المطر التراب عن الصفا ولم يوافق فى الصفا منبتا.
وقال الطبرى بعد ذكر اشتقاق الكلمة: والصفوان هو الصفا وهى الحجارة الملس، والصلد من الحجارة الصلب والذى لا ينبت شيئا من نبات ولا غيره، وهو من الأرض ما لا ينبت فيه شىء» وانظر (المقاييس: صفو) * * *
185 {صِرٌّ}:
وسأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: {رِيحٍ فِيهََا صِرٌّ}.
فقال: برد، واستشهد بقول نابغة بنى ذبيان:
لا يبرمون إذا ما الأرض جلّلها ... صرّ الشتاء من الإمحال كالأدم (1)
(تق، ك، ط) الكلمة من آية آل عمران 117، فى الذين كفروا:
{مَثَلُ مََا يُنْفِقُونَ فِي هََذِهِ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهََا صِرٌّ أَصََابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ، وَمََا ظَلَمَهُمُ اللََّهُ وَلََكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
وحيدة الصيغة. ومعها المضاعف: صرصر، ثلاث مرات، صفة للريح التى أهلكت عادا فى:
الحاقة 6: {وَأَمََّا عََادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عََاتِيَةٍ}.
__________
(1) يمدح بنى غسان حين ارتحل عنهم راجعا إلى النعمان. ورواية الديوان:
لا يبرمون إذا ما الأفق جلله ... صر الشتاء من الإمحال كالأدم
وفى شعراء النصرانية: ... برد الشتاء ... وليس محل الشاهد.(1/589)
فصلت 16: {فَأَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيََّامٍ نَحِسََاتٍ}.
القمر 19: {كَذَّبَتْ عََادٌ فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي وَنُذُرِ * إِنََّا أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ}.
و {صَرَّةٍ} فى آية الذاريات، فى قصة إبراهيم: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهََا وَقََالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} 29.
ومن المادة، جاء الفعل من الإصرار أربع مرات.
تأويله فى المسألة بالبرد، فيه أن القرآن استعمل {بَرْداً} فى آيتى:
الأنبياء 69: {قُلْنََا يََا نََارُ كُونِي بَرْداً وَسَلََاماً عَلى ََ إِبْرََاهِيمَ}.
والنبأ 24: {لََا يَذُوقُونَ فِيهََا بَرْداً وَلََا شَرََاباً}
واسم الفاعل منه فى ص 42: «هذا مغتسل بارد».
والواقعة 44: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لََا بََارِدٍ وَلََا كَرِيمٍ}.
واضح أن البرد فيها نقيض الحر.
فهل يكون الصرّ نقيض الحر، كالبرد؟
فى تأويل الطبرى: وأما الصر فإنه شدة البرد، وذلك بعصوف من الشمال.
وبنحوه قال أهل التأويل: ثم أسند عن ابن عباس وقتادة أنه برد شديد زمهرير.
وعن ابن عباس أيضا وغيره: البرد
يبدو أن الشدة ملحوظة فى الصرّ، كما هى ملحوظة فى الإصرار أى التشدد فى التمسك بالشىء، والصرة الشدة من الكرب والحرب، والصيحة من شدة الألم والكرب، والصرير عزيف الريح وأشد الصياح.
ولعل أصل استعماله فى الصّرار: الرباط يشدّ على ضرع الناقة ليحبس لبنها فيجتمع، وفى الصرّة تشد على الدراهم وشبهها. وحس الانكماش والتقبض، ملازم لشدة البرد. وقولهم: صرورة، للرجل لا يحج ولا يتزوج، فيه دلالة العسر
والشدة. وانظر فيه (مقاييس اللغة: صر) 3/ 282 وقد رد «الراغب» المادة إلى الشدة، وذكر «ابن الأثير» فيه الحبس والمنع والجمع والشد، قال فى حديث «لا صرورة فى الإسلام»: التبتل وترك النكاح كالرهبان، وهو أيضا الذى لم يحج. وأصله من الحبس والمنع. وأصل الصر:(1/590)
ولعل أصل استعماله فى الصّرار: الرباط يشدّ على ضرع الناقة ليحبس لبنها فيجتمع، وفى الصرّة تشد على الدراهم وشبهها. وحس الانكماش والتقبض، ملازم لشدة البرد. وقولهم: صرورة، للرجل لا يحج ولا يتزوج، فيه دلالة العسر
والشدة. وانظر فيه (مقاييس اللغة: صر) 3/ 282 وقد رد «الراغب» المادة إلى الشدة، وذكر «ابن الأثير» فيه الحبس والمنع والجمع والشد، قال فى حديث «لا صرورة فى الإسلام»: التبتل وترك النكاح كالرهبان، وهو أيضا الذى لم يحج. وأصله من الحبس والمنع. وأصل الصر:
الجمع والشد، من الصرار رباط ضرع الناقة كى يحبس لبنها فيتجمع (النهاية).
وعند القرطبى أن أصله الصرير الذى هو الصوت فهو صوت الريح الشديدة.
* * *186 {تُبَوِّئُ}:
وسأل نافع عن قوله تعالى: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقََاعِدَ لِلْقِتََالِ}.
فقال: توطن المؤمنين. واستشهد بقول الأعشى:
وما بوأ الرحمن بيتك منزلا ... بأجياد غربىّ الفنا والمحرم (1).
الكلمة من آية آل عمران 121، والخطاب فيها للرسول عليه الصلاة والسلام:
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقََاعِدَ لِلْقِتََالِ، وَاللََّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
ومعها آيات:
النحل 41: {وَالَّذِينَ هََاجَرُوا فِي اللََّهِ مِنْ بَعْدِ مََا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيََا حَسَنَةً.} ومعها آية العنكبوت 58
__________
(1) فى مطبوعة (تق): بأجياد غزى الفنا والمحرم
وفى (ك، ط): غربى الفناء المحرم. ورواية الديوان مع البيت قبله: فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا ... ولا لك حقّ الشرب من ماء زمزم
ولا بوأ الرحمن بيتك فى العلا ... بأجياد غربى الصفا والمحرم
وفى شعراء النصرانية 3/ 377: ولا جعل الرحمن. وفى البحر المحيط:
وما بوأ الرحمن بيتك منزلا ... بشرقى أجياد الصفا والمحرم(1/591)
الزمر 74: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشََاءُ}
يونس 93: {وَلَقَدْ بَوَّأْنََا بَنِي إِسْرََائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} والحج 26 والأعراف 74.
يوسف 56: {وَكَذََلِكَ مَكَّنََّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهََا حَيْثُ يَشََاءُ}
يونس 87: {وَأَوْحَيْنََا إِلى ََ مُوسى ََ وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءََا لِقَوْمِكُمََا بِمِصْرَ بُيُوتاً}.
الحشر 9: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدََّارَ وَالْإِيمََانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هََاجَرَ إِلَيْهِمْ}.
ومن الثلاثى (باء) جاء الفعل ماضيا خمس مرات، ومضارعا (تبوء) تسعا وعشرين مرة، كلها فى المعنوى من البوء برضوان الله، أو بسخطه وغضبه، والبوء بالإثم.
تأويله فى المسألة: توطن. وليس فى القرآن منه سوى آية براءة {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللََّهُ فِي مَوََاطِنَ كَثِيرَةٍ} 25.
وفى اللغة: تبوأ المكان حلّه وأقام، والمباءة المنزل كالبيئة، وبيت النحل فى الجبل، ومتبوأ الولد من الرحم. وهم بواء أى سواء أكفاء. وباء بالذنب وبالدم أقر به والتزمه (ص، ل، ق) وبوأك الله مبوّأ صدق. وتبوأ فلان منزلا طيبا، وأباء الله عليك نعما لا يسعها المراح. وبوأت الرمح سددته (س).
وفى تأويل «تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال» قال أبو عبيدة فى المجاز: متخذا لهم مصافّ، ونحوه فى تفسير القرطبى وأبى حيان.
وفى تفسير البخارى باب {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدََّارَ وَالْإِيمََانَ} أخرج عن عمر رضى الله عنه، قال: «وأوصى الخليفة بالمهاجرين الأولين أن يقر لهم حقهم. وأوصى الخليفة بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل أن يهاجر النبى صلى الله عليه وسلم، أن يقبل من محسنهم ويعفو عن مسيئهم».
وفى الغريبين للهروى (باب الباء مع الواو) والمبوأ المنزل الملزوم، وأرض مباءة منزولة مألوفة وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدََّارَ وَالْإِيمََانَ} أى أقروها مسكنا وقوله: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشََاءُ} أى نتخذ منها منازل وقوله: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقََاعِدَ لِلْقِتََالِ} أى تنزلهم مراكزهم ومصافهم للحرب: الميمنة والميسرة والقلب والطلائع والكمين (1/ 215).(1/592)
وفى تفسير البخارى باب {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدََّارَ وَالْإِيمََانَ} أخرج عن عمر رضى الله عنه، قال: «وأوصى الخليفة بالمهاجرين الأولين أن يقر لهم حقهم. وأوصى الخليفة بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل أن يهاجر النبى صلى الله عليه وسلم، أن يقبل من محسنهم ويعفو عن مسيئهم».
وفى الغريبين للهروى (باب الباء مع الواو) والمبوأ المنزل الملزوم، وأرض مباءة منزولة مألوفة وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدََّارَ وَالْإِيمََانَ} أى أقروها مسكنا وقوله: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشََاءُ} أى نتخذ منها منازل وقوله: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقََاعِدَ لِلْقِتََالِ} أى تنزلهم مراكزهم ومصافهم للحرب: الميمنة والميسرة والقلب والطلائع والكمين (1/ 215).
يبدو أن التمكن من المنزل الملائم والموقع المنيع، ملحوظ فى الدلالة من حيث ينزل النبى صلّى الله عليه وسلّم أصحابه المؤمنين رضى الله عنهم، فى منازلهم التى يراها آمن لهم وأمنع، ويراهم كف ءا لها بواء، والله أعلم.
* * *187 {رِبِّيُّونَ}:
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {رِبِّيُّونَ}.
فقال ابن عباس: جموع كثيرة. ولما سأله ابن الأزرق: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول حسان:
وإذا معشر تجافوا عن القص ... د حملنا عليهم ربيّا (1).
(تق، ك، ط) الكلمة من آية آل عمران 146:
{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قََاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمََا وَهَنُوا لِمََا أَصََابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَمََا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكََانُوا، وَاللََّهُ يُحِبُّ الصََّابِرِينَ}.
{رِبِّيُّونَ} جمع ربّىّ، ذكرها ابن فارس فى مادة (رب) وأول أصولها: إصلاح الشيء والقيام عليه، ومنه الرب، والربى: العارف بالرب، والربيبة والربيب
__________
(1) من (تق) وفى (ك، ط): ملنا عليهم ربيا.
وفى شواهد القرطبى للآية:
وإذا معشر تجافوا عن الحق حملنا عليهم ربّيا / لحسان. ولم أجده فى ديوانه.(1/593)
والرابّ ثم ذكر للمادة أصلين آخرين ملازمين للأصل الأول، وقال: ومتى أنعم النظر كان الباب كله قياسا واحدا (المقاييس 2/ 381).
وتأويلها فى المسألة بجموع كثيرة، قاله أبو عبيدة فى (مجاز القرآن) والراجح أن: كثيرة، مأخوذة من «ربيون كثير» وقال الفراء فى معنى الكلمة بآية آل عمران: الربيون الألوف. وعن الزجاج أنهم الأتقياء الصبر، وروى عن الحسن البصرى. وقيل هم أتباع الأنبياء الخاصة منهم وقيل: وزراؤهم.
واحدهم ربّى. وقول حسان فى الشاهد: حملنا عليهم ربّيا أى حملة رجل واحد.
وفى تأويل الطبرى، بعد ذكر القراءات فيها قال: وأما الربيون، فإن أهل العربية اختلفوا فى معناه فقال بعض نحويى البصرة: هم الذين يعبدون الرب، واحدهم ربّى، وقال بعض الكوفيين: لو كانوا كذلك لكانوا (ربيون) ولكنهم العلماء والجماعة الكثيرة، واحدهم ربّى. واختلف أهل التأويل كذلك فى معناه، فقال بعضهم ما ذكر، وأسند عن ابن عباس وغيره: علماء كثير، وقيل الأتباع.
وقيل الربانيون الولاة والربيون الرعية.
وحكى القرطبى عن الخليل، قال: الرّبى الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء، وهم الربانيون نسبوا إلى التأله ومعرفة الربوبية لله تعالى. والله أعلم.
والربيون فى الآية مع الأنبياء قبل خاتمهم عليهم السلام على وجه الاختصاص فلعله تمييز لهم عن الربائب لعامة من يربيهم كافلوهم ومنه فى القرآن:
{وَرَبََائِبُكُمُ اللََّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} مع ملحظ مشترك من أصل الدلالة فهم أشبه بالصحابة فى المصطلح الإسلامى. والله أعلم.
* * *
188 {مَخْمَصَةٍ}:(1/594)
* * *
188 {مَخْمَصَةٍ}:
وسأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: {مَخْمَصَةٍ}.
فقال: مجاعة. وشاهده قول الأعشى:
تبيتون فى المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا (1)
(تق، ك، ط) وفى (وق) قال:
الجوع، قال فيه الأعشى / البيت الكلمة من آيتى:
المائدة 3: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمََا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللََّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمََا أَكَلَ السَّبُعُ إِلََّا مََا ذَكَّيْتُمْ وَمََا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلََامِ، ذََلِكُمْ فِسْقٌ، الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلََا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلََامَ دِيناً، فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجََانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
والتوبة 120: {مََا كََانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرََابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللََّهِ وَلََا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ، ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ لََا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلََا نَصَبٌ وَلََا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَلََا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفََّارَ وَلََا يَنََالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلََّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صََالِحٌ، إِنَّ اللََّهَ لََا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
__________
(1) فى (تق): وجاراتكم سغب. * وما هنا من (وق، ك، ط) وهى رواية الديوان.
وابن قتيبة فى عيون الأخبار 3/ 161ومقاييس اللغة 2/ 219ومثلها فى شعراء الجاهلية (النصرانية 3/ 363) وشواهد الطبرى والقرطبى لآية المائدة.(1/595)
وحيدة الصيغة وليس فى القرآن من مادتها، غيرها فى الآيتين.
الرواية فى تأويلها فى المسألة بالمجاعة، وفى الرواية الأخرى بالجوع. وقد ورد الجوع معرفة ونكرة فى غير حكم الإباحة للمضطر فى مخمصة، أو معاناة مخمصة فى سبيل الله (آيات البقرة 155، النحل 112، الغاشية 7، قريش 4) ومعها الفعل المضارع فى آية طه 118خطابا لآدم عليه السّلام فى الجنة: {إِنَّ لَكَ أَلََّا تَجُوعَ فِيهََا وَلََا تَعْرى ََ}.
والخمص فى اللغة ضمور البطن، ونقل إلى ضمورها من فرط السغب والهزال.
وأما الجوع فالمسلم يجوع فى الصيام ولا يبطل صيامه بطعام حلال. وأئمة الفقه وعلماء الأحكام وإن اختلفوا فى حكم الضرورة لمخمصة، فالإباحة عند الاضطرار، كأن يتعين أن تمسك رمق المسلم، ومقدار الضرورة عندهم مقيد بعدم القوت لمن أشفى على الموت، إلى حالة وجود قوت حلال، ما كان، ولو من خشاش الأرض.
وفى تأويل الطبرى لآية المائدة: هو من خمص البطون، أى اضطماره، وأظنه هو فى هذا الموضع، معنىّ به اضطماره من الجوع وشدة السغب، وقد يكون فى غير هذا الموضع خلقه لا من جوع وسغب. وشاهده فى معنى الآية، قول الأعشى * تبيتون فى المشتى / البيت. وفى آية براءة، التفت إلى قيدها فى الآية بمخمصة فى سبيل الله، يعنى فى إقامة دين الله ونصرته.
فليست مجاعة عامة يعز فيها القوت على المجاهدين والقاعدين، وعلى الكافرين
ثم إن المجاعة أقرب إلى أن تفهم بدلالة العموم، كأن يصيب الناس قحط عام. والذى فى آية المائدة، ليس من مجاعة عامة، وإنما هو مما يبلغ بالمؤمن جهد المخمصة حين لا يجد طعاما غير ما حرم عليه أكله. فنفهم ضمنا أن الطعام قد يكون ميسورا، لمن لا يتحرجون من أكل الميتة والدم ولحم الخنزير، إلى آخر ما عدّت الآية من الطعام المحرم على المؤمن، لا لمجاعة يعز فيها أى طعام.
وكذلك الأمر فيما يحتمله المجاهدون من أذى ومخصمة فى سبيل الله، وليس مما يصيبهم ويصيب سائر الناس، وفيهم القاعدون والكافرون، من وطأة قحط ومجاعة عامة.(1/596)
ثم إن المجاعة أقرب إلى أن تفهم بدلالة العموم، كأن يصيب الناس قحط عام. والذى فى آية المائدة، ليس من مجاعة عامة، وإنما هو مما يبلغ بالمؤمن جهد المخمصة حين لا يجد طعاما غير ما حرم عليه أكله. فنفهم ضمنا أن الطعام قد يكون ميسورا، لمن لا يتحرجون من أكل الميتة والدم ولحم الخنزير، إلى آخر ما عدّت الآية من الطعام المحرم على المؤمن، لا لمجاعة يعز فيها أى طعام.
وكذلك الأمر فيما يحتمله المجاهدون من أذى ومخصمة فى سبيل الله، وليس مما يصيبهم ويصيب سائر الناس، وفيهم القاعدون والكافرون، من وطأة قحط ومجاعة عامة.
من ثم يبقى لكلمة مخمصة، فى الآيتين، دلالتها أصلا على ضمور البطن، يخشى منه الهلاك، وعلى مكابدة المسغبة فى سبيل الله عز وجل، والله أعلم.
* * *189 {يَقْتَرِفْ}:
وسأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: {وَلِيَقْتَرِفُوا مََا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}.
فقال: ليكسبوا ما هم مكتسبون. وشاهده قول لبيد:
وإنى (1) لآتى ما أتيت وإننى ... لما اقترفت نفسى علىّ لراهب
(تق، ك، ط) الكلمة من آية الأنعام 113:
{وَكَذََلِكَ جَعَلْنََا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيََاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى ََ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً، وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ مََا فَعَلُوهُ، فَذَرْهُمْ وَمََا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغى ََ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ، وَلِيَقْتَرِفُوا مََا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}.
ومعها الفعل الماضى فى آية التوبة 24:
{قُلْ إِنْ كََانَ آبََاؤُكُمْ وَأَبْنََاؤُكُمْ وَإِخْوََانُكُمْ وَأَزْوََاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوََالٌ اقْتَرَفْتُمُوهََا وَتِجََارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسََادَهََا وَمَسََاكِنُ تَرْضَوْنَهََا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهََادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتََّى يَأْتِيَ اللََّهُ بِأَمْرِهِ، وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفََاسِقِينَ}.
__________
(1) من (تق) والديوان وفى (ك، ط): وإنى لآت.
ووقع الشطر الثانى فى مطبوعة الديوان (متفرقات 349) لما افترقت نفسى *.(1/597)
والفعل المضارع فى آيتى:
الشورى 23: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهََا حُسْناً، إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}.
والأنعام 120: {وَذَرُوا ظََاهِرَ الْإِثْمِ وَبََاطِنَهُ، إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمََا كََانُوا يَقْتَرِفُونَ}.
تأويلها فى المسألة بالكسب والاكتساب، قال نحوه الفراء فى معنى الكلمة:
الاقتراف الكسب، تقول العرب: خرج فلان يقترف لأهله (معانى القرآن، سورة الأنعام).
وأسنده الطبرى مع الأقوال فى تأويل آية الأنعام، عن ابن عباس وغيره:
فليكتسبوا ما هم مكتسبون. وبهذا التأويل، عن ابن عباس، بدأ القرطبى الأقوال فى تأويل الآية.
والكسب من معانى القرف، فى المعاجم. وذكر «أبو مسحل الأعرابى» فى (نوادره: 1/ 11) يقرف ويقترف، فى ست كلمات أخريات، بمعنى يكسب.
والكسب فى القرآن كثير، جاء منه الفعل الثلاثى ماضيا ومضارعا، ثلاثا وستين مرة، بدلالة إسلامية على كسب الأعمال، أو ما يقرب أن يكون منها بسبب، فى آية البقرة 267خطابا للذين آمنوا: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبََاتِ مََا كَسَبْتُمْ} وآية «المسد» فى أبى لهب: {مََا أَغْنى ََ عَنْهُ مََالُهُ وَمََا كَسَبَ} ومعها الفعل الماضى من الخماسى، خمس مرات، اثنتان منهما فى آيات المواريث: {لِلرِّجََالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا، وَلِلنِّسََاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} والثلاث الأخرى فيما (اكتسب، اكتسبت، اكتسبوا) من الأعمال.
فهل يترادف الاقتراف والاكتساب؟
الذى فى (مجاز القرآن، لأبى عبيدة، آية الأنعام): مجاز الاقتراف القرفة والتهمة والدعاء. ويقال: بئسما اقترفت لنفسك، قال رؤبة:
أعيا اقتراف الكذب المقروف ... تقوى التقىّ وعفة العفيف
وهو من شواهد الطبرى والقرطبى، لقول من قال ان الاقتراف التهمة والادعاء.(1/598)
أعيا اقتراف الكذب المقروف ... تقوى التقىّ وعفة العفيف
وهو من شواهد الطبرى والقرطبى، لقول من قال ان الاقتراف التهمة والادعاء.
وأدخل «ابن السكيت» القرف، فى (باب التهمة، من تهذيب الألفاظ) قال:
فلان قرفني، أى تهمتى وقارف شيئا من الأمر، واقعه.
وكذلك مال «أبو حيان» فى (البحر المحيط) إلى تقييد الاقتراف، فى آية الأنعام، بالآثام.
على أن «ابن فارس» فى (مقاييس اللغة) قال فى «ك س ب: أصل صحيح يدل على ابتغاء وطلب وإصابة. فالكسب من ذلك. ويقال: كسب أهله خيرا، وكسبت الرجل مالا فكسب. وهذا مما جاء على: فعلته ففعل».
وقال فى «ق ر ف: أصل صحيح يدل على مخالطة الشيء والالتباس به وادّراعه. وأصل ذلك القرف وهو كل قشر. لأنه لباس ما عليه. ومن الباب:
اقترف الشيء اكتسبه. وكأنه لابسه وادّرعه. ويقرف بكذا، يرمى به. ويقال للذى يتّهم بالأمر: القرفة. يقول الرجل إذا ضاع له شىء: فلان قرفني. أى الذى أتّهمه وقارف فلان الخطيئة: خالطها والقرف الوباء يكون بالبلد، كأنه شىء يصير مرضا لأهله كاللباس. وفى الحديث أن قوما شكوا وبأ أرضهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (تحولوا، فإن من القرف التلف).
ونحوه، ما فى أساس الزمخشرى (قرف).
وتوجيه القرف والاقتراف عند «الراغب» أن الاقتراف بمعنى الاكتساب، إنما هو من قبيل الاستعارة. قال: «أصل القرف والاقتراف قشر اللحاء عن الشجر، والجلدة عن الجرح. واستعير للاكتساب حسنى كان أو سوأى، قال تعالى {سَيُجْزَوْنَ بِمََا كََانُوا يَقْتَرِفُونَ} {وَلِيَقْتَرِفُوا مََا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} {وَأَمْوََالٌ اقْتَرَفْتُمُوهََا}
والاقتراف فى الإساءة أكثر استعمالها، ولهذا يقال: الاعتراف يزل الاقتراف.
وقرفت فلانا بكذا، إذا عبته به واتهمته، وقد حمل على ذلك {وَلِيَقْتَرِفُوا مََا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} وفلان قرفني، ورجل مقرف: هجين. وقارف فلان أمرا، إذا تعاطى
ما يعاب به.» (المفردات) وعلماء غريب الحديث، يذكرون المقارفة بمعنى المداناة والملابسة فى حديث الإفك: (إن كنت قارفت ذنبا) والقرف بمعنى الوباء، فى حديث الشكوى من قرف أرض وبئة: «فإن القرف من التلف» (مشارق الأنوار، والنهاية).(1/599)
وقرفت فلانا بكذا، إذا عبته به واتهمته، وقد حمل على ذلك {وَلِيَقْتَرِفُوا مََا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} وفلان قرفني، ورجل مقرف: هجين. وقارف فلان أمرا، إذا تعاطى
ما يعاب به.» (المفردات) وعلماء غريب الحديث، يذكرون المقارفة بمعنى المداناة والملابسة فى حديث الإفك: (إن كنت قارفت ذنبا) والقرف بمعنى الوباء، فى حديث الشكوى من قرف أرض وبئة: «فإن القرف من التلف» (مشارق الأنوار، والنهاية).
بهذا كله نستأنس لفهم فروق الدلالات بين الاقتراف والاكتساب.
الأصل فى القرف القشر، ومنه: القرفة، لحاء شجر معروف. وقرف القرحة قشرها. والقرف بالتحريك مداناة المرض وملابسته، ومنه الملابسة والمخالطة، وقارف الذنب واقعه، والأمر لابسه. فينقل إلى الاكتساب.
والكسب فى أصل استعماله، للتجارة. ومنها نقل إلى الدلالة الإسلامية، فى كسب الأعمال.
والله أعلم.(1/600)
والله أعلم.
خاتمة
وبعد فلعلى بهذه المحاولة فى خدمة الإعجاز البيانى ودراسة مسائل ابن الأزرق، قد أجبت عن سؤال لعدد من أبنائى طلاب الدراسات القرآنية العليا بجامعة القرويين: فيم كان إنكار ابن الأزرق على عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، مجلسه فى حرم الكعبة يفسر ما يسأل عنه فى القرآن الكريم، وابن عباس حبر هذه الأمة ومن أعلم الصحابة بتفسير القرآن وأحفظهم لديوان العرب؟.
من شعر الفصحى أخذ علماء اللغة شواهدهم لألفاظها وصيغها ومعانيها الحسية والمجازية، وما هو من تعدد لغات القبائل العربية، أو من الأضداد.
وبها استأنس أهل التأويل فى فهمهم لمعانى القرآن، مع التنبه لما يحتمل الشعر من ضرورات، وما يجوز عليه من آفات النقل. ومع التقدير لما جاء به القرآن الكريم من دلالات إسلامية لم تكن معروفة للعرب قبل نزوله.
ثم تبقى الكلمة القرآنية فوق ذلك كله، متفردة بجلالها وإعجازها، يعيا الفصحاء والعلماء أن يأتوا بكلمة من مثلها، تقوم مقامها فى موضعها وسياقها.
من ثم كان تحرج صحابة كبار، كأبى بكر وعمر رضى الله عنهما وهما من أفصح قريش وأجل الصحابة باتفاق من تأويل المتشابه والغريب من مفردات القرآن. وقد مر بنا فى المسألة عن قوله تعالى: {وَفََاكِهَةً وَأَبًّا} أن أبا بكر سئل فيها فقال: أى سماء تظلنى وأى أرض تقلنى إن أنا قلت فى كتاب الله بما لا أعلم؟ وقرأ عمر الآية وقال: هذه الفاكهة عرفناها، فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف «آمنا به كلّ من عند ربّنا».
معتبرا بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مََا تَشََابَهَ مِنْهُ ابْتِغََاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغََاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا
بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنََا، وَمََا يَذَّكَّرُ إِلََّا أُولُوا الْأَلْبََابِ}.(1/601)
معتبرا بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مََا تَشََابَهَ مِنْهُ ابْتِغََاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغََاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا
بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنََا، وَمََا يَذَّكَّرُ إِلََّا أُولُوا الْأَلْبََابِ}.
من علماء العربية من تحرجوا كذلك من تأويل المتشابه والغريب والأضداد.
«كان الأصمعى وهو إمام، لا يفسر شيئا من غريب القرآن». وحكى عنه أنه سئل عن معنى {قَدْ شَغَفَهََا حُبًّا} فسكت وقال: هذا فى القرآن، ثم ذكر قول بعض العرب لقوم أرادوا بيع جارية لهم: «أتبيعونها وهى لكم شغاف؟» (البرهان فى علوم القرآن: معرفة غريبة).
وأبو حاتم السجستانى، من أعلام البصريين علماء اللغة والقرآن توفى حوالى سنة 250هـ كان شديد التحرج من تأويل ما يكون من الأضداد فى القرآن، والضيق بمن تجاسروا على تأويلها بما عندهم من علم بالعربية. من ذلك على سبيل المثال، من كتابه (الأضداد):
(خاف): كان أبو عبيدة يقول: خاف من الخوف، ومن اليقين. وكان يقول فى قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلََّا تَعْدِلُوا}: يريد أيقنتم. ولا علم لى بهذا لأنه قرآن وإنما نحكيه عن رب العالمين، ولا ندرى لعله ليس كما يظن أبو عبيدة.
(عسعس): قال أبو عبيدة «والليل إذا عسعس»: أقبل ويقال: أدبر. وأنشد لعلقة بن قرط التيمى، فجعله إقبالا:
مدرّعات الليل لما عسعسا ... وادّرعت منه بهيما حندسا
قال: زعموا أن ابن عباس رحمه الله، قال: عسعس، أدبر.
وقال الزبرقان فى الإدبار:
وماء قديم عهده ما يرى به ... سوى الطير قد باكرت ورد المغلّس
وردت بأفراس عتاق وفتية ... فوارط فى أعجاز ليل معسعس
قال أبو حاتم:
قد تقلد أبو عبيدة أمرا عظيما، ولا أظن هاهنا معنى أكثر من الاسوداد، عسعس: أظلم واسود، فى جميع ما ذكر. وكل شىء من ذا الباب فى القرآن فتفسيره يتّقى. وما لم يكن فى القرآن فهو أيسر خطأ.
(أوزع): وقالوا، زعموا: أوزعنى به: أولعنى به. وهذا معروف، وقالوا:(1/602)
قد تقلد أبو عبيدة أمرا عظيما، ولا أظن هاهنا معنى أكثر من الاسوداد، عسعس: أظلم واسود، فى جميع ما ذكر. وكل شىء من ذا الباب فى القرآن فتفسيره يتّقى. وما لم يكن فى القرآن فهو أيسر خطأ.
(أوزع): وقالوا، زعموا: أوزعنى به: أولعنى به. وهذا معروف، وقالوا:
أوزعته نهيته وكففته، قال طرفة فى معنى الكفّ والمنع، من: وزعته أزعه:
نزع الجاهل فى مجلسنا ... فترى المجلس فينا كالحرم
ومنه قيل: يوزعون. ومنه وزعة السلطان الذين يكفون عنه الناس. وفى الحديث «لا بدّ للسلطان من وزعة.» وقال الذبيانى:
على حين عاتبت المشيب على الصّبا ... وقلت ألما تصح والشيب وازع
(الأضداد لأبى حاتم السجستانى) وقد رأينا إنه ما من كلمة قرآنية فى (مسائل نافع بن الأزرق) إلا احتشد لها اللغويون والمفسرون وتعددت أقوالهم فى تأويلها، وبقيت على تفردها وإعجازها، يعييهم مجتمعين أن يأتوا بكلمة من مثلها تقوم مقامها.
قصارى ما يملكه أفقه علماء القرآن بالعربية، لغة الكتاب العربى المبين، هو جهد المحاولة للمح سر الدلالة للحرف القرآنى، أو الكلمة والأسلوب على الوجه الذى جاء به فى البيان المعجز. فإن يكن تفسير فعلى وجه الشرح والتقريب.
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى ََ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لََا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كََانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}
صدق الله العظيم(1/603)