المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم هذه دراسة منهجية لمعلم بارز من معالم البلاغة القرآنية، تحتضن «مجاز القرآن» في خصائصه الفنية وبلاغته العربية، وتمتد لجذوره الأولى بالبحث والكشف، وتستوعب أصنافه البيانية بالإيضاح والإبانة، أخذت من القديم أصالته وروعته، واستلهمت من الحديث تطوره ومرونته، فانتظم هذا وذاك في مناخ تصويري متكامل، يعنى من مجاز القرآن بالعبارة حينا، وبالأسلوب حينا آخر، وبالألفاظ فيما بينهما، ويخلص في مهمته إلى رصد القدرة الإبداعية الناصعة، ولمس الأداء التعبيري المتطور في لغة القرآن العظيم.
ويعود السبب في اختيارنا «مجاز القرآن» مادة لهذا البحث، جدة موضوعة، ودقة أبعاده، ووفرة خصائصه، مما يوصلنا إلى المغلق في هذا الفن، ويوقفنا على المجهول من هذا المنظور. لقد بحث مجاز القرآن على صعيد لغوي خالص عند القدامى، ولم تمتد يد الباحثين إلى قيمته البلاغية عملا مستقلا، ولم نجد من حقق القول في حدّه الاصطلاحي أو بعده الموضوعي، أو أصالته البيانية، بل كان موضوعه في البحث باعتباره أصلا لغويا في المفردات، ومعبرا تفسيريا للكلمات تلك مظنة كتب معاني القرآن، ومعاجم غريب القرآن.
وكان لا بد لهذه القاعدة أن تشذ، ولهذا الإطراد أن يتزلزل، فجاء «تلخيص البيان» للشريف الرضي (ت: 406هـ) متخصصا في مجازات القرآن، ولكنه المجاز بالمعنى العام الذي يشمل الاستعارة والتمثيل والتشبيه والكناية والتورية في جملة ما ورد عرضه فيه مؤكدا الاستعارة إن لم يكن
قاصدا إليها بالذات باصطلاح المجاز. وباستثناء هذه البادرة التي أفردت المجاز القرآني بالمعنى المؤمى إليه في كتاب خاص، فقد وجدنا «مجاز القرآن» في مصنفات الرواد الأوائل، قد ورد عرضا في الاستطراد، أو جاء فصلا من باب، أو استغرق بابا في كتاب.(1/5)
وكان لا بد لهذه القاعدة أن تشذ، ولهذا الإطراد أن يتزلزل، فجاء «تلخيص البيان» للشريف الرضي (ت: 406هـ) متخصصا في مجازات القرآن، ولكنه المجاز بالمعنى العام الذي يشمل الاستعارة والتمثيل والتشبيه والكناية والتورية في جملة ما ورد عرضه فيه مؤكدا الاستعارة إن لم يكن
قاصدا إليها بالذات باصطلاح المجاز. وباستثناء هذه البادرة التي أفردت المجاز القرآني بالمعنى المؤمى إليه في كتاب خاص، فقد وجدنا «مجاز القرآن» في مصنفات الرواد الأوائل، قد ورد عرضا في الاستطراد، أو جاء فصلا من باب، أو استغرق بابا في كتاب.
ومن هنا كانت القيمة الفنية لم تتوافر مظاهرها على الأقل في جهد متميز في «مجاز القرآن» فلم تتضح أجزاؤه البلاغية في كتب المفسرين والبيانيين معا، لأنه يبحث جزءا من كلي إعجاز القرآن، وحسن نظمه، وجودة تأليفه، واشتماله على مفردات بلاغة العرب في أفضل الوجوه، وذلك عند علما التفسير واعجاز القرآن، وقد يفرد في فصل عائم في الخضم البلاغي المتلاطم باعتباره أحد أمثلة البيان، والبيان والمعاني والبديع أركان البلاغة عند البلاغيين القدامى.
أما الدراسات الحديثة فمع اهتمامها بالقرآن، إلا أنها فيما يبدو لي أهملت مجازه إهمالا ملحوظا يحسّ به الباحث لدى الاستقراء، وقد لا يكون هذا الإهمال مقصودا إليه، وإنما جاء نتيجة طبيعية لدراسته ضمن فصول البيان العربي وهي: المجاز والتشبيه والاستعارة والكناية، فكان فرعا من أصل، ومفردة من علم، ولم يحظ بدراسة مستقلة تهدف إلى سبر حسّه النقدي، وإيحائه اللفظي، وثروته اللغوية، وعمقه البياني، وتنميته الجمالية، وهو ما تحاوله هذه الدراسة.
وكانت منهجية هذه الدراسة تتمثل في خمسة فصول:
الفصل الأول: وهو بعنوان: مجاز القرآن في الدراسات المنهجية، وهو فصل تاريخي بلاغي بآن واحد، تتبع مجاز القرآن عند الروّاد الأوائل، وتمحض له بإطاره البلاغي العام، ووقف عند ثمراته في مرحلة التأصيل، وتحدث عنه في جهود المحدثين.
الفصل الثاني: وهو بعنوان: مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية، وهو فصل تحليلي في ضوء النقد الموضوعي، بحث: حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح، ووقوع المجاز في القرآن الكريم، وتقسيم المجاز القرآني وتعدد القول فيه، والخلوص إلى أن مجاز القرآن: عقلي ولغوي فحسب،
وحدد بذلك هويته، وأرسى أسس منهجيته.(1/6)
الفصل الثاني: وهو بعنوان: مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية، وهو فصل تحليلي في ضوء النقد الموضوعي، بحث: حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح، ووقوع المجاز في القرآن الكريم، وتقسيم المجاز القرآني وتعدد القول فيه، والخلوص إلى أن مجاز القرآن: عقلي ولغوي فحسب،
وحدد بذلك هويته، وأرسى أسس منهجيته.
الفصل الثالث: وهو بعنوان: مجاز القرآن والخصائص الفنية، وكان هذا الفصل غنيا بالأصول النقدية، وحافلا بالاستنباط البياني، فبحث بعمق وتنظير: خصائص المجاز الفنية، وكانت تلك الخصائص في مجاز القرآن:
أسلوبية ونفسية وعقلية.
الفصل الرابع: وهو بعنوان: المجاز العقلي في القرآن، وكان هذا الفصل ثريا ببيان وبلاغة المجاز القرآني في ضوء: تشخيص المجاز العقلي في القرآن وعند العرب، ورصد المجاز العقلي في القرآن بين الإثبات والإسناد ومعانيه قرينة المجاز العقلي في القرآن، وتوجيه علاقات المجاز العقلي في القرآن.
الفصل الخامس: وهو بعنوان: المجاز اللغوي في القرآن، وكان هذا الفصل ميزانا لقيمة الثروة الإضافية التي سيّرها مجاز القرآن، ومعيارا لسيرورة البلاغة العربية التي حفل بها مجاز القرآن، وذلك من خلال مباحثه التطبيقية: المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال، انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن، ملامح عن علاقة المجاز اللغوى المرسل في القرآن.
هذه الفصول الخمسة بما اعتمدته من منهج عربي تراثي اختص الأول منها بمسيرة المجاز القرآني منذ نشوء الحديث عنه حتى العصر الحاضر، واستلهم الفصل الثاني منها حدود المجاز الاصطلاحية، وتقسيماته البيانية، وأبعاده الموضوعية، ووقف الفصل الثالث منها عند الخصائص الفنية الكلية في مجاز القرآن، وتمحض الرابع والخامس لشئون البلاغة العربية في مجاز القرآن، فطرح ما هو طارئ عليها، وأكد على الموروث القرآني بخاصة.
وكانت مصادر هذا البحث ومراجعه، تهتم بالأصيل عند القدامى والجديد عند المحدثين، فكانت كتب البلاغة والتفسير واللغة والنقد والأدب وعلوم القرآن، رافدا يستمد منه البحث ريادته في استقراء الحقائق، واستكناه المجهول، واضاءة المنهج.
ولا أدعي لهذا البحث الكمال، فالكمال لله وحده، ولكنه ألق من شعاع القرآن، ونفح من عبير آياته، وقبس من رصين عباراته، أخلصت فيه القصد لله عزّ وجلّ، عسى أن ينتفع به الناس وأنتفع:(1/7)
وكانت مصادر هذا البحث ومراجعه، تهتم بالأصيل عند القدامى والجديد عند المحدثين، فكانت كتب البلاغة والتفسير واللغة والنقد والأدب وعلوم القرآن، رافدا يستمد منه البحث ريادته في استقراء الحقائق، واستكناه المجهول، واضاءة المنهج.
ولا أدعي لهذا البحث الكمال، فالكمال لله وحده، ولكنه ألق من شعاع القرآن، ونفح من عبير آياته، وقبس من رصين عباراته، أخلصت فيه القصد لله عزّ وجلّ، عسى أن ينتفع به الناس وأنتفع:
{يَوْمَ لََا يَنْفَعُ مََالٌ وَلََا بَنُونَ (88) إِلََّا مَنْ أَتَى اللََّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)}.
وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم عليه توكلت وإليه أنيب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
النجف الأشرف.
الدكتور محمد حسين على الصغير أستاذ في جامعة الكوفة(1/8)
الدكتور محمد حسين على الصغير أستاذ في جامعة الكوفة
الفصل الأول مجاز القرآن في الدراسات المنهجية
1 - مجاز القرآن عند الروّاد الأوائل 2مجاز القرآن بإطاره البلاغي العام 3مجاز القرآن في مرحلة التأصيل 4مجاز القرآن في دراسات المحدثين(1/9)
1 - مجاز القرآن عند الروّاد الأوائل 2مجاز القرآن بإطاره البلاغي العام 3مجاز القرآن في مرحلة التأصيل 4مجاز القرآن في دراسات المحدثين
1 - مجاز القرآن عند الروّاد الأوائل:
سحر العرب بجمال القرآن وجلالته، وبهروا بروعته وحسن بيانه، ووقفوا عند جزئياته البلاغية، واستعذبوا نوادر استعمالاته في فن القول، ذلك ما شكل عندهم ذائقة لغوية متأصلة، وأمدّهم بحاسة نقدية متمكنة تتجه بالبيان العربي إلى موكب الزحف الدلالي المتطور، وتدفع بالمنهج البلاغي إلى المناخ الموضوعي المطمئن، فحدب علماؤهم على هذا العطاء، الجديد يقتطفون ثماره، وعمدوا إلى هذا السبيل يجددون آثاره، فكان نتيجة لهذا الجهد المتواصل البنّاء رصد المخزون الحضارى في تراث القرآن البلاغى واللغوى، وبدأ التصنيف في هذا المحزون يتجدد، والتأليف بين متفرقاته يأخذ صيغة الموضوعية، فنشأ عن هذا وذاك حشد بياني من المصطلحات، وتبلور فضل تدقيق في شتى المعارف الانسانية وتوارث الخلف عن السلف محور الأصالة في التحقيق، كانت عائديته الابتعاد بالتراث اللغوي عن التعقيد والغرابة والاسفاف، والصيانة له عن الانحطاط والتدهور والضياع، والازدلاف به عن الوحشي والتنافر والدخيل.
وكان القرآن الحكيم أساس هذا الإصلاح، ومادة هذا التطور في مثله اللغوية وأسراره العربية، وما دام الأمر هكذا فالعرب والمسلمون بإزاء الكشف عن خبايا هذا الكتاب وكنوزه، ودراسة مختلف قضاياه الفنية.
وقد كان الأمر كذلك، وكان التوجه للقرآن الكريم بهذه النظرة الفاحصة منذ عهد مبكر، فعكف المسلمون على جمعه وتدوينه وتوحيد قراءاته، وكان أن ضمّت جميع آياته إلى سوره، وجمعت كل سورة في المصحف وبدأ تدارسه في نزوله وأسبابه وتشكيله، وحفظه في الصدور وعلى السطور، فكان ما فيه متواترا دون ريب، وسليما دون منازع، تحقيقا
لقوله تعالى {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (9) (1).(1/11)
وقد كان الأمر كذلك، وكان التوجه للقرآن الكريم بهذه النظرة الفاحصة منذ عهد مبكر، فعكف المسلمون على جمعه وتدوينه وتوحيد قراءاته، وكان أن ضمّت جميع آياته إلى سوره، وجمعت كل سورة في المصحف وبدأ تدارسه في نزوله وأسبابه وتشكيله، وحفظه في الصدور وعلى السطور، فكان ما فيه متواترا دون ريب، وسليما دون منازع، تحقيقا
لقوله تعالى {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (9) (1).
وتمّت كلمة ربك صدقا وعدلا.
كان هذا الجهد المتميز قد بدأه النبي صلّى الله عليه وآله بالذات، فكان الأثر مصانا، والتنزيل، كما هو لا زيادة فيه ولا نقصان، والكتاب في سلامة بكل تفصيلاته التدوينية والجمعية والشكلية (2).
وبدأت مدارس التفسير الاولى في كل من مكة والمدينة والكوفة والبصرة، ترفد العالم الإسلامي بسيل من المعارف لا ينضب، وتنير أمام الدارسين الدرب بمصابيح من الهداية لا تخبو.
وكان الأئمة والصحابة والتابعون ومن اتبعهم بإحسان، يعبّدون الطريق بين يدي المتعلمين والباحثين والمصنفين، حتى اتسع مجال التفسير، وتعدد منهج التأويل، وكثر طلاب العلم، وأخذ كل بمبادرة التّحصيل، فوضح السبيل، وانتشرت الثقافات. (3).
وكان وراء هؤلاء جهابذة اللغة، وفحول العربية يحققون ويتتبّعون، غير عابئين بثقل الأمانة وفداحة الأمر، مشمرين السواعد لا يعرفون لينا ولا هوادة، متناثرين حلقات وجماعات وأفرادا، يسددون الخطى، ويباركون السعي، فبين مستشهد بالموروث المثلي عند العرب، وبين منظّر بالشعر الجاهلي، وبين مقتنص للشوارد والأوابد من كلمات القوم وحكمهم، وبين متنقل في الحواضر والبوادي والقصبات ومساقط المياه، يسأل ويدون، ويصنف ويستجمع، ويقارن ويقعّد، كل ذلك بهدف واحد هو الاعتداد بالقرآن وتراثيته، فضلا عن قدسيته وعظمته: كونه كتاب هداية وتشريع، ودستور السماء في الأرض إلى يوم يبعثون.
كان ما أسلفنا موروثا حضاريا في القرنين الأول والثاني من الهجرة النبوية المباركة، حتى إذا أطل القرن الثالث وجدنا التوجه منصبّا حول لغة
__________
(1) الحجر: 9.
(2) ظ: المؤلف، تاريخ القرآن، الفصول: جمع القرآن، نزول القرآن، سلامة القرآن.
الدار العالمية، بيروت، 1983.
(3) ظ: المؤلف، المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم، مراحل التفسير: 141131.(1/12)
القرآن، ومعاني مفرداته، وسيرورة ألفاظه، وكانت دائرة هذا الجهد اللغوي، متشعبة في بدايات مسيرتها التصنيفية، وإن كانت متحدة في مظاهرها الدلالية، فالأسماء مختلفة والإنجازات متقاربة، حتى كأن العطاء واحد في جوهره، وإن تعددت عناوينه التي استقطبت الصيغ الآتية: «معاني القرآن» و «مجاز القرآن» و «غريب القرآن».
وهذه الكتب على وفرتها تتحدث عن مسار اللفظ القرآني، ودلالته لغة، وتبادره مفهوما عربيا خالصا، فكان ذلك معنى: مجاز القرآن وغريبه ومعانيه في سيرورة مؤدي الألفاظ في حنايا الذهن العربي، دون إرادة الاستعمال البلاغي، ودون التأكيد على «المجاز» أو «المعاني» في الصيغة الاصطلاحية، أو الحدود المرسومة لدى علماء المعاني والبيان. لقد امتازت هذه الحقبة بالتدوين المنظّم لغريب القرآن وشوارده، وأثرت فيما بعد بالحركة التأليفية المتفتحة في اللغة والمجاز القرآني بمئات المصنفات القيمة، ولكن بالمعنى المشار إليه آنفا، دون المعنى البياني.
هناك جمهرة لامعة من كتب المعاني لأعلام العرب، وأئمة اللغة، وفطاحل النحو، تتوجه تلك الحقبة الذهبية، ويمكن ترتيبها على النحو الآتي:
1 - معاني القرآن لأبي جعفر الرؤاسي 2معاني القرآن لعلي بن حمزة الكسائي 3معاني القرآن ليونس بن حبيب النحوي 4معاني القرآن ليحيى بن زياد الفراء 5معاني القرآن لمحمد بن يزيد المبرد 6معاني القرآن لأبي فيد مؤرج السدوسي 7معاني القرآن لثعلب، أحمد بن يحيى 8معاني القرآن للأخفش، سعيد بن مسعدة 9معاني القرآن للمفضل بن سلمة الكوفي 10معاني القرآن لابن كيسان
11 - معاني القرآن لابن الأنباري 12معاني القرآن لأبي إسحاق الزجاج 13معاني القرآن لخلف النحوي 14معاني القرآن لأبي معاذ بن خلف النحوي 15معاني القرآن لعلي بن عيسى الجراح 16معاني القرآن لأبي عيينة بن المنهال (1).(1/13)
1 - معاني القرآن لأبي جعفر الرؤاسي 2معاني القرآن لعلي بن حمزة الكسائي 3معاني القرآن ليونس بن حبيب النحوي 4معاني القرآن ليحيى بن زياد الفراء 5معاني القرآن لمحمد بن يزيد المبرد 6معاني القرآن لأبي فيد مؤرج السدوسي 7معاني القرآن لثعلب، أحمد بن يحيى 8معاني القرآن للأخفش، سعيد بن مسعدة 9معاني القرآن للمفضل بن سلمة الكوفي 10معاني القرآن لابن كيسان
11 - معاني القرآن لابن الأنباري 12معاني القرآن لأبي إسحاق الزجاج 13معاني القرآن لخلف النحوي 14معاني القرآن لأبي معاذ بن خلف النحوي 15معاني القرآن لعلي بن عيسى الجراح 16معاني القرآن لأبي عيينة بن المنهال (1).
وكل هذه الكتب لا علاقة لها بعلم المعاني، وإنما تبحث عن المعنى اللغوي.
وقد احتفظ لنا ابن النديم بطائفة من أسماء من ألفوا بغريب القرآن، وعلى نهج معاني القرآن بالضبط، وقد نجد من بين هذه المصنّفات من يسمي كتابه معاني القرآن ويسمى غريب القرآن أيضا، وذلك لعدم الفرق بين الاسمين عندهم:
1 - غريب القرآن لابن قتيبة، عبد الله بن مسلم 2غريب القرآن لأبي فيد مؤرج السدوسي.
3 - غريب القرآن لمحمد بن سلام الجمحي 4غريب القرآن لأبي عبد الرحمن اليزيدي 5غريب القرآن لأبي زيد البلخي 6غريب القرآن لأبي جعفر بن رستم الطبري 7غريب القرآن لأبي عبيد، القاسم بن سلام 8غريب القرآن لمحمد بن عزيز السجستاني 9غريب القرآن لأبي الحسن العروضي 10غريب القرآن لمحمد بن دينار الأحول (2).
__________
(1) ظ: ابن النديم، الفهرست: 5251.
(2) ظ: المصدر نفسه: 52.(1/14)
وقبل هؤلاء كان أبان بن تغلب الكوفي (ت: 141هـ) قد ألف كتاب «الغريب في القرآن» وذكر شواهده من الشعر. (1).
وبعد هذه الجريدة في معاني القرآن وغريب القرآن، يبقى «مجاز القرآن»، ويبدو أن التسمية بهذا العنوان كانت من سبق أبي عبيدة، معمّر بن المثنى الليثي (ت: 210هـ) فكان من أوائل من كتبوا في هذا الاسم بالذات بالمؤشر الذي أوضحناه، فوضع كتابه «مجاز القرآن» على هذا النحو، وهو كتاب لغة وتفسير مفردات، لا كتاب بلاغة وبيان، والدليل على ذلك أنه قد يسمى «غريب القرآن» باعتباره ترادف الغريب والمجاز عندهم، كترادف الغريب والمعاني، وقد نص على تسميته بهذا الإسم «غريب القرآن» ابن النديم (2).
وقال ابن خير الإشبيلي:
«وأول كتاب جمع في غريب القرآن ومعانيه: كتاب أبي عبيدة: معمر بن المثنى، وهو كتاب المجاز» (3).
وقد أيّد الزبيدي هذا الاتجاه فقال:
«سألت أبا حاتم عن غريب القرآن لأبي عبيدة الذي يقال له المجاز» (4).
وهذان النصان يؤيدان ما نذهب إليه أن لا علاقة لمجاز أبي عبيدة بالمجاز الاصطلاحي، حتى قال محققه الدكتور سزكين: «ومهما كان من أمر فإن أبا عبيدة يستعمل في تفسيره للآيات هذه الكلمات: «مجاز كذا» و «تفسير كذا» و «معناه كذا» و «غريبه» و «تقديره» و «تأويله» على أن معانيها واحدة أو تكاد.
ومعنى هذا أن كلمة «المجاز» عنده عبارة عن الطريق التي يسلكها
__________
(1) ظ: الخوئي، معجم رجال الحديث: 1/ 32.
(2) ظ: ابن النديم، الفهرست: 52.
(3) ابن خير، الفهرست: 134.
(4) الزبيدي، طبقات النحويين: 125.(1/15)
القرآن في تعبيراته، وهذا المعنى أعم بطبيعة الحال من المعنى الذي حدده علماء البلاغة لكلمة المجاز». (1)
ولا أدلّ على هذا المذهب من قول أبي عبيدة نفسه وهو بإزاء تحرير مجاز القرآن «وفي القرآن ما في الكلام العربي من وجوه الأعراب، ومن الغريب والمعاني» (2).
فهو بصدد هذا الملحظ الذي ذكره، وإن اشتمل مجموع ما أفاضه «مجاز القرآن» على جملة من أنواع المجاز الاصطلاحي، ولكنه إنما يقصد بالمجاز معناه اللغوي، وقد يقصد به أحيانا: الميزان الصرفي، وقد يعني به نحو العرب وطريقتهم في التفسير والتعبير، وهو الأعم الأغلب في مراده.
وبعد هذا «نستطيع مطمئنين أن نقرر أن كلمة «مجاز» إنما هي تسمية لغوية تعني التفسير، فالمعرفة بأساليب العرب، ودلالات ألفاظها، ومعاني أشعارها، وأوزان ألفاظها، ووجوه إعرابها، وطريق قراءاتها، كل ذلك سبيل موصلة إلى المعنى، فمجاز القرآن يقصد أبو عبيدة به «المعبر» إلى فهمه، فالتسمية لغوية وليست اصطلاحية» (3).
ومهما يكن من أمر فقد عالج أبو عبيدة في «مجاز القرآن» كيفية التوصل إلى فهم المعاني القرآنية باحتذاء أساليب العرب في كلامهم وسننهم في وسائل الإبانة عن المعاني، ولم يعن بالمجاز ما هو قسيم للحقيقة، وإنما عني بمجاز الآية: ما يعبر به عن الآية (4).
وكان سبيل أبى عبيدة في مجاز القرآن نفسه سبيل معاصره أبي زكريا الفرّاء (ت: 207هـ) في «معاني القرآن»، وجزءا من سبيل ابن قتيبة في «تأويل مشكل القرآن» في حدود معينة، لأن كتاب ابن قتيبة (ت: 276هـ) قد اشتمل على مباحث مجازية مهمة، كما سنشاهد هذا في مرحلة التأصيل، إذ عقد للمجاز بمعناه العام حينا وبمعناه الاصطلاحي الدقيق
__________
(1) فؤاد سزكين، مجاز القرآن، المقدمة: 1/ 18.
(2) أبو عبيدة، مجاز القرآن: 1/ 8.
(3) مصطفى الصاوي الجويني، مناهج في التفسير: 77.
(4) ظ: أحمد مطلوب، فنون بلاغية: 92.(1/16)
حينا آخر بابا خاصا تناول فيه فصولا من المأهول المجازي في الاستعارة والمجاز والتمثيل (1).
والذي يبدو لي من تعقب هذه الحقبة أن الاتجاه المنظور إليه لدى العلماء في مصنفاتهم التي أوردناها كان البحث المنظّم والمفهرس في غريب القرآن، ومعانيه اللغوية، وشوارده العربية، ولم يكن لمجاز القرآن ولا لمعانيه بالاصطلاح البلاغي فيها أي إرادة مسبقة، وإن وردت بعض الإشارات البلاغية بإطارها العام مما لا بد منه في إيضاح المعنى اللغوي، فالبلاغة جزء من علم اللغة.
2 - مجاز القرآن بإطاره البلاغي العام:
يبدو أن الجاحظ (ت: 255هـ) هو أول من استعمل المجاز للدلالة على جميع الصور البيانية تارة، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى، بل على معالم الصورة الفنية المستخلصة من اقتران الألفاظ بالمعاني، فهو كمعاصريه يعبر عن جمهرة الفنون البلاغية كالاستعارة والتشبيه والتمثيل والمجاز نفسه، يعبر عنها جميعا بالمجاز، ويتضح هذا جليا في أغلب استعمالات الجاحظ البلاغية التي يطلق عليها اسم المجاز، وقد انسحب هذا على المجاز القرآني لديه (2).
ويعلل هذا التواضع عند الجاحظ ومعاصريه بأمرين:
الأول: إرجاع صنوف البيان العربي وتفريعاته إلى الأصل، وهو عندهم: المجاز بمعناه الواسع.
الثاني: عدم وضوح استقلالية هذه المصطلحات بالمراد الدقيق منها في مفهومها ودلالتها كما هي الحال في جلائها بحدود معينة بعد عصر الجاحظ عند كل من ابن قتيبة (ت: 276هـ) وعلي بن عبد العزيز المعروف بالقاضي الجرجاني (ت: 366هـ) وعلي بن عيسى الرماني (ت:
386 - هـ) وسليمان بن حمد الخطابي (ت: 388هـ) وأبي هلال العسكري
__________
(1) ظ: ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 76وما بعدها.
(2) ظ: استعمالات الجاحظ لاطلاقات المجاز، الحيوان: 5/ 3423.(1/17)
(ت: 395هـ) مما قد يعتبر بدايات اصطلاحية في إطار ضيق، ولكنه قد يحدد بعض معالم الرؤية.
فالجاحظ حينما يتحدث عن المجاز القرآني فإنه ينظّر له بقوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوََالَ الْيَتََامى ََ ظُلْماً إِنَّمََا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نََاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً 10} (1).
ويعد هذا من باب المجاز والتشبيه على شاكلة قوله تعالى: {أَكََّالُونَ لِلسُّحْتِ} (2).
وعنده أن هذا قد يقال لهم، وإن شربوا بتلك الأموال الأنبدة، ولبسوا الحلل، وركبوا الدواب، ولم ينفقوا منها درهما واحدا في سبيل الأكل، وتمام الآية {إِنَّمََا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نََاراً} مجاز آخر، فهذا كله مختلف، وهو كله مجاز (3).
والجاحظ هنا ينظر إلى المجاز باعتباره في قبال الحقيقة، وهو قسيم لها، في تنظيره له، وتلك بداية لها قيمتها الفنية.
ويرى البعض أن إطلاق المجاز في معناه الدقيق إنما بدأ مع المعتزلة، وهم مجوزون له لوروده في القرآن، وقد أشار إلى ذلك ابن تيمية، واعتبر المجاز دون مبرر أمرا حادثا، وفنا عارضا، لم يتكلم به الأوائل من الأئمة والصحابة والتابعين، فقال:
«وتقسيم الألفاظ الدالة على معانيها إلى حقيقة ومجاز، وتقسيم دلالتها أو المعاني المدلول عليها إن استعمل لفظا الحقيقة والمجاز في المدلول أو الدّلالة، فإن هذا كله قد يقع في كلام المتأخرين، ولكن المشهور أن الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ، وبكل حال فهذا التقسيم اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة الأولى وأول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز، هو أبو عبيدة معمّر ابن المثنى في كتابه،
__________
(1) النساء: 10.
(2) المائدة: 42.
(3) ظ: الجاحظ، الحيوان: 5/ 25وما بعدها.(1/18)
ولكنه لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة، وإنما عني بمجاز الآية ما يعبر عن الآية وإنما هذا اصطلاح حادث، والغالب أنه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين (1).
ولا نريد أن نناقش ابن تيمية في نفيه لمصطلح المجاز في القرون الثلاثة الأولى، في حين استعمله بمعناه الاصطلاحي العام كل من الجاحظ (ت: 255هـ) وابن قتيبة (ت: 276هـ) وهما من أعلام القرن الثالث، لا نجادله بهذا لوضوح وروده، بقدر ما نؤيده في حدود أن المعتزلة كانوا مجدين في هذا المنحى، وإن كان الفضل الحقيقي في إرساء أسسه، واستكمال مناهجه يعود إلى الشيخ عبد القاهر وهو ليس معتزليا.
وكان محمد بن يزيد المبرد (ت: 285هـ) قد استعمل المجاز بالمؤدى نفسه الذي استعمله به أبو عبيدة من ذي قبل للدلالة على ما يعبر به عن تفسير لفظ الآية أو ألفاظها، ولا دلالة اصطلاحية عنده فيه (2).
على أن ابن جني (ت: 392هـ) قد أشار إلى حقيقة وقوع الكلام مجازا في عدة مواضع من «الخصائص» ونصّ علية بل ذهب إلى أولويته في الكلام، ووافق ابن قتيبة في موارد منه، وأخذ ذلك عنه، كما سنرى. يقول ابن جني في هذا السياق: «اعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة، وذلك عامة الأفعال، نحو: قام زيد، وقعد عمر، وانطلق بشر، وجاء الصيف، وانهزم الشتاء. ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية.
فقولك: قام زيد معناه: كان منه القيام، وكيف يكون ذلك وهو جنس، والجنس يطبق جميع الماضي وجميع الحاضر، وجميع الآتي الكائنات من كل من وجد منه القيام. ومعلوم أنه لا يجتمع لإنسان واحد في وقت ولا في مائة ألف سنة مضاعفة القيام كله الداخل تحت الوهم، هذا محال عند كل ذي لبّ، فإذا كان كذلك علمت أن (قام زيد) مجاز لا حقيقة، وإنما هو وضع الكل موضع البعض للاتساع والمبالغة وتشبيه القليل بالكثير (3).
__________
(1) ابن تيمية، كتاب الأيمان: 34.
(2) ظ: المبرد: المقتضب في أغلب استعمالاته لإطلاق المجاز.
(3) ابن جني، الخصائص: 2/ 448.(1/19)
وهذا التعليل من ابن جني قائم على أساس نظرة الموحدين وأهل العدل في مقولتهم
«لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين»
. فالله سبحانه وتعالى موجد القوة في الإنسان على القيام، والإنسان يؤدي ذلك القيام، ولكن لا بحوله ولا قوته، فليس هو قائما في الحقيقة، بل الطاقة التي أوجدها الله تعالى عنده، هي وما خوله إياه كانا عاملين أساسين في القيام، فلا هو بمفرده قائم، ولا القيام بمنفي عنه، وإنما هو أمر بين أمرين، فكان القيام بالنسبة إليه مجازا.
ولا يهمنا هذا بقدر ما يهمنا إشارة ابن جني إلى المجاز في عدة مواضع من الخصائص، لعل أهمها من يجعل فيه المجاز بعامة قسيما للحقيقة، متحدثا عنه وعن خصائصه بإطار بلاغي عام قد يريد به التشبيه والاستعارة والمجاز بوقت واحد، وذلك قوله: «إن الكلام لا يقع في الكلام ويعدل عن الحقيقة إليه إلا لمعان ثلاثة هي: الاتساع والتوكيد والتشبيه، فإن عدمت هذه الأوصاف الثلاثة كانت الحقيقة البتة» (1).
ولا نريد أن نناقش ابن جني في هذا الاتساع وذلك التوكيد أو التشبيه كما فعل ابن الأثير (ت: 637هـ) في متابعته هذه الوجوه، فذلك مما يخرج البحث عن دائرته إلى قضايا هامشية لا ضرورة إليها، بل نقول أن المجاز في قيمته الفنية لا يختلف عن الحقيقة في قيمتها الفنية، فكلاهما يهدف إلى الفائدة المتوخاة من الكلام. قال الحسن بن بشير الآمدي (ت:
370 - هـ) «الكلام إنما هو مبني على الفائدة في حقيقة، ومجازه» (2).
وكان علي بن عيسى الرماني (ت: 386هـ) وهو ممن عاصر ابن جني، ينظر إلى الاستعارة باعتبارها استعمالا مجازيا، وعدّها أحد أقسام البلاغة العشرة، واكتفى بذكرها عن ذكر المجاز (3)، مما يعني أنه يرى فيما هو قسيم للحقيقة مجازا وذلك صريح قوله: «وكل استعارة حسنة فهي توجب بيان ما لا تنوب منابه الحقيقة، وذلك أنه لو كان تقوم مقامه
__________
(1) المصدر نفسه: 2/ 442.
(2) الآمدي، الموازنة بين الطائيين: 179.
(3) ظ: الرماني، النكت في إعجاز القرآن: 76.(1/20)
الحقيقة، كانت أولى به، ولم تجز، وكل استعارة فلا بد لها من حقيقة، وهي أصل الدلالة على المعنى ونحن نذكر ما جاء في القرآن من الاستعارة على جهة البلاغة» (1).
ومن هذا يبدو أن الرماني قد لحظ المجاز بإطاره البلاغي العام، فكل ما كان غير حقيقي سواء أكان استعارة أم مجازا فهو استعمال مجازي، وينظر لهذا بعشرات الآيات القرآنية، ويعطي المعنى الحقيقي، والمجازي بهذا المنظور الذي أوضحناه، شأنه بهذا شأن من سبقه إلى النظرة نفسها. ففي قوله تعالى {وَلَمََّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} (2). قال الرماني «وحقيقته انتفاء الغضب، والاستعارة أبلغ لأنه انتفى انتفاء مراصد بالعودة، فهو كالسكوت على مراصدة الكلام بما توجبه الحكمة في الحال، فانتفى الغضب بالسكوت عما يكره، والمعنى الجامع بينهما الإمساك عما يكره» (3).
وفي قوله تعالى {لََا يَزََالُ بُنْيََانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ}، (4) ينظر الرماني إلى المجاز في «ريبة» إلى أنه استعارة، مما يعني عدم وضوح التمييز بين المجاز والاستعارة عنده، وكلاهما مجاز بالمعنى العام عنده، إذ عبر الله عن البنيان بأنه ريبة، وإنما هو ذو ريبة كما يرى ذلك الرماني، وإذا صير هذا الاطلاق عليه فهو مجاز، والتعبير عنه بالاستعارة عند الرماني يعني أن النظرة للاستعارة والمجاز على حد سواء.
يقول الرماني في تعقيبه على الآية الكريمة «وأصل البنيان إنما هو للحيطان وما أشبهها، وحقيقته اعتقادهم الذي عملوا عليه، والاستعارة أبلغ لما فيها من البنيان بما يحس ويتصور، وجعل البنيان ريبة وإنما هو ذو ريبة، كما تقول: هو خبث كله، وذلك أبلغ من أن يجعله ممتزجا، لأن قوة الذم للريبة، فجاء على البلاغة لا على الحذف الذي إنما يراد به الإيجاز في العبارة فقط» (5).
__________
(1) المصدر نفسه: 86.
(2) الأعراف: 154.
(3) الرماني، النكت في إعجاز القرآن: 87.
(4) التوبة: 110.
(5) الرماني، النكت في إعجاز القرآن: 91.(1/21)
فالرماني الذي يعبر عن المجاز بالاستعارة، ويضع الاستعارة في التطبيق موضع البحث، إنما ينظر إليها باعتبارها عملا مجازيا يستدل به على وقوع المجاز في القرآن من وجه، وعلى دلائل الإعجاز القرآني من وجه آخر.
ويبدو أن نظرة البلاغيين في القرن الرابع من الهجرة كانت متحدة في هذا المقياس بإطاره العام، فهذا أبو هلال العسكري (ت: 395هـ) قد أشار إلى المجاز بمعناه الواسع ونظّر له من القرآن الكريم في صنوف الاستعارات القرآنية، وقد أوضح رأيه في التنصيص على ذلك بقوله: «ولا بد لكل استعارة ومجاز من حقيقة، وهي أصل الدلالة على المعنى في اللغة» (1).
ويهمنا من هذا القول أنه جعل المجاز قسيما للحقيقة، واعتبر الاستعارة كذلك لا فرق بينها وبين المجاز، وكانت تطبيقاته في هذا المنهج استعارات القرآن.
والحق أنا أبا هلال كان ذا حدس استعاري، وحس بياني، وذائقة بلاغية ناضجة فيما أورده من شواهد قرآنية في هذا المقام، ففي قوله تعالى: {وَقَدِمْنََا إِلى ََ مََا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنََاهُ هَبََاءً مَنْثُوراً} (2). يقول أبو هلال: «حقيقته عمدنا، وقدمنا أبلغ، لأنه دلّ فيه على ما كان من إمهاله لهم، حتى كأنه كان غائبا عنهم، ثم قدم فأطلع على غير ما ينبغي فجازاهم بحسبه، والمعنى الجامع بينهما العدل في شدة النكير، لأن العمد إلى إبطال الفاسد عدل، وأما قوله {هَبََاءً مَنْثُوراً} فحقيقته أبطلناه، حتى لم يحصل منه شيء، والاستعارة أبلغ، لأنه إخراج ما لا يرى إلى ما يرى» (3).
وكان السيد الشريف الرضي (ت: 406هـ) قد ألف كتابين في المجاز: لها أهمية نقدية وبلاغية في البحث البياني في القرآن وعند العرب وهما: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» و «المجازات النبوية»، وكان
__________
(1) العسكري، كتاب الصناعتين: 276.
(2) الفرقان: 23.
(3) العسكري، كتاب الصناعتين: 277.(1/22)
إطلاق المجاز في هذين الأثرين يشمل الاستعارة والتشبيه والتمثيل والمجاز نفسه، كما سيتضح فيما بعد، لكنه في عرضه الاصطلاحي أضيق دائرة من فضفاضية الاستعمال الجاحظي، وعموميته عند الرماني، واتساعه عند ابن جني والوقوف به عند الاستعارة فحسب عند أبي هلال.
وقد عبر إن رشيق القيرواني (ت: 456هـ) أن العرب كثيرا ما تستعمل المجاز وتعده من مفاخر كلامها (1).
ونظرته في هذا نظرة من سبقه في المعنى العام.
إذن فمصطلح المجاز بمعناه الواسع عريق من ناحيتين:
الأولى: استعمال النقاد والبلاغيين العرب له من قبل أن تتبلور دلالته الاصطلاحية الدقيقة.
الثانية: وروده في المظان البيانية واللغوية والتفسيرية بمعنى يقابل الحقيقة، وإن اشتمل على جملة من أنواع البيان، أو قصدت به الاستعارة باعتبارها تقابل الحقيقة لأنها استعمال مجازي.
والذي نريد أن ننوه به أن هذا الأصل معرّف بالأصالة منذ عهد مبكر في خطوطه الأولى، وليس هو من ابتكار المعتزلة، بقدر ما لهم من فضل في المساهمة فيه شأنهم بذلك شأن البلاغيين فيما بعد عصر الرضي وعبد القاهر.
3 - مجاز القرآن في مرحلة التأصيل:
يبدو أن ابن قتيبة (ت: 276هـ) كان سباقا إلى بحث المجاز في ضوء القرآن في كتابة «تأويل مشكل القرآن» ولكن التحقيق في الموضوع لديه لم يمثل عملا مستقلا في هذا الباب، بل شكّل بابا في الكتاب.
وكان الدور الذي قام به الشريف الرضي (ت: 406هـ) دورا حافلا، إذ كتب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» فكان بحثا متفردا ومتخصصا في الموضوع.
__________
(1) ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر: 1/ 265.(1/23)
وجاء الشيخ عبد القاهر الجرجاني (ت: 472هـ) فسلط الأضواء على المجاز في كتابيه «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» فكان المنظّر البياني في التطبيق القرآني للمجاز، حتى بلغ البحث المجازي على يديه مرحلة النضج العلمي والتجديد البلاغي، فعاد كلا منسجما، وقالبا واحدا متجانسا بالمعنى الاصطلاحي الدقيق لمفهوم المجاز.
وأتى بعد هؤلاء جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت: 538هـ) فاغترف من بحري الرضي والجرجاني، ما قوّم به أوده، وصحّح منهجه، وأضاف دقة الاختيار، ولطف التنظير.
فكان الزمخشري وهؤلاء الأقطاب الثلاثة قد دفعوا بمجاز القرآن فنا إلى مرحلة التأصيل، وبلغوا به شوطا إلى قمة التأهيل، فعاد معلما بارزا في التشخيص، وعلما قائما يشار إليه بالبنان.
وسنقتصر في الحديث عند هذه المرحلة على هؤلاء الأعلام ضمن حدود مقتضبة، ولمسات إشارية عاجلة، مهمتها إعلام الجهود، وإنارة المعالم ليس غير.
ولا يعني التأكيد على هؤلاء الأعلام: الغض من منزلة الآخرين، أو بخس البلاغيين حقوقهم، ولكن التوسع في «مجاز القرآن» عند ابن قتيبة والشريف الرضي وعبد القاهر والزمخشري، قد فاق في مرحلة التأصيل، واستقرار المصطلح المجازي، حدود الإشارة والاختصار عند غيرهم، وهو ما وقفنا عليه، لهذا فإن حديثنا عنهم أمس صلة، وألصق لحمة، بمرحلة التأصيل منه عند سواهم.
ومع هذا فقد أشرنا في نهاية هذا المبحث إلى طائفة من الأعلام الذين ساهموا بإمكانات متفاوتة في هذا المجال:
1 - عقد ابن قتيبة (ت: 276هـ) بابا خاصا للمجاز في كتابه:
«تأويل مشكل القرآن» (1). ويبدو أن الهدف من ذلك كان كلاميا، لأن أكثر
__________
(1) حققه في طبعة منقحة الدكتور السيد أحمد صقر وطبع عدة مرات: مطبعة الحلبي.(1/24)
غلط المتأولين كان من جهة المجاز في التأويل، فتشعبت بهم الطرق، واختلفت النحل، وكان بإمكان هؤلاء أن يرجعوا إلى سعة المجاز، فيحسم الأمر، وتتبسط الدلالات، لا أن يحملوا ما ورد منه في القرآن على الحقيقة فتضلّهم الشبهات.
وقد عمد ابن قتيبة لأبعاض من آيات القرآن الكريم، وشرح في ضوئها ما يذهب إليه أهل التأويل القائلين بالحقيقة دون المجاز، ليعود بذلك إلى دائرة المجاز فينفي ما قالوا جملة وتفصيلا.
وسيمر علينا في مجال التطبيق لآيات القرآن المزيد من رده على القائلين ببطلان المجاز في القرآن، ومستشهدا على صحة القول به من خلال الاستعمال الميداني عند العرب في حياتهم اليومية لألفاظ متداولة، وعبارات قائمة لا يمكن تأويلها إلا بالمجاز.
ولكن الملاحظ عند ابن قتيبة أنه قد يخلط الحقيقة بالمجاز، فتحار باعتباره المجاز أحيانا، والحقيقة مجازا، ويحشر لذلك جملة من الآيات القرآنية دليلا على الموضوع.
فهو كما يرى أستاذنا الدكتور بدوي طبانة: لا يرى في إرادة الحقيقة عجبا في مثل قوله تعالى للسماء والأرض:
{ائْتِيََا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} وقولهما: {أَتَيْنََا طََائِعِينَ} (1). أو قوله لجهنم {هَلِ امْتَلَأْتِ} فتقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} (2). لأن الله تبارك وتعالى ينطق الجلود والأيدي والأرجل ويسخّر الجبال والطير بالتسبيح (3).
والحق أن ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط المجاز من القرآن، فهو يجيل فكره، ويستعمل حدسه البلاغي في استكناه المجاز القرآني ليحقق مذهبه الكلامي في إثبات المجاز خلافا لفهم الطاعنين بوقوعه في القرآن.
ففي قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمََنُ وُدًّا 96} (4)
__________
(1) فصلت: 11.
(2) ق: 30.
(3) ظ: بدوي طبانة، البيان العربي: 27وانظر مصادره.
(4) مريم: 96.
يرى أنه ليس كما يتأولون، وإنما أراد أنه يجعل لهم في قلوب العباد محبة، فأنت ترى المخلص المجتهد محببا إلى البر والفاجر، مهيبا، مذكورا بالجميل، ونحوه قول الله سبحانه وتعالى في قصة موسى عليه السّلام:(1/25)
يرى أنه ليس كما يتأولون، وإنما أراد أنه يجعل لهم في قلوب العباد محبة، فأنت ترى المخلص المجتهد محببا إلى البر والفاجر، مهيبا، مذكورا بالجميل، ونحوه قول الله سبحانه وتعالى في قصة موسى عليه السّلام:
{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} (2)، لم يرد في هذا الموضوع أني أحببتك، وإن كان يحبه، وإنما أراد أنه حببه إلى القلوب، وقرّبه من النفوس، فكان ذلك سببا لنجاته من فرعون، حتى استحياه في السنة التي يقتل فيها الولدان (3).
ويستمر ابن قتيبة في عمليتي الاستنباط والاستدلال عليه من خلال ذائقته الفنية، وتمرسه في طلاقة البيان العربي، فيذهب بالمجاز إلى أبعد حدوده الاصطلاحية، وكأنه فنّ قد تأصّل من ذي قبل، وهذا من مميزات ابن قتيبة في استقراء البعد المجازي.
ولعل من طريف ما استدلّ عليه بسجيته الفطرية قوله تعالى: {وَجَعَلْنََا نَوْمَكُمْ سُبََاتاً 9} (4). فيذهب أن ليس السبات هنا النوم، فيكون معناه فجعلنا نومكم نوما، ولكن السبات الراحة، أي جعلنا النوم راحة لأبدانكم، ومنه قيل: يوم السبت، لأن الخلق اجتمع يوم الجمعة، وكان الفراغ منه يوم السبت، فقيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، ولا تعملوا شيئا، فسمي يوم السبت، أي: يوم الراحة. وأصل السبت التمدد، ومن تمدد استراح، ومنه قيل: رجل مسبوت، يقال: سبتت المرأة شعرها، إذا نفضته من العقص وأرسلته، ثم قد يسمى النوم سباتا، لأنه بالتمدد يكون (5).
بهذا التذوق الدلالي، والنظر الموضوعي، فهم ابن قتيبة مجاز القرآن، فهل كان من المؤصلين له، هذا ما اعتقده بحدود غير مبالغ فيها، شاهدها عشرات الصفحات في تأويل مشكل القرآن وقد خصصها لمجاز
__________
(2) طه: 39.
(3) ظ: ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن.
(4) النبأ: 9.
(5) ظ: ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن.(1/26)
القرآن بما يعد بحق من أروع البحوث المنجزة في الموضوع، وستقرؤه في جزئيات متناثرة في هذا الكتاب، قد سبق إلى نقطتين مهمتين في خدمة مجاز القرآن:
الأولى: إشارته منذ عهد مبكر إلى مسألة الطعن على القرآن في وقوع المجاز فيه، ومناقشته ذلك ورده على الطاعنين بالموروث المجازي عند العرب وفي القرآن الكريم.
الثانية: إيراده مفردات علمي المعاني والبيان في صدر كتابه بأسمائها الاصطلاحية الدقيقة التي تعارف عليها المتأخرون عن عصره، وإن استخدم كلمة المجاز بمفهومها العام (1).
وزيادة على ما تقدم فقد جعل المجاز قسيما للحقيقة، لأنه قسم الكلام إلى حقيقة ومجاز (2).
وذهب إلى أن أكثر الكلام إنما يقع في باب الاستعارة (3). وهكذا شأن كل ما هو أصيل أن يعطيك الدقة قدر المستطاع.
2 - وليس جديدا أن يكون أبو الحسن الشريف الرضي (ت: 406 هـ) عالما موسوعيا في المجاز بعامة، والمجاز النبوي والقرآني بخاصة، فقد كان ضليعا ببلاغة العرب، وعلوم القرآن، واللغة، والشعر، والنثر، وحسن اختياره لطائفة هائلة من خطب وحكم ورسائل أمير المؤمنين الإمام علي عليه السّلام، وتسميته لذلك ب «نهج البلاغة» (4). وتعليقاته وشروحه ووقفاته ولمساته البلاغية عليه، دليل زيادته الأولى في الفن البلاغي، وتمرسه الاستقرائي لأبعاده المختلفة.
وكتابه القيم تلخيص البيان في مجازات القرآن» (5) حافل بالمجاز
__________
(1) ظ: ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 15.
(2) المصدر نفسه: 78.
(3) المصدر نفسه: 101.
(4) طبع مستقلا بتحقيق محمد عبده، وطبع بشرح ابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
(5) حققه الأستاذ محمد عبد الغني حسن، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1955.(1/27)
اللغوي من القرآن وضروبه المتشعبة، ولكنه يؤكد فيه «الاستعارة» والاستعارة جزء من المجاز اللغوي تكون علاقته المشابهة، وهكذا الاستعارة في القرآن.
ويرى الدكتور بدوي طبانة أن نقصا كبيرا قد طرأ على الكتاب من أوله، فلا تقرأ في بدئه ما اعتدنا رؤية مثله في أكثر المؤلفات من خطبة الكتاب، وما حفز صاحبه على تأليفه، ومنهجه في التأليف، ولكن أول هذا المطبوع تمام لكلام سابق يتعلق بالمجاز الذي في أوائل سورة البقرة إلى قوله تعالى {وَطُبِعَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} (1).
وكان يمكن لو عثر على هذا المفقود، أن يتبين بالنص معنى المجاز عند الشريف الرضي، وعلى كل حال فإنه يقصر الدراسة على البحث في مجازات القرآن، أي الألفاظ المستعملة في غير ما وضعت له، وأكثر كلامه عن الاستعارات الواردة في القرآن (2).
ويبدو أن الأمر قد التبس على الدكتور بدوي طبانة في بدايات المطبوع من تلخيص البيان، والذي يتضح بجلاء أن البداية الموجودة كانت من قوله تعالى {خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ} (3)، وهي الآية السابعة من البقرة، و (وطبع على قلوبهم) هي الآية السابعة والثمانون من التوبة، وكانت شاهدا على ما أورده الشريف الرضي من معنى الختم ومعنى الطبع، «لأن الطبع من الطابع، والختم من الخاتم، وهما بمعنى واحد» (4) فكان كلام الرضي متعلقا بمجاز الختم إلى قوله تعالى {وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ} (5).
وطريقة الشريف الرضي في معالجاته لمجاز القرآن في تلخيص البيان استقراء القرآن على ترتيبه المصحفي، فيتعقب الآيات في السور القرآنية بحسب تسلسلها آية فإذا لمح المجاز وقف عنده وقفة الفاحص الخبير،
__________
(1) التوبة: 87.
(2) ظ: بدوي طبانة، البيان العربي: 30.
(3) البقرة: 7.
(4) الشريف الرضي: تلخيص البيان: 113.
(5) البقرة: 7.(1/28)
وأجرى لقلمه العنان في حدود الاستعمال المجازي دون إيجاز مخلّ أو إطناب مملّ كما يقال.
وهو في ذلك منظّر ومطبّق في آن واحد، ومعتدّ برأيه البياني دون تردد، فهو يورد المجاز ويشرحه ويستشهد عليه، ويناقش فيه، ويثبت القول الصراح باجتهاده القائم على أساس الكشف والإبداع والتبادر الذهني من خلال عمقه اللغوي، ومنهجه البلاغي، ومخزونه الثقافي المستفيض.
وكان هذا العمل سبقا فريدا إلى الموضوع، لم يشاركه فيه أحد قبله، وقد سار على منواله من جاء بعده ولكن في حدود مقتضبة لم تنهض بكتاب مستقل فيما أعلم.
«ومن هنا كان «تلخيص البيان» أول كتاب كامل ألف لغرض واحد، وهو متابعة المجازات والاستعارات في كلام الله كله سورة سورة وآية آية، ومن هنا كانت القيمة العلمية لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله لهذا الغرض. فهو يقوم في التراث العربي الإسلامي وحده شاهدا على أن الشريف الرضي خطا أول خطوة في التأليف في مجازات القرآن واستعاراته تأليفا مستقلا بذاته، ولم يأت عرضا في خلال كتاب، أو بابا من أبواب مصنّف» (1).
وإنك لتجد في منهجه هذا شذرات تلتقط وأنت ضنين بها.
1 - ففي قوله تعالى {فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ} (2) فإنه ينفي الجسمية والجهة عن الباري تعالى ويوجهها نحو المجاز بقوله «أي جهة التقرب إلى الله، والطريق الدالة عليه، ونواحي مقاصده ومعتمداته الهادية إليه» (3).
2 - وفي قوله تعالى {اللََّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيََاؤُهُمُ الطََّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمََاتِ} (4).
__________
(1) محمد عبد الغني حسن، مقدمة تلخيص البيان: 30.
(2) البقرة: 115.
(3) الشريف الرضي: تلخيص البيان: 118.
(4) البقرة: 257.(1/29)
فيذهب الرضي أن المراد منها «إخراج المؤمنين من الكفر إلى الأيمان، ومن الغي إلى الرشاد، ومن عمياء الجهل إلى بصائر العلم. وكل ما في القرآن من ذكر الإخراج من الظلمات إلى النور فالمراد به ما ذكرنا.
وذلك من أحسن التشبيهات. لأن الكفر كالظلمة التي يتسكع فيها الخابط، ويضل القاصد. والأيمان كالنور الذي يؤمه الحائر، ويهتدي به الجائر، لأن عاقبة الأيمان مضيئة بالأيمان والثواب، وعاقبة الكفر مظلمة بالجحيم والعذاب. وفي لسانهم: وصف الجهل بالعمى والعمه، ووصف العلم بالبصر والجلية» (1).
3 - ويحمل الرضي قوله تعالى {وَقِيلَ يََا أَرْضُ ابْلَعِي مََاءَكِ وَيََا سَمََاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمََاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} (2) على الاستعمال المجازي في صدور الأمر منه تعالى، ويقول: «لأن الأرض والسماء لا يصح أن تؤمرا أو تخاطبا. لأن الأمر والخطاب لا يكونان إلا لمن يعقل، ولا يتوجهان إلا لمن يعي ويفهم. فالمراد إذن بذلك، الأخبار عن عظيم قدرة الله سبحانه، وسرعة مضي أمره، ونفاذ تدبيره نحو قوله {إِنَّمََا قَوْلُنََا لِشَيْءٍ إِذََا أَرَدْنََاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 40} (3)، إخبار عن وقوع أوامره من غير معاناة ولا كلفة، ولا لغوب ولا مشقة.
وفي هذا الكلام أيضا فائدة أخرى لطيفة. وهو أن قوله سبحانه {يََا أَرْضُ ابْلَعِي مََاءَكِ} أبلغ من قوله: يا أرض اذهبي بمائك. لأن في الابتلاع دليلا على إذهاب الماء بسرعة وكذلك الكلام في قوله سبحانه {وَيََا سَمََاءُ أَقْلِعِي} لأن لفظ الاقلاع هاهنا أبلغ من لفظ الانجلاء. لأن في الإقلاع أيضا معنى الإسراع بإزالة السحاب، كما قلنا في الابتلاع. وذلك أدل على نفاذ القدرة، وطواعية الأمور، من غير وقفة ولا لبثة، هذا إلى ما في المزاوجة بين اللفظين من البلاغة العجيبة والفصاحة الشريفة» (4).
__________
(1) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 121.
(2) هود: 44.
(3) النحل: 40.
(4) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 162.(1/30)
وفي قوله تعالى {فَفَتَحْنََا أَبْوََابَ السَّمََاءِ بِمََاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمََاءُ عَلى ََ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)} (1) يقول الشريف الرضي (المراد والله أعلم بتفتيح أبواب السماء تسهيل سبل الأمطار حتى لا يحبسها حابس، ولا يلفتها لافت. ومفهوم ذلك إزالة العوائق عن مجاري العيون من السماء، حتى تصير بمنزلة حبيس فتح عنه باب، أو معقول أطلق عنه عقال. وقوله {فَالْتَقَى الْمََاءُ عَلى ََ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي: اختلط ماء الأمطار المنهمرة، بماء العيون المتفجرة، فالتقى ماءاهما على ما قدره الله سبحانه، من غير زيادة ولا نقصان. وهذا من أفصح الكلام، وأوقع العبارات عن هذه الحال» (2).
5 - وأظهر مما تقدم في مجاز القرآن عند الشريف الرضي نسبة الخشوع والتصدع إلى الجبل في قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنََا هََذَا الْقُرْآنَ عَلى ََ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خََاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللََّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثََالُ نَضْرِبُهََا لِلنََّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 21} (3) قال الشريف الرضي: «وهذا القول على سبيل المجاز.
والمعنى أن الجبل لو كان مما يعي القرآن ويعرف البيان لخشع في سماعه، ولتصدع من عظم شأنه، وعلى غلظ أجرامه، وخشونة أكنافه. فالإنسان أحق بذلك منه، إذ كان واعيا لقوارعه، وعالما بصوادعه» (4).
وهذا الملحظ الدقيق في مجازية الآية عند الشريف الرضي مصدره:
أن لازم الخشوع والتصدع والخشية، والإدراك والمعرفة والسماع، والجبل لا يسمع ولا يعي، فتأمل أيها الإنسان وتفكّر بما ضربه الله لك من الأمثال.
6 - قلنا فيما سبق أن أغلب ما أورده الرضي في تلخيص البيان عبارة عما يقابل الحقيقة في الاستعمال، والاستعارة عندهم كالمجاز باعتبارها استعمالا مجازيا وخلاف الأصل اللغوي، لهذا كان «تلخيص البيان» حافلا
__________
(1) القمر: 1211.
(2) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 318.
(3) الحشر: 21.
(4) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 330.(1/31)
في صنوف الاستعارات القرآنية ولعل من أبلغ ما أورده تعقيبا وشرحا وبيانا، تلك الاستعارات التي كشف فيها عن ذائقته الفطرية في استحياء المراد القرآني وسأكتفي بإيراد بعض النماذج في ذلك:
أفي قوله تعالى {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنََا رََاجِعُونَ 93} (1) قال الرضي: «وهذه استعارة. والمراد بها: أنهم تفرقوا في الأهواء واختلفوا في الآراء، وتقسمتهم المذاهب، وتشعبت بهم الولائج (2)
ومع ذلك فجميعهم راجع إلى الله سبحانه، على أحد وجهين: إما أن يكون رجوعا في الدنيا. فيكون المعنى: أنهم وإن اختلفوا في الاعتقادات صائرون إلى الإقرار بأن الله سبحانه خالقهم ورازقهم، ومصرفهم ومدبرهم.
أو يكون ذلك رجوعا في الآخرة، فيكون المعنى أنهم راجعون إلى الدار التي جعلها الله تعالى مكان الجزاء على الأعمال، وموفّى الثواب والعقاب، وإلى حيث لا يحكم فيهم، ولا يملك أمرهم إلا الله سبحانه.
وشبّه تخالفهم في المذاهب، وتفرقهم في الطرائق، مع أن أصلهم واحد، وخالقهم واحد، بقوم كانت بينهم، وسائل متناسجة، وعلائق متشابكة، ثم تباعدوا تباعدا قطع تلك العلائق، وشذب تلك الوصائل، فصاروا أخيافا (3) مختلفين، وأوزاعا مفترقين» (4).
ب وفي قوله تعالى {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللََّهَ عَلى ََ حَرْفٍ فَإِنْ أَصََابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصََابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى ََ وَجْهِهِ} (5) يحمل الرضي الآية على التصوير الاستعاري، ويعطيك معنى عبادة المرء ربه على حرف، تشبيها بالقائم على جرف هار، وحرف هاو. يقول: «والمراد بها والله أعلم صفة الإنسان المضطرب الدين، الضعيف اليقين، الذي لم تثبت في الحق قدمه، ولا استمرت عليه مريرته، فأوهى شبهة تعرض له ينقاد معها،
__________
(1) الأنبياء: 93.
(2) الولائج: جمع وليجة، وهي بطانة الإنسان.
(3) يقال: هم أخوة أخياف، بمعنى: أمهم واحدة وآباؤهم متعددون.
(4) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 233232.
(5) الحج: 11.(1/32)
ويفارق دينه لها، تشبيها بالقائم على حرف مهواة، فأدنى عارض يزلقه، وأضعف دافع يطرحه» (1).
ج وفي قوله تعالى {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدََّارَ وَالْإِيمََانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (2)، تبرز استقلالية الشريف الرضي في الرأي، وشخصيته في النّقد، واعتداده بصميم بلاغة العرب فيقول:
«وهذه استعارة لأن تبوؤ الدار هو استيطانها والتمكن فيها، ولا يصح حمل ذلك على حقيقته في الإيمان، فلا بد إذن من حمله على المجاز والاتساع. فيكون المعنى أنهم استقروا في الإيمان كاستقرارهم في الأوطان. وهذا من صميم البلاغة، ولباب الفصاحة، وقد زاد اللفظ المستعار هاهنا معنى الكلام رونقا. ألا ترى كم بين قولنا: استقروا في الإيمان، وبين قولنا: تبوءوا. وأنا أقول أبدا: إن الألفاظ خدم للمعاني، لأنها تعمل في تحسين معارضها، وتنميق مطالعها» (3).
وحديثنا عن «تلخيص البيان» قد يطول لو استرسلنا فيه، وفيما قدمناه من نماذج غناء في إقرار منهج هذه الدراسة القائمة على سبيل الإشارة والتلميح العابر لجهود المؤصلين.
والأمر المنظور لدى الشريف الرضي في تلخيص البيان يتجلى في عدة حقائق نشير إليها:
1 - استقلالية في المنهج والفكر، وأولويته في أولية هذا المنهج البلاغي كتابا مستقلا، وكيانا قائما في مجاز القرآن.
2 - تورعه في ذات الله عن الجزم في المعنى القرآني، إذ طالما نجده يبدأ تعقيبه على الآية بعبارة: والله أعلم.
3 - هذه العبارة المشرقة، وهذا الأسلوب الحديث، وذلك التدافع في الألفاظ، وكأنك تقرأ فيه بلاغي اليوم لا بلاغي القرن الرابع الهجري.
__________
(1) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 237.
(2) الحشر: 9.
(3) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 330.(1/33)
لهذا فقد كان سليما ما قرره الدكتور محمد عبد الغني حسين في مقارنته بينه وبين سابقيه: أبي عبيدة وابن قتيبة، في التعبير البلاغي، والأداء الأدبي، والذائقة الفنية، فقال:
«وخذ أي آية شئت من كتاب الله العزيز، وتتبعها عند أبي عبيدة في مجازه، وعند ابن قتيبة في مشكله، وعند الشريف الرضي في تلخيص بيانه، فإنك مؤمن معنا في النهاية بأن سليل البيت النبوي الكريم، كان أغزر الثلاثة بيانا، وأفصحهم لسانا، وأبلغهم في التعبير عن مرامي القرآن بعبارة أدبية مشرقة ناصعة، يتضح فيها ذوق الأديب، ورقة الشاعر، وحسن البليغ، أكثر مما يتضح فيها فقه اللغوي، وعلم النحوي» (1).
3 - وأما الحديث عن الشيخ عبد القاهر الجرجاني (ت: 471هـ) فقد سبق لنا القول أنه مطور البحث البلاغي، وواضع أصوله الفنية (2) في كتابيه الجليلين: «دلائل الإعجاز» (3)، و «أسرار البلاغة» (4). فقد سبر فيهما أغوار الفن القولي شرحا وإيضاحا وتطبيقا، اعتنى باللباب من هذا العلم، وأكد فيه على الجانب الحي النابض، وابتعد عن الفهم العشوائي، والخلط الغوغائي بين النظرية البلاغية وتطبيقاتها، لم يعتن بالحدود المقيدة في علم المنطق، ولم يعر للقوقعة اللفظية أهمية مطلقا، كان وكده منصبا حول ما يقدمه من نتاج فياض إبداعي ينهض بهذا الفن الأصيل إلى أوج عظمته ويدفع به إلى ذروة مشاركته في بناء الهرم الحضاري، فماذا يجني الباحث والمتعلم، وهذا العلم نفسه، من الجفاف في الحد، أو الغلظة في الرسم، أو الصرامة المضنية في القاعدة.
__________
(1) محمد عبد الغني حسن، مقدمة تلخيص البيان: 48.
(2) المؤلف، أصول البيان العربي، رؤية بلاغية معاصرة: 18.
(3) حققه لأول مرة كل من الأستاذ محمد عبدة، ومحمد محمود الشنقيطي. القاهرة، 1921وصدرت مؤخرا طبعة منقحة، بتحقيق محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة 1984.
(4) حققه، وخرج آياته، وضبطه ضبطا علميا فريدا الأستاذ الدكتور هلموت ريتر، مطبعة المعارف، استانبول، 1954م.(1/34)
انظر إليه وهو يتحدث عن أصالة «علم البيان» والمجاز أساسه وقاعدته الصلبة ببيان ساحر، ومنطق جزل، وهو يصرح باسمه اصطلاحا فيقول:
«ثم إنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا، وأبسق فرعا، وأحلى جنى، وأعذب وردا، وأكرم نتاجا وأنور سراجا من «علم البيان» الذي لولاه لم تر لسانا يحوك الوشي، ويصوغ الحلي، ويلفظ الدرر، وينفث السحر ويقري الشهد، ويريك بدائع من الزهر، ويجنيك الحلو اليانع من الثمر، والذي لولا تحفيه بالعلوم وعنايته بها، وتصويره إياها، لبقيت كامنة مستورة، ولما استبنت لها يد الدهر صورة، ولاستمر السرار بأهلتها، واستولى الخفاء على جملتها، إلى فوائد لا يدركها الإحصاء، ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء» (1).
لقد بحث عبد القاهر في أسرار البلاغة مفردات «علم البيان» وفي طليعتها المجاز، وبحث في دلائل الإعجاز أغلب مفردات علم المعاني، وكرّ أيضا على المجاز. والسبب في هذا واضح لأن المجاز القرآني من أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز.
فالمجاز عنده في أسرار البلاغة نوعان: مجاز عن طريق اللغة، وهو المجاز اللغوي، ومضماره الاستعارة والكلمة المفردة.
ومجاز عن طريق المعنى والمعقول، وهو المجاز الحكمي، وتوصف به الجمل في التأليف والإسناد (2).
وحد المجاز الحكمي «أن كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه من العقل لضرب من التأويل فهي مجاز (3).
وقد فرّق بين المجاز العقلي واللغوي في الحدود والاستعمال والإرادة، وقال: «أنه إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من العقل، وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من اللغة» (4). وكل من المجازين اللغوي
__________
(1) عبد القاهر، دلائل الإعجاز: 4.
(2) ظ: عبد القاهر، أسرار البلاغة: 376.
(3) المصدر نفسه: 356.
(4) ظ: المصدر نفسه: 344.(1/35)
والعقلي لا يدرك إلا في التركيب، ووراء كل منهما معان غير ما يفهم من تكوين الجملة النحوي في الإيحاءات النفسية التي يستند إليها التصوير القرآني (1).
وهذا التقسيم لم يكن واضحا بدقته هذه قبل عبد القاهر بل كان المجاز بجملته يشمل صور البيان بعامة، وقد يتخصص بالاستعارة والمجاز كما هي الحال عند الشريف الرضي كما أسلفنا.
وقد استنار بهذه التسمية كل من فخر الدين الرازي (ت: 606هـ) وأبي يعقوب السكاكي (ت: 626هـ) بل هما قد نسخا رأي عبد القاهر نسخا حرفيا.
فالرازي يقسم المجاز إلى قسمين: مجاز في الإثبات، ومجاز في المثبت، وهما العقلي واللغوي، وعنده أن المجاز في الإثبات إنما يقع في الجملة، وأن المجاز في المثبت إنما يقع في المفرد (2).
والسكاكي يقسم المجاز إلى قسمين: لغوي وعقلي، واللغوي إلى قسمين: خال من الفائدة، ومتضمن لها ويسميها الاستعارة. إلا أنه يغض النظر عن المجاز العقلي، ويؤكد على اللغوي، وكأنه يميل إلى عدّه أساس المجاز (3).
وفي «دلائل الإعجاز» نجد عبد القاهر يحقق القول الدقيق في المجال الحكمي عنده، والعقلي عنده وعند غيره ممّن تبعه فيه حتى في التسمية، وهو برؤيته الثاقبة يلمس أن وراء الكناية والاستعارة في البيان مجازا آخر غير المجاز اللغوي، وهو المجاز الحكمي المستفاد من طريق العقل في أحكام تجريها على اللفظ وهو متروك على ظاهره (4).
والقول عنده في التفريق بين المجاز والاستعارة، أن المجاز هو
__________
(1) ظ: فتحي أحمد عامر، فكرة النظم بين وجوه الإعجاز: 123.
(2) ظ: الرازي، نهاية الإيجاز: 48وما بعدها.
(3) ظ: السكاكي، مفتاح العلوم: 198194.
(4) ظ: عبد القاهر، دلائل الإعجاز: 293وما بعدها، تحقيق: محمود شاكر.(1/36)
الاستعارة، لأنه ليس هو بشيء غيرها، وإنما الفرق أن «المجاز» أعم، من حيث أن كل استعارة مجاز، وليس كل مجاز استعارة (1).
إن الوعي المجازي الذي أدركه عبد القاهر، وميّز فروقه وخصائصه من أبلغ ما توصل إليه العمق البلاغي للمجاز، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في صياغة المنهج المتطور لدقائق الاصطلاح المجازي.
وستجد فيما بعد في كل من فصلي «المجاز العقلي في القرآن» و «المجاز اللغوي في القرآن» سبرا لنظريته البلاغية في المجاز القرآني، وإشارة مغنية لطائفة من آرائه التطبيقية في الموضوع، فهناك موضعها الطبيعي من البحث.
والذي نؤكد عليه هنا أن تنظير عبد القاهر في المجاز جاء طافحا بآيات القرآن المجيد فهي أصل، وجاء الشعر والأمثال فرعا فيه، لأنه معنيّ ببيان إعجاز القرآن، فهو يستدل عليه بآياته الكريمة.
انظر إليه وهو يتحدث عن المجاز العقلي.
«وهذا الضرب من المجاز كثير في القرآن، فمنه قوله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهََا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهََا} (2)، وقوله عز اسمه: {وَإِذََا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيََاتُهُ زََادَتْهُمْ إِيمََاناً} (3)، وفي الأخرى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زََادَتْهُ هََذِهِ إِيمََاناً} (4)، وقوله: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقََالَهََا 2} (5)، وقوله عزّ وجلّ:
{حَتََّى إِذََا أَقَلَّتْ سَحََاباً ثِقََالًا سُقْنََاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} (6).
أثبت الفعل في جميع ذلك لما لا يثبت له فعل إذا رجعنا إلى المعقول على معنى السبب، وإلا فمعلوم أن النخلة ليست تحدث الأكل،
__________
(1) ظ: عبد القاهر، دلائل الإعجاز: 462تحقيق: محمود شاكر.
(2) إبراهيم: 25.
(3) الأنفال: 2.
(4) التوبة: 124.
(5) الزلزلة: 2.
(6) الأعراف: 57.(1/37)
ولا الآيات توجد العلم في قلب السامع لها، ولا الأرض تخرج الكامن في بطنها من الأثقال، ولكن إذا حدثت فيها الحركة بقدرة الله ظهر ما كنز فيها وأودع جوفها
والنكتة أن المجاز لم يكن مجازا لأنه إثبات الحكم لغير مستحقه بل لأنه أثبت لما لا يستحق، تشبيها وردّا له إلى ما يستحق، وأنه ينظر من هذا إلى ذاك، وإثباته ما أثبت للفرع الذي ليس بمستحق يتضمن الإثبات للأصل الذي هو المستحق (1).
4 - وإذا جئنا إلى دور جار الله الزمخشري (ت: 358هـ) فسنرى له اليد الطولى في هذا المضمار، وبحدود كبيرة مما أفاده من تجارب الشريف الرضي (ت: 406هـ) المجازية، وما استقاه من ينبوع عبد القاهر (ت:
471 - هـ) البلاغي.
وكان الزمخشري يهدف في جهوده المجازية إلى أمرين:
الأول: هو الهدف المركزي، وهو كشف بلاغة القرآن وتأكيد إعجازه، وإثبات تميزه في التعبير على كل نصّ أرضيّ وسماويّ.
الثاني: الهدف الهامشي في دعم الفكر المعتزلي القائل باتساع المجاز في القرآن وعند العرب بمنظور كلامي.
وأنا أذهب مذهبه في كلا الأمرين بأغلب وجهات نظره البيانية، لا على أساس معتزلي، فلا علاقة لي بهذا الملحظ، بل من خلال الذائقة البلاغية والفنية في تقويم النصوص العربية العليا ليس غير.
للزمخشري في تطوير نظرية المجاز القائمة في القرآن والمأثور العربي كتابان مهمان هما:
1 - أساس البلاغة (2).
2 - الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه
__________
(1) عبد القاهر، أسرار البلاغة: 357356.
(2) طبع طبعة منقحة فريدة بتحقيق: عبد الرحيم محمود، وتقديم: العلامة أمين الخولي، القاهرة 1953.(1/38)
التأويل (1). أما الأول، فقد رتبه على أساس جديد من الأعمال المعجمية الرائدة، فاتبع طريقة «الألفباء» في ترتيب مفرداته اللغوية، وهو يورد الكلمة الواحدة في استعمالها الحقيقي تارة، وباستعمالها المجازي تارة أخرى، ويعطي معنى كل منهما، والذي يبدو لنا من عمله هذا أنه يميل إلى أن معظم مفردات العربية مجاز وأن الباقي هو الحقيقة، وهو بهذا يحقق جهدا تراثيا عظيما إزاء هذه الغاية، ويقوم بفهرست إحصائية لمجاز اللغة، ولدى ذكر خصائص كتابه الفنية نجده يشير إلى هذه الحقيقة بقوله:
«ومنها تأسيس قوانين فصل الخطاب والكلام الفصيح، بإفراد المجاز عن الحقيقة، والكناية عن التصريح» (2).
ولم ينس الغرض من تأليف هذا الكتاب في بيان بلاغة القرآن هدفا رئيسا، والوقوف عند وجوه إعجازه، ولطائف أسراره فقال:
«ولما أنزل الله تعالى كتابه مختصا من بين الكتب السماوية بصفة البلاغة التي تقطعت عليها أعناق العتاق السبّق، وونت عنها خطا الجياد القرّح، كان الموفق من العلماء الأعلام من كانت مطامح نظره، ومطارح فكره، الجهات التي توصل إلى تبين مراسم البلغاء، والعثور على مناظم الفصحاء، والمخابرة بين متداولات ألفاظهم، متعاورات أقوالهم، والنظر فيما كان الناظر فيه على وجوه الإعجاز أوقف، وبأسراره ولطائفه أعرف، حتى يكون صدر يقينه أثلج، وسهم احتجاجه أفلج، وحتى يقال: هو من علم البيان حظي، وفهمه فيه جاحظي. وإلى هذا الصوب ذهب عبد الله الفقير إليه محمود بن عمر الزمخشري، عفا الله تعالى عنه في تصنيف كتاب أساس البلاغة» (3).
ويرى الأستاذ أمين الخولي في تصديره لأساس البلاغة: أن الزمخشري لم يستقص تتبع المجازات اللغوية بالنص عليها في أساسه،
__________
(1) طبع عدة طبعات، وصورت طبعاته بالأوفست، وبين يدي طبعة دار المعرفة، بيروت (د. ت) وبحاشيتها كتاب الإنصاف لأحمد بن المنير.
(2) ظ: الزمخشري، أساس البلاغة، المقدمة.
(3) ظ: المصدر نفسه: مقدمة المؤلف.(1/39)
الذي زعم له نفسه هذه الميزة (1).
وقد يكون هذا الرأي صحيحا بحدود، إذ لم يكن أساس البلاغة موسوعيا كبقية المعاجم المطولة، ولكنه بعمله قد جاء بشيء جديد من ناحيتين:
الأولى: التأكيد على الاستعمال المجازي في القرآن وعند العرب في معجمه هذا في أغلب المفردات وهو ما لم يفعله سواه.
الثانية: أنه اتبع الطريقة المعجمية السمحة بالنسبة لطلاب البحث العلمي، فالتزم طريقة «الألفباء» كما صنع الراغب (ت: 502هـ) في المفردات من ذي قبل، ورفض طريقة المخارج في دقتها، والأبنية في تعقيدها، والباب والفصل في كل حرف كما هو شأن غيره.
«وقد رتب الكتاب على أشهر ترتيب متداولا، وأسهله متناولا، يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف الثمام وحبل الذراع، من غير أن يحتاج في التقتير عنها إلى الإيجاف والإيضاح، وإلى النظر فيما لا يوصل إلا بإعمال الفكر إليه، وفيما دقق النظر فيه الخليل وسيبويه» (2).
بهذا يختتم الزمخشري مقدمة كتابه، ومهمته فيه التيسير، وتهيئة المناخ العلمي للبحث دون عناء، وهو إنجاز ضخم من الناحيتين العلمية والفنية. وأما الكشاف، فهو التفسير البياني الذي تلمس فيه مدى جمال المجاز القرآني، وطلاوة رونقه، وعذوبة مخارجه، ودقائق استعمالاته، أو هو الكتاب الذي تبصر به المجاز حيا نابضا متكلما بمعناه الاصطلاحي ومناخه الأدبي معا، في ضوء ما أشار إليه ابن قتيبة، وما ابتكره الشريف الرّضي وما أسسه عبد القاهر الجرجاني.
لقد فتح الزمخشري في الكشاف عمق دراسة رقيقة مهذبة في المجاز العربي بعامة، والقرآني بخاصة، فزاد ما شاءت له الزيادة من نكت بلاغية، وصيغ جمالية، ومعان إعجازية، وسيرورة بيانية، عاد فيها الكشاف كنزا لا
__________
(1) ظ: أمين الخولي: أساس البلاغة بن المعاجم، تعريف بالكتاب في أوله.
(2) ظ: الزمخشري، أساس البلاغة، مقدمة المؤلف.(1/40)
تفنى فرائده، وبحرا فنيا لا تدرك سواحله.
وقد تجلى في الكشاف ما أضافه الزمخشري من دلالات جمالية في نظم المعاني، وما بحثه من المعاني الثانوية في المجاز القرآني، والتي توصل إليها بفكره النير، من خلال نظره الفاحص في تقديم المتأخر، وعائدية الضمائر، وأسلوب العبارة، والتركيب الجملي، لرصد المضمون البياني في القرآن المتمثل لديه في التمثيل والتشبيه والاستعارة وأصناف المجاز، وهو كثير التنقل بالألفاظ القرآنية من الحقيقة إلى المجاز مستعينا على ذلك بشئون الكلام العربي في الحذف والإظهار، والتقدير والإضمار، ذلك بإزاء استجلاء إعجاز القرآن فنيا والتأكيد عليه لفظيا ومعنويا من خلال معطيات الشكل ومميزات المضمون.
صحيح أن الهدف الجانبي عند الزمخشري قد يكون كلاميا كما أسلفنا، ولكن هذا لا يمانع من أن يكون كتابه هذا جوهرة نحن بأمس الحاجة إلى أمثالها في تبيين روعة القرآن، وجمال عبارته، ودقة بلاغته.
ولست هنا في مجال الحديث عن الكشاف إلا إجمالا، ومن خلال هذا الإجمال، أضع نموذجين لتحقيقه المجازي بين يدي البحث: الأول، تعقيبه على قوله تعالى {الرَّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ََ 5} (1)، فهو يبحثها بلاغيا في ضوء ما تستعمله العرب مجازا أو كناية في معنى العرش والاستواء، ويضرب لذلك الأشباه والنظائر من القرآن الكريم والموروث العربي، فيقول:
«ولما كان الاستواء على العرش، وهو سرير الملك مما يردف الملك، جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش، يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير البتة. وقالوا أيضا لشهرته في ذلك المعنى ومساواته: ملك، في مؤداه وإن كان أشرح وأبسط أدل على صورة الأمر، ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة، بمعنى أنه جواد أو بخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت: حتى أن من لم يبسط يده بالنوال قط، أو لم تكن له يد رأسا، قيل فيه: يده مبسوطة لمساواته
__________
(1) طه: 5.(1/41)
عندهم قولهم هو جواد. ومنه قوله تعالى: {وَقََالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللََّهِ مَغْلُولَةٌ}، أي هو بخيل {بَلْ يَدََاهُ مَبْسُوطَتََانِ} (1)، أي هو جواد من غير تصور يد، ولا غل، ولا بسط. والتفسير بالنغمة، والتمحل للتثنية من ضيق العطف، والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام» (2).
الثاني: تعقيبه على قوله تعالى {فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ} (3)، قال:
«فإن قلت: كيف أسند الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها؟ قلت: هو من الإسناد المجازي، وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشترين فإن قلت: هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا في معنى الاستبدال، فما معنى ذكر الربح والتجارة كأن تم مبايعة على الحقيقة؟ قلت: هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تنساق كلمة مساق المجاز ثم تقفى بأشكال لها وأخوات إذا تلاحقن لم تر كلاما أحسن منه ديباجة، وأكثر ماء ورونقا وهو المجاز المرشح فكذلك لما ذكر سبحانه الشراء {أُولََئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلََالَةَ بِالْهُدى ََ} (4)، أتبعه بما يشاكله ويواخيه، وما يكتمل ويتم بانضمامه إليه، تمثيلا لخسارهم وتصويرا لحقيقته» (5).
وفيما عدا الزمخشري بتوسعه في ذكر مجازات القرآن، بمعانيها الاصطلاحية فيما يبدو لي، فإننا لا نجد نظيرا لهذا التفسير من هذا الوجه فحسب. نعم هناك شذرات مجازية في الجزء الخامس من «حقائق التأويل» للشريف الرضي (ت: 406هـ) أشرنا إليها ضمن البحث فيما يأتي، ولو وصلنا حقائق التأويل كاملا لحصلنا على علم كثير.
__________
(1) المائدة: 64.
(2) الزمخشري، الكشاف 2: 530.
(3) البقرة: 16.
(4) الزمخشري، الكشاف: 1/ 191وما بعدها.
(5) توفي ظهر الأربعاء: 9/ 3/ 1966م عن واحد وسبعين عاما. وكان آخر لقائنا به في بغداد بتاريخ: 11/ 2/ 1966م حينما اشتركنا معا في مهرجان تأبين علامة العراق الشيخ محمد رضا الشبيبي في جامع براثا ببغداد.(1/42)
وهناك لمحات مجازية عند السيد المرتضى (ت: 236هـ) في أماليه (غرر الفوائد ودرر القلائد) وعند أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت: 406هـ) في التبيان، وعند أبي علي الطبرسي (ت: 548هـ) في مجمع البيان، وعند فخر الدين الرازي (ت: 606هـ) في مفاتيح الغيب، وعند أمثالهم من الأكابر، ولكنها لا تشكل عملا مجازيا تكامليا كما هي الحال في الكشاف.
وأما الحديث عن ابن رشيق (ت: 463هـ) في العمدة، وابن سنان (ت: 466هـ) في سر الفصاحة، وابن الزملكاني (ت: 651هـ) في كل من البرهان والتبيان، وابن أبي الأصبع (ت: 654هـ) في بديع القرآن، وابن الأثير (ت: 637هـ) في المثل السائر، وسليمان بن علي الطوفي البغدادي (ت: 716هـ) في الإكسير في علم التفسير، وشهاب الدين محمود الحلبي (ت: 725هـ) في حسن التوسل، ويحيى بن حمزة العلوي (ت: 749هـ) في الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، وبدر الدين الزركشي (ت: 794هـ) في البرهان، وجلال الدين السيوطي (ت: 911هـ) في الإتقان. وأمثالهم من فطاحل البلاغيين والنقاد القدامى والتراثيين، فلهم في المجاز نظرات متفاوتة، إلا أن الملحظ لديهم الاستناد على أساس متين منه وهو مجاز القرآن، ولكنهم لم يكتبوا فيه كتابا قائما بذاته، أو جهدا موسوعيا كمن أسلفنا، بل جاء جزءا من كل، وتقاطيع في أبواب، لذا أشرنا إليهم، وستجد جملة من آراء بعضهم في الكتاب.
وهنا يجب أن نشير إلى حقيقة مؤكدة هي أن كلا من أبي يعقوب السكاكي (ت: 626هـ) والخطيب القزويني (ت: 739هـ) وسعد الدين التفتازاني (ت: 791هـ) وأضرابهم من علماء البلاغة كالسبكي والطيبي، قد كرسوا جهودهم التطبيقية في الحديث عن المجاز في البيان العربي على التمثل والاستشهاد والتنظير أولا بأول بآيات المجاز في القرآن، فكان ذلك دون شك: سراجهم الهادي ودليلهم الأمين.
ولا بد لي من الإشارة الهادفة إلى ما قدمه أبو حيان، أثير الدين، محمد بن يوسف الأندلسي (ت: 754هـ) في تفسيره: (البحر المحيط) من جهد متميز يقتفي فيه آثار الشريف الرضي والزمخشري في تتبع اللمسات
البلاغية في القرآن، والتأكيد على المجاز فنا بيانيا، وبذلك فهو مشارك مشاركة جيدة في هذا المضمار دون ابتكار أو تزيد فيما يبدو لي.(1/43)
ولا بد لي من الإشارة الهادفة إلى ما قدمه أبو حيان، أثير الدين، محمد بن يوسف الأندلسي (ت: 754هـ) في تفسيره: (البحر المحيط) من جهد متميز يقتفي فيه آثار الشريف الرضي والزمخشري في تتبع اللمسات
البلاغية في القرآن، والتأكيد على المجاز فنا بيانيا، وبذلك فهو مشارك مشاركة جيدة في هذا المضمار دون ابتكار أو تزيد فيما يبدو لي.
4 - مجاز القرآن في دراسات المحدثين
كان لتعيين أستاذنا العلامة الشيخ أمين الخولي رحمه الله (1) أستاذا للدراسات القرآنية والبلاغية والنقدية في كلية الآداب في الجامعة المصرية في أواخر الربع الأول من القرن العشرين، كان له أثره الجليل في قلب المفاهيم التدريسية، ونقد المناهج العلمية، وتجديد الأساليب التفسيرية والبلاغية. كان ذلك إيذانا بحياة قرآنية في الجامعة لا عهد لها بها، وكان صاحبنا ذا منهج محدد يتحدث هو عنه: «فدخلت ميدان التجديد الأول، على خبرة به، ورأي ثابت عنه، وخطة بينة فيه، أدرت عليها عملي في درس البلاغة وسواها طفقت أتعرف معالم الدراسة الفنية الحديثة بعامة، والأدبي منها بخاصة، وأرجع إلى كل ما يجدي في ذلك، من عمل الغربيين وكتبهم، وأوزان بينه وبين صنيع أسلافنا، وأبناء عصرنا في هذا كله وكانت نظرتي إلى القديم تلك النظرة غير اليائسة دافعة إلى التأمل الناقد فيه، وإلى العناية بتأريخ هذه البلاغة، أسأله عن خطوات سيرها، ومتحرجات طريقها، أستعين بذلك على تبين عقدها، وتفهم مشكلاتها، ومعرفة أوجه الحاجة إلى الإصلاح فيها وبذلك كانت الطريقة التأريخية، مع الاستفادة بالحديث: منهج درسي للبلاغة في الجامعة مضيت في هذا الدرس المتأني، أمس مسائل البلاغة مسا رفيقا جريئا معا، أقابل فيه القديم بالجديد، فأنقد القديم وأنفي غثه، وأضم سمينه إلى صالح جديد وتلك خطة لا تدوم في دراسة جامعية، أساسها التجدد، وحياتها في نماء متصل، لذا قاربت أن أفرغ من النظر في القديم، بعد ما ضممت خياره إلى الجديد، فألفت منها نسقا كاملا، يرجى أن يكون دستور البلاغة في درسها». فالخوي أستاذ للبلاغة قد وضع خطة لتطويرها، ورسم منهجا في تجديد معالمها، واستنّ طريقا لإغناء درسها.
وكانت الجامعة المصرية أول نشأتها، قد وجدت الحاجة في درس
__________
(1) أمين الخولي، فن القول: 8وما بعدها.(1/44)
الأدب وتأريخه إلى القول في القرآن، بما هو مادة لذلك التاريخ الأدبي، فجاء إذ ذاك أمين الخولي، وهو من شيوخ المدرسة القديمة فيما يرى في ختام حياته التعليمية، وغيّر في مناهجها ما غيّر، وجعل تفسير القرآن مادة دراسية فيها، وكان مفهوم التفسير عنده أو عند أمثاله لا يجاوز كثيرا تلك الكتب المتداولة فيه وكلها يمكن أن يقال فيه: أنه لا يستطيع الوفاء ببيان ما في القرآن من قوة بلاغية، وكانت الحياة الأدبية الجامعية خصبة، متجددة، متطلعة، مستشرقة، فاتبعت وراء ما استشرف إليه المفسرون من حسّ العربية وذوقها، وبلاغة هذا الأسلوب، ما هو وراء ذلك وأبعد، على أن يكون لهذا التطلع ضابط من طبيعة اللغة وحيويتها، فراحت الجامعة تحول التفسير درسا أدبيا محضا، ويستعين بكل ما بلغته وستبلغه الثقافة الإنسانية الفنية من دقة وتطلع (1).
وكان صاحب هذا المنهج الجديد هو أمين الخولي باعتباره مدرسا لتفسير القرآن، وواضعا لمفرداته العلمية، فاستعان على ذلك بما كتبه في القرآن، وكان «تاريخ القرآن» مجموعة محاضراته فيه ولم ينشر وكان «التفسير معالم حياته منهجه اليوم» من أروع البحوث في دائرة المعارف الإسلامية / المجلد الخامس، وقد اشتمل عليه كتاب «مناهج تجديد» وكانت دراسته للقرآن العظيم بين هذا وذاك تشمل: حياة الألفاظ القرآنية، وتدرج دلالتها، وتأريخ ظهور المعاني المختلفة للكلمة، الواحدة، وكانت البلاغة القرآنية في مطابقة الكلام لمقتضى الحال: أساس الدرس التفسيري مضافا إليها الغرض الديني والبعد العقائدي (2).
وكان بحثه الفريد «القرآن الكريم» في دائرة معارف الشعب المصرية في 1959م مستوفيا لجملة من خصائص القرآن الأسلوبية في كل من المكي والمدني، وما يتميز به كل منهما بتمييز حال المخاطبين.
وكانت محاضراته في «أمثال القرآن» وقد أملاها على طلاب الدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة القاهرة جوهرة ثمينة أجرى فيها تحقيقا لغويا لكلمة «المثل» وجميع الآيات التي تضمنت لفظ المثل، وقام
__________
(1) ظ: كامل سعفان في كتابه: أمين الخولي، 113وما بعدها وانظر مصادره.
(2) ظ: أمين الخولي، مناهج تجديد: 293.(1/45)
بتصنيف بعض الأمثال وإرجاعها إلى موضوعاتها مكتفيا بتمثيل الحياة الدنيا، والعمل الطيّب والخبيث، وصفات الله سبحانه وتعالى، وتمثيل المؤمنين والكفار واليهود والمنافقين، ومثل الجنة (1).
وكانت نتيجة هذا الجهد المتواصل للأستاذ أمين الخولي وأمثاله من الأساتذة ذوي الحمية على كتاب العربية الأكبر، أو أدخلوا «القرآن» في مختلف شئونه الجمالية موضوعا بلاغيا وتفسيريا في الدراسات العليا بجامعة القاهرة، وفي كلية الآداب منها، وفي قسم اللغة العربية وآدابها بخاصة، فكتبت عشرات الرسائل بإشرافهم، وهي تتناول مجاز القرآن وبيان القرآن، واستعارة القرآن، وكناية القرآن، وإعجاز القرآن، وقصص القرآن، ومجموعة الصور الفنية في جمالياته بعامة إضافة إلى التفسير وعلوم القرآن.
وقد فتح بهذا الباب مغالق البلاغة المتطورة الحقة في ضوء القرآن الكريم، فكانت رسائل الماجستير والدكتوراة بداية عصر جديد في النهضة العلمية في الجامعات العربية، إذ اتخذت القرآن منهجا لاستنباط شتى مقومات البلاغة العربية.
لقد أفادت المكتبة القرآنية من هذا المنعطف الجديد بداية صالحة على يد علماء متخصصين لدراسات المحدثين في بلاغة القرآن.
وكان منهج الخولي يميل إلى دراسة القرآن «موضوعا موضوعا، لا أن يفسر على ترتيبه في المصحف سورا، أو قطعا، وأن تجمع آياته الخاصة بالموضوع الواحد جمعا إحصائيا مستفيضا، ويعرف بترتيبها الزمني، ومناسباتها وملابساتها الحافة بها، ثم ينظر فيما بعد لتفسّر وتفهم، فيكون ذلك التفسير أهدى إلى المعنى، وأوثق في تجديده» (2).
وهذا يعني قيام «التفسير الموضوعي للقرآن الكريم» وأن يعنى المتخصصون بدراسة شذرات ونجوم من القرآن كل بحسب تخصصه، فيجمع الباحث مادة موضوع من موضوعات القرآن، ويستقصيها إحصاء
__________
(1) ظ: المؤلف: الصور الفنية في المثل القرآني، 406، محمد جابر الفياض، الأمثال في القرآن الكريم، المقدمة: 10.
(2) ظ: أمين الخولي، دائرة المعارف الإسلامية، مادة: تفسيره: 368.(1/46)
لتكون هيكلا مترابطا يشكل وحدة موضوعية متكاملة، ثم يقوم بتفسيرها ودراستها بحسب منهجه العلمي.
وحينما عهد برئاسة قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب بجامعة القاهرة إلى الأستاذ العلامة يوسف عبد القادر خليف في السبعينات، استجاب سيادته وأمثاله من الأساتذة إلى هذا المنهج فوجهوا طلابهم هذا الوجه، فتخصص معظم البلاغيين العرب بجزء مهم من القرآن الكريم، فبحث إعجازه حينا، وقراءاته حينا آخر، وتشبيهاته تارة أخرى، وبلاغته وصوره الفنية تارة أخرى، وكان لي الشرف إن كنت أحدهم في هذا المضمار الكريم (1).
إن هذه الجهود التي أرسى أسسها أمين الخولي، قد وجدت آذانا واعية لدى الشباب المتحفز، فاتّسمت بحوث طائفة منهم بإشارات قيمة إلى جملة من الصنوف البيانية في القرآن، واعتماد المنهج البلاغي في الكشف عن وجود الإعجاز القرآني، وكان ذلك متمثلا بالبحث حينا، وبالتطبيق حينا آخر.
وأما على سبيل الاستشهاد والتمثيل فلا أعلم بحثا قرآنيا يخلو من الاستناد إلى مجازات القرآن وكناياته وتشبيهاته واستعاراته، إلا أن الذي يحز بالنفس إن لم أوفق على الوقوف على عمل مستقل بمجاز القرآن. نعم يمكن القول بأن جهود المحدثين في هذا المجال قد اتخذت طابعا ذا شعبتين في التوجه نحو بيان القرآن بعامة، ومجازه بخاصة: مجال التهيئة والدعوة إلى خوض عباب القرآن، والكشف عن كنوزه وأسراره كما صنع الخولي، ومجال التأليف الجزئي في المجاز أو البيان وصور القرآن الجمالية.
وسأقف عند هذين الجانبين بحدود ما لمسته حسيا، وتابعت أضواءه شخصيّا، مما شكل انطباعا خاصا، قد يضاف غيره إليه.
__________
(1) كتب المؤلف رسالته للدكتوراه «الصور الفنية في المثل القرآني: دراسة نقدية وبلاغية» بإشراف الأستاذ الدكتور يوسف عبد القادر خليف في قسم اللغة العربية وأدبها في كلية الآداب بجامعة القاهرة.(1/47)
ففي الجانب الأول، يبرز في الجامعات العراقية مثلا دور كل من:
1 - الدكتور أحمد عبد الستار الجواري، فما زلت أتذكر قبل ربع قرن أو أكثر ونحن طلاب في الدراسات الأولية الجامعية، أنه كان يأخذنا أخذا شديدا في مدارسة النحو في ضوء القرآن كاشفا عن بلاغته ووجوه إعجازه، ومطابقة عباراته من خلال نظم المعاني لمقتضى الحال، وربما ضاق بعضنا ذرعا من جديته هذه فيتذرع بالقول: إن الغاية من النحو صون اللسان عن الخطأ في المقال في المقال أو الكلام، فكان رحمه الله (1) يجيب:
بأن هذا صحيح بالنسبة لعامة الطلاب، أما بالنسبة لكم فالغاية: خدمة القرآن العظيم.
وكان الجواري في هذا المنهج يصدر عن رأي أستاذه الخولي، فما شوهد متحدثا إلا وآيات القرآن على شفتيه، ولا درّس إلا وشواهده من القرآن، وألف وهو معني بالنحو والقرآن معا: «نحو التيسير» «نحو القرآن» و «نحو الفعل» و «نحو المعاني» وفي كتبه شذرات قيمة من معاني القرآن وبيانه كالاستعارة والتشبيه والتمثيل والمجاز العقلي واللغوي وإن كان النحو مضمارها.
2 - الدكتور جميل سعيد عضو المجمع العلمي العراقي، وقد عني عناية خاصة بتدريس إعجاز القرآن وتصوير أبعاده الفنية والجمالية، وتمخض لهذا الجانب في الدراسات العربية العليا، وكان «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» مضماره الأول في مظان التدريس، وهو بإزاء كشف البيان القرآني، وطالما كان يحث الكثيرين من تلامذة الدراسات العليا وأنا منهم على متابعة الاستنارة في القرآن، وعلى تحرير الرسائل الجامعية في ضوء هداه، وإبراز الوجهة الأدبية والبلاغية للبيان العربي من خلال معطياته البيانية الفريدة، وفضلا عن هذا المنهج فإن بحوثه العلمية غنية بالموروث القرآني العظيم.
__________
(1) توفي الدكتور الجواري فجأة عند باب داره ظهر الجمعة: 22/ 1/ 1988م وهو في طريقه لأداء الصلاة، عن عمر يناهز خمسة وستين عاما.(1/48)
وفي الجانب الثاني من هذا المجال يجب أن نشير بإعجاب إلى ما حققه الدكتور مصطفى صادق الرافعي في كتاباته عن إعجاز القرآن، فقد كان من الرواد في بدايات النهضة الأدبية لهذا القرن في المقام، وإلى ما أنتجه بأصالة وعمق الدكتور دوي أحمد طبانة في كتاباته البيانية المتشعبة، وإلى ما قدمه الدكتور مصطفى الصاوي الجويني في متابعاته البلاغية والتفسيرية والخدمات القرآنية، وإلى ما أبقاه السيد قطب في كل من «ظلال القرآن» و «مشاهد القيامة في القرآن» و «التصوير الفني في القرآن». وإلى ما أضافه الدكتور محمد عبد الله دراز في الشئون الإعجازية والقرآنية، وإلى ما حققه الدكتور محمد المبارك في منهل الأدب الخالد، وإلى ما اكتشفه الأستاذ مالك بن نبي في «الظاهرة القرآنية»، والدكتور أحمد أحمد بدوي في كتابه «من بلاغة القرآن» والدكتور بكري الشيخ أمين في «التعبير الفني في القرآن».
فكل من هؤلاء قد أفرغ ما في كنانته من سهام مضيئة في التنوير العام بين يدي القرآن وأسلوبه البياني، وكان المجاز جزءا رصينا مما كتبوا، جزاهم الله خيرا عن كتابه المجيد.
وأقف عن كثب بمتابعة المجاز القرآني عند كل من:
1 - الدكتورة عائشة عبد الرحمن «بنت الشاطئ» الأستاذة في كلية الآداب / جامعة عين شمس في القاهرة.
اقتفت بنت الشاطئ آثار زوجها وأستاذها الراحل أمين الخولي من منهج التفسير الأدبي للنص القرآني، وكانت موفقة إلى حد كبير يطمئن إليه، وسياق جليل في الاهتداء إلى استجلاء ظواهر القرآن الأسلوبية وتحديد دلالته البلاغية في «التفسير البياني للقرآن الكريم» وكان المجاز الإسنادي والمجاز اللغوي حافلا به في رصد جديد، وبأسلوب جديد، فيه ملاحقة لنماذجه في طائفة من سور القرآن عملت على تفسيرها في جزءين اشتملا على تحقيق القول البياني في أربع عشرة سورة مكية حيث العناية بالأصول الكبرى للإسلام، وحرصت فيها أن تخلص لفهم النص القرآني فهما مستشفى لروح العربية ومزاجها، مستأنسا في كل لفظ، بل في كل حركة ونبرة، بأسلوب القرآن نفسه، محتكمة إليه وحده عند ما يشجر الخلاف،
ويلتوي الطريق، وتتكاثف الظلال، على هدي التتبع الدقيق لمعجم ألفاظ القرآن، والتدبر الواعي لدلالة سياقه، والإصغاء المتأمل إلى إيحاء التعبير في ذلك النمط الفذ من البيان المعجز وقد قصدت بهذا الاتجاه إلى توضيح الفرق بين الطريقة المعهودة في التفسير، وبين منهجها الحديث الذي يتناول النص القرآني في جوه الإعجازي، ويلتزم في دقة بالغة بقول السلف: «القرآن يفسر بعضه بعضا» (1).(1/49)
اقتفت بنت الشاطئ آثار زوجها وأستاذها الراحل أمين الخولي من منهج التفسير الأدبي للنص القرآني، وكانت موفقة إلى حد كبير يطمئن إليه، وسياق جليل في الاهتداء إلى استجلاء ظواهر القرآن الأسلوبية وتحديد دلالته البلاغية في «التفسير البياني للقرآن الكريم» وكان المجاز الإسنادي والمجاز اللغوي حافلا به في رصد جديد، وبأسلوب جديد، فيه ملاحقة لنماذجه في طائفة من سور القرآن عملت على تفسيرها في جزءين اشتملا على تحقيق القول البياني في أربع عشرة سورة مكية حيث العناية بالأصول الكبرى للإسلام، وحرصت فيها أن تخلص لفهم النص القرآني فهما مستشفى لروح العربية ومزاجها، مستأنسا في كل لفظ، بل في كل حركة ونبرة، بأسلوب القرآن نفسه، محتكمة إليه وحده عند ما يشجر الخلاف،
ويلتوي الطريق، وتتكاثف الظلال، على هدي التتبع الدقيق لمعجم ألفاظ القرآن، والتدبر الواعي لدلالة سياقه، والإصغاء المتأمل إلى إيحاء التعبير في ذلك النمط الفذ من البيان المعجز وقد قصدت بهذا الاتجاه إلى توضيح الفرق بين الطريقة المعهودة في التفسير، وبين منهجها الحديث الذي يتناول النص القرآني في جوه الإعجازي، ويلتزم في دقة بالغة بقول السلف: «القرآن يفسر بعضه بعضا» (1).
تقول بنت الشاطئ: «فكنت كلما اجتليت باهر أسراره البيانية، ألفيت من الصعب أن أقدمها على النحو الذي يفي بجلالها، وتهيبت أن أؤدي بالمألوف من تعبيرنا، أسرارا من البيان المعجز تدق وتشف، حتى لتجل عن الوصف، وتبدو كلماتنا حيالها عاجزة صماء» (2).
وكان هذا التفسير ثمرة صالحة لجهود سابقة في جملة من قضايا البيان القرآني، توجتها بنت الشاطئ ببحوث لاحقة في الموضوع نفسه في جولات متعددة بين مشرق الإسلام ومغربه ضمن مؤتمرات علمية أشير إلى بعضها:
أفي مؤتمر المستشرقين الدولي في نيودلهي عام 1964قدمت بحثا بعنوان: «مشكلة الترادف اللغوي في ضوء التفسير البياني للقرآن الكريم».
ب في كلية الآداب بجامعة بغداد، في مارس 1965قدمت بحثا بعنوان «من أسرار العربية في القرآن الكريم».
ج في الكويت، في نوفمبر 1965م حاضرت ببحث عن: «القرآن الكريم وحرية الإرادة».
د في كلية الشريعة بجامعة بغداد عام 1965، قدمت تفسيرا منهجيا لسورة العصر.
هـ في عام 1968قدمت محاضرات في البيان القرآني في جامعتي الرباط وفاس بالمغرب، وجامعة الجزائر.
__________
(1) ظ: بنت الشاطئ، التفسير البياني للقرآن الكريم: 1/ 18.
(2) المصدر نفسه: 2/ 7.(1/50)
وكان كتابها «الإعجاز البياني للقرآن» موضع إعجاب الباحثين، وقد أعطت فيه مجالا رحبا لمجاز القرآن.
2 - الدكتور أحمد مطلوب استاذ في كلية الآداب / جامعة بغداد، هذا الشاب المتحفّز، الذي يعتبر من شيوخ الصناعة اليوم، فقد تعقب في كتبه البلاغية كل أصناف البلاغة القرآنية، حتى يكاد لا يستشهد في نظرياته التطبيقية وآرائه البيانية، وتقسيماته للبلاغة العربية إلا بآيات القرآن الكريم باعتباره نصا إلهيا مقدسا من وجه، وباعتباره كتاب العربية الأكبر من وجه آخر. عرض للمجاز القرآني وأثبت وقوعه في القرآن وفي اللغة العربية على حد سواء «لأن أية لغة لا يمكن أن تبقى محصورة في ألفاظها الوضعية وأنه لا بد من انتقالها للدلالة على معان جديدة تتطلبها الحياة وتطورها.
والمجاز كثير في اللغة العربية ويعد من مفاخرها، وهو دليل الفصاحة ورأس البلاغة. وفي القرآن الكريم كثير من هذا الفن وإن اختلف الباحثون في ذلك فرأى بعضهم أن كتاب الله كله حقيقة، وإذا كان معنى الحقيقة الصدق فذلك صحيح، أما إذا كان معنى المجاز العدول في اللفظ من معنى إلى آخر، فليس الأمر كذلك لأنه جاء الكثير منه في كتاب الله
وعليه معظم البلاغيين» (1).
بحث الدكتور أحمد مطلوب المجاز في القرآن وفي العربية في أغلب كتبه القيمة، فاشتملت عليه «مصطلحات بلاغية» و «البلاغة عند السكاكي» و «القزويني وشروح التلخيص» ووقف عنده موقف الناقد البصير والعارض المنصف في «فنون بلاغية» وأعطى لتقسيماته الفنية بعدا إحصائيا مبتكرا على أساس معجمي حديث في «معجم المصطلحات البلاغية وتطورها»، وكرس جهدا قيما للموضوع في «مناهج بلاغية».
أخذ الله بيده لإكمال مسيرته البلاغية في ضوء القرآن الكريم. وهكذا نجد في دراسات المحدثين لقطات نادرة من أمثال المجاز القرآني، يستقطب بعضها البحث المشرق، ويسترشد بعضها الآخر الاستشهاد
__________
(1) أحمد مطلوب، فنون بلاغية: 8684.(1/51)
السائر، ويستخلص منها آخرون قواعد البلاغة وأسس البيان فتعرض على القرآن وتخضع له، ومع كل هذه الجهود المتناثرة فلم أقف على عمل خاص، وجهد قائم بذاته في مصنف منفرد في مجاز القرآن كما أسلفنا فجاء هذا البحث بعون الله تعالى متمحضا لهذا الغرض، ومتخصصا فيه.
وقد زعم الدكتور أحمد بدوي: «إن كثيرا ممن تعرضوا لدراسة المجاز في القرآن الكريم، قد مضوا يلتمسون أمثلته، يبوّبونه ويذكرون أقساما كثيرة له، حتى بلغوا من ذلك حد التفاهة، ومخالفة الذوق اللغوي» (1).
وهذا الزعم منحصر في جملة من النماذج التي لا تنهض دليلا قاطعا على صحة الرأي، إذ يعارضه: أن ما كتب في مجاز القرآن بمعناه الاصطلاحي لا يتجاوز الدراسات الأنموذجية القائمة على سبيل المثال لا الحصر والاستقصاء، والمثال قد يتكلف به، وقد يأتي طيعا متساوقا، وإذا كان الأمر كذلك، فاختيار بعض البلاغيين للنماذج المقحمة لا يشكل حكما عاما بهذه السهولة. وكما لا نوافق على هذا الزعم، فكذلك لا نميل أيضا إلى ما ذهب إليه الأستاذ عباس محمود العقاد من أن المجاز قد انتقل في اللغة العربية من الكتابة الهيروغليفية إلى الكتابة بالحروف الأبجدية (2).
فلا دليل على هذا من أثر أو تاريخ، ولا وضوح في هذا الملحظ، وهو شبيه بادّعاء الأثر الإغريقي واليوناني في البلاغة العربية، فكلاهما لا يصدر عن نص موثوق، أو دليل قاطع، بل هي تكهنات لا تنهض مقياسا على صحة دعوى وأصالة رأي.
فالمجاز وإن استعمل في اللغات العالمية الحية ولكنه يدور معها في حدود معينة، وهو بخلاف هذا في لغة القرآن، إذ الاستعمال المجازي فيها أساسي وليس أمرا عارضا، لأنه أحد شقي الكلام وطرفيه، وهما الحقيقة
__________
(1) أحمد أحمد بدوي، من بلاغة القرآن: 224.
(2) ظ: عباس محمود العقاد، اللغة الشاعرة: 26.(1/52)
والمجاز، ولما كان القرآن الكريم جاريا على سنن العرب كان المجاز فيه أحد قسيمي الكلام.
وها هي مسيرة المجاز القرآني لا تقف عند حدّ، ولا يستوعبها أحد، فهي تشق طريقها في عباب اللغة تارة، وترسخ أصالتها في صنوف البيان تارة أخرى، تلتقط من هذا وذاك جواهره ولآلئه، تغذي العقول، وتربّ الأفئدة، خاشعة لها الأبصار، بدرا يدور به فكل من المعارف لا تنتهي فرائده، وسراجا تهتدي به العربية في ليل سراها الطويل، ولعل في هذا الكتاب ألقا من ذلك السّنا، ووهجا من تلك الأضواء، يصور جزئيات منتظمة، ويعكس نظريات قد تتبلور، والله المستعان.(1/53)
وها هي مسيرة المجاز القرآني لا تقف عند حدّ، ولا يستوعبها أحد، فهي تشق طريقها في عباب اللغة تارة، وترسخ أصالتها في صنوف البيان تارة أخرى، تلتقط من هذا وذاك جواهره ولآلئه، تغذي العقول، وتربّ الأفئدة، خاشعة لها الأبصار، بدرا يدور به فكل من المعارف لا تنتهي فرائده، وسراجا تهتدي به العربية في ليل سراها الطويل، ولعل في هذا الكتاب ألقا من ذلك السّنا، ووهجا من تلك الأضواء، يصور جزئيات منتظمة، ويعكس نظريات قد تتبلور، والله المستعان.
الفصل الثاني مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية
1 - حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح 2وقوع المجاز في القرآن 3تقسيم المجاز القرآني 4مجاز القرآن: عقلي ولغوي(1/55)
1 - حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح 2وقوع المجاز في القرآن 3تقسيم المجاز القرآني 4مجاز القرآن: عقلي ولغوي
1 - حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح
يبدو أن المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمد من الأصل اللغوي، فلقد نقل ابن منظور (ت: 711هـ) قول اللغويين:
«جزت الطريق، وجاز الموضع جوازا ومجازا: سار فيه وسلكه، وجاوزت الموضع بمعنى جزته، والمجاز والمجازة الموضع (1).
وكان عبد القاهر الجرجاني (ت: 471هـ) قد كشف العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز، فالمجاز عنده: «مفعل من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه، وإذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة، وصف بأنه مجاز على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي، أو جاز هو مكان الذي وضع به أولا» (2).
وهو لا يكتفي بذلك حتى يحدد العلاقة بين الأصل والفرع في عملية العدول عن أصل اللغة، أو النقل الذي يثبت إرادة المجاز لهذا اللفظ أو ذاك دون الاستعمال الحقيقي فيقول: «ثم اعلم بعد: إن في إطلاق المجاز على اللفظ المنقول عن أصله شرطا، وهو أن يقع نقله على وجه لا يعرى معه من ملاحظة الأصل، ومعنى الملاحظة: إن الاسم يقع لما تقول أنه مجاز فيه بسبب بينه وبين الذي تجعله فيه» (3).
وهذا يعني مضافا لما سبق: مجانسة المعنى المنقول له اللفظ إلى معناه الأولي حيث توافر المناسبة في وجه النقل كتسمية الاعتدال غصنا،
__________
(1) ابن منظور، لسان العرب، مادة: جاز.
(2) عبد القاهر، أسرار البلاغة: 365.
(3) المصدر نفسه: 365.(1/57)
والقوام بانا، والحلم طودا، لافتراع الغصن استقامة، ورشاقة البان طولا، ورسوخ الطود ثباتا. فجاء النقل متساوقا في مناسبته مع المعاني الجديدة دون النبو عنها في شيء.
والطريف عند عبد القاهر أن يعود ليؤكد المناسبة القائمة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق المجاز، متناولا قضية الوضع الحقيقي، وتجاوزه إلى المعنى الثانوي المستجد في المجاز، فيقول: «وأما المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول، فهي مجاز، وإن شئت قلت:
كل كلمة جزت بها. ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوز إليه وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها، فهي مجاز» (1).
وهذا التعقيب لرأي عبد القاهر في الموضوع ليس عبثا، بل منطلق من اعتبار عبد القاهر مرجعا في هذا الفن، ومصدرا من مصادر التفريق بين الجزئيات المتقاربة في الحدود والتعريفات ومتمرسا في اكتشاف ما بين الأصول والفروع من أواصر وصلات.
ومن هنا يبدو أن التقرير اللغوي متحدر من التبادر الذهني للفظ المجاز، وأن التحديد الاصطلاحي له نابع من الأصل اللغوي، وذلك فيما وضعه أبو يعقوب السكاكي (ت: 626هـ) موضع القانون الذي لا يعدل ولا يناقش، فيقول:
«المجاز هنا هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناه في ذلك النوع» (2).
وهذا التحديد كما تراه لا يخلو من بعد منطقي في التعبير، وأثر علم المنطق واضح في تخريجات السكاكي في هذا وسواه.
__________
(1) عبد القاهر، أسرار البلاغة: 325.
(2) السكاكي، مفتاح العلوم: 170.(1/58)
ويبدو أن اللغويين والبلاغيين معا، لم يأتوا بجديد في الموضوع، وإنما تمايزوا بالأداء المختلف، واتفقوا على الأصل، وقد سبقهم أبو الفتح عثمان بن جني (ت: 392هـ) في التوصل إلى كنه هذا الأصل حينما عرف الحقيقة ببساطة، وحدد المجاز بما يقابلها بقوله: «فالحقيقة ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة، والمجاز: ما كان بضد ذلك» (1).
ويترجح عندي وجود علاقة قائمة بين التعريف لغة واصطلاحا، وذلك لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي، وانبثاق الحد الاصطلاحي عنه، وهو الاجتياز والتخطي من موضع إلى موضع، وهذا ما يكشف عن سر العلاقة المدعاة بين استعمال المجاز لغة واستعماله اصطلاحا، فكما يجتاز الإنسان، ويتنقل في خطاه من موضع إلى موضع، فكذلك تجتاز الكلمة وتتخطى حدودها بمرونتها الاستعمالية من موقع إلى موقع، ويتجاوز اللفظ محله من معنى إلى معنى، مع إرادة المعنى الجديد بقرينة تدل على ذلك، فيكون أصل الوضع باقيا على معناه اللغوي، والنقل إضافة لغوية جديدة في معنى جديد، وبهذا يبدو لنا أن المجاز يتضمن عملية تطوير لدلالة اللفظ المنقول المعنى، وتحميله المعنى المستحدث بما لا يستوعبه اللفظ نفسه لو ترك واصل وضعه الحقيقي (2).
وكان التحرر من الضيق اللفظي، والانطلاق في مجالات الخيال، والتأثر بالوجدان النفسي، والحنين إلى العاطفة الصادقة، والاتساع في رحاب اللغة، والتوجه نحو الحياة الحرة الطليقة: أساس هذا الاستعمال، فرارا من الجمود، وتهربا من التقوقع في فلك واحد، حول محور واحد.
وفي ضوء هذا الفهم جديدا كان أو مسبوقا، فإن ما يقال عن المجاز في تعبيره الموحي بالمعاني الجديدة، وتركيزه على استكناه الصور الإبداعية، فإنه ينطبق على التشبيه والاستعارة باعتبارهما استعمالين مجازيين، مع فرض وجود العلاقة الدالة على المعنى المستحدث.
وليس هذا الفهم جديدا، بل هو مفهوم الأوائل للاستعمال المجازي،
__________
(1) ابن جني، الخصائص: 2/ 442.
(2) ظ: المؤلف، أصول البيان العربي: 35.(1/59)
فالجاحظ (ت: 255هـ) كمعاصريه يعبر عن الاستعارة والتشبيه والتمثيل جميعا بالمجاز، ويبدو هذا جليا في أغلب استعمالات الجاحظ البيانية التي يطلق عليها اسم المجاز، وهي عبارة عن مجموعة العناصر البلاغية في النّص الأدبي التي تكون المفهوم النقدي الحديث للصورة الفنية (1).
ولا يعتبر هذا رجوعا إلى الوراء في التماس حقائق الأشياء، ولكنه إفادة موضوعية من القديم لرصد الجديد وتحقيقه، لذلك فقد يلتبس الأمر بين المجاز والتشبيه والاستعارة، ولكن التمييز الدقيق يقتضي الفصل والتفريق بين هذه الظواهر البيانية المتجاورة، ويتم ذلك بالنظر إلى الكلام العربي عن كثب:
أفإن أريد فيه التوسع مطلقا دون سواه فهو المجاز.
ب وإن أريد فيه التشبيه التام في ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه مع وجود وجه الشبه، أو حذف أداة التشبيه مع ذكر وجه الشبه، أو انعدام أوجه التشبيه من جهة وتوافقه من جهة أخرى مع ذكر أداة التشبيه، أو حذفهما معا فهو التشبيه دون ريب.
ج وإن أريد التشبيه في ذكر الشبه وحذف المشبه به، فهو الاستعارة (2).
إذن فالتحديد المانع هو الذي يقتضي الفصل بين هذه المتقاربات، لأن في المجاز توسعا ونقلا وتجوزا في الألفاظ يختلف عما يراد في التشبيه والاستعارة.
وعلى هذا فالمجاز حدث لغوي فضلا عن كونه عنصرا بلاغيا نابضا بالاستنارة والعطاء، هذا الحديث يفسر لنا تطور اللغة العربية الفصحى بتطور دلالة ألفاظها على المعاني الجديدة، والمعاني الجديدة في عملية ابتداعها لا يمكن إدراكها إلا بالتعبير عنها، والتصوير اللفظي لها، وذلك لا يتحدد بزمن أو بيئة أو إقليم، وإنما هو متسع للعربية في أعصارها وأدوارها
__________
(1) الجاحظ في استعمالاته لإطلاق المجاز، الحيوان 5: 3423.
(2) ظ: المؤلف، أصول البيان العربي: 40.(1/60)
وتواجدها، وتنقلها في تخطي حدودها الجغرافية إلى بقاع الأرض المختلفة، والمجاز خير وسيلة للتعبير عن هذا الاتساع بما يضيفه من قرائن، وبما يضيفه من علاقات لغوية مبتكرة، توازن بين الألفاظ والمعاني في الشكل والمضمون، وتلائم بين عمليتي الإبداع والتجديد في دلالة اللفظ الواحد للخروج في اللغة إلى ميدان أوسع. والتطلع بها نحو أفق رحيب.
ولما كان القرآن العظيم أساس العربية ودستورها، كان المجاز فيه أحد قسيمي الكلام، وهما: الحقيقة والمجاز.
وسنرصد في الصفحات التالية وقوعه في القرآن بشكل لا يقبل الشك استقراء ومجانسة وبيانا
2 - وقوع المجاز في القرآن
ومجاز القرآن في الذروة من البيان العربي، فالقرآن كتاب العربية الأكبر، وهو ناموسها الأعظم، يحرس لغتها من التدهور، ويحفظ إمدادها من النضوب، ويقوّم أودها من الانحطاط. وقد كان إعجازه البياني موردا متأصلا من موارد إعجازه الكلي، وتفوقه البلاغي حقيقة ناصعة من تفوقه في الفن القولي، وقد وقف العرب عاجزين أمام حسّه المجازي، وبعده التشبيهي، ورصده الاستعاري، وتهذيبه الكنائي، وأعجبوا أيما إعجاب بوضع ألفاظه من المعنى المراد حيث يشاء البيان السّمح، والإرادة الاستعمالية المثلى، تأنقا في العبارة، وتحيزا للمعاني، فلا غرابة أن يكون القرآن مصدرا للثروة البلاغية الكبرى عند العرب، وأصلا لتفجير طاقات تلك البلاغة، والمجاز منها عقدها الفريد.
ولذلك يرى بعض البلاغيين: «إن المجاز هو علم البيان بأجمعه، وأنه أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة، لأن العبارة المجازية تنقل السامع عن خلقه الطبيعي في بعض الأحوال حتى أنه ليسمح بها البخيل ويشجع الجبان» (1).
__________
(1) أحمد مطلوب، فنون بلاغية: 84وانظر مصادره.(1/61)
ومن نافلة القول التوسع في بحث إمكان وقوع المجاز في القرآن دون طائل، فقد ثبت وقوعه دون أدنى شك في كوكبة متناثرة من ألفاظه تعد في القمة من الاستعمال البياني.
فقد رد عبد القاهر (ت: 471هـ) القول بحمل اللفظ على ظاهره في كل من قوله تعالى:
أ {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللََّهُ} (1).
ب {وَجََاءَ رَبُّكَ} (2).
ج {الرَّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ََ 5} (3).
وأوجب أن يكون مجازا لا محالة لأن الإتيان والمجيء انتقال من مكان إلى مكان، وصفة من صفات الأجسام، وأن الاستواء إن حمل على ظاهره لم يصح إلا في جسم يشغل حيّزا، ويأخذ مكانا، والله عزّ وجلّ خالق الأماكن والأزمنة، ومنشئ كل ما تصح عليه الحركة والنقلة والتمكن والسكون والانفصال والاتصال والمماسة والمحاذاة (4).
إن ما أوّله عبد القاهر في مقارنته بين معاني هذه الآيات الظاهرة، ومعانيها الإيحائية الأخرى، قد دلّه بالنظر العقلي مواطن الضرورة في القول بوقوع المجاز في القرآن، وإلا وقعنا بالتجسيد تارة، واصطدمنا بإشغال المكان بالنسبة إليه تارة أخرى، وهذا باطل من الأساس في العقيدة، كما أننا قد نقع في لبس وحيف عظيمين لو لم نقل بالمجاز، ولنسبنا الظلم لله تعالى دون دراية وبدراية بهذه النسبة المفتراة. انظر إلى قوله تعالى:
{وَمَنْ كََانَ فِي هََذِهِ أَعْمى ََ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ََ وَأَضَلُّ سَبِيلًا 72} (5).
__________
(1) البقرة: 210.
(2) الفجر: 22.
(3) طه: 5.
(4) ظ: عبد القاهر، أسرار البلاغة: 362.
(5) الإسراء: 72.(1/62)
فإن حملنا هذه الآية على ظاهرها، وهو عمى العين، فيكون المعنى من كان في الحياة الدنيا أعمى العين فهو في الآخرة أعمى العين، بل وأضل سبيلا!! وفي هذا نسبة عين الظلم له تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فما هو ذنب من خلقه أعمى في الدنيا أن يحشره أعمى في الآخرة؟ وما هو المراد حينئذ ب: أضل سبيلا، فهل هذا مكافأة على عماه البصري في الدنيا، فإن حملنا هذا على الظاهر فالأعمى في الدنيا ضال عن السبيل، وهو أضل له في الآخرة، ولا ملازمة بين العمى البصري وبين الضلال عن الدين على الاطلاق، إذن لا بد من حمل العمى على الاستعمال المجازي في الموردين، ليناسب مع الضلال، فيستقيم المعنى القرآني، وينزه الله تعالى، فيكون المعنى الثانوي هو المراد، وهو والله العالم من كان في حياته الدنيا ضالا عن الحق، متعاميا عن الصراط المستقيم، زائغا عن سنن رب العالمين، مكذبا لأنبيائه ورسله، مستهزئا بتعليماته وتشريعاته، فقد كتب له الضلال في الدنيا نتيجة تصرفه وسلوكه، فهو كالأعمى الذي لا يبصر ما حوله، وإبصار الدين بيّن واضح ولكنه تعامى عنه، وإذا كانت هذه الحالة في الدنيا، فهو في الآخرة أضل سبيلا فلا يهتدي إلى نور يستنقذه، أو إلى شفيع يأخذ بيده، فهو في ظلمات متعاقبة، متداخلة، كمن وهب حاسة البصر ولم يعملها ويستفد منها في تمييز المرئيات فشأنه شأن فاقدها، فهو أعمى كما كان ذلك أعمى، وإذا عمي الإنسان عن السبيل الحق في الدنيا، ولم يعمل عمله، كان في الآخرة أشد حيرة وضلالا، إذ قدم على ما عمل فوجده هباء منثورا، ولمّا يقدم لنفسه في حياته ما يستنير به بعد وفاته. وهذا ما يوضح مجازية الآية، وبدلالة القرآن نفسه في قوله تعالى:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ أَعْمى ََ 124قََالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى ََ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً 125قََالَ كَذََلِكَ أَتَتْكَ آيََاتُنََا فَنَسِيتَهََا وَكَذََلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى ََ 126} (1).
__________
(1) طه: 126124.(1/63)
وفي الآيات هذه عدة شواهد على مجازية الآية السابقة، وعلى مجازية الآيات نفسها في عدة دلائل منها:
1 - إن المعنى: يحشر أعمى البصر، وقيل أعمى عن الحجة، أي لا حجة يهتدي إليها.
قال الفراء: «يقال أنه يخرج من قبره بصيرا في حشره» (1).
وفي ذلك دلالة على أن لا ملازمة بين العمى الحقيقي في الآية السابقة وبين الضلال. فقد يحشر البصير في هذه الدنيا أعمى في الآخرة، وهذا العمى قد يكون على ظاهره كما حمله أبو زكريا الفرّاء وقد يكون مجازه كما
روى ذلك معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام يعني الإمام جعفر بن محمد الصادق عن رجل لم يحج وله مال، قال هو ممن قال الله (ونحشره يوم القيامة أعمى) فقلت سبحان الله أعمى، قال أعماه الله عن طريق الحق (1).
قال الطبرسي (ت: 548هـ) فهذا يطابق قول من قال: إن المعنى في الآية أعمى عن جهات الخير لا يهتدي لشيء منها (1).
2 - وكما حشر أعمى حينما أعرض في حياته الدنيا عن القرآن ودلائل الشريعة، وسنن النبوة، ونسي آيات الله، فقد صكّ (فكذلك اليوم تنسى) أيها الناسي، فتصير بمنزلة من ترك كالمنسي بعذاب لا يفنى.
3 - وقيل معناه: كما حشرتك أعمى، لتكون فصيحة، كنت أعمى القلب، فتركت آياتي ولم تنظر فيها، وكما تركت أوامرنا فجعلتها كالشيء المنسي، تترك اليوم في العذاب كالشيء المنسي (1).
فالمجازية في إضراب هذه الألفاظ متواترة الورود في الروايات ومقتضاة لضرورة المعاني.
والطريف أننا لو رجعنا إلى المصادر التراثية في تفسير تلك الألفاظ وأمثلها، لكان ذلك وحده كافيا للاستدلال بوقوع المجاز في القرآن، وانظر إلى جمهرة الأقوال في شتى شئونها بالنسبة للآية موضوع البحث، وإنما أكدنا عليها لأن دلالتها واضحة تكاد لا تخفى على السواد، فكيف
__________
(1) ظ: الطبرسي، مجمع البيان: 4/ 3534.(1/64)
بالعلماء، وهذه بعض مميزات النص القرآني أن يكون بعضه مفهوما بين الناس دون عناء.
ذكر في معنى قوله تعالى: {وَمَنْ كََانَ فِي هََذِهِ أَعْمى ََ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ََ وَأَضَلُّ سَبِيلًا 72} (1) عدة أقوال:
إن هذه إشارة إلى ما تقدم ذكره من النعم، ومعناه: أن من كان في هذه النعم، وعن هذه العبر أعمى، فهو عما غيّب عنه من أمر الآخرة أعمى. روي ذلك عن ابن عباس.
2 - إن هذه إشارة إلى الدنيا ومعناه: من كان في هذه الدنيا أعمى عن آيات الله ضالا عن الحق، ذاهبا عن الدين، فهو في الآخرة أشد تحيرا وذهابا عن طريق الجنة، أو عن الحجة إذا سئل، فإن من ضل عن معرفة الله في الدنيا، يكون يوم القيامة منقطع الحجة، فالأول اسم، والثاني فعل من العمى.
3 - إن معناها من كان في الدنيا أعمى القلب، فإنه في الآخرة أعمى العين، يحشر كذلك عقوبة له على ضلالته في الدنيا، روي ذلك عن أبي مسلم، محمد بن بحر، قال فهذا كقوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ أَعْمى ََ} (2) وعلى هذا فليس يكون قوله {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ََ 72} على سبيل المبالغة والتعجب وإن عطف عليه بقوله: {وَأَضَلُّ سَبِيلًا 72} ويكون التقدير: وهو أضل سبيلا. قال: ويجوز أن يكون أعمى: عبارة عما يلحقه من الغم المفرط، فإنه إذا لم ير إلا ما يسوء فكأنه أعمى، كما يقال: فلان سخين العين.
4 - وقيل معناه: من كان في الدنيا ضالا، فهو في الآخرة أضل، لأنه لا تقبل توبته، واختار هذا الرأي أبو إسحاق الزجاج: وقال تأويله أنه إذا عمي الدنيا وقد عرّفه الله الهدى، وجعل له إلى التوبة وصلة، فعمي عن رشده، ولم يثب فهو في الآخرة أشد عمى، وأضل سبيلا، لأنه لا يجد طريقا إلى الهداية (3).
__________
(1) الإسراء: 72.
(2) طه: 124.
(3) ظ: الطبرسي، مجمع البيان 3/ 430.(1/65)
فكل هذه المعاني كما رأيت قد اشتملت على الإرادة المجازية وهو كاف للاستدلال على أصالة الاستعمال المجازي في القرآن.
«ومن قدح في المجاز، وهم أن يصفه بغير الصدق، فقد خبط خبطا عظيما، ويهدف لما لا يخفى» (1).
فهناك من أنكر المجاز في القرآن، وهناك من حمل جمله من الاستعمال الحقيقي على المجاز، وكلاهما قد تجاوز القصد، وجانب الاعتدال في المذهب.
وقد ناقش عبد القاهر الجرجاني (ت: 471هـ) هؤلاء وهؤلاء:
«وأقل ما كان ينبغي أن تعرفه الطائفة الأولى، وهم المنكرون للمجاز: إن التنزيل كما لم يقلب اللغة في أوضاعها المفردة عن أصولها، ولم يخرج الألفاظ عن دلالتها، كذلك لم يقبض بتبديل عادات أهلها، ولم ينقلهم عن أساليبهم وطرقهم، ولم يمنعهم ما يتعارفونه من التشبيه والتمثيل والحذف والاتساع.
وكذلك كان من حق الطائفة الأخرى، أن تعلم أنه عزّ وجلّ لم يرض لنظم كتابه الذي سماه هدى وشفاء، ونورا وضياء، وحياة تحيا بها القلوب، وروحا تنشرح عنه الصدور، ما هو عند القوم الذي خوطبوا به، خلاف البيان، وفي حد الإغلاق، والبعد عن التبيان، وأنه تعالى لم يمكن ليعجز بكتابه من طريق الإلباس والتعمية، كما يتعاطاه الملغز من الشعراء، والمحاجي من الناس، كيف وقد وصفوه بأنه: {عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (2) (3).
وعبد القاهر في هذا يشير إلى الخلاف التقليدي في هذه المسألة، أهي واردة أم هي منتفية؟ كقضية لها بعدها الكلامي عند المتكلمين، فلقد رفض أهل الظاهر استعمال صيغ المجاز في القرآن، ووافقهم على هذا بعض الشافعية، وقسم من المالكية، وأبو مسلم الأصبهاني من المعتزلة (4).
__________
(1) عبد القاهر، أسرار البلاغة: 361.
(2) النحل: 103.
(3) عبد القاهر، أسرار البلاغة: 363.
(4) ظ: الزركشي، البرهان في علوم القرآن: 2/ 255.(1/66)
وقد جاء هذا الرفض بحجة أن المجاز أخو الكذب، والقرآن منزّه عنه، فإن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير، وذلك محال على الله تعالى (1).
وقد ثبت لدينا في ضوء ما تقدم، وفي ظلال ما سيأتي بيانه، أن المورد المجازي في الاستعمال القرآني لا تضيق في الحقيقة، أو عجز عن تسخيرها في تحقيق المعنى المراد، بل لغاية التحرر في الألفاظ، وإرادة المعاني الثانوية البكر، فيكون بذلك قد أضاف إلى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة، والألفاظ هي هي، وهذا بعيد عن ملحظ الكذب في التقرير، أو العجز عن تسخير الحقيقة. ولو خلا منه القرآن لكان مجردا عن هذه الإضافات البيانية الأصيلة، وليس الأمر كذلك.
ويؤكد هذا الملحظ تعقيب الزركشي (ت: 794هـ) على القول بمنع استعمال المجاز القرآني بقوله:
«وهذا باطل ولو وجب خلو القرآن من المجاز لوجب خلوه من التوكيد والحذف وتثنية القصص وغيره، ولو سقط المجاز من القرآن سقط شطر الحسن» (2).
فاستعمال المجاز في القرآن نابع من الحاجة إليه في بيان محسنات القرآن البلاغية، فهو والحقيقة يتقاسمان شطري الحسن في الذائقة البيانية كما أشار الزركشي.
ويبدو ضعف هذا المذهب وهو يرفض وجود المجاز في القرآن حينما نشاهد حرص الجمهور والإمامية، وأغلب المعتزلة، ومن وافقهم من المتكلمين على إثبات وقوعه في القرآن (3).
حقا إن ابن قتيبة (ت: 276هـ) قد أشار منذ عهد مبكر إلى مسألة
__________
(1) ظ: السيوطي، الاتقان في علوم القرآن: 3/ 109.
(2) الزركشي، البرهان في علوم القرآن: 2/ 255.
(3) ظ في هذا الشأن: الجاحظ، الحيوان: 1/ 212. ابن جني، الخصائص: 2/ 447 457. الرضي، تلخيص البيان في جملة نصوصه، المرتضى في الأمالي، الزمخشري، الكشاف في أغلب مواضعه.(1/67)
الطعن على القرآن في هذه القضية، وناقشها مناقشة أدبية ونقدية بارعة، مؤيدا ذلك بموافقات اللسان العربي، ومستدلا على ما يراه بسنن القول عند العرب في سائر الاستعمالات حتى الساذجة البسيطة منها.
يقول ابن قتيبة: «وأما الطاعنون على القرآن بالمجاز، فإنهم زعموا أنه كذب، لأن الجدار لا يريد، والقرية لا تسأل، وهذا من أشنع جهالاتهم، وأدلها على سوء نظرهم، وقلة إفهامهم، ولو كان المجاز كذبا، وكل فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلا، كان أغلب كلامنا فاسدا، لأنّا نقول: نبت البقل، طالت الشجرة، أينعت الثمرة، أقام الجبل، رخص السعر» (1).
وقد أيد هذا المنحى عبد القاهر الجرجاني (ت: 471هـ) بقوله:
«وأنت ترى في نص القرآن ما جرى فيه اللفظ على إضافة الهلاك إلى الريح مع استحالة أن تكون فاعلة، وذلك قوله عزّ وجلّ: {مَثَلُ مََا يُنْفِقُونَ فِي هََذِهِ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهََا صِرٌّ أَصََابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} (2) وأمثال ذلك كثير» (3).
وقد أفرد المجاز بالتصنيف من الشّافعية الشيخ عز الدين بن عبد السلام (ت: 660هـ) في كتابه «الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز» (4).
وهناك كتاب قديم ذكره ابن النديم في الفهرست يخص هذا الجزء من البحث اسمه (الرد على من نفى المجاز من القرآن) للحسن بن جعفر (5).
ولم أعثر فيما لدي من فهارس المخطوطات على إشارة إلى مكان وجوده في مكتبات العالم، ولعله فقد فيما فقد من عيون التراث، ويبدو أنه قد ألف لغرض إثبات وقوع المجاز في القرآن ردا على من نفى ذلك عنه، كما هو واضح من العنوان.
__________
(1) ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 99.
(2) آل عمران: 117.
(3) عبد القاهر، أسرار البلاغة: 361.
(4) طبع في استانبول، دار الطباعة العامرة، 1312هـ.
(5) ابن النديم، الفهرست: 63، دار المعرفة، بيروت، 1978م.(1/68)
والحق أن المجاز واقع في القرآن باعتباره عنصرا أساسيا من عناصر بلاغته الإعجازية، كما سنشاهد هذا فيما بعد، عند التطبيق المجازي على عبارات القرآن الحكيم.
3 - تقسيم المجاز القرآني
لم يكن المجاز القرآني بمنأى عن الإطار العام لتقسيم المجاز في البيان العربي، شأنه بذلك شأن الأركان البلاغية الأخرى التي يقوم على أساسها الفن القولي، فقد استقطب القرآن الكريم شتى صنوفها ومختلف تقسيماتها، وحفلت سوره وآياته بأبرز ملامحها وأصدق مظاهرها، حتى عاد تقسيمها خاضعا لأحكام القرآن البلاغية، ولم يكن القرآن خاضعا لتلك التقسيمات في حال من الأحوال، لأنها مستمدة من هديه، وسائرة بركاب مسيرته البيانية المعجزة، وهكذا بالنسبة للمجاز فهو عند البلاغيين نوعان، لأنه في القرآن نوعان: مجاز لغوي ومجاز عقلي، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا تتعدى حدود التقسيم العام، أو هي جزئيات تابعة لكلي المجاز باعتباره عقليا أو لغويا.
هناك بعض الإضافات والمسميات عند القدامى تجاوزت هذا التحديد في نهجه البلاغي، نعرض إليه ونردّه إلى أصوله:
هناك مجاز الحذف عند سيبويه (ت: 180هـ) وعند الفراء (ت:
207 - هـ) أورداه على سبيل الاتساع في الكلام كأخذ المضاف إليه إعراب المضاف (1).
وقد مثلوا له بقوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} (2). وقد أضاف عز الدين ابن عبد السلام (ت: 660هـ) نوعين للمجاز سمّى الأول مجاز التشبيه، وهو التشبيه المحذوف الأداة، وأوضح رأيه هذا بقوله:
«العرب إذا شبهوا جرما بجرم، أو معنى بمعنى، أو معنى بجرم، فإن أتوا بأداة التشبيه كان ذلك تشبيها حقيقيا، وإن أسقطوا أداة التشبيه كان
__________
(1) ظ: سيبويه، الكتاب: 1/ 212. الفراء، معاني القرآن 1/ 363.
(2) يوسف: 82.(1/69)
ذلك تشبيها مجازيا» (1).
والثاني: مجاز التضمين، وهو أن تضمن اسما معنى اسم لإفادة معنى الاسمين، فتعديه تعديته في بعض المواطن (2).
ولقد قسم القزويني المجاز إلى مفرد وإلى مركب، والمفرد إلى لغوي وشرعي وعرفي، والمركب وهو التمثيل على سبيل الاستعارة إلى مرسل واستعارة (3).
وهنا نعقب على هذه الإضافات ناظرين أصول المجاز في التقسيم.
فأما مجاز الحذف فشأنه كشأن مجاز الزيادة، والأول أشار إليه سيبويه والفراء، وقد أفاد من هذه التسمية القزويني (ت: 739هـ) فضم إليها مجاز الزيادة، وعقد لذلك فصلا في الإيضاح سمّاه: المجاز بالحذف والزيادة (4).
أما مجاز الحذف، فتسميته بالإيجاز هي اللائقة بالمقام، والإيجاز جار في القرآن مجرى المساواة والأطناب في موضعهما، ولا داع إلى تكلف القول في الآية {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} (5). إن حكم القرية في الأصل هو الجر، والنصب فيها مجاز، باعتبار أن المضاف محذوف، وأعطي للمضاف إليه حكم المضاف فأصبح منصوبا وحقه الجر أصلا.
وأما مجاز الزيادة، وقد مثلوا له بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (6)، على القول بزيادة الكاف، أي ليس مثله شيء، فإعراب «مثله» في الأصل هو النصب، فزيدت الكاف، فصار الحكم جرا، وهذا الجر مجازي على ما يصفون.
والذي أميل إليه أن لا زيادة في الاستعمال القرآني قط، بل هو من
__________
(1) عز الدين بن عبد السلام، الإشارة إلى الإيجاز: 85.
(2) المصدر نفسه: 74.
(3) ظ: القزويني، الإيضاح: 268. التلخيص: 293.
(4) ظ: القزويني، الإيضاح: 454، تحقيق: الخفاجي: 82.
(5) يوسف: 82.
(6) الشورى: 11.(1/70)
باب زيادة المعنى في زيادة المبنى، فإن العبارة لا تعطي دقتها ومرادها لو استعملت مجردة عن الكاف، ووجود الكاف وهو أداة للتشبيه في الآية قد نفى أن يكون لله ما يشبه به، وإذا لم نستطع أن نحصل على ما يشبّه به، فأنى يكون له مثيل أو شبيه فيكون المراد والله العالم ليس لما يمثل به مثيل، فمن باب أولى أن لا يكون له مثيل، وبهذا ينتفي فرض الزيادة جملة وتفصيلا.
ويبدو أن مسألة مجاز الحذف والزيادة قد سبقت القزويني بقرون إذ تعقب عبد القاهر (ت: 471هـ) فبالغ في إنكار هذا القول مجاز الحذف والزيادة، إذ لا يسمى كل حذف مجازا، ولا كل زيادة كذلك، إذ لم يؤد هذا أو ذاك إلى تغيير حكم الكلام (1).
وأما ما أضافه عز الدين فليس من المجاز عند البلاغيين، فمجاز التشبيه عنده هو التشبيه المحذوف الأداة، فيسمى تشبيها بليغا، أو هو جار على سبيل الاستعارة لو حذف المشبه به مع أداة التشبيه.
وأما مجاز التضمين، فليس من المجاز في شيء، بل هو إضافة معنى جديد للفظ لا علاقة لها بالنقل عن المعنى الأصلي، بل المراد به: إرادته وإرادة غيره بوقت واحد كقوله تعالى: {وَأَخْبَتُوا إِلى ََ رَبِّهِمْ} (2)، فإنه على ما قالوا تضمن معنى أنابوا مضافا إلى الإخبات، لإفادة الإخبات معنى الإنابة والإخبات معا.
وأما ما أبداه القزويني فلا يعدو كونه تفريعا على أصلي المجاز وهما المجاز العقلي واللغوي، فالمجاز المفرد يكون، عقليا ويكون لغويا، فالمفرد في المجاز العقلي ما كان جاريا على الكلمة بالإضافة إلى ما بعدها، وتكتشف بالإسناد، كقوله تعالى: {وَالضُّحى ََ 1وَاللَّيْلِ إِذََا سَجى ََ 2} (3) فكلمة «سجا» بالنسبة إلى اللّيل مجاز عقلي مفرد، والليل لا يهدأ، وإنما ينسب الهدوء فيه إلى غيره، ولما كان الليل زمانا لهذا الهدوء،
__________
(1) ظ: عبد القاهر، أسرار البلاغة: 383وما بعدها.
(2) هود: 23.
(3) الضحى: 21.(1/71)
عبر عنه ب «سجا» وسجا بمعنى هدأ وسكن وما شابه ذلك.
والمفرد في المجاز اللغوي هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب على وجه يصح مع قرينة عدم إرادته.
والمجاز المفرد على أقسام: لغوي، وشرعي، وعرفي، كالأسد في الرجل الشجاع مثالا للغوي، ومثال الشرعي لفظ «صلاة» إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء.
والعرفي نوعان: العرفي الخاص كلفظ «فعل» إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الحدث. والعرفي العام كلفظ (دابة) إذا استعمله المخاطب بالعرفي العام في الإنسان (1).
وأما المجاز المركب فهو اللفظ المركب المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه، أي: تشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور، لأمر واحد كما في قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللََّهِ وَرَسُولِهِ} (2).
فإنه لما كان التقدم بين يدي الرجل خارجا عن صفة المتابع له، صار النهي عن التقدم متعلقا باليدين مثلا للنهي عن ترك في الأتباع (3). وهذا جار في المجاز المرسل الذي هو جزء من المجاز اللغوي.
إذن ما أبداه القزويني في هذا التفريع يعود إلى الأصل في المجازين المذكورين ليس غير.
نعم هناك ادعاء مجاز جديد أرجأنا الحديث عنه إلى هذا الموضع من البحث، لأن لنا معه متابعة قد تطول، ولأن تشعباته وأنواعه كثيرة متشابكة، ولا بد لنا من الإشارة إليها جميعا لإثبات أنها ليست أنواعا جديدة على المجاز، ولا تخرج عن شقيه الأصليين العقلي واللغوي، هذا المجاز ذكره عز الدين بن عبد السلام (ت: 660هـ) وسماه «مجاز
__________
(1) ظ: القزويني، الإيضاح: 395تحقيق الخفاجي.
(2) الحجرات: 1.
(3) ظ: القزويني، الإيضاح: 438وما بعدها.(1/72)
اللزوم» (1)، ونحن نذكر أنواعه عنده ونعقب على كل نوع.
وقد أطنب في ذكر أنواعه وتعدادها، وبعد مدارستها وجدناها من أجزاء المجازين العقلي واللغوي، واشتمل بعضها على جزء من الكناية، وهو يرفض أن تكون الكناية من المجاز (2).
أما أنواع «مجاز اللزوم» فهي عنده (3):
1 - التعبير بالإذن عن المشيئة، لأن الغالب أن الإذن في الشيء لا يقع إلا بمشيئة الإذن واختياره، والملازمة الغالبة مصححة للمجاز، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمََا كََانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ} (4).
أي بمشيئة الله، ويجوز في هذا أن يراد بالاذن أمر التكوين، والمعنى «وما كان لنفس أن تموت إلا بقول الله موتي».
وهذا من المجاز العقلي، وعلاقته السببية كما هو واضح، أو أنه من المجاز المرسل باعتبار الإذن تعبيرا عن المشيئة وعلاقته السببية أيضا.
2 - التعبير بالإذن عن التيسير والتسهيل في مثل قوله تعالى: {وَاللََّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} (5).
أي بتسهيله وتيسيره. وهذا من المجاز اللغوي المرسل، وعلاقته السببية، أي بسبب من مشيئة الله تعالى وتيسيره وتسهيله.
3 - تسمية ابن السبيل في قوله تعالى: {وَابْنَ السَّبِيلِ} (6) لملازمته الطريق. وهذا من المجاز العقلي، ووجهه وعلاقته من باب تسمية الحال باسم المحل، وذلك لكونه موجود في السبيل.
4 - نفي الشيء لانتفاء ثمرته وفائدته للزومهما عنه غالبا في مثل قوله
__________
(1) عز الدين بن عبد السلام، الإشارة إلى الإيجاز: 79.
(2) المصدر نفسه: 85.
(3) المصدر نفسه: 8579.
(4) آل عمران: 145.
(5) البقرة: 221.
(6) البقرة: 177.(1/73)
تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} (1).
أي وفاء عهد أو تمام عهد، فنفى العهد لانتفاء ثمرته، وهو الوفاء والاتمام.
وهذا التعليل وإن كان واردا، ولكن المراد قد يكون والله العالم من باب الكناية، أي أن المشركين غدرة، فعبّر بعدم الوفاء بالعهد كناية عن الغدر الذي اتصفوا له، والكناية ليست من المجاز حتى عند المصنف رحمه الله.
5 - التجوز بلفظ الريب عن الشك، لملازمة الشك القلق والاضطراب، فإن حقيقة الريب قلق النفس، ومن ذلك قوله تعالى: {لََا رَيْبَ فِيهِ} (2) أي لا شك في إنزاله أو في هدايته.
وهذا والله العالم من باب الكناية، أي اطمأنوا للقرآن، ولا تقلقوا، ولا تضطربوا، فإن من شأن الريب القلق والاضطراب.
والريب مصدر من رابني، بمعنى الشك، وهو أن نتوهم بالشيء أمرا مريبا فينكشف الأمر عما تتوهم، وبمعنى الريبة، وحقيقتها: قلق النفس واضطرابها وعدم اطمئنانها، ومنه ما
أورده الزمخشري عن الإمام الحسن بن علي عليه السّلام أنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
، فإن الشك ريبة، وإن الصدق طمأنينة، أي فإن كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق له النفس ولا تستقر، وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له وتسكن» (3).
6 - التعبير بالمسافحة عن الزنا لأن السفح صب المني، وهو ملازم للجماع غالبا، لكنه خص بالزنا إذ لا غرض فيه سوى صب المني، بخلاف النكاح فإن مقصوده الولد والتعاضد والتناصر بالأختان والأصهار، والأولاد والأحفاد، ومثاله في قوله تعالى:
__________
(1) التوبة: 7.
(2) البقرة: 2.
(3) الزمخشري: الكشاف: 1/ 113.(1/74)
{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسََافِحِينَ} (1) أي: غير مزانين.
وهذا إن كان الأمر كما ذكر، فهو تعبير بالكناية المهذبة فقد ذكر المسافحة وأراد لازمها.
7 - التعبير بالمحل عن الحال لما بينهما من الملازمة الغالبة كالتعبير: باليد عن القدرة والاستيلاء، والعين عن الإدراك، والصدر عن القلب، وبالقلب عن العقل، وبالأفواه عن الألسن، وبالألسن عن اللغات، وبالقرية عن قاطنيها، وبالساحة عن نازليها، وبالنادي والندي عن أهلهما.
وقد ورد كل ذلك في القرآن الكريم.
وهذا كله قسيم بين المجازين اللغوي والعقلي في القرآن الكريم، وهما جوهر المجاز القرآني. فالتعبير باليد عن القدرة والاستيلاء، وبالعين عن الإدراك، وبالصدر عن القلب، وبالقلب عن العقل، وبالأفواه عن الألسن، وبالألسن عن اللغات، كله من المجاز اللغوي المرسل، باعتباره نقلا عن الأصل اللغوي بقرينة لإرادة المجاز، مع بقاء المعنى اللغوي على ماهيته، وإضافة المعنى الجديد إليه.
والتعبير بالقرية عن قاطنيها، وتوابع ذلك، كله من المجاز العقلي، فالقرية لا تسأل جدرانها بل سكانها، فيكون التقدير أهل القرية، وما استفيد هنا لم يكن بقرينة لفظية مقالية، وإنما بقرينة معنوية حالية، حكم بها العقل في الإسناد.
8 - التعبير بالإرادة عن المقاربة، لأن من أراد شيئا قربت مواقعته إياه غالبا، ومن ذلك قوله تعالى: {فَوَجَدََا فِيهََا جِدََاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقََامَهُ} (2).
وهذا من المجاز العقلي، فليس الجدار كائنا مريدا، ولا هو بقادر على هذا الفعل، وقد أدركنا بالضرورة العقلية، ومن سياق الإسناد الجملي، أن المجاز هو الذي أشاع روح الإرادة في الجدار، وكأنه يريد.
__________
(1) النساء: 24. المائدة: 5.
(2) الكهف: 77.(1/75)
قال أبو عبيدة: «وليس للحائط إرادة، ولا للموات، ولكنه إذ كان في هذه الحال من ربّه فهو إرادته» (1).
9 - التجوز بترك الكلام عن الغضب، لأن الهجران وترك الكلام يلازمان الغضب غالبا، ومنه قوله تعالى: {وَلََا يُكَلِّمُهُمُ اللََّهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَلََا يُزَكِّيهِمْ} (2).
وهذا والله العالم تعبير بالكناية، ولا علاقة له بالمجاز، فعبّر بعدم الكلام عن الغضب والانتقام والمجازاة.
10 - التجوز بنفي النظر عن الإذلال والاحتقار، كقوله تعالى: {وَلََا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ} (3).
وهذا من الكناية أيضا للتعبير عن ازدرائهم، وعدم رضاه عنهم، وليس لله جارحة فينظر بها إليهم، فهو بصير بغير عين، وسميع بغير أذن، وهو على العكس من قوله تعالى:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ 22إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ 23} (4) فهؤلاء قد أنعم الله عليهم بنضرة النعيم، فنظروا إلى رحمته ورأفته، وتطلعوا إلى حسن ثوابه ومجازاته، وتوقعوا لطف عنايته ورعايته، فكان ذلك نظرا إلى عظيم إحسانه، وكريم أنعامه، إذ ليس الله جسما، أو قالبا، أو مثالا، حتى ينظروا إليه، فعدم نظره تعالى إلى الكافرين متقارب من نظر المؤمنين إليه من جهة الكناية الهادفة.
وقد يكون ذلك مجازا مرسلا بإضافة عدم العناية والرعاية، وإرادة الاحتقار والإذلال، معنى جديدا إلى عدم النظر، وهو عكسه في الآيتين التاليتين.
11 - الحادي عشر: التجوز باليأس عن العلم، لأن اليأس من نقيض العلوم ملازم للعلم غير منفك عنه، كقوله تعالى:
__________
(1) أبو عبيدة، مجاز القرآن: 1/ 410.
(2) البقرة: 174.
(3) آل عمران: 77.
(4) القيامة: 2322.(1/76)
{أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشََاءُ اللََّهُ لَهَدَى النََّاسَ جَمِيعاً}. (1) فإن كان هذا مجازا فهو مجاز مرسل إذ أضاف معنى ثانويا للفظ اللغوي، أو هو والله العالم من قبيل استعمال الأضداد باللغة، فيأتي التيئيس بمعنى العلم، وبمعنى عدم العلم وانقطاع الأمل، وعلى هذا فلا علاقة له بالمجاز.
12 - التعبير بالدخول عن الوطء لأن الغالب من الرجل إذا دخل بامرأته أنه يطؤها في ليلة عرسها، ومنه قوله تعالى:
{وَرَبََائِبُكُمُ اللََّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسََائِكُمُ اللََّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ} (2).
وهذا من باب التعبير بالكناية المهذبة، وليس من المجاز في شيء، فاستعمل الدخول، وأراد لازمه وهو الوطء، تهذيبا للعبارة، وصونا للحرمات.
13 - وصف الزمان بصفة ما يشتمل عليه ويقع فيه كقوله تعالى:
{فَذََلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ 9} (3).
وهذا من المجاز اللغوي / المرسل، وهو من باب إسناد الفاعلية، أو الصفة الثبوتية للزمان لمشابهته الفاعل الحقيقي، فقد أسند العسرة إلى اليوم ووصفه بها، واليوم دال على زمن من الأزمان، ولا تستند إليه صفة الفاعلية إلا مجازا، وكأنه يريد فذلك يومئذ يوم ذو عسرة، تعبيرا عما يجري فيه من المكاره والشدائد، والله سبحانه هو العالم.
14 - وصف المكان بصفة ما يشتمل عليه ويقع فيها، كقوله تعالى:
{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} (4).
وهذا هو المجاز العقلي فيما يظهر لي، فالأمن لا يلحق بالبلد، وإنما بأهل البلد، وما قيل في قوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} (5)، يقال هنا.
__________
(1) الرعد: 31.
(2) النساء: 23.
(3) المدثر: 9.
(4) إبراهيم: 35.
(5) يوسف: 82.(1/77)
15 «وصف الأعراض بصفة من قامت به، كقوله تعالى: {فَإِذََا عَزَمَ الْأَمْرُ} (1)، والعزم صفة لذوي الأمر. وقوله تعالى: {فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ} (2) وصف التجارة بالربح، وهو صفة للتاجر».
وهذا من المجاز العقلي في الآيتين الكريمتين:
فالمراد من الآية الأولى والله العالم عزم ذوي الأمر على تنفيذ الأمر، فليس للأمر إرادة على العزم، وليس العزم مما يسند فعله إلى الأمر، وفي الآية الثانية: الربح مجازي فيها، ولا يراد به الزيادة على رأس المال في المتاجرة، والتجارة فيها مجازفة، فلا يراد بها المعاملات السوقية في شتى البضائع. وإنما المراد بالربح تحقيق المعنى المجازي منه بالفائدة المتوخاة في إنفاق الأعمار وعدم خسرانها، والمراد بالتجارة المعنى المجازي منها بالإثابة والمثابرة وصالح الأعمال، وهذا إنما يدرك بأحكام العقل من خلال إسناد الجملة، فهو هنا كما في الآية الأولى: مجاز عقلي.
16 - الكنايات كقول طرفة:
ولست بحلّال التلاع مخافة ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد
وقد أقر أن هذا من الكناية وعقب عليه بقوله:
«والظاهر أن الكناية ليست من المجاز، لأنك استعملت اللفظ فيما وضع له، وأردت به الدلالة على غيره، ولم تخرجه عن أن يكون مستعملا فيما وضع له» (3).
وبعد هذه الجولة مع توجيهات صاحب الإشارة إلى الإيجاز «فمجاز اللزوم» لا لزوم له، لأنه كما رأيت إما أن يكون خارجا من باب المجاز، وإما أن يكون تفريعا عن شقي المجاز، كما يبدو هذا من التعقيب على كل نوع من أنواعه.
__________
(1) محمد: 21.
(2) البقرة: 16.
(3) عز الدين بن عبد السلام، الإشارة إلى الإيجاز: 85.(1/78)
وهناك أقسام أخرى تدور في هذا الفلك أعرضنا عن إيرادها، لأنها لا تعدو القسيمين المجازيين.
4 - مجاز القرآن: عقلي ولغوي
بعد هذا العرض والتحقيق نتمكن أن نقول مطمئنين أن المجاز في القرآن قسمان: لغوي وعقلي. فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان بما يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأولي إلى معنى ثانوي جديد. والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل، وسبيل الفطرة من خلال أحكام طارئة، وقضايا يحكم بها العقل لدى إسناد الجملة. وسيأتي التحقيق في القسمين في موضعهما المناسب (1). والطريف أن نشاهد السكاكي (ت: 626هـ) منكرا للمجاز العقلي تارة ومثبتا له تارة أخرى (2).
وقد وافقه على ذلك القزويني (ت: 739هـ) وعدّه مجازا بالإسناد، وقد أخرجه من علم البيان، وأدخله في علم المعاني، متناسيا أن المجاز العقلي إنما يدرك بالإسناد بينما نجده معترفا به، ومعقبا لأقسامه وتشعباته بعد حين، مما يعني عدم وضوحه لديه (3).
وقد تابع هذا التّأرجح صاحب الطراز فقال:
«والمختار أن المجاز لا مدخل له في الأحكام العقلية، ولا وجه لتسمية المجاز بكونه عقليا، لأن ما هذا حاله إنما يتعلق بالأوضاع اللغوية دون الأحكام العقلية» (4).
وهذا الإخراج للمجاز العقلي لا يستند إلى قاعدة بلاغية، وتعارضه دلائل الأحوال، لأن المجاز العقلي هو طريق البلاغيين في الاستنباط، وسبيلهم إلى اكتشاف المجهول بنوع من التأول والحمل العقلي، ويتم ذلك
__________
(1) ظ: فيما بعد الفصل الرابع والفصل الخامس.
(2) ظ: السكاكي، مفتاح العلوم: 198194.
(3) ظ: القزويني، الإيضاح: 97وما بعدها.
(4) العلوي، الطراز: 1/ 25.(1/79)
بالاستجلاء لأحكام الجملة في التراكيب، وإن بقيت الكلمات على حقيقتها اللغوية دون تجوز. وإليه يميل الزركشي (ت: 794هـ) بعده المجاز العقلي هو الذي يتكلّم به أهل الصنعة بقوله عنه: «وهو أن تستند الكلمة إلى غير ما هي له أصالة لضرب من التأول، وهو الذي يتكلم به أهل اللسان» (1).
وقد كان عبد القاهر كما سنرى فيما بعد قد أولى هذا النوع من المجاز عناية فائقة، واعتبره كنزا من كنوز البلاغة، وهو مادة الإبداع عند الكاتب والشاعر، وسبيل الاتساع في طرق البيان، قال: «وهذا الضرب من المجاز على جدته كنز من كنوز البلاغة، ومادة الشاعر المفلق، والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان، والاتساع في طرق البيان، وأن يجيء بالكلام مطبوعا مصنوعا، وأن يضعه بعيد المرام، قريبا من الإفهام» (2).
وليس ملزما لأحد ما ذهب إليه بعضهم من أن المجاز العقلي من مباحث علم الكلام، وأولى أن يضم إليه، لأنه كما اتضح من تفصيلات عبد القاهر، وإشارات القزويني، يعد كنزا من كنوز البلاغة، وذخرا يعمد إليه الكاتب البليغ والشاعر المفلق والخطيب المصقع، وليس أدل على ذلك من أن القدماء استعملوه في كلامهم، وأن القرآن الكريم حفل بألوان شتى منه، وأن البلاغيين والنقاد أشاروا إليه وذكروا أمثلته، وإن لم يطلق عليه الإسم إلا مؤخرا على يد عبد القاهر. وهذا كله يدلّ على أن المجاز العقلي لون من ألوان التعبير، وأسلوب من أساليب التفنن في القول، ولا يخرجه من البلاغة إفساد المتأخرين له، وإدخال مباحث المتكلمين فيه عند تعرضهم للفاعل الحقيقي (3).
وقد كان سعد الدين التفتازاني (ت: 791هـ) موضوعيا حينما ردّ القزويني لإدخاله المجاز العقلي في مباحث علم المعاني فقال: «لأن علم المعاني إنما يبحث عن الأحوال المذكورة من حيث أنها يطابق بها اللفظ مقتضى الحال. وظاهر أن البحث في الحقيقة والمجاز العقليين ليس من
__________
(1) الزركشي، البرهان: 2/ 256.
(2) عبد القاهر، دلائل الإعجاز: 295تحقيق: محمود محمد شاكر.
(3) أحمد مطلوب، فنون بلاغية: 109.(1/80)
هذه الحيثية فلا يكون داخلا في علم المعاني. وإلا فالحقيقة والمجاز اللغويان أيضا من أحوال المسند إليه أو المسند» (1).
وأما المجاز اللغوي فلا يختلف اثنان بأنه الأصل الموضوعي للمجاز، ولما كان المجاز اللغوي كما أسلفنا ذا فرعين في التقسيم البلاغي، لأن مجاله رحاب اللغة في مرونة الاستعمال، وصلاحيتها في الانتقال من معنى مع وجود القرينة الدالة على المعنى الجديد لوجود المناسبة بينه وبينها، وتوافر الصلة بين المعنى الأولي والمعنى الثانوي، فإن كانت العلاقة المشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، فهو الاستعارة. ولا حديث لنا معها إلا لماما لأن التفريق الدقيق يقتضي رصدها بمفردها، لأنه حقيقة قائمة بذاتها، فهي استعارة وكفى، وإن لم تكن العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي هي المشابهة، فهو المجاز المرسل، وحديثنا عن المجاز اللغوي حديث عنه، وحديثنا عن المجاز القرآني سيكون مقتصرا عليه وعلى المجاز العقلي. لأننا قد وجدنا القرآن بحق قد استوعب نوعي المجاز العقلي واللغوي لدى التنظير، أو عند ما تستخرج جواهرها من بحره المحيط.
وسنقف عند هذين النوعين وقفة الراصد المتأني، بعد أن نعطي صورة واضحة بقدر المستطاع عن الخصائص الفنية في مجاز القرآن بعامة.
__________
(1) التفتازاني، المطول: 54.(1/81)
الفصل الثالث مجاز القرآن وخصائصه الفنية
1 - خصائص المجاز الفنية 2الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن 3الخصائص النفسية في مجاز القرآن 4الخصائص العقلية في مجاز القرآن(1/83)
1 - خصائص المجاز الفنية 2الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن 3الخصائص النفسية في مجاز القرآن 4الخصائص العقلية في مجاز القرآن
1 - خصائص المجاز الفنية
لا شك أن اللغة العربية الفصحى تتمتع بخصائص ومزايا بلاغية متعددة، تتمثل بالمعاني تارة، وإن حملنا المعاني على معاني النحو بخاصة، وبالبيان العربي تارة أخرى، ونريد به أركانه الكبرى كما سيأتي، وبجرس الألفاظ ومصطلحات البديع والمحسنات لفظية ومعنوية أحيانا إلا أن علم البيان بأركانه الأربعة: المجاز، التشبيه، الاستعارة، الكناية هو ملتقى هذه الخصائص، وعماد تلك المزايا.
فالمجاز بقسميه: العقلي واللغوي. والتشبيه بأسسه: المشبه، المشبه به، وجه الشبه، أداة التشبيه. والاستعارة بأصول الشبه الاستعاري:
الحسيين، العقليين، الحسي في المشبه والعقلي في المشبه به، وبالعكس، مضافا إلى أقسام الاستعارة، التمثيلية، والتصريحية، والمكنية والأصلية، والتبعية، الخ.
والكناية بتعبيرها المهذب، في أقسامها كافة، كناية الصفة، كناية الموصوف، كناية النسبة، وبارتباطها الفني والبلاغي في كل من التعريض والرمز.
هذه المفردات والتوابع والفروع والأقسام والأصناف المتشعبة المتطاولة، لو أردنا ربطها جميعا برباط واحد متميز، ولو حاولنا حصرها بفن من الفنون لكان ذلك المجاز بل المجاز وحده، إذ يصح إطلاقه بإطاره العام عليها، كما هي الحال عند الرواد من الأعلام لذلك فالمجاز يحتل الصدارة في إطار هذه الفنون، ويشكل الظل المكثف في أفياء هذه الخيمة البلاغية، حتى ليصح لنا أن نسمي لغتنا العربية بلغة المجاز بالمعنى الذي أشار إليه المرحوم الأستاذ العقاد بقوله: «اللغة العربية لغة المجاز،
لا لأنها تستعمل المجاز، فكثير من اللغات تستعمل المجاز كما تستعمله اللغة العربية، ولكن اللغة العربية تسمى لغة المجاز لأنها تجاوزت بتعبيرات المجاز حدود الصور المحسوسة إلى المعاني المجردة، فيستمع العربي إلى التشبيه فلا يشغل ذهنه بأشكاله المحسوسة إلا ريثما ينتقل منها إلى المقصود من معناه» (1).(1/85)
هذه المفردات والتوابع والفروع والأقسام والأصناف المتشعبة المتطاولة، لو أردنا ربطها جميعا برباط واحد متميز، ولو حاولنا حصرها بفن من الفنون لكان ذلك المجاز بل المجاز وحده، إذ يصح إطلاقه بإطاره العام عليها، كما هي الحال عند الرواد من الأعلام لذلك فالمجاز يحتل الصدارة في إطار هذه الفنون، ويشكل الظل المكثف في أفياء هذه الخيمة البلاغية، حتى ليصح لنا أن نسمي لغتنا العربية بلغة المجاز بالمعنى الذي أشار إليه المرحوم الأستاذ العقاد بقوله: «اللغة العربية لغة المجاز،
لا لأنها تستعمل المجاز، فكثير من اللغات تستعمل المجاز كما تستعمله اللغة العربية، ولكن اللغة العربية تسمى لغة المجاز لأنها تجاوزت بتعبيرات المجاز حدود الصور المحسوسة إلى المعاني المجردة، فيستمع العربي إلى التشبيه فلا يشغل ذهنه بأشكاله المحسوسة إلا ريثما ينتقل منها إلى المقصود من معناه» (1).
لذلك نميل إلى أن اللغة العربية دون سواها من لغات العالم تتميز بخصائص بلاغية، والبلاغة العربية وهي الأصل في البلاغة العالمية دون تأثير إغريقي أو أجنبي تتمتع بخصائص فنية، والمجاز في صيغته البيانية يحتضن كلا من الخصائص في اللغة والبلاغة معا، لأن أصل البلاغة المجاز، واللغة العربية لغة المجاز، فصغروية المقارنة بكبرويتها أوصلت إلى هذه النتيجة البديهية ضرورة كما هو تعبير المناطقة في استخلاص الحقائق وبرمجتها منطقيا في شئون الاستدلال قياسيا أو بديهيا.
ولا غرابة في هذا الملحظ الاستقرائي لطبيعة الأشياء، فالمجاز فن أصيل في لغة العرب، له مقاييسه الفنية، ومعاييره القولية عند العرب بخاصة، لأنه يعنى بإرادة المعاني المختلفة، وهم يميلون إلى هذا الموروث الحضاري، وهو يعنى أيضا بتقليب وجوه اللفظ الواحد لا في الأشباه والنظائر بل في المعاني الثانوية، فينتقل باللفظ من وضعه الأصلي المحدد له مركزيا، إلى وضع جديد طارئ عليه تجدده العلاقات الفنية، وهذا من أهم الخصائص التي يمتاز بها المجاز ويؤهله للتوسع في اللغة، وذلك بإضافة المعاني الجديدة إلى نفس اللغة بنفس الألفاظ مرتبطة بأصول بلاغية لا تخرجها عن دلالتها الأولى في جذورها اللغوية في أصل الوضع، بل تضيفها إليها توسعا بإرادة المعاني الثانوية هذه، ولا تكون هذه الإرادة إلا بمناسبة، ولا المعاني المستحدثة إلا بقرينة، وبذلك يتحدد الاستعمال المجازي وتتحدد دلالته أيضا بضوابط أساسية تدفع عنه النبو والارتجال، وتحفظه من الأغراب والابتعاد عن الذائقة الفطرية عند المتلقي، فقد يكون القمر وجها، والجبل وقارا، والغصن اعتدالا، والبان قواما، ولكن لا
__________
(1) عباس محمود العقاد، اللغة الشاعرة: 40.(1/86)
يكون القمر يدا، ولا الجبل وجها، ولا الغصن عينا، ولا البان فما، مراعاة المناسبة إذن ووضوح القرينة، مانعان من الخلط المرتجل، وضابطان من المجاز المشوه.
لهذا كثر استعمال المجاز في لغة العرب شعرا ونثرا وصناعة من أجل توظيفه في شئون الحياة الاجتماعية من جهة، ومن أجل إضافة مخزون تراثي متطور إلى لغتهم المتطورة من جهة أخرى فعمدوا إلى المعاني الرائعة فنظموها في معلقاتهم قبل الإسلام، ووقفوا عند الأغراض القيمة فصبوها بخطابتهم في الأسواق الأدبية الشهيرة، فكان للمجاز أثره في الإبداع، وللانتقال به إلى المعاني الجديدة بادرته في التجديد اللغوي والبلاغي في فن القول حتى عاد المجاز بحق معلما بارزا في تراثهم، بل ظلا شاخصا في حياتهم الأدبية، فهو عندهم معني بالثروة الاحتياطية للمعاني، والثورة الاحترازية للألفاظ. فالمجاز على هذا بخصائصه الفنية ثروة لغوية، وثورة فنية، هذه الثروة وتلك الثورة فيهما إشاعة روح اليسر والمرونة والسماح لتجاوز حدود الحقيقة اللغوية إلى ما يجاورها ويقاربها، أو ما يضاف إليها إمعانا في الابتكار، وصيانة للتراث من التدهور والضياع. ولقد كانت النقلة في خصائص المجاز الفنية، نقلة حضارية وإنسانية إلى مناخ أوسع شمولا، وأبلغ تعبيرا، وأوجز لفظا، والألفاظ هي هي في دلالتها الأولية.
هذه الحقائق متوافرة السمات في كلام العرب منذ عهد مبكر، ومصنفات الأعلام في المعلقات والأمالي والمنتخبات والحماسة غنية بأصول هذا الفن وبشائره الأولى في عصر ما قبل الإسلام وصدر الإسلام والعصر الأموي في الصناعتين.
فإذا وقفنا عند هذا المعلم في القرآن العظيم وجدناه من خلاله: يشيع الحياة في الجماد، والبهجة في الأحياء، والحس إلى الكائنات، ويحدب أيضا على سلامة الألفاظ في المؤدى، وتهذيب العبارة في الخطاب، وتنزيه الباري عن الأنداد، وصيانة ذاته عن الجوارح، وعلوه عن الحركة والمجيء والانتقال والتشبيه.
وهنا يقترن الغرض الفني بالغرض الديني، وذلك من خصائص التعبير المجازي في القرآن، فإذا استدرجته تذوقا نطقيا، أو تجاوبا سمعيا، علمت
مدى تعلقه بتهذيب المنطق، وإصلاح الأداء فلا زلل في اللسان، ولا فهاهة في النطق، ولا خشونة في الألفاظ.(1/87)
وهنا يقترن الغرض الفني بالغرض الديني، وذلك من خصائص التعبير المجازي في القرآن، فإذا استدرجته تذوقا نطقيا، أو تجاوبا سمعيا، علمت
مدى تعلقه بتهذيب المنطق، وإصلاح الأداء فلا زلل في اللسان، ولا فهاهة في النطق، ولا خشونة في الألفاظ.
خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم تنطلق من مهمته الإبداعية، ومن مهمته الإضافية للتراث، ومن مهمته التهذيبية للنفس، ومن مهمته التنزيهية للباري هذه المهمات وظائف أساسية في منظور المجاز القرآني، وهو مؤشرات صلبة تحدد لنا تحرير الألفاظ، وتوجيه المعاني في خصائص المجاز القرآني التي لمسناها في الأسلوب والنفس، ومظاهر الاستدلال العقلي، وعلى هذا فسنقف عند الخصائص الأسلوبية، والنفسية، والعقلية للمجاز القرآني فحسب، فهي بعمومها تشكل المناخ الفني لخصائص هذا المجاز، ذلك من تتبع مجالات الاستعمال في الأعم الأغلب من مجاز القرآن.
2 - الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن
خصائص المجاز اللغوية في القرآن الكريم، فضلا عن كونها خصائص فنية من وجه، ومؤشرات إعجازية من وجه آخر، فهي بمفهوم غير اعتباطي خصائص أسلوبية متطورة للموروث اللغوي. في المجاز تدرك مركزيا أن اللفظ هو اللفظ، لم يتغير ولم يتبدل حروفا وأصواتا وهيئة، والمعنى لهذا اللفظ ذاته هو المعنى نفسه لم ينقص عنه شيئا، إلا أنه قد ازداد معنى غير المعنى الأولي في دلالته الثانوية الجديدة حينما يراد به الاتساع إلى الاستعمال المجازي، وبتطور ذهني، وتصور متبادر إليه، من خلال السياق والإرادة والمغادرة المعنوية لأي لفظ من الألفاظ موقعة إلى موقع أرق، وحدث أكبر، فهو في حالته المثبتة في معجمه الاجتماعي لم يتغير معناه الحقيقي في استعماله الحقيقي، وإنما بقي على ما هو عليه، وقد كانت القرينة الدالة على المعنى الإضافي هي الصارفة عن المعنى الأولي إلى سواه في الاستعمال المجازي، سواء أكانت القرينة حالية أم مقالية.
هذا التركيب الجديد في العبارة في الألفاظ المفردة في المجاز اللغوي وفي العلاقات بين الألفاظ في المجاز العقلي، يستغني بها المتلقي
عن كل التراكيب المماثلة أو المخالفة في المعاني المرادة في البنية اللغوية، فالإيجاز خصيصة أسلوبية في هذا الملحظ، والتطوير خصيصة ثانية في هذا الأسلوب، فلا حاجة إلى إسناد جملي جديد يسد مسد التركيب المجازي في اللفظ المفرد الموضوع لأصل ونقل عنه تفريغا وتنويعا إلى معان مبتكرة، يستغنى بذكرها مفردة مجازية منها عن إنشاء آخر للدلالة على تلك المعاني.(1/88)
هذا التركيب الجديد في العبارة في الألفاظ المفردة في المجاز اللغوي وفي العلاقات بين الألفاظ في المجاز العقلي، يستغني بها المتلقي
عن كل التراكيب المماثلة أو المخالفة في المعاني المرادة في البنية اللغوية، فالإيجاز خصيصة أسلوبية في هذا الملحظ، والتطوير خصيصة ثانية في هذا الأسلوب، فلا حاجة إلى إسناد جملي جديد يسد مسد التركيب المجازي في اللفظ المفرد الموضوع لأصل ونقل عنه تفريغا وتنويعا إلى معان مبتكرة، يستغنى بذكرها مفردة مجازية منها عن إنشاء آخر للدلالة على تلك المعاني.
وقد يقال: وما هذا الالتواء في اصطياد المعاني المستحدثة من ذوات الكلم وأنفس الألفاظ، ولماذا لا نغير العبارة ونأتي بها على صيغتها في الأصل للدلالة على المعنى الأصل دون تجوز ومغادرة للدلالة المركزية في هذا اللفظ أو ذاك. وللإجابة عن هذه المقولة لا بد من التنويه بالحقائق المنهجية لمسيرة لغة القرآن العظيم، وهي لغة غير جامدة، تستمد معينها الثر من مواصفات أكثر عمقا من سطحية القول والافتراض الذي قد يجانب الواقع اللغوي لطبيعة هذه اللغة الكريمة.
كان العرب بفطرتهم النقية أئمة بيان لا شك في هذا، والبيان العربي ذو جذور معرفة في القدم والأصالة يتكون مجموعه من عشرات الآلاف من الألفاظ، ولو كررت الألفاظ نفسها لكان الكلام واحدا، والتفاوت في الجودة والامتياز متلاشيا، وإذا كان الكلام واحدا والتفاوت بين أبعاده مفقودا، لذهبت خصائص البيان الأسلوبية، ولأصبحت حالته متفردة، غير قابلة للتفاضل، وإذا تحقق هذا، فقد فقدت البلاغة العربية موقعها، والبيان العربي مميزاته، وحينما يكون المنظور إلى الفن القولي متساويا، فما معنى الإعجاز البياني واللغوي والبلاغي في القرآن الكريم، وما هي عائدية قوله تعالى في التحدي للبشرية جمعاء حينما يصرخ:
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمََّا نَزَّلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدََاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ 23} (1).
هذا التحدي قائم منصلتا على الإعجاز في القرآن ويعني هذا عجز الكائنات البليغة عن الإتيان ولو بسورة واحدة من جنس هذا البيان، وعدم
__________
(1) البقرة: 23.(1/89)
الإتيان من مثله دليل أصالة القانون البديهي بتفاوت درجات الكلام ومنازله، فكان القرآن أعلاها دون ريب، وكان معجزا بحق. ولو تساوى الكلام لانتهى الإعجاز، ولما كان الإعجاز باقيا كان بالضرورة تفاوت الكلام، وتفاوت الكلام إنما يتحقق بإيراد المعنى في طرق بيانية مختلفة، وسبل هذه الطرق واضحة، وركيزتها الأركان الأربعة: المجاز، التشبيه، الاستعارة، الكناية، والتشبيه والاستعارة جزءان من المجاز، والكناية تعني المعاني الثانوية بل معنى المعنى بالضبط، فأركان البلاغة الأربعة جميعا قائمة على المجاز بمعناه العام، وهو المراد. إذن الدلالة المجازية في الألفاظ، منحة إضافية تمثل مرونة اللغة في الانتقال، وتطورها عند الاستعمال. وهذه الدلالة تقوم بعملية تصوير فني موحية، بإضافة جملة من المعاني الجديدة التي تدعم الزخم اللغوي، وتؤنق في عباراته دون تكلف أو تعسف، أو اقتراض للمفردات من اللغات الأجنبية أو المجاورة، لأنها تعود بذلك غنية عن أية استدانة معجمية من أية لغة عالمية أو إقليمية، هذا التأنق في اختيار المعاني، وهذا الاكتفاء في مفردات الألفاظ، مما يتماشى مع مهمة البلاغة العربية في مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومما يتلاءم مع الخصائص الأسلوبية للمجاز في رفد المخزون الدلالي للألفاظ. لهذا فقد كان سليما ما قرره في هذا المجال صديقنا المفضال الدكتور عبد الله الصائغ من اعتباره المجاز «عبارة عن مغادرة المفردة لدلالتها المعجمية لتموين دلالة جديدة تسهم في الاتساع والتوكيد والادهاش» (1).
والمجاز بعد هذا: هو حلقة الوصل بين الذات المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة، وهذا بعينه هو التطور اللغوي في اللغة الواحدة ذات المناخ العالمي في السيرورة والانتشار. وهما سمة لغة القرآن.
وهنا يجب أن لا نتطرق في انطباق مفهوم المجاز وحقيقته
__________
(1) عبد الإله الصائغ، الصورة الفنية معيارا نقديا: 370.(1/90)
الاصطلاحية على صنوف التعبيرات اللغوية، حتى وإن أريد بها معناها الأصل، لأن ذلك مما يشوه حقيقة البيان، ودلالته البلاغية، ومما يحمّل الكلام كثيرا مما لا تحتمل طاقته التي تنهض به إلى مستوى التعبير الأدبي، فيعود ذلك تكلفا دون ضرورة إليه، وتمحلا، دون اتكاء البيان عليه، والتمحل والتكلف وسواهما من التعسف أحيانا مما ترفضه سجية النصوص الأدبية الراقية لا سيما في القرآن العظيم.
إلا أن ظاهرة هذا التكلف شائعة بين النحاة من جهة، وبين جملة من المفسرين من جهة أخرى، وقد تكون بينهما معا إذا كان المفسر نحويا أو النحوي مفسرا، وهذا مما يؤسف الوقوع فيه، والتمسك به، لأنه قد يتعارض بشكل وآخر مع الخصائص الأسلوبية لمجاز القرآن.
خذ مثلا قوله تعالى: {وَإِذََا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسََامُهُمْ} (1) فقد ذهب بعض الأساتذة المعاصرين: أنهم قالوا أن فيه إطلاق الكل على البعض، والمراد تعجبك وجوههم، لأن الأجسام لا ترى كلها، وإنما يرى الوجه فحسب، ولا أرى تأويلا أبعد من هذا التأويل عن روح الآية، فالجسم وإن كان لا يرى كله، فمن المستطاع أن يدرك الإنسان بنظرة ما عليه الجسم من جمال يبعث على الإعجاب، وقد لا تريد الآية: تعجبك وجوههم، ولكنها تريد يعجبك ما عليه أجسامهم من ضخامة، وما يبدو فيها من مظاهر النماء والقوة، وما عليه وجوههم من جمال ونضرة (2).
هذه الملحوظة وما قاربها، لا تخلو من وجه سديد فيما يبدو، إذ لا معنى للتكلف المفرط الذي يخرج النص عن ذائقته الفطرية، تصيدا لمعان قد لا تراد، ووجوه قد لا تستحسن، وعلاقات قد لا تستصوب.
وقد تنبه أستاذنا المرحوم الدكتور أحمد عبد الستار الجواري إلى هذا المأخذ فعالجه وأشباهه معالجة فاحصة، ونقده بأدب واتزان تأمين، فمسّ النحاة والمفسرين مسا رقيقا، وعاتبهم عتابا جميلا، وهو في معرض الحديث عن هذه البادرة مضافة إلى الاستعمال القرآني الدقيق فقال: «ومن
__________
(1) المنافقون: 4.
(2) أحمد أحمد بدوي، من بلاغة القرآن: 224.(1/91)
لطائف الاستعمال القرآني كثرة ورود المصدر وصفا إما على سبيل الإسناد خبرا، أو على سبيل النعت أو الحال. قال تعالى في سورة الإسراء:
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمََا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى ََ} (1).
وقال تعالى في سورة الكهف:
{فَعَسى ََ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهََا حُسْبََاناً مِنَ السَّمََاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً 40أَوْ يُصْبِحَ مََاؤُهََا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً 41} (2).
والمصدر في الآية الأولى خبر المبتدأ، وهم يزعمون أن اسم المعنى لا يخبر به عن اسم الذات فتأمل. وفي الآية الثانية خبر الفعل الناسخ.
وقال تعالى في سورة الفرقان:
{وَعِبََادُ الرَّحْمََنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} (3) يقول الزمخشري:
«هونا حال أو صفة للمشي، إلا أن وضع المصدر موضع الصفة مبالغة» (4).
ويعقب المرحوم الدكتور الجواري على هذه الظاهرة بقوله: «وهذا ديدن النحاة إذ أنهم يجنحون إما إلى التأويل بتقدير مضاف حتى يكون هو المصدر صالحا لوصف اسم الذات أو الإخبار عنه، وإما إلى تفسيره على صورة المبالغة والمجاز. على أن شيوع هذا الاستعمال ووفرته يشعران بأن التأويل والتقدير وصرف المعنى إلى المجاز والمبالغة أمور لا ضرورة لها ولا سبب، بل أنها قد تخرج العبارة عن المعنى الذي قصدت إليه» (5).
وقد يقترن الاستعمال الحقيقي بالتعبير المجازي في القرآن، لتأكيد حقيقة كبرى، وتصوير معلم بارز من معالم الأحداث المهمة، يشكل من خلالهما القرآن خصائص أسلوبية مميزة في العرض والأداء والتعبير، حتى
__________
(1) الإسراء: 47.
(2) الكهف: 4140.
(3) الفرقان: 63.
(4) الزمخشري، الكشاف 3: 103.
(5) أحمد عبد الستار الجواري، نحو القرآن: 7069.(1/92)
تعود تلك الخصائص ظاهرة لغوية معينة يؤيدها أسلوب القرآن المرة بعد الأخرى، وتمثلها في كتاب الله تعالى عند الآية، هذه الخصائص تتجسد بأبرز مظاهرها الفنية في إسناد الحدث إلى غير فاعله، وتحاشي ذكر المسبب في إيجاده، وكان القرآن في هذا وذاك يريد التوجه الجدي الحثيث منصبا إلى الحدث ذاته، والتفكير منحصرا في أبعاده، دون النظر في الفاعل والمبدع له، أنى كانت نوعيته وكيفيته، وهذا ما حدب على تصويره القرآن في مظهرين عظيمين حينما يتحدث عن يوم القيامة مثلا. المظهر الأدل في مجاله، الحقيقي وتعبيره الاستعمالي الأصل:
1 - يتحدث النص القرآني عن أحداث الساعة، والتزلزل الكوني في العالم عندها، والتغيير المفاجئ لمعالم الدنيا البصرية والحسية، فتجيء صفة الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول في عشرات الآيات بل مئاتها من القرآن، ولنقف عند سورة التكوير:
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ 1وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ 2وَإِذَا الْجِبََالُ سُيِّرَتْ 3 وَإِذَا الْعِشََارُ عُطِّلَتْ 4وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ 5وَإِذَا الْبِحََارُ سُجِّرَتْ 6وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ 7وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ 8بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ 9وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ 10وَإِذَا السَّمََاءُ كُشِطَتْ 11وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ 12وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ 13 عَلِمَتْ نَفْسٌ مََا أَحْضَرَتْ 14} (1).
وباستقراء هذه الآيات الأربع عشرة، نجد منها اثنتي عشرة آية قد بنيت أفعالها للمجهول، وطوي ذكر الفاعل فيها وهي:
كورت، سيرت، عطلت، حشرت، سجرت، زوجت، سئلت، قتلت، نشرت، كشطت، سعرت، أزلفت.
والقارئ للقرآن يدرك بالفطرة المودعة لديه، أن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى بقدرته، أو بأمره، أو بإرادته، أو بتوجيهه لملائكته في تنفيذ ذلك، فصدوره عنه لا شك في ذلك لأنه الجامع بين هذه الأشتات، والمنظم لهذه المتفرقات، أوجدها وأفناها وسخرها وأنطقها ورتبها، ولكن
__________
(1) التكوير: 141.(1/93)
الخصائص الأسلوبية لهذا النص لا تتعلق بمحدث هذه الأفعال وموجدها، وإنما العناية متجهة نحو الحدث، ولفت الأنظار حوله، والعناية به. لتكون العبرة أشد، واليقظة أعظم.
2 - وفي التعبير المجازي قد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي، تأكيدا على هذه الظاهرة، وكأن الفعل متلبس بالفاعل، وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل إليه ففعله، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول أو طول، أو ليس من شأنه ذلك بل المحدث غيره في كل من قوله تعالى:
أ {اقْتَرَبَتِ السََّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (1).
ب {يَوْمَ تَمُورُ السَّمََاءُ مَوْراً 9وَتَسِيرُ الْجِبََالُ سَيْراً 10} (2).
ج {إِذَا السَّمََاءُ انْفَطَرَتْ 1وَإِذَا الْكَوََاكِبُ انْتَثَرَتْ 2} (3).
د {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمََاءُ بِدُخََانٍ مُبِينٍ 10} (4).
وواضح أن الساعة لا تقترب تلقائيا، وأن القمر لا ينشق ذاتيا، وأن السماء لا تمور إراديا، وأن الجبال لا تسير اختياريا، وأن السماء أيضا لا تنفطر من نفسها، وأن الكواكب لا تنتثر بحالها، وأن السماء لا تأتي بدخان مبين بإرادتها. وإنما أضيف لها الفعل لتضخيم الحدث، وليتجه التفكير نحوه، فالفاعل الحقيقي هو غير ما أسند إليه الفعل، فالساعة تقترب حتما، والقمر ينشق قطعا، والسماء تمور وتنفطر وتأتي بالدخان مسخرة، والجبال تسير لا شك في هذا، والكواكب تنتثر من تلقاء نفسها، ولا يحتاج كل هذا إلى كبير أمر، فقد سخرها ربها لتلقي الحدث فهي صاحبته في مناخ قاهر لا عهد لها به، فتتطوع بهذه الأفعال بذاتيتها دون التلويح إلى الفاعل الحقيقي.
ومما يؤسف له حقا أن ينشغل أكثر المفسرين عن هذا الملحظ
__________
(1) القمر: 1.
(2) الطور: 109.
(3) الانفطار: 21.
(4) الدخان: 10.(1/94)
الدقيق، وهذه الظاهرة الأسولبية النموذجية إلى الخوض في تفصيلات الفاعل، وتأويل صدور الفعل عنه.
تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن، ونحن نوافقها في هذا العرض، لأنه من صميم منهجنا البياني:
«وقد شغل أكثر المفسرين والبلاغيين بتأويل الفاعل، عن الالتفات إلى اضطراد هذه الظاهرة الأسلوبية في هذا الموقف، مع وضوحها إلى درجة العمد والإصرار: وسرّها البياني دقيق جليل: فاطراد إسناد الحدث إلى غير محدثه، بالبناء للمجهول، أو الإسناد المجازي، أو المطاوعة، يدل على التلقائية التي يكون بها الكون كله مهيئا للحدث الخطير، وأن الكائنات مسخرة بقوة لذلك الحدث، فما تحتاج فيها إلى أمر، ولا إلى فاعل وفيه كذلك، تركيز الانتباه في الحدث ذاته، وحصر الوعي فيه، فلا يتوزع في غيره» (1).
3 - وإذا جئنا إلى الاتساع اللغوي في مجاز القرآن وجدنا ظاهرة أسلوبية شامخة، وفصل المجاز اللغوي في القرآن يؤكد هذه الظاهرة بجميع أبعادها في التجوز والاتساع والمرونة، وفيه غنية عن الإفاضة في هذا المدرك لأنه حافل بدلائل سلامة اللفظ اللغوي، وسيرورته في المعاني الجديدة التي لا تعامل الأصل باعتباره منسوخا أو مستغنيا عنه، بل هو هو وهو مضاف إليه هذا الاتساع.
تأمل في قوله تعالى: {وَاللََّهُ مُحِيطٌ بِالْكََافِرِينَ} (2) فإنك ستجد بيسر وسهولة كلمة «محيط» غير متخلية عن المعنى الأصل، ولكنها على الصعيد المجازي، تحمل دلالة بارزة جديدة، تتعدى معنى الإحاطة التقليدية، التي اعتاد السامع إدراكها مركزيا من اللفظ، فليست إحاطة تعالى هاهنا إحاطة مكانية، أو ظلية، أو جسمية، كإحاطة القلادة بالجيد، أو السوار بالمعصم، أو الخاتم بالبنان، وإنما هي إحاطة مجازية مطلقة عن حدود الإحاطات المتعارفة، وبديهي أن يراد بها إحاطة ذي القوة بمن ليس له
__________
(1) بنت الشاطئ، التفسير البياني: 1/ 85.
(2) البقرة: 19.(1/95)
قوة، وذي الحول بمن لا حول له، وكإحاطة ذي الشأن بمن لا يدانيه سيطرة وإعدادا، إذ لا يمكن أن تفسر هذه الإحاطة بالمكان، وإن استوعبت حدود كل مكان، لأن الله تعالى فوق حدود المكان، وإذا كان الأمر كذلك، ويبدو أنه كذلك، فلا بد من رصد هذه الظاهرة بهذا المدرك الاتساعي في التجوز باللفظ ذاته، وحمله على المعنى الذي أشار إليه الزمخشري (ت: 538هـ) في قوله: «والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به حقيقة» (1).
إن الذائقة الفنية في مثل هذه الظواهر تمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن، إذ تجدد القدرة الخارقة في كل نموذج آنف على استيحاء التلازم الذهني بين الأصل الحقيقي والفرع الاستعمالي لمناسبة ما في تنقله من معنى أولي إلى معنى ثانوي، وهو يهز المشاعر حينا، ويصون التراث حينا آخر، ويحدث ذلك عادة في وقت واحد وبتفكير جملي متحد. وهذا من خصائص الأسلوب المجازي في القرآن.
3 - الخصائص النفسية في مجاز القرآن
ليس أمرا سهلا، أن يساير النص الأدبي النفس الإنسانية، وليس هينا أن تتطلب النفس أيضا نصا أدبيا، فالنفس جموح لا تهدأ، وغروف لا تكبح، وشرود لا يسيطر عليها نص اعتيادي، أو فن قولي، دون أن تتمثل به أرقى مميزات الانجذاب التلقائي، والبعد النفساني المتوازن، فتقبل عليه النفس اشتياقا أو إيناسا، وتعزب عن سواه نفورا أو إيحاشا.
النص وجودته وحدهما يهيئان المناخ المناسب في النفس الإنسانية إقبالا على النّص أو عزوفا عنه. ومن ثم فالمجاز القرآني وهو ينقل اللفظ من صورة إلى صورة أخرى على النحو الذي يريده المصور، فإن أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ إلى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ منها في صيغتها الحقيقية. فأنت تستطيع في المجاز تكييف النص الأدبي نحو المعنى المراد، دون توقف لغوي أو معارضة من دلالة اللفظ
__________
(1) الزمخشري، الكشاف 1: 85.(1/96)
المركزية، وذلك بحسب ما تريده من إثارة النفس، أو إلهاب العاطفة، أو إذكاء الشعور في حالتي الترغيب والتنفير، وهما حالتان متعلقتان بالحس العاطفي لدى الإنسان، وناظرتان إلى الانفعالات الوجدانية في النفس الإنسانية.
أفي توجيه النفس نحو الترغيب تقف على «قاصرات الطرف» في حكايتها المجازية من قوله تعالى:
{وَعِنْدَهُمْ قََاصِرََاتُ الطَّرْفِ عِينٌ 48كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ 49} (1). والحدث حقيقي الوقوع بأبعاده التصويرية المتأنقة، ولكنك ترى ما في الوصف، والتعبير عن النساء بقاصرات الطرف وليس في طرفهن قصور، من التراصف البياني المرتبط بإثارة النفس للتعلق بمن تنطبق عليه هذه العبارة، أو تتحقق فيه هذه الأوصاف التي تطمئن إليها الروح الإنسانية وتهش لها الذات البشرية، ويتطلع إليها الخيال متشوفا مع نقاء الصورة، ولطف الاستدراج ورقة الترغيب المتناهي، فقد وصف نساء أهل الجنة بحسن العيون الناظرة إلى أزواجها فحسب عفة وخفرا وطهارة، دون التردد في النظر إلى هذا وذاك، وأضاف إلى هذا الملحظ التشبيه الحسي بالبيض المكنون على عادة العرب في وصف من اشتد حجابه، وتزايد ستره، بأنه في كن عن التبرج، ومنعة من الاستهتار.
ب وأما في التنفير، فتزداد النفس عزوفا، وتتوارى عن الصورة المتخيلة أو المتجسدة نفورا، حتى يبدو الاشمئزاز منها واضحا، والاستهانة بوخامتها متوقعا فضلا عن الهلع والرعب في صورة الهلع والرعب، والخوف والتطير في نموذج الخوف والتطير إذا حققت هذا أو ذاك الصورة الشديدة في التنظير المجازي، وإن شئت فضع يدك على الدلالة المجازية في إرسال الريح العقيم على عاد وهي (ما تذر من شيء أتت عليه) من قوله تعالى: {وَفِي عََادٍ إِذْ أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ 41مََا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلََّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ 42} (2).
سترى كيف ازدادت عندك الحالة المتصورة سوءا، وكيف نفر منها
__________
(1) الصافات: 4948.
(2) الذاريات: 4241.(1/97)
طبعك فرارا، فما هو شأن هذه الريح المشومة التي أسند إليها التدمير التام (ما تذر) وأسندت إليها الفاعلية في يسر ومطاوعة (أتت) حتى جاءت بعذاب الاستئصال. فما هي خصائص هذه الريح بهذه المطاوعة في التسخير للهلاك العام حتى عاد كل شيء (أتت عليه) كالورق الجاف المتحطم، نظرا لشدة عصفها، وسرعة تطايرها، وخفة مرورها.
وحديث النفس في مجاز القرآن ذو سيرورة وانتشار حتى عاد جزءا قويما من خصائصه الفنية دون ريب، وهو يتجلى في عدة مظاهر تقويمية يمكن الإشارة إليها بما يلي:
1 - في نماذج المجاز القرآني نجد دلالة ذات أهمية مشتركة بيانية ونفسية في آن واحد، يعبر في هذه الدلالة عن علاقة اللغة بالفكر، والفكر بالعاطفة، والعاطفة بالنفس.
في هذا الخصوص كثيرا ما يفجؤك المجاز القرآني وقد تعدى حدود اللغة إلى النفس، ومناخ الاتساع إلى الخيال، فهو طالما تجده يسند الإحساس إلى الجماد، فيصفه بالفاعلية، لتتوجه النفس إليه وينحصر الحدث به وكأنه فاعله، ويريك الحركة وهي دائبة في العوالم الصماء، فكأنها ناطقة تتكلم، فيصك بذلك أسماعا غير واعية، وآذانا غير صاغية، ويضفي ملامح القوة على ما لا قوة فيه، وكأنه رائد متمكن. وليس هذا وذاك إلا من مظاهر الخصائص النفسية في الأسلوب الذي يحرك الضمائر حينا ويهز المشاعر حينا آخر، ويبعث الخواطر سواهما، ولعله يريد بذلك أن يفجر روافد جديدة ذات إطار تجريبي في محاكاة غير المحسوس للمحسوس، ومماثلة الإدراك في غير المدرك كما هو في المدركات، لأن في ذلك انتقالا في الصورة إلى داخل النفوس وواقع الخبايا في النفس المعتبرة بما تضفيه المجازات القرآنية من أبعاد جديدة، ولعل خير ما يمثل هذا الاتجاه الحيوي التأمل في كل من قوله تعالى:
أ {وَضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كََانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهََا رِزْقُهََا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكََانٍ} (1).
__________
(1) النحل: 112.(1/98)
ففي هذا الأنموذج الأعلى عدة استعمالات مجازية تدور حول هذا الفلك من البيان العربي الصميم، ومهمته إذكاء الحفيظة في النفس لتلافي التقصير المتعمد في ذات الله، فقد وصف القرية بكونها آمنة مطمئنة، وقد علم بالضرورة أن الأمن والاطمئنان لا تتصف بهما مرافق القرية وجدرانها، وإنما يتنعم بهما أهلها وسكانها، فعبر مجازا عن طريق إطلاق اسم المحل وهو القرية على الحال فيها وهم الأهل والسكان.
وعبر عن الرزق بأنه يأتي والرزق ليست له حركة ولا إرادة في التنقل والقصد، وإنما الله تعالى هو الذي يسخر من يجلب الأرزاق، ويأتي بها وهو الرزاق ذو القوة المتين من كل مكان إلى هذه القرية، تعبيرا عن تنعمها وعيشها الرغيد، وذلك ما تهش إليه النفس، فكان الرزق دون عناء يقصدها سائرا عامدا متوافرا.
وهذا الوصف لهذا الهناء لا يمانع من الوعيد في إفنائه واستبداله بالعناء، فكلاهما من الصور النفسية:
ب {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمََالُهُمْ كَرَمََادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عََاصِفٍ} (1).
فستقف عند حقيقتين مجازيتين يرتبطان بشد النفس إليهما والوقوف بتأمل ويقظة وحذر عندهما:
الأولى: إسناد الاشتداد إلى الريح، لتهيئة المناخ النفسي لتلقي هذه الصورة، وحصر التفكير في كيفية هذه الريح ونوعيتها، فهي فاعلة متحركة، دائبة، متموجة، طاغية، مطاوعة، وليس للريح حول ولا طول في الملحظ التكويني، فلا هي مشتدة حقيقة ولا هي جارية واقعا، وإسناد هذا وذاك إليها كان بسبيل من المجاز، لأن تسخيرها بالله وحده، فلا إرادة للريح ولا طواعية، والمجاز هو الذي طوع هذه الحقيقة اللغوية، فأعارها مناخا جديدا، وكأن الريح قائمة، والجري على أشده، والحركة ذاتية.
الثانية: إسناد الفاعلية والصفة الثبوتية للزمان لمشابهته الفاعل
__________
(1) إبراهيم: 18.(1/99)
الحقيقي، فقد أسند عصف الريح إلى اليوم، وهو دال على زمان من الأزمان، ولا تستند إليه الفاعلية حقيقة إلا على نحو المجاز، وهو كذلك، وهذا أيضا مما نظر فيه إلى النفس ليخلص اتجاهها في تصور شدة ذلك اليوم، وعصف ذلك اليوم، وحديث ذلك اليوم، دون التفكير في الهوامش والجوانب الفائضة، فكأن المراد هو اليوم فنسب إليه العصف، فأقام اليوم مقام المضاف المحذوف في التقدير اللغوي الأصل، فهو يوم ذو عصف، إن صح ما تأولوه.
وقد يكون هذا الإدراك على سبيل التعبير عن شدة الأمر، وقيام العصف على أشده في ذلك اليوم، مما يهم الإنسان، فارتبط الحدث به نفسيا، فأسند إليه الفعل كما هي الحال في قوله تعالى:
{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدََانَ شِيباً 17} (1).
يقول الدكتور أحمد بدوي معلّلا هذه النسبة نفسيا:
«ولما كان يوم القيامة تملؤه أحداث مرعبة، تملأ النفوس هولا يتسبب عنها لشدتها الشيب، وكان هذا اليوم ظرفا لتلك الأحداث، صح أن يسند الشيب إليه» (2).
2 - وإذ يوصلنا إلى يوم القيامة، فإن التعبير المجازي عن هذا اليوم يزداد جلاء، فيعكس الحدث مقترنا بذلك اليوم، ومنسوبا إلى عوالمه الصامتة، وإذا بها ناطقة تتكلم، ومفصحة تعرب عما في الدخائل، ويتجلى هذا في كل من قوله تعالى:
{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبََارَهََا 4} (3).
والضمير عائد إلى متقدم لفظا ورتبة كما يقول النحاة، وتقدير الكلام عندهم: تحدث الأرض أخبارها، والحقيقة اللغوية أن يتحدث ذو النطق بآلته، وذو اللسان بأداته، لا الجماد بعجمته، فهل هو تمثيل يعني: أن ما
__________
(1) المزمل: 17.
(2) أحمد أحمد بدوي، من بلاغة القرآن: 223.
(3) الزلزلة: 4.(1/100)
يحدث في ذلك اليوم، وما يجري فيه من الشدائد الهائلة، والشدائد تثير الهلع في النفس، والمنظور هنا نفساني لا شك، والتغيير الكوني يؤكد الاهتمام المتزايد لدى الإنسان، بعد زلزلة الأرض، وإخراج الأثقال، وذهول الإنسان لتلك الأحداث الجديدة، فهو يتساءل في حيرة وعجب واستغراب: {وَقََالَ الْإِنْسََانُ مََا لَهََا 3} (1) فإذا أضفنا إليها السماوات بعوالمها، والأرض بكل مواقعها:
(يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار) هذه الكائنات كلها ناطقة بجمهرة من الأحداث، فهي تتحدث عنها، وتفصح عن أهوالها، كما يقال: رزء يعبّر عن كارثة، وخطب ينبي عن شدة، وليس الرزء معبرا حقيقة، ولا الخطب بمنبئ.
هذا المدرك المجازي يميل إليه الزمخشري بقوله: «والتحديث مجاز عن أحداث الله تعالى فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان» (2).
وهو الذي تميل إليه الدكتورة بنت الشاطئ:
«والذي نطمئن إليه، هو أن تحدث الأرض على الإسناد المجازي، فيه تقرير لفاعلية تستغني بها عن فاعل، وتأكيد للظاهرة الأسلوبية المضطردة في صرف النظر عمدا عن الفاعل الأصلي لأحداث البعث والقيامة. ثم لا يغيب عنا ما لهذا الصنيع البياني من قوة إثارة وإيحاء، فنحن نشهد صورة فنية معبرة، فنقول في إعجاب: إنها تكاد تنطق، والبيان القرآني المعجز لا ينطق الجماد فحسب، بل يجرد منه كذلك شخصية حية، فاعلة ناطقة، مريدة مدركة» (3).
ب إن ما سبق لنا القول فيه تؤكده أحداث القيامة، من قول كما في قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ 30} (4).
أو فعل وقوة كقوله تعالى:
__________
(1) الزلزلة: 3.
(2) الزمخشري: الكشاف: 4/ 276.
(3) بنت الشاطئ، التفسير البياني: 1/ 92وما بعدها.
(4) ق: 30.(1/101)
{إِذََا أُلْقُوا فِيهََا سَمِعُوا لَهََا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ 7تَكََادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ 8} (1)، أو شدة ناطقة فاعلة كقوله تعالى:
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السََّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ 1يَوْمَ تَرَوْنَهََا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمََّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذََاتِ حَمْلٍ حَمْلَهََا وَتَرَى النََّاسَ سُكََارى ََ وَمََا هُمْ بِسُكََارى ََ وَلََكِنَّ عَذََابَ اللََّهِ شَدِيدٌ 2} (2) وليست جهنم كائنا متكلما فتقول، وتستمع وتجيب، وإن كان ذلك غير بعيد إعجازا.
وليست النار جسما مريدا وفاعلا فنستمع لشهيقها أو هي تفور، أو تتميز من الغيظ.
وليس في القيامة إرضاع حتى تذهل المرضعة عن رضيعها، وليس هنالك وضع وولادة وإنجاب، حتى تضع كل ذات حمل حملها.
إن التعبير بالمجاز بمعناه العام هو الذي صور هذه الأحداث بهذه الصور المثيرة، وأبانها بهذه الهيأة الناطقة، وسيّرها بهذه الإرادة التامة، تنبيها للضمائر، وتوجيها للعقول، وتأثيرا على النفوس حتى تستعد لذلك اليوم الذي تنطق فيه جهنم، وتفور فيه النار حتى يسمع شهيقها، وحتى لتكاد تتقد من الغيظ وتنشق، ذلك اليوم الذي لو أرضعت فيه المرضعة لذهلت عن رضيعها، ولو توافرت فيه ذوات الأحمال لوضع أحمالها.
إذن هذه خصائص نفسية يحملها المجاز القرآني ويحتضنها تعبيره الفريد من أجل الإنسان. دربة منه على الحذر والاستعداد والتهيؤ التام.
ج وما يقال في ملحظ النطق والقول والقوة بالنسبة للنار يقال عينه بالنسبة للإيحاء إلى الأرض في قوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى ََ لَهََا 5} (3).
والقضية تصور في مدرك عقلي محض، فالوحي الإلهي هو الفعل الذي يكشف به الله للإنسان عن الحقائق التي تجاوز نطاق عقله (4).
__________
(1) الملك: 87.
(2) الحج: 21.
(3) الزلزلة: 5.
(4) ظ: د. جميل صليبا، المعجم الفلسفي: 2/ 570.(1/102)
وإذا كان الوحي فعلا متميزا، فهو صادر عن فاعل مريد، وهذا الفاعل المريد هو الله تعالى، إلى متلق ممتثل، فتعلقه في الأرض إذن تعلّق مجازي، إذ طريق الوحي هو التلقي، والأرض غير قابلة للتلقي. لهذا فالإيحاء في الآية عند الزمخشري مجاز لا يستثني بهذا شيئا قال:
«أوحى لها بمعنى أوحى إليها، وهو مجاز كقوله تعالى: (أن نقول له كن فيكون) وكقول الشاعر: أوحى لها القرار فاستقرت (1).
وأصل الوحي هو: الإشارة السريعة على سبيل الرمز والتعريض وما مجرى الإيماء والتنبيه على الشيء من غير أن يفصح به (2).
وقد يكون أصل الوحي في اللغة كلها الإعلام في خفاء (3). ومؤدى ذلك واحد، إذ الإشارة السريعة إعلام عن طريق الرمز، والرمز إيماء يستفيد منه المتلقي أمرا إعلاميا قد يخفى على الآخرين (4).
ولهذا فقد كان الراغب دقيقا حينما عرض لمصطلح الوحي وقسمه فيما تنبه إليه بين القابل له والمستعصي عليه، إلا أن يكون ذلك تسخيرا من قبل الله تعالى، فقال: «فإن كان الموحى إليه حيا فهو إلهام، وإن كان جمادا فهو تسخير» (5).
لهذا فقد ذهب الطبرسي (ت: 548هـ) إلى أن أوحى لها: أي ألهمها وعرفها بأن تحدث أخبارها من جهة تخفى (6).
والسياق إنما يقوم على قوة هذه الفاعلية في تصوير هول الموقف الذي يدهش له الإنسان فيقول في عجب وقلق ما لها؟ فاقتضى أن يأتيه
__________
(1) ظ: الزمخشري، الكشاف: 4/ 276.
(2) قارن بين ذلك في: الراغب، المفردات: 515. الطبرسي، مجمع البيان: 5/ 37.
(3) ظ: ابن منظور، لسان العرب: 20/ 258.
(4) ظ: المؤلف، ظاهرة الوحي والمستشرقون. «بحث» في كتاب: (المستشرقون وموقفهم من التراث العربي الإسلامي) وقائع المؤتمر العلمي الأول لكلية الفقه:
مطبعة القضاء، النجف، 1986م.
(5) الراغب، المفردات: 515.
(6) ظ: الطبرسي، مجمع البيان: 5/ 526.(1/103)
الجواب {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى ََ لَهََا 5} (1).
تحدث به الأرض نفسها تلقائيا، فالإيحاء هنا مباشرة، ليلائم إسناد التحدث إلى الأرض. وسر قوته في أنه كذلك (2).
3 - ومسايرة المجاز للنفس الإنسانية لا تقف عند حد معين، ولا تختص بأقوام دون آخرين، فالعبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومع هذا فقد نلتقط بعض الشذرات النادرة، والتحف الثمينة في هذه الظاهرة المتأصلة، ومن ذلك ما أورده تعالى في سورة الضحى من أقسام وإيمان كان للمجاز العقلي فيها نصيب متميز، كما في قوله: {وَالضُّحى ََ 1 وَاللَّيْلِ إِذََا سَجى ََ 2} (3).
وسيأتي إبراز المجاز الإسنادي الحكمي لهذه الآية في محلها من فصل «المجاز العقلي في القرآن» والمهم هنا أن نبين أن القرآن العظيم كما توجه لإثارة النفس عند الناس، فكذلك توجه لتهدئة النفس الإنسانية عند ذي أقدس نفس بشرية، وهو الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، وبذلك يستوعب المجاز القرآني، النفوس الاعتيادية والنفوس المقدسة الشريفة، وقد تنبهت الدكتورة بنت الشاطئ لهذا الملحظ ونحن نؤيدها فيه بحدود.
«المقسم به في آيتي الضحى، صورة مادية، وواقع حسي، يشهد به الناس تألق الضوء في ضحوة النهار، ثم يشهدون من بعده فتور الليل إذا سجا وسكن. ويشهدون الحالين معا، في اليوم الواحد، دون أن يختل نظام الكون، أو يكون في توارد الحالين عليه مما يبعث على إنكار، بل دون أن يخطر على بال أحد، إن السماء قد تخلت عن الأرض وأسلمتها إلى الظلمة الموحشة، بعد تألق الضوء في ضحى النهار.
فأي عجب في أن يجيء، بعد أنس الوحي وتجلي نوره على المصطفى صلى الله عليه وسلّم، فترة سكون يفتر فيها الوحي، على نحو ما نشهد من الليل الساجي يأتي بعد الضحى المتألق (4).
__________
(1) الزلزلة: 5.
(2) ظ: بنت الشاطئ، التفسير البياني: 1/ 97.
(3) الضحى: 21.
(4) بنت الشاطئ، التفسير البياني: 1/ 26.(1/104)
وهذا المناخ النفسي المتقلب بين الإيناس والإيحاش تؤيده قرائن الأحوال في إثارة توديع الله لنبيه من قبل المشركين، وما يصاحب هذا الإعلام المضاد من فزع وقلق وحزن، وما أعقبه بنزول السورة من فرح واغتباط وتطلع، فكانت الفترة بين إبطاء الوحي ونزوله، لم تكن عن ترك أو قلى، فكان الوحي كالضحى في تألقه وسطوعه، وانقطاعه كالليل في هدوئه وسكونه، وكلا الأمرين طبيعيان.
4 - الخصائص العقلية في مجاز القرآن
في التعبير القرآني بعامة قد يرد الظاهر، وهو ما لا يحتاج إلى كبير جهد في معرفته عادة، فإن تطلب جهدا، فمعالم اللغة تيسره، ومصادر الأثر تفسره، وقرائن الأحوال تكشفه. وقد يرد فيه من الإيحاء والتلويح ما يتخطى حدود الظاهر إلى ما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة، وأبعاد جديدة، فيد الله سبحانه، وعينه، ووجهه، وعرشه، وكرسيه، واستواؤه، ومجيئه، تعبيرات ذات ألوان وخطوط متعددة تضج بالحركة، وتشعر بالتمثيل، ولكنها تحمل أكثر من معناها الأولي دون ريب، وهذا الحمل مما يتطلب الكشف والإيضاح، ولقد شغل المفسرون بهذه الألفاظ وتوجيهها وذهبوا كل مذهب فيها، ولو أنهم اتجهوا نحو المجاز لوجدوا مهمة المجاز العقلية كفيلة بدرء الشبهات والوصول بهم إلى ميناء سليم بما تسخره من طاقات كاشفة وتهيئه من خصائص ثرة تستلهم هذا المناخ، وتسير إلى بيان هذا الاتجاه.
ولا تقف الخصائص العقلية عند هذا المنحنى فحسب، بل تتخطاه إلى شئون الخبايا التي تكتشف بالنظر العقلي، فتعالج أبعادها معالجة بناءة. وقد تتجاوز هذين الحدين إلى كل ما من شأنه الرصد العقلي أو إثارة العقل الإنساني بلحاظ ما، فتثير جوافره، وتنبه مداركه، فيتحرك عن جموده، ويتمرد على أغلاله، ليكون مستقلا بالإرادة والاعتبار والنظر.
1 - حينما يتجه التعبير القرآني إلى تنزيه الباري، وإفادة ديمومته غير المحدودة، فهو كائن قبل الكون، وخالد بعد الفناء، ومستمر في أمثولة البقاء، فهو حي لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، الباقي بعد فناء
الأشياء، والأزلي في كل تقلبات الأحوال نشاهد توالي التعبير المجازي في مثل هذه المظاهر، وهي معبرة عن الخلود حينا، وعن التنزيه حينا آخر، ووصفه بما عبّر عنه حقيقة لكان تجسيما، ولو أريد به ظاهره لكان تشبيها، ولو ترك وحاله لتعاورته الزمانية والمكانية وهكذا، وسيمر في فصل المجاز العقلي وفصل المجاز اللغوي، وما يشير إلى هذا الموضوع من وجوه أخرى، ونشير إليه هنا بما يدفع هذه الشبهات ويصفي حسابها، ففي كل من قوله تعالى:(1/105)
1 - حينما يتجه التعبير القرآني إلى تنزيه الباري، وإفادة ديمومته غير المحدودة، فهو كائن قبل الكون، وخالد بعد الفناء، ومستمر في أمثولة البقاء، فهو حي لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، الباقي بعد فناء
الأشياء، والأزلي في كل تقلبات الأحوال نشاهد توالي التعبير المجازي في مثل هذه المظاهر، وهي معبرة عن الخلود حينا، وعن التنزيه حينا آخر، ووصفه بما عبّر عنه حقيقة لكان تجسيما، ولو أريد به ظاهره لكان تشبيها، ولو ترك وحاله لتعاورته الزمانية والمكانية وهكذا، وسيمر في فصل المجاز العقلي وفصل المجاز اللغوي، وما يشير إلى هذا الموضوع من وجوه أخرى، ونشير إليه هنا بما يدفع هذه الشبهات ويصفي حسابها، ففي كل من قوله تعالى:
1 {وَيَبْقى ََ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلََالِ وَالْإِكْرََامِ 27} (1).
ب {كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ} (2).
ج {وَقََالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللََّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمََا قََالُوا بَلْ يَدََاهُ مَبْسُوطَتََانِ} (3).
د {تَجْرِي بِأَعْيُنِنََا} (4).
هـ {ثُمَّ اسْتَوى ََ إِلَى السَّمََاءِ فَسَوََّاهُنَّ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ} (5).
و {وَجََاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا 22} (6).
في هذه الآيات إطراء بالخلود تارة، وإشارة بالقوى والقدرة تارة أخرى، وإشعار بالعناية سواهما، وتشبث في الحركة والنقلة لمن حمل الأمر على ظاهره.
ولكن الموضوع ينقلب إلى تنزيه عن الصفات التي يتمتع بها الناس، والابتعاد عن المتعارف من الجوارح والأحداث وذلك على طريقة العرب في الاستعمال وسنن الكلام.
ففي الآيتين (أ، ب) أطلق الوجه باعتباره أشرف الأعضاء لمن يتصف بها وهي قابلة له، وأريد به هنا الذات القدسية دون إرادة التجسيم أو التركيب أو الكيفية أو المواصفات في الوجه وأجزائه، وهذا ما يفسره لنا
__________
(1) الرحمن: 27.
(2) القصص: 88.
(3) المائدة: 64.
(4) القمر: 14.
(5) البقرة: 29.
(6) الفجر: 22.(1/106)
المجاز مستندا فيه إلى العرف العربي من وجه، وإلى النظر العقلي من وجه آخر، أما العرف العربي فهو يطلق الوجه ويريد به الذات اتصفت بالوجه أو لم تتصف، باعتبار الوجه أشرف السمات الاعتبارية في حقائق الأشياء دون تصور جهة ما. وأما النظر العقلي فهو الدال على أن الباري فوق المحدثات والممكنات ولو كان له وجه حقيقة لكان محدثا أو ممكنا، وهو خلاف ذاته الأبدية والأزلية.
وفي الآية (ج) تتحدث الآية عن يد ويدين، وليس لنا أن نتصور اليد ذات الأصابع، أو اليدين في رسغ ومعصم وذراع، وإنما هو التعبير بكلا الموضعين دون النظر إلى الواحدة أو الاثنينية عن القوة والسيطرة والقدرة والاستيلاء حينا، وعن الكرم والجود والإفاضة حينا آخر، وذلك لوجود علاقة ومناسبة بين هذه الصفات وهذه الملكات وبين اليد أو اليدين، فإن مظاهر العدة والقدرة والمقدرة إنما تصدر عن اليد وبها يتجلى مدى الاستيلاء المطلق، وأن الفضل والنعمة والعطاء إنما تصدر عن اليد أيضا وبها يتبين نوع الكرم والإيثار، والعرب على عادتهم قد يعبرون بأن لفلان عليّ يدا، ويريدون نعمة ودالة حتى وإن لم تكن له يد حقيقة كأن كان مقطوع اليد مثلا، وكذلك الحال هنا، فليس لنا أن نتصور لله يدا بالمعنى الحقيقي، كما أنه تعالى ليس له عين في الآية (د) بالمعنى الحقيقي أيضا، فهو بصير دون عين، وسميع دون أذن، والمراد بالآية: أي تجري بمرأى منا، وبتسديد من رعايتنا، وبنظرة من عنايتنا، دون تصور العين الباصرة، وما يقال بالنسبة للآيات المتماثلة التي تنص على ذكر الجوارح.
وفي الآية (هـ) ثم استوى إلى السماء {الرَّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ََ 5} (1) تعبير مجازي يؤكد الخصائص العقلية في مجاز القرآن، للإشارة إلى الاستعلاء والسيطرة والتمكن النفوذ والحاكمية المطلقة على العوالم كافة علوية وسفلية، مرئية وغير مرئية، دون تصور جلوس أو مكان أو كرسي يقبل استواء الأجسام عليه، وقد تناسق الحديث عن الاستواء بما يقال عن معناه عند الشريف الرضي فقال: «أي قصد خلقها كذلك (أي
__________
(1) طه: 5.(1/107)
السموات)، لأن الحقيقة في اسم الاستواء الذي هو تمام بعد نقصان، واستقامة بعد اعوجاج، من صفات الأجسام، وعلامات المحدثات» (1).
وقد أورد في تعليل الاستواء السيوطي عدة وجوه لنفي التجسيم والكيفية يمكن النظر فيها (2).
وفي الآية (و) ينظر إلى المعنى بهذا المدرك، فذاته القدسية لا تدرك ولا تعين ولا ترى، وليست جسما متنقلا، يقبل الحركة والذهاب والمجيء، وإنما ذلك مجيء أمره، وتجلي عظمته، وإنزال قضائه، وإرصاد إرادته الكائنة، وكأنه قادم ومتمثل في تلك اللحظات الحاسمة بذاته المتعالية على سبيل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللََّهُ} (3).
والإتيان ليس شأنه، ولا قابل عليه، ولا منظور إليه في السير أو التحرك أو الاتجاه، وعائنة العباد خير جارية عليه، فلا مكان، ولا مشادة، ولا نقلة، ولا مجيء، ولا إتيان، بل هو التطور اللغوي الذي أعطى الألفاظ معانيها الإضافية.
وهو عند الزمخشري «تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قهره وسلطانه، بحال الملك إذا حضر بنفسه، وظهر بحضوره من آثار الهيبة السياسية ما لا يظهر بحضور عساكره ووزرائه» (4).
ولا أميل إلى هذا التمثيل إذ لا مقارنة بين رب الأرباب والعباد في وجه من الوجوه، بل أذهب فيه للمجازية على سنن كلام العرب، وأؤيد ما أورده أبو حيان بأن مجيء الله تعالى «ليس مجيء نقلة، والحركة عليه محال لأنها تكون من جسم، والجسم يستحيل أن يكون أزليا» (5).
2 - وحينما تكون الحقيقة القائمة أمرا حتميا، وكيانا مرئيا مع القدرة غير المتناهية، والخرق لعادات الأشياء ونواميس الطبيعة، يكون التجوز في
__________
(1) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 115.
(2) ظ: السيوطي، الاتقان: 3/ 15.
(3) البقرة: 210.
(4) الزمخشري، الكشاف: 4/ 253.
(5) أبو حيان، البحر المحيط: 8، سورة الفجر.(1/108)
القرآن قائما على أساس إضافة المعاني الجديدة لمن ليس شأنه أن يتصف بذلك، ولكنه ارتفع لذلك المستوى بالنظر العقلي بهذا التعبير الموحي، أو تلك الحركة من الألوان، تأكيدا على حقيقته، وكأنه كذلك، فالحياة توهب إلى الأرض كما وهب إلى الإنسان، وليس للأرض حياة، ولكن زهرتها ونضرتها، وحيويتها، وخضرتها، وازدهارها واهتزازها، كان على سبيل من الحياة، وكأن ذلك حياة في واقعه، وديمومة في الإيحاء بمقتضاه، وفي هذا الملحظ نقف عند كل من قوله تعالى:
أ {وَاللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَسُقْنََاهُ إِلى ََ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا كَذََلِكَ النُّشُورُ 9} (1).
ب {وَمِنْ آيََاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خََاشِعَةً فَإِذََا أَنْزَلْنََا عَلَيْهَا الْمََاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيََاهََا لَمُحْيِ الْمَوْتى ََ إِنَّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 39} (2).
ج {وَمِنْ آيََاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 24} (3).
ففي الآية (أ) ستجد الحياة قبال الموت بالنسبة للأرض، والحياة والموت لها غير حقيقيين ولكنهما مجازيين، وقد تجوز بهما النص القرآني لإعطاء صفة الحياة لمن لا حياة له، وذلك بإيجاد معالم الحياة من الزينة والاهتزاز والإنبات وإخراج الثمرات، فكان إضفاء صفة هذه المعالم على الأرض حياة لها، كما أن سلب هذه المظاهر موت لها، ذلك من أجل الاستدلال على الحقيقة الكبرى، وهي إحياء الموتى، وإثبات النشور عن طريق التمثيل والقياس البديهي العقلي، فكما كانت الأرض ميتة فأحياها، فهو يحيي الموتى بكمال القدرة، ذلك الإحياء بإرادة الكينونة المطلقة، وهذا الإحياء بإيجاد العوامل المسببة له، وكلا الإحياءين مصدره أمره الكائن.
والملحظ المدرك بهذا تنبيه العقل الإنساني وإثارة حوافزه من حناياه
__________
(1) فاطر: 9.
(2) فصلت: 39.
(3) الروم: 24.(1/109)
الخبيئة لتتيقظ عن طريق الاستدلال الفطري، فكما تحيا الأرض بعد موتها، يحيا الناس بعد موتهم سواء بسواء.
وفي الآية (ب) تتجلى عناية المجاز القرآني بتصوير هذه الظاهرة وتأكيدها بأمرين: إحياء الأرض وإحياء الموتى، وذلك بإيجاد العلاقة القائمة بين إحياء الأرض وهي موات، وإحياء الأجساد في البلى، فالقادر على هذا قادر على ذاك، فكل ما من شأنه أن يموت فالله قدير على إحيائه، والتحقيق العقلي والنظر عند العقلاء يقضيان بصحة هذه المعادلة، ولا يبعد أن ترصد الإشارة هنا إلى الطبيعة الأرضية والأصل التركيبي في جسم الإنسان لدى خلقه الإعجازي من طين، أو لدى بعثه من الأرض بعد تلاشي عناصره بعناصرها ورجوعها إلى أصلها الأول، ومن ثم فإنها تنشر وتعاد كما كانت أولا.
وفي الآية (ج) كان الاستدلال بلحاظ النظر الجدي في إراءته للبرق بين الخوف والطمع، وإنزاله للمطر من السماء فيحيي به الأرض، بعد موتها، على سبيل المثال ما بيناه فيما سبق من إضفاء صفة الحسّ والنبض والحياة على من يؤهل له، وإطلاق ذلك عليه تجوزا من أجل التعقل والتدبر والتفكر بآيات الله وحججه الدامغة.
ومجال القرآن في حججه البالغة، وتنزيلاته العقلية متواترة متكاثفة يقتسمها المجاز والحقيقة معا.
3 - وفي مقام الرد على المشركين، وتسفيه أحلامهم، والنعي على عقولهم المتحجرة، يقف المجاز مما يعبدون موقف المحكم للحس والوجدان لإبطال عبادتهم، وإثبات فساد أعمالهم، ففي قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْلِيََاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ 41} (1).
لمس الزمخشري أن الكلام قد أخرج بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز فكأنه يقول: وإن أوهن ما يعتمد عليه الدين عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون (2).
__________
(1) العنكبوت: 41.
(2) ظ: الزمخشري، الكشاف: 3/ 455.(1/110)
وهو استخراج دقيق فيما أحسب، إذ كما يتلاشى هذا الجهد الضائع الذي تبذله العنكبوت وهي تتخذ لها بيتا ليست له مقومات البيوت في الوقاية، ولا إحكامها في العمارة، فكذلك جهدهم بعبادتهم الواهنة، ولما كان أوهن البيوت هو بيت العنكبوت، فقد ثبت أن دينهم المخالف لعقيدة التوحيد هو أوهن الأديان وأعجزها، فعلق حمل الآية مجازا على قضية منطقية قياسية ذات طرفين صغروي وكبروي. ومن ثم كانت النتيجة: أن أوهن الأديان هو دينهم (1).
4 - وحين يريد المجاز القرآني تنبيه العقول، وتوجه المشاعر نحو الحدث بالذات، فإنه يشير إليه وحده ليثير الانتباه حوله، فيضفي صفة الفاعلية على غير الفاعل حينا، وسمة الإرادة على غير المريد حينا آخر، ويضيف ضجيج الحركة على غير المتحرك، فتقف خاشعا أمام الأسلوب القرآني وهو يستعمل صيغة الفاعل ويريد بها المفعول، وهو نوع من المجاز العقلي في علاقاته ووجوهه البيانية، ويتجلى ذلك في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرََّاجِفَةُ 6تَتْبَعُهَا الرََّادِفَةُ 7قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وََاجِفَةٌ 8أَبْصََارُهََا خََاشِعَةٌ 9يَقُولُونَ أَإِنََّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحََافِرَةِ 10أَإِذََا كُنََّا عِظََاماً نَخِرَةً 11قََالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خََاسِرَةٌ 12فَإِنَّمََا هِيَ زَجْرَةٌ وََاحِدَةٌ 13فَإِذََا هُمْ بِالسََّاهِرَةِ 14} (2).
فأنت أمام هذه الألفاظ: الراجفة، الرادفة، الحافرة، الخاسرة، الساهرة، وكلها بصيغة الفاعل مع أن الأصل أن تكون الأرض مرجفة لا راجفة، وأن التابعة مردّفة لا رادفة، وأن حفرة القبر محفورة لا حافرة، وأن الكرة خسر أصحابها، وأن الساهرة سهر أربابها، وعدول القرآن عن هذا الأصيل بمثل هذا الاطراد ظاهرة أسلوبية لا يهون إغفالها، قد يكون المراد وهي تتكرر في القرآن لفت النظر نحو الحدث بما له من طواعية وتلقائية مستغنيا فيه عن ذكر المحدث وهو الله تعالى، فالأرض راجفة وهي مرجوفة، والرادفة التابعة وهي مردوفة، وهكذا القول بالنسبة للحافرة والخاسرة والساهرة، فهنا طواعية تتمثل في أن ترجف الأرض ذاتها، وهنا
__________
(1) ظ: المؤلف، الصورة الفنية في المثل القرآني: 158.
(2) النازعات: 146.(1/111)
تلقائية تغني عن ذكر المحدث جل شأنه، بما أودع سبحانه في الأرض من قوة التسخير لما يريد لها، وهنا أيضا مباغتة، لا يدري معها الإنسان يوم القيامة، وتركيز للانتباه في أخذ الرجفة بحركة تلقائية، صائرة إلى ما سخرت له (1).
في هذا المناخ يتيقظ العقل، ويصحو الضمير، وتتحرك العواطف، مستفيدة العظة والعبرة والإقلاع عن الغي، وكل ذلك من خصائص المجاز العقلية، لأن فيه توجها للحدث ذاته كما في قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتََّى يَتَوَفََّاهُنَّ الْمَوْتُ (15)} (2) إذ اعتبر المتوفى هو الموت، والموت لا يتوفى، لأن المتوفى هو ملك الموت بأمر الله تعالى، وهو المتوفي الحقيقي «فنقل الفعل إلى الموت على طريق المجاز والاتساع، لأن حقيقة التوفي هو قبض الأرواح من الأجسام». (3) ولكنه طوى ذكر الفاعل الحقيقي في هذا المجال، تأكيدا على حقيقة الموت وطواعية حدوثه، فكأنه يحدث ذاتيا، ويقع تلقائيا، وفي ذلك كبح للنفوس، وتهيؤ للمدارك، وضبط للشهوات.
وما يقال هنا يقال بالنسبة لقوله تعالى:
7/: 9 (4) {وَمَنْ خَفَّتْ مَوََازِينُهُ فَأُولََئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمََا كََانُوا بِآيََاتِنََا يَظْلِمُونَ (9)} (4) فنسبة الخسران إلى النفوس، وإضافته إليها من المجاز العقلي، واستعمل له التنظير الحسي لتحريك العقل الإنساني من غفلته، فعمره بضاعة، ومراد البضاعة الربح، فمن تعرض لخسران هذه البضاعة حسيا، كمن خسر عمره وأضاعه عقليا، وقد نبه السيد الشريف الرضي على هذا الملحظ فقال:
«لأن الخسران في التعارف إنما هو النقص في أثمان المبيعات، وذلك يخص الأموال لا النفوس، إلا أنه سبحانه لما جاء بذكر الموازين
__________
(1) ظ: بنت الشاطئ، التفسير البياني: 1/ 116.
(2) النساء: 15.
(3) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 127.
(4) الأعراف: 9.(1/112)
وثقلها وخفتها جاء بذكر الخسران بعدها، ليكون الكلام متفقا، وقصص الحال متطابقا، فكأنه سبحانه جعل نفوسهم لهم بمنزلة العروض المملوكة، إذ كانوا يوصفون بأنهم يملكون نفوسهم، كما يوصفون بأنهم يملكون أموالهم. وذكر خسرانهم لأنهم عرضوها للخسار، وأوجبوا لها عذاب النار، فصارت في حكم العروض المتلفات، وتجاوزوا حدّ الخسران في الأثمان، إلى حدّ الخسران في الأعيان» (1).
ويبدو مما تقدم أن الخصائص العقلية في المجاز القرآني قد اتخذت صيغا مختلفة الأبعاد ولكنها الإرادة، فقد استوعبت مختلف الوجوه في الاستدلال العقلي إلى المعرفة العلمية القائمة على أوليات ضرورية تنتهي إلى نتائج حتمية، لها ما لهذه الأوليات من اليقين العلمي الثابت باعتبار أن المقدمات الضرورية تنتهي بداهة إلى نتائج ضرورية.
وقد تتخذ طابع درء الشبهات بإثبات الحقائق الناصعة فيما وراء التعبير الظاهري من إيحاء يتوصل إليه بالنظر العقلي في خرق عادات الأشياء ونواميس الكون.
وقد تكون تلك الخصائص مدعاة إلى التأثير الوجداني في التوجه نحو الحدث، وتصور تلقائيته لتنبيه العواطف، وصحوة الضمير.
كل هذه شذرات تلتقط في مخزون الخصائص العقلية لمجاز القرآن.
__________
(1) الشريف الرضي، تلخيص البيان: 142.
الفصل الرابع المجاز العقلي في القرآن(1/113)
الفصل الرابع المجاز العقلي في القرآن
1 - تشخيص المجاز العقلي في القرآن وعند العرب.
2 - المجاز العقلي في القرآن بين الإثبات والإسناد 3قرينة المجاز العقلي في القرآن 4علاقة المجاز العقلي في القرآن(1/115)
2 - المجاز العقلي في القرآن بين الإثبات والإسناد 3قرينة المجاز العقلي في القرآن 4علاقة المجاز العقلي في القرآن
1 - تشخيص المجاز العقلي في القرآن وعند العرب
المجاز العقلي هو الذي تتوصل إليه بحكم العقل، وضرورة الفطرة، وسلامة الذائقة، فيخلصنا من مآزق الالتباس، وشبهات التعبير، فتنظر إليه وهو يثير الإحساس مشخصا عقليا، وكأنك تراه، وتلمسه وهو يهز الشعور شيئا مدركا، وكأنك تبصره، طريقة استعماله تنم عن نتائج إرادته، ودلالته في الجملة تكشف عن حقيقة مراده، فالألفاظ فيه لم تنقل عن أصلها اللغوي، فهي هي تدل على ذاتها الوضعية بذاتها، والكلمات لم تجتز موضعها في اللغة إلى مقارب له أو مشابه، لا من قريب ولا من بعيد، لهذا يقتضي إزاحة الستار عن هذا المجاز لذائقة خاصة، وزيادة متبلورة، فليس في المفردات ما يدل على مجازية الاستعمال، وإنما يستشعر ذلك حسيا وعقليا معا عن طريق التركيب في العبارة، والإسناد في الجملة، فهو مستنبط من هيئة الجملة العامة، ومستخرج من تركيب الكلام التفصيلي دون النظر في لفظ معين، أو صيغة منفردة، وهذا ما يميزه عن المجاز اللغوي كما سترى، فهو إطار جديد، ونتاج جديد، بأسلوب جديد.
ويعود كشف هذا النوع من المجاز إلى عبد القاهر (ت: 471هـ) فهو مبتدعه ومبتكره من خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن الاصطلاحي، ومجازات العرب في أشعارها وتراثها، ويرجع الفضل فيه إليه في بيان أبعاده الحقيقية فهو رائده الأول كما يبدو لنا، وما يراه الدكتور طه حسين من ذي قبل (1).
__________
(1) ظ: طه حسين، مقدمة كتاب نقد النثر، لقدامة: 29.
ويسمي عبد القاهر هذا المجاز بعدة أسماء متعددة، تعود إلى معنى واحد، فحينما يسند اكتشافه إلى العقل السليم يسميه: مجازا عقليا، وحينما يتوصل إليه بحكم العقل يسميه: مجازا حكميا، وحينما يراه في الإثبات دون المثبت يسميه: مجازا في الإثبات، وحينما يظهر له من إسناد الجملة يسميه: إسنادا مجازيا أو مجازا إسناديا (1)، وقد نبه يحيى بن حمزة العلوي (ت: 749هـ) إلى فكرة ابتكاره وتشخيصه وتسميته، أسندها إلى عبد القاهر ليس غير، فقال:(1/117)
ويسمي عبد القاهر هذا المجاز بعدة أسماء متعددة، تعود إلى معنى واحد، فحينما يسند اكتشافه إلى العقل السليم يسميه: مجازا عقليا، وحينما يتوصل إليه بحكم العقل يسميه: مجازا حكميا، وحينما يراه في الإثبات دون المثبت يسميه: مجازا في الإثبات، وحينما يظهر له من إسناد الجملة يسميه: إسنادا مجازيا أو مجازا إسناديا (1)، وقد نبه يحيى بن حمزة العلوي (ت: 749هـ) إلى فكرة ابتكاره وتشخيصه وتسميته، أسندها إلى عبد القاهر ليس غير، فقال:
«اعلم أن ما ذكرناه في المجاز الإسنادي العقلي، هو ما قرره: الشيخ النحرير عبد القاهر الجرجاني، واستخرجه بفكرته الصافية، وتابعه على ذلك الجهابذة من أهل هذه الصناعة، كالزمخشري وابن الخطيب الرازي وغيرهما» (2).
وهذا التنبيه من صاحب الطراز في موقعه لأن من جاء بعد عبد القاهر قد استند إليه، ولم يزد عليه، بل بقي متأرجحا فيه بين عدة مداليل، وقد يلجأ إلى التطبيق عليه دون النظر في المفهوم، ولنأخذ بذلك نموذجين:
الأول في التعريف: فقد ذهب السكاكي أن المجاز العقلي هو:
«الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم لضرب من التأويل، إفادة للخلاف لا بواسطة وضع، كقولك: أنبت الربيع البقل، وشفى الطبيب المريض، وكسا الخليفة الكعبة، وهزم الأمير الجند، وبنى الوزير القصر» (3).
فالسكاكي هنا في مجال التعريف والتمثيل معا، لم يزد شيئا على ما حققه عد القاهر في التعريف حينما قال عن المجاز العقلي:
«وحدّه أن كل كلمة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه من العقل لضرب من التأويل فهو مجاز» (4).
__________
(1) ظ: عبد القاهر، دلائل الاعجاز: 227، أسرار البلاغة: 338.
(2) العلوي، الطراز: 3/ 257.
(3) السكاكي، مفتاح العلوم: 208.
(4) عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة: 356.(1/118)
الثاني في التطبيق: ووفق هذا الفهم للمجاز العقلي عند عبد القاهر تجد الزمخشري (ت: 538هـ) يخرج المعنى الكامل، مخرج المجاز في قوله تعالى:
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْلِيََاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ (: 29/: 41} (1).
فقد حملها على الإرادة المجازية في النظر العقلي، ناظرا التركيب الجملي دون اللفظ المفرد، من خلال تشخيص عبد القاهر للمجاز العقلي، فيتحدث عن الآية ويقول:
«أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز، فكأنه قال: وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون» (2).
وما دام عبد القاهر هو السبّاق لتشخيص المجاز العقلي، وما دام غيره، لم يزد عليه شيئا، فسيكون حديثنا منصبا حول ما أبدعه في هذا المضمار بالدرجة الأولى.
فلقد حقق عبد القاهر في المجاز الحكمي عنده، والعقلي عنده وعند من بعده، ورأى أن وراء الكناية والاستعارة في البيان مجازا آخر غير المجاز اللغوي، وهو المجاز الحكمي المستفاد من طريق العقل لدى استقراء الجمل في التركيب، والنظر في مجموعة المفردات المكونة للكلام، فهو يقول:
«واعلم أن طريق المجاز والاتساع إنك ذكرت الكلمة وأنت لا تريد معناها، ولكن تريد معنى ما هو ردف له أو شبيه، فتجوزت بذلك في ذات الكلمة وفي اللفظ نفسه.
وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أن الكلام مجازا على غير هذا السبيل.
وهو: أن يكون التجوز في حكم يجري على الكلمة فقط، وتكون الكلمة
__________
(1) العنكبوت: 41.
(2) الزمخشري، الكشاف: 3/ 455.(1/119)
متروكة على ظاهرها، ويكون معناها مقصودا في نفسه، ومرادا من غير تورية ولا تعريض.
والمثال فيه قولهم: نهارك صائم وليلك قائم، ونام ليلي، وتجلى همي، وقوله تعالى: {فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ: 2/: 16} (1).
وقول الفرزدق:
سقاها خروق في المسامع لم تكن ... علاطا ولا مخبوطة في الملاغم
وقد عقب على هذه النماذج بقوله:
«أنت ترى مجازا في هذا كله، ولكن لا في ذوات الكلم وأنفس الألفاظ، ولكن في أحكام أجريت عليها، أفلا ترى أنك لم تتجوز في قولك: «نهارك صائم وليلك قائم» في نفس «صائم» و «قائم» ولكن في أن أجريتهما خبرين عن الليل والنهار، كذلك ليس المجاز في الآية في لفظة «ربحت» نفسها، ولكن في إسنادها إلى التجارة. وهكذا الحكم في قوله:
سقاها خروق، ليس التجوز في نفس «سقاها» ولكن في أن أسندها إلى الخروق. أفلا ترى أنك لا ترى شيئا منها إلا أريد به معناه الذي وضع له على وجهه وحقيقته؟ فلم يرد بصائم غير الصوم، ولا بقائم غير القيام، ولا بربحت غير الربح، ولا بسقت غير السقي» (2).
فتشخيص المجاز العقلي إنما يتم بمعرفة الأحكام التي أجريت على الألفاظ في إسناد بعضها لبعض، والألفاظ بذاتها محمولة على ظاهرها لا تجوز فيها، واكتشف المجاز العقلي لدى اقترانها، وكان طريق ذلك العقل في حكمه على النصوص، إذا كان المجاز واقعا ومتحققا في الإثبات، وهو ما تبحثه الصفحات الآتية:
2 - المجاز العقلي في القرآن بين الإثبات والإسناد
بعد وضع اللمسات الأولية على تشخيص المجاز العقلي في القرآن،
__________
(1) البقرة: 16.
(2) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الاعجاز: 193.(1/120)
وعند العرب في الاستعمال والاستنباط، لا بد لنا من إجمال القول في أمرين مساعدين على اكتشاف المجاز العقلي في القرآن من خلال استعراض عبد القاهر لذلك في حالتي الإثبات دون المثبت، والإسناد في الجملة دون الألفاظ.
1 - ذهب عبد القاهر (ت: 471هـ) أن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من العقل، وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من اللغة (1).
ومسألة الإثبات والمثبت أشرنا إليها في كتابنا: «أصول البيان العربي»، وهنا نلخص ما أوضحناه هناك وما استجد لدينا في فهمها من خلال النظر في التنظير:
أحينما نمعن النظر في قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصََابِعَهُمْ فِي آذََانِهِمْ: 2/: 19} (2).
نرى أن الجعل هنا هو الوضع، والوضع حاصل على حقيقته، ولا مجاز فيه، باعتباره جاريا على الأصل، ولو تحقق فيه فرضا لكان مجازا لغويا ولا شاهد لنا معه، وإنما المجاز في الإثبات دون المثبت، ولما كان الجعل مثبتا دون ريب، وضعنا أيدينا على الإثبات، وهو في الآية الأصابع، لأن المراد بهذا الوضع من الأصابع: ذلك القدر المحدود من الأصابع الذي تستوعبه الآذان في الوضع، وهو عادة: الأنامل فحسب، والأنامل بعض الأصابع، وهنا تحقق المجاز في الإثبات، وهو الأصابع لإرادة الأنامل منها، لأن المثبت، وهو أصل الوضع حاصل على حقيقته اللغوية، وقد اكتشف في الإثبات عن طريق الإسناد وبحكم الدلالة العقلية، على أن هذا الانطباق في المجاز العقلي قد يصدق أيضا في المجاز اللغوي في هذا الملحظ بالذات، ويكون ذلك من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء (3).
ب وفي قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى ََ إِنََّا مُنْتَقِمُونَ} (4).
__________
(1) ظ: عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة: 344.
(2) البقرة: 19.
(3) ظ: المؤلف، أصول البيان العربي، رؤية بلاغية معاصرة: 45.
(4) الدخان: 16.(1/121)
نلحظ أن البطش واقع لا محالة، ومن قبل الله سبحانه وتعالى، فهو جار على حقيقته، وهذا هو المثبت، فالبطش إنما يقع حقيقة في اليد ذات الطول والقوة والتحطيم، فإذا أريد به المجازية نقلناه إلى المعنى الذي يصدر عادة من الجوارح، وهو هنا والله العالم ليس كذلك إذ لا يصدر عن يد، ولا يخرج من جارحة، فالله منزه عن الجوارح، بدلالة عقلية وهنا يأتي الإثبات محل الإشكال، فهو بطش لا كالبطش المعتاد، وانتقام لا كالانتقام المتعارف، وهو واقع دون شك، ولكن بغير الأدوات المعتادة، وإذا كان واقعا فالإثبات فيه حاصل، بل وأكثر من ذلك فقد أسند للبطشة الكبرى ليشمل جميع أصناف البطش، ويستوعب أشد نماذجه وأقساها، فهو كبير من كبير، وليس مما اعتاده البشر، ولا سمع به الناس، ويكفي في الدلالة على غير ذلك نسبته إلى ذاته القدسية (إنا منتقمون) لتأكيد صرامة هذا البطش، وقوة هذه الإرادة، دون استعمال الوسائل المعتادة في البطش البشري، بل فوق تصور الإنسان، بل وليس في مقدوره الإحاطة بكنهه المتطاول، وقد جاء في إثباته من الوعيد الصارم، والترهيب القاطع ما هو جلي عند أهل اللسان.
إن هذه الملاحظة لا يمكن أن تنسب إلى اللغة في دلالتها، وإنما يرجع فيها إلى العقل في إشارته وتوجيهاته في الحمل على الإرادة المجازية في النظر العقلي.
ج وقد تنقلب الحال فيقع المجاز في المثبت، وتكون الحقيقة في الإثبات، فمثال ما دخل المجاز في مثبته دون إثباته قوله تعالى:
{أَوَمَنْ كََانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنََاهُ وَجَعَلْنََا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النََّاسِ: 6/: 122} (1).
ويعقب عبد القاهر على ذلك، ويعده من باب المجاز اللغوي بناء على قاعدته السابقة: إذا وقع في الإثبات فالمجاز عقلي، وإذا وقع في المثبت فالمجاز لغوي، يقول:
«وذلك أن المعنى والله أعلم، على أن جعل العلم والهدى والحكمة
__________
(1) الأنعام: 122.(1/122)
حياة للقلوب على حد قوله تعالى: {وَكَذََلِكَ أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنََا} (1).
فالمجاز في المثبت وهو الحياة، فأما الإثبات فواقع على حقيقته لأنه ينصرف إلى أن الهدى والعلم والحكمة فضل من الله وكائن من عنده. ومن الواضح في ذلك قوله تعالى: {فَأَحْيَيْنََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا} (2) وقوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِي أَحْيََاهََا لَمُحْيِ الْمَوْتى ََ} (3). جعل خضرة الأرض ونضرتها وبهجتها بما يظهره الله تعالى فيها من النبات والأنوار والأزهار وعجائب الصنع حياة لها، فكان ذلك مجازا في المثبت من حيث جعل ما ليس بحياة حياة على النسبية، فأما نفس الإثبات فمحض الحقيقة لأنه إثبات لما ضرب الحياة مثلا له فعلا لله تعالى، ولا حقيقة أحق من ذلك (4).
ويتابع عبد القاهر تقرير حقيقة الفصل بين المجاز اللغوي والعقلي، بما يشبه الحكم القاطع الذي لا تردد معه، فيقول:
ومما يجب ضبطه في هذا الباب أن كل حكم يجب في العقل وجوبا حتى لا يجوز خلافه فإضافته إلى دلالة اللغة، وجعله مشروطا فيها محال، لأن اللغة تجري مجرى العلامات والسمات، ولا معنى للعلامة والسمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلا عليه وخلافه (5).
* * * 2ولما كان المجاز العقلي إنما يعرف باعتبار طرفيه، وهما المسند والمسند إليه، لأنه إنما يقع في الجملة، والجملة تعرف بالتركيب، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون إسنادها، لأنه ليس من باب اللفظ المفرد فينظر له بالاستعارة، ولا يرى في الكلمة المنقولة عن الأصل فينظر له في المجاز المرسل، وإنما هو مكتشف من الإسناد وما يؤول إليه المعنى في
__________
(1) الشورى: 52.
(2) فاطر: 9.
(3) فصلت: 39.
(4) عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة: 343وما بعدها.
(5) المصدر نفسه: 347.(1/123)
ضوئه، والإسناد يعرف بطرفيه، وهذان الطرفان في المجاز العقلي في القرآن لهما صيغ مختلفة تحدد بما يأتي:
أالطرفان حقيقيان: ولا علاقة لهما بالمجاز منفردين إلا بضم بعضهما إلى البعض الآخر كقوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقََالَهََا (2)} (1).
فإن الإخراج حقيقي، والأرض حقيقة، ولا مجاز بهما وحدهما، ولكن المجاز العقلي مستنبط من اقترانهما، وبإسناد الإخراج إلى الأرض، لأن المخرج حقيقة هو الله تعالى، وليس للأرض قابلية الإخراج، فلا إرادة لها، وفاقد الشيء لا يعطيه، فلما أسند لها الإخراج علمنا ضرورة بمجازية الاستعمال إسنادا بحكم العقل.
ب الطرفان مجازيان: نحو قوله تعالى: {فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ} (2).
فالربح هنا مجازي، ولا يراد به الزيادة على رأس المال في بيع البضائع، والتجارة هنا مجازية، فلا يراد بها المعاملات السوقية، وإنما المراد بالربح تحقيق المعنى المجازي منه بالفائدة وعدم خسران الأعمار، والمراد بالتجارة المعنى المجازي منها بالإنابة وصالح الأعمل.
ونظير هذا المجاز العقلي في طرفيه المجازيين كثير في القرآن الكريم، ومن أبرز مظاهره في مثالين بآية واحدة قوله تعالى: {أُولََئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلََالَةَ بِالْهُدى ََ فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ وَمََا كََانُوا مُهْتَدِينَ (16)} (2).
فالشراء هنا مجازي، ولا يراد به إجراء العقد في إنجاز صفقات البيع، والضلالة وإن كانت حقيقة، إلا أنها ليس مما يشترى بالهدى، ولا مما يباع به، وكلا الإسنادين مجازي، وبقية الآية تقدم فيها الكلام.
وكذلك قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} (4).
ج الطرفان مختلفان كقوله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهََا كُلَّ حِينٍ} (5).
__________
(1) الزلزلة: 2.
(2) البقرة: 16.
(4) البقرة: 90.
(5) إبراهيم: 25.(1/124)
فإن نسبة إيتاء الأكل إلى الشجرة مجازية، لأن المؤتي هو الله تعالى، ولكن الأكل هنا حقيقة، وهو ثمرة الشجرة فكان أحد الطرفين مجازيا والثاني حقيقيا.
وعليه يحمل قوله تعالى في نموذجين مختلفين بآية واحدة، وهو قوله تعالى:
{بَلى ََ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحََاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ (81)} (1).
(فكسب) و (أحاطت) كلاهما مجازان، و (سيئة) و (خطيئة) كلاهما حقيقيان، ونسبة الكسب إلى الإنسان في السيئات مجازية، لأن السيئات ليس مما يكتسب به الإنسان حقيقة، ولا هي قابلة لهذا الاعتبار، إلا أنها استعملت ونسبت عقليا بحكم الإسناد، وكأن صاحبها قد عمل فكان كسبه خسرانا لأن نتيجة هذا الكسب هو السيئات، وكذلك الحال بالنسبة لإسناد الإحاطة بالخطيئة، فالإحاطة تتطلب مكانا ومحلا يمكن الاستدارة عليه كإحاطة الخاتم بالإصبع، أو السوار باليد، أو السجن بالسجين، وهكذا، فكان الأول مجازا والثاني حقيقة، واكتشف المجاز العقلي من اقتران الطرفين.
3 - قرينة المجاز العقلي في القرآن
وانتشار المجاز العقلي في القرآن يوحي بأصالة كنهه البلاغي دون ريب في نص هو أرقى النصوص العربية على الإطلاق، وهو وإن كان متعلقا بالإسناد الجملي لا بألفاظ مجردة، ولكن لا بد من قرينة تدلنا على إرادة الاستعمال المجازي دون الحقيقي، وقد قسموا هذه القرينة الدالة على ذلك إلى:
(1) قرينة لفظية، وتستفاد من إطلاق اللفظ فتدرك بها موضع المجاز باعتبارات لفظية تنطق بها الكلمات، حتى أنك بعد التحقيق لا يخامرك شك في إرادة المجاز، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن الكريم:
__________
(1) البقرة: 81.(1/125)
أقوله تعالى: {وَقِيلَ يََا أَرْضُ ابْلَعِي مََاءَكِ وَيََا سَمََاءُ أَقْلِعِي} (1).
لقد عبر سبحانه وتعالى عن إرادته في الكينونة المطلقة، على سبيل المجاز ب «قيل» وإنما هي أمر كائن لا محالة، وكانت قرينة هذا المجاز خطاب من لا يعقل، وهو الجماد الذي لا يخاطب «يا أرض» و «يا سماء» إذ هو ليس مما يعي الخطاب، أو يدرك الأمثال، فكان ذلك قرينة لفظية في دلالة هذا المجاز العقلي.
ولك أن تقول أن الله قادر على أن يخاطب الجماد، ويجيب ذلك الجماد، فيكون ذلك على سبيل الحقيقة، وحتى لو حصل هذا على سبيل الإعجاز، فلا مانع منه، ويبقى المدرك مجازيا لأنه في العموم خطاب لمن لا يعقل ولا يجيب ولا يسمع ولا يتكلم، وإن سمع وأجاب وامتثل على سبيل الإعجاز.
ب وفي قوله تعالى: {فَوَجَدََا فِيهََا جِدََاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقََامَهُ قََالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} (2).
يتجلى المجاز العقلي مستشرفا إذ الجدار ليس كائنا ذا إرادة، ولا هو بمريد شأن من يريد في الفعل أو الترك، ولكنه البعد المجازي الذي وهب الحياة للجماد، وأشاع الحسّ في الكائنات، وكذلك التعبير الموحي الذي أضفى صفة من يصدر عنه الفعل على من لا يصدر عنه الفعل، وحقيقة من يريد على من لا يريد في الأصل. وكانت قرينة هذا المجاز إرادة هذا الجماد وهو لا يريد.
وتلك طريقة العرب المثلى في هذا المنظار، وأنشدوا للحارثي: (3)
يردّ الرمح صدر أبي براء ... ويرغب عن دماء بني عقيل
فإرادة الرمح ورغبته هنا كإرادة الجدار في الآية سواء بسواء.
قال أبو عبيدة: «وليس للحائط إرادة، ولا للموات، ولكنه إذا كان
__________
(1) هود: 44.
(2) الكهف: 77.
(3) ظ: أبو عبيدة، مجاز القرآن: 1/ 410، ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 133.(1/126)
في هذه الحال من ربه فهو إرادته» (1).
وأنشد أبو زكريا الفراء (2):
إن دهرا يلف شملي بسلمى ... لزمان يهم بالإحسان
فأنت ترى في هذه النماذج الإرادة والرغبة للرمح، والهم بالإحسان للزمان، كما شاهدت في الآية إرادة الجدار.
ولم تخرج هذه الألفاظ جميعها عن حقيقتها الأولى في اللغة، ولكنها خرجت إلى المجاز في الإسناد، والقرينة فيها جميعا هي التي أفادت مجازا عقليا دلت عليه قرينة مقالية، لأن الجدار في واقع الحال لا يريد، والرمح لا يريد ولا يرغب، والزمان لا يهم بالإحسان واقعا، وإن همّ به مجازا.
ج وفي هذا السياق يجب أن نلاحظ ما لاحظه ابن قتيبة (ت: 276 هـ) من ذي قبل، من أن هذه الأفعال ونظائرها ونعني بها أفعال المجاز كما في الأمثلة السابقة أفعال لا تخرج منها المصادر، ولا تؤكد بالتكرار، فلا تقول: أراد الحائط أن يسقط إرادة شديدة، فليس هذا من كلام العرب، فإذا جاء التوكيد بالمصدر علمت أن ذلك مبني على الحقيقة، والله تعالى يقول: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً (164)} (3) فوكد بالمصدر معنى الكلام، ونفى عنه المجاز. وقال (تعالى: {إِنَّمََا قَوْلُنََا لِشَيْءٍ إِذََا أَرَدْنََاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} (4)
فوكد القول بالتكرار، ووكد المعنى بأنما، فكان ذلك على سبيل الحقيقة لا المجاز (5).
وهكذا الحال فيما سبق مما أنشدوا، فلا يقال: «أراد الرمح صدر أبي براء إرادة قوية، ولا همّ الزمان بالإحسان هما مؤكدا.
* * * __________
(1) أبو عبيدة، مجاز القرآن: 1/ 410.
(2) ظ: العسكري، كتاب الصناعتين: 212، والبيت غير منسوب.
(3) النساء: 164.
(4) النحل: 40.
(5) ظ: ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 111.(1/127)
2 - قرينة غير لفظية، وتستفاد من الجملة باستحالة صدور ذلك الشيء من فاعله عقلا، وإنما يكون من أمره، وفي نطاق مقدوره ودائرته، وقد ورد ذلك في القرآن العظيم بأكثر من موضع، وتكرر وجوده في مختلف الجزئيات بأكبر من ملحظ:
أقوله تعالى: {وَجََاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} (1).
فالمجيء هنا لأمر الله وقدرته وقوته وإرادته، وليس لذاته القدسية، لأنه لا يوصف بالذات المتنقلة: القادمة أو الذاهبة أو المتحركة. تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وإنما هذا على سبيل من قوله تعالى: {فَإِذََا جََاءَ أَمْرُ اللََّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنََالِكَ الْمُبْطِلُونَ} (2).
وقوله تعالى: {يََا إِبْرََاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هََذََا إِنَّهُ قَدْ جََاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} (3)
وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلََائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} (4).
وهنا نكتة بلاغية جليلة، فالله سبحانه وتعالى كما لا يجوز عليه المجيء بالوجه الذي بيناه، فإن أمره لا يمكن أن يأتي أو يجيء إلا على وجه مجازي محض، فأمر الله تعالى يصدر، ولا يأتي، وينفذ ولا يجيء، ويطبق ولا يناقش، ولما جاء التعبير عنه بالقرآن بالإتيان تارة، والمجيء تارة أخرى، علمنا هنا من دلالة النص الفنية، وبذائقة فطرية خالصة أن تأكيد صدوره وكونه قدرا مقضيا، قد أكد بالإتيان والمجيء للتعبير عن حتمية وقوعه جزما، وتجسيد نفاذه فورا حتى شخص وكأنه قادم آت متمثل قائم.
ب وفي كل من قوله تعالى:
{الرَّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ََ (5)} (5).
__________
(1) الفجر: 22.
(2) غافر: 78.
(3) هود: 76.
(4) النحل: 33.
(5) طه: 5.(1/128)
{ثُمَّ اسْتَوى ََ إِلَى السَّمََاءِ} (1).
{ثُمَّ اسْتَوى ََ عَلَى الْعَرْشِ} (2).
مجاز عقلي تقتضيه ضرورة أن الله سبحانه وتعالى ليس قالبا حسيا، ولا مثالا مرئيا، ولا جسما متحركا يعرض للتنقل كأجسامنا، فاستواؤه هنا سيطرته وقدرته وإحاطته حتى لا يفوته شيء، كما يستوي صاحب الملك على أطراف مملكته، إذ ليس لمعنى الاستواء بالنسبة إليه تعالى تطبيق خارجي، أو مدرك وجودي ينطبق على ذاته القدسية، كانطباقه على استوائنا وسيطرتنا من إحكام للأمر، أو ضبط للشئون، بأسباب وحراس أو قوى وأجهزة مادية، وإنما ذلك بالنسبة للباري عزّ وجلّ فوق مدرك عقولنا إذ هو حقيقة تعبيرية عن الإحاطة المطلقة التي لا تفوتها الجزئيات غير المرئية، وتنظير للاستقطاب التام الذي لا يحتاج معه إلى مساعد أو معين أو موقّت، وتمثيل لاستيلائه على العوالم الكونية، والمكنونات العلوية والسفلية دون النظر في الوسائل والأسباب والمعدات، فيكفي أنه استولى على هذه الشئون بهذه الشمولية في سيطرة فعلية أفادها معنى الاستواء بالنسبة إليه، وهذا لا يمانع أن يكون لفظ العرش في الآيتين قد جاء على طريقة المجاز اللغوي في نقله عن الأصل، للدلالة على الملك المطلق غير المحدود مراعاة لإدراكنا المحدود في تصور العرش حينما يجلس عليه ذو الملك وهو في أطراف دولته، أو جالسا على سرير مملكته، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وما يقال هنا يقال بالنسبة لقوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَلََا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمََا} (3) وذلك بلحاظ لفظ «الكرسي» فالعرب في سنن كلامها أن تعبر عن مظاهر الحكم، وملامح الملك، وتوليه الأمور ب «الكرسي» وإن كان صاحبهما جالسا على الأرض، أو ليس لديه كرسي أصلا، فهو مستول على سرير الملك وكرسي الحكم، وهذا جار عند
__________
(1) البقرة: 29.
(2) الأعراف: 54.
(3) البقرة: 255.(1/129)
العرب إلى اليوم، وقد يشاركهم فيه جملة من العالم في الشرق والغرب بهذا الفهم وهذا التعبير ليس غير، وهم يريدون ما تريد الآية من الإطلاق لدى التبادر الذهني العام، إذ ليس لله كرسي يجلس عليه هذه صفته بالكبر والاستطالة والتوسع، ولكنه ترحيل باللفظ إلى المعنى المعبر عن مدى ملكه، واتساع مملكته، وترامي أطراف حكمه في المناحي السماوية والأرضية، والسياق القرآني يساعد على هذا الحكم العقلي، لنفي الجسمية والتشبيه والمكانية عنه عزّ وجلّ.
وهذه السعة المدركة عقليا بضم العبارة بعضها لبعض، لا تنافي أن يكون لفظ «الكرسي» بمفرده، من المجاز اللغوي، أو على سبيل الاستعارة، ليلتقي المجازان العقلي في العبارة، واللغوي في المفردة في التعبير عن تمكنه وسلطانه سبحانه وتعالى.
ج وفي قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلََانِ (41)} (1)، نلمس مجازا عقليا نستفيده لا بقرينة لفظية مقالية، بل بقرينة معنوية حالية، أدركها العقل، وسلّمت بها الفطرة من خلال أحكام الألفاظ في العبارة، وسياق الإسناد في التركيب، فالله سبحانه وتعالى لا يشغله أمر عن أمر، ولا يلهيه شأن عن شأن، فهو قائم لا يسهو، وإنما أراد بهذا التفرغ، التوجه نحو الثقلين توجه المتفرغ الذي لا يعنيه غير هذا الموضوع في الوقت الذي يدير فيه جميع العالم، ويستوعب جميع صنوف التدبير، وذلك على طريقة العرب في سنن الكلام لدى التعبير عن التهيؤ والجد والتشمير، فهو قاصد إليهم بعد الترك في فسحة الحياة ومحيط بهم الإمهال قبل الموت، لا أنه كان مشغولا ففرغ، أو في كائنة وانتهى منها، وإنما هو المجاز بعينه الذي أشاع روح الرهبة في الوعيد، وانتهى بأجراس النقمة في المجازاة، دون شغل أو عمل صارفين.
د وتبقى ميزة التعبير القرآني مقترنة بالأسلوب العربي المبين، في وضع المجاز بموضعه المناسب من الفن القولي، حتى يكتسب ذلك التعبير في مجازيته العقلية طائفة مشرقة من الاعتبارات الإيحائية، التي تلتصق
__________
(1) الرحمن: 31.(1/130)
بالمعاني الأصلية، أو هي مقاربة ومجاورة لها، كما هي الحال في استعمالات المجاز العقلي في القرآن، بما يتوصل إليه بقرينة ذهنية نصل معها إلى مناخ مجازيته الفعلية بما أضفته من مسلك دقيق قد لا تتوصل إليه إلا الأفهام الثاقبة، والطباع الرقيقة، كما في قوله تعالى: {وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذََاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمََا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)} (1).
فأنت ترى أن الفصل والهزل، وهما هاهنا وصفان للقرآن الكريم، والوصفية هنا قد تكون أدل على المعنى المراد من المصدرية، وذلك لأن الوصفية قد تغطي الدلالة الإيحائية مضافا إلى الدلالة المركزية بأن: هذا الوصف فضلا عن كونه مصدرا فهو مما يصلح أن يوصف به هذا الكتاب العظيم، فيكون التأكيد على جديته وحاكميته أرقى من خلال التعبير النافذ، فيكون ذلك ألصق به، والمراد منه أشد وضوحا من إرادة المصدر بمفرده، فاشتمل على المعنيين بوقت واحد، وهذا أبرز معلم من معالم الاستعمال المجازي في القرآن.
وقد عقب أستاذنا الجليل المرحوم الدكتور أحمد عبد الستار الجواري على هذا الملحظ الدقيق فقال مشيرا للنموذج القرآني الآنف:
«ولعل من أهم الأسباب التي ميزت أساليب العربية بمثل هذه المزية قدم اللسان العربي، وطول تداوله، وكثرة تصرفه في المعاني، بحيث تكتسب الألفاظ المفردة فيه معاني مضافة مجاورة، بعد لأي وطول إلاف، كأنها جزء من تلك المعاني الأصلية، أو قرين مقارن مساو لها في الدلالة، وذلك هو الذي يعبر عنه علماء البلاغة بقولهم في (المجاز العقلي) أنه:
إسناد الفعل أو ما هو بمنزلته (2).
وما يقال هنا يقال بالنسبة لقوله تعالى: {فَمََا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمََاءُ وَالْأَرْضُ وَمََا كََانُوا مُنْظَرِينَ (29)} (3). ومعلوم أن إسناد البكاء إلى السماء والأرض معا،
__________
(1) الطارق: 1411.
(2) أحمد عبد الستار الجواري، نحو المعاني: 124.
(3) الدخان: 29.(1/131)
وليس من شأن السماء البكاء، ولا من طبيعة الأرض أن تكون باكية، دلالة على إرادة الاستعمال المجازي عقلا، فالسماء على حقيقتها والبكاء على حقيقته وكذلك الأرض، ووصف السماء والأرض بأنهما يبكيان، أو نفي بكائهما كما في الآية، يقتضي أن هذا الإسناد ألصق في تصور الفجيعة، وأبلغ في تصوير النازلة، وذلك حينما أخذ هؤلاء على عجل دون أهبة أو استعداد.
ونظير هذا كثير في المجاز العقلي من القرآن.
4 - علاقة المجاز العقلي في القرآن
والمراد بعلاقة المجاز العقلي في القرآن هاهنا، وجه الاستعمال المجازي وسببه الداعي إليه، والركيزة المقتضية التي يستند إليها هذا المجاز، ولك أن تتجوز في ذلك فتقول: إنّ العلاقة هنا هي المسوغ الفني، أو المبرر الاستعمالي لهذه الصيغة المجازية دون الأصل الحقيقي.
ولقد توسع علماء البلاغة القدامى والمحدثين بالتبعية في إيراد مبررات هذه العلاقة، وتفننوا بالتقسيمات المضنية، وتعللوا بالتخريجات المنطقية تارة، والكلامية أخرى، والنحوية سواهما، حتى بلغوا بذلك حدّ الإفراط، مما ذهب برونق هذه العلاقة المتينة وبهائها، فبدلا من حصرها، وتسليط الأضواء على مضمونها، لجأوا إلى التفصيلات المملة، والأسماء المخترعة، فكانت السببية مثلا، والمسببية، والزمانية، والمكانية، والفاعلية، والمفعولية، والمصدرية وأضراب ذلك من نماذج علاقة المجاز العقلي.
وكانت: تسمية الكل باسم الجزء الذي لا غنى عنه في الدلالة على ذلك الكل، وتسمية الجزء باسم الكل، وتسمية المسبب باسم السبب، وتسمية السبب باسم المسبب، وتسمية الشيء باسم ما كان عليه، وتسميته باسم ما يكون عليه أو يؤول إليه، وإسناد الفاعلية أو الصفة الثبوتية للزمان، ووضع النداء موضع التعجب، وإطلاق الأمر وإرادة الخبر به، وإضفاء الفعل الحسي على الأمر المعنوي، والتغليب: بإعطاء الشيء حكم غيره، وأضراب ذلك من نماذج علاقة المجاز اللغوي المرسل.
ولا نريد أن نعيد هذا المعجم المشحون بنماذجه التطبيقية، إذ أفردناه فيما مضى بعمل بلاغي مستقل تابعنا فيه من سبق، فمن شاء فليرجع إليه ففيه الغنية والمزيد، من هذه الأبعاد الشاقة (1).(1/132)
وكانت: تسمية الكل باسم الجزء الذي لا غنى عنه في الدلالة على ذلك الكل، وتسمية الجزء باسم الكل، وتسمية المسبب باسم السبب، وتسمية السبب باسم المسبب، وتسمية الشيء باسم ما كان عليه، وتسميته باسم ما يكون عليه أو يؤول إليه، وإسناد الفاعلية أو الصفة الثبوتية للزمان، ووضع النداء موضع التعجب، وإطلاق الأمر وإرادة الخبر به، وإضفاء الفعل الحسي على الأمر المعنوي، والتغليب: بإعطاء الشيء حكم غيره، وأضراب ذلك من نماذج علاقة المجاز اللغوي المرسل.
ولا نريد أن نعيد هذا المعجم المشحون بنماذجه التطبيقية، إذ أفردناه فيما مضى بعمل بلاغي مستقل تابعنا فيه من سبق، فمن شاء فليرجع إليه ففيه الغنية والمزيد، من هذه الأبعاد الشاقة (1).
والذي نريد أن نشير إليه هنا، أن القرآن الكريم في نصه الإعجازي لم يكن ناظرا إلى تلك التفصيلات لدى إيراده علاقة المجاز العقلي، وإنما كان متنقلا بالذهن العربي إلى آفاق جديدة من التعبير الموحي والبيان الطلق، ومتحدثا إلى الطبيعة الإنسانية بما يلائم فطرتها النقية، دون تزيد في المراد، أو عنت في الأداء، وكان انتشار العلاقة تابعا لمذاق الباحث في الاستنتاج، ولا تعنيه الأسماء والتقسيمات لأنها من صنع البلاغيين، لهذا نجده في هذا الملحظ، وإن استخرج علماء البلاغة كل أصناف العلاقات من آياته الكريمة، يدور في فلك النفس فيملأ فراغها، ويسد نقصها، بما يجعلها أهلة لتلقي النص بذائقة سليمة، لهذا نجده يشيع الحس بالكائنات الصامتة، ويضفي القدرة على ما لا حول له ولا قوة، ويسند الفاعلية إلى الجمادات، وإذا بها متحركة بعد سكون، ويستنطق المعالم المبهمة وإذا بها مبينة بعد سكوت، وما ذلك إلا من مظاهر الاعتداد بظاهرة المجاز البيانية، بعيدا عن التساؤلات المقحمة، أو الهذر في التفصيلات الأعجمية، وهو بهذا الملحظ يفجر روافد بلاغية جديدة، ذات إطار تجدّدي سليم، على مجموعة الممارسات البيانية الحسية والعقلية في اللغة العربية الكريمة، والتي يمكن أن ننظر لها بمجموعة فياضة من شتى العلاقات في المجاز العقلي للقرآن الكريم، دون اللجوء إلى ظاهرة التعقيد أو التقعيد:
1 - في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذََا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيََاتُهُ زََادَتْهُمْ إِيمََاناً وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)}، (2) نسبت زيادة الإيمان إلى آيات الله تعالى في قرآنه الكريم، ولما كان الأصل في الأيمان وزيادته هو التوفيق الإلهي الصادر عن الله عزّ وجلّ، علم بالضرورة أن نسبة زيادة الإيمان إلى الآيات بإضافتها إليها، إعلاء منه تعالى لشأن هذه الآيات
__________
(1) ظ: المؤلف، أصول البيان العربي: 5648.
(2) الأنفال: 2.(1/133)
المجيدة، وكأنها المؤثر الحقيقي، وإن كان الأثر من الله، والتأثير بتوفيقه، وكان ذلك من المجاز المرصود عقليا لكون الإثبات سببا في زيادة هذا الإيمان، ولعل في ذلك إشارة واعية إلى النتائج الإيجابية في تلاوة الآيات أو الاستماع إليها، أو الإنصات لدقائقها، فيكون الحث عليها بهذا الأسلوب الجديد، وكأنه أمر بصيغة الإخبار، وتحضيض عن طريق الإنباء.
2 - وفي قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كََانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهََا رِزْقُهََا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكََانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللََّهِ فَأَذََاقَهَا اللََّهُ لِبََاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمََا كََانُوا يَصْنَعُونَ} (112) (1)، عدة استعمالات مجازية متطورة، يتعلق بعضها بالمجاز العقلي، والآخر بالمجاز اللغوي في الاستعارة، ولا حديث لنا معه، والشأن في المجاز العقلي حيث وصف القرية بكونها آمنة مطمئنة، وقد علم بالضرورة أن الأمن والاطمئنان لا تتصف بهما مرافق القرية وجدرانها، وإنما يتنعم بهما أهلها وسكانها، فعبر مجازا عن طريق إطلاق اسم المحل وهو القرية، على الحال فيها وهم الأهل والساكنون، وعبّر عن الرزق بأنه يأتي، الرزق ليست له حركة ولا إرادة في التنقل والقصد، وإنما الله تعالى هو الذي يسخر من يجلب الأرزاق إليها، ويأتي بها وهو الرزاق ذو القوة المتين من كل مكان إلى تلك القرية أو هذه تعبيرا عن تنعمها وعيشها الرغيد، فكأن الرزق يقصدها سائرا سادرا متوافرا.
وفلسفة هذا المثل القرآني الفريد، أن لا يكفر ذوو النعم بنعمهم، فيصيبهم ما أصاب هذه القرية من التلبس بالجوع والخوف والإذلال.
فالمجاز إذن وهو في سياق التشبيه التمثيلي المنتزع من صور متعددة، من باب القياس التمثيلي، وذلك من خصائص المجاز الفنية.
3 - وفي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللََّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دََارَ الْبَوََارِ} (28) (2)، أضافت الآية إجلال البوار إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا، وذلك بسبب من سوء أعمالهم وكفرهم وطغيانهم وكان ذلك
__________
(1) النحل: 112.
(2) إبراهيم: 28.(1/134)
نتيجة لكفرهم، ومظهر كفرهم إطاعتهم أكابرهم بالكفر، في حين أن الذي أحل هؤلاء وهؤلاء دار البوار على سبيل العقوبة والمجازاة هو الله تعالى جلّ شأنه. وهنا تلمس قيمة المجاز وتدرك خصائصه الفنية، وذلك حينما تعلم موقع تبديل النعم بالكفر في الإحلال بدار البوار، والكفر بحد ذاته ليس بقادر ولا متصرف ولا متمكن، ومع هذا فهو السبيل إلى دار البوار بالقوة والفعل والعيان، وإن كان المحدث للأمر غيره دون ريب، فالمراد اجتنابه، والابتعاد عن دائرته، وإحلال الشكر محله، تطبيقا لقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (1).
4 - وفي قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ أُكُلُهََا دََائِمٌ وَظِلُّهََا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكََافِرِينَ النََّارُ 35} (2)، تجد جرسا موسيقيا، وتخامر لذة علوية، تأنس لها النفس، وتهش لها الطبيعة الإنسانية، وذلك عند ما تتحدث الآية عن الملذات الحسية فضلا عن الملذات الروحية وأنت تتخيل الأنهار جارية، وحولها الظلال الفسيحة، والأكل الدائم، في الجنة التي وعد المتقون. والأنهار وعاء للماء ومستقر له، راكد أو سارب بأمر الله تعالى، وهي ثابتة غير متنقلة، فهي مكان الجري، وما يجري فيها هو الماء، فلما أسند الجري إلى الأنهار علمنا عقلا بالحكم عليه: أنه مجاز لأن الماء هو الجري إلا أن مكانه الأنهار، فعبّر عن جريان ذلك الماء بجري الأنهار نفسها بوصفها مكانا له، أو باعتبار الكثرة والغزارة في هذا الجري حتى ليخيل أن هذه الأنهار تجري بنفسها، وإنما اعتبر المكان باعتبار الإسناد إليه، والعامل الحقيقي غيره، وما يدريك فلعل في هذا الاستعمال وهو كذلك من القوة في الاندفاع، والسيطرة على النفس، وعظيم التصوير الفني، أضعاف ما في الاستعمال الحقيقي من الدلالة على المعنى المراد أداؤه بالضبط.
5 - وفي قوله تعالى: {وَالضُّحى ََ 1وَاللَّيْلِ إِذََا سَجى ََ 2} (3)، تبرز
__________
(1) إبراهيم: 7.
(2) الرعد: 35.
(3) الضحى: 21.(1/135)
دلالة المجاز العقلي في إسناد العامل المؤثر إلى الزمان، فسجى بمعنى سكن، والليل وإن وصف بالسكون فسكونه مجازي لأنه غير قابل للحركات المباشرة التي قد توصف بالهدوء حينا، وبالفعالية حينا آخر، وإنما أراد به سكون الناس عن الحركات، وخلودهم إلى السبات، واستسلامهم إلى الراحة.
قال الراغب (ت: 502هـ) «وهذا إشارة إلى ما قيل: هدأت الأرجل» (1) فهو يعني بذلك هدوء الناس بهدوء حركاتها المنطلقة من أرجلها وجوارحها حينا، ومن ضجيجها وصخبها حينا آخر.
وهذا لا يمانع من القسم برب الضحى والليل إذا سجى، أو بهما معا لما فيهما من عجائب الصنع، وعلى الإيجاد، وتقلب الكواكب، وعظم الإبداع.
6 - وقد يتوسع بعضهم في المجاز العقلي في القرآن حتى يخالف فيه الظاهر، أو يؤول تأويلا كلاميا، ونحن وإن أعرضنا عن الخوض في هذا الملحظ بالذات، لأن القرآن أسمى علاء وبيانا من الجزئيات الكلامية إلا أننا نورد هنا نموذجا من ذلك لئلا تكون ثغرة في البحث، عسى أن لا يقال ذلك فيه، والكمال لله وحده. ففي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا وَالنَّصََارى ََ وَالصََّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صََالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ 62} (2)، قال الشيخ الطوسي (ت: 460هـ):
«وقد استدلت المرجئة بهذه الآية على أن العمل الصالح، ليس من الإيمان، لأن الله تعالى أخبرهم عنهم بأنهم آمنوا، ثم عطف على كونهم مؤمنين. إنهم إذا عملوا الصالحات ما حكمها؟ قالوا: ومن حمل ذلك على التأكيد أو الفضل، فقد ترك الظاهر. وكل شيء يذكرونه مما ذكر بعد دخوله في الأول مما ورد به القرآن: نحو قوله:
__________
(1) الراغب، المفردات في غريب القرآن: 225.
(2) البقرة: 62.(1/136)
{فِيهِمََا فََاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمََّانٌ 68} (1) ونحو قوله: {وَإِذْ أَخَذْنََا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثََاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} (2)، ونحو قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيََاتِنََا}، (3) وقوله: {حم} (4).
قالوا: جميع ذلك مجاز.
ولو خلينا والظاهر، لقلنا: إنه ليس بداخل في الأول. فإن قالوا:
أليس الإقرار والتصديق من العمل الصالح؟ فلا بد لكم من مثل ما قلناه، قلنا: عنه جوابان:
أحدهما: أن العمل لا يطلق إلا على أفعال الجوارح، لأنهم لا يقولون: عملت بقلبي، وإنما يقولون: عملت بيدي أو برجلي.
والثاني: أن ذلك مجاز، وتحمل عليه الضرورة. وكلامنا مع الإطلاق (5).
ولا نريد الاسترسال في تطبيق أمثلة الممارسات البيانية الجديدة في مجاز القرآن العقلي من خلال علاقته في وجوه الاستعمال بل نريد التأكيد مجددا أن تتبع شذرات هذا المجاز في هذا العطاء الضخم، قد مثل لنا الإرادة الاستعمالية المتطورة، والمناخ الفني المضيء، بما أفاده من قدرة خارقة في استيحاء التلازم الذهني بين الأصل وهو على طبيعته لم ينقل منها، وبين الفرع الذي هو المجاز في إدراكه من خلال الترابط البياني لدى الانتقال من معنى إلى معنى جديد بحكم الإسناد، لا بحكم الألفاظ، وتلك ميزة المجاز العقلي في القرآن العظيم، إفصاحا منها في ترجمة المشاعر، ومسايرة العواطف، وصيانة اللغة والتراث والشريعة دفعة واحدة.
وبذلك يتحقق الغرض الفني والغرض الديني بلحاظ مشترك أنيق.
__________
(1) الرحمن: 68.
(2) الأحزاب: 7.
(3) الحديد: 19.
(4) محمد: 1.
(5) ظ: الطوسي: البيان في تفسير القرآن: 1/ 285.(1/137)
الفصل الخامس المجاز اللغوي في القرآن
1 - المجاز اللغوي بين الاستعارة والمجاز المرسل 2انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن 3علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن(1/139)
1 - المجاز اللغوي بين الاستعارة والمجاز المرسل 2انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن 3علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن
1 - المجاز اللغوي بين الاستعارة والمجاز المرسل
ليس جديدا أن يكون عبد القاهر (ت: 471هـ) هو أول من تنبه شخصيا، ونبه الآخرين إلى الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل في حديثه عن المجاز اللغوي، حينما قرن المجاز بالاستعارة، باعتبار علاقته غير المشابهة، وعلاقة الاستعارة هي المشابهة (1).
وقد سبق لنا القول فيما مضى من هذا الكتاب (2): إن المجاز اللغوي ذو فرعين في التقسيم البلاغي، لأن مجاله رحاب اللغة في الانتقال بالألفاظ من معنى إلى معنى، مع وجود القرينة الدالة على المعنى الجديد.
وحديثنا هو القرينة في علاقتها، فإن كانت العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي هي المشابهة، فالمجاز يسمى استعارة، وإن كانت العلاقة هي غير المشابهة، فهو المجاز المرسل.
ويتضح هذا التقسيم من خلال بلورة الحد الاصطلاحي لكل من الاستعارة والمجاز المرسل بإيجاز حد الاستعارة كما يراه أبو عثمان الجاحظ (ت: 255هـ) هو تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه (3).
وبديهي من تعريفه عنايته بالجانب اللغوي لعدم تجلي حدود هذه المعالم اصطلاحيا في عصره، وإن انطبق تعريفه على جزء المعنى الاصطلاحي.
وهناك حدود متقاربة المعنى، ومتشابكة المبنى في تعريف الاستعارة عند كل من:
__________
(1) عبد القاهر، أسرار البلاغة: 376.
(2) ظ: تقسيم المجاز القرآني في هذا الكتاب.
(3) ظ: الجاحظ، البيان والتبيين: 1/ 153.(1/141)
ابن قتيبة (ت: 276هـ) (1)
ثعلب (ت: 291هـ) (2)
ابن المعتز (ت: 296هـ) (3)
القاضي الجرجاني (ت: 366هـ) (4)
علي بن عيسى الرماني (ت: 386هـ) (5)
وهذه التعريفات وما تبعها من التفريعات متشابهة في الإشارة إلى المصطلح حينا، وإلى العناية بالموروث اللغوي للاستعارة حينا آخر (6).
ومع هذا فإننا نميل إلى الكشف العلمي فيما أبانه: أبو الهلال العسكري (ت: 395هـ) في تعامله مع المصطلح الاستعاري معاملة جديدة. إذ أعطى التعريف بوضوح مع التمثيل القرآني الدقيق فقال عن الاستعارة أنها:
«نقل العبارة عن موضع استعمالها في أصل اللغة إلى غيره لغرض، وذلك الغرض إما أن يكون: شرح المعنى وفضل الإبانة عنه، أو تأكيده والمبالغة فيه، أو الإشارة إليه بالقليل من اللفظ، أو تحسين المعرض الذي يبرز فيه.
وهذه الأوصاف موجودة في الاستعارة المصيبة، ولولا أن الاستعارة المصيبة تتضمن ما لا تتضمنه الحقيقة من زيادة فائدة، لكانت الحقيقة أولى منها استعمالا» (7).
إن هذه الإبانة في تلخيص النقل للمعنى من لفظ إلى لفظ، وإن عبّر
__________
(1) ظ: ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن: 102.
(2) ثعلب، قواعد الشعر: 46.
(3) ظ: ابن المعتز، البديع: 2.
(4) ظ: القاضي الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه: 41.
(5) ظ: الرماني، النكت في إعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل: 79.
(6) ظ: تفصيلات ذلك عند المؤلف: أصول البيان العربي: 90.
(7) العسكري، الصناعتين: 274.(1/142)
عنه بالعبارة تجوزا، واستحداث معنى جديد في اللفظ، وجعل الكلمة ذات دلالة لم تجعل لها في أصل اللغة، وإضافة الفائدة في النقل الاستعاري بدلا من الاستعمال الحقيقي، إنما هو جوهر الاستعارة وروحها، فضلا عن كونه كشفا جديدا متوازنا في صنوف الاستعارة وشئونها، وهو متناسب مع ما أكده فيما ضربه من نموذج قرآني رفيع، شاهدا على ذلك بقوله:
«والشاهد على أن للاستعارة المصيبة من الموقع ما ليس للحقيقة أن قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سََاقٍ} (1) أبلغ وأحسن وأدخل مما قصد له من قوله لو قال: يوم يكشف عن شدة الأمر، وإن كان المعنيان واحدا، ألا ترى أنك تقول لمن تحتاج إلى الجد في أمره: شمر عن ساقك فيه، واشدد حيازيمك له. فيكون هذا القول أوكد في نفسه من قولك: جدّ في أمرك». (2)
وما ذهب إليه أبو هلال منتظم لما وجدنا عليه أرسطو من ذي قبل حينما عدّ الاستعارة: من أعظم الأساليب الفنية، وأنها آية الوهبة التي لا يمكن تعلمها من الآخرين (3).
ويرى عبد القاهر (ت: 471هـ) في الاستعارة: أنك تثبت بها معنى لا يعرف السامع ذلك المعنى من اللفظ، ولكنه يعرفه من معنى اللفظ (4).
وهو هنا يتحدث عن عائدية الاستعارة وفضلها، ويعرفها بقوله:
«الاستعارة أن تريد تشبيه الشيء وتظهره، وتجيء إلى اسم المشبه به فتعيره المشبه وتجريه عليه» (5).
ويتضح من عائدية الاستعارة وتعريفها عند عبد القاهر: أن هناك لفظا ومعنى، وهناك معنى اللفظ، والاستعارة تختص بالألفاظ، ولكنه قد أشرك المضمون بالإضافة إلى الشكل في جلاء الصورة الاستعارية، أو المعنى في
__________
(1) القلم: 42.
(2) العسكري، الصناعتين: 274.
(3) ظ: شكري عياد، أرسوططاليس، فن الشعر: 176.
(4) عبد القاهر، دلائل الإعجاز: 31.
(5) المصدر نفسه: 53.(1/143)
إدراك مؤدي اللفظ، وكأنه يريد بذلك: معنى المعنى، أو المعاني الثانوية في الألفاظ.
إن ما أبداه عبد القاهر في الصيغة الاصطلاحية قد تتبعه بالإشارات بعده كل من:
فخر الدين الرازي (ت: 606هـ) (1)
السكاكي (ت: 626هـ) (2)
ابن الأثير (ت: 637هـ) (3)
ابن أبي الأصبع (ت: 654هـ) (4)
ابن مالك (ت: 686هـ) (5)
الخطيب القزويني (ت: 739هـ) (6)
حقا لقد استفاد هؤلاء من منهج عبد القاهر في تحديد الاستعارة.
وقد خلص لنا مما أرساه أبو هلال، وما أبانه عبد القاهر: أن الاستعارة جارية في الألفاظ على سبيل النقل اللغوي لغرض تشبيهي.
أما المجاز المرسل فحقيقته جاءت على أساس عدم ارتباطه بعنصر المشابهة في ملابسته للمعنى بغير التشبيه، وتسميته جاءت لخلوه من القيود وسلامته من الحدود، فالإرسال لغة: الإطلاق. وأرسله بمعنى أطلقه، لا شك في هذا، ولما كانت الاستعارة مقيدة بادعاء أن المشبه من جنس المشبه به، كان المجاز المرسل مطلقا من هذا القيد، وحرا من هذا الارتباط، فهو طليق مرسل وكفى.
ويبدو أن السكاكي (ت: 626هـ) هو أول من أطلق هذه التسمية
__________
(1) ظ: الرازي، نهاية الإيجاز: 82.
(2) ظ: السكاكي، مفتاح العلوم: 174.
(3) ظ: ابن الأثير، المثل السائر: 1/ 365.
(4) ظ: ابن أبي الأصبع، بديع القرآن: 19.
(5) ظ: ابن مالك، المصباح: 61.
(6) ظ: القزويني، الإيضاح: 407278تحقيق الخفاجي.(1/144)
عليه (1). وإن كان من سبقه قد أدرك الفرق بين الاستعارة وهذا النوع من المجاز، ولكنه لم ينص عليه إلا من خلال علاقة غير المشابهة كما هي الحال عند عبد القاهر (2).
وجاء الخطيب القزويني (ت: 739هـ) فتابع السكاكي في التسمية والتعريف معا، فقال عنه:
«وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه، وما وضع له ملابسة غير التشبيه، كاليد إذا استعملت في النعمة، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة، ومنها تصل إلى المقصود بها، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة إلى المولي لها، فلا يقال: اتسعت اليد في البلد، أو اقتنيت يدا، كما يقال: اتسعت النعمة في البلد، أو اقتنيت نعمة، وإنما يقال: جلّت يده عندي، وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك» (3).
وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى المجازي، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل.
فبالنسبة لليد، وهي وإن كانت جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها من العطاء في مقام النعمة، والبطش في مقام القوة، والضرب عند التأديب والانتقام، وبها يتعلق الأخذ والعطاء، والمنع والدفع، والصد والرد، وكل صادر عنها بعلاقة ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي، وإنما بالأثر والقوة والقدرة والوطئة، ولا مشابهة بين هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة.
لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل، وعلاقة المشابهة للاستعارة، اختيارا موفقا لدى التفريق الدقيق بينهما، فكما كانت الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير المشابهة بين الحقيقتين، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال الاستعاري بين المشبه والمشبه به
__________
(1) ظ: السكاكي، مفتاح العلوم: 195وما بعدها.
(2) ظ: عبد القاهر، أسرار البلاغة: 376.
(3) القزويني، الإيضاح: 280، 397تحقيق الخفاجي.(1/145)
في كلمة «نسلخ» من قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهََارَ} (1).
فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل، بسلخ جلد الشاة، والسلخ حقيقة إنما يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك التحامهما بالسلخ، فأصبح كل منهما حقيقة قائمة بذاتها، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما حقيقة قائمة بذاتها، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين الحقيقتين في الالتحام قبل السلخ والانفصال التام بعد السلخ، فكما هو هناك فهو هنا، وذلك جار على الاستعمال المجازي أيضا، ولكن بمنظور المشابهة، وهذه هي علاقة المشابهة التي تختص بالاستعارة، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل.
2 - انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن، فذلك أمر له دلائله وشواهده في القرآن العظيم، والسبب في هذا الذيوع وذلك الانتشار، أن المجاز المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة، وهو وسيلة اللغة في الإضاءة والتنوير، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان، وانتشار ذلك في القرآن دربة لأهل اللغة من وجه، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر، ولعل في خصائص المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات، ومعبرة عن هذا المدرك نفسه بما لا مزيد عليه.
وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي، كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية إلى الدائرة الفنية، وكيف تجوز بالاتساع إلى مناخ الغنى في المفردات والمعاني، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل الذهن العربي إلى أفق جديد، متميّز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية متسمة بالشمولية والإبداع.
كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في
__________
(1) يس: 37.(1/146)
سلامة أدائه، ودقة تعبيره، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية المتطورة.
إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن رصده بعدة ظواهر إيحائية، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث، ويتكفل مبحث علاقة المجاز بالجزء الآخر منها. وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضفيان على اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان، هاتان الظاهرتان تلتمسان باعتبارهما دلائل فنية على صدق الدعوى، وبرمجة الموضوع، تلك الدلائل لا تعدو كونها أمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا، وليست هي كل شيء، إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء، لأنه أمر قد يتعذر الوصول إليه، أو الوقوف عليه، لبعد أغواره، وتجاوز أبعاده حدّ الاستيعاب.
وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن، وذيوعه، ويقاس حينئذ عليه ما هو قريب إليه، إذ لا ضرورة لاتخام الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل إليها الباحث بعد الأعلام.
الظاهرة الأولى: وتتجلى أبعادها في ردّ المتشابه من الآيات إلى المحكم منه، لحسم النزاع ورد الإشكال، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي، فلا عنت ولا تعسف ولا غلو، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة إلى الله تعالى في كل من قوله تعالى:
أ {رَبَّنََا لََا تُزِغْ قُلُوبَنََا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنََا وَهَبْ لَنََا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهََّابُ 8} (1).
ب {فَلَمََّا زََاغُوا أَزََاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفََاسِقِينَ} (2) فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه، بدعوى أنها إن لم تكن منه تعالى فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها، وهذا ما لا يجوز عليه
__________
(1) آل عمران: 8.
(2) الصف: 5.(1/147)
سبحانه إلا على سبيل المجاز والاتساع، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان، ولا يوقع في الضلالة والكفران، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي.
وقد نصت الآية الثانية: أن الله تعالى يزيغ من زاغ، ونسبته إليه ظاهرة.
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر، ويدرأ هذه الشبهات بمرونة.
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء إلى الله وتوجه إليه بأن:
ثبتنا بألطافك، وزد من عصمك وتوفيقك، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا، فنكون زائغين في حكمك، ونستحق أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه، لأنه لا يجوز أن يقال:
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ، وإن كانوا هم الفاعلين له، على مجاز اللغة، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ، وقادهم إلى الاعوجاج والميل، ولكنهم لما زاغوا عن أوامره، وعندوا ما فرض الله من فرائضه، جاز أن يقال: قد أزاغهم كما قال سبحانه بالنسبة للسورة {فَزََادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ 125} (1) وفيما اقتصه عن نوح عليه السّلام {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعََائِي إِلََّا فِرََاراً 6} (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال: أنه أزاغهم مجازا، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3).
ولقد وقف الشريف الرضي (ت: 406هـ) من هذه المدارك موقف الناقد الخبير، والفاحص الرائد، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك، وأفاض برأيه بعد إيرادها، وحملها على الاتساع في اللغة، والمجاز من القول، ورد المتشابه من الآي إلى المحكم منها، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على ظاهره، لأنه يقودنا إلى أن نقول: إن الله
__________
(1) التوبة: 125.
(2) نوح: 6.
(3) ظ: الشريف الرضي، حقائق التأويل: 5/ 19.(1/148)
سبحانه يضل عن الإيمان، وقد قامت الدلائل على أنه سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح، وهو غني عنه، وعالم باستغنائه عنه، ولأنه تعالى أمرنا بالأيمان وحببنا إليه، ونهانا عن الكفر وحذرنا منه، فوجب ألا يضلنا عما أمرنا به، ولا يقودنا إلى ما نهانا عنه، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره، فاحتجنا إلى تأويله في الوجوه التي قدمنا ذكرها، فهو متشابه، لأن موقفه من صفة المتشابه ألا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه، فوجب رده إلى ما ورده من المحكم في هذا المعنى، وهو قوله تعالى:
{فَلَمََّا زََاغُوا أَزََاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ} (1).
قال الشريف الرضي «فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم، وأن الزيغ الثاني كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير الزيغ الثاني، وأن الأول قبيح إذ كان معصية، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة، ولو كان الأول هو الثاني لم يكن للكلام فائدة، وكان تقديره:
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى، فكان خلفا من القول يتعالى الله عنه، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان، وإزاغته تعالى لهم إنما كانت عن طريق الجنة والثواب، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه، لأن العقوبة لا تكون من جنس المعصية إذ كانت المعصية قبيحة، والعقوبة عليها حسنة» (2).
فالشريف الرضي في رده المتشابه إلى المحكم، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى:
{فَمَنِ اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ} (3).
وكقوله تعالى: {وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا} (4).
__________
(1) الصف: 5.
(2) الشريف الرضي، حقائق التأويل: 5/ 23وما بعدها.
(3) البقرة: 194.
(4) الشورى: 40.(1/149)
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه، إذ ليس الجزاء اعتداء، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة، وليس ذلك سيئة، ولكنه سبب منها، فأطلقت عليه، وكذلك معنى الإزاغة هاهنا فيما حمله عليه الشريف الرضي، فاعتبر الزيغ الأول غير الزيغ الثاني، فالأول زيغ عن الإيمان، والثاني العقوبة على الميل، والانحراف عن الهدى إلى الضلال، فهو ليس من جنسه، وإنما سمي كذلك مجازا، وهو يعقب على ذلك، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول: «وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في هذه الآية أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم، بل قال: {فَلَمََّا زََاغُوا أَزََاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ}. (1)
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم، وجزاء على فعلهم، فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به، ووقف عند حدّه، وخلّاهم واختيارهم، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زََادَهُمْ هُدىً وَآتََاهُمْ تَقْوََاهُمْ 17} (2).
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة إلى نفسه، على اتساع مناهج اللغة في إضافة الفعل إلى الأمر، وإن وقع مخالفا لأمره، لما كان وقوعه مقابلا لأمره، ويكشف عن ذلك قوله تعالى: {إِنَّهُ كََانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبََادِي يَقُولُونَ رَبَّنََا آمَنََّا فَاغْفِرْ لَنََا وَارْحَمْنََا وَأَنْتَ خَيْرُ الرََّاحِمِينَ 109فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتََّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ 110} (3).
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله، وكيف يكون وهم يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا، وتنبيها وتحذيرا، ولكنهم لما اتخذوهم سخريا، وأقاموا على سيّئ أفعالهم وذميم اختيارهم، أنسوهم ذكر الله، فأضيف الإنساء إلى ذلك الفريق من عباد الله، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله سبحانه إنما وقع في مقابلة تذكيرهم به، وتخويفهم منه، ودعائهم إليه، فحسنت الإضافة على الأصل الذي قدمناه.
وأقول: إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
__________
(1) الصف: 5.
(2) محمد: 17.
(3) المؤمنون: 110109.(1/150)
ذكرناها من إضافة الفعل إلى الأمر، وإن لم يأمر به، بل أمر بضده، لما وقع مقابلا لأمره. فسمي من كان سبب الضلال مضلا، وإن لم يكن منه دعاء إلى الضلال، ولا إلى ضده فوقع الضلال عند دعائه، قال سبحانه:
{وَإِذْ قََالَ إِبْرََاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنََامَ 35رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النََّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصََانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 36} (1).
فأضاف تعالى ضلال القوم إلى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالتهم وهي جماد، لا يكون منها صرف عن طاعة، ولا دعاء إلى معصية.
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب، وإلا لكان الفعلان واحدا، وقد علمنا أن جهتي الفعل مختلفان» (2).
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ إلى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء هذا الجانب، ويستند إليه وإلى أشباهه ظاهرة انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة.
الظاهرة الثانية:
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه، واستمرارية الصفات وغلبتها، وملابسة الوقائع بعضها لبعض، وتأكيد بإطلاق ضده عليه، وهنا يتوالى رصد المجاز اللغوي المرسل في التعبير القرآني:
1 - ففي تصديق الخبر، وإبرام الأمر، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى ََ عِنْدَ اللََّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ قََالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 59} (3).
__________
(1) إبراهيم: 3635.
(2) الشريف الرضي، حقائق التأويل: 5/ 25وما بعدها.
(3) آل عمران: 59.(1/151)
فإن لفظة كن تدل على الأمر، ولكن المراد بها الخبر والتقرير، والتقدير فيها يكون فيكون، أو على أنه خبر لمبتدإ محذوف، أي فهو يكون، والرأي لأبي علي الفارسي (1).
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد.
2 - وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات، وكون الشيء جزءا من الأصل، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى:
أ {وَكََانَتْ مِنَ الْقََانِتِينَ} (2)
ب {إِلَّا امْرَأَتَهُ كََانَتْ مِنَ الْغََابِرِينَ} (3)
ج {فَلَوْلََا أَنَّهُ كََانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ 143} (4)
فبالنسبة لمريم ابنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور، ولو لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات، ولكنه أطلق القانتين على الإناث من باب التغليب، والارتفاع بمستوى مريم إلى مصاف الرجال القانتين. وما يقال هنا يقال بالنسبة «للغابرين» فإن اللفظ موضوع للذكور المتصفين بهذا الوصف، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له، وإذا كان كذلك فهو مجاز.
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء المهمة في الصلاة، ولملازمة الصلاة للتسبيح، وكون التسبيح جزءا منها، فأطلق عليها تجوزا، والمعني الصلاة.
3 - وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه،
__________
(1) ظ: الزركشي، البرهان 2/ 290.
(2) التحريم: 12.
(3) الأعراف: 83. العنكبوت: 32.
(4) الصافات: 143.(1/152)
ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ 93} (1).
والعجل ليس موضع ذلك، بل المراد حب العجل، فحذف المضاف وأقام مقامه المضاف إليه، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة، إذ أنزل العجل منزلة الحب، لملابسته لهم في قلوبهم، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم، وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال.
4 - وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذََابٍ أَلِيمٍ} (2).
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة، لا في مظاهر الشدة والعناء، وليس العذاب من مواطن الخير، حتى يبشر به العاصي، ولكنه تعالى أطلقه عليه تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي، أو السخرية والتهكم، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك.
وقد حمل أبو مسلم، محمد بن بحر قوله تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (3) على هذا الملحظ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة، لا من باب التأكيد على الشيء باسم ضده، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به في الآخرة، وتقول العرب فلان بصير بهذا الأمر، أي عارف به تماما، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (4).
مما تقدم، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن، وكثرة ذيوعه وانتشاره، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد لمفردات مماثلة دون استيعاب، ولكنها بالإضافة لما سبق من
__________
(1) البقرة: 93.
(2) آل عمران: 21.
(3) ق: 22.
(4) ظ: الطبرسي، مجمع البيان: 3/ 430بتصرف وإيضاح.(1/153)
الفصول، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل تشكل سمة بارزة.
3 - علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في علاقات مجازية قد تكون منفصلة حقا، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا، يصح أن يندرج تحت صنف فصل عنه أو هو في مجراه ومقتضاه، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج إلى دقة فلسفية أو منطقية لا ذائقة بلاغية، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر، ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة في مجاز القرآن اللغوي، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن: كالجزئية والكلية، والسببية والمسببية، والمحلية والحالية، والآلية والمجاورة، والملزومية واللازمية، والمطلقية والمقيديّة، وأضراب ذلك من التفريعات المتشابكة، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط بها إلا جزئيا مما تقتضيه ضرورة البحث.
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته، ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة والفطرة إلى دائرة الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية إلى ذلك، سوى متابعة البيئات الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي، فانطبعت آثار تلك البيئات على مسميات مفردات البلاغة تصنيفا وتطويلا ليس غير.
لقد ضم هذه الوجوه بعضها إلى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها إلى عشرين علاقة ووجها، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1).
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما
__________
(1) ظ: أحمد مطلوب، فنون بلاغية: 118111.(1/154)
يتناسب ومناخ التدقيق المنطقي للقضايا العقلية، فهل ثمة من حاجة ملحّة إلى تجديد هذا الأمر (1).
أعتقد أن في طريقة انتخاب النماذج القرآنية، واستيعاب أكبر أجزائها دون هذه التسميات المخترعة مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد المنهج البلاغي من ركابها، أو استدارته على عجلتها، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة المجدية، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى.
1 - في كل من قوله تعالى:
أ {قُمِ اللَّيْلَ إِلََّا قَلِيلًا 2} (2).
ب {لََا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} (3).
ج {وَيَبْقى ََ وَجْهُ رَبِّكَ} (4).
د {كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ} (5).
هـ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (6).
و {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خََاشِعَةٌ 2عََامِلَةٌ نََاصِبَةٌ 3} (7).
ز {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنََانٍ} (8).
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة، مما يدفع إلى حملها على المجاز اللغوي المرسل، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال
__________
(1) ظ: المؤلف، الصورة الفنية في المثل القرآني: 162وما بعدها.
(2) المزمل: 2.
(3) التوبة: 108.
(4) الرحمن: 27.
(5) القصص: 88.
(6) النساء: 92.
(7) الغاشية: 32.
(8) الأنفال: 12.(1/155)
حقيقيا، فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير، ولو لم تدرك العلاقة، لما صح لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز.
ففي قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلََّا قَلِيلًا 2} (1) وقوله تعالى: {لََا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} (2) ندرك والله العالم أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة والعائدية التعبيرية: هو الصلاة، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني عند إطلاق لفظ القيام في مثل هذا المقام، لا القيام في مقابل القعود، ولا القيام بمعنى الإقامة، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى: صلّ، والعلاقة في ذلك كون القيام ركنا أساسيا، وجزءا مهما في الصلاة، فعبّر به لهذا الملحظ.
وفي قوله تعالى: {وَيَبْقى ََ وَجْهُ رَبِّكَ} (3) وقوله تعالى: {هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ} (4)، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية لله عزّ وجلّ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان والإحلال والعينية والمشاهدة، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى عنه في الدلالة على كل ذات، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريقة العرب في الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل.
وإن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خََاشِعَةٌ 2عََامِلَةٌ نََاصِبَةٌ 3} (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته الأجساد بتمامها، لا الوجوه وحدها، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها.
وفي قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (6) فإن المراد هو تحرير
__________
(1) المزمل: 2.
(2) التوبة: 108.
(3) الرحمن: 27.
(4) القصص: 88.
(5) الغاشية: 32.
(6) النساء: 92.(1/156)
الرجل المؤمن أو العبد المؤمن، ولما كانت الرقبة جزءا من هذا الكل، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند العرب، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة.
وفي قوله تعالى: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنََانٍ} (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة.
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني، وهو باب متسع فيه.
2 - وفي كل من قوله تعالى:
أ {يَجْعَلُونَ أَصََابِعَهُمْ فِي آذََانِهِمْ مِنَ} (2)
ب {وَالسََّارِقُ وَالسََّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمََا} (3)
نلمس مجازا مرسلا، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج السابقة، لأن المراد بجعل الأصابع، هو وضع الأنامل في الآذان، وهو القدر الذي تستوعبه، وهي جزء من كلي الأصابع.
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند الفقهاء، ولا تشمل كلي الأيدي، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (أصابعهم) و (أيديهما) من الآيتين الكريمتين، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل، وذلك بإطلاق اسم الكل على الجزء، وإرادة الجزء ذاته فحسب.
3 - وفي كل من قوله تعالى:
أ {فَمَنِ اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ} (4)
ب {وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا} (5)
__________
(1) الأنفال: 12.
(2) البقرة: 19.
(3) المائدة: 38.
(4) البقرة: 194.
(5) الشورى: 40.(1/157)
ج {وَنَبْلُوَا أَخْبََارَكُمْ} (1).
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي:
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء، وواضح أن الاعتداء الثاني في الآية غير الاعتداء الأول، لأن الاعتداء الأول جرم، والثاني جزاء، وفرق بين الجرم والجزاء، فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول، بل المراد المجازاة فقط، إذ لا يأمر الله بالاعتداء قطعا، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء الحقيقي، فكان التعبير عنه بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه.
قال القزويني (ت: 739هـ) «وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداء لأنه مسبب عن الاعتداء» (2).
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة، والسيئة الثانية في الآية غير السيئة الأولى، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة، وفرق بين الذنب والاقتصاص، إذن فليس الاقتصاص سيئة، ولكنه مسبب عنها، فسمي باسمها، وهذا المعنى هو المعني بقولهم: تسمية المسبب باسم السبب، وذلك بأن يطلق لفظ السبب ويراد به المسبب كما في الآية (ج) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان، وليس البلاء عرفانا، ولكنه مسبب عنه، فكأنه تعالى قد أراد: ونعرف أخباركم، لأن البلاء الاختبار، وفي الاختبار حصول العرفان، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما هو ظاهر في الاستعمال عند العرب، فإنهم يقولون: رعينا الغيث، والغيث هو المطر، والمطر لا يرعى، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث.
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (3).
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
__________
(1) محمد: 31.
(2) القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة: 400تحقيق الخفاجي.
(3) ظ: الزوزني، شرح المعلقات السبع: 178.(1/158)
فالجهل الأول جار على وجهه الحقيقي، والجهل الثاني محمول على الوجه المجازي، لأنه ناجم عن الجهل الأول، فعبر بالجهل مجازا عن مقابلة الجهل وصدّه، وليس صدّ الجهل جهلا بل هو مكافأة له.
وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللََّهُ} (1) من الاستعمال المجازي، إذا أريد به العقوبة، لأن المكر سببها، وقيل: «ويحتمل أن يكون مكر الله حقيقة، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم، وهذا محقق من الله تعالى، باستدراجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة» (2).
4 - وفي كل من قوله تعالى:
أ {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمََاءِ رِزْقاً} (3)
ب {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوََالَ الْيَتََامى ََ ظُلْماً إِنَّمََا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نََاراً} (4)
ج {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنََاهََا فَجََاءَهََا بَأْسُنََا بَيََاتاً أَوْ هُمْ قََائِلُونَ 4} (5)
نرصد مجازا لغويا مرسلا، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في علاقته، وهو المعني بقولهم: تسمية السبب باسم المسبب، وذلك بأن يطلق لفظ المسبب ويراد به السبب بالذات.
ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا، لأن الرزق لا ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة إلى الذهن، وإنما ينزل الله المطر، ولما كان المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية.
وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار،
__________
(1) آل عمران: 54.
(2) القزويني، الإيضاح: 400تحقيق الخفاجي.
(3) غافر: 13.
(4) النساء: 10.
(5) الأعراف: 4.(1/159)
باعتباره يكون سببا لدخول النار واستحقاقها، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل، ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه بالنار ناظرا إلى هذه الحقيقة.
وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا، وذلك بقرينة «فجاءها بأسنا» إذ لا معنى لوقوع الإهلاك، ومجيء البأس بعده، وإنما يأتي البأس فيحدث الإهلاك عنده، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا، لأنه سبب الإرادة المقتضية للإهلاك، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه.
5 - وفي كل من قوله تعالى:
أ {وَآتُوا الْيَتََامى ََ أَمْوََالَهُمْ} (1).
ب {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} (2).
مجاز لغوي مرسل، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه، ففي الآية (أ) المراد باليتامى الذي كانوا يتامى، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون بعد البلوغ، ولا يتم بعد البلوغ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ.
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة، بل باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام، فنظر إلى ما كان عليه في السابق، وأطلقه هنا تجوزا، وإلا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان والعناد والإصرار والقوة، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة، وما أشبه ذلك، إذ ليس هو هناك في مثل تلك الحال، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان عليه من الإجرام في الدنيا.
__________
(1) النساء: 2.
(2) طه: 74.(1/160)
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ، فينظر إليه باعتبار ما سيكون عليه، فيسمى باسم ما سيئول إليه مستقبلا، كما في قوله تعالى:
{إِنِّي أَرََانِي أَعْصِرُ خَمْراً 36} (1).
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة إلى الخمر، أو الخمر بالنسبة إلى العصر، والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهى منه، وإنما العنب المتحول خمرا الذي يعصر، فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا، جاء على سبيل الاتساع، باعتبار ما سيئول إليه العنب بعد العصر، وصيرورته خمرا.
6 - وفي كل من قوله تعالى:
أ {فَلْيَدْعُ نََادِيَهُ 17} (2).
ب {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} (3).
ج {يَقُولُونَ بِأَفْوََاهِهِمْ مََا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (4).
مجاز لغوي مرسل، ذكر فيه لفظ المحل، وأريد به الحال فيه، وهو المعني بقول الخطيب القزويني (ت: 739هـ) تسمية الحال باسم محله (5).
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي، والمراد والله أعلم أهل النادي والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم، إذ لا تصح دعوة النادي لعدم قبوله الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض، وإنما دعي أهله وأصحابه.
__________
(1) يوسف: 36.
(2) العلق: 17.
(3) يوسف: 82.
(4) آل عمران: 167.
(5) القزويني، الإيضاح: 403تحقيق الخفاجي.(1/161)
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية، والمراد والله أعلم أهل القرية والساكنين فيها، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان.
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن، لأن القول لا يصدر إلا عن اللسان، ولما كان موقع اللسان هو الفم، عبّر بالأفواه تجوزا عن الألسن الحالّة فيه.
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل، وذلك نحو قوله تعالى:
{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللََّهِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ 107} (1).
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة، لأن الخلود إنما يتم فيها، ولما كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة، والرحمة حالّة بها، عبر عنها بما هو حال فيها، وهو الرحمة والمراد الجنة.
وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة، ووجوه ارتباطاته متشابكة، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد، عما توسع به البلاغيون من الأصناف.
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي، أهمل النحاة جانبه، فأكد البلاغيون التقليديون صلته بالبلاغة (2).
على أن في المعاني لمسات بلاغية، وشذرات بيانية، ولكن رأينا أنه بالنحو ألصق. فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل، وعددوا أصنافه، أشتاتا من مفردات علم المعاني، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا.
لقد أطنب الزركشي (ت: 794هـ) في ذكر جملة من الأصناف
__________
(1) آل عمران: 107.
(2) ظ: المؤلف، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي.(1/162)
العديدة للمجاز اللغوي المرسل، وادعى ورودها في كتاب الله (1).
وقد تفنن ابن قيم الجوزية (ت: 751هـ) فاعتبر خروج الخبر إلى الإنشاء، والإنشاء إلى الخبر، والتقديم والتأخير من المجاز، وهي مباحث علم المعاني (2).
وقد عدّ التفتازاني (ت: 791هـ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (3).
وقد ذهب بهاء الدين السبكي (ت: 773هـ) إلى تداخل علم البيان وعلم المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام من المجاز (4).
وقد عدّ السيوطي (ت: 911هـ) خروج الخبر إلى الإنشاء، والإنشاء إلى الخبر من المجاز، وأشار إلى أن بعضهم يرى التقديم والتأخير والالتفات والتغليب من المجاز (5).
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من البلاغيين التقليديين، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من المحدثين، يقول الدكتور أحمد مطلوب:
«ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل، لأنها شديدة الصلة به، بل لأنها ألوان بديعة من فنونه، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل، لأنه واسع الخطو فسيح المدى، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها» (6).
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه، ولكن من وجهة نظر متقابلة، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه
__________
(1) ظ: الزركشي، البرهان 2: 299258.
(2) ابن قيم الجوزية، الفوائد: 82.
(3) التفتازاني، المطول: 235.
(4) السبكي، عروس الأفراح 1: 493.
(5) السيوطي، الاتقان في علوم القرآن: 2/ 36.
(6) أحمد مطلوب، فنون بلاغية: 120.(1/163)
التقسيمات الأجنبية، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى، وحينما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب، لا الإضافات والزيادات، لتخامر البلاغة ذهنية العربي المعاصر، بدلا من هروبه عنها، لأن المراد هو التيسير، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات، فمما يدعو إلى التعقيد في نظر إنسان اليوم الذي يريد الزبدة التطبيقية والتنظيرية، لا الرسوم والتفريعات.
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل في وجوه علاقاته، ناظرين إلى هذا المدرك الذي يدعو إلى صيانة البلاغة العربية من الإضافات المتكررة، أو الزيادات الوهمية.
على أننا لا نغالي إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع إلى مئات الأصناف والأنواع، لأنها ميدان العواطف في التجوز، ومضمار المشاعر في التنقل، وساحة اللغة في الاتساع، ومرونة العربية في التخطي من أفق إلى أفق، ولكن هذا لا يمانع من نفي الشوائب، وتحاشي الفضول، وغربلة التراث، والله المستعان.(1/164)
على أننا لا نغالي إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع إلى مئات الأصناف والأنواع، لأنها ميدان العواطف في التجوز، ومضمار المشاعر في التنقل، وساحة اللغة في الاتساع، ومرونة العربية في التخطي من أفق إلى أفق، ولكن هذا لا يمانع من نفي الشوائب، وتحاشي الفضول، وغربلة التراث، والله المستعان.
«خاتمة المطاف»
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم، ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور، يمكن أن نشير بإيجاز كبير إلى أهم ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام:
1 - في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة القرآن، ومعاني مفرداته، وسيرورة ألفاظه، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا في مصنفات «معاني القرآن» و «غريب القرآن» و «مجاز القرآن» وإرادة مؤدى الألفاظ منها في حنايا الذهن العربي، دون إرادة الاستعمال البلاغي، أو التأكيد على «المجاز» و «المعاني» في الصيغة الاصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان، كان هذا أولا.
ثانيا: وقفنا عند مجاز القرآن بإطاره البلاغي العام، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى، سواء أكان مجازا أاستعارة أو تمثيلا أو تشبيها بليغا، وناقشنا من اعتبر المجاز أمرا حادثا، أو فنا عارضا لم يتكلم به الأوائل، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من خلال هدف ديني لا غرض فني، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام، وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر.
ثالثا: وحللنا مجاز القرآن في مرحلة التأصيل، فكان ابن قتيبة (ت:
276 - هـ) والشريف الرضي (ت: 406هـ) وعبد القاهر الجرجاني (ت:
471 - هـ) وجار الله الزمخشري (ت: 538هـ) أقطاب هذه المرحلة، وقادة هذا الفن، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن لتحقيق مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن.
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة، والمجاز القرآني والنبوي بخاصة، ووجدنا كتابه «تلخيص البيان في مجازات القرآن» سبقا فريدا، لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد، وهو تتبع مجازات القرآن في سوره كافة، فكان حجر الأساس لهذا المعلم، في استقلالية الفكر والمنهج والتأليف، وفي التورع عن القطع في الآراء، وفي العبارة البلاغية المشرقة، التي تريك علم اللغوي إلى جنب الحسّ البلاغي، وصفاء العبقري بإزاء علم البيان، ورقة الشاعر ممزوج بدقة الناثر.(1/165)
471 - هـ) وجار الله الزمخشري (ت: 538هـ) أقطاب هذه المرحلة، وقادة هذا الفن، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن لتحقيق مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن.
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة، والمجاز القرآني والنبوي بخاصة، ووجدنا كتابه «تلخيص البيان في مجازات القرآن» سبقا فريدا، لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد، وهو تتبع مجازات القرآن في سوره كافة، فكان حجر الأساس لهذا المعلم، في استقلالية الفكر والمنهج والتأليف، وفي التورع عن القطع في الآراء، وفي العبارة البلاغية المشرقة، التي تريك علم اللغوي إلى جنب الحسّ البلاغي، وصفاء العبقري بإزاء علم البيان، ورقة الشاعر ممزوج بدقة الناثر.
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي، وواضع أصوله الفنية في كتابيه الدلائل والأسرار، وأول من خطط المجاز في قسمين:
عقلي ولغوي، وتتبعه لذلك في الإثبات والمثبت، وإدراكه لهما في التركيب، فكان الوعي المجازي عنده من أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في صياغة المنهج المحدد الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن.
وإذا جئنا إلى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي، وما استقاه من ينبوع عبد القاهر، فدأب في «أساس البلاغة» إلى تتبع مجاز المفردات، وعمد في «الكشاف» إلى استقراء جمال القرآن المجازي. ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني هنا وهناك فأشرنا إلى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر الدين الرازي، وسواهم من المفسرين والبلاغيين.
رابعا: وتتبعنا مجاز القرآن في دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي أستاذا للدراسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب المفاهيم التدريسية، ونقد المناهج العلمية، فجمع بين أصالة القديم، ومنهج التجديد في العطاء الحديث، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات القرآنية الموضوعية، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في رسائل الماجستير والدكتوراة فكان هذا أول الغيث، وقد فتح بهذا الباب مغالق البلاغة الحقة
في القرآن الكريم، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر النظرات القديمة، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور الجمالية في القرآن.(1/166)
رابعا: وتتبعنا مجاز القرآن في دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي أستاذا للدراسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب المفاهيم التدريسية، ونقد المناهج العلمية، فجمع بين أصالة القديم، ومنهج التجديد في العطاء الحديث، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات القرآنية الموضوعية، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في رسائل الماجستير والدكتوراة فكان هذا أول الغيث، وقد فتح بهذا الباب مغالق البلاغة الحقة
في القرآن الكريم، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر النظرات القديمة، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور الجمالية في القرآن.
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية، وأسماعا مصغية لدى الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة من صنوف البيان القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة، وبالدعوة إلى خوض عباب القرآن، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى.
2 - في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي:
أولا: حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي، إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة فيه للمعنى الأولي، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي، وانبثاق الحد الاصطلاحي من المعنى اللغوي، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين، فكما يجتاز الإنسان من موضع إلى موضع، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه إلى موقع جديد.
ثانيا: ووجدنا مجاز القرآن في الذروة من البيان العربي، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة صالحة من التعبير القرآني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة، وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني، والتطرف في حمل ما ورد في القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها، ولاحظنا الخلاف التقليدي في هذا الملحظ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء، والاستناد إلى التعبير النصي للقرآن، أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد، فأضاف
إلى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل البياني الأصيل.(1/167)
ثانيا: ووجدنا مجاز القرآن في الذروة من البيان العربي، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة صالحة من التعبير القرآني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة، وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني، والتطرف في حمل ما ورد في القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها، ولاحظنا الخلاف التقليدي في هذا الملحظ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء، والاستناد إلى التعبير النصي للقرآن، أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد، فأضاف
إلى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل البياني الأصيل.
ثالثا: وبعد هذه الحقيقة الفنية، وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة، فهو في القرآن نوعان:
مجاز عقلي ومجاز لغوي، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا تتعدى حدود التقسيم العام، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره عقليا ولغويا. وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى، وبعد جهد جهيد أرجعناهما إلى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي، وكان ذلك جهدا فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى، مستندا في كل ذلك إلى التعبير القرآني ليس غير.
رابعا: انتهينا أن مجاز القرآن: عقلي ولغوي، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان، بما يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل إلى المعنى الجديد. والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل، وسبيل الفطرة في الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها العقل عند الإسناد.
والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول استخراجهما من بحره المحيط.
3 - في الفصل الثالث: أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا متميزا يستند إلى الكشف المضني، والاستقراء الدقيق، والملاحظة السليمة النافذة، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من الخلط المرتجل تارة، والضابطة من المجاز الشوه تارة أخرى، فكانت النقلة في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية إلى مناخ أوسع شمولا، وأبلغ تعبيرا، إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني: الحياة في الجماد، والبهجة في الأحياء، وتضيف الحسّ إلى الكائنات، فيصورها القرآن جميعا: ناطقة تتكلم، ورائدة تتصرف، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى، وصيانة الذات القدسية عن الجوارح، وتعاليه عن الحركة والانتقال. ولدى اقتران الغرض الفني في القرآن بالغرض الديني، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت:
أولا: الخصائص الأسلوبية في إدراك اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيئة في الشكل، وإدراكه بمعناه، فالمعنى هو نفسه لم ينقص منه شيء، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا اللفظ مغادرة مناخه الأولي إلى مناخ أوسع، وحينما أريد به الاستعمال المجازي بتطور ذهني نقله من موقع إلى موقع آخر، وزحف بمعجمه من حدث اجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن إلى حدث أكبر، هذه التركيبة الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخرى في لغات العالم، فالإيجاز من جهة، والتطوير من جهة أخرى، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة ثالثة، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن، فكان حلقة الوصل بين الذات المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة، وهذا هو التطور اللغوي في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار، فقد تجيء صفة الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله تعالى، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها، وإنما العناية متجهة نحو الحدث، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي، تأكيدا على هذه الظاهرة، وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل إليه ففعله، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول أو إرادة، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن.(1/168)
3 - في الفصل الثالث: أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا متميزا يستند إلى الكشف المضني، والاستقراء الدقيق، والملاحظة السليمة النافذة، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من الخلط المرتجل تارة، والضابطة من المجاز الشوه تارة أخرى، فكانت النقلة في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية إلى مناخ أوسع شمولا، وأبلغ تعبيرا، إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني: الحياة في الجماد، والبهجة في الأحياء، وتضيف الحسّ إلى الكائنات، فيصورها القرآن جميعا: ناطقة تتكلم، ورائدة تتصرف، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى، وصيانة الذات القدسية عن الجوارح، وتعاليه عن الحركة والانتقال. ولدى اقتران الغرض الفني في القرآن بالغرض الديني، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت:
أولا: الخصائص الأسلوبية في إدراك اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيئة في الشكل، وإدراكه بمعناه، فالمعنى هو نفسه لم ينقص منه شيء، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا اللفظ مغادرة مناخه الأولي إلى مناخ أوسع، وحينما أريد به الاستعمال المجازي بتطور ذهني نقله من موقع إلى موقع آخر، وزحف بمعجمه من حدث اجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن إلى حدث أكبر، هذه التركيبة الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخرى في لغات العالم، فالإيجاز من جهة، والتطوير من جهة أخرى، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة ثالثة، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن، فكان حلقة الوصل بين الذات المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة، وهذا هو التطور اللغوي في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار، فقد تجيء صفة الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله تعالى، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها، وإنما العناية متجهة نحو الحدث، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي، تأكيدا على هذه الظاهرة، وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل إليه ففعله، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول أو إرادة، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن.
ثانيا: الخصائص النفسية في مسايرة النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب، فإن أريدت الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ إلى ما هو أرجح معنى، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها، وإن أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ إلى ما يمثل تلك الصورة بما هو أراد منه في صيغته الحقيقية، فكان ذلك مجالا فريدا، في تكييف النص الأدبي نحو المراد المولوي.
وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث.
ثالثا: الخصائص العقلية في الإيحاء والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال تضج بالحركة،
ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي توهم ببعض الشبه لدى الساذجين، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود الذهن إلى ميناء سليم. وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي، أو إثارة مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما، فتثير الحوافز، وتنبه المدارك، وتحرك المشاعر، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها.(1/169)
ثالثا: الخصائص العقلية في الإيحاء والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال تضج بالحركة،
ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي توهم ببعض الشبه لدى الساذجين، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود الذهن إلى ميناء سليم. وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي، أو إثارة مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما، فتثير الحوافز، وتنبه المدارك، وتحرك المشاعر، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها.
4 - في الفصل الرابع، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن، بحثنا بإشباع:
أولا: تشخيص المجاز العقلي في القرآن وعند العرب، ويعود كشف هذا النوع إلى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي، وهو مسميه بأسمائه المختلفة السمات والمتحدة المسميات.
ثانيا: المجاز العقلي في القرآن بين الإثبات والإسناد، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل، وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة. وإنما يصار إلى مجاز القرآن العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب إلى اللغة في دلالتها لأنها حقيقة الألفاظ، وإنما يرجع فيها إلى العقل في إشارته في الحمل على الإرادة المجازية في الإسناد الحملي، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون إسنادها، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة، ولا في الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل، وإنما يكتشف باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين، وقد يكونان مجازيين، وقد يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران الطرفين مجتمعين.
ثالثا: قرينة المجاز العقلي في القرآن، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه لفظية أو غير لفظية، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية، وعن غير اللفظية بأنها حالية، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز. والقرينة غير العلاقة، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي إلى استعمال المجاز.
رابعا: علاقة المجاز العقلي، وقد تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة المنطقية، وعصر الفلسفة وعلم الكلام، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون بالتفصيلات الأعجمية، لأن القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا بالذهن العربي إلى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة الإنسانية، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة، فكان عملنا متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن.(1/170)
ثالثا: قرينة المجاز العقلي في القرآن، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه لفظية أو غير لفظية، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية، وعن غير اللفظية بأنها حالية، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز. والقرينة غير العلاقة، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي إلى استعمال المجاز.
رابعا: علاقة المجاز العقلي، وقد تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة المنطقية، وعصر الفلسفة وعلم الكلام، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون بالتفصيلات الأعجمية، لأن القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا بالذهن العربي إلى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة الإنسانية، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة، فكان عملنا متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن.
5 - في الفصل الخامس، وهو بعنوان: المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه الفصل المتقدم.
كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث، الذي وقفنا عنده طويلا، ولم ننحرف في منهجيته عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه، نسأل الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله، وأن ينفع به الباحثين والدارسين، وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين.(1/171)