تصدير
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا، ولا تضلنا بأعمالنا، واهدنا منك إلى سواء السبيل.
وبعد، فهذا كتاب «متشابه القرآن» للقاضى عبد الجبار، يأخذ طريقه إلى النشر لأول مرة، بعد أن فرغت من تحقيقه ومراجعته منذ أكثر من عامين، وقصدت إلى تحقيق كتابه «تنزيه القرآن عن المطاعن» الذى سبق له النشر عن نسخة واحدة وبعض الكتب الأخرى للحاكم الجشمى، أحد أعلام التفسير فى القرن الخامس الذى جعلت من دراسة منهجه فى التفسير وآرائه الاعتزالية فى علم الكلام، موضوع بحثى لدرجة الدكتوراة.
واليوم أعود لأقدم كتاب القاضى، فأجدنى قد قدمت له بمقدمة مطولة، تناولت فى فصلها الأول حياة القاضى رحمه الله، وتحدثت فى فصلها الثانى عن الكتاب، وعن عملى فى تحقيقه. وبالرغم من أننى قد أهملت بعض النقاط فى حياة القاضى التى أرجو أن أعود إلى الحديث عنها فى مقدمة تحقيق «التنزيه» إلا أن عبد الجبار أصبح فى حياتنا الثقافية والعلمية أشهر من أن يعرّف، بعد أن نشر كتابه «المغنى فى أبواب التوحيد والعدل» وبعض كتبه القيمة الأخرى، حتى إن حاله اليوم لتذكرنا بالمكانة التى احتلها قديما لدى العلماء والمصنفين، وبخاصة المعتزلة منهم الذين كانوا يلقبونه بقاضى القضاة، ولا يطلقون هذا اللقب على سواه، ولا يعنون به عند الإطلاق غيره.(1/3)
والكلمة التى نحب أن نضيفها هنا بين يدى التحقيق: أننا اليوم بحاجة إلى التراث الأصيل لجميع الفرق الإسلامية، نأخذ منه اليوم ما يؤكد وحدة الفكر الإسلامى وشموله، بعد أن توزع أو كاد على أيدى المتأخرين من أشياع هذه الفرق. ولسنا نقصد من نشر كتب المعتزلة الذين شوهت آراؤهم على أيدى الأشاعرة ودعاة الجبر والتواكل فى العالم الإسلامى إلى الانتصار لفرقة على أخرى، أو إلى إحياء آراء فرقة خاصة من هذه الفرق لأنها جميعا تستوى عندنا فى عدم إحاطتها بنظرة الإسلام الشاملة للوجود، وتصوره المفرد لعلاقة الإنسان بالله وبالكون، ولا تخلو فرقة واحدة من الغلو فى جانب، والتفريط فى جانب آخر، ولكن «تركيز» كل منها على جانب بعينه، يعيننا اليوم على فهم أدق وأعمق لجوانب العقيدة الإسلامية، وتصور الإسلام الكامل، ونظرته الشاملة، وتعامل القرآن الكريم مع جميع عناصر الكينونة الإنسانية ومقوماتها من «العقل» و «الروح» و «الحس» و «البديهة» وسائر عناصر الإدراك البشرى بوجه عام.
ونرجو على كل حال أن يكون عندنا من الموضوعية وسعة الأفق، ما نحاول معه الإفادة من منهج المعتزلة العقلى، ومن سائر المناهج الكلامية الأخرى، فى الدفاع عن الإسلام، وشرح حقائقه أمام مناوئيه ومخالفيه، من أبنائه والغرباء عنه على حد سواء.
عدنان محمد زرزور(1/4)
مقدمة التحقيق(1/5)
الفصل الأول القاضى عبد الجبار
1 - مولده ونسبته
هو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل بن عبد الله الهمذانى الأسدآبادي، ولد فى ضواحى مدينة همذان بإقليم خراسان أو «سوادها» كما عبّر أبو حيان التوحيدى، وإن كان من الممكن أن نرجح أنه ولد فى بلدة اسدآباد» لأنهم جروا على نسبته إليها والى همذان والأولى على منزلة من الثانية على طريقتهم فى النسبة إلى البلد مسقط الرأس، وإلى المدينة أو قصبة الإقليم الذى تتبعه تلك البلدة، نظرا لشهرة عاصمة الإقليم من جهة، ولأن الغالب على طالب العلم الانتقال إليها للقاء المزيد من العلماء، والقراءة على كبار الشيوخ، من جهة أخرى. ثم إن الحاكم الجشمى يقول فى ترجمته: «وأصله اسدآباد همذان خرج إلى البصرة، واختلف إلى مجالس العلماء» (1).
__________
(1) شرح عيون المسائل، المجلد الأول، ورقة 129، وقد نسبه الأستاذ المرحوم مصطفى السقا فى مقدمة التحقيق التى صدر بها الجزء الرابع عشر من «المغنى» إلى «همدان» (إحدى القبائل اليمينية القديمة التى لا تزال باقية حتى الآن بجبالها المعروفة بجبال همدان فى جنوبى جزيرة العرب) كما يقول، فى حين أن المصادر التى بين أيدينا تقول فى نسبته (الهمذانى الأسدآبادي) فتنسبه إلى هاتين البلدتين اللتين تقع إحداهما على منزلة من الأخرى، وبعض هذه المصادر كذلك تنسبه إلى (أستر أسترآباذ) وإن كان ذلك فى حالة أو حالتين فقط وهذه أيضا بلدة بخراسان، فذكر هذه البلاد مجتمعة يرجح أن يكون نسبة القاضى إلى (همذان) البلد، دون القبيلة العربية اليمنية، وإن كانوا يقولون فى بعض الأحيان (الهمدانى) بالإهمال.
وربما كان القاضى يرجع فى نسبه إلى إحدى القبائل اليمنية القديمة، وأنه (عربى صليب) كما(1/7)
وليس فيما بين أيدينا من المصادر تحديد لتاريخ ميلاده، شأنه فى ذلك شأن الكثير من القدماء، وإن كانت أكثر هذه المصادر تذكر أنه عمّر طويلا، وبعضها ينص على أنه قد جاوز التسعين (1)، فإذا علمنا من كتب التراجم هذه أنه توفى سنة خمس عشرة وأربعمائة أمكننا القول إنه ولد فى أواخر الربع الأول من القرن الرابع.
أما وفاته رحمه الله، فكانت فى شهر ذى القعدة سنة خمس عشرة وأربعمائة، كما ذكر أكثرهم (2). ولعل وفاته فى أواخر هذا العام هو السبب الذى جعل الحاكم يتشكك فى تاريخ وفاته، فيجعلها بين عامى 416415، ولهذا يصعب الأخذ بما حسبه الخطيب البغدادى أن وفاته وقد جزم أنها فى عام 415كانت فى أول هذا العام (3).
__________
يقول الأستاذ السقا! ولكن الكتب التى ترجمت للقاضى لم تتعرض لشيء من ذلك. وأدق ما بين أيدينا أن أصله «اسدآباد» كما نص على ذلك الحاكم رحمه الله. انظر السبكى:
طبقات الشافعية الكبرى 3/ 219، معجم البلدان لياقوت 4/ 981، 1/ 242، 245.
(1) قال ابن كثير: «وقد طال عمره» وقال السبكى: «عمر دهرا طويلا حتى ظهر له الأصحاب» وقال ابن الأثير «وقد جاوز التسعين» وقال الذهبى: «مات فى ذى القعدة ستة خمس عشرة وأربعمائة من أبناء التسعين» انظر شذرات الذهب 3/ 203طبقات الشافعية 3/ 220الكامل 7/ 315سير أعلام النبلاء مجلد 11/ ورقة 54
(2) انظر طبقات الشافعية، وسير أعلام النبلاء، للمصدر السابق مصور دار الكتب رقم 12195ج ولسان الميزان 3/ 386وليس فيه ذكر الشهر، وطبقات المفسرين للداودي مخطوط وطبقات المفسرين للسيوطي ص 16طبع ليدن، وشذرات الذهب 3/ 203.
(3) قال صاحب تاريخ بغداد: «مات عبد الجبار بن أحمد قبل دخولى الرى فى رحلتى إلى خراسان وذلك فى سنة خمس عشرة وأربعمائة، وأحسب أن وفاته كانت فى أول السنة» تاريخ بغداد 11/ 115، وأبعد من هذا الحسبان ما ذكره ابن الأثير عرضا أنه توفى عام 414.(1/8)
وقد توفى فى مدينة الرى، ودفن فيها بداره، رحمه الله.
2 - نشأته وتوليه القضاء
نشأ القاضى فى أسرة فقيرة رقيقة الحال، من أب يعمل حلاجا فى سواد همذان، وشب الابن على هذه الرقة التى لازمته حتى بعد زواجه ورزقه بالولد، ولكنه ما لبث بعد أن اتصل بالصاحب ابن عباد وولى قضاء الرى، أن أثرى ثراء واسعا، واقتنى المال والعقار.
وكان سبب توليه القضاء: أن الصاحب إسماعيل بن عباد أشهر وزراء دولة بنى بويه فى العراق وفارس وخراسان، المتوفى سنة 485كان لا يرى تولية القضاء، فى دولته الشيعية، إلا لمن كان معروفا بالاعتزال (1)، وكان عبد الجبار بدأ يعرف بإمام المعتزلة فى عصره، فاتصل به الصاحب واستدعاه إلى الرى، وكتب له عهدا بتوليته رئاسة القضاء فى الرى وقزوين وغيرهما من الأعمال التى كانت لفخر الدولة سنة 467، ثم أضاف إليه بعد ذلك فى عهد آخر إقليمى جرجان وطبرستان بعد «فتحهما» فيما يبدو (2).
__________
(1) انظر شرح عيون المسائل للحاكم الجشمى 1/ 155مخطوط حيث أطال المؤلف وهو معتزلى يذهب فى الفروع مذهب الزيدية الحديث عن «الصاحب الجليل كافى الكفاة رحمه الله» بعد فراغه من تعداد المعتزلة من آل بويه، فقال فيه: إنه جمع بين الكلام والفقه والحديث واللغة والنحو، وبين النظم والنثر. وقال: إنه قرأ الكلام على أبى عبد الله أحد شيوخ القاضى وإنه كان فى ابتداء أمره إماميا ثم رجع إلى الاعتزال. وفى «ظن» الحاكم أنه كان زيديا، ونقل عن القاضى قوله: «مولانا الصاحب شيعي الشعر، معتزلى التصنيف». وانظر جولد تسهر: مذاهب التفسير الإسلامى ص 189.
(2) انظر لسان الميزان 3/ 387ورسائل الصاحب: تحقيق عبد الوهاب عزام والدكتور ضيف، صفحة 34صفحة 42الطبعة الأولى.(1/9)
وكان القاضى، كما يظهر من هذا العهد، مثال العدل والورع فى أحكامه، فقد جاء فى أسباب إضافة جرجان وطبرستان إلى أعماله: أن أمير المؤمنين «ألفاه الكافى فيما استكفاه، الوافى بما قلده واسترعاه. قد نهض من قضاء قضاته، بما أحمد فيه رضىّ مسعاته. مؤديا حق الله فى الأخذ بالعدل، والحكم بالفصل.
والقضاء بموجب الدين ومقتضاه، والإمضاء على سنن الشرع ومفضاه. لا يميل به هواه عند الارتياد، ولا يختلف مغزاه فى الاعتبار والاجتهاد. الورع مركبه وسبيله، والحق مقصده ودليله. قد ضربت بحسن مذهبه الأمثال، وشدّت إلى اقتباس علمه الرجال»
ثم بعد أن ذكر البلاد المضافة إليه، قال: «ممتعا رعية هذه البلاد بكفايته، قاسما لهم حظوظهم من رعيته ودرايته. فأولى الولاة من جمع فيه الحلم والحجى، وأكفى الكفاة من أجمع عليه فى العلم والتقى (1).
ولم يكن الوزير الصاحب يخفى إعجابه الشديد بكفاءة القاضى وعلمه وفضله، فكان يقول فيه: إنه «أفضل أهل الأرض»، «وأعلم أهل الأرض» (2).
ويذكر الحاكم فى طبقات المعتزلة أن القاضى بقى فى الرى، بعد أن استدعاه إليها الصاحب، مواظبا على التدريس إلى أن توفى. وهذا يدل على أن
__________
(1) انظر رسائل الصاحب، المرجع السابق، نفس الصفحة.
(2) انظر طبقات المعتزلة، ص: 112، وانظر رسائل الصاحب، فى مواضع متفرقة، يظهر فيها أثر هذا الاعجاب، حيث يخاطبه بقوله (قاضى القضاة الأجل) ويقول فيه (أقضى القضاة) ويتبع لقبه: قاضي القضاة، بالدعاء له بدوام التأييد والعز والبقاء، ويقول كذلك:
(وما بينى وبين قاضى القضاة يكبر عن الشكر، لا بل عن إجراء الذكر) انظر الرسائل الصفحات: 139، 183، 189.(1/10)
أعباء منصبه الكبير ما كانت لتشغله عن الإملاء والتدريس، إلى أن تفرع لذلك فى نهاية الأمر بعد عزله عن القضاء، عقب وفاة صاحبه الوزير الصاحب الأديب (1).
ويقال فى أسباب عزله: إنه كان قليل الوفاء للصاحب الذى قدّمه وأعلى منزلته فى دولة بنى بويه، فقد رفض القاضى الصلاة على صاحبه، وقال إنه لا يرى الترحم عليه، لأنه مات من غير توبة! ولا بد لمرتكب الكبيرة، فى مذهبهم، من التوبة حتى لا يكون حكمه الخلود فى النار!
قالوا: فنقم عليه فخر الدولة لذلك وقبض عليه، وعزله من منصبه، وصادره على ثلاثة آلاف ألف درهم (2).
ولكن هذا فى الواقع لا يفسر سبب عزله ومصادرته، بمقدار ما يفسره عادة أصحاب السلطان فى ذلك الوقت، بمصادرة كبار الدولة عند عزلهم، أو عند وفاتهم، والغضب عليهم فى بعض الأحيان، حتى عدت المصادرة من «الموارد» الهامة للأمراء والسلاطين! سواء أكان ذلك لاعتقادهم أن ثروات هؤلاء قد ساقها إليهم منصبهم الكبير، أم لمجرد الحصول على المال، وخشية أن يؤلف هؤلاء المعزولون الناس بأموالهم!
ويبعد أن يكون فخر الدولة قد صادر القاضى وعزله لقلة وفائه للصاحب، وقد قام بعد ذلك بمصادرة أموال الصاحب نفسه (3)!.
__________
(1) انظر لسان الميزان: 3/ 387.
(2) انظر ابن حجر: المصدر السابق، معجم الأدباء لياقوت (طبع مصر) 6/ 299.
(3) انظر مقدمة المحقق الدكتور عبد الكريم عثمان، لشرح الأصول الخمسة ص 1615.(1/11)
على أن ورع القاضى فى تطبيق مذهبه فى هذا المقام مما يصعب تبريره فى مواجهة العامة، حتى طعنوا على القاضى فى قلة الوفاء (1) كما رأينا كما أنه كان أبعد ما يكون عن اعتبارات الولاء والصداقة والسياسة جميعا. وربما لم يكن له ما يبرره فى الواقع فى مذهب القاضى نفسه إذا صح ما تنسبه بعض المصادر إلى الصاحب من أن الكبيرة التى ارتكبها، والتى لم يعلم له القاضى توبة منها، كانت شرب النبيذ (2)!.
على أن القاضى، رحمه الله، قد رمى من بعض خصومه بأنه لم يكن محمودا فى القضاء وهذا ما ينفيه عهد أمير المؤمنين الذى أشرنا إليه كما أن التوحيدى، لسبب ما، انفرد بإفحاش القول فيه، حتى إنه لم يجد ما يعبر به عن استدعاء الصاحب له واعجابه به، غير قوله: «واتصل بابن عباد فراج عليه لحسن سمته ولزوم ناموسه!» وقبل أن يسترسل فى ذم الكلام وأهله ويتوسع فى ذلك، قال فى القاضى: «وولى القضاء، وحصّل المال حتى ضاهى قارون فى سعة المال وهو مع ذلك نغل (3) الباطن، خبيث المعتقد، قليل اليقين» (4).
ولقد علم أبو حيان وكان حريا به الا يفرغ ما فى نفسه على القاضى أنه لم يصدق القول فى الرجل، لأنه لا سبيل له إلى الاطلاع على باطنه، حتى يقول فيه إنه كان خبيث المعتقد أو قليل اليقين!! ولأن الذى يدل عليه ظاهره فيما كتب
__________
(1) انظر معجم الأدباء لياقوت: 6/ 299.
(2) راجع مذاهب التفسير الإسلامى لجولد زهير، ترجمة الدكتور النجار رحمه الله ص 190.
(3) نغلت نيته: ساءت، ونغل قلبه علىّ: ضغن. انظر أقرب الموارد ص 1324.
(4) راجع لسان الميزان لابن حجر: 3/ 387386.(1/12)
وأملى أنه لم يكن كذلك رحمه الله، ولقد كان يسع أبا حيان ألا يوسع القاضى من السباب والشتائم لولا طبع يحمله على ذلك (1) إذا كان رأيه سيئا فى الكلام على ما يزعم!.
3 - ثقافة القاضى وشيوخه ومنزلته العلمية
بدأ القاضى حياته دارسا للأصول على مذهب الأشعرى، وفقيها على المذهب الشافعى قال الحاكم: «وكان فى ابتداء حاله يذهب فى الأصول مذهب الأشعرية، وفى الفروع مذهب الشافعى، فلما حضر المجالس وناظر ونظر، عرف الحق فانقاد له» (2).
وكان أراد أن يقرأ فقه أبى حنيفة على أبى عبد الله البصرى (3). فقال له:
__________
(1) ذكر ياقوت أن أبا حيان (كان قصد ابن عباد إلى الرى فلم يرزق منه فرجع عنه ذاما له!) ثم قال: (وكان أبو حيان مجبولا على الغرام بثلب الكرام!) وبحسب القاضى عندنا أن يعد فى هؤلاء. انظر معجم الأدباء. 6/ 187.
(2) شرح عيون المسائل للحاكم الجشمى، الجزء الأول، ورقة 130، وانظر طبقات المعتزلة، طبع بيروت، ص 112.
وقد وضعه الحاكم على رأس الطبقة الحادية عشرة من طبقات المعتزلة، فقال: «فمن هذه الطبقة، بل أولهم وأقدمهم فضلا قاضى القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد» ثم قال:
«وهو يعد من معتزلة البصرة من أصحاب أبى هاشم لنصرته مذاهبه» المصدر السابق، ورقة 129. وانظر الحديث عن فرعى المعتزلة الكبيرين: معتزلة البصرة ومعتزلة بغداد، وأهم رجالات كل من الفرعين، والمسائل التى دارت عليها فلك أبحاث كل منهما: ضحى الإسلام للأستاذ أحمد أمين رحمه الله، الجزء الثالث. وانظر حديثنا عن كتاب (فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة) للقاضى، فى ثبت كتبه القادم.
(3) هو أبو عبد الله الحسين بن على البصرى، ذكر القاضى أنه كان من أصحاب أبى هاشم وهم الذين قدمهم فى طبقاته على رجال الطبقة العاشرة وأنه أخذ أولا عن أبى على بن خلاد ثم عن أبى هاشم (لكنه بلغ بجده واجتهاده ما لم يبلغه غيره) أخذ الفقه عن أبى الحسن(1/13)
هذا علم كل مجتهد فيه مصيب المعتزلة من المصوّبة كما هو معلوم وأنا فى الحنفية، فكن أنت فى أصحاب الشافعى، قال الحاكم: «فكان بلغ فى الفقه مبلغا عظيما، وله اختيارات» (1) لكنه ما لبث أن وفر أيامه على الكلام دون الفقه، وكان يقول فى ذلك: للفقه أقوام يقومون به طلبا لأسباب الدنيا، وعلم الكلام لا عرض فيه سوى الله تعالى (2).
قرأ الكلام مدة على أبى إسحاق بن عياش (3)، ثم رحل الى بغداد وأقام عند الشيخ أبى عبد الله مدة مديدة «حتى فاق الأقران وخرج فريد دهره» كما يقول الحاكم.
__________
الكرخى ولازمه الزمان الطويل. وقد جرت عادة القاضى على وصفه بالشيخ المرشد أبى عبد الله.
توفى رحمه الله سنة سبع وستين وثلاثمائة. انظر شرح عيون المسائل: 1/ ورقة 125 126، وطبقات المعتزلة، ص: 107105.
(1) شرح عيون المسائل المصدر السالف 1/ 129.
(2) المصدر السابق، نفس الورقة، وانظر طبقات المعتزلة ص 112طبع بيروت.
(3) هو إبراهيم بن عياش البصرى، من رجال الطبقة العاشرة. قال القاضى: (وهو الذى درسنا عليه أولا، وهو من الورع والزهد والعلم على حظ عظيم. وكان مع لقائه لأبى هاشم استكثر من أبى على بن خلاد. ثم من الشيخ أبى عبد الله، ثم انفرد) شرح العيون 1/ ورقة 126.
وبذلك يكون القاضى قد أخذ ممن قرأ على أبى هاشم الجبائى (ت 321)، والواقع أن نظرة واحدة فى كتب القاضى وبخاصة المغنى توضح مدى عنايته الكبيرة بآراء أبى هاشم وآراء أبيه أبى على (ت 303) وهو يقول عن كل منهما: شيخنا فلان: حيثما نقل عنهما أو استشهد بهما. وغالبا ما يفعل ذلك فى كل صفحة من صفحات المغنى وسائر كتبه تقريبا. حتى ليعد أكبر أنصار المدرسة الجبائية وعمدها، فوق أنه لسانها وقلمها. وإذا كان الانتصار الأخير أو الانتشار كتب فى المعتزلة لآراء أبى هاشم كما يذكر مؤرخو الفرق فإن الفضل فى ذلك يعود بدرجة كبيرة إلى القاضى عبد الجبار، الذى تبنى آراء أبى هاشم بخاصة، وآراء المدرسة الجبائية بعامة، ودافع عنها، وخلدها فى إملاءاته الكثيرة.(1/14)
وسمع الحديث من أبى الحسن إبراهيم بن سلمة القطان (ت 345) وعبد الرحمن ابن حمدان الجلاب (ت 346)، وعبد الرحمن بن جعفر بن فارس (ت 346) والزبير بن عبد الواحد الأسدآبادي (ت 347)، وغيرهم.
والواقع أن القاضى لم يكن متمكنا من الكلام، أو الفقه، دون سائر فروع الثقافة الإسلامية الأخرى، فقد درس التفسير وأصول الفقه والحديث وغيرها، بل يمكن القول إنه كان متمكنا من جميع فروع الثقافة المعروفة فى عصره.
وما يكون لمن «انتهت الرئاسة فى المعتزلة إليه حتى صار شيخها وعالمها غير مدافع، ومن صار الاعتماد على كتبه التى نسخت كتب من تقدمه من المشايخ».
كما يقول الحاكم، إلا أن يكون كذلك. وسوف نشير بشيء من التفصيل إلى كتبه المتصلة بتفسير القرآن عند الكلام عن كتابه فى المتشابه، ونعرض هنا إلى بعض ما قيل فى منزلته، رحمه الله، فى أهم فروع الثقافة الإسلامية الأخرى.
ففي علم الكلام:
يقول الحاكم: «وليس تحضرنى عبارة تنبئ عن محله فى الفضل وعلو منزلته فى العلم، فإنه الذى فتق الكلام ونشره، ووضع فيه الكتب الكثيرة الجليلة التى سارت بها الركبان وبلغت الشرق والغرب، وضمّنها من دقيق الكلام وجليله ما لم يتفق لأحد مثله» (1).
ويذكر له من هذه الكتب. «كتاب الدواعى والصوارف، والخلاف والوفاق. وكتاب الخاطر، وكتاب الاعتماد، وكتاب المنع والتمانع، وكتاب
__________
(1) شرح عيون المسائل للحاكم، الجزء الاول، ورقة 129.(1/15)
ما يجوز فيه التزايد وما لا يجوز إلى أمثال ذلك مما يكثر» (1).
ويقول: «وأماليه الكثيرة، نحو المغنى، والفعل والفاعل، وكتاب المبسوط، وكتاب المحيط، وكتاب الحكمة والحكيم، وشرح الأصول الخمس ونحوها».
ويذكر أن له كتبا فى الشروح لم يسبق إلى مثلها «كشرح الجامعين، وشرح الأصول، وشرح المقالات، وشرح الأعراض» وكتبا أخرى فى تكملة كتب المشايخ كل ذلك فى الكلام «صنفه على مثل طريقتهم ونمط كتابتهم.
كتكملة الجامع، وتكملة الشرح» إلى جانب كتب أخرى فى النقض على المخالفين وكتبهم «أوضح فيها بطلان قولهم، كنقض اللمع، ونقض الإمامة» وكتب فى مسائل وردت عليه من الآفاق فأجاب عنها «نحو الطوسيات، والرازيات، والعسكريات، والقاشانيات، والمصريات، وجوابات مسائل أبى رشيد، والنيسابوريات، والخوارزميات» وكتب فى المسائل التى وردت على المشايخ «فأجابوا عنها بصحيح وفاسد، فبينه رحمه الله وتكلم عليه، ككلامه فى المسائل الواردة على أبى الحسن! والمسائل الواردة على أبى القاسم، والمسائل الواردة على أبى على، وأبى هاشم» إلى كتب أخرى كثيرة ذكرها الحاكم، وقال بعد أن فرغ من عرضها: «وغير ذلك مما يكثر تعداده، وذكر جميع مصنفاته يتعذر» (2).
__________
(1) المصدر السابق ورقة 130، ويذكر الحاكم أن هذه الكتب قد سبق القاضى إلى التصنيف فى بابها (غير أنه لم يسبق إلى مثل تصنيفه فى حسن رونقه وديباجته وإيجاز ألفاظه موجودة معانيه)
(2) المصدر السابق.(1/16)
وغنى عن البيان أن القاضى وهو يؤلف أو يملى فى الكلام على مذهب أصحابه وكان مقدّمهم وصاحب الرئاسة فيهم ما كان له أن يتهاون فى إقامة الدليل على بطلان مذهب خصومه من الأشاعرة وغيرهم!. بل على العكس من ذلك نجده فيما يتصل بالأشاعرة وإمامهم أبى الحسن، رحمه الله، يشتد فى القسوة عليهم فى كثير من الأحيان، نظرا لغلبتهم على العامة، ولمعرفته بمواطن الضعف فى هذا المذهب الذى كان قد نشأ عليه، ولهذا لا نجد فى اتهام بعض كتاب التراجم له، كالذهبى وابن حجر، بأنه من غلاة المعتزلة، ما يوجب البحث والتأمل.
لكن من طريف ما يتصل بهذا الموضوع ما نقله صاحب لسان الميزان عن الخليلى قال: «كتبت عنه، وكان ثقة فى حديثه، لكنه داع إلى البدعة لا تحل الرواية عنه! (1)» وما نقله ابن العماد عن ابن قاضى شهبة قال: «وكان شافعى المذهب، وهو مع ذلك شيخ الاعتزال! (2)»، وكأن الجمع بين المذهب الشافعى فى الفروع، والاعتزال فى الأصول، من المحال! أو كأن الشافعية لم يكن فيهم معتزلى واحد قبل القاضى عبد الجبار! سواء أكان من عامتهم، أم من شيوخهم! (3)
وفى اصول الفقه:
نجد ابن خلدون يتحدث عن أفضل ما كتب فيه على طريقة المتكلمين، فيجعل لكل من الأشعرية والمعتزلة فى ذلك كتابين البرهان: لإمام الحرمين
__________
(1) ابن حجر: 3/ 387.
(2) شذرات الذهب: 3/ 203.
(3) انظر الفصل الذى عقده الحاكم للذين ذهبوا مذهب العدل من الفقهاء، والذى تحدث فيه عمن ذهب إلى الاعتزال من أصحاب الشافعى، ومنهم أبو بكر الصيرفى، وأبو بكر الدقاق، وأبو بكر القفال الشاشى: شرح عيون المسائل: 1/ ورقة 158، وانظر فيه قضاة الشافعية الذين كانوا يرون رأى المعتزلة، ورقة 134والورقة 136.
[م 2المقدمة](1/17)
والمستصفى: للغزالى، وكتاب العمد للقاضى، وشرحه «المعتمد» لأبى الحسين البصرى. ثم يقول: «وكانت الأربعة قواعد هذا الفن وأركانه» (1).
بل إن الزركشى فى البحر المحيط لا يرى أن أحدا يستحق الذكر بعد الشافعى غير الباقلانى والقاضى عبد الجبار، ويكاد أن ينسب الناس بعدهما إلى التقليد فى هذا الفن، فيقول بعد أن أوضح جهود الشافعى، رضى الله عنه، فى تقييد هذا العلم: «وجاء من بعده، فبينوا وأوضحوا، وبسطوا، وشرحوا، حتى جاء القاضيان: قاضى السنة أبو بكر بن الطيب، وقاضى المعتزلة عبد الجبار، فوسعا العبارات وفكا الإشارات، وبينا الإجمال، ورفعا الإشكال» ثم يقول: «واقتنع الناس بآرائهم، وساروا على أخذ نارهم، فحرروا وقرروا، وصوبوا وصوروا (2)».
ثم إنه فى كتابه السابق وهو يقع فى ثلاث مجلدات ضخام، لا يكاد يدّكر مسألة من مسائل أصول الفقه إلا ويورد فيها رأى القاضى عبد الجبار.
وقد أشار السبكى والداوديّ إلى منزلة القاضى فى هذا العلم بعبارة موجزة تشعر بأن الأمر أشهر من أن يتحدث عنه، فقالا: «وكان له الذكر الشائع بين الأصوليين (3)».
__________
(1) مقدمة ابن خلدون تحقيق الدكتور على عبد الواحد وافى ص: 1031. الطبعة الأولى سنة 1379. وقد قال الحاكم: إن للقاضى فى أصول الفقه (كتبا جامعة لم يسبق إلى مثلها، كالنهاية، والعمد، وشرح العمد). وعلى ذلك يكون (المعتمد) لأبى الحسين شرحا آخر للعمد، أو شرحا لكتاب آخر غير العمد، وهو الأرجح.
راجع شرح عيون المسائل: الجزء الأول، ورقة 130/
و (2) البحر المحيط، مخطوطة دار الكتب المصرية رقم 483أصول فقه، المجلد الأول.
(3) السبكى: 3/ 219. الداوديّ: طبقات المفسرين، مخطوط دار الكتب.(1/18)
دراسات اصولية فريدة:
بل إننا نجد عند القاضى فى ميدان الدراسات الأصولية، بناء على منهجه الدقيق فى البحث، مسائل وأبحاثا لم يسبق إليها، فكتابه «المغنى» وهو فى علم الكلام، أو فى أصول الاعتقاد، كما يعبرون يحوى بين أجزائه جزءا يحمل عنوان «الشرعيات» الجزء السابع عشر تناول فيه مباحث فى أصول الفقه، كمسائل الإجماع والقياس والاجتهاد، وأبحاث العموم والخصوص، والأمر والنهى ونحوها، على غير ما تناولتها كتب أصول الفقه، فقد كان يكتفى منها بذكر جمل القول، وما يجرى منها مجرى الأصول، ولهذا وضعها فى كتاب خصه بعلم الكلام، وهو يقول فى ذلك: «وإنما نذكر فى هذا الموضوع جمل القول فى الأدلة، لأن الغرض بيان ما يعرف به الأحكام فى الوعد والوعيد، دون تقصى القول فى أصول الفقه (1)» ويقول: «وإنما نذكر الآن جمل الأدلة، لوقوع الحاجة إليها فى باب معرفة أصول الشرائع، والوعد والوعيد، والأسماء والأحكام، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والإمامة، لأن هذه الأبواب أصلها الأدلة الشرعية فلا بد من بيان أصولها (2)»
ويرى الأستاذ المرحوم أمين الخولى الذى حرر نص الشرعيات أن بأمثال هذه العبارات ونحوها من الإشارات الكثيرة فى الجزء المذكور «ندرك أن موضوع هذا الجزء هو ما يلتقى فيه «الأصلان» اللذان سماهما الأقدمون: أصل الاعتقاد، وأصل العمل أو أصول العقيدة، وأصول الفقه، يعرض فيه قاضى القضاة لهذه الناحية مبينا صلة أصول الفقه بأصول الاعتقاد، وهذا ما يبينه قوله:
__________
(1) انظر الشرعيات (ج 17من المغنى) ص: 92.
(2) المصدر السابق، نفس الصفحة.(1/19)
وإنما نذكر فى هذا الكتاب ما يجرى مجرى الأصول (1)»
ثم يقول الأستاذ الخولى: «ويكون هذا الجزء صنفا غير كثير ولا شائع فى تناول الأصول العليا لأبحاث أصول الفقه، من حيث التقاؤها مع أصول العقيدة، يتناول ما قد يجمل أصحاب أصول الفقه القول فيه، أو يتركون التعرض له أحيانا، ويدع التفصيل لمكانه من تناول أصحاب الفقه وأصوله (2)».
وكأن القاضى بهذا يحاول غير مسبوق أن يقعّد لأصول الفقه، أصولا من الفكر والعقيدة المذهبية.
فى الفقه:
أما مكانة شيخنا فى الفقه، على المذهب الشافعى، فقد تقدمت فى بيانها عبارة الحاكم أنه «بلغ فى الفقه مبلغا عظيما، وكانت له اختيارات» وطبيعى أن يكون للقاضى ومنزلته فى أصول الفقه ما قدمنا اختيارات فى هذا الفن!.
وفى الحديث:
أتاح له سماعه على كبار المحدثين فرصة الدراية الواسعة فى فنونه المختلفة، وقد ترك لنا من أماليه فيه، كتاب: «نظم الفوائد وتقريب المراد للرائد» تعرض فيه لكثير من أبواب الحديث على ترتيبها المعروف عند أكثر المحدثين وخص منها بالذكر: الأحاديث المتشابهة.
والواقع أن نظرة واحدة فى فهرس الكتب التى ألفها القاضى أو أملاها على
__________
(1) المغنى: ج 17، تقديم الأستاذ الخولى، ص: 5.
(2) المصدر السابق، نفس الصفحة.(1/20)
تلامذته، تبين مدى ثقافته الغزيرة، واطلاعه الواسع، ومنزلته الكبيرة فى الفكر الإسلامى، القائمة على المشاركة فى شتى فروع الثقافة الإسلامية، وعلى الدفاع عن الإسلام ورد مطاعن الطاعنين (1).
فى مجال الدفاع عن الاسلام:
وبحسبنا أن نشير هنا، فى مجال هذا الدفاع المجيد، إلى كتابه: «تثبيت دلائل نبوة سيدنا محمد» الذى قال فيه ابن كثير: إنه «من أجل مصنفاته، وأعظمها، وقد أبان فيه عن علم وبصيرة جيدة» والذى قال فيه الذهبى: «إنه أجاد فيه وبرّز (2)».
وقد اطلع العلامة المرحوم الشيخ زاهد الكوثرى على مخطوطة هذا الكتاب وقال فيه، فى معرض حديثه عن بلاء المعتزلة فى الدفاع عن الإسلام «إزاء الدهريين، ومنكرى النبوة، والثنوية، والنصارى، واليهود، والصابئة، وأصناف الملاحدة».
قال: «ولم نر ما يقارب كتاب تثبيت دلائل النبوة للقاضى فى قوة الحجاج وحسن الصياغة، فى دفع شكوك المتشككين» (3).
__________
(1) قال الحاكم: (ويقال إن له أربعمائة ألف ورقة مما صنف، فى كل فن، ومصنفاته أنواع) وقد قام الأستاذ الدكتور عبد الكريم عثمان، فى مقدمة التحقيق التى صدر بها (شرح الأصول الخمسة) بعمل فهرس شامل لكتب القاضى، مع ذكر المصدر، أو المصادر، التى أشارت إلى كل منها، وبيان موضوعها.
انظر شرح الأصول الخمسة، ص: 2320.
(2) انظر لسان الميزان: 3/ 386. شذرات الذهب: 3/ 203.
(3) انظر ص: 18من مقدمة الشيخ زاهد لكتاب (تبيين كذب المفترى) لابن عساكر(1/21)
4 - تلامذته
أما تلامذته فهم كثيرون، وقد نقل عن أبى سعيد السمان، أنه قال «دوّخت البلاد فما دخلت بلدا وناحية إلا وفيها من أخذ عن قاضى القضاة»، وقال الحاكم فى رجال الطبقة الثانية عشرة من المعتزلة إنهم «أصحاب قاضى القضاة والذين قرءوا عليه وقرءوا على من فى طبقته من علماء المتكلمين»، وقال فى موضع آخر: إنه قد اتفق له من الأصحاب ما لم يتفق لأحد من رؤساء الكلام (1).
وكان من أشهر تلامذته، رجال الطبقة المذكورة:
1 - أبو رشيد النيسابورى (سعيد بن محمد)، قال فيه الحاكم: «وكان بغدادى المذهب، واختلف إلى مجلسه وهو نصف، فدرس عليه وقبل عنه أحسن قبول، وصار من أصحابه. وإليه انتهت الرئاسة فى المعتزلة بعد قاضى القضاة
وكان القاضى يخاطبه بالشيخ، ولا يخاطب به غيره) (2). وله تصانيف جيدة منها كتاب «ديوان الأصول» (3) فى فتاوى الكلام.
__________
وانظر فى إشادته، رحمه الله، برد القاضى عبد الجبار على الباطنية: مقدمته لكتاب (كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة) المطبوع مع كتاب (التبصير فى الدين) للاسفرايينى كلاهما بتحقيقه ص: 190.
(1) شرح عيون المسائل 1/ 130.
(2) المصدر السابق، ورقة 135.
(3) والقاضى هو الذى أحال على تلميذه الكتابة فى هذا الموضوع قال الحاكم: (وسمعت غير واحد من مشايخنا يقول إن قاضى القضاة سئل أن يصنف كتابا فى فتاوى الكلام يقرأ ويعلق، كما هو فى الفقه، وكان مشغولا بغيره من التصانيف فأحال على أبى رشيد، فصنف ديوان الأصول، وابتدأ بالجواهر والأعراض، ثم بالتوحيد والعدل) شرح العيون 1: 135.(1/22)
2 - وأبو يوسف القزوينى (عبد السلام بن محمد)، قال فيه السمعانى «كان أحد المعمرين والفضلاء المتقدمين جمع التفسير الكبير الذى لم ير فى فى التفاسير أكبر منه ولا أجمع للفوائد» أخذ عن القاضى وسمع منه الحديث، وحدث عن جماعات، وكان يفاخر بالاعتزال ويتظاهر به حتى على باب نظام الملك الوزير، ولد بقزوين سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وتوفى ببغداد فى ذى القعدة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة (1).
2 - والشريف المرتضى (أبو القاسم على بن الحسين الموسوى) أخذ عن القاضى عند انصرافه من الحج، وهو إمامى يميل إلى الإرجاء، كما يقول الحاكم.
قال الذهبى: وكان من الأذكياء المتبحرين فى الكلام، والاعتزال، والأدب، والشعر. من كتبه: الأمالى «درر الفوائد وغرر القلائد» وكتاب «الشافى» فى الإمامة، نقض فيه على شيخه القاضى ما كتبه فى المغنى عن الإمامة «الجزء العشرون»، و «الذخيرة» فى الأصول، وديوان شعر، وكتب أخرى. وتوفى سنة ست وثلاثين وأربعمائة (2).
4 - وأبو الحسين البصرى (محمد بن على بن الطيب) درس على القاضى، ودرّس ببغداد، يقول فيه الذهبى: «إنه كان شيخ المعتزلة، فصيحا بليغا، عذب العبارة، يتوقد ذكاء»، من كتبه «تصفح الأدلة» و «المعتمد» فى أصول الفقه
__________
(1) انظر طبقات المفسرين للداودي خ وطبقات الشافعية الكبرى للسبكى 3/ 230.
(2) انظر شرح عيون المسائل: 1/ ورقة 135، وسير أعلام النبلاء للذهبى: 11/ ورقة 131، ويقول ابن حزم: الإمامية كلهم على أن القرآن مبدل وفيه زيادة ونقص، سوى المرتضى فإنه كفر من قال بذلك، وكذلك صاحباه أبو يعلى الطوسى وأبو القاسم الرازى، راجع الذهبى: المصدر السابق،(1/23)
من الكتب المشهورة، يقول فيه الذهبى: إنه من أجود الكتب، و «نقض الشافى» فى الإمامة، انتصر فيه لشيخه ورد على الشريف. توفى ببغداد سنة ست وثلاثين وأربعمائة (1).
5 - وأبو القاسم البستى (إسماعيل بن أحمد)، كان يميل إلى مذهب الزيدية، وصحب قاضى القضاة حين حج، وكان إذا سئل عن مسألة أحال عليه، وكان جدلا حاذقا، وهو الذى ناظر الباقلانى حين ترفع القاضى عن مكالمته فقطعه. توفى سنة عشرين وأربعمائة (2).
وكثيرون غيرهم، مثل أبى محمد اللباد الذى كان من متقدمى أصحابه، وصاحب كتاب «النكت»، وأبى بكر الخوارزمى الذى كان يختلف إليه أبو حامد شيخ الحاكم الجشمى وأبو سعيد السمان «واحد عصره فى أنواع العلوم والكلام والفقه والحديث»، وأبى نصر الرزمانى، وأبى محمد بن متّويه، والإمام أبى الحسين أحمد بن الحسين بن هارون الذى بايعه الزيدية بالإمامة سنة ثمانين وثلاثمائة، والذى بايعه القاضى فيما يقال وآخرون (3).
__________
(1) شرح العيون: 1/ ورقة 137، سير أعلام النبلاء، المصدر السابق نفس الصفحة.
(2) شرح العيون: 1/ ورقة 136. وقد اطلعنا من كتبه على كتاب (البحث عن أدلة التكفير والتفسيق) وفيه يظهر تعصبه الشديد على المخالفين، ومغالاته فى رمى الناس بالكفر.
(3) راجع شرح العيون: 1/ ورقة 133، والورقات من 138135ويبدو من سيرة تلامذة القاضى وتاريخ حياته مدى ما كان يلقاه منهم من التوقير والاجلال والتعظيم إلى جانب التوقير الكبير والمكانة العالية التى رفعه اليها الصاحب بن عباد فقد نقل الحاكم أنه أصابه النقرس فى آخر عمره، فاحتاج مرة إلى الخروج فحمله الأشراف على عواتقهم، وانظر كتاب الصاحب له بعد أن فرغ من املاء المغنى وقدمه إليه: شرح العيون 1/ ورقة 130.(1/24)
5 - كتبه
ونختم القول فى ثقافة القاضى ومنزلته العلمية بذكر ما وصلنا من آثاره، رحمه الله (1)، وهذه الآثار هى:
1 - الأمالى فى الحديث «المسمى نظم الفوائد وتقريب المراد للرائد» (2).
2 - تثبيت دلائل نبوة سيدنا محمد (3).
3 - تنزيه القرآن عن المطاعن (4).
4 - الخلاف بين الشيخين (5).
__________
(1) انظر أسماء سائر كتبه فى حديثنا السابق عن منزلة القاضى فى الكلام وأصول الفقه، وانظر ثبتا وافيا بأسماء كتب القاضى ومن ذكرها من المؤرخين وكتاب التراجم: فى المقدمة التى صدر بها الدكتور عبد الكريم عثمان كتاب شرح الأصول الخمسة، هذا وقد قدمنا قول الحاكم إن الاعتماد صار على كتب القاضى وإنها نسخت كتب من تقدمه من المشايخ، ويعود شيء من ذلك فيما نرى إلى كثرة تلامذته. وإلى ما ذكره الحاكم من طريقته فى التدريس، وهي الاختصار فى الإملاء والبسط فى الدرس على خلاف ما كان يفعله شيخه أبو عبد الله قال الحاكم: (فكان من حسن طريقته ترك الناس كتب من تقدم) شرح العيون: 1/ 130.
(2) توجد منه نسخ خطية فى اليمن والفاتيكان والمتحف البريطانى، وهو مصور بدار الكتب تحت رقم: 28083ب، وقد رتبه القاضى شمس الدين جعفر بن أحمد بن عبد السلام (ت 573).
(3) توجد منه نسخة فريدة فى استانبول، وهى التى اطلع عليها الأستاذ الشيخ الكوثرى رحمه الله وقد صورته لإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، وقام الزميل الكريم الدكتور عبد الكريم عثمان بتحقيقه عن هذه النسخة، ونشره أخيرا فى بيروت.
(4) وهو أول كتاب طبع للقاضى، قام بطبعه صاحب المكتبة الأزهرية عام 1279هـ عن مخطوطة دار الكتب 330تفسير، وهذه الطبعة التى تقع فى قرابة أربعمائة صفحة من القطع المتوسط، مليئة بالتصحيف والتحريف، ثم طبع الكتاب أخيرا فى بيروت عن هذه الطبعة مع مزيد من التصحيف. وقد عثرنا على نسخة خطية أخرى من الكتاب، قمنا بتحقيقه عن هاتين النسختين: وسوف نطبعه فى وقت قريب.
(5) مخطوطة مكتبة الفاتيكان رقم (1100مخطوطات عربية) وهو فى المسائل الخلافية بين الجبّائيين: أبى على وابنه أبى هاشم رحمهما الله.(1/25)
5 - رسالة فى علم الكيمياء (1).
6 - شرح الأصول الخمسة (2).
7 - فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة (3).
8 - متشابه القرآن.
9 - المحيط بالتكليف (4).
__________
(1) مخطوط صغير الحجم أشار إليه بروكلمان.
(2) قام بتحقيقه عن نسختين خطيتين الأخ الدكتور عبد الكريم عثمان، ونشره بالقاهرة فى نهاية عام 1384هـ، ويقع الكتاب فى أكثر من ثمانمائة صفحة. وهو أهم كتاب موجز فى أصول الاعتزال.
(3) توجد منه نسخة خطية لدى الأستاذ فؤاد السيد. أتاح لنا فرصة الرجوع إليها أكثر من مرة. وتقع فى قرابة تسعين ورقة من القطع الكبير. منها سبع وثلاثون فى فضل الاعتزال، رتبها على عدة فصول تحدث فيها عن الخلاف بين أهل الصلاة، وعن مدح الاعتزال وذم القدرية، وأن الله لا يريد المعاصى، وعن خلق إبليس وكيف يوسوس، وناقش فيها قولهم إن الكلام بدعة، وما ينسبه البعض إلى المعتزلة أنهم خرجوا عن التمسك بالسنة والإجماع وأمور كثيرة أخرى مما يشنع بها على المعتزلة الخ.
ووصل القاضى بطبقاتهم إلى الطبقة العاشرة، وهى التى وضع فيها من أخذ عن أبى هاشم وعمن هو فى طبقته. ثم جاء من بعده الحاكم أبو سعد، المحسن بن كرامة الجشمي البيهقى، المتوفى سنة 494. فأخذ طبقات القاضى المذكورة وأضاف عليها طبقتين: الحادية عشرة، والثانية عشرة وضع على رأس الأولى قاضى القضاة وخص الثانية بأصحابه الذين أخذوا عنه. كما أضاف بعض الطبقات الأخرى، وجعل الكل فى كتابه (شرح عيون المسائل خ) فى باب خصه بالحديث عن رجال الاعتزال وقد فرغنا من تحقيق الجزء الأول من هذا الكتاب، ونرجو أن نطبعه فى وقت قريب.
(4) نسب هذا الكتاب لابن متويه أحد تلامذة القاضى. قال الحاكم: «ومنهم أى رجال الطبقة الثانية عشرة أبو محمد الحسن بن متويه، أخذ عن القاضى وله كتب مشهورة، كالمحيط فى أصول الدين والتذكرة فى لطيف الكلام» طبقات المعتزلة، ص: 119. ويبدو أن الكتاب للقاضى، ولكن ما جمعه تلميذه ابن متويه منه، أسماه: المجموع من المحيط بالتكليف وقد بدئ بنشر الكتاب بتحقيق عمر السيد عزمى، منسوبا إلى القاضي، على أنه من جمع تلميذه الحسن.(1/26)
10 - المغنى فى أبواب التوحيد والعدل (1).
وبعد: فهذه صورة عن حياة القاضى التى لم تعد مجهولة لدى المشتغلين بالدراسات الفكرية فى العالم الإسلامى، بعد أن سبق لكثير من العلماء والباحثين الكتابة فيها والحديث عنها، وتعريف بكتبه وآثاره التى وصل إلينا، والتى ساهمت فى إعطاء صورة كاملة لمذهب المعتزلة الفكرى أو لما آل إليه هذا المذهب على أيدى المدرسة الجبائية ومنزلة القاضى فى هذا المذهب، وبالتالى فى الفكر الإسلامى بوجه عام قدمتها بين يدى الحديث عن كتابه فى متشابه القرآن، وجهوده فى ميدان الدراسات القرآنية بصفة عامة.
__________
(1) وهو أجمع ما وصلنا من كتب القاضى، وكتب سائر المعتزلة فى الكشف عن أصولهم والرد على الخصوم وقد جمع فيه «كل ما يتعلق بأصول الدين» قال القاضى «وكما تقصينا طريقة الحق فقد استوفينا شبه المخالفين وبينا حلها. وكما شرحنا اختلاف المقالات فى كل باب فقد تقصينا ما تقتضيه قسمة العقل لأن العلم لا يجب أن يكون موقوفا على ما حصل فيه الخلاف والنزاع دون ما لا يحصل فيه والواجب على طالب العلم أن ينتهي فى نظره واستدلاله إلى نهاية ما يمكن من قسمة العقل، فيثبت الصحيح وينفى السقيم والباطل» انظر المغنى: 20 قسم 2ص 255.
ويقع الكتاب فى عشرين جزءا أملاها القاضى فى مدة عشرين عاما! قال رحمه الله:
«وابتدأنا بهذا الكتاب فى شهور سنة 360ستين وثلاثمائة وفرغنا منه فى شهور سنة 380ثمانين وثلاثمائة ولعل الناظر فى كتابنا هذا يستطيل المدة التى أنفقت فى إملائه وقد كان يجوز ذلك لولا الاشتغال بالتدريس وغيره. ومع ذلك فقد أنفق من الأشغال ما يزيل العتب فى استطالة المدة فيه فمن ذلك ما أمليناه من الكتب فى خلاله كشرح المقالات وبيان المتشابه في القرآن، وكتاب الاعتماد وشرح الجوامع وكتاب التجريد، وإلى غير ذلك من أجوبة المسائل التى سارت بها الركبان. المصدر السابق، ص 258.
وقد تم العثور على أربعة عشر جزءا من المغنى حققت وطبعت، ولا زلنا نفتقد سائر الأجزاء وهى: الأول والثانى والثالث والعاشر والثامن عشر والتاسع عشر. وقد أبان الأستاذ سعيد زائد فى مقالة ضافية عن موضوع الأجزاء الموجودة، ونقل منها نصوصا توضح ذلك.
راجع مجلة تراث الإنسانية: المجلد الأول ص: 1004981.(1/27)
الفصل الثانى متشابه القرآن
أولا القاضى وتفسير القرآن
كتب القاضى عبد الجبار إلى جانب كتابيه «تنزيه القرآن عن المطاعن» و «متشابه القرآن» تفسيرا كاملا للقرآن يقع فى مائة مجلد أسماه «المحيط» ذكره الحاكم الجشمى والقاضى أبو بكر بن العربى (1) إلا أن ابن العربى يزعم أن القاضى أخذ تفسيره هذا من تفسير كبير لأبى الحسن الأشعرى، يقع فى خمسمائة مجلدا احتال عليه الصاحب ابن عباد فأحرقه فى خزانة دار الخليفة ببغداد: قال ابن العربى: «وانتدب أبو الحسن الأشعرى إلى كتاب الله فشرحه فى خمسمائة مجلد، وسماه بالمختزن، فمنه أخذ الناس كتبهم، ومنه أخذ عبد الجبار الهمذانى كتابه فى تفسير القرآن الذى أسماه «المحيط» فى مائة سفر، قرأته فى خزانة المدرسة النظامية بمدينة السلام».
ويقول ابن العربى فى اتهام الصاحب بإحراق تفسير الأشعرى: «وانتدب له الصاحب ابن عباد، فبذل عشرة آلاف دينار للخازن فى دار الخليفة، فألقى النار فى الخزانة واحترقت الكتب، وكانت تلك نسخة واحدة لم يكن غيرها
__________
(1) انظر شرح عيون المسائل: 1/ 130. العواصم والقواصم مخطوطة دار الكتب رقم 22031ب ورقة 26.(1/28)
ففقدت من أيدى الناس، إلا أنى رأيت الأستاذ الزاهد الإمام أبا بكر بن فورك يحكى عنه، فلا أدرى وقع على بعضه، أم أخذه من أفواه الرجال؟!»
وفى حديث ابن تيمية عن تفاسير المعتزلة، الذين تأولوا القرآن على آرائهم، فيما يرى، يقول: «وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم، مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم، ومثل كتاب أبى على الجبائى، والتفسير الكبير للقاضى عبد الجبار بن أحمد الهمذانى، و «التفسير» لعلى بن عيسى الرمانى (1)»
ويبدو أن الذى أسماه ابن تيمية «التفسير الكبير» للقاضى، هو الكتاب السابق، المحيط الذى أشار إليه ابن العربى، ونص على أنه قرأه فى خزانة المدرسة النظامية، وأبان عن مأخذه فيه فيما يراه! لأن ابن تيمية إنما كان معنيا فى استشهاده السابق بإضافة هذه التفاسير إلى مؤلفيها من رجال الاعتزال، دون التحقيق فى أسماء هذه الكتب، وإن كان لا يبعد أن يكون تفسير القاضى، رحمه الله، قد عرف بالتفسير الكبير، نظرا لحجمه مائة سفر إلى جانب اسم «المحيط». وأيا ما كان الأمر. فإن للقاضى تفسيرا واحدا للقرآن، هو المحيط، أو التفسير الكبير، ضاع فيما ضاع من آثاره وتراثه الضخم، رحمه الله (2).
ولا نحب أن نتجاوز الحديث عن هذا التفسير إلى الكلام فى «التنزيه
__________
(1) انظر ص: 37من مقدمة ابن تيمية فى أصول التفسير، نشر المكتبة السلفية بالقاهرة.
(2) ورد فى كثير من كتب التراجم، ذكر تفسير القاضى، قال الداوديّ: «وله التصانيف السائرة، منها: التفسير» وقال ابن حجر: «وصنف الكتب الكثيرة فى التفسير والكلام» ونقل الأودنى عن البيضاوى قوله: «رأيت تفسيره أى القاضى لطيف الحجم» وقال السيوطي كذلك: «رأيت تفسيره لطيف الحجم»، ويبدو أنهما يتحدثان عن تنزيه القرآن عن المطاعن لا عن المحيط. انظر طبقات المفسرين للداودي، مخطوط. لسان الميزان: 3/ 387 طبقات المفسرين للأدنوي، مخطوط. طبقات السيوطي ص: 16طبع ليدن.(1/29)
والمتشابه» قبل أن نقف عند زعم ابن العربى أن القاضى أخذ تفسيره من كتاب أبى الحسن الأشعرى. وفى ذلك نورد الملاحظات الآتية:
1 - ابن العربى، المتوفى عام 543لم يطلع على كتاب أبى الحسن الأشعرى، لأن الصاحب ابن عباد قد أحرقه كما يزعم ابن العربى نفسه (1)، وقد وزر الصاحب لبنى بويه فى حدود عام 360وتوفى عام 385 (2)، ونسخة الكتاب واحدة لم يكن غيرها «ففقدت من أيدى الناس»، فقول ابن العربى فى تفسير الأشعرى:
«ومنه أخذ عبد الجبار كتابه فى تفسير القرآن» وقد فقد المقارنة بين الكتابين لا دليل عليه!.
ولا يصح أن يقال أن هذه المقارنة قد أتيحت لابن العربى بما حكاه ابن فورك عن كتاب الأشعرى، لأن مثل هذه الحكايات لا تتيح الفرصة الكافية لاتهام عريض يقوم على أن القاضى «قد أخذ كتابه من تفسير الأشعرى».
ولقد كان يجوز، بناء على هذه الحكايات، أن يقال: إن القاضى قد أفاد من كتاب أبى الحسن مثلا أو أخذ منه، لا أن يقال إنه أخذ كتابه فى التفسير جملة منه!
ومن ناحية أخرى، فإننا لا نرى وجها لقول ابن العربى فى ابن فورك،
__________
(1) نحن نناقش كلام ابن العربى، على فرض صحة زعمه بأن الصاحب قد أحرق الكتاب فعلا! وإلا فنحن نستبعد ذلك من الأصل، فمثل الصاحب فى علمه وسعة اطلاعه ووقوفه على حقيقة التفسيرين، لا يقدم على هذا العمل، ويرى الأستاذ لشيخ زاهد الكوثرى رحمه الله أن هذا الزعم من اختلاق أبى حيان التوحيدى، وإن عول عليه ابن العربى، وأن أبا حيان كثير الاختلاق على الصاحب رحمهما الله. وقال الشيخ زاهد فى حديثه عن تفسير الأشعرى إن المقريزى ذكر إنه فى سبعين مجلدا لاختلاف الخط وإن ابن فورك كثير النقل عنه. كما أشار إلى أن التاج بن السبكى قال إنه اطلع على مجلد منه، وأنه أى الشيخ زاهد أطال البحث عنه فى خزائن الكتب، لكنه لم يتمكن من العثور على شيء منه. انظر تبيين كذب المفترى. ص:
137136. الخطط للمقريزى: 2/ 358.
(2) انظر رسائل الصاحب ابن عباد، مقدمة التحقيق: (ز ح).(1/30)
وقد وجده يحكى عن كتاب الأشعرى: «فلا أدرى وقع على بعضه! أم أخذه.
من أفواه الرجال؟» لأنه ليس هناك ما يمنع أن يكون ابن فورك قد اطلع على النسخة التى تحدث عنها ابن العربى قبل أن يحرقها الصاحب، وإذا كان ابن العربى قد حكم على القاضى بأنه «قد أخذ كتابه فى التفسير من كتاب الأشعرى» والقاضى قد توفى عام 415فهلا حكم بإمكان أن يكون ابن فورك قد قرأه واطلع عليه، وهو أشعرى حرىّ به أن يطلع على تراث إمامه، وقد توفى ابن فورك عام 406 (1).
2 - وعلى فرض أن ابن العربى قد أخذ كلامه هذا عمن اطلع على الكتابين، وقارن بينهما، فى أحسن الأحوال، فوجد القاضى قد أخذ تفسيره عن أبى الحسن، فإن لنا على هذا الفرض أن نقول: إن منهج الرجلين متباين أشد التباين.
ويبعد أن ينقل أحدهما عن الآخر! إلى جانب أن منزلة أبى الحسن الأشعرى عند القاضى، والتى يدل عليها تشنيعه الكثير عليه. وقوله فى اسمه: ابن أبى بشر المخذول! ونحو ذلك، لا تبيح له مثل هذا لأخذ! (2)
فان قيل إن اختلاف المناهج لا يظهر أثره بوضوح إلا فى الآيات المتشابهة
__________
(1) ابن فورك: هو أبو بكر محمد بن الحسن، من أئمة الأشعرية، كان فقيها أصوليا واعظا، أخذ العلم عن أبى الحسن الباهلى، وكان أخص به من الباقلاني والأسفراييني، وقد أخذا عنه أيضا: من كتبه: كتاب مشكل الحديث انظر الطبقات للسبكى: 3/ 52. تبيين كذب المفترى ص: 244، الأعلام 6/ 313.
(2) انظر شرح الأصول الخمسة، فى مواضع متفرقة، الصفحات: 335، 400، 401، 477. وانظر فى الصفحة 183عند كلام القاضى عن كيفية استحقاقه تعالى للصفات، حيث عرض لرأى الأشعرى فى ذلك آخرا، قوله: (ثم نبغ الأشعرى وأطلق القول بأنه تعالى يستحق هذه الصفات لمعان قديمة لوقاحته وقلة مبالاته بالإسلام والمسلمين)!(1/31)
والتى يثور حولها الجدل والخلاف المذهبى، وهذه مما يمكن للقاضى أن يقيم تفسيرها على مذهبه، فى حين يأخذ تفسير سائر الآيات، وهى الأعم الأغلب بالطبع، من كتاب أبى الحسن! فلا يمتنع على هذا أن يفيد القاضى من هذا الكتاب أو يأخذ تفسيره منه!! قلنا: إذا كان ذلك لا يمتنع، فيجب ألا يمتنع أن يكون الأشعرى نفسه قد أخذ كتابه من تفسير أبى على الجبائى، وهو تفسير حافل مطول يقع فى أكثر من مائة جزء (1)!.
3 - على أن التحقيق فى هذا الموضوع هو أن القاضى عبد الجبار قد أفاد فى تفسيره، وأخذ فيه بل أخذه إذا أحب ابن العربى من تفسير شيخه أبى على الجبائى رحمه الله، لا من تفسير خصمه أبى الحسن الأشعرى. ولو أننا وقفنا على كتاب القاضى لوجدناه يكثر فيه من النقل عن أبى على، صنيعه فى سائر كتبه الأخرى التى وصلت إلينا، والتى لا تكاد تخلو مسألة فيها من الاستشهاد بقول لأبى على، أو أبى هاشم الجبائيين. ويكون القاضى بذلك، ملتزما على عادته بمنهجه فى الفكر والتأليف، على حد سواء.
يؤيد ذلك ما نجده فى كتابه «إعجاز القرآن» أحد أجزاء المغنى من النقل عن مقدمة تفسير أبى على السابق، والتى خصها أبو على فيما يبدو بالرد على بعض المطاعن فى القرآن، وجعلها تمهيدا لتفسيره الكبير، وكثيرا ما نجد القاضى يقول فى هذا الجزء نقلا عن أبى على: ذكر فى مقدمة التفسير، وجاء
__________
(1) انظر الفهرست لابن النديم طبعة أوربا ص: 34. البداية والنهاية لابن كثير طبع القاهرة عام 1932ج 11/ ص: 125. التنبيه والرد على أهل الأهواء لأبى الحسين الملطي ص: 44. تحقيق الشيخ زاهد الكوثرى. نشر عزت العطار سنة 1949.(1/32)
فيها الخ (1).
أما أبو الحسن الأشعرى، فقد كتب تفسيرا مطولا ينقض به تفسير أستاذه أبى على، ويرد عليه، أسماه: «تفسير القرآن والرد على من خالف البيان من أهل الإفك والبهتان» ثم اشتهر هذا التفسير باسم «الخازن» أو «المختزن» ولم يخف أبو الحسن بالطبع ذكر ذلك، فقال: «ورأيت الجبائى ألّف فى تفسير القرآن كتابا أوّله على خلاف ما أنزل الله عز وجل، وعلى لغة أهل قريته المعروفة بجبّى، وليس من أهل اللسان الذى نزل به القرآن، وما روى فى كتابه حرفا واحدا عن أحد من المفسرين، وإنما اعتمد على ما وسوس به صدره وشيطانه.
ولولا أن استغوى بكتابه كثيرا من العوام، واستزل به عن الحق كثيرا من الطّغام لم يكن لتشاغلى به وجه». قال الإمام الحافظ أبو القاسم رضى الله عنه: «ثم ذكر بعض المواضع التى أخطأ فيها الجبائى فى تفسيره، وبين ما أخطأ فيه من تأويل القرآن» (2).
فأبو الحسن الأشعرى إذن على منهجه فى الرد على أهل الزيغ والبدع!
__________
(1) انظر إعجاز القرآن ص: 158وص: 397وينقل القاضى فى هذا الجزء عن كتاب آخر لشيخه أبى على كتبه فى نقض كتاب (الدامغ) لابن الراوندى الزنديق، الذى طعن فيه على القرآن بالمناقضة. ويوضح القاضي رأيه فى كتاب شيخه فى نقض الدامغ، وأثر إفادته منه بقوله: (وقد تقصى شيخنا أبو على القول فى ذلك أى فى بيان فساد ما يتعلقون به من التناقض فى القرآن فى نقض كتاب الدامغ وشفى الصدر رحمه الله بما أورده. وقد نبهنا على الأصل فى ذلك، ولولا أن الكلام فيه يطول لذكرنا بعضه.
«ونحن نورد اليسير مما أورده ابن الراوندى فى كتاب الدامغ، وادعي به المناقضة ليعرف به سخفه فيما ادعاه وتمرده وتجرؤه، فالقليل من الأمور يدل على الكثير، ونحيل فى الباقى على ما نقض به شيخنا أبو على رضى الله عنه كلامه» انظر ص: 390.
(2) تبيين كذب المفترى ص: 139138. وفيه فى موضع آخر يقول الأشعرى:
(وألفنا كتاب تفسير القرآن، رددنا فيه على الجبائى والبلخي ما حرفا من تأويله) ص: 134 [م 3المقدمة](1/33)
يتتبع تفسير أستاذه السابق ببيان وجوه خطئه فى تأويل القرآن، وذكر الصواب فى ذلك.
ولا يبعد هنا أن يكون الأشعرى، وهو بسبيل بيان خطأ الجبائى فى تأويل القرآن، إنما يقف على الآيات المتشابهة والمشكلة، التى يعتقد أن أبا على أولها بما وسوس له شيطانه! ليفسرها هو بما يعتقد أنه التأويل الحق، أو التأويل المأثور عن السلف الماضين، فى حين كان يدع القول فى سائر الآيات لما ينقله أبو على رحمه الله من وجوه اللغة والإعراب والقراءة أو لما يقارب كلامه فى تفسيرها.
وعلى ذلك فلا يمتنع فيما نرى أن يكون هناك تقارب فى تفسير أكثر الآيات بين الأشعرى والقاضى عبد الجبار، ولكن السبب فى ذلك لا يعود إلى أن القاضى قد أخذ تفسيره من الأشعرى! ولكن لأن كليهما قد أخذ فى تفسيره وأفاد من شيخه أبى على الجبائى، على نحو ما (1). فجاء من نظر فى تفسير القاضى وتفسير الأشعرى، فظن على أحسن الفروض أن المتأخر منهما أخذ تفسيره عن المتقدم كما نقل ابن العربى وذلك وهم محض.
تنزيه القرآن عن المطاعن
أما الكتاب الثانى للقاضى، فى مجال التفسير والدراسات القرآنية، فهو
__________
(1) نضيف إلى ذلك ما وقفنا عليه آخرا أن الذهبى يقول فى تفسير الأشعرى: إنه مما ألفه على طريقة الاعتزال. وقد استغرب الشيخ زاهد الكوثرى رحمه الله ذلك وبخاصة وأن أبا الحسن يذكر أنه ألف كتابه للرد على المعتزلة! ولكنا نرى أن الأشعرى ربما جعل همه فى الرد، فى المواضع التى كثر الحديث عنها بين العامة. أو أنه كان حديث عهد بهجران الاعتزال ولم يستو له منهجه كاملا بعد. فوقع للذهبى من تفسيره ما وجد فيه اعتزالا لا نقضا لأقوال المعتزلة وتأويلاتهم! ولهذا فإننا لا نستغرب ما استغربه الأستاذ الشيخ زاهد رحمه الله. انظر تبيين كذب.
المفترى ص: 134.(1/34)
«تنزيه القرآن عن المطاعن» (1) الذى عرض فيه للآيات التى يتعلق بها الطاعنون، سواء كان ذلك من وجوه اللغة، أو الإعراب، أو النظم، أو المعانى.
وأبان بأسلوب مختصر مبسط عن خطئهم فى فهمها وتأويلها.
فالكتاب، إذن، ليس كتابا خاصا بالآيات المتشابهة التى يقع الطعن فيها بسبب ما يبدو من التناقض فى المعانى، كما ظن بعضهم (2)، ولكنه أعم من ذلك، يدل على ذلك النظر فى مسائل الكتاب، التى لم يخصها القاضى بالآيات المتشابهة، فالمسألة الأولى منه مثلا حول الابتداء باسم الله، وجواب القاضى على قول المعترض: هلا قيل بالله الرحمن الرحيم، لأن الاستعانة تقع بالله لا باسمه والثانية حول وجه ذكر هذه الأسماء الثلاثة دون غيرها «الله، الرحمن، الرحيم». والثالثة جواب على سؤالهم عن قوله تعالى:
{الْحَمْدُ لِلََّهِ} وقولهم: إن كان حمد نفسه فلا فائدة لنا فيه، وإن أمرنا بذلك فقد كان يجب أن يقول: قولوا الحمد لله. والرابعة جواب على سؤالهم: لماذا أعاد {الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} فى سورة الحمد، وقد تقدمت؟ والخامسة حول قوله تعالى {مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} والرد على قولهم إن يوم الدين ليس بموجود أصلا، فكيف يملك المعدوم، وما فائدة ذلك (3) إلخ، وكل ذلك ليس من المتشابه، كما حدده القاضى رحمه الله.
ويدل على ذلك أيضا، بنظرة واحدة كذلك، ما أشار إليه القاضى فى
__________
(1) أشار الحاكم إلى أن لقاضى كتابا آخر فى هذا المجال اسمه الأدلة. قال الحاكم (وله كتب فى علوم القرآن: كالمحيط. والأدلة. والتنزيه. والمتشابه). شرح العيون:
1/ 130ظ.
(2) انظر تراث الانسانية، المجلد الاول، ص: 984. مقال الأستاذ سعد زائد.
مجلة منبر الإسلام، العدد 10من السنة 23مقال الدكتور أحمد الحوفى.
(3) تنزيه القرآن عن المطاعن، ص: 4فما بعدها.(1/35)
خطبة الكتاب، من أنه أملى فى بيان معانى القرآن، والفصل بين محكمه ومتشابهه كتبا، وأنه إنما خص هذا الكتاب بجمع شتات أمور متفرقة تتعلق بالمطاعن على القرآن، سواء فى ذلك المتشابه وغيره. قال القاضى: «ومعلوم أنه لا ينتفع به أى بالقرآن إلا بعد الوقوف على معانى ما فيه، وبعد الفصل بين محكمه ومتشابهه، فكثير من الناس قد ضل بأن تمسك بالمتشابه، حتى اعتقدوا بأن قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} حقيقة فى الحجر والمدر، والطير والنعم. وربما رووا فى ذلك تسبيح كل شيء من ذلك. ومن اعتقد ذلك لم ينتفع بما يقرأ، لذلك قال تعالى: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} فى غير موضع، ولذلك وصفه تعالى بأنه {شِفََاءٌ لِمََا فِي الصُّدُورِ}. وكل ذلك لا يجوز إلا بمعرفة مراده. وقد أملينا فى ذلك، بحمد الله، كتبا، لكن هذا الجنس من ذكر المطاعن وأجوبتها، وذكر المتشابه ومعانيه وذكر التنبيه على قوارع القرآن متفرق فى ذلك، ونحن إن شاء الله نجمعه فى هذا الكتاب ليكون النفع به أعظم، ونسأل الله التوفيق للصواب (1).
__________
(1) من مقدمة النسخة الخطية الأخرى التى عثرنا عليها.
على أن الذين حكموا على القاضى بأنه خص كتابه فى التنزيه بالآيات المتشابهة وبيان خطأ فريق من الناس فى تأيلها، كان من الممكن أن يقفوا قليلا أمام للنص الذى قد يوهم ذلك فى خطبة الكتاب، فقد جاء فى النسخة المطبوعة، بدل النص السابق، قوله: «وقد أملينا فى ذلك كتابا يفصل بين المحكم والمتشابه، عرضنا فيه سور القرآن على ترتيبها، وبينا معانى ما تشابه من آياتها، مع بيان وجه خطأ فريق من الناس فى تأويلها، ليكون النفع به أعظم ونسأل الله التوفيق للصواب إن شاء الله تعالى».
فهذا النص الذى خص بالحديث عن كتاب المتشابه، لا صلة له بالحديث عن موضوع كتاب التنزيه، وقد أورده القاضى فى معرض حديثه عن وجوب الفصل بين المحكم والمتشابه، الذى قدم عليه وجوب الوقوف على معانى القرآن أيضا.
ثم نجد أن النص قد قطع وانتهى. ليبدأ الكلام فى مسائل الكتاب. وهذا يقطع بدخول التصحيف على النص. لأن القاضى لا يعقل أن يقول بين يدى كتابه «وقد أملينا فى ذلك كتابا» ثم يعنى كتابه الذى سيمليه. أو يكتبه!! لأنه لم يكتب منه بعد كلمة واحدة! ولا حاجة بالقاضى.
طبعا إلى كتابة كتابين فى المتشابه! على أننا قد عرضنا لهذا بالتفصيل فى مقدمة التحقيق التى(1/36)
فهذا نص قاطع فى بيان موضوع الكتاب، وأنه كتبه بعد أن أملى تفسيره وكتابه فى المتشابه، وكتبا أخرى تعرض فيها لرد المطاعن عن القرآن، كالإعجاز وخلق القرآن جزءان من المغنى فجمع فيه تلك المتفرقات المتصلة برد المطاعن.
وقد حمله ذلك، فيما يبدو، على أن يجمل فيها القول، ويختصر المناقشات والردود، فجاء الكتاب على تنوع المطاعن مختصرا موجزا إذا قيس بالمتشابه الذى خصه بطائفة معيّنة من الآيات، أو إذا قيس بسائر كتبه رحمه الله.
ثانيا: متشابه القرآن
أما كتابنا «متشابه القرآن» فهو أهم ما وصلنا من كتب القاضى فى التفسير، ومن أهم كتب المعتزلة فى الكشف عن منهجهم فى تفسير القرآن.
1 - منهج القاضى فى الكتاب
عمد القاضى فى هذا الكتاب إلى الآيات المتشابهة، فأولها وبين حقيقة المراد منها، كما وقف عند كثير من الآيات المحكمة، ففسرها وأصّل الاستدلال بها كلّ فى موضوعه الخاص، وعند القاضى كما قدم فى صدر كتابه أن أقوى ما يعلم به الفرق بين المحكم والمتشابه: أدلة العقول، وأنه لا بد لذلك، من بناء المحكم والمتشابه جميعا على هذه الأدلة، لأن «موضوع اللغة يقتضى أنه لا كلمة فى مواضعتها إلا وهى تحتمل غير ما وضعت له، فلو لم يرجع إلى أمر لا يحتمل لم يصح التفرقة بين المحكم ولنتشابه» (1).
__________
أعددناها للكتاب، والتى ألمحنا فيها كذلك لكثير من الأخطاء والتصحيفات الفاحشة التى زادها الناشر على تصحيفات النسخة الوحيدة التى طبع عنها الكتاب حتى وجدناه كثيرا ما يقلب المعانى! ويتبرع بالزيادة على النص أو الحذف منه حيث لا يروقه المعنى أو يقصر عن فهمه. أو لا يجده مؤدى بعبارة «أزهرية»!
(1) انظر الفقرة 3من كتاب القاضى.(1/37)
ولهذا قام بتأويل الآيات التى تخالف بظاهرها أدلة التوحيد والعدل، فأولها على أصول العربية بما يطابق هذه الأدلة، أو بعبارة أخرى بما يطابق شواهد العقل.
وقد بنى القاضى عمله هذا على أصل مهم قدم القول فيه فى مستهل كتابه، ودافع عنه وأقام الدليل عليه. ونحن نوجز القول فى بيان هذا الأصل، كما أوضحه القاضى هنا وفى سائر كتبه، إيضاحا لمنهجه فى هذا الكتاب.
1 - دليل العقل: يتلخص هذا الأصل فى وجوب معرفة الله تعالى بدليل العقل أولا وأنه تعالى حكيم لا يختار فعل القبيح، لأن هذه المعرفة يمكن معها القول إنه تعالى صادق فى إخباره وكلامه، وأنه لا يجرى المعجز على الكذابين الخ وبالتالى يمكن الاستدلال بالقرآن على ما يدل عليه.
ولذلك لا يمكن الاستدلال بالقرآن على إثباته تعالى وإثبات حكمته لأن ذلك موقوف على العلم بصحته، وصحته لا تعلم إلا بعد العلم بحال فاعله، فيؤدى ذلك إلى أن القرآن لا يدل عليه تعالى إلا بعد المعرفة به، ومتى عرف استغنى عن الدلالة عليه (1).
ويمضى القاضى فى بيان هذا الأصل وشرحه، ودفع الاعتراضات عنه بما يغنى عن إعادته. وقد قدمه على جميع المسائل التى أوردها فى مقدمة كتابه، حتى إذا شرع فى المسألة الثانية المتصلة بمزية المحكم على المتشابه جعلهما بمنزلة واحدة من حيث إن الاستدلال بهما أجمع لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الفاعل،
__________
(1) انظر الفقرة الأولى من كتاب القاضى.(1/38)
وأنه لا يجوز أن يختار القبيح. ثم حكم عليهما بالاختلاف من وجه آخر، وهو أن المتشابه يحتاج إلى فكر مبتدأ ونظر مجدد، ليحمل على الوجه الذى يطابق المحكم أو دليل العقل. ثم قال بعد ذلك: «فأما إذا كان المحكم والمتشابه واردين فى التوحيد والعدل، فلا بد من بنائهما على أدلة العقول لأنه لا يصح ممن لم يعلم أنه جل وعز حكيم لا يختار فعل القبيح، أن يستدل على أنه جل وعز بهذه الصفة بكلامه»!!
ولذلك يرى أن المخالفين فى العدل والتوحيد يمكن أن نحجهم بذكر المحكم ونبين مخالفتهم لما أقروا بصحته فى الجملة، ليتبينوا أنهم خالفوا الكتاب، كما خرجوا عن أدلة العقول. ثم يقول: «فأما أن يمكن أن نبين للجاهل بالله تعالى وبحكمته، أن الله عز وجل لا يختار فعل القبيح، وأنه لا يشبه الأعراض والأجسام، والقرآن محكمه ومتشابهه، فذلك لا يصح».
وهكذا ينفذ القاضى من هذا كله إلى القول بوجوب ترتيب المحكم والمتشابه جميعا على أدلة العقول، والحكم «بأن ما لا يحتمل إلا ما تقتضيه هذه الجملة يجب أن يثبت محكما وما احتمل هذا الوجه وخلافه فهو المتشابه» ومن ثم يرى ضرورة تأويل ظواهر الكتاب المخالفة لأصول العدل والتوحيد، بعد الحكم عليها بأنها من المتشابه.
القاضى يدافع عن هذا المنهج العقلى
هذا المنهج العقلى الذى ينطلق منه القاضى فى تفسير القرآن، وفى الحكم على المحكم والمتشابه، يؤكده فى مناسبات كثيرة، ويدل عليه بعبارات مختلفة، ففي كتابه «إعجاز القرآن» نجده يرد على من يدعى أن القرآن
متناقض فى دلالته، «لأنه يدل ظاهره على أمور مختلفة فى الديانات». فيقول:(1/39)
هذا المنهج العقلى الذى ينطلق منه القاضى فى تفسير القرآن، وفى الحكم على المحكم والمتشابه، يؤكده فى مناسبات كثيرة، ويدل عليه بعبارات مختلفة، ففي كتابه «إعجاز القرآن» نجده يرد على من يدعى أن القرآن
متناقض فى دلالته، «لأنه يدل ظاهره على أمور مختلفة فى الديانات». فيقول:
إنهم قد أتوا فى ذلك من جهة الجهل بالله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز، ومن جهة اللغة (1)، ثم يلخص ما قاله فى مقدمة كتابه فى المتشابه حول صحة الدلالة بالقرآن ووجوب عرض المحكم والمتشابه على أدلة العقول، فيقول:
«وقد بينا فى مقدمات كتاب «المتشابه» أن المتعلق بمثل ذلك لا يخلو من أن يزعم أن القرآن دلالة على التوحيد والعدل، أو يقول: لا نعلم صحة دلالته إلا بعد العلم بالتوحيد العدل، وبينا فساد القول الأول بأن قلنا: إن من لا يعرف المتكلم، ولا يعلم أنه ممن لا يتكلم إلا بحق، لا يصح أن يستدل بكلامه، لأنه لا يمكن أن يعلم صحة كلامه إلا بما قدمناه، لأنه لا يصح أن يعلمه بقوله: إن كلامه حق، لأنه إذا جوز فى كلامه أن يكون باطلا، يجوز فى هذا القول أيضا أن يكون باطلا!
«وإذا وجب تقدم ما ذكرناه من المعرفة، ليصح أن يعرف أن كلامه تعالى حق ودلالة، فلا بد أن يعرض ما فى كتاب الله من الآيات الواردة فى العدل والتوحيد، على ما تقدم له من العلم، فما وافقه حمله على ظاهره، وما خالف الظاهر حمله على المجاز، وإلا كان الفرع ناقضا للأصل. ولا يمكن فى كون كلامه تعالى دلالة سوى هذه الطريقة» (2):
ثم يقول فى الرد على من زعم التناقض: «فإذا ثبت ما قدمناه لم يمكنهم ادعاء الاختلاف والمناقضة فيه، لأنه محكمه ومتشابهه سواء فى أنهما لا يدلان،
__________
(1) انظر المغنى، الجزء السادس عشر (إعجاز القرآن) ص: 394.
(2) انظر المصدر السابق. ص: 395.(1/40)
وفى أن الواجب على المكلف عرضهما على دليل العقول، وإذا وجب ذلك فيهما حملنا ما يمكن إيفاء الحقيقة حقها، على حقيقته، وما لا يمكن أن نوفيه حقه حملناه على مجازه المعروف، فكيف يدعى فى مثل ذلك التناقض (1)»؟!
كلمة فى هذا المنهج
وليس بعد هذا التلخيص الموجز من القاضى نفسه، مجال للقول والشرح، ولكن قبل أن نضيف إلى اعتماد القاضى فى منهجه على التأويل العقلى، اعتماده على التحليل اللغوى الدقيق، نقف قليلا أمام هذه النظرية العقلية الخالصة فى تفسير القرآن، والتى يظن معها أن القاضى يجعل العقل حاكما على الكتاب، ومقدما عليه فى الدلالة.
والواقع أن القاضى يجعل الكتاب هو الأصل، ولكنه يقول إن حجيته أو دلالته لا يمكن القول بها قبل معرفة الله تعالى وحكمته، وأنه متفرد بالإلهية، فإذا كان سبيل هذه المعرفة هو العقل، فالواجب القول بوضعه على رأس الأدلة، ولا يكون فى ذلك ما يجعله حاكما على الكتاب، لأن الكتاب هو الأصل من حيث إن فيه التنبيه على ما فى العقول (2).
__________
(1) إعجاز القرآن. ص: 395.
(2) أوضح القاضى ذلك فى كتابه (فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة). فقد رتب فى الفصل الأول منه الأدلة وأوضح رأيه فى أن تقديم دلالة العقل لا يطعن فى جعل الكتاب هو الأصل، فقال فى بيان هذه الأدلة: «أولها دلالة العقل. لأن به يميز بين الحسن والقبيح. ولأن به يعرف أن الكتاب حجة. وكذلك السنة والإجماع.» قال القاضى «وربما تعجب من هذا الترتيب بعضهم. فيظن أن الأدلة هى الكتاب والسنة والإجماع فقط. أو يظن أن العقل إذا كان يدل على أمور فهو مؤخر. وليس الأمر كذلك. لأن الله تعالى لم يخاطب إلا أهل العقل.
ولأن به يعرف أن الكتاب حجة. وكذلك السنة والاجماع» ثم قال: «وإن كنا نقول إن الكتاب هو الأصل من حيث إن فيه التنبيه على ما فى العقول. كما أن فيه الأدلة على الأحكام».
ويلخص كل ذلك بقوله: «ومتى عرفناه بالعقل إلها متفردا بالإلهية. وعرفناه حكيما. يعلم فى كتابه أنه دلالة». الورقة 2من فضل الاعتزال. مخطوط.(1/41)
على أننا نقول إن هذا المنهج الذى سار عليه القاضى فى تأويل المتشابه فى كتابه وفى تفسير القرآن وحجيته بعامة وما تقدم ذلك من ترتيب الأدلة جزء لا يتجزأ من منهج المعتزلة الفكرى بوجه عام. وأى حديث عن منهج القاضى فى كتابه يجب أن يبحث فى ضمن هذا الإطار. والذى ذكرناه هنا لا يعدو أن يكون إيضاحا لأهم جوانب هذا المنهج، ومحاولة للشرح والربط، قصدنا منه إلى جلاء «الأصل» الذى يصدر عنه القاضى فى تفسير المتشابه وتأويله (1) دون الحديث عن تقويم هذا الأصل الذى لا محل للحديث عنه فى هذه المقدمة.
بعض الشواهد على هذا المنهج:
وغنى عن البيان، بعد هذا، أن هذه النزعة العقلية هى التى تتجلى بوضوح فى تأويلات القاضى للآيات المتشابهة، وفى رده على الخصوم تمسكهم بظواهرها، وفى استدلاله كذلك على مذهبه بالمحكمات. ونكتفى هنا بإيراد بعض الشواهد الموضحة لذلك.
1 - يرد القاضى على من زعم أن قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} يدل على أن هذه الأمور كلها مباحة، وأن لنا التصرف فى جميعها، بقوله: إنه تعالى خلق ما فى الأرض فى الجملة للعباد لكى ينتفعوا به، فالظاهر فى الجملة لا يخالف ما ثبت بالدليل. ثم يقول، «فأما من جهة التفصيل: فلا بد من شرط. ولا فرق بين أن يكون منطوقا به أو معروفا بالعقل، وهو أن لنا أن نتصرف فيه ما لم يؤد إلى مضرة على وجه» (2)،
__________
(1) نقوم الآن بإعداد دراسة وافية عن منهج المعتزلة فى تفسير القرآن.
(2) ص 76من الكتاب.(1/42)
2 - ويجد فى قوله تعالى: {يُرِيدُ اللََّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلََا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
فى آية الصوم، ما يدل على أنه تعالى لا يريد بالعباد الكفر وأن يعذبهم فى الآخرة لأنه تعالى «إذا امتن علينا بأنه لا يريد بنا العسر الذى هو عمل المشقة بالصوم، رحمة بنا ورأفة، فكيف يجوز أن نتصور أنه يريد مع ذلك بالعبد أن يكفر ويخلد بين أطباق النيران؟. ولو أن أحدنا أقبل على ولده، فقال: لا أريد منك مع إشفاقى عليك أن تنصرف فى أيام القيظ، لم يجز أن يتصور مع ذلك أنه يريد أن يعذبه بالنار. وهذا مما يأباه العقل» (1).
3 - ويؤكد فى موضع آخر، عند الكلام على أن مرتكب الكبيرة إذا تاب لا يعاقب بالخلود فى النار، على أن ما دل العقل على اشتراطه هو فى حكم المتصل بالقول، لأنه تعالى لا يجوز أن يعاقب من بذل مجهوده فى تلافى ما كان منه، فاذا كان قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نََاراً خََالِداً فِيهََا} دالا على مذهب المعتزلة أن من فعل ذلك من أهل الصلاة يخلد فى النار، فقد قال القاضى: ما لم يتب، لأن اشتراط التوبة معلوم بالعقل، «وما دل العقل الصحيح على اشتراطه هو فى حكم المتصل بالقول، وإن كان تعالى قد بين كونه شرط فى مواضع». (2)
4 - ومما يستدل به القاضى على فساد قول المجبرة قوله تعالى: {فَمََا كََانَ دَعْوََاهُمْ إِذْ جََاءَهُمْ بَأْسُنََا إِلََّا أَنْ قََالُوا إِنََّا كُنََّا ظََالِمِينَ} فلم يتعلق هؤلاء الذين رأوا العذاب إلا بهذا القول، ولو كان الأمر كما تقوله المجبرة لكان الأولى أن يقولوا إنك أوقعتنا فى الظلم، أو منعتنا من الإيمان بسلب القدرة عليه الخ
__________
(1) المصدر السابق. ص: 118.
(2) المصدر السابق. ص: 179.(1/43)
«لأن المتصور فى العقول أنه لا عذر لمن يعامل بمضرة أوضح من أن يظهر أنه لم يقدر على خلاف ما فعل (1).
5 - ويقول، وهو بسبيل تأويل آية تدل من بعض الوجوه على جواز الشرك على الأنبياء: «فإذا تقدم ذكر أمرين، ودل الدليل فى أحدهما على امتناع الحكم عليه، فالواجب أن يرد ذلك الحكم إلى المذكور الآخر باضطرار (2).
6 - ويبين فى تأويل إحدى الآيات التى ورد فيها ذكر الاستواء، أنه فسره بمعنى الاستيلاء والاقتدار، مع أن من معانيه الانتصاب، «لأن العقل قد اقتضى المعنى الأول، من حيث دل على أنه تعالى قديم. ولو كان جسما يجوز عليه الأماكن لكان محدثا، تعالى الله عن ذلك لأن الأجسام لا بد من أن يلزمها دلالة الحدث» (3)
إلى آيات كثيرة يظهر فيها أثر تحكيم العقل فى الفهم والتأويل شديد الوضوح، أثرا طبيعيا لهذا المنهج.
ب اللغة والنظم
ويستعين القاضى على هذا التأويل باللغة، سواء فى ذلك المفردات، وقواعد النحو والإعراب، والعناية بالنظم القرآنى، وضرورة بقاء الصلة اللغوية والمعنوية قائمة بين الآية أو الآيات، والقاضى شأنه فى ذلك شأن سائر المعتزلة فى العناية باللغة فى التفسير والتأويل.
__________
(1) نفس المصدر. ص: 273.
(2) المصدر السابق. ص: 310309.
(3) كتاب القاضى. المصدر السابق. ص: 351.(1/44)
والواقع أن اللغة لم تكن لتسعف القاضى فى تأويلاته لو أنه كان ينطلق فى ذلك على منهج باطل، فعل الباطنية مثلا، ومن هنا يمكن الحكم على منهج القاضى فى المتشابه وفى التأويل، كما يمكننا أن نرجح تسمية تأويله بالتأويل العقلى دون التأويل اللغوى (1) لأن اللغة لا تعدو أن تكون أداة لهذا التأويل فى نهاية المطاف، وإن كان لا يمتنع أن نقول إن القاضى وسائر المعتزلة يعتمدون فى تأويلهم لكتاب الله على شيئين رئيسيين: هما العقل واللغة (2).
من شواهد الاعتماد على اللغة:
ونكتفى فى بيان هذا الاعتماد على اللغة والذى تكاد تخلو منه
__________
(1) سمى جولد زيهر منهج المعتزلة فى التأويل بالمنهج اللغوى! وقد تناولنا هذه النقطة فى البحث الذى نعده عن منهج المعتزلة فى التفسير. والذى تناولنا فيه جميع قواعد هذا المنهج فى التفسير والتأويل.
(2) من طريف ما يدل على هذا المنهج المقلى لدى المعتزلة ما أجاب به جعفر بن مبشر أبو محمد الثقفى من رجال الطبقة السابعة الخياط حين سأله عن قوله تعالى: {[يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ]} وعن الختم والطبع. فقال: (أنا مبادر إلى حاجة. ولكنى ألقى إليك جملة تعمل عليها: اعلم أنه لا يجوز على أحكم الحاكمين أن يأمر بمكرمة ثم يحول دونها.
ولا أن ينهى عن قاذورة ثم يدخل فيها. وتأول الآيات بعد هذا كيف شئت) طبقات المعتزلة. ص: 76.
أما تمكن المعتزلة من لسان العرب ولغتها، مما أعانهم على تأويلاتهم العقلية، فأشهر من أن يتحدث عنه، وبحسبهم العلاف والنظام والجاحظ، والجبائيان، وشهادة علماء اللغة، قال المبرد: (ما رأيت أفصح من أبى الهذيل والجاحظ، وكان أبو الهذيل أحسن مناظرة، شهدته فى مجلس وقد استشهد فى جملة كلامه بثلاثمائة بيت). طبقات منزلة ص: 45وقال ثمامة:
(وصفت أبا الهذيل للمأمون فلما دخل عليه جعل المأمون يقول لى: يا أبا معن وأبو الهذيل يقول لى يا ثمامة. فكدت أتقد غيظا. فلما احتفل المجلس استشهد فى عرض كلامه بسبعمائة بيت، فقلت: إن شئت فكننى وإن شئت فسمنى!). المصدر السابق، ص: 46. وانظر الفصل الذى عقده الحاكم لذكر (من ذهب إلى العدل من الشعراء وأئمة اللغة) والذى قال فى أوله: (أكثر نحاة البصرة، وكثير من أهل اللغة. وجملة من الشعراء وأئمة الأدب يذهبون مذهب العدل) شرح عيون المسائل. المجلد الأول. ورقة 166163.(1/45)
صفحة واحدة من صفحات الكتاب ببعض الشواهد:
1 - ففي مسألة الاستواء السابقة فى قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى ََ إِلَى السَّمََاءِ وَهِيَ دُخََانٌ} بين القاضى أن الاستواء محتمل فى اللغة، ومنصرف فيها إلى وجوه، وأن مواقعه تختلف بحسب ما يتصل به من القول، والمراد به فى الآية:
القصد لخلق السماء، «لأنه عداه إلى، ولا يكاد يعدى ب «إلى» إذا أريد به الاستواء على المكان (1)».
2 - ويرد القاضى على الذين يجوزون على الله المكان واللقاء، استنادا إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رََاجِعُونَ} فيقول:
إن المعنى أنهم ملاقو ما وعدهم به من الثواب، وأنهم يرجعون إلى حيث لا يملك الأمور سواه، قال القاضى: «وليس اللقاء هو التجاور على جهة المشاهدة، لأن الضرير قد يلقى غيره إذا سمع خطابه، وإن لم يشاهده، وقد يبعد من مخاطبه، ويعد ملاقيا له (2)».
3 - ويقول القاضى فى استدلال الذين يقولون إن المعاصى من قبله تعالى بقوله تعالى: {وَإِذْ أَنْجَيْنََاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ، يُقَتِّلُونَ أَبْنََاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسََاءَكُمْ وَفِي ذََلِكُمْ بَلََاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} لمكان إضافتها إليه سبحانه إن هذا الاستدلال باطل، لأن المراد بالبلاء هو الإحسان، حيث نجاهم ممن يعاملونهم بهذه المعاملة، قال القاضى، «والكلام فى أن الأيادى والإحسان يسمى بلاء ظاهر فى اللغة (3)».
4 - وفى موضع آخر يستدل القاضى على أن أفعال العباد ليست من خلقه
__________
(1) انظر ص: 73.
(2) انظر ص: 88.
(3) انظر ص: 91.(1/46)
تعالى، بالآية الكريمة {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتََابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هََذََا مِنْ عِنْدِ اللََّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمََّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمََّا يَكْسِبُونَ} ويقول فى ذلك: «إن أقوى الإضافات فى الفعل أن يضاف إلى فاعله، فلو كان تعالى خلق ما كتبوه لما صح أن ينفيه عن نفسه مع أنه الذى خلقه وأوجده»!
فإن اعترض على القاضى بأنهم يضيفون الطاعة إليه تعالى وإن لم يفعلها، قال: «إن الذى قلناه إن ما يفعله لا يجوز أن ينفى عنه فلا يضاف إليه، ولم نقل إن كل ما أضيف له فهو فعله» ثم يتحدث عن أنواع الإضافات فى اللغة فيقول: «قد يضاف الشيء إلى من فعله، وقد يضاف إلى من أعان عليه وسهل السبيل إليه ولطف فيه، وقد يضاف إلى من فعل ما يجرى مجرى السبب له، ولذلك قد يضاف ما يفعله أحدنا من الإحسان إليه لأنه فعله، وقد يضاف أدب ولده إليه وإن كان من فعل الولد، لما فعل المقدمات التى عندها يتأدب
وهذا ظاهر فى اللغة، ولا يعرف فى اللغة قطع إضافة الفعل عن فاعله البتة (1)».
ومن شواهد الاعتماد على النظم والسياق
1 - وحمل القاضى قوله تعالى فى الكفار: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لََا يَعْقِلُونَ}
على التشبيه، لأنهم لشدة تمسكهم بالكفر، وإخراجهم أنفسهم أن ينتفعوا بما يسمعون ويبصرون، كانوا بمنزلة من لا يسمع ولا يبصر. ولم يجوز أن يكون فى الآية دلالة على أنه جعل الكفار ممنوعين من الإيمان، كما زعم بعضهم، لأن قوله تعالى فى آخر الآية {فَهُمْ لََا يَعْقِلُونَ} لو كان المراد به التحقيق لم يكن لذلك تعلق
__________
(1) انظر ص: 9796.(1/47)
بما تقدم، لأن الأصم الأبكم قد يكون عاقلا، ومتى حمل على التشبيه كان له به تعلق، فيتسق المعنى، والنظم (1).
2 - ومن شواهد الاعتماد على النظم والسياق كذلك فى تأويلاته رحمه الله، صرفه الأمر الوارد فى قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلََائِكَةِ فَقََالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمََاءِ هََؤُلََاءِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} إلى معنى التقرير والتقريع، لأن صدر الآية يبين أنه تعالى قد خص آدم بأن علمه الأسماء ليكون علمه بها معجزة له، فأراد أن يبين للملائكة أن هذا الاختصاص يوجب نبوته، قال القاضى: «فقررهم بقوله: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمََاءِ هََؤُلََاءِ} على ذلك، ونبه من حالهم على أنهم إذا لم يختصوا بما اختص به آدم مما فيه انتقاض عادة فيجب أن يكون نبيا، ولذلك حكى عنهم ما يدل على الانقياد، وهو قولهم: {قََالُوا سُبْحََانَكَ لََا عِلْمَ لَنََا إِلََّا مََا عَلَّمْتَنََا}.
وكذلك ترجح الآية التالية صرف الأمر إلى التقرير، قال تعالى من بعد {قََالَ يََا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمََائِهِمْ} الآية لأنه لو كان تكليفا لكان لا يتغير حاله بأن يخبرهم آدم عليه السلام بالأسماء، ولم يكن لقوله تعالى عند ذلك {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} معنى (2)
وهكذا يرد القاضى على من زعم أن فى الآية دلالة على أن الله تعالى يكلف العبد ما لا يطيق، ويأمره بما يعلم أنه لا سبيل له إلى القيام به، لأن هذا مما يأباه العقل، ومما يفسد به نظم الآية بعد ذلك.
__________
(1) انظر ص: 116115.
(2) انظر ص: 8380.(1/48)
وعلى هذا النحو من التخريجات اللغوية الدقيقة يمضى القاضى فى تأويل متشابه القرآن فى سائر كتابه.
2 - طريقة المؤلف:
يستعرض القاضى رحمه الله، فى كتابه، سور القرآن بحسب ترتيبها فى المصحف، ويقف فى كل منها عند نوعين من الآيات: الآيات المتشابهة التى يزعم الخصم أن فيها دلالة على مذهبه، والآيات المحكمة الدالة على المذهب الحق، وذلك ما ألزم به نفسه فى آخر مقدمة الكتاب، حيث ذكر أنه سيبين فى المتشابه «أن ظاهره لا يدل على ما يقوله المخالف البتة» وذكر أنه سيقف فى كل سورة عند «ما يدل من المحكمات على الحق» (1).
وهكذا جاءت مسائل الكتاب على نوعين: مسائل، ودلالات.
أما المسائل فموضوعها الآيات المتشابهة، وعرض ما يراه الخصم فيها من الدلالة على مذهبه، ثم تأويلها على الوجه الصحيح، الذى يراه القاضى مبطلا لدعاوى الخصم.
وقد جرت عادة المؤلف فى هذه المسائل على الاكتفاء بالقول الموجز فيما يستدل عليه المخالف، دون التعرض لذكره أو ذكر فرقته أو مذهبه، فسواء عنده المشبهة، والأشاعرة، والخوارج، وغيرهم، لأن ما يقصد إليه هو بيان أن هذه الآية قد استدل بها على رأى باطل، هو كذا، تمهيدا لرده وبيان وجه الصواب فى فهم الآية وتأويلها، وغالبا ما يقول القاضى عند عرض آرائهم: «قالوا».
وغالبا ما يستهل القاضى الرد عليهم ببيان أن الظاهر الذى يدعونه لا يدل
__________
(1) انظر الفقرة: 12.
على ما يذهبون إليه! أو أنه مما لا يمكن أن يقول به أحد، وأنه لذلك لا بد للجميع من الدخول تحت التأويل، ثم يشرع فى تأويله هو، رحمه الله، على المنهج الذى أسلفنا الحديث عنه.(1/49)
على ما يذهبون إليه! أو أنه مما لا يمكن أن يقول به أحد، وأنه لذلك لا بد للجميع من الدخول تحت التأويل، ثم يشرع فى تأويله هو، رحمه الله، على المنهج الذى أسلفنا الحديث عنه.
أما الدلالات فموضوعها الآيات المحكمات، وهى التى يستدل بها القاضى على التوحيد والعدل، وإن كان من غير اللازم بالطبع أن يكون قد التزم استقصاء هذه الآيات جميعا، وبحسبه منها ما يدل على الحق فى بابه الخاص (1).
وبعد، فإن هذا الترتيب الذى اتبعه القاضى فى كتابه، هو بلا شك الترتيب الأفضل لمن كان همه الوقوف على الآيات المتشابهات فى القرآن، ورد التمسك بظاهرها من قبل الجبرية، والمجسمة، والحشوية، وسائر أهل الزيغ، وهو كذلك الأقرب لطبيعة الإملاء الذى جرى عليه القاضى فى وضع الكتاب، على عادته فى سائر كتبه، وكما أوضح ذلك فى المغنى، فى النص الذى نقلناه أنفا عند التعريف بهذا الكتاب.
ولكن الإفادة من كتابنا المتشابه، فى دراسة أدلة الفرق المختلفة التى تستند فيها إلى آيات القرآن سواء فى ذلك المعتزلة وغيرهم، وسواء أكان استدلالا بالحق أم استدلالا بالباطل ليست ميسرة على الوجه الأكمل، على عكس ما لو كان ترتيب الكتاب موضوعيا، عرض فيه المؤلف للمتشابهات والمحكمات فى المسائل المتنازع عليها واحدة واحدة، كمسألة الرؤية، أو خلق الأفعال، أو الوعد والوعيد، أو أية مسألة أخرى، فأول المتشابه، وأصّل الاستدلال
__________
(1) انظر الفقرة: 12من الكتاب.(1/50)
بالمحكم (1). ونرجو أن يكون فى الفهارس بعض العوض.
3 - كتاب القاضى ومنزلته بين كتب المتشابه الأخرى
إن الحكم على كتاب القاضى ومقارنته بكتب من تقدمه من شيوخ المعتزلة وغيرهم، يبدو أنه من غير الممكن، وقد فقدنا هذه الكتب، وبخاصة كتاب، أبى على الجبائى، الذى ذكره ابن النديم، ونحن نعلم مدى ما تلقاه آراء أبى على وكتبه من الرعاية والاعتبار عند القاضى عبد الجبار.
وإن كان من الممكن هنا القول بأن المعتزلة كانوا أسبق من غيرهم إلى الكتابة فى هذا الموضوع إن لم يكونوا قد انفردوا فيه، أو كتبوا أكثر من سائر الفرق الأخرى على أقل تقدير، وقد حملهم على ذلك تصديهم للدفاع عن الإسلام والرد على الطاعنين على القرآن، من أى نحلة كان، إلى جانب رغبتهم فى الدلالة على مذهبهم وإثبات أن الكتاب موافق لأدلة العقول، وتأويل جميع الظواهر التى يتعلق بها خصومهم من الجبرية والحشوية وغيرهم، وإثبات أن هؤلاء قد عدلوا عن البراهين وعن التمسك بالكتاب جميعا، كما يقول القاضى فى صدر كتابه.
__________
(1) واضح أن ما قدمناه من الكلام هنا فى بيان مسلك المؤلف فى ترتيب كتابه، والذى وضعناه تحت عنوان (طريقة المؤلف) يغاير من كل وجه ما تحدثنا عنه آنفا تحت عنوان (منهج القاضى فى الكتاب) وأن كلا من العنوانين إن كان لا يدل على ما تحته عند بعضهم بنفسه، فقد دل والحمد لله بما كتب تحته وإذا كنا لم فتقول على اللغة أو العرف العلمى، فإن الزعم بأن تفريقنا هذا يدل على الخطأ فى فهم الاصطلاحات فى تعبير بعضهم أوغل فى الفساد من أن يحكم عليه بالخطإ. ويبدو لنا أننا ما زلنا بحاجة ملحة إلى أن يكتب لنا كثير من الصفحات فوق ما كتب فى المنهج، حتى يقوى بعض الناس على التفريق بين المناهج والفهارس! وبين المناهج وترتيب الموضوعات أو المعلومات، وأخيرا بين المناهج والطرق!!.(1/51)
ومن جهة أخرى، فإن الفهارس التى تعطينا أسماء الكتب التى ألفت فى المتشابه، مما لم يصل إلينا، لا تفرق فى تصنيفها لهذه الكتب بين المتشابه موضوع التحقيق والمتشابه اللفظى المتصل بالآيات المتماثلة والمتقاربة فى اللفظ.
وهذا مما يعوق سبيل المقارنة التاريخية السليمة، كذلك.
ولكننا، على أية حال، سنقف على الكتب التى ألفت فى المتشابه قبل القاضى، رحمه الله، ونحاول ببعض الدلائل أن نميز منها كتب المتشابه اللفظى من متشابه المتكلمين، لنضع كتاب القاضى عبد الجبار فى موضعه من هذه الكتب.
الكتب التى ذكرها ابن النديم:
ذكر ابن النديم تحت عنوان: «الكتب المؤلفة فى متشابه القرآن» الكتب التالية: «كتاب محمود بن الحسن (1). كتاب خلف بن هشام (2).
كتاب القطيعى (3). كتاب نافع (4). كتاب حمزة (5). كتاب على بن قاسم
__________
(1) هو محمود بن حسن الوراق، عده الحاكم فيمن ذهب إلى العدل من الشعراء وأئمة اللغة.
وأورد من شعره:
ولم تلزم الذنب المقادير جاهلا ... فأنت ولى الذنب ليس المقادر
فلو كان للمقدار فى الذنب شركة ... لكان له حظ من الوزر وافر
توفى فى حدود الثلاثين ومائتين. انظر شرح عيون المسائل المجلد الأول ورقة 165164.
فوات الوفيات: 2/ 562.
(2) هو خلف بن هشام الأزدى، أبو محمد، أحد القراء العشرة، كان عالما عابدا ثقة، واشتهر ببغداد وتوفى فيها سنة 229. غاية النهاية: 1/ 273، تاريخ بغداد: 8/ 322.
(3) هو أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك (أبو بكر القطيعى) عالم بالحديث، يقال إنه كان مسند العراق فى عصره، ونسبته إلى (قطيعة الدقيق) ببغداد وحدث عنه الحاكم وأبو نعيم، وتوفى سنة 368. انظر لسان الميزان: 1/ 145، غاية النهاية: 1/ 43.
(4) هو نافع بن عبد الرحمن بن أبى نعيم، أحد القراء السبعة، أصله من أصبهان، أقرأ الناس دهرا طويلا، نيفا عن سبعين سنة وانتهت إليه رئاسة القراء بالمدينة وتوفى سنة 169، وقيل سنة 170. انظر غاية النهاية: 2/ 334.
(5) هو حمزة بن حبيب بن عمارة بن اسماعيل، التيمي، الزيات. أحد القراء السبعة(1/52)
الرشيدى، كتاب جعفر بن حرب المعتزلى، كتاب مقاتل بن سليمان الهمدانى، كتاب أبى على الجبائى، كتاب أبى الهذيل (1) العلاف (2).
كما ذكر فى باب «الكتب المؤلفة فى معان شتى من القرآن» «كتاب بشر بن المعتمر (3)، فى متشابه القرآن»، وكتاب قطرب (4) فيما سأل عنه الملحدون من أى القرآن (5).
يضاف إلى ذلك كتاب آخر ذكره ابن النديم فى معرض ترجمته لابن الخلال القاضى، قال ابن النديم: هو «أبو عمر أحمد بن محمد بن حفص الخلال، البصرى، مولده بها، ولقى الصيمري وأبا بكر بن الأخشيد وأخذ عنهما، وكان
__________
كان من مولى التيم فنسب إليهم، توفى سنة 156. وقيل 158. انظر تهذيب التهذيب: 3/ 27.
غاية النهاية 1/ 263262وفيه أن على بن حمزة الكسائي أجل أصحابه.
(1) انظر ترجمة جعفر فى هذا الكتاب ص: 321: وأبى على. ص: 55. وأبى الهذيل ص 79.
أما مقاتل بن سليمان البلخى. المحدث المشهور فهو من رءوس المشبهة. وقد اختلفت فيه الآراء.
فبينما يلعنه أبو حنيفة يقول الشافعي إن الناس عيال عليه فى التفسير. وأهم ما اشتهر به فى مجال التشبيه حديث «المقام المحمود» الذى فسره تفسيرا ماديا. وقد توفى عام 150هـ من كتبه (تفسير القرآن) يظهر فيه قوله بالتشبيه والتجسيم: انظر وفيات الأعيان: 2/ 112. طبع مصر سنة 1310هـ ميزان الاعتدال للذهبى: 3/ 196. مقدمة التنبيه والرد على أهل الأهواء للشيخ الكوثرى ص: 6.
(2) انظر الفهرست، طبع أوربا، ص: 36.
(3) هو أبو سهل: بشر بن المعتمر، الهلالى، رئيس معتزلة بغداد، وإليه تنسب فرقة (البشرية) وتوفى فى حدود سنة 210. انظر طبقات المعتزلة ص: 52والتبصير فى الدين للاسفرايينى بتحقيق الشيخ زاهد الكوثرى رحمه الله ص: 71.
(4) هو أبو على محمد بن المستنير، الشهير بقطرب، من أهل البصرة، عالم باللغة والأدب، قال القفطي: «وكان موثقا فيما يمليه، ومات سنة ست ومائتين وله من الكتب: «الرد على الملحدين فى متشابه القرآن» وعده الحاكم فى باب من ذهب إلى العدل من النحاة. وفى بغية الوعاة أنه «كان يرى رأى المعتزلة النظامية» وهذا ما حملنا على الاعتقاد بأن الكتاب الذى أشار إليه ابن النديم هو فى متشابه القرآن. انظر عيون المسائل 1ورقة 165. إنباه الرواة:
3/ 210219.
بغية الوعاة للسيوطي: 1/ 242. طبع الحلبى سنة 1384.
(5) انظر الفهرست، طبع أوربا، ص: 38.(1/53)
إليه القضاء بمدينة حرة، ورد إليه قضاء تكريت وهو بها إلى هذه الغاية (1)، وله من الكتب، كتاب الأصول، وكتاب المتشابه».
ويوجد كتابه هذا فى المتشابه فى المكتبة المتوكلية بالجامع الكبير بمدينة صنعاء (2).
وبذلك يكون للمعتزلة قبل القاضى ستة كتب فى المتشابه، أو سبعة، لأن ابن الخلال، على الأقل، قد ألف كتابه فى عصر القاضى، رحمهما الله.
وجميع هذه الكتب كانت موجودة حتى مطلع الربع الأخير من القرن الرابع، ومعلوم أن شيخنا قد أملى كتابه فى خلال الفترة التى كان يملى فيها كتاب المغنى «من سنة 380360هـ» (3) أى أنه أملاه فى الفترة التى كانت فيها تلك الكتب موجودة على كل حال.
بين هذه الكتب وكتاب القاضى رحمه الله
ونكاد نقطع مع تعذر مقارنة كتاب القاضى بهذه الكتب، اللهم إلا كتاب ابن الخلال الذى قصره على طائفة معينة من آيات المتشابه بأن القاضى قد تأثر إلى حد كبير بكتاب شيخه أبى على الجبائى، وفى المقام الأول كذلك، وإن لم يكن هناك ما يمنع أن يكون قد اطلع على سائر كتب قومه.
__________
(1) أى سنة 377، وهي السنة التى ذكر ابن النديم أنه انتهى إليها فى فهرسه الذى جمع فيه الكتب الموجودة «بلغة العرب وقلمها» أو بعدها بقليل، لأن ابن النديم توفى سنة 384وبهذا يمكن القول إن تواريخ الوفاة التى ذكرها بعد هذا التاريخ من عمل غيره، كما جاء فى ترجمة ابن جنى أنه توفى سنة 392، ولا يبعد أنه قال فيه ما قاله فى ابن الخلال القاضى مثلا، ثم جاء من بعده من نص على تاريخ الوفاة. انظر مقدمة الفهرست، وص: 87،
(2) وعنوانه: «الرد على الجبرية القدرية فيما تعلقوا به من متشابه آى القرآن الكريم» ويقع فى ثمان وتسعين ورقة.
(3) انظر تعريفنا السابق بالمغنى.(1/54)
هذا إذا أمكننا القطع بأن جميع هذه الكتب فى المتشابه الذى تناوله القاضى دون المتشابه اللفظى، ولعل هذا مما يمكن القطع به لأن المعتزلة إنما كان يعنيهم فى الذود عن الإسلام والرد على الخصوم، هذا النوع من المتشابه دون المتشابه اللفظى، القريب من طبيعة القراء دون المتكلمين، ولأن القاضى ذكر فى مقدمة كتابه أن كتب مشايخه مشحونة بذكر هذا الباب المتشابه «ليبينوا أن القوم المجبرة ونحوهم كما خرجوا عن أدلة العقول، فكذلك عن الكتاب» وكل هذا مما لا يعتد به فى المتشابه اللفظى بالطبع!
ولا ندرى بعد ذلك ما هو وجه عدم ذكر كتاب بشر بن المعتمر فى الكتب المؤلفة فى المتشابه، وعدم التعرض لكتاب ابن الخلال إلا من خلال الحديث عن حياته لأن مما نستبعده أن يكون كتاب «بشر» الوحيد فى المتشابه الكلامى دون سائر الكتب الأخرى التى ذكرها ابن النديم فى الباب الخاص بالمتشابه، ومزج فيها كتب المعتزلة بكتب القراء فالراجح أن تكون كتب هؤلاء المعتزلة مثل كتاب بشر! وكان الأولى أن تصنف كتبهم مع كتاب مقاتل بن سليمان الذى يرجح أنه فى هذا الباب وكتب سائر المتكلمين الذين تناولوا هذه الآيات بالتفسير والتأويل، دون كتب القراء، كنافع، وحمزة، وخلف بن هشام، ممن بحثوا فى المتشابه اللفظى، سعيا وراء بعض الأسباب البلاغية، ولم يبحثوا فى آيات الصفات والعقائد، أو فى المتشابه الذى أشارت إليه الآية السابعة من سورة آل عمران.
وإنما رجحنا أن كتب هؤلاء كانت فى المتشابه اللفظى، لأن الذين كتبوا فى متشابه العقائد كانوا فى الغالب من أصحاب النحل، ولأن الكتابة فيه لم تفرد إلا بعد احتدام الخلاف المذهبى!(1/55)
أضف إلى ذلك أنه قد وصلنا من كتب القراء فى المتشابه: كتاب للكسائى، الذى كان تلميذا لأحد هؤلاء الذين ذكر لهم ابن النديم كتبا فى المتشابه، وشيخا لآخر، أسماه «مشتبهات القرآن» (1). عالج فيه مسألة نزول القرآن على سبعة أحرف ومسائل أخرى، ثم جمع فيه الآيات المشتبهات من حيث اللفظ، بعضها مع بعض بحسب ترتيب السور، ولم يكتب فى تعليل ذلك، والتماس ما فيه من وجوه البلاغة، حرفا واحدا، وربما جاء من بعده فالتمسوا بعض وجوه الحكمة فى ذلك فى كتب أسموها بالمتشابه، كذلك.
على أننا لا نحكم باستحالة أن يكون بعض هؤلاء قد حمله ما وجده من أصحاب الفرق، وبخاصة المعتزلة ونظرة المحدثين والقراء لهم معروفة من الخوض فى التأويل، على الكتابة والرد عليهم، والانتصار فى ذلك بمذهب السلف، فيكون قد كتب، على أحسن الفروض، كتابا فى آيات الصفات!
وإذا قارنا كتاب القاضى عبد الجبار بكتاب القاضى ابن الخلال، وهو كل ما وصلنا من كتب الذين تقدموا قاضى القضاة، أمكننا القول: بأن كتاب الشيخ ينفرد بشموله جميع الآيات المتشابهة مع الاستدلال بالمحكم على مذهبه، فى جميع مسائل العدل والتوحيد، فى حين أن ابن الخلال اقتصر فيه على تأويل الآيات التى يشعر ظاهرها بالجبر.
__________
(1) الكسائى هو أبو الحسن على بن حمزة الكسائى، توفى سنة 189، وذكر ابن الجزرى أنه كان أجل أصحاب حمزة بن حبيب (156) وذكر أن خلف ابن هشام (229) قد قرأ عليه الكسائى الحروف. راجع غاية النهاية فى طبقات القراء:
1/ 262261و 1/ 275. وانظر أوسع ترجمة الكسائى فى إنباه الرواة. وتوجد نسخة من كتابه (مشتبهات القرآن) فى معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية نسخة مصورة بالميكروفيلم تقع فى 80ورقة، ورقمها 240تفسير.(1/56)
كتاب القاضى بين كتب الفرق الأخرى:
أما أصحاب الفرق الأخرى فما وصل إلينا ما يدل على أن واحدا منهم قد نسج على منوال القاضى فى كتابه، فأوّل جميع الآيات المتشابهة لتوافق المحكم الدال على مذهبه فيما يعتقد، وأصّل الاستدلال بهذا المحكم على ما يقول، وإن كان من الممكن هنا الإشارة إلى كتاب: «تأويلات أهل السنة» لأبى منصور الماتريدى المتوفى سنة 333فإنه وإن كان تفسيرا كاملا للقرآن لم يقصره على المحكمات والمتشابهات، إلا أنه يطيل الوقوف عند هذا النوع من الآيات، ويرد فى ذلك على سائر الفرق، ولعل هذا مما حمله على تسميته كتابه بهذا الاسم (1).
وكتاب: «الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله (2)» المنسوب للإمام أحمد بن حنبل الذى أول فيه بعض الآيات على خلاف تأويل الجهمية لها، مثل آيات الرؤية والعرش ونحو ذلك، أو بعبارة أخرى: التى رفض فيها تأويل الجهمية، حملا لها على الظاهر، حتى زعم مثلا أن الله على عرشه فى السماء (3)، أو مستدلا على هذا الرفض ببعض الروايات، حتى إنه ذهب فى إثبات تكليم الله لموسى بكلام سمعه إلى الاستشهاد بحديث الزهرى أن موسى لما رجع إلى قومه وسألوه أن يشبه لهم كلام الله، قال: «هل سمعتم الصواعق التى تقبل فى أحلى حلاوة سمعتموها؟ فكأنه
__________
(1) راجع (تأويلات أهل السنة) مخطوط دار الكتب المصرية: 27306ب وهو يقع فى ثلاث مجلدات ضخام.
(2) انظر الكتاب ضمن مجموعة نشرها الشيخ محمد حامد الفقى باسم (شذرات البلاتين من طيبات كلمات سلفنا الصالحين) من ص: 404. بمطبعة السنة المحمدية سنة 1375.
(3) شذرات البلاتين، ص: 3433.(1/57)
مثله (1))! والكتاب كله يقع فى قريب من أربعين صفحة. وهو على كل حال ليس لأحد على التحقيق، وإنما هو من وضع بعض الحشوية عليه قال الشيخ زاهد الكوبري، رحمه الله: «وأما ما يعزى إلى الإمام أحمد من كتاب:
«الرد على الجهمية والزنادقة فإنما أذيعت نسبته إليه فى القرن الرابع الهجرى برواية مجهولة، حتى إن الذهبى لا يعترف بصحة النسبة إليه، وإن عوّل عليه كثير من شيوخ متأخرى الحشوية، وقد ذكرنا فى سنده من العلل القادحة، وما فى المتن، مما يجلّ مقدار أحمد عن القول به» (2).
وتغنينا هذه المقالة من الشيخ زاهد، وإن كنا فى الواقع لم نرد أن نعنى بالتحقيق فى صحة نسبة هذا الكتاب إلى الإمام أحمد رحمه الله، لأن الأمثلة السابقة وحدها فيما ترى تكفى للدلالة على أن الكتاب مكذوب عليه. أو أن يكون مشبها حشوى العقيدة، وما نظن ذلك.
بين كتاب القاضى وكتب من فاخر عنه:
أما أهم الكتب التى عرضت لتأويل الآيات المتشابهة بعد القاضى، فهى
__________
(1) المصدر السابق، ص: 31.
(2) تعليق للشيخ زاهد على كتاب (الاختلاف فى اللفظ) لابن قتيبة ص 55. ويضاف إلى هذه الكتب كتاب آخر للاشعرى ذكره ابن فورك، وهو يعدد كتب أبى الحسن التى ألفها بعد سنة عشرين وثلاثمائة، قال: (وكتاب فى متشابه القرآن جمع فيه بين المعتزلة والملحدين فيما يطعنون به فى متشابه الحديث)! وهذا هو نص العبارة كما وردت فى (تبيين كذب المفترى) ص 135ولعله تناول فيه آيات الهدى والضلال والرؤية ونحو ذلك على طريقته فى كتاب الإبانة وغيره، وعلى عادته فى العبارة الموجزة التى يظن أنها تحمل معنى الإلزام وبدون اعتراض لخصومه المعتزلة، الذين يحلو له دائما أن يجمعهم مع الملحدين، وتاريخهم فى الذب عن الإسلام وقطع دابر الملحدين لا يجهل.
كما تحسن الإشارة هنا إلى أن أكثر الكتب التى تبحث فى الفرق تخص موضوع المتشابه بفصل خاص، وإن كان كتاب أبى الحسين الملطي الشافعى من أسبق هذه الكتب وأكثرها موضوعية فى تناول هذا البحث، وتأويل الآيات التى يشعر ظاهرها بالتعارض. انظر التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع لأبى الحسين محمد بن أحمد الملطي (ت 377)، ص: 8258،(1/58)
بعيدة كذلك عن الطريقة التى سلكها القاضى، لأن أصحابها اقتصروا فيها على جمع بعض آيات الصفات وأخبارها فقط، وتأويلها بما يعتقدون أنه الحق، على نحو ما فعل ابن اللبان فى كتابه «متشابهات القرآن» والرازى فى «أساس التقديس» يضاف إلى ذلك كتابا «الإكليل فى المتشابه والتأويل» لابن تيمية. و «إلجام العوام عن علم الكلام» للغزالى، اللذين درسا فيهما المتشابه دراسة موضوعية، ولم يلتزما فى ذلك تأويل جميع آيات الصفات بطبيعة الحال.
4 - نسختا الكتاب وعملنا فى التحقيق:
قمت بتحقيق الكتاب عن نسختين فريدتين:
أولاهما: نسخة قديمة بخط يمنى واضح، ناقصة من أولها بمقدار ورقتين صفحة العنوان وثلاث صفحات أخرى كما يتضح ذلك من مقارنتها بالنسخة الأخرى. وعدد أوراقها ثلاث وسبعون ومائة ورقة، ومتوسط الأسطر فى الصفحة الواحدة ثمانية وعشرون سطرا.
ولم يعن فيها الناسخ على عادتهم فى الخط القديم بعلامات الإعجام والإهمال، على حسن خطه وكتابته عناوين السور بالمداد الأحمر.
وفى بعض أوراق النسخة تقطيع فى أطرافها ينتهى عند الكتابة تارة، وينقص من أطرافها تارة أخرى وبخاصة فى أوراق الكتاب الأخيرة وفى بعض صفحات أخرى كتابات وتوقيعات بخط جد رديء كأنه عبث صبية يتدربون على الكتابة ويوقعون بأسمائهم توقيعات متشابكة لا تقرأ.(1/59)
تاريخ النسخة وتوثيقها:
وقد تمت كتابة هذه النسخة فى شهر صفر سنة ثمان عشرة وستمائة فى مدينة ظفرذى بين، شمال صنعاء «وهى الهجرة المنصورية التى ذكرها الناسخ. راجع صفحة الكتاب الأخيرة».
وعورضت على نسخة قديمة فرغ من نساختها فى السادس من ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وأربعمائة أى بعد وفاة المؤلف رحمه الله بثلاث وستين سنة وهى نسخة القاضى شمس الدين جعفر بن عبد السلام المعتزلى وشيخ علماء الزيدية فى عصره «راجع الصفحة الأخيرة».
ويظهر أثر هذه المعارضة فى بعض مواطن الكتاب.
وقد كانت هذه النسخة فى بلاد اليمن، ثم اقتناها فؤاد سيد أمين المخطوطات بدار الكتب فى بعثة الدار إلى اليمن عام 1952لتصوير نوادر المخطوطات من مكتباتها العامة والخاصة، والتى كان من بينها مجموعة من مصنفات المعتزلة عامة.
النسخة الثانية.
أما النسخة الثانية فهى قديمة أيضا، تامة من أولها، ناقصة من آخرها تنتهى عند الكلام على قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} من سورة الشعراء. وعدد أوراقها سبع ومائتا ورقة. وهى من ورقة 8إلى ورقة 195ضم إليها من أولها وآخرها بعض الورقات «الحوامى» من 71ومن 196 207، فيها بعض النقول المختلفة من آيات وأحاديث وأدعية، ونقول أخرى من بعض الكتب.(1/60)
ولكن هذه الحوامى التى جرت عادتهم بوضعها فى أول الكتب وآخرها للمحافظة على متن الكتاب، وحماية له من ضياع بعض أوراقه الأولى والأخيرة، لم تحم هذه النسخة من أن يسقط منها ما يقرب من الثلث، ويبدو أنها «حميت» ناقصة.
وقد كتبت هذه النسخة بقلم نسخ معتاد، اعتنى فيها الناسخ بعلامات الإعجام والإهمال فى الغالب ووضع فيها عناوين المسائل والدلالات والسور والآيات القرآنية بخط كبير مميز. ومسطرة ورقها: 14* 16سم.
وكتب على صفحة الغلاف العنوان التالى:
«كتاب متشابه القرآن الكريم»
تصنيف الشيخ الإمام عماد الدين قاضى القضاة عبد الجبار بن أحمد رحمة الله عليه
وعلى هذه الصفحة [8ظ] بعض تملكات للنسخة، من أهمها تملك للإمام على بن المؤيد من أئمة الزيدية. ثم عبارة انتقال الكتاب بالإرث إلى زوجته الشريفة الطاهرة الشمسية بنت محمد بن عبد الهادى بن إبراهيم، ثم إلى ولدها المهدى بن أمير المؤمنين. وبعض تملكات أخرى، منها تملك مؤرخ فى سنة 1185هـ.
وفى الأوراق الزائدة بآخر النسخة رسالة مؤرخة سنة 675هـ وعبارة تملك فى ورقة أخرى سنة 822.
تاريخ النسخة ومكانهما:
وقد ضاع فى الأوراق الناقصة خاتمة النسخة وتاريخ الكتابة. ولكن يبدو من نوع الخط وسماته أن النسخة كتبت فى أوائل القرن السابع الهجرى، لأن
خطها يشابه خط أكثر المصنفات الاعتزالية التى جمعت من وقف الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة أحد أئمة الزيدية، المتوفى سنة «614» هجرية، فى مدينة ظفار باليمن، والتى نقلت فى عام 1348هـ إلى المكتبة المتوكلية بالجامع الكبير بمدينة صنعاء.(1/61)
وقد ضاع فى الأوراق الناقصة خاتمة النسخة وتاريخ الكتابة. ولكن يبدو من نوع الخط وسماته أن النسخة كتبت فى أوائل القرن السابع الهجرى، لأن
خطها يشابه خط أكثر المصنفات الاعتزالية التى جمعت من وقف الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة أحد أئمة الزيدية، المتوفى سنة «614» هجرية، فى مدينة ظفار باليمن، والتى نقلت فى عام 1348هـ إلى المكتبة المتوكلية بالجامع الكبير بمدينة صنعاء.
وقامت بعثة دار الكتب المصرية إلى اليمن عام 19521951بتصوير هذه النسخة ضمن مجموعة أخرى كبيرة وبقى الأصل محفوظا بمكتبة الجامع الكبير بصنعاء تحت رقم 494تفسير. وصورتها التى اعتمدنا عليها فى التحقيق فى دار الكتب المصرية، وتحمل رقم: 27620ب.
عملنا فى التحقيق:
والواقع أننى أقدمت أولا على تحقيق الكتاب عن النسخة الثانية الناقصة وحدها قبل أن أعلم خبر النسخة الأولى، رقمت بذلك على الرغم من النقص الكبير الواقع فى النسخة لاعتقادى بأهميته الكبيرة فى دراسة منهج المعتزلة فى التفسير والتأويل، وطريقتهم فى الاستدلال بالقرآن. واعتمادهم على النصوص على خلاف ما أشيع عنهم ولما يسده فى الواقع من فراغ فى المكتبة القرآنية.
وكانت صادفتنى مشاكل كثيرة، نظرا لدقة موضوع الكتاب، وسقم النسخة فى بعض المواطن، ولكننى تغلبت على هذه الصعوبات وبخاصة فى مرحلة التحقيق الأساسية، وهى تقويم النص عن طريق الرجوع إلى ما كتبه القاضى فى الآية أو الفكرة موضوع البحث فى كتبه الأخرى وعلى رأسها المغنى فكان يوضح لى فهم الموضوع على الوجه الأكمل سبيل القراءة أو التصويب. كما لجأت إلى كتاب «الأمالى» للشريف المرتضى، الذى أعاننى
بدوره على حل كثير من المشكلات الأخرى، ليس لأن أكثر وجوه التأويل التى كان يعرض لها القاضى يذكرها الشريف نظرا لتلقيه عنه ليس لهذا فحسب، بل لأن الذى يبدو أن المعتزلة بعامة وهم يعتمدون فى أصول تفسيرهم وتأويلهم على اللغة يكادون يستشهدون لذلك بنفس المأثور من كلام العرب، من أمثال وشعر ونحو ذلك، كما أنهم يتحدثون فى أصول اشتقاق الكلمات، ومعانيها اللغوية، ووجوه الحقيقة والمجاز فيها حديثا متفقا لا يكاد يختلف موضعه.(1/62)
وكانت صادفتنى مشاكل كثيرة، نظرا لدقة موضوع الكتاب، وسقم النسخة فى بعض المواطن، ولكننى تغلبت على هذه الصعوبات وبخاصة فى مرحلة التحقيق الأساسية، وهى تقويم النص عن طريق الرجوع إلى ما كتبه القاضى فى الآية أو الفكرة موضوع البحث فى كتبه الأخرى وعلى رأسها المغنى فكان يوضح لى فهم الموضوع على الوجه الأكمل سبيل القراءة أو التصويب. كما لجأت إلى كتاب «الأمالى» للشريف المرتضى، الذى أعاننى
بدوره على حل كثير من المشكلات الأخرى، ليس لأن أكثر وجوه التأويل التى كان يعرض لها القاضى يذكرها الشريف نظرا لتلقيه عنه ليس لهذا فحسب، بل لأن الذى يبدو أن المعتزلة بعامة وهم يعتمدون فى أصول تفسيرهم وتأويلهم على اللغة يكادون يستشهدون لذلك بنفس المأثور من كلام العرب، من أمثال وشعر ونحو ذلك، كما أنهم يتحدثون فى أصول اشتقاق الكلمات، ومعانيها اللغوية، ووجوه الحقيقة والمجاز فيها حديثا متفقا لا يكاد يختلف موضعه.
كما سلكت فى سبيل ذلك طرقا أخرى، أضحى الحديث عنها بعد وجود النسخة الأخرى من نافلة القول، وإنما أشرت إلى ما أشرت إليه لبيان أننى لم أقف على جديد عند ما وجدت أن جميع النقاط التى وقفت عندها أثناء التحقيق وتتبع فيها قلمي قلم الناسخ لا المؤلف كما ظن بعضهم هى كما فهمتها وصوبتها فى أغلب المواطن، ولا أقول فى جميع المواطن.
على أننى قد صوبت بعض المواطن فى مقدمة المؤلف وهى مقدمة كلامية دقيقة وقد أشرت إلى أنها قد سقط منها من نسختنا الأخرى مقدار ثلاث صفحات، فبقى اعتمادنا فى هذا القدر على نسختنا الأولى التى كنا نظنها يتيمة.
وبعض هذه التصويبات ظاهرة الصحة، أو ظاهرة الوجوب، وبعضها الآخر حمله بعضهم على أنه تحريف للنص وإخلال بعبارة المؤلف، وكان لم يزد أن قرأ من الكتاب بضع صفحات، وقاس فى غير محل القياس. وهما على أية حال موطنان يحسن أن نقدم القول فيهما فى هذه الفقرة، ليعلم ما يجب أن يعلمه كل قارئ عن أى محقق.(1/63)
1 - ختم القاضى رحمه الله الفقرة الأولى من كتابه بقوله: «وعلى هذا الوجه قلنا إن المعجزات لما كانت بمنزلة الأخبار فى أنها لا يمكن أن يعلم أنها صحيحة إلا بعد العلم بحال الفاعل وحكمته، لم يمكن أن يستدل بها على النبوات من أجاز على الله عز وجل فعل القبيح، وقلنا: يجب أن لا نأمن أنه تعالى أظهرها على [من] يدعو إلى الضلال والفساد، ويصد عن الهدى والرشاد»
وإضافة كلمة [من] لا يحتاج إلى تعليق. أما الخلاف فكان فى كلمة «أجاز» لأنها كانت فى الأصل كما أشرنا إلى ذلك فى الهامش «اختار»، فزعم من زعم أن تغييرها عبث بالنص وقلب للمعنى الذى قصد إليه القاضى، وأنه تعمد اختيارها للتشنيع على الخصوم!
وجوابنا: أن للقاضى، وغيره أن يشنع على الخصوم، ولكن بالحق لا بالباطل، ولم يكن القاضى رحمه الله من المبطلين! ثم إن الخلاف بين القاضى وخصومه ليس فى أنهم «اختاروا» على الله فعل القبيح، ولم يختره هو وقومه، لأن كل المسلمين، علماءهم وعوامهم، متفقون على أنه تعالى يفعل الحسن، إنما الخلاف فى «جواز» فعله للقبيح بالمفهوم الإنسانى وعدم جوازه، «فأجاز» ذلك قوم ومنعه آخرون. وليس فى الإسلام فرقة «اختارت» على الله فعل الحسن، وأخرى «اختارت» عليه القبيح! فلا تعدو كلمة «اختار» فى النص أن تكون من تصحيفات الناسخ.
ثم إن القاضى لم يبلغ من العى أن يقول «اختار على الله» ويعنى بها: «اختار لله» أو اختار كذا لله، وما نعلم أن العرب يقولون فى اختيار المرء
جانبا دون جانب: إنه اختار على هذا الجانب! حتى تصح عبارة الناسخ المحترم.(1/64)
ثم إن القاضى لم يبلغ من العى أن يقول «اختار على الله» ويعنى بها: «اختار لله» أو اختار كذا لله، وما نعلم أن العرب يقولون فى اختيار المرء
جانبا دون جانب: إنه اختار على هذا الجانب! حتى تصح عبارة الناسخ المحترم.
وبعد، فقد كان من عادتنا فى التحقيق وهذا من المسلمات أن نشير إلى عبارة الأصل فى الهامش، ليرجح من شاء ما شاء، بعد أن يكون أهلا للترجيح.
2 - وفى الفقرة الثانية من الكتاب يذكر القاضى عناية شيوخه، ويعنى بهم من تقدمه من رءوس القوم، بموضوع المتشابه لمناقشة المخالفين فى أصول العدل والتوحيد. ثم يقول: «فلذلك تجد كتب مشايخنا رحمهم الله مشحونة بذكر هذا الباب ليبينوا أن القوم كما خرجوا عن طريقة المعقول، فكذلك عن الكتاب»
وفى الأصل، كما بينا، «بذكر فى هذا الباب» و «كذلك عن الكتاب» فاعترض المعترض على الموضعين، وقال إن الصواب ما فى الأصل، وأن ما صوبناه تحريف وتصحيف! وأن أسلوب القاضى جاء على ذلك الشكل، فلا داعى لتغييره. والذى نزعمه أن هذا من أسلوب الناسخ لا من أسلوب قاضى القضاة رحمه الله: أما «فكذلك» فإن لا نطيل الوقوف عندها لبيان أنها هى التى تربط الجواب فى لغة العرب.
وقوله: «بذكر فى هذا الباب» لا نقول فى زيادة «فى» فيه، إلا أن القاضى يريد أن يقول إن كتب مشايخه مشحونة بذكر باب المتشابه، فقال:
«بذكر هذا الباب» ولم يرد أن يقول إنها مشحونة بالذكر!! لأن مشايخه [م 5المقدمة](1/65)
كانوا من المعتزلة!! ولم يكونوا يدورون فى حلقات المتصوفة!!. والحديث فى النص عن باب المتشابه، لا عن باب السيد البدوى!
وبعد، فإننا لا نجهل أسلوب القاضى عبد الجبار، وقد قلنا فيه «أما أسلوبه فهو يتحدث عن نفسه بدقة وعمق، وهو وإن كان يقوم على القصد فى العبارة، وعلى بعض الاستعمالات الخاصة فى بعض الأحيان، فإنه لا مجال فيه للشرح والتعليق. وما قد يبدو غريبا على القارئ للوهلة الأولى، ليس إلا أثرا من آثار الجدل، والحاجة إلى تحميل العبارة أكثر ما يمكن من المعانى الفلسفية والكلامية الدقيقة» (1).
مقابلة النسختين وامور التحقيق الاخرى:
نعود إلى الحديث عن عملنا فى التحقيق: قمت بعد احضار النسخة الأخرى بمقابلة النص المحقق عن النسخة الأولى، عليها. وأثبت فى صلب الكتاب النص المختار، وكان غالبه عن النسخة الكاملة، ووضعت الفروق فى الهامش، كما أشرت فيه كذلك إلى ما كان من سقط عارض فى أى من النسختين. ورمزت للنسخة المصورة بدار الكتب بالحرف (د) وللنسخة الأخرى التى افتقدتها طويلا بالحرف (ف).
وفى مجال الأمور الأخرى المتصلة بالتحقيق: قمت بضبط النص القرآنى، ولا أدرى لماذا كثرت أخطاء الناسخ فى آيات التنزيل، وبخاصة النسخة الناقصة، ولعله كان يكمل الآيات من ذاكرته طلبا للسرعة، فخانه الحفظ. وقد أتبعت كل آية برقمها من السورة، واستغنيت بذلك، وبوضع اسم السورة فى أعلى
__________
(1) انظر رسالة ماجستير بمكتبة جامعة القاهرة بعنوان (متشابه القرآن)(1/66)
الصفحة عن تكرار ذلك وذكره فى الهامش اللهم إلا حيث أجد المؤلف يجزئ الاستشهاد بالآية والحديث عنها، أو يكون لها ارتباط بما يسبقها أو يلحقها فى كلام المؤلف، فكنت أذكر الآية بأكملها وأشير إلى رقمها فى الهامش.
وحاولت فى تخريج الأحاديث استقصاء الروايات الواردة فى كل واحد منها ما وجدت إلى ذلك من سبيل، وكنت أثبت مع الحديث بعض تعليقات العلماء الموجزة، إذا كان لذلك ضرورة فى التعليق على كلام المؤلف رحمه الله.
أما الأعلام الذين ورد ذكرهم عند المؤلف وعرفنا بهم، فهم قليل. ويبدو أن القاضى وهو يملى أو يكتب ما كان يعتد بالنقل عن الشيوخ، أو الاستشهاد بآراء العلماء والمصنفين، وكان جل نقله عن شيخيه كما يحب أن يدعوهما أبى على وأبى هاشم الجبائيين. وقليل منه عن شيوخ المعتزلة الآخرين.
التعليق على الكتاب:
وكتابنا بالدرجة الأولى كتاب تفسير، لأن موضوعه هو الآيات القرآنية، ولكنه مع ذلك ملئ بالمصطلحات الكلامية والخلافية بين المعتزلة وغيرهم، لأنه يتناول بالتفسير الآيات التى هى مثار الجدل والخلاف بينهم. وقد حملنى ذلك على إثبات بعض الشروح الموجزة لمصطلحات القوم، وعقد بعض المقارنات الموضحة لموقف الخصوم. وهذا ما يفسر وجود أكثرها فى أوائل الكتاب.
وقد حاولت فيما يتصل بالفريقين الرجوع إلى كتبهم الخاصة بهم، تحريا للدقة، ورفعا لظلامة ركبت المعتزلة قرونا متطاولة كانت آراؤهم فيها تؤخذ من كتب خصومهم.(1/67)
وبعد، فهذا كتاب «متشابه القرآن» للقاضى عبد الجبار، أضعه بين يدى قراء العربية، بعد أن نفضت عنه غبار عشرة قرون، وعشت معه رحلة طويلة ممتعة وإن تكن شاقة كنت أطالع فى كل يوم من أيامها التفسير الشاهد لقوله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفََاءً، وَأَمََّا مََا يَنْفَعُ النََّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}.
القاهرة: كويرى القبة
15 - جمادى الآخرة 1386هـ
1 - تشرين الأول (اكتوبر) 1966م
عدنان محمّد زرزور(1/68)
متشابه القرآن للقاضى عبد الجبّار بن أحمد الهمذانى(1/69)
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم وصلواته على نبيه
1 - مسألة: فى كيفية الاستدلال بالقرآن على ما يدل عليه.
اعلم أن كل فعل لا تعلم صحته ولا وجه دلالته إلا بعد أن يعرف حال فاعله، «ولا يمكن (1) أن يستدل به على إثبات فاعله ولا على صفاته، وإنما يمكن أن يستدل به على ما سوى ذلك من الأحكام، لأنه إن دل على حال فاعله، ولا يعلم صحته إلا وقد علم فاعله أدى ذلك إلى أنه لا يدل عليه إلا بعد المعرفة به، ومتى علم الشيء استغنى عن الدلالة عليه!
ويبطل ذلك من وجه آخر: وهو أنه يؤدى إلى أن لا تعلم صحة القرآن إلا بعد معرفة الله تعالى، ولا يعرف تعالى إلا بعد معرفة القرآن، وذلك يوجب أن يدل كل واحد منهما على ما عليه، وأن يكون دليلا على نفسه!
فإن قال: ومن أين أنّ صحة القرآن لا تعلم إلا بعد معرفة الله؟
قيل له: لأن الخبر لا يعلم بصيغته أنه صدق أو كذب «حتى إذا علم حال المخبر صح أن نعلم ذلك (2)» وقد علمنا أن ما أخبر جل وعزّ عنه فى القرآن لم يتقدم لنا العلم بحال مخبره، فيجب أن لا يعلم أنه صدق إلا بعد العلم بحال المخبر وأنه حكيم. والقول فى الأمر والنهى كالقول فى الخبر.
فان قال: ومن أين أن وجه دلالته لا تعلم إلا بعد معرفة الله تعالى؟
__________
(1) فى الأصل: لمن
(2) عبارة الأصل: «حتى إذا علم حال المخبر به إذ حال المخبر يصح أن نعلم ذلك»(1/70)
قيل له: لأنه إنما يدل بأن يصدر من حكيم لا يجوز أن يختار الكذب والأمر بالقبيح، ومتى لم يكن فاعله بهذه الصفة لم يعلم وجه دلالته، فيجب أن يعلم أولا أنه عز وجل حكيم لا يختار القبيح، حتى يصح أن يستدل بالقرآن على ما يدل عليه، وذلك يمنع من أن يستدل به على إثباته تعالى وإثبات حكمته.
وبعد، فليس يخلو من خالف فى ذلك من أن يقول: أخبار القرآن تدل، مع التوقف فى لونها من قبيل الصدق، أو يقول: إنها لا تدل إلا وقد علم أنها صدق.
ولا شبهة فى فساد الأول، لأن كل خبر كونه كذبا غير دال على حال مخبره، وإذا صح ذلك فلا بد من أن يعلم [كونه] صدقا، ولا يخلق العلم بذلك دون (1) أن يرجع فيه إلى نفس الخبر، أو إلى خبر سواه، او إلى دليل العقل.
ولا يصح أن يعلم أن الخبر صدق بنفسه، لأنه إنما يدل على حال غيره لا على حال نفسه.
وإن علم أنه صدق بخبر آخر لم يخل من أن يكون واردا عن الله عز وجل أو عن غيره، ولا يجوز أن يرجع إلى خبر غيره. وخبره عز وجل إذا رجع إليه ولمّا علم حاله فى الحكمة فكأنه استدل على أنه صادق فى سائر أخباره، ومتى جوّز فى سائر أخباره الكذب يجوز فى هذا الخبر مثله، فلا يصح النقد به.
ولذلك قلنا: إن المجبّرة إذ (2) جوزت عليه عز وجل أن يفعل القبيح لا يمكنها المعرفة بصدقه عز وجل، لا من جهة العقل، ولا من جهة السمع!
__________
(1) فى الأصل: من.
(2) فى الأصل: إذا.(1/71)
وكل ذلك يوجب أن يرجع فى دلالة القرآن إلى أن يعرف تعالى بدليل العقل وأنه حكيم لا يختار فعل القبيح، ليصح (1) الاستدلال بالقرآن على ما يدل عليه (2).
فإن قال: إن صح أن يستدل عليه تعالى بسائر أفعاله قبل أن يعرف، فهلا جاز أن يستدل بالقرآن عليه قبل أن يعرف (3)؟!
قيل له: قد بينا أن الكلام لا يدل على ما يدل عليه لأمر يرجع اليه، وإنما يدل لكون فاعله حكيما، ولذلك لم يدل كلام النبى صلّى الله عليه وسلم على الأحكام إلا بعد العلم بأنه رسول حكيم لم يظهر المعجز عليه إلا لكونه صادقا فى سائر ما يؤديه، وليس كذلك دلالة الفعل (4) على أن فاعله قادر، ولأنه إنما يدل «لأمر يرجع (5) إليه لا يتعلق باختيار مختار. وهو أن الفعل إذا صح
__________
(1) فى الأصل: لم يصح.
(2) هذه الجملة التى قدمها المؤلف رحمه الله بين يدى كتابه فى تفسير متشابه القرآن، ليست ضرورية لتصحيح استدلاله فيما يأتى من الآيات على مذهبه فى العدل والتوحيد فحسب، ولكنها فيما يتضح مسألة موضوعية لا بد من تقديمها بين يدى أى استدلال بالقرآن أو بحديث النبى صلّى الله عليه وسلم، كما برهن عليها قاضي القضاة، وقد قال معلق كتابه.
«شرح الأصول الخمسة» الإمام أحمد بن الحسين بن أبى هاشم عند الكلام على استدلال القاضي رحمه الله بآيات من القرآن على أن الله تعالى لا يجوز أن يكون خالفا لأفعال العباد.
إن القاضي «لم يورده على طريقة الاستدلال والاحتجاج، فان الاستدلال بالسمع على هذه المسألة متعذر. لأنا ما لم نعلم القديم تعالى، وأنه عدل حكيم، لا يظهر المعجز على الكذابين، لا يمكننا الاستدلال بالقرآن»، ولا يدفع هذا بأنه تعالى إنما يعرف ضرورة فى دار الدنيا، أو تقليدا، لأن من مذهب المؤلف أن العلم بالله تعالى ليس ضرورة وإنما هو اكتساب يقوم على النظر والاستدلال. راجع شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، بتحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان، طبع مصر 1384، ص 6451وص 355354.
(3) واضح من هذا أن القرآن فعل من أفعاله تعالى. وهذا ينبنى على مذهب المعتزلة فى نفى الصفات الأزلية. ولذا فان الاعتراض المذكور إنما يقع ممن يقول بمذهبهم فى القرآن.
أما المخالفون فى ذلك فقد أفرد لنقاشهم فيه وفيما ينبنى عليه المسألة الرابعة.
(4) فى الأصل: العقل
(5) فى الأصل: لا مرجع.(1/72)
من واحد وتعذر على من هو بمثل حاله فلا بد من أن يختص بأمر له صح الفعل منه، وهذه الجملة لا تتعلق بالاختيار، فلذلك يصح أن يستدل بالحوادث التى لا يجوز أن تحدث من الأجسام على الله تعالى وعلى أنه قادر عالم، وليس كذلك حال القرآن.
يبين أيضا ما ذكرناه أنه لا شبهة فى أن فعل النبى صلّى الله عليه وسلم قبل ظهور المعجز يدل على أنه قادر عالم، ولم يجب أن يدل كلامه على الأحكام على هذا الحد بل احتيج إلى ظهور المعجز ومعرفة حال المرسل وحكمته، وكذلك القول فيما قدمناه.
فإن قال: إن كان الأمر كما ذكرتم فيجب أن تكون الأخبار الواردة فى القرآن، الدالة على الله عز وجل وعلى حكمته، عبثا لا فائدة فيها لأن الاستدلال بها لا يمكن، ويجب أن يعرف عز وجل بتوحيده وعدله أولا، ثم يعلم صحتها!
قيل له: إنه عز وجل إنما خاطب بذلك ليبعث السائل على النظر والاستدلال بما ركب فى العقول من الأدلة. أو لأنه علم أن المكلف عند سماعه والفكر فيه يكون أقرب إلى الاستدلال عليه، منه لو لم يسمع ذلك، فهذه الفائدة تخرج الخطاب من حد العبث.
يبين ذلك أن الداعى منا إلى الله عز وجل متى قصد إلى جاهل به فدعاه وعرّفه طريقة معرفته ومعرفة توحيده وعدله، لا يجوز أن يعد عابثا فى دعائه، وان لم يصح من المدعو أن يعرفه جل وعز بنفس دعائه دون أن ينظر ويتدبر، فكذلك القول فى كلامه عز وجل، سيما ومن اعتقد فى القرآن، قبل أن يعرف الله، أنه كلامه عز وجل على جهة التقليد، وأنه تعالى لا يجوز أن يكذب، كان
ذلك أدعى له إلى النظر، من خطاب الداعى الذى لا يعتقد تعظيم حاله، ولهذه الجملة عوّل الأنبياء عليهم السلام، عند مسألة قومهم لهم عن الله عز وجل، على ذكر أفعاله تعالى من خلق السموات والأرضين وغير ذلك.(1/73)
يبين ذلك أن الداعى منا إلى الله عز وجل متى قصد إلى جاهل به فدعاه وعرّفه طريقة معرفته ومعرفة توحيده وعدله، لا يجوز أن يعد عابثا فى دعائه، وان لم يصح من المدعو أن يعرفه جل وعز بنفس دعائه دون أن ينظر ويتدبر، فكذلك القول فى كلامه عز وجل، سيما ومن اعتقد فى القرآن، قبل أن يعرف الله، أنه كلامه عز وجل على جهة التقليد، وأنه تعالى لا يجوز أن يكذب، كان
ذلك أدعى له إلى النظر، من خطاب الداعى الذى لا يعتقد تعظيم حاله، ولهذه الجملة عوّل الأنبياء عليهم السلام، عند مسألة قومهم لهم عن الله عز وجل، على ذكر أفعاله تعالى من خلق السموات والأرضين وغير ذلك.
فإن قيل: فيجب أن لا يعلم بالقرآن الحلال والحرام إلا على هذا الوجه!
قيل له: كذلك نقول لأنه ما لم يعلم أن المخاطب بالقرآن حكيم لا يجوز أن يكذب فى أخباره أو يعمّى أو يأمر بالقبيح أو ينهى عن الحسن، لم يصح أن يعرف به الحلال والحرام، لكن الأحكام يمكن أن تعلم بالقرآن من غير مقدمة، إذا كانت المعرفة بالله عز وجل قد تقدمت، ولا يصح أن يعلم بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1)، من غير تقدم العلم بأنه تعالى ليس بجسم، أنه تعالى لا يشبه الأشياء، لما قدمنا من أنه لا يصح أن يعرف الفاعل وحكمته بالفعل الذى يصدر عنه، إذا كان العلم بصحته ووجه دلالته لا بد من أن يرجع فيه إلى حال الفاعل.
وعلى هذا الوجه قلنا: إن المعجزات لما كانت بمنزله الأخبار فى أنها لا يمكن أن يعلم أنها صحيحة إلا بعد العلم بحال الفاعل وحكمته لم يمكن أن يستدل بها على النبوات من أجاز (2) على الله عز وجل فعل القبيح، وقلنا يجب أن لا نأمن أنه تعالى أظهرها على [من] يدعو الى الضلال والفساد، ويصد عن الهدى والرشاد!
2 - مسألة: إن سأل سائل فقال: أتقولون إن المحكم من القرآن له مزية على المتشابه فيما يدل عليه أو لا مزية له؟
فإن قلتم: إنهما سواء فذلك خلاف الإجماع لأن الأمة تقول إن المحكم أصل للمتشابه وإن له من الحظ ما ليس للمتشابه، وكتاب الله عز وجل قد نطق
__________
(1) من الآية 11سورة الشورى.
(2) فى الأصل: اختار.(1/74)
بذلك فى قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ} (1).
وإن قلتم: إنه يدل على وجه لا يدل عليه المتشابه، نقضتم الأصل الذى قدمتم الآن. لأنكم ذكرتم أن جميع كلامه تعالى سواء فى أنه إنما يدل، بعد أن يعرف عز وجل أنه حكيم، وإذا كان الأمر كذلك فما الفائدة فى الفصل بين المحكم والمتشابه؟ وهلا دلّكم ذلك على فساد هذا الأصل!!
قيل له: إن الذى تقوله فى هذا الباب لا ينقض ما ذكرناه من الأصل، ولا يخرج عن الإجماع والكتاب، وذلك أن المحكم كالمتشابه من وجه، وهو يخالفه من وجه آخر:
فأما الوجه الذى يتفقان فيه فما قدمنا من أن الاستدلال بهما أجمع لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الفاعل وأنه لا يجوز أن يختار القبيح، لأن الوجه الذى له قلنا ذلك، لا يميز المحكم من المتشابه، كما أن خطابه صلّى الله عليه وسلم لما لم يمكن أن تعلم صحته إلا بالمعجز ولم يميز ذلك بين المحتمل من كلامه وبين المحكم منه، حلّا محلا واحدا فى هذا الباب.
وأما الوجه الذى يختلفان (2) فيه، فهو أن المحكم إذا كان فى موضوع اللغة أو لمضامّة القرينة، لا يحتمل إلا الوجه الواحد، فمتى سمعه من عرف طريقة الخطاب وعلم القرائن أمكنه أن يستدل فى الحال على ما يدل عليه. وليس
__________
(1) من الآية: 7سورة آل عمران. وتتمتها «وأخر متشابهات فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون متشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب».
(2) فى الأصل: مختلف، ولعن المراد لو صحت الوجه الذى يختلف فيه كل منهما عن الآخر.(1/75)
كذلك المتشابه، لأنه وإن كان من العلماء باللغة ويحمل القرائن (1)، فإنه يحتاج عند سماعه إلى فكر مبتدأ ونظر مجدّد ليحمله على الوجه الذى يطابق المحكم أو دليل العقل.
ويبين صحة ذلك أنه عز وجل بين فى المحكم أنه أصل للمتشابه، فلا بد أن يكون العلم بالمحكم أسبق ليصح جعله أصلا له، ولا يتم ذلك إلا على ما قلناه.
فأما إذا كان المحكم والمتشابه واردين فى التوحيد والعدل فلا (2) بد من بنائهما على أدلة العقول، لأنه لا يصح ممن لم يعلم أنه جل وعز واحد حكيم لا يختار فعل القبيح، أن يستدل على أنه جل وعز بهذه الصفة بكلامه.
فالمحكم فى هذا الوجه كالمتشابه، وإنما يختلفان فى طريقة أخرى، وهى أن المخالفين فى التوحيد والعدل يمكن أن نحاجهم بذكر المحكم ونبين مخالفتهم لما أقروا بصحته فى الجملة، ويبعد ذلك فى المتشابه، فلذلك نجد كتب مشايخنا رحمهم الله مشحونة «بذكر هذا (3) الباب ليبينوا أن القوم كما خرجوا عن طريقة العقول، فكذلك (4) عن الكتاب. فأما أن يمكن أن نبين للجاهل بالله تعالى وبحكمته أن الله عز وجل لا يختار فعل القبيح وأنه لا يشبه الأعراض والأجسام، والقرآن محكمه ومتشابهه، فذلك مما لا يصح على ما قدمنا.
ولهذه الجملة يجب ان يرتب المحكم والمتشابه جميعا على أدلة العقول، ويحكم بأن ما لا يحتمل إلا ما تقتضيه هذه الجملة يجب أن يثبت محكما وما احتمل هذا
__________
(1) أى ويعلم القرائن وهو السامع العالم باللغة وربما عاد الكلام إلى المتشابه.
(2) فى الأصل: ولا. وجاءت الواو محل الفاء وفى الكتاب فى مواضع كثيرة.
(3) والأصل: ان نذكر فى هنا.
(4) فى الأصل: وكذلك.(1/76)
الوجه وخلافه فهو المتشابه، فأقوى ما يعلم به الفرق بين المحكم والمتشابه ادلة العقول وإن كان ربما يقوى ذلك بما يتقدم المتشابه أو يتأخر عنه، لأنه هو الذى يبين أن المراد به ما يقتضيه المحكم، ومما يبين ذلك أن موضوع اللغة يقتضي أنه لا كلمة فى مواضعتها إلا وهى تحتمل غير (1) ما وضعت له، فلو لم يرجع إلى أمر لا يحتمل لم يصح التفرقة بين المحكم والمتشابه.
3 - مسألة: فان سأل فقال: إن كان المحكم فى اللغة العربية كالمتشابه.
وقد قلتم إن من حق هذه اللغة أن يصح فيها الاحتمال ويسوع فيها التأويل، فبماذا يعلم المحكم متميزا من المتشابه فى الوجه الذى بينتم أنه لا بد من أن يكون له مزية فيه؟
وبعد، فاذا كان الناس قد تنازعوا فى المحكم والمتشابه كما اختلفوا فى نفس المذهب لأن ما يعده المشبّه محكما عند الموحّد من المتشابه، وما يعده «الموحّد محكما (2) عند المشبّه بخلافه، وكذلك (3) القول فيمن يعتقد الجبر وفيمن يقول بالعدل، وهذه الطريقة معروفة من حالهم عند المناظرة والمباحثة فيحب أن لا يصح أن يميز أحدهما من الآخر إلا بأن يرجع فيه إلى محكم آخر، والقول فيه كالقول فيما يتنازعه، أو بأن يرجع فيه إلى أدلة العقول، وفى ذلك إسقاط التعلق بالمحكم وإثبات مزيته على المتشابه!
قيل له: إنا قد بينا أن الذى أوردته هو الذى يلجئ إلى الرجوع إلى أدلة العقول فيما يتصل الخلاف فيه بالعدل والتوحيد، وقد بينا صحة ذلك لأنا قد
__________
(1) فى الأصل عبر
(2) فى الأصل هو محكم.
(3) فى الأصل: فكذلك.(1/77)
دللنا على أن العلم بصحة خطابه عز وجل يفتقر إلى العلم بأنه لا يختار فعل القبيح، والعلم بأنه لا يفعل ذلك يتعلق بالعلم وصفاته الذاتية ومفارقتها لصفات الفعل، ولا بد من أن تقدم معرفة ذلك ليصح من بعد أن يعرف أن كلامه عز وجل صحيح، وأن الاحتجاج به ممكن.
فأما إذا كان الكلام مما يدل على الحلال والحرام فلا بد (1) من أن يكون للمحكم مزية على المتشابه من الوجه الذى قدمناه، وهو فى أن يدل ظاهره على المراد، أو يقتضى (2) ما يضامه أنه مما لا يحتمل إلا الوجه الواحد من حمل الأدلة، وليس كذلك المتشابه، لأن المراد به يشتبه على العالم باللغة ويحتاج (3) إلى قرينة محددة فى معرفة المراد به: إما بأن يحمل على المحكم، أو بأن يدل عليه كلام الرسول صلّى الله عليه وسلم، إلى ما يجرى مجراه. فالمزية له قد ظهرت فى هذا الباب.
وقد بينا فيما يتعلق بالتوحيد والعدل أن للمحكم فى باب الاحتجاج على المخالف مزية ليست للمتشابه لأنه يمكن أن تبين له أنه مخالف للقرآن، وأن ظاهر المحكم يدل على خلاف ما ذهب إليه، وأنه قد تمسك بالمتشابه من القرآن وعدل عن محكمه، كما تمسك بالشبه فى باب (4) العقليات وعدل عن الأدلة الصحيحة، وفى ذلك لطف وبعث على النظر لأن المخالف إن أورد ذلك عليه وهو من أهل الدين مس فى قلبه وأثر فيه، فحمله ذلك على النظر والتفكر.
فلا (5) يجب إذا قلنا فى المحكم والمتشابه ما قدمناه أن لا تثبت للمحكم المزية التى ذكرناها.
__________
(1) فى الأصل: ولا بد.
(2) فى الأصل: ويقتضي.
(3) من هنا تبدأ النسخة (ف).
(4) ساقطة من (ف)
(5) فى (د): ولا(1/78)
وبعد، فإن اللغة وإن وقعت محتملة فإنها تتفاوت ففيها ما بنى للاحتمال ووضع له، وفيها ما ظاهره يدل على أمر واحد وإن جاز صرفه إلى غيره بالدليل ثم يختلف ذلك ففيه (1) ما يكون صرفه لما يصرف إليه فى طريقة (2) اللغة مستبعدا، وفيه ما يكون سهلا معروفا، ولذلك قلنا إن المتكلم قد يكون مناقضا فى كلامه ومحيلا، ولو كان الأمر على ما قاله (3) السائل لم يصح إثبات مناقضته فى الكلام ولا إحالة فيه. فاذا صح ذلك وكان للمحكم فى ظاهره المزية على المتشابه بأحد الأمرين اللذين ذكرناهما، فيجب فساد القول بأنه لا مزية لأحدهما على الآخر على ما أصلناه.
4 - مسألة: فإن سأل فقال: إنكم بنيتم جميع ما تقدم: فى دلالة القرآن على ما يدل عليه وفى الفرق بين المحكم والمتشابه (4) على أن القرآن من فعله عز وجل فقلتم: إن من حق الفعل إذا لم تعلم صحته ولا وجه دلالته إلا بعد معرفة الفاعل أن لا يمكن أن يعرف به الفاعل وأنه حكيم، وهذا إنما يصح متى لم يقل المخالف فى القرآن إنه من صفات ذاته، وأنه تعالى صادق لنفسه، فما الذى يبطل هذا القول ليتم لكم ما قلتموه؟!
قيل له: إن من حق المذهب أن يبنى على الأصول الصحيحة وإن لم يوافق الخصم عليها، وقد ثبت أن الكلام فعل، لأنه محدث على وجه مخصوص، كما تثبت مثله فى الإحسان والإنعام، ولا وجه للاعتراض على ما قلناه بقول الخصم!
وبعد، فان أحدا ممن يعقل الخلاف لا يقول فى القرآن الذى يتلى ويسمع إنه
__________
(1) فى د: فيه
(2) فى د: طريق.
(3) د: ما قال
(4) فى النسختين: ومتشابهه(1/79)
من صفات ذاته تعالى، «وإن من (1) يثبت ما يخالف هذا الكلام (2) فيزعم أنه من صفات الذات، فقد وافق فى أن القرآن الذى صفته ما ذكرناه (3) من أفعاله عز وجل، فالذى أصّلناه فيه صحيح.
وبعد، فان الذى قالوه لو ثبت لأوجب صحة ما قلناه، لأن صفات الذات لا يصح أن تدل إلا بعد أن يعرف الموصوف، ويعلم كيف يستحق هذه الصفات
__________
(1) فى النسختين. وإنما.
(2) المراد بالمثبت القائل، كما يقال. فلان يثبت كذا وفلان يقول بكذا. وليس المراد من يقيم الدليل على ما ذهب إليه.
(3) أى الذى يتلى ويسمع. وفى قوله: «وإن من يثبت ما يخالف الخ إشارة إلى ما ذهب إليه عبد الله بن كلاب ومن تابعه ومنهم على ما يقال أبو الحسن الأشعرى الذى اشتهر نسبه هذا الرأى إليه فى التفريق بين نوعين من الكلام: أحدهما: نفسي وهو القائم بالذات. أو هو صفة ذاتية قديمة. والثانى هو المقروء المكتوب المؤلف من الحروف والكلمات أو: الذى يتلى ويسمع كما عبر عنه القاضي وهذا فعل وليس بصفة أزلية، قال ابن حجر:
«وقالت الكلابية: الكلام صفة واحدة قديمة العين، لازمة لذات الله كالحياة، وأنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وتكليمه لمن كلمه إنما هو خلق إدراك له يسمع به الكلام» ثم قال:
«وأخذ بقول ابن كلاب: القابسي والأشعرى وأتباعهما وقالوا: إذا كان الكلام قديما لعينه لازما لذات الرب، وثبت أنه ليس بمخلوق: فالحروف ليست قديمة لأنها متعاقبة. وما كان مسبوقا بغيره لم يكن قديما، والكلام القديم معنى قائم بالذات لا يتعدد ولا يتجزأ، بل هو معنى واحد».
انظر فتح البارى: 13/ 388
والمؤلف يلزم المخالف بهذا الاعتبار، بغض النظر عن رفض المعتزلة لهذا التقسيم ليصح له ما أصل فى الاستدلال من أن القرآن مخلوق، وأنه من فعله عز وجل.
انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار: 527فما بعدها. الفصل لابن حزم 3/ 4الملل والنحل للشهرستانى (بهامش الفصل): 1/ 123
وانظر فى تحقيق ما ذهب إليه الامام الأشعرى فى الموضوع: مقدمة فى نقد مدارس علم الكلام، التى صدر بها الأستاذ الدكتور محمود قاسم كتاب: مناهج الأدلة لابن رشد لطبعة الثانية. ص 66. وقارن ما قاله القاضي هنا فى وصف القرآن: (الذى يتلى ويسمع) وما رمي به الأشعرى المعتزلة من تدليس الكفر لقولهم بخلق القرآن، اعتمادا على أنهم يقولون فيه:
كلام ملفوظ به!!
أنظر الابانة، الطبعة المنيرية بالقاهرة، ص 30(1/80)
فلا (1) بد على هذا القول لو سلم من تقدم معرفة الله تعالى، وإبطال القول بأنه يوصل إلى معرفة الله عز وجل بالقرآن!
على أن الذى «يقوله من حصل (2) منهم أنه لا بد من أن يثبت القرآن صحيحا وأخباره صدقا، لكى (3) يصح أن يكون حكاية للكلام الذى هو من صفات الذات أو عبارة (4) عنه، ولا يصح الاستدلال به إلا على هذا الحد، فيجب أن يعلم أولا صحته على الحد الذى «قلنا ليمكن (5) الاستدلال به، وفى هذا تحقيق على ما قدمناه. فأما الكلام فى أنه صادق لنفسه فانه لا يؤثر فى هذا الباب، لأنا إنما قصدنا إلى بيان حال القرآن الذى هو عند الكل محدث من قبله عز وجل، وبينا أن الاستدلال به إنما يمكن بعد أن يعرف أن فاعله حكيم وأنه لا يختار فعل القبيح. فالذى ذكروه من أنه صادق لنفسه لو ثبت لم (6)
يؤثر فى هذا الباب، فكيف وقد بينا فساد ذلك بوجوه كثيرة؟! منها: أن الصدق قد يكون من جنس الكذب، فلا (7) يتميز أحدهما من الآخر بكونه صدقا أو كذبا، فلا (8) يجوز أن يختص الموصوف بأحدهما دون الآخر لذاته، كما لا يصح ذلك فى سائر الأفعال، ولا فرق والحال هذه بين من قال إنه صادق لنفسه فلا (9) يجوز أن يكذب. وبين من قلب ذلك على قائلة و [قال] كان يجب لو كان صادقا لنفسه أن يكون صادقا بالإخبار عن كل ما يجوز أن يخبر عنه، كما يجب لما كان عالما لنفسه أن يعلم كل ما يصح أن يعلمه. وتقصى ذلك يخرج عن الغرض. وما أوردناه فيه كاف.
__________
(1) د: ولا
(2) كذا بالأصل، ولعل الصواب: نقوله قد حصل.
(3) د: لكن
(4) د: وعبارة
(5) ف: قلناه ثم يمكن.
(6) د: لما
(7) د: ولا
(8) د: ولا
(9) د: ولا(1/81)
5 - مسألة: فان سأل فقال: إنكم بنيتم (1) الكلام فى المتشابه على أنه من الباب الذى يمكن أن يستدل به، كالمحكم، وإن كان يحتاج إلى قرينة محددة، وهذا إنما كان يتم لو صح أن المتشابه مما يمكن أن يعرف المراد به ولا يكون الغرض بإنزاله الإيمان به فقط. فبينوا فساد هذا القول، فان كثيرا من الناس يعتمده فيقول: إن المتشابه هو الذى لا يعلم تأويله الا الله، وهو الذى لا سبيل للمكلف الى العلم به وانما كلف الإيمان به. وانما يفارق المحكم بأن لا يمكن أن يعلم المراد به كالمحكم، ولا يصح كونه دلالة كما يصح ذلك فى المحكم. وعلى هذا الوجه قال قوم إن المتشابه هو نحو قوله عز وجل: {المص}، {كهيعص}
إلى ما يشا كله مما لم يوضع فى اللغة لشيء، فيكون دلالة على المراد بوجه من الوجوه، وقوله عز وجل: {(وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ)} (2) بعد تقدم ذكر المتشابه يدل أيضا على صحة هذا القول.
فأنتم بين أمرين: إما أن تقولوا بما قدمتم فيبطل بهذا الوجه، أو تقولوا فى المتشابه إنه لا يمكن أن يعلم المراد به فيؤدى إلى كونه عز وجل عابثا فى إنزاله له (3)
تعالى الله عن ذلك!
قيل له: لا يجوز عليه عز وجل أن يخاطب إلا لغرض يرجع الى المكلف لأنه يستحيل عليه المنافع والمضار فإنما يقصد بخطابه نفع المكلف، كما يقصد بسائر أفعاله
__________
(1) د: نفيتم
(2) من الآية: 7سورة آل عمران، وقد أثبتنا الآية بتمامها فى صفحة 6.
(3) ساقطة من: د(1/82)
مصالح العباد، وقد ثبت أن النفع لا يقع بالخطاب بجنسه ولا بسائر صفاته، وإنما يقع به لأمر يرجع إلى معناه، ولذلك يقبح من أحدنا إذا كان غرضه إفهام الغير ومخاطبته أن يخاطبه بالزنجية مع تمكنه من أن يخاطبه بالعربية، ولا سبيل له إلى معرفة الزنجية البتة. فإذا صح أنه عز وجل خاطب بلغة مخصوصة وغرضه نفع المكلف على ما بيناه، فلا (1) بد فى جميع كلامه من أن يكون دلالة يمكن أن يستدل به على المراد، ولو جوزنا والحال هذه فى بعض خطابه أن لا يكون عز وجل أراد به ما يصح من المكلف أن يعرفه، لجوزنا ذلك فى سائره. وذلك يوجب أن لا يوثق بشيء من خطابه، وأن يكون عابثا فى ذلك، وأن لا يكون بينه وبين أن يخاطبنا ونحن عرب بالزنجية فرق! وفساد ذلك يبطل هذا القول
فأما قول من يقول إن الواجب فى المتشابه الإيمان به فقط فذلك بعيد، لأنه يجب أن يعلم على أى وجه يصح أن يخاطب عز وجل به، ثم يؤمن المكلف به على ذلك الوجه. وإن كان المخالف يقول انه نؤمن (2) بأنه من كلامه تعالى وأنه لم يرد به شيئا، فهو الذى بينا فساده. وان قال: نؤمن أنه قد أراد به ما للمكلف فيه نفع ولا يمكنه أن يعرف ذلك، فهذا يوجب كونه عابثا، وكأنه أوجب على الخلق فى المتشابه أن يعتقدوا فيه أنه لا فائدة فيه، ويتعالى الله عن ذلك. وكتاب الله عز وجل ينطق بما قلناه، لأنه بهن أنه أنزله فيكون (3) شفاء وهدى ورحمة، وبين أن فيه البيان، والكفاية واقعة به، ولو كان لا يفهم به المراد لم يصح ذلك فيه.
__________
(1) د: ولا
(2) ساقطة من د.
(3) لعل قوله: «ليكون» أصح.(1/83)
وأما قوله عز وجل: {(وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ)} فقد تأوله العلماء على وجهين:
أحدهما: أنه عطف بقوله: {(وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)} عليه، فكأنه قال: وما يعلم تأويله الا الله والا الراسخون فى العلم، وبين أنهم مع العلم بذلك يقولون آمنا به فى أحوال علمهم به، ليكمل مدحهم، لأن العالم بالشيء اذا أظهر التصديق به فقد بالغ فيما يلزمه، ولو علم وجحد كان مذموما.
والثانى: أن قوله تعالى: {(وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ)} مستقل بنفسه، ثم ابتدأ بقوله: {(وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ)}. وحمل أصحاب هذا القول التأويل على أن المراد به المتأوّل، لأنه قد يعبر بأحدهما عن الآخر ألا تراه عز وجل قال: {(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [1]) والمراد به المتأوّل والمعلوم من حال المتأول الذى هو يوم القيامة والحساب ومقادير العقاب أنه عز وجل يختص بالعلم به وبوقته، لأن تفصيل ذلك لا يعلمه أحد من العباد.
فعلى هذا القول لا يجب أن يكون المتشابه مما لا يعلم المكلف تأويله.
ولو كان المراد به ما قاله المخالف، من أن المتشابه لا يعلم تأويله الا الله، وأن سائر المكلفين انما كلفوا الإيمان به، لم يكن لتخصيصه العلماء فى باب الإيمان به بالذكر معنى!! لأن غير العلماء لا يلزمهم الا ما يلزم العلماء، فلما قال:
{(وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ)} فخصهم بذلك، علم أن المراد به أنهم لما علموا المراد بالمتشابه صح منهم الإيمان به فخصهم (2) بالذكر دون غيرهم.
ولولا أن الأمر كما قلناه (3) لم يكن لجعله تعالى المحكم أصلا للمتشابه معنى ان لم يلزم الا (4) الايمان به!.
__________
(1) من الآية 53سورة الأعراف.
(2) ساقطة من د
(3) د: قلنا
(4) ساقطة من د(1/84)
ولولا صحة ذلك لم يكن لذمة من يتبع المتشابه ابتغاء الفتنة معنى، لأنه كان يجب فى كل من اتبع المتشابه أن يكون مذموما، لأنه انما يلزم الإيمان به فقط، فلما ذمهم على اتباعهم المتشابه لابتغاء الفتنة، علم أن من اتبع المتشابه للدين وعلى الوجه الصحيح، يكون محمودا.
فكل ذلك يبين أنه ليس فى كتاب الله عز وجل شيء الا وقد أراد عز وجل به ما يمكن المكلف أن يعرفه، وان اختلفت مراتب ذلك ففيه ما يستقل بنفسه ويمكن معرفة المراد بظاهره وفيه ما يحتاج الى قرينة على الجملة، وفيه ما يحتاج الى قرينة (1) مفصلة.
فأما قوله عز وجل فى فواتح السور، وذلك مثل: {المص} (2) و {الم} (3)
الى ما شاكله، فليس من المتشابه. وقد أراد عز وجل به ما اذا علمه المكلف كلن صلاحا له. وأحسن ما قيل فيه ما روى عن الحسن (4) وغيره من أنه عز وجل
__________
(1) د. مرتبة
(2) سورة الأعراف: 1.
(3) قوله تعالى: {(الم)} ورد فى مطلع ست سور هى: البقرة، آل عمران، العنكبوت الروم، لقمان، السجدة.
(4) الحسن بن يسار البصرى مولى الأنصار، وأمه خيرة مولاة أم سلمة، أحد كبار التابعين وإمام أهل البصرة فى زمانه، كان فصحا شجاعا ورعا، ولد بالمدينة لسنتين بقيتا من خلافة عمر وتوفى عام (110) للهجرة عن تسعة وثمانين عاما. تهذيب التهذيب لابن حجر: 2632 شرح عيون المسائل للحاكم الورقة 72مخطوط وقد رجحنا أن المراد «بالحسن» فى كلام المؤلف الحسن البصرى، لأن صاحب البحر المحيط نسب الرأى المذكور إلى (الحسن) بين جملة من آراء التابعين، ولأن الحسن البصرى عند القاضى أشهر من أن يعرف، وقد نسب اليه رسالة فى العدل والتوحيد أرسلها إلى عبد الملك بن مروان، ووضعه فى الطبقة الثالثة من رجال الاعتزال. أنظر: شرح عيون المسائل 1ورقة 72وقد استهل الشريف المرتضى الحديث عنه، بقوله: «وأحد من تظاهر من المتقدمين بالقول بالعدل، الحسن البصرى»
أمالى المرتضى 1521، الطبعة الأولى 1373.(1/85)
أراد أن يجعله اسما للسور (1)، وإثبات الكلمة اسما للسورة، والقصد بها إلى ذلك مما يحسن فى الحكمة، كما يحسن من سائر من عرف شيئا وفصل بينه وبين غيره أن يجعل له اسما ليميزه به من غيره. ولم نقل: إن جميع القرآن يدل على الأحكام التى ترجع إلى العباد، وكيف نقول ذلك (2) وفيه الخبر عمن مضى وعن أحوالهم، وفيه الوعد والوعيد، وكل ذلك لا يتضمن الحلال والحرام!. وإنما قلنا: إنه لا بد فى جميعه من أن يكون قد قصد به ما إذا وقف العبد عليه كان صلاحا له.
وقد قيل فى ذلك إنه عز وجل أراد بهذه الحروف المقطعة أن «يبين أن (3)
كتابه المنزل مركب من هذه الحروف، وأنه ليس بخارج عن هذا الجنس المعقول، وأنه مع ذلك قد اختص من الفصاحة بما عجز الخلق عنه. وذلك يبين قوة إعجازه، ويبطل قول من يظن أن كلامه عز وجل مخالف لكلامنا.
وقد قيل فيه غير ما ذكرناه، والغرض أن نبين أنه ليس فى القرآن ما يخرج عن أن يقع به فائدة، فلا (4) وجه لتقصى الأقاويل فى ذلك.
__________
(1) هذا الرأى فى فواتح السور لم ينسبه ابن قتيبة، وأسنده الطبرى فى تفسيره (1/ 87) إلى زيد بن أسلم، وإليه نسبه القرطبى وصاحب البحر المحيط، ونقل أبو حيان كذلك عن الحسن أنها أسماء السور وفواتحها، وقال الزمخشرى: «وعليه إطباق الأكثر أنها أسماء السور» أنظر فى هذا الموضوع: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ط 1بشرح وتحقيق السيد أحمد صقر 239230. الطبرى ط 2، 1373ص: 9686، الكشاف:
1/ 129الطبعة الأولى، القرطبى ط 1، 1351، 1/ 136133. البحر المحيط، ط 1، 1328مصر 1/ 3534. الاتقان للسيوطي ط 3التجارية 1360، 2/ 1913
(2) بعده فى: د، زيادة: وفيه يقول ذلك.
(3) ساقطة من: د
(4) د ولا
(م 2متشابه القرآن)(1/86)
فإن قال: فإذا كان المتشابه بانفراده لا يعرف المراد منه فيجب أن يكون عبثا!!
قيل له: إنه إذا أمكن أن يعرف المراد به وبغيره معا فقد اختص بوجه فى (1)
الحكمة، لأنه لا يمتنع أن يكون الصلاح فى بعض الأدلة أن يستقل بنفسه فيعرف المراد به بانفراده، وفى بعضها أن لا يعرف المراد به إلا مع غيره، ألا ترى أن العادة قد جرت أنا نعلم المدركات الواضحة بالإدراك، ولا نعلم بالأخبار ما تتناوله إلا إذا تكررت، وكذلك المدركات إذا غمضت. فإذا جاز اختلاف المصالح فيما يفعله تعالى من هذه العلوم، ففيها ما يفعله تعالى ابتداء. وفيها ما يفعله عند سبب واحد، وفيها ما يفعله عند سبب واحد، وفيها ما يفعله عند أسباب بحسب ما يعلم من الصلاح فكذلك ما يكلفناه عز وجل من العلوم لا يمتنع أن تختلف المصلحة فيه، على ما بيناه فى المحكم والمتشابه. على أنا قد بينا أن المحكم أيضا يحتاج إلى مقدمات ليصح أن يعرف به المراد، فإن (2) كان ما قاله السائل يقدح فى المتشابه فيجب أن يقدح فى إثبات المحكم، وفساد ذلك (3) ظاهر.
6 - مسألة: فإن (4) سأل فقال: قد بينتم أن المتشابه يمكن أن يعلم به المراد (5) على بعض الوجوه، كالمحكم، وإن كان للمحكم المزية فى هذا الباب، فبينوا المتشابه بحد يفصل بينه وبين المحكم، وقد خالفكم فيه كثير من العلماء، ففيهم من قال: إن المتشابه هو المنسوخ، والمحكم هو الناسخ. وفيهم من قال: إن المحكم هو الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه هو القصص والأمثال
__________
(1) د: من.
(2) د: فاذا.
(3) د: وفساده.
(4) د: وإن.
(5) د: المراد به.(1/87)
وفيهم من قال: إن المحكم هو ما بين لنا مقاديره وشروطه من الأحكام، والمتشابه هو ما لم يبين لنا حاله من الصغائر والكبائر. إلى غير ذلك من الخلاف
قيل له: إن المحكم إنما وصف بذلك لأن محكما أحكمه، كما أن المكرم إنما وصف بذلك لأن مكرما أكرمه، وهذا بيّن فى اللغة. وقد علمنا أنه تعالى لا يوصف بأنه أحكم هذه الآيات المحكمات من حيث تكلم بها فقط، لأن المتشابه كالمحكم فى ذلك، وفى سائر ما يرجع إلى جنسه وصفته، فيجب أن يكون المراد بذلك أنه أحكم المراد به بأن جعله على صفة مخصوصة لكونه عليها تأثير فى المراد وقد علمنا أن الصفة التى تؤثر فى المراد هى أن توقعه على وجه لا يحتمل إلا ذلك المراد فى أصل اللغة، أو بالتعارف، أو بشواهد العقل.
فيجب فيما اختص بهذه الصفة أن يكون محكما، وذلك نحو قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ اللََّهُ الصَّمَدُ} (1) ونحو قوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَظْلِمُ النََّاسَ شَيْئاً} (2) إلى ما شاكله.
فأما المتشابه فهو الذى جعله عز وجل على صفة تشتبه على السامع لكونه عليها المراد به من حيث خرج ظاهره عن أن يدل على المراد به، لشيء يرجع إلى اللغة أو التعارف، وهذا نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللََّهَ} (3) إلى ما شاكله، لأن ظاهره يقتضى ما علمناه مجالا، فالمراد به مشتبه ويحتاج فى معرفته الى الرجوع إلى غيره من المحكمات.
__________
(1) الآيتان: 21سورة الإخلاص.
(2) من الآية 44فى سورة يونس، وفى: د (والله) سبق قلم.
(3) {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللََّهُ فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ} الأحزاب: 57(1/88)
وهذا هو حقيقة المحكم والمتشابه، واللغة شاهدة بصحة ما ذكرناه فيهما، فأما أن يجعل الناسخ محكما والمنسوخ متشابها فبعيد، لأن اللغة لا تقتضى ذلك، وقد يكون المنسوخ مما يدل ظاهره على المراد فيكون محكما فيما أريد به وان نسخ وقد يكون الناسخ غير مستقل بنفسه فيكون متشابها وإن كان المراد به ثابتا (1)
وكذلك (2) القول فى القصص إنه إذا كان المراد به جليا وجب أن يكون محكما، فالذى قال من خالفنا فى هذا الباب يبعد قوله عن الصواب، وصح أن المحكم والمتشابه هما ما ذكرناه، وقوله (3) عز وجل فى المحكمات: {هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ}
يدل على ذلك، لأنه جعل لها هذه المزية على المتشابه (4)، وذلك لا يصح إلا على الوجه الذى قلناه (5) دون ما حكيناه.
7 - مسألة: فإن سأل (6) فقال: كيف يصح ما ذكرتموه وقد وصف عز وجل جميع القرآن بأنه محكم، بقوله تعالى: {الر، كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ} (7) ووصف جميعه بأنه متشابه بقوله: {اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتََاباً مُتَشََابِهاً} (8)، وهذا يمنع ما ذكرتموه من انقسام القرآن إلى القسمين اللذين ذكرتموهما!
قيل له: إن الذى ذكرناه من أن فيه محكما ومتشابها قد ورد الكتاب بصحته فى قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ، وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ} ويجب أن يفصل بينهما بما ذكرنا. فأما
__________
(1) د: باتا.
(2) د: وكذا.
(3) د: فقوله.
(4) د: التشابه.
(5) د: قلنا.
(6) د: سأل سائل.
(7) من الآية 1فى سورة هود.
(8) من الآية 23من سورة الزمر.(1/89)
وصف جميعه بأنه محكم فليس المراد به ما قدمناه، وإنما (1) أريد به أنه تعالى أحكمه فى باب الإعجاز والدلالة على وجه لا يلحقه خلل، ووصف جميعه بأنه متشابه، المراد به أنه سوّى بين الكل فى أنه أنزل على وجه المصلحة ودل به على النبوة لأن الأشياء المتساوية فى الصفات المقصود إليها يقال فيها متشابهة.
فإذا صح ذلك لم يطعن ما ذكره السائل فيما قدمنا ذكره من حقيقة المحكم والمتشابه.
8 - مسألة: وإن سأل فقال: ما وجه المصلحة فى أن جعل تعالى بعض القرآن محكما وبعضه متشابها، وما أنكرتم أن الصلاح فى أن يجعله كله محكما، وأن فى المتشابه فسادا لأنه يؤدى إلى الجبر فى الدين، ولو كان عز وجل قد بين المراد بالجميع على حد (2) واحد ولم يجعل فى ظاهره (3) ما يشبه التناقض لكان أقرب إلى البصيرة وزوال الشكوك، وإلى أن لا يدل ظاهره إلا على الحق.
وهذا ينقض ما ذكرتموه من أنه عز وجل يخاطب العباد لنفعهم وصلاحهم، لأن المتعالم ممن يقصد بخطابه إفهام المخاطب أن يقبح منه ألا يجلّى مراده إذا أمكنه ذلك، ومتى لبّس مراده وأوقع خطابه محتملا كان ذلك ناقضا لما قصده، فكيف (4) يصح أن يكون عز وجل قد أراد إفهام المكلف بما أنزله من القرآن، وأن يجعله بيانا وشفاء وهدى ورحمة، وجعله مع ذلك مشتبها ملتبسا وهو قادر على أن يجعله واضحا جليا لا يشتبه على أحد من السامعين!؟
وبعد، فلو حسن من المخاطب أن يخاطب تارة بالمحكم وتارة بالمتشابه،
__________
(1) ف: فانما.
(2) د: كل.
(3) د: ظواهره.
(4) د: وكيف.(1/90)
لوجب أن يكون الخطاب بالمحكم أولى وأقرب إلى البيان، ولا يفعل عز وجل فى خطابه إلا الأولى فى الحكمة والمصلحة، فيجب من هذا الوجه ألا يحسن أن ينزّل بعضه متشابها.
وكيف يصح ذلك وقد نفى عز وجل عن كتابه الاختلاف بقوله:
{وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} (1)؟ ومتى أثبت فيه المحكم والمتشابه أدى إلى الاختلاف والتناقض، وكل ذلك يوجب القدح فى القرآن وإبطال ما ذكرتموه فى المحكم والمتشابه!
قيل له: إن هذا السائل لا يخلو من أن يكون قد سلّم أنه عز وجل حكيم لا يفعل القبيح أو لم يسلم ذلك وينازع فيه.
فإن كان مخالفا فيه لم نكلمه فى هذا الفرع، لأنا قد بينا فيما تقدم أن جميع القرآن إنما يمكن أن يستدل به ويعلم صحته، ووجه دلالته متى علم من حال فاعله أنه حكيم لا يكذب فى أخباره، ولا يفعل الخطاب على وجه يقبح عليه (2).
ومحال أن يكلم من يجحد ذلك فى فرع من فروعه.
فأما إن سلّم ذلك فإن مكالمته فى هذا الباب تصح، وإن كان تسليمه مع القول بأن القرآن من فعله يقتضى إبطال مسألته، لأنه قد سلّم فى الجملة أنه جل وعز حكيم لا يفعل إلا الحكمة والصواب، واشتباه وجه الحكمة علينا لا يؤثر فى هذا الوجه الذى قد ذكرناه. وهذا بمنزلة أن يعلمنّ الرسول صلّى الله عليه وسلم لا يكذب فى أخباره، فمتى أخبر بشيء ولم يعلم كيفيته فيجب أن يسلم به (3)
__________
(1) من الآية 82من سورة النساء
(2) راجع المسألة الأولى السابقة
(3) د: له.(1/91)
أنه صدق وإن لم يعلم حال المخبر عنه، فكذلك القول فيما قدمناه.
وأكثر ما يجب فى إبطال هذه المسألة أن نبين أن المصلحة قد تتعلق بالمتشابه فقط، ومتى بين ذلك بطل ما أوردوه (1):
واعلم أن الغرض بكتاب الله جل وعز التوصل به إلى العلم بما كلفناه وبما (2) يتصل بذلك من الثواب والعقاب، والقصص وغيره. والعلوم قد يجوز أن يكون الصلاح فيها أن تكون ضرورية وأن تكون مكتسبة. ومتى كانت ضرورية فقد يكون الصلاح أن يتوصل إليها بمعاناة، وقد يكون الصلاح فى خلافه. وكذلك المكتسب قد يكون الصلاح فى (3) أن ينجلى طريقه، وقد تكون المصلحة فى أن يغمض ذلك. وصارت العلوم فى هذا الوجه بمنزلة سائر الأفعال التى يفعلها تعالى والتى يكلّفناها.
فإذا ثبت ذلك، فكما ليس لأحد من أصحاب المعارف (4) أن يقول:
ما الفائدة فى أن نكلّف اكتساب المعرفة بالله عز وجل وبتوحيده وعدله، وهلا جعل ذلك أجمع فى العلوم الضرورية ليكون أجلى ولتزول عنه الشبه والشكوك، فكذلك لا يجوز لهذا السائل مثله فى طرق الأدلة فيقول: هلا جعلها عز وجل متفقة فى الوضوح!. وبمثل ذلك أبطلنا قول من قال بنفى القياس والاجتهاد إذا عوّل على أن النصوص تزول عنها الريب فيجب أن تكون الأحكام مستدركة بها، فقلنا: إن المصلحة قد تختلف فى طرق الأحكام
__________
(1) د: ما أورده.
(2) ف: أو.
(3) ساقطة من: د.
(4) أصحاب المعارف: هم الذين يقولون إن المعارف كلها ضرورية، وقد أشرنا بشيء من التفصيل إلى مذهبهم فى بعض تعليقاتنا القادمة «أنظر المسألتين: 72، 125» وخلاصته قولهم: «إن المعارف كلها ضرورة طباع، وليس شيء من ذلك من أفعال العباد. وليس بالعباد شيء سوى الارادة»
أنظر الملل والنحل للشهرستانى بهامش الفصل لابن حزم 1/ 94.
وانظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 55فما بعدها.(1/92)
كما تختلف فى نفس الأحكام، فكما لا يجوز أن يقال فيها: إنه يجب أن يجرى على وجه واحد، فكذلك القول فى طريقها وأدلتها. ولا فرق بين من قال ذلك وبين من قال إن الرسول صلوات الله عليه إذا جاز أن يبين الشرع بأن يضطر إلى مراده، فيجب فى كل شرع أن يبينه على هذا الحد، وكما (1) لا يجب ذلك، بل يجب التسليم للعالم بالمصالح، ففيه ما يقع البيان فيه على هذا الوجه، وفيه ما يعلم باكتساب «ثم يختلف (2) وينقسم، فكذلك (3) القول فى كتابه عز وجل. ولا فرق بين من سلك هذه الطريقة وبين من قال فى العلوم المكتسبة من جهة العقل: إذا كان بعضها يعلم بأن يرد إلى أصل ضرورى فيجب فى جميعها ذلك!. فكما لا يجب هذا لاختلاف أحوال طرق العلوم واختلاف المصلحة فيهما، فكذلك (4) القول فى السمعيات. وكما ليس لأحد فى نفس المحكم (5)
أن يقول: هلّا جرى على طريقة واحدة فى الوضوح، لأنه قد يختلف فى هذا الوجه وإن اتفق الكل فى أنه قد أحكم المراد به، فكذلك ليس له أن يلزم فى البيان السمعى أن يجعل بابا واحدا فلا يكون إلا محكما، ولا فى (6) نسخه فلا يجعله إلا بابا واحدا.
ونحن نبين الآن أن (7) المتشابه قد يكون له مزية على المحكم فى المصلحة، والذى قدمناه من الأصل قد بين إبطال قدح الملحدة وغيرهم بما أوردناه فى القرآن:
اعلم أنه قد ثبت أن كل شيء كان أدعى للمكلف إلى فعل ما كلفه وأقرب، وأشد صرفا له عما يقبح، ففعله فى الحكمة واجب، وربما كان أولى من غيره
__________
(1) د: كما.
(2) ساقط من: د.
(3) د: وكذلك.
(4) ف ود: وكذلك.
(5) ف: الحكم.
(6) د: وفى.
(7) ساقطة من: د.(1/93)
وعلى هذا الوجه بنينا الكلام فى اللطف بأن قلنا: إنه عز وجل يفعل بالمكلف كل (1) كل ما يكون أدعى له إلى فعل ما كلف، وهو الذى أراده عز وجل بقوله {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى ََ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنََا عَلَيْهِمْ بَرَكََاتٍ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ} (2).
فاذا صح ذلك (3) وثبت أن الواجب على المكلف أن يعرف الله تعالى بالنظر فى الأدلة ويحرم عليه الرجوع إلى التقليد فى ذلك، فكل أمر يبعث على النظر ويصرف عن التقليد فهو أولى فى الحكمة مما الأقرب فيه أنه يدعو إلى التقليد «وإنزاله عز وجل القرآن محكما ومتشابها هو أقرب إلى ذلك من وجوه، فيجب أن يكون حسنا فى الحكمة، وأن يكون أولى من أن يجعله كله محكما (4).
فمنها: أن السامع للقرآن والقارئ له إذا رأى المحكم والمتشابه كالمتناقض فى الظاهر لم يكن بأن يتبع أحدهما أولى من الآخر فيما يرجع إلى اللغة، فيلجئه ذلك، إذا كان ممن يطلب الدين والبصيرة، إلى (5) الرجوع إلى أدلة العقول لينكشف له بها الحق من الباطل، فيعلم عند ذلك أن الحق فى المحكم، وأن المتشابه يجب حمله على موافقته.
ومنها: أنه عند نظره فيهما جميعا، والتباس الأمر عليه يحوج إلى مذاكرة العلماء ومباحثتهم ومساءلتهم ما يحتاج إليه فى أمر دينه إذا كان ممن يطلب الفوز والنجاة، ومتى رجع إليهم وحصلت المباحثة كان ذلك أقرب إلى أن يقف على ما كلف من معرفة الله تعالى، وكل أمر أدى إلى ما يؤدى إلى معرفة الله فهو أولى.
__________
(1) فى د: كلما.
(2) من الآية 96في سورة الأعراف، وفى د: أهل الكتاب.
(3) ساقطة من د.
(4) فى د: وإنزاله جل وعز أولى من أن يجعله كله محكما.
(5) ساقطة من د.(1/94)
ومنها: أن كون القرآن كذلك يصرفه أن يعوّل على تقليده، لأنه يرى أنه ليس بأن يقلد كلامه عز وجل فى نفى التشبيه لقوله عز وجل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1) أولى من أن يقلده فى خلافه، لقوله عز وجل: {وَجََاءَ رَبُّكَ} (2)
فكما أن اختلاف العلماء فى الديانات، وقول بعضهم فى المذهب بخلاف قول صاحبه يصرف المميز عن تقليدهم، لأنه يعلم أنه ليس تقليد بعضهم بأولى من تقليد سائرهم، فكذلك انقسام القرآن إلى الوجهين اللذين ذكرناهما يصرف عن ذلك لا محالة، وما (3) صرف عن التقليد المحرّم وبعث على النظر والاستدلال فهو فى الحكمة أولى (4).
فان قيل: إن كان الأمر كما ذكرتم فيجب فى الواحد منا إذا قصد (5)
بتأليفه وخطابه الإفهام والبيان أن يكون كلامه كلما كان أشد اختلافا، وأقرب (6) إلى الالتباس والتناقض فى الظاهر، أولى فى الحكمة. فإذا قبح ذلك فى الشاهد وجب مثله فى خطابه عز وجل، لأنكم قد بينتم أن غرضه عز وجل به البيان والتعريف!.
قيل له: إنه تعالى يعلم مصالح العباد، فيفعل الخطاب وغيره على ما تقتضيه
__________
(1) من الآية 11من سورة الشورى.
(2) من الآية 22من سورة الفجر.
(3) فى د: ومن
(4) انظر فى حكم جعله تعالى بعض القرآن متشابها: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 62 شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار 600599، المغنى فى أبواب التوحيد والعدل، للقاضي، الجزء السادس عشر (إعجاز القرآن) ص 377372. التهذيب فى التفسير، للحاكم أبى السعد الجشمي، المجلد الرابع، مصور دار الكتب المصرية. مقدمتان فى علوم القرآن، نشرهما آرثر جفرى سنة 1954، ص 182177، طبع الخانجي بمصر. مقدمة التفسير للراغب الأصفهانى، المطبوعة مع كتاب: تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي رحمه الله، 422421. الكشاف للزمخشرى: 1/ 113. تأسيس التقديس للامام فخر الدين الرازى. مطبعة كردستان بمصر 1328ص: 234231.
(5) د: فصل.
(6) د: فاذا قرب.(1/95)
الحكمة والمصلحة، وقد دل بالعقل على أنه تعالى لا يريد بذلك أجمع إلا الوجه الصحيح، فصارت الأدلة المبينة لذلك فى الحكم كأنها مقارنة لكل خطاب صدر عنه ولكل فعل فعله، فحسن (1) منه فى الحكمة أن يجرى خطابه على ما ذكرناه، وليس كذلك حال الواحد منا لأن الأدلة لم تؤمّن الخطأ فى (2)
فعله، ولا هو عارف بالمصالح. وإذا كان غرضه الإفهام ثم فعل ما ينقض ذلك وجب فساده، ولذلك «جوزنا على (3) الرسول صلّى الله عليه وسلم لما كان المعجز أمّن فيه الخطأ أن يخاطب مرة بالمحكم والمفسر أخرى بالمجمل المشتبه (4)
بحسب المصالح. وقد يظن الواحد منا إذا كان عالما بطريق المتعلمين أن بعضهم إذا وكل إلى نفسه ولم يبالغ له (5) فى التفسير يكون أقرب إلى كثرة الفكر فيما يتعلمه، فيحسن ذلك منه، وإن لم يحسن فى غيره إلا المبالغة فى البيان. وغلبة الظن تقوم مقام العلم فيما له (6) تحسن وتقبح الأمور التى تتعلق بمنافع الغير ودفع المضار عنه. فإذا حسن ما ذكرناه فى الشاهد لم يمتنع مثله فى أفعاله «تعالى إذ» (7)
كان عالما بالمصالح والعواقب.
ولهذه الجملة، صح فيما (8) ذكره عز وجل فى القرآن من وجوه الأدلة أن يقتصر فيها على الجملة والتنبيه، دون الاستقصاء فى شروطه، لأن ذلك مما يعلم بظاهره المراد، وإنما أنزله عز وجل ليبعث على النظر والفكر، فالاقتصار فيه على الجملة ربما يكون أدعى إلى كثرة الفكر من المبالغة فى تفسيره. وعلى هذا الحد حصل فى كتاب (9) الله عز وجل التكرار والتأكيد والإطالة والإيجاز
__________
(1) د: حسن:
(2) د: من.
(3) د: جوزوا فى.
(4) د: المتشابه.
(5) ساقطة من ف.
(6) ساقطة من د.
(7) فى النسختين: «مع العلم إذا».
(8) ف: ما.
(9) د: كل.(1/96)
فيما يتصل بالعقليات، وفى الأحكام السمعية، لأنه جل وعز خاطب به على حسب ما علم من الصلاح فيه.
وقد قيل فى وجه الحكمة فى ذلك: إنه (1) تعالى علم أن ذلك أدعى إلى نظر جميع المختلفين فى القرآن بأن يظن كل واحد منهم أن يجد فيه ما ينصر به (2)
قوله ومذهبه، ولذلك قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مََا تَشََابَهَ مِنْهُ} فنبه بذلك على أنهم ينظرون فيه لهذا (3) القصد، فقصدهم وإن قبح فإن نظرهم فيه يحسن، ومن هو من أهل الدين ينظر فيه لا على هذا الحد (4).
فإذا صح أن ذلك أدعى إلى نظر الجميع فيه، والتدبر والتفكر فى آياته ومعانيه وعجائب ما أودع تعالى فيه من الأدلة والبيان، فيجب أن يكون أولى فى الحكمة من أن يجعله كله (5) محكما فيعلم المحق والمبطل أنه إنما يدل ظاهره على طريقة واحدة.
وليس لأحد أن يقول إن ذلك إذا كان أدعى إلى النظر فيه ابتغاء الفتنة فيجب أن يقبح! وذلك لأن النظر فى الأدلة وما يجرى مجراها يحسن على كل حال، وإنما يقبح من الناظر أن يقصد بنظره الفتنة، والقصد من قبله، فإذا كان كذلك لم يؤدّ جعله عز وجل القرآن محكما ومتشابها إلى ما ظنه من الفساد.
ومما يقوى ذلك، أن المتشابه يحتاج إلى نظر زائد، فيه تعريض لثواب زائد، فكما لا يجوز فى سائر ما شق فى التكليف أن يقال إن فيه فسادا، بل
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ساقطة من د.
(3) د: هذا.
(4) ساقطة من د.
(5) ساقطة من د.(1/97)
يجب أن يقال إنه حسن فى الحكمة و [فيه] تعريض لمزيد منفعة، فكذلك القول فى المتشابه، ولم نقل ذلك لأنه يحسن منه تعالى أن يكلفه للثواب فقط، بل لا بد فيما كلّفه من أن يختص بوجه له يستحق الثواب فيه، فإذا حصل فى المتشابه ذلك الوجه صح أن يعرّض به تعالى لزيادة الثواب، وحسن فى الحكمة من هذا الوجه، كما يحسن التكليف السمعى بعد التكليف العقلى.
ومما يبين ذلك أنه لو كان أجمع محكما لكان الأكثر يتكلون على التقليد، لأنهم الآن ربما اتكلوا على تقليده وفيه متشابه، فكيف به لو كان جميعه محكما؟ ومتى انقسم إلى الأمرين كان أقرب إلى أن يطلبوا الترجيح فى أحدهما بالنظر والتفكر. وأنت ترى من يطلب التفقه، إذا اختلفت الأقاويل والروايات يكون أطلب لوجوه الترجيح وأكثر تفكرا فيها منه إذا لم يجد فى الروايات اختلافا. فإذا كانت هذه العادة معقولة لم يمتنع أن يعلم تعالى أنه إذا أنزله محكما ومتشابها يكون ذلك أدعى لهم إلى كثرة الفكر، ليميزوا ما يجب أن يعتقد ظاهره مما يجب أن يرجع فيه إلى الدليل، فيجب أن يكون ذلك فى الحكمة أولى.
وقد بينا أن القديم عز وجل قد ثبت أنه لا يختار فعل القبيح لكونه عالما به، وبأنه (1) غنى عنه، فيجب إذا وجدنا فى أفعاله ما يشتبه ظاهره أن نحمله على الوجه الذى يحسن وقوعه عليه، كما قلنا فى الآلام التى يفعلها الله تعالى بالمكلف وغيره، فقلنا: إذا لم يجز كونها قبيحة، لهذه الدلالة، فلا بد من إثباتها حسنة، فإذا لم يصح أن يحسن الاستحقاق لأنه لا ذنب مقدّم للطفل المؤلم، ولم يجز أن يكون
__________
(1) د: لأنه.(1/98)
لدفع الضرر لأنه تعالى قادر على دفعه من دون الألم، فيجب أن يكون للنفع والاعتبار. وكذلك إذا خاطب بالمحكم والمتشابه والتبس ظاهره، فالواجب أن نصرف الأمر فيه إلى وجه تقتضيه الحكمة، وقد بينا الوجوه التى يمكن صرف ذلك إليها.
وهذه جملة كافية فى هذا الباب.
9 - مسألة: وإن سأل فقال: قد دللتم على إثبات المحكم والمتشابه، وعلى مفارقة أحدهما للآخر، وعلى حسنهما فى الحكمة، فبينوا الوجه الذى به يعرف مراد الله تعالى بخطابه المحكم (1) والمتشابه، وما يحتاج المتشابه إليه من الزيادة فى ذلك ليعرف، ويعلم أن من عرفه أمكنه الاستدلال بالقرآن، ومن جهله تعذر ذلك عليه.
قيل له: إن المكلف إذا عرف الله تعالى بما يختصّ به فى ذاته، بأن علمه موجودا، قديما، قادرا، عالما بصحة الأفعال المحكمة منه (2) التى تتعذر على سائر القادرين. وعلم أنه حىّ مدرك سميع بصير، من حيث علم أن القادر لا يكون إلا حيّا، والحى الذى تستحيل عليه الآفات لا بد من كونه سميعا بصيرا مدركا.
وعلم أنه ليس بجسم، لأن من حق الجسم أن يكون مؤلفا متحيزا لا يخلو من الحوادث، وما هذه حاله يجب كونه محدثا، وقد ثبت أنه تعالى قديم. وعلم أنه غنى، لأن المحتاج لا بد من جواز الشهوة عليه، ومن هذه حاله يجوز عليه الزيادة والنقصان، ويتعالى الله عن ذلك. وعلم أنه يعلم جميع المعلومات، من حيث هو عالم لذاته. فلا (3) يختص بمعلوم دون معلوم، وإنما يختص أحدنا بذلك
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ساقطة من د.
(3) د: ولا.(1/99)
لأنه يعلم بعلوم، ومن حقها أن تتعلق بمعلومات مخصوصة لأن كل علم فإنما يتعلق بمعلوم واحد.
فإذا علم ذلك، وعلم بالاختبار فى الشاهد أن المستغنى عن القبيح، العالم بقبحه لا يختاره، وأنه إنما يختار ذلك إما لجهل بحال القبيح، أو بحاله [هو] فى استغنائه عنه، فيقدّر فى القبيح أنه حسن، أو يقدر أنه محتاج إليه، أو لأنه يعلم أنه يحتاج إليه فى الحقيقة. فأما إذا زالت هذه الوجوه أجمع، فإنه لا يختار القبيح، كما لا يختار أحدنا والحال هذه التشويه بنفسه والإضرار بها.
فإذا صح بالاختبار عنده ما ذكرناه، وعلم أنه تعالى عالم بكل قبيح، وبأنه مستغن عنه، لم يجز أن يختاره.
فإذا صح عند العارف بالله عز وجل أنه لا يفعل القبيح، وعلم بالاختبار أن الخبر يقبح إذا كان كذبا، والأمر يقبح إذا كان أمرا بقبيح، وجب أن ينفى عن أخبار القرآن الكذب، وعن أوامره أن تتعلق بالقبيح.
ومتى علم أن الألغاز والتعمية إنما يحسن من أحدنا أن يستعملها لحاجة إلى اجتلاب منفعة أو دفع مضرة، ولا يحسن استعمالها متى كان الغرض البيان والإفادة فقط. وثبت أنه تعالى لا يجوز عليه المنافع والمضار، وأنه يخاطب المكلف لمصالحه ويقصد بالخطاب البيان والتعريف. فلو جوزنا والحال هذه فى بعض خطابه التعمية لجوزنا فى سائره، وفى ذلك إخراج القرآن أجمع من أن يكون حجة وبيانا، فيجب إذا علمنا أنه تعالى لا يفعل القبيح، ولا يكذب فى أخباره، ولا يعمّى أن يعلم أن القرآن حجة لأن الذى يخرجه من أن يكون حجة بعض ما قدمنا ذكره. فإذا أمنّاه علم بأن الخبر صدق، وأن الأمر حق، فيصح الاستدلال به على ما دل به عليه.(1/100)
ولهذه الجملة قلنا: إن المجبّرة لما أضافت القبائح إلى الله لم يمكنها معرفة صحة القرآن ولا أنه دلالة، لأنه يلزمها (1) أن تجوّز أن يكون كذبا وأمرا بباطل.
وكذلك قلنا: إن من يقول من المرجئة بالوقف على وجه مخصوص، لا يمكنه أن يعرف بالقرآن شيئا، لأنه يلزمه تجويز التعمية فى سائر كلامه عز وجل، وأن يسوى بين الخاص والعام فيه (2).
فحصل من هذه الجملة أنه يجب أن يعرف المكلف أنه تعالى لا يفعل القبيح، وأن الخبر يقبح إذا كان كذبا، فإذا لا يجوز عليه الكذب والأمر بالقبيح، ويعلم أنه لا يجوز أن يعمى مراده فإذا يجب أن يكون مراده بالخطاب ما يقتضيه ظاهره أو القرينة الدالة على المراد به من عقل أو سمع.
فبهذا الوجه يمكن أن يعلم أن القرآن حجة، لكن المتشابه يحتاج إلى زيادة فكر من حيث كان المراد به غير ما يقتضيه ظاهره، فلا (3) بد أن يكون السامع يعرف الوجه الذى يجوز أن يحمل عليه فى اللغة، ويتأمل الدلالة التى لها يجب أن يحمل على ما يحمل عليه. ولا يحتاج المحكم عند ما يطرق السمع إلا إلى ما قدمناه فقط. فبهذا يفترقان وإن كان لا بد فى الاحتجاج بهما إلى الجملة التى قدمناها.
__________
(1) فى د: يلزمنا.
(2) لعل المؤلف رحمه الله يعنى إنكار المرجئة أن يكون للعموم لفظة موضوعة له، فلم يجوزوا فى عمومات الوعيد أن تحمل على الشمول والاستغراق، ولكن لا ينبنى على ذلك التسوية بين العام والخاص، وعدم معرفة شيء بالقرآن لجواز التعمية فى سائره لأن من يذهب إلى «التوقف» فيما وضعت له ألفاظ العموم وهو مذهب عامة الأشاعرة يقول فى هذه الألفاظ:
إنها من قبيل المجمل، وحكمه التوقف حتى يأتى البيان لأن من المحتمل أن يكون المراد بعض ما تناوله ذلك اللفظ. انظر شرح الأصول الخمسة: 606604، أصول السرخسى، طبع دار الكتاب العربى بمصر 1372، ج 1ص 132. تفسير النصوص فى الفقه الاسلامى للشيخ محمد أديب صالح، الطبعة الأولى، دمشق 1384، ص: 585.
(3) د: ولا.(1/101)
فأما خطاب الرسول صلّى الله عليه وسلم، فكخطابه عز وجل فى أنه يجب أن ينفى عنه ما قدمناه من الكذب والتعمية، أو أن يكون واقعا على وجه منفّر، لأن المعجز قد صيّر خطابه بمنزلة خطابه عز وجل، فما يجب أن ينفى عن خطابه تعالى يجب كونه منفيا عنه، من حيث ثبت أن الحكيم لا يرسل الرسول وغرضه بإرساله (1) البيان والتعريف ويعلم أنه يكذب عليه أو يعمّى أو يحرّف أو يكتم (2) أو ينفر. ومتى علم من حاله انتفاء جميع هذه الوجوه عنه صح الاحتجاج بسنته.
والعلم بأن قوله صلّى الله عليه وسلم حجة تابع للعلم بأنه عز وجل لا يفعل القبيح، وأن خطابه حجة، فمن لم يعلم ذلك من حاله تعالى وحال خطابه لم يمكنه أن يحتج بقول النبى صلّى الله عليه وسلم. ولذلك قلنا إن من أجاز على الله القبيح يلزمه أن يجوّز فى الرسول صلّى الله عليه وسلم أن يكون داعيا إلى الضلال وإن كان تعالى قد اختار بعثته وإظهار المعجز عليه لأنه إذا جاز أن يضل جاز أن يفعل ما يكون كالسبب له وكالداعى إليه!
10 - مسألة: فإن سأل فقال: بينوا اختلاف الوجوه التى عليها يقع الاستدلال بالقرآن على ما هو حجة فيه إن اختلفت عندكم، ولا بد من ذلك لأنكم قد بينتم أن الاحتجاج بالمحكم يقع على خلاف الوجه الذى يقع عليه الاحتجاج بالمتشابه. وكذلك القول فى المجمل والمفسّر والحقيقة والمجاز.
قيل له: إن الكلام فى ذلك ينقسم إلى وجهين: أحدهما يتصل بنفس الخطاب وموضوعه، والآخر بما يدل الخطاب عليه من الأحكام العقلية والسمعية لأن لكل واحد من هذين تأثيرا فيما سألت عنه (3).
__________
(1) د: فى إرساله.
(2) قوله «أو يكتم» ساقط من د.
(3) د: عليه.(1/102)
واعلم أن الخطاب على ضربين: أحدهما يستقل بنفسه فى الإنباء عن المراد، فهذا لا يحتاج إلى غيره فى كونه حجة ودلالة.
والثانى لا يستقل بنفسه فيما يقتضيه، بل يحتاج إلى غيره، ثم ينقسم ذلك (1) إلى قسمين:
أحدهما: يعرف المراد به وبذلك الغير بمجموعهما، والثانى يعرف المراد به (2) بذلك الغير بانفراده، ويكون هذا الخطاب لطفا وتأكيدا.
ولا يخرج خطاب الله أجمع عن هذه الأقسام الثلاثة. والقرائن قد تكون متصلة سمعا، وقد تكون منفصلة سمعا وعقلا، وقد بينا أن الدليل العقلى وإن انفصل فهو كالمتصل فى أن الخطاب يترتب عليه، لأن قوله جلّ وعز: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (3) مع الدليل العقلى الدالّ على أنه لا يكلف من لا عقل له، آكد فى بابه من أن يقول: يا أيها العقلاء اتقوا ربكم.
وهذا الخطاب الذى لا يستقل بنفسه قد اختلف الناس فى العبارة عنه.
وليس المعتبر بالعبارات لأن وصف بعضه بأنه محكم (4)، وبعضه بأنه متشابه وبعضه بأنه مجاز، وبعضه بأنه محذوف، إلى ما شاكله، لا يؤثر فى أنه متفق فى الوجه الذى ذكرناه، وفى أنه يحتاج فيه إلى طلب قرينة يعرف بها المراد، لكنه قد يختلف، ففيه ما يحتاج إلى قرائن، وفيه ما يحتاج إلى قرينة واحدة ويتفاوت فى ذلك، وربما ظهر الحال فى تلك القرينة وربما غمض، ولذلك يكثر (5) اختلاف الفقهاء وأهل العلم فيما هذا حاله.
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ساقطة من د.
(3) من الآية 21من سورة البقرة.
(4) د: مجمل.
(5) د: كثر.(1/103)
فمتى ورد الخطاب وأمكن حمله على ظاهره وكان الخطاب ظاهرا فى وضع اللغة، أكان عاما أو خاصا، فالواجب حمله على ما يقتضيه، ولحق بالباب الذى يستقل بنفسه، ومتى امتنع حمله على ظاهره فالواجب النظر فيما يجب أن يحمل عليه، والنظر هو بأن تطلب القرائن على الوجه الذى ذكرناه، فإن كان السامع قد تمهدت له الأصول، وعرف العقليات وما يجوز فيها وما لا يجوز، وعلم ما يحسن التكليف فيه وما لا يحسن، وعلم من جمل اللغة ما يعرف به أقسام المجاز ومفارقتها للحقائق، حمله على ما أريد به فى الحال، وإلا احتاج إلى تكلف نظر عند سماعه ذلك، فإن تكاملت الآلات له أمكنه النظر فى الحال، وإلا احتاج إلى التشاغل بما فى الأصول حتى تتكامل آلاته، ويصير من أهل الاجتهاد، فيمكنه أن يحمل الخطاب على حقه.
واعلم أن الخطاب على ضربين: أحدهما يدل على ما لولا الخطاب لما صح أن يعلم بالعقل، والآخر يدل على ما لولاه لأمكن أن يعرف بأدلة العقول.
ثم ينقسم ذلك، ففيه ما لولا الخطاب لأمكن أن يعلم بأدلة العقول، ويصح أن يعلم مع ذلك الخطاب، فيكون كل واحد كصاحبه فى أنه يصح أن يعلم به الغرض. وفيه ما لولا الخطاب لأمكن أن يعلم بالعقل ولا يمكن أن يعلم إلا به.
فالأول هو الأحكام الشرعية، فإنها إنما تعلم بالخطاب وما يتصل به، ولولاه لما صح أن يعلم بالعقل الصلوات الواجبة ولا شروطها (1) ولا أوقاتها، وكذلك سائر العبادات الشرعية.
__________
(1) د: وشروطها.(1/104)
والثانى هو القول فى أنه عز وجل لا يرى، لأنه يصح أن يعلم سمعا وعقلا، وكذلك كثير من مسائل الوعيد.
والثالث بمنزلة التوحيد والعدل لأن قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1)
{وَلََا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (2) و {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (3) لا يعلم به التوحيد ونفى (4)
التشبيه والقول بالعدل، لأنه متى لم يتقدم للإنسان المعرفة بهذه الأمور، لم يعلم أن خطابه تعالى حق، فكيف يمكنه أن يحتج فيما إن لم تتقدم معرفته به لم يعلم صحته؟!
فإن قال: فيجب أن لا تقولوا فى القول القرآن: إنه كله حجة!
قيل له: إنا نطلق ذلك فى جميعه من حيث حصل بجميعه الغرض (5) المقصود، وإن كنا نعلم أن فيه ما يجرى مجرى القصص من الإخبار عن الأمور الماضية، لكنه لما كان الغرض بها الاعتبار (6) الذى له تأثير فى التكليف، وتمّ به ذلك الغرض، حل محل الأمر فيه والنهى، فقيل فى الجميع إنه حجة.
ولسنا نقول فيما يدل على التوحيد إنه ليس بدلالة، لكنا نقول إن وجه الاستدلال به لا يصح إلا بعد معرفة الله تعالى، ولذلك نصفه بأنه لطف، وتأكيد وبعث على النظر والحجاج (7)، وقد بينا ما يدل على ذلك فيه، فلا وجه لإعادته (8).
__________
(1) من الآية 11من سورة الشورى.
(2) من الآية 49من سورة الكهف.
(3) سورة الاخلاص، الآية 1
(4) د: وفى.
(5) فى د: الفرض.
(6) فى د: بالاعتبار.
(7) من هنا يبدأ سقط من نسخة ف بمقدار ورقة واحدة.
(8) انظر المسألة الأولى.(1/105)
وحصل من هذه الجملة أن القرآن يتفق جميعه فى أن إنزاله مصلحة تعود على المكلف، ثم يختلف حاله، «ففيه ما يختص (1) مع ذلك بأنه دلالة على ما لولاه لما علم، وفيه ما يكون بعثا على النظر والفكر فيما نبه عليه، وفيه ما يجتمع فيه معنى اللطف ومعنى الدلالة، كما أن جميعه قد اتفق فى كونه معجزا إذا بلغ القدر المخصوص، وإن كان حاله فى سائر فوائده تختلف.
وهذه جملة كافية فى هذا الباب.
11 - مسألة: وإن سأل فقال: إذا كان الأمر فيما يدل على التوحيد والعدل ما ذكرتموه فى أنه لطف وتأكيد إذا دل ظاهره على الحق، ومتى كان من المتشابه، فالواجب أن يحمل على ما يقتضيه دليل العقل، فما الوجه فى المنازعة الشديدة فى المحكم والمتشابه المختصين بهذا الباب؟ وهلا وجب الرجوع فيما يقع فيه الخلاف من ذلك إلى أدلة العقول وترك التشاغل به! وذلك يبطل الفائدة فيما تكلفه المشايخ من بيان المراد بالمتشابه، وذكر وجوهه، وبيان المحكم والفرق بينهما.
قيل له: إنا قد بينا أن المعرفة بالله تعالى وبتوحيده وعدله لو لم تتقدم لم يمكن أن نعلم أن القرآن حجة أصلا، وشرحنا ذلك بما لا طعن فيه، ولا يوجب ما قلناه فى ذلك ترك التشاغل ببيان المحكم والمتشابه، وذلك لأن فى بيان ذلك إبطال ما يظنه الخصم حجة له على مذهبه الفاسد، وفيه بيان زوال التناقض عن القرآن، وفيه بيان موافقة المتشابه للمحكم، وموافقهما جميعا لحجة (2) العقل، وفيه تعريف المخالف أنه لا عذر له فى قيامه على الخلاف للتمسك بهذه الآيات،
__________
(1) فى الأصل: ففيها يختص.
(2) فى الأصل: بحجة.(1/106)
وأن الواجب عليه أن يعدل عن ذلك لما بينته، كما يجب عليه النظر فى أدلة العقول والتمسك بموجبها، وكل ذلك فوائد معقولة، يصح لأجلها التشاغل بما ذكرنا.
فأما إذا كان المتشابه من الباب الذى ذكرنا أنه يعلم بالقرآن، فالكلام فيه ظاهر لأنا نجتهد فيه لكى نصل به إلى العلم بما كلفناه، وذلك لا يتم إلا بأن ترتب الأدلة على حقها، وكما يجب فى الأدلة العقلية أن ترتب وتعرف صفاتها وشروطها، فكذلك القول فى الأدلة السمعية.
12 - مسألة: فإن سأل فقال: إنكم فيما تدّعون من المتشابه الذى يتعلق المخالف به، وأنه لا يدل على مذهبه، وأنه مبطل فى الوجه الذى يصرفه إليه، وفيما تدعون من أن المحكم يدل على مذاهبكم، وعلى الحق تنازعون، فيجب أن تبينوا الوجه فى ذلك، ولا تقتصروا فيه على الدعوى!
قيل: إن الكلام فى ذلك يتعلق بتفصيل المحكم والمتشابه، فالسائل عند ذلك بمنزلة من سأل فقال: إنكم فى جملة ما تدّعونه من المذاهب التى تعتقدونها تخالفون، فدلّوا عليها! فكما أن الجواب عن ذلك إلا بذكر تفصيل المسائل، لأنه لا دليل يشملها، والدليل على كل واحد منها غير الدليل على الآخر، فكذلك القول فيما سأل عنه، وكما لا يصح أن يجيب المجيب، وقد سئل عن سعر البر على الجملة، إلا بذكر تفصيله، لأن السعر الواحد لا يجمعه، فكذلك ما ذكرناه فى باب الدين.
ونحن نبين الآن فى جمل (1) المتشابه أن ظاهره لا يدل على ما يقوله
__________
(1) كنا فى الأصل، ولعل الأصوب: جميع.(1/107)
المخالف البتة، «فإنه وإن كان آحاده كجميعه فى ذلك، فإن الوجه (1) الذى له لا يدل عليه، يختلف، فربما رجع فيه إلى اللغة، وربما عوّل فيه على التعارف وربما علم ذلك بما يتقدمه أو يتأخر [عنه]. إلى وجوه تكثر.
ونبين عند ذكر المتشابه فى كل سورة ما يدل من المحكمات على الحق، ونوجز القول فى ذلك، ونحيل على سائر الكتب فى شرحه والوقوف على غايته.
__________
(1) فى الأصل: فان جميعه آحاده كجميعه فى ذلك، فان كان الوجه.(1/108)
القسم الاول
[سورة الفاتحة]
بسم الله الرحمن الرحيم 13مسألة: قالوا: قد قال عز وجل فيها: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} [5] فأمر بالاستعانة به، وذلك يدل على أن المعونة (1) تتجدد حالا بعد حال، وهى القدرة، وأنها مع الفعل (2)، ولو كانت متقدمة لكانت المعونة قد حصلت، فكان لا يكون للمسألة معنى!
الجواب: واعلم أن الفزع إليه عز وجل والاستعانة به يدل على قولنا فى المخلوق، وذلك لأن العبد لو لم يكن يفعل فى الحقيقة لم يكن للاستعانة معنى، لأنه إنما يستعين بغيره على فعل يفعله، ولذلك لا يصح الاستعانة على الأمور الضرورية، كاللون والهيئة والصحة، والاعتماد على ذلك فى أن العبد يفعل فى الحقيقة هو أولى.
ووجه آخر يدل على ما نقول، وذلك لأنه قال تعالى: (إياك نعبد) فيجب أن تصح العبادة منا، والعبادة هى الفعال (3) التى يقصد بها الخضوع والتذلل للمعبود مع العلم بأحواله، وذلك يدل على أن العبد يفعل ويختار.
__________
(1) فى الأصل: المعرفة.
(2) من مذهب جمهور المعتزلة أن القدرة متقدمة لمقدورها غير مقارنة له، لأنه يلزم على القول بمقارنتها للمقدور تكليف ما لا يطاق، وذلك قبيح، ومن «العدل» أن لا يفعل القبيح، وعند المجبرة أن القدرة مقارنة للمقدور لأن أحدنا لا يجوز أن يكون محدثا لتصرفه! ولما ثبت أن الله تعالى محدث على الحقيقة، قالوا: إن قدرته متقدمة لمقدورها غير مقارنة له!
انظر: مقالات الاسلاميين للأشعرى، نشر مكتبة النهضة بمصر 1369، 1/ 275شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار 408390. الفعل فى الملل والأهواء والنحل، لابن حزم 3/ 33.
(3) فى الأصل: الفعل.(1/110)
ويدل على قولنا من وجه آخر، وذلك لأن قوله: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ} تخصيص له بأنا نعبده دون غيره، وذلك لا يصح إلا بأن يكون العبد مختارا لفعل على فعل، لأنه «قد تقع العبادة [على وجه الإلجاء] (1) وإنما ينصرف الفعل إلى أن يكون عبادة لله عز وجل، باختياره وبأمور تتعلق به، وفى ذلك إبطال القول بأن هذه الأفعال لله عز وجل يخلقها فى العبد.
ويمكن أن يستدل على نحو ذلك بأمره تعالى لنا أن نستفتح القرآن وغيره بسم الله الرحمن الرحيم، لأن ذلك هو استعانه به من حيث نستفتح بذكره الأمور التى نريدها ونعزم عليها، والاستعانة به فى ذلك إنما تصح متى كنا المختارين للفعل، العادلين عن غيره إليه، ولذلك لا يصح أن نستعين بذكر اسمه على الأمور الضرورية التى يخلقها فينا.
فإن قيل: فهل يدل الظاهر على ما سأله القوم؟
قيل له: لا لأن الاستعانة تقتضى التماس المعونة من قبله، ولا تدل على تفصيل المعونة، وما يفعله عز وجل من الأمور المعينة على الطاعة أشياء كثيرة، فمن أين أن المراد به القدرة دون غيرها؟! نحو الصحة والخواطر والدواعى والتنبيه!
وبعد، فإن المراد به لو كانت القدرة لكان إنما يدل على أنها تتجدد، ولا يدل على أنها مع الفعل، وهذا مذهب كثير من أهل العدل (2)،
__________
(1) عبارة الأصل: «قد تصح العبادة بالفعل كما يصح له» ولا تستقيم مع ما بعدها من التفريع، ولعلها كما أثبت أقرب إلى الصواب، وأقرب كذلك إلى ما يراه القاضى فى موضوع القدرة والاختيار.
(2) اختلف المعتزلة فى القدرة: هل تبقى أم لا؟ على مقالتين: فقال أكثرهم إنها تبقى، وقال قائلون: «لا تبقى وقتين، وإنه يستحيل بقاؤها، وإن الفعل يوجد فى الوقت الثانى بالقدرة المتقدمة المعدومة، ولكن لا يجوز حدوثه مع العجز، بل يخلق الله فى الوقت الثانى قدرة» وهذا مذهب أبى القاسم البلخي وغيره من المعتزلة. انظر مقالات الإسلاميين:
1/ 275274.(1/111)
فكيف (1) يصح اعتمادهم عليه؟.
واعلم أن السائل إذا سأل عن شيء فلا يجب من حيث حسنت المسألة أن يقطع بأن المطلوب يفعل أو يحسن أن يفعل لأن الطلب فعل الطالب، والمطلوب فعل من سئل، وليس لأحدهما تعلق بالآخر، فكيف (2) يستدل بحسن الاستعانة على أن الملتمس يفعل لا محالة؟!
14 - مسألة: فإن قالوا: وقد قال عز وجل فيها: {اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [6] ولو كان المراد بالهداية الدلالة لكان قد دلهم وبيّن لهم فلا يكون للمسألة معنى، فاذا بطل ذلك فيجب أن يكون المراد: الإيمان أو القدرة الموجبة للإيمان، فمن هذا الوجه يدل على ما نقوله (3).
والجواب عن ذلك أن المسألة على ما بينا من قبل من فعل السائل، والمطلوب فعل الله عز وجل، فيجب أن ينظر فى كل واحد منهما لماذا يحسن، وهل يجب أن يتبع أحدهما الآخر فى الحسن والقبح، وقد ثبت أنه لا يحسن من السائل أن يطلب من المسئول ما هو قبيح ولا بد من كونه حسنا لو فعله، لكنه
__________
(1) فى الأصل: وكيف.
(2) فى الأصل: وكيف.
(3) الخلاف فى الهدى، هل هو الايمان أو القدرة عليه أم هو الدلالة والبيان؟
في الأصل، فرع عن الخلاف بين المعتزلة وغيرهم من المتكلمين فى مسألة: خلق الأفعال: فالمعتزلة مجمعون على أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، وأنهم المحدثون لها، وأن الايمان على ذلك من فعلهم، والهداية دلالة من الله عز وجل عامة لجميع المكلفين مؤمنهم وكافرهم، وعند الجهمية أن هذه الأفعال مخلوقة لله تعالى فينا لا تعلق لها بنا أصلا، لا اكتسابا ولا إحداثا «وإنما نحن كالظروف لها» أما الأشاعرة فذهبوا إلى أن لها بنا تعلقا من جهة الكسب وإن كانت مخلوقة فينا من جهة الله تعالى، وعلى رأى هؤلاء وأولئك وجميعهم ممن يسمهم المعتزلة بالمجبرة فإن الهداية خاصة بالمؤمنين دون غيرهم، وأنها عبارة عن الايمان الذى اختصهم به الله تعالى! انظر: الابانة عن أصول الديانة للاشعرى، الطباعة المنيرية بمصر، ص 5857 شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 390323الفصل لابن حزم: 3/ 142 161. مناهج الأدلة فى عقائد الملة لابن رشد، بتقديم وتحقيق الأستاذ الدكتور، محمود قاسم.
الطبعة الثانية ص: 225223.(1/112)
قد يكون الصلاح أن يفعله وقد يكون بخلافه، ولذلك قلنا فى الدعاء: إن الواجب أن يفعله بشرط، فيدعوه بأمور الدين والدنيا، بشرط أن لا يكون فسادا وأن يكون داخلا فى الصلاح. وقلنا إنه لا بد فى هذا الشرط من أن يكون بالنية وإن لم يظهر، وقلنا في من لا يشترط ذلك: إنه جاهل بكيفية الدعاء.
فإذا صح ذلك لم يكن فى ظاهر قوله: {اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ} دلالة على أن الهداية لم تتقدم، ولا دلالة على أنه تعالى يفعلها فى المستأنف، لأنه لا يمتنع أن نتعبد بالانقطاع إليه تعالى فى المسألة والطلب، وإن كان ما سألنا (1) لا يجوز أن يفعل. ومعلوم من حاله أنه يفعل أو لا يفعل.
وعلى هذا الوجه قال تعالى: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} (2) وقال حاكيا عن إبراهيم صلّى الله عليه: {وَلََا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} (3) وقال: {وَلََا تُحَمِّلْنََا مََا لََا طََاقَةَ لَنََا بِهِ} (4). وعلى هذا الحد نستغفر للأنبياء والصالحين ونطلب من الله عز وجل الصلاة عليهم والرحمة، وإن كان كل ذلك معلوما أنه يفعله عز وجل أو لا يفعله. فكيف يصح التعلق بما ذكرناه؟!
وبعد، فإنما يدل ذلك على أنه عز وجل يصح أن يفعل الهداية فى المستقبل، ولا يدل على أن تلك الهداية ما هى؟ ولا يمتنع أن يكون تعالى قد دل على الدّين المستقيم، وتجدد الأدلة عليه حالا بعد حال، أو يجوز ذلك منه وإن كان لا يفعله.
وقد بينا أن حسن المسألة لا يقتضى أن المطلوب يفعل لا محالة، لأنه قد يكون
__________
(1) د: سأله.
(2) قال تعالى: {(قََالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمََنُ الْمُسْتَعََانُ عَلى ََ مََا تَصِفُونَ)} سورة الأنبياء: 112.
(3) سورة الشعراء: 87.
(4) من الآية 286فى سورة البقرة.(1/113)
الصلاح فى أن لا يفعل، والطالب إنما يطلب على شرط، على ما بينا القول فيه.
على أن ما قالوه إنما كان يصح لو لم «يكن الهدى (1) إلا الدلالة أو الإيمان، فإذا طعنوا فى أحدهما ثبت الآخر، وليس الأمر كذلك لأن اللطف (2) وزيادة الأدلة والخواطر قد (3) يوصف بذلك كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زََادَهُمْ هُدىً} (4). وذلك يبطل تعلقهم بالظاهر، ويبين أن المراد بالآية: دلّنا على الدين المستقيم حالا بعد حال. أو يكون المراد: زدنا فى الأدلة والألطاف والخواطر التى عندها يزداد شرح صدورنا (5). وكل ذلك حسن وإن لم يكن هو الذى قالوه.
__________
(1) ف: تكن الهداية.
(2) اللطف واحد من المبادئ الهامة التى أصّلها المعتزلة، وهو عبارة عن «كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب القبيح، أو ما يكون عنده أقرب إما إلى اختيار أو إلى ترك القبيح» وعند جمهورهم أن الله عز وجل قد أعطاه المكلف زيادة فى تمكينه أو إزاحة علته.
وذهب بشر بن المعتمر ومن وافقه من البغدادين إلى عدم القول به بحجة أن الله تعالى قد فعل بجميع المكلفين ما يؤمنون عنده لو شاءوا فليس لهم عليه غير ذلك ولا يلزمه أكثر من ذلك!، وإلا وألطاف الله لا نهاية لها لكان لا يوجد فى العالم عاص وأما القائلون بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، فلا يلزمهم شيء من هذا أصلا، فضلا عن اعتبارهم من المخالفين فيه. وقد ناقش القاضي دليل المخالفين من البغداديين فى كتابه: «شرح الأصول الخمسة» كما بسط القول فى نظرية اللطف فى كتابه: «المجموع فى المحيط بالتكليف» / مصور دار الكتب: ب: 29314 (ج: 1716) المجلد: 2، ورقة: 286 321. وأفرد له جزءا خاصا من كتابه: المغنى / الجزء الثالث عشر. وابن حزم يحمل على جمهور المعتزلة، لقولهم باللطف، حملة منكرة. وجولد تسهر يرى أن مبدأ اللطف يتصل اتصالا وثيقا بما أسماه: «القوة المشاركة فى تأثير الاخيار الحر» ويرى بحق أن هذا المبدأ يخرج المعتزلة من المشكلة التى توقعهم فيها ظواهر بعض النصوص القرآنية الدالة على خلاف مذهبهم فى الهداية وخلق الأفعال ونحو ذلك. انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضى: ص:
525518. ومقالات الاسلاميين 1/ 288287الفصل لابن حزم 3/ 164فما بعدها مذاهب التفسير الاسلامى لجولد تسهر، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار القاهرة 1955 177172.
(3) فى د: وقد.
(4) سورة محمد: 17.
(5) د: صدر.(1/114)
15 - مسألة: قالوا: وقد قال فيها: {صِرََاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}
[7] فأراد دين الذين أنعمت بالإيمان (1) عليهم. ولو لم يكن الإيمان من فعله، لم يكن لهذا القول معنى.
والجواب عن ذلك أن ظاهره إنما يدل على أنهم طلبوا أن يهديهم {صِرََاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولم يذكر بماذا أنعم، فمن أين المراد به نفس الإيمان!؟
فإن قال: لأنه لا شيء يختصّ به المؤمن من الكافر المغضوب «عليه والضال (2) إلا نفس الإيمان، فيجب أن يحمل عليه!
قيل له: ليس الأمر كذلك لأنه قد يجوز أن يكون للمؤمن فى المعلوم ألطاف يختص بها دون الكافر، ويؤمن عندها، وكذلك التنبيه والخواطر.
وكل ذلك من نعمته تعالى، فكيف يقطع بأن المراد بذلك هو الإيمان!؟
وبعد، فإن صح أنه المنعم بالإيمان عليهم لم يدل على أنه ليس بفعل لهم لأنه تعالى قد ينعم علينا بما نفعله من الطاعة والإيمان إذا كنا إنما نناله بمعونته وألطافه وتيسيره وتسهيله، فيصير من حيث فعل هذه المقدمات التى لولاها لم يصح ولم نختر الإيمان ولا كان لنا إليه داع، كأنه قد فعل الإيمان فيضاف إلى أنه من نعمه، كما أن صلاح الولد يضاف إلى والده، وإن كان هو الذى تأدب وتعلم، لما فعل من المعونة والأحوال ما عنده أمكنه ذلك واختاره، وقد يهب أحدنا لغيره المال، فإذا صرفه فى المأكول والملبوس فانتفع به كانت تلك المنافع
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ف: عليهم والضالين.(1/115)
مضافة إليه، وإن كان من فعل المنتفع، لمّا كان إنما وصل إليه بما كان من قبله من المال، وهذا بيّن.
ثم يقال للقوم: إن السائل لو لم يكن متمكنا قادرا فاعلا مختارا لم تصح منه المسألة ولا كان فيها فائدة، لأنه تعالى هو الذى خلقها فيه، وخلق (1)
[له] ما طلب، وإنما يتم للمسألة فائدة على ما نقوله.
ويقال لهم: إذا كان الله تعالى هو الذى يخلق فيهم الهدى والإيمان، فلا يخلو من أن يكون قد أراد ذلك أو لم يرده، فإن أراده وجب حصوله كانت المسألة أم لم تكن، وإن لم يرده لم يحصل على كل حال، فما فائدة المسألة على قولكم؟!
ثم يقال لهم: وكيف يجوز أن يقسمهم تعالى فيجعل بعضهم ممن أنعم عليهم، وبعضهم ممن غضب عليهم، وبعضهم ممن ضل، إن كان جميع ذلك من خلقه فيهم وهو الذى أراده وشاءه وأحبه؟ ولم صار المؤمن أن يكون ممدوحا ومنعما عليه بأولى من الكافر؟!
وصحة ذلك يقتضى ما نقوله من أن هذه الأفعال أفعال لهم، فإذا اختار بعضهم الطاعة مدح عليها، كما يذم من اختار المعصية.
ويقال لهم: كيف يصح أن يقول تعالى: {(صِرََاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)}
فيضيف (الذين)، إليهم ولا فعل لهم فى الحقيقة؟! وإنما تصح هذه الإضافة إذا كانوا قد فعلوا ما لزمهم من الطاعات، وسلكوا فيه الاستقامة.
وهذه الجملة تبين أنه لا يصح تعلقهم بشيء، مما أرادوه (2)، فإنه (3) يدل ما على نقوله من وجوه كثيرة قد ذكرنا بعضها.
__________
(1) ف: ويخلق.
(2) د: أورده.
(3) د: وأنه.(1/116)
ومن سورة البقرة
16 - مسألة: قالوا (1): وقد قال (2) فيها عز وجل: {لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [2] ولو كان الهدى هو الدلالة لما صح أن يكون للمتقين دون غيرهم، وذلك يبطل قولكم، ويبين أن الهدى ما نقوله.
والجواب عن ذلك أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل «على حكم (3)
ما عداه (4)، وإنما خص تعالى المتقين بأن الكتاب هدى لهم، ولم يقل: وليس بهدى لغيرهم، فلا ظاهر يدل على ما قالوه.
وبعد، فانه لا يصح أن يحمل على ما يذهبون إليه فى الهدى من أنه الايمان، لأنه تعالى وصف الكتاب بأنه هدى للمتقين، ولا شبهة فى أن الكتاب ليس بايمان، لأن الإيمان هو فعل المؤمن، والكتاب كلامه (5) تعالى، فلا (6) بد من أن يرجع إلى أن المراد به أن الكتاب دلالة وبيان، وقد بين فى غير موضع ذلك بقوله:
{شَهْرُ رَمَضََانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنََّاسِ} (7)، أنه دلالة للجميع، وإنما خص المتقين فى هذا (8) الموضع لأنهم اهتدوا به، فصار من حيث انتفعوا به كأن الهدى هدى لهم دون غيرهم، وهذا كقوله تعالى فى صفة نبيّه صلى الله عليه وآله: {إِنَّمََا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشََاهََا} (9) وإن كان منذرا للخلق كلهم، كما
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ساقطة من: د.
(3) د. على ما حكم.
(4) الاستدلال بدليل الخطاب، أو مفهوم المخالفة وهو ثبوت حكم للمسكوت عنه مخالف لما دلّ عليه المنطوق مما لا يعتد به عند القاضى، وقد قال فيه: إنه: «لا يعتبر فى فروع الفقه، فكيف يعتبر فى أصول الدين؟» فخالف فى ذلك المتكلمين وهو شافعي وتابع الحنفية. انظر: شرح الأصول الخمسة: ص 356و 267وتفسير النصوص فى الفقه الاسلامى، للدكتور الشيخ محمد أديب صالح، ص: 451فما بعدها.
(5) د: كلام الله.
(6) د: ولا.
(7) من الآية 185فى سورة البقرة.
(8) ساقطة من د.
(9) سورة النازعات: 45.(1/117)
قال تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََاكَ إِلََّا كَافَّةً لِلنََّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} (1) وإنما خصّ من يخشى بذلك، من حيث اختص بأنه انتفع بالإنذار.
ثم يقال للقوم: إن الدلالة على وجه يخص أو يعم، لا تصح إلا على قولنا لأنه تعالى إن كان يخلق الطاعة والمعصية فسواء كانت الدلالة أو لم تكن، فالحال واحدة! لأنه إن أراد تعالى خلق ذلك فيهم وجد، كان الكتاب أو لم يكن، استدلوا به أو لم يستدلوا، وإن لم يرد (2) ذلك لم يحصل على كل حال.
ومن وجه آخر يدل على قولنا لأن وصف المتقى بأنه متق لا يصح إلا بأن يختار التحرز من المضار، فيكون متقيا، ومتى لم يختر ذلك لم يوصف به (3)، فإن لم يكن للعبد فعل البتة، فكيف يوصف بذلك؟!
وبعد، فان التحرز والاتقاء إنما يصح من العقاب يفعل الطاعة ومجانبة المعصية، فلو كان تعالى يخلق ذلك، لكان يجب أن يكون دافعا للمضرة عنهم بخلق ذلك فيهم، ولا يصح وصفهم بأنهم اتقوا، كما لا يوصف من دفعنا عنه المكاره بأنه متق.
وبعد، فإن كان تعالى يفعل القبيح، فكيف (4) الأمان من أنه لا يعاقب الطائع! فتكون الطاعة ومجانبة المعصية تقوى؟ وكل ذلك يدل على ما نقول.
فمن العجب أن يتعلقوا بمثل ذلك مع دلالته على قولنا من هذه الوجوه!
17 - مسألة: قالوا (5): وقد ذكر فيها ما يدل على أن الذين كفروا لا يقدرون على الإيمان، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} [6] فلو قدروا عليه لآمنوا لا محالة لأنه لا يصح
__________
(1) من الآية 28من سورة سبأ.
(2) فى د: يروا
(3) فى د: كأنه.
(4) د: وكيف.
(5) ف: وقالوا.
(م 4متشابه القرآن)(1/118)
أن يقدروا على «ما خبر وأعلم (1) أنه لا يقع،
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إنما يدل على أنهم لا يؤمنون، وذلك يدل على أنهم لا يفعلون الإيمان، وليس فى أن لا يفعل الموصوف دلالة على أنه «يقدر عليه أو (2) لا يقدر عليه، فلا ظاهر للقوم يتعلقون به، وقد ثبت بالدليل أن القادر قد يقدر على ما يعلم أنه يختاره وعلى خلافه لأن القدرة تتعلق بالضدين، وإنما يقع أحدهما (3) ولأنه تعالى قادر فيما لم يزل غير فاعل ولأنه يقدر على الضدين، ولا يفعل أحدهما ولأنه يقدر على ما لا نهاية له من الأجناس لا يفعلها (4)
وهو قادر على أن يقيم القيامة الآن ولا يفعلها، وكل ذلك يبطل قولهم إن ما علم أنه لا يقع، لا تصح القدرة عليه (5).
وبعد، فإن العلم يتعلق بالشيء على ما هو عليه (6) ولا يؤثر فيه، فيجب أن يعلم ما له يفعل القادر أو لا يفعله، ثم نثبت العلم علما به (7) على حقيقته. وقد شرحت هذه المسألة فى مواضع، وصحتها يبين بطلان تعلقهم بهذه الآية.
__________
(1) د: ما أخبر وعلم.
(2) ساقطة من د.
(3) فرق القاضى أولا بين «فعل» الايمان وحصوله، وبين «القدرة» عليه، وبين أنه لا يلزم من عدم الفعل عدم القدرة. ثم بين بعد ذلك أن هذه القدرة صالحة للضدين أى أنه يصح من القادر أيهما شاء لأنها لو لم تكن كذلك، لوجب أن يكون تكليف الكافر بالايمان تكليفا لما لا يطاق فإذا فعل أحدهما فإن ذلك لا يعنى عدم القدرة على الآخر!! انظر شرح الأصول الخمسة: 398396. ومعلوم من مذهب جمهور المعتزلة أن القدرة متقدمة لمقدورها صالحة للضدين، انظر فيما مضى: ف: 13.
(4) أى: أجناس المقدورات، وقد جمع المؤلف ما يجب على المكلف معرفته فى أول صفات القديم عز وجل، وهي القدرة، بقوله: «والأصل فى ذلك أن تعلم أنه تعالى كان قادرا فيما لم يزل، ويكون قادرا فيما لا يزال، ولا يجوز خروجه عنها لضعف أو عجز، وأنه قادر على جميع أجناس المقدورات، ومن كل جنس على ما لا يتناهى، وأنه لا ينحصر مقدوره لا فى الجنس ولا فى العدد «انظر شرح الأصول الخمسة: 156155.
(5) انظر شرح الأصول الخمسة، ص: 418فما بعدها.
(6) د: به.
(7) ساقطة من د.(1/119)
ثم يقال للقوم: إن إضافته تعالى الكفر إليهم يدل على أنه فعلهم، وإلا لم يصح وصفهم به، وكان لا يصح أن يذمهم إن كان قد خلقه فيهم، وكان لا يصح أن يصفهم بأنهم لا يؤمنون، أنذروا أم (1) لم ينذروا، لأن الإنذار على قولهم فيهم وفى غيرهم: لا (2) فائدة فيه لأنه تعالى إن خلق الإيمان حصلوا مؤمنين على كل حال، وإن لم يرد ذلك ولم يخلقه، ولا خلق القدرة الموجبة له، لم يحصلوا مؤمنين، فأى فائدة «للانذار، ولماذا (3) خصهم بأنهم لا يؤمنون على كل حال. وكيف يصح أن يوصفوا بأنهم لا يؤمنون، فينفى الفعل عنهم ولا يصح الفعل منهم؟ وكل ذلك يبين أنها بأن تدل على ما نقوله أولى.
17 - مسألة: وقد قال تعالى: {خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ} [7] وذلك يدل على أنه منعهم بالختم والغشاوة من الإيمان! وذلك يدل على أنه الخالق للايمان والكفر، وللأسباب الموجبة لهما (4).
والجواب فى ذلك، أن الختم فى اللغة لا يعقل منه القدرة على الكفر، ولا الكفر، وإنما يستعمل فى العلامة الحاصلة بنقش الخاتم وما شاكلها، وإن كان قد يراد به انتهاء الشيء، وقد يراد به الحكم عليه بأنه لا ينتفع بما سمعه، كما يقال فيمن نوظر كثيرا وبيّن له طويلا: ختمت عليك أنك لا تفهم إلى ما يشا كله،
__________
(1) ف: أو.
(2) فى د: ولا.
(3) فى د: فى الإنذار ولما،
(4) أورد الإمام الأشعرى الآية المذكورة فى كتابه: الإبانة، تحت عنوان: «مسألة فى الختم» وبعد أن خاطب المعتزلة بقوله:
«فخبرونا عن الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، أتزعمون أنه هداهم وشرح للاسلام صدورهم وأضلهم؟» وزعم أنه إن قالوا: نعم «تناقض قولهم»، أورد عليهم بعض الشواهد القرآنية التى توضح أنه لا يجتمع الهدى مع الضلال، وشرح الصدر مع الضيق، حاملا إياهم على مذهبه فى «الهدى» و «الختم» وإنكار الطف: ليخلص إلى القول بأن «هذا يبين أن الله خلق كفرهم ومعاصيهم». الإبانة: ص 5554.(1/120)
وحقيقته ما ذكرناه أولا (1)، فإذا صح ذلك لم يكن لهم فيما أوردوه ظاهر يصح التعلق به.
ويحب أن يحمل على أن المراد به أنه علّم على قلوبهم (2) بعلامة تعرف بها الملائكة أنهم من أهل «الذم، كما كتب فى قلوب المؤمنين الإيمان لكى تعلم الملائكة أنهم من أهل (3) المدح (4) وعرّفنا أن ذلك لطف، لأن أحدنا إذا علم مع عظم حال الملائكة عنده، أنه إن أقدم على المعاصى ذموه فيما بينهم وفضحوه بكثرة اللوم، كان إلى أن ينصرف «عن المعصية (5) أقرب.
فان قال: أتقولون إن هذا الختم علامة فيمن لا يؤمن أبدا أو فيمن هو كافر فقط (6)؟ قيل له: إنه عز وجل وصف الذين لا يؤمنون على كل حال، لكنا إذا علمنا أن الفائدة به (7) ما ذكرناه، وكان من سيؤمن فى المستقبل أو الفاسق الذى ليس بكافر يختص بالذم، لم يمتنع أن يستوى حال الجميع فيه.
فان قال: إذا دل ذلك الختم وتلك العلامة على أنه لا يؤمن، فهو مانع من الإيمان، وقد عادت المسألة عليكم!
__________
(1) أنظر أقوال المعتزلة فى الختم والطبع بما لا يخرج عن مذهبهم فى خلق الأفعال: مقالات الاسلاميين للأشعرى: 1/ 297.
(2) د: قلبهم.
(3) ساقطة من د.
(4) قال أبو القاسم النيسابورى: (ختم الله على قلوبهم): وسمهم بسمة تعرفها الملائكة، وفائدتها: الوضع منهم والتبكيت، كما أنه لما كتب الايمان فى قلوب المؤمنين كان تحلية لهم بما يرفعهم، وقال مجاهد: الشيء إذا ختم ضم، فالقلب إذا ران عليه المعاصى انضم ولم ينبسط بالانذار ولم ينشرح بالايمان، وقيل: إن المراد حفظ ما فى قلوبهم للمجازاة إذ كل شيء يحفظ فإنه يختم، وقيل: إنه على الدعاء عليهم، لا الخبر عنهم.
وقيل: بل المراد به ظاهره، وهو المنع، ولكن المنع منعان: منع بسلب القدرة، ومنع بالخذلان، والذى يجوز على الله تعالى فعله منهما: الخذلان، وحبس التوفيق، عقوبة لهم على كفرهم، انظر وضح البيان فى مشكلات القرآن، مصور دار الكتب ورقة: 1413.
(5) ساقطة من د.
(6) ساقطة من ف.
(7) ساقطة من ف.(1/121)
قيل له: إذا تمكن من إزالته بفعل الإيمان، فلا يعد ذلك منعا (1) كما أن [من] أغلق الباب عليه لا يوصف بالمنع إذا أمكنه فتحه والتصرف بالخروج، وكما لا يوصف الختم على الكتاب بأنه مانع من قراءته، لأنه يمكن أن يفك فيقرأ، فكذلك ما قلنا، ولو أن أحدنا كتب على جبين الإنسان بأنه لا يؤمن، وكان المعلوم ذلك من حاله، لم يصح كونه مانعا من الإيمان لأن حال القدرة عليه لا تتغير بذلك (2)، فكذلك (3) القول فى العلامة التى ذكرناها، وقد صح أنه عز وجل قد كتب فى اللوح المحفوظ جميع ما يكون من العباد، ولا يوجب ذلك وإن كان دلالة للملائكة على أنهم ممنوعون من الفعل، أو محمولون على ما اختاروه، فكذلك ما ذكرناه.
ثم يقال للقوم: لو كان الختم منعا لما جاز أن يذم تعالى الكفار الذين وصف بأنه ختم على قلوبهم، ولما جاز أن يقول: {وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (4) لأنه إن كان تعالى منعهم عن الخروج من الكفر، وأوجد ذلك فيهم، حتى لا يصح منهم الانفكاك، فكيف يحسن أن يعذبهم؟ ولئن جاز ذلك، ليجوزن أن يعذبهم على طولهم، ولونهم، وصحتهم.
وبعد، فإن الختم إن كان مما (5) يمنع من الإيمان أو قدرة الإيمان، فلماذا خص الكفار به، وعندكم أن كل مكلف لا يؤمن، فقد منعه الله عز وجل على حد واحد؟ وكذلك حال الكافر الذى المعلوم أنه لا يؤمن والذى المعلوم أنه يؤمن سواء فى أنه قد منعه فى الحال، فأى وجه للتخصيص على قولكم؟
__________
(1) فى د منعما.
(2) ساقطة من ف،
(3) ف: وكذلك.
(4) تتمة الآية السابقة «الآية 7».
(5) د: ما.(1/122)
ويجب أن يدل ذلك على أن المراد: ما بقوله بعض شيوخنا رحمهم الله، من أن المراد به العقوبة لأنه خصهم بضرب من العقوبة، من حيث كفروا ودانوا بالكفر فبين أنه تعالى يعاقبهم على ذلك فى الدنيا بالذم والتوبيخ وإظهار ذلك، وسماه ختما، ثم لهم فى الآخرة عذاب عظيم.
وبعد، فلو احتمل الختم أن يكون مفيدا «للمنع، ولما (1) ذكرنا. لوجب صرفه إلى ما قلناه من حيث ثبت بالعقل أنه تعالى لا يجوز أن يأمر بالإيمان ويرغب فيه ويعد عليه ويزجر عن خلافه، ويمنع مع ذلك منه، ولا يجوز ذلك عليه وهو يقول: {فَمََا لَهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} (2) {وَمََا مَنَعَ النََّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا} (3). وكل ذلك يوجب صحة ما قلناه.
وإنما أراد بذكر الغشاوة، أنهم لا ينتفعون بما يبصرون ويسمعون.
فلإخراجهم أنفسهم من الانتفاع بذلك بترك الفكر فيه والاستدلال به، صاروا بمنزلة من بينه وبين ما يراه ويسمعه حائل، فصار ما فعلوه من الكفر والإعراض عن الطاعة والإيمان، حالا بعد حال، كالساتر لهم عما يسمعون ويبصرون. ولم يضف تعالى الغشاوة إلى نفسه، كما أضاف الختم إليه، فليس لأحد أن يدفع ما ذكرناه بهذا الوجه.
19 - مسألة: قالوا: وقد قال تعالى {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزََادَهُمُ اللََّهُ مَرَضاً} (4)
يعنى: كفرا وشكا، وذلك يدل على أنه عز وجل يفعل الشك والكفر فى قلوب الكافرين والمنافقين.
__________
(1) د: للجميع لما.
(2) سورة الانشقاق: 20، وفى الأصل: وما، خطا.
(3) {(وَمََا مَنَعَ النََّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جََاءَهُمُ الْهُدى ََ)} سورة الاسراء: 94سورة الكهف: 55.
(4) الآية لعاشرة، وتتمتها: {«وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ بِمََا كََانُوا يَكْذِبُونَ»}.(1/123)
والجواب عن ذلك، أن المرض فى حقيقة اللغة لا يعقل فيه (1) الكفر، ولذلك لا يوصف الكافر بأنه مريض ولا الفاسق، كما لا يوصف المؤمن، لأجل إيمانه وزوال الكفر عنه، بأنه صحيح. وقد يكون مؤمنا مريضا وكافرا صحيحا، فلا ظاهر له يتعلقون به.
وإنما ظن القوم أن المنافقين فى قلوبهم الكفر، وهو المرض، فيجب أن يكون المراد بقوله: {(فَزََادَهُمُ اللََّهُ مَرَضاً)} ما أريد بالأول، فبنوا فاسدا على فاسد.
والمراد بذلك، ما قاله أبو على (2) من أن فى قلوبهم غما وقلقا بأحوال النبى صلى الله عليه، وعظم نعم الله عز وجل عليه فأراد بقوله: {(فَزََادَهُمُ اللََّهُ مَرَضاً)} يعنى: غما، بأن زاد فى تعظيم النبى عليه السلام وعظم أحواله، وعرفهم ذلك، فكان ذلك هو الغم الذى فعله فى قلوبهم، ومرض القلب لا يعقل فى اللغة إلا الغم. ولذلك يقول الفصيح فيمن خبره بما يسوؤه: قد أمرضت قلبى!. وهذا ظاهر فى اللغة.
ثم يقال للقوم: إنما يصح أن يقول تعالى ذلك، على قولنا دون قولكم، لأنه جل وعز، إذا كان قد خلق فيهم الكفر الأول والثانى، فكيف جعل زيادة
__________
(1) فى ف: منه.
(2) هو أبو على الجبّائى نسبة إلى جباء من أعمال البصرة محمد بن عبد الوهاب يتصل نسبه بحمران بن أبان مولى عثمان رضى الله عنه، كان شيخ المعتزلة بالبصرة، معروفا بالورع والزهد، وإليه تنسب فرقة «الجبائية» أخذ علم الكلام عن أبى يوسف يعقوب الشحام، رأس معتزلة البصرة فى عصره، وتتلمذ عليه الأشعرى، وأخذ عنه ابنه أبو هاشم الذى آلت إليه الرئاسة من بعده، وهما يعرفان بالجبائيين، توفى أبو على رحمه الله عام (303) انظر طبقات المعتزلة: 8580. وفيات الأعيان: 399398 (ترجمة رقم 579).(1/124)
المرض فى حكم الجزاء على ما فى قلبهم (1) من المرض، مع أنهما جميعا من خلقه؟
وإنما (2) يصح ذلك بأن يكون الأول من فعلهم، والثانى على سبيل العقوبة من الله عز وجل لهم، وكذلك نقول: إن المنافقين بتكذيبهم واعتقادهم أنه صلّى الله عليه وآله، لا يجب أن تعتقد نبوته ويظهر ذلك من حاله فى كل وقت، مع مشاهدتهم لأحواله (3) أمرضوا قلوبهم، فكان ذلك منهم معصية، فعاقبهم الله عز وجل بالأمر الثانى، ويبين ذلك أنه قال: {(وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ)}، ولو كان كل ذلك من خلقه فيهم، لما جعل العذاب كالجزاء على فعلهم لأن المرض الذى ذكره أولا وثانيا، والتكذيب الذى ذكره آخرا كله من خلقه فيهم، فكيف يستحقون العذاب عليه، على أنه عز وجل قد أضاف إلى المنافقين فى هذه الآيات من الأفعال والأقوال وذمهم بذلك، فكل ذلك يبين أن نفاقهم من فعلهم.
20 - مسألة: قالوا: قد قال تعالى: {اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [15] فذكر أن الطغيان من فعله تعالى فيهم، وأضاف الاستهزاء إلى نفسه، وكل ذلك يبين ما نقوله: من أنه يخلق هذه الأفعال فيهم.
والجواب عن ذلك أن المخالف لا يجوّز على الله الاستهزاء فى الحقيقة لأنه لا يكون إلا قبيحا وذما، ولا يصح إلا على من تضيق به الأفعال، فإذا احتال وفعل الضرر بغيره «من حيث لا يشعر (4) وعلى وجه مخصوص، وصف بذلك، ويستحيل ذلك على الله عز وجل، وإنما أراد أنه يعاقبهم على ما وقع منهم من الاستهزاء بالرسول صلّى الله عليه لأنه قد ثبت فى اللغة أنه قد يجرى
__________
(1) فى د: قلوبكم.
(2) ف: فانما.
(3) كذا عبارة الأصل، والمعنى: مع ظهور حاله فى صدق ادعاء النبوة، ومشاهدتهم لهذه الحال الصادقة.
(4) ساقطة من د.(1/125)
اسم الشيء على ما هو جزاء له، كما يجرى اسم الجزاء على الفعل، ولذلك قالوا:
الجزاء بالجزاء (1) ولذلك قال عز وجل: {وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا} (2) وإن كان ما يفعله تعالى ليس سيئة، وهذه الطريقة فى مذهب العرب معروفة، فيجب أن تحمل الآية عليها.
فأما قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ} فليس فى ظاهر قوله {(وَيَمُدُّهُمْ} (3)) أن الطغيان من فعله فيهم، وإنما أراد أنه يمدهم فى العمر نعمة منه عليهم لكى يستدركوا ما فاتهم فيتوبوا، وهم مع ذلك يعمهون فى طغيانهم، ولا يزدادون إلا شرا، فالذى يضاف إليه هو المدّ فى العمر، والطغيان والعمه إليهم يضاف، على ما بيناه.
ثم يقال للقوم: لو كان الطغيان من فعله تعالى، لما صح أن يضيف العمه إليهم، فيقول: {يَعْمَهُونَ} وهو تعالى قد «خلقه، ولما حسن (4) أن يذمهم ويوبخهم على ذلك.
وقوله تعالى من بعد: {أُولََئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلََالَةَ بِالْهُدى ََ} (5) «يدل على ما نقوله، لأنه لا يوصف الإنسان بذلك إلا إذا اختار الضلالة على الهدى (6)، فلو كان ذلك من فعل غيره، لم يصح أن يكون مشتريا لأحدهما بالآخر، فكيف يصح أن يصفهم تعالى، بقوله: {فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ} وهو الذى اضطرهم إلى الضلالة؟ وكيف يضرب لهم الأمثال، وهو الذى خلق فيهم الضلال؟!
__________
(1) انظر فى الشواهد على ذلك مع المزيد من وجوه التأويل للآية فيما شملته من أمرى الاستهزاء بالمنافقين ومدهم فى طغيانهم: أمالى المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد) طبع البابى الحلبى 1373هـ، ج 2، ص: 150144.
(2) من الآية 40من سورة الشورى.
(3) د: يعمهون.
(4) ف: خلق ولم يحسن.
(5) الآية 16، وتتمتها: {فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ وَمََا كََانُوا مُهْتَدِينَ}
(6) ساقط من د.(1/126)
وقد قيل: إنه عز وجل لما خلّى بينهم وبين العمه، عند تبقيتهم جاز أن يقال: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، من حيث كان قادرا على أن يمنعهم، فخلاهم فى ذلك.
وقد قيل: إنه وصفهم بذلك على العاقبة، فكأنه (1) قال: يمدهم (2)
ومعلوم من حالهم أنهم فى طغيانهم يعمهون.
وقوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمََاتٍ لََا يُبْصِرُونَ} وهو من تمام ما ضرب به من المثل (3)، أراد (4) بذلك أنه لا يستنقذهم من الظلمة، فأجرى وصف التّرك (5)
عليه، والترك فى الحقيقة إنما يجوز على (6) من يكف بفعل على فعل. وذلك يقتضى أن يكون الفعل يحله ويوجد فى أبعاضه، والله يتعالى عن ذلك!.
21 - مسألة: «قالوا: وقد قال تعالى فى وصفهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} (7)
[18] وذلك يدل على أنهم ممنوعون من الإيمان، وإلا لم يكن لذلك معنى!
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أن المنافقين كانوا بهذه الصفات أو الكفار، ومعلوم من حالهم أنهم كانوا بخلافه، ولا شيء أدل على فساد المتعلّق بالظاهر من أن يعلم بالعيان خلافه لأن ذلك يوجب ضرورة صرفه إلى خلاف ظاهره.
والمراد بذلك: أنهم لما لم ينتفعوا بهذه الحواس والآلات فيما خلقت له، وأنعم عليهم بها لأجله، صاروا كأنهم «قد سلبوها (8)، وهذا يكثر فى اللغة أن يقول (9) الواحد وقد بين لغيره الشيء وبالغ فيه: إنه أصم أعمى، وقد طبع
__________
(1) د: وكأنه.
(2) ف: ويمدهم.
(3) قال تعالى فيهم: {(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً فَلَمََّا أَضََاءَتْ مََا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمََاتٍ لََا يُبْصِرُونَ)} الآية 17.
(4) ف: وإن أراد.
(5) د: الشرك.
(6) ساقطة: من د.
(7) عبارة الأصل: قال: وقد قال بعضهم (صم بكم عمى) فى وصفهم.
(8) د: سلبوا.
(9) فى الأصل: تقول فى.(1/127)
على قلبه، وربما تجاوزوا ذلك إلى أن قالوا: إنه ميت لا يعقل ولا يفهم، وقد قال تعالى: {إِنَّكَ لََا تُسْمِعُ الْمَوْتى ََ وَلََا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعََاءَ} (1) فى هذا المعنى، وقد قال الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادى (2)
وربما شبهوه (3) بالحمار والبهيمة، لذهابه عن فهم ما أورد عليه. وكل ذلك يبين صحة ما قلناه.
ثم يقال للقوم: إنه تعالى وصفهم بذلك على طريقة الذم، ولو كان ذلك حقيقة، لما صح أن يذمهم، وقد قال عز وجل: {فَهُمْ لََا يَرْجِعُونَ} [18] فنسب ترك الرجوع إليهم، وذلك لا يصح لو كان قد منعهم.
22 - مسألة: قالوا: وقد قال عز وجل: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} فخبر بأنه يضل الضال ويهدى المهتدى، وفى ذلك دلالة على أن الهدى والضلال جميعا من فعله. ولا يصح أن تتأولوا ذلك على الهدى بمعنى البيان، والضلال (4) بمعنى الذهاب عن الطريق، لأنه عز وجل ذكر ذلك (5)
عقيب قوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا بَعُوضَةً فَمََا فَوْقَهََا} إلى أن قال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً} (6) يعنى بما تقدم من ضرب المثل، {وَيَهْدِي بِهِ}.
وفى ذلك دلالة على أن (7) المراد به الكفر والإيمان بالمثل. ولو كان المراد بالهدى البيان لما قال أيضا: ويهدى به كثيرا لأن الدلالة فى المكلفين عامة!
والجواب عن ذلك لا يكاد يتضح إلا بذكر جملة من الكلام فى الهدى
__________
(1) سورة النمل: 80، وقد جاءت فى الأصل: (إنك لا تسمع الصم الدعاء)، والجملة من قوله: «ولا يفهم» ساقطة من ف.
(2) انظر وضح البيان لأبى القاسم محمد بن حبيب النيسابورى، مصور دار الكتب ورقة (13).
(3) فى د: شبهوا.
(4) فى د: والضلالة.
(5) فى د: وكذلك.
(6) قال تعالى: {(إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا بَعُوضَةً فَمََا فَوْقَهََا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مََا ذََا أَرََادَ اللََّهُ بِهََذََا مَثَلًا، يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ)} سورة البقرة: 26.
(7) ساقطة من د.(1/128)
والضلال، وما يجوز عليه «عز وجل (1) منهما (2) وما لا يجوز، ثم نذكر عند الفراغ منها (3) معنى الآية.
واعلم أن الهدى قد اختلف فيه العلماء، فمنهم من يقول: إن حقيقته (4)
الفوز والنجاة، وبين أن سائر ما يستعمل فيه إنما يوصف به لأنه متعلق بذلك وطريق إليه، فقيل فى القرآن هدى، وفى الأدلة وفى الإيمان وغير ذلك، لما كان الإنسان يفوز بها وينجو، ولذلك يقال فيمن دل على طريق ينفع: إنه قد هدى إليه، ولا يقال ذلك إذا عدل به إلى طريق يضر. ومنهم من قال: إن الهدى فى الحقيقة هو الدلالة والبيان، وإنما يوصف الفوز بالمنفعة والنجاة [بالهدى]، لأنهما يوصلان إليها (5) ويتأول سائر ما تستعمل فيه هذه اللفظة على أن المراد به ما (6) يتصل بذلك.
ولم يذكر أحد من أهل العلم أن الهدى فى الحقيقة: هو نفس الطاعة والإيمان، إلا من جعله مذهبا! فأما أن تكون اللغة شاهدة لذلك، أو القرآن، فبعيد (7). ونحن نبين ما فى القرآن من الشواهد فى قولنا، ونذكر ما يجوز عليه وما لا يجوز.
__________
(1) ساقطة من ف.
(2) ساقطة من د.
(3) ساقطة من د.
(4) د. حقيقة الهدى.
(5) المعنى على أن الدلالة والبيان يوصلان إلى النجاة، وفى ف: إليهما. أى إلى الفوز بالمنفعة والنجاة.
(6) ف: أو ما. وفى د: وما.
(7) فى القاموس: الهدى: الرشاد والدلالة 4/ 395، وقال ابن قتيبة: «أصل هدى:
أرشد، كقوله: (عسى ربى يهدينى سواء السبيل)، وقوله» «اهدنا سواء الصراط» ثم بين أن الارشاد يكون بمعان، فقد يكون إرشادا بالبيان، كقوله: (وأما ثمود فهديناهم) أى بينا لهم، وإرشادا بالدعاء، كقوله: (ولكل قوم هاد) أى: نبى يدعوهم، وإرشادا بالالهام، كقوله:
{(الَّذِي أَعْطى ََ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ََ)} وإرشادا بالامضاء، كقوله: {(وَأَنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي كَيْدَ الْخََائِنِينَ)}، أى: لا يمضيه ولا ينفذه، ثم قال ابن قتيبة: «وبعض هذا قريب من بعض» وفى الاتقان:(1/129)
اعلم أن الهدى بمعنى الدلالة كثير فى الكتاب، قال الله تعالى فى وصف القرآن: {هُدىً لِلنََّاسِ} (1) {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2) ولا يجوز أن يراد بذلك إلا كونه دلالة وبيانا. وقال تعالى: {وَأَمََّا ثَمُودُ فَهَدَيْنََاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى ََ عَلَى الْهُدى ََ} (3) ولو كان المراد بذلك أنه جعلهم مؤمنين، لما صح أن يقول: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى ََ عَلَى الْهُدى ََ} (4) وقوله تعالى: {أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً}
__________
أن «الهدى يأتى على سبعة عشر وجها) انظر. تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة، بشرح وتحقيق الأستاذ السيد أحمد صقر، ص 344. الاتقان للسيوطي: 1/ 241، الطبعة الثالثة 1360بالمطبعة التجارية.
(1) قال تعالى {(شَهْرُ رَمَضََانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنََّاسِ)} البقرة: 185
(2) سورة الأعراف: 203، سورة يوسف: 111، سورة النحل: 64.
(3) سورة فصلت: 17.
(4) صحح الأشعرى دفاعا عن مذهبه فى أن الهداية خاصة بالمؤمنين وحدهم، وأنها حيث وردت فى القرآن فلا تعنى سوى خلق الايمان أو القدرة عليه أن يكون الضمير فى:
(فهديناهم) عائدا على المؤمنين من ثمود وحدهم، وفى (فاستحبوا) عائدا على الكفار منهم، وقال: «هذا جائز فى اللغة التى ورد بها القرآن أن يقول: فهديناهم، ويعنى المؤمنين من ثمود ويقال: فاستحبوا، يعنى الكافرين منهم». كما جهد فى تأويل آيات أخر صريحة فى الدلالة على أن الهداية فيها وردت بمعنى الدلالة والبيان.
ورمى ابن حزم القائلين بمثل هذه التفسيرات بالجهالة، فقال: «وقال بعض من يتعسف القول بلا علم إن قول الله عز وجل: {(وَأَمََّا ثَمُودُ فَهَدَيْنََاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى ََ عَلَى الْهُدى ََ)}، وقوله تعالى: {(إِنََّا هَدَيْنََاهُ السَّبِيلَ)} وقوله تعالى: {(وَهَدَيْنََاهُ النَّجْدَيْنِ)} إنما أراد تعالى بكل ذلك المؤمنين خاصة» ثم قال: «وهذا باطل من وجهين: أحدهما تخصيص الآيات بلا برهان، والثانى: أن نص الآيات يمنع من التخصيص ولا بد الخ».
وفى رأى أبى محمد رحمه الله أن الهدى فى اللغة العربية من الأسماء المشتركة. وأنه يكون بمعنى:
الدلالة، ويكون كذلك بمعنى التوفيق والعون على الخير والتيسير له، وخلقه تعالى لقبول الخير فى النفوس. وعنده أن الأول قد أعطاه الله للكافر والمؤمن، وخص بالثانى جماعة المؤمنين وحدهم.
ولعل المعتزلة على كل حال أن يحملوا ما يدل بظاهره على المعنى الثانى، على اللطف والدواعي والثواب ونحو ذلك.
انظر: الابانة: 6160. والملل والنحل: 3/ 43 46.(1/130)
{مِنْ رَبِّهِمْ} (1) يدل على أنه البيان لأن حمله على غيره لا يصح، وقال تعالى:
{إِنََّا هَدَيْنََاهُ السَّبِيلَ} (2) يعنى: الطريق. ولا يجوز أن يرد بذلك إلا الدليل.
وقال تعالى: {وَهَدَيْنََاهُ النَّجْدَيْنِ} (3). وقال فى صفة النبى صلّى الله عليه وسلم:
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4) يعنى: تبين وتدل، وقال فيه: {إِنَّمََا أَنْتَ مُنْذِرٌ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هََادٍ} (5) يعنى: مبيّن. وقال تعالى: {وَجَعَلْنََاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنََا} (6) ولا يجوز أن يقال: إنهم يفعلون الإيمان، فالمراد به الدلالة والبيان. وكذلك قوله عز وجل: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى ََ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (7). وقوله: {إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (8). وقوله:
{إِنََّا سَمِعْنََا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} (9). وقوله: {مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} (10). وقوله: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (11)
إلى غير ذلك مما يكثر ذكره. كل ذلك مما يدل على أن الهدى يراد به الدلالة والبيان.
وقد ذكر عز وجل الهدى بمعنى زيادة الهدى، فقال: {وَيَزِيدُ اللََّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} (12) وقال: {وَزِدْنََاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} (13) وقال:
{فَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ} (14) والمراد بذلك أجمع:
ما يفعله الله تعالى من الألطاف والتأييد، والخواطر، والدواعى. وإنما يوصف (15)
ذلك بأنه هدى لأنه يحل محل الأدلة «فى أنه (16) كالطريق لفعل الطاعة والباعث عليه.
__________
(1) سورة البقرة: 5.
(2) سورة الانسان: 3.
(3) سورة البلد: 10.
(4) سورة الشورى: 52.
(5) سورة الرعد: 7.
(6) سورة الأنبياء: 73.
(7) سورة الأعراف: 159.
(8) سورة الإسراء: 9.
(9) سورة الجن: 2.
(10) سورة الأحقاف: 30.
(11) سورة النحل: 16.
(12) سورة مريم: 76.
(13) سورة الكهف: 13.
(14) سورة الأنعام: 125.
(15) د: وصف.
(16) ف: لأنه.(1/131)
وقد ورد بمعنى نفس الثواب، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمََالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بََالَهُمْ} (1)، والمراد به الثواب، لأنه بعد القتل لا يجوز أن يراد به الإيمان، ولا نصب الأدلة، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمََانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهََارُ} (2) فبين أن المراد بالهدى هو الثواب الذى وصفه آخرا.
وقد يراد بالهدى أن يسلك به طريق الجنة والمنفعة، وهو الذى «أراده تعالى (3) بقوله: {اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (4) على أحد التأويلين، لأن «المراد به: اسلك بنا (5) طريق الجنة. وقد ذكر تعالى ذلك فى طريق الجحيم على جهة التشبيه، فقال: {فَاهْدُوهُمْ إِلى ََ صِرََاطِ الْجَحِيمِ} (6). وقال عز وجل فى وصف الكفار: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللََّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلََا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلََّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} (7) والمراد بذلك الهدى بمعنى الأخذ بهم فى طريق دون غيره، فبين أنهم مع كفرهم وظلمهم لا (8) يأخذ بهم فى طريق الجنة، ثم بين أنه يسلك بهم طريق الجحيم.
فإن قال: فقد قال تعالى: {عَسى ََ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوََاءَ السَّبِيلِ} (9) وهذا لا يمكن أن يحمل على ما ذكرتم: لأنه تعالى قد بين ودل، فلا يصح أن يقول نبى من أنبيائه: {عَسى ََ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي} وقد تقدم من الله الدلالة والبيان على سواء السبيل!
__________
(1) سورة محمد: 54.
(2) سورة يونس: 9.
(3) ف: أراد.
(4) سورة الفاتحة: 6.
(5) ف: المراد يسلك بهم.
(6) سورة الصافات: 23.
(7) سورة النساء: 169168.
(8) ساقطة من د.
(9) قال تعالى فى قصة موسى عليه السلام:
{(وَلَمََّا تَوَجَّهَ تِلْقََاءَ مَدْيَنَ قََالَ عَسى ََ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوََاءَ السَّبِيلِ)}. سورة القصص 22.(1/132)
قيل له: المراد بذلك الدلالة، لكنه أراد به أن يبين له بألطافه الطريق الذى قصده وتوجه إليه، فأما الدلالة على الدين فقد فعلها عز وجل له ولغيره.
وأما قوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ} (1) فالمراد به غير الدلالة والبيان، لأنه قد دلهم وبين لهم. والمراد به الثواب أو زيادة الهدى، على ما بينا.
وقوله عز وجل: {إِنَّكَ لََا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (2) كمثل، فى أن المراد به الثواب وما شاكله، ولو أريد به البيان لما صح أن يقول فيه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) ويقول فيه {إِنَّمََا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هََادٍ} (4)
ويقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ََ وَدِينِ الْحَقِّ} (5).
فأما تعلقهم بقوله تعالى: {وَزِدْنََاهُمْ هُدىً} (6) على أن الهدى هو الإيمان، فإنما كان يتم لهم لو شهدت به «اللغة العربية ولم (7) يحتمل الكلام سواه، وقد بينا أن المراد به أنه زادهم لما آمنوا واتقوا ألطافا وأدلة بعثهم بها على التمسك بالإيمان، وعلى هذا الوجه، قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ} (8)، لأنه دعاه بذلك إلى الثبات على الإيمان، كما دعاه بضيق الصدر الذى أورثه الكافر إلى مجانبة الكفر والعدول عنه.
فحصل من هذه الجملة أنه تعالى يهدى، بمعنى (9): الدلالة والبيان وذلك عام فى كل مكلف، لأنه كما عمهم بالتكليف فلا بد أن يعمهم بما يدل عليه، وإلا كان تكليفا بما لا يمكن أن يفعل.
__________
(1) سورة الأحقاف: 10.
(2) سورة القصص: 56.
(3) سورة الشورى: 52.
(4) سورة الرعد: 7.
(5) سورة التوبة: 33.
(6) سورة الكهف: 13.
(7) ف. اللغة لم.
(8) سورة الأنعام 125.
(9) د. يعنى.(1/133)
وقد يضاف إليه ذلك، بمعنى زيادة الهدى، ويخص بذلك تعالى من قد اهتدى وآمن، لأنه كاللطف وكالثواب له فيخصه بذلك دون الكافر الذى (1)
اللطف فيه أن يضيق صدره بما هو فيه ليكون أقرب إلى أن يقلع عن الكفر.
وقد يضاف إليه، بمعنى الثواب على ما ذكرناه: لأنه المختص بأنه يثيب دون غيره، وذلك مما يختص به المؤمن.
وقد يضاف إليه ذلك، بمعنى الأخذ بهم فى طريق الفوز والنجاة، وذلك أيضا مما يختص به المؤمن.
فأما إضافة الهدى، بمعنى خلق الإيمان والطاعة، فغير موجود فى اللغة ولا فى الكتاب، وإنما يوصف المؤمن بأنه قد اهتدى، ويوصف تعالى، من حيث دله وسهل سبيله «إليه بأنه قد هداه (2)».
فأما الضلال: فالأصل فيه أنه الهلاك، ويستعمل فيما يجرى مجرى الطريق إليه، أو يكون حقيقة فيما يؤدى إلى الهلاك (3)، على ما بيناه فى الهدى.
وقد ورد الكتاب فيه بوجوه: منها أنه تعالى أضافه إلى نفسه بمعنى العقاب وسماه ضلالا: فقال {وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ} (4) {وَيُضِلُّ اللََّهُ الظََّالِمِينَ} (5)
__________
(1) ساقطة من د.
(2) د: وبأنه هداه هداه، كما تكررت فيها عبارة: وإنما يوصف المؤمن بأنه قد اهتدى.
(3) انظر القاموس: 4/ 5اللسان / 11/ 390طبع بيروت، وقال ابن قتيبة: «الضلال:
الحيرة والعدول عن الحق والطريق. يقال ضل عن الحق، كما يقال: ضل عن الطريق، ومنه قوله تعالى: {(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ََ)} والضلال: النسيان، والناسى للشيء عادل عنه وعن ذكره، قال الله تعالى: على لسان موسى عليه السلام {(قََالَ فَعَلْتُهََا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضََّالِّينَ)}
أى: الناسين. والضلال: الهلكة والبطلان، ومنه قوله تعالى: {(وَقََالُوا أَإِذََا ضَلَلْنََا فِي الْأَرْضِ)}
أى: بطلنا ولحقنا بالتراب، ويقال: أضل القوم ميتهم: أى: قبروه» انظر تأويل مشكل القرآن، ص: 353.
(4) سورة البقرة: 26.
(5) سورة إبراهيم: 27.
(م 5متشابه القرآن)(1/134)
فتخصيصه الفاسق به ونفيه عن غيره، يدل على أن المراد به العقاب الذى يختص به دون ما سواه. وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلََالٍ وَسُعُرٍ} (1) وقال:
{بَلِ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذََابِ وَالضَّلََالِ الْبَعِيدِ} (2) وقال: {إِنْ أَنْتُمْ إِلََّا فِي ضَلََالٍ كَبِيرٍ} (3) وكل ذلك يراد به العقاب.
ووصف تعالى ما يجرى مجرى إبطال العمل الذى يؤدى إلى النجاة بذلك، فقال: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمََالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ} (4) وقال:
{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} (5) وقال: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ أَضَلَّ أَعْمََالَهُمْ} (6).
وقد أضاف ذلك إلى نفسه بمعنى الضلال عن زيادة الهدى لأنه إذا سلبهم ذلك للمصلحة، أو على سبيل العقوبة، جاز أن يقول: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} 7 يعنى: عن الزيادات المؤدية إلى شرح الصدر، {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} (7)
ولا يكون ذلك منعا من الإيمان، بل يكون بعثا عليه! لأن من ضاق صدره بالشيء وتحير فيه طلب الخلاص منه، نحو ما نعلمه من حال الشاك المتحير فى أمر الدين والدنيا، وهذا هو المراد بقوله تعالى، حكاية عن موسى: {فَعَلْتُهََا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضََّالِّينَ} (8) لأنه أراد بذلك: من الذاهبين عن العلم بحاله وأنه معصية لأن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز أن يضلوا عن الحقيقة، وهو المراد بقوله:
__________
(1) سورة القمر: 47.
(2) سورة سبأ: 8.
(3) سورة الملك: 9، وفى الأصل: إن كنتم.
(4) سورة محمد: 54.
(5) سورة الكهف: 104.
(6) سورة محمد: 1.
(7) سورة الأنعام: 125.
(8) سورة الشعراء: 20.(1/135)
{أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا فَتُذَكِّرَ إِحْدََاهُمَا الْأُخْرى ََ} (1) بأن يذهب عنه ويسهو، وهو الذى أراده بقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ََ} (2) أى: ذاهبا عن النبوة والأحوال العظيمة، فهداك إليها.
ويجوز أن يضاف الضلال إليه تعالى، بمعنى أن يذهب بهم عن طريق الجنة إلى طريق النار. وكما أن أحدنا فى الشاهد إذا عدل به الإنسان عن طريق نجاته إلى طريق هلاكه يقال: أضله، فكذلك فيه تعالى، وإن كان ما فعله يحسن من حيث استوجبوا بكفرهم وبسوء اختيارهم.
فعلى هذه الوجوه يجوز أن ينسب الضلال إليه تعالى (3)، فأما بمعنى خلق نفس الكفر فيهم أو الدعاء إليه، أو تلبيس الأدلة، فذلك مما لا يجوز عليه تعالى، وقد وصف به الشيطان وذمه بذلك، فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً} (4) وقال: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمََا هَدى ََ} (5) وقال: {لَهَمَّتْ طََائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} (6) «وقال فى قريب من ذلك: {وَلََا تَتَّبِعِ الْهَوى ََ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ} (7) وقال فيهم: {إِنْ هُمْ إِلََّا كَالْأَنْعََامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} (8) وقال:
{وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذََابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (9)، وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلََالًا مُبِيناً} (10). وقال: {يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} (11)
__________
(1) سورة البقرة: 282.
(2) سورة الضحى: 7.
(3) انظر أقاويل المعتزلة فى «الضلال» مقالات الإسلاميين: 1/ 229.
وانظر فيما يره غيرهم فيه: الابانة: 59. الفصل: 3/ 5146.
(4) سورة يس: 62.
(5) سورة طه: 79.
(6) سورة النساء: 113وفى د: لقد همت!.
(7) ساقط من: د.
(8) سورة الفرقان: 44.
(9) سورة الفرقان: 42وفى الأصل: فسيعلمون.
(10) سورة الأحزاب: 36.
(11) سورة النساء: 176.(1/136)
بمعنى (1) النفى والإنكار، ولو أنه تعالى أضل، بأن خلق الكفر، أو (2) بأن دعا إليه، لم ينسب ذلك إلى غيره ولا «ذم عليه (3)، ولكان الضال معذورا لأنه تعالى اضطره إليه (4)، وفعله فيه!
ثم نعود إلى الآية فنقول:
قد بينا أن ظاهر الضلال ليس هو الكفر بل هو الهلاك، وإنما سمّى الكفر به من حيث يؤدى إليه، فكيف يصح تعلقهم بالظاهر؟
وبعد، فلو كان محتملا مشتركا، لكان لا تعلق لهم فى الظاهر لأنه ليس بأن يحمل على ما قالوه، أولى من أن يحمل على ما قلناه، من أنه يهلك ويعاقب من يستحق ذلك.
وبعد، فإن حمله على هذا الوجه أولى لأنه تعالى قد ذكر فى آخره ما يشهد له فقال: {وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ} فخبر أنه إنما يضل بما تقدم ذكره الفاسق، ولو كان المراد به الكفر والمعصية، لكان قد أضل به الفاسق والكافر والمؤمن، إذا ارتد، والمبتدئ بالكفر وما تقدم منه إيمان ولا فسق!
فإن قال: فكيف يريد به العقوبة وقد قال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً} فنسبه إلى المثل الذى ضربه. وليس للعقوبة بها تعلق؟
قيل له: إذا ثبت أن المراد به العقوبة، حمل الكلام على أن فيه حذفا، ويكون التقدير فيه أن نقول: يضل بالكفر كثيرا فى الآخرة، لأن من كفر
__________
(1) د: على.
(2) ف: و.
(3) د: ذمه.
(4) ساقطة من ف.(1/137)
بذلك يضله فى الآخرة، بمعنى أنه يعاقبه، أو يأخذ به عن طريق الجنة إلى طريق النار.
وأراد بقوله: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} أحد أمرين: إما الدلالة والبيان. وخص به كثيرا لأنهم الذين اهتدوا، كما خص المتقين بذلك فيما قدمناه من الآية، لهذه الجملة (1)، وتجوز. وإما أن يريد به: ويهدى بالإيمان به فى الآخرة إلى طريق الجنة كثيرا، وكل ذلك يبين أنه لا يدل على ما ذهبوا إليه.
وقد قيل: إنه أضاف الضلال إلى نفسه لما ضلوا عند ضربه المثل، على مجاز الكلام، كقوله: {وَأَضَلَّهُمُ السََّامِرِيُّ} (2) لما ضلوا عند دعائه، وكقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النََّاسِ} (3) لما ضلوا عندها وبسببها، وكقول العربى لمن فعل ما عنده ظهر فى الغير التعب أو البخل أو الجبن: إنه (4) أتعبه وأبخله.
وهذا كثير فى اللغة.
ثم يقال للقوم: لولا أن المراد بالضلال العقوبة، على ما نقوله، لم يذمهم بذلك، ولما صح أن يقول: {وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثََاقِهِ} (5) إلى آخره، فيصفهم بماله استوجبوا العقاب، «ولما صح أن يضيف إليهم الفسق ونقض العهود، إلى غير ذلك مما نسبه إليهم (6)، ولما صح أن يصفهم بأنهم الخاسرون (7)، لأن الخاسر فى اللغة، هو الذى فعل
__________
(1) ف: الخلة.
(2) سورة طه: 85.
(3) سورة إبراهيم: 36.
(4) د: لأنه. وفيها حرف العطف السابق الواو بدل أو.
(5) سورة البقرة: 2726.
(6) ساقط من د.
(7) تتمة الآية: 27 {(وَيَقْطَعُونَ مََا أَمَرَ اللََّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، أُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ).}(1/138)
ما أورثه الحرمان والمضرة، ولو لم يكن منهم فعل لما وصفهم بذلك، ولولا صحة ما قلناه، لما جاز أن يقول تعالى بعد ذلك: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللََّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوََاتاً فَأَحْيََاكُمْ} (1)؟ فيذمهم ويوبخهم، ويؤكد ذلك بذكر نعمة الله عليهم، وهم (2)
مع ذلك كالظروف لا يفعلون، وإنما يفعل فيهم.
وقد بين شيوخنا أن على قولهم لا يكون لله عز وجل على الكفار (3) نعمة، ولا يمكن القول بأنه يلزم شكره وعبادته، بل يجب القول بأنه يستحق الذم، بل أعظم الذم!! وبيان ذلك أن النعمة هى المنفعة التى «لا يعقبها مضرة (4) أعظم منها، إذا كانت حسنة (5)، ولذلك (6) لا يعد من أطعم غيره خبيصا مسموما بأنه من المنعمين. فإذا صح ذلك وكان عند القوم أن الله تعالى خلق الكفار للنار، وما خلقهم إلا لها، وعلى ذلك يحملون قوله عز وجل: {(لَقَدْ ذَرَأْنََا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (7) ويروون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى: خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالى، وهؤلاء للنار ولا أبالى (8)) ومن خلق
__________
(1) سورة البقرة: 28
(2) د: وهو.
(3) د: الكافر
(4) ف: لا تعقب بمضرة.
(5) النعمة هى: «كل منفعة حسنة واصلة إلى الغير إذا قصد فاعلها بها وجه الإحسان إليه» وانظر فى بيان شرحها وحقيقتها وخلافهم فى قيد «الحسن» وبيان حقيقة المنعم:
شرح الأصول الخمسة: 8177.
(6) فى د: وكذلك.
(7) سورة الأعراف: 179.
(8) روى مسلم بن يسار الجبني أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه سئل عن هذه الآية {(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قََالُوا بَلى ََ شَهِدْنََا، أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيََامَةِ إِنََّا كُنََّا عَنْ هََذََا غََافِلِينَ)}. فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسأل عنها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار ولعل أهل النار يعملون» الحديث، أخرجه الإمام مالك فى الموطأ 2/ 899898(1/139)
الحىّ ليستدرجه إلى الكفر، ولكى يعاقبه بين أطباق النيران أبد الآبدين ودهر الداهرين، ولم يخلقه إلا لذلك وما أراد منه سواه، وما مكّنه إلا منه، لا يجوز أن يكون منعما عليه، وذلك كفر عند الأمة وردّ لنص الكتاب الذى ذكرناه وغيره، وصح أن الشكر إنما يلزم المنعم عليه لأنه اعتراف بالنعمة على وجه مخصوص (1)، فإذا كان عند القوم أنه تعالى لم ينعم على الكافر، لزمهم ذلك «على ما بيناه (2)، ولم يمكنهم أن يقولوا بوجوب الشكر عليه، وذلك كفر عند الأمة، لأنهم يقولون: إن (3) من قال بأنه لا يلزم أحدا من العقلاء شكر الله فهو كافر. والعبادة إنما تجب للنعم العظيمة التى هى أصول النعم التى تستقل بنفسها (4) ولا تتم سائر النعم إلا بها، ولذلك اختص تعالى بأنه يستحق (5)
العبادة دون غيره، لما اختص بأن فعل أصول النعم، على ما بيناه، وقد بينا
__________
فى كتاب القدر، والترمذى فى صحيحه: 11/ 196194 (كتاب التفسير) وقال فيه:
«هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم فى هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلا مجهولا» وأخرجه أبو داود كلهم بلفظ واحد وذكر انقطاعه، ونقل جملة من أقوالهم فى تضعيفه وأنه لا تقوم به حجة كما قال ابن عبد؟؟؟.
انظر مختصر سنن أبى داود للحافظ المنذرى، ومعالم السنن للخطابى 7/ 7371الأسماء والصفات للبيهقى بتحقيق الشيخ زاهد الكوثرى 326325مطبعة السعادة بمصر. ولا تعرف هذه الرواية إلا من هذا الطريق، والرواية التى ذكرها المؤلف أقرب الروايات منها ما ذكره السيوطي فى الفتح الكبير فى قصة خلق آدم السابقة (هؤلاء فى الجنة ولا أبالى، وهؤلاء فى النار ولا أبالى) أخرجه ابن عساكر عن أبى الدرداء، ويكتفى السيوطي عادة بذكر ابن عساكر عن النص على ضعف الحديث، على ما ذكره فى مقدمته. الفتح الكبير: 2/ 89.
(1) عرف القاضى الشكر بقوله: «هو الاعتراف بنعمة المنعم مع ضرب من التعظيم) شرح الأصول: 8481.
وانظر فى نقض كلام المعتزلة فى وجوب شكر المنعم عقلا: المستصفى للغزّالى 1/ 39الطبعة الأولى 1356.
(2) د: بما بيناه.
(3) ساقطة من د.
(4) ساقطة من د.
(5) د: استحق.(1/140)
أنه لا نعمة لله على الكافر، على قولهم، فكيف يصح أن تلزمهم عبادته؟
وعلى قولهم، هو الذى تعالى خلق فيهم الضلال والقدرة الموجبة للكفر، وسلبهم قدرة الإيمان ونفس الإيمان، وجعلهم بحيث لا يمكنهم الانفكاك عماهم فيه من الكفر والضلال، فيجب أن يكون ضرره على هذا الكافر أعظم من ضرر إبليس وجنوده لأنهم إنما يدعون إلى الضلال فقط. ولا سلطان لهم على الكافر إلا بالوسوسة فقط، وفاعل المضرة أعظم حالا فى الذم والإساءة من الداعى إليه، فيجب على قولهم أن يكون تعالى أحق بالذم من إبليس عليه اللعنة.
تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا!.
23 - مسألة: قالوا: وقد قال تعالى ما يدل على أنه جسم (1) يجوز عليه المكان فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى ََ إِلَى السَّمََاءِ} (2) والاستواء (3) إنما يصح على الجسم، كما أن القيام والقعود إنما (4)
يصحان عليه، ويوجب جواز الانتقال عليه أيضا.
__________
(1) زعم هشام بن الحكم الشيعى وأكثر الروافض أن معبودهم جسم، وأنه فى مكانه على العرش، وتابعهم فى ذلك كما يقول الشهرستانى جماعة من أصحاب الحديث الحشوية، ذكر الأشعرى منهم مقاتل بن سليمان الذى قال: إن الله تعالى جسم وأنه جثة على صورة الإنسان، وقد عرف هؤلاء ب «المجسمة» على خلاف بينهم فى قدر البارى سبحانه وصورته وغير ذلك. وأنكر بعض من قال بالجسمية القول بالصورة، وكذلك العكس، تعالى الله عن كل هذا علوا كبيرا. انظر: المقالات 1/ 105102، 259257. الفرق بين الفرق للبغدادى، طبع محمد محيى الدين عبد الحميد، ص: 65، الملل والنحل للشهرستانى:
1/ 139، بهامش الفصل. نشأة الفكر الفلسفى فى الاسلام، للأستاذ الدكتور على سامى النشار: 2/ 238، 276فما بعدها. الطبعة الثانية. نشر دار المعارف بمصر.
(2) الآية: 29من سورة البقرة وتتمتها {(فَسَوََّاهُنَّ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)}.
(3) د: فالاستواء.
(4) ساقطة من د.(1/141)
والجواب عن ذلك، أن الاستواء محتمل فى اللغة (1)، وتختلف مواقعه بحسب ما يتصل به من القول: فقد يراد به الاستيلاء والاقتدار، وهو الذى عناه الشاعر بقوله:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق (2)
وإنما أراد أن بشر بن مروان استولى على العراق واقتدر عليها وعلا وظهر لأنه لا يجوز أن يمدحه بأنه جالس فى موضع بالعراق! ولأنه لو أراد المكان لذكر موضعا مخصوصا لأن كل العراق لا يكون مكانا لاستوائه، وقد يقول الفصيح: قد استوى لفلان هذه المملكة واستوى له هذا الأمر.
وقد يراد بالاستواء تساوى الأجزاء المؤلفة. وذلك نحو قولهم استوى الحائط، واستوت الخشبة: إذا تألفت على وجه مخصوص.
وقد يستعمل ذلك بمعنى القصد «فيقال: استويت على هذا الأمر واستقام
__________
(1) قال أبو جعفر الطبرى: (الاستواء فى كلام العرب منصرف على وجوه: منها: انتهاء شباب الرجل وقوته، فيقال إذا صار كذلك: قد استوى الرجل.
ومنها: استقامة ما كان فيه أود من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره، اذا استقام له بعد أود. ومنه قول الطرمّاح بن حكيم:
طال على رسم مهدد أبده ... وعفا واستوى به بلده
يعنى: استقام به.
ومنها: الاقبال على الشيء بالفعل، كما يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوؤه بعد الاحسان إليه.
ومنها: الاحتياز والاستيلاء، كقولهم: استوى فلان على المملكة، بمعنى: احتوى عليها وحازها.
ومنها: العلو والارتقاع، كقول القائل. استوى فلان على سريره، يعنى به: علوّه عليه.
انظر: جامع البيان: 1/ 192191طبع البابى 1373.
(2) هو بشر بن مروان أخو الخليفة الأموى عبد الملك، ولى لأخيه إمرة العراقين، وكان يجيز على الشعر بألوف، وقد امتدحه الفرزدق والأخطل، توفى بالبصرة سنة 74. والبيت للأخطل يمدحه فيه. البداية والنهاية لابن كثير: 9/ 7.(1/142)
لى، بمعنى: قصدت إليه (1).
وقد يقال: (2) استوى حال فلان فى نفسه وماله، ويراد بذلك زوال الخلل والسقم.
وقد يراد بذلك الانتصاب جالسا أو راكبا أو قائما، كما يقال: استوى فلان على الكرسى، وعلى دابته.
وإذا كانت اللفظة تستعمل على هذه الجهات، فكيف يصح للمشبهة التعلق بها؟
وقد ذكر أبو على (3) رحمه الله أن المراد بذلك: ثم قصد لخلق (4) السماء وأراد ذلك، ولذلك (5) عداه ب «إلى» ولا يكاد يعدّى ب «إلى» ذلك إذا أريد به الاستواء على المكان.
ويبين ذلك أنه لو أريد به الاستواء على المكان لوجب أن تكون السماء مخلوقة من قبل هذا الاستواء، ليصح أن يستوى عليها وينتقل إليها، والآية تدل على خلافه (6) لأنه تعالى قال: {ثُمَّ اسْتَوى ََ إِلَى السَّمََاءِ فَسَوََّاهُنَّ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ}، يبين ذلك أنه تعالى ذكر هذه الآية على جهة الامتنان، ولو أراد به
__________
(1) ساقط من د.
(2) ى: فيقال.
(3) هو أبو على الجبّائى (303) وقد سبقت ترجمته، انظر الفقرة السابقة.
(4) ف: خلق.
(5) د: وكذلك.
(6) واضح أن المشبهة لا تعلق لهم بالآية، ولكن استواء الله تعالى إلى السماء كان بعد خلقها وقبل أن يسويهن سبع سماوات، كما قال تعالى: {(ثُمَّ اسْتَوى ََ إِلَى السَّمََاءِ وَهِيَ دُخََانٌ فَقََالَ لَهََا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيََا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً)} فهذا القصد كان بعد أن خلقها دخانا وقبل أن يسويها سبع سماوات. انظر الطبرى: 1/ 192.(1/143)
أنه (1) انتقل إلى السماء جالسا لم يكن علينا بذلك نعمة، لأن حالنا فيما يختصّنا من النعم لا يختلف بأن تتغير أماكنه لو جازت عليه، تعالى الله عن ذلك، فيجب أن تحمل الآية على أن المراد بها أن خلق لنا ما فى الأرض، وخلق لنا السموات وسواها، لتتكامل بخلقها النعم علينا من الوجوه التى لا تحصى.
ثم يقال للقوم: إن كان الأمر كما ظننتم فيجب أن يكون تعالى محتاجا إلى مكان، لأنه كان على الأرض ثم استوى إلى السماء وانتقل إليها، وهذا يوجب حاجته إلى المكان فيما لم يزل، وفى ذلك قدم الأجسام، ونقض القول بأنه خلق السموات والأرضين. بل يوجب أن يكون تعالى محدثا، لأن من جاز عليه الانتقال والمجيء والذهاب، فلا بد من (2) أن يكون جسما مؤلفا، وما هذا حاله لا يخلو من الحوادث، وفى هذا إبطال الصانع أصلا، فضلا عن أن يتكلم فى صفاته!.
وإن سأل المجبّر (3) فقال: إن قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}، وفى الأرض الفساد والظلم وأفعال العباد، فيجب أن يدل ظاهره على أنه الخالق لها (4)!.
__________
(1) ساقطة من د.
(2) د: و.
(3) الجبر: هو نفى الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الله تعالى، والجبرية على أنواع، والمعتزلة يسمون بالمجبرة كل من لم يثبت للقدرة الحادثة استقلالا فى الابداع والاحداث، فسواء عندهم من ينفى عن العبد الفعل والقدرة عليه، أصلا ومن يثبت له قدرة غير مؤثرة، أو من يقول بالكسب (اقتران قدرة الانسان بالفعل) أى: من يثبت للقدرة الحادثة «أثرا ما» فى الفعل.
الملل والنحل: 1/ 108مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية: 5/ 142. ضحي الاسلام 3/ 5756.
(4) د: لهذه.(1/144)
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يدل على أنه خلق ما فى الأرض، ولا يعلم أن فى تلك الحال التى خلق هذه الأمور كان هناك فساد على ما ذكرته. فظاهره لا دلالة لك فيه.
وبعد، فإن قوله. {مََا فِي الْأَرْضِ} يقتضى كون ذلك الشيء فى الأرض، والأرض ظرف له ومكان، وهذا إنما يصح فى الأجسام دون أفعال العباد، يبين ذلك أنه تعالى قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} فيجب أن «يكون المخلوق (1) لنا، فلا يجوز أن يراد به فعلنا، بل يجب أن يكون الأمور التى ينتفع بها، وهذا لا يكون إلا الأجسام.
فإن سأل من يقول بالإباحة فقال: إن قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} يدل على أن هذه الأمور كلها مباحة ولنا التصرف فى جميعها، فكيف قولكم فيه؟
فالجواب عن ذلك: أنه تعالى فى الجملة خلق ما فى الأرض للعباد لكى ينتفعوا بها (2)، فالظاهر فى الجملة لا يخالف ما ثبت بالدليل، فأما من جهة التفصيل فلا بد من شرط، ولا فرق بين أن يكون منطوقا به أو معروفا بالعقل، وهو أن لنا أن نتصرف فيه، ما لم يؤد إلى مضرة على وجه، لأنه لا شبهة فى أنه تعالى إذا خلق السموم فليس لنا تناولها (3) لما أدى إلى مضرة، فالمراد به (4)
ما ذكرناه، والمضرة قد تكون «عاجلة وآجلة، وقد تكون (5) فينا وفى غيرنا، فمتى انتفت كان لنا الانتفاع بما فى الأرض. وهذه الجملة مبينة فى باب الحظر
__________
(1) د: تكون المخلوقات.
(2) ساقطة من د.
(3) ف: أن نتصرف فيه بتناوله.
(4) ساقطة من ف.
(5) ساقط من د.(1/145)
والإباحة من أصول الفقه (1).
فإن قال: إن كان فى جملة ما فى الأرض ما يحرم التصرف فيه، فكيف امتنّ علينا فى جميعه بأنه خلقه لنا؟
قيل له: إن ما يحرم تناوله قد ينتفع به بالاعتبار وبالاستدلال، وبأن تميزه من غيره فى أنه يجب تجنبه، فإذا شق ذلك علينا انتفعنا به من جهة الثواب، فربما يزيد النفع بالمحرّم، من الوجه الذى قلنا، على النفع بالمحلل لأن ذلك عاجل منقطع، وهذا آجل دائم.
25 - وقوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يبين فساد قول المشبهة لأنه لو كان جسما ذا قلب، لوجب أن تكون علومه متناهية، فكان لا يصح أن يكون عالما بكل شيء.
26 - مسألة: قالوا: وقد ذكر تعالى فيها بعد ذلك ما يدل على أنه يريد الفساد (2) بقوله: {وَإِذْ قََالَ رَبُّكَ لِلْمَلََائِكَةِ إِنِّي جََاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قََالُوا:}
__________
(1) فى كتب الفقه باب الحظر والاباحة أو كتاب الاستحسان كما يسمونه وهو يحوى على مسائل أو أحكام بنيت فى دلالتها على الاستحسان، وفى كتب الأصول والقواعد الفقهية بيان لهذا الأصل، أو هذه القاعدة المعروفة: الأصل فى الأشياء الاباحة، وما يتصل بها من القواعد الفرعية، وقد شرح قاضى القضاة رحمه الله ما أجمله هنا من شروط الانتفاع بالمباح وبيان المحظور، فى الجزء الخاص بالشرعيات من كتابه: المغنى: «فصل فى بيان ما هو أصل فى الخطر، وما هو أصل فى الاباحة وما يتصل بذلك».
المغنى: 17/ 148145. وانظر: بدائع الصنائع: 5/ 118فما بعدها وأصول التشريع الاسلامى للأستاذ على حسب الله / ص: 168: الطبعة الثالثة.
(2) الخلاف بين المعتزلة وغيرهم حول إرادته تعالى للكفر والفساد، أو للقبيح، مبنىّ على خلافهم فى فهم هذه الارادة «أهى مطلقة لا تنطبق عليها معايير الحسن والقبح، أو العدل والظلم، أم تخضع لحكمته وعدله» فعند الأشاعرة: أنها مطلقة، ولا يوصف فعله سبحانه الذى قد يخالف ما يوجبه العقل بأنه قبيح أو ظلم، كإنابة العاصى وعقاب المؤمن. وعند المعتزلة(1/146)
{أَتَجْعَلُ فِيهََا مَنْ يُفْسِدُ فِيهََا وَيَسْفِكُ الدِّمََاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [30] فلما لم ينكر ذلك من قولهم» دل على أنه أراد الفساد!
والجواب عن ذلك: أن العلم بأن «العاصى يعصى (1) فى المستقبل لا يوجب كون العالم مريدا (2)، لأنا نعلم ذلك من إبليس، ومن الكفار ولا نريدها منهم بل نكرهها ونسخطها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يعلم من أبى لهب وغيره أنه يستمر على كفره ولم يكن يريد ذلك، بل كان يكرهه وينهى عنه ويزجر عن فعله، فإذا لم يقتض إلا أنه تعالى علم أنهم يفسدون فى الأرض فقط، وهذا لا يوجب كونه مريدا لفسادهم، فقد (3) بطل تعلقهم بالظاهر.
فإن هم فزعوا إلى أن يقولوا: إنه تعالى إذا علم أنهم يفسدون ثم اخترع وكلف وأسكن الأرض، دلت هذه الجملة على أنه يريد فسادهم، فهذا تعلق بغير الظاهر، وهو مع ذلك فاسد لأن الواحد منا قد يفعل الآلة ويغلب فى ظنه أنها تستعمل فى الفساد، ولا يجب أن يريد ذلك، وهذا مما نجده فى أنفسنا.
وكذلك إذا قالوا: إنه تعالى لما فعل ذلك وهو متمكن من المنع منه
__________
والماتريدية: أنه لا بد من قياس أفعاله تعالى على أفعال العبد وتنزيهه عن إتيان القبيح والجور، فلا يتصور منه سبحانه وقوع الظلم أو الأمر بالفساد.
والمسألة أيضا فيما يبدو متصلة بخلافهم فى خلق الأفعال، فحين ثبت عند الأشاعرة أن أفعال العبد مخلوقة لله، وفى العالم القبائح والشرور قالوا: إنها منه سبحانه، وأنه قد أراد لعباده العاصين الكفر «وأراد لكل ما كان» فى حين لم يلزم المعتزلة شيء من هذا، لتنزيههم إرادة الله تعالى، وقولهم: إن أفعال العباد مخلوقة لهم.
انظر فى تفصيل هذا الموضوع: مقدمة فى نقد مدارس علم الكلام للأستاذ الدكتور محمود قاسم (مع مناهج الأدلة لابن رشد) الطبعة الثانية، ص: 10488.
(1) د: المعاصي.
(2) د: مريدا لها.
(3) ساقطة من د.(1/147)
ولم يمنع، دل على أنه يريد الفساد، فذلك باطل لأن النصرانيّ الضعيف قد نتمكن من منعه من الاختلاف إلى البيع، ولا يجب أن نريد اختلافه إليها (1).
ثم يقال للقوم: إنه تعالى بما حكاه عن الملائكة من فصلهم بين الطاعة والمعصية، وبين المفسد فى الأرض والمسبّح والمقدّس لله، دل على أنه تعالى إنما أراد الطاعة دون الفساد لأنه لو كان أرادهما جميعا لم يكن لهذا القول منهم معنى.
وبعد، فلو كان الفساد والتسبيح والتقديس من قبله تعالى وبإرادته، لم يكن ليمدحوا أنفسهم، وليفضلوها بأنهم يسبّحون ويقدّسون على من يفسد فى الأرض لأن الأسود لا يصح أن يفتخر على الأبيض، على هذا الحد، لمّا كانا جميعا من قبله تعالى.
وقوله تعالى: {قََالَ إِنِّي أَعْلَمُ مََا لََا تَعْلَمُونَ} يدل على أنه أراد به أن يعلم أن (2)
الصلاح أن يجعل ذلك الخليفة فى الأرض، وإن كان المعلوم أنه يقع من بعض ولده الفساد، وأن قصده بجعله إياه خليفة فى الأرض، هو ذلك الوجه من الصلاح، دون الفساد الواقع منهم.
27 - مسألة: قالوا: وقد ذكر بعد ذلك ما يدل على أنه تعالى يكلف العبد ما لا يطيقه، ولا سبيل له إلى إيجاده فقال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا}
__________
(1) قال القاضى: «وعلى هذا يكف أحدنا فى كثير مما يشاهده من المناكير عن إنكاره والمنع منه مع القدرة، ولا يدل هذا على إرادته الخ». انظر المحيط بالتكليف، ص: 303.
(2) ساقطة من د.(1/148)
{ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلََائِكَةِ فَقََالَ: أَنْبِئُونِي بِأَسْمََاءِ هََؤُلََاءِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} [31] ومعلوم من حالهم أنه لم يمكنهم أن يخبروه بهذه الأسماء، لفقد معرفتهم «بها، وهذا يدل على قولنا فى الاستطاعة والمخلوق جميعا (1).
والجواب عن ذلك، أن ظاهره لا يدل على ما قالوه لأنه إن كان أمرا فهو أمر بشرط أن يكونوا صادقين، فإن لم يكن معهم العلم بكونهم صادقين فيما يخبرون به، زال التكليف عنهم أصلا.
فإن قال: قد يكون (2) صادقا وإن لم يعلم ذلك، فما قلتموه لا يجب؟
قيل له: متى جعل ذلك شرطا فى التكليف، وجب أن يعلمه المكلف ليعلم أنه قد أدّى ما كلّف عند حصول شرطه، ويعلم خلافه عند زوال الشرط، فإذا وجب ذلك ولم يكن لهم إلى العلم به سبيل، فالتكليف زائل، فلم يحصل من ذلك أنه كلفهم على كل حال، فيكون لهم فيه متعلق، وذلك بمنزلة أمره تعالى المصلّى بأن يتطهر إن وجد الماء، فإذا لم يجده «لا يجب عليه (3)
أن يكون مأمورا به، فيتعلق بذلك فى أنه قد كلف ما لا يقدر عليه! فهذا الوجه يمنع من التعلق بالظاهر (4).
__________
(1) ساقط من ف. ونذكر هنا أنه قد تقدم قولهم فى القدرة: إنها مقارنة للمقدور (الفقرة:
13) وقد ألزمهم المعتزلة على هذا أن يكون تكليف الكافر بالايمان تكليفا لما لا يطاق، فالتزمه أكثرهم وجوزوا على الله تعالى أن يكلف العبد ما لا يطيقه، وقالوا: ليس فى العقل قبحه، وزاد الأشعرى أنه ليس فى السمع أيضا ما يمنع منه!، واستدل بالآية المذكورة. وقد شنع عليه القاضى لهذا فى كتابه: شرح الأصول الخمسة، وقال فى توجيه الآية: (وأما قوله تعالى:
{«أَنْبِئُونِي بِأَسْمََاءِ هََؤُلََاءِ»} فانما قال ذلك تعريفا لهم بالعجز عن الإنباء، لا أن [فى] ذلك تكليفا، وعلى هذا لو كان تكليفا لكان تكليفا لما لا يعلم! وذلك مما لا يجوزه القوم وإن أجازوا تكليف ما لا يطلق) انظر شرح الأصول 401400.
(2) أى المكلف.
(3) د: لم يجب.
(4) ساقطة من د.(1/149)
وبعد، فإن الظاهر إنما يدل على أنه أمرهم بما لا سبيل لهم إلى معرفته وتمييزه من غيره، وذلك ما لا يجيزه أكثر المجبّرة لأنهم إنما يجيزون الأمر بما لا يطاق إذا كان لا يحتاج المأمور فى ذلك إلا إلى القدرة فقط (1)، فأما إذا احتاج إلى غيره من علم وعقل وجارحة وآلة، فإنهم «لا يجيزونه ويجرونه (2) مجرى تكليف العاجز الذى يمتنع عليه الفعل والترك جميعا. وهذا الوجه أيضا يمنع من التعلق بالظاهر.
هذا، وقد علمنا أنه ليس بتكليف ولا أمر، بل هو تقريع وتقرير، وذلك أنه تعالى بين أنه خص آدم عليه السلام بأن علّمه الأسماء ليكون معجزا له، فأراد أن يبين للملائكة أن هذا الاختصاص يوجب نبوته، فقررهم بقوله:
{أَنْبِئُونِي بِأَسْمََاءِ هََؤُلََاءِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} على ذلك، ونبه من حالهم على أنهم إذا لم يختصوا بما اختص به آدم مما فيه انتقاض عادة، فيجب أن يكون نبيا، ولذلك حكى عنهم ما يدل على الانقياد، وهو قولهم: {قََالُوا سُبْحََانَكَ لََا عِلْمَ لَنََا إِلََّا مََا عَلَّمْتَنََا} (3) فبين أنه تعالى لما لم يختصهم بهذا العلم لم يحصل لهم كما حصل
__________
(1) وذلك كتكليف الكافر بالإيمان.
(2) فى د: لا يجرونه. والصواب ما فى ف، لأنهم يعتبرون هذا الأمر بمنزلة تكليف العاجز، وهذا يقبح عندهم، بخلاف الأول. ولا فرق عند المعتزلة بين تكليف الكافر والعاجز فى أنه يقبح، لأن الإيمان إنما يفعل بالقدرة دون الإطلاق والتخلية ونحو ذلك. راجع:
شرح الأصول: 403402.
والشريف المرتضى يدير الكلام فى هذه النقطة على لسان المعترض، فيقول: (كيف يأمرهم أن يخبروا بما لا يعلمون، أو ليس ذلك أقبح من تكليف ما لا يطاق، الذى تأبونه؟ والذى جوّز أن يكلّف تعالى مع ارتفاع القدرة لا يجوزه!) ثم يذكر وجهين فى تأويل الآية بما الا يخرج عن كلام القاضى رحمهما الله. الأمالى: 2/ 68.
(3) سورة البقرة: 32.(1/150)
لآدم صلّى الله عليه. وهذا بين لمن يدّبّره (1).
وصيغة الأمر قد ترد ولا تكون أمرا، بل تكون تهديدا وتقريرا وتقريعا وإباحة، ويعلم حاله بما يتقدم من الكلام ويتأخر، وقد بينا أن صدر الكلام يدل على أنه تقريع وليس بأمر. وقوله تعالى من بعد: {قََالَ يََا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمََائِهِمْ فَلَمََّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمََائِهِمْ قََالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مََا تُبْدُونَ وَمََا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (2) يدل جميعه على أن الغرض بالأول هو التقرير، لأنه لو كان تكليفا لكان لا يتغير حاله بأن يخبرهم آدم عليه السلام بالأسماء، ولم يكن لقوله تعالى عند ذلك: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} معنى، وإذا حمل على (3) أنه تقرير يحسن موقعه لأنه تعالى بعد إخبار آدم عليه السلام بيّن لهم (4)
أنه قد خصه بما أفرده من الأسماء مفصلا، وأنه تعالى يعلم الغيب، فلذلك صح أن يعرفه الأمور المستقبلة، ولذلك صح أن يخصه بذلك (5). وهذا بين.
فإن سأل بعض أصحابنا فقال: يجب أن تكون الآية دالة على أن الأسماء كلها توقيف، وأنها لا تقع بالمواضعة، وقال: إذا صح أن يعلم آدم جميع الأسماء لم يمتنع فى كل العباد أن يعلموا ذلك ويفهموا، فمن أين أن فيها ما وقع بالمواضعة؟.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر القول يدل على أنه تعالى علم آدم عليه السلام فقط الأسماء كلها، ولا يدل «على أن (6) ابتداء اللغات من أربابها وقع بالمواضعة أو التعليم، فلا يمتنع فى أرباب اللغات أن يكونوا تواضعوا عليها،
__________
(1) د: يريده.
(2) سورة البقرة: 33.
(3) ساقطة من د.
(4) ساقطة من د.
(5) ساقطة من ف.
(6) د: على أنه أن.(1/151)
وإن كان آدم عليه السلام قد عرف حالهم فيها.
واعلم أن الأسماء إنما توصف بذلك لا لصيغتها (1)، لكن لأنه قصد بها وجها مخصوصا. وقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا} ظاهره يقتضى تقدم كونها أسماء لأنها إذا لم تكن قد اختصت بذلك من قبل، كان تعالى مبتدئا باللغة. ومن علّم غيره ما تواضع عليه فى الحال لا يوصف بذلك، فيجب أن يكون المراد بذلك أنه علمه ما تقدمت المواضعة عليه، أو ما ستقع المواضعة عليه، وفى هذا إبطال ما تعلقوا به وتحقيق ما نقوله (2).
وقد بين شيخنا أبو هاشم (3) رحمه الله، أنه تعالى لا يصح أن يعرّف المكلف الأسماء كلها لأنه لا بد من مواضعة متقدمة على لغة واحدة، ليفهم بها سائر اللغات، فمتى لم تتقدم، لم يصح أن يعرفه مع التكليف لأن تعريف الأسماء يقتضى تعريف المقاصد، ولا يصح فيمن يعرف الله باستدلال أن يعرف مقاصده
__________
(1) ف: لا لصيغته.
(2) انظر الفصل الذى كتبه القاضى «فى صحة كون بعض اللغات توقيفا، وأن جميعها لا يصح فيها ذلك» مع مزيد البيان والاستدلال بهذه الآية: المغنى: الجزء الخامس (الفرق غير الإسلامية) تحقيق الأستاذ المرحوم محمود محمد الخضيرى ص 171166.
(3) هو أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهّاب الجبّائى، من كبار المعتزلة، وخليفة والده أبى على فى رئاستهم، وإليه تنسب فرقة «البهشمية» منهم نسبة إلى كنيته.
قال ابن كثير فى تعرفه بإيجاز: «المتكلم ابن المتكلم، المعتزلى ابن المعتزلى».
وذكر البغدادى أن أكثر معتزلة عصره كانت على مذهبه، وقد قدمه القاضى على رجال الطبقة التاسعة من طبقات المعتزلة، وهو يكثر فى كتبه من اعتماد آرائه وآراء والده حتى عد من المدرسة الجبائية (ومن أصحاب أبى هاشم لنصرته مذاهبه) بصفة خاصة كما يقول الحاكم. توفى أبو هاشم رحمه الله ببغداد سنة (321) انظر: شرح عيون المسائل: 1/ 129 الفرق بين الفرق: 184، طبقات المعتزلة: 94، البداية والنهاية: 94.(1/152)
ضرورة (1)، حتى إذا عرف لغة واحدة صح أن يخاطبه بها فيعرفه سائر اللغات، فلا بد أن يكون آدم قد عرف مواضعة الملائكة على لغة ما، ثم علمه (2) الله الأسماء فى سائر اللغات بتلك اللغة.
وقد قيل: إن الله عز وجل ذكر الأسماء وأراد المسميات (3)، ولذلك قال تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلََائِكَةِ} وذلك لا يليق بالأسماء، لكنه لما لم يصح من آدم عليه السلام، تعريف ما علم من المسميات إلا بذكر الأسماء، جاز أن يقول: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمََاءِ هََؤُلََاءِ}، وجاز أن يقول: {فَلَمََّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمََائِهِمْ}.
والظاهر (4) على الوجه الأول أدل (5)، ولا يجب إذا دخل المجاز فى بعض الكلام أن يصرف سائره عن الحقيقة.
28 - مسألة: قالوا: وقد ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه لم يرد من إبليس السجود، وهو قوله: {وَإِذْ قُلْنََا لِلْمَلََائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلََّا إِبْلِيسَ أَبى ََ وَاسْتَكْبَرَ وَكََانَ مِنَ الْكََافِرِينَ} [34].
فلو كان أراد منه ذلك لم يصح أن يأبى ويستكبر لأن ذلك يؤدى إلى جواز المنع عليه، تعالى عن ذلك.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الآية إنما يدل على أنه امتنع عن ذلك لأن الإباء هو بمعنى المنع والامتناع فى اللغة، وامتناعه لا يدل (6) على أنه تعالى لم
__________
(1) د: باضطرار.
(2) د: علمهم.
(3) رجح الطبرى أن الأسماء التى علمها الله تعالى آدم عليه السلام، هي أسماء ذريته وأسماء الملائكة دون أسماء سائر أجناس الخلق، وأن الضمير فى قوله: (عرضهم) يعود على أعيان للسمين بتلك الأسماء. الطبرى: 10/ 217.
(4) ف: بالظاهر.
(5) ساقطة من ف.
(6) ساقطة من ف.(1/153)
يرده منه، فليس لهم فى الظاهر دلالة (1).
بل يدل الظاهر على ما نقوله لأنه تعالى لو لم يكن قد أمره بالسجود فى جملة الملائكة، وأراده منه. لم يكن ليستثنيه من جملتهم لأنه إذا لم يكن منهم اسما فلا بد من مشاركته لهم فى المعنى، ليصح الاستثناء، وليس ذلك إلا أنه داخل فى جملتهم فى أنه قد كلّف السجود، وقد بينا أن الأمر والتكليف يقتضيان الإرادة، وكيف يصح أن لا يريده منه، ويذمه على امتناعه، ويصفه بأنه استكبر وكان من الكافرين؟!
وقد تعلق شيوخنا المتقدمون بهذه الآية فى أن العبد يفعل ويقدر على الشيء وتركه لأن العرب لا تصف الإنسان بأنه أبى الفعل إلا ويمكنه أن يفعله ويتركه، وهذا ظاهر من حالهم (2)، والممنوع الذى لا يمكنه الانفكاك مما منع منه لا يصح أن يوصف عندهم بذلك، فاذا صح ذلك، فالواجب أن تدل هذه الآية على أن إبليس كان قادرا على أن يسجد. وفى ذلك دلالة على تقدم القدرة، وعلى أنها قدرة على الشيء وضده.
__________
(1) قال القاضى فى قولهم إنه تعالى يريد المعاصى، وإنه لو لم يردها لوقعت. شاءها أم أباها وهذا من صفات المغلوبين المقهورين قال: إن ذلك بعيد «لأن الإباء فى أصل اللغة هو المنع، فتقول: فلان أبى الضيم وأبى فلان أن يظلم، أى: منع من ضيمه وظلمه، وقد يستعمل فى الامتناع أيضا، فيقال: سألته فأبى، أى امتنع، وعلى الأول يقول تعالى:
{(وَيَأْبَى اللََّهُ إِلََّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ)} فإذا كان كذلك، فكيف يجب فى الحي إذا لم يرد شيئا أن يمنع منه أو يمتنع؟!» ثم قال: «ومهما أرادوا أنه أباها، أى: كرهها، فالمعنى [غير] صحيح، لأنه لا يقال: أبى فلان كذا، بمعنى كرهه، ولولا ذلك لصح أن يقال فى الضعيف إنه يأبى الظلم، لأنه كالقوى فى كراهة أن يظلم»
انظر: المحيط بالتكليف، للقاضي عبد الجبار، نشر عمر السيد عزمى، ص 304303.
(2) ف: أحوالهم.(1/154)
فإن سأل فقال: أليس هذه الآية تدل على أن السجود قد يحسن لغير الله عز وجل (1)!؟ قيل له: إن السجود لآدم لا يدل على أنه تعظيم لآدم وعبادة له، وإنما كان يصح ما ذكرته لو دل على هذا الموضع، ولو أن أحدنا قال لغيره:
صلّ للقبلة واسجد لها، لم يدل ذلك على أنها المعبود. وقد قالت الفقهاء: إن فلانا سجد للسهو والمراد بذلك أنه سبب السجود، لا أنه المعبود بالسجود.
فإن قال: فإن كان الأمر كذلك فيجب أن لا يكون لآدم فيه مزية، وإن كان كالقبلة! وفى هذا إبطال تعظيمه لذلك وتفضيله!
قيل له: ليس الأمر كما زعمته لأنه (2) وإن لم يكن عبادة له فقد يقصد به تعظيمه على بعض لوجوه، فيحصل له المزية. وهذا نحو أن يأمر النبى صلى الله عليه بالصلاة فنفعلها، فيكون فى فعلها له المزية والتعظيم من حيث أطعناه بفعلها، وعظمناه بالتلقى والقبول، فكذلك لا يمتنع مثله فى آدم صلوات الله عليه.
29 - مسألة: قالوا: وقد ذكر تعالى بعد ذلك ما يدل على أن الهدى من الله تعالى، فقال: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهََا جَمِيعاً فَإِمََّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدََايَ فَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} [38].
__________
(1) قال ابن حزم إنه وجد بعض الأشعرية قالوا فى معنى قوله عليه السلام: «إن الله خلق آدم على صورته» إنما هو على صفة الرحمن من الحياة والعلم والاقتدار وأسجد له ملائكته كما أسجدهم لنفسه. وبعد أن رمى القائلين بذلك بالكفر لأن الله تعالى يقول: {(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)}، قال: «إنهم لم يقنعوا حتى جعلوا سجود الملائكة لآدم كسجودهم لله عز وجل» ثم قال: «ولا خلاف بين أحد من أهل الاسلام فى أن سجودهم لله تعالى سجود عبادة، ولآدم سجود تحية وإكرام، ومن قال إن الملائكة عبدت آدم كما عبدت الله عز وجل فقد أشرك». الفصل: 2/ 168.
(2) ساقطة من د.(1/155)
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أن الهدى فى الحقيقة هو الدلالة والبيان، وذلك منه لا من غيره، وإنما ينكر أنه تعالى يخلق فى قلب المؤمن الإيمان، ولا ينكر أن يقال فى الإيمان: إنه من الله عز وجل، من حيث إنه أعلن عليه وسهل ويسر ولطف. وظاهر الآية إنما (1) يدل على ما نقول لأنه أراد: فإما يأتينكم منى (2) دلالة وبيان، فمن تبع ذلك بأن تمسك به وعمل بموجبه فلا خوف عليهم.
ثم يقال للقوم: لو كان الهدى هو الإيمان لما صح أن يقول تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدََايَ} لأن الكلام يقتضى أن فعلهم هو غير الهدى الذى اتبعوه، ولذلك أضاف الهدى إلى نفسه والاتباع إليهم. وذلك يدل على تغاير الأمرين، وأن الهدى غير الإيمان، ولو كان تعالى خلق الإيمان فيهم لم يجز أن يجعل الجزاء على ذلك أنه (3) {فَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} لأن الجزاء إنما يستحق على فعل المجازى.
30 - مسألة: قالوا: وقد قال تعالى بعده ما يدل على أنه جسم يجوز عليه المكان واللقاء، فقال: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رََاجِعُونَ} (4)
والملاقاة تدل على ما قلناه، والرجوع إليه كمثل (5)، فكيف يصح لكم هذا مع نفى التشبيه عنه تعالى؟
__________
(1) فى د: إن ما.
(2) ساقطة من د.
(3) فى د: لأنه.
(4) سورة البقرة: 46، والآية التى قبلها: {(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلََاةِ وَإِنَّهََا لَكَبِيرَةٌ إِلََّا عَلَى الْخََاشِعِينَ)}.
(5) د: مثله.(1/156)
والجواب عن ذلك: أن الظاهر (1) يقتضى أنهم ظنوا ذلك، ولا يجب فى الظن أن يكون مظنونه على ما تناوله، فلا يصح تعلقهم به! والمفسرون حملوه على أن المراد به العلم (2)، «لكن ذلك مجاز، فالذى قلناه من تركهم الظاهر صحيح (3).
فإذا حمل على العلم فالمراد به عند شيوخنا رحمهم الله، أنهم يعلمون أنهم ملاقو ما وعدهم به (4) من الثواب، وأنهم راجعون (5) إلى حيث لا يملك الأمور سواه، فذكر تعالى نفسه وأراد فعله، كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ وُقِفُوا عَلى ََ رَبِّهِمْ} (6) وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ} (7) وقوله: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} (8). إلى ما شاكله مما يكثر ذكره. وليس اللقاء هو التجاور على جهة المشاهدة لأن الضرير قد يلقى غيره إذا سمع خطابه وإن لم يشاهده، و (9) قد يبعد من مخاطبه ويعد ملاقيا له.
ثم يقال للقوم: يجب على ما ذكرتم أن يكون تعالى فى موضع دون موضع
__________
(1) د: ظاهره.
(2) واضح أن هذا هو الحق، ولو صح ما زعمه المؤلف من أن المراد بالظن هنا الشك! ليتم له تأويل الملاقاة فماذا يقول فى المصلين الشاكين فى الرجوع إلى الله؟! والشك فى هذا كفر! وقد حمل الطبرى الظن فى الآية على معنى اليقين، وقال بعد أن استشهد لذلك ببعض الأشعار: (والشواهد فى أشعار العرب وكلامها على أن الظن فى معنى اليقين أكثر من أن تحصى) وروى عن مجاهد أنه قال: (كل ظن فى القرآن فهو علم) انظر: الطبرى:
1/ 262وقال ابن قتيبة فى باب المقلوب: «واليقين: ظن. والشك: ظن: لأن فى الظن طرفا من اليقين. قال الله عز وجل {(قََالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا اللََّهِ)} أى يستيقنون» تأويل مشكل القرآن، ص: 144. بتحقيق الأستاذ السيد أحمد صقر
(3) ساقطة من د.
(4) ساقطة من ف.
(5) د: يرجعون.
(6) سورة الأنعام: 30.
(7) من سورة الأحزاب: 57.
(8) من الآية: 49فى سورة الأنبياء، 18من سورة فاطر، 23من سورة الزمر، 12 من سورة الملك.
(9) ساقطة من د.(1/157)
ليصح فيه الملاقاة والرجوع إليه، ولو كان كذلك لوجب أن لا يصح أن يعلم إلا ما يختص بذلك المكان، ولوجب أن لا يصح أن يفعل إلا هناك، ولوجب أن يحتاج إلى المكان فيما لم يزل. فكل ذلك يبين بطلان تعلقهم بالظاهر.
31 - مسألة: قالوا: وقد ذكر تعالى بعده (1) ما يدل على أنه الخالق للإيمان والطاعة، والمفضل بها المؤمن على الكافر، فقال: {يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعََالَمِينَ} [47] فبين أنه أنعم عليهم بأن فضلهم، وذلك التفضيل ليس إلا بما اختصوا به من الطاعات.
والجواب عن ذلك: أن ما ذكره إنما كان يتم لو لم يقع التفضيل إلا بالإيمان فقط، فلا ظاهر إذن يصح تعلقهم به، ولا يمتنع أن يكون تعالى فضلهم بالألطاف والتأبيد والخواطر وضروب (2) التنبيه على الخير لعلمه بأن ذلك أجمع يؤثر فى حالهم، وأنه (3) لا يؤثر فى حال غيرهم ممن (4) المعلوم أنه يكفر على كل حال.
وفى ذلك بطلان ما تعلقوا به.
وبعد، فإن التفضيل لو كان بالإيمان لم يدل على أنه من خلقه تعالى فيهم، بل يجب أن يحمل على أنه نسبه إلى نفسه من حيث فعل «المعونة والتسهيل والألطاف، وما عنده وقع ذلك منهم، فجاز أن يضيف الإيمان إلى نفسه من حيث فعل (5) المقدمات التى «عندها يختاره (6)، «على ما بيناه من أن أدب الولد
__________
(1) د: بعد.
(2) ساقطة من د.
(3) د: فإنه.
(4) د: من.
(5) ساقطة من د.
(6) د: عند ما يختار التأدب.(1/158)
يضاف إلى الوالد إذا فعل من المقدمات ما عنده يختار التأدب (1).
32 - دلالة لنا: وهو قوله عز وجل بعد ذلك: {وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلََا يُقْبَلُ مِنْهََا شَفََاعَةٌ وَلََا يُؤْخَذُ مِنْهََا عَدْلٌ وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ} [48] يدل على أن من استحق العقاب لا يشفع النبى صلّى الله عليه، له ولا ينصره (2)، لأن الآية وردت فى صفة اليوم ولا تخصيص فيها، فلا يمكن صرفها إلى الكفار «دون أهل الثواب (3)، وهى واردة فيمن يستحق العذاب فى ذلك اليوم لأن هذا الخطاب لا يليق إلا بهم، فليس لأحد أن يطعن على ما قلناه بأنه يمنع الشفاعة للمؤمنين أيضا (4). ولو كان النبى صلّى الله عليه، يشفع لهم لكان قد أغنى عنهم وأجزى، فكان لا يصح أن يقول تعالى: {لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً}. ولما صح أن يقول: (ولا يقبل منها شفاعة) وقد قبلت شفاعته صلى الله عليه، فيهم. ولما صح أن يقول: {وَلََا يُؤْخَذُ مِنْهََا عَدْلٌ} لأن قبول الشفاعة وإسقاط العقاب إلى المغفرة، أعظم من كل فداء يسقط به ما قد استحقوه من المضرة، بل كان يجب أن تكون الشفاعة فداء لهم عما قد (5)
استحقوه من حيث تزول بها ولمكانها (6)، ولما صح أن يقول:
__________
(1) ساقط من د.
(2) قال القاضى: (لا خلاف بين الأمة فى أن شفاعة النبى صلّى الله عليه، ثابتة للأمة، وإنما الخلاف فى أنها تثبت لمن؟ فعندنا أن الشفاعة للتائبين من المؤمنين، وعند المرجئة أنها للفساق من أهل الصلاة) ورأيهم هذا فى الشفاعة متصل بمقالتهم فى (الوعد والوعيد).
انظر شرح الأصول الخمسة: 687685.
(3) فى: ف، هذه الجملة مؤخرة إلى ما بعد كلمة «اليوم» التالية.
(4) ساقطة من د.
(5) ساقطة من د.
(6) ساقطة من د.(1/159)
{وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ} (1) وأعظم النصرة تخليصهم من العذاب الدائم بالشفاعة. فالآية دالة على ما نقوله من جميع (2) هذه الوجوه.
33 - مسألة: قالوا: وقد قال عز وجل ما يدل على أن المعاصى من قبله، فقال تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنََاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ، يُذَبِّحُونَ أَبْنََاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسََاءَكُمْ وَفِي ذََلِكُمْ بَلََاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}
[49] فذكر أن المعاصى المتقدم ذكرها بلاء عظيم من ربهم، فأضافها إلى نفسه.
والجواب عن ذلك: أن المراد بقوله: {وَفِي ذََلِكُمْ بَلََاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أنه إحسان عظيم منه من حيث نجاهم ممن إذا «تمكنوا منهم عاملوهم (3) بهذه المعاملة وذلك فى الحقيقة مضاف إليه تعالى. والكلام فى أن الأيادى والإحسان تسمى بلاء، ظاهر فى اللغة (4)، فليس فى الآية ما يدل على ما قالوه.
ثم يقال للقوم: لو كان ما (5) ذكره منه تعالى (6) لما ذمهم ووبخهم عليه، ولما وصف تخليصهم منهم (7) بأنه نعمة، ولوجب أن يكون إنما نجاهم بفعله من فعله، وهذا متناقض فى اللفظ والمعنى جميعا!
__________
(1) فى النسختين: وهم لا ينصرون.
(2) ساقطة من د.
(3) د: تمكنوا عاملوا.
(4) قال الطبرى فى تفسير الآية: (ويعنى بقوله: بلاء: نعمة). وكل الروايات التى ذكرها مجمعة على هذا، وقد قال المرتضى فى هذا الوجه إنه: (أقوى وأولى وعليه جماعة من المفسرين) وقد أفاضا فى الشواهد الدالة على أن البلاء فى كلام العرب يطلق على الخير والشر. وعلى الوجه الآخر الذى ذكره صاحب الأمالى، وهو أن يكون الضمير فى «ذلكم» يعود على ما حكاه عن آل فرعون من الأفعال القبيحة، يكون البلاء بمعنى الاختبار، ويحمل على مذهبه فى الاعتزال على التخلية وتركه تعالى منعهم من إيقاع هذه الأفعال ببنى إسرائيل.
انظر: الطبرى: 1/ 275274. أمالى المرتضى: 2/ 109108.
(5) ساقطة من د.
(6) ساقطة من ف.
(7) ف: منه.(1/160)
34 - دلالة: فأما قوله عز وجل: {ثُمَّ عَفَوْنََا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [52]. وقد ثبت أنه تعالى ممن لا يجوز عليه الشك، فيجب أن يكون المراد بذلك: لكى تشكروا، على طريقة اللغة، وذلك يدل على أنه لم يرد من جميعهم إلا الشكر، وذلك يبطل القول بأنه أراد منهم ما يختارون، فأراد من الكافر الكفر ومن الشاكر الشكر، ولذلك لم يذكر تعالى فى شيء من كتابه: لعلكم تكفرون وتعصون، وإنما ذكر ذلك فى الطاعات.
35 - مسألة: قالوا: وقد قال بعد ذلك ما يدل على جواز الرؤية عليه تعالى (1)، فقال: {وَإِذْ قُلْتُمْ يََا مُوسى ََ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتََّى نَرَى اللََّهَ جَهْرَةً} [55] فترك موسى عليه السلام إنكار ذلك، وهذا يدل على أنه مجوّز وإن كان الصلاح أن لا تروه إلا فى الآخرة.
__________
(1) مشكلة الرؤية من أهم الموضوعات التى اختلفت فيها آراء علماء الكلام. والمعتزلة على أصلهم فى التنزيه المطلق ونفى الجسمية والجهة أنكروا رؤية الله تعالى فى الدنيا والآخرة.
والمشبّهة والكرّاميّة لما قالوا بالجسمية ذهبوا إلى جواز رؤيته تعالى فى كل وقت، وهم يسلمون بأنه تعالى لو لم يكن جسما لما صح أن يرى. أما الأشعرية فقالوا بامكان رؤية الله فى الآخرة دون الحياة الدنيا. وإن كانوا لا يكيّفون هذه الرؤية، ولهذا فان القاضى يحصر الخلاف في هذا الموضوع مع الأشعرية وحدهم، ويرى أيضا أن هذه المسألة مما يصح الاستدلال عليها بالسمع والعقل جميعا لأن صحة السمع لا تقف عليها، ويقول في ذلك:
«كل مسألة لا تقف عليها صحة السمع فالاستدلال عليها بالسمع ممكن».
انظر: شرح الأصول الخمسة: 277232. ضحي الاسلام: 3/ 2826وانظر أدلة الأشعرية على «جواز رؤية البارى عقلا، ووجوبها سمعا» مع نقاش أدلة المعتزلة: نهاية الإقدام للشهرستانى: القاعدة السادسة عشرة ص 369356. وانظر كذلك الخلاصة الجامعة، التى كتبها الأستاذ الدكتور محمود قاسم تحت عنوان: «الرؤية» في مقدمته النقدية لدارس علم الكلام، على مناهج الأدلة لابن رشد: 8881. وارجع إن شئت إلى ما ألقى به جولد تسهر من كلام حول هذا الموضوع، وما صوره به وتسقط له من الأخبار:
مذاهب التفسير الاسلامى: 129124.(1/161)
والجواب على ذلك: أن ليس فى الظاهر إلا قولهم والحكاية عنهم، فكيف يدل ذلك على أنه هو الحق، مع علمنا أنه لا خلاف بين الجميع أن هذا القول منهم باطل؟ لأنه ليس لأمة النبى صلّى الله عليه، وقد دعاهم إلى الإيمان، أن يحتجوا بأنهم لا يؤمنون حتى يروا ربهم جهرة لأن من يقول بجواز الرؤية على الله تعالى أيضا، لا يجوّز للمكلف أن يؤخر إيمانه إلى أن يراه، وأن يقول ذلك، ويجعله عذرا فى ترك الإيمان.
وبعد، فإن الآية تدل على ضد قولهم لأنه تعالى خبر أنه عاقبهم بإنزال الصاعقة بهم لما قالوا ذلك (1)، وإنزال العقوبة على الشيء يدل على أنه باطل لأن الله عز وجل لا يعاقب على الحق، وإنما سأل قوم موسى عليه السلام ذلك لكى يرد الجواب من قبله تعالى فى أنه لا يرى حسب ما سمعوه من موسى، وإنما سأل صلّى الله عليه، عن لسان قومه، فلحقه ولحقهم ما ذكره تعالى، ثم أحياهم بعد أن أماتهم لكى يطيعوه ويحولوا عن هذه الطريقة، فلهذا قال عز وجل: {ثُمَّ بَعَثْنََاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2) يعنى: لكى تشكروا بالتمسك بالطاعة والعدول عن المعصية.
36 - دلالة: وقوله عز وجل بعد ذلك: {كُلُوا مِنْ طَيِّبََاتِ مََا رَزَقْنََاكُمْ}
[57] يدل على أن الرزق لا يكون من قبله إلا طيبا حلالا (3)، لأن الحرام
__________
(1) تتمة الآية 55السابقة: {(فَأَخَذَتْكُمُ الصََّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)}.
(2) سورة البقرة: 56.
(3) يرى المعتزلة أن الرزق مقصور على الحلال، وأن المال الحرام لا يعد رزقا «لأن الله منعنا من إنفاقه واكتسابه، فلو كان رزقا لم يجز ذلك، وقد مدحنا الله تعالى بإنفاق ما رزقناه، فقال: {(وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ)} قال القاضي: «ومعلوم أنه لا يجوز أن يمدح على الانفاق من الحرام»! انظر شرح الأصول الخمسة: 788784وقال الشهرستانى: إن من راعى(1/162)
قد نهى تعالى عن تناوله وتوعد عليه وزجر عن ذلك، فلا يصح دخوله تحت ما أباح تناوله.
37 - دلالة أخرى: وقوله (1): {وَمََا ظَلَمُونََا وَلََكِنْ كََانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [57] يدل على بطلان قول المشبهة والمجبرة لأنه لو كان تعالى جسما لصح أن يغتم ويألم، وكان يصح أن يظلم، تعالى الله عن ذلك، فلما نفى عن نفسه ذلك، علم استحالة ذلك عليه (2).
وقوله: {وَلََكِنْ كََانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} يدل على أنه تعالى لم يخلق فيهم المعاصى، وإلا كان هو الظالم لهم لأنه إذا خلق فيهم القدرة الموجبة للكفر، والكفر وإرادة الكفر، وسلبهم قدرة الإيمان والإيمان، فقد جعلهم بحيث لا يمكنهم الانفكاك من الظلم والضرر، فكيف يصح مع هذا أن ينسب ظلمهم إلى أنفسهم؟!
38 - دلالة اخرى لنا: وقد قال تعالى بعد ذلك: {وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ وَرَفَعْنََا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مََا آتَيْنََاكُمْ بِقُوَّةٍ} [63] فدل ذلك على أن قوة الأخذ حاصلة ليصح منه تعالى هذا القول، ولو كانت القوة (3) توجد منه
__________
فى الرزق معنى العموم، قال فيه: إنه «كل ما يتغذى به من الحلال والحرام، قال تعالى:
{(وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلََّا عَلَى اللََّهِ رِزْقُهََا)} ومن راعى فيه خصوصا قال: الرزق ما يكون مباحا شرعا، قال تعالى: {(أَنْفِقُوا مِمََّا رَزَقْنََاكُمْ)} قال الشهرستانى: «والحرام لا يجوز الانفاق منه، وكلا القولين صحيح. إذا اعتبر فيهما الخصوص والعموم، ولا مشاحة فى المواضعات» ولعله لا مشاحة على هذا فى أن الحرام يكون رزقا، على معنى جعله غذاء للأبدان، لا على معنى التمليك والاباحة.
انظر نهاية الاقدام، ص 416415.
(1) ساقطة من د.
(2) ساقطة من د.
(3) د: القدرة.(1/163)
تعالى مع الأخذ، لكان لا يصح أن يقول لهم، ولم يعطهم القوة كما لم يعطهم الأخذ: {خُذُوا مََا آتَيْنََاكُمْ بِقُوَّةٍ}، وذلك يدل على إثبات القوة، وأنها متقدمة للأخذ.
39: وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا مََا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يدل على أنه تعالى (1) أراد من جميعهم التقوى، على ما تقدم ذكره (2).
40 - مسألة: قالوا: وقد قال تعالى بعد ذلك ما يدل على أن التوبة والطاعة (3) من قبله تعالى فقال: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ فَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخََاسِرِينَ} [64] فبين أنه لولا خلقه التوبة فيهم والطاعة لحلت (4) بهم الخسارة.
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أنه تعالى قد فضل الطائع التائب بمقدمات هى: المعونة والألطاف والتأييد والأحوال التى عندها يؤمن ويتوب، ولولاها لما صح منه الإيمان، فقد فضلهم بذلك ورحمهم بأن بقّاهم على هذا الوجه ليتمكنوا من التوبة، ويزيلوا العقاب عن أنفسهم، وليس فى الظاهر صفة ذلك الفضل حتى يصح تعلقهم به، فهى إذا محتملة، نتجاذب تأويلها من غير أن يدل الظاهر عليها.
ثم يقال للقوم: لو كان الأمر كما قلتم لم ينسب إليهم التولى، بل كان يجب أن يكون منه تعالى، ولما ذمهم بذلك، ولما جعل الخسران جزاء عليه.
__________
(1) ساقطة من د.
(2) انظر: الفقرة: 34.
(3) فى د: أو.
(4) فى د: فحلت.(1/164)
41 - مسألة: قالوا: وقد ذكر بعد ذلك ما يدل على أنه يريد من خلقه ما يفعلون، فقال جل من قائل: {قََالُوا ادْعُ لَنََا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنََا مََا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشََابَهَ عَلَيْنََا وَإِنََّا إِنْ شََاءَ اللََّهُ لَمُهْتَدُونَ} [70] فبين أن الاهتداء يقع منهم بمشيئة الله تعالى.
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يدل على أنه تعالى إن شاء اهتدوا، ولا يدل على غير ذلك. وهذا قولنا لأنه عز وجل لو لم يكلف الاهتداء لم يصح من العبد أن يفعله، وإنما يصح ذلك متى جعله تعالى بحيث يمكنه أن يهتدى، وشاء ذلك منه، فهذا قولنا فى الطاعات كلها، فلا يصح تعلقهم به.
وبعد، فإن العادة فى الخطاب جارية فى أن الإنسان لا يخبر عن المستقبل إلا ويعلق ذلك بالمشيئة، فلذلك قال تعالى: {وَإِنََّا إِنْ شََاءَ اللََّهُ لَمُهْتَدُونَ}، ولا يدل ذلك على مشيئة حاصلة فى اللغة، وإنما الغرض إخراج الخبر من أن يكون قاطعا من حيث لا يعلم أحدنا الأحوال فى المستقبل، فيقيد بذلك.
42 - دلالة: وقوله تعالى {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتََابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هََذََا مِنْ عِنْدِ اللََّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمََّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمََّا يَكْسِبُونَ} [79] يدل على أن هذه الأفعال ليست من خلقه تعالى لأنه لو كان قد خلقها لم يصح أن تنفى عنه لأن أقوى الإضافات فى الفعل أن يضاف إلى فاعله، فلو كان تعالى خلق ما كتبوه لما صح أن ينفيه عن نفسه، مع أنه الذى خلقه وأوجده.
فإن قال: أولستم قد تضيفون إليه الطاعة وإن لم يفعلها؟(1/165)
قيل له: إن الذى قلناه: إن (1) ما يفعله (2) لا يجوز أن ينفى عنه، فلا يضاف إليه، ولم نقل: إن كل ما أضيف إليه فهو فعله، وقد يضاف الشيء إلى من فعله، وقد يضاف إلى من أعان عليه، وسهّل السبيل إليه، ولطف فيه، وقد يضاف إلى من فعل ما يجرى مجرى السبب له، ولذلك قد يضاف ما يفعله (3) أحدنا من الإحسان إليه لأنه فعله، وقد يضاف أدب ولده إليه، وإن كان من فعل الولد، لما فعل المقدمات التى عندها يتأدب (4). ويضاف إليه تنعم الغير بداره وأحواله، إذا كان هو الذى أعطاه من الأموال ما اكتسبها أجمع به! وهذا الظاهر فى اللغة، ولا يعرف فى اللغة قطع إضافة الفعل عن فاعله البتّة، فإذا بين تعالى أن كتابتهم ليست من عنده، ففي ذلك دلالة على أنها من فعلهم، ولو كان هو الذى خلقها لم يستحقوا الويل بهذه الإضافة، ولا باكتسابهم لها (5).
43 - دلالة أخرى: وقال عز وجل: {بَلى ََ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحََاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [6] فَأُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ فدل بذلك على أن من غلبت كبائره على طاعاته لأن هذا هو المعقول من الإحاطة فى باب الخطايا، لأن ما سواه من الإحاطة التى تستعمل فى الأجسام يستحيل فيها هو من أهل النار (7) مخلدا فيها.
__________
(1) فى د: «إنما» متصلة، وكذلك «كلما» التالية. وقد تكرر هذا فى مواطن كثيرة من هذه النسخة، ويبدو أن هذا الخطا من الناسخ، بسبب ما يملى عليه، بدليل ورودهما على الوجه الصحيح فى مواطن أخرى. والكاتب واحد.
(2) ف: فعله.
(3) ف: فعله.
(4) ف: تأدب.
(5) أى: والله تعالى يقول: {(فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمََّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمََّا يَكْسِبُونَ)}.
(6) د: خطيآته
(7) ساقطة من د.
(م 7متشابه القرآن)(1/166)
44 - وقوله بعد ذلك: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} [82] يدل على أن الجنة لا تستحق بالإيمان (1) الذى هو القول، دون أن ينضاف إليه الأعمال الصالحة، وذلك (2)
يبطل قول المرجئة فى الوعيد، وفى الأسماء جميعا (3).
45 - مسألة: قالوا: وقد ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه (4) يخلق الكفر فى الكفار، فقال: {وَاسْمَعُوا، قََالُوا: سَمِعْنََا وَعَصَيْنََا، وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} (5) فبين أنه خلق الإشراك فى قلوبهم. وهو الكفر بعينه.
والجواب عن ذلك. أنه تعالى وصفهم بذلك، ولم يبين من الذى فعله، ومتى لم يسمّ الفاعل عند ذكر الفعل، لم يعلم بالظاهر من الفاعل، فالتعلق بذلك بعيد.
والمراد بذلك أنهم بتمسكهم بذلك، وشدة أخذهم به، جعلوا أنفسهم بهذه
__________
(1) ف: إلا بالايمان.
(2) ساقطة من ف.
(3) أجاز المرجئة والأشعرية فى وعيد الله تعالى أن يتخلف، لأن العقاب عدل، وله سبحانه أن يتصرف فيه كما يشاء، وعند المعتزلة أنه تعالى يفعل ما وعد به وتوعد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الخلف لأن ذلك نقص بتنزه الله عنه.
وفى مسألة الايمان يكاد المرجئة أن يجمعوا على أن العمل ليس ركنا من أركانه، ولا داخلا فى مفهومه، على خلاف بينهم فى اعتبار الاقرار باللسان ركنا ثانيا مع التصديق بالقلب، أو عدم اعتباره، وقد تفرع عن هذا قولهم فى مرتكب الكبيرة: إنه لا يخلد فى النار. وذهب المعتزلة والخوارج إلى اعتبار الأعمال جزءا من الإيمان، وجعلت الخوارج من أتى بالكبيرة كافرا، ووضعته المعتزلة فى المنزلة بين المنزلتين، فلم «تسمه» كافرا ولا مؤمنا.
(4) د: أنه الذى. انظر شرح الأصول: 136135، 697، ضحي الاسلام:
322316.
(5) من الآية: 93من سورة البقرة وأولها: {«وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ وَرَفَعْنََا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مََا آتَيْنََاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا»}.(1/167)
الصفة، وهذا كما يقال للغير: إنك معجب برأيك، إذا اشتد تمسكه بما يقتضى أن يكون جاعلا نفسه كذلك، وقد يقول الفصيح لمن يخاطبه إذا لم يقع منه القبول: أين يذهب بك؟ ويريد بذلك أنه صيّر نفسه كذلك، لا أن غيره أنزله هذه المنزلة.
ثم يقال: لو كان تعالى جعلهم كذلك لما صح أن يقول: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} فيجعل ذلك متعلقا بالكفر وجزاء عليه، ولما صح أن يذمهم، وينسب المعصية إليهم!
46 - مسألة: قالوا: وقد ذكر تعالى بعد ما يدل على أن السحر من قبله وأنه إنما يضر بإرادته وأمره، فقال: {وَاتَّبَعُوا مََا تَتْلُوا الشَّيََاطِينُ عَلى ََ مُلْكِ سُلَيْمََانَ وَمََا كَفَرَ سُلَيْمََانُ وَلََكِنَّ الشَّيََاطِينَ كَفَرُوا} الآية (1).
والجواب عن ذلك: أنه ليس فى الظاهر أكثر من أن الشياطين يعلمون ما أنزل تعالى على الملكين من أنواع السحر، وقد علمنا أنه تعالى قد ينزل على الملك وعلى أنبيائه تعليم الخير والشر، فالخير ينزله عليه ليفعل، والشر ليعرف فيجتنب، ولذلك قال تعالى: {وَمََا يُعَلِّمََانِ مِنْ أَحَدٍ حَتََّى يَقُولََا: إِنَّمََا نَحْنُ فِتْنَةٌ}
يعنى بالفتنة: زيادة التكليف أو مشقته، فلا تكفر. فيعلمان السحر والكفر، ويضيفان إلى ذلك النهى عن التمسك به، ولا يجب إذا تعلم منهما الغير ما يفرق بين
__________
(1) من الآية: 102، والآية بتمامها: {«وَاتَّبَعُوا مََا تَتْلُوا الشَّيََاطِينُ عَلى ََ مُلْكِ سُلَيْمََانَ وَمََا كَفَرَ سُلَيْمََانُ وَلََكِنَّ الشَّيََاطِينَ كَفَرُوا، يُعَلِّمُونَ النََّاسَ السِّحْرَ وَمََا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبََابِلَ هََارُوتَ وَمََارُوتَ، وَمََا يُعَلِّمََانِ مِنْ أَحَدٍ حَتََّى يَقُولََا إِنَّمََا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلََا تَكْفُرْ، فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمََا مََا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمََا هُمْ بِضََارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ، وَيَتَعَلَّمُونَ مََا يَضُرُّهُمْ وَلََا يَنْفَعُهُمْ، وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرََاهُ مََا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلََاقٍ، وَلَبِئْسَ مََا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ»}.(1/168)
المرء وزوجته أن يكون ذلك بمرادهما ومشيئتهما (1)، وقوله: {بِإِذْنِ اللََّهِ} لا يدل على أن المراد هو الأمر (2) والإرادة، لأن الإذن كما يراد به الأمر والإباحة، فقد يراد به الإعلام، ومن ذلك يسمى «الأذان أذانا (3)»، وقال تعالى:
{وَأَذََانٌ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ} (4)، وقال: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ} (5)
فليس له فى الظاهر تعلق على وجه (6).
وقد اختلف شيوخنا رحمهم الله فى المراد بهما (7)، فمن قول الحسن رحمه الله أن المذكور بالآية ليس هو الملك (8)، وإنما أراد تعالى ملكين كانا هناك كافرين يعلمان الفساد، وكذلك (9) قرئ، ويقوى ذلك بأن السحر وتعليمه لا تجوز إضافته إلى الله تعالى، لأنه من ضروب الباطل.
وشيخنا أبو على رحمه الله يقول: إن ظاهر القراءة هو {وَمََا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ}.
__________
(1) قال الشريف المرتضى فى تفسير قوله: {(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمََا مََا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)}: أى: فيعرفون من جهتهما ما يستعملونه فى هذا الباب، وإن كان الملكان ما ألقياه إليهم لذلك، ولهذا قال: {(وَيَتَعَلَّمُونَ مََا يَضُرُّهُمْ وَلََا يَنْفَعُهُمْ)} لأنهم لما قصدوا يتعلمه أن يفعلوه ويرتكبوه لا أن يجتنبوه، صار ذلك لسوء اختيارهم ضررا عليهم (الأمالى:
1/ 419418.
(2) د: الإذن.
(3) د: الإيذان إيذانا.
(4) سورة التوبة، الآية 3.
(5) سورة البقرة، الآية 279.
(6) رجح الطبرى فى معنى الإذن فى الآية أنه بمعنى العلم بالشيء، واستشهد له بقوله تعالى: {(فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللََّهِ)}، ولم يجوّز فيه أن يكون بمعنى الأمر على غير وجه الالزام وهو أحد الوجوه التى ذكرها القاضى للاذن «لأن الله جل ثناؤه، قد حرم التفريق بين المرء وحليلته بغير سحر، فكيف على وجه السحر؟» انظر جامع البيان: 1/ 464463.
(7) ف: بها.
(8) أى: ليس الحديث فى الآية عن بعض الملائكة: ولكن عن بعض الملوك.
(9) د: ولذلك. وتصح بإضافة [بكسر اللام] بعد قوله: «قرئ». وقد روى أن ابن عباس قرأ بالكسر، وكان يقول متى كان العلجان ملكين؟ بفتح اللام إنما كانا ملكين. على أن العكبرى ينقل أن الجمهور على الفتح، وأن قراءة الكسر ضعيفة. انظر أمالى المرتضى: 1/ 422. إملاء ما منّ به الرحمن، طبع البابى سنة 1380، 1/ 55.(1/169)
فيجب أن يكون هو المراد، ويقول: إنه تعالى قال: إن الفرقة التى نبذت كتاب الله وراء ظهورهم، تتبع مع ذلك ما تتلو الشياطين على ملك سليمان (1)، يريد ما تخبره عن سليمان وترويه عنه مما هى كاذبة فيه من أنواع السحر، فتموّه بالرواية (2) عن سليمان لكى تكون الحيلة به (3) أنفذ، والقبول فيها (4) أقرب. ثم قال منزها لسليمان عن ذلك: {وَمََا كَفَرَ سُلَيْمََانُ} لأن الأنبياء منزهة عن الكبائر {وَلََكِنَّ الشَّيََاطِينَ} لهذا الكذب {كَفَرُوا} ثم قال:
{يُعَلِّمُونَ النََّاسَ السِّحْرَ} ويعلمونهم {مََا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} لأنه أيضا من ضروب السحر، وإن كان أنزل عليهما لكى يتحرز منه ويجتنب، لكن الشياطين أقدموا عليه، وذلك بمنزلة بيانه تعالى ضروب المعاصى لكى تتقى، وإن كان فى المكلفين من يقدم عليه. ثم قال: {وَمََا يُعَلِّمََانِ} يعنى: الملكين {مِنْ أَحَدٍ} يعنى السحر، {حَتََّى يَقُولََا إِنَّمََا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلََا تَكْفُرْ} فيضمان إلى تعليمه النهى عنه. ثم قال: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمََا} يعنى السحرة من شياطين الإنس والجن، {مََا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} وإن كان إقدامهم على ذلك معصية.
ثم قال من بعد ما يدل على أن السحر لا يوجب المضرة فقال: {وَمََا هُمْ بِضََارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ} يعنى: والله تعالى عالم بذلك، لأن السحر «فى الحقيقة لا يوجب» (5) المضرة لأنه ضرب من التمويه والحيلة. وإنما يقع به التقريع والتخويف، فيؤدى ذلك إلى أمراض ومضار، ويكون بنفسه إقداما على مضرة على وجه يلطف، فسمى بذلك.
__________
(1) انظر الآية السابقة 101.
(2) د: الرواية.
(3) ساقطة من د.
(4) د: منها.
(5) د: لا يوجب فى الحقيقة.(1/170)
وينقسم السحر: ففيه ما هو كفر، وهو ما يدّعون من أنه يمكنهم إحياء الموتى بالحيل، وطى البلاد، وأن يزيلوا عن المصروع ما نزل به فى الوقت من غير تداو، وأن يقرعوا الصحيح السليم، وإنما صار ذلك كفرا لأن معه لا يمكن التمسك بالنبوات، لأنه متى جوّز فى ذلك وإن كان فيه نقض عادة وكان من الباب الذى يتعذر على الناس فعل مثله أن يكون من فعل السحرة، جوّز فى الأنبياء، صلوات الله عليهم، أن يكونوا محتالين وإن كانوا فعلوا المعجزات، ولا يمكن مع ذلك العلم بالنبوات، ولا بالفرق بين ما يختص تعالى بالقدرة عليه وبين مقدور العباد. وهذا كفر، فلذلك قال كثير من الفقهاء فى الساحر: إنه يقتل إذا اعترف بالسحر فى الحقيقة، على هذا الوجه. فأما السحر الذى يجرى مجرى الشعبذة والحيل المفعول بخفة اليد إلى ما شاكله، فذلك ليس بكفر وإن كان معصية، وجميعه منفى عن الله تعالى أن يكون خالقا وفاعلا [له] وإن كان لا ينفى عنه الدلالة عليه والتعريف لكى يجتنب ويتقى.
وذكر أبو مسلم (1) رحمه الله فى كتابه أن المراد بقوله: {وَاتَّبَعُوا مََا تَتْلُوا الشَّيََاطِينُ عَلى ََ مُلْكِ سُلَيْمََانَ}، أنهم اتبعوا ما كذبوا فيه على سليمان وعلى ما أنزل على الملكين فعطف بما (2) أنزل على الملكين على ملك سليمان، من حيث اجتمعا «فى أن (3) الشياطين كذبوا عليهما جميعا، وإن كان أحدهما قد انقطع عن الآخر بكلام تخللهما، وذلك غير ممتنع فى اللغة (4)، وقوله عز وجل:
__________
(1) هو أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهانى، كان من كبار الكتاب، عالما بالتفسير وغيره من صنوف العلم، وله شعر، وكان على مذهب المعتزلة، وصنف كتابه: «جامع التأويل» فى تفسير القرآن فى أربعة عشر مجلدا على طريقتهم، ولى أصفهان وبلاد فارس للمقتدر العباسى وتوفى عام 370. انظر: لسان الميزان لابن حجر، حيدرآباد 1329/ 5/ 89.
الأعلام: 6/ 273.
(2) د: ما.
(3) د: وأن.
(4) انظر فى الشواهد على ذلك: أمالى المرتضى: 1/ 419، وقد تولى المؤلف هنا شرح هذا الوجه الذى ذكره القاضى، نقلا عن تفسير أبى مسلم.(1/171)
{وَمََا كَفَرَ سُلَيْمََانُ وَلََكِنَّ الشَّيََاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النََّاسَ السِّحْرَ} كلام تخلل هاتين الجملتين، مستقل بنفسه يدل على تنزيه سليمان، وأن الشياطين كفروا وكذبوا بما كذبوا به عليه.
قال رحمه الله: ويجب تنزيه الملكين عن السحر والقول به وتعليمه، فكيف يصح أن يحمل الكلام على خلاف ما ذكرته؟، ويجب تنزيه الملكين عما حكته الشياطين، كما يجب تنزيه سليمان عن ذلك، وأن يقال فى الملكين إنهما كالأنبياء فى أنه ما نزل عليهما ولا أنزلا إلا الحق، وما علّما إلا الدين والشرع.
قال رحمه الله: وأراد بقوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمََا} يعنى من السحر والكفر ولم يرد من الملكين، «ما يفرّقون به بين المرء وزوجته» لأن الكفر والسحر قد يؤثران ذلك، وأراد بهما جميعا: الطريقة التى تسمى كفرا و (1) سحرا، على ما قدمنا القول فيه. وهذه الجملة تبين المراد فى الآية، وأنه لا يدل بظاهره على ما قالوه.
47 - دلالة: وقوله عز وجل (2) {«مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهََا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهََا أَوْ مِثْلِهََا»} [106] فجوز النسخ على الآية وهو الإبدال والإزالة (3)
وجوز النسيان عليهما (4)، وكل ذلك يدل على حدث (5) الآية لأنها لو كانت قديمة لم يصح فيها ذلك.
وأن يأتى بخير منها يدل على أنها محدثة، لأن القديم لا يوصف بأن القادر يأتى بخير منه.
__________
(1) د: أو.
(2) ف: جل وعز
(3) ساقطة من: د
(4) لعل الأوضح: وجوز النسيان عليها.
(5) د: حدوث.(1/172)
ومن وجه آخر: وهو أن أحد الشيئين إنما يكون خيرا من الآخر إذا كان أكثر نفعا منه، وذلك يستحيل على القديم لأن المنافع وما يؤدى إليها لا تكون إلا محدثة.
وقوله: (أو مثلها) يدل أيضا على ذلك لأن مثل الشيء بالخيرية والمنفعة لا يكون إلا محدثة (1).
وقوله تعالى من بعد: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) يدل على ما تقدم ذكره، فدخل فى المقدور، وقوله تعالى فيه من الاختصاص ما ليس لغيره، على بعض الوجوه، وذلك يمنع من كونه قديما.
48 - دلالة: وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمََانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوََاءَ السَّبِيلِ} [108] وهذا يدل على أن الكفر من فعله باختياره، لأن ما يفعل فيه قد (3) يضطر إليه ويمنع من خلافه ولا يوصف بأنه يتبدل أحدهما من الآخر، «كما لا يقال اختار أحدهما على الآخر (4).
وقوله تعالى: {(فَقَدْ ضَلَّ سَوََاءَ السَّبِيلِ)} يدل عليه لأنه لا يجوز أن يذمهم بذلك ويضيف الضلال إليهم والذهاب عن الطريق المستقيم، وهو الذى أوردهم ذلك وحملهم عليه.
__________
(1) قال المؤلف رحمه الله: (وكل ما ورد فى كتاب الله عز وجل مما يدل على أن الله تعالى يغير القرآن أو بعضه، أو يقدر عليه، أو يبدله بغيره، أو يقدر على مثله، أو يأتى بمثله، أو يجتزئ منه، كقوله: (لو كان البحر مدادا) الآية، وقوله تعالى: {(وَلَوْ أَنَّ مََا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلََامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ)}. وقوله عز وجل: {(مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ)} إلى ما شاكلها، يدل على حدوثه، لأن كل هذه الصفات تستحيل على القديم تعالى. المغنى: 7 (خلق القرآن): 89. وانظر فيه الفصل الذى أبطل فيه القول بأنه سبحانه وتعالى متكلم بكلام قديم: 9484.
(2) تتمة الآية السابقة: 106.
(3) فى د: وقذ.
(4) ساقط من د.(1/173)
49 - دلالة: وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمََانِكُمْ كُفََّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [109] فإضافته ذلك إليهم وقطعه أن يضيفه إلى نفسه، من أدل الدلالة على أن المعاصى لا تكون من قبله تعالى، وأكد بتوبيخهم على ذلك بقوله: {(مِنْ بَعْدِ مََا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [1])
وذلك لا يصح لو كان من خلقه تعالى فيهم.
50 - مسألة: قالوا: وقد ذكر تعالى بعد ذلك ما يدل على أنه جسم يجوز عليه الأبعاض والأعضاء، فقال تعالى: {وَلِلََّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ} [115] ومن حق المضاف أن يكون غير المضاف إليه فى حقيقة اللغة، فيجب أن يكون له تعالى وجه، ولا يكون الوجه هو نفسه!!.
والجواب عن ذلك: أن ظاهرها لا يصح لأحد التمسك به، فلا بدّ ضرورة من العدول عنه، لأنه يقتضى أن وجهه تعالى «فى كل مكان (2)، وذلك ما لا يصح القول به مع القول بالتجسيم لأنه لو كان جسما وله وجه وأعضاء فلا بد من أن يكون فى جهة دون جهة (3)، ومن هذا الوجه دل شيوخنا بذلك على أن المراد به غير ظاهر الآية لما قال: {(فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ)}. ولو أريد به الحقيقة لم يصح. فالمراد إذا ذاته، وقد يذكر الوجه ويراد (4) به نفس الشيء، كما يقال:
هذا وجه الطريق، ووجه الرأى (5).
__________
(1) من تتمة الآية السابقة: 109
(2) فى النسختين: فى مكان دون مكان.
(3) انظر فيما احتج به المجسمة لإثبات الوجه من الآيات والآثار، وتأويلها على الوجه الصحيح: أساس التقديس للرازى: 148141.
(4) د: والمراد.
(5) قال ابن قتيبة: (ومما يزاد فى الكلام الوجه، يقول الله عز وجل: {(وَلََا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدََاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)} أى: يريدونه بالدعاء، و (كل شيء هالك إلا وجهه) أى: إلا هو. و (فأينما تولوا فثم وجه الله) أى: فثم الله. تأويل مشكل القرآن، شرح وتحقيق الأستاذ السيد أحمد صقر، ص 198.(1/174)
وإنما بعث عز وجل المكلّف بهذا الخطاب على أن يقصد بالعبادة طاعته والخضوع له والتقرب إليه، ولا تعتبر الأماكن فى هذا الباب. ونبه به على أن القبلة لا مدخل لها فى صحة الصلاة، وأنه متى اجتهد فصلى إلى أى جهة كان، فهو مؤد لما كلف (1)، مستحق للثواب عليه.
51 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن كلامه قديم فقال: {بَدِيعُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذََا قَضى ََ أَمْراً فَإِنَّمََا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
[117] فلو كان محدثا لكان من جملة الأمر الذى قضاه وكان يجب أن يقول له:
كن (2)، حتى يؤدى ذلك إلا ما لا نهاية له، وبطلان ذلك يوجب أنه قديم.
وإذا صح فى بعض كلامه ذلك، صح مثله فى سائره (3).
والجواب عن ذلك: أن ظاهر قوله: {وَإِذََا قَضى ََ أَمْراً} لا يدل على الخلق لأن القضاء إذا علق بالشيء قد يتصرّف على وجوه، فمن أين التعلق بالظاهر؟.
وبعد، فإن حقيقة «الأمر» هو قول القائل لغيره: افعل، وإنما يستعمل فى سائر الأفعال توسعا، فإن تعلقوا بالظاهر فإنه يدل على أنه محدث القول الذى
__________
(1) د: كلف به.
(2) د: كن فيكون.
(3) أول ما استدل به الأشعرى فى كتابه «اللمع» على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، قوله تعالى فى سورة النمل الآية 40: {(إِنَّمََا قَوْلُنََا لِشَيْءٍ إِذََا أَرَدْنََاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)}. وقد عرض القاضى رحمه الله لاستدلاهم بمثل هذه الآيات فى الجزء الخاص بخلق القرآن من كتابه «المغنى» فى ضمن أدلة متعددة لهم، أوردها فى باب شبههم فى هذا الموضوع، وجاء استدلالهم بهذه الآيات فى الشبهة الخامسة، وقد توسع هناك فى نقاشهم ونقض استدلالهم. انظر اللمع بتصحيح الدكتور حمود غرابة / مصر 1955، ص 33فما بعدها.
المغنى فى أبواب التوحيد والعدل: 7/ 175165.(1/175)
هو الأمر، بأن يقول له: كن، ولا يدل على ما عداه من الحوادث.
وبعد، فإن الظاهر يدل على أنه يقول له: كن، وقد قضاه، فلا يدل على أنه يصير خالقا بقوله: (كن) وذلك يمنع من تعلقهم به (1)، بل يوجب تناقض الكلام لأن أوله يدل على أنه قد تقدم قضاؤه له، وآخره يدل على أنه لا يكون إلا بعد أمر آخر.
وبعد، فإن الظاهر يدل على أن (كن) التى هى الكاف والنون، والكاف فيها متقدمة للنون، فالنون فيها حادثة بعد الكاف، هو الذى تكوّن به الأشياء، فيجب أن يكون ما هذا صورته قديما. وهذا يوجب كونه قديما محدثا لأن توالى حدوث هذين الحرفين على ما بيناه يوجب حدوثهما، وما ذكره يوجب قدمهما، وهذا محال.
ويوجب الاستحالة من وجه آخر: وهو أن النون إنما تتصل بالكاف على وجه يكون النطق به قولنا «كن» بأن يحدث بعده، لأنهما لو حدثا معا، لم يكن بأن يقول: «كن» أولى من أن يقول: نك، وهذا يوجب كون النون حادثة، فإن حدثت الكاف (2) وحدها فقد تركوا الظاهر، وإن حدث يكن آخر، فالقول فيه وفى نونه كالقول فى هذا، وذلك يلزمهم ما لا نهاية له.
وإن قالوا: هى حادثة لا بشيء (3)، فقد تركوا الظاهر. وكل هذا يبين جهل القوم فى تعلقهم بذلك وأمثاله.
وإنما أراد تعالى بهذا الكلام أن يبين أنه فى باب الاقتدار واستحالة المنع عليه، بخلاف سائر القادرين الذين يحتاجون إلى زمان فى الأفعال ويصح
__________
(1) ساقطة من د.
(2) د: بالكاف.
(3) د: لشيء.(1/176)
«عليهم المنع (1)، فقال: {بَدِيعُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} يعنى: مخترعهما لا على مثال سبق، فإذا قضى أمرا فإنما يقول له: كن، فيكون، يعنى: أنه يكون من دون تراخ ومعاناة ومشقة، وأنه فى حدوثه بأيسر مدة بمنزلة قول القائل:
كن، ولولا أن الأمر كذلك لما صح منه أن يفعل ما يقدر عليه إلا ب كن لأنه لا يجوز أن يحتاج هو فى أفعاله إلى أمر يستغنى عنه.
والعرب قد تذكر القول تريد به سرعة الاستجابة (2)، كما يقول قائلهم:
وقالت له العينان: سمعا وطاعة (3).
وكقول الشاعر: امتلا الحوض وقال قطنى (4)
وكقوله: تخبّرنى العينان ما الصدر كاتم
وقد قال تعالى فى نظيره {قََالَتََا: أَتَيْنََا طََائِعِينَ} (5)، وفى صفة جهنم:
{وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [6]؟ وهذا بين.
52 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده تعالى ما يدل على أنه الخالق لأفعال العباد، فقال (7): {وَإِذِ ابْتَلى ََ إِبْرََاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمََاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قََالَ: إِنِّي جََاعِلُكَ لِلنََّاسِ إِمََاماً} [124] فبين أنه جعله بالصفة التى لها كان (8)
__________
(1) ف: المنع عليهم.
(2) فى د: الاستحالة.
(3) فى اللسان: «قالت له» بدون حرف العطف، وفى المغنى: «وقالت»، والشطر الثانى للبيت كما فى اللسان: وحدرتا كالدر لما يثقب.
المغنى للقاضى: 7/ 166. لسان العرب: 11/ 574طبع بيروت.
(4) الشطر الثانى كما فى المغنى سيلا رويدا قد ملأت بطنى. والبيت كسابقه غير منسوب فى اللسان. المصدرين السابقين. وفى مقاييس اللغة لابن فارس: حسى رويدا قد ملأت بطنى: 5/ 14. وهو فيه وفى المخصص لابن سيده غير منسوب كذلك.
(5) سورة فصلت: 11.
(6) سورة ق: 30.
(7) ساقطة من د.
(8) د: كان لنا.(1/177)
إماما، وهو ما عليه من الدين والإسلام والنزاهة والطهارة.
والجواب عن ذلك: أن «ظاهر الآية (1) إنما يدل على أنه جعله إماما، ولم يذكر ماله صار كذلك، فمن أين أن المراد به ما يختصّ بفعله دون ما يختص بفعل الله تعالى فيه، مع علمنا أن الكلام يحتمل الأمرين على سواء؟.
والمراد بذلك: أنه تعالى جعله نبيا، وكونه نبيا من فعله تعالى لأنه لولا إرساله تعالى له وإظهار المعجز «عليه لم يختص بذلك، فما به صار نبيا من فعله تعالى، وهو الذى جعله كذلك، وصار إماما من حيث كان نبيا، فنحن متمسكون بالظاهر على هذا التأويل. وعلى أن الزام الغير التأسّي به (2) هو الذى له يكون إماما، وهذا أيضا من فعله تعالى، وإن كان لا يكون كذلك إلا بأفعاله.
ثم يقال للقوم: إن جعله تعالى (3) إياه إماما يقتضى التعظيم والتبجيل، فكيف يصح أن يقال: إن ذلك من قبله تعالى، ولو لم يكن هو الفاعل المختار لما يختص به من الطاعة والنزاهة والأحوال العظيمة، لم يحسن أن يعظّم بأن يجعل إماما للناس.
ثم يقال لهم: إن الأنبياء إذا جعلهم تعالى أئمة وقدوة، فقد دل ذلك على أن العبد هو المختار لأنه تعالى إذا (4) اضطرهم (5) إلى الطاعة أو المعصية، فسواء دعاهم النبى أم لا، وسواء كان إماما أم لم يكن لأن ذلك لا يؤثر فى نفوذ إرادته (6) إذا أراد. فإن أراد تعالى خلق الكفر فيهم فالدعاء والإنذار لا ينفع. وإن أراد خلق الإيمان فيهم فكمثل.
__________
(1) د: ظاهره.
(2) ساقط من ف.
(3) ساقطة من د.
(4) د: ولن.
(5) أى العبيد، أو الناس.
(6) أى إرادته تعالى.(1/178)
وبعد، فقد بين تعالى من (1) بعد بقوله: {لََا يَنََالُ عَهْدِي الظََّالِمِينَ} (2) أن الإمامة يستحقها من ليس بظالم، ولو كان لا اختيار للعبد، كان الظالم وغيره بمنزلة فى أن لا تأثير لقولهما فيما يختاره القديم تعالى «فى العباد (3)، وإنما يختلف حالهما إذا كان العبد يختار، فمتى كان النبى والإمام مختصا بالطهارة والنزاهة كان المدعوّ إلى القبول أقرب، وإذا كان ظالما فى حال، كان أبعد من القبول، وهذا يقتضى أن العبد مختار لفعله، ويتصرف فيه بحسب دواعيه، ولو كان ما به صار إماما من فعله، لم يمتنع فى الكلام أن يقال: إن الله جعله كذلك، إذا فعل المقدّمات التى عندها (4) اختص به، كما يقول الوالد لولده إذا تأدب: إنى صيرتك أديبا، إذا فعل به أسباب التأديب، على ما قدمناه (5).
53 - مسألة: قال: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه الذى يخلق الإسلام فى قلب (6) المسلم، فقال (7): {رَبَّنََا وَاجْعَلْنََا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنََا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [128] وهذا يدل على أنه الجاعل المسلم مسلما، والمؤمن مؤمنا.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام يقتضى أن المراد بهذا الإسلام الاستسلام والانقياد، من حيث أضافه إليه تعالى لأنه لا يقال فى الإسلام الذى يراد (8) به العبادات أن فاعلها مسلم لله تعالى، فهذا التقييد ينبئ عما
__________
(1) ساقطة من د.
(2) تتمة الآية السابقة 124قوله تعالى: {(قََالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، قََالَ لََا يَنََالُ عَهْدِي الظََّالِمِينَ)}.
(3) ساقط من د.
(4) د: عند ما.
(5) نظر ص 4746. وفى د: ما بيناه.
(6) ساقطة من د.
(7) ساقطة من د.
(8) د: أراد.(1/179)
ذكرناه، والانقياد له تعالى قد يكون بفعله، وقد يكون بفعل العبد، فليس فى الظاهر لهم دلالة.
وبعد، فإنه تعالى هو الفاعل لما عنده يصير العبد مسلما من التأييد والمعونة والألطاف، فالداعى إذا دعا بذلك فانما يريد ما ذكرنا. كما أن المخبر منا بأنه صير ولده أديبا عالما، يعنى أنه فعل ما عنده صار كذلك واختاره.
وبعد، فانا قد بينا أن الداعى إذا دعا بأمر من الأمور، فإنما يحسن على شرائط، فيجب أن يبين القوم أن الشرائط التى حسن عليها هذا الدعاء يقتضى ما ذكروه.
ثم يقال للقوم: إذا كان الأمر كما تقولون، فيجب أن لا يكون كون (1)
المسلم مسلما من مدائحه، فانه كاللون فى بابه. ويقال لهم: إن كان تعالى يجعله مسلما، بمعنى أنه يخلق إسلامه، فلا فائدة فى قوله: {وَأَرِنََا مَنََاسِكَنََا وَتُبْ عَلَيْنََا} (2) لأن تعريف المناسك: الغرض به أن يفعلوه، ولأن قبول التوبة إنّما يكون فيه فائدة إذا كان منهم ومن قبلهم معاص فيتلافونها بالتوبة، ويسألونه جل وعز قبولها.
وقد قال تعالى قبل ذلك: {رَبَّنََا تَقَبَّلْ مِنََّا} (3) فإن كان الإسلام وخلافه من قبله تعالى فلا فائدة فى التقبل لأن التقبل معناه: أن يجازيهم على طاعتهم بالثواب والتعظيم، وذلك لا يصح لو كان تعالى قد اضطرهم إليه.
__________
(1) ساقطة من ف.
(2) من تتمة الآية السابقة.
(3) قال تعالى: {(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرََاهِيمُ الْقَوََاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمََاعِيلُ رَبَّنََا تَقَبَّلْ مِنََّا)}
الآية: 127.(1/180)
وقوله تعالى من بعد: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنََاهُ فِي الدُّنْيََا} (1) المراد به:
قد اختصه بالوحى والإرسال، فلا يصح أن يتعلقوا به فى أن صلاحه من فعل الله تعالى.
54 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يختص (2) بعض عباده بالهدى، فقال: {قُلْ لِلََّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) ولو كان قد هدى الكل لم يصح ذلك فيه!!
والجواب عن ذلك: أن ظاهر إطلاق الهدى يقتضى الدلالة والبيان، وهو الذى يختص تعالى بفعله، وإذا هدى الكل صح وصفه بأنه يهدى من يشاء، كما لو هدى البعض صح ذلك فيه، فليس لهم فى الظاهر تعلق.
وبعد، فلو حمل على أن المراد به الثواب الذى يختص به تعالى من قد آمن واهتدى لم يمتنع ذلك ولم يخالف الظاهر، وذكر الصراط المستقيم فى الآية يدل على أن المراد بالهدى الدلالة والتعريف، وعلى أن المراد به الأخذ بهم إلى طريق الجنة، وقد بينا القول فى ذلك من قبل (4).
55 - وأما قوله عز وجل: {وَكَذََلِكَ جَعَلْنََاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (5) فيجب أن يكون المراد به ما قدّمناه من قبل، فليس لهم أن يتعلقوا به فى أنه الذى
__________
(1) قال تعالى {(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرََاهِيمَ إِلََّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنََاهُ فِي الدُّنْيََا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصََّالِحِينَ)}. الآية 130.
(2) ف: خص.
(3) من الآية: 142، وفى النسختين: ولله!.
(4) راجع الفقرة: 22.
(5) قال تعالى: {(وَكَذََلِكَ جَعَلْنََاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدََاءَ عَلَى النََّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً، وَمََا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهََا إِلََّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى ََ عَقِبَيْهِ وَإِنْ كََانَتْ لَكَبِيرَةً إِلََّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللََّهُ وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُضِيعَ إِيمََانَكُمْ إِنَّ اللََّهَ بِالنََّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)} الآية 143.(1/181)
يخلق فيهم ما به يصيرون مطيعين و (1) متمسكين بالأمور التى يكون لها كل واحد منهم عدلا خيارا.
56 - مسألة: ثم ذكر تعالى بعده (2) ما يدل على أن الهدى هو الإيمان، فإنه (3) خص بها المؤمن فقال: {وَإِنْ كََانَتْ لَكَبِيرَةً إِلََّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللََّهُ} فجعل الصلاة شاقة إلا على المؤمن، وجعل المؤمن مخصوصا بأنه قد هداه.
والجواب عن ذلك: أنا لا نمتنع من القول بأنه تعالى هدى المؤمن، وإن كان قد هدى غيره، فلا يصح تعلقهم بالظاهر، وقد بينا شرح ذلك (4).
والمراد بهذه الآية أنها شاقة صعبة، إلا على من ألفها واعتادها وتصور ما أعد له من ثوابها، فلما كان هذا الوصف يختص به المؤمن المستحق للثواب جاز أن يقول تعالى: إنها كبيرة إلا على من هداه (5) إلى الثواب.
ثم يقال للقوم: إن كانت الصلاة من خلقه فيهم فلم صارت تشق على قوم (6) دون غيرهم، وهل هذا القول إلا بمنزلة القول بأن اللون «والصفة والهيئة (7) يشق على بعض دون بعض؟ وهذا يدل على أنها من فعل العبد، فإذا استشعر ماله فيها من المنفعة سهلت، وإذا لم يكن كذلك وقلّ اعتياده لها صعبت.
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ساقطة من د.
(3) ساقطة من د.
(4) انظر: الفقرة: 16.
(5) د: هدى.
(6) ف: القوم.
(7) ف: والهيئة والصحة.
(م 8متشابه القرآن)(1/182)
57 - وقوله تعالى: {وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُضِيعَ إِيمََانَكُمْ} (1) يدل على أن الإيمان من فعلهم لمكان الإضافة، ولأنهم قد استحقوا بها الثواب، فبين أن ورود نسخ القبلة على الصلاة لا يوجب تضييعها.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ بِالنََّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} عقيب ذلك، يدل على أن هذه الأفعال من قبلهم يستحقون عليها الجزاء، وأنه تعالى مع رأفته ورحمته وأنواع تفضله لا يجوز أن يبطل على العبد عمله.
58 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه تعالى فى مكان، فقال: {الَّذِينَ إِذََا أَصََابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قََالُوا إِنََّا لِلََّهِ وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ}
[156] والرجوع إليه يوجب أنه فى مكان!
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أنه قد يقال: رجع أمر زيد إلى فلان، إذا صار هو المتولى للنظر فيه (2)، وإنا رجعنا إلى الحاكم، إذا عدلوا عن التوسط وجعلوه هو الناظر فى أمرهم، فقوله: {إِنََّا لِلََّهِ} هو تسليم له فيما يفعله من المصالح لأن العبد يلزمه فيما يخلقه تعالى فيه أن يستسلم وينقاد، وهذا القول ينبئ عن هذا المعنى.
وقوله: {وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ} المراد به أنا نرجع إلى حيث لا يتولى
__________
(1) انظر الآية السابقة: 143. والمعتزلة يستدلون بهذه الآية على أن الإيمان ليس مجرد القول باللسان أو التصديق بالقلب، بل لا بد فيه من العمل لأنّ الآية نزلت فى صلاة المسلمين إلى بيت المقدس بعد أن حولوا عنه إلى الكعبة، فقالوا: كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك وهم يصلون إلى بيت المقدس، وكيف بأعمالنا التى كنا نعمل فى قبلتنا، فأنزل الله تعالى:
{(وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُضِيعَ إِيمََانَكُمْ)} انظر الطبرى 2/ 17.
(2) انظر الفقرة: 30.(1/183)
الحكم سواه لأنه تعالى فى دار الدنيا قد ملّك غيره الأحكام، وفى الآخرة يختص تعالى بأمر عباده.
ثم يقال للقوم: لو كان فى مكان يرجع إليه لوجب كونه محدثا، على ما بيناه من قبل (1)، ولوجب أن لا يصح أن يفعل إلا فى مكانه وفيما قاربه.
ولو كان المراد ما قالوه لم يكن هذا القول تسلية لمن نزلت به المصيبة (2)، وإنما يختص بذلك متى أريد به المعنى الذى قلناه بأن «يتصور كل واحد أنه (3) ينزل به الموت، وأنه يرجع (4) إلى الله تعالى وإلى الآخرة على ما بيناه.
ثم يقال لهم: إن (5) كان المراد ما قلتم، فكيف جعله الله تأديبا لمن يختص بالمصيبة دون غيره، وحال الجميع سواء معه تعالى إذا كان فى مكان؟
ويقال للمجبّرة: إن كان الكفر من قبله تعالى، فيجب أن يكون أعظم فى المصيبة من سائر ما ينزل بالمرء من موت حميم وقريب، فكيف يجب أن يجعل هذا القول سلوة له؟!
59 - مسألة: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن الكافر كالممنوع من الإيمان، فقال: {«وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمََا لََا يَسْمَعُ إِلََّا دُعََاءً وَنِدََاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لََا يَعْقِلُونَ»} [171].
والجواب عن ذلك قد تقدم من قبل، فإنا (6) قد بينا أن المراد بذلك تشبيه
__________
(1) انظر الفقرة: 23.
(2) الآية 155قوله تعالى: {(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوََالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرََاتِ وَبَشِّرِ الصََّابِرِينَ)}.
(3) د: نتصوره لأحد أنه.
(4) د: يرجع آخرا.
(5) د: إذا.
(6) ف: بأنا.(1/184)
حالهم لشدة تمسكهم بالكفر وإخراجهم أنفسهم «من أن (1) ينتفعوا بما (2)
يسمعون ويبصرون، من أن يكونوا بمنزلة السميع البصير، وبينا شواهد ذلك (3).
وهذه الآية تدل على ما قلناه لأنه تعالى جعل مثلهم كمثل الناعق والمنعوق (4)، وجعل سبيلهم سبيل الأصم، ونبه بذلك على أنهم ليسوا بهذه الصفة، وأن المراد بذلك عدولهم عن طريقة الانتفاع بما كلفوه (5).
وقوله: {فَهُمْ لََا يَعْقِلُونَ} عقيب ذلك يدل عليه لأن المراد به لو كان التحقيق، وقد يكون الأصم والأبكم عاقلا، لم يكن لذلك تعلق بما تقدم، ومتى حمل على معنى التشبيه كان له به تعلق.
ثم يقال للقوم: إن كان ظاهر الآية على ما قلتم، فيجب أن يكون الكافر معذورا إذا كان الله عز وجل قد منعه عن الإيمان كما منع الأصم عن استماع الصوت، ولوجب ألا يذم ولا يوبخ، وهذا القول من الله توبيخ له وذم.
60 - دلالة: وقوله تعالى (6) {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعََامُ}
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ف: بما لا.
(3) انظر الفقرة 18.
(4) أى: والمنعوق به، من الغنم تنادى فتسمع ولا تعقل ما يقال لها، وقد شبّهوا بها.
والناعق هو الراعي، والمعنى: ومثل الذين كفروا كمثل الغنم التى لا تفهم نداء الناعق، فأضاف الله تعالى المثل الثانى إلى الناعق، وهو فى المعنى مضاف إلى المنعوق به، على مذهب العرب فى التقديم والتأخير لوضوح المعنى، وفى الآية وجوه أخرى. انظر المبرّد: (ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد) بتحقيق عبد العزيز الميمنى الراجكوتى، طبع المطبعة السلفية بالقاهرة ص: 35. الطبرى: 2/ 8279. أمالى المرتضى: 1/ 218215والأظهر فى النعق أنه الصياح بالغنم وحدها، وقال بعضهم: نعق ينعق، بالغنم والإبل والبقر.
المصدر السابق.
(5) د: كلفوا.
(6) ف: قوله.(1/185)
{مِسْكِينٍ} [1] فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ (2) فبين تعالى بذلك أن من أطاق ذلك فعليه الفدية، فلا يخلو من أن يريد: من أطاقه وفعله (3)، أو من أطاقه فلم يفعله. وقد علمنا أن فاعل الصوم لا فدية عليه، فالمراد هو الثانى، وذلك يدل على أن من لا يصوم قد يطيق الصوم، وهذا يدل على أن القدرة (4)
قبل الفعل، وأن العاصى يقدر على الإيمان.
وقوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} يدل على أنه متمكن من أن يفعل الصوم وإن لم يفعله وعدل عنه إلى الفدية، ولذلك قال بعده: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ومن لا يمكنه إلا الصوم لا يصح أن يوصف بذلك.
61 - دلالة اخرى: وقال تعالى: (5) {وَمَنْ كََانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى ََ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيََّامٍ أُخَرَ، يُرِيدُ اللََّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلََا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (6) فبين «عز وجل أنه (7) لا يريد العسر «الذى يحتمل المشقة فى الصوم (8)، وأنه يريد اليسر الذى هو الإفطار. وقد علمنا أن فى الناس من يتحمل المشقة ويفعل الصوم، وقد بين تعالى أنه لا يريد ذلك. فذلك يدل على أن فى أفعال العباد ما لم يرده تعالى إذا لم يكن طاعة، ولهذا، قال صلّى الله عليه،
__________
(1) فى النسختين: مساكين.
(2) من الآية 184، وتتمتها: {(وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)}.
(3) د: فعله.
(4) فى د: الفدية. وانظر: الفقرة 13.
(5) د: عز وجل.
(6) من الآية 185، وفى النسختين: فمن كان. وفى: ف {(فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ)}.
(7) د: أنه عز وجل.
(8) د: الذى هو تحمل المشقة ويفعل الصوم.(1/186)
فيمن يتحمل المشقة المؤذنة بالمخوف: (1) «ليس من البر الصيام فى السفر» (2).
ومن وجه آخر، وهو أنه تعالى إذا امتن علينا بأنه لا يريد بنا العسر الذي هو تحمل المشقة بالصوم: رحمة بنا ورأفة، فكيف يجوز أن نتصور أنه يريد مع ذلك بالعبد أن يكفر ويخلد بين أطباق النيران؟. ولو أن أحدنا أقبل على ولده فقال: لا أريد منك مع إشفاقى عليك أن تنصرف فى أيام القيظ، لم يجز أن يتصور مع ذلك أنه يريد أن يعذبه بالنار، وهذا مما يأباه العقل!.
ويمكن أن يستدل بظاهر الآية فيقال: إنه تعالى أطلق الكلام فقال:
{يُرِيدُ اللََّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلََا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وإن كان عقيب ذكر الصوم.
ولا يجب فى الكلام المطلق المستقل بنفسه أن يحمل على سببه (3)، وإطلاقه يقتضى أنه تعالى لا يريد بنا العسر على كل وجه. ولو أراد الكفر والمعاصى لكان قد أراد ذلك لأنه أعظم ما يوصف بذلك، لأن العسر هو الذى يضرّ، أو يؤدى إلى مضرّة عظيمة، وليس فى جملة الأفعال أعظم فى هذا الباب من الكفر.
__________
(1) ف: الخوف.
(2) سقط من د قوله: «من البر». والحديث فى البخارى من رواية جابر بن عبد الله رضى الله عنه، بلفظ: (ليس من البر الصوم فى السفر). قال جابر: كان رسول الله صلى عليه وسلم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال:
(ليس من البر) الحديث. صحيح البخارى في كتاب الصوم: 3/ 34، طبع بولاق وأخرجه مسلم برواية جابر، من طريق واحد، بلفظ: (ليس البر أن تصوموا في السفر) مسلم بشرح النووى: 7/ 233، الطبعة الأولى 1347. ورواية المؤلف ذكرها أبو عيسى الترمذى في جامعه، وقال: حديث جابر حسن صحيح الترمذى بشرح ابن العربى:
3/ 231، الطبعة الأولى 1350مصر.
(3) في د: تسببه، وانظر ما استدل به القاضى على: (أنه تعالى يريد جميع ما أمر به ورغب فيه من العبادات، وأنه لا يريد شيئا من القبائح بل يكرهها) المغنى: 6المجلد الثانى 255218، حيث جاءت الآية المذكورة دليله الثالث عشر على هذا، ص: 249248.(1/187)
62 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يريد الفساد، فقال:
{فَمَنِ اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ} (1).
والجواب عن ذلك: أن ظاهر هذه الآية يدل على أنه يأمر بالفساد والاعتداء، وليس ذلك بمذهب لأحد، لأن من يجوّز أن يريد الفساد لا يجوّز أن يأمر به ويبيحه.
والمراد بذلك: أنه أمرنا بالمجازاة على الاعتداء والانتصاف من المعتدى، وأجرى الاسم عليه على سبيل المجاز، على ما قد بيناه من قبل (2).
ثم يقال للقوم: يجب على قولكم أن يكون تعالى فعل الاعتداء أولا ثم فعله ثانيا، وما حلّ هذا المحل لا يكون حسنا، ولا يصح كونه جزاء ومقابلة.
وقوله تعالى من بعد: {وَاتَّقُوا اللََّهَ} يدل على أنه أمر فيما تقدم بالمجازاة وأن لا يتجاوز المكلف ذلك إلى المحظور فلا يكون متقيا. وقد بينا أن الأمر والنهى، والمدح، والذم، والتوبيخ، واللوم، والاستبطاء، والثواب، والعقاب، والوعظ، والإنذار، وسائر ما فى القرآن من ذلك، لا يصح إلا إذا قيل: إن العبد يفعل ويختار فيختص بهذه الأحكام.
63 - مسألة: وقوله تعالى بعد ذلك: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}
لا تعلق للمشبهة به (3)، لأنه إنما أراد: أنه معه فى معونته وتأييده وإثابته وحفظه فى هذه الوجوه، والدفع عنه، ولذلك خص به المتقين.
64 - مسألة: وقوله تعالى من بعد: {وَلََا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [195] من أوضح ما يدل على العدل، لأنه
__________
(1) قال تعالى: {(الشَّهْرُ الْحَرََامُ بِالشَّهْرِ الْحَرََامِ وَالْحُرُمََاتُ قِصََاصٌ فَمَنِ اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللََّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)} سورة البقرة 194.
(2) انظر الفقرة: 20.
(3) في د: للمشيئة.(1/188)
تعالى إن صيّرهم كفارا أو خلق فيهم المعاصى وما يؤدى إلى الهلاك، كيف يصح أن ينهاهم عن ذلك؟ وكيف يصح على طريق الإنعام أن يقول ذلك، وهو الذى يطرحهم فى المهالك!؟
وكيف يقول تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وهو الذى خلق الإحسان؟ ومحبته للإساءة والفساد عندهم كمحبة الإحسان لأن المحبة هى الإرادة، ولذلك كل ما (1) أحبه الإنسان فقد أراده، وكل ما (2) أراده، فقد أحبه، ما لم يستعمل فى إحدى اللفظتين على جهة الاتساع، فليس لأحد أن يجعل المراد بالمحبّة المدح أو ما يجرى مجراه (3).
65 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه جسم يجوز عليه المجيء والذهاب (4)، فقال: {«هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللََّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمََامِ وَالْمَلََائِكَةُ»} [210]
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام لا يصح أن يقول به قوم لأنه يوجب أنه تعالى يأتيهم فى ظلل من الغمام، بمعنى أنه مكان له وظرف، وهذا يوجب أنه أصغر من الظلل والظلل أعظم، ويوجب أن تكون الملائكة معه فى الظلل لمكان العطف. وذلك يوجب اجتماعه والملائكة فى الظلل،
__________
(1) في د: «كلّما» في الموضعين.
(2) في د: «كلّما» في الموضعين.
(3) قال القاضي. «اعلم أن المحب لو كان له، بكونه محبا، صفة سوى كونه مريدا، لوجب أن يعلمها من نفسه، أو يصل إلى ذلك بدليل، وفي بطلان ذلك دلالة على أن حال المحب هو حال المريد، ولذلك متى أراد الشيء أحبه، ومتى أحبه أراده، ولو كان أحدهما غير الآخر لامتنع كونه محبا لما يريد، أو مريدا لما يحب على بعض الوجوه» وقد عقد في المغنى 6فصلا «في أن المحبة والرضا والاختيار والولاية ترجع إلى الإرادة وما يتصل بذلك» ناقش فيه قول من قال: إن الله تعالى لا يجب كونه محبا لما يريده، وانتهى إلى القول:
بأنه تعالى إذا صح كونه مريدا فيجب كونه محبا، وكل ما صح أن يريده تعالى صح أن يحبه، وكل ما أوجب قبح محبته، أوجب قبح إرادته».
انظر المغنى: الجزء السادس (الارادة) ص: 51فما بعدها
(4) ف: والزوال.(1/189)
وليس ذلك مما يقوله القوم، ومتى تأولوه على وجه فقد زالوا عن الظاهر. ومن حمل ذلك على حقيقته فلا بد من أن يعترف فيه تعالى بأنه جسم مؤلّف مصوّر، وذلك يوجب فيه الحدوث، على ما قدمناه من قبل (1).
والمراد بذلك عندنا: أن متحملى أمره يأتون على هذا الوجه، وقد بين ذلك فى سورة النحل فقال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلََائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} (2) ونبه بذلك على أنه ذكر نفسه فى هذا الموضع وأراد أمره، ولو صح حمل ذلك على ظاهره لوجب مثله فى قوله تعالى: {فَأَتَى اللََّهُ بُنْيََانَهُمْ مِنَ الْقَوََاعِدِ} (3)
وفيما شاكله من آى التشبيه.
66 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعد ذلك ما يدل على أنه المزيّن للكفر وغيره، فقال: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا} [212] وهذا هو الذى نقول.
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يدل على أن ذلك زيّن، ولم يذكر الفاعل له، وقد بينا أن ذكر الفعل مع حذف ذكر الفاعل لا يدل على من الفاعل فى الحقيقة (4).
وبعد، فإن ظاهره يدل على أنه زيّن لهم الحياة، ولا يمتنع أن يزيّن للانسان أحوال الدنيا، وما يوجب امتداد حياته لأن ذلك قد يكون من المباحات.
__________
(1) انظر الفقرة: 23.
(2) سورة النحل: 33.
(3) سورة النحل: 26.
(4) انظر الفقرة: 45.(1/190)
والمراد بذلك عند شيوخنا رحمهم الله، أن الكفار هم الذين زينوا لأنفسهم، وزين بعضهم لبعض، وزين الشيطان ذلك، ولذلك قال من بعد: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} (1)، وذلك يدل على أنهم زينوا ما هم عليه، وأنه من شدة تمسكهم بهذه الأمور سخروا من الذين آمنوا واتقوا وتهاونوا بهم، من حيث زهدوا فى الدنيا وقلّ ركونهم إليها (2) وتمسكهم بأحوالها.
67 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعد ذلك ما يدل على أنه خصّ المؤمن بالهدى دون غيره، فقال: {فَهَدَى اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (3).
والجواب عن ذلك: قد تقدم أنا قد بينا أن تخصيصه المؤمن بأنه هداه لا يدل على أنه لم يهد غيره (4)، وإنما خصه لأنه الذى انتفع بالهدى دون غيره، «وبينا أنه قد (5) يخص المؤمن بالهدى الذى هو بمعنى الثواب، أو طريقه المؤدى إليه، إلا أن المراد فى هذا الموضع: الدلالة، ولذلك قال تعالى: {وَاللََّهُ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ولذلك علق الهدى بالحق فيما اختلفوا فيه.
68 - دلالة (6): وقوله عز وجل: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} (7)
يدل على أنه لم يشأ إعناتهم لأن هذه اللفظة إذا دخلت فى الكلام أنبأت عن
__________
(1) من تتمة الآية السابقة: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية.
(2) ساقطة من د.
(3) من الآية 213، وبعده: {«وَاللََّهُ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ»}.
(4) انظر الفقرة: (16)، والفقرة: (57).
(5) د: وقد بينا أنه.
(6) ساقطة من: ف.
(7) من الآية: 220.(1/191)
خلاف ما يأتى بعدها، فإن جاء بعدها إثبات فالمراد النفى، وإن جاء النفى (1)
فالمراد الإثبات، ولذلك لا يجوز أن يقول أحدنا: لو كان زيد عندنا لأكلنا (2)
إلا وزيد ليس عنده، فإذا صح ذلك دل ظاهر الكلام على أنه تعالى لم يشأ (3)
إعناتهم، ولو كان قد أراد الكفر وسائر المعاصى لكان قد شاء ذلك لا محالة.
والإعنات: هو ما يؤدى إلى المضرّة على وجه مخصوص، فإذا كان عندهم أنه تعالى قد أراد جميع ما يقع من ذلك، فكيف يصح أن ينفى أن يكون شائيا له؟ وهذا يدل على نفى المشيئة من كل وجه لأن هذا حق الكلام إذا دل على النفى.
ولا يجرى مجرى قوله تعالى: {وَمََا تَشََاؤُنَ إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} (4) وإلى ما شاكله لأن ذلك فى الإثبات إنما يدل على أنه قد شاء، ولا يستغرق جميع وجوه المشيئة، وهذا بيّن فى اللغة فى الفرق بين النفى والإثبات.
69 - دلالة لنا: وهو قوله عز وجل: {أُولََئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النََّارِ وَاللََّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ} (5) يدل على أنه إنما (6) أراد من عباده ما يؤديهم (7) إلى الجنة لأن الدعاء إنما يفارق التهديد دون غيره لأن لداعى يريد ما دعا إليه، ولا يفارقه بالصيغة لأنها قد تكون واحدة.
70 - وقوله تعالى: {«وَيُبَيِّنُ آيََاتِهِ لِلنََّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ»} يدل على أنه
__________
(1) ساقطة من: د.
(2) ساقطة من د.
(3) د: يرد.
(4) سورة الإنسان: 30، التكوير: 29. وفي الأصل: يشاءون.
(5) من الآية: 221، وبعده: {«بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيََاتِهِ لِلنََّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ»}.
(6) ساقطة من: ف.
(7) د: ما يدعوهم.(1/192)
يريد بالبيان أن يتذكروا، ولا يريد ممن يعصى فى ذلك الإعراض وترك التذكر وإن كان ذلك مما «يقع (1).
71 - وقوله عز وجل بعد ذلك {إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ التَّوََّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}
[222] يدل على أنه يريد التوبة والطاعة دون المعاصى، ولذلك خصهم بأنه يحبهم دون غيرهم. ولا فرق بين أن تحمل المحبة للتائب على أنها محبة لفعله، على ما يقوله أبو علىّ، وبين أن يحمل الأمر على أن المحبة هى المحبة لتعظيمه ورفعته لأن ذلك أيضا يدل على أنه يريد منهم الأمور التى عندها يحب تعظيمهم وتبجيلهم.
72 - وأما قوله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلََاقُوهُ} [223] فقد بينا الكلام فى نظيره على المشبهة (2).
73 - دلالة: قوله عز وجل: {«لََا يُؤََاخِذُكُمُ اللََّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمََانِكُمْ وَلََكِنْ يُؤََاخِذُكُمْ بِمََا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ»} [225] يدل على أن هذه الأفعال من قبلهم لأنه لا يجوز أن نؤاخذ بما تعمّدناه، ولا نؤاخذ بخلافه إلا وذلك الفعل لنا. ولو كان هو الذى خلق فينا لكان حال الكل سواء فى هذا الوجه وكان يجب فى اللغو ألا يكون لغوا لأن فاعله قد أراده وقصده، ولا يتغير حاله بصفة المفعول فيه ألا ترى أن أحدنا إذا تعمد ضرب المجنون والساهى لم يكن الضرب لغوا لحال المفعول به.
وهذه الآية تدل على أن أفعال القلوب كأفعال الجوارح، وأنها يستحق بها
__________
(1) يبدأ من هنا خرم في النسخة (د) بمقدار ورقة واحدة.
(2) انظر الفقرة (30).(1/193)
العقاب بخلاف ما يظنه بعضهم أنه إذا لم ينضف إليها فعل الجارحة لم يؤاخذ المرء عليها. ولو قلبت القضية على القوم فقيل: إن أفعال القلوب نؤاخذ بها لأنها إذا انفردت استحق الذم. ولو انفرد فعل الجارحة عن فعل القلب حتى لا يكون به عالما ولا إليه قاصدا لم يستحق ذلك لكان أقرب. وأفعال الجوارح تفتقر إلى أفعال القلوب فى تعلق المدح والذم بها، وأفعال القلوب لا تفتقر إليها فى ذلك فكيف يصح ما قالوه؟ (1).
وما روى عن النبى صلّى الله عليه أنه قال: «إن الله عز وجل تجاوز لأمتى عما حدثت به نفسها ما لم تعمل به» (2)، لا يصح لهم التعلق به فى ذلك لأن ظاهره إنما يقتضى أنه قد تجاوز عن أمته فى أمر مخصوص، وهو حديث النفس. فالظاهر إنما يريد به الخبر دون الإرادة والاعتقاد، ولا يؤاخذ الإنسان بأن يتصور الشيء ويتصور الخبر عنه.
ويحتمل أن يراد بذلك الخواطر التى تخطر من قبل الغير، لأن ذلك قد يوصف بأنه حديث النفس، ولذلك قال: «ما لم تعمل به». ولو كان الأول عملا لما اتسق ظاهر الكلام.
ويحتمل أن يريد به: تجاوز عن ذلك لأن المعلوم أنه يقع فى حكم الصغائر إذا لم ينضم إليه المعاصى، ولو كان من الباب الذى لا يؤاخذ به لم يكن لقوله «تجاوز عن أمتى» معنى لأن ذلك إنما يصح فى المعاصى التى عرض فيها ما يقتضى التجاوز عنها. ولولا العارض لكان فاعلها مؤاخذا بها وهذا بين (3).
__________
(1) فيما ذكره القاضى هنا إيضاح وشرح لما أوجزه في الفقرة (93).
(2) حديث صحيح رواه أبو هريرة مرفوعا (فتح البارى 11/ 275).
(3) راجع فتح البارى: 11/ 275274.(1/194)
74 - دلالة: وهو قوله عز وجل: {«وَالْوََالِدََاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلََادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كََامِلَيْنِ»} إلى قوله: {«لََا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلََّا وُسْعَهََا»} (1) يدل على بطلان قول القوم فى أنه تعالى قد كلف الكافر الإيمان ولم يقدره عليه ولا أوجد له السبيل إليه، بل خلق فيه الكفر والقدرة الموجبة للكفر والإرادة له لأنه لو كان كذلك لكان قد كلف الإيمان عندهم وليس فى طوقه. والمؤمن قد كلف ترك الكفر وليس فى طوقه وعندهم أن النهى كالأمر فى أنه تكليف، فالطائع قد كلف أن لا يعصى وليس ذلك فى طوقه وقد بينا أن خروج القول على سبب، لا يوجب قصره عليه إذا كان مما يستقل بنفسه (2)، ويجرى على العموم لو كان منفردا.
75 - وقوله عز وجل من بعد: {«وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ»} [236] يدل أيضا على ذلك لأنه إنما كلف كل واحد بقدر طاقته. ولو صح أن يكلف تعالى ما لا (3) يطاق، كان لا يمتنع أن يكلف المقتر ما كلف الموسع.
76 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن اكتساب العباد من فعله (4)، فقال: {وَقََالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللََّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طََالُوتَ مَلِكاً} إلى قوله: {وَاللََّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشََاءُ} (5) فخبر بأن ما أوتيه من
__________
(1) قال تعالى: {وَالْوََالِدََاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلََادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كََامِلَيْنِ لِمَنْ أَرََادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضََاعَةَ، وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، لََا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلََّا وُسْعَهََا)} الآية 233.
(2) بيانه في أصول الفقه، والقاعدة معروفة.
(3) هنا ينتهي الخرم في النسخة (د).
(4) ف: فعلهم.
(5) قال تعالى: {(وَقََالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللََّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طََالُوتَ مَلِكاً، قََالُوا: أَنََّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنََا، وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ، وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمََالِ قََالَ: إِنَّ اللََّهَ اصْطَفََاهُ عَلَيْكُمْ وَزََادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ، وَاللََّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشََاءُ وَاللََّهُ وََاسِعٌ عَلِيمٌ)} الآية 247(1/195)
الملك هو من قبله تعالى (1).
والجواب عن ذلك: أنه تعالى المختص بأنه يملّك كل واحد ما تعلق بالنعم والأرزاق لأن الرزق عندنا منحة (2) من الله وفضل، وليس من قبل الإنسان لأن أحوال الناس تختلف فيه، فمن مقدم فى العمل مؤخّر فى الرزق، ومن متأخر فى العمل متقدم فى الرزق لأنه يقع باختلاف إرادته وقصده (3)، فقد يرزق عفوا من غير قصده بميراث وهبة، وقد يتكلف طلبه ويحرمه، فإذا صح ذلك علم أنه من الله تعالى.
فلسنا ننكر أن يكون تعالى يؤتى طالوت ما خصّه به من صنوف النعم، بل لا ننكر أن يصطفيه ويخصه بالملك الذى هو نفاذ الأمر والتدبير فى الغير لأن ذلك لا يمتنع عندنا فى غير الأنبياء صلوات الله عليهم، فليس لهم فى ظاهر الآية متعلق.
77 - وقوله تعالى: {قََالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا اللََّهِ} (4) اختلف (5)
القول فيه!!
78 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن غلبة بعض العباد لبعض من قبله تعالى، فقال: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللََّهِ} (6).
__________
(1) ساقطة من ف.
(2) في د: محبة.
(3) ساقطة من ف.
(4) قال تعالى في قصة طالوت: {(قََالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا اللََّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللََّهِ وَاللََّهُ مَعَ الصََّابِرِينَ)} من الآية: 249.
(5) كذا فى الأصل، ولكن المؤلف لم يفصل شيئا من هذه الأقوال، وربما كان المراد. مضى القول فيه، ولعل قوله «اختلف» مصحف عن «تخلف» بمعنى، مضى.
بدليل تقدم شرح موضوع الملاقاة بالنسبة لله عز وجل. انظر فيما مضى الفقرة: 30.
(6) من الآية 249انظر الهامش رقم 4.(1/196)
والجواب عن ذلك: أن الإذن لا يدل بظاهره على أن المراد به (1) الخلق، وإنما يراد به الأمر أو 2التخلية والإطلاق أو (2) العلم، ولا خلاف أنه تعالى لا يجوز أن يريد به (3) الأمر إذا كانت الغلبة معصية لأنه تعالى لا يأمر بها عند الجميع، فيجب أن تحمل على الوجهين الآخرين، وإن كانت الغلبة طاعة صح حمله على الوجوه الثلاثة.
79 - مسألة: قالوا: (4) ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن الصبر وتثبيت القدم وما شاكله «مما يفعله (5) المقاتل من قبله تعالى فقال: {«وَلَمََّا بَرَزُوا لِجََالُوتَ وَجُنُودِهِ قََالُوا: رَبَّنََا أَفْرِغْ عَلَيْنََا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدََامَنََا وَانْصُرْنََا عَلَى الْقَوْمِ الْكََافِرِينَ»} [250].
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أن سؤال السائل لا يدل على أن المسئول يفعل ذلك، ولا يدل أيضا (6) على نه يحسن منه أن يفعل ما يقتضيه ظاهره لأنه إنما يحسن بشرط مظهر أو مضمر، وكشفنا القول فيه (7).
والمراد بذلك: أنهم سألوا الله تعالى أن يفعل من الألطاف ما يقوى نفوسهم ويفضى منهم بالصبر. وأن يتفضل «بما يعينهم (8) على تثبت أقدامهم، من أمور يفعلها فيهم أو فيمن ناوأهم، وأن يفعل ما يؤدى إلى ظفرهم ونصرتهم.
ثم يقال للقوم: إن مدحه لهم بالانقطاع إليه تعالى فى هذه الأدعية، يدل على أن هذه الأمور تقع باختيارهم، عند مقدمات من قبله تعالى، فلو كان كل
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ف و.
(3) ساقطة من د.
(4) د: قال.
(5) ساقطة من د.
(6) ساقطة من د.
(7) انظر الفقرة 13.
(8) د ببعثهم.(1/197)
ذلك من قبله لم يكن لهم فيه فضل (1)، ولما لحقهم المشقة بالصبر، ولما اختصوا بالظفر والنصرة، بل كان يجب أن يكون تعالى نصر بعضا على بعض بفعل (2)
يفعله فى الفريقين.
80 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعد ذلك ما يدل على أنه تعالى يريد القتال الواقع بين الكافر (3) والمؤمن، فقال: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَتْهُمُ الْبَيِّنََاتُ وَلََكِنِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ، وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مَا اقْتَتَلُوا، وَلََكِنَّ اللََّهَ يَفْعَلُ مََا يُرِيدُ} (4).
والجواب عن ذلك: أن ظاهر قوله: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ}، إنما يدل على أنه لم يشأ ذلك، ولا يدل على أنه قد شاء خلافه.
والمراد بذلك «عند شيخنا أبى على رحمه الله (5)، أنه لو شاء أن لا يجعلهم بصفات المكلفين ما اقتتلوا لأن ذلك إنما يقع منهم على هذا الحد، إذا كانوا مكلفين وعلى ذلك قادرين. ثم قال: {وَلََكِنِ اخْتَلَفُوا} بعد التكليف، فمنهم من آمن ومنهم من كفر {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مَا اقْتَتَلُوا} يعنى لو شاء أن يمنع من ذلك بالنهى وإزالة التكليف فى باب القتال لم يقتتلوا لأن المعلوم من حالهم كان ذلك. {وَلََكِنَّ اللََّهَ يَفْعَلُ مََا يُرِيدُ} بأن يكلّف بحسب ما يعلم من المصالح.
وأما غيره فقد قال: إن المراد بذلك أنه لو شاء أن يلجئهم أو يمنعهم من
__________
(1) ف: فضيلة.
(2) ساقطة من د.
(3) في د: الكفر.
(4) من الآية: 253.
(5) د: عندنا ما ذكره شيخنا أبو على رحمه الله.(1/198)
القتال لم يقتتلوا، لكنه لم يشأ ذلك بل مكّن وأقدر وأمر لكى يستحق المكلف الثواب إذا اختار الطاعة على المعصية (1). فإن قالوا: إن أراد الله تعالى مقاتلة المؤمن الكافر فيجب أن يكون مريدا لمقاتلة الكافر [المؤمن] لأن ذلك لا يتم إلا بهذا!.
قيل له: ليس بواجب إذا أراد ما عنده يقع غيره، أن يكون مريدا لذلك الغير لأن أحدنا قد يريد من غيره المداواة وإن لم يرد ما يحدث عنده من الآلام ويريد دعاء الغير ومناظرته فى باب الدين، وإن لم يرد منه الرد الذى لا يتم إلا بهذا الدعاء!.
81 - وقوله عز وجل: {أَنْفِقُوا مِمََّا رَزَقْنََاكُمْ} (2) يدل على أن المحرّم ليس برزق من الله تعالى لأنه قد نهاه عن الإنفاق منه وحظره عليه، ومنعه أشد منع بالزجر والتخويف (3).
82 - دلالة: وقوله عز وجل: {اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} [255] وتنزيهه نفسه عن أن تأخذه السّنة والنوم، يدل على أنه ليس بجسم لأن الحى إذا كان
__________
(1) هذا الرأى نسبه فى المغنى إلى شيوخه، وقال بعد أن ذكر جملة من آيات المشيئة إنهم قد «بينوا أن المراد بجميع ذلك مشيئة الإلجاء والاضطرار». وعلى ما ذكر هنا يخرج شيخه أبو على من القائلين بهذا الرأى، مع أن نسبته إلى شيوخه بعامة قد توهم أن على رأسهم أبا على.
انظر: المغنى: 6/ م: 2/ ص: 262فما بعدها.
(2) قال تعالى: {(يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمََّا رَزَقْنََاكُمْ)} الآية، سورة البقرة: 254.
(3) راجع الفقرة: 36، وتعليقنا عليها.(1/199)
جسما فلا بد (1) من صحة ذلك عليه (2).
فإن قال. فأهل الجنة أجسام، وقد روى أنهم لا ينامون (3)!
قيل له: إنا لم نقل: إن الحىّ إذا كان جسما يجب ذلك عليه، وإنما جوزناه عليه، وحكمنا بأن من لا يجوز ذلك عليه يجب نفى كونه جسما.
83 - وقوله تعالى: {وَلََا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلََّا بِمََا شََاءَ}
يدل على أنه ليس بجسم لأنه كان يجب أن يكون معلوماته متناهية، فكان لا يمتنع فى غيره أن يساويه فى العلم، بل كان لا يجب ألا يفتقر غيره (4) فى المعرفة إليه لأن الجسم إنما يصح أن يعلم بالاستدلال والنظر، أو بالاضطرار، ولا يجوز أن يفعل الجسم فى غيره العلم الضرورى.
84 - فإن سأل المخالف فقال: إن هذه الآية تدل على أنه تعالى عالم بعلم (5)، لأنه قال: {وَلََا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} فجوابه: أن ظاهره يدل
__________
(1) فى د ولا بد.
(2) ساقطة من د.
(3) المروى من صفات أهل الجنة فى كتب الصحاح أنهم لا يبصقون فيها ولا يمتخطون، ولا يتغوطون ولا يبولون. انظر فتح البارى: 6/ 250248، صحيح مسلم بشرح النووى، 17/ 174171. صحيح الترمذى بشرح ابن العربى: 10/ 10، سنن ابن ماجة:
2/ 306ورواية عدم نومهم أخرجها الطبرانى في الأوسط والبزاز عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (النوم أخو الموت، واهل الجنة لا ينامون) قال الحافظ الهيثمي: ورجال البزاز رجال الصحيح. انظر مجمع الزوائد: 10/ 415.
(4) ساقطة من د.
(5) عند الأشاعرة أنه تعالى عالم بعلم، وأنه تعالى يستحق هذه الصفة [المعنى قديم، وأنها] ليست هى الذات، بل هى زائدة على الذات. وعند المعتزلة أنه تعالى عالم بعلم هو هو، على حد تعبير أبى الهذيل، أى أنه سبحانه يستحق هذه الصفة لذاته، كما قال أبو على. وذهب ابنه أبو هاشم إلى أن العلمية حال للذات ولبست بصفة، أى أنه تعالى على حال من العلم (وحال من القدرة) وإليه ذهب القاضى عبد الجبار، حتى عد من أنصار أبى هاشم فى الأحوال. والخلاف فى هذه الصفة كالخلاف فى سائر صفات الذات بين المعتزلة وغيرهم على(1/200)
على أن علمه يتبعض لدخول لفظة التبعيض فيه، فإن تمسكتم بالظاهر فقولوا بذلك، وإن عدلتم إلى أن المراد بذلك المعلومات ليصح التبعض (1) فيها بذلك سقط التعلق بالظاهر.
والمراد بذلك أنهم لا يحيطون بشيء من معلوماته إلا بما شاء أن يعلمهم أو يدلهم عليه.
85 - وإن سأل فقال: وقد ذكر ما يدل على أنه جسم، فقال:
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ} وذلك يدل على أنه يستوى عليه، وإلا لم يكن لإضافته إليه معنى؟!
وجوابه: أن ظاهر الآية يدل على أن الكرسى بهذه الصفة، فأما أنه تعالى يستوى عليه، أو يكون مكانا له (2) فليس له فى الآية ذكر. والإضافة قد تكون على وجوه، فلا ظاهر له يصح تعلقهم به. ألا ترى أنه يقال: إحسانه، بمعنى الفعلية، ويقال: لونه بمعنى الصفة، ويقال: رأسه ويده، إذا كان بعضا له.
ويقال: داره وبيته، وقد صح بالإطباق أن يقال فى (3) الكعبة: إنها بيت الله، لا لأنه (4) يسكنها، تعالى الله عن ذلك، لكن لمزية لها فى باب العبادة الراجعة إلى العباد. وكذلك (5) القول فى الكرسى: إن إضافته إليه تعالى، هو
__________
خلاف بينهم فيما يدخل فى صفات الذات، وما تشمله صفات الأفعال
انظر: اللمع: 3126. شرح الأصول الخمسة: 182فما بعدها، الاقتصاد فى الاعتقاد للغزالى / الطبعة الأولى 1320/ ص: 60فما بعدها، حيث عرض لمذهب المعتزلة بالنقد الشديد.
(1) د التبعيض.
(2) ساقطة من د.
(3) ساقطة من د.
(4) ف: إنه.
(5) ف فذلك.(1/201)
لما بيناه، لا لما ذهبوا إليه (1).
86 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أنه الذى خلق الإيمان فى المؤمن فقال: {اللََّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ} (2) فإذا كان تعالى هو المخرج لهم من الكفر إلى الإيمان فذلك فعله.
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أن المؤمن الذى يثبت كونه مؤمنا يخرجه تعالى من الكفر إلى الإيمان، وذلك يتناقض لأن إخراجه من الكفر إلى الإيمان يجب أن يكون قد تقدم، وظاهر قوله: {يُخْرِجُهُمْ} يقتضى الاستقبال فحمله على من ثبت كونه مؤمنا لا يصح، وظاهره يقتضى أنه يخرجه تعالى من ظلمة إلى نور، واستعمالها (3) فى الإيمان والكفر مجاز، فلا ظاهر له إذا فيما تعلقوا به، ولا فرق بين من حمله على الكفر والإيمان، وبين من (4) حمله على الجنة والنار، فقال: إن الذين آمنوا يخرجهم تعالى عن طريق النار الذى هو ظلمات إلى طريق الجنة الذى هو النور.
ثم يقال للقوم: إن دلت الآية على ما قلتم، فيجب أن تدل على أن الطاغوت
__________
(1) قال ابن حزم: «وكل فاضل في طبقته فانه ينسب إلى الله عز وجل، كما نقول بيت الله، عن الكعبة، والبيوت كلها بيوت الله تعالى، ولكن لا يطلق على شيء منها هذا الاسم كما يطلق على المسجد الحرام، وكما نقول في جبريل وعيسى عليهما السلام: روح الله، والأرواح كلها لله عز وجل ملك له، وكالقول في ناقة صالح عليه السلام: ناقة الله، والنوق كلها لله عز وجل».
الفصل: 2/ 168167.
(2) من الآية 257، وتتمتها: {«وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيََاؤُهُمُ الطََّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمََاتِ أُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ»}.
(3) أى هذه الجملة من الظلمة والنور.
(4) ساقطة من د.(1/202)
يخرج الكفار من النور إلى الظلمات (1)، وعلى أن الكفر (2) من فعله (3).
ومتى تأولوا ذلك على بعض الوجوه عدلوا عن الظاهر!.
وبعد، فلم صار تعالى وليا للذين آمنوا إن كان الإيمان من قبله تعالى ولا صنيع لهم فيه؟ ولم فصل بين المؤمن والكافر، فجعل أولياء الكافر الطاغوت، وخص نفسه بأنه يتولى المؤمن؟ إنما يدل ذلك على أن الكفر والإيمان من قبل العبد فيستحق بأحدهما الولاية، وبالآخر العداوة (4).
87 - دلالة: وقوله (5) عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرََاهِيمَ فِي رَبِّهِ} (6) يدل على بطلان قول من نفى النظر وأبطل صحته، ويوجب أن معرفة الله تعالى تقع باكتساب (7). ووجه لدلالة فيه ظاهر، وإنما بين إبراهيم له بما لا يصح وقوعه من فعل (8) العباد، على أن للعالم صانعا مخالفا له، فلما كابر فى
__________
(1) د: الظلمة.
(2) د: النور.
(3) يلزمهم هذا لمكان الاضافة في الاخراج، في الأولى لله عز وجل، وفى الثانية إلى الطواغيت، قال الشريف المرتضى: «فكيف اقتضت الاضافة الأولى أن الايمان من فعل الله تعالى في المؤمن، ولم تقتض الاضافة الثانية أن الكفر من فعل الشياطين فى الكفار!»
انظر الأمالى 2/ 15.
(4) ف: العداوة.
(5) د: قوله.
(6) من الآية 258.
(7) تقدمت الاشارة إلى أن العلم بالله تعالى، عند القاضى، ليس ضرورة، وإنما هو اكتساب يقوم على النظر والاستدلال، وذهب أصحاب المعارف وعلى رأسهم الجاحظ إلى القول بالطبائع، وأن العبد ليس له من فعل سوى الارادة، وما عداها إنما يقع منهم طبعا لا اختيارا، فالعلم ومنه معرفته سبحانه ليس فعلا للعبد، ولا متولدا عن فعل آخر، وإنما يتم بالطبع والضرورة. وقد خص القاضى موضوع «النظر والمعارف» بجزء خاص من كتابه المغنى (الجزء 12) وهو من أوسع أجزاء هذه الموسوعة الكبرى.
انظر مقدمة الأستاذ الدكتور إبراهيم مدكور لهذا الجزء ص: د، وشرح الأصول الخمسة ص 52فما بعدها.
(8) د: قبل.(1/203)
بعض ما أورده عدل إلى نظيره، وهذه طريقة واضحة لأن المستدل بما لا يصح من العبد فعله مخير بين ذكر الجسم واللون والحياة إلى سائر ما هذا وصفه، فإذا وقعت المكابرة فى أحدهما فهو مخير بين أن يدفع الشبهة فيه. وبين أن يذكر فى تلك الطريقة «ما هو أوضح منه (1)، لأن جهة (2) الاستدلال فى الكل يتفق ولا يختلف.
88 - وقوله تعالى: {وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ} يجب أن يحمل على أن المراد به الهداية بمعنى الثواب والأخذ بهم فى طريق الجنة، أو بمعنى زيادة الهدى. وقد بينا من قبل شرح ذلك. وحمله على معنى الدلالة لا يصح، لأنه تعالى قد دل الظالم على ما كلفه، كما دل غيره، [و] لولا ذلك لم يستحق الذم بظلمه.
89 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن الأنبياء صلوات الله عليهم يجوز عليهم الكفر والجهل بالله، فقال تعالى: {وَإِذْ قََالَ إِبْرََاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ََ قََالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} إلى آخر الآية [260].
والجواب عن ذلك: أن طلبه من الله تعالى أن يريه (3) عيانا من غير تدريج، أن يحيى الموتى، لا يدل على أنه لم يؤمن ولم يعرف ربه، لكنه أراد بذلك الازدياد من الإيمان، فهو بمنزلة أن يطلب منه تعالى شرح الصدر بالألطاف والتأييد، وهذا مما يحسن طلبه، وقد بينا من القول فى باب الدعاء ما يغنى عن الإعادة.
__________
(1) في د: مما هو واضح منه.
(2) د: جهله.
(3) في د: يريد.(1/204)
وقوله تعالى: {قََالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قََالَ: بَلى ََ} يدل على بطلان ما سألوا عنه، وعلى أن المراد ما قلناه، ولمشاهدة إحياء الموتى على طريقة التدريج المعتاد، فى باب الدلالة، ضرب من الظهور والكشف لا يمتنع لأجله أن يطلب الرسول من الله تعالى أن يفعله ليزداد طمأنينة قلب وشرح صدر.
90 - دلالة: قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ ثُمَّ لََا يُتْبِعُونَ مََا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلََا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} [262] يدل على أن الحسنات تبطل بالكبائر (1)
وأن فاعلها إنما يستحق ثوابها إذا لم تبطل بالمعاصى، [و] لولا ذلك لم يكن لقوله {ثُمَّ لََا يُتْبِعُونَ مََا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلََا أَذىً} معنى.
ويدل على بطلان قول من قال: إن من (2) فعل الطاعات لا يجوز أن يحبطها شيء (3)، وأنه لا بد من أن يموت مؤمنا لأنه عز وجل قد بين أنه إنما يستحق الأجر متى لم يبطل الصدقات بالمن والأذى لأنه قد (4) يبطلها بهما جميعا!.
91 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أن الهدى ليس من البيان فى شيء فقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدََاهُمْ وَلََكِنَّ اللََّهَ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} [272]
وهذا مما قد بينا القول فيه. وإنما أراد به أنه ليس عليه أن يهتدوا،
__________
(1) ذهب المعتزلة إلى أن الكبيرة فى عرف الشرع هى كل «ما يكون عقاب فاعله أكثر من ثوابه، إما محقّقا، وإما مقدّر»، وعندهم (أن ما يستحقه المرء على الكبيرة من العقاب يحبط ثواب طاعاته، وما يستحقه على الصغيرة مكفّر في جنب ماله من الثواب).
شرح الأصول الخمسة، للقاضي ص 632.
وانظر فيه ما كتبه عن الاحباط والتكفير 637624.
(2) ساقطة من د.
(3) ساقطة من ف.
(4) ساقطة من د.(1/205)
«ويريد بذلك أنه ليس عليه إثابتهم (1) والأخذ بهم فى طريق الجنة، وأنه تعالى هو المختص بذلك.
بدلالة قوله {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} و {إِنَّمََا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هََادٍ}.
أو يريد بذلك أنه ليس عليه إلا الدعاء، فأما القبول فإليهم، وإنما خاطبه بذلك على طريق التسلية والتعزية والتصبير له على ما يقع من الكفار، كما قال عز وجل: {لَعَلَّكَ بََاخِعٌ نَفْسَكَ أَلََّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (2) وكقوله عز وجل: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلََاغُ} (3) إلى ما شاكله.
92 - دلالة: وقوله عز وجل: {فَإِنْ كََانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لََا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} (4) يدل على أن من ليس بفاعل للشيء قد يستطيعه لأنه تعالى بين أن من لا يستطيع أن يمل يملل وليه، فلو كانا جميعا لا يستطيعان قبل الفعل لم يكن لهذا القول معنى!
وقوله: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} يدل على أنه يقدر (5) أن يملى على وجهين، فأمره بذلك على وجه مخصوص، وهذا يدل على أن الإملاء يقع منه بالاختيار (6).
وقوله تعالى: {وَلََا يَأْبَ الشُّهَدََاءُ إِذََا مََا دُعُوا} (7) يدل على أن الإباء يصح منهم. وقد بينا أن اللغة تقتضى أن من هذه حاله يقدر على الشيء وخلافه (8).
__________
(1) ساقط من د.
(2) سورة الشعراء: 3.
(3) الشورى: 48.
(4) من آية المداينة 282.
(5) د: يقدر على.
(6) د: باختياره.
(7) من الآية السابقة.
(8) انظر الفقرة: 28.(1/206)
وقوله عز وجل: {وَلََا تَكْتُمُوا الشَّهََادَةَ} (1) كمثل فى أنه يدل على أنه قادر على الإعلان والكتمان.
93 - وقوله: {وَمَنْ يَكْتُمْهََا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} يدل على أن فعل القلب يستحق به العقاب (2).
94 - مسألة: قالوا: تم ذكر بعد ذلك ما يدل على أنه يفعل فيهم الكفر والضرر، فقال: {رَبَّنََا وَلََا تَحْمِلْ عَلَيْنََا إِصْراً كَمََا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنََا} (3) ودل أيضا على أنه يجوز أن يكلف ما لا يطاق، فقال: {رَبَّنََا وَلََا تُحَمِّلْنََا مََا لََا طََاقَةَ لَنََا بِهِ} (4).
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أن المسألة لا تدل على أن الشيء كيف حاله إذا فعل، وكشفنا القول فى ذلك (5)، فلا ظاهر لما قالوه: والمراد بذلك:
أنهم طلبوا من الله التخفيف فى التكليف لأن الإصر: هو الأمر الشاق، وللعبد
__________
(1) قال تعالى {(وَلََا تَكْتُمُوا الشَّهََادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهََا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)} من الآية 283.
(2) زعم الكرامية أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون التصديق بالقلب ودون سائر الأعمال وينسب إليهم البغدادى القول بأن المنافقين مؤمنون، وأن إيمان الذين كانوا على عهد النبى منهم كإيمان الملائكة والأنبياء، وقد تابعه فى ذلك على عادته الأسفراييني، فى حين يوضح الشهرستانى أنهم فرقوا بين تسمية المؤمن مؤمنا فيما يرجع إلى أحكام الظاهر والتكليف، وفيما يرجع إلى أحكام الآخرة والجزاء، فالمنافق عندهم مؤمن فى الدنيا حقيقة، مستحق للعقاب الأبدى فى الآخرة، ولعلهم لا يجعلون لذلك إيمان المنافق كإيمان التي وإيمان جبريل وميكائيل! ولا يبدو على أية حال أنهم يجعلون فعل القلب مما لا يستحق به العقاب. انظر: شرح الأصول الخمسة: 709، الفرق: 223، التبصير فى الدين للاسفرايينى يتحقق الشيخ زاهد الكوثرى، ص: 103، الملل والنحل: 1/ 154. وارجع إلى الفقرة 73.
(3) من الآية الأخيرة 286في سورة البقرة.
(4) من الآية السابقة.
(5) انظر الفقرة 14.(1/207)
أن يطلب ذلك بشرط المصلحة، ولو فعله تعالى لحسن، بل قد فعله تعالى بهذه الأمة ولذلك (1) قال صلّى الله عليه وسلم: بعثت بالحنيفية السمحة (2).
فأما قوله: {رَبَّنََا وَلََا تُحَمِّلْنََا مََا لََا طََاقَةَ لَنََا بِهِ} فقد يؤول (3) على وجوه منها: أن المراد به ما قدمناه من طلب التخفيف فى التكليف، لأن الفصيح قد يقول: الأمر الشاق لا طاقة لى به، وإن كان لو حاوله لأمكنه.
والثانى: أنه أراد (4) بذلك المغفرة وإزالة العقاب لأن العبد لا يكاد يطيق العقاب العظيم، بمعنى أنه لا يطيق تحمله، ويعظم عليه الصبر فيه.
والثالث: أنه أراد بذلك ما يقتضيه ظاهره، وهو أن لا يكلفهم بما (5)
لا يطيقون وإن كان المعلوم أنه لا يفعله، كما (6) قال: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ}
{وَلََا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} (7) وإن كان ذلك معلوما أنه لا يفعله أو سيفعله لا محالة.
وعلى هذا الوجه يسأل الأنبياء والمؤمنون الرحمة والمغفرة، وتكون الفائدة فى ذلك الانقطاع إلى الله تعالى فى المسألة على كل حال، ويكون فى ذلك (8)
الصلاح التام.
* * * __________
(1) د: وكذلك.
(2) الحديث: (بعثت بالحنيفية السمحة، ومن خالف سنتى فليس منى) أخرجه الخطيب البغدادى فى تاريخه. انظر الفتح الكبير للسيوطي: 2/ 7.
(3) ف: يدل.
(4) ف: طلب.
(5) ف، ما.
(6) د: كما أنه.
(7) سورة الشعراء، الآية 87.
(8) ساقطة من د.(1/208)
سورة آل عمران
95 - دلالة: قوله عز وجل: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرََاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنََّاسِ} [443] يدل على حدوث القرآن من جهات:
منها: أنه وصفه بأنه أنزله، وذلك لا يصح إلا فى الحادث لأن القديم يستحيل ذلك عليه، والكلام إن لم يصح إنزاله لأنه لا يبقى، فقد يصح إنزال الكتاب وإنزال ما يقوم مقامه من الحكاية.
ومنها: أنه بين أنه أنزله بالحق، وتخصيص الإنزال يدل على حدثه.
ومنها: أنه جعله متأخرا عن التوراة والإنجيل وجعلهما قبله، وما غيره قبله لا يكون إلا محدثا.
96 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يفعل (1) الكفر فى القلوب، فقال تعالى: {رَبَّنََا لََا تُزِغْ قُلُوبَنََا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنََا} [8].
والجواب عن ذلك قد مضى لأنا قد بينا أن من سأل ربه ألا يفعل فعلا لا تدل مسألته على أنه تعالى يختار ذلك ويفعله (2).
والمراد بذلك أن لا يشدد علينا المحنة فى التكليف، فيؤدى ذلك إلى زيغ القلب بعد الهداية، على ما بيناه فى قوله: {وَلََا تَحْمِلْ عَلَيْنََا إِصْراً} (3) ويجوز
__________
(1) د: تعالى.
(2) انظر الفقرة 14.
(3) انظر الفقرة 94.(1/209)
أن يراد بذلك أن لا يعدل بهم عن زيادة الهدى والألطاف فى هذا الباب.
97 - وقوله عز وجل: «من قبل (1) {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ} [7] قد بينا من قبل الوجه فيه (2).
98 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أن النصر من قبله تعالى فقال: {وَاللََّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشََاءُ} [13] وقد علمنا أن النصر هو الذى يقع من المنصور الغالب.
والجواب «عن ذلك (3) أنه تعالى لم يقل إنه الفاعل للنصر، وإنما أضافه إلى نفسه وذكر أنه يؤيد بنصره من يشاء. وقد بينا أن الإضافة لا تدل على أن المضاف من فعله، وإنما تنقسم إلى جهات (4)، فلا يصح لهم التعلق بالظاهر.
والتأييد من الله تعالى، إنما يكون بضروب (5) من الألطاف، وهكذا نقول فيمن نصر من المؤمنين على العدو «إن الله (6) يلطف له، ويكون ذلك تأييدا.
واعلم أن النصرة قد تكون بالحجة إذا ظهرت للمؤمن على العدو، وقد تكون بما يحصل له من المنزلة الرفيعة، وللكافر من الاستخفاف والإهانة. وقد تكون فى الحرب بالظفر الحاصل والغلبة. وقد تكون بتحمل المشقة فيما يؤدى إلى الثواب والسبق فى المستقبل، ولذلك قلنا: إن المؤمنين إذا غلبوا فى الدنيا لم يخرج الكفار من أن يكونوا مخذولين، من حيث يؤدى ما فعلوه إلى عقاب
__________
(1) ساقط من د.
(2) انظر الفقرة 5.
(3) ساقط من د.
(4) انظر الفقرة 85.
(5) د: بضرب.
(6) د: والله.(1/210)
عظيم، والمؤمنون (1) من أن يكونوا منصورين من حيث يستحقون بذلك الأمر الثواب الجزيل.
والله تعالى قد ينصر المؤمن فى الحرب بأن يمده بالملائكة، وقد ينصره بأن يخطر بباله ما أعد له فى الجنة فتقوى نفسه وتثبت قدمه، وقد يؤيده بإنزال ضعف النفس بالعدو لأن ذلك يوهن حاله ويضعف قلبه، فيؤدى إلى استيلاء المؤمن وغلبته.
وربما علم تعالى أن الصلاح فى المؤمن أن لا يؤيده بشيء فيحمّله الصعب ويلزمه الشاق من حيث يعلم أن له فيه المصلحة، فلا يكون مؤيدا له فى باب الظفر، وإن كان فاعلا به ما هو الأصلح والأولى.
99 - وقوله: {زُيِّنَ لِلنََّاسِ حُبُّ الشَّهَوََاتِ مِنَ النِّسََاءِ وَالْبَنِينَ} [14] قد مضى ما يدل على الكلام فيه (2)، فلا وجه لإعادته.
100 - دلالة: وقوله عز وجل: {شَهِدَ اللََّهُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ وَالْمَلََائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قََائِماً بِالْقِسْطِ} [18] يدل على أنه لا يفعل القبيح ولا يريده، ولأن من كان كل قبيح من قبله ويقع بإرادته لا يكون قائما بالقسط.
101 - وقوله من بعد: {فَإِنَّ اللََّهَ سَرِيعُ الْحِسََابِ} (3) يدل على أن الفعل للعباد، فلذلك تصح فيه المحاسبة.
102 - وقوله عز وجل: {قُلِ اللََّهُمَّ مََالِكَ الْمُلْكِ} (4) لا تعلق فيه للمخالف
__________
(1) فى النسختين: والمؤمنين.
(2) راجع الفقرة: 66.
(3) قوله تعالى: {(وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيََاتِ اللََّهِ فَإِنَّ اللََّهَ سَرِيعُ الْحِسََابِ)} من الآية 19.
(4) قال تعالى: {(قُلِ اللََّهُمَّ مََالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشََاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشََاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشََاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشََاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ، إِنَّكَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)} آل عمران 26.(1/211)
لأن الملك الذى يؤتيه من يشاء هو أحوال الدنيا، وذلك لا يكون إلا من قبله، وليس لأفعال العباد فى ذلك مدخل، وهو الذى يعز ويذل، بالتعظيم فى المؤمن والإهانة فى الكافر، وبتفضيل البعض على البعض.
فإن قال: فإنه تعالى إذا نزع الملك الذى آتاه غيره فقد ظلمه لأن أحدنا إذا وهب من غيره ثم استرده كان ظالما، وإذا حسن ذلك منه دل على صحة مذهب القوم (1)!.
قيل له: إن التمليك قد يكون مطلقا دائما وقد يكون مؤقتا، وقد بين الفقهاء ذلك فى الهبات والعوارى والعمرى والرقبى (2)، فلا يجب أن يجعل الباب واحدا، فإذا صح ذلك لم يمتنع أن يكون تعالى إنما ملّك إلى غاية، فإذا نزع كان له (3)
ذلك، كما يكون مثله (4) للمعير والمعمر، على بعض الوجوه.
__________
(1) وبعده فى د (قيل له: إن التمليك قد يكون مطلقا حسن ذلك منه دل على صحة مذهب القوم) وهى زيادة مضطربة.
(2) فى القاموس: «العمرى: ما يجعل لك عمرك أو عمره، وعمرته اياه وأعمرته:
جعلته له عمره أو عمرى» 2/ 94، وفيه: «والرقبى كبشرى أن يعطي إنسانا ملكا فأيهما مات رجع الملك لورثته وقد أرقبه الرقبى وأرقبه الدار: جعلها له رقبى» 1/ 75. وهما عند الفقهاء بمعنى كذلك، قال ابن حجر فى العمرى: (وكذا قيل لها رقبى، لأن كلا منهما يرقب متى يموت الآخر لترجع إليه، وكذا ورثته فيقومون مقامه فى ذلك. فتح البارى: 5/ 182. والجمهور على أن العمرى إذا وقعت كانت ملكا للاخذ ولا ترجع إلى الأول، إلا إذا صرح باشتراط ذلك. ابن حجر (فتح البارى) 5/ 182. وفى البخارى من حديث جابر رضى الله عنه. قال: (قضي النبى صلّى الله عليه وسلم بالعمرى أنها لمن وهبت له) / المصدر السابق. قال الربيع: سألت الشافعى عمن أعمر عمرى له ولعقبه؟ فقال هى للذى يعطاها لا ترجع إلى الذى أعطاها. الأم: 3/ 285، وعند أبى حنيفة ومحمد أن من أرقب غيره دارا ودفعها له، فهي عارية فى يده له أن يأخذها منه متى شاء. بدائع الصنائع للكاسانى:
6/ 117.
(3) ساقطة من ف.
(4) ساقطة من ف.(1/212)
فأما استرجاع الهبة للأجنبى أو للوالد (1)، فذلك يعلم بالسمع (2)، والواجب من جهة العقل أنه لا يحل الرجوع فيه، لأنه كسائر ماله بعد التمليك، فكما ليس له أخذ ما عدا الهبة من غير تراض فيه، فكذلك القول فى الهبة، والشرع هو الذى ورد بجواز ذلك، فلا يصح أن يجعل ذلك جوابا لهذا السائل.
ومن وجه آخر، وهو أنه إذا حسن أن يبيح استرجاع الهبة لأعواض عظيمة، لم يمتنع أن يحسن منه تزع الملك لعوض عظيم.
ومن وجه آخر: وهو أنه قد يجوز أن يعلم أن استدامة الملك فى ذلك العبد مفسدة، فيجب فى الدين نزعه لا محالة.
103 - مسألة: فإن قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه خص الأنبياء صلوات الله عليهم بما هم عليه من الفضل والصلاح، فقال: {إِنَّ اللََّهَ اصْطَفى ََ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرََاهِيمَ وَآلَ عِمْرََانَ عَلَى الْعََالَمِينَ} [33].
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أن ظاهر الاصطفاء لا يدل إلا على أنه اختار لأمر خاص دون غيره (3)، فمن أين أن (4) المراد ما اختصوا به من الفضيلة؟ ويجب
__________
(1) د: للولد.
(2) روى الشافعي رضي الله عنه بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:
(من وهب هبة لصلة رحم، أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد به الثواب فهو على هبته يرجع فيها إن لم يرض عنها) الأم: 3/ 283. وفى سنن النسائى: (لا يرجع أحد فى هبة إلا والد من ولده) 2/ 134133، وفى ابن ماجة:
(لا يحل للرجل أن يعطي العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده)، وفى رواية له:
(لا يرجع أحدكم فى هبته إلا الوالد من ولده) سنن ابن ماجة 2/ 36. وانظر من خرج رواية النسائى أيضا وخلاف الفقهاء فى هذا الموضوع: نيل الأوطار للشوكانى: 5/ 249246.
(3) انظر الاشارة إلى هذا، الفقرة 71.
(4) ساقطة من د.(1/213)
أن يكون (1) المراد بذلك أنه اختارهم فى باب الإرسال، وذلك فعله تعالى فيهم، فلا تعلق لهم بالظاهر.
وإن سأل فى ذلك من يقول: إن (2) الأنبياء صلّى الله عليهم أفضل من الملائكة عليهم السلام، فقال: «إنه تعالى بين أنه اصطفى الأنبياء على العالمين، وقد دخل (3) فى ذلك الملائكة كدخول الناس فيه.
فالجواب عن ذلك: أن العلماء قد اختلفوا فى العالمين، فبعضهم قال: هم جماعات الناس، وبعضهم قال بدخول الملائكة فيهم، فما لم يثبت بالدليل القاطع لا يحكم بتناول الآية [له] لأن الاسم إذا ثبت كونه مفيدا لشيء ولم يقطع فى غيره على أنه المراد، فالأصل أنه ليس بمراد إلا بدليل (4).
وبعد. فلو ثبت دخول الملائكة عليهم السلام فيه لم يدل ظاهر الكلام على أن الأنبياء عليهم السلام أفضل لأنه تعالى لا يجب إذا اختار فى الإرسال واحدا على غيره أن يكون أفضل من ذلك الغير. وإنما علمنا أن الرسل أفضل من أممهم (5) للاجماع، لا لأنهم قد اختيروا فى أداء الرسالة.
وبعد، فإن الاصطفاء ينبنى على حال متقدمة، فمن أين أن تلك الحال هى فضل من هذا حاله على غيره؟. وهلا جاز أن يكون مساويا لغيره، أو غيره أفضل منه!.
104 - وقوله تعالى من بعد (6): {وَإِذْ قََالَتِ الْمَلََائِكَةُ يََا مَرْيَمُ إِنَّ}
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ساقطة من د.
(3) فى د: أنه تعالى قد بين أنه يجوز اصطفاء الأنبياء على العالمين وذلك دخل.
(4) انظر حول موضوع تفضيل الملائكة على الأنبياء، الفقرة 181.
(5) ف: أمتهم.
(6) د: بعد ذلك.(1/214)
{اللََّهَ اصْطَفََاكِ وَطَهَّرَكِ} [42] القول فيه كالقول فيما تقدم.
105 - وقوله تعالى: {إِذََا قَضى ََ أَمْراً فَإِنَّمََا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
[47] قد تقدم مشروحا (1).
106 - وقوله تعالى من بعد: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ}
[55] يدل على صحة ما تأوّلنا عليه من قبل: الرجوع إلى الله تعالى، و [أن] المراد به الحكم دون المكان (2).
107 - وقوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللََّهُ} [54] قد بينا القول فيه وأن المراد به أنه عاقبهم على كفرهم، وأراد وأمر بالاستخفاف بهم (3).
108 - وقوله تعالى: {إِذْ قََالَ اللََّهُ يََا عِيسى ََ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرََافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [55] لا يمكنهم حمله على ظاهره لأنه «لم ذكر (4) الكفر، وإنما ذكر تطهيره من الكفار، وذلك إنما يكون بتخليصه منهم.
ويجوز أن يكون المراد بذلك أنه مطهره من أعمال الذين كفروا وأحكام كفرهم، بأن يعزه وقد أذلهم، ويعظمه وقد استخف بهم. وهذا ظاهر.
109 - وقوله عز وجل: {وَجََاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ} [55] فظاهره أن يجعلهم فوق الكفار، ولم يبين في ماذا؟
فلا ظاهر لهم فيه متعلق.
__________
(1) انظر الفقرة 51.
(2) انظر الفقرة.
(3) لم يتقدم آية فيها ذكر المكر، ولعله يعنى ما جاء في شرحه للآية 15من سورة البقرة، الفقرة 20.
(4) ف: لا ذكر.(1/215)
والمراد بذلك: أنه يجعل من اتبعه، بالتعظيم والتبجيل والظفر بالحجة، إلى ما شاكله، فوق الكفار، وكل ذلك من جعله وفعله تعالى.
110 - وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدى ََ هُدَى اللََّهِ} [73] قد مضى القول فيه، وأن المراد به أن الأدلة هى أدلته، والدين الذى يشتمل على (1)
الدليل وغيره.
111 - وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللََّهِ} (2) المراد به (3) أن الفضل هو الأموال، والأموال من قبله تعالى و (4) لا ذكر لأفعال العباد فى ذلك.
ويجوز أيضا أن يراد به النبوة.
112 - مسألة: فان سأل عن قول الله عز وجل: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} (5) فقال: أثبت الإسلام «بهذين الأمرين (6)، وليس هذا ما تقولون به؟.
فالجواب عن ذلك: أن المراد به الاستسلام والخضوع، ولم يرد به الإسلام الذى يستحق به الثواب، وقد بينا أن الإسلام إذا علق به تعالى لم يحمل على الإسلام المطلق (7)، كما أن الإيمان إذا قيل فيه: إنه بالله وبرسوله، فهو اللغوى وإن كان إطلاقه يدل على خلافه.
وإنما أراد تعالى بذلك أن أحدا لا يمتنع عليه تعالى فيما يريد إنفاذه فيه.
__________
(1) د: عليه.
(2) من الآية السابقة: 73.
(3) ساقطة من د.
(4) ساقطة من د.
(5) قال تعالى {(أَفَغَيْرَ دِينِ اللََّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)} 83.
(6) د: بالأمرين.
(7) انظر الفقرة 55.(1/216)
فأما الإسلام فمتى وقع كرها فإنه لا يستحق به الثواب، وهو تعالى إنما كلف ذلك تعريضا للمنفعة، فلا يجوز أن يقع إلا على طريقة الاختيار.
113 - دلالة: وقوله عز وجل: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتََابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتََابِ وَمََا هُوَ مِنَ الْكِتََابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ وَمََا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ} الآية [78]، يدل على أن فعل العبد ليس من خلق الله لأنه تعالى نفى (1) فى تحريفهم وفى ليهم ألسنتهم أن يكون من عنده تعالى، وأن يكون من الكتاب. وقد بينا أن أقوى ما يضاف إلى الغير هو أن يكون فعلا له (2)، فلا يجوز والله خالق ذلك أن ينفى أن يكون من عنده.
ولا يمكن أن يحمل قوله عز وجل: {وَمََا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ} على (3) أنه أريد به ليس مما أنزله لأن ذلك قد دل عليه بقوله: {وَمََا هُوَ مِنَ الْكِتََابِ} فيجب أن يكون المراد به غير المراد بنفيه أن يكون من الكتاب.
وحقق تعالى ما ذكرناه بقوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللََّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (4) فبين أن ما ذكروه كذب (5) من أنه فى الكتاب ومن أنه من عنده تعالى، وبين أنهم يعلمون ذلك لأن هذه الفرقة كانت معاندة مكذبة مع العلم والبصيرة، وإن كان فيهم من يشك فى نبوته صلّى الله عليه فى صحة ما أتى به.
__________
(1) ساقطة من د.
(2) راجع الفقرة 42وانظر الفقرتين 84، 98.
(3) ساقطة من د.
(4) تتمة الآية السابقة: 87.
(5) ساقطة من د.(1/217)
114 - ومن عجيب أمر القوم أن عندهم أنه تعالى هو يلبس الحق بالباطل ويفعل الشبه، بل هو الذى يضل، وهو يقول جل وعز: {يََا أَهْلَ الْكِتََابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبََاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} (1) ومعلوم فى الشاهد أنه لا يصح ممن الفساد كله من قبله أن يوبخ غيره على بعضه، وهو الذى أدخله فيه واضطره إليه. وهذا كقوله عز وجل: {فَمََا لَهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} (2) [فى] أنه يدل على أنه عز وجل لم يمنع من الإيمان، وإلا كان هذا القول لغوا.
ومن وجه آخر، وهو أن الشبه (3) إنما يجوز ورودها مع القول بالاختيار، فأما إذا كان تعالى هو الذى يفعل اعتقاد الباطل فى (4) المبطل، فسواء وردت الشبهة أو لم ترد فالحال واحدة، وإن فعل فيه تعالى اعتقاد الحق فكمثل. فأى تأثير للبس الحق بالباطل على هذا القول؟ وإنما يتم ذلك على ما نقول من حيث قد يختار المكلف عنده، لدخول الشبهة، ما لولاه ما كان يختاره.
وبعد، فكتمان الحق، على مذهبهم، وإظهاره بمنزلة، فلا وجه للنهى عنه لأنه تعالى إن خلق فى العبد الحق فالكتمان لا يضر، وإن خلق فيه الباطل فالكتمان والإبداء بمنزلة.
115 - دلالة: وقوله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلََامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (5) يدل على أن الدين هو الإسلام و [أن] الإيمان والإسلام
__________
(1) آل عمران: 71، وتتمة الآية: {(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)}.
(2) فى د {(فَهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ)}.
(3) ف: الشبهة.
(4) ف: على.
(5) من الآية 85.(1/218)
واحد لأنه لا بد من القول بأن الإيمان يقبل منه، فلو كان الدين والإيمان غير الإسلام لدخلا فى باب ما لا يقبل منه، فإذا يجب أن يكونا (1) الإسلام. ويدخل فى ذلك جميع الواجبات والطاعات، كانت من أفعال الجوارح أو أفعال القلوب (2). والإسلام فى هذا الموضع هو الشرعى لا اللغوى لأنه لو كان المراد به الاستسلام والخضوع لكان فى أعماله ما يجب أن يقبل لا محالة، كالصلاة وغيرها.
وليس لأحد أن يقول: إنما بين أن غير الإسلام لا يقبل فمن أين أن (3)
الإسلام مقبول؟ وذلك لأن الغرض بالكلام أن يبين مفارقة الإسلام لغيره فى القبول، فلو كان الإسلام لا يقبل لبطل هذا الغرض!
116 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يخص بالهدى المؤمن دون الكافر الظالم، فقال: {كَيْفَ يَهْدِي اللََّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمََانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجََاءَهُمُ الْبَيِّنََاتُ، وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ} [86].
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أن فى الهدى ما يكون خاصا، وهو الهدى بمعنى الثواب، وبمعنى أن يسلك بهم طريق الجنة (4)، فلا يمتنع أن يقول:
__________
(1) د: يكون. وتصح بإضافة [هو الايمان] بعد كلمة «الإسلام».
(2) قال الزمخشرى: «فاعلم أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان» الكشاف: 2/ 347، وهذا يخالف ما ذكره القاضى، والحق أن من الإسلام ما هو متابعة وانقياد باللسان دون القلب، قال تعالى:
{قََالَتِ الْأَعْرََابُ آمَنََّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلََكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنََا}، ومنه متابعة وانقياد باللسان والقلب كقوله تعالى، في حكاية عن إبراهيم: {(قََالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعََالَمِينَ)}. وكذلك الإيمان منه تصديق باللسان دون القلب، كإيمان المنافقين، يقول الله تعالى: {(ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا)} أى آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم. ومنه تصديق باللسان والقلب يقول الله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أُولََئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)}، وواضح صحة استدلال القاضى، في هذه الآية، على أن الايمان والاسلام واحد. انظر تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 366/ 367.
(3) ساقطة من د.
(4) راجع الفقرة (22).(1/219)
{كَيْفَ يَهْدِي اللََّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمََانِهِمْ} بمعنى: كيف يثيبهم ويسلك بهم طريق الجنة، مع أن كلمة العذاب قد حقت عليهم لكفرهم.
وقوله تعالى {وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ} يدل أيضا على ذلك، لأنه خص الظالم بأنه لا يهديه، فالمراد به الثواب «أو طريق الجنة، على ما بيناه. ولذلك قال بعده: {أُولََئِكَ جَزََاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللََّهِ} فبين أن جزاءهم الإبعاد من الثواب (1) والخير فكيف يهدون لهما؟
117 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن التوبة لا يجب قبولها، وأنه متفضل بذلك «وله أن يمنع منها (2)، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمََانِهِمْ} [3] ثُمَّ ازْدََادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولََئِكَ هُمُ الضََّالُّونَ [90].
والجواب عن ذلك: أن ظاهر قوله: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} لا يدل على أن التوبة على أى وجه وقعت، وقد تقع عندنا على وجه لا يجب قبولها لأن المعاين إذا حضره الموت وحصل مضطرا إلى معرفة الله تعالى، لا تقبل توبته، كما قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئََاتِ، حَتََّى إِذََا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قََالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} (4) ولذلك (5) لا تقبل توبة أهل النار لما كانوا ملجئين إلى أن لا يفعلوا القبيح، ولذلك لا يلزم المساء إليه أن يقبل الاعتذار من العاجز عن إساءته.
__________
(1) ساقط من د.
(2) في د: أن يمنع منهما.
(3) سقط من النسختين قوله بعد إيمانهم.
(4) من الآية: 18فى سورة النساء.
(5) د: وكذلك.(1/220)
فإذا صح ذلك، فمن أين أنه تعالى لا يقبل توبتهم وقد وقعت على الوجه الذى يجب قبولها!، وظاهر الكلام على ما بيناه لا يدل على ذلك لأنه أضاف التوبة إليهم، وهى لا تقع منهم على كل وجه يصح وقوعها، فادعاء العموم فى جهاتها لا يصح.
ويجوز أن يكون المراد بذلك أن التوبة المتقدمة لا تقبل، وقد ازدادوا الآن كفرا، ليتبين بذلك أن التوبة وقعت محبطة بالكفر الذى وليها، وأنها إنما تنفع (1) إذا استمر التائب على الصلاح (2). وبين أنه تعالى إذا لم يقبل توبتهم وقد ازدادوا كفرا، فهم ضالون لأن العقاب على ما بينا هو الضلال والهلاك.
118 - وقوله تعالى بعده: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمََاتُوا وَهُمْ كُفََّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى ََ بِهِ} [91] يدل على أن المراد ما قدمنا، من أن من مات على كفره لا توبة له، ولا يقبل منه الفداء.
119 - دلالة: وقوله عز وجل بعد ذلك: {وَلِلََّهِ عَلَى النََّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطََاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [97] يدل على أن القدرة قبل الفعل لأنه تعالى بين أن الحج على المستطيع، وقد ثبت وجوبه قبل الدخول فيه لأن من ليس بحاج يجب أن يدخل فيه، فإذا صح ذلك فيجب أن تكون الاستطاعة للحج حاصلة لمن لم يحج، وفى هذا صحة ما نقول من أنها متقدمة للفعل (3)، وأن الكافر والعاصى يقدران على الإيمان والطاعة.
__________
(1) د: تقع.
(2) انظر الفقرة: 77والفقرة: 160مع التعليق.
(3) ف: في الفعل.(1/221)
فإن قال: المراد به الزاد والراحلة، لقوله صلّى الله عليه وقد سئل عن ذلك إن الاستطاعة الزاد والراحلة (1).
قيل له: إن قيام الدلالة على أنهما قد أريدا بالاستطاعة لا يمنع من أن تكون الحقيقة مرادا، وإنما بين صلّى الله عليه أن القادر ببدنه لا يلزمه ذلك حتى ينضاف إليه وجود الزاد والراحلة.
فإن قال: كيف يجوز أن يراد الحقيقة والمجاز بالكلمة الواحدة؟
قيل له: ذلك لا يمتنع عندنا إذا دل الدليل عليه (2).
وبعد، فكيف يجوز أن يشترط وجودهما فى لزوم الحج ولا تكون القدرة شرطا؟ مع أنها إن وجدت صح فعل الحج، وإن وجدا دونها لم يصح وكان وجودهما كعدمهما؟ وكيف يصح أن يخفف تعالى هذا التكليف فلا يلزمه إلا مع وجودهما، وقد يلزم ذلك من لا يقدر البتة؟ وهل هذا القول إلا بمنزلة من امتن على غيره بسلوك طريق بأن (3) أوضح له الطريق وإن كان لم يقدره على سلوكه،
__________
(1) عن أنس بن مالك أن النبى صلّى الله عليه وسلم سئل في قوله عز وجل: {(مَنِ اسْتَطََاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)} فقيل: يا رسول الله ما السبيل؟ «قال: (الزاد والراحلة). رواه الدار قطنى وانظر فى تصحيح الحديث وما قال فيه العلماء: نيل الأوطار للشوكانى 4/ 168 169/ الطبعة التى بهامشها عون البارى للقنوجي.
(2) اختلف الأصوليون حول جواز استعمال اللفظ فى معنييه الحقيقى والمجازى معا فى إطلاق واحد، فذهب الشافعي وعامة أهل الحديث وبعض المتكلمين إلى جواز ذلك لعدم المانع منه، ولجواز استثناء أحد المعنيين بعد استعمال اللفظ فيهما، ومنعه الحنفية وجمهور المتكلمين لعدم وروده في اللغة، ولأن استعمال اللفظ في حقيقته يقتضى عدم القرينة الصارفة عنها، واستعماله في مجازه يوجبها، وهما متنافيان.
راجع: أصول التشريع الإسلامى، للأستاذ على حسب الله ص: 224223 الطبعة الثالثة.
(3) ساقطة من د.(1/222)
بل أعجزه عنه. وقد علمنا أن تأثير الزاد والراحلة إنما هو على وجه التبع للقدرة، وكيف يشترطان ولا يعتبر بالقدرة.
وإنما سأل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه عما لا يدل عليه الظاهر لأنهم كانوا يعقلون من الاستطاعة «القدرة فاستغنوا (1) فيها عن المسألة، ورأوا بأن أركان الدين، مما يحتاج فيه إلى سفر، لا يلزم إلا مع المال، فسألوه صلّى الله عليه وأجاب بذكر الزاد والراحلة، ليتبين أن هذا كالجهاد وغيره فى سقوطه عن الفقراء.
وبعد، فان الزاد والراحلة إنما «يصح أن (2) لهما تأثيرا على قولنا إن الإنسان يقدر على الحج وتركه فيستعين بهما (3) على الحج، فأما على قولهم فحاله لا يخلو من وجهين: إما أن يفعل فيه قدرة الحج فلا بد من كونه حاجا ولو عدم الزاد والراحلة، أو لا يوجد فيه، فلا بد من أن يكون غير حاج ولو ملك الدنيا، فأى تأثير لهما على قولهم؟!.
120 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن من ليس بكافر لا يدخل النار (4)، فقال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمََانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذََابَ بِمََا كُنْتُمْ}
__________
(1) د: والقدرة فاستفتوا.
(2) ساقط من د.
(3) ساقطة من ف.
(4) وفي هذا نفى القسم الثالث من الناس، وهم الفساق من أهل القبلة، حيث حكم عليهم الخوارج بالكفر والخلود في النار، وهذه الآية مما استدلوا به على مذهبهم، وقد قالوا فيها لقد بين تعالى أن مسودى الوجوه إنما هم الكفرة، ولا إشكال في أن الفساق من مسودى الوجوه! فيجب أن يكونوا كفرة!
راجع: شرح الأصول الخمسة: 723722.(1/223)
{تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللََّهِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ}
[107106].
والجواب عن ذلك: أنه لا تعلق للخارجى بظاهر ذلك لأنه تعالى ذكر قسمين من الناس، ولم ينف أن هناك فرقة ثالثة ولأنه لا بد لهم من القول بهذه الطريقة لأنه تعالى بين أن الذين اسودت وجوههم هم الذين كفروا بعد إيمانهم، وإذا سئل (1) عن الكافر الأصلى فلا بد من أن يقول: إنه من أهل النار، وإن لم يذكر فى الآية، فكذلك الفاسق عندنا.
وليس له أن يتأول قوله: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمََانِكُمْ} على أنه كفر بعد الإيمان الذى يثبت بالفطرة لا بالفعل، لأن ذلك ليس بحقيقة، فإن صح أن يحمله عليه ليستقيم مذهبه ليجوزنّ لنا أن نحمل الكفر (2) على أن المراد به كفر النعمة بالإقدام على الكبائر والمعاصى فيدخل الفاسق فيه!.
121 - دلالة: وقد قال تعالى ما يدل على أنه لا يريد القبيح فقال:
{وَمَا اللََّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعََالَمِينَ} [108] ولو كان كل ظلم فى العالم يقع بارادته ومشيئته لم يصح أن يقول ذلك وكان الخبر كذبا، وكان لا يصح أن ينزه نفسه عن ذلك مع أنه المريد لكل ظلم فى العالم.
فان قال: أراد بذلك أنه لا يريد أن يظلمهم وإن أراد أن يظلم بعضهم بعضا (3).
__________
(1) أى: لو سألنا الخارجي.
(2) في النسختين: الأمر.
(3) قال الأشعرى: «وإن سألوا عن قول الله عز وجل {(وَمَا اللََّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبََادِ)}
وعن قوله: {(وَمَا اللََّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعََالَمِينَ)} قيل لهم: معنى ذلك: أنه لا يريد أن يظلمهم(1/224)
قيل له: إن النفى فى الآية عام فلا يصح تخصيصه.
وبعد، فلو قلبت القضية كان أقرب، لأنه تعالى نفى أن يريد الظلم المضاف إلى العالمين (1)، وظاهر ذلك يقتضى أن الفعل منهم لأن إطلاق الظلم إذا أضيف عقل منه الإضافة إلى فاعله دون المفعول به، ولذلك يقع الذم بقولنا: إن هذا الظلم من زيد، وهذا الظلم له (2).
وبعد، فان القوم يقولون إنه تعالى مريد للكثير من الظلم الذى يضاف إليه وينفرد به، كتعذيب أطفال المشركين، وتكليف من يعلم أنه يكفر، وخلقه إياه للكفر والنار، فلا يصح لهم ذلك التأويل. ومتى قالوا: إن هذا التعذيب ليس بظلم فليرونا صفة للظلم ليس بحاصل فيه (3). لأنه تعالى إن أراد أن يظلم، ما كان يفعل إلا ما قد فعله عندهم.
وقوله تعالى بعد ذلك: {وَمََا ظَلَمَهُمُ اللََّهُ وَلََكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [117] يدل أيضا على أن الظلم من فعل العبد لأنه لو كان تعالى خلقه فيه لم يصح أن ينزه نفسه عنه ويضيفه إلى العبد.
وبعد، فإن مذهبهم يقتضى أن من الظلم من قبله ولا يصح وجوده إلا من خلقه منزّه (4) عن الظلم، ومن لا يصح أن يفعل ذلك فيه غير منزّه عنه!! وهذا كسلطان (5) جائر يأخذ أصحابه على جهة الإكراه بالفساد، وينزه نفسه عنه
__________
وإن كان أراد ظلم بعضهم لبعض، أى: فلم يرد أن يظلمهم وإن كان أراد أن يتظالموا» الابانة: 51.
(1) في د: العلم.
(2) انظر في بسط الاستدلال بالآية على هذا الوجه المغنى: 6 (المجلد الثانى) ص 240.
(3) ساقطة من ف.
(4) د: فينزه.
(5) في د: السلطان.(1/225)
ويضيفه إليهم، بل هذا أعظم لأن من أكره «على الفساد (1) يجوز على بعض الوجوه ألا يختاره إذا تحمل المشقة وآثر الصبر العظيم للثواب والمنفعة، ولا يصح ذلك من العبد إذا خلق الله فيه قدرة الظلم ونفس الظلم، فكيف يجوز والحال هذه أن يوصف بأنه الظالم لنفسه وينزه القديم عن ذلك. وهذا بيّن فى أنه تعالى لا يختار فعل الظلم البتّة، وأن ذلك من فعل العباد، وأنه يصح منهم إيثار العدل على الظلم، فمتى أقدموا على الظلم ذموا ووصفوا (2) بأنهم ظلموا أنفسهم.
122 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعد ما يدل على أن ظفر المؤمن بالكافر من قبله تعالى فقال: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللََّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللََّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [123].
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا وجوه النصرة (3)، وأنها تكون من الله تعالى إذا كانت بالفلج بالحجة، وإذا كانت بالظفر بالعدو، وإذا كانت بالإمداد بالملائكة، أو بإلقاء الرعب فى نفس العدو، أو بتقوية قلب المؤمن بالألطاف (4)
وغيرها.
فإذا صح ذلك فيجب أن يضاف النصرة يوم بدر إلى الله تعالى لأنه نصر الرسول صلّى الله عليه والمؤمنين مع قلة عددهم، من حيث أمدّهم بالملائكة على الكفار، مع كثرة عددهم.
وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} يعنى: عند الكفار، من حيث قل عددهم فى
__________
(1) ساقط من د.
(2) د: ووصفهم.
(3) انظر الفقرة 98
(4) د: بألطاف(1/226)
رأى العين، وإلا فقد ثبت أنهم أعزّاء (1)، وأنه تعالى أمر بتعظيمهم، والرفع من أقدارهم، فلا يصح إطلاق هذه الكلمة فيهم.
وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللََّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} يعنى: لكى تشكروا، وذلك يدل على أنه تعالى أراد من جميعهم الشكر على ما تقدم ذكره (2).
ثم يقال للقوم يجب على قولكم ألا يكون لما فعله تعالى من إمدادهم بالملائكة ونصرتهم لهم بهذا الوجه فائدة لأنه إن فعل فى العدو الهزيمة فوجودهم كعدمهم، وإن لم يفعل ذلك فكمثل. فأى فائدة فى هذا الفعل من الله تعالى؟ وكذلك القول فى سائر وجوه النصرة، إنه على قولهم لا فائدة فيه.
ويجب فى التحقيق أن يكون تعالى أنزل الملائكة وفعل سائر وجوه النصرة لكى يخلق فى المؤمنين الظفر وفى المشركين الهرب، وهو تعالى قادر على ذلك على كل حال، فيجب أن يكون ذلك عبثا.
123 - وقوله تعالى بعد ذلك. {وَمَا النَّصْرُ إِلََّا مِنْ عِنْدِ اللََّهِ} (3)
يجب أن يحمل على ما قلناه، وفيه من الفائدة أن يبين أن الواجب عليهم الانقطاع إلى الله تعالى وطلب النصرة «من قبله (4) وأن يعلموا أنهم إذا لزموا الطاعة وطريقة الاستقامة فهو سينصرهم لا محالة، وقد بينا من قبل أن وقوع الغلبة بالمؤمن لا يخرجه من أن يكون منصورا (5)، من حيث يستحق الثواب ويؤديه ذلك إلى منافع، ولا يخرج العدو من أن يكون مخذولا، من حيث يستحق العقاب العظيم الذى يصغر بالإضافة إليه ما لحق قلبه من السرور بالغلبة.
__________
(1) د أعزواه
(2) انظر الفقرة: 34
(3) من الآية: 126.
(4) ساقط من د.
(5) الفقرة: 98السابقة.(1/227)
124 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن جميع تصرف العبد من قبله، فقال: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [128] فإذا صار ذلك حال الرسول عليه السلام، فكذلك حال غيره.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر ذلك يقتضى ما لا يقول به مسلم، لأنه تعالى قد ثبت أنه قد جعل لرسوله أن ينذر ويبين ويدعو الى سبيل ربه بالحكمة، وقال (1): {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (2) وكل ذلك يوجب أن إليه أمورا كثيرة، ولولا ذلك لم يستحق الرفعة ولم يميز بالفضيلة ولم يلزم اتباعه والانقياد له فيما يأمر وينهى فلا ظاهر يصح تعلقهم به.
والمراد بذلك: أنه ليس فى تدبيره مصالح العباد وما يصلح أحوالهم عليه فى الدين شيء، لأنه عليه السلام ما كان يعرف ذلك. وكان إذا رأى من الكفار التشدد فى تكذيبه والرد عليه سأل الله تعالى أن يأذن له فى أن يدعو عليهم بالاستئصال، كسائر الأنبياء قبله، فعزّاه تعالى بهذا القول وبين أنه العالم بمصالحهم، ولذلك قال تعالى بعده (3): {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظََالِمُونَ} (4) فبين أن من كفر به إما أن يتوب عليهم فيصيروا من المؤمنين وإما أن يعذبهم فى الآخرة بما يكون أعظم من عذاب الدنيا.
ثم يقال للقوم: إن لم يكن له من الأمر شيء فماذا يستحق الرفعة والمدح، ولماذا خص بما ليس لغيره فى باب لزوم الطاعة؟ ولماذا يلزم اتباعه؟ فإن كان
__________
(1) ف: فقال.
(2) من الآية: 65فى سورة الزمر.
(3) د: بعد ذلك.
(4) تتمة الآية السابقة: 128، ولم تذكر فى د.(1/228)
سائر ما يفعله بمنزلة لونه وهيئته فى أنه ليس له (1) فيه شيء، فمن أين أنه يستحق المدح؟
وبعد، فإن «الأمر» فى الحقيقة هو قول القائل: افعل، فيجب أن يقتضى ظاهره أنه ليس له أن يأمر وينهى، وهذا مما لا يقول به مسلم!
125 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه لا يدخل النار إلا كافرا (2)، وهذا يصحح (3) مذهب الخوارج (4)، فقال {وَاتَّقُوا النََّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكََافِرِينَ} [131].
والجواب عن ذلك: أن كونها معدة «للكافر لا يمنع أن تكون معدة (5)
لغيرهم، فإنما تدل على أنها معدة لهم، وحال غيرهم موقوف على الدليل.
وبعد، فإنه عرّف النار ثم وصفها بأنها معدة للكافرين، فمن أين أنه أراد بذكرها جميع النيران، مع تجويز أن يريد بها نارا مخصوصا (6)؟
وقد يقال إذا كان الغالب على الشيء قوم (7) دون قوم: إنه معد لهم، كما يقول من اتخذ الطعام الكثير: أعددت ذلك للأضياف، وإن كان يريد تناول
__________
(1) ساقطة من د.
(2) د: كافر.
(3) د: يصح.
(4) المعلوم من مذهبهم أنهم يعدون مرتكب الكبيرة كافرا كما سبقت الاشارة إلى ذلك وأنه تعالى يعذب أصحاب الكبائر عذابا دائما (انظر مقالات الاسلاميين 1/ 157) ومحل استدلالهم بهذه الآية أن النار ما دامت قد أعدت للكافرين ولا يفهم من هذه النار إلا نار الآخرة فكل من دخلها كان كافرا، ولكن الآية لا تصحح لهم هذا القول على الأقل إلا إذا ثبت قولهم فى الحكم على مرتكب الكبيرة بدخول النار والخلود فيها، وهذا هو أصل مذهبهم فى الموضوع، ولا دلالة عليه فى الآية.
(5) هذه العبارة ساقطة من د.
(6) فى القاموس: «والنار مؤنث وقد تذكر» 2/ 148.
(7) ف: قوما.(1/229)
من فى الدار منه (1).
ثم يقال للقوم: أليس قد قال الله تعالى بعده: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (2) ولم يمنع من أن يكون فيها الأطفال وحور العين والولدان وإن لم يستحقوا هذا الوصف، فكذلك لا يمنع أن يدخل النار الفاسق وان لم يستحق أن يوصف «بأنه كافر (3).
126 - وقوله تعالى: {وَسََارِعُوا إِلى ََ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} من أقوى ما يدل على أن العبد هو الفاعل المختار لأنه إن كان تعالى يخلق المشى فيه، فإن قدمه وجب حصول المسارعة، وإن أخره استحالت المسارعة، فكيف يصح أن يأمره بذلك ويرغبه فيه؟
على أن المراد بقوله: {وَسََارِعُوا إِلى ََ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}: أى: سارعوا إلى ما تستحقون «المغفرة به دون نفس المغفرة مما (4) ينفرد تعالى به، فلا يجوز دخوله فى تكليفهم، والمراد بذلك التوبة والإنابة (5)، لكى يقع «التلافى فتستحق (6)
المغفرة، وهذا لا يصح إلا والعبد يؤثر فعلا على فعل.
ومدحه تعالى لهم بأنهم ينفقون فى السراء والضراء (7) على قول القوم لا وجه له لأن الحال إنما يختلف إذا تكلف المنفق مع الضراء ما لا يكاد يلحق مع السراء، وهذا لا يصح إذا كان الإنفاق من خلقه تعالى فيهم لأن الأحوال «كلها فى ذلك (8) تتفق.
__________
(1) د: منهم.
(2) الآية: 133قوله تعالى: {(وَسََارِعُوا إِلى ََ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)}.
(3) ف: إنه فاسق.
(4) د: به المغفرة.
(5) ساقطة من ف.
(6) فى د التلافى يستحق.
(7) قال تعالى، {[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرََّاءِ وَالضَّرََّاءِ وَالْكََاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعََافِينَ عَنِ النََّاسِ]}
من الآية 134.
(8) ساقط من د.(1/230)
127 - وكذلك مدحه لهم بقوله تعالى: {وَالْكََاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعََافِينَ عَنِ النََّاسِ} لأن كظم الغيظ انما يعظم وقعه متى تحمل الكلفة فى كظمه ومنع نفسه ما تقتضى (1) شهوته وهواه، وذلك لا يصح اذا كان تعالى هو الخالق لذلك فيهم.
128 - وقوله تعالى: {وَاللََّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وتخصيصه لهم بالذكر، يدل على أنه تعالى محب لإحسانهم (2) «ولو كان إرادته الاساءة (3) كإرادته الإحسان، لكان حال المسيء والمحسن فى ذلك سواء.
129 - وقوله تعالى بعد ذلك: {وَالَّذِينَ إِذََا فَعَلُوا فََاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللََّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} (4) يدل على أن العبد هو الفاعل ويبين أنه الذى أضر بنفسه، من حيث أقدم على ذنب يؤديه إلى العقاب ولو كان تعالى هو الذى خلق فيه ذلك لم يكن ظالما لنفسه (5) فكان ربه الظالم له، وكان لا يحسن «أن يلزم (6) التوبة لأن الندم على ما (7) لم يفعله قبيح ولم يكن لإضافة الذنب اليه معنى إذا كان الفاعل فيه غيره.
ثم أضاف تعالى إلى نفسه المغفرة لما كانت من فعله فقال: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللََّهُ}.
ثم بين أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن ضم الى توبته الإقلاع واستمر على ذلك، فأما اذا أصر فليس بأهل لها (8). وكل ذلك يبين ما قلناه.
__________
(1) د: ما تقتضيه.
(2) د: لهم.
(3) د: ولو أراد بهم الاساءة.
(4) الآية: 135، وتتمتها: {[وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللََّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ََ مََا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]}.
(5) ساقطة من د.
(6) ساقط من د.
(7) ساقطة من د.
(8) انظر تتمة الآية السابقة: 135.(1/231)
130 - دلالة: وقوله تعالى: {هََذََا بَيََانٌ لِلنََّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [138] يدل على أن ما تقدم ذكره دلالة للجميع، وأنه تعالى يعم كل مكلف بالبيان والتعريف وإزاحة العلة، وإنما علق (1) الله تعالى الهدى بالمتقين لما كانوا هم الذين اهتدوا به، على ما تقدم ذكره (2)، فصاروا من حيث انتفعوا به كأن الهدى ليس الا لهم، كما أن الوالد قد يتخذ المعلم على أولاده، فإذا رأى النجابة والتقدم والتعلم فى أحدهم جاز أن يقول: إنما تكلفت اتخاذ المؤدب لك، وإن كان باتخاذه تأدب الكل.
131 - مسألة: وقالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أن ما نال المسلمين من الكفار يوم أحد «من قبله تعالى (3) فقال: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيََّامُ نُدََاوِلُهََا بَيْنَ النََّاسِ} (4) فأضاف ذلك إلى نفسه.
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه يداول الأيام بين الناس، وليس فيه ذكر الأفعال، فلا تعلق لهم بالظاهر.
فإن قالوا: قد علم أن المراد به ما يحدث فى الأيام
قيل له: لكن الحوادث فيها تختلف، فلا بد من دليل يعلم به المراد بعينه، وما هذا حاله لا يصح التعلق بظاهره.
والمراد بذلك: أنه تعالى بين لأصحاب الرسول عليه السلام أن الحروب
__________
(1) د: يخص.
(2) انظر الفقرات: 16، 22، 29.
(3) ساقط من د.
(4) الآية: 140وتتمتها: {[وَلِيَعْلَمَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدََاءَ وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ الظََّالِمِينَ]}.(1/232)
لا تستمر على طريقة واحدة، فربما كانت (1) لهم وربما كانت (2) عليهم، وإن كانت النصرة على جميع الأحوال للمؤمنين لأنه تعالى لا يجوز أن يخذلهم وإن غلبوا من حيث أعد لهم الثواب العظيم لصبرهم، وأعد للكفار العقاب الأليم لغلبتهم، ولا بد من اعتبار العاقبة فى النصرة والخذلان، فظن المؤمنون أن الله لما نصرهم يوم بدر بالوجوه التى فعلها أن ذلك واجب فى كل حرب، فلما لحقهم من الكفار ما لحقهم صبرهم بهذا القول، ليبين لهم أن الدنيا منغصة، وأن أحوالها فى السراء لا تستمر، «وأن الأحوال تختلف عليهم فيها 3، لكيلا يكثر ركونهم إليها ويعلموا أن الواجب طلب الآخرة.
فإن قال: فيجب إذا جعل الغلبة مرة للكافر ومرة للمؤمن أن يكون قد خذل المؤمنين.
قيل له: قد بينا أنه تعالى قد يفعل ذلك على جهة (3) المصلحة ليكونوا الى الطاعة وإلى الزهد فى الدنيا أقرب.
وقوله تعالى بعد ذلك: {وَلِيَعْلَمَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدََاءَ}
يدل على أن ما فعله هو لضرب من المصلحة، لكى يتميز المؤمن من المنافق، ويحصل لبعضهم الشهادة المؤدية إلى النعيم العظيم.
وقوله تعالى: {وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ الظََّالِمِينَ} من بعد، يبين أن ما حصل من الكفار لم يقع لمحبته، وأنه إذا كان ساخطا فهو إلى الخذلان أقرب، ليبين أنهم وإن غلبوا فى الظاهر فليس ذلك بنصرة فى الحقيقة.
__________
(1) ف: تكون.
(2) د: وأن لا يختلف فيها.
(3) د: وجه(1/233)
132 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن القاتل لا ذنب له، فقال: {وَمََا كََانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ كِتََاباً مُؤَجَّلًا} (1)
فإذا كان موته بإذنه فلا بد من حصوله فى وقت معلوم، فلا ذنب لمن قتل.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام يدل على أنه ليس لها أن تموت إلا باذن الله، ولم يذكر تعالى أنها إذا ماتت كيف الحال، فلا تعلق لهم بالظاهر.
وبعد، فان الظاهر إنما يدل على أن من يموت حكمه ما ذكره، ولا يدخل فيه المقتول، فلا يصح تعلقهم بالظاهر أيضا من هذا الوجه.
على أنه لا يمتنع ما ذكره القوم لأن عندنا أن المقتول لا يموت إلا باذنه تعالى (2). والمراد بالإذن هاهنا العلم لأن أحدا لا يقول: إنه يموت بأمره لأن الأمر إنما يؤثر فى فعله من طاعة وغيرها، والموت من قبل الله تعالى. ونقول:
إنه «لا يقتل إلا فى الوقت (3) الذى جعله الله أجلا له.
فان قال: فيجب ألا يكون ظالما!
__________
(1) الآية: 145، وتتمتها: {[وَمَنْ يُرِدْ ثَوََابَ الدُّنْيََا نُؤْتِهِ مِنْهََا، وَمَنْ يُرِدْ ثَوََابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهََا، وَسَنَجْزِي الشََّاكِرِينَ]}.
(2) لا خلاف عند المعتزلة فى أن من قتل فقد مات بأجله، والأجل عندهم هو الوقت الذى فى معلوم الله سبحانه أن الإنسان يموت فيه أو يقتل، فإذا قتل أو مات كان ذلك بأجله، واختلفوا فى المقتول لو لم يقتل كيف يكون حاله فى الحياة والموت؟ فعند أبى الهذيل أنه كان يموت قطعا، وإلا كان القاتل قاطعا لأجله، وهذا غير ممكن، وعند البغدادية أنه كان يعيش قطعا، لأنه لو لم يعش لما كان القاتل ظالما له، وقال القاضى عبد الجبار: (والذى عندنا أنه كان يجوز أن يحيا ويجوز أن يموت، ولا يقطع على واحد من الآمرين).
المقالات: 1/ 295، شرح الأصول: 783782.
(3) د: لا يجعله ملاقى.(1/234)
قيل له: إنما صار ظالما من حيث أدخل عليه الآلام على وجه الظلم، فلا فرق بين أن يصادف أجله «أم لا (1)، فى أنه ظالم فى الحالين، ولو آلمه فى غير الأجل لمنفعة لم يكن ظالما له، فليس المعتبر فى ذلك مصادفة الأجل، والمعتبر بصفة الألم الذى فعله.
وإنما أراد تعالى الترغيب فى الثبات على قتال الكفار، بأن بين أن الموت يحصل لا محالة فى الوقت الذى علم نزوله بالعباد، وأن امتناع من امتنع من المقاتلة من المنافقين أو من ثبطهم المنافقون لا يؤخر عنهم الأجل، وهذا ظاهر بحمد الله.
ولذلك قال تعالى من بعد: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوََابَ الدُّنْيََا نُؤْتِهِ مِنْهََا} يعنى رغبة بعضهم فى الغنائم يوم أحد: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوََابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهََا}
يعنى من شدد فى المقاتلة لما أعد له (2) فى الآخرة.
وبين من بعد أن من أراد الآخرة جمع الله له ما أراده، فقال: {فَآتََاهُمُ اللََّهُ ثَوََابَ الدُّنْيََا وَحُسْنَ ثَوََابِ الْآخِرَةِ} [148] مبينا بذلك أن فضل النعمة فى جنته للمخلصين العاملين بطاعة الله تعالى، على كل حال.
133 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده تعالى ما يدل على أن ما لحق المؤمنين يوم أحد من انصرافهم عن الكفار، من قبله تعالى، فقال: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} (3).
__________
(1) ساقط من ف.
(2) ساقطة من د.
(3) قال تعالى: {[وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللََّهُ وَعْدَهُ، إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتََّى إِذََا فَشِلْتُمْ وَتَنََازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مََا أَرََاكُمْ مََا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيََا، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفََا عَنْكُمْ، وَاللََّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]} الآية: 152.(1/235)
والجواب عن ذلك: أنه لو تولى صرفهم على ما يقتضيه الظاهر (1) لم يكن ليذمهم بما ذكره من قبل، وقد قال: {حَتََّى إِذََا فَشِلْتُمْ وَتَنََازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مََا أَرََاكُمْ مََا تُحِبُّونَ} يعنى يوم بدر (2) {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيََا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} فأضاف أفعالهم إليهم (3) وذمهم بها، وبين أن التنازع كان من قبلهم، وأنهم عصوا بذلك من حيث لم يثبتوا على ما رسم لهم الرسول صلّى الله عليه فى المحاربة وعدلوا عنه رغبة فى الغنائم، وأنهم فعلوا ذلك و (4) قد عظمت نعمة الله عليهم يوم بدر، ليبين لهم (5) أن المعصية تقع لمكان تقدم النعمة، فلما بين ذلك أجمع، ذكر أنه صرفهم عنهم، من حيث لم يلطف لهم ولا أعانهم. كفعله بهم (6) يوم بدر، لأنهم لما عصوا كان الصلاح التشديد عليهم بترك المعونة، فصار قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} كالجزاء على ما تقدم ذكره من معاصيهم، ولا يكون ذلك الا والمراد ما قلنا. «ولذلك قال (7): ليبتليكم: يعنى ليمتحنكم لأن لله تعالى أن يمتحن العباد بما يكون نفعا لهم فى العاقبة وإن كان يضر ويغم فى الحال، ولو كان تعالى خلق الصرف
__________
(1) ساقطة من ف.
(2) الذى عليه المفسرون يؤيده السياق أن هذا كان أيضا فى غزوة أحد، حين ظهر المسلمون على عدوهم أول الأمر، وقتلوا صاحب لواء المشركين وسبعة نفر منهم نجده على اللواء، وذلك قبل أن يتنازع الرماة ويعصوا أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم فى الثبات.
وما يرمى إليه القاضى رحمه الله من بيان المعصية وأنها تقع لمكان تقدم النعمة، حتى إنه تعالى لم يلطف لهم، حاصل فى غزوة أحد ذاتها حيث تقدم فيها الإنعام بالغلبة على المشركين، قبل أن يزلزل المسلمون لمخالفتهم أمر النبى عليه السلام، وليس لبدر فى ذلك مدخل فيما يبدو. نظر الطبرى 4/ 124وما بعدها وبخاصة ص 128الزمخشرى 1/ 223، المطبعة التجارية 1354 القرطبى 4/ 236.
(3) ساقطة من د.
(4) ساقطة من د.
(5) ساقطة من ف.
(6) ساقطة من د.
(7) د: وكذلك.(1/236)
فيهم لم يصح أن يكون مبتليا لهم به لأن ذلك انما يصح فى الألطاف التى يختار المؤمن عندها (1) الطاعة دون غيرها.
وقوله تعالى من بعد: {وَلَقَدْ عَفََا عَنْكُمْ} يدل على أنهم عصوا، ولو كان انصرافهم عن الكفار من فعله تعالى لم يكن للعفو معنى.
ثم بين تعالى أن له الفضل على المؤمنين على كل حال لأنه إذا عفا عمن عصى منهم، وأثاب من لم يعص، فقد شملت نعمته الكل.
134 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أنه تعالى فعل فى المؤمنين الهزيمة يوم أحد فقال: {فَأَثََابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} [153].
والجواب عن ذلك: أن هذا الكلام لا ظاهر له. فإنما يدل على أنه تعالى ألحقهم غما بغم، وليس للأفعال فيه ذكر، وليس فعلهم هو الغم بنفسه، وتسمية الغم إثابة مجاز فيما يعلم بالتعارف. وقوله تعالى {غَمًّا بِغَمٍّ} لا بد فيه من اتساع. وما هذا حاله لا يصح التعلق بظاهره.
والمراد بذلك: أنه تعالى ألحق قلوبهم غما بعد غم، «وكرر ذلك عنهم عند (2) فشلهم ومعصيتهم لأنه تعالى إنما يضمن لهم النصرة بشرط استمرارهم على الطاعة، فلما خالف بعضهم أمر الرسول صلّى الله عليه رغبة فى الغنائم ألحقهم الغموم لما علم من الصلاح، ولما تكرر الغموم وعاقب بعضها بعضا جاز أن يقول غما بغم وأراد: غما مع غم «وبعد غم (3) وهو فى باب الدلالة على كثرته وتضاعيفه آكد من سائر ما ذكرناه من الألطاف.
__________
(1) د: عنده.
(2) د: وكرر عليهم ذلك عند.
(3) ساقط من د.(1/237)
135 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه لا صنيع للعبد فقال: {يَقُولُونَ هَلْ لَنََا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} «وحقق ذلك بقوله: (1)
{قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلََّهِ} [154]
والجواب عن ذلك: أن أول الكلام حكاية عنهم، وقد ذمهم الله تعالى، فظاهره يوجب أنهم ليس لهم فيما يسمّى أمرا، صنع. والأفعال إذا سميت بذلك فمجاز (2)
وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلََّهِ} ظاهره إنما يدل على أن التكليف والأمر هو (3) الذى يختص به، وليس فيه ذكر الأفعال، وقد ذمهم تعالى على ذلك بقوله، من بعد: {يَقُولُونَ لَوْ كََانَ لَنََا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مََا قُتِلْنََا هََاهُنََا، قُلْ: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى ََ مَضََاجِعِهِمْ} (4)
فبين بذلك فساد ما أظهروه فى باب الزهد فى الجهاد، ورغب تعالى بذلك فى الثبات على الحروب، وبين أن من كتب عليه القتل على كل حال، فلن ينفعه التوقف عن الحرب وترك الخروج مع الرسول عليه السلام فى الجهاد.
136 - دلالة: وقوله تعالى فى وصف نبيه عليه السلام: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (5) يدل على أن أفعال العباد من قبلهم واختيارهم (6) لأنه تعالى لو خلق فعلهم فيهم لكان حال النبى عليه السلام فى أخلاقه لا يؤثر فى ذلك لأنه إن فعل فيهم مخالفته فالحال واحدة، وإن لم يفعل فيهم (7) فكمثل.
__________
(1) ساقط من د.
(2) ف: مجاز.
(3) ساقطة من ف.
(4) من الآية السابقة 154.
(5) من الآية 159.
(6) د: باختيارهم.
(7) ساقطة من د.(1/238)
وإنما يصح ذلك بأن يكون العبد مختارا قادرا على الفعل والترك، فيعلم بأن كون النبى عليه السلام غليظ القلب داعية إلى مخالفته، وخلاف ذلك يحدوه على القبول منه والتمسك بطاعته.
137 - فأما قوله تعالى من بعد: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللََّهُ فَلََا غََالِبَ لَكُمْ}
[160] فقد بينا أن النصرة من الله تكون بوجوه (1) فلا يصح أن يتعلقوا به فى أن نفس الغلبة من فعله تعالى. وبيّن أن نصرته متى حصلت لم يجز أن يكون لهم غالب لأنه إنما ينصر لكى يغلبوا، فلو جوزنا، والحال هذه، أن يغلبوا لأدّى إلى ممانعته تعالى. فأما إذا لم يرد أن ينصرهم لضرب من المصلحة فقد يجوز أن يغلبوا، وقد بينا أنه لا يجوز أن يكون خاذلا لهم من حيث لم ينصرهم.
وشيخنا أبو على رحمه الله يقول فى النصرة: إنها لا تكون إلا ثوابا فلا تفعل إلا بالمؤمنين، والخذلان لا يكون إلا عقابا فلا يفعل إلا بالكفار.
وأبو هاشم رحمه الله يقول فى الخذلان بمثل قوله، فأما النصرة فقد تكون عنده بمنزلة الثواب، وقد تكون لطفا، وتقصى القول فى ذلك يطول.
138 - وقوله تعالى من قبل: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى ََ مَضََاجِعِهِمْ} ظاهره إنما يدل على أن القتل كتب عليهم، ولا يمنع ذلك من كون القتل فعلا للقاتل، كما إذا أخبر أحدنا عن قتله وكتب ذلك لا يؤثر فى كونه قاتلا.
__________
(1) انظر الفقرة 98.(1/239)
واعلم أن الخبر والدلالة والعلم بمنزلة سواء فى أنها لا تؤثر فيما تتعلق به، وإنما تتناوله على ما هو عليه.
ولو أثرت فيه لوجب اذا أخبرنا ودللنا وعلمنا عن القديم تعالى وأوصافه، أن نكون قد جعلناه على ما هو به بالخبر والدلالة والعلم!
وكان يجب اذا كان فعلنا يقع (1) لأجل علمه تعالى، ألا يكون لنا فى ذلك صنع البتّة وأن يزول الذم والمدح.
وكان لا يكون العلم بأن يوجب كون المعلوم بأولى من أن يكون المعلوم موجبا للعلم، لأنه كما يجب أن يكون على ما يتناوله، فكذلك العلم بأن يكون علما لوقوع المعلوم على الحد الذى يتناوله. وهذا ظاهر الفساد.
139 - دلالة: وقوله تعالى: {وَلَمََّا أَصََابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهََا قُلْتُمْ أَنََّى هََذََا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [165] يدل على أن أفعالهم تقع منهم، وهم الذين يوجدون ويحدثون لأنه تعالى لو كان هو الخالق فيهم، لم يجز أن يقول لرسوله عليه السلام مجيبا لهم عن قولهم: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} كما لا يجوز أن يجعل ذلك جوابا عن ألوانهم وصورهم إذا هم سألوا عنه وشكّوا فيه.
ولا يمتنع أن يكون المراد بذلك: أنهم لما أصابهم يوم أحد من المشركين ما أصابهم، وقد أصابوهم يوم بدر بأكثر منه، بين تعالى أن ما كان يوم بدر كان بلطفه ومعرفته، وأن ما كان (2) يوم أحد انما كان لأنه تعالى خلّاهم ورأيهم، من حيث
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ساقطة من د.(1/240)
لم يثبتوا على الطاعة فى المجاهدة، لكن هذا وإن احتمله الكلام فالظاهر ما قدمناه.
وعلى الوجهين جميعا يدل على ما نذهب إليه.
140 - وقوله تعالى من بعد: {وَمََا أَصََابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعََانِ فَبِإِذْنِ اللََّهِ} [166] لا يجوز أن يتعلقوا بظاهره لأن الإذن ان أريد (1) به الأمر لم يصح لأنه تعالى لم يأمر بما أصابهم يوم أحد من المشركين، لأن ذلك معصية فلا بد من أن يحمل على أن المراد به العلم والتخلية، كأنه تعالى بين أنه لم يكن ليصيبهم ذلك إلا وهو عالم به، ولمكان معصيتهم خلّاهم ووكلهم إلى أنفسهم، «فلم ينصرهم (2) حتى نالهم، وان كان فيه مصلحة. على ما بينا.
141 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه فى مكان، فقال:
{وَلََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتاً بَلْ أَحْيََاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}
[169]
والجواب عن ذلك قد تقدم من قبل (3)، لأنا قد بينا أن هذا الكلام قد يطلق والمراد به غيره، وأن ذلك تعارف ظاهر.
وقد قال شيخنا أبو على رحمه الله: ان المراد به أنهم أحياء فى معلومه، كما يقول أحدنا لصاحبه: لا تظنن أن الأمر كما تقوله، بل هو كذا وكذا عندى، وعند الله! وإنما يعنى بذلك أنه كذلك فى معلومه، وهذا هو (4) ظاهر الكلام فلا تعلق لهم به.
__________
(1) ف: أراد.
(2) ساقط من ف.
(3) انظر فى الرد على من قال بالجسمية وأنه تعالى فى مكان: الفقرات 23، 30، 58.
(4) ساقطة من ف.(1/241)
وعنده رحمه الله: (1) أن الشهداء كانوا فى حال هذا الخطاب أحياء فى الحقيقة ويرزقون، على ما يقتضيه ظاهر الخطاب، لأنه لا ضرورة توجب ترك ظاهره، وقد دلّ رحمه الله على أن هذا هو المراد، بأنه تعالى بشّر رسوله عليه السلام به ولو كان المراد بقوله {بَلْ أَحْيََاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الإشارة إلى حال الحشر لم يكن للشهداء فيه اختصاص، ولا عدّ ذلك من البشارات، لأنه (2) معلوم فيهم وفى غيرهم.
142 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه لا يريد الإيمان من الكفار، بل يريد (3) الكفر، فقال: {وَلََا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسََارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللََّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللََّهُ أَلََّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ}
[176] فبين أنه يريد ألا يكون لهم حظ، وذلك يقتضى أنه يريد منهم الكفر وأن يصيروا إلى جهنم.
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه يريد ألا يجعل لهم حظا، وليس فيه ذكر الكفر، بل يتناقض ظاهره إن لم يحمل على ما نقوله (4)، لأن المريد لا يريد فى الحقيقة أن لا يكون الشيء، وإنما يريد حدوث الشيء وكونه، فلا بد من اثبات حذف فى الكلام. فإذا لم يعلم ما ذلك المحذوف لم يكن له ظاهر يتعلق القوم به.
والمراد بذلك: أنه تعالى بين أنهم كفروا وسارعوا إلى الكفر، وبين أنهم لن يضروا بذلك إلا أنفسهم. ثم قال من بعد: إنه تعالى يريد وقد
__________
(1) ساقطة من د.
(2) د: لأنهم.
(3) ساقطة من ف.
(4) ف. نقول.(1/242)
تقدم منهم الكفر أن يعاقبهم فى الآخرة. وهذا قولنا، لأنه يريد عقاب الكفار على سبيل الجزاء بعد وقوع الكفر منهم. ولولا أن الأمر على ما قلناه لم يكن ليعزّى الرسول عليه السلام بذلك، ولا كان له (1) فيه سلوة.
ثم يقال للقوم: كيف يصح أن ينسب تعالى المسارعة إلى الكفر إليهم وهو تعالى خلقه فيهم. وكيف يصف ذلك بأنه ضرّ لهم إن كان تعالى أضرّهم به؟
وكيف يقول: {وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} (2) وهو الذى «صيّرهم فيه (3)
143 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يريد من الكفار الزيادة فى الكفر، فقال: {وَلََا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمََا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمََا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدََادُوا إِثْماً} [178] وكما يدل قوله:
{وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ} (4) على أنه أرد من جميعهم العبادة، فكذلك هذا يدل على أنه (5) أراد زيادة الكفر.
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يدل على أنه أراد الكفر، وإنما يدل على أنه أراد العقوبة لأن ظاهر الإثم منبئ عن الجزاء، لا عن نفس الفعل، فى التعارف، ونحن لا نمنع من أن يريد تعالى ذلك، وإنما نأبى إرادته الكفر وسائر المعاصى.
وبعد، فإن هذه اللفظة قد يراد بها العاقبة «كما تدخل بمعنى كى فى الكلام (6)، وقد قال تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} (7) من حيث كان إلى ذلك مصيره، فهو المراد بقوله: {أَنَّمََا نُمْلِي لَهُمْ}
__________
(1) ساقطة من د.
(2) تتمة الآية السابقة: 176.
(3) د، صرفهم.
(4) سورة الذاريات 56.
(5) ساقطة من ف.
(6) د: كما يريد بمعنى الكلام.
(7) سورة القصص، الآية 8.(1/243)
{لِيَزْدََادُوا إِثْماً} لأنه تعالى لو مدّ لهم فى العمر لأجل ذلك لكان ظالما لهم لأنه أراد أن يكفروا ويدخلوا النار. وكيف يصح ذلك وهو يرغب فى الإيمان بكل وجوه الترغيب ويزجر عن الكفر بكل وجوه الزجر؟!
والمراد بالآية: أن حال الكفار فيما اختاروه فى عمرهم ليس بخير لهم من حال المؤمنين الذين ثبتوا على الجهاد، لأن من نافق وثبّط عن الجهاد ليس حاله كحال من ثبت عليه ورغب فيه.
ثم قال من بعد: إنما نمدّ لهم فى العمر، وإن علمنا أنهم يستمرون على الكفر، لكى يصلحوا، لأن الآية (1) واردة فى باب الجهاد، فيجب أن تكون محمولة على ما قلناه.
144 - وقوله تعالى «من بعد (2): {مََا كََانَ اللََّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ََ مََا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتََّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (3) لا يدل على أنه الذى يجعلهم بهذه الصفة لأن تميز المنافق من المؤمن ليس هو بفعل النفاق والإيمان، وإنما هو بالبيان والدلالة، فكأنه تعالى فعل من الألطاف ما يميز به حال المنافقين لئلا يركن إليهم ويقبل منهم ما يأتون به من التزهيد فى الجهاد والتثبيط عنه.
145 - دلالة: قوله تعالى: {وَأَنَّ اللََّهَ لَيْسَ بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ} (4)
قد يدل على أن الظلم من فعل العباد، لأنه قد تنزه بهذا الكلام عن الظلم،
__________
(1) ف: الآية هي.
(2) ساقط من د.
(3) من الآية 179.
(4) الآية: {[ذََلِكَ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللََّهَ لَيْسَ بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ]} 182.(1/244)
فلو كان جميعه من قبله تعالى لم يصح ذلك لأنه تمدّح بذلك. ولا يصح ذلك وهو الخالق لجميع الظلم.
فإن قال: إنما نفى أن يكون ظالما للعبيد، ولم ينف نفس الظلم (1)
قيل له: لا يخلو من أن يكون قد تنزه عن أن يسمى بذلك، أو تنزه عن الظلم، ولا يجوز أن يحمل على الاسم، فليس إلا أنه تنزه عن فعل الظلم والإكثار منه، ولا يجرى هذا مجرى نفيه أن يتخذ الصاحبة والولد أو تأخذه السّنة والنوم لأن هناك تنزه عما لا يجوز على ذاته لأن إضافة تلك الأمور إلى من تضاف إليه يكون من جهة الفعلية، فالتنزه بنفيه (2) يجب أن يقع على هذا الحد (3).
ومما يبين ذلك أنه تعالى أضاف إلى العبد جناياته وبين أنه لا يجازيه عليها إلا بالحق، ثم قال هذا القول، فقال {لَقَدْ سَمِعَ اللََّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قََالُوا إِنَّ اللََّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيََاءُ، سَنَكْتُبُ مََا قََالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيََاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذََابَ الْحَرِيقِ} (4) ثم قال: {ذََلِكَ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}
مبينا بذلك أنه أذاقهم العذاب بما كان منهم من قتلهم، وحقق ذلك بقوله:
{وَأَنَّ اللََّهَ لَيْسَ بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ} ولو كان هو الذى خلق فيهم «هذا القول وخلق فيهم (5) قتل الأنبياء لم يصح «أن يقول ذلك، ولا كان فيه زيادة فيه فى توبيخهم (6) وتأكيد ما كان منهم.
__________
(1) د: الكلام. وانظر الفقرة 121مع التعليق.
(2) د: عنه.
(3) د: الحال.
(4) سورة آل عمران: 181،
(5) ساقط من د.
(6) فى د: «أن يقول ولا كان فيه فى توبيخهم».(1/245)
146 - دلالة: قوله تعالى: {رَبَّنََا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النََّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ أَنْصََارٍ} [192] يدل على أن الظالم لا تلحقه شفاعة رسول الله صلّى الله عليه، ولا يتخلص من النار إذا مات على ظلمه وإصراره.
فان قالوا: إنما أراد: من أدخل النار من الظالمين لا ناصر له، ونحن نقول إنهم بشفاعته لا يدخلون النار أصلا
قيل له: إن قوله: {وَمََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ أَنْصََارٍ} مستقل بنفسه فلا يجب أن يختص لأجل ما تقدمه.
وبعد، فليس فيما تقدم دلالة على أنهم دخلوا النار، وإنما قال: {رَبَّنََا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النََّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وقد يقال ذلك فيمن لم يدخل النار، بل هو الأظهر فى الكلام، لما يدل عليه من الاستقبال، فلا يصح إذا ما سألوا عنه.
* * * (م 12متشابه القرآن)(1/246)
ومن سورة النساء
147 - دلالة: وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوََالَ الْيَتََامى ََ ظُلْماً إِنَّمََا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نََاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [10] يدل على أن الفاسق من أهل الصلاة متوعّد بالنار، وأنه سيصلاها لا محالة ما لم يتب لأن الذى يأكل أموال اليتامى ليس هو الكافر فلا يصح حمله عليه. ويجب كونه عاما (1) فى كل من هذا حاله، والأغلب ممن يوصف بذلك أن يكون من أهل الصلاة، وأقل أحواله أن يدخل الجميع فيه، فيجب أن (2) يقال بعمومه.
فإن قال: وكيف يأكل مال اليتيم ظلما؟
قيل له: لأن أكله له إتلاف، فإذا أتلفه وأبطله فهذا الوجه (3) ليس القصد به النفع لليتيم، فهو ظالم له (4)، فسواء حملته على الأكل الذى يقتضيه الظاهر، أو قلت: إنه ذكر الأكل وأراد به سائر وجوه الإتلاف، فدلالة الآية على ما تدل عليه واجبة.
وقوله تعالى: {إِنَّمََا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نََاراً} تفخيما لهذا الأمر وتعظيما لموقع الجناية فيه على جهة العاقبة، كأنه تعالى قال: إنه وإن كان طيبا فى الحال لذيذا فمن حيث يؤدى إلى النار كأنه بهذه الصفة فى الحال.
148 - دلالة: وقوله تعالى بعد ذكر المواريث وما حدّ فيه (5): {وَمَنْ يَعْصِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نََاراً خََالِداً فِيهََا} (6) يدل على أن
__________
(1) فى د: عالما.
(2) ساقطة من د.
(3) د: الوجه الذى.
(4) ساقطة من د.
(5) انظر الآيات: 1311من السورة.
(6) الآية 14، وتتمتها: {[وَلَهُ عَذََابٌ مُهِينٌ]}.(1/247)
من فعل ذلك من أهل الصلاة يخلد فى النار ما لم يتب.
فإن قال: فليس فيه ذكر التوبة، فيجب أن يكون مخلدا فى النار وإن تاب. قيل له: إن اشتراط التوبة معلوم بالعقل لأنه تعالى لا يجوز أن يعاقب من بذل مجهوده فى تلافى ما كان منه، كما لا يحسن ممن «أسىء إليه وقد (1)
بذل المسيء مجهوده فى الاعتذار على الوجه الصحيح أن يذمه. وما دل العقل (2)
على اشتراطه هو فى حكم المتصل بالقول، وان كان تعالى قد بين كونه شرطا فى مواضع.
فإذا صح ذلك جعلناه مشروطا، وحملنا الكلام فيما عدا ذلك على ظاهره
فإن قال: فإنه تعالى إنما توعّد من يعصى ويتعدّى (3) الحدود، ومن هذا حاله، بأن تعدى جميع الحدود، لا يكون إلا كافرا، فلا يصح تعلقكم بالظاهر!
قيل له: إن الظاهر «يقتضى أن من تلحقه سمة العاصى ويوصف بأنه قد تعدى الحدود يحلّه فى النار. ومن تجاوز من حدود الله أقلّ الجمع يقع هذا الاسم عليه، ولا يجب بذلك أن يكون كافرا، فالتعلق بالظاهر (4) صحيح.
وبعد، فإن من لم يتمسك بكل حدود الله وخرم منها واحدا، يقال: قد تعدّى حدود الله، لأن تعدّيها هو ترك المحافظة بها. ولا فرق فى ذلك بين واحدها والكثير منها. وهذا يوجب أنه إذا عصى معصية واحدة لحقه الوعيد.
فإن قال: فيجب فى صاحب الصغيرة أن يكون من أهل الوعيد، لأنه قد عصى وتعدى الحدود!
قيل له: العقل قد دل على أنه لا يستحق العقوبة، ولا يجوز أن يتوعد تعالى بالعقاب من (5) لا يستحق العقوبة.
__________
(1) فى د: أشار إليه فقد.
(2) د: العقل الصحيح.
(3) ف: ويتعدى فى.
(4) ساقطة من د.
(5) د: ممن.(1/248)
149 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه قد يمنع من التوبة وقد لا يقبلها، فقال: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئََاتِ حَتََّى إِذََا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قََالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفََّارٌ} [18]
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يدل إلا على أن التوبة ليست لمن يعمل السيئات وقد حضره الموت، وليس فيه بيان كيفيتها ولا الوجه الذى لأجله ليس له توبة.
والمراد بذلك: أن من عمل السيئات وحضره الموت وصار عند المعاينة عارفا بالله ضرورة وملجأ إلى أن لا يفعل المعصية، لم تكن له إذ ذاك التوبة، لأن من حق التوبة أن تسقط العقاب إذا كان التائب متمكنا من فعل أمثال ما تاب منه، ولو أن العاجز عن أفعال الجوارح اعتذر إلى من قتل ولده «من قتل ولده (1)، لم يجب قبول اعتذاره فى العقل، لأنه قد خرج من أن يكون متمكنا من ذلك. ولهذا لا يقبل تعالى توبة أهل النار وإن ندموا على ما كان منهم لما كانوا ملجئين إلى أن لا يفعلوا القبيح، مضطرين إلى معرفته تعالى، ولذلك سوّى تعالى بين أن يتوبوا فى حال المعاينة وبين أن يموتوا على كفرهم، مبينا بذلك أن العقاب قد حق على الجميع.
وهذا يدل على أنه تعالى قد مكن وأزاح العلة فى التوبة، وأنه يقبلها لا محالة فى أحوال السلامة، فهو بالضد مما ظنوه فى باب الدلالة.
__________
(1) ساقط من د.(1/249)
ثم يقال للقوم: إنه تعالى لو كان يخلق التوبة فى التائب مع السلامة، وكذلك (1) فى حال المعاينة، لم يكن ليفصل (2) إحدى حالتيه من الأخرى، فيجوز أن يقبلها فى حال دون حال، وإنما يصح ما ذكره تعالى إذا كان العبد هو الفاعل لها، فمتى (3) اختارها مع السلامة قبلت وسقط عقاب فاعلها، وإذا اختارها والحال ما قلناه لم يعتد بها لورود الإلجاء والاضطرار اللذين يخرجان فعله عن الصحة، وعن أن يستحق به المدح.
150 - دلالة: وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللََّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [26]
يدل على أنه تعالى قد أراد البيان والأدلة، ومن حق الدلالة «ألا تكون دلالة إلا (4)
وفاعلها قد أراد من المستدل أن يستدل بها، ولذلك لا يوصف اللص بأنه قد دل على نفسه بأثره، لما لم يرد ذلك، فيجب أن يدل (5) ما ذكرناه على أنه تعالى أراد من جميع من أراد أن يبين لهم أن يستدل ويتبين، وفى ذلك إبطال قولهم إنه لم يرد ذلك ممن أعرض وتولى.
وقوله تعالى من بعد: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} (6) يدل على مثل ما ذكرناه لحق العطف الذى فيه.
151 - دلالة: وقوله تعالى من بعد: {وَاللََّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوََاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً، يُرِيدُ اللََّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسََانُ ضَعِيفاً} [2827] يدل على أنه تعالى يريد
__________
(1) ف: وكذا.
(2) ف: تنفصل.
(3) ف: متى.
(4) ساقط من د.
(5) د: لا يدل على.
(6) من تتمة الآية السابقة: 26.(1/250)
الطاعة من العباد دون المعاصى لأنه تعالى أضاف إرادة الميل الواقع من العاصى إلى غيره، وأضاف إرادة التوبة إليه، وامتن بأنه تعالى أراد التخفيف علينا. ولو كان قد أراد الكفر لم يصح هذا الامتنان.
ومن وجه آخر، وهو أن من يريد الله منه التوبة فى المستقبل لا بد من أن يكون عاصيا فى الحال لأنه تعالى لا يريد ممن لم يعص البتة أن يتوب لأن التوبة هى الندم على ما كان منه، ولا يصح الندم على الطاعة والحسن، وإنما يصح أن يريد التوبة فى المستقبل من الكافر والفاسق، فلو كان تعالى يريد أن تتجدد المعصية فيهم حالا بعد حال، لم يصح أن يصف نفسه بأنه يريد فيهم خاصة أن يتوب عليهم.
152 - دلالة: وقوله تعالى من بعد: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَأْكُلُوا أَمْوََالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبََاطِلِ إِلََّا أَنْ تَكُونَ تِجََارَةً عَنْ تَرََاضٍ مِنْكُمْ وَلََا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللََّهَ كََانَ بِكُمْ رَحِيماً، وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ عُدْوََاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نََاراً وَكََانَ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيراً} [3029] فدل تعالى على أن من يفعل أكل المال بالباطل وقتل النفس (1) يدخله النار لا محالة، وقد يوصف بذلك الفاسق من أهل الصلاة، كالكافر، فيجب حمل الآية على العموم، ومعقول من حال الكلام أنه يريد النهى عن أن يأكل بعضنا أموال بعض، لأن من ملك المال لا ينهى عن أكله، والوعيد وارد عليه على (2) الحد الذى وقع النهى عنه، فليس لأحد أن يتعلق بذلك.
فأما قتل النفس فالنهى يتناول فيه أن يقتل بعضنا بعضا و (3) أن يقتل نفسه،
__________
(1) ف: الناس.
(2) ف: فى.
(3) ف: أو.(1/251)
وكلاهما سواء فى صحة النهى فيهما، فإن حمل على الأمرين ورد الوعيد عليهما جميعا.
وإنما قال العلماء إن المراد به: ولا يقتل بعضكم بعضا، من حيث ثبت أن الإنسان ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه، فلا يصح وحاله هذه أن ينهى عن القتل، فيجب إذا صرف النهى إلى الوجه الثانى، والوعيد إنما ورد على هذا الحد.
فكل ذلك لا يؤثر فى صحة دلالة الآية على ما ذكرناه.
153 - وقوله تعالى عقيب ذلك: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبََائِرَ مََا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئََاتِكُمْ} [31] يدل على أن من لم يجتنب الكبائر لا تكفر سيّئاته، من حيث جعل اجتنابها شرطا فى تكفير السيئات. وهذا يدل على أن من ارتكب الكبائر فهو من أهل النار، وإنما يغفر تعالى الصغائر لمن اجتنبها.
وذكر هذه الآية عقيب ما تقدم من أكل المال بالباطل وقتل النفس، يدل على أن ذلك من الكبائر، فليس لأحد أن يحمله على أن المراد به الكفر دون غيره، وكيف يصح ذلك وقد ثبت فى الشريعة فى كثير من المعاصى أنها كبائر، كعقوق الوالدين، والزنا، وشرب الخمر، والقتل، إلى ما شاكله (1).
154 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه هو الذى يفعل الإصلاح بين الزوجين فقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقََاقَ بَيْنِهِمََا، فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهََا إِنْ يُرِيدََا إِصْلََاحاً يُوَفِّقِ اللََّهُ بَيْنَهُمََا}. [35]
__________
(1) انظر بعض الروايات فى ذلك: فتح البارى شرح صحيح البخارى لابن حجر 10/ 340337. سنن النسائى: 2/ 165جامع الترمذى 8/ 97.(1/252)
فبين أنه يوفق (1) بينهما إذا أراده الحكمان.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر قوله تعالى: {يُوَفِّقِ اللََّهُ بَيْنَهُمََا} لا يدل (2)
على أنه الفاعل لما يؤثر أنه من الصلاح، لأن قول القائل: وفق فلان بين فلان وفلان، إنما يدل على أنه فعل التوفيق ولا يدل على غيره، كما إذا قيل ضرّب بينهما، دل على أنه فعل التضريب دون فعلهما، فلا يصح تعلقهم بالظاهر.
واعلم أن «التوفيق» هو اللطف إذا اتفق عنده من العبد الطاعة والإيمان (3)
ويقال لفاعله عند ذلك، إنه قد وفقه، وإن كان من قبل لا يوصف بذلك، كما يوصف فعل زيد بأنه موافقة إذا تقدم فعل عمرو، ولولاه لم يوصف بذلك، فمتى وصفناه تعالى بأنه وفق العبد فالمراد أنه فعل لما يدعوه إلى اختيار الطاعة، وأنه اختاره، فوافق وقوعه ما فعله تعالى، واتفقا فى الوجود، فصار تعالى موفّقا وصار هو موفّقا.
فإذا صح ذلك فيجب أن يكون المراد بقوله: {يُوَفِّقِ اللََّهُ بَيْنَهُمََا} أنه تعالى عند إرادتهما الإصلاح، يفعل من الألطاف ما يدعو إلى قبولهما، فمتى قبلا كان موفقا بينهما، فكيف يصح تعلق القوم بهذا الظاهر؟
ثم يقال للقوم: إن الآية بكمالها تؤذن ببطلان قولكم، لأنه تعالى إن كان
__________
(1) د: يوفق ذلك.
(2) د: الكلام.
(3) سبق أن أشرنا إلى مبدأ اللطف عند المعتزلة، والكلام فى التوفيق، والعصمة والمعونة، متصل بمقالتهم فى أفعال العباد، وأنها لا يجوز إضافتها إلى الله تعالى إلا على ضرب من التوسع والمجاز، وذلك بأن تقيد بالطاعات، فيقال: إنها من جهة الله تعالى ومن قبله، على معنى أنه «أعاننا» على ذلك و «لطف» لنا و «وفقنا» و «عصمنا» من خلافه.
وقد عرف القاضى «التوفيق» بقوله: «وأما التوفيق فهو اللطف الذى يوافق الملطوف فيه فى الوقوع، ومنه سمى توفيقا. وهذا الاسم قد يقع على من ظاهره السداد، وليس يجب أن يكون مأمون الغيب حتى يجرى عليه ذلك». شرح الأصول الخمسة: 780779.(1/253)
يفعل شقاق بينهما فنصب الحكمين فى ذلك عبث، وإرادتهما الإصلاح كمثل، لأنه متى فعل ذلك حصل (1) ما بينهما من الشقاق، كان ذلك من الحكمين أو لم يكن، و (2) إن لم يختر تعالى ذلك فيهما لم يحصل بينهما شقاق كان الحكمان وإرادتهما الصلاح أو لم يكونا، فما الفائدة على قولكم فى بعثة الحكمين ونصبهما وإرادتهما الصلاح؟ ويجب ألا يكون للتوفيق معنى، لأنه تعالى إن خلق فيهما قدرة الشقاق، فلو فعل من الألطاف ما لا نهاية له لم يقع منهما الإصلاح، وإن لم يخلق ذلك وقع، فما الفائدة فى التوفيق؟
وكيف يجوز أن يعلق التوفيق بإرادة الصلاح على مذهبهم، وإنما يجب أن يكون موقوفا على خلق قدرته تعالى فيهما على ذلك، لأنه إن لم يخلقها (3)
لم يوجد التوفيق وإن أرادا (4) الإصلاح، وان خلقها وجد وان لم يريدا (5)، فكيف يجعل ذلك كالشرط؟ وإنما يصح ذلك على قولنا من حيث قد علم من حال المكلف أنه قد يختار الأفعال عند دواع وأغراض، وقد تكون من فعله ومن فعل غيره ومن خلق الله تعالى، فإذا علم تعالى ذلك من حاله صح أن يخبر عنه.
155 - دلالة: وقوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَظْلِمُ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضََاعِفْهََا} [40] دل على أنه تعالى لا يختار فعل القبيح على وجه من الوجوه، لأن ذلك مبالغة فى نفى القبائح عنه وتنزيهه عن الظلم. وقد بينا القول فى ذلك وشرحناه (6)، ومن عجيب الأمور أن ينزه نفسه عن «أن يظلم (7)
__________
(1) ف: وحصل.
(2) ف: أو.
(3) فى د: يخلقهما.
(4) د: أراد.
(5) د: يرد.
(6) انظر الفقرة: 121والفقرة 145.
(7) د: الظلم.(1/254)
مثقال ذرة، وكل ظلم فى العالم لا يكون إلا من قبله.
فإن قال: إنه نزه نفسه عن أن يكون متفردا!
قيل له: ليس فى الآية تخصيص، فيجب أن تحمل على العموم.
وبعد، فإن المقصد بها التمدح، ولا تمدح فى أنه لا ينفرد بالظلم ويفعل كل ظلم يقع من العباد!!.
على أن قولهم فى الظلم يضاد ذلك لأن أحدنا اذا قتل غيره أو ضربه، فالظلم هو ما وجد من الألم فى جسم المضروب والمقتول، وعندهم أن الله تعالى تفرد بذلك، الا أن يتجاهلوا فيقولوا: إن ذلك ليس بظلم فى الحقيقة وإنما الظلم هو حركات يده، وهذا جهل، لأنها لو انفردت لم تكن ظلما، ولو انفردت تلك الآلام لكانت ظلما.
وبعد، فلو سلم لهم أن العبد له فى الظلم صنع لم يخرج ذلك الظلم عن أن يكون منسوبا إلى الله تعالى، لأنه فعل من القدرة ما لولاه لم يقع، ولأنه خلق الظلم على وجه لولا خلقه لم يصح من العبد أن يكتسب، فيجب أن تكون إضافته إلى الله أحق من إضافته إلى هذا العبد الذى لا يصح منه أن ينفرد به ولا أن يحدثه، ولا أن ينفك منه ومن القدرة عليه، ولو أن الواحد منا فعل فى يد الضعيف الظلم والقتل، لم يجب أن يضاف ذلك الى الضعيف دون القوى الذى حرك يده.
156 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه الفاعل لاكتساب العبد، فقال: {وَكََانَ أَمْرُ اللََّهِ مَفْعُولًا} [47] وإنما أراد بأمره مأموره.(1/255)
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الأمر يتناول القول المخصوص، وإنما يدل ذلك على أن أقواله تعالى هى أمر مفعوله، وأن كلامه محدث فتعلقهم بالظاهر لا يصح. وحمل الأمر على أن المراد به المأمور، مجاز.
وبعد، فإن ظاهر الكلام يقتضى أن أمره مفعول. ولو حملناه على المأمور لكان فيه ما يكون مفعولا وفيه خلافه، فحمله على ما يؤدى الى توفية الكلام حقه أولى.
ولو حملناه على أن المراد به الأمر الذى هو الفعل، لوجب أن يحمل على (1)
أفعاله تعالى، للإضافة الحاصلة فيه، دون أفعال العباد (2).
157 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يغفر، ما دون الشرك والكفر، لأهل الكبائر من أهل الصلاة، فقال (3): {إِنَّ اللََّهَ لََا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مََا دُونَ ذََلِكَ لِمَنْ يَشََاءُ} (4) [48].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إنما يدل على أنه لا يغفر الشرك قطعا لأن الخبر فيه غير مشروط، وأن ما دون الشرك يغفره (5) لمن يشاء، وهذه اللفظة إذا دخلت فى الكلام اقتضت فيه الإبهام والاحتمال لأن أحدنا إذا قال:
لا أؤاخذ أهل العلم بذنوبهم وأؤاخذ غيرهم من أشاء، لم يعلم بكلامه إلا ما صدر بذكره، ووجب التوقف فيما ثنى بذكره.
__________
(1) د: على بعض.
(2) ساقطة من د.
(3) ساقطة من د.
(4) حكم المعتزلة على الفاسق بالخلود فى النار وتعذيبه فيها أبد الآبدين ودهر الداهرين، خلافا للمرجئة والأشاعرة. انظر الفصل الذى كتبه القاضي فى هذا الموضوع، فى شرح الأصول الخمسة، ص: 666فما بعدها، مع ذكر الوجوه الكثيرة التى تعلق بها المرجئة فى هذه الآية، حتى عدها القاضي من قوى ما يعتمدونه، ورده المفصل على جميع هذه الوجوه:
ص 686676وانظر كذلك الفقرة القادمة: 276.
(5) ف: يغفر.(1/256)
فإن قال (1): فيجب أن تجوزوا أن يغفر تعالى الكفر الذى ليس بشرك!!
قيل له: إنه أراد بالشرك كل أنواع الكفر، وذلك هو المتعارف فى الشرع وإن كانت اللغة بخلافه، كما نقول فى الأسماء الشرعية.
ولا خلاف أيضا فى أن جميع أنواع الكفر لا تختلف فى هذا الباب، وإنما اختلفوا فى بعض أنواعه من حيث اعتقد فيه بعضهم أنه ليس بكفر أصلا، كما يقوله أصحاب المعارف فى الشك والجهل بالله تعالى (2).
فإن قال: فيجب أن يدل الظاهر على تجويز غفران من ليس بكافر.
قيل له: هذا لا يقال إن الظاهر يدل عليه لأن هذا التجويز هو شك، ولا يجوز أن يستدل بكتاب الله تعالى على الشك، فتجويز غفران ما دون الشرك قد كان فى العقل، من حيث فقدنا الدليل على أنه تعالى يعذبهم قطعا، والآية وردت ناقلة لنا فى الشرك عن حكم العقل، مبقية فيما دون الشرك، على ما كنا عليه، فيجب أن ينظر: فإن كان فى السمع ما يدل على أنه تعالى يعاقب غير الكفار فيجب أن يقال فيه، ولا يصح فى هذه الآية «أن تكون مانعة، كما
__________
(1) ف: قيل.
(2) يرى أصحاب المعارف، وعلى رأسهم الجاحظ وثمامة بن أشرس، أن المعارف إنما تقع ضرورة بالطبع عند النظر فى الأدلة، ويقولون في النظر: إنه ربما وقع طبعا واضطرارا وربما وقع اختيارا، فمتى قويت الدواعي في النظر وقع اضطرارا بالطبع، وإذا تساوت وقع اختيارا. فأما إرادة النظر فإنه مما يقع باختيار كإرادة سائر الأفعال، وهذه الطريقة هي التى دعت الجاحظ إلى التسوية بين النظر والمعرفة وبين إدراك المدركات في أن جميع ذلك يقع بالطبع.
وينسب القاضى إليهم هنا وقد رد على نظريتهم مطولا فى المغنى أنهم لا يرون الشك والجهل بالله تعالى من الأمور المكفرة، بناء على مذهبهم هذا، لأن المعاند قد نظر فعجز عن إدراك الحق وبقى على غير ملة الاسلام، وهذا ما نسبه الغزالى إلى الجاحظ وفصل القول فيه.
انظر: المغنى 12/ 316فما بعدها الملل والنحل 1/ 90، 94المستصفى 2/ 106.(1/257)
لا يصح ذلك فى طريقة العقل. وإنما المقصد بما ذكرناه أن تخرج هذه الآية من (1)
أن يكون للقوم فيها تعلق، لا أنا ندعيها دلالة لنا.
والمراد بذلك: أنه تعالى يغفر لأهل الصغائر، من حيث بين ذلك بقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبََائِرَ مََا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئََاتِكُمْ} (2) فخبر بأنه إنما يكفرها بشرط اجتناب الكبائر، وذلك يوجب حملها على الصغائر دون الكبائر (3).
158 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يخص بالفضل من يستحق المدح، فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللََّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشََاءُ} [49].
والجواب عن ذلك: أن التزكية تفيد المدح والإخبار عن الأحوال الحسنة للمزكّى، ولا تدل على أفعاله، فهو تعالى يزكّى، بمعنى أنه يخبر عن أحوالهم، وما اختصوا به من الفضائل، ولا يدل ذلك على أنه الخالق لأفعالهم.
وإنما أراد تعالى المنع من تولى الإنسان مدح نفسه على الافتخار وبين (4)
أنه تعالى يزكيهم «وقد يجوز أن يراد بذلك أن تزكيتهم (5) من حيث لا تؤثر
__________
(1) ساقط من د.
(2) النساء 31. راجع الفقرة 153.
(3) الوجه في تأويل الآية عند الزمخشرى «أن يكون الفعل المنفى والمثبت جميعا موجهين إلى قوله تعالى {(لِمَنْ يَشََاءُ)} كأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك على أن المراد بالأول: من لم يتب، وبالثانى: من تاب، ونظيره قولك: إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء، تريد لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله ويبذل القنطار لمن يستأهله» ولا يخلو هذا التأويل من تعسف، على حين يبدو أن تأويل القاضى رحمه الله على أصولهم أقرب. انظر الكشاف 1/ 273طبع التجارية 1354.
(4) ساقطة من د.
(5) ساقط من د.(1/258)
يصير وجودها كعدمها، وأنه تعالى هو المزكى من حيث ثبتت بتزكيته الأحوال التى أخبر عنها.
وهذا كما يقول الواحد منا لغيره إذا ذم شاهدا ونسبه إلى الكذب:
ما الذى ينفع من تزويرك، إنما التزوير للحاكم، من حيث كان ذلك هو الذى يقتضى ثبات ذلك الأمر دون قول غيره.
159 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يعاقب من لا يستحق، فقال: {كُلَّمََا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنََاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهََا لِيَذُوقُوا الْعَذََابَ} [56] فبين أنه يعذب الجلود المبدلة التى لم تكن له فى حال معصيته!
والجواب عن ذلك: أن المعذب هو صاحب الجلد، دونه، وليس فى الظاهر دلالة على أنه يعاقب من غير استحقاق. والمراد عندنا أنه يعيد طراوة الجلد لكى يتجدد من العذاب مثل الذى كان ميتا، كذلك أنه يديم العذاب عليهم على حد واحد، ولولا أنه تعالى يفعل ذلك لاحترق الجلد وصار بحيث تبطل عنه الحياة، ويستحيل أن تلحقه الآلام، ولا يمتنع إذا جعله كذلك أن يقال: إنه بدل الجلد بغيره كما يقال فى الماء إذا صار عذبا بعد ملوحة: إنه تغير وانه غير الذى عهدنا. وهذا ظاهر فى اللغة.
قال شيخنا أبو على رحمه الله: ولو أراد تعالى بذلك أنه يخلق لهم جلدا بعد جلد، لأدى إلى أن يعظم جسمهم حتى لا تسعهم النيران، لأن ذلك إذا فعل أدى إلى ما لا نهاية له، فلا بد أن (1) يبلغ حالهم فى العظم ما ذكرناه، وذلك مما لا يصح
__________
(1) ف: لمن.(1/259)
وقوّى به هذا التأويل، وأفسد به قول من تأوله: على أنه تعالى يعيد جلدا بعد جلد سوى جلودهم.
ولا يمتنع أن يصحح ذلك بأن يقال: إنه تعالى يعيد جلدا بعد جلد، ويدع الجلد (1) الأول يحترق ويتفرق، فيصير من أجزاء النيران، فلا يؤدى (2) ذلك الى ما ذكره رحمه الله، ويصح كلا التأويلين.
فأما قول من ظن أن الجلد يعاقب، أو له مدخل فى الباب، فبعيد، لأن الجملة هى المستحقة للذم والمدح، ولذلك (3) يحسن منا مدح السمين بعد النحافة على فعله المتقدم، ولذلك جوزنا فى يد السارق أن تعاد، إذا تاب (4)، وهو فى الجنة.
وعلى هذا الوجه يصح ما تظاهرت فيه الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه من أنه يعظم أجسام أهل النار، إذا هو عاقبهم (5)، ولو وجب أن يعتبر بأجزاء
__________
(1) في د: لما.
(2) د: يصير.
(3) د: وكذلك.
(4) ف: تاب السارق.
(5) «تعددت» الروايات عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في عظم أجسام أهل النار ولم تخل أسانيد معظمها من مقال، وأوثق ما جمعه الحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» في هذا الباب ما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: (ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد، وعرض جلده سبعون ذراعا، ومقعده من النار مثل ما بينى وبين الربذة) قال الحافظ الهيثمي: (قلت: رواه الترمذى غير أنه قال: وغلظ جلده أربعون ذراعا. وهنا سبعون. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير ربعي بن إبراهيم وهو ثقة) مجمع الزوائد:
10/ 392391. ولعل الحافظ الهيثمي قد جمع فى روايته هذه روايتين من روايات الترمذى كلتاهما لأبى هريرة، قال فى الأولى: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا وإن ضرسه مثل أحد. وإن مجلسه من جهنم كما بين مكة والمدينة) وقال فى الأخرى: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد، وفخذه مثل البيضاء، ومقعده من النار مسيرة ثلاث مثل الربذة) وفى المسافات تفاوت، لأن مثل الربذة كما بين المدينة والربذة، أما البيضاء فهو جبل مثل أحد، وعلى أية حال، فإن أعلى ما حكم به(1/260)
العاصى لم يصح ذلك، وهذا بين.
160 - دلالة: وقوله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ رَسُولٍ إِلََّا لِيُطََاعَ بِإِذْنِ اللََّهِ} [64] يدل على أنه تعالى أراد من المبعوث إليه طاعة الرسول عليه السلام، من حيث بين أنه أرسله لكى يطاع، وهذا كما دل الظاهر عليه يدل عليه العقل، لأنه تعالى لا يجوز أن يكون قصده بإرسال النبى منفعة الخلق ويريد من بعضهم أن يعصيه ويكذبه ويستخف بحقه، لأن ذلك ينقض الغرض الذى ذكرناه بالبعثة.
وإنما يجوز ما قاله القوم متى كان غرضه بالبعثة أن يضل قوما ويهدى آخرين، فأما إذا كان الغرض الطاعة من جميعهم، بإرساله، سواء، فلا بد من أن يريد من كلهم أن يطيعوه.
وقوله: {بِإِذْنِ اللََّهِ} يجوز أن يراد به: بأمره (1)، لأنه تعالى قد أمر أن تطاع رسله، ولم يبعثهم إلا لهذه (2) العلة.
161 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يجوز أن يكلف تعالى عباده ما لا يستطيعون (3)، فقال: {وَلَوْ أَنََّا كَتَبْنََا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيََارِكُمْ مََا فَعَلُوهُ إِلََّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ}
[66] وقتل النفس هو بمنزلة ما لا يستطاع، فما الذى يمنع من أن يكلف الكافر الإيمان؟
__________
الترمذى فى هذا الباب، قوله فى حديث أبى هريرة بروايته الأولى: (هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث الأعمش) والحافظ الهيثمي كذلك قد غلط الترمذى فى روايته أن غلظ جلد الكافر أربعون ذراعا، والذى فى صحيح الترمذى اثنان وأربعون! راجع صحيح الترمذى بشرح ابن العربى 10/ 4946مع الشرح، سنن ابن ماجة: 2/ 304.
(1) ف: الأمر.
(2) د: بهداه.
(3) د: يستطاع.(1/261)
والجواب عن ذلك: أن الواحد منا قادر فى الحقيقة على قتل نفسه، كما يقدر على الخروج من داره، وإن شق ذلك عليه من حيث الألم، ومن جهة أنه يقطعه عن الحياة والمنافع، فلو أنه تعالى كلف المرء ذلك لم يكن قد كلف ما لا يطاق.
ويفارق ما يقوله القوم من تكليف الكافر الإيمان ولم يقدره عليه، ولا أوجده السبيل إليه. بل فعل فيه أضداده، ولو لم يكن ذلك ممكنا مقدورا لم يصح أن يقع من القليل منهم (1)، لأن ما لا يستطاع لا يقع من أحد البتة.
وإنما أراد تعالى بذلك أن يبين أنهم لن يفوزوا بالثواب إلا بعد تكليف طاعة الله وطاعة رسوله عليه السلام، وأن لا يعدلوا عما قضاه الله وقضاه رسوله، بعثا لهم على التمسك بالتكليف وإن شق.
فإن قال: فيجوز عندكم أن يكلف الإنسان قتل نفسه فى الحقيقة أم لا؟
قيل له: إن ظاهر الآية لا يدل فى ذلك على منع أو جواز، لأنه تعالى قال:
{وَلَوْ أَنََّا كَتَبْنََا} وقد يقدر الشيء الذى لا يجوز كما يقدر الجائز.
فإن قال: فما قولكم فيه وإن لم يدل الظاهر عليه؟
قيل له: يبعد فى كمال العقل أن يكون واجبا على المرء، لأنه لو وجب لم يكن ليجب إلا لكونه لطفا فى غيره، ومن حق اللطف أن يتقدم الملطوف فيه، وليس بعد القتل حال تكليف، وإنما يصح ذلك على مذهب من يقول: إن اللطف يضامّ ما هو لطف فيه، فأما مع وجوب تقدمه فبعيد (2).
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ينقسم اللطف إلى متقدم للتكليف، ومقارن له، ومتأخر عنه، ولا شك عند القاضى فى عدم وجوب المتقدم والمقارن، أما (ما يفعله تعالى بعد حال تكليف الفعل الذى هو لطف فيه فإنه واجب فعله عليه تعالى) وينقسم اللطف عندهم من وجه آخر إلى: ما كان من فعله تعالى، وما يكون من فعل المكلف الذى اللطف له، وما يكون من غير فعل الله تعالى وغير فعل المكلف. انظر: شرح الأصول الخمسة: 521520المغنى: 13/ 27فما بعدها.
(م 13متشابه القرآن)(1/262)
فأما مقدمة القتل وفعل أوائله فلا يمتنع أن يكلفه تعالى العبد (1)، ثم يفعل تعالى «من بعد (2) ما يؤدى إلى بطلان حياته، أو يقع ذلك متولدا، على طريقة التكليف. فعلى هذا الوجه يجب أن يجرى هذا الباب.
162 - دلالة: وقوله تعالى: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} [82] يدل على بطلان قول المجبرة، وعلى صحة النظر والقياس، وعلى أن القرآن يعرف معناه، وعلى أنه معجز.
وإنما يدل على بطلان الجبر لأنه تعالى بين أنه لو كان من عند غيره لكان مختلفا، وقد علمنا أنه لم يرد الاختلاف فى الصورة وفى الجنس، لأن الكلام لا يأتلف إلا من المختلف فى الجنس والصورة، وإنما أراد بذلك أنه كان يختلف فى طريقة الحكمة، فيكون بعضه حسنا وبعضه قبيحا، وبعضه مستقيم المعنى وبعضه مضطربا، وكان لا يتفق فى جزالة اللفظ وحسن المعنى، ولو كان ما يقع فى العالم من القبائح والتفاوت، والقبيح والحسن كله (3) من عنده تعالى، لم يكن ليصح أن يجعل ذلك أمارة لكون القرآن من عنده.
فأما دلالته على صحة النظر فبين، لأنه تعالى أمر بتدبر القرآن، وبين طريقة التدبر، فلو لم يكن (4) يلزم فيه النظر والفكر، لكى يعلم حاله، لكان ذلك عبثا.
ولأن التدبر فى الحقيقة هو الفكر إذا لم يرد به (5) التأمل الذى يرجع إلى النظر والروية. وقد علم أنه لم يأمر بتدبر القرآن على طريقة الإدراك لغوامضه (6)
__________
(1) ساقطة من: ف.
(2) ساقطة من د.
(3) ساقطة من ف.
(4) ساقطة من د.
(5) ساقطة من د.
(6) ف. لغموضه.(1/263)
فليس إلا ما ذكرناه من الفكر والنظر فيه، لكى تعلم أحواله.
ودلالته على أن القرآن يعرف معناه بين لأنه لو كان كله أو بعضه لا يعرف معناه، كما يقوله بعضهم، لوجب ألا يحسن الفكر والنظر فيه وتدبر معانيه لأنه لا يجوز منه تعالى أن يبعث على تدبر لفظه لأن ذلك «مدرك معلوم (1)
وتدبر معانيه يقتضى صحة العلم بالمراد به، على ما نقوله.
فإن قال: قد يعلم المراد به بغيره! قيل له: إن الظاهر يقتضى (2) أن يعلم المراد به فقط.
وأما دلالته على أنه معجز «فبين لأن المتعالم من حال المتكلمين إذا كثر (3)
كلامهم أن لا يخلو من تناقض فى المعنى، وتفاوت فى طريقة الفصاحة، فإذا وجد القرآن سليما من الأمرين دل على أنه من عند علام الغيوب، وهذا بين.
وإنما الكلام فى أنه قد ينفرد بنفسه فى الدلالة أو ينضاف إلى غيره.
وليس هذا موضع شرحه.
163 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه أدخل المنافق فى نفاقه وأنه أضله، وأن من أضله لا يجد السبيل إلى الهدى، فقال:
{فَمََا لَكُمْ فِي الْمُنََافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللََّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمََا كَسَبُوا، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللََّهُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [88].
والجواب عن ذلك: أن ظاهر قوله: {أَرْكَسَهُمْ} لا يدل [ما] ذكروه، لأن الإركاس إنما يراد به الإنكاس فى الشيء، والله تعالى، لنفاقهم، أذلهم وأمر
__________
(1) د: يدرك بعلمه.
(2) ساقطة من ف.
(3) مخروم من ف.(1/264)
بالاستخفاف بهم وجعلهم مركوسين فى ذلك، متردين فيه، فمن أين أن المراد به النفاق؟
ويبين ما قلناه أنه تعالى علّق إركاسهم بكسبهم، فقال: {وَاللََّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمََا كَسَبُوا} فيجب أن يكون ذلك غير كسبهم النفاق، ليصح معنى الجزاء فيه.
وقوله تعالى: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللََّهُ؟} معناه: من أضله بالعقاب والأخذ به إلى طريق النار.
وقد يراد بذلك أنه أضله بسوء فعاله عن زيادات الهدى، من حيث أخرج نفسه من أن يصح فيه وعليه ذلك، ولعمرى إن من أضله الله بهذه الوجوه لا يصح من أحد أن يهديه إلى الجنة والثواب البتة. وإنما ذكر تعالى ذلك منكرا على الفئة التى أحبت من المنافقين النجاة والفوز، ولذلك قال فى صدر الكلام: {فَمََا لَكُمْ فِي الْمُنََافِقِينَ فِئَتَيْنِ} (1).
ثم قال تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} أى: الخلاص من الضلال لأن هذه الكلمة إذا أطلقت لم تستقل بنفسها، فيجب حملها على ما تقدم لأن أحدنا لو قال: إن زيدا لا يستطيع سبيلا، لا يفهم بكلامه المراد، فإذا تقدم ذكر الضلال فيجب حمله عليه.
ثم يقال للقوم: إن كان تعالى أوقعهم فى النفاق على ما زعمتم وأضلهم
__________
(1) انظر فى سبب نزول هذه الآية، وفيما رآه أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم فى شأن هؤلاء المنافقين: الطبرى 5/ 195192، وليس فيما رواه أبو جعفر ذكر لفئة من المؤمنين أحبت من المنافقين الفرز والنجاة.(1/265)
بفعل الكفر فيهم، فكيف ذمهم ونسب الكسب إليهم ولام من برأهم من النفاق والذم؟!
164 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أن الحسنات والسيئات من عنده فقال: {أَيْنَمََا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا: هََذِهِ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هََذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ} [78].
والجواب عن ذلك: أن القضية واردة على أمر معلوم لأنه تعالى حكى عن الكفار أنهم عند وقوع الحسنة والسيئة قالوا: إن الحسنة من عنده تعالى، والسيئة من محمد عليه السلام (1)، وما هذا حاله لا يصح أن يدعى فيه العموم، لأنه لا يجوز فى ذلك الواقع أن يكون إلا على صفة واحدة.
وبعد، فإن الظاهر من قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} وقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} يدل على أن ذلك من فعل غيرهم فيهم، لأن ما يختاره الإنسان لا يطلق ذلك فيه، ويبين ذلك أنه إن حمل على أفعال العباد أدى إلى أن القوم كانوا يقولون إن الحسنات من فعل الله تعالى وسيئاتنا من فعل محمد صلى الله عليه وسلم! وليس هذا بمذهب لأحد لأنه لا فرق بين إضافتهما إليه عليه السلام فعلا، وبين إضافتهما إلى غيره. ولو كان ذلك مذهبا لحكى ودوّن لأنه قد حكى ما هو أخفى منه وأقل، وكل ذلك يمنع من التعلق (2) بظاهره.
والمراد بذلك: ما قد حكى أنهم كانوا يقولون إذا أصابهم الرخاء والخصب
__________
(1) انظر: الطبرى 5/ 175174.
(2) فى د: النطق.(1/266)
والسعة، قالوا: هذه (1) من الله، وإذا لحقهم الشدة والقحط، قالوا: إن (2)
هذا لشؤم محمد، حاشاه صلّى الله عليه وآله من ذلك! فقال تعالى مكذبا لهم:
{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ} (3) لأن هذه الأمور من فعله تعالى يفعلها بحسب المصالح، وقد ذكر تعالى فى قوم موسى صلّى الله عليه مثله، فقال: {فَإِذََا جََاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قََالُوا: لَنََا هََذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى ََ وَمَنْ مَعَهُ} (4) وقال تعالى مكذبا لهم (5) لذلك: {وَبَلَوْنََاهُمْ بِالْحَسَنََاتِ وَالسَّيِّئََاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (6) فبين فى هذين الأمرين أنه يفعله بلوى ومصلحة، لكى يرجع العاصى ويقلع عن كفره ومعصيته.
وما قلناه يدل على أن هذين قد يوصفان بالحسنة والسيئة، فليس لأحد أن يدفع ذلك من حيث اللغة، فأما فى الحقيقة، فالسيئة لا تكون إلا قبيحة، كما يقولون (7) فى الشر: إنه لا يكون إلا ضررا (8) قبيحا، لكنه قد يجرى على المضار من فعله تعالى، على جهة المجاز.
165 - دلالة: وقوله تعالى بعد ذلك: {مََا أَصََابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللََّهِ وَمََا أَصََابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [79] يدل ظاهره على أن العبد هو الفاعل للسيئات فى الحقيقة: لأنه تعالى لو أوجدها وفعلها لم يكن يضيفها إلى نفس الإنسان.
__________
(1) ف، إنه.
(2) ساقطة من ف.
(3) روى عن اليهود، لعنت، أنها تشاءمت برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالوا:
منذ دخل المدينة نقصت ثمارها، وغلت أسعارها، فرد الله عليهم: {(قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ)}
يبسط الأرزاق ويقبضها بحسب المصالح. انظر الكشاف 1/ 283.
(4) من الآية 131/ في سورة الأعراف.
(5) ساقطة من ف.
(6) من الآية 168/ فى سورة الأعراف.
(7) د. نقوله.
(8) ساقطة من ف.(1/267)
وهذه الآية تدل على صحة تأويلنا فى الآية المتقدمة لأنه لو كان المراد بتلك نفس ما أريد بهذه، لكان الكلام يتناقض عن قرب، لأنه فى الأولى أضافها إلى نفسه، وفى الثانية إلى العبد، ويتعالى الله عن ذلك، فكأنه قال:
ما أصابكم من الرخاء والشدة فكله من عنده تعالى. وليس كذلك السيئات والحسنات، لأنها من عند أنفسكم.
فأما إضافته تعالى الحسنة إلى نفسه فلأنه تعالى أعان عليها وسهل السبيل إليها ولطف فيها، فلم تقطع منا إلا بأمور من قبله تعالى، فصح أن تضاف إليه، ولا يمنع ذلك كونها من فعل العبد لأن الإضافة قد تقع على هذين الوجهين، ولو كانت السيئة من فعله تعالى لم يكن لإضافتها إلى العبد وجه، «ولا كان للفصل بينها وبين الحسنة (1) فى قطع إضافتها عن الله معنى، مع أنه الخالق لهما جميعا.
وقد قيل: إن المراد أن الحسنة بتفضل الله تعالى، وأن السيئة التى هى الشدة، لأمور من قبلكم ارتكبتموها، تحل محل العقوبة، فلذلك أضافه إليهم.
وهذا وإن احتمل فالأول أظهر.
فأما من (2) حرف (3) التنزيل لكيلا يلزمه بطلان مذهبه، وزعم أن المراد به: فمن نفسك؟! على جهة الإنكار، فقد بلغ فى التجاهل، وردّ التلاوة الظاهرة الى حيث يستغنى عن مكالمته!
166 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أنه هو الخالق
__________
(1) مخروم من ف.
(2) ساقطة من د.
(3) ف: حذف.(1/268)
لانصراف المؤمن عن اتباع الشيطان (1)، فقال: {وَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطََانَ إِلََّا قَلِيلًا} (2).
والجواب عن ذلك قد (3) تقدم لأنا قد بينا أن ظاهره يقتضى أنه لولا فضله لأقدمنا على المعصية وليس فيه بيان ذلك الفضل. وقد بينا أن المراد به الألطاف والتأييد وسائر ما يصرف المرء عن اتباع الشيطان والمعاصى. وبين تعالى أن ذلك الفضل لو لم يفعله لكان فيهم من لا يتبع الشيطان (4). مبينا (5) بذلك أن المعلوم من حال كثير منهم أنه يؤمن وينصرف عن اتباع الشيطان وإن لم يلطف له. وهذا يصدق قولنا فى اللطف إنه قد يختص بمكلف دون مكلف (6).
وإن حملت الكلام على أنه لولا فضله على الكل لا تبعوا الشيطان إلا قليلا منهم، فإنهم مع فضله عليهم يتبعونه، فإنه يدل على مثل ما قدمناه فى أن اللطف قد يختص، وقد يفعل بمكلّفين فيكون لطفا لأحدهما دون الآخر، كما أن رفق الوالد بأحد ولديه قد يكون لطفا له فى التعليم، ولا يكون لطفا فى الآخر.
167 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أنه المسلط للكافر على المؤمن فى المقاتلة. فقال: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} (7).
والجواب عن ذلك: أن التسليط قد يكون بوجوه: أحدها بالقهر. ومنها بالأمر والترغيب. ومنها بالتخلية، ولذلك (8) متى بعث الإنسان غلمانه على الظلم، قيل فى اللغة: قد سلطهم على ظلم الناس، وقد يقال فيمن خلّى بين كلبه
__________
(1) د: الظن.
(2) من الآية 83.
(3) د: ما.
(4) ساقطة من ف.
(5) د: فبين.
(6) ذهب القاضى إلى أن فى المكلفين من لا لطف له «لعلمنا أن فيهم من يكفر ويعصى فلو كان له لطف لفعله تعالى لا محالة، ولو فعله لما كفر، ولآمن» وقال عن المخالف فى هذا إنه «إما أن يقول لا مكلف إلا وله لطف أو يقول: إذا لم يكن له لطف يقبح تكليفه».
وانظر ما كتبه «فى أنه يحسن تكليف من لا لطف له فى أحد فصول الجزء 13من المغنى / ص: 64.
(7) من الآية: 90.
(8) د: وكذلك.(1/269)
وبين (1) الناس: لم سلطت كلبك على الناس؟ متى لم يشده ويمنعه.
فإذا صح ذلك فمن أين أن المراد ما قالوه؟ ولا يعرف «سلط» بمعنى: خلق نفس الفعل! وإنما يستعمل ذلك فيما يحمل على الفعل أو يجرى مجراه، فلا ظاهر للقوم يتعلقون به.
والمراد بالآية أنه منع من مقاتلة الذين يصلون إلى قوم بينهم وبينهم ميثاق فقال تعالى: لو قاتلتموهم، وقد منعكم من مقاتلتهم، لسلطهم عليكم، بأن أتيح لهم المقاتلة والدفع عن أنفسهم، وصدر الآية يدل على هذا المعنى، فيجب حمله عليه (2).
168 - دلالة: وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزََاؤُهُ جَهَنَّمُ خََالِداً فِيهََا} [93] يدل على أن قتل المؤمن على وجه التعمد يستحق به الخلود فى النار، وذلك (3) يبطل قول من يقول: إنه يجوز ألا يدخلهم النار، «أو يخرجهم منها (4)، لأنه تعالى جعل ذلك «حق القتل (5)، ومن حق الجزاء أن لا يكون موصوفا بذلك إلا فى حال وقوعه، فأما المستحق الذى لم يفعل فإنه لا (6) يوصف به، فليس لأحد أن يقول إنما تدل الآية على أن ذلك جزاءه فمن أين أنه يفعل به لا محالة؟!
وكأنه تعالى قال: إن ما يفعل به على جهة الجزاء هو أن يدخل نار جهنم خالدا فيها، وليس يجب، من حيث خص قتل المؤمن بالذكر، أن يكون قتل من ليس بمؤمن ذمى أو فاسق، بخلافه! لأنه لا يمتنع أن تسوى الدلالة بينهما،
__________
(1) ساقطة من د.
(2) راجع الآيتين: 89، 90.
(3) د: وكذلك.
(4) ساقط من ف.
(5) ف. جزاء للقتل.
(6) ساقطة من د.(1/270)
وان خص تعالى أحدهما بالذكر فى هذه الآية، ولا يمكن حمل الكلام على (1)
الكافر إذا قتل متعمدا، من وجهين:
أحدهما: أنه عام، لأن لفظة «من» إذا وقعت فى المجازاة كانت شائعة فى كل عاقل.
والثانى: أنه تعالى جعل ذلك جزاء لهذا الفعل المخصوص، ولا يعتبر بحال الفاعلين، بل يجب متى وقع من أى فاعل كان (2)، أن يكون هذا الجزاء لازما له.
فإن قال: أراد: فجزاؤه جهنم إن اختار ذلك، أو (3) إن جازاه (4)، أو (9) إن لم يشفع فيه.
[قيل له: إن] ذلك يبطل لما فيه من العدول عن الظاهر، ولأنه يوجب دخول هذا الشرط فى قوله: {وَغَضِبَ اللََّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} (5) والأمة بخلافه، ولما ذكرنا أن الجزاء اسم للواقع، فمتى شرط ذلك فيه تناقض!
169 - دلالة: وقوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجََالِ وَالنِّسََاءِ وَالْوِلْدََانِ لََا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلََا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [98] يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكلف العبد ما لا يطيقه لأنه تعالى عذرهم من حيث كانوا فى حكم الممنوعين وفى أيدى غيرهم كالمأسورين، فى ترك الهجرة، وأزال (6) عنهم العذاب والذم، مع أنهم على بعض الوجوه كان يمكنهم المهاجرة، فكيف
__________
(1) ف: على أن.
(2) د: كان يجب.
(3) ف: و.
(4) فى د: أجازاه.
(5) تتمة الآية السابقة: {[وَغَضِبَ اللََّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذََاباً عَظِيماً]} 93.
(6) د: وإن زال.
(9) ف: و.(1/271)
يجوز أن يجعل ذلك عذرا فيهم، ويكلف مع ذلك الكافر الإيمان مع فقد القدرة، «ولا يعذره فى (1) ألا يفعل ما لا يطيق، بل يعاقبه بالنار الدائمة؟ لأن ذلك مما لا يستجاز على السفهاء فضلا على الحكماء.!
ومن وجه آخر. وذلك أنه تعالى خص المستضعفين بأنهم لا يستطيعون حيلة فيما ذكره تعالى من الهجرة، ولو كان الأمر كما قالوا لكان كل واحد لا يستطيع حيلة قبل أن يفعل الهجرة، فكان لا يصح لتخصيصهم معنى!
170 - دلالة: وقوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النََّاسِ وَلََا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللََّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ، إِذْ يُبَيِّتُونَ مََا لََا يَرْضى ََ مِنَ الْقَوْلِ} [108] يدل على أن المعاصى لا يرضاها الله تعالى وأنها (2) ليست من قبله لأنه (3) لا يجوز أن يفعل ما لا يرضاه ويسخطه لأنه ذكر أنهم يبيتون من القول والفعل، ويعزمون عليه، وأنه تعالى لا يرضاه، مبينا بذلك أنهم يعصون فيه.
وذلك يدل على ما قلناه، لأنه أثبته معصية وذمهم عليه، من حيث استخفوا من الناس دون الله تعالى، ثم بين أنه لا يرضاه، وكل ذلك يبين أن المعاصى ليست برضاه، ولا هى من قبله، على ما قلناه.
والآية إنما أنزلت فى رجل خان فى درع، ثم نسبة إلى يهودى ألقاه فى داره، ونصره على ذلك قوم من المؤمنين، فمال الرسول صلّى الله عليه إلى براءة ساحته من ذلك، فأنزل الله تعالى مؤدبا لنبيه عليه السلام: {وَلََا تَكُنْ لِلْخََائِنِينَ خَصِيماً} إلى قوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النََّاسِ} (4) مبينا بذلك أنه لن يخفى عليه
__________
(1) د: ولا معذرة وفى.
(2) فى د: فإنها.
(3) فى د: فإنه.
(4) قال تعالى: {[إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ بِمََا أَرََاكَ اللََّهُ وَلََا تَكُنْ لِلْخََائِنِينَ خَصِيماً، وَاسْتَغْفِرِ اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ كََانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَلََا تُجََادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتََانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ مَنْ كََانَ خَوََّاناً أَثِيماً. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النََّاسِ]} الآية، 108105.
وسبب نزولها مع الآية 109، هو ما ذكره القاضي رحمه الله.
وانظر فى تفصيل هذا السبب: الطبرى: 5/ 271267.(1/272)
ما أقدم عليه هذا الخائن، وأنه تعالى مع كل عاص، بمعنى أنه يعلم باطنه وظاهره، كما يعلم من جاوره أحواله الظاهرة، مخوفا بذلك عن المعاصى وعن إضافة الخيانة إلى السليم منها.
ثم قال تعالى: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مََا لََا يَرْضى ََ مِنَ الْقَوْلِ} مبينا بذلك أن هذه الأمور ليست من قبله، ولا تقع برضاه على ما شرحناه.
171 - دلالة: وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتََاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [112] يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يخلق أفعال العباد ثم يعاقبهم عليها لأنه إن (1) كان هو الخالق لها، فهم برآء منها بأكثر من كون زيد بريئا من فعل عمرو، فإذا كان عمرو إذن اكتسب المعصية ورمى زيدا بها فقد احتمل البهتان بذلك. والله تعالى، لو كان الأمر كما يزعم القوم، أولى، تعالى الله عن ذلك.
فأما قولهم: إن العبد يكسب فليس يبرأ فى الحقيقة مما خلقه الله فيه فجهل لأن اكتسابه لا (2) يؤثر فى أنه تعالى قد أدخله فى الفعل وجعله بحيث لا يمكنه المحيص منه، وبحيث لا بد من أن يكون مختارا مكتسبا، إن صح للكسب معنى، فلا يخرج العبد من أن يكون بريئا من ذلك.
هذا، ولا يصح إذا قيل إنه تعالى أوجد الفعل وأحدثه وأوجد القدرة والاختيار فى القلب والفعل لا يتجزأ، لأنه معنى واحد «أن يقال (3): إنه كسب للعبد، بل لو أراد المريد (4) أن ينفيه عن العبد بكل جهده لم يفعل إلا ما قاله القوم من أن الله تعالى خلقه بسائر جهاته وخلق ما أوجبه من القدرة والإرادة.
172 - دلالة: وقوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمََانِيِّكُمْ وَلََا أَمََانِيِّ}
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ساقطة من ف.
(3) في د: ويقال.
(4) د: المراد.(1/273)
{أَهْلِ الْكِتََابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [123] يدل على أن العبد يفعل ويعمل ويستحق الجزاء عليه.
ويدل أيضا على أن المرتكب للكبائر لا بد من أن يجازى عليها لأنا قد بينا أن الجزاء هو الواقع (1)، فاذا أخبر أن من يعمل سوءا يجز به وثبت صدقه فى إخباره وجب القطع على ذلك.
وكان الحسن رحمه الله يقول: «إن أناسا غرتهم أمانى المغفرة، خرجوا من الدنيا وليست لهم حسنة، يقولون: نحسن الظن بربنا، لو أحسنوا الظن به لأحسنوا الطاعة له»،!
173 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يخلق أفعال العباد، وعلى أنه جسم يجوز عليه الإحاطة، فقال: {وَلِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ، وَكََانَ اللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} [126].
والجواب عن ذلك: أن اللغوى إذا أطلق هذه اللفظة فإنما يريد بها ما لا يعقل من الأعيان لأنه لو قيل لأحدهم: ما عندك؟ لأجاب بما هذا حاله، ولم يحسن أن يجيب «بذكر الحركات (2) والسكنات، وعندنا أن ما فى السموات والأرض لله تعالى ومن فعله.
وبعد، فإن قولنا فى الشيء: إنه لله، لا يدل على أنه فعله لأن هذه الإضافة تتصرف على جهات، فمن أين أن المراد بها الإضافة الفعلية دون سائر الإضافات؟
فإن قال: فإذا دلت الآية، من حيث الإضافة، على أنه تعالى مالكها، دل على أنه القادر عليها، وذلك يعود إلى ما قلناه.
__________
(1) انظر الفقرة: 168.
(2) د: بالحركات.(1/274)
قيل له: إن الموجود إذا قيل إنه تعالى مالكه فهو مجاز، لأن القدرة على الموجود تستحيل، وإنما يراد به «أنه يملك أمرا سواه (1) له به تعلق، كما يراد بقولنا: إن زيدا يملك الدار، أنه يملك التصرف فيها، وهو تعالى لا يمتنع أن يوصف بأنه مالك أفعال العباد، بمعنى أنه يقدر على إعدامها، أو يقدر فيما لم (2)
يوجد منها على المنع منها، وليس فى ذلك ما يدل على ما توهموه.
وأما قوله تعالى: {وَكََانَ اللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} فإن حمل على ظاهره اقتضى كونه محتويا على «كل الأجسام (3)، وذلك يتناقض، لأن الشيء إذا احتوى على جمل الأشياء (4) استحال كونه محتويا على كل واحد منها، لما فيه من إيجاب كونه، أو كون (5) بعضه، فى مكانين، ولأن احتواء الشيء على الأشياء يقتضى أنه أزيد منها فى بعض جهات تركيبه، وهذا يستحيل عند الكل عليه تعالى، فلا ظاهر يصح تعلقه به على قول المجسمة.
والمراد بذلك: أنه تعالى مقتدر على الأشياء، لأن هذه اللفظة فى الاقتدار متعارفة، ولأن صدر الكلام يدل عليه.
ولا يقال بهذا (6) اللفظ إنه مقتدر على المعدوم، لأن نفس الإحاطة إذا كانت إنما تصح فى الموجود، فإذا اتسع بها فى الاقتدار على الشيء من سائر جهاته تشبيها بالإحاطة، فيجب كونه موجودا! وقد بينا أن المراد بالموجود إذا قيل إنه مقتدر عليه، أنه قادر على إعدامه وتفريقه، فلا يصح التعلق بذلك فى أنه الخالق لأفعال العباد!
__________
(1) د: أمره فليس.
(2) ساقطة من ف.
(3) ف: الأجسام كلها.
(4) ف: الأجسام.
(5) ساقطة من د.
(6) ف: هذا.(1/275)
174 - مسألة (1): قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن صاحب العدد (2) من النساء لا يستطيع أن يعدل بينهن، وإن كان قد كلف ذلك، فقال:
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسََاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلََا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}
[229] وهذا يدل على تجويز تكليف ما لا يطاق. (3)
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنهم لا يستطيعون أن يسووا بين النساء، ولم يذكر الأمر الذى يسوى بينهن فيه، وما هذا حاله لا يستقل بنفسه، فلا يصح التعلق بظاهره لأن أحدنا لو قال لغيره: لا تستطيع أن تسوى بين زيد وعمرو، لم يعقل المراد به إلا بذكر الأمر المخصوص الذى أراده.
والمراد بالآية: أن أحدنا لا يستطيع فيما يتعلق بميل النفس والشهوة، أن يسوى بين النساء لأن ذلك من خلق الله تعالى فيه، ولذلك ترى بعض الناس لو اشتد حرصه على أن يشتهى ما يسهل عليه تناوله ليتمكن من القناعة، لم يتمكن من ذلك، فلو أراد قصر شهوته (4) على ما تحويه يده لما أمكنه، فصارت الشهوة بمنزلة الصحة والهيئة واللون (5) وغيرها، فى أنه لا قدرة للعبد فيه ولا استطاعة، والله تعالى لم يكلف أن يسوى المرء بين نسائه فى هذا الوجه، وإن ألزمه التسوية بينهن فى القسم والأحكام المتعلقة بأفعال الجوارح، ولذلك قال عليه السلام: «هذا قسمى فيما أملك، فلا تؤاخذنى فيما (6) لا أملك (7)» يعنى ما يتعلق بشهوة القلب.
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ف: العدة.
(3) ساقطة من د.
(4) د: شهيته.
(5) ف: الألوان.
(6) د: بما.
(7) الحديث من رواية عائشة رضى الله عنها، وقد أخرجه أبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجة، وفى أبى داود عنها: (قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقسم بين(1/276)
وبعد، فإن ظاهره يقتضى أنه تعالى قد كلف ما لا يستطيعه الإنسان ولو حرص عليه، وليس ذلك مذهب القوم لأن عندهم أن الكافر لو كان المعلوم من حاله أن لو اشتد حرصه على الإيمان فأراده، كان لا يقع الإيمان، لم يحسن أن يكلف!
175 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه أضل الكافر ولم يهده السبيل، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدََادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللََّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلََا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [137].
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا الوجوه التى ينصرف الهدى عليها، وأنه لا ظاهر له بالإطلاق إلا الدلالة، ما لم يكن فى الكلام ما يوجب صرفه إلى غيره، وفى هذا الظاهر ما يوجب أن المراد به أنه (1) متى مات على كفره أنه لا يهديه سبيل الجنة، بل يضله عنها، ولذلك جعله جزاء على كفره والزيادة فيه (2)، كما جعل قوله: {لَمْ يَكُنِ اللََّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} بهذه المثابة.
ويبين ما قلناه أنه بين حال الكافر وما أقدم عليه من الكفر حالا بعد حال، ثم بين أنه فى المستقبل لا يغفر له ولا يهديه السبيل، وهذا لا يصح إلا بأن يحمل على ما بيناه.
ولو أراد بذلك أنه لم يهده من قبله بل أضله بخلق الكفر لوجب أن يكون
__________
نسائه فيعدل، ويقول: اللهم هذا قسمى فيما أملك، فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك) قال أبو داود: يعنى القلب، مختصر سنن أبى داود ومعالم السنن: 3/ 64.
وفى الترمذى بلفظ: (اللهم هذه قسمتى فيما أملك ... فيما تملك ولا أملك
صحيح الترمذى: 5/ 80. وفى النسائى وابن ماجة (. ثم يقول: اللهم هذا فعلى فيما أملك فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك) 2/ 157. ابن ماجة: 1/ 311.
(1) ساقطة من د.
(2) ف: فيها.(1/277)
الكلام دالا على الماضى غير مؤذن بالاستقبال، ولما صح أن يكون ذلك جزاء وعقابا، ولا أن يجرى مجرى الذم والتخويف من الكفر، وهذا بين.
176 - دلالة: وقوله تعالى {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا الْكََافِرِينَ أَوْلِيََاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلََّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطََاناً مُبِيناً} [144] يدل على أنه لا يعذب إلا من يستحق العذاب، وأنه إذا لم تكن عليه الحجة لم يحسن فى الحكمة تعذيبه لأنه تعالى نهاهم أن يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين. ثم قال: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلََّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطََاناً مُبِيناً} وقد علمنا أنه لم يرد اقتداره عليهم، لأن ذلك حاصل على كل حال، أتخذوهم أولياء أو اتخذوا المؤمنين. فالمراد بذكر السلطان الحجة.
وهذا يبين أنه تعالى لا يعاقب إلا من الحجة لله تعالى عليه ظاهره، ولو أنه كلف من لا يقدر لم يصح ذلك، لأنه يجب أن تكون الحجة له على الله، على كل وجه، من حيث لم يزح علته فيما كلفه، ولا أوجد له السبيل إليه.
وهذا ظاهر.
177 - دلالة: وقوله تعالى: {لََا يُحِبُّ اللََّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلََّا مَنْ ظُلِمَ} [148] يدل على أن ما يقع (1) من الجهر بالسوء من القول من العباد لا يجوز أن يكون مريدا له، لأن المحبة فيه تعالى هو، بمعنى الإرادة.
وهكذا حقيقتها فينا وإن استعملت توسعا فى باب الشهوة، والشهوة تستحيل على الله تعالى. فأما استعمالها بمعنى المدح فبعيد (2)، لأن الإنسان قد يحب من يذم
__________
(1) ف: ما يفعل.
(2) انظر الفقرة: 64مع التعليق.
(م 14متشابه القرآن)(1/278)
وما يذم بأن يظهر خلاف ما فى الضمير، وقد لا يحب من يظهر له المدح.
وبين تعالى أن من لا يكون مغتابا بذلك ومستعملا فيمن لم يظهر فسقه وكان هو المظلوم أنه يجوز له استعمال الجهر بالسوء من القول، وهذا قد ثبت بالعقل، لأن المظلوم المساء إليه، له من الذم ما ليس لغيره، وله أن يذم على كل حال وليس لغيره ذلك، ما لم يصر حال الظالم فى حد الظهور.
178 - دلالة: وقوله تعالى: {يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتََابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتََاباً مِنَ السَّمََاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى ََ أَكْبَرَ مِنْ ذََلِكَ، فَقََالُوا أَرِنَا اللََّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصََّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [153].
يدل على نفى الرؤية عن الله تعالى لأنه عظم من قوم موسى هذه المساءلة وأكبرها وجعلها لعظمها مثلا فى تكذيب القوم بالنبى صلّى الله عليه فى المعجز، واقتراحهم عليه فى المعجز ما اقترحوا، وتركهم الإيمان به مع ما قد ظهر عليه من القرآن وسائر المعجزات، وبين أنهم عند هذا السؤال أخذتهم الصاعقة. وبين أنهم ظلموا فيما سألوا، لأن مسألتهم وإن لم تكن ظلما للغير فهى (1) ظلم لأنفسهم وكل ذلك يبين ما قلناه.
فإن قال: إذا كان ما سأله أهل الكتاب من إنزال كتاب من السماء سوى القرآن أمرا (2) مجوزا، فيجب فيما شبه به من مسألة الرؤية أن يكون مجوزا.
قيل له: يجب أن ينظر إلى وجه التشبيه دون ما عداه من الأحكام، وإنما شبه تعالى أحد الأمرين بالآخر، لأنه تضمن الرد على الرسول، والتكذيب له، والعدول عن تصديقه، والتماس أمر آخر مع ظهور الحجة وقيام الدلالة.
__________
(1) د: فهو.
(2) ساقطة من د.(1/279)
فأما فى الوجه الذى قال، فلم يقع التشبيه، وإنما يفارق أحدهما الآخر (1) فى هذا الباب لأن ما سأله أهل الكتاب، يتعلق بالاختيار من إنزال الكتاب، وما سألوه يتعلق بصفات ذاته، فلا يجب أن يكون بمنزلته (2).
179 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يمنع الكافر من الإيمان فقال: {فَبِمََا نَقْضِهِمْ مِيثََاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيََاتِ اللََّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيََاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنََا غُلْفٌ. بَلْ طَبَعَ اللََّهُ عَلَيْهََا بِكُفْرِهِمْ فَلََا يُؤْمِنُونَ إِلََّا قَلِيلًا} [155].
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أن الطبع هو مثل الختم، وأنه علامة يعرف بها حال المطبوع على قلبه (3)، وبينا الفائدة فى ذلك، وأنه لطف للعباد إذا علموا أن الملائكة تعلم به من يستحق الذم فتذمه بذكر أحواله، وبينا أنه ليس يمنع، وأن العلامة كالكتابة والخبر فى أنها لا تكون منعا، وأنه بمنزلة الختم على الكتاب فى أنه لا يمنع من قراءته.
وقوله تعالى فى هذه الآية، {فَلََا يُؤْمِنُونَ إِلََّا قَلِيلًا} يدل على أنه ليس يمنع لأنه كان يجب أن يمنع الكل على حد واحد، فلا يصح الإيمان من
__________
(1) فى د: الأخرى.
(2) أوضح القاضى الرد على المخالف فى هذا الوجه، فقال: «إن الوجه فى تشبيه أحدهما بالآخر، ليس هو ما ظننته، وإنما أراد جل وعز أن مسألة أهل الكتاب ذلك للرسول صلى الله عليه خطأ عظيم كما أن مسألة قوم موسى عليه السلام خطأ عظيم، منبها بذلك نبينا صلوات الله عليه أن مثل ما امتحن به قد لحق السلف من الأنبياء» ثم قال القاضي: «فإذا صح ذلك الكلام فى أن أحد الأمرين وإن كان خطأ، يجوز وقوعه، لأنه يتعلق بالفعل الواقع باختياره والآخر يرجع إلى ما هو عليه فى ذاته لا مدخل له في الكلام» انظر: المغنى الجزء الرابع (رؤية البارى) ص: 169، وانظره كذلك، ص: 196و 197.
(3) انظر الفقرة: 18.(1/280)
قليلهم كما لا يصح من كثيرهم، لأن المنع إذا عم فالممنوع فيه يجب أن يعم فى أن لا يحصل.
فإن قال: المراد بقوله: (إلا قليلا) أنهم يؤمنون إيمانا قليلا وإن لم يكونوا مؤمنين فى الحقيقة، فحصول الطبع فيهم منع من الإيمان.
قيل له: إن قوله: (إلا قليلا) يجب أن يعود فى الإثبات إلى ما تقدم نفيه (1) والذى تقدم من ذلك قوله: (فلا يؤمنون) على الإطلاق، فيجب أن يراد بقوله: (إلا قليلا) أنهم يؤمنون، بالإطلاق، ومتى حمل على ما قاله فلا بد من تقدير حذف فى الكلام، وفى ذلك زوال عن الظاهر.
ثم يقال للقوم: إن قوله: (بل طبع الله عليها بكفرهم) يقتضى أن الطبع هو كالجزاء على الكفر، ولأجله فعل بهم، وكيف يجوز أن يكون منعا من الإيمان ولا يجوز من الله أن يعاقب الكافر بأن يمنعه من الإيمان لأنه لو جاز ذلك لجاز أن يبعث أنبياءه بأن يمنعوا قومهم من الإيمان على سبيل العقوبة، كما أنه لو جاز أن يعاقب بأن يتولى العقاب، جاز أن يأمرهم بإقامة الحدود عقابا!
فإن قال: أليس قد قال تعالى بعد ذلك: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هََادُوا حَرَّمْنََا عَلَيْهِمْ طَيِّبََاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [160].
فجعل التحريم كالجزاء على الظلم، وإن لم يصح ذلك عندكم، فكذلك نقول فى الطبع.
قيل له: إن من حق هذا الكلام أن يقتضى ظاهره أن الثانى متعلق بالأول ويقع بسببه، فمتى دل الدليل على خلافه فهو عدول عن الظاهر، ولا يجب
__________
(1) ساقطة من د.(1/281)
إذا عدلنا عنه فى موضع أن يبطل ما اعتمدناه فى قوله: {بَلْ طَبَعَ اللََّهُ عَلَيْهََا بِكُفْرِهِمْ}.
والمراد بما سألوا عنه: أنه (1) لأجل ظلمهم كان الصلاح تحريم ما حرم عليهم، فله به تعلق من هذا الوجه لأنه لا يجوز فى التحريم أن يكون عقوبة، مع أنه تعريض للثواب، لأن ذلك يتناقض.
فإن قال: المراد بقوله: {بَلْ طَبَعَ اللََّهُ عَلَيْهََا بِكُفْرِهِمْ} مثله لأنه تعالى علم (2) أن الصلاح أن يطبع على قلوبهم لتقدم كفرهم!.
قيل له: هذا يدل على أن الطبع لا يمنع من الإيمان، لأنه يجوز أن يكون الصلاح للمرء (3) على جهة الابتداء (4) وعند فعل من الأفعال، أن يمنعه مما فيه نجاته ومنفعته!
فإن قال: إذا لم يكن الطبع منعا، أفيجوز أن يكون مصلحة؟ أو تجعلونه عقوبة؟.
قيل له: إن شيخنا أبا على رحمه الله يقول: إنه عقوبة كالذم والاستخفاف.
وعند شيخنا أبى هاشم رحمه الله أنه يكون مصلحة، وإن كان لا يمتنع أن يجرى مجرى الذم فى بعض حالاته، لكنه لما كان القصد به ارتداع المكلف عن المعصية والعدول إلى الطاعة، حل محل الوعيد فى هذا الوجه.
وربما وقع هذا (5) الخلاف بينهما فى الوعيد أيضا، على بعض الوجوه، ولتقصى ذلك موضع سوى هذا المكان.
__________
(1) ساقطة من ف.
(2) د: عظم.
(3) د: لكم.
(4) ف: الإيمان.
(5) ساقطة من د.(1/282)
180 - دلالة: وقوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلََّهِ وَلَا الْمَلََائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [172] مما اعتمده شيوخنا رحمهم الله فى أن الملائكة أفضل من عيسى لأن الاستنكاف هو الأنفة، ولا يجوز فى اللغة أن يقول الإنسان: إن فلانا لا يأنف من خدمتى ولا فلان، إلا والمذكور الثانى أفضل حالا (1) من الأول وأشهر فضلا منه (2) فى الوجه المقصود إليه.
وهو تعالى إنما ذكر أعظم الأحوال فى باب الفضل الواقع بالطاعات دون غيره من الأحوال.
وقوله تعالى: {وَلَا الْمَلََائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} مع أن قرب المكان يستحيل فيهم، يدل على أنه أراد فضلهم وعظم ما لهم فى ذلك، فإذا صرح بذكره كان الأولى أن يحمل الكلام عليه، وإذا صح أنهم أفضل من عيسى فكذلك من سائر الأنبياء بالإجماع (3).
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ساقطة من ف.
(3) اختلف في تفضيل الملائكة على الأنبياء، فقال جمهور الأشعرية بتفضيل الأنبياء على الملائكة، وأجاز بعضهم أن يكون في المؤمنين من هو أفضل من الملائكة، ولم يشر بذلك إلى واحد بعينه، كما يقول البغدادى. وذهب أكثر المعتزلة كما ينقل البغدادى كذلك إلى أن الملائكة أفضل من الأنبياء «حتى فضلوا زبانية النار على كل نبى»! «وزعم آخرون منهم أن من لا معصية له من الملائكة أفضل من الأنبياء» ويبدو أن هذا الزعم عندهم ليس بشيء حتى نقل صاحب المقالات إجماعهم على أن لملائكة أفضل من الأنبياء. أما الإمامية فزعموا أن الأئمة أفضل من الملائكة. ولهذا كان لا بدلهم أن يقولوا بتفضيل الأنبياء على الملائكة، سواء أكان ذلك من باب أولى، أو من باب الاضطرار، وقد أجمعوا على ذلك كما يقول المرتضى، الذى مال في هذه المسألة إلى جانبه الشيعى، فتولى عرض حججه وحجج قومه، كما فند أدلة المعتزلة، ومنها الآية التى يستدل القاضى بها فى هذه السورة.
انظر الأشعرى: مقالات الاسلاميين 1/ 272. البغدادى: أصول الدين ص 295 الفرق بين الفرق، ص: 343. أمالى المرتضى: 2/ 339333.
وانظر فى نقض كلام القاضى هنا، والرد عليه وعلى الزمخشرى، من الناحية اللغوية والبلاغية ومن وجوه أخرى: فتح البارى لابن حجر: 13/ 331330.(1/283)
«وإذا صح زيادة حالهم على حال عيسى ولم يجز أن يعتبر فيه الشهود (1)، فليس إلا الفضل (2)».
181 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يهدى مرة إلى الجنة ومرة إلى النار، فقال: {وَلََا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلََّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} (3).
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا الهدى كيف هو فى اللغة، وكيف ينصرف فى كلام الله تعالى، فلا وجه لإعادته.
والمراد بهذه الآية: أنه لا يهديهم، مع كفرهم، طريق الجنة. ثم حقق أنه يعاقبهم فقال: {إِلََّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ}. وقد بينا أن استعمال الهدى فى الطريق وفى البيان يتعارف (4)، وبينا أنه إذا استعمل «فى الطريق (5) فإنما يستعمل فى الحقيقة فيما يؤديه إلى المنافع، لكنه تعالى جرى على طريقتهم فى الخطاب، فاتسع به فى طريق النار، لما كان موصلا إلى الغرض المراد فيهم.
__________
(1) فى النسختين: الشهوة.
(2) لعل الأصوب فى هذه العبارة أن يكون محلها بعد قوله «غيره من الأحوال» فى الصفحة السابقة.
(3) من الآيتين 168و 169.
(4) ف. يتقارب.
(5) ساقط من ف.(1/284)
ومن سورة المائدة
182 - دلالة: قوله تعالى: {مََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (1) عقيب ما أوجبه الله من الطهور بالماء إن وجد، والتيمم بالتراب إن لم يوجد، يدل على انه تعالى لا يريد تكليف ما لا يطاق، لأنه لفى أن يريد ما يضيق على المكلف فعله، وإن كان قد يمكنه «أن يفعل (2) إذا التزم المشقة، فبأن لا يريد ما لا يطاق ويتعذر فعله على كل وجه أولى.
183 - وقوله تعالى من بعد: {وَلََكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} يدل على (3) أنه لا يريد الكفر والفساد، لأنه لو أراد أن يخلق الكفار للكفر وللنار، لم يكن مريدا للانعام عليهم ولا لتطهيرهم، لأن ما خلقهم له: نهاية الإضرار بهم والإساءة إليهم من حيث خلقهم للنار الدائمة.
184 - وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} يدل على ما قلناه، لأن المراد به لكى تشكروا، ولو لم يكن فى كتاب الله تعالى إلا ما كرره من هذه النظائر [لكفى فى الدلالة على ذلك] لأنه تعالى يقول: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
و {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} و {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} و {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
و {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} إلى ما شاكله مبينا بذلك أنه أراد منهم هذه الأحوال وليس فيه: لعلكم تعصون وتظلمون. ولو كان تعالى قد أراد كلا الأمرين على وجه واحد، لكان من حق الكلام فيمن أريد منه الظلم أن يقال
__________
(1) قوله تعالى: {[مََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلََكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]} من الآية: 6، وانظر الآية بتمامها.
(2) ساقط من ف.
(3) ساقطة من د.(1/285)
لعلكم تظلمون، كما أن من حقه ممن أريد منه الفلاح والتقوى أن يقال: لعلكم تتقون وتفلحون، وهذا ظاهر فى بطلان مذهب القوم.
185 - مسألة: قالوا: وذكر تعالى فيها ما يدل على أنه يخلق الكفر فى قلب الكافر، فقال: {فَبِمََا نَقْضِهِمْ مِيثََاقَهُمْ لَعَنََّاهُمْ وَجَعَلْنََا قُلُوبَهُمْ قََاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوََاضِعِهِ} [13] ومعلوم من قوة قلوبهم أنه بالكفر، فإذا جعلها الله قاسية فقد خلق الكفر فيها.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر قسوة القلب فى اللغة يراد به قلة الرحمة، ولذلك متى (1) رأوا من هذا حاله وصفوه بقسوة القلب، وإذا رأوا الرحيم الرقيق القلب، قالوا هو رقيق القلب، ولا يعرفون فى هذا الباب ما يتصل بالكفر والإيمان، ولو أنهم رأوا المؤمن قليل الرحمة لوصفوه بقسوة القلب، ولو رأوا الكافر حسن الرفق كثير الرحمة، لنفوا عنه ذلك، فلا ظاهر للقوم يتعلقون به!
والمراد بالآية: أنه تعالى لعنهم وحكم عليهم بأن قلوبهم قاسية لشدة تمسكهم بالكفر، وهذا كما يقول أحدنا لمن ينسب غيره إلى الفسق والكفر: جعلته كافرا وفاسقا، سيما إن كان قوله فيه مؤثرا.
وقد يحتمل «أن يراد (2) بذلك أنه تعالى لما (3) أضلهم عن الزيادات من الهدى الذى يخص بها من قد اهتدى وآمن، وسلبه الخواطر والألطاف، لعلمه بأنه لا يؤمن عندهما جعله قاسى القلب لشدة تمسكه بالكفر الذى هو عليه.
ثم يقال للقوم: إنه تعالى بين أنه لعنهم وجعل قلوبهم قاسية على سبيل
__________
(1) ف: إذا.
(2) ساقطة من ف.
(3) ساقطة من د.(1/286)
الجزاء (1) لنقضهم الميثاق، فكيف يجوز حمل ذلك على أن المراد به نفس الكفر الذى لا فرق بين أن يقع عقيبا لغيره أو مبتدأ عندكم، فى أن ذلك لا يكون جزاء وهذا يبين أن المراد بذلك ما يجرى مجرى اللعن من الذم والاستخفاف والاسم والحكم، على ما بينا.
ولو كان تعالى خلق ذلك فيهم، لم يجز أن ينسب نقض الميثاق إليهم لأن ذلك يتناقض.
186 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه المغرى بين الكفار حتى يقدموا على الكفر والمعصية، فقال: {وَمِنَ الَّذِينَ قََالُوا إِنََّا نَصََارى ََ أَخَذْنََا مِيثََاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمََّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنََا بَيْنَهُمُ الْعَدََاوَةَ وَالْبَغْضََاءَ} [14].
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الإغراء هو البعث على بعض (2) الأمور بتقوية الدواعى، ولم يذكر تعالى أنه أغرى بينهم في ماذا، فيكون للقوم به تعلق!
وظاهره إذا أطلق لم يعلم المراد به، لأنه لا يمكن أن يدعى فيه العموم، لأن لفظه ينبئ عن الإخبار عن أنه تعالى فعل ما سمى إغراء، فكما أن المخبر عن أنه ضرب، لا يقتضى كلامه العموم، فكذلك إذا قيل أغرى.
فإن قيل: فقد ذكر تعالى العداوة والبغضاء!
قيل له: فهذا يبطل قولك: إن المراد به الكفر والمعصية!
فإن قال: إن عداوة بعضهم لبعض هو كفر، فلذلك حملت الآية عليه!
قيل له: ليس الأمر كذلك، لأن اليهودى إذا عادى النصرانى من حيث
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ساقطة من د.(1/287)
قال: «إن الله (1) ثالث ثلاثة، فقد فعل الواجب، ومتى عادى النصرانى اليهودى فى تكذيبه بعيسى، فقد فعل اللازم، وتمسكهما بأنواع الكفر لا يخرج هذه العداوة منهما من أن تكون صحيحة.
وإنما أراد تعالى أن يبين لكل واحد من الفريقين معاداة الآخر (2) فى هذا الباب، فأمرهم بذلك وبعثهم عليه. وهذا هو المراد بقوله تعالى بعد ذلك:
{وَأَلْقَيْنََا بَيْنَهُمُ الْعَدََاوَةَ وَالْبَغْضََاءَ إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ} (3).
ولو حملت الآية على أنه تعالى أكثر من إخطار ذلك ببالهم فلم يغفلوا عن سبب عداوة بعضهم لبعض، ولا ضلوا عنه فصار ذلك مغريا، جاز أيضا، وكل ذلك يفسد ما تعلقوا به.
187 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه يخص بالهدى من آمن به واتبع رضوانه، فقال: {قَدْ جََاءَكُمْ مِنَ اللََّهِ نُورٌ وَكِتََابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللََّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوََانَهُ سُبُلَ السَّلََامِ} (4). وذلك يوجب أن الهدى من الله هو الإيمان.
والجواب عن ذلك: أنه تعالى بين أنه جاءهم من الله نور، يعنى: الكتاب، وسماه نورا على جهة التشبيه لما كان يهتدى به، من حيث كان دليلا، كما يهتدى بالنور فى ظلم الليل، ولم يخص فى هذا الباب مكلفا من مكلف، فيجب كونه دلالة للجميع.
__________
(1) ف: فى الله إنه.
(2) فى د: الأخرى.
(3) من الآية: 64فى سورة المائدة.
(4) من الآيتين: 1615: من سورة المائدة، وتتمة السادسة عشرة قوله: {[وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ.]}(1/288)
وقوله: {وَكِتََابٌ مُبِينٌ} يدل على ذلك لأنه لم يخص فى كونه بيانا واحد دون واحد.
وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللََّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوََانَهُ سُبُلَ السَّلََامِ} مقيد لأنه تعالى بين أنه يهدى بذلك إلى سبل السلام، يعنى: إلى طريق الجنة، وهذه الهداية تختص من اتبع رضوانه، لأنه المستحق لهذا دون غيره ممن اتبع سخطه وعدل عن رضوانه.
وقوله تعالى: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} يجوز أن يراد به العدول عن طريق النار إلى طريق الجنة، ويجوز أن يراد به أن الكتاب يدلهم ويبعثهم على الإيمان والطاعة، فيخرجهم من الظلمات إلى النور، وليس للقوم فيه تعلق لأن الظلمة والنور إذا لم يرد به الأجسام الرقيقة المختصة بالضياء والسواد، فهو مجاز، فلا ظاهر لهم يتعلقون به!
188 - وقوله تعالى: {وَيَهْدِيهِمْ إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يعنى: الدين المستقيم، أو طريق الجنة، على ما بيناه فى فاتحة الكتاب (1).
189 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن أخذ البرىء بجرم غيره يجوز، وعلى أن إرادة (2) القبيح قد تحسن، فقال: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مََا أَنَا بِبََاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخََافُ اللََّهَ رَبَّ الْعََالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [2928] فحكى تعالى عن المطيع منهما «من غير أن يذمه أو يكذبه أنه يريد أن ينزل (3) به إثمه واثم غيره وهو الذى ذكرناه!
__________
(1) انظر الفقرة: 14.
(2) فى د: أراد.
(3) فى د: من غير أن ذمه وكذبه أنه يريد أن يريد أن ينزل.(1/289)
والجواب عن ذلك: أن قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} ظاهره يقتضى أنه يريد أن ينزل به عقابهما جميعا، أو تقع منه معصيتهما! وذلك يتناقض! لأن ما يكون عقابا بالواحد لا يصح أن ينزل بالآخر.
وإنما الذى يصح «فى ذلك (1) أن يفعل بالآخر أمثال ذلك العقاب لأن من حق العقاب أن يوصف به الواقع على طريق الاستحقاق، فلا ظاهر للقوم يتعلقون به.
والمراد (2) بذلك أنه تعالى ذكر قبل هذه الآية أن ابني آدم قرّبا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر (3) فدل بذلك على أنه لم يتقبل منه لمعصية وقعت منه، وأنه حسد أخاه الذى قبل قربانه فهمّ بقتله، فعند ذلك قال: إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك، بمعنى: بإثم قتلك لى، فلما كان القتل متعلقا به جعل الإثم مضافا إليه.
وأراد بقوله: {وَإِثْمِكَ} يعنى: إثم المعصية التى أقدمت عليها، ورد قربانك لأجلها، وهذا كما يقول القائل فيمن ظلمه: أريد أن تلعن وتعاقب على ظلمى، فمن حيث كان ذلك الظلم متعلقا به، أضافه إلى نفسه.
ولم يرد بالإثم فى هذا المكان: المعصية، فيكون هابيل مريدا للمعصية من أخيه قابيل، بل أراد به المستحق على المعصبة. ولذلك قال بعده: {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحََابِ النََّارِ، وَذََلِكَ جَزََاءُ الظََّالِمِينَ} (4) فبين أنه يريد أن ينزل به كلا (5)
العقوبتين فيدخل النار ويحلان به (6)، وأن ذلك هو الذى يستحقه الظالم القاتل للنفس المحرمة.
__________
(1) ساقط من ف.
(2) ساقطة من د.
(3) الآية السابقة 27قوله تعالى: {[وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبََا قُرْبََاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمََا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ، قََالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ، قََالَ: إِنَّمََا يَتَقَبَّلُ اللََّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ]}.
(4) تتمة الآية.
(5) كذا في النسختين والصواب (كلتا).
(6) كذا فى النسختين ولعل الصواب: ويحل به الإثم.(1/290)
واختلفوا فى المذكورين فى الآية، فمنهم من يقول: إنه قابيل وهابيل، وهما ولدا آدم لصلبه، على ما يقتضيه ظاهر الكلام، وإليه يذهب أبو على رحمه الله وكثير من المتقدمين، فأما الحسن وغيره فإنهم يقولون: إن المراد بهما بعض بنى إسرائيل، وتعلقوا بقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذََلِكَ كَتَبْنََا عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ} (1) وبأن القرابين (2) كانت من عباداتهم. وليس هذا مما يختلف به الكلام فيما يتعلق بالمخالفين (3).
190 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن قاتل النفس قد يؤخذ «بذنب غيره من القتلة، فقال (4): {مِنْ أَجْلِ ذََلِكَ كَتَبْنََا عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسََادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمََا قَتَلَ النََّاسَ جَمِيعاً} [32].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أن قاتل النفس المحرمة مشبه بمن قتل الناس جميعا وليس فيه بيان وجه التشبيه. ومتى قيل: إن زيدا القاتل كعمرو، فليس فيه بيان الوجه الذى فيه مثّل، وما هذا حاله، لا ظاهر له لأنه لا يمكن من حيث اللفظ أن يدعى فيه العموم، فلا بد إذا من الدخول تحت التأويل.
ومتى تشاغلوا بالدلالة على أن المراد ما قالوه خرجوا من التعلق بالظاهر، وصاروا يتنازعون المراد بذكر الأدلة والقرائن.
والمراد بذلك: أن المبتدئ بقتل النفس المحرمة، من حيث يتأسى به فى
__________
(1) من الآية 32، وانظر الفقرة التالية.
(2) فى د: القرائن.
(3) رجح الطبرى أنهما ولدا آدم لصلبه، ودلل على ذلك بعد أن عرض مختلف الروايات فى تفسير الآية. أما الحسن فكان يقول: إن آدم أول من مات. انظر جامع البيان:
6/ 190186، طبع الحلبى سنة 1373.
(4) ساقط من د.(1/291)
القتل الكثير (1). يصير كأنه القاتل لجميع النفوس إذا وقع على هذا الحد.
ولذلك قال تعالى:
{وَمَنْ أَحْيََاهََا فَكَأَنَّمََا أَحْيَا النََّاسَ جَمِيعاً} (2)، وهذ هو معنى ما روى عن النبى صلّى الله عليه وسلم أنه قال «من سن سنة حسنة قله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها» (3).
فإن قال: إن هذا التأويل لا يزيل عنكم الكلام لأنه يوجب أن القاتل الأول يستحق زيادة العقوبة بقتل غيره.
قيل له: إنما يستحقها، لأن المعلوم فى قتله من حيث يقتدى به «فيه أنه (4)
يعظم فيكثر عقابه (5)، وقد يعظم الفعل لأمور مستقبلة: ألا ترى أن الواحد منا إذا تكلف اتخاذ مصنعة فى طريق يكثر سلوكه والانتفاع بما فعله، أن ثوابه يكون أعظم من ثواب من أنفق مثله باتخاذ مصنعة فى طريق منقطعة، فلذلك صح ما نقوله (6) من أن الرسول عليه السلام أفضل الأنبياء، من حيث وقع بدعائه فى النفع ما لم يقع بغيره. وهذا ظاهر.
191 - دلالة: وقوله تعالى: {وَالسََّارِقُ وَالسََّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمََا جَزََاءً بِمََا كَسَبََا نَكََالًا مِنَ اللََّهِ} [38] يدل على أن السرقة المخصوصة المرادة بالآية يستحق بها العقاب، وأنها أكبر من سائر طاعات فاعلها، لأنه
__________
(1) ف: كثير.
(2) من تتمة الآية السابقة: 32.
(3) أخرجه ابن ماجة بلفظ: (من سن سنة حسنة فعمل بها كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن سنة سيئة فعمل بها كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئا) وفيه عدة روايات بألفاظ متقاربة، السنن 1/ 4746.
(4) ساقط من د.
(5) ساقطة من د.
(6) فى د: أن ما نقوله.(1/292)
تعالى عم بإيجاب القطع فيها على سبيل الجزاء والنكال، ولم يخص سارقا من سارق، والكل فى الدخول تحته على حد واحد.
وليس لأحد أن يحمل ذلك على الكفار لمكان العموم (1)، لأن قوله:
{وَالسََّارِقُ وَالسََّارِقَةُ} تعريف (2) فإذا لم يكن هناك عهد يتوجه الخطاب نحوه، فالمراد به الجنس من غير تخصيص واحد من واحد، وإن كان لفظه لفظ الواحد، ولذلك صح منه تعالى أن يستثنى منه، فقال {فَمَنْ تََابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} (3) وهذا بمنزلة الاستثناء، وهذا كقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسََانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) فلما عرّف الإنسان وفقد العهد انصرف إلى الجنس، فصح أن يقول:
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} (5).
ولأن دخول الجزاء على جهة الزجر عن السرقة يقتضى العموم، وإلا كان لا يكون زجرا للجميع، ويجرى مجرى قوله: من سرق فاقطعوا يده، لمكان معنى الشرط والجزاء.
ولأنه من حيث تعلق القطع بالسرقة وأخرج الفاعل من أن يكون له تأثير فى الخطاب، فوجب تعلق القطع بها كيفما حصلت، وصار ذلك بمنزلة قوله:
إن من حق السرقة أن يستحق بها القطع على جهة الجزاء والنكال.
وكل ذلك يوجب أنها إذا وقعت من أهل الصلاة دخلوا تحت الوعيد، كهى إذا وقعت من الكفار.
وقد وصف الله تعالى هذا القطع بصفة العقاب، لأنه تعالى جعله جزاء
__________
(1) د: معلوم.
(2) ساقطة من د.
(3) من الآية: 39، وسقط من د كلمة «من».
(4) سورة العصر: 21.
(5) من الآية 3فى سورة العصر.(1/293)
ونكالا، فنبه بذلك على أنه مستحق وأنه مفعول على وجه الذل والاستخفاف، فليس يمكن حمل ذلك على أنه محنة كما نقوله فى التائبين.
فثبت بذلك أن من حق السرقة إذا وقعت على الوجه الذى أجمعوا على أنه يستحق بها القطع، أن فاعلها مستحق للعقاب. ولا يجوز مع ذلك أن يكون مستحقا للثواب! لأنه يتضاد أن يستحق أن يدام عليه النعيم من غير شوب، والعقاب من غير لذة، فيجب بثبوت أحدهما (1) انتفاء الأمر (2) الآخر لا محالة، على ما نقوله فى الإحباط والتكفير (3).
192 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه يريد الكفر، فقال: {وَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللََّهِ شَيْئاً} (4).
والجواب عن ذلك: أنهم أخطئوا فى ظنهم أن الفتنة هى الكفر، والكفر متى سمى بذلك فعلى جهة المجاز، من حيث يؤدى إلى الهلاك، وقد سمى تعالى العذاب فتنة، فقال: {هُمْ عَلَى النََّارِ يُفْتَنُونَ} (5) وأراد به العقوبة، وقد سمى
__________
(1) ساقطة من د.
(2) في د: الأجر.
(3) المكلف إما أن تخلص طاعاته أو معاصيه، أو يجمع بينهما، فاذا جمع بينهما فلا سبيل عندهم إلى التساوى، على ما علم عقلا وسمعا كما قال أبو على، أو سمعا كما قال أبو هاشم، فليس إلا أن يكون أحدهما أكثر من الآخر والآخر أقل. فيسقط الأقل بالأكثر ويزول، فان كان الأقل الطاعات سمي سقوطها إحباطا. وإن كان المعاصى سمي تكفيرا، وهم يطلقون القول ب (الإحباط والتكفير) جملة على سقوط الأقل بالأكثر. انظر شرح الأصول الخمسة: ص 624623فما بعدها. وانظر فيما سلف: الفقرة 90مع التعليق.
(4) قال تعالى: {[وَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللََّهِ شَيْئاً أُولََئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيََا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذََابٌ عَظِيمٌ]} من الآية 41.
(5) الآية: {(يَوْمَ هُمْ)} سورة الذاريات 13.
(م 15متشابه القرآن)(1/294)
الامتحان بالتكليف فتنة، ولهذا قال تعالى {إِنْ هِيَ إِلََّا فِتْنَتُكَ} (1).
وعلى هذا الوجه يقول الرجل: إن فلانا لمفتون بولده، فلا ظاهر لما توهموه لما ذهبوا إليه.
والمراد بذلك أن من يرد الله أن يعاقبه لكفره وسوء فعاله، فلن تملك له من الله شيئا، وإنما بعث بذلك المكلف على التلافى، من حيث بين أن عقابه لا يزول إلا بما يكون منه من التوبة (2)، وبين للرسول عليه السلام أن محبته لوصولهم إلى الجنة لا تنفعهم إذا ماتوا على الإصرار!
193 - وقوله تعالى من بعد: {أُولََئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} لا يدل على أنه لم يرد منهم الإيمان لأن ذلك لا يعقل من تطهير القلب إلا على جهة «التوسع، لأن (3) قوله: {لَمْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}
يقتضى نفى كونه مريدا، وليس فيه بيان الوجه الذى لم يرد ذلك عليه، فلا ظاهر له فيما توهموه!.
والمراد بذلك: أنه لم يرد تطهير قلوبهم مما يلحقها من الغموم بالذم والاستخفاف والعقاب، ولذلك قال: {لَهُمْ فِي الدُّنْيََا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذََابٌ عَظِيمٌ} ولو كان أراد (4) ما قالوه لم يجز أن يجعل ذلك ذما ولا أن
__________
(1) من الآية 155فى سورة الأعراف.
(2) ذهب المعتزلة إلى وجوب التوبة على العاصي، فإن كانت معصيته صغيرة وجب ذلك عليه بالسمع دون العقل، خلافا لبعضهم وإن كان صاحب كبيرة لزمته التوبة ووجبت عليه بالسمع والعقل. وعند البغداديين أنها لا تأثير لها فى اسقاط العقاب، وإنما الله سبحانه يتفضل باسقاطه عند التوبة، أما عند معتزلة البصرة فالتوبة هى التى تسقط العقوبة، قال القاضي عبد الجبار: «وأما عندنا فإنها هي التى تسقط العقوبة لا غير» ولهذا عدوا التوبة «تلافيا» للمعصية، وإليه يشير القاضى فى كلامه هنا على الآية. انظر شرح الأصول الخمسة: 790789 المغنى: 14ص 335فما بعدها.
(3) ساقط من د.
(4) فى د: ما أراد.(1/295)
يعقبه بالذم، ولا أن يجعله فى حكم الجزاء على ما لأجله عاقبهم وأراد ذلك فيهم.
194 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر، كما أنه ظالم فاسق، فقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْكََافِرُونَ} [44] «وهذا يوجب صحة قول الخوارج (1).
والجواب عن ذلك من وجوه: منها: أن المراد بالآية اليهود فقط، لأنه تعالى قال من بعده: {وَقَفَّيْنََا عَلى ََ آثََارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [46] وذلك يوجب تخصيص الكلام، ويقتضى أن من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود فهو كافر.
فإن قال: إذا صح فيهم ذلك من حيث لم يحكموا بما أنزل الله، استمر فينا أيضا، وصار عاما من هذا الوجه!
قيل له: إنه لا يمتنع «فيما هو كفر (2) أن يختلف بالشرائع، فكذلك الكبائر، لأنه يختلف مواقعه لأحوال ترجع إلى المكلف (3)، فهو كالمصالح فى ذلك، فلا يجب ما ذكرته.
ومنها: أن ظاهر الآية يقتضى أن من لم يحكم بكل ما أنزل الله فهو كافر لأن لفظة: «ما» فى المجازاة يعم، ومن هذا حاله لا بد أن يكون كافرا، لأن فى جملة الأحكام ما يعلم من دين (4) الرسول عليه السلام ضرورة، فمتى لم يحكم به وبصحته فهو كافر لا محالة.
__________
(1) ساقط من د.
(2) ساقط من ف.
(3) د: الملك.
(4) د: دون.(1/296)
ومنها: أن ظاهر الكلام لا يقتضى أن المراد بالحكم الفعل دون القول أو ما يتعلق بغيره دون ما يخصه، ومن لم يحكم بالمذاهب وصحتها بما أنزل الله فهو كافر، وكل ذلك يمنع من تعلق القوم به (1).
195 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه لم يرد من جميع المكلفين الإيمان، فقال: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً} (2)
ولو أراد من جميعهم الإيمان، وأن (3) يتفقوا فى ذلك، لكان قد شاء أن يجعلهم أمة واحدة.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام يقتضى أنه لم (4) يشأ أن يجعلهم أمة واحدة، وإرادته (5) منهم أن يؤمنوا «ليس بإرادة (6) أن يجعلهم هم مؤمنين
__________
(1) ذهب الخوارج إلى تسمية صاحب الكبيرة كافرا، خلافا للمعتزلة فى تسميته فاسقا وجعله فى المنزلة بين المنزلتين، وخلافا للمرجئة كذلك فى تسميته مؤمنا، وقد احتجوا بأن الكافر إنما سمي كافرا لأنه ترك الواجبات وأقدم على المقبحات، وهذه حال الفاسق، فيجب أن يسمى كافرا، واحتجوا من كتاب الله تعالى بآيات، منها آية المائدة هذه، وعدوها نصا صريحا فى موضع النزاع، كما يقول القاضي، وقد بين القاضي في الرد عليهم أنه لا بد من العدول عن ظاهر الآية، لأنه يقتضي أن من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، لأن «ما» و «من» موضوعتان للعموم والاستغراق، وإذا تنازعوا التأويل، فلا بد من تأويل الآية بما يوافق الأدلة، وعند القاضى أن المراد بها: أن من لم يحكم بما أنزل الله على وجه الاستحلال فهو كافر، ولا خلاف في ذلك. انظر أدلة المعتزلة على أن صاحب الكبيرة لا يسمى كافرا: شرح الأصول الخمسة 720712، ورد القاضى لشبه الخوارج ص 727720 وانظر حول الآية كذلك: أمالى المرتضى 1/ 166165.
(2) قال تعالى: {[وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتََابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ، وَلََا تَتَّبِعْ أَهْوََاءَهُمْ عَمََّا جََاءَكَ مِنَ الْحَقِّ، لِكُلٍّ جَعَلْنََا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهََاجاً، وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً، وَلََكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مََا آتََاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرََاتِ إِلَى اللََّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمََا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ]} الآية: 48.
(3) د: وإن لم.
(4) ف: لو.
(5) د: وأراد.
(6) د: لأن بإرادته.(1/297)
فلا تعلق للقوم بظاهره.
وبعد، فإن قوله {وَلَوْ شََاءَ} يدل على أنه لم يشأ، ولا يدل على أنه لم يشأ من جميع الوجوه، فمتى كان ذلك الباب مما يراد على وجهين لا يجتمعان، فبنفى أحدهما لا يجب نفى الآخر، فلا يصح ادعاء العموم فيه.
وبعد، فإنه لم يقل: لو شاء لجعلهم أمة واحدة فى أمر مخصوص، فظاهر ذلك يقتضى أن يجعلهم جماعة واحدة متساوية فى باب ما، فمن أين بظاهره أن المراد ما قالوه؟.
والمراد بالآية: أنه لو شاء لألجأهم إلى أن يصيروا أمة واحدة مجتمعين (1) على الهدى والإيمان، ولذلك أضاف ذلك إلى جعله، لكنه لم يرد ذلك لما فيه من زوال التكليف، وأراد أن يؤمنوا طوعا على وجه يستحقون به الثواب العظيم، ولهذا قال: {وَلََكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مََا آتََاكُمْ} منبها بذلك على ما ذكرناه (2).
196 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه جعل الكافر كافرا فقال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذََلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللََّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللََّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنََازِيرَ وَعَبَدَ الطََّاغُوتَ}
[60] فبين أنه تعالى خلق عبد الطاغوت وجعله كذلك، وهو الذى نقول به.
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه جعل وخلق من يعبد الطاغوت، كما أنه جعل منهم القردة والخنازير، ولذلك قال تعالى: {أُولََئِكَ شَرٌّ مَكََاناً} (3)
__________
(1) ساقطة من ف.
(2) انظر الفقرة: 76.
(3) تتمة الآية السابقة 60قوله تعالى: {[أُولََئِكَ شَرٌّ مَكََاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوََاءِ السَّبِيلِ]}(1/298)
وإنما يدل على أنه خلق الكافر، فمن أين أنه جعله كافرا أو خلق كفره؟
وقال شيخنا أبو على رحمه الله: إن تقدير الكلام: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه، ومن عبد الطاغوت، ومن جعل منهم القردة والخنازير، مبينا بذلك من حال الكفار (1) من بنى إسرائيل أنهم أشر حالا، وأولى بالذل واللعنة ممن عدل عن طريقهم وآمن بالرسول صلى الله عليه (2).
197 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه جسم وأن له يدين فقال: {وَقََالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللََّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمََا قََالُوا بَلْ يَدََاهُ مَبْسُوطَتََانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشََاءُ} [64].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى إثبات يدين له تعالى خارجتين عن الوجه الذى نعقله.
ويدل على أنهما مبسوطتان لا يصح فيهما غير ذلك لأنه «إن جاز (3)
فيهما القبض والبسط لم يكن لهما «فى هذا الوجه (4) تخصيص يوجب (5)
كونهما مركبتين ذاتى أصابع، ليصح معنى البسط، وأن تكون مؤلفة متغايرة،
__________
(1) فى النسختين: الكفر.
(2) سئل أبو الحسين الخياط (عبد الرحيم بن محمد ابن عثمان من رجال الطبقة الثامنة) فى الآية فقيل: قد أخبر الله تعالى أنه جعل منهم عبدة الطاغوت، فقال: معناه جعلهم ممن عبد الطاغوت، أى حكم بأنهم عبدوا الطاغوت وسماهم بذلك. انظر شرح عيون المسائل للحاكم الجشمي، ورقة 112. قال القاضى: وسؤال السائل إنما يستقيم على قراءة من قرأ (وعبد الطاغوت) بضم الباء فى (عبد) وهو جمع عابد لا على قراءة من قرأ بالفتح لأنه إخبار عن ماض وليس داخلا فى المجعول. انظر طبقات المعتزلة بتحقيق سوزانا فلزر ص: 86.
(3) فى د: أجاز.
(4) فى د: هذا فى الوجه.
(5) د: ويوجب.(1/299)
وذلك مما لا يرتكبه المتكلمون منهم، ولذلك يقولون فيه (1) إنه جسم لا (2)
كالأجسام، وأنه له يدين (3) لا كالأيدى، وأن التبعيض والتجزى لا يصح عليه، وأنه ليس بذى أعضاء. فلا يصح تعلقهم بالظاهر.
ومن يقول من الحشوية (4) بأنه مصوّر كصورة الإنسان، لا يقول فى يديه إنهما مبسوطتان أبدا، وأن الإنفاق يقع منه بهما، فله تعلق بهما!
والمراد بذلك: أن نعمتيه مبسوطتان على العباد، «وأراد به (5) نعمة الدين والدنيا، والنعمة الظاهرة والباطنة، وقد يعبر باليد عن النعمة، فيقال (6):
لفلان عندى يد وأياد ويد جسمية.
وعلى هذا الوجه قال تعالى مؤدبا لرسوله صلّى الله عليه: {وَلََا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى ََ عُنُقِكَ وَلََا تَبْسُطْهََا كُلَّ الْبَسْطِ} (7) وإنما أراد أن يمنعه من البخل والتبذير، وأن يسلك مسلك الفضل.
ويجب على قولهم إذا تمسكوا بالظاهر أن يقولوا: إن لله أيد لأنه قال:
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا خَلَقْنََا لَهُمْ مِمََّا عَمِلَتْ أَيْدِينََا أَنْعََاماً} (8) فإذا انصرفوا عن ظاهر ذلك، فكذلك ما قلناه.
ثم يقال للقوم: إن اليد إذا ذكر فيها البسط مع ذكر الإنفاق، لم يوجد فى اللغة أن المراد بها الجارحة، والله تعالى ذكرهما على هذا الحد، فمن أين أن (9)
المراد به ما قلتم؟
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ساقطة من د.
(3) د: بدا.
(4) ف: الحشو.
(5) د: وإرادته إرادته.
(6) فى د: فقال.
(7) من الآية: 39فى سورة الإسراء.
(8) من الآية: 71فى سورة يس.
(9) ساقطة من د.(1/300)
وبعد، فإن إثبات الجارحتين لا تعلق له بالإنفاق على وجه، فيجب حمل الكلام على ما يفيد هذا الوجه ويفيد نقض قول اليهود فيما قالوه، ومعلوم من حالهم أنهم لم يريدوا أن يد الله مغلولة فى الحقيقة، وإنما نسبوه إلى البخل، وأنه يقتر أرزاق العباد، فيجب فيما أورده تعالى على جهة التكذيب لهم أن يكون محمولا على نقيض قولهم، وذلك يقتضى ما قلناه.
والعرب قد تصف اليد بما ينبئ عن البخل مرة والجود مرة أخرى، فتقول:
فلان جعد اليد، وكزّ اليد، وواسع اليد، إلى غير ذلك، والقرآن نزل بلغتهم «فيجب حمل الكلام (1) على ما تقتضيه.
198 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعد ذلك ما يدل على أن القرآن يزيد كثيرا من المكلفين كفرا، فقال: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيََاناً وَكُفْراً} (2)
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أن الكتاب هو الذى يزيدهم كفرا، وهذا مما لا يقول به أحد، فلا بد من حذف فى الكلام والدخول تحت التأويل، والإقرار بأن حالهم فى الظاهر كحالنا (3) فيه، فكيف يصح تعلقهم بالظاهر؟.
والمراد بذلك: أنهم يزدادون عند إنزاله تعالى ذلك (4) طغيانا وكفرا، من حيث يكفرون به ولا يؤمنون، وهذا كقوله: {وَإِذََا مََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَيُّكُمْ زََادَتْهُ هََذِهِ إِيمََاناً} (5)؟ وكقوله تعالى:
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النََّاسِ} (6) وقد ثبت فى اللغة صحة إضافة
__________
(1) ساقط من ف.
(2) من تتمة الآية 64السابقة.
(3) ف: كحاله.
(4) ساقطة من د.
(5) من الآية: 124فى سورة التوبة.
(6) من الآية: 36فى سورة إبراهيم.(1/301)
الشيء إلى سببه وإلى ما عنده حصل، فيقولون: فلان أبخل فلانا بمسألته، إذا ظهر عنده بخله. وإنه أتعبه، إذا سأله حاجة فتعب عندها.
ثم يقال للقوم: إنه تعالى قد وصف إنزاله إلى رسوله بأنه هدى وشفاء ونور ورحمة، فكيف يصح أن يكون موجبا لزيادة الكفر؟
وإنما يدل ذلك على ما قلناه، وإلا تناقض كلامه، تعالى عن ذلك!
199 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يمنع من المعاصى، فقال: {يََا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمََا بَلَّغْتَ رِسََالَتَهُ} [1] وَاللََّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النََّاسِ [67]
والجواب عن ذلك: أن الغرض بذلك أنه يمنعك من الناس ويمنعهم منك حتى تستكمل الإبلاغ والأداء، ولم يرد أنه يمنعهم من ظلمه أو ما يجرى هذا المجرى لأنه قد علم أنهم قد قدموا عليه، غير دفعه بوجوه من المضار، وأنه كان يخاف على نفسه منهم، فيهرب ويستتر ويتعمد الحيل فى دفع المكاره.
«والمراد به ما قلناه (2) من أنه يمنع من يؤتى عليه فيفوت الإبلاغ والأداء. وليس فى ظاهره أنه يمنع أحدا مما أمر به أو نهى عنه لأن منعه من الناس بالعصمة لا يقتضى رفع ذلك فيه أو فيهم، كما أن أحدنا إذا امتنع بالحواجز عن غيره لا يكون فى ذلك رفع الأمر والنهى والتمكن منهما!
__________
(1) كذا فى النسختين على الجمع. وهي قراءة أهل المدينة. وقرأ أبو عمرو وأهل الكوفة: [رسالته]. على التوحيد. قال النحاس: والقراءتان حسنتان، والجمع أبين لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئا فشيئا ثم يبينه. والإفراد يدل على الكثرة. فهي كالمصدر. والمصدر فى أكثر الكلام لا يجمع ولا يثنى لدلالته على نوعه بلفظه. انظر القرطبي: 6/ 244.
(2) فى د: والمراد بما قلناه. وفى ف: والمراد ما قلناه.(1/302)
200 - دلالة: وقوله تعالى بعد ذكر اليمين والكفارة: {وَاحْفَظُوا أَيْمََانَكُمْ} (1) يدل على أن الإنسان قادر على أن يبر ويحنث لأن حفظ اليمين يقتضى أن اليمين قد وجد، ومتى وجد لا يقع حفظها إلا بالوجه الذى قلناه، وهو مجانبة الحنث «وتعمد البر (2)، وهذا لا يصح إلا وهو قادر على الأمرين متمكن منهما، ولو كان تعالى يخلق فيه الحنث على وجه لا يمكنه أن ينفك عنه، وإن اجتهد فى محافظة اليمين، لم تكن للمحافظة معنى على وجه!
201 - دلالة أخرى: وقوله تعالى: {مََا جَعَلَ اللََّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلََا سََائِبَةٍ وَلََا وَصِيلَةٍ وَلََا حََامٍ وَلََكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللََّهِ الْكَذِبَ} (3)
يدل على أنه تعالى لم يجعل السائبة بهذه الصفة على ما كانوا يعملون لأنهم لم يكذّبوا فى إضافة نفس السائبة إلى أن الله جعلها، وإنما كذبهم فى زعمهم أنه جعلها كذلك، فإذا نفى تعالى أن يكون جعلها كذلك بهذه الصفة، فقد دل على أن أفعال العباد مضافة إليهم، ولو كان هو الخالق فيهم تسييب السائبة وامتناعهم من أكل لحمها وركوبها وجز وبرها، لم يجز أن ينفى عن نفسه ذلك، لأن ما به صارت كذلك هو من قبله ومن فعله.
فإن قالوا: إنما نفى عن نفسه التعبد بذلك والأمر به!
قيل له: إن الأمر بذلك غيره «والبغى عليه دخل (4)، فمتى صرف الى التعبد والأمر، فهو عدول عن الظاهر من الوجه الذى استدللنا عليه.
__________
(1) من الآية: 89. وانظر الآية بتمامها.
(2) ف: والتعمد البر فيها.
(3) الآية 103. وتتمّتها: {[أَكْثَرَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ]}
(4) د: والنهي عنه دليل.(1/303)
ومن سورة الأنعام
202 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أن للانسان أجلين، وأنه يجوز أن يقطع القاتل على المقتول أحدهما، فقال {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى ََ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [2].
والجواب عن ذلك: «أن الظاهر (1) إنما يقتضى أنه قضى أجلا، وإثبات أجل (2) مسمى عنده، وليس فيه أن كلا الأجلين فى الدنيا، وهو موضع الخلاف، وليس فى الظاهر أيضا أن الأجل المسمى عنده هو (3) لمن قضى له الأجل الأول.
والمراد بذلك: أنه قضى لهم الآجال فى الدنيا لأنه لا واحد إلا وقد حكم تعالى بوقت موته، والوقت الذى يمتد كونه حيا فيه، فلا يموت إلا فى الوقت المعلوم، ولا يحيا إلا فى الوقت المقدور.
وقوله تعالى: {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} أراد به وقت حياتهم فى الآخرة، ولذلك أضافه إليه الإضافة الدالة على أن المراد بها الموضع الذى لا ينفذ الحكم فيه إلا له.
وأراد بقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} أنه خلق أصلكم من طين، فلما تفرعنا عما هذا حاله جاز أن نوصف بهذه الصفة.
فمتى حملنا الآية على هذا الوجه، وفيناها حقها فى التعميم، وإذا حملت على
__________
(1) ساقط من د.
(2) لعل المعنى و: ويقتضى إثبات أجل.
(3) فى د: وهو.(1/304)
ما قاله المخالف أدى ذلك إلى التخصيص، وأن يكون واردا فى المقتول فقط، [والأول (1)] أولى.
وقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} يقوى ما قلناه، لأنه أنكر عليهم التوقف والشك فى القيامة والحشر والإعادة. وهذا بين (2).
203 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه جسم يجوز عليه الأماكن، فقال: {وَهُوَ اللََّهُ فِي السَّمََاوََاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [3].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه فى الوقت الواحد فى السموات والأرض، وهذا يستحيل على الأجسام المحتاجة إلى مكان لأن ثبوتها فى مكان يمنع من كونها فى غيره، ولو أراد تعالى أن يدل على أنه ليس بجسم لم يكن ليزيد على هذه الصفة، لأن وصفه نفسه بأنه فى السموات والأرض يقتضى أنه لم يجعلها مكانا له، لاستحالة ذلك (3) فيما يجوز عليه المكان، فيجب أن يحمل الأمر على أنه جعلها ظرفا لتدبيره واقتداره وتصريفه (4) لهما على إرادته، أو يحمل الأمر على أنه محيط بهما علما، ولذلك قال تعالى: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} فنبه بذلك على أنه فيهما، بمعنى أنه لا يخفى عليه أحوالهما، كما لا يخفى على الحاضر
__________
(1) ساقطة من د. وفى ف: وهو!
(2) انظر الفصل الذى كتبه القاضى فى المغنى: 11 (التكليف) 2518 «فى أن المقتول وغيره لا يموت إلا بأجله. وأن الزيادة والنقصان فى الأجل لا تصح. وأن القول بإثبات الأجلين باطل» وما فسر به الآيات التى يتعلق بها المخالف. ص: 2523.
ومنها آية سورة الأنعام هذه.
(3) د: ذلك عليه.
(4) فى د: وتصرفه.(1/305)
حال من يشاهده، وعلى هذا الوجه يجرى القول فى أوصاف الله تعالى بأنه بكل مكان، واستجاز المسلمون إطلاقه، لأنهم عنوا به فى الصنع والتدبير، أو فى الإحاطة به علما.
ويبين ما قلناه أن قوله تعالى: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} لا يليق إلا بما ذكرناه، لأنه إذا كان فى كل مكان لم يجب أن يكون عالما بسرنا وجهرنا، لأن الحاضر معنا «لا يجب أن يكون مطلعا (1) على أسرارنا، فكيف من هو فى غير المكان الذى نحن فيه؟
ومتى ذكر تعالى المكان ثم عقبه بذكر العلم وغيره، فيجب صرف الكلام إلى ذلك الوجه، ولهذا قلنا إن قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمََاءِ إِلََهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلََهٌ} (2): المراد به الاقتدار منه على المكانين، والتنبيه بذكرهما على أنه مقتدر على كل شيء، وكذلك لما عقب الكلام بذكر العلم دل على أن المراد «بما تقدم ذكره أنه محيط (3) بما فيهما علما.
204 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده فيها ما يدل على أن المكان يجوز عليه، فقال: {وَهُوَ الْقََاهِرُ فَوْقَ عِبََادِهِ} [18] و «فوق» إنما تستعمل فى اللغة بمعنى المكان إذا علا على مكان غيره.
والجواب عن ذلك: أنه تعالى قد نبه فى الكلام على ما أراد، بقوله
__________
(1) د: لا يجوز أن يطلع.
(2) من الآية: 84فى سورة الزخرف. وتتمتها: {[وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ]}
(3) ف: ما تقدم من ذكره أنه يحيط.(1/306)
{وَهُوَ الْقََاهِرُ} «ثم ذكر ما يقتضى [بيان] حاله فى ذلك فقال (1) {فَوْقَ عِبََادِهِ} وهذا كقوله: {يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (2) ومتى قيل هذا القول فى بعض الأوصاف فالمراد به المبالغة فى تلك الصفة لأنا إذا قلنا: زيد عالم «فوق غيره (3)
فإنما يفهم منه المبالغة فيما قدمناه من الصفة، يبين ذلك أنا إن حملنا الآية على ظاهرها وجب كونه فى السماء فقط، وينقض ما تقدم من استدلالهم على أنه فى السموات والأرضين.
205 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعد ما يدل على أن الكذب قد يحسن، وأنه قد يجوز على أهل الآخرة وإن كان قبيحا! فقال تعالى:
{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلََّا أَنْ قََالُوا: وَاللََّهِ رَبِّنََا مََا كُنََّا مُشْرِكِينَ، انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ} (4) فخبر عنهم بأنهم كذبوا فى الآخرة، وهو الذى قلناه.
والجواب عن ذلك: أن الكذب قد ثبت أنه يقبح لكونه كذبا، وإن كان لا يكون كذلك إلا بأن يقصد المخبر به الوجه الذى يقع عليه كذبا، ولولا صحة ذلك وكان إنما يقبح لأنه لا نفع فيه ولا دفع ضرر ولا مصلحة لكان كالصدق فى بابه، فكان يجب إذا دفع العاقل إليهما عند نفع أو دفع مضرة، أن يجوز أن يكون حالهما عنده سواء، وقد علمنا فساد ذلك، وثبت أيضا أنه تعالى يلجئ أهل الآخرة إلى أن لا يفعلوا القبيح لأنهم لو كانوا كأهل
__________
(1) ساقط من د. والكلمة التى بين معكوفتين فيها خرم. وهى أقرب ما تكون إلى ما أثبتنا.
(2) من الآية: 10فى سورة الفتح.
(3) ساقط من ف.
(4) الآية: 23ومن الآية: 24(1/307)
الدنيا فى التمكن وزوال الإلجاء، لعاد حالهم إلى حال التكليف، وقد علمناه زائلا عنهم (1).
فإذا صح ذلك وجب صرف الآية لو كان ظاهرها ما قالوه إلى خلاف ما حملوه عليه، بأن يقال: إنما أراد بقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ} فى دار الدنيا بإخبارهم عنها أنهم مصيبون وأنهم غير مشركين، فأرادوا بقولهم: {مََا كُنََّا مُشْرِكِينَ} أنا لم نكن عند أنفسنا وفى ظننا واعتقادنا، فكيف والظاهر لا يدل إلا على أنهم كذبوا على أنفسهم، من غير ذكر وقت! فمن أين أنهم كذبوا فى الآخرة دون الدنيا؟
ولو صرف ظاهره إلى الدنيا لكان أقرب لأن الفعل ماض غير مستقبل ومضى الفعل من غير توقيت لا يخصص زمانا دون زمان.
وقوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَفْتَرُونَ} (2) يدل على ذلك (3) لأنه
__________
(1) أوضح الشريف المرتضى وجه الاعتراض على المعتزلة فى الآية. فقال على لسان السائل:
(كيف يقع من أهل الآخرة نفى الشرك عن أنفسهم. والقسم بالله تعالى عليه. وهم كاذبون فى ذلك. مع أنهم عندكم فى تلك الحال لا يقع منهم شيء من القبيح لمعرفتهم بالله تعالى ضرورة.
ولأنهم ملجئون هناك إلى ترك جميع القبائح) الأمالى 2/ 272.
(2) تتمة الآية: 24السابقة.
(3) الآية التى تتقدم هاتين الآيتين. وهى قوله تعالى: {[وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكََاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ]} تدل على خلاف تأويل المؤلف رحمه الله. لأن ما ذهب عن المشركين يوم القيامة هو ما أشركوا به من الأنداد والأصنام فانهم حين سئلوا عنها: {[أَيْنَ شُرَكََاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ]} زعموا أنهم لم يكونوا من المشركين: فقالوا: {[وَاللََّهِ رَبِّنََا مََا كُنََّا مُشْرِكِينَ]} فأنبأ الله تعالى نبيه عليه السلام بكذبهم وأن أصنامهم قد ضلت عنهم بعد أن افتروا بها على الله فى الدنيا: {[انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَفْتَرُونَ]}.
انظر الطبرى: 7/ 169165. وإن كان لا يمتنع عند المرتضى أن تكون الآية تتناول ما يجرى فى الآخرة. ثم تتلوها آية تتناول ما يجرى فى الدنيا «لأن مطابقة كل آية لما(1/308)
بين أنه ذهب عنهم ما أقدموا عليه من الكذب والافتراء، وهذا يشاكل ما قدمناه من التأويل.
206 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه قد منع الكافر من الإيمان بمنع فعله فى قلبه وسمعه، فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذََانِهِمْ وَقْراً} [25].
والجواب عن ذلك: أن المعلوم من حال الكفار، فى زمن رسول الله صلى الله عليه، أنهم لم يكونوا بهذه الصفة، وكيف يجوز ذلك وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه كان يدعوهم وينذرهم ويحذرهم ويبعثهم على تدبر القرآن، ويتوعدهم على الإعراض عنه، ولا يجوز أن يكون هذا حالهم وقد منعوا من أن يفقهوه، وصرفوا عن أن يسمعوه لأن ذلك يتناقض!
وبعد (1)، فان ظاهر الكلام يقتضى أنهم يستمعون إليه، وأنهم مع ذلك بالصفة التى ذكروها، وهذا متناف إذا حمل على ظاهره!
وبعد، فإنه تعالى ذمهم بذلك، وذمهم أيضا إعراضهم (2) عن الآيات فقال: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لََا يُؤْمِنُوا بِهََا} (3) ونبه بذلك على أنه لو كان فى المعلوم «ما يؤمنون عنده (4) لفعله تعالى، ولا يصح والحال هذه أن يكون قد منعهم من أن يفقهوا وأن يسمعوا!
__________
قبلها فى مثل هذا غير واجبة» على أنه بعد أن ذكر فى تأويل الآية ما قاله القاضى. قال:
«ولو كان للآية ظاهر يقتضى وقوع ذلك فى الآخرة لحملناه على الدنيا. بدلالة أن أهل الآخرة لا يجوز أن يكذبوا لأنهم ملجئون إلى ترك القبيح» الأمالى: 2/ 272271.
(1) د: وبعد ذلك.
(2) ساقطة من ف.
(3) من تتمة الآية السابقة: 25
(4) ساقط من ف.(1/309)
والمراد بذلك: أن قوما من الكفار كانوا يرصدون الرسول عليه السلام ليقفوا على مكانه، ويستدلوا بقراءته القرآن على موضعه، فيؤذونه بالقول والفعل. وهو الذى أراده بقوله تعالى: {وَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنََا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجََاباً مَسْتُوراً} (1) فكان تعالى يحدث فيهم شواغل، كالنوم وغيره، فيذهبون عما يريدون ويفوتهم ما يحاولون، فوصف تعالى ذلك بأنه كن على قلوبهم ووقر فى آذانهم، على جهة التشبيه، ولو كانوا فى الحقيقة لا يفقهون ولا يميزون القرآن من غيره، ولا الرسول من سواه لم يكن لهذا القول معنى، ولزال عن الرسول عليه السلام أذاهم على كل حال. ولو كان تعالى صيرهم بهذه الصفة لم يكن لجعله بينهم وبينه حجابا مستورا معنى، لأن حصول ذلك كعدمه فى أنهم كانوا لا يسمعون ولا يميزون.
ويحتمل أن يريد بذلك: أن تمكن الكفر فى قلوبهم لما منعهم من أن يفقهوا القرآن ويسمعوه سماع المتدبر، صار بمنزلة الكن والوقر، فأضافه تعالى إلى نفسه لما بين من حالهم هذه الطريقة، فكما يقال لمن بين حال غيره: جعله فاسقا ولصا، فكذلك لا يمتنع ما ذكرناه (2)
ويحتمل أن يكون المراد به: أنهم بمنزلة الممنوع لإعراضهم عن سماع ذلك وتدبره، وكما يقال لمن بين له فلم يتبين: إنه حمار بهيمة على جهة المبالغة، فكذلك ما قلناه. ولولا ما ذكرناه لم يكن لقوله {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لََا يُؤْمِنُوا بِهََا} معنى، لأن من لا يمكنه أن يسمع ويفقه لا يجوز أن يوصف بذلك،
__________
(1) سورة الإسراء: 45
(2) وبعده فى د زيادة: «فلم يتبين» سبقت إلى الناسخ من السطر التالى.(1/310)
وكان لا يصح أن يصفهم بأنهم كذبوا بآياته وغفلوا عنها! وكل ذلك يبين صحة ما قلناه.
207 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن أهل الآخرة يكذبون فى الآخرة، فقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعََادُوا لِمََا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكََاذِبُونَ} (1)
والجواب عن ذلك: أنه تعالى حكى عنهم من قبل تمنى الرجوع، فقال:
{وَلَوْ تَرى ََ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النََّارِ فَقََالُوا يََا لَيْتَنََا نُرَدُّ وَلََا نُكَذِّبَ بِآيََاتِ رَبِّنََا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [27] {بَلْ بَدََا لَهُمْ مََا كََانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} (2) من وقد علمنا أن الكذب لا يقع فى التمنى، وإنما يقع فى الأخبار لأن القائل إذا قال: لئن حضرنى فلان وحادثى، فسواء حضر أو لم يحضر، فإن قوله لا يوصف بصدق ولا كذب، فلا يجوز إذا أن يكونوا كاذبين فيما خبر عنهم أنهم تمنوه من ردهم إلى الدنيا، وأن لا يكذبوا بآيات ربهم، وأن يكونوا من المؤمنين لأن جميع ذلك وقع على حد التمنى، فإذا يجب أن يكون إنما وصفهم بأنهم كاذبون فى دار الدنيا (3).
وقوله تعالى من بعد على جهة الحكاية عنهم {وَقََالُوا إِنْ هِيَ إِلََّا حَيََاتُنَا الدُّنْيََا} (4) يدل على ما قلناه لأنه حكاية عنهم فى الدنيا دون الآخرة، ولأنهم لا يجوز أن ينكروا الإعادة وقد أعيدوا فى المحشر!
فإن قال: كيف يجوز أن يقول تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعََادُوا لِمََا نُهُوا عَنْهُ}
__________
(1) من الآية: 28.
(2) من الآية: 28وتتمتها ما سبق.
(3) انظر أمالى المرتضى 2/ 272
(4) من الآية: 29وتتمتها: {(وَمََا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)}.(1/311)
ومعلوم من حالهم وقد عرفوا الله ضرورة فى دار الآخرة، أن تكليفهم بعد ذلك لا يصح؟
قيل له: ليس فى الظاهر أنهم لو ردوا لعادوا «لمثل ما نهوا عنه (1) فى حالهم تلك، فكما يجوز أن (2) يقدر ذلك بردهم، فكذلك يقدر بما ثبت من جهة العقل من ردهم على الأحوال التى يصح معها أن يكونوا مكلفين.
وهذه الآية تبين أنه تعالى لرأفته بعباده لا يقطعهم عن الطاعة، وأنه لو علم أنهم يؤمنون ويستحقون الثواب فى حال من الأحوال لكان لا يخترمهم دونه، وقد كلفهم على جهة التعريض للثواب.
ويجوز فى الآية أن يريد بها أنهم كاذبون فيما تمنوه، من حيث كان المعلوم أنه لا يقع على ذلك الحد، ويكون مجازا فيه (3)، لأن حقيقته إنما تقع فى الأخبار.
208 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه لم يشأ ممن كلفه الاجتماع على الهدى، فقال: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ََ} (4)
لأنه لو كان شاء ذلك لم يصح أن يقول هذا القول.
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أنه تعالى قد شاء منهم ذلك على جهة
__________
(1) ساقط من ف.
(2) ساقطة من د.
(3) بمعنى أن يحمل الكذب على غير الكذب الحقيقى فيكون المراد والمعنى كما يقول الشريف أنهم تمنوا ما لا سبيل إليه، فكذب أملهم وتمنيهم، قال المرتضى: «وهذا مشهور فى الكلام لأنهم يقولون لمن تمنى ما لا يدرك: كذب أملك، وأكدى رجاؤك».
الأمالى: 2/ 273.
(4) من الآية: 35.(1/312)
الاختيار والطوع (1)، وقد يصح أن يشاء على جهة الحمل والإكراه، وبينا أنهما كالمتنافيين لأنه لا يصح أن يشاء منهم الهدى على كلا الوجهين، وبينا أن ما هذا حاله لا يصح أن يحمل النفى فيه على العموم، فلا يصح تعلقهم بالظاهر.
وبعد، فإنه تعالى «إنما نفى أن يجمعهم على الهدى، ولم ينف أن يشأ أن يجتمعوا على الهدى. وجمعه (2) لهم على غير اجتماعهم، لأن ذلك فعله وهذا فعلهم، فلا يصح تعلقهم بالظاهر.
وبعد، فقد بينا أن حقيقة الهدى ليس هو الإيمان، ومتى حمل عليه فهو مجاز، فهذا أيضا يمنع من تعلقهم بالظاهر، ويوجب حاجة القوم إلى الدخول تحت التأويل.
والمراد بالآية: أنه تعالى وجد نبيه عليه السلام شديد الحرص على إيمانهم، فبين له أن ذلك لا يدخل فى مقدوره، وإنما يتعلق باختيارهم، أو بأن يلجئهم تعالى إليه: فقال: {وَإِنْ كََانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرََاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمََاءِ} بأن يبلغ غايته {فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} (3) «لم يكونوا ليؤمنوا (4) عندها على الحد الذى أردته، وجعل ذلك كالإنكار على الرسول عليه السلام، أو بمنزلة التسلية له، ثم قال تعالى: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ََ} مبينا بذلك أنه المقتدر على ذلك، لكنه لو فعل لزال التكليف، ولما نفعهم إيمانهم واهتداؤهم، كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ}
__________
(1) انظر الفقرتين: 80و 195، وانظر فى تأويل آيات المشيئة بعامة: المغنى: (6/ م / 2) 320315.
(2) د: إنما أن يجمعهم على الهدى جمعه.
(3) الآية: 35، وتتمتها: {[فَلََا تَكُونَنَّ مِنَ الْجََاهِلِينَ]}.
(4) فى د: لم يؤمنوا.(1/313)
{إِيمََانُهُمْ لَمََّا رَأَوْا بَأْسَنََا} (1) وهذا نظير قوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ بِكُلِّ آيَةٍ مََا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} (2) فبين للرسول عليه السلام أنه قد علم من حالهم أنهم لن يصلحوا عند شيء من الآيات، وأنهم إذا كانوا بهذه الصفة، وقد بين لهم بما حصل من الآيات، وأزيحت عللهم، فنهاية الحجة عليهم قد تمت وحصلت.
209 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه يكلف من لا يعقل، فقال {وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا طََائِرٍ يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ إِلََّا أُمَمٌ أَمْثََالُكُمْ} [38].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره أنها أمثالنا فى أنها أمم، وليس فيه ما يدل على أنها بمنزلتنا فى التكليف، أو يدل على أنها جماعات أمثالنا. ولم يبين الوجه الذى صارت أمثالا لنا فيه، فلا يصح تعلقهم بالظاهر.
والمراد بذلك: أنها جماعات أمثالنا، لأن الأمة حقيقتها أنها جماعة، فإذا قيل:
من الناس، فالمراد به جماعة من الناس، وإنما أراد تعالى: أمثالنا فى أنه تعالى خلقها وتكفل بأرزاقها وقدر أقواتها، ولا يصح أن يريد التكليف لأن من حقه ألا يصح إلا فى المميز العاقل، وذلك بالضد من حالها، وقد صح أن الطفل ومن لم يقارب حال البلوغ أمثل حالا فى التمييز من الطير، ولا يصح مع ذلك أن يكلف!
فأما ما يتعلقون به من قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلََّا خَلََا فِيهََا نَذِيرٌ} (3)
__________
(1) من الآية 85الأخيرة فى سورة غافر.
(2) من الآية 145فى سورة البقرة
(3) من الآية 24فى سورة فاطر.(1/314)
فالمراد به الإنس والجن دون الدواب وغيرها من الحيوان (1)، لما بيناه من الدلالة، لأن المقصد بالنذير أن يحذر من المعاصى ويبعث على مجانبتها، وذلك لا يصح فى الدواب!.
210 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه جعل الكفار ممنوعين، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمََاتِ مَنْ يَشَأِ اللََّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [39] فبين أنه يصرفهم فى المنع والإطلاق كيف شاء!.
والجواب عن ذلك: أنه تعالى لم يذكر الوقت الذى هم فيه بهذه الصفة، ولا يصح ادعاء عموم الأحوال فى ذلك لأن الظاهر لا يقتضيه، لأنه تعالى علقه بأمر، فقال: {فِي الظُّلُمََاتِ} ولا يعلم بظاهره المراد منه، ولو كان عاما باطلاقه لمنع هذا التقييد من حمله على ظاهره، فلا يصح تعلقهم بالظاهر.
ويحتمل أن يريد تعالى: أنه جعلهم بهذه الصفة فى الآخرة لأنه ذكر ذلك عقيب ذكر الحشر، فقال: {ثُمَّ إِلى ََ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [2]، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا، ومتى حمل هذا على هذا الوجه كان محمولا على حقيقته، وقوله تعالى:
{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ عَلى ََ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا} (3) مما يدل على ذلك.
__________
(1) عد الراغب الأصفهانى من أنواع التأويل المستكره وهو ما يستبشع إذا سبر بالحجة التلفيق بين اثنين، (نحو قول من زعم أن الحيوانات كلها مكلفة، محتجا بقوله تعالى:
{[وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلََّا خَلََا فِيهََا نَذِيرٌ]} وقد قال تعالى: {[وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا طََائِرٍ يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ إِلََّا أُمَمٌ أَمْثََالُكُمْ]} فدل بقوله {[أُمَمٌ أَمْثََالُكُمْ]} أنهم مكلفون كما نحن مكلفون!) وعنده أن هذا النوع أكثر ما يروج على (المتكلم الذى لم يقو فى معرفة شرائط النظم).
انظر مقدمته فى التفسير ص 403.
(2) من الآية: 38.
(3) من الآية: 97فى سورة الإسراء.(1/315)
ويحتمل أيضا أن يريد فى دار الدنيا، أنهم لشدة تمسكهم بالكفر والتكذيب بآيات الله، وإعراضهم عما يسمعون، وعن المذاكرة بما أريد منهم، شبههم بمن هو فى الحقيقة بهذه الصفة، على ما بيناه فى نظائره.
211 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه تعالى يأخذ سمع المكلف وبصره ويختم على قلبه، فقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللََّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصََارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى ََ قُلُوبِكُمْ؟!} [46].
والجواب عن ذلك: أنه تعالى ذكر أنه إن فعل ذلك لم يجز أن تعيد لهم هذه الأحوال ما يدعوه من الآلهة. وليس فيه أنه قد جعلهم بهذه الصفة، فلا ظاهر للقوم يتعلقون به!
والمراد به تبكيت من اتخذ معه إلها، ظنا منه بأنه يسمع أو يبصر فقال: قل أرأيتم إن سلبكم تعالى هذه الحواس أتؤملون أن يكون فيمن تعبدون من الأصنام من يخلقها فيكم؟! مبينا بذلك أن لا وجه لعبادتها، وأن الواجب أن يعبدوه مخلصين غير متخذين معه إلها سواه.
212 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه قد أراد من بعض المؤمنين أن يطعنوا فى بعض، وأن يظهروا لهم الحسد والعداوة فقال:
{وَكَذََلِكَ فَتَنََّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهََؤُلََاءِ مَنَّ اللََّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنََا}
[53].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يدل على أنه فتن بعضهم ببعض إرادة منه لأن يقولوا هذا القول لأنه قد يجوز أن يريد أن يقولوه على جهة الاستفهام
لا على جهة إظهار العداوة، سيما وظاهر الكلام يقتضى الاستفهام، فلا يصح تعلقهم بالظاهر.(1/316)
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يدل على أنه فتن بعضهم ببعض إرادة منه لأن يقولوا هذا القول لأنه قد يجوز أن يريد أن يقولوه على جهة الاستفهام
لا على جهة إظهار العداوة، سيما وظاهر الكلام يقتضى الاستفهام، فلا يصح تعلقهم بالظاهر.
والمراد بالآية: أنه صلّى الله عليه لما قرب فقراء المسلمين وألزمهم مجلسه شق ذلك على أشراف العرب، فألزمهم الله تعالى الصبر، وسمى ذلك فتنة «لما يقتضيه (1) من المشقة، فقال تعالى: {وَكَذََلِكَ فَتَنََّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}.
وقوله تعالى: {لِيَقُولُوا أَهََؤُلََاءِ مَنَّ اللََّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنََا} حكاية عنهم أنهم عند ذلك يستفهمون بهذا القول لأنهم لا يجوز أن يكونوا منكرين لذلك مع إيمانهم واختصاصهم بالرسول صلّى الله عليه لأن ذلك يوجب الكفر.
113 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه قد نهى عن النظر والتدبر (2) فقال تعالى: {وَإِذََا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيََاتِنََا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتََّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [68].
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام يقتضى أن الخوض فى آياته يقتضى أن يعرض لأجله، وهذا مما لا يذهب إليه مسلم، لأنهم أجمع يقولون: إنه يحسن
__________
(1) ساقط من ف.
(2) يطلق النظر ويراد به معان، فيراد به الرؤية بالعين، والإحسان والرحمة، كما يراد به نظر القلب، وهذا هو المراد فى إطلاقهم وحقيقة ذلك هو الفكر، لأنه «لا ناظر بقلبه إلا مفكرا، ولا مفكر إلا ناظرا بقلبه» كما يقول القاضي. وقد عول المعتزلة على النظر الذى يكشف عن الحقيقة، وبسطوا القول فيه، وقد خصه القاضى بجزء كبير من كتابه: المغنى لأن عندهم أن العقل حاكم قبل السمع، وأن الناس كانوا يحكمون عقولهم قبل ورود الشرائع فيحسنون ويقبحون، ولما أوجب المعتزلة النظر قالوا بفساد التقليد لما قد يؤدى إليه من جحد للضرورة.
راجع المغنى: 12 (النظر والمعارف) ص: 4، ص 122مع مقدمة المحقق الأستاذ الدكتور إبراهيم مذكور.(1/317)
أن تعرف وتتدبر! وإن كانت مما يحفظ أن تحفظ ويعرف معناها، فحمله على (1)
ما ذكروه يوجب الخروج من جملة الآية، وإذا حمل على خوض مخصوص فقد ترك الظاهر!.
وبعد، فإن هذه الآية عقبت ذمهم بإعراضهم عن الآيات، ونسبهم إلى أنهم اقترحوا سوى إنزاله من الآيات والقرآن (2)، وذلك يوجب أنهم خاضوا فيه لطلب الطعن فيه والتكذيب، فلذلك أمره تعالى أن يعرض عنهم. ولا يجوز أن يأمرهم بتدبره والنظر فيه، ومع ذلك يذمهم متى خاضوا فيها على هذا الوجه!
214 - دلالة: وقوله تعالى من بعد: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} (3) يدل على أنه لا يجوز أن يفعل القبيح، لأنه لو جاز أن يفعله لم يجز أن يوثق بأنه خلقها بالحق: «لأنه كان لا يؤمن أن يكون (4) خلقها باطلا وعبثا وفسادا، وأن يكون خبره هذا (5) كذبا، ولا يمكن أن يعلم به شيئا.
215 - وقوله تعالى من بعد: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} يدل أيضا على ما قلناه، لأنه إن كان جميع الكذب والأقاويل الباطلة من عنده وفعله، فغير جائز أن يوصف بأن قوله الحق.
216 - وقوله تعالى من بعد: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} يدل على مثله لأنه لو كان فاعلا لكل قبيح لم يجز أن يوصف بأنه حكيم لأن الحكيم هو الذى يفعل الحكمة والصواب.
__________
(1) ساقطة من د.
(2) انظر الآية: 66والآيات: من 95فى مطلع السورة!
(3) من الآية: 73وتتمتها. {[وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عََالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ]}.
(4) د: لأنه لا يؤمن أنه.
(5) ساقطة من ف.(1/318)
217 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه تعالى يجوز أن يشاء الشرك والكفر، فقال تعالى: {وَحََاجَّهُ قَوْمُهُ، قََالَ: أَتُحََاجُّونِّي فِي اللََّهِ وَقَدْ هَدََانِ. وَلََا أَخََافُ مََا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلََّا أَنْ يَشََاءَ رَبِّي شَيْئاً}
[80] فبين أنه لا يخاف شركهم إلا بإرادة الله تعالى.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام يقتضى أنه لا يخاف ما يشركون به وهو الأصنام. ثم قال: {إِلََّا أَنْ يَشََاءَ رَبِّي شَيْئاً} فنكر الشيء، فظاهره لا يدل على المراد، ويجوز (1) فى الاستثناء أن يكون راجعا إلى ذكر الخوف وإلى ما يشركون، فمن أين أن المراد به ما قالوه؟!
والمراد بالآية: أنه لما حاج قومه فنبههم على أن الأصنام لا تنفع ولا تضر، وأنه لا يخافها على وجه، قال: {إِلََّا أَنْ يَشََاءَ رَبِّي شَيْئاً} من ضروب ما يخاف منه فأخاف ذلك. ومتى لم يحمل على هذا الوجه لم يستقم الكلام.
وقد قيل: إن المراد به (2) {وَلََا أَخََافُ مََا تُشْرِكُونَ بِهِ} من الأصنام، إلا أن يشاء تعالى أن يجعلها حية قادرة على الإقدام على الضار، فأخافها إذ ذاك.
218 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يخص المؤمن بالهدى والإيمان، فقال: {وَمِنْ آبََائِهِمْ وَذُرِّيََّاتِهِمْ وَإِخْوََانِهِمْ، وَاجْتَبَيْنََاهُمْ وَهَدَيْنََاهُمْ إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. [87].
والجواب عن ذلك: أنه بين تعالى أنه خص الأنبياء بأن اجتباهم واصطفاهم بأن اختارهم للرسالة دون غيرهم، وهذا مما لا يضاف إلا إليه تعالى.
__________
(1) د: ولا يجوز.
(2) ساقطة من د.(1/319)
وقوله تعالى: {وَهَدَيْنََاهُمْ} يعنى بالدلالة والبيان، وذلك أيضا من فعله.
219 - وقوله تعالى: {ذََلِكَ هُدَى اللََّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ} [88] قد (1) يجوز أن يحمل على معنى الدلالة، كأنه قال تعالى هى أدلته الدالة على طاعته وعبادته، يهدى بها من يشاء من المكلفين.
ويحتمل أن يريد به الفوز والنجاة، على ما بيناه من قبل.
220 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه خلق أعمال العباد، فقال: {بَدِيعُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَنََّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صََاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍّ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، ذََلِكُمُ اللََّهُ رَبُّكُمْ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [102101]
وهذا وما تقدم مما لا ريب فى عمومه، فيجب دخول اكتساب العبد تحته.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر قوله: {وَخَلَقَ} يقتضى أنه قدّر، ودبر، ولا يوجب فى اللغة أنه فعل ذلك وأحدثه (2)، ولذلك قال الشاعر:
ولأنت تفرى ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفرى (3)
__________
(1) فى د: وقد.
(2) قال ابن قتيبة: «وأصل الخلق: التقدير، ومنه قيل: خالقة الأديم» تأويل مشكل القرآن، ص: 388، وفى اللسان: «والخلق: التقدير، وخلق الأديم يخلقه خلقا:
قدره لما يريد قبل القطع وقاسه ليقطع منه مزادة أو قربة أو خفا»
10/ 87طبع بيروت.
(3) البيت لزهير بن أبى سلمي، ولم ينسبه المؤلف فى «المغنى» 7/ 209. ونسبه فى «شرح الأصول» ص: 380، والبيت فى شرح ديوان زهير، طبعة دار الكتب، ص: 54 وتفسير الطبرى: 18/ 9، وتأويل مشكل القرآن: د 388، ولسان العرب: 10/ 87، وفيه في شرح البيت يقول: (أنت إذا قدرت أمرا قطعته وأمضيته، وغيرك يقدر ما لا يقطعه لأنه ليس بماضى العزم، وأنت مضاء على ما عزمت عليه).
وفى خطبة الحجاج المشهورة: (ولا أخلق إلا فريت).(1/320)
فأثبته خالقا من حيث قدر ودبر، وإن لم يفر الأديم.
ومتى حمل الكلام على هذا الوجه كان حقيقته: أنه تعالى وإن لم يحدث أفعال العباد، فقد قدرها ودبرها وبين أحوالها، فهذا وجه.
وقد قال بعض العلماء: إن هذه اللفظة فى الإثبات ليس المقصد بها التعميم، كما يقصد ذلك فى النفى لأن القائل يقول: أكلت كل شيء، وتحدثنا بكل شيء، وفعلت كل شيء، وقال تعالى: {تِبْيََاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} (1) و {مََا فَرَّطْنََا فِي الْكِتََابِ مِنْ شَيْءٍ} (2) وقال تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهََا} (3) وقال:
{يُجْبى ََ إِلَيْهِ ثَمَرََاتُ كُلِّ شَيْءٍ} (4) وإنما المقصد بذلك المبالغة فى الكثير من ذلك النوع المذكور، قال: ولا يعرف هذا (5) الكلام فى باب الإخبار عما يفعل الإنسان عما يحدث من الأمور مستعملا إلا على هذا الوجه، فلا يصح أن يدعى فيه العموم، فهذا وجه ثان.
ومما يقال فى ذلك: وقوله تعالى: {خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} على ما يصح أن يقدر عليه فيجب أن يبين أن (6) أفعال العباد يصح ذلك فيها (7) حتى يتضمنها العموم، كما أن الدلالة العقلية إذا دلت على أنه تعالى يفعل أمورا، فإنما تدل بعد تقدم العلم (8) بأن كان قادرا عليها. وما ترتب على شرط غير مذكور تجب معرفته، لا يمكن ادعاء العموم فيه.
__________
(1) قال تعالى: {[وَنَزَّلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ تِبْيََاناً لِكُلِّ شَيْءٍ]} من الآية: 89فى سورة النحل.
(2) من الآية: 38فى سورة الأنعام.
(3) من الآية: 25فى سورة الأحقاف
(4) قال تعالى: {[أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى ََ إِلَيْهِ ثَمَرََاتُ كُلِّ شَيْءٍ]}. من الآية:
57 - فى سورة القصص.
(5) فى د: وهذا.
(6) ساقطة من د.
(7) فى د: منها.
(8) ف: العقل.(1/321)
ومما يقال فى ذلك: إنه تعالى قال: {خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} فعلق العبادة ولزومها (1) لنا بكونه خالقا لكل شيء، فيجب أن يتناول ما للزوم العبادة به تعلق، وذلك ليس إلا ما خلقه من النعم فى الأجسام وما اختصت به من الملاذ. فأما أفعال العباد فإن لم تكن لم يؤثر ذلك فى لزوم العبادة على حقها.
ومما يقال فى ذلك: إنه تعالى أورد هذه الآية مورد المدح فيما أثبت فيه وفيما نفى، فلا يجوز أن يحمل الكلام على ما يقتضى الذم لأنه ينقض المقصد بهذه الآيات، فيجب أن يكون المراد بقوله: وخلق كل شيء، من النعم الواسعة عليكم. يبين ذلك أنه لو صرح بذكر ما قالوه لكان لا يليق بالمدح، ولو قال تعالى: وخلق كل شيء من الحق، والباطل، والجور، والعدل، والظلم، والسفه، والفساد، فاعبدوه، لكان قد أورد ما لو أراد أن ينفر (2) عن عبادته لم يصح أن يزاد عليه!
ومما يقال فى ذلك: إن لفظ الشيء قد يقع على الموجود والمعدوم جميعا (3)، ولذلك يقول القائل: علمت ما كنت فعلته، كما تقول: أعلم الأجسام، ولذلك (4)، قال تعالى: {إِنَّمََا قَوْلُنََا لِشَيْءٍ إِذََا أَرَدْنََاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ} (5) فإذا صح
__________
(1) فى د: ولزومه.
(2) ف: ينفيه.
(3) اختلفوا فى المعدوم: هل هو شيء أم لا على قولين، والذى ذكره القاضى من أن المعدوم شيء هو ما أحدثه أبو يعقوب الشحام (230) من معتزلة البصرة كما يقول الشهرستانى وتبعه فى ذلك سائر المعتزلة، ما خلا هشاما الفوطى (246) وذهب الأشعرية وغيرهم إلى نفى الشيئية عن العدم، وإثبات أنها إنما تقارن الموجود فقط. انظر تفصيل الأدلة على هذين الرأيين مع الردود والمناقشات: ابن حزم: الفصل: 5/ 4642 الشهرستانى: نهاية الإقدام: ص 150فما بعدها. القاضى عبد الجبار: المغنى: 5/ 252 ابن تيمية: مجموع الرسائل الكبرى: 2/ 65.
(4) د: ولهذا.
(5) الآية 40فى سورة النحل وتتمتها «كن فيكون».(1/322)
ذلك، فحمله على العموم يقتضى أنه خلق المعدوم والموجود، وذلك يتناقض، وما حل هذا المحل مما إن حمل على العموم يتناقض، فالواجب أن يوقف فيه على الدليل. وليس هو من الباب الذى يحمل على ما عدا ما دل عليه الدليل، لأن ذلك إنما يفعل فيما يمكن حمله على عمومه، أو يتميز كل متقدم على (1)
ما يحمل عليه مما لا يجوز حمله عليه.
ومما يقال فى ذلك: إنه تعالى كما بين فى هذه الآية العموم، فقد قال:
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (2) إلى غير ذلك، فإذا جمعنا بين الكلامين اقتضى ذلك أنه تعالى خلق القبيح، وهذا أنه لم يخلق إلا الحسن، فلا بد من أن يكون كل واحد منهما مانعا الآخر من التعميم، ويوجب الرجوع إلى الدلالة. بل لو قيل: إن هذا أخص لجاز، لأن ذلك يتناول الحسن والقبيح، وهذا يخص الحسن!
وبعد، فلو كان ظاهره يقتضى ما قالوه لوجب بدلالة العقل صرفه إلى ما ذكرناه، لأنه يختص بالحسن، ولأنه تعالى (3) لا يجوز أن يكون خالقا لسب نفسه وسوء الثناء عليه، والقول بأنه ثالث ثلاثة، وأنه اتخذ صاحبة وولدا، فلا يجوز أن يخلق ذلك ثم يعاقب عليه، ويقدم النار لمن خلق الكفر فيه، والجنة لمن خلق فيه الإيمان، ويقول مع ذلك: {وَمََا مَنَعَ النََّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جََاءَهُمُ الْهُدى ََ} (4) {فَمََا لَهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} (5) لأن ذلك عبث لا يقع من الحكيم، فكل ذلك يبين أن المراد بالآية ما قلناه.
__________
(1) ساقطة من د.
(2) من الآية: 7فى سورة السجدة، وفى النسختين: هو الّذى!
(3) ساقطة من د.
(4) من الآية: 94فى سورة الإسراء.
(5) سورة الانشقاق: 20.(1/323)
221 - دلالة: وقوله تعالى {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ} [103] يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يرى بالأبصار والعيون، على وجه، فى كل وقت، من غير تخصيص، لأنه تعالى عم بالنفى، وذكر ذلك (1) على جهة «التنزه والمدح (2) وما تمدح بنفيه (3)، مما يرجع إلى ذاته، لم يقع إثباته إلا ذما، فيجب أن يدل الظاهر على ما قلناه، كما كان يدل لو قال: لا تراه الأبصار، لأن الإدراك إذا قرن بالبصر زال عنه الاحتمال، ولا يجوز (4) فى اللغة أن يراد به إلا الرؤية بالبصر، ولذلك يجريان (5)
فى النفى والإثبات على حد واحد.
222 - وقوله تعالى من بعد: {قَدْ جََاءَكُمْ بَصََائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهََا} [104] يدل على أن ما تقدم ذكره هى أدلة الله تعالى، وأن الواجب عليهم تدبره والتفكر فيه، وهذا بين.
223 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يريد من المكلف الرد على الرسول عليه السلام، فقال: {وَكَذََلِكَ نُصَرِّفُ الْآيََاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} [105].
والجواب عن ذلك: أن دخول الواو بين الجملتين يمنع من أن يحمل بظاهره على أن المراد بالأول أن يفعل الثانى، لأن من حق هذا الباب أن يكون فى حكم الجملة الواحدة، لاتصال الثانى بالأول، فلا يمكنهم التعلق بالظاهر.
__________
(1) ساقطة من ف.
(2) ف: التنزيه.
(3) فى د: وإنما يمدح بنفسه.
(4) د: ولا يجيء.
(5) د: يحركان.(1/324)
والمراد بذلك: أنه تعالى يصرف الآيات وتوالى حدوثها حالا بعد حال لئلا يقولوا: درست، مثل قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}
يعنى: لئلا تضلوا، ومتى حمل على هذا الوجه كان الثانى مشاكلا للأول.
ويحتمل أن تكرر (1) إحداث الآيات، ليقولوا: دارست ذلك علينا وتلوته مرة بعد مرة، فيكون محمولا على ظاهره، ولذلك قال من بعده:
{وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (2)
224 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه لو شاء لم يشركوا، وإنما أشركوا، بمشيئته، فقال: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا أَشْرَكُوا وَمََا جَعَلْنََاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (3).
والجواب عن ذلك: أن المراد بالآية: ولو شاء أن يلجئهم إلى الإيمان ويجمعهم على الهدى ما أشركوا. لكنه لما أراد تعريضهم للثواب أزال الإلجاء، فاختار بعضهم الشرك لسوء اختيارهم.
وقد بينا أن الظاهر لا يمكن التعلق به من قبل، ولذلك ذمهم، قال تعالى:
{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (4)، على جهة الاستخفاف بهم لما أقدموا عليه من المعاداة. ثم بين أنه تعالى لو أراد أن يلجئهم إلى ترك الشرك لفعل، وعزى رسول الله صلّى الله عليه فى ذلك فقال: {وَمََا جَعَلْنََاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمََا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} ولو كان المراد به مشيئة الإجبار لم يكن لهذا القول عقيب ذلك معنى!
__________
(1) ساقطة من ف.
(2) تتمة الآية السابقة: 105
(3) الآية 107وتتمتها: {(وَمََا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)}
(4) من الآية: 106(1/325)
225 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه زين لكل أمة ما يعملون من كفر وإيمان فقال تعالى: {كَذََلِكَ زَيَّنََّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [108].
والجواب عن ذلك: أن من يخالفنا فيزعم أنه تعالى قد شاء الكفر من الكفار، كما شاء الإيمان، لا يبلغ جهله أن يقول: قد زين للكافر الكفر، بل إنه عندهم قد قبح عليهم وزين خلاف ما اختاروه، وكما لا يقولون إنه تعالى رغب فى الكفر وأمر به «فكذلك لا يقولون (1): زينة؟ فلا يصح لمسلم التعلق بهذا الظاهر. ولا بد فيه ضرورة من الرجوع إلى التأويل.
والمراد بذلك: أنه تعالى زين لكل أمة العمل الذى كلفهم وأمرهم به ونهاهم عن خلافه، ولو أن الرجل منا أقبل على بعض أولاده فقال: ليكن عملك اليوم تدبير الضيعة، وأقبل على الآخرين فقال: ليكن عملكم الاشتغال بالعلم، صلح أن يقول: قد رغبت كلا الفريقين، وزينت لكل واحد منكم عمله، ولا يعنى ما أقدم عليه، وإنما يريد ما يزينه له.
«ولو كان الأمر (2) كما قالوا من أنه تعالى زين الكفر، لم يكن ليضيف إلى الشيطان أنه زين أعمال الكفار، ولا كان لقوله تعالى: {ثُمَّ إِلى ََ رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ} (3) معنى.
226 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يغير القلوب والأبصار، ويقلبها من حال إلى حال، فقال تعالى {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصََارَهُمْ كَمََا لَمْ}
__________
(1) د: فكيف يقولون.
(2) ساقط من د.
(3) من تتمة الآية: 108.(1/326)
{يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [110]
والجواب عن ذلك: أنه تعالى ذكر تقلب ذلك فيهم فى المستقبل، فمن أين أن المراد به فى الدنيا، ولا توقيت فى الكلام؟
وبعد، فإنه تعالى بين أنه يفعل ذلك، من حيث لم يؤمنوا به، ولا يكون ذلك على جهة العقوبة إلا فى الآخرة، وهذا هو المراد لأنه تعالى يفعل بهم ذلك فى النار حالا بعد حال، لأجل كفرهم وسوء أفعالهم.
ولو حمل على أن المراد به أن يفعل بهم ذلك فى الدنيا بأن يضيق صدورهم بما يرد عليهم من الغم لتعظيم المؤمنين، وبما يرد عليهم من الشبه، وبما يقع [للمؤمنين] من الظفر بالحجة وغيرها، لم يمتنع.
وقوله تعالى: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ}) ظاهره يقتضى التخلية فقط، وهو تعالى قد ثبت أنه خلى بين الكافر وكفره لأنه لو منعه قهرا لزال التكليف والذم والمدح، وإنما منعه بالنهى والزجر، وذلك لا يخرجه عن التخلية.
227 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه لم يشأ منهم الإيمان، فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنََا نَزَّلْنََا إِلَيْهِمُ الْمَلََائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ََ وَحَشَرْنََا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مََا كََانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ}
[111].
والجواب عن ذلك: أن المراد به: إلا أن يشاء الله أن يلجئهم ويحملهم على الإيمان، وقد بينا فى نظائر ذلك الكلام فيه (1).
__________
(1) انظر فيما مضى الفقرات 80، 195، 208(1/327)
وإنما أراد تعالى أن هؤلاء الكفار معلوم من حالهم أنهم قد انتهوا فى التمرد وشدة التمسك بالكفر إلى حد لا يؤثر فيهم شيء من الآيات، وأنه لو كان المعلوم أن شيئا منها يؤثر لفعله تعالى، لكنه قد أقام الحجة بما فعل وأزاح العلة، ولم يدع ما لو (1) فعل كانوا إلى الإيمان أقرب، فمن قبل أنفسهم أتوا.
وهذا أقوى فى الدلالة على أنه تعالى يلطف لعباده، وأنه متى علم من حالهم أو حال بعضهم، أنه يؤمن عند شيء فلا بد من أن يفعله (2) لأنه لو جاز أن لا يفعله لم يكن لهذا القول الدال على أنه لم يفعل هذه الآيات من حيث علم أنهم لا يؤمنون، معنى.
228 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أنه تعالى جعل لكل نبى عدوا، وأنه خلق فيهم عداوتهم، صلوات الله عليهم، فقال تعالى: {وَكَذََلِكَ جَعَلْنََا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} الآية [112].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يدل على ما قالوه، وذلك أنه تعالى قال {وَكَذََلِكَ جَعَلْنََا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} وليس فيه أنه الخالق لعداوتهم (3)، فالظاهر لا يدل على موضع الخلاف لأنا لا نأبى (4) أنه تعالى يخلق أعداء الأنبياء من شياطين الإنس والجن (5).
فإن قال: فلماذا أضاف [الفعل] إلى نفسه؟
قيل له: المراد بذلك أنه بين للأنبياء شدة عداوتهم لهم، فمن حيث بين
__________
(1) ساقطة من د.
(2) انظر الفقرة 14مع التعليق.
(3) ف: لعداوته.
(4) ف: لا نأمن.
(5) تتمة الآية 112: قوله تعالى {[شَيََاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى ََ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً، وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ مََا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمََا يَفْتَرُونَ]}.(1/328)
ذلك فيهم، قيل إنه جعلهم أعداء كما يقال فى الحاكم: إنه أبطل إقرار فلان، وصحح إقرار فلان، وزور فلانا، إلى ما شاكله.
229 - وقوله تعالى: {وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ مََا فَعَلُوهُ} محمول على أنه لو ألجأهم إلى ترك (1) ما فعلوه لما وقع منهم، ولذلك قال تعالى: {فَذَرْهُمْ وَمََا يَفْتَرُونَ} مبينا بذلك أنه لما أزال الإلجاء حصلت التخلية.
230 - وقوله تعالى: {وَلِتَصْغى ََ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [113] إن رجع إلى أول الكلام فمحمول على العاقبة، وإن رجع إلى قوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى ََ بَعْضٍ}، فمحمول على الحقيقة.
231 - دلالة: وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لََا مُبَدِّلَ لِكَلِمََاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [115] يدل على التوحيد والعدل.
فأما دلالته على التوحيد، فإنه بين أن كلمات الله يجوز فيها التبديل ويصح عليها التمام، وذلك يقتضى أنها محدثة.
وأما دلالته على العدل، فلأنه تعالى وصفها بأنها صدق، وعدل ولو كان كل الكذب من عنده لم يصح ذلك.
ويدل أيضا على ما نقوله فى الوعيد لأنه وصفها بأنها صدق، فإذا أخبر بأنه يعاقب الفجار. فالواجب أن نقطع بذلك ولا نقف فيه، ولا يجوز فيه الكذب، ولا الخلف، ولا الشرط، ولا (2) التخصيص من غير دلالة.
232 - مسألة: قال: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه زين للكافر
__________
(1) د: تركيب.
(2) ساقطة من د.(1/329)
ما (1) يعمله، فقال تعالى: {أَوَمَنْ كََانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنََاهُ وَجَعَلْنََا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النََّاسِ} إلى آخر الآية (2) [122].
والجواب عن ذلك: أنه تعالى ذكر أنه زين لهم، ولم يبين ما الذى زينه، وهذا لا ظاهر له فى إثبات الفاعل على ما بينا فى نظائره (3).
والمراد بذلك: أن شياطين الإنس والجن زينوا (4) لهم ما كانوا يعملون على ما صرح بذكره فى سائر الآيات. وإنما أراد أن يبين الترغيب والترهيب، فذكر حال من رغبه فى الإيمان ولطف به فاتبع ذلك، فى وصفه بأنه أحياه وجعل له نورا يمشى به فى الناس، وبين أنه بخلاف من مثله فى الظلمات وقد زين له الشياطين عمله فتبعه واقتدى به، وهذا ظاهر فى الترغيب والترهب.
233 - مسألة: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه تعالى يريد المكر ممن يقدر عليه، فقال تعالى: {وَكَذََلِكَ جَعَلْنََا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكََابِرَ مُجْرِمِيهََا لِيَمْكُرُوا فِيهََا} [123].
والجواب عن ذلك: أنه تعالى أراد به أن عاقبة أمرهم أن يمكروا فى القرى التى سكنهم الله تعالى فيها، كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} (5) وكقول الشاعر:
وأم سماك فلا تجزعى ... فللموت ما تلد الوالدة
ولا يجوز أن يكون تعالى يجعلهم أكابر ليمكروا ويعصوا، وقد قال تعالى
__________
(1) ساقطة من د.
(2) تتمتها: {[كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمََاتِ لَيْسَ بِخََارِجٍ مِنْهََا، كَذََلِكَ زُيِّنَ لِلْكََافِرِينَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ]}.
(3) انظر الفقرة: 45، والفقرة: 66.
(4) فى النسختين: زين.
(5) من الآية: 8فى سورة القصص.(1/330)
{وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ} (1) يبين ذلك أنه متى أبرز المحذوف من الكلام وكشف، لم يستقم على ظاهره، فلو قال تعالى: وكذلك جعلنا فى كل قرية أكابر مجرميها وأمرناهم ألا يمكروا فيها ليمكروا، لكان ذلك يتناقض، وهذا مما لا بد من تقديره لأنه لا يجوز أن يكون غرضه تعالى أن لا يمكروا، بأن يجعلهم فى القرى أكابر لأنه لو لم يكلفهم لم يصح ذلك.
فأما ما ذكرناه فلو أبرز فيه المحذوف لاستقام، بأن يقول: وما خلقت الجن والإنس وأكملت عقولهم وأمرتهم بالعبادة إلا ليعبدون، لاستقام الكلام وانتظم (2)، فعلى هذه الطريقة يجب أن يحمل ما يراد به العاقبة، ومفارقته لما يراد به الإقدام على ذلك الفعل. وهذا واضح.
234 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه أراد الهدى من قوم والضلال من آخرين، فقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ} إلى آخر الآية (3) [125].
والجواب عن ذلك: أنه تعالى لم يذكر فيمن أراد أن يهديه إلى ماذا؟
والهدى مما يتعلق بغيره، فمتى حذف ذلك المعنى وزال التعارف، لم يكن له ظاهر، وقد بينا من قبل أنه يحتمل الدلالة، ويحتمل الأخذ بهم فى طريق الجنّة، ويحتمل الثواب، وأن كل ذلك مما يجوز عليه تعالى (4)، فمن أين أن المراد بهذه الآية نفس الإيمان؟
__________
(1) سورة الذاريات، الآية: 56.
(2) وبعده فى د زيادة: (على أن الكلام يستقيم دون قوله لاستقام الكلام وانتظم).
(3) تتمتها: {[وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمََا يَصَّعَّدُ فِي السَّمََاءِ، كَذََلِكَ يَجْعَلُ اللََّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ]}.
(4) انظر الفقرة: 22.(1/331)
فإن قال: لأنه تعالى قال: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ} فجعل شرح الصدر كالموجب عما أراده به من الهدى.
قيل له: لو قلنا ذلك، لكان إنما يدل على أنه تعالى قد أراد التمسك بالإيمان، ولا يدل على أنه خلق!! وهذا قولنا.
فإن قالوا: أفيلزم أن تقولوا بمثله فى قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ}.
قيل له: لا يجب إذا حملنا الظاهر الأول على حقيقته أن نحمل الثانى مع قيام الدلالة المضطرة إلى حمله على التوسع لأن القياس لا يستعمل فيما هذا حاله (1).
وبعد، فإن ظاهر الكلام يقتضى أنه أراد بقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ}
عما هدى إليه الفرقة الأولى، بأن يضله عن الأدلة والبيان (2) وهذا مما يطلقه القوم لأنهم لا يجوزون التكليف مع فقد الأدلة والبيان، كما يجيزونه مع فقد القدرة.
والمراد عندنا بالآية: أنه أراد بقوله: فمن يرد الله أن يهديه إلى الثواب فى الآخرة جزاء له على إيمانه، يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله عن الثواب فى الآخرة يجعل صدره ضيقا حرجا، وظاهر الكلام يقتضى (3)
أن المراد مستقبل، ولا يمكن أن يمنع من حمله على ما قلناه!
فإن قيل: فما الفائد فى شرح الله الصدر وضيقه فى الفريقين، وأى تعلق لهما (4)
بالهداية والضلالة اللذين ذكرتموهما؟
__________
(1) انظر الزمخشرى، حيث أدار الكلام فى تأويل الآية كلها على اللطف: الكشاف 2/ 38، مطبعة مصطفى محمد سنة 1354.
(2) ف: والإيمان.
(3) ساقطة من د.
(4) ساقطة من د.(1/332)
قيل له: إنه تعالى بين أن من يرد الله أن يهديه إلى الثواب فى الآخرة.
يلطف له (1) فى الدنيا بضروب من الألطاف والتأييد وزيادات الهدى، فيشرح بذلك صدره للإيمان، ومن يرد عقابه يفعل فيه ما يقتضى ضيق صدره بما هو فيه من إظهار الأدلة، إلى ما شاكله، وهذا يؤذن أنه أراد من كل واحد منهما الطاعة لأنه إن أراد شرح صدر المؤمن كان أقرب إلى تثبيته «على إيمانه، وإذا ضيق صدر الكافر كان أقرب إلى أن يقلع عن الكفر (2) لأن المتعالم من حال من ضاق صدره بشيء وتحير فيه، أن يطلب التخلص منه.
وقوله تعالى بعده: {كَذََلِكَ يَجْعَلُ اللََّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ}
يدل على أن ما تقدم ذكره عقوبة فى الحقيقة، ويقوى ما قدمناه من التأويل،
فإن قال: إنا نجد الكافر غير ضيق الصدر بما هو فيه، والظاهر منه خلافه، فكيف يصح فى خبره تعالى الخلف؟
قيل له: إنه تعالى بين أنه يجعل صدره ضيقا حرجا، ولم يقل: فى كل حال، ومعلوم من حاله فى أحوال كثيرة أنه يضيق صدره بما هو عليه، عند ورود الشبه والشكوك، وعند مجادلة المؤمن له فى أدلة الله. وهذا القدر هو الذى يقتضيه الظاهر.
وبعد، فإن ما ظهر منه لا ينافى أن يكون صدره ضيقا لأن مجاحدة ذلك لا تمنع، لفقد معرفتنا بالبواطن، فما قالوه لا يمنع من حمل الكلام على ظاهره.
وتحتمل الآية وجها آخر، وهو أنه أراد بقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ}
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ساقط من ف.(1/333)
زيادة الهدى الذى وعد بها المؤمن بشرح صدره بتلك الزيادة، لأن من حقها أن تزيد المؤمن بصيرة إلى بصيرة، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} عن تلك الزيادة، بمعنى يذهب به عنها، من حيث أخرج نفسه من أن تصح عليه، يجعل صدره ضيقا حرجا لمكان فقد تلك الزيادة، لأنها إذا اقتضت فى المؤمن ما قلنا، أوجبت فى الكافر ما يضاده. وتكون الفائدة فى ذلك ما قدمناه من الرغبة فى الإيمان والزجر عن الكفر، وهذا واضح بحمد الله ومنة.
235 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يسلط بعض الظالمين على بعض، فقال تعالى: {وَكَذََلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظََّالِمِينَ بَعْضاً بِمََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} [129].
والجواب عن ذلك: أنه تعالى ذكر ذلك عقيب ما اقتضاه من شأن أهل النار ومجادلة (1) بعضهم لبعض ممن كان يتبعه ويقبل منه (2)، ثم قال تعالى عند ذلك: {وَكَذََلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظََّالِمِينَ بَعْضاً} وأراد أنه تعالى يكل بعضهم إلى بعض، مبينا بذلك أن المتبوع لا ينفع إذ ذاك التابع، فإن الذى يوجب النجاة هو العمل الصالح.
وليس فى ظاهر قوله تعالى: {نُوَلِّي} ما ذكروه لأن الأصل فى هذه العبارة أن يجعل إليه ما يتولاه من «أمر غيره (3)، فإذا لم يذكر ذلك لم يكن له ظاهر.
ولو أن الفصيح قال: وليت فلانا، ولم يذكر الأمر الذى ولاه، كان الكلام مبهما، فكذلك إن زاد فقال: ولّيت بعض أولادى بعضا فلا يصح للقوم التعلق بما ذكروه. والواجب حمل الآية على ما قدمناه بشهادة ما تقدمه له.
__________
(1) د: وما يليه.
(2) انظر الآية: 128.
(3) ف: أمره.(1/334)
236 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه زين للمشركين قتل أولادهم، فقال تعالى: {وَكَذََلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلََادِهِمْ شُرَكََاؤُهُمْ} (1) [137].
والجواب عن ذلك: أنه تعالى بين فى آخر الكلام أن الذى زين: هم شركاؤهم، فلا شبهة فى هذا الباب، ولا ننكر أن شركاء الكفار زينوا لهم هذه المعصية وسائر المعاصى ورغبوهم فيها، وأمروهم بذلك، وبعثوهم عليه.
237 - وقوله تعالى من بعد: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا فَعَلُوهُ} يجب أن يحمل على أن المراد به: لو شاء أن يحملهم على خلاف ما فعلوه، لكنه تضمن بالتكليف التخلية التى معها يصح استحقاق الثواب، فلما يشأ ذلك، فلا يصح للمجبرة التعلق بهذه الكلمة!
238 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه قد يجازى على المعاصى بتشديد التكليف، وأنه إذا جاز ذلك لم يمتنع أن يضل من قد عصى، على هذا الحد، فقال: {وَعَلَى الَّذِينَ هََادُوا حَرَّمْنََا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنََا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمََا إِلََّا مََا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمََا أَوِ الْحَوََايََا، أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذََلِكَ جَزَيْنََاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنََّا لَصََادِقُونَ} [146].
والجواب عن ذلك: أنه يمتنع أن يكلف تعالى على طريق العقوبة على ذنب (2) سلف لأن الغرض بالتكليف التعريض للمنافع، والغرض بالعقوبة استيفاء ما يستحقه من الضرر على ما سلف (3)، والصفتان تتنافيان، فلا يجوز فى التكليف أن يكون عقوبة.
__________
(1) تتمة الآية: {[لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمََا يَفْتَرُونَ]}
(2) د: ذلك.
(3) د: ما أسلف.(1/335)
فإن قال: فأنتم تقولون فى التكليف فى الحدود إنها قد تكون عقوبة!
قيل له: لأنها من فعل الغير فيهم، ولا يمتنع ذلك فيها على بعض الوجوه، وليس كذلك حال التكليف.
فإن قال: فأنتم تقولون فى الكفارات: إنها عقوبة، وذلك ينقض ما ذكرتم.
قيل له: لا يصح فى الكفارات التى يلزم المرء توليها أن تكون عقوبة، لما قدمناه، وإنما يقال فى بعضها: إنها تجرى مجرى العقوبة فى أنها تثبت مع المأثم كثبوت العقاب، فأما أن تكون فى الحقيقة كذلك فمحال.
وإذا صح ذلك، وجب حمل قوله تعالى: {ذََلِكَ جَزَيْنََاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} على أنه علم أن الصلاح عند بغيهم تشديد التكليف عليهم، فصار ذلك، لتعلق كونه صلاحا له ولولاه لم يحصل لذلك جزاء، ولا يعقل فى اللغة فى الشيء أنه جزاء ما ذكروه من العقوبة فقط لأنهم يستعملون ذلك فيما يقابل غيره ويتعلق به.
239 - دلالة: وقوله تعالى بعد ذلك: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا أَشْرَكْنََا وَلََا آبََاؤُنََا وَلََا حَرَّمْنََا مِنْ شَيْءٍ، كَذََلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتََّى ذََاقُوا بَأْسَنََا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنََا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلََّا تَخْرُصُونَ} [148].
يدل على ما نقوله، من أنه لا يريد القبيح من شرك وغيره، من جهات:
منها: أنه تعالى حكى عن الذين أشركوا وقالوا: لو شاء الله ما أشركنا وذلك يدل على أن من حالهم أنهم اعتقدوا أنهم أشركوا لأجل مشيئة الله، ولولاها لم يقع منهم فقال تعالى: {كَذََلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} «وقد
قرئ ذلك مخففا ومشددا (1) فإذا قرئ (2) مخففا فالكلام ظاهر فى أنه تعالى كذبهم فى المقالة، من حيث ذكر أن من قبلهم كذبوا فى مثل هذه المقالة. وإذا قرئ مشددا، فالمراد به: كذلك كذب الذين من قبلهم الرسل (3) فيما دعوهم إليه، فلا يخلو من أن «يكونوا دعوهم (4) إلى مثل هذه المقالة، أو إلى ضدها.(1/336)
منها: أنه تعالى حكى عن الذين أشركوا وقالوا: لو شاء الله ما أشركنا وذلك يدل على أن من حالهم أنهم اعتقدوا أنهم أشركوا لأجل مشيئة الله، ولولاها لم يقع منهم فقال تعالى: {كَذََلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} «وقد
قرئ ذلك مخففا ومشددا (1) فإذا قرئ (2) مخففا فالكلام ظاهر فى أنه تعالى كذبهم فى المقالة، من حيث ذكر أن من قبلهم كذبوا فى مثل هذه المقالة. وإذا قرئ مشددا، فالمراد به: كذلك كذب الذين من قبلهم الرسل (3) فيما دعوهم إليه، فلا يخلو من أن «يكونوا دعوهم (4) إلى مثل هذه المقالة، أو إلى ضدها.
فإن كانوا دعوا إلى مثلها، فالقول به ليس بتكذيب، بل يجب أن يكون تصديقا فلم يبق إلا أنهم دعوهم إلى ضدها، وهو القول بأنه تعالى (5) لم يشأ الشرك وأنه لا يقع من المشركين لأجل مشيئته.
«ومن وجه آخر (6) وهو قوله تعالى: {حَتََّى ذََاقُوا بَأْسَنََا} لأن المراد بذلك: عذابنا، ولا يجوز أن يقال ذلك إلا فى ارتكاب الباطل من المذاهب.
ومن جهة أخرى، وهو قوله تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنََا}
ولا يقال ذلك عقيب حكاية قول ومذهب إلا على جهة التحقيق لبطلان ذلك المذهب والقول به، ونسب القائل إلى أنه عدل عن طريقة الحجة وسلك طريقة الشبهة.
«ومن جهة أخرى، وهو قوله تعالى: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} لأن ذلك إذا ذكر فى المذاهب فهو من أقوى الدلالة على بطلان التمسك بذلك (7).
ومن جهة أخرى، وهو قوله تعالى: {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلََّا تَخْرُصُونَ} يعنى:
تكذبون. كما قال: {قُتِلَ الْخَرََّاصُونَ} فكل من أخبر بما لا يحققه مقدرا فيه الصدق وهو فى الحقيقة كاذب، يقال إنه متخرص. وكل ذلك يبين صحة ما نقوله
__________
(1) ساقط من د.
(2) د: يجزى.
(3) فى د: من الرسل.
(4) د: تكون دعوتهم.
(5) د: بعلمه.
(6) ف: ومن جهة أخرى.
(7) ساقط من د.(1/337)
من أن الله تعالى لا يريد من العباد إلا الطاعة.
240 - وقوله تعالى عقيب ذلك: {قُلْ فَلِلََّهِ الْحُجَّةُ الْبََالِغَةُ} (1) يدل على أن المقصد بما «تقدم ما (2) بيناه.
241 - وقوله: {فَلَوْ شََاءَ لَهَدََاكُمْ أَجْمَعِينَ} يدل على ذلك لأنه لما أنكر قولهم: إن الشرك يقع بمشيئة الله، وبين بطلان ذلك، لم يؤمن أن يظن ظان أنه تعالى لا يقدر على أن يحملهم على الطاعة، وأن ذلك إذا كان يقع وضده باختيارهم لم يكن مقتدرا عليهم، فقال الله عند ذلك: {فَلَوْ شََاءَ لَهَدََاكُمْ أَجْمَعِينَ} مبينا أنه إنما لم (3) يفعل ذلك لأن التكليف لا يصح إلا مع التخلية، وأنه لو شاء الإكراه والإلجاء لهداهم كلهم.
242 - وقوله تعالى بعد ذلك: {لََا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا}
[152] يدل على أنه لا يكلف ما لا يطاق، وأن الكافر قادر على الإيمان الذى لم يفعله، وإنما أتى فى ذلك من قبل نفسه، وقد بينا وجه دلالة ذلك من قبل.
243 - وقوله تعالى من بعد: {وَإِذََا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (4) يدل على أن العبد يحدث فعله لأنه لو كان مفعولا فيه لم يتمكن من أن يعدل فى قوله، وصار الأمر فيه إلى غيره.
244 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يجوز أن يتفضل
__________
(1) من الآية: 149وتتمتها: {[فَلَوْ شََاءَ لَهَدََاكُمْ أَجْمَعِينَ]}.
(2) ساقط من د.
(3) ساقطة من د.
(4) من تتمة الآية السابقة 152.(1/338)
بأمثال الثواب، وأن جميع ذلك يقع بتفضله من غير استحقاق، وأنه يجوز أن أن يبتدئ بذلك وبالعقاب أيضا، فقال: {مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثََالِهََا، وَمَنْ جََاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلََا يُجْزى ََ إِلََّا مِثْلَهََا} [160].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إنما يقتضى أن من جاء بالحسنة فله من الله تعالى عشر أمثالها، ولم يذكر أنها أمثال لها فى أى وجه! وقد بينا أن بهذا القدر لا يعلم المراد.
وبعد، فقد بينا أن ذكر التماثل مع تقدم (1) وصف، يقتضى حمله عليه، والذى تقدم من الوصف هو كونها حسنة، فيجب فى العشر أن تكون «أمثالا لها (2) فى أنها حسنة، ولا يفهم من ذلك أنها جزاء أو تفضل لأنه تعالى إذا تضمن فعل الأمرين جاز أن يقال إن لفاعل الطاعة ذلك من قبله، كما إذا كان مستحقا جاز أن يقال هذا القول، فمن أين أنه تعالى يثيب لا على الفعل!
والمراد عندنا (3) بالآية: أنه تعالى يفعل ما يستحق بها الثواب ويعطى المثاب على جهة التفضل تسع حسنات، فيكون ذلك تفضلا، والحسنة الواحدة ثوابا وإن كانت فى العدد تزيد على (4) التسعة لأنه إذا كان وجه التماثل كونها حسنة، لا العدد، لم يمتنع فيها ما ذكرناه.
ولولا أن الأمر كما قلناه لوجب القطع على أن (5) الطاعات لا تتفاضل فيما يستحق بها من الثواب، ولوجب القطع على أن المستحق بجميعها هذا القدر.
وهذا لا يصح عند الكل.
__________
(1) د: ذكر.
(2) د، أمثالها.
(3) د: عند.
(4) ساقطة من د.
(5) ساقطة من د.(1/339)
وإنما أراد تعالى الترغيب فى الطاعة بتضمن التفضل مع الثواب، فأما المعصية فيما لا يجوز أن يفعل فى عقابها أكثر من المستحق، لا عقابا ولا تفضلا، لأن الابتداء بذلك ظلم، تعالى الله عنه! فزجر عنه تعالى بالقدر الذى يصح الزجر به، لأن الزيادة فيه قبيحة، فلا يجوز أن يتوعد تعالى بها، ولذلك قال عقيبه: {وَهُمْ لََا يُظْلَمُونَ} (1) مبينا بذلك أنه لا يفعل إلا القدر المستحق ولو كان الأمر كما قالوا، فالواجب لو فعل اضعاف ذلك أن لا يكون ذلك ظلما، فكان لا يكون لهذا القول معنى!
وربما سألت المرجئة عن هذه المسألة فقالت: إنه تعالى بين أن الذى يستحق على الطاعة أكثر مما يستحق على المعصية، فيجب فى الجامع بين الأمرين أن تكون طاعته أغلب وباستحقاق الجنة أولى، وهذا يوجب فى مرتكبى الكبائر من أهل الصلاة أنهم من أهل الجنة!!
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إنما يوجب إزالة هذين القدرين فى الطاعة والمعصية، ولا يدل على أن جميع ما تضمنه على الطاعة مستحق، فمن أين أن الثواب للطائع إذا ارتكب كبيرة أكثر من عقابه.
وقد بينا أن الآية لا تدل على المقدار، فلا يصح تعلقهم بهذا (2) من هذا الوجه أيضا.
على أن هذا القول يوجب أن يقطعوا بأن الجامع بين الأمرين إذا كان عدد (3) طاعاته أكثر، «أن يكون (4) من أهل الجنة، وليس ذلك قولهم، لأنهم يجوزون أن يخلد فى النار، وأن يعفى عنه بأن لا يدخلها، أو بأن يخرج عنها.
__________
(1) تتمة الآية السابقة 160.
(2) لعل الأصوب: بها.
(3) فى د: عددا.
(4) ساقط من د.(1/340)
ويوجب أن يقطعوا بمثله فيمن كثرت طاعاته ووقعت منه فى آخر عمره معصية وكفر.
ويوجب عليهم القول بأن من كثرت معاصيه وزادت على طاعاته، وهو من أهل الصلاة، أن يكون من أهل النار قطعا، وكل ذلك بخلاف مذهبهم.
245 - دلالة: وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدََانِي رَبِّي إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [161] يدل على أن الهدى بمعنى الدلالة، ولذلك قال تعالى بعده:
{دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرََاهِيمَ حَنِيفاً} (1) مبينا بذلك المراد بالصراط المستقيم.
وقال بعده: {مِلَّةَ إِبْرََاهِيمَ حَنِيفاً} (2) وقد بينا أن تخصيصه بهذا الهدى الرسول وغيره من المتقين والمفلحين لا يمنع من أن يكون دلالة لغيرهم (3).
246 - وقوله تعالى بعد ذلك: {وَلََا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلََّا عَلَيْهََا} (4) يدل على أن العبد موجد لما يفعله لأنه لو كان مخلوقا فيه لوجب أن يكون خالق ذلك هو الذى جنى عليه إذا كان ذلك مضرة، فكان لا يصح أن يلام وتقام عليه الحجة، بأن يقال: {وَلََا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلََّا عَلَيْهََا} وكان لا يصح أيضا ما ذكره من قوله: {وَلََا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ} لأنه كان يجب أن يكون كاذبا، تعالى الله عن ذلك، من حيث لا يزر الإنسان إلا بفعل غيره ولأجل ما يخلق فيه. وهذا واضح فى الدلالة على ما نقوله من العدل.
__________
(1) تتمة الآية السابقة.
(2) الأصوب فى استشهاده السابق أن يقتصر على قوله: [دينا قيما].
(3) انظر الفقرة: 16.
(4) من الآية: 164وبعده: {[وَلََا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ]}.(1/341)
ومن سورة الأعراف
247 - دلالة: وقوله تعالى فيها: {فَمََا كََانَ دَعْوََاهُمْ إِذْ جََاءَهُمْ بَأْسُنََا إِلََّا أَنْ قََالُوا إِنََّا كُنََّا ظََالِمِينَ} [5] فبين أنهم عند مشاهدة العذاب التجئوا إلى هذا القول، ولم يتعلقوا إلا به، ولو كان الأمر على ما تقوله المجبرة لكان الأولى من ذلك أن يقولوا عند رؤية العذاب: إنك أوقعتنا فى الظلم ومنعتنا من خلافه وصرفتنا عن ذلك، وختمت على قلوبنا، ولم «توجد لنا (1) السبيل إلى الإيمان، بل منعتنا منه بسلب القدرة عليه، وبوجود القدرة على ضده «وبوجود ضده (2) إلى غير ذلك، لأن المتقرر فى العقول أنه لا عذر لمن يعامل بمضرة أوضح من أن يظهر أنه لم يقدر على خلاف ما فعل، وهذا بين.
248 - وقوله تعالى بعد ذلك: {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [6] يدل على أنه تعالى يسائل يوم القيامة، ولو كان هو الخالق فيهم ما تقدم منهم من الكفر والإيمان لم يكن لمسألته إياهم معنى، بل كان يجب أن يكون طريقا إلى إقامة الحجة عليه (3)، فكان بأن يهرب من مسألتهم أولى، بل كان يجب أن يسائل نفسه فيما فعله ويحاسبها، جل الله عن ذلك!
وهذه الآية تدل على أنه تعالى يسائل المؤمنين والكافرين والأنبياء، على خلاف ما يظنه بعض الحشوية.
249 - وقوله تعالى بعد ذلك: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ}
__________
(1) فى النسختين: توجدنا.
(2) ساقط من د.
(3) فى النسختين: عليهم.
(م 18متشابه القرآن)(1/342)
{مَوََازِينُهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [8] يدل على أن ما يفعله تعالى مستحق لا محالة ليكون عدلا، ولو كان كما يقول المجبرة لم يصح ذلك، لأنه ليس من الحق والعدل أن يدخل الأنبياء النار، على ما جوزوه، ولا أن يعذب أطفال المشركين فى النار، على ما قاله بعضهم (1).
وهذه الآية تدل على نصب الموازين فى الحقيقة يوم القيامة، لأنه تعالى ذكرها، وذكر فيها الخفة والثقل، وقد بينا أن وزن الأعمال مع أنها عرض، وهى متقضية، يستحيل، فالمراد بذلك أنه تعالى يجعل فيها أمارة ليتبين برجحان البعض أن المطيع من أهل الجنة، فيعظم سروره إذا وقف العالم هناك على حاله، ويكون داعية له فى حال التكليف إلى التمسك بالطاعة والمثابرة عليها، وبارتفاع البعض وخفته يعلم حال العاصى وأنه من أهل النار، فيكون ذلك فضيحة له، وحلول غم عظيم به، وردعا له فى حال التكليف، إذا علم ذلك من عاقبة أمره، عن المعاصى.
وهذا أحد ما يقوى العدل، لأنه تعالى قد فعل ما يكون المكلف [معه] إلى الطاعة ومجانبة المعصية أقرب، ولو كان هو الخالق لهما فيه لكان تصور الموازين لا يؤثر فى حاله إن أراد فيه المعصية أو أراد الطاعة، ولكان ذلك عبثا.
وهذا يبطل القول بأن الغرض فى هذه الأمور تعرف الأحوال! فاذا كان تعالى عارفا بأحوال المكلف فما فائدة الموازين؟ لأنا قد بينا أن الفائدة فيها ترجع إلى المكلف لا إليه تعالى لأنه عالم لنفسه، فكما يحسن من أحدنا أن يبكت غيره بوزن الشيء وتعرف مقداره ليعرفه بطلان ما قال أو
__________
(1) انظر: أصول الدين للبغدادى، ص 259.(1/343)
عمل، وإن كان هو عارفا بمقداره، فكذلك ما ذكرناه.
250 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه أغوى إبليس وأوقعه فى المعاصى، فقال: {قََالَ فَبِمََا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرََاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [16].
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الغواية ليس ما ذكروه من المعصية، وقد «ذكر أهل اللغة أنه قد (1) تكون بمعنى الحرمان وحلول المضار والهلاك، وأنشدوا فى ذلك قول الشاعر:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغى لائما (2)
وبينوا أن المراد به الخيبة والحرمان «الذى يكون نقيضا (3) للخير الذى يلقاه، فإذا صح ذلك وجب حمل الآية على أن المراد بها هذا المعنى لانه تعالى خيب إبليس من رحمته ونعمته، وحرمه (4) ذلك وأظهر ذلك من حاله، فعند ذلك لحقه اليأس، فقال: {فَبِمََا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرََاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}
يريد به (5) أنه يبذل الجهد فى ردهم عن الطريقة المستقيمة إلى ما يدعوهم إليه من المعاصى «لا أنه (6) أراد القعود فى الحقيقة، وهذا ظاهر فى اللغة.
__________
(1) ساقط من ف.
(2) البيت للمرقش الأصغر، من قصيدة مطلعها:
ألا يا أسلمي لا صرم لى اليوم فاطما ... ولا أبدا ما دام وصلك دائما
انظر المفضليات، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون، طبعة دار المعارف ستة 1964. ص: 247.
(3) د: الذى نقصا.
(4) د: وحرم.
(5) ساقطة من د.
(6) فى د: لأنه.(1/344)
فان قال: فما الفائدة فى أن يخلقه تعالى لتكون هذه حاله فى رد العباد عن الطاعة! وتمكينه من دعائهم، وتوليته من نعمه ليكون إلى ذلك أقرب، وهل (1) يجوز أن يكون هذا من فعل حكيم؟!
قيل له: إنه تعالى خلقه لكى يؤمن ويطيع، وعرّضه بذلك للنعيم، فأبى إلا التمرد مع التمكن مع الطاعة، وإنما أتى من قبل نفسه.
فأما دعاؤه الخلق إلى المعاصى فذلك غير مدخل لهم فيها ولا مانع لهم من الطاعة، لأنه أضعف فى ذلك من دعاء شياطين الإنس، لأنهم يجبهون ويجهرون بالقول ويوردون الشبه، وما يفعله من الوسوسة بخلاف ذلك، وإذا لم يكن حاملا على المعصية فبأن لا يكون دعاؤه كذلك أولى.
ويجوز أن يكون تعالى علم أنه إذا (2) أشعر الناس أمره، «وقد ضمن له البقاء (3)»، كانوا إلى التحرز أقرب، وتحرزهم منه يدعوهم إلى التحرز من سائر المعاصى، وكما يجب أن نقول فى خلق الحيات والعقارب: إنها نعمة من حيث دعانا تعالى بما نعلمه من حالها إلى التحرز الشديد، وذلك يؤدى إلى التحرز من المعاصى، فكذلك ما قلناه.
وقد قال شيخونا رحمهم الله: إنه لو علم تعالى أن عند دعائه يكفر بعضهم على وجه لولا دعاؤه لآمن لا محالة، لمنعه تعالى من ذلك، وإنما يخلى بينه وبين دعاء من المعلوم أنه يفسد على كل حال، أو يفسد لولا دعاؤه لأمر آخر يحدث
__________
(1) فى د: وقيل.
(2) ساقطة من د.
(3) فى د: فإنه قد تضمن هذا الدعاء. وفى ف: وقد تضمن بهذا الدعاء. ولعل، الصواب ما أثبت، يشير بذلك إلى قوله تعالى، فى الآية (15) السابقة: {[قََالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ]} وانظر فى السورة قصة إبليس، الآية: 11فما بعدها.(1/345)
من قبله، ولذلك حكى تعالى عن الشيطان أنه لم يكن له عليهم سلطان، وأنهم إنما ضلوا بسوء اختيارهم عند دعائه.
ثم يقال للقوم فى هذه المسألة: إن كان تعالى هو الذى يخلق الضلال والكفر فما الوجه فى دعاء إبليس، وهل وجوده إلا كعدمه؟ وكيف يمكن أن يقال إنه يضل العباد، والضلال هو من فعل الله تعالى! ولو اجتهد إبليس فى خلافه لم يكن الضال إلا ضالا، من حيث خلق الضلال فيه، فيجب على قولكم أن يكون خلقه إبليس وخلقه فيه الدعاء عبثا، بل يجب أن يكون بعثه للأنبياء بهذه المنزلة! لأن وجود دعائهم كعدمه [لأنه] إن أراد تعالى خلق الإيمان وجد لا محالة فى المدعو، وإن أراد خلافه فكمثل، ويجب أن لا يكون إبليس بالذم أحق من الأنبياء، لأنه تعالى لو خلق فيه الدعاء إلى الخير لكان مثلهم، ولو خلق فيهم الدعاء إلى الشر لكانوا مثله، فإنما ينقلبون وتختلف بهم الأحوال بحسب تصريفه عز وجل لهم، فما وجه الفضيلة والحال هذه؟!
251 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن آدم عليه السلام وقع منه الظلم والكبائر، وأنه مع ذلك لم يخرج عن أن يكون نبيا مؤمنا فقال:
{قََالََا رَبَّنََا ظَلَمْنََا أَنْفُسَنََا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنََا وَتَرْحَمْنََا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخََاسِرِينَ}
[23] فنسبا أنفسهما إلى الظلم الذى يقتضى الذم، وخبرا (1) من حالهما بأنه لو لم يغفر لهما لكانا من الخاسرين، وذلك لا يصح فيمن ذنبه مغفور ومعصيته صغيرة (2).
__________
(1) فى د: حبر.
(2) جوز الكرامية على الأنبياء فعل الكبائر من القتل والزنا ونحو ذلك! ونقل ابن(1/346)
والجواب عن ذلك: أنه بين من حالهما أنهما أقدما على ما نهاهما عنه وإن كان ذلك عند ذهابهما عن الاستدلال على طريق التعمد لأنهما لم يتناولا مما أشير إليه بالتحريم، لكنهما دلّا على أن المراد الجنس فظناه العين، وكان الواجب عليهما أن يستدلا بما نصب من الدليل، فيعرفا المراد به، فلما ذهبا عن ذلك، وأقدما على الأكل منه، كانا ظالمين لأنفسهما لأنهما حرماها بعض ما حصل لهما من الثواب، والمفوت [على] نفسه المنافع كالجالب إليها المضار، فى أنه يوصف بأنه ظالم لنفسه، ولذلك نسبا أنفسهما إلى الظلم، ووصف الظالم بأنه ظالم ليس بذم لأنه يجرى على طريق الاشتقاق، ولذلك قالت العرب:
هو أظلم من حية، وإن لم يصح فيها الذم، وإذا أريد به الذم صار منقولا، ويخالف وصف الفاسق بأنه فاسق لأن ذلك وضع للذم فى الشرع، ولذلك متى استعمل فى الذم استعمل على خلاف طريقته فى اللغة، وليس كذلك (1)
وصف الظالم بأنه ظالم، فلا يدل ذلك على أنهما أقدما على كبير واستحقا الذم.
وقولهما: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنََا وَتَرْحَمْنََا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخََاسِرِينَ} محمول على
__________
حزم أن أكثرهم لا يستثنون من ذلك إلا الكذب فى التبليغ. وذهب ابن فورك الأشعرى إلى أن الأنبياء لا يجوز عليهم كبيرة أصلا، وجوز عليهم مع من تابعه فى ذلك الصغائر بالعمد، قال ابن حزم: (وذهبت جميع أهل الإسلام، من أهل السنة، والمعتزلة، والنجارية، والخوارج، والشيعة، إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبى أصلا معصية بعمد، لا صغيرة ولا كبيرة). وقال الرازى: (والذى نقول: إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون فى زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد، أما على سبيل السهو فهو جائز).
مقالات الإسلاميين: 1/ 213. الفصل: 3/ 2. عصمة الأنبياء للرازى ص: 4.
وانظر فيه: عصمة آدم عليه السلام، ص: 11فما بعدها.
(1) ساقطة من د.(1/347)
ظاهره لأنه تعالى لو لم يغفر لهما ذلك وأخذهما بعقابه لكانا من الخاسرين فى الحقيقة، وليس فى الكلام أنه لو فعل ذلك لحسن، والتقدير فى الفعل لا يدل على حال (1) المقدّر إذا وقع كيف يكون فى الحسن والقبيح، ولولا أن الأمر على ما قلناه لوجب أن يحسن ذمهما وأن يجوز لعنهما لأن من استحق العقاب يحسن ذلك فيه، وهذا باطل على لسان الأمة فى الأنبياء صلوات الله عليهم!
وأما تعلقهم بأنه تعالى عاقبهما على المعصية بالإخراج من الجنة، وذلك يدل على أنها كانت كبيرة، فبعيد لأن حرمان المنفعة لا يدل على أنه على سبيل العقوبة، كما أن نزول المضرة لا يدل على ذنب لأنه قد يجوز أن يكون على طريقة المحنة والاعتبار، كما يفعله الله تعالى فى الأنبياء عليهم السلام من الأمراض والأسقام، ويجوز أن يكون عقوبة. فإذا تصرف على وجوه فمن أين أن ذلك وقع لهما على طريق العقوبة؟ وكيف يصح ذلك وقد تابا وأنابا؟ ولا يقول المخالف فى التائب الباذل مجهوده إنه يعاقب على ذنبه!! ولو جاز أن يعاقب لجاز أن نتعبد بذمهما ولعنهما، وكل ذلك يبين أن ما فعله تعالى بهما من الإهباط من الجنة كان على طريق المحنة والمصلحة، لا على سبيل العقوبة!
252 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يخص بعض عباده بالهدى وبعضهم بالضلال، فقال: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمََا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى ََ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلََالَةُ} (2).
والجواب عن ذلك: أنه تعالى أراد به البعث على الطاعة، فبين أنه من يعاد بعد الابتداء ينقسم حاله فى الجزاء بحسب ما كان منه فى الابتداء من طاعة
__________
(1) فى د: أحال.
(2) من الآيتين: 3029.(1/348)
ومعصية، فقال: {كَمََا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى ََ} يعنى: إلى الثواب، {وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلََالَةُ} يعنى: العقاب مبينا بذلك أن كلا منهم يجازى بحسب اختياره وعمله.
وقد بينا من قبل الكلام فى الهدى والضلال، وما ينقسمان إليه فى الاستعمال فلا وجه لإعادته (1).
253 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن من له أجل لا يجوز أن يتقدمه ولا يتأخره، وذلك يوجب أن القدرة على خلاف المعلوم لا تصح (2) فقال: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذََا جََاءَ أَجَلُهُمْ لََا يَسْتَأْخِرُونَ سََاعَةً وَلََا يَسْتَقْدِمُونَ} [34].
والجواب عن ذلك: أن الأجل هو الوقت الحادث، وإن كان من جهة الاستعمال قد غلب على أوقات الحياة والممات، فإذا صح ذلك فكل وقت قد علم تعالى أن العبد يموت فيه وحكم بذلك وأخبر عنه فقد جعله أجلا لموته، فلا يجوز أن يتقدم موته هذا الوقت ولا يتأخر، لا لأنه تعالى لا يقدر على تقديم موته، وتأخيره، لأنه عز وجل لو لم يقدر على ذلك، من حيث علم أنه لا يقع، لوجب أن لا يوصف بالقدرة على الضدين، لأنه قد علم فى أحدهما أنه لا يقع، ولوجب ألا يوصف، بالقدرة على أن يزيد فى المكلفين من علم أنه لا يكلفه ولا يخلقه، ولوجب إذا علم أن الشيء يوجد لا محالة أن لا يقدر على خلافه، وهذا يوجب وقوع أفعاله على طريقة الاضطرار، وكفى بهم خزيا أن تؤديهم هذه المقالة إلى أن
__________
(1) انظر الفقرة: 22.
(2) انظر الفصل الذى كتبه القاضى: (فى أن القادر يقدر على خلاف ما يعلم كونه، وعلى فعل ما علم أنه لا يكون) وصلة ذلك بمسألة الآجال.
المغنى: 11 (التكليف): 64.(1/349)
«يقولوا فى الله تعالى (1) بمثل مقالتهم فى العبد بالجبر.
254 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه المطهر لقلوب المؤمنين، بفعل الإيمان، عن الكفر، فقال تعالى: {وَنَزَعْنََا مََا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهََارُ وَقََالُوا الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي هَدََانََا لِهََذََا} [43].
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام لا يدل على أن الغل الذى نزعه من صدورهم ما هو؟ لأن ذلك قد يستعمل فى الغموم والأحزان، ويستعمل فى المضار، فمن أين أن المراد ما قالوه؟
ويجب أن تحمل الآية على ما يليق بأهل الثواب وأهل الجنة، وهو أنه تعالى سلبهم ما يلحق فى دار الدنيا من الحسد والتنافس على الرتب، والغموم لأجل ذلك، فقال تعالى مبينا من أحوال أهل الجنة بحيث لا يشوب نعيمهم كدر: {وَنَزَعْنََا مََا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} لأن الظاهر من حال من اشترك فى النعيم فى دار الدنيا على جهة التفاضل أنهم لا يعرون من غموم وحسد وغبطة، وأهل الجنة مطهرون من ذلك، وهذا ظاهر، ولهذا قال تعالى عقيبه: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهََارُ}
فبين عند ذلك حال الثواب، وبين من قولهم ما يدل على نفى الحزن والغموم، وخلوص السرور والنعيم. وهذا ظاهر.
255 - دلالة: وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنََاهُمْ بِكِتََابٍ فَصَّلْنََاهُ عَلى ََ عِلْمٍ، هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [52] يدل على أن الكتاب محدث، من جهات:
منها: أنه وصفه بأنه جاءهم بالكتاب، ولا يصح ذلك إلا فى ما كان محدثا وفعلا.
__________
(1) د: يقول الله تعالى.(1/350)
ومنها: أنه وصفه بأنه مفصل، والتفصيل إنما يصح فى الأفعال الموقعة على وجه دون وجه.
ومنها: أنه بين أنه هدى ورحمة، والدلالة لا تكون إلا حادثة، وكذلك النعيم الواقع من المنعم لا يكون إلا حادثا، ولذلك يستحق عليه الشكر العظيم.
وقد بينا أن هذا الكتاب كلامه، فإذا صح فيه أنه محدث صح مثله فى كلامه تعالى (1).
وقد بينا أن تخصيص المؤمن بأنه هدى له، هو لأنه قد اهتدى به وانتفع، وذلك لا يمنع من كونه هدى لغيره.
256 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن أمره ليس بخلق له: فقال: {أَلََا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (2) ويدل أيضا على أنه لا صنع للعبد إذا كان كل (3) الخلق والأمر له (4).
__________
(1) انظر الفقرة: 4.
(2) من الآية: 54.
(3) ساقطة من د.
(4) قال القاضي فى شرح وجه استدلالهم بالآية على قولهم الأول: إنه تعالى قد بين «أن له الخلق والأمر، وفصل بينهما، فلو كان الأمر محدثا مخلوقا لم يصح الفصل بينه وبين الخلق، ولا أن يجعل ضربا آخر يميز به لذلك قال: {[الرَّحْمََنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسََانَ]} ففصل بين الأمرين فصلا نبه به على أن القرآن قديم ليس بمحدث» وقد وصف القاضي هذا القول بأنه فى غاية السقوط، لأنه إن دل على قدم شيء فإنه يدل على قدم هذا القول المعقول الذى علمناه، وهذا مما لا يقول القوم به! قال القاضى: (وإن هم قالوا إنه ذكره وأراد به حكايته ليجوزن لنا أن نتأوله على أمر آخر لا يشهد الظاهر به، ومتى آل الأمر بالمحتج بالآية إلى أن يقف موقف من ينازع خصمه تأويل الآية، فقد بان فساد تعلقه)، على أنه قد ساء لهم بعد ذلك من أين لهم أن الأمر المذكور فى الآية هو القول؟ مع العلم بصحة استعمال ذلك فى الأفعال كقوله [وما أمر فرعون برشيد] إلى ما شاكله؟
وفى موضوع الأمر عامة وقول الأشعرية إنه تعالى لم يزل آمرا لكل من أمره بما يأمره به إذا وجد، يقول ابن حزم إن الأمر مخلوق، قال تعالى {[وَكََانَ أَمْرُ اللََّهِ مَفْعُولًا]}(1/351)
والجواب عن ذلك: أن إفراده ذكر الأمر عن ذكر الخلق لا يدل على أنه غير داخل فى الخلق، وإنما يدل على أنه غير مراد بما تقدم ذكره، بحق العطف الذى يقتضى أن المعطوف غير المعطوف عليه، فلا يصح تعلقهم بالظاهر. وقد ذكر تعالى لذلك نظائر، فقال: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ} (1) وإن كان الإحسان داخلا فى العدل، وكذلك الفحشاء تدخل فى المنكر، وإن ميز بين ذكرهما. وقال تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََاكَ إِلََّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً} (2) والنذير هو البشير. وقال تعالى: {مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِلََّهِ وَمَلََائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكََالَ} (3) وهما من جملة الملائكة. وكل ذلك يشهد لما ذكرنا بالصحة.
وبعد، فإن الخلق فى اللغة غير المخلوق، وإن كان فى التعارف يوضع أحدهما موضع الآخر، ولذلك جاز فى اللغة أن يقال: هو خالق وليس بفاعل (4) لما قدر.
قال الشاعر:
ولأنت تفرى ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفرى (5)
فأثبت له الخلق ولم يقطع (6) ما قدره، فإذا صح ذلك لم يمتنع أن يكون الأمر غير الخلق، ويكون مع ذلك مخلوقا على ما قدمناه.
__________
وقال {(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمََاءِ إِلَى الْأَرْضِ)} إلى آيات كثيرة، ثم وصف ما قاله الأشعرية بأنه «باطل متيقن» انظر المغنى: 7 (خلق القرآن) ص: 178176الفصل:
2/ 169.
(1) من الآية: 90فى سورة النحل.
(2) من الآية: 105فى سورة الإسراء، والآية: 56فى سورة الفرقان.
(3) من الآية: 98فى سورة البقرة.
(4) ساقطة من د.
(5) انظر الفقرة: 220.
(6) د: لم يقع.(1/352)
وبعد، فإن «الأمر» يطلق فى اللغة على وجهين: أحدهما: قول القائل لغيره: افعل، وهذا لا بد من كونه حادثا لأن بعض حروفه يتقدم بعضا، ويتواتر حدوثه.
والثانى: بمعنى الأفعال الواقعة، وهذا أيضا يقتضى حدوثه وكونه مخلوقا إذا كان من فعله تعالى.
فكيف يصح أن يقال لما أفرد تعالى ذكر الأمر عن الخلق: وجب أن يكون قديما غير محدث؟
وأما إثبات أمر لا يعقل ولا يكون منظوما من حروف، فلا يعرف فى اللغة، وما هذا حاله لا يصح دخوله تحت الخطاب.
فأما التعلق بذلك فى أنه لا يصنع للعبد فبعيد، لأنه تعالى بين أن له الخلق والأمر، ولم يعم فى الكلام جميع ما يسمى أمرا وخلقا، فلا يصح التعلق بالظاهر.
وقد بينا أن إضافة الشيء إليه باللام قد يكون «على معنى الفعلية وعلى (1)
وجوه كثيرة، فلا يصح التعلق بظاهره بأن له الخلق والأمر من جهة الفعلية.
وقد بينا أن أفعال العباد قد تضاف إليه، فيقال: إنها له، من حيث يوصف بالقدرة على المنع منها، وعلى التمكين والتخلية منها، إلى غير ذلك مما بيناه (2).
وبعد، فإن لفظة الخلق والأمر، تفيد كونهما واقعين لأن المعدوم لا يسمى بذلك، ومتى حمل على الواقع لم يصح أن يراد به القدرة عليه فلا بد من حمل
__________
(1) د: بمعنى الفعلية على. وانظر الفقرة: 85.
(2) انظر الفقرة: 42والفقرة: 70.(1/353)
الإضافة على غير وجه الفعلية، وفى ذلك إبطال تعلقهم بالظاهر.
ثم يقال للقوم: لو كان التمييز بين الأمرين فى الكلام يقتضى قدم الأمر لم يكن لإضافته ذلك إليه على حد إضافته الخلق، معنى أن ذلك لا يصح فى القديم، ولا كان ذلك مما يصح فيه الامتنان والتمدح، والآية وقعت على هذا الحد.
ويقال لهم: إن كانت الإضافة تدل على أنه الفاعل لكل شيء، فيجب أن تدل على أنه القادر على كل شيء فقط، ويجب أن تدل على أن العبد لا يستحق ذما ولا مدحا.
وإنما ذكر تعالى ممتدحا اقتداره فقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللََّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ} (1) ثم انتهى إلى قوله: {أَلََا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} منبها بذلك [على] أنه المقتدر على الأمور التى تقدم ذكرها، مما بها يقوم أمر الناس والنفع العام، لأنه ذكر الأرض والسماء والشمس والقمر والليل والنهار، ولو أراد (2) به أفعال العباد لم يكن لذكره عقيب خلقه هذه الأمور فائدة! ويحل محل قول القائل: إنه خلق السموات والأرض وما فيهما من الشمس والقمر والنجوم السائرات، وما تقتضيه حركاتها من ليل ونهار، ألا له الخلق والأمر الذى هو حركات العباد، وهذا «مما يعد لكنة (3) فى الكلام، يتعالى الله عن ذلك.
257 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يريد الكفر وأنه لأجل مشيئته يقع من الكافر، ولولا إرادته لم يقع منه، فقال تعالى فى قصة
__________
(1) تتمة الآية: {[. فِي سِتَّةِ أَيََّامٍ ثُمَّ اسْتَوى ََ عَلَى الْعَرْشِ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهََارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرََاتٍ بِأَمْرِهِ، أَلََا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبََارَكَ اللََّهُ رَبُّ الْعََالَمِينَ]}
سورة الأعراف: 54.
(2) فى د: أرادوا.
(3) د: فيما يعود لاكنة.(1/354)
شعيب: {قَدِ افْتَرَيْنََا عَلَى اللََّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنََا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجََّانَا اللََّهُ مِنْهََا، وَمََا يَكُونُ لَنََا أَنْ نَعُودَ فِيهََا إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ رَبُّنََا}
[89] فبين أنه ليس لهم أن يعودوا فى ذلك إلا بمشيئته.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام يقتضى أن لهم أن يكفروا، وهذا مما لا يطلقه أحد، لأنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: وما كان لنا أن نعود فيها، وهذا نفى، ثم قال: {إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ رَبُّنََا} وهذا يوجب إثبات ما نفوه، وإثبات أن لهم أن يعودوا فيها إن شاء تعالى. وذلك يوجب القول بأن لهم أن يكفروا، وهو الذى قلنا إنه خلاف الآية!
وبعد، فإن الملة هى الدين، وقد يراد بها الشرعيات التى قد تختلف على لسان الأنبياء، كما يراد بها ما لا يختلف من العبادات، فمن أين بظاهره (1)
أن المراد بها ما لا يختلف دون ما يجوز أن يختلف التعبد فيه، فصح حمله على ظاهره بأن يريد الله تعالى أنه ليس لنا أن نعود فى الملة المنسوخة إلا أن يشاء ربنا إثبات التعبد فيها من بعد، ليكون من الباب الذى يعلم اختلافه بالمشيئة.
وعلى هذا تأوله أبو على رحمه الله، وقال: إنما طلب الكافرون من قوم شعيب أن يعود (2) من آمن به فى ملة شرعية نسخت عنهم، فقالوا: {قَدِ افْتَرَيْنََا عَلَى اللََّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنََا فِي مِلَّتِكُمْ} وأرادوا أنهم إن عادوا فيها على ذلك الحد الذى «هم عليه (3) من التكذيب به، وعلى جهة الاستحلال، قد افتروا على الله تعالى الكذب، ثم قالوا: {وَمََا يَكُونُ لَنََا أَنْ نَعُودَ فِيهََا} يعنى فى الملة، إلا أن يشاء الله تعالى التعبد بها من حيث يعلمها صلاحا فى المستقبل، بعد أن نسخها عنهم وأزالها. وهذا مطابق للظاهر، مشاكل لما يقتضيه القول بالعدل، وقد بينا ذلك.
__________
(1) ف: أن ظاهره.
(2) ساقطة من د.
(3) د: عليهم.(1/355)
وقيل إن المراد بالآية: لم يكن لهم أن يعودا فى القرية (1) إلا أن يشاء الله تعالى أن يعودوا فيها، لأن ذكر القرية قد تقدم، كتقدم ذكر الملة (2) وتقدم ذكر الإخراج من القرية، كما تقدم ذكر خروجهم من ملتهم (3). فمتى حمل عليه لم يكن فى الظاهر ما يمنع منه.
وقد قيل: إن المراد بذلك: وما كان لنا أن نعود فيها مكرهين وكارهين، إلا ان يشاء الله ربنا أن يتعبدنا بذلك مع الإكراه، لأن إظهار (4) كلمة الكفر على هذا الوجه، يحسن إذا تعبد تعالى به وأباحه. وقوله تعالى {قََالَ أَوَلَوْ كُنََّا كََارِهِينَ} كالدلالة على هذا الوجه.
وقد قيل: إنه أراد تعالى تبعيد (5) عودهم إليها من حيث علقه بمشيئته، وقد علم أنه تعالى لا يشاء العود الى الكفر على وجه من الوجوه، وذلك كقوله تعالى: {وَلََا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتََّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيََاطِ} (6)
وكما يقول العربى: لا كلمتك ما لاح كوكب، وأضاء الفجر، وما كرّ الجديدان.
وقد قيل: إن المراد بذلك: وما كان لنا أن نعود فيها والعبادة قائمة، إلا أن يشاء ربنا أن يلجئنا الى العود إليها فيزول التكليف.
والوجه الأول أقرب الوجوه فى ذلك.
وفى الآية دلالة على إبطال مذهب المجبرة فى الإرادة لأنه تعالى بين أن
__________
(1) د: القربى.
(2) د: المسألة.
(3) الآية المتقدمة 88قوله تعالى. {(قََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يََا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنََا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنََا. قََالَ. أَوَلَوْ كُنََّا كََارِهِينَ)}
(4) ف. إكراه.
(5) فى د. تعبدهم.
(6) من الآية 40فى سورة الأعراف.(1/356)
لهم العود فى الملة إذا شاء تعالى، وذلك يدل على أنه لو لم يشأ ذلك لم يكن لهم العود، وعلى قولهم: إنه تعالى إذا أمرنا بالشيء فللعبد أن يفعله وإن لم يرده البتة.
258 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه الفاعل لما يكتبه العبد، فقال: {ثُمَّ بَدَّلْنََا مَكََانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتََّى عَفَوْا}
[95] فأضاف تبديل أحدهما بالآخر إليه، وذلك لا يصح إلا وهو الفاعل لهما.
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أن ما قد وقع سيئة يجعلها تعالى حسنة، وهذا مما لا يصح القول به، لان إبدال الفعل بالفعل إنما يصح، ولما يقع، لأن من يجوز البدل فى الكفر والإيمان إنما يجوز على جهة التقدير، ولا يحكم بأنه قد وقع وكان.
وبعد، فإن الظاهر يقتضى أنه تعالى قد بدل مكان كل السيئات الحسنات، وهذا يوجب أن الكفار قد حصلوا على الحسنات، وكذلك كل من أقدم على السيئة، وليس ذلك بقول لأحد على وجه!
والمراد بذلك: أنه تعالى بدل مكان ما كانوا عليه من القحط والشدة وضروب المضار والمصائب، الخصب والرخاء وضروب المنافع، على طريقة العرب (1)
فى تسمية «ما ظهر (2) فيه فى الحال المنفعة بالحسنة، وضد ذلك بالسيئة، ولذلك قال تعالى بعده: {وَقََالُوا قَدْ مَسَّ آبََاءَنَا الضَّرََّاءُ وَالسَّرََّاءُ} (3). وذلك لا يليق إلا (4) بما ذكرناه.
259 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يمنع من الإيمان
__________
(1) ساقطة من د.
(2) فى د: بأظهر ما ظهر.
(3) من تتمة الآية السابقة: 95.
(4) ساقطة من د.(1/357)
كما يعاقب على الذنوب فقال: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهََا أَنْ لَوْ نَشََاءُ أَصَبْنََاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لََا يَسْمَعُونَ} (1) إلى قوله: {كَذََلِكَ يَطْبَعُ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِ الْكََافِرِينَ}.
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أن الطبع فى اللغة هو الختم والعلامة، وليس يمنع عن الإيمان، وبينا أنه تعالى يفعل ذلك بقلوب الكافرين فى الحقيقة، كما يكتب الإيمان فى قلوب المؤمنين، وذلك أنا قد بينا أن ذلك إنما يفعله لما فيه من اللطف والمصلحة، وبينا أنه لو كان منعا لوجب حمله على التشبيه (2)، كما حملنا قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} على هذا الوجه، وفى الآية ما يدل «على هذا لأنه (3)
قال تعالى: {فَهُمْ لََا يَسْمَعُونَ} ولو كان يمنع فى الحقيقة لما منع عن السماع، وإنما كان يمنع الفهم والتمييز، فلا يكون لذلك معنى على قولهم (4)، ومتى حمل على التشبيه حسن موقعه، لأنه كأنه قال: إن من وسم قلبه لا يفلح (5) لسوء اختياره وكفره المتقدم. وهو بمنزلة من لا يسمع الأدلة ولا يفهمها ولا يعرفها.
وقوله: {وَنَطْبَعُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} (6) عقيب قوله: {أَنْ لَوْ نَشََاءُ أَصَبْنََاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} يدل على أنه عقوبة على كفرهم المتقدم، فلا يجوز أن يكون منعا عن الإيمان، لأن المنع منه هو نفس الكفر، ولا يجوز أن يكون الجزاء على الفعل هو نفس الفعل.
وبعد، فليس فى ظاهر الآية أنه تعالى قد فعل ذلك، وإنما قال فيمن قدم
__________
(1) الآية: 100وبعدها: {[تِلْكَ الْقُرى ََ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبََائِهََا وَلَقَدْ جََاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ فَمََا كََانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمََا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ، كَذََلِكَ يَطْبَعُ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِ الْكََافِرِينَ]} 101.
(2) انظر الفقرة: 18.
(3) فى د: على هذه الآية.
(4) د: قلوبهم.
(5) ف: بأنه لا يفلح.
(6) فى د: فطبع الله على قلوبهم.
(م 19متشابه القرآن)(1/358)
ذكره {أَنْ لَوْ نَشََاءُ أَصَبْنََاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} وذلك يقتضى أنه لم يشأ ذلك، فلا يصح التعلق به فى أنه تعالى قد فعله.
وإنما يدل على أنه يصح أن يفعله لو شاء ذلك، وهذا مما لا تمنع منه لو كان الطبع كما قالوه، لأنه تعالى قادر على أن يمنع الكافر من الإيمان بضروب من الموانع (1)، لكنه مع التكليف والتخلية لا يجوز أن يفعله، لأنه يقتضى كونه فاعلا للقبيح، تعالى عن ذلك!
وإنما ذكر تعالى [ذلك] عقيب ما أورده من إنزاله البأس بأهل القرى، وإحلاله المكر بهم، لينبه تعالى على (2) ما يوجب الاعتبار بأحوالهم، وعلى أنه قادر على إنزال ذلك بجميع الكفار، وإن كان قد لا يفعله ببعضهم لما يعلمه من المصلحة، ولهذا قال تعالى: {تِلْكَ الْقُرى ََ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبََائِهََا} إلى آخر الآية، مبينا بذلك أنه أورد أحاديثهم لكى يقع بها الاعتبار.
260 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه الفاعل فى العبد ما يكسبه ويتصرف فيه، فقال: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سََاجِدِينَ قََالُوا آمَنََّا بِرَبِّ الْعََالَمِينَ} (3) فأضاف ما فعلوه من السجود إليه.
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أن ذكر الفعل مع حذف ذكر الفاعل لا يعلم به من الفاعل لأن اللغوى إذا أراد أن يكتم من الفاعل ذكر الفعل على هذا الحد، فلا ظاهر للكلام على الوجه الذى تعلقوا به.
ولو كان الله تعالى ألقاهم ساجدين لم يستحقوا على ذلك مدحا، ولا أضيف السجود إليهم، ولا الإيمان الذى يقتضيه السجود.
__________
(1) فى د: المنافع.
(2) ساقطة من د.
(3) الآيتان: 121120.(1/359)
وإنما ذكر تعالى ذلك على طريق العرف فى الفعل الذى تقوى فيه الدواعى والباعث لأن الأولى عندهم فيها حذف ذكر الفاعل، فيكون أفصح من إضافته إلى الفاعل «والحال هذه (1).
فأما السحر وتأثيره والكلام فيه فلا يتعلق بشبه المخالفين، وقد بينا أنه لا يجوز أن يقع من الساحر ما علم بالدليل أنه تعالى يختص بالقدرة عليه، ولا (2) الأمور التى لا يجوز من العبد أن يوقعها، إما لكثرتها، وإما لوجه مخصوص لا يتأتى منه إيقاعها عليه، ولذلك لا يصح منه بالحيلة إحياء الموتى، ولا نقل الجبال، وطفو البحار، والطيران فى الهواء.
وقد بينا أن من يجوز ذلك على السحرة لا يمكنه معه (3) معرفة النبوات، فيكون كافرا وأن الساحر إذا ادعى لنفسه ذلك فكمثل، وأنه يستحق القتل إذا كان هذا حاله، وبينا مخالفة حال هذا الساحر لمن يزعم أنه ينفذ فى أنواع المضار بضروب من الحيل، لأن ذلك مما قد يمكن بالعادة (4)، وليس فى ذلك «أجمع، ما (5) للمخالف فيه متعلق.
261 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يجوز أن يرى، وما يدل على أنه يجوز أن يظهر ويتجلى ويحتجب، فقال: {وَلَمََّا جََاءَ مُوسى ََ لِمِيقََاتِنََا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قََالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} (6) فلو لم تجز
__________
(1) ساقط من: ف.
(2) ساقطة من د.
(3) د: مع. وساقطة من ف.
(4) انظر الفقرة: 49.
(5) د: إجماع فما.
(6) الآية 143وتتمتها: {[قََالَ: لَنْ تَرََانِي، وَلََكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكََانَهُ فَسَوْفَ تَرََانِي، فَلَمََّا تَجَلََّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى ََ صَعِقاً، فَلَمََّا أَفََاقَ قََالَ: سُبْحََانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ]}.(1/360)
الرؤية عليه لم يكن ليسأل ذلك، كما لا يجوز أن يسأل ربه اتخاذ الصاحبة والولد، إلى ما شاكله من الأمور المستحيلة عليه.
ثم قال: {فَلَمََّا تَجَلََّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} فبين أنه جسم يجوز عليه التجلى، كما يجوز عليه الاحتجاب!
[أ] والجواب عن ذلك: أن مسألة السائل لا تدل على أن ما سأله يجوز أو لا يجوز، لأن الملتمس بها قد يختلف فربما كان الإجابة بالفعل، وربما كان الإجابة بالقول، وقد يدل القول على المنع كما يدل على الجواز، ولذلك قلنا إن المسألة لا تكون جهالة ولا تدخل فى باب المحال، وإن كان الجواب قد ينقسم إلى ذلك فلا يجب، من حيث كان الجواب محالا، أن تكون المسألة كمثل، ولذلك صح أن يسأل السائل عن جواز اجتماع الضدين، ويسأل عن جواز ثان مع الله! إلى غير ذلك مما قد علم استحالة ما سأل، لكنه لما صح أن يكون القصد تفهم الجواب، «وإن كان المسئول عنه محالا بأن يبين استحالته، حسنت المسألة. وقد يسأل السائل عما لا يجوز إذا كان له فى ورود الجواب (1)
من جهة المسئول غرض يتعلق به أو بغيره، ولذلك يحسن من أحدنا مع علمه بأن غيره لا يجيب إلى الملتمس فى باب غيره، أن يسأله بحضرته، لكى يتحقق أنه بذل مجهوده فى الشفاعة والمسألة.
وإذا كان لقول المسئول (2) مزية فى الإبانة والدلالة، فقد يحسن منه أن يسأل لكى يرد الجواب من قبله، فتنكشف الشبه.
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ف: المسألة.(1/361)
فإذا انقسمت المسألة إلى ما ذكرناه وإلى غيره من الوجوه، فكيف يصح أن يستدلوا بوقوعها من موسى عليه السلام على أن الرؤية على الله جائزة؟!
وقد اختلفت أجوبة شيوخنا رحمهم الله فى ذلك، فمنهم من قال إنما سأل ذلك عن لسان قومه، لأنهم سألوه ذلك فأجابهم بأن الرؤية لا تجوز عليه، فلم يقنعوا بجوابه، وأرادوا أن يرد ذلك من الله تعالى «ولذلك قال تعالى: {يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتََابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتََاباً مِنَ السَّمََاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى ََ أَكْبَرَ مِنْ ذََلِكَ فَقََالُوا أَرِنَا اللََّهَ جَهْرَةً} ولذلك قال تعالى (1): {أَتُهْلِكُنََا بِمََا فَعَلَ السُّفَهََاءُ مِنََّا} (2) ولو كانت المسألة صدرت عنه لأمر يخصه لم يجز أن يقول ذلك، وقد بينا أن السائل إذا سأل لأجل غيره حسن أن يسأل ما يعلم أنه محال لكى يرد الجواب فتقع به الإبانة، إذا كان عنده أن ذلك إلى زوال الشبه أقرب.
ولا يمتنع، وإن سأل عن لسان قومه، أن يضيف السؤال إلى نفسه، كما يفعله من يشفع منا لغيره، لأنه يصيف المسألة إلى نفسه، والفائدة فى ذلك أن يحقق ما يرد من الجواب، كأنه له ولأجله.
فإن قال: فلماذا تاب إن كان إنما سأل عن قومه، وذلك مما لا يعد خطأ فيتوب منه؟.
قيل له: ليس فى ظاهر قوله: {قََالَ سُبْحََانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} أنه تاب من المسألة، فمن أين أن (3) الأمر كما سألوا عنه؟
وإنما تاب عندنا لإقدامه على المسألة مع تجويز أن يكون الصلاح فى خلافه
__________
(1) هذا المقدار ساقط من د.
(2) من الآية: 55.
(3) ساقطة من د.(1/362)
وليس للأنبياء فيما يظهر الحال فيه لأممهم أن يقدموا عليه إلا بعد إذن منه تعالى فلذلك تاب، لا لنفس المسألة.
فإن قال: فإن كان الأمر كما قلتم فلماذا عاقبه تعالى؟
قيل له: ليس فى الكلام ما يدل على أن ما فعل به خاصة هو عقوبة، ويجوز أن يكون امتحانا كالأمراض والأسقام.
فإن قال: فإذا كان إنما سأل عن لسان قومه، فكيف يكون قوله تعالى:
{لَنْ تَرََانِي} جوابا؟.
قيل له: إذا صح فى السؤال أن يضيفه إلى نفسه، والمقصد به غيره، على ما بيناه، لم يمتنع أن يرد الجواب على الحد الذى وقع السؤال عليه!:
وقد قيل: إنه التمس من الله تعالى أن يعرفه نفسه ضرورة بقوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} لأن الرؤية قد تنطلق على المعرفة، فكأنه قال: عرفنى نفسك باضطرار لأكون عن الشبه أبعد، وإلى السكون والطمأنينة أقرب، وأراد (1) أن يظهر تعالى من الآيات العظيمة ما عنده تحصل هذه المعرفة، فذكر (2).
نفسه فى قوله: {أَنْظُرْ إِلَيْكَ} وإنما أراد الآيات التى يحدثها، فقال تعالى:
{لَنْ تَرََانِي} مبينا له أن مع التكليف لا يجوز أن يعرفه باضطرار!
وقوله: {فَلَمََّا تَجَلََّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} يعنى: فلما أظهر لأهل الجبل ما يقتضى المنع مما سأله جعله دكا، لأنه إنما قبل ذلك بعد الإبانة وإقامة الحجة.
__________
(1) ف: وأراد تعالى.
(2) فى د: بذكر.(1/363)
وقد قيل: إنه سأل الرؤية لنفسه، وأن ذلك لا يمتنع أن لا يعرفه النبى، أو يطلب الزيادة فى المعرفة «بزيادة الأدلة (1): وترادفها، لأنه من الباب الذى يعرف ذلك بالسمع.
والوجه الأول أولى لأن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز أن يجهلوا ما يرجع إلى معرفة الله تعالى، لما فى ذلك من التنفير عنهم لأنه يؤدى إلى جواز أن يسألوا عن ذلك فيجهلوه وغيرهم يعرفه.
فإن قال على الجواب الأول: أفيجوز أن يسأل عن قومه اتخاذ الصاحبة والولد، وأن يكون جسما ينتقل ويصعد وينزل، لكى يرد الجواب من قبله عليهم؟
وإن امتنع ذلك عندكم فيجب مثله فى الرؤية لأن حالهما فى استحالتهما عليه تعالى واحد.
قيل له: إن فى شيوخنا من أجاز ذلك، إذا غلب على ظن النبى «أنه إذا ورد (2) الجواب عنه تعالى يكون القوم إلى معرفته وتدبره أقرب، ويكون ذلك فى جوازه وامتناعه موقوفا على اجتهاد النبى عليه السلام، وما يؤدى إليه رأيه، ويورد لفظ المسألة على الحد الذى لا يوهم الجهل بما سأل.
ومنهم من امتنع من ذلك، وفصل بينه وبين الرؤية، بأن مع (3) الجهل بهذه الأمور لا يصح معرفة الله تعالى على حد يمكن أن يستدل بكلامه، لأنه إنما يصح ذلك بعد العلم بالتوحيد، وبعد العلم بأنه تعالى لا يختار القبيح، فالجواب إذا ورد عن الله تعالى لم يمكنهم الاستدلال به على وجه، فلا تقع به الفائدة الملتمسة،
__________
(1) د: زيادة للأدلة.
(2) فى د: أنه أورد،
(3) د: موضع.(1/364)
وليس كذلك حال الرؤية لأن الجهل بها مع العلم بنفى التشبيه يمكن معه العلم بصحة كلامه على وجه يمكن الاستدلال به، فورود الجواب على من يجهل ذلك يؤثر (1)، من حيث يمكنه أن يعلم به الملتمس بالسؤال.
فأما شيوخنا رحمهم الله، فقد استدلوا بهذه الآية على أنه تعالى لا يرى لأنه تعالى قال: {لَنْ تَرََانِي} وذلك يوجب نفى رؤيته تعالى فى المستقبل أبدا، فإذا صح ذلك من موسى وجب مثله فى الأنبياء والمؤمنين.
فإن قال: فإذا كان سأل الرؤية فى الحال، فالجواب يجب أن يقتضى نفيها فى الوقت، فمن أين أنه يعم فى المستقبل؟
قيل له: قد يتضمن الجواب ما سأل السائل وغيره إذا كان ظاهر الجواب يقتضيه، لأنه فى الإبانة أبلغ، من حيث بين حال ما سأل عنه وحال غيره من الأوقات، ولولا أن الأمر كذلك لم يعلم بهذا القول أنه لا يراه إلا فى أقرب الأوقات إلى مسألته فقط، والمتعالم خلافه!
وقوله تعالى: {وَلََكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكََانَهُ فَسَوْفَ تَرََانِي} يدل أيضا على أنه لا يرى، من حيث علق الرؤية باستقراره، والمعلوم أنه لا يستقر، وذلك طريقة العرب إذا أرادوا تأكيد اليأس من الشيء علقوه بأمر يبعد كونه. فلما جعله تعالى دكا، وظهر بعد استقراره، لذلك، فى النفوس، حل محل الأمور التى يبعد بها الشيء إذا علق بها فى الكلام، لأن استقراره، وقد جعله دكا، يستحيل، لما فيه من اجتماع الضدين، فما علق به يجب أن
__________
(1) د: لا يؤثر.(1/365)
يكون بمنزلته. فمن هذا الوجه يدل أيضا على نفى الرؤية.
وقوله تعالى: {أَتُهْلِكُنََا بِمََا فَعَلَ السُّفَهََاءُ مِنََّا} (1) وبيانه ذلك بقوله:
{فَأَخَذَتْهُمُ الصََّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} (2) بعد ذكره أنهم سألوه رؤية الله جهرة، يدل على نفى الرؤية أيضا (3).
[ب] فأما التجلي فإنما يصح أن يتعلق به من يزعم أنه تعالى جسم يجوز عليه الانتقال، فأما من لا يقول بذلك، ويقول إنه لا كالأجسام، وأنه ليس بمؤلّف فتعلقه بهذا الظاهر، وإن أطلق هذا القول فيه تعالى، لا يصح.
وقوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} يوجب أيضا أنه التمس أن ينظر إليه، والنظر: هو تقليب الحدقة نحو الشيء التماسا لرؤيته، وذلك لا يصح إلا والمنظور إليه فى جهة مخصوصة، فهذا لا يصح أن يتعلق بظاهره القائل بالرؤية إذا نفى التشبيه، وإنما يصح أن يتعلق به المشبهة، والمشبه لا وجه لمكالمته فى الرؤية،
__________
(1) من الآية: 155فى سورة الأعراف.
(2) من الآية: 153فى سورة النساء. وهي أيضا فى طلب بنى إسرائيل رؤية الله جهرة (انظر الفقرة: 78) وليست آية الأعراف بيانا لها، والأرجح أن تكون بيانا لقوله تعالى {(فَلَمََّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ)} فى آية الأعراف ذاتها، بدليل تولى شرح القاضى للآية بعد أسطر، ثم عودته بعد ذلك إلى تفسير الآيات التى تجاوزها بعد الآية 143موضوع بحث الرؤية. والآية 155هي {[وَاخْتََارَ مُوسى ََ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقََاتِنََا، فَلَمََّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قََالَ: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيََّايَ، أَتُهْلِكُنََا بِمََا فَعَلَ السُّفَهََاءُ مِنََّا، إِنْ هِيَ إِلََّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهََا مَنْ تَشََاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشََاءُ أَنْتَ وَلِيُّنََا فَاغْفِرْ لَنََا وَارْحَمْنََا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغََافِرِينَ]}.
ولا يبدو فى الآية على كل حال أنها تعقيب على سؤال الرؤية وتوبة موسى منه حتى يصح بها الاستدلال على ما ذكره، وإنما جاءت بعد ذكر الألواح ورجوع موسى إلى قومه وقد اتخذوا العجل، فذهب موسى عليه السلام بمن اختارهم من قومه للوقت الذى وعده الله تعالى أن يلقاه بهم فيه، للتوبة مما أقدم عليه سفهاؤهم فى أمر العجل. انظر الطبرى: 9/ 72.
(3) انظر ما كتبه القاضى أيضا حول رد الاستدلال بالآية على أنه تعالى يرى بالأبصار.
المغنى: 4 (رؤية البارى) ص: 220217. وما قاله المرتضى فى ذلك وفى مسألة التجلى بتوسع الأمالى: 2/ 221215.(1/366)
لأنه إن صح ما قاله «من أنه جسم (1) فلا بد من أن يرى (2)، بل يجوز أن يلامس ويعانق، تعالى الله عن ذلك!
والمراد بقوله: {فَلَمََّا تَجَلََّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}: فلما أظهر من آياته وقدرته ما أوجب أن يصير دكا. وقد يقال تجلّى بمعنى جلّى، كما يقال. حدّث وتحدّث، ولذلك قال فى الساعة: {لََا يُجَلِّيهََا لِوَقْتِهََا إِلََّا هُوَ} (3) وظاهر جلّى وتجلى: هو الإظهار، فيجب أن يحمل على إظهار القدرة، يبين ذلك أنه تعالى علق جعله الجبل دكا بالتجلى ولو أراد به تجلى ذاته لم يكن لذلك (4) معنى لأنه لو كان الجبل يجب أن يصير دكا أو أراد: تجلى، بمعنى المقابلة لوجب أن لا يستقر له مكان، بل كان يجب فى العرش أن يصير دكا، وأن يكون بهذه الصفة أحق!
ولو كان فى الحقيقة تجلى الجبل، بمعنى أنه أظهر وزال الحجب، لكان من على الجبل يراه أيضا، فكان لا يصح مع ذلك قوله: {لَنْ تَرََانِي} وكان لا يصح أن يعلق نفى الرؤية بأن لا يستقر الجبل، والمعلوم أنه لا يستقر بأن ينكشف ويرى لأن ذلك فى حكم أن يجعل الشرط فى أن لا يرى ما يوجب أن يرى، وذلك متناقض.
262 - وقوله تعالى من بعد: {إِنْ هِيَ إِلََّا فِتْنَتُكَ} المراد به الامتحان وشدة ما ناله. وقد بينا أن الفتنة قد تكون على هذا الوجه (5).
وقوله {تُضِلُّ بِهََا مَنْ تَشََاءُ} يعنى: أن هذه المضار التى تكون محنة
__________
(1) د: فى التجسيم.
(2) انظر التعليق على الفقرة: 35.
(3) من الآية: 187فى سورة الأعراف.
(4) ساقطة من د.
(5) انظر الفقرة: 212.(1/367)
على الصالحين، قد يضل بها على جهة العقوبة من يشاء، ممن قد كفر وفسق لأن الإشارة إذا كانت إلى جنس المضار صلح ذلك فيها، {وَتَهْدِي مَنْ تَشََاءُ}
بأن يجعله لطفا ومصلحة لأن المضار قد تنقسم إلى هذه الوجوه أجمع.
ولو كان المراد بالفتنة العذاب لم يكن لقوله: {تُضِلُّ بِهََا مَنْ تَشََاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشََاءُ} معنى لأن ذلك لا يصح فى نفس العذاب كما يصح فى جنس المضار.
ولو كان المراد بالفتنة المعصية لم يصح أيضا أن يقول: {وَتَهْدِي مَنْ تَشََاءُ}
فلا بد للمخالف من تأويل ذلك على وجه يخرج عن الظاهر، فلا يصح إذا تعلقه به.
263 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يصرف الكافر عن الإيمان بالآيات التى أنزلها، وعن أن يهتدى بها ويتمسك، فقال: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيََاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [146].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أن يصرفهم عن الآيات نفسها، ولا يعقل منها الإيمان، وإنما يعقل منها الأدلة، أو آيات الكتاب، أو الأمور الناقضة للعادة فى الأغلب، فلا يصح إذا تعلقهم بالظاهر، إلا أن يقولوا: إنه تعالى قد صرف المكلف عن الأدلة، وذلك يوجب الخروج من الدين، وليس يقول لأحد لأنهم وإن جوزوا التكليف مع عدم القدرة لم يجوزوه مع عدم الدلالة (1).
والمراد عندنا بالآية: أنه يصرف من المعلوم من حاله أنه لا يؤمن عند (2)
__________
(1) انظر الفقرة: 291.
(2) ف: عن.(1/368)
زيادات المعجزات التى يظهرها على الأنبياء عليهم السلام، بعد ما أقام الحجة بالمعجز الأول، وأزاح العلة عما عداها لأن الغرض فى إظهارها أن يعلم من حال من يشاهدها أنه لا يؤمن عندها، «ولولاها كان (1) لا يؤمن، فإذا كان المعلوم من حاله أنه لا يؤمن على كل حال لم يكن لإظهارها (2) معنى، ولا لمشاهدته لها وجه، فيصرفه عنها بأن لا يظهرها، أو بأن يظهرها بحيث يشاهدها غيره ممن ينتفع بها ولا يشاهدها هو لحاجز أو لضرب من التشاغل. ولهذا قال تعالى بعده: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لََا يُؤْمِنُوا بِهََا} (3) فنبه على أنه إنما صرفهم عنها لتكبرهم، ولأن المعلوم أنهم لا يؤمنون عند شيء منها، وهذا تصريح بما ذكرناه، ومتى (4) حمل على هذا الوجه كان حملا له على ظاهره.
وقد يجوز أن يحمل ذلك على أنه يصرفهم (5) عما يستحقه من تمسك بالآيات، من العز والكرامة والرفعة لأنهم إذا تكبروا فى الأرض بغير الحق، فلا بد من أن يصرفهم عن ذلك، ويكون صرفه لهم فى ذلك كالموجب عن تكبرهم، ولذلك قال فى آخر الآية: {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا وَكََانُوا عَنْهََا غََافِلِينَ}.
وقد قيل: إن المراد أنه يصرفهم عن الآيات (6) بالهلاك والاستئصال، لأن ذلك أحد وجوه صرفهم عن الآيات، وكل ذلك يبطل ما تعلقوا به.
ولو كان تعالى يصرف عن الأدلة وعن الإيمان بخلق الكفر، كان لا يجوز أن يذم الكافر على كفره، ويخبر بأنه يفعل ذلك به لتكبره، ولأنه كذب، وكان لا يصح تعليق صرفه عن (7) الآيات بمن كذب وتكبر، لأنه
__________
(1) ف: ولو كان.
(2) د: لإظهاره.
(3) من تتمة الآية السابقة: 146، وبعده {[وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لََا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا وَكََانُوا عَنْهََا غََافِلِينَ]}.
(4) فى النسختين. ومن.
(5) فى د: أن يصرفه.
(6) وبعده فى د زيادة: وكل ذلك يبطل.
(7) ف: فى.(1/369)
على قولهم قد صرف عنها من لم يكذب ولم يتكبر، ممن يبتدئ بالكفر ويرتد بعد إيمان، وهذا ظاهر.
264 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يأمر بما ليس فى الطاقة، فقال تعالى {فَلَمََّا عَتَوْا عَنْ مََا نُهُوا عَنْهُ قُلْنََا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خََاسِئِينَ} [166].
والجواب عن ذلك: أن لفظة الأمر قد تنصرف على وجوه، وإنما تكون أمرا متى أراد الآمر «ما تناوله من الأمور (1) وليس فى الناس من يقول إنه تعالى يأمر المكلف بأن ينقلب من حال إلى حال فى الخلقة، فالتعلق بظاهر ذلك لا يصح!
والمراد به أنه تعالى جعلهم قردة خاسئين بأن أراد ذلك فكان (2)، فأجرى عليه هذا القول على طريقة اللغة، كما يقول القائل: قلت للقلم اكتب فكتب، إذا استجاب له فيما أراده. وكقوله:
وقالت له العينان سمعا (3) وطاعة.
وكقوله تعالى فى السموات والأرضين: {قََالَتََا أَتَيْنََا طََائِعِينَ} (4).
وقد بينا أنه تعالى لا يحتاج فى إيجاد ما يفعله إلى أن يقول له: كن، بما فيه مقنع (5)، وإن دل ذلك على تكليف ما لا يطاق ليدلن على تكليف العاجز والجماد والمعدوم، وذلك مما لا يرتكبه القوم إلا من فاجر (6) وتهتك، فقال: إنه تعالى مكلم للكل بقوله لهم: كونوا، وأن ذلك بمنزلة الأمر، وذلك سخف من قائله، ولا وجه للتشاغل به.
__________
(1) د: تناوله من المأمور.
(2) ساقطة من د.
(3) انظر الفقرة: 51.
(4) من الآية 11فى سورة فصلت.
(5) انظر الفقرة: 51.
(6): ف تأخر.(1/370)
265 - دلالة: وقوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وََاقِعٌ بِهِمْ: خُذُوا مََا آتَيْنََاكُمْ بِقُوَّةٍ} [171] يدل على أن (1)
المكلف قوّى على الأخذ والترك قبل أن يفعل أحدهما، بالقوة التى أعطاه الله تعالى.
266 - وقوله تعالى من بعد فى قصة موسى: {فَخُذْهََا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهََا} (2) يدل على ذلك أيضا، والأخذ إذا أمر الله تعالى به يدل على أن العبد قادر فاعل لأن من ليس كذلك لا يصح أن يأخذ (3) ويترك، وهو فى بابه بمنزلة الإيثار والاختيار الدالين على قدرة من أمر بهما.
267 - مسألة: قالوا: ثم ذكر (5) تعالى بعده ما يدل على أنه يجوز أن يأخذ المواثيق على المعدوم، وعلى من لا يذكر العهد الميثاق، ثم يؤاخذه بذلك، فقال:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قََالُوا بَلى ََ شَهِدْنََا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيََامَةِ إِنََّا كُنََّا عَنْ هََذََا غََافِلِينَ} [172].
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام بخلاف ما يتعلق به الحشوية لأنهم يزعمون أنه تعالى أخذ الميثاق على كل أولاد آدم وهم بمنزلة الذر فى ظهره، وهذا بخلاف الظاهر، لأنه قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}
__________
(1) فى الأصل: أنه.
(2) من الآية: 145فى سورة الأعراف، والضمير يعود على الالواح.
(3) ساقطة من د.
(5) ساقطة من د.(1/371)
وذلك يقتضى أن المراد هم بنو آدم، وهذا الاسم لا يقع على الأجزاء المركبة فى ظهر آدم، ويقتضى أن المراد به ظهورهم، يعنى: ظهور بنى آدم التى خرج منها ذريتهم، وذلك بخلاف ما قالوه، ولأنه لو كان كل ولد آدم فى ظهره لوجب أن يكون ظهره فى العظم بالحد الذى قد علمنا خلافه، ولأنه تعالى قد بين أنه يخلق الإنسان من نطفة، وأقل ما يخلق منه ما يقع هذا الاسم عليه، وقد علمنا أن ظهر آدم لم يشتمل على القدر الذى يخلق منه سائر أولاده.
وبعد، فإن الأجزاء إذا كانت غير حية لم يصح أخذ الميثاق عليها ولا إشهادها على أنفسها، فكيف يصح التعلق بما ذكره؟
وبعد، فإنه تعالى ذكر فى آخر الآية ما يدل على أن المراد بالآية الكفار لأن المؤمنين لا يجوز أن يقولوا: {إِنََّا كُنََّا عَنْ هََذََا غََافِلِينَ} لأن من غفل عن أنه تعالى ربه ومالكه لا يكون مؤمنا. وكل ذلك يمنع مما يذكرون من الجهالة.
والمراد بالآية: أنه تعالى أخذ فى الحقيقة الميثاق على طائفة من ذرية آدم الخارجين من ظهور بنى آدم المخلوقين من أصلابهم، بأن أرسل إليهم الرسل وعرفهم ذلك من قبلهم بالحجج، ثم بين أنهم خالفوا وتركوا التمسك بذلك، وأنهم يوم القيامة يعتذرون بالغفلة!
ومتى حمل على هذا الوجه طابق الظاهر ووافق ما يقتضيه العقل من أن الغرض بأخذ العهد والميثاق أن يتذكره من يؤخذ ان عليه، ليكون ذلك حجة عليه إذا عذب وأخذ بذنبه، وذلك لا يصح إلا فى العاقل المميز المتذكر للخطاب.(1/372)
ولو كان الأمر كما قالوا من أنه تعالى قد أخذ العهد على كل ولد آدم عند كونهم فى ظهره لوجب أن يذكروا (1) ذلك على بعض الوجوه، لأن من حق العاقل أن يذكر بعض أحواله المتقدمة، فى حال كمال عقله وإن تطاول بينهما الزمان، إلا أن يقولون: إنه تعالى أخذ الميثاق والعهد عليهم ولما يحيهم.
وقد بينا أن ذلك عبث!.
268 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه إذا هدى قوما فلا بد من أن يهتدوا، وذلك يدل على أن الهدى ليس هو الدلالة وأنه الإيمان، فقال: {مَنْ يَهْدِ اللََّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ}
[178].
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا وجوه القول فى الهدى والضلال، وأنه لا يصح التعلق بظاهرهما (2).
والمراد بهذه الآية: من يهد الله بالإثابة أو بالأخذ به إلى طريق الجنة فهو المهتد لأنه الناجى الفائز، ومن يضلل عن الثواب بالعقوبة فهو الخاسر.
وإن حمل على أن المراد به الدلالة صلح، فكأنه قال: من يهد الله فاهتدى وتمسك بذلك فهو المهتدى، ومن يضلل، بمعنى: يعاقب، أو يذهب عن زيادة الهدى لكفره المتقدم، فهو الخاسر.
__________
(1) فى النسختين: يذكر.
(2) انظر الفقرة: 22.(1/373)
269 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه خلق الكفار لجهنم وللكفر، وأنه أراد بهم ذلك ومنهم: فقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنََا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [179] ثم حقق ذلك بقوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لََا يَفْقَهُونَ بِهََا} (1) فبين أنه جعلهم بحيث لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون!
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه خلقهم وأراد بهم جهنم لأنه المراد المذكور فى الكلام: وقد علمنا أن ذلك لا يدل على أنه أراد الكفر وسائر ما يستوجب به جهنم، فظاهره لا يدل على ما قالوه.
فإن قال: إذا أراد بهم جهنم فلا بد أن يريد ما يؤدى إليها، فذلك غلط لأنه تعالى يريد العقاب عندنا وإن لم يرد ما يستحق به، كما قد يريد من الغير التوبة وإن لم يرد ما لأجله تجب التوبة من المعاصى. وقد يريد الإمام إقامة الحجة على السارق والزانى وإن لم يرد السرقة والزنا، فلا يمتنع من أن يريد تعالى بهم العقوبة، بشريطه أن يكفروا! بعد إقامة الحجة وإزاحة العلة. فمن أين بظاهره أن المراد به أنه يريد منهم الكفر؟.
ويخالف ذلك ما قلناه من أن قوله تعالى: {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ} (2) يدل على إرادته العبادة من جميعهم، لأن هناك دخلت اللام على نفس ما ادعيناه مرادا له، وفى هذه الآية دخلت على أمر سوى ما زعم المخالف أنه أراده.
ويبين ما نقوله فى ذلك أن قوله تعالى: {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ}
__________
(1) من تتمة الآية: 179.
(2) سورة الذاريات، الآية: 56.(1/374)
لا بد معه أن يقدر فيه حذف ليستقيم الكلام، وهو:
وما خلقت الجن والإنس (1) وما أمرتهم بالطاعة وكلفتهم {إِلََّا لِيَعْبُدُونِ}
لأن بنفس الخلق لا يصح تكليف العبادة. ومتى قرر ذلك حسن أن يعلق به {لِيَعْبُدُونِ}، فإذا قرر مثله فيما ذكروه لم يصح لأنه لو قال تعالى: ولقد ذرأنا الخلق وأمرناهم بمجانبة الكفر وزجرناهم عنه لجهنم لتناقض القول لأن ما تقدم يقتضى «أنه خلقهم (2) لا لجهنم، والثانى يقتضى أنه خلقهم لها، وهذا فى التناقض كما ترى!
فيجب أن يحمل الكلام على أن المراد به العاقبة، فكأنه قال: ولقد ذرأناهم والمعلوم أن مصيرهم وعاقبه حالهم «دخول جهنم (3) لسوء اختيارهم، وهذا كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} من حيث كان ذلك هو العاقبة وإن كانوا إنما التقطوه ليفرحوا به ويسروا، وهذا ظاهر فى اللغة والشعر (4).
270 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يستدرج العبد إلى المضار بالكفر، من حيث لا يعلم، وأنه يمد له فى العمر لذلك، فقال:
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لََا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [183182].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه يستدرج من كذب بآياته، ولم يذكر ما يستدرجه إليه، فلا يصح التعلق به فى أمر مخصوص! ولا ننكر أنه
__________
(1) ساقط من د.
(2) ساقط من ف.
(3) ساقط من د.
(4) انظر الفقرة: 233.(1/375)
تعالى يستدرج الكفار بأن يحل بهم النقمات وينزل بهم العذاب (1) والعقوبات من حيث لا يشعرون، لأنهم استحقوه على كفرهم، ولا ننكر أن يمد لهم فى العمر، وإن كان لا يريد منهم إلا الطاعة، دون ما يعلم من حالهم أنهم يختارونه (2).
وإنما وصف نفسه بالكيد وإن كان يستحيل ذلك عليه لما كان ما يفعله بهم يقع على وجه لا يشعرون [به] ولا يجدون عنه مذهبا، فسماه من هذا الوجه كيدا.
271 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يضل عن الإيمان والحق، وأنه يدع العاصى فى العمه والطغيان فلا يخلصه منهما، فقال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَلََا هََادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
[186].
والجواب عن ذلك قد تقدم، لأنا قد بينا أن الضلال «قد يكون (3)
على وجوه (4) فمما يليق بهذا الموضع: الإضلال بمعنى العقوبة، وبمعنى الذهاب بهم عن طريق الجنة لأن من جعله الله كذلك فلا هادى له لأن أحدنا لا يقدر على استنقاذه، وليس فى الآية أنه تعالى فعل ذلك، وإنما فيه أن من أضله فلا هادى له، وقد يصح هذا الكلام وإن كان ذلك مما لا يقع البتة.
وقوله: {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ظاهره أنه لا يستنقذهم مما ينزل بهم، وهذا صحيح، لأنه لا يجب عليه تعالى إزالة العقوبات عن المستحق لها، ولا يجب عليه أيضا إخراج الكافر من كفره ومعصيته على جهة القسر،
__________
(1) د: العداوات.
(2) انظر المغنى: 11/ 159فما بعدها.
(3) ساقط من ف.
(4) انظر الفقرة: 22.(1/376)
وإنما يجب أن يمكنه من تخليص نفسه وإزالة العقاب بالتوبة ما دام التكليف قائما.
272 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن العبد لا يقدر من أمره على شيء، فقال تعالى: {قُلْ لََا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلََا ضَرًّا إِلََّا مََا شََاءَ اللََّهُ} [188]
والواجب عن ذلك: أن ظاهر الآية يدل على أن العبد يملك لنفسه من الضر والنفع ما شاء الله أن يملكه، ولو كان كما قالوا لم يصح دخول الاستثناء فى الكلام!
وبعد، فإن إطلاق الضر والنفع يفيد ما ينزل بالإنسان من الرخاء والشدة، إلى غير ذلك مما لا يتصل باختياره، وهذا مما لا يملكه العبد، بل يتعلق بمشيئته [تعالى].
وبعد، فلا يمتنع فى نفس فعل العبد أن يقال: إنه لا يملك الضر والنفع إلا ما شاء: من حيث كان تعالى الممكن له فيه بالقدرة وغيرها، والقادر على منعه منه، والمعين له عليه إذا كان طاعة، فقد يجوز من هذا الوجه أن يقال: إنه لا يملك لنفسه منه الضر والنفع، ويراد به أنه لا يصح أن يستبد بذلك على وجه يستغنى فيه عن تفضله تعالى وإحسانه.
ثم يقال للقوم: إن كان الكلام على ظاهره فيجب أن لا يملك الرسول عليه السلام لنفسه التوصل إلى الثواب بالطاعات، والتخلص من العقاب باجتناب المعاصى، ولو كان كذلك لم يكن له مزية فى الفضل والرفعة، ولزال عنه المدح والذم، ولما صح منه تعالى أن يؤنبه على [بعض] الأمور، ويتوعده إن هو أقدم على الشرك وغيره، وهذا ظاهر الفساد.(1/377)
273 - مسألة قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن الكفر والشرك يجوز وقوعهما من الأنبياء عليهم السلام فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهََا زَوْجَهََا لِيَسْكُنَ إِلَيْهََا، فَلَمََّا تَغَشََّاهََا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمََّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللََّهَ رَبَّهُمََا لَئِنْ آتَيْتَنََا صََالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشََّاكِرِينَ فَلَمََّا آتََاهُمََا صََالِحاً جَعَلََا لَهُ شُرَكََاءَ فِيمََا آتََاهُمََا} [190189]
ولم يتقدم إلا ذكر آدم وحواء، فيجب أن يكون الشرك مضافا إليهما، وهو الذى قلناه (1).
والجواب عن ذلك: [أنه] كما تقدم ذكر آدم فقد تقدم ذكر من خلق منه بقوله: (2) {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ} لأن ذلك عبارة عن ولده، وقد تقدم أيضا ذكر ولد آدم بقوله: {فَلَمََّا آتََاهُمََا صََالِحاً} لأن المذكور بذلك غيرهما، «فلم صار (3) قوله {جَعَلََا لَهُ شُرَكََاءَ} بأن يرجع إليهما أولى من أن يرجع إلى ولدهما؟
فإن قال: لأنه تعالى أجرى الكلام على التثنية، والذى تقدم ذكره على هذا الحد هو آدم وحواء لأن ذكر ولده إنما جرى على الجمع والواحد.
قيل له: لم صرت بأن تستدل بهذا الوجه على أن الكلام يرجع إليهما بأولى منا بأن نستدل بقوله تعالى فى آخر الكلام: {فَتَعََالَى اللََّهُ عَمََّا يُشْرِكُونَ} على أن الكلام رجع إلى الجمع المذكور متقدما.
وبعد، فإذا تقدم ذكر أمرين ودل الدليل فى أحدهما على امتناع الحكم عليه، فالواجب أن يرد ذلك الحكم إلى المذكور الآخر باضطرار، وقد علم أن
__________
(1) انظر الفقرة: 251.
(2) في د: يقول له.
(3) في د: فلما صار.(1/378)
آدم لا يجوز أن يكون قد أشرك فى الحقيقة، وكذلك حواء، فإذا علم نفى ذلك عنهما لم يبق إلا رجوع الكلام إلى المذكور الآخر.
فإن قال: إن من حق الضمير أن يرد إلى المذكور المصرح فيجب أن يرد ذلك إليهما!
قيل له: لا فرق بين أن يكون الذكر قد تقدم على حد الجملة أو التفصيل أو الإضمار أو الاظهار، فى أن الكلام الثانى قد يجوز رجوعه إلى أحدهما، خصوصا إذا ثبت ذلك بالدليل، فلا وجه للمنع مما ذكرناه.
واعلم أن تقدير الكلام: أنه خلق كل نفس منكم من نفس واحدة:
الذكر والأنثى، وجعل منها زوجها من النفس الواحدة، ثم ساق الكلام فى وصف آدم وحواء، وبين أنهما دعوا الله أن يرزقهما ذرية صالحة، أو ولدا صالحا، وأراد بذلك الجنس دون ولد واحد، فقال تعالى: {فَلَمََّا آتََاهُمََا صََالِحاً} (1) يعنى فلما: أجابهما إلى ما طلبا فرزقهما الولد الصالح المشتمل على الذكر والأنثى {جَعَلََا لَهُ شُرَكََاءَ فِيمََا آتََاهُمََا} يعنى: الولد الذى رزقهما دونهما.
ومتى قدر الكلام على هذا الوجه (2) استقام أيضا فيه الجمع، فيصح تعلق قوله تعالى: {فَتَعََالَى اللََّهُ عَمََّا يُشْرِكُونَ} بذلك، لانه إذا أريد به الذكر والأنثى من الأنفس المخلوقة من النفس الواحدة صلح رد الكلام إليهما بذكر التثنية، وإذا أريد به الأنفس المخلوقة التى هى جمع صلح وصفها بالجمع.
فإن قال: إذا كانا طلبا منه تعالى الولد الصالح، فكيف يجوز أن يقول:
{فَلَمََّا آتََاهُمََا صََالِحاً} فبين أنه أجابهما ثم، يصف الولد الصالح بأنه أشرك مع الله غيره؟
قيل له: إنه أراد بقولهما: {لَئِنْ آتَيْتَنََا صََالِحاً} ولدا صالحا: صحيحا، قوى
__________
(1) تتمة الآية السابقة: 190.
(2) د: الكلام.(1/379)
الخلقة، سليم الأعضاء، لكى يسرا به ويفرحا، ويكون عونا لهما على الأمور وذلك لا ينافى أن يكون مشركا، أو يكون منهم من يشرك!
وبعد، فلو ثبت أنهما أرادا الصلاح فى الدين لا فى الجسم، فلا يمتنع أن يأتيهما بالولد الصالح ثم يقع منه من بعد الشرك، لان ذلك لا يتنافى (3) فى حالين وكل ذلك ظاهر فيما حملنا الآية عليه، والحمد لله.
__________
(3) فى د: لا يتأنى وفى الأمالى: أنه تعالى «لو أراد الصلاح فى الدين لكان الكلام أيضا مستقيما لأن الصالح فى الدين قد يجوز أن يكفر بعد صلاحه، فيكون فى حال صالحا، وفى آخر مشركا، وهذا لا يتنافى» وانظر فيه أيضا المزيد من وجوه التأويل فى الآية، وبخاصة تأويل أبى مسلم الأصفهانى، مع الشواهد التى ذكرها المرتضى فى جواز الانتقال من خطاب إلى غيره، ومن كناية عن مذكور إلى مذكور غيره، ليصحح بذلك ما تابع فيه القاضى هنا من القول بالانتقال من الكناية عن آدم وحواء إلى ولدهما 2/ 235231.(1/380)
ومن سورة الانفال
274 - دلالة: وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذََا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيََاتُهُ زََادَتْهُمْ إِيمََاناً وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلََاةَ وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولََئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [42].
يدل على أشياء:
منها: أن وصف المؤمن (1) بذلك يقع على طريق التعظيم فى الشرع لأنه لو جرى على طريقة اللغة لم يصح أن يجعل تعالى المؤمن هو الذى يفعل ما ليس بتصديق، كما لا يجوز أن يجعل الضارب هو «من يفعل (2) ما ليس بضرب.
ومنها: أن الإيمان ليس هو القول باللسان أو اعتقاد القلب، على ما ذهب المخالف إليه، ولكنه كل واجب وطاعة، لأنه تعالى ذكر فى صفة المؤمن ما يختص بالقلب وما يختص بالجوارح لما اشترك الكل فى أنه من الطاعات والفرائض (3).
ومنها: أنه يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، على ما نقوله، لأنه إذا كان عبارة عن هذه الأمور التى يختلف التعبد فيها على المكلفين، فيكون اللازم
__________
(1) د: أولئك.
(2) د: الذى.
(3) فى شرح الأصول أن الإيمان عند أبى على وأبى هاشم: عبارة عن أداء الطاعات:
الفرائض دون النوافل، واجتناب المقبّحات. وعند أبى الهذيل: عبارة عن أداء الطاعات، الفرائض منها والنوافل، واجتناب المقبّحات. قال معلق شرح الأصول: وهو الصحيح من المذاهب، والذى اختاره قاضى القضاة. انظر شرح الأصول الخمسة، ص: 707. وانظر فيه رأى المخالفين: ص: 708فما بعدها. وارجع إلى التعليق على الفقرة: 93.(1/381)
لبعضهم أكثر مما يلزم الغير، فتجب صحة الزيادة والنقصان، وإنما كان يمتنع ذلك لو كان الإيمان خصلة واحدة، وهو القول باللسان، أو اعتقادات مخصوصة بالقلب.
ومنها: أنه يدل على أن الرزق هو الجلال لأنه تعالى جعل (1) من صفات المؤمن، ومن جملة ما يمدح عليه أن ينفق مما يرزق، ولو كان ما (2) ليس بحلال يكون رزقا لم يصح ذلك!
ومنها: أن الواجب على من سمع ذكر الله تعالى والقرآن أن يتدبر معناه، وهذا هو الغرض فيه، لأن وجل القلب والخوف والخشية لا يكون بأن يسمع الكلام فقط، من غير تدبر معناه، وإنما (3) يقع بالتدبر والتفكر، فيجب أن يلزم الأمر الذى معه يصح وجل القلب والخوف والخشية. ويدل ذلك على وجوب النظر والتدبر فى الأمور والأدلة (4)، لأنه يقتضى ما ذكرناه من الوجل والخشية.
وقوله تعالى: {وَإِذََا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيََاتُهُ زََادَتْهُمْ إِيمََاناً} يدل صريحه على أن الزيادة فى الإيمان تجوز.
ومنها: أنه يدل على أن التوكل على الله تعالى واجب، وأنه من صفات المؤمن، وذلك يقتضى الرجوع إليه تعالى فى طلب الرزق والمنافع، ودفع المضار، بالوجوه التى تحل، لأن هذا هو التوكل، دون ما يقوله الجهال من أنه العدول عن طريق المكاسب وإهمال النفس!
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ساقطة من د.
(3) د: والكل.
(4) ف: والدلالة.(1/382)
وما روى عنه صلّى الله عليه وسلم من قوله: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا (1)) يدل على أن السعى فى طريقة الكسب، من الوجوه التى «تجوز، هو (2) التوكل، وأنه قد يكون واجبا فى كثير من الأحوال، إذا كان من باب الدنيا، فأما من باب الدين فهو ألزم.
وإنما يكون العبد متوكلا على الله بأن لا يلتمس الرزق وغيره، إلا منه، ولا يجزع إذا لم يعط، ولا يعدل فى طلبه إلى جهات الحرام.
ومنها: أن قوله تعالى: {(وَإِذََا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيََاتُهُ زََادَتْهُمْ إِيمََاناً)} يدل على أن اللازم لمن تتلى عليه الآيات أن يتفكر فيها فيعرف ما تضمنها من وجوب فيقدم عليه، ومن قبيح فيفارقه.
وفيه دلالة على ما نقوله من أنه قد يقع للإنسان زيادة الهدى والبصائر إذا تدبر الآيات حالا بعد حال.
ومنها: أن الاسم الشرعى لا يكون مشتقا لأن وصف المؤمن بأنه مؤمن إذا ثبت بأفعال مختلفة، ولا يصح فى مجموعها أن يقع الاشتقاق منها، علم أن المختص بها إنما وصف بذلك على طريقة الشرع لا على جهة الاشتقاق من الإيمان.
__________
(1) أخرجه الترمذى من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه، بلفظ: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله الحديث) وقال فيه: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
صحيح الترمذى بشرح ابن العربى: 9/ 208207، ونقله ابن حجر بلفظ:
(لو توكلتم على الله حق توكله) وقال فيه: أخرجه الترمذى والحاكم وصححاه. فتح البارى: 11/ 256.
(2) ف: تحل من.(1/383)
فإن قال: كيف يجوز أن يصير مؤمنا حقا بما ذكر فى «الآيات وفى (1)
العبادات الواجبة ما لم يجئ له الذكر فيها، والإخلال بها يخرجه من أن يكون مؤمنا؟
قيل له: إذا صح بالدلالة فى بعض العبادات ما قلته صار كالمنطوق به فى الآية لأنه لا فرق بين ما يقتضيه الدليل مما يجب (2) كونه شرطا فى الآية أو مضموما إلى المذكور وبين المنطوق «به هنا (3).
ولا يمتنع أن يقال: إن قوله: {وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} يتضمن القيام بالعبادات لأن من توكل عليه فى التماس الجنة فلا بد من أن يفعل ما به يستحقها، كما أن من توكل عليه فى طلب الرزق فلا بد من أن يفعل ما يلتمس به، وأكد تعالى ذلك بأن ذكر (4) إقامة الصلاة والإدامة على فعلها حالا بعد حال، فنبه بذلك على ما عداه من أفعال الجوارح.
ولا يمتنع دخول جميع الواجبات المتعلقة بالأموال تحت (5) قوله: {وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ} لأن ذلك إنفاق من المال الذى رزقوه فى الوجه الذى تعبّدوا به.
وفى الآية دلالة على أنه لا يجوز أن يكون مؤمنا إلا وهو يستحق الدرجات عند ربه والمغفرة، وذلك بخلاف ما يقوله المرجئة من أن فى المؤمنين من يجوز أن يكون من أهل النار أبد الآبدين، ومنهم من لا يستحق إلا العقاب، وإن جاز أن يعفو عنه تعالى لأنه جل وعز يقول: {لَهُمْ دَرَجََاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وقد بين أنهم يستحقون ذلك، وعمّ ولم يخص.
__________
(1) فى د: الآية ولى.
(2) د: يوجب.
(3) د: هكذا.
(4) ساقطة من د.
(5) ف: نحو.(1/384)
275 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن الظفر الحاصل المؤمن من فعله تعالى، فقال: {وَمَا النَّصْرُ إِلََّا مِنْ عِنْدِ اللََّهِ} [10].
والجواب عن ذلك قد تقدم من قبل، لأنا قد بينا وجوه (1) النصر، وأنه الظفر بالمطلوب الذى يقتضى التأثير فى العدو (2)، ويكون ذلك بالحجة والتعظيم والرفعة، وقد يكون بالغلبة فى الحرب بالوجوه التى تقتضى ذلك من إلقاء الرعب فى نفس العدو، ومن تثبيت قدم المؤمنين، إما لأمر يرجع إلى ربط قلبه وإلى تقويته بالخواطر وغيرها، أو لأمر يرجع إلى صلابة المستقرّ، وقد يكون بالإمداد بالملائكة، وقد يكون بعوارض تقتضى اعتقاد العدو كثرة المؤمنين، واعتقاد المؤمن قلة عدد العدو، وكل ذلك منه تعالى لا ينافى أن يكون العبد فاعلا متصرفا فى الحرب.
وقوله تعالى من بعد: {وَلِيَرْبِطَ عَلى ََ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدََامَ} (3) يشهد لما ذكرناه بالصحة، لأنه تعالى إنما ينصر بهذه الوجوه التى منها ربط القلب وشدّه، إما بما يحدثه من الخواطر والتنبيه على ما أعد للصابر، أو بذكر وعده بالظفر. وتثبيت القدم قد تكون على الوجهين الذين ذكرناهما.
وقد قيل: إنه تعالى أمطر لهم السماء يوم بدر فصليت لهم الأرض الرخوة الرملة، فاقتضى ذلك فيهم تثبيت القدم، وكثرة المطر للعدو وكثرة الوحل، فأوجب ذلك ضررا فيهم.
276 - مسألة: وقوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا لَقِيتُمُ}
__________
(1) فى د: أن وجوه.
(2) انظر الفقرتين: 98، 171.
(3) من الآية: 11.(1/385)
{الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلََا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبََارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلََّا مُتَحَرِّفاً لِقِتََالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى ََ فِئَةٍ فَقَدْ بََاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللََّهِ وَمَأْوََاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [1615] يدل على ثبوت الوعيد فى فسّاق أهل الصلاة، لأن المعلوم أن الذى يلقى الكفار بالمحاربة لا يكون إلا من المصدقين بالرسول صلّى الله عليه وسلم، وقد أزال الله تعالى الشبهة فى ذلك بقوله:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وبين أن من يولهم دبره بالهزيمة فقد استحق النار والغضب، وبين أن من ولاهم دبره متحرفا لقتال عادلا من جهة إلى جهة، لظنه بأنه أقرب إلى الظفر فذلك مباح، وكذلك من ولاهم دبره متحيزا إلى فئة مقويا لها ومتقويا بها، ليكون إلى الظفر أقرب، لا يكون منهزما.
وبين تعالى أنه إذا ولّى القوم الدبر لا على هذا الوجه أن الوعيد لا حق بهم.
وقوله: {وَمَأْوََاهُ جَهَنَّمُ} دلالة على أن كونه فى النار مؤبد لأنه لو كان فيها أوقاتا ثم يكون فى الجنة لم يجز أن يطلق القول بأن مأواه جهنم، فيجعل مأواه ما ينقطع ولا يجعل مأواه ما يدوم كونه فيها.
وقوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} يدل على أن مصير أمره لا يكون إلى دخول الجنة لأنه لو كان كذلك لم يصح هذا الإطلاق.
277 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه الفاعل لتصرف العبد وكسبه، فقال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلََكِنَّ اللََّهَ قَتَلَهُمْ، وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ} [17] فأضاف قتلهم ورميهم إلى نفسه.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام يقتضى أنه تعالى هو الذى قتل
الكفار دون المؤمنين، وذلك يوجب فى كل قتل أن يكون تعالى فعله، وأن يوصف بأنه قتل الأنبياء والصالحين!(1/386)
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام يقتضى أنه تعالى هو الذى قتل
الكفار دون المؤمنين، وذلك يوجب فى كل قتل أن يكون تعالى فعله، وأن يوصف بأنه قتل الأنبياء والصالحين!
ويلزمهم أن تكون الأسماء المشتقة من هذه الأفعال لله تعالى دون العبد، وهذا مما لا يبلغه مسلم لأن القوم إن أضافوا الفعل إلى الله، فمن قولهم إن الظالم القاتل المجبر هو العبد، دونه، لعلل باطلة يذكرونها فى ذلك! والآية تنقض هذا القول منهم، فتعلقهم بظاهرها لا يمكن.
ويجب بالآية أن لا يجوز وصف العبد بأنه قتل وهو قاتل، وهذا مما لا يقول به أحد، ويوجب أن يكون تعالى هو الموصوف بأنه رمى من الرمى الواقع من العبد.
وفى ذلك ما قدمناه من وجوب وصفه تعالى بكل اسم مشتق من فعل العبد!
وبعد، فإن حمله على ظاهره يوجب التناقض لأنه تعالى أثبت الرمى له بقوله: {إِذْ رَمَيْتَ} ثم نفاه عنه بقوله: {وَمََا رَمَيْتَ}، {وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ}، فلا بد من تأويله على خلاف الظاهر، ومتى وجب الدخول فى التأويل بطل التعلق لهم بالظاهر!
والمراد بالآية: أنه تعالى بين للمؤمنين أن ما فعلوه من قتل الكفار، لم يكن على جهة الاستبداد منهم وبحولهم وقوتهم، وأنهم وصلوا إليه بمعونته تعالى وألطافه لأنهم لو لم ينصرهم بالإمداد بالملائكة، والربط على القلب وتثبيت القدم، وإلقاء الرعب فى قلوب الكفار لم يتم لهم من قتلهم ما تم، وقد بينا جواز إضافة الطاعة إليه تعالى إذا وقعت بتيسيره وألطافه ومعونته، فلا وجه لإعادة ذكره (1).
__________
(1) انظر الفقرة 42وانظر كذلك الفقرات 15، 29، 165.(1/387)
فأما قولى تعالى: {وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ} فقد يصح حمله على ما قلناه، لأنه بألطافه وتأييده تم له فى الرمى ما تم.
ويجوز أن يريد به (1): وما بلغت الرمى حيث بلغ إذ رميت، ولكن الله بلغه لأنه على ما روى تناول التراب والحصى فرمى به وجوه الكفار فقال:
(شاهت الوجوه) (2)، فوصل ذلك إلى عيونهم وأوهى قلبهم، وذلك منه تعالى
__________
(1) فى د. يريده.
(2) روى الطبراني بإسناد حسن عن حكيم بن حزام قال. (لما كان يوم بدر أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخذ كفا من الحصى، فاستقبلنا به فرمى بها، وقال. شاهت الوجوه، فانهزمنا، فأنزل الله عز وجل. {(وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ)}. وعن ابن عباس أن النبى صلّى الله عليه وسلم قال لعلى: ناولنى كفا من حصى، فناوله فرمى به وجوه القوم، فما بقى أحد من القوم إلا امتلات عيناه من الحصباء، فنزلت. {(وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ)} الآية. رواه الطبرانى ورجاله رجال الصحيح. انظر مجمع الزوائد للهيثمى.
6/ 84. وروى الطبرانى كذلك باسناد حسن من حديث طويل لأبى أيوب الأنصارى، فى غزوة بدر قال. (فأخذ رسول الله قبضة من التراب، فرمى بها في وجوه القوه فانهزموا) المصدر السابق 6/ 74. وقد ذكر الطبرى فى تفسير قوله تعالى {(وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)} عدة روايات في هذا المعنى. انظر الجامع 9/ 205وفي الصحاح أن هذه القصة وقعت في غزوة حنين، فقد أخرج مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، في انكشاف المسلمين أول غزوة حنين من حديث طويل قال. (فلما غشوا رسول الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم فقال.
شاهت الوجوه، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين) صحيح مسلم بشرح النووى. 12: 121/ 122. ولأحمد وأبى داود والترمذى، من حديث ابى عبد الرحمن الفهرى في قصة حنين، قال. فولى المسلمون مدبرين كما قال تعالى فقال رسول الله. أيا عباد الله أنا عبد الله ورسوله ثم اقتحم عن فرسه فأخذ كفا من تراب قال.
فأخبرنى الذى كان أدنى إليه منى، أنه ضرب وجوههم وقال. شاهت الوجوه، فهزمهم).
فتح البارى. 8/ 2625. وعلى هذا تكون هذه الواقعة قد حدثت مرتين، وقد قال ابن كثير بعد أن ذكر طرفا من روايات الطبرى. (وقد روى في هذه القصة عن عروة ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة، أنها أى. آية {(وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)} نزلت فى رميته النبى صلّى الله عليه وسلم يوم بدر، وإن كان قد فعل ذلك يوم حنين أيضا) ابن كثير وبهامشه البغوى. 4: 31/ 32.(1/388)
وإن كان صلّى الله عليه وسلم ابتدأ الرمى.
ثم يقال للقوم: إن كان تعالى قتل ورمى فيجب أن لا يكون للمؤمنين فيه صنع ولا يستحقون المدح، وكان لا يصح التمدح بقوله تعالى: {لََا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقََاتَلَ} (1) لأن ذلك القتل والقتال من الله تعالى لا منهم. وهذا ظاهر الفساد.
وقوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلََاءً حَسَناً} (2) يدل على أن القتل والرمى فعلهم وأنه تعالى أضافهما إلى نفسه من الوجوه التى بيناها، فكأنه بين أنه لفضل ألطافه يبتلى المؤمنين وينعم عليهم ويحسن لأن كل ذلك من نعمه وأفضاله، ولو كان الأمر كما قالوا لم يصح أن يوصفوا بأن ما فعلوه من البلاء الحسن، وكل ذلك بين.
278 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه قد منع الكفار من الإيمان فقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللََّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لََا يَعْقِلُونَ، وَلَوْ عَلِمَ اللََّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [2322].
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أن الكلام لو كان على ظاهره لوجب أن يكون شر الدواب المجانين والبهائم لأنهم يختصون بهذه الصفة، خصوصا إذا كانوا صما بكما، وهذا مما لا يقول به أحد!
وبينا من قبل أنه تعالى يصف الكفار بذلك تشبيها بمن هذا حاله، من
__________
(1) سورة الحديد 10.
(2) من تتمة الآية 170.(1/389)
حيث حل محله فى أنه لا ينتفع بما يسمع ويبصر فيتفكر فيه، ويعقل (1)، وإن كان أهل اللغة إذا ذكروا البيان وأوضحوا الحجة فعدل المخاطب عن معرفته قالوا فيه: إنه بهيمة وهو حمار مطبوع على قلبه لا يعقل ولا يبصر رشده (2)، حتى إنهم يقولون فيه إذا تجاوز هذا الوصف هو ميت جماد، وقد قال أبو الهذيل (3) رحمه الله: إنهم لشدّة تمسكهم بالكفر صاروا كأنهم منعوا أنفسهم من الانتفاع بما يسمعون ويبصرون ويعقلون، فقيل فيهم ذلك، كما قيل فى المثل: حبك الشيء يعمى ويصم، من حيث يصرف عن طريقة الرشاد.
279 - وقوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللََّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ} من أقوى ما يدل على مذهبنا فى اللطف، لأنه بين تعالى أنه لو علم فيهم قبولا لأسمعهم ما اقترحوا من الآيات لأنهم اقترحوا ذلك، وقد أظهر الله المعجز فقال مبينا بأنه لو كان فى المعلوم أنهم يؤمنون عنده لأسمعهم، لكنه قد علم أنهم وإن سمعوه يتولون ويعرضون فلا يقبلون.
280 - وأما قوله تعالى من بعد: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} (4) فلا يصح أن يتعلق به المجبرة فى أنه تعالى يمنع من الإيمان لأن ظاهره يقتضى أنه يحول بين المرء وقلبه لا بينه وبين أفعال قلبه، ولأنه لو أراد الحيلولة فى الحقيقة لم يكن فيه فائدة لأن بيننا وبين القلب حائلا، ولذلك لا نراه كما لا نرى المستور المحجوب، فلا ظاهر للقوم!
__________
(1) انظر الفقرتين: 18، 259.
(2) ف: فى شدة.
(3) هو أبو الهذيل العلاف: محمد بن الهذيل بن عبيد الله بن مكحول العبدى، من شيوخ المعتزلة. أخذ الكلام عن عثمان الطويل صاحب واصل بن عطاء، وبرع فى الجدال وقطع الخصوم. وقيل إنه توفى فى أول أيام المتوكل سنة خمس وثلاثين ومائتين، عن مائة سنة.
انظر طبقات المعتزلة، ص 44أمالى المرتضى 1/ 178.
(4) من الآية 24، والآية بتمامها: {[يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلََّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذََا دَعََاكُمْ لِمََا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]}.(1/390)
والمراد بذلك: أن يحول بين المرء وقلبه بالإماتة فيخرج من أن يمكنه التلافى بالتوبة والندم، ورغب تعالى بذلك فى المبادرة إلى التوبة وتلافى المعصية، ويؤكد ذلك ما تقدمه من قوله: {اسْتَجِيبُوا لِلََّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذََا دَعََاكُمْ لِمََا يُحْيِيكُمْ} «فأمر بالمبادرة إلى طاعة الله ورسوله قبل حلول الموت الذى يفوت ذلك.
وقوله {لِمََا يُحْيِيكُمْ} (1) قد حمله أبو على رضى الله عنه على وجهين: أحدهما:
أن المراد به حال الثواب، لأنه يقتضى الإحياء الدائم.
والثانى: أنه أراد به المبالغة فى الجهاد لكيلا يقوى العدو فيقدم عليهم بالقتل، فيكون ذلك إحياء فى المعنى ويقارب قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصََاصِ حَيََاةٌ} (2).
281 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن ما يقع من العبد يقع بقضائه، فقال: {وَلََكِنْ لِيَقْضِيَ اللََّهُ أَمْراً كََانَ مَفْعُولًا} (3).
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أن الله يقضى (4) أمرا، وذلك الأمر كان مفعولا ولا ننكر أن يكون (5) كثير من الأمور هذا حاله، لأنه تعالى ذكر الأمر ولم يعرف، فلا يمكن التعلق بعمومه.
وظاهر الكلام أيضا يقتضى أنه بعد وقوع الأمر المفعول يقتضيه، وهذا لا يصح على قولهم إذا قالوا إن القضاء بمعنى الخلق لأنه لا يجوز أن يخلق ما قد تقدم كونه، فالظاهر يمنع مما قالوه.
وإذا حمل على معنى الاختيار والحكم والدلالة صح «لأن كل (6) ذلك
__________
(1) ساقط من د.
(2) من الآية: 179فى سورة البقرة.
(3) من الآية: 42.
(4) ساقطة من د.
(5) ساقطة من د.
(6) د: لأنه.(1/391)
لا يمتنع فيما (1) قد وقع، كما لا يمتنع فى الأمر والمستقبل.
وإنما أراد تعالى أن يبين للمؤمنين فى المقاتلة أن الأمر لا يتعلق بهم وبذاتهم، وأنه إنما قد يحصل ما قد علمه وقدره من الأمور.
282 - وقوله تعالى من بعد: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللََّهُ أَمْراً كََانَ مَفْعُولًا} [44] يبين ما قلناه، لأنه دل بذلك على أن الغرض بما يفعله إنما هو لكى يتم ما علم من المصالح فى الظفر بهم.
فإن قال من خالف فى الرؤية: إذا جاز أن يقلل الكثير فى العين الصحيحة فهلا جاز مع صحتها وارتفاع الموانع، أن نراه (2) جل وعز.
قيل له: إن الظاهر يقتضى أنه قلل (3) العدد فى أعين المؤمنين، وليس فيه أنه فعل ذلك من غير مانع، ومن قولنا إن ذلك يجوز للموانع، وإنما أنكرنا القول بأن المرئى لا نراه بالعين الصحيحة مع ارتفاع جميع الموانع.
فإن قال: وما تلك الموانع التى هى تمنع رؤية بعضهم دون بعض؟
قيل له: إن العبرة قد تقع (4) على وجه لا يشاهده الرجل من بعد، إلا بعض الناس دون بعض، فلا يمتنع أن يكون تعالى فعل ذلك أو غيره فقلوا فى أعينهم، وقل المؤمنون فى أعين القوم، ليكونوا أجرأ على الإقدام، فيتم قضاؤه تعالى فيهم، وهذا ظاهر بحمد الله.
283 - وقوله تعالى من بعد: {ذََلِكَ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللََّهَ}
__________
(1) فى ف: مما
(2) ف أن لا يراه.
(3) فى د: فعل.
(4) فى ف النسختين: ترتفع.(1/392)
{لَيْسَ بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ} [51] من أقوى ما يدل على أن المرء يؤخذ بذنبه، وأنه تعالى لا يخلق فيه المعصية، فنزه نفسه عن أن يكون ظالما، ولو كان هو الذى أدخله فى الذنب لوجب أن لا يكون ما فعل بهم بما قدمت أيديهم، وأن يكون (1)
ظلّاما حتى لا يستحق هذه المبالغة إلا هو، من حيث لا يقع الظلم إلا منه. وقد بينا من قبل ذلك مشروحا.
284 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه المؤلف للقلوب والموفق بينها، بأن جعل فيها الأمور التى تشترك فيه من الإيمان والولاية، فقال:
{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، لَوْ أَنْفَقْتَ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مََا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلََكِنَّ اللََّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (2).
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أنه تعالى هو الفاعل للنصر، والمؤيد له صلى الله عليه وسلم بالملائكة وغيرها (3). فأما ظاهر قوله: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}
فلا (4) يقتضى أنه فعل الإيمان وسائر ما يشتركون فيه لأنه لا شيء من ذلك إلا وقد يكون معه الألفة وتثبت عنده العداوة.
وبعد، فإن التأليف بين القلوب حقيقة أن ينضم بعضها إلى بعض. وذلك مما لا يصح أن يكون مرادا.
وبعد، فإن الظاهر يقتضى أنه ألف بين قلوبهم، والتأليف إنما يكون فيما يرجع إلى الفاعلين بينهم لا بين قلوبهم، ومتى ذكر القلب فى ذلك فهو مجاز!
والمراد بذلك: أنه تعالى أزال ما كان من العداوة بين الكفار (5) أو يقال
__________
(1) د: يكونوا.
(2) من الآيتين: 6362.
(3) انظر الفقرتين: 98، 122.
(4) ساقطة من ف.
(5) أى: بعد أن اختاروا الإسلام.(1/393)
إن المراد بذلك ما كان بين الأوس والخزرج فجمعهم الله على نصرته صلى الله عليه وسلم، بأن قوى دواعيهم فيه.
285 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه تعالى يجوز أن يخونه الإنسان، وذلك من صفات الأجسام، فكيف يصح القول بأنه لا يشبهها؟ فقال: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيََانَتَكَ فَقَدْ خََانُوا اللََّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [71]،
والجواب عن ذلك: أن الظاهر يقتضى أنه تعالى يجوز عليه المضار، لأن الخيانة لا تصح إلا على من ينال بمكروه ويتوصل إلى ذلك من حاله على جهة الاستدراج من حيث لا يشعر (1)، وليس ذلك بقول لأحد، فالتعلق بظاهره لا يصح.
ويجب أن يحمل على أن المراد به أنهم خانوا الرسل من قبل، فجعل خيانتهم للرسل خيانة له، كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللََّهَ} (2) إلى ما شاكله.
ولذلك صح فى هذا الكلام أن يكون تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم فكأنه، قال تعالى: تصبر عليهم، فإنهم وإن كانوا يريدون خيانتك فقد سبق من أمم الأنبياء والرسل (3) مثل ذلك، فأمكن منهم بالعقوبة العاجلة والآجلة.
__________
(1) فى د: يشعرون.
(2) قال تعالى فى سورة الأحزاب: {[إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللََّهُ فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذََاباً مُهِيناً]} 57.
(3) فى د: بالرسل.(1/394)
من سورة براءة
286 - دلالة: وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللََّهِ بِأَفْوََاهِهِمْ وَيَأْبَى اللََّهُ إِلََّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [32] يدل على أنه لا يجب أن يريد ما أراده العاصى من جهات:
منها: أنه تعالى بين أنه تعالى يأبى ذلك، والإباء هو الامتناع إذا كان متعلقا بفعله، والمنع إذا كان فى فعل غيره، ولا يجوز أن يكون مريدا للشيء وممتنعا منه أو مانعا لأن الإرادة قد تدعو إلى الفعل، فلا يجوز معها أن يمتنع منه، أو يقتضى فى الغير الترغيب فى الفعل، فلا يجوز معها أن يمنعه، فإذا خبر تعالى بأنه أبى ذلك فقد دل على أنه لم يرده (1).
فإن قال: إنما قال تعالى: إنه يأبى إلا أن يتم نوره، ولم يذكر أنه يأبى ما أرادوه من إطفاء النور، فلا يصح ما ذكرتم.
قيل له: إن الكلام لا بد من أن يحمل على ما قلناه، لكى يفيد، وذلك أنه لو لم يرد بقوله {وَيَأْبَى} ما تقدم ذكره من إطفاء النور لم يكن لقوله تعالى:
{إِلََّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} معنى، فكأنه ذكر أنه يأبى فى النور إلا تمامه، والإطفاء (2)
فيه غير الإتمام، فيجب دخوله تحت الإباء لا محالة!
ومنها: أنه لو كان يريد ما أرادوه لنفذت إرادته تعالى على قولهم لا محالة لأنه لا يجوز أن يريد أمرا من غيره فلا يكون عند القوم، ولو كان كذلك لم
__________
(1) فى النسختين: لم يرده ما أراده، ولعل الصواب كذلك: لم يرد ما أرادوه.
وانظر فيما مضى الفقرة: 28مع التعليق.
(2) ف: والإطغار.(1/395)
يصح وصفه بأنه يتم النور مع ذلك لأنه من حيث أراد (1) ما أرادوه يجب أن يقع منه إطفاء النور و (2) من حيث أتمه يجب وقوع الإتمام، وفى ذلك حدوث الضدين ووجودهما، وهذا محال!
ومنها: أنه تعالى قال عقيبه: {وَلَوْ كَرِهَ الْكََافِرُونَ} (3) فدل بذلك على أن ما أراده تعالى من إتمام النور كرهوه، ولو كان هو تعالى كارها من حيث كان المعلوم أنه يقع منهم خلافه، لم يكن «لقوله تعالى ذلك حاكيا عنهم معنى إذا كان حاله كحالهم فى كراهته! (4)
فإن قال: إن الغرض بالكلام أنهم أرادوا (5) التوصل إلى إبطال دينه وشريعة رسوله وظهور كلمة الحق، فأبى الله تعالى ذلك، وهذا مما لا يقع، فلا نقول إنه تعالى أراد ذلك.
قيل له: إن إقدامهم على ما أقدموا عليه ظنا منهم بأنه يؤدى إلى إطفاء النور، لا بد (6) من وقوعه، وقد ثبت بما ذكرناه أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدا له، فأما أن غرضهم يصلح أولا؟ فذلك لا يتعلق بإرادتهم فقط، فلا مدخل له فى هذا الكلام.
287 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يضل الكفار بأمور من قبله، فقال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيََادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عََاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عََاماً} [37].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أن النسيء زيادة فى الكفر، وأن
__________
(1) ساقطة من ف.
(2) ساقطة من د.
(3) تتمة الآية السابقة: 32.
(4) فى د: تعالى حاكيا ذلك عنهم معنى.
(5) فى د: إن أرادوا.
(6) فى د. لأنه.(1/396)
الذين كفروا يضلون به، وهذا مما لا نأباه، لأن الكفار قد يضلون غيرهم بكفرهم وبالزيادة فى كفرهم.
فإذا قرئ: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} فالكلام أبين، لأنه إنما يدل على أن الكفار يضلون به، من غير بيان إضافة الإضلال إلى غيرهم، فلا ظاهر للكلام يقتضى ما قالوه.
«والمراد بذلك ما كانوا يشتغلون به (1) فى باب الحج من تأخير شهر لشهر فى توالى السنين، وهو النسيء الذى جعله تعالى زيادة فى الكفر، وبين أن ذلك مما يضل به الكفار ويضلون به غيرهم، من حيث يحلونه عاما ويحرمونه عاما لأن إقدامهم على ذلك مع الرد على الرسول عليه السلام، من حيث كان يدعوهم إلى خلافه، كفر لا محالة لأنه لا يجوز أن يصفه تعالى بأنه زيادة فى الكفر، وليس بكفر، لأن الزيادة فى الشيء يجب أن تشاركه فى اسمه ومعناه، حتى تكون زيادة فيه، ولذلك لا يقال فى المباح والطاعة إنهما زيادة فى الكفر، ولا يقال فى المعصية التى ليست بكفر: «إنها زيادة فى الكفر، (2) وإنما يقال فيها: إنها زيادة فى معاصيه.
وهذه الآية تدل على أن فى أفعال الجوارح ما يكون كفرا، لأن النسيء على ما ذكرناه من أفعال الجوارح، وقد جعله تعالى كفرا، فإذا صح ذلك لم يمتنع فى تركه الواقع بالجوارح أن يكون إيمانا.
وقوله من بعد: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمََالِهِمْ} (3) فقد بينا القول فى مثله، وأنه لا ظاهر له (4).
__________
(1) فى د: «فالمراد بذلك أن ما كانوا يستعلون به.
(2) ساقط من ف.
(3) من تتمة الآية السابقة.
(4) انظر الفقرة 45، 71.(1/397)
والمراد بذلك: أن الكفار المضلين لهم، أو الشياطين، زينوا لهم سوء أعمالهم.
فإن قال: إن فى الكلام ما يدل على أنه إنما صار كفرا، من حيث أحلوا به ما حرم الله وحرموا ما أحل الله.
قيل له: إنه تعالى حكى أن ذلك صنيعهم، ولم يذكر أن النسيء إنما صار كفرا لأجله، فلا يجب من ذلك أن كل من حرم ما أحله الله أو أحل ما حرمه الله فهو كفر.
288 - وقوله تعالى فى آخر الآية: {وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكََافِرِينَ}
وقيل هذه الآية: {وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ} (1) {وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفََاسِقِينَ} (2) بعدها أيضا فى السورة (3) «لأنه تعالى كرر (4) فى مواضع لا يمكن أن يتعلق به المخالف، لأن المراد بذلك: «أنه لا يهديهم (5)
طريق الجنة ولا يثيبهم، ولذلك ذكره فى [غير] موضع فى هذه السورة عقيب كفرهم وظلمهم، مبينا بذلك أن الفوز والظفر والثواب لا يناله إلا المؤمن فقط.
وقد بينا أنه لا يجوز أن يريد به الدلالة والبيان وسائر ما يجب أن يعم به المكلف، فلا وجه لإعادته.
وبعد، فإنه ذكر (6) تعالى ذلك فى هذه الآيات عقيب وصف كفرهم
__________
(1) من الآية 19.
(2) من الآية. 24.
(3) فى السورة بعد ذلك قوله تعالى. {[وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ]} من الآية 109.
(4) فى د. الآية، فكرر.
(5) فى د. لأنه لا يهدى.
(6) فى د: فان ذكره.(1/398)
وسوء اختيارهم، فلا يجوز أن يراد به نفس الكفر والصرف عن الإيمان، على ما يذهبون إليه!
289 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه جعل كلمة الذين كفروا السفلى، كما جعل كلمته العليا و «الجعل» يقتضى بظاهره (1) الإحداث، فيجب أن يدل ذلك (2) على خلقه أفعالهم، فقال تعالى:
{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى ََ، وَكَلِمَةُ اللََّهِ هِيَ الْعُلْيََا} (3)
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يقتضى أنه جعل نفس كلمتهم، وإنما يقتضى أنه جعلها سفلى، فهو كقول القائل: جعلت زيدا قائما، [فى] أن ذلك يقتضى إضافة قيامه إليه دون ذاته.
وقد علمنا أن وصف الكلمة بذلك مجاز، لأن السفل والعلو إنما يصح فى الأجسام، فلا بد من الاعتراف بأن الكلام مجاز، فالمراد بذلك أنه تعالى حكم فى كلمتهم أنها بهذه الصفة، من حيث أبطلها وذم عليها وأزال تأثيرها وبين حالها، وهذا كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلََائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبََادُ الرَّحْمََنِ إِنََاثاً} (4) لما وصفوها بذلك، وإن علم أنه يستحيل منهم خلق الملائكة وإنشاؤهم.
290 - دلالة: وقوله تعالى من بعد: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللََّهِ لَوِ اسْتَطَعْنََا لَخَرَجْنََا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللََّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكََاذِبُونَ} (5) يدل على أنهم كذبوا فى قولهم: {لَوِ اسْتَطَعْنََا لَخَرَجْنََا مَعَكُمْ} ولا يكونون فى ذلك كذبة
__________
(1) د: ظاهرا.
(2) ساقطة من ف.
(3) من الآية: 40.
(4) من الآية 19فى سورة الزخرف.
(5) من الآية: 42.(1/399)
إلا وهم يستطيعون لأنهم لو لم يستطيعوا ذلك كما ذكروا لكانوا صادقين، وهذا يدل على أن المنافقين المتخلفين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الجهاد كانوا يستطيعون الخروج معه وإن لم يخرجوا، وفى ذلك دلالة على أن العبد، يستطيع (1) ما لا يفعل، ويقدر على الشيء قبل أن يفعل.
فإن قيل: إنه تعالى لم يقل: وإنهم لكاذبون فى هذا الخبر، فلا يصح ما اعتمدتموه.
قيل له: إن الكلام على هذا الحد دل على أنهم كذبوا فيما حكى عنهم من الخبر، وإلا لم يفد، ولم يكن لآخر الكلام بأوله تعلق، ولو أن أحدنا قال:
إن زيدا يقول كيت وكيت والله يعلم إنه كاذب، لم يجوز أحد ممن (2) يعرف اللغة أنه كذبه فى غير الخبر الذى حكاه عنه، وكذا لو قيل: إن زيدا ضرب عمرا والله يعلم إنه ظالم، لم يحمل ذلك إلا على ما تقدم، وهذا أوضح فى الكلام من أن يقع فيه شبهة.
ومن وجه آخر تدل الآية على ما نقول، وذلك لأنه تعالى حكى نفس مقالة المجبرة فى أنهم لو قدروا على الشيء لفعلوه، على طريقتهم: أن القدرة مع الفعل، ومحال وجودها ولا فعل (3)، فبين الله تعالى أن القوم استطاعوا ولم يخرجوا، وذلك يدل على ما قلناه.
فإن قال: إنما استطاعوا أمرا سوى الخروج، فلا يدل الظاهر على ما قلتم.
__________
(1) فى د. لا ما يستطيع.
(2) د. من.
(3) انظر الفقرة: 13والفقرة 24مع التعليق.(1/400)
قيل له: هذا محال، لأنهم جعلوا ذلك كالعذر فى تخلفهم، فلو أرادوا استطاعة أمر سوى الخروج فيما نفوه لكان وجوده كعدمه فى أن لا تأثير [له] فى الكلام على وجه من الوجوه، فيجب أن يكون المراد بذلك ما ذكرناه دون غيره.
ويجب على قول القوم: أن يكون المنافقون فيما ذكروه صادقين، والله تعالى فى تكذيبهم غير صادق، لأنهم قالوا: لا قدرة لنا على ما نفعله، وكذبهم الله فى ذلك، وكل قول يؤدى إلى مثل هذا فهو باطل!
291 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه أمر بالشيء وكرهه، وهذا لا يتم إلا على قولنا إنه تعالى لا يجب أن يريد الطاعات التى يعلم أنه لا يفعلها العبد، بل يجب أن يكره حدوثها، فقال تعالى: {وَلَوْ أَرََادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلََكِنْ كَرِهَ اللََّهُ انْبِعََاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [46] فبين الله تعالى أنه كره منهم الانبعاث والخروج، وقد أمرهم مع ذلك به فى جملة المجاهدين (1).
ويدل أيضا على أنه تعالى قد يمنع «مما يأمر به (2)، لأنه قال {فَثَبَّطَهُمْ}.
والجواب عن ذلك: أنه تعالى إنما ذكر أنه كره انبعاثهم وخروجهم، ولم
__________
(1) قالت المعتزلة. (كل آمر بالشيء فهو مريد له، والرب تعالى آمر عباده بالطاعة فهو مريد لها، إذ من المستحيل أن يأمر عباده بالطاعة، ثم لا يريدها، والجمع بين اقتضاء الطاعة وطلبها بالأمر بها، وبين كراهية وقوعها، جمع بين نقيضين، وذلك بمثابة الأمر بالشيء والنهي عنه فى حالة واحدة)!
انظر: نهاية الإقدام فى علم الكلام، للشهرستانى ص 254.
(2) د: ما يأمرهم به.(1/401)
يبين على أى وجه كرهه، وقد يجوز أن يكرهه على كل وجه، وأن يكرهه على وجه مخصوص، نحو أن يكره خروجهم قصدا إلى الإضرار والإفساد، وإن أراد خروجهم قصدا إلى الجهاد والمعاونة، وما هذا حاله لا يصح العموم فيه، لأنه ربما تنافى أن يكره على كلا الوجهين، وربما صح أن يكره على وجه دون وجه، وليس فى اللفظ إلا أنه كره، من دون بيان الوجوه (1) فى العموم والاختصاص.
وبعد، فلو دل الظاهر على ما قالوه لدل على أنه أمرهم بالقعود دون الخروج، لأنه قال تعالى: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقََاعِدِينَ} (2) وإذا صح حمل ذلك على خلاف الأمر من حيث صح أنه تعالى أمرهم بالخروج وتوعدهم على خلافه، فكذلك يجب (3) أن تحمل الآية على أن المراد بها أنه كره منهم الخروج، لما علم من قصدهم الفساد وطرح الفتنة والتصريف لنفاقهم، ولم يكره منهم الخروج على الحد الذى أراده من المؤمنين.
وقد بين تعالى [ذلك] فيما بعد بقوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مََا زََادُوكُمْ إِلََّا خَبََالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلََالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [47] ومعنى قوله تعالى: {فَثَبَّطَهُمْ} أنه تعالى فعل ما يقتضى تركهم الخروج على هذا الحد، لما فيه من الفساد ولو أراد بذلك المنع لكان قد منعهم من الخروج على كل وجه، وهذا يوجب كونه تعالى آمرا بالشيء ومانعا منه، والمخالف لا يرتكب ذلك، لأنهم لا يقولون إنه تعالى قد منع الكفار من الإيمان وثبطهم عن الإيمان، وإن قالوا إنه أمره بما لا يقدر عليه لتشاغله بضده، على ما يهذون به فى هذا الباب (4)
__________
(1) ف: الوجه.
(2) تتمة الآية السابقة: 46.
(3) ساقطة من د.
(4) يريدون القول: إن الكافر قد أتى فى فقد الإيمان من جهته، حتى لا يكون تكليفه بالإيمان والحالة هذه تكليفا لما لا يطاق على ما يقوله المعتزلة، وهذا أحد وجوه(1/402)
وقد يجوز أن يكون المراد بقوله: {فَثَبَّطَهُمْ} أنه فعل من الألطاف ما يختارون عنده ترك الخروج على هذا الوجه، ولهذا قال تعالى: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقََاعِدِينَ}.
ويجوز أيضا أن يكون المراد به أنه تعالى بين للرسول أنهم لو خرجوا على هذا الوجه لمنعوا، فصار ذلك تثبيطا منه تعالى، وبمنزلة أن يأمرهم بالقعود.
292 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يخلق فيهم الكفر وأنهم قد يرغبون إليه أن لا يضلهم فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلََا تَفْتِنِّي، أَلََا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [49]
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الفتنة ليس هو الكفر والمعاصى، وقد بينا أنه ينطلق على الامتحان والتشديد فى التكليف (1)، ولذلك أطلقه تعالى على العذاب، بقوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النََّارِ يُفْتَنُونَ} (2) وعلى البلاء النازل من الأمراض وغيرها، فقال تعالى: {أَوَلََا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عََامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} (3) وقال {إِنْ هِيَ إِلََّا فِتْنَتُكَ} (4) فلا ظاهر لما تعلقوا به.
__________
ذكرها القاضى عبد الجبار لهم فى الدلالة على أن تكليف الكافر بالايمان لا يقبح، بخلاف العاجز عن الإيمان وقد ذكر القاضى فى الرد عليهم جملة جامعة، بعد أن ناقش أدلتهم بإطناب، فقال: (إن الإيمان لا يفعل بالجواز، ولا بالصحة، ولا بالتوهم، ولا بالإطلاق، ولا بالتخلية، ولا بالمشيئة، ولا بكونه غير ممنوع، وإنما يفعل بالقدرة، والكافر لم يعط القدرة، فيكون تكليفه والحال هذه تكليفا لما لا يطاق، وينزل منزلة العاجز. وقد تقرر فى عقل كل عاقل قبح تكليف من هذا حاله، ففسد ما قالوه) شرح الأصول الخمسة 406، فما بعدها.
(1) انظر الفقرة 212.
(2) سورة الذاريات. الآية: 13.
(3) من الآية: 126فى سورة التوبة.
(4) من الآية: 155في سورة الأعراف.(1/403)
وبعد، فليس فى الكلام إلا أنهم سألوا أن لا يفتنوا، وقد بينا أن المسألة بأن لا يفعل الشيء لا تدل على أن المسئول يفعل ذلك، أو يجوز أن يختاره، وبينا نظائر ذلك (1).
وقوله: {أَلََا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} ليس فيه إضافة ما سقطوا فيه إلى الله تعالى، فلا ظاهر للكلام يصح تعلقهم به!
والمراد بذلك: أن فى المنافقين من كان يقول للرسول عليه السلام: ائذن لى فى التخلف عن الجهاد، ولا تفتنى: يعنى: لا تشدد التكليف على بالخروج، فقال الله تعالى: {أَلََا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} يعنى: أنهم طلبوا «التخفيف و (2) التيسير والتخلص من المشقة بالخروج، وقد سقطوا فى العقاب وما أعده لهم من النيران ولذلك قال تعالى [بعده] {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكََافِرِينَ} (3) مبينا بذلك أن المراد (4) تهجين رأيهم فى طلبهم التخلص من مشقة يسيرة، [وأنهم] قد أوقعوا أنفسهم فى الأمر العظيم من العقاب بنفاقهم وكفرهم.
293 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعد ما يدل على أن العبد لا يصيبه إلا ما كتب له أو عليه، وأن السعى فى خلاف ذلك عبث، وأن الواجب الاتكال على ما قدر على المرء وكتب عليه، وأن يعلم أن خلافه لا يجوز ولا يكون، فقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنََا إِلََّا مََا كَتَبَ اللََّهُ لَنََا هُوَ مَوْلََانََا وَعَلَى اللََّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [51]
والجواب عن ذلك أن ظاهره إنما يقتضى أنه لن يصيبهم إلا ما كتب الله
__________
(1) انظر الفقرة: 13والفقرة: 14.
(2) ساقط من د.
(3) تتمة الآية السابقة: 49.
(4) ساقط من ف.(1/404)
لهم وخبّر عن وقوعه، وهذا قولنا. وإنما الخلاف فى هل يقدر على خلاف ما علمه تعالى وكتبه، وهل يحسن التعبد به، وليس فى ظاهر الكلام بيان ذلك فلا يصح تعلقهم به.
وقد بينا أنه لو كان لا يقدر العبد على خلاف ما علمه تعالى وكتبه، لوجب أن يكون كالمحمول على ذلك وكالممنوع من خلافة، وأن يكون هذا حال القديم تعالى فيما يقدر عليه من المتضادات وتقديم الأمور وتأخيرها، وبينا أن ذلك يوجب كونه تعالى فى حكم المجبر على الفعل المحمول عليه، فضلا عن العبد!
والمراد بالآية ما ينزل بالعبيد من الرخاء والشدة: لأنه تعالى قال قبله:
{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنََا أَمْرَنََا مِنْ قَبْلُ} (1) ثم بين تعالى أنه لا يصيبهم إلا ما كتبه وقدره، مما علمه صلاحا وأنه لا معتبر بقولهم ولا بفرحهم وبجزعهم.
294 - دلالة: وقوله تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فََاسِقِينَ} [53]. يدل على أن إنفاقهم لا يتقبل ولا يستحق به الثواب لمكان فسقهم، لأن قوله: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فََاسِقِينَ}
عقيب ذلك يقتضى أن له به تعلقا، ولا يكون كذلك إلا أن نجعله كالعادة فى أنه لن يتقبل منهم، وهذا يقتضى ظاهره أن الفاسق مع فسقه لا تقبل منه الطاعة.
فإن قال: إن الآية واردة فى المنافقين والكفار، فيجب أن يكون التقبل إنما لا يقع فيهم (2)!
__________
(1) الآية: 50، وتتمتها: {[وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ]}.
(2) أنظر فى سبب نزول الآية، مع جملة من الآيات، وأنها كانت فى المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك: الطبرى: 10/ 143فما بعدها، وانظر فى الآية موضوع البحث، ص: 152151.(1/405)
قيل: إنه لم نستدل بحال من وردت فيه، وإنما تعلقنا بظاهر الكلام من حيث اقتضى أن نفى التقبل هو لأجل الفسق، من غير تخصيص فسق من فسق، وفاسق من فاسق.
فإن قال: فقد قال بعده: {وَمََا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقََاتُهُمْ إِلََّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللََّهِ وَبِرَسُولِهِ} (1). وهذا يدل على أن المانع من التقبل كفرهم.
قيل له: لا يمتنع أن يكون ذلك مانعا، والفسق كمثل، حتى لو انفرد كل واحد يمنع من التقبل، فالكلام سليم.
وبعد، فقد ضم إلى الكفر ما يجرى مجرى الفسق، فقال: {وَلََا يَأْتُونَ الصَّلََاةَ إِلََّا وَهُمْ كُسََالى ََ} وذلك يحقق ما قدمناه.
فإن قيل: إنه جعل المانع من التقبل كفرهم وتركهم الصلاة وأنهم لا ينفقون إلا مع الكراهة، فلا يجوز أن يجعل المانع إلا الكل معا.
قيل له: إن الذى تقدم ذكره يقتضى أنه ذكر الجميع من حيث يمنع كل واحد من التقبل، كما أنه إذا ذكر أنواعا من المعاصى وعلق الوعيد بها، فهو يتعلق بكل واحد منها. وكذلك ما قلناه.
فإن قال: فإنه تعالى بين أنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون، فيجب أن يكون هذا هو المانع من التقبل لأن كل من أنفق على هذا الوجه لا يتقبل منه ذلك على كل حال.
قيل له: فهذا يوجب أن لا يكون للكفر ولا للفسق تأثير فى ذلك، وقد
__________
(1) الآية: 54، وتتمتها: {[وَلََا يَأْتُونَ الصَّلََاةَ إِلََّا وَهُمْ كُسََالى ََ} ولا ينفقون إلا وهم كافرون].(1/406)
نص الكتاب على خلافه، وحمله على الوجه الصحيح ظاهر لأنه تعالى بين أن إنفاقهم المستقبل لا يتقبل، لتقدم الكفر والفسق وترك الصلاة والإنفاق (1) على غير وجهه منهم، وأحد الإنفاقين غير الآخر.
295 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يريد كفرهم كما يزيد تعذيبهم، فقال: {فَلََا تُعْجِبْكَ أَمْوََالُهُمْ وَلََا أَوْلََادُهُمْ، إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهََا فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كََافِرُونَ} [55].
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام أنه تعالى يريد تعذيبهم للأحوال التى ذكرها، وإزهاق أنفسهم كذلك. وليس فيه أنه يريد كفرهم، وإنما ذكر أنهم فى حال ما أراد منهم كافرون، ولا يجب إذا أراد منهم الشيء وهم على حال وصفة أن يريد كونهم كذلك، لأن أحدنا قد يريد من الطبيب معالجة ولده فى حال مرضه «ولا يريد مرضه وإن كان (2) لو زال لم يرد المعالجة، فكذلك أراد تعالى ذلك بهم (3) وهم كفار، ولو زال كفرهم لم يرده، وكل ما يريده تعالى من العقاب وما شاكله فإنما يريده بالعبد إذا كان كافرا، خصوصا إذا كان الكلام فى حال التكليف.
فبين عز وجل أن أموالهم وأولادهم، وإن كان ظاهره نعمة ويعجب بمثله، فإنه تعالى يريد أن يعذبهم بها فى الدنيا بإحلال الغموم والأحزان بهم (4)
وصرفهم لها (5) إلى ما يوجب العقاب، ولأنها صارت فى حكم السبب لكفرهم، ثم بين أنه يريد إزهاق أنفسهم وإهلاكهم لسوء اختيارهم فى ثباتهم على الكفر مع تمكنهم من الإقلاع، وهذا بين ظاهر.
__________
(1) ف: ولا الإنفاق.
(2) ساقط من د.
(3) د: منهم.
(4) ساقطة من ف.
(5) د: بها.(1/407)
296 - دلالة: وقوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللََّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ، وَاللََّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [62] يدل على أنهم لم يفعلوا ما أراده الله منهم، لأنهم لو فعلوا ذلك لكانوا قد أرضوه تعالى، لأن الفاعل إنما يكون مرضيا غيره فى فعله إذا فعل كمال مراده منه. وعلى قولهم، قد فعل جميع العبيد كمال مراده تعالى منهم، فيجب أن يكونوا مرضين لله تعالى، وهذا يخالف (1)
ما يقتضيه الظاهر. ويوجب أيضا أن يكون (2) إرضاؤهم له بأمر سوى الأمر الذى يكون إرضاء له تعالى، لأنه لو كان واحدا لم يصح هذا الكلام!
فإن قال: فإنما أراد بذلك أنه تعالى أحق أن يرضى بأن يفعل ما أمره، وليس للارادة فى ذلك مدخل!
قيل له: إنه (3) لا معتبر بالقول (4) فى الإرضاء. ألا ترى أن السيد قد يتهدد عبده ليأتى الأمر (5)، ولو فعله العبد لم يكن مرضيا له، ولو علم من حاله أنه يريد منه أن يسقيه الماء نائما لكان إذا فعله مرضيا له وإن عدم القول، فلا معتبر بالإرضاء إلا بما قلناه.
ولهذا قال شيوخنا رحمهم الله: إن على قولهم يجب أن يكون الكافر فاعلا لما يرضاه تعالى كالمؤمن، من حيث فعل ما أراده منهما، وأن يكونا مرضيين له على حد واحد. وأن لا يجوز والحال هذه أن يعاقب أحدهما ويثيب الآخر، وهذا بين.
297 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يخلق فى قلب
__________
(1) د: بخلاف.
(2) ساقطة من د.
(3) فى النسختين: لأنه
(4) ساقطة من د.
(5) ف: فيأتى الأمر.(1/408)
المنافق النفاق حالا بعد حال، فقال (1): {فَأَعْقَبَهُمْ نِفََاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى ََ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمََا أَخْلَفُوا اللََّهَ مََا وَعَدُوهُ، وَبِمََا كََانُوا يَكْذِبُونَ} [77] وذلك يدل أيضا على أنه يضل من تقدم منه الكفر، على سبيل العقوبة.
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يدل على أنه تعالى أعقبهم نفاقا فى قلوبهم لأنه كما تقدم ذكره، فقد تقدم ذكر بخلهم بما عاهدوا الله عليه وغير ذلك (2)
فمن أين أن ذلك يضاف إليه تعالى والحال هذه؟
وبعد، فإنه تعالى لو فعل فى قلوبهم النفاق لوجب أن يكون ظاهره يقتضى أنه فعله فى قلبهم إلى يوم اللقاء (3)، وهذا مما لا يصح ظاهره لأن يكون المراد بيوم (4)
اللقاء اليوم الذى يلقون فيه ما وعدوا وأعد لهم، وكان يجب أن يكون يوم اللقاء كالعلة فى انقطاع ما يستحقون على توليهم وإعراضهم عنه، وهذا بالضد مما ثبت من (5) أن التعذيب إنما يكون فى ذلك الوقت، وإنما يقدم تعالى بعض العذاب للمصلحة، كالحدود وغيرها فى المصرّين، وهذا يوجب أن يحمل ظاهره إن كان الأمر كما قالوا على أنه أعقبهم نفاقا فى قلوبهم، ما دام التكليف حاصلا، فعاقبهم بذلك على كفرهم، ولو كان كذلك لكان النفاق الأول يجب أن يكون من فعلهم، وأن يكون الثانى، من حيث كان جزاء، من فعله فيهم، ومن حيث كان الثالث جزاء عليه، من فعلهم لأن نفاقهم يتكرر حالا بعد حال، وهذا يتناقض!
__________
(1) ساقطة من د.
(2) الآيتان المتقدمتان: 7675: {[وَمِنْهُمْ مَنْ عََاهَدَ اللََّهَ لَئِنْ آتََانََا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصََّالِحِينَ، فَلَمََّا آتََاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ]}،.
(3) د: يلقونه.
(4) د: هو.
(5) ساقطة من د.(1/409)
فيجب أن يحمل الكلام على ما قلناه، من أن بخلهم بما عاهدوا الله عليه وتوليهم وإعراضهم اقتضى استمرارهم على النفاق وشدة تمسكهم به، ولو كان لا يحتمل الكلام إلا إضافته إليه لحملناه على أن المراد «به العقوبة على النفاق (1)
وسماه به، كقوله: {وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا} إلى ما شاكله.
298 - فأما قوله تعالى: {إِلى ََ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} فلا يصح للمشبهة التعلق به فى أنه جسم، وفى أنه يرى لأن القوم لا يقولون بذلك فى المنافقين، وإنما يختص عندهم بالرؤية المؤمنون.
وهذا يوجب أن اللقاء إذا ذكر فيه تعالى فالمراد به لقاء ما وعد وأعد، أو يراد به عند حدوث الموت، على ما يقوله الناس: إن فلانا قد لقى الله، إذا مات، وقد روى عنه صلّى الله عليه أنه قال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه (2)» وقد روى عنه أيضا ما يدل على الوجه الأول فى اللقاء، لأنه قال:
«من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان» (3)
__________
(1) ساقط من د.
(2) أخرج الترمذى من حديث عبادة بن الصامت رضى الله عنه عن النبى صلّى الله عليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) وقال فيه: حديث حسن صحيح. راجع صحيح الترمذى مع الشرح: 9/ 189. وأخرجه البخارى من حديث عبادة، وحديث أبى موسى الأشعرى، ومسلم من حديث أبى هريرة، وحديث عائشة، والنسائى من حديث عائشة رضى الله عنها.
فتح البارى: 11/ 303300.
(3) أخرجه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وأبو داود، من عدة طرق، وفى البخارى من حديث الأعمش عن أبى وائل (شفيق بن سلمة) عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان) فأنزل الله تصديق ذلك: {[إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللََّهِ وَأَيْمََانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا]} إلى آخر الآية. وفى الترمذى من نفس الطريق:
(من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها) الحديث. قال أبو عيسى:
وحديث ابن مسعود حديث حسن صحيح. قال ابن حجر: ويمين الصبر بفتح الصاد وسكون الباء هى التى تلزم، ويجبر عليها حالفا.
انظر فتح البارى: 11/ 473، صحيح الترمذى بشرح ابن العربى 5/ 271.(1/410)
وإن كان لا يمتنع أن يريد به الموت أيضا.
وظاهر «اللقاء» فى اللغة يقتضى ما لا يقوله القوم، لأنه يقتضى المماسة، ولذلك يستعمل فى الأجسام إذا تضامت (1)، ويستعمل فيما نقيضه المفارقة (2)، وإنما استعمل ذلك فى الإنسان مع غيره، لأنه يدنو منه عند اللقاء، فيصير فى حكم المضام له، وهذا مما لا يجوز فيه تعالى، فكيف يستدل بذلك على الرؤية؟!
299 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه منع من تخلف عن الجهاد وطبع على قلبه، فقال: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوََالِفِ وَطُبِعَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} [87].
والجواب عن ذلك قد تقدم من قبل، من حيث بينا أن الطبع سمة وعلامة يعرف بها حال المطبوع عليه، لما فيه من الصلاح واللطف، وبينا أن ذلك لا يمنع فى الحقيقة، ودللنا عليه بوجوه (3).
والتعلق به فى هذا الموضع أبعد لأنه تعالى لم يضف طبع قلوبهم إلى نفسه، وبينا فيما هذا حاله أنه لا ظاهر له فى أن الفاعل من هو (4)؟
وقد يجوز أن يراد بذلك: أنهم لشدة تمسكهم بالنفاق صار ذلك بمنزلة أن يفعل فى قلوبهم الطبع، وهذا كقوله: {بَلْ رََانَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} (5) فجعله. «ربنا» لأنه يصير كالصدإ الذى يلحق القلب ويتركب
__________
(1) قال الرازى: اللقاء وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يماسه شخصه، وقال الراغب: هو مقابلة الشيء ومصادفته معا، ويعبر به عن كل منهما، ويقال ذلك فى الإدراك بالحس والبصر. راجع تاج العروس للزبيدى. 10/ 330.
(2) د: المارقة.
(3) انظر الفقرة: 11.
(4) انظر الفقرة: 45والفقرة 66.
(5) سورة المطففين الآية 14: {[كَلََّا بَلْ رََانَ]}.(1/411)
فيصير فى حكم المانع، ولذلك نرى المستمر على المعاصى المجترئ على الله فى ارتكابها يصعب عليه العدول عن هذه الطريقة، بخلاف صعوبته على المقدم عليها خائفا وجلا، ولو أضيف إليهم طبع قلوبهم على هذا الحد لصلح، وبطل تعلقهم به لو (1) كان الطبع منعا فى الحقيقة، فكيف وقد بينا الحال فيه؟
300 - وقوله تعالى بعد ذلك بآيات (2): {وَطَبَعَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} (3) يجب أن يحمل على ما قلناه.
فإن قال: لا يصح ذلك لأنه تعالى قال: {فَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} «فبين أن الذى أزال علمهم أنه طبع على قلوبهم.
قيل له: إن أكثر ما يجب فى ذلك أن يكون لقوله: {فَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} (4)
تعلق بالطبع، «وأولى التعلق به أن يحمل على أنهم لا يعلمون (5) هذا الطبع المذكور لأنه لم يجر لما عداه ذكر، وهذا مما لا نأباه. أو يحمل على كلام (6) كالمبتدإ، فكأنه تعالى أعظم فعلهم ووكد توبيخهم من حيث بين أنهم (7) لا يعلمون ما لهم وعليهم، لإعراضهم وسوء اختيارهم، وإن كان قد فعل بهم من الطبع وسائر الألطاف ما يوجب الردع والإقلاع.
__________
(1) د: بل لو.
(2) فى د: بآيات الله.
(3) من الآية 93، والآية السابقة: 87تتمتها: {[وَطُبِعَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لََا يَفْقَهُونَ]}.
وقوله فى الطبع الوارد فى هذه الآية «يجب أن يحمل على ما قلناه»، يرجح أن مراده شرح الآية الثانية، وليس ذكر تتمة الأولى، فلا يكون السهو فى ذكر كلمة [لا يعلمون] بدل [لا يفقهون] بل فى حذف لفظة الجلالة، وقد وقف فى الأولى عند قوله [على قلوبهم] فلا داعى للاعادة، أما الآية 93بتمامها، فهي: {[إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيََاءُ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوََالِفِ. وَطَبَعَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ]}.
(4) ساقط من د.
(5) د: أولى التعلق به على أنه لا يعلم.
(6) د: ذلك كلام.
(7) د: وصفهم يأتهم.(1/412)
301 - دلالة: وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفََاءِ وَلََا عَلَى الْمَرْضى ََ وَلََا عَلَى الَّذِينَ لََا يَجِدُونَ مََا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذََا نَصَحُوا لِلََّهِ وَرَسُولِهِ} [91].
يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكلف العبد ما لا يقدر عليه لأنه تعالى قد عذر هؤلاء، من حيث ضعفوا عن الخروج، ومرضوا ولم يجدوا النفقة، ولو كان تعالى يجوز أن يكلف العبد الإيمان ولا يقدر عليه ولا يعذر إذا لم يفعل ذلك، لكان هؤلاء بأن لا يعذروا أولى!
وبعد، فإن على قوله لا فائدة فى هذا الباب لأنه إن خلق فيهم قدرة الخروج خرجوا لا محالة، ولم يؤثر فى ذلك مرض ولا ضعف ولا فقد نفقة، وإن لم يخلق القدرة فيهم لم يصح وقوع الخروج وان لم يكونوا مرضى أو فقراء، بل كانوا أصحاء أغنياء، وكل قول يؤدى فيمن عذره الله تعالى بأمر أنه لا يعذر بمثله، وأن حاله كحال من لا عذر له، قول فاسد!
302 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن من خلط عملا صالحا بعمل سيئ أن الله يغفر له، وإن كان من أهل الكبائر، بخلاف قولكم فى الوعيد، فقال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صََالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللََّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [102].
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام إنما يقتضى أنه تعالى يتوب عليهم لأن «عسى» من الله واجبة، وليس فيه أنه تعالى يغفر لهم!
فإن قال: لا يجوز أن يتوب عليهم إلا ويغفر لهم!(1/413)
قيل له: وكذلك لا يجوز أن يتوب عليهم إلا وقد تابوا لأن كلا الأمرين «فى ضمن الكلام (1)، بل الذى قلناه أولى لأنه لا يقال فيه: إنه تعالى يتوب عليهم ولما (2) تقدمت التوبة منهم، لأن معنى ذلك أن تقبل توبتهم، والتقبل فى (3) الفعل يقتضى تقدم وقوعه، فكان تقدير الكلام أنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وتابوا منها وأنابوا، فتاب الله عليهم، ولا يدل ذلك على أنه يغفر لأصحاب الكبائر من غير توبة.
وبعد، فإن ظاهره يقتضى الإخبار عن قوم مخصوصين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا الصالح بالسيئ (4)، وما هذا حاله إذا كان حكاية عن أمر متقدم لم يصح ادعاء العموم فيه، بل يجب أن يعلم على أى وجه وقع ذلك منهم، وفى هذا إبطال التعلق بالظاهر.
وبعد، فإن قوله تعالى، على طريقة المدح لهم: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} يدل على أنهم أتوا بالاعتراف على طريق التوبة، ولذلك قال فى آخره: {عَسَى اللََّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وهذا بين.
303 - دلالة: وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللََّهِ إِمََّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمََّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [106] يدل على أن المقدم على ما يستحق به العقاب من المعاصى ليس فيه إلا أحد طريقين: إما أن يتوب فيتوب الله عليه، ويغفر له، وإما أن يعذبه لأن قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}
يتضمن بعده التوبة منهم، على ما بيناه.
__________
(1) ساقط من د.
(2) ساقطة من د.
(3) ساقطة من د.
(4) نزلت الآية فى أبى لبابة وأصحابه الذين تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك.
انظر الطبرى: 11/ 1612.(1/414)
وهذا يبطل قول من قال فى أهل الكبائر: إن الله يجوز أن يغفر لهم من غير توبة، فكأنه قسم من أقدم على المعاصى مع صالح عمله قسمين، فبين فى أحدهما أنه من أهل الجنة لا محالة، من حيث تاب واعترف بالذنب، وبين فى الآخر لما لم يفعل ذلك أن أمرهم مترقب، فإما أن تقع التوبة منهم فيتوب عليهم، أو يعذبهم إن لم يفعلوا ذلك، وهذا صريح قولنا!
304 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن من هداه لن يضله بعده، وذلك يدل على أن الضلال هو الكفر، والهدى هو الإيمان إذا أتى بهما المرء، فقال: {وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدََاهُمْ حَتََّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مََا يَتَّقُونَ} [115].
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا فى الضلال والهدى ما فيه مقنع فى جميع ما يرد من ذكرهما فى الكتاب (1)، وإنما نحوج إلى ذكر تأويله، فأما إبطال تعلق القوم بظاهره فقد سلف ذكره.
والمراد بهذه الآية: أنه تعالى لا يضل قوما بالهلاك والأخذ بهم عن طريق الجنة بعد إذ هداهم فاهتدوا، لأن ذلك مضمر فى الكلام، من حيث لا يستحقون (2) نفى هذا الضلال عنهم إلا بأن يهتدوا.
وقوله: {حَتََّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مََا يَتَّقُونَ} يدل على ما قلناه، لأنه فى التقدير كأنه (3) قال: لا يضلهم بالعقوبة إلا بعد إزاحة العلة من جميع الجهات، بأن يبين لهم ما يتقون من القبائح ويعزمون عليه من الطاعات.
ويمكن أن يحمل الكلام على أنه لم يكن ليضلهم بالعقوبة إلا بعد البيان
__________
(1) انظر الفقرة: 12.
(2) د: لا يستحق.
(3) ساقطة من ف.(1/415)
التام، لأن قوله تعالى: {بَعْدَ إِذْ هَدََاهُمْ} يعنى: دلهم.
ثم ذكر بقوله: {حَتََّى يُبَيِّنَ لَهُمْ} زيادة بيان ودلالة يصح معه الإنقاذ من هذا الضلال والهلاك.
ويقال للقوم: إن هذه الآية تبطل قولكم فى الضلالة، لأنه تعالى نفى أن يضل بعد إذ هدى (1)، ومن قولكم إن المرتد قد أضله الله بعد إذ هداه، فيجب أن يدل ذلك على أنه تعالى لا يضل بخلق الكفر، على ما نذهبون إليه (2).
وبعد، فإن البيان وتقدمه لا يؤثر على قولهم فى حال الضلال، لأنه موقوف على إرادته، وله أن يفعله، فما الفائدة فى قوله: {حَتََّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مََا يَتَّقُونَ}، على أن بيان ذلك لا يفيد، لأنه إن (3) خلق فيهم الضلال ضلوا، تقدم البيان أولم يتقدم، وإن لم يخلق ذلك فيهم لم يؤثر فى حالهم فقد البيان، وذلك يوجب تناقض الكلام!
305 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يزيدهم إيمانا بإنزال السورة، ويزيد الكفار كفرا بها، لأنه لا يجوز إضافة الزيادة إلى نفس السورة، فيجب أن تكون إلى المنزل، فقال تعالى:
{وَإِذََا مََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زََادَتْهُ هََذِهِ إِيمََاناً} [124].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنهم أضافوا زيادة الإيمان إليها، وليس ذلك بقول أحد، ثم التنازع فيما المراد به: رجوع إلى تأويل الآية، واعتراف بأن التمسك بظاهرها لا يصح. وقد بينا أن المراد بذلك أنها سبب
__________
(1) وبعده فى د: زيادة: «الآية تبطل قولكم».
(2) وبعده فى د: زيادة: «فيجب»!
(3) ساقطة من د.(1/416)
زيادة الإيمان من المؤمنين، وما هذا حاله قد يضاف إلى الفعل، كما يقول القائل:
أتعبنى المشى والركوب، من حيث تعب بسببهما، كما يقال: أتعبنى زيد، إذا سأله فتعب عنده، فلما فعل المؤمنون زيادة إيمان عند نزولها لأن نزولها يقتضى زيادة التعبد جاز إضافة ذلك فى الكلام إليها، وكذلك القول (1) فى إضافة زيادة كفرهم إليها.
وقد يحتمل أن يراد به أنه تعالى بإنزال السورة زادهم إيمانا فى الحقيقة، لأن زيادة البصائر «على ما بيناه (2) قد تكون إيمانا وهدى، وزاد الكفار رجسا إلى رجسهم يعنى غما إلى غمهم وذما وإهانة إلى ما استحقوه من ذلك.
206 - وقوله تعالى من بعد: {أَوَلََا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عََامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لََا يَتُوبُونَ وَلََا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [126] يدل على أنه تعالى يفعل بالعباد ما يكون أقرب وأدعى لهم إلى التوبة والرجوع إلى الله تعالى وإلى التمسك بالطاعة، وإن لم يدل على وجوب ذلك.
ويدل على أن الأمراض وما ينزله بالعباد من المصائب لا بد من أن يكون فيها صلاح وتذكر واعتبار، وذلك لا يتم على مذهب القوم لأنه (3) تعالى إن خلق الإيمان والتوبة كان مؤمنا تائبا، تذكر أو لم يتذكر، واعتبر أم لا! وإن لم يخلق فيه ذلك لم يصح أن يقع منه، ولو تذكر ما تذكر.
وإنما يصح الدعاء والترغيب والتسهيل والألطاف والعبر والتذكر إذا كان العبد «مختار الفعلية (4) يصح منه أن يختار كل واحد منهما على الآخر، فيرغب وتقوى دواعيه، لكى يختار أحد الأمرين.
__________
(1) ساقطة من د.
(2) د: كما قدمنا.
(3) ف: وذلك أنه
(4) د: مختار الفعلين.(1/417)
307 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يصرف عن الإيمان، فقال تعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَفْقَهُونَ} (1).
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه صرف نفس قلوبهم، وليس فيه أنه صرفهم عن إيمان أو غيره من الأفعال، فلا ظاهر للقوم يتعلقون به، ومتى ادعوا فى الكلام أمرا محذوفا فقد تعدوا التعلق بالظاهر ودخلوا تحت التأويل يبين ذلك أنه ذكر أن بعضهم نظر إلى بعض، فقال: {وَإِذََا مََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى ََ بَعْضٍ، هَلْ يَرََاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ} فظاهره يقتضى انصرافهم فى الحقيقة بعد التلاقى. وإذا قيل بعده: {صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ} ولم يتقدم للكفر ذكر، فحمله عليه لا يجوز فى الكلام.
وبعد: فإنه لو راد بذلك الكفر والمنع من الإيمان لما جاز أن يجعله كالجزاء على انصرافهم، لأن انصرافهم هو الكفر، فلو جعل الجزاء عليه كفرا آخر لوجب فى الثالث أن يجعله مثله جزاء على الثانى. وهذا يوجب ما قدمناه من أن فعله تعالى فيه وعقابه من حيث كان جزاء، وفعل العبد من حيث جوزى وعوقب عليه.
وبعد، فإن الكلام يوجب أنه تعالى إنما صرف قلوبهم إذا انصرفوا، وعند القوم أنه المبتدئ بالكفر [وأن] الله صرف قلبه وإن لم ينصرف، وكذلك المرتد بعد إيمان، فلا يجوز أن يحمل إلا على أن المراد به: فلما انصرفوا
__________
(1) من الآية: 127.(1/418)
عاقبهم الله على انصرافهم، فسمى العقوبة عليه باسمه، كما قال: {وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا} (1) وقالت العرب: الجزاء بالجزاء، والأول ليس بجزاء، إلى غير ذلك من الشواهد فى الشعر وغيره (2).
فإن قال: إن (3) كان المراد به العقوبة فلماذا ذكر القلب وعلق الصرف به، وهلا دل على أن المراد به الكفر الذى محله القلب!!
قيل له: إن الكفر أيضا قد يكون فى غير القلب، كالجحود والتكذيب اللذين يكونان باللسان، وكالاستهزاء بالرسول، وكشف العورة، إلى ما شاكله مما يكون بالجوارح، فما الفائدة والحال هذه فى تعليقه الصرف بالقلب على قولكم؟
فإذا هم تأولوه على وجه ما، فقد سوغوا لنا مثله، بل الذى نقوله أولى لأنه تعالى لما علم أن انصرافهم عن طاعته وإعراضهم عن أدلته لا يكون إلا بالقلب أو بأفعال لا بد أن تضامها أفعال القلب، صار كأنه قال: فلما انصرفوا بقلوبهم، ثم (4) أجرى اسم العقوبة على الحد لنقدر فى ذلك، فقال: {صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ}
وهذا كما يقال (5) لمن بين له فلم يتبين: قد أعمى الله عينيه وأصم سمعه، فتذكر الآلات التى بها يقع الإعراض وترك التذكر، فكذلك القول فيما بيناه.
وقوله تعالى: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَفْقَهُونَ} يدل على أن صرف قلوبهم هو بالعقوبة التى استحقوها بالإعراض وترك التفقه والنظر فيما أنزله من السورة وسائر الدلائل، وهذا بين.
__________
(1) من الآية: 40فى سورة الشورى.
(2) انظر الفقرة: 20والفقرة: 62.
(3) ساقطة من د.
(4) ساقطة من ف.
(5) ف: قال.(1/419)
من سورة يونس عليه السلام
308 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه جسم يجوز عليه الاستواء والمكان، فقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللََّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيََّامٍ ثُمَّ اسْتَوى ََ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مََا مِنْ شَفِيعٍ إِلََّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [3].
والجواب عن ذلك قد تقدم: لأنا قد بينا أن المراد بالاستواء هو الاستيلاء والاقتدار، وبينا شواهد ذلك فى اللغة والشعر (1) وبينا أن القول إذا احتمل هذا والاستواء الذى هو بمعنى الانتصاب، وجب حمله عليه (2)، لأن العقل قد اقتضاه، من حيث دل على أنه تعالى قديم، ولو كان جسما يجوز عليه الأماكن لكان محدثا، تعالى الله عن ذلك، لأن الأجسام لا بد من أن يلزمها دلالة الحدث، وهى أيضا لا تنفك من الحوادث ولا تخلو منها.
فإن قالوا: لو أراد الاستيلاء لم يجز أن يدخل فيه {ثُمَّ} لأنها تدل على الاستقبال، وذلك لا يصح إلا فيما ذكرناه من الاستواء، دون الاقتدار.
قيل له: إن {ثُمَّ} وإن وليها ذكر الاستواء فإنما دخلت على التدبير المذكور، والله تعالى يدبر الأمر فى المستقبل، وهذا كقوله: {حَتََّى نَعْلَمَ الْمُجََاهِدِينَ مِنْكُمْ} (3) فدخلت {حَتََّى} فى الظاهر على العلم وأريد بها الدخول فى الجهاد الذى يقع مستقبلا، والكلام (4) على ذلك، لأن الفصيح إذ قال: ثم استقر زيد فى الدار يدبر أحوالها، فالمراد بذلك أن تدبيره
__________
(1) انظر الفقرة: 23.
(2) ساقطة من د.
(3) من الآية: 31فى سورة محمد (صلى الله عليه وسلم).
(4) د: والكلام يدل(1/420)
وقع وهو (1) بهذه الصفة، ولذلك يقال هذا القول وإن كان حصوله فى الدار متقدما.
وقوله تعالى: {مََا مِنْ شَفِيعٍ إِلََّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} يبين أن المراد ما قلناه لأنه تعالى دل به على أنه للاقتدار والاستيلاء ينفرد بالتدبير من غير شفيع ينضاف إليه فى تدبيره، ولو كان المراد بالاستواء الانتصاب لم يكن لذكر ذلك معنى، لأن الجسم لا فرق بين «أن ينتصب (2) ويضطجع، فى أن تدبيره واقتداره لا يتغير!
309 - وقوله تعالى بعد ذلك: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} (3)
لا يصح تعلق المشبهة به (4) فى أنه تعالى فى مكان يرجع إليه، لأنا قد بينا فى نظيره أن المراد أن مرجعكم إلى ما وعد به وتوعد (5)، ولذلك قال (6) عقيبه {وَعْدَ اللََّهِ حَقًّا} فبين بذلك أن ما يرجعون إليه حق لا ريب فيه.
وهذه الكلمة إذا أطلقت فى اللغة فليس المراد بها المكان لأن القائل إذا قال: رجع أمرنا إلى فلان، فإنه يعنى به فى بعض الأمور، لا فى نفس الذات والشخص.
فجرى تعالى فى هذا الخطاب على طريقتهم.
310 - دلالة: وقوله تعالى: {مََا خَلَقَ اللََّهُ ذََلِكَ إِلََّا بِالْحَقِّ} (7).
يدل على أنه منزه عن كل قبيح لأنه لو جاز أن يفعل شيئا من القبيح لم يوثق فيما خلقه من أحوال الشمس والقمر وتقدير المنازل أنه خلقه على وجه
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ساقط من د.
(3) من الآية 4.
(4) ساقطة من د.
(5) انظر الفقرة: 30والفقرة 58.
(6) ساقطة من د.
(7) قال تعالى: {[هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيََاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنََازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسََابَ، مََا خَلَقَ اللََّهُ ذََلِكَ إِلََّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ]} الآية: 5.(1/421)
الصواب والحكمة، بل لا يمكن على هذا القول الثقة بأن شيئا من أفعاله حسن على وجه، لتجويز أن يكون قصد به بعض الوجوه التى يقبح لها الفعل لأن الملك ملكه، والأمر أمره، يفعل فى سلطانه ما يريد!
فإن قالوا: المراد بقوله: {إِلََّا بِالْحَقِّ} هو أنه خلق الأشياء ب كن!
قيل له: هذا لا يعقل من ظاهره، لأنه متى قيل فى الفاعل: إنه ما فعل كيت وكيت إلا بالحق، فالمعقول من ذلك أنه فعله على وجه الحكمة والصواب، ولا يستفاد منه ما ذكره فى لغة ولا شرع. هذا، وقد بينا أنه تعالى لا يخلق الأشياء ب كن وأن ذلك يستحيل لأنه إنما يخلقها لكونه قادرا عليها، فلا تأثير لهذا القول لو فعله عند خلقها، وقد بينا أنه لا يجوز أن يفعله عند خلق الأشياء، لأن ذلك عبث (1).
والمراد به أن الأمور لا تتعذر عليه، بل تنقاد له وتستجيب عند إرادته على كل وجه، فرقا بينه وبين القادر منا المحتاج إلى الآلات والأدوات وزوال الموانع.
311 - وقوله تعالى من بعد: {يُفَصِّلُ الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
يدل على حدثها لأن التفصيل إنما يصح فى الفعل الصادر من الفاعل إذا قصد به بعض الوجوه، وقد بينا القول فى ذلك (2).
312 - وقوله تعالى من بعد: {إِنَّ فِي اخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَمََا خَلَقَ اللََّهُ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [6]. يدل
__________
(1) انظر الفقرة: 51والفقرة: 264. وفى ف: لأن خلق ذلك عبث.
(2) انظر الفقرة: 355.(1/422)
على وجوب النظر، وأنه يفضى إلى المعرفة والحق لأنه نبه بهذه الآية على الدلالة، فى الوجه الذى قد ذكره، وتقصى وجه دلالة ذلك يطول، فلذلك عدلنا عنه (1).
313 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه جسم يجوز عليه المكان، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا وَرَضُوا بِالْحَيََاةِ الدُّنْيََا} [7].
والجواب عن ذلك قد تقدم (2) لأنه تعالى جعل لقاء ما وعد به لقاء له، على جهة التوسع، كما جعل الهجرة إلى حيث أمر هجرة إليه، والدعاء إلى ما أمر به دعاء إليه، بقوله: {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفََّارِ} (3)
و {إِنِّي مُهََاجِرٌ إِلى ََ رَبِّي} (4) على أن ظاهر القول يقتضى ما قلناه لأن من حق الرجاء أن لا يدخل إلا (5) فى المنافع الواصلة إلى الخائف، ولذلك لا يستعمل الرجاء فى خلاف هذا الوجه إلا على وجه (6) التوسع، فإذا صح ذلك لم يمكن حمل الآية على رجاء (7) لقائه فى الحقيقة، لأن ذلك ليس ينفع، ووجب حمله على لقاء (8) ما وعد من الدرجات الرفيعة، إلا أن يرتكب مرتكب فيقول فى الله تعالى: إنه ينتفع برؤيته، وذلك يوجب أنه ممن يشتهى النظر إليه، أو يلحق القلب عليه الرحمة والرقة، لأن أحدنا لا يصح أن يلتذ وينتفع بالنظر إلى الغير إلا على أحد هذين الوجهين، ومن قال ذلك فى الله تعالى فقد ألحد فى الدين.
__________
(1) انظر الفقرة 213مع التعليق
(2) انظر الفقرة 30.
(3) من الآية 42سورة غافر (المؤمن)
(4) من الآية: 26فى سورة العنكبوت.
(5) ساقطة من د.
(6) ساقطة من د.
(7) ساقطة من د.
(8) ساقطة من د.(1/423)
وقوله تعالى: {وَرَضُوا بِالْحَيََاةِ الدُّنْيََا} يدل على أنه أراد بالآية: أنهم (1)
نفوا الحشر والمعاد لأنهم لو كانوا إنما نفوا الرؤية لم يكن لتعقيب ذلك فائدة!
وبعد، فإن الظاهر يقتضى أن المراد أنهم لا يظنون لقاءنا لأن الرجاء هو الظن، وقد علمنا أن نفى الظن من لقاء الله محمود عند كل أحد، لأنه إن «أراد به (2) لقاء ما وعد، فنفى الظن فيه محمود عندنا، وإن أريد به اللقاء بمعنى الرؤية فنفى الظن فيه محمود عندهم، لأن الواجب فى ذلك العلم دون الظن (3)، فصار الظاهر مما لا يمكن استعماله على وجه! فلا بد إذا من الرجوع الى ما قلناه.
314 - وقوله تعالى من بعد: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمََانِهِمْ} [9] من أقوى ما يدل على أن الهدى قد يكون بمعنى الثواب، لأنه تعالى بين أنه يهديهم جزاء على ايمانهم، ثم فسر ذلك فقال:
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهََارُ فِي جَنََّاتِ النَّعِيمِ} (4) وقد سلف القول فى ذلك (5).
315 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يمهل الكفار ويستدرجهم إلى الكفر ويكلهم إلى أنفسهم فى ذلك، فقال: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (6).
والجواب عن ذلك: أنه تعالى بين أحوال (7) الكفار الذين لا يؤمنون
__________
(1) د: على أنهم.
(2) ساقطة من د.
(3) فى د: انظر.
(4) تتمة الآية السابقة: 9.
(5) انظر الفقرة: 22.
(6) من الآية: 11.
(7) فى د: أن أحوال.(1/424)
بالمعاد، وبين أنه لو عاجلهم بالعقوبة لقضى إليهم أجلهم (1) فكان الموت يرد عليهم عند إنزال العقوبة، من حيث لا تحتمل ابنيتهم العذاب الشديد الذى يفعل بهم فى الآخرة وتحتمله أبدانهم [فيها] لأنه تعالى يصلّبها ويقويها ويعظمها، أو يريد بذلك أنه كان يزول التكليف عنهم بورود العذاب بحصول الإلجاء عنده إلى الطاعة، فينقضى أجل التكليف عنهم.
ثم قال ما يدل على أنه أمهلهم، ليستدركوا ويتوبوا فقال: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا} يريد أنه «يمد لهم (2) فى العمر ويخلى بينهم وبين التكليف، ليكون قد أعذر وأقام الحجة.
ثم قال ما يدل على أنه قد علم أنهم يتسترون على الله، فقال: {فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وليس فى ذلك دلالة على أنه تعالى جعلهم كذلك، ولم يضف إلى نفسه إلا تخليته بينهم وبين التكليف، فهذا من فعله تعالى لا محالة، وقد يقال فيمن يقدر على منع الغير مما هو فيه، إذا هو خلاه ولم يمنعه، إنه تركه فى ذلك الأمر، وهذا ما يجوز عليه تعالى، لأنه أراد منهم العدول عن العمه والكفر على وجه الاختيار لا على وجه الإلجاء.
316 - فأما قوله تعالى: {كَذََلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} (3) فقد بينا فى نظيره أنه لا ظاهر له (4)، ويجب أن يكون المراد أن شياطين الإنس والجن زينوا للمسرفين على أنفسهم فى الإقدام على المعاصى، ما هم عليه من تعجيل الشهوات والعدول عن طريقة الآخرة.
__________
(1) قال تعالى: {[وَلَوْ يُعَجِّلُ اللََّهُ لِلنََّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجََالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ]} الخ الآية 11.
(2) د: يهديهم.
(3) من الآية: 12.
(4) انظر الفقرتين 66، 45.(1/425)
317 - دلالة: وقوله تعالى: {وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُنََا بَيِّنََاتٍ قََالَ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هََذََا أَوْ بَدِّلْهُ} [15] يدل على أن القرآن محدث وأنه فعل، لأن التبديل لا يصح فيما ثبت كونه قديما، وقد بين أن التبديل يصح فيه، وان (1) كان لا يبدل ذلك من تلقاء نفسه صلى الله عليه.
ولتماسهم أن يأتى بقرآن غير هذا يدل على حدوثه أيضا، لأنه قد دل بذلك على أنه مما يجوز أن يفعل مثله، وما هو غير له.
318 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه إذا قضى أمرا لم يجز خلافه، فقال: {وَلَوْلََا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمََا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (2).
والجواب عن ذلك: أنه ليس فى ظاهره إلا أنه لولا كلمة سبقت نقضى بينهم فى اختلافهم، وليس فيه بيان تلك الكلمة ولا بيان القضاء، فلا يصح التعلق بظاهره!
والمراد بذلك: أنه لولا أنه علم وخبر بأن الصلاح أن يكلف ويمهل لقضى بإنزال العقوبة على ما أقدموا عليه من الكفر، ولزال التكليف، لكنه فعل الصلاح، فالمراد بالكلمة ما كتبه تعالى فى اللوح لتعتبر به الملائكة من حيث يدل على موقع الصلاح فى التكليف (3)، على ما ذكرناه.
__________
(1) فى النسختين. وإذا
(2) من الآية: 19
(3) ساقط من د(1/426)
319 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يفعل المكر فقال: {قُلِ اللََّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنََا يَكْتُبُونَ مََا تَمْكُرُونَ} (1).
والجواب عن ذلك: أنه تعالى أضاف إليهم المكر، فقال: {وَإِذََا أَذَقْنَا النََّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرََّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذََا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيََاتِنََا} (2). وأراد (3)
بذلك أنهم قابلوا نعم الله تعالى بعد مس الضر لهم بالكفر والتكذيب، فقال تعالى عنده: {قُلِ اللََّهُ أَسْرَعُ مَكْراً} وأراد أنه أسرع عقابا، وأن ما يريده من ذلك أسرع نفوذا فيهم، وأجرى اسم المكر (4) على العقاب على المكر، من حيث كان جزاء عليه، ومن حيث يفعل بهم من حيث لا يشعرون.
والسرعة فى المكر مجاز، كما أنه توسع لأن المكر لا يكون إلا قبيحا كالسيئة، وإذا أراد تعالى العقوبة علم أنه مجاز، وعلم فى السرعة أن المراد به أنه مستغن فيما يريد أن ينزله بهم عن الاحتيال والإبطاء فى الفعل، مع جواز ألا يقع منهم ما أرادوه والحال هذه.
وقوله تعالى: {إِنَّ رُسُلَنََا يَكْتُبُونَ مََا تَمْكُرُونَ} يدل على أنه أراد بما تقدّم العقوبة لأنه ذكر عقيبه ما يدل على أن [جميع] مكرهم ومعاصيهم مكتوب معروف لكى لا يجازوا عليه إلا بمثله، ولو كان تعالى يمكر فى الحقيقة ويفعل الظلم والقبيح لم يكن لهذا القول معنى!
320 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه الفاعل لحركات العباد فى البر والبحر، فقال: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} [22].
__________
(1) من الآية: 21.
(2) الآية: 21وما تقدم تتمتها.
(3) فى د: وأنه أراد: وف: وإن أراد.
(4) د: الكفر.(1/427)
والجواب عن ذلك: أن ما يحصل من سير راكب الفلك فى البحر، هو من فعله تعالى فى الحقيقة لأنه المجرى له مجرى الماء، والاعتماد الذى فيه هو من فعله تعالى، وإذا كان من الملاح جدف له فليس يخرج من أن يكون تعالى هو المسير من حيث جعل الماء بالصفة التى يصح التسيير عليها، وجعلها فى الاعتماد بحيث تعين الملاح، فصار فعله لا يتم إلا بأفعاله تعالى ولا يمتنع أن يضاف إليه لأن من حق أجزاء الفعل إذا وقعت من فاعلين، والمعلوم من حال أحدهما أنه كان يتم منه التفرد [و] من حال الآخر أن ذلك لا يصح منه، صار جميعها كأنه من فعل من يصح منه التفرد، فهو بالإضافة إليه أحق، ولذلك لو حمل القوى منا والضعيف جسما ثقيلا وحالهما ما وصفنا لوجب أن ينسب ذلك إلى القوى، ولهذا صح أن يضيف تعالى سيرهم فى البحر إلى نفسه على كل حال، وإن كان هناك فى بعض الأحوال من العباد جدف [و] تحريك.
فأما سير (1) العباد فى البر فقد يضاف إلى الله تعالى، من حيث أمر به وبعث عليه إذا كان السير طاعة، فأما إذا كان معصية فلا يجوز أن يراد بالكلام، لأنه لا يصح أن يضاف إليه تعالى على وجه من الوجوه.
وقد يحتمل أن يريد تعالى أنه مهد لهم الأرض ووطأها على الحد الذى صح معه السير عليها، فصار ذلك السير فى الحكم كأنه من قبله، وعده عليهم فى جملة نعمه.
والوجه الأول هو الذى اختاره أبو على رضى الله عنه، لأن ما معه يصح الفعل لا يوجب حسن الإضافة، وإلا كان يجب جواز إضافة المعاصى إليه، لأنه الذى قوى عليها بوجوه التقوية والتمكين.
__________
(1) ف: لتيسيره وصوابها: تسييره.(1/428)
لكن لقائل أن يقول: إن فى المعاصى قد حصل ما يوجب قطع الإضافة، من جهة (1) النهى والزجر والتخويف، فكان قطع الإضافة أغلب عليه من الإضافة، وليس كذلك ما لم (2) يحصل فيه هذا المعنى، من حيث جعل تعالى الأرض فى الصلابة والاستواء بحيث يمكن العباد (3) السير عليها، فيقوى بذلك ما ذكرناه ثانيا.
321 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يخص بالهدى من يشاء، فقال:
{وَاللََّهُ يَدْعُوا إِلى ََ دََارِ السَّلََامِ، وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [25].
والجواب عن ذلك قد تقدم لأنا قد بينا أن فى أقسام الهدى ما يصح فيه التخصيص وما يجب فيه (4) التعميم، وما يجوز أن يضاف إليه تعالى منه.
وما لا يضاف مما يبين المراد بكل ما يرد بعده من المسائل (5).
والمراد بهذه الآية: أنه يهدى من يشاء إلى الدين المستقيم، وهم المكلفون أجمع. ويجوز أن يريد به زيادة الهدى «ويريد به المؤمن (6) ويجوز أن يريد بالصراط طريق الجنة.
وقال شيخنا أبو على «رضى الله عنه (7): إن هذه الآية قوية فى باب
__________
(1) ساقطة من د.
(2) «لم» ساقطة من د.
(3) د: للعبد.
(4) ساقطة من د.
(5) انظر الفقرة 22وقد أحال القاضى على ما قدمه فيها بكثرة.
(6) كررت هذه الجملة فى د.
(7) ف: رحمه الله(1/429)
الدلالة على العدل، لأنه تعالى لا يجوز أن يصف نفسه بأنه يدعو إلى دار السلام وهو مع ذلك يصد عن الإيمان ويصرف عنه ويمنع منه، إلا أن يقول المخالف إنه تعالى إنما يدعو إلى دار السلام من قضى عليه الإيمان دون سائر العباد، فيزول بذلك عن ظاهر القول ويخرج عن دين الإسلام (1)، لأن الأمة تصفه تعالى بأنه يدعو جميع المكلفين إلى دار السلام، ولأن الدعاء هو الأمر من الله تعالى، ولا شك أنه قد أمر الكل بالإيمان الذى يؤدى إلى استحقاق دار السلام.
322 - وقوله تعالى من بعد: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى ََ وَزِيََادَةٌ}
[26] ربما تعلق به من يقول بجواز الرؤية على الله تعالى، ويروى فيه ما يقوى تأويله (2)، وليس للآية ظاهر لأنه لم يذكر ما تلك الزيادة، فمن أين أن المراد بها ما قالوه؟
__________
(1) د: دار السلام.
(2) أخرج مسلم فى صحيحه من رواية حماد بن سلمة عن ثابت البنانى عن عبد الرحمن ابن أبى ليلى عن صهيب عن النبى صلّى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال:
يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم، فيقولون ألم تبيض وجوهنا! ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار! قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل) قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة بهذا الإسناد، وزاد: ثم تلا هذه الآية: {[لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى ََ وَزِيََادَةٌ]}. قال النووى: هذا الحديث هكذا رواه الترمذى والنسائى وابن ماجة وغيرهم قال أبو عيسى الترمذى وأبو مسعود الدمشقى وغيرهما: لم يروه هكذا مرفوعا عن ثابت، غير حماد بن سلمة! ورواه سليمان بن المغيرة وحماد بن زيد وحماد بن واقد، عن ثابت، عن ابن أبى ليلى، من قوله، ليس فيه ذكر النبى صلّى الله عليه وسلم، ولا ذكر صهيب. قال ابن حجر: وكذا قال معمر، أخرجه عبد الرزاق عنه. وأخرج الطبرى من طريق أبى موسى الأشعرى، نحوه موقوفا عليه، ومن طريق كعب بن عجرة مرفوعا قال: «الزيادة النظر إلى وجه الرب» ولكن فى إسناده ضعف.
ر: صحيح مسلم بشرح النووى 3/ 1716، فتح البارى لابن حجر: 8/ 279صحيح الترمذى بشرح ابن العربى: 12/ 270269. قال القاضى: «وما رووه من أخبار الآحاد، فلا يصح قبول ذلك فيما طريقه العلم» ونقل عن أبى على رحمه الله: «أن ذلك لا يصح،(1/430)
ولو قيل: إن ظاهره يدل على أن المراد بها من جنس الحسنى المتقدم ذكره الذى هو النعيم، لكان أقرب لأن إطلاق هذه الكلمة بعد تقدم ذكر بعض الأمور يقتضى أن الزيادة من ذلك الباب بالتعارف، إلا أن يمنع منه دليل!
ولو كان المراد به الرؤية على مذهبهم لكانت الزيادة أعظم من الحسنى (1)! ويوجب أن يكون تعالى يلتذ بالنظر إليه ويشتهى، فيكون ذلك من جملة النعيم واللذات!! وهذا خروج من الدين، وإن كان القول بأنه جسم يقتضيه، لأنه إذا صح فيه ذلك لم يمتنع أن يشتهى النظر إليه، بل لمسه ومعانقته، تعالى الله عن ذلك (2)!
323 - دلالة: وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئََاتِ جَزََاءُ سَيِّئَةٍ، بِمِثْلِهََا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، مََا لَهُمْ مِنَ اللََّهِ مِنْ عََاصِمٍ} [27] يدل على أنه تعالى لا يعاقب المسيء إلا بقدر ما يستحقه، ولذلك فصل بينه وبين المحسن، فضم له الزيادة تفضلا، واقتصر (3) فى المسيء على مجازاته بمثل إساءته.
ولو كان تعالى على ما تقوله المجبرة من أنه يجوز أن يفعل القبيح، ويعذب أطفال المشركين، ومن لا يستحق العذاب، لم يكن لتنزيهه نفسه فيمن اكتسب السيئات عن أن يجازيه إلا بمثلها، معنى.
__________
ولا يثبت عند الرواة، ولو صح لكان معارضا بما روى عن على عليه السلام وغيره، أنهم قالوا فى تفسير الزيادة: إنها تضعيف الحسنات، وهو الذى أراده عز وجل بقوله: {[مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثََالِهََا]} انظر المغنى: 4/ 222.
(1) قال القاضي: «لا يصح أن يبشر تعالى المحسن بأن يعطيه الحسنى ويزيده ويريد بالزيادة الأمر المتقدم فى الترغيب، والذى لا لذة تساويه وتشاكله، لأن الحكيم لا يجوز أن يرغب فى طاعته على هذا الوجه»!
انظر المغنى: 4/ ص، 223.
(2) انظر الفقرة: 261/ ب. والفقرة: 313
(3) فى د: واقتصروا.(1/431)
وهذه الآية تدل على قولنا فى الوعيد لأنه تعالى بين فيمن اكتسب السيئات أنه لا عاصم له من الله (1)، ولو كان يقبل فيه الشفاعة لم يصح ذلك، ثم ذكر من بعد أنه تعالى يخلدهم فى النار، فدل به على أنه لا ينقطع عنهم العذاب.
324 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن قضاءه وقدره يوجبان على الفاسق أنه لا يؤمن، فقال تعالى: {كَذََلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} [33].
والجواب عن ذلك يقتضى أن كلمته تعالى حقت عليهم أنهم لا يؤمنون، وذلك خبر من الله تعالى، وخبره لا يجوز أن يتبدل فلا يكون إلا صدقا وحقا، وليس فيه بيان أنه يمنع الفاسق من الإيمان، أو يخرجه من أن يقدر على خلاف الفسق، فلا ظاهر لهم فى هذه الآية!
325 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أنه منع الكفار من القبول من الرسول عليه السلام، وجعلهم بحيث لا يعقلون (2) ولا يسمعون ولا يبصرون. وهذا يحقق ما نقوله، فقال (3) تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كََانُوا لََا يَعْقِلُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ، أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كََانُوا لََا يُبْصِرُونَ} [4342].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يقتضى إلا أنه صلّى الله عليه وسلم لا يسمع الصم ولا يهدى العمى، وليس فيه بيان حال الكفار وأنهم فى الحقيقة
__________
(1) د: أمر الله.
(2) ف: لا يعلمون.
(3) ساقطة من د.(1/432)
لا يسمعون ولا يعقلون، وظاهر الكلام؟؟؟ عن الاستفهام، وإن كان؟؟؟
به التقرير.
والمراد بالآية: أن قوما من الكفار كانوا يستمعون إليه صلّى الله عليه وسلم فيما يتلوه قصدا منهم إلى التكذيب والأذى، دون التفكر والتقبل، فبين تعالى أنهم بمنزلة الصم الذين لا يعقلون، من حيث اشتد تمسكهم بالتكذيب وعدلوا عن طريقة التبين، كما يقول أحدنا لمن بين له فلم يتبين راجعا إلى نفسه باللائمة: أفيمكنني أن أسمع الصم وأبين للجماد، وأعرّف البهيمة؟ وكذلك:
{أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ} لأنهم كانوا يشاهدون المعجزات، كما يسمعون القرآن، ويقصدون الطعن دون تبين الحق، فبين أنهم كالعمى فى أنهم لا يعرفون.
326 - وقوله تعالى من بعد: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَظْلِمُ النََّاسَ شَيْئاً وَلََكِنَّ النََّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [44] يدل على قولنا فى العدل لأنه بين أن هؤلاء الكفار الذين عدلوا عن طريقة الدين فاستحقوا العقاب والهلاك، هم الذين ظلموا أنفسهم، وأنه تعالى إذا عاقبهم لم يكن ظالما لهم، ولو كان الأمر على ما تقوله المجبرة لم يصح أن ينزه نفسه عن الظلم، مع أن جميعه من قبله، ولا يصح أن ينفى عن نفسه فعل الظلم، وهو الخالق له، ويضيفه إلى من لم يفعله!
327 - دلالة: وقوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذََابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلََّا بِمََا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [52] يدل على أنه تعالى لا يفعل إلا الحق والصواب، من حيث نزه نفسه عن أن يعاقب ويحازى إلا بما كسبه المرء.(1/433)
وفيه دلالة على أن العذاب يدوم بالظالم لأنه تعالى وصفه بأنه عذاب الخلد، وهذا لا يكون إلا دائما، كما أنه لو وصف الجنة بالخلد أنبأ ذلك (1)
عن دوامها.
328 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه الفاعل للحق والجاعل له حقا! فقال: {وَيُحِقُّ اللََّهُ الْحَقَّ بِكَلِمََاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [82].
والجواب عن ذلك: أنه ليس فى ظاهره أنه خلق الحق وفعله، ولو دل الظاهر عليه لم يكن فيه أن الحق المذكور هو من أفعال العباد، فلا يصح تعلقهم به.
والمراد بذلك أنه يبين الحق ويدل عليه بكلماته لأنها الأدلة التى يعلم بها أكثر الحق، ويستدل بها الملائكة وغيرهم عليه (2).
ولولا أن المراد ما قلناه لم يكن لذكر الكلمات معنى، لأنه تعالى لا يخلق الحق بالكلمات لأنها أيضا من خلقه، فلو جوزنا أن يخلقها بمثلها فذلك يؤدى إلى ما لا نهاية له، وقد بينا القول فى أنه تعالى لا يجوز أن يخلق الأشياء ب كن (3). ومن يخالف فى ذلك لا يمكنه التعلق بهذه الآية: لأنها تدل على أنه يخلق الحق بكلمات، وليس هذا طريقة القوم، بل قولهم إنه يستحيل على كلامه تعالى الجمع، وإنما هو معنى واحد لا يتجزأ ولا يتبعض، وقد بينا (4) فى قوله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبََاطِلَ} الكلام (5) فلا وجه لإعادته (6).
__________
(1) ساقطة من ف.
(2) ساقطة من ف.
(3) انظر الفقرة: 52والفقرة: 261.
(4) ساقطة من د.
(5) ساقطة من د.
(6) الآية 8فى سورة الأنفال، ولم يتقدم شرحها.(1/434)
329 - مسألة: قالوا ثم ذكر بعده ما يدل على أنه يجعل العباد فتنة لبعض فقال: {رَبَّنََا لََا تَجْعَلْنََا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظََّالِمِينَ} (1).
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا الكلام فى المسألة والدعاء، وأنهما لا يدلان على أن المطلوب يفعل، أو يحسن أن يفعل بلا شرط، وبينا أن الداعى متى لم يشترط فى دعائه فقد وضعه فى غير موضعه، وشرحنا القول فى ذلك (2).
والمراد بهذه الآية: أنهم سألوه تعالى أنه لا يجعلهم فتنة للكفار، بأن ينزل بهم من المحن والخذلان (3)، وظفرهم بهم ما تقوى معه نفوسهم ويطمئنوا إلى الكفر، فيكون ذلك فتنة عليهم، وربما يكون فتنة على المؤمنين، لما يحصل لهم من ضعف النفس بورود هذه الأمور!
وقد قيل: إنهم سألوا أن يخلصهم من أسر (4) الكفار الذين كانوا يستعبدونهم ويتخذونهم خولا ورقيقا لأن ذلك فتنة عليهم فى الدين وشدة ومحنة. وهذا ظاهر.
330 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يضل الكفار عن الحق، ويفيض عليهم النعم لكى يضلوا، فقال: {وَقََالَ مُوسى ََ رَبَّنََا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوََالًا فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا رَبَّنََا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} [88].
__________
(1) من الآية: 85.
(2) انظر الفقرات: 13، 14، 292.
(3) د: ومن الخذلان.
(4) د: أشرار.(1/435)
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه أنعم عليهم بالأموال والأحوال فى الدنيا إرادة أن يضلوا، وليس ذلك مذهب القوم، لأن عندهم هو مريد فيما لم يزل لضلالتهم، وما خلقهم الله إلا له، ولا يصح مع هذا القول تعليق الضلال بالأموال والأحوال، وإنما يصح ذلك مع القول بأن الإرادة حادثة مع الفعل (1)، فتعلقهم بالظاهر لا يصح!
وبعد، فإن من قولهم أنه تعالى يخلق فيهم الضلال عن السبيل فيضلوا كانت الأموال «أولم (2) تكن، فكيف يصح تعليق ضلالهم بهذه الأمور مع أنه لا يتعلق عندهم إلا بخلقه تعالى، فإن خلقه وجدوا ضالين عن سبيله، كانت الزينة والأموال «أولم (3) تكن، وإن لم يخلقه فيهم لم يوجدوا كذلك، وإن كانت الأموال، فتعلقهم بذلك لا يصح، بل الأولى أن يستدل به على أن الضلال من قبلهم، فصارت الأموال كالداعية إلى اختيارهم له، حتى يكون لتعلقه بها معنى.
وبعد، فإنه تعالى إن خلق فيهم الضلال فما الوجه فى نسبة الضلال إليهم وما فعلوا ضلالا فى الحقيقة؟ فذلك يدل على خلاف ما قالوه.
والمراد بالآية عند أبى على رضى الله عنه: أنه أعطاهم الزينة والأموال لئلا يضلوا، فحذف عن الكلام لفظة «أن» وهذا كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} (4) إلى ما شاكله. ودل على ذلك بأنه لو لم يحمل على هذا الوجه
__________
(1) انظر ما كتبه القاضي فى الدلالة على أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدا بإرادة قديمة، وأنه يجب كونه مريدا بإرادة محدثه: المغنى: 6المجلد الثانى، ص: 148137.
(2) فى د: ولم.
(3) فى د: ولم.
(4) من الآية 176من سورة النساء.(1/436)
لحمل (1) على أنه أراد الضلال منهم، وذلك لا يصح عقلا وسمعا، لأنه تعالى قد دعاهم إلى خلاف الضلال، وبعث الأنبياء ليدعوهم إلى خلافه، وقد قال تعالى:
{وَلَقَدْ أَخَذْنََا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرََاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (2) فبين أنه أراد منهم خلاف الضلال، وقال لموسى وهارون:
{فَقُولََا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ََ} فبين أنه لا يريد منهم إلا التذكر والخشية، وذلك لا يطابق إرادته الضلال منهم، بل يناقض ذلك وينافيه.
قال رحمه الله: ولئن جاز أن يعطيهم الزينة والأموال لكى يضلوا، ليجوزن أن يبعث إليهم الأنبياء ليدعوهم إلى الضلال، وذلك يوجب زوال الثقة بالكتاب والسنة والدلائل والنبوات!
وقد قيل: إن المراد به الإنكار لأن يعطيهم الأموال فى الدنيا لكى يضلوا، لأنه لا يمتنع أن يكون القوم مجبرة ينسبون الضلال إليه تعالى وإلى أنه واقع بإرادته، فقال موسى منكرا لذلك: {رَبَّنََا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}! بمعنى أنك لم تفعل يا رب ما فعلته من الإنعام لكى يضلوا! وهذا كما يقول أحدنا لولده عند العتب واللوم: قد أعطيتك الأموال وأديتك وعلمتك لكى تعصينى، على طريق الزجر عن معصيته.
وقد قيل: إن المراد به الاستفهام وإن حذف حرف الاستفهام عنه، لما فى الكلام من الدلالة عليه، فكأنه عليه السلام قال (3): يا رب أعطيتهم الأموال والزينة والأحوال فى الدنيا ليضلوا عن سبيلك؟ وأراد به نفى أن يكون فعل
__________
(1) د: حمله.
(2) سورة الأعراف: 130.
(3) د: كان قال.(1/437)
ذلك لهذا الوجه، كما قال تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنََّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلََهَيْنِ مِنْ دُونِ اللََّهِ} (1) وإرادته الإنكار لذلك دون الاستفهام فى الحقيقة.
وقد قيل فى تأويله: إن المراد باللام: العاقبة، فكأنه قال: آتيتهم الزينة والأموال وأنت عالم بأن مصيرهم إلى الضلال عن سبيلك والاستمرار على الكفر، ولكل واحد من هذه الوجوه مجال فى طريقة اللغة، فلا يصح تعلق القوم بالآية.
331 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه قد لا يقبل الإيمان، وقد يقبله، وأن الأمر فى ذلك إليه لا اختيار للعبد فيه، فقال: {وَجََاوَزْنََا بِبَنِي إِسْرََائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتََّى إِذََا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قََالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرََائِيلَ}
[90] ثم قال: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [91] فبين أن إيمانه غير مقبول.
والجواب عن ذلك: أنه تعالى بين أن عند إدراك الغرق صار ملجأ إلى ما أظهره فلم ينفعه ذلك (2)، كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمََانُهُمْ لَمََّا رَأَوْا بَأْسَنََا} (3) وكما قال: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئََاتِ حَتََّى إِذََا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} (4) وإنما كان ذلك لأن الإنسان إذا فعل، على طريقة الإلجاء، الطاعة والإيمان لم يستحق المدح عليه، وصار فعله عند الإلجاء
__________
(1) من الآية: 116فى سورة المائدة.
(2) ساقطة من د.
(3) من الآية: 85فى سورة غافر.
(4) من الآية 18فى سورة النساء.(1/438)
فى حكم فعل غيره، ولذلك قلنا: إن ندم أهل النار لا يكون توبة ولا ينفع، لما وقع منهم على جهة الإلجاء، وإذا أعلمهم تعالى أنهم إن حاولوا القبيح منعهم منه لم يستحقوا على ذلك مدحا. كما أن أحدنا إذا علم أنه إن قصد ظالما بالقتل وغيره لمنع منه، لم يمدح على امتناعه.
وليس فى ذلك دلالة على أن الإيمان لو وقع منهم اختيارا لم ينفعهم، بل فى ظاهر الكلام دلالة عليه، وهو قوله: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} فبين أن لهذه الحال تأثيرا فى أن لا ينفعه ما أظهره، ولو كانت الأحوال متساوية لم يكن لهذا القول معنى. وفى الآية دلالة على العدل، لأنه تعالى إن كان يخلق الإيمان فى الكل فلم تختلف أحوال المختار والملجأ، وهما بمنزلة سواء فى أنه تعالى خلق الإيمان فيهما؟
وبعد، فإن كان الإلجاء يمنع من الانتفاع بالإيمان فبأن يمتنع كونه ضرورة من خلقه تعالى أولى، فلو كان الأمر كما يقولون لوجب أن يكون المختار أسوأ حالا من الملجأ لأنه قد أوجد فيه الإيمان وقدرته وإرادته، ومنع من قدرة الكفر، حتى لا يمكنه الانفكاك، والملجأ قد يصح منه خلاف ما ألجئ إليه على بعض الوجوه. وكل ذلك يبين أن العبد قادر فاعل، فلذلك اختلفت الأحوال.
332 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه قد فعل ما يمنع به الكافر من الإيمان، فقال {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ} [1] رَبِّكَ لََا يُؤْمِنُونَ [96]
والجواب عن ذلك قد تقدم لأنا قد بينا أن ظاهره أن كلمته تعالى الدالة
__________
(1) فى د: كلمات.(1/439)
على أنهم لا يؤمنون إذا تقدمت وهى صدق وحق، فالمعلوم أنهم لا يؤمنون، وليس فيه أنهم لا يقدرون على الإيمان، أو لا يجدون السبيل إليه (1).
333 - وقوله تعالى من بعد: {وَلَوْ جََاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتََّى يَرَوُا الْعَذََابَ الْأَلِيمَ} [97] يدل على أنه لا لطف (2) لهم، وأن المعلوم من حالهم أنهم يكفرون على كل حال.
وفيه دلالة على أنه لو كان فى المعلوم لطف لكان سيفعله، على ما نقوله.
334 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أنه لم يرد الإيمان من الكفار، فقال: {وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [99] ولو كان قد أراد الإيمان من الكل، لم يصح أن ينفى ذلك بهذا القول.
والجواب عن ذلك، أنا قد بينا أن نفى المشيئة لا يدل على أنه لم يشأ على كل حال لأنه قد يشاء الإيمان على وجهين هما كالمتنافيين، فليس فى النفى ما يدل على العموم، فإذن يجب أن ينظر فى المشيئة المنفية ما هى، بضرب من الدليل، وذلك يبطل تعلقهم بالظاهر!
وقد بينا أن المراد بذلك أنه لو شاء أن يكرههم ويلجئهم إلى الإيمان لآمنوا أجمع (3)، ودل على أن هذا هو المراد بقوله تعالى آخرا: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النََّاسَ حَتََّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (4) منبها بذلك على أنه المقتدر على ذلك دون الرسول عليه السلام، وأن شدة محبة الرسول فى ذلك لا تنفع إذا هم لم يؤمنوا اختيارا.
__________
(1) انظر الفقرة: 321.
(2) د: لا يغفر.
(3) انظر الفقرة: 80والفقرة: 195.
(4) تتمة الآية السابقة: 99(1/440)
335 - مسألة: وقوله تعالى من بعد: {وَمََا كََانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ} [100] لا يصح للقوم «التعلق به (1) فى أن المؤمن لا يؤمن إلا بمشيئته لأن عندنا (2) أن الإيمان خاصة لا بد من أن يريده تعالى، وإنما نمنع من أن يريد الكفر، ولو احتججنا (3) نحن به كان أقرب فى أنه تعالى يريد الإيمان من الجميع دون الكفر، فلذلك خص الإيمان بأنه علقه بإذنه دون غيره.
والمراد بالآية: أن أحدا لن يؤمن إلا وقد كلف تعالى وأمر وأزاح العلة، والإذن إذا لم يرد به العلم والإباحة فالمراد به الأمر والإلزام، وهو الذى أراده تعالى بالآية لأنه لولا التكليف والأمر والإلزام، لم يصح من أحد أن يؤمن على الحد الذى أمر به وأربد منه، واستعمال الإذن فى الإرادة غير معروف، فتعلقهم بذلك لا يصح.
__________
(1) د: تعلق.
(2) د: عند.
(3) د: واحتجاجنا.(1/441)
ومن سورة هود عليه السلام
336 - دلالة: وقوله تعالى (1): {الر، كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [1] يدل على أن الكتاب محدث، وأن كلامه مفعول لأنه تعالى وصفه بأنه [أحكم] والإحكام لا يكون إلا فى الفعل الذى ينفصل حاله بالإحكام من حال المختل المنتقض من الأفعال.
وقوله تعالى: {ثُمَّ فُصِّلَتْ} يدل أيضا عليه لأن التفصيل لا يصح فى القديم، وإنما يصح فى الفعل المدبر إذا فعل على وجه يفارق الأفعال المجملة التى لم تنفصل بالتدبير والتقدير.
وقوله: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} يدل أيضا على حدوثه لأن القديم لا يجوز أن يضاف إلى أنه من لدن غيره، وإنما يطلق (2) ذلك فى الأفعال الصادرة عن الفاعل، فيقال: إنها من لدنه، ومن قبله، ولو كان الكتاب والقرآن قديما لم يكن بأن يضاف إلى الله تعالى وأنه من لدنه، بأولى من أن يكون تعالى مضافا إليه، على هذا الوجه.
ولمثل هذا قلنا: إن قول الناس فى القرآن: «منه بدأ وإليه يعود (3)» من أقوى ما يدل على حدثه لأن البداية والإعادة إنما يصحان فى المحدث الذى
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ف: أطلق.
(3) قال ابن تيمية: إن هذا القول فى القرآن هو المأثور والثابت عن السلف، مثل ما نقله عمرو بن دينار، قال: أدركت الناس منذ سبعين سنة يقولون: الله الخالق وما سواه مخلوق، إلا القرآن، فانه كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. قال ابن تيمية «ومعنى [منه بدأ] أى: هو المتكلم به، وهو الذى أنزله من لدنه، ليس هو كما تقوله الجهمية: إنه خلق فى الهواء، أو غيره، وبدأ من غيره! وأما «إليه يعود» فانه يسرى به فى آخر الزمان من المصاحف والصدور، فلا يبقى فى الصدور منه كلمة، ولا فى المصاحف منه حرف».
انظر: المناظرة فى العقيدة الواسطية (مجموع الرسائل الكبرى) 1/ 411.
وانظر فيه كذلك: العقيدة الواسطية: 1/ 396.(1/442)
يبتدأ به مرة ويعاد أخرى، وإنما يصح إضافة بدوّه إلى الغير، من حيث فعله وأحدثه، فكأن (1) القوم صرحوا بحدثه (2)، من حيث توهم قوم أنهم نفوا عنه الحدث!
337 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أن المكان يجوز عليه، وعلى أنه يبتلى العباد ويختبر [هم] بأن يفعل فيهم المعصية والطاعة، فقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيََّامٍ وَكََانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمََاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [7]
والجواب عن ذلك: أنه لا ظاهر لإضافة العرش إليه فى أنه مكانه لأن الإضافات على هذا الحد تفترق وتنقسم، على ما بينا القول فيه (3).
وقد قيل: إن المراد بالعرش العز والاقتدار، دون الجسم العظيم، وهذا يبطل تعلقهم به.
فأما أبو على رحمه الله، فإنه حمل الكلام على العرش فى الحقيقة. فقال:
كان الماء ساكنا واقفا لتعتبر (4) به الملائكة قبل خلق السموات والأرضين، ثم نقله تعالى إلى فوق السموات [والأرض] بعد خلقه لهما، وبين بذلك (5)
اقتداره.
وقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} يدل على أنه أراد أن يستدل بهذه الأمور، والبلوى هو التكليف منه وإن كان فى ظاهره يوهم أن المبتلى يتعرف ويستخبر ما لا يعرف، لكن ذلك يستحيل على الله تعالى.
__________
(1) د: كأن.
(2) د: حدثه.
(3) انظر الفقرة: 85.
(4) ف: تعتبر.
(5) د: وعلى ذلك.(1/443)
وليس فيه دلالة على أنه الخالق لأفعالهم، بل يدل على خلافه، لأن الابتلاء والامتحان والتكليف لا يصح إلا مع القدرة والتمكين من الأفعال، على ما نقوله فى هذا الباب.
338 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على إثبات علم له يعلم به الأشياء، فقال: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمََا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللََّهِ} [14].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يوجب أن إنزال القرآن بالعلم، ويدل على أنه به (1) يوصل إليه حتى يكون كالقدرة والآلة، وذلك ليس بقول لأحد، وقد بينا القول فى ذلك فى آخر سورة النساء (2).
والمراد بالآية: التنبيه على إعجاز القرآن لأنه تعالى بين قبل هذه الآية ما يجرى مجرى التحدى، فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيََاتٍ} [13] ثم قال منبها على تعجيزهم: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ}
يعنى: فى المعارضة، فاعلموا أنما أنزل من قبله تعالى، ولاختصاصه بكونه عالما بما هو عليه من الفصاحة والنظم، ولا مدخل لإثبات العلم فى هذا الباب، يبين ذلك أنه تعالى قرر أنه أنزل بعلمه، من حيث تعذر عليهم، وإثبات علمه لا يتقرر بهذا الوجه، وإنما يتقرر به أنه معجز من قبله، من حيث تعذر عليهم فعل مثله.
339 - دلالة: وقوله تعالى: {مَنْ كََانَ يُرِيدُ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا وَزِينَتَهََا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمََالَهُمْ فِيهََا وَهُمْ فِيهََا لََا يُبْخَسُونَ. أُولََئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي}
__________
(1) ساقطة من د.
(2) قال تعالى فى سورة النساء {[لََكِنِ اللََّهُ يَشْهَدُ بِمََا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ]} الآية 166 ولم يتقدم لها شرح على أن المؤلف رحمه الله قد بين القول فى هذا الموضوع فى أواخر سورة البقرة فى شرحه لقوله تعالى: {[وَلََا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلََّا بِمََا شََاءَ]} الآية 255.(1/444)
{الْآخِرَةِ إِلَّا النََّارُ وَحَبِطَ مََا صَنَعُوا فِيهََا وَبََاطِلٌ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} [1615].
يدل على أمور:
منها: أنه تعالى يؤخر جزاء (1) المعصية من غير بخس ونقص، وفى ذلك.
إبطال القول بأنه تعالى يغفر ويسقط العقاب.
وفيه دلالة على أنه تعالى لا يزيد المعاصى على قدر ما تستحقه من العقاب، ولو كان تعالى يجوز أن يبتدئ بالعقاب من لا يستحقه لم يكن لهذا القول معنى!
ويدل قوله: {أُولََئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النََّارُ} على أنهم لا يخرجون عنها ويدخلون الجنة لأن ذلك يوجب أن لهم فى الآخرة الجنة، كما أن لهم النار، بل بأن (2) تضاف إليهم الجنة وكونهم فيها يدوم أولى.
وقوله: {وَحَبِطَ مََا صَنَعُوا فِيهََا وَبََاطِلٌ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} يدل على قولنا فى الإحباط لأن المراد بذلك أن ما صنعوا من الطاعات حبط ثوابه وزال، ولذلك قال تعالى بعده: {وَبََاطِلٌ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} يعنى أنهم أفسدوه، وأخرجوا أنفسهم، بالإقدام على الكبائر، من (3) أن ينتفعوا بثوابه، فصار باطلا من هذا الوجه.
340 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه جسم يجوز عليه المكان، فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً، أُولََئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى ََ رَبِّهِمْ} [18].
والعرض عليه إنما يكون بأن يحصلوا (4) بالقرب منه.
__________
(1) ساقطة من د.
(2) د: أن.
(3) ساقطة من د.
(4) د: يحصل.(1/445)
والجواب عن ذلك: أن حقيقة العرض عليه يستحيل لأن العرض على أحدنا فى الشاهد، هو بأن يصير رائيا لما يعرض عليه بعد أن لم يكن كذلك، ومتى كان مشاهدا له فى كل حال لم يوصف بذلك، والله تعالى راء للمرئيات فى كل حال، لا ينتقل فى ذلك من حال إلى حال، فحقيقة العرض إذا لا يصح عليه، فلا بد من تأويل الآية.
والمراد بها: أنهم (1) يعرضون على الموضع الذى أعده الله للمحاسبة، فيسألون ويحاسبون، فجعل تعالى العرض على الموضع عرضا عليه، على جهة التوسع، ولذلك قال تعالى: {وَيَقُولُ الْأَشْهََادُ هََؤُلََاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى ََ رَبِّهِمْ} (2)
لما بان بالمحاسبة حالهم عند الإشهاد، وكل ذلك يبين أنه تعالى إنما يفعل ذلك لطفا للمكلف لكى (3) إذا علم ذلك فى دار الدنيا كان أقرب إلى مفارقة القبائح.
341 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن الكفار لم يعطوا «قوة ما (4) كلفوا ولا وجد فيهم الاستطاعة له، فقال: {أُولََئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمََا كََانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ مِنْ أَوْلِيََاءَ يُضََاعَفُ لَهُمُ الْعَذََابُ، مََا كََانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} (5).
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام يقتضى نفى (6) استطاعتهم عن السمع، والسمع ليس بفعل للعبد فى الحقيقة، ولا يصح أن يخلق فيه القدرة
__________
(1) ساقطة من د.
(2) من تتمة الآية السابقة: 18.
(3) استعملها المؤلف بمعنى حتى.
(4) ساقطة من د.
(5) الآية: 20وتتمتها: {[وَمََا كََانُوا يُبْصِرُونَ]}.
(6) ساقطة من د.(1/446)
والاستطاعة على كل حال، فتعلقهم بالظاهر لا يصح، وإنما كان يصح ذلك لو نفيت الاستطاعة عما يصح أن يقدر عليه العبد (1) ويفعله.
وبعد، «فإنهم قد ذموا بأن وصفوا (2) بأنهم لا يستطيعون السمع، ولو أريد به نفى الاستطاعة لم يستحقوا الذم بذلك لأن أحدنا لا يذم على أن لم يخلق فيه القدرة والحياة، وإنما يذم على أفعاله، فإذن يجب أن يكون المراد بالآية أنهم كانوا يستثقلون الاستماع إلى ما يرد عليهم من الحجج والأدلة، ويقل اكتراثهم به وقبولهم له. وهذا ظاهر فى الشاهد لأن المعرض عن سماع كلامنا المستثقل له قد يقال فيه: إنك لا تستطيع أن تسمع الحق، ولا أن تقبله. ومتى حمل على هذا صح جعله ذما لهم، على ما قد بيناه.
وقوله تعالى: {وَمََا كََانُوا يُبْصِرُونَ} مع علمنا من حالهم بأنهم كانوا يرون، يدل على ما قلناه لأن المراد بذلك أنهم فى حكم من لا يبصر، من حيث لم ينتفع بما يرى ويسمع، على ما بيناه فى شواهده من قبل.
342 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يخلق الغى والفساد والكفر، فقال: {وَلََا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كََانَ اللََّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} (3).
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يدل على أنه تعالى قد فعل الغواية، وإنما يدل على أن نصحه لا ينفع إن كان تعالى يريد ذلك، وهل يريده ويفعله أم لا؟ لا يتناول من الظاهر ولا يدل عليه، فالتعلق به بعيد!
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ف: فانهم قد وصفوا.
(3) الآية: 34، وتتمتها: {[هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]}.(1/447)
وقد قال جعفر بن حرب (1) رحمه الله: «الآية تتعلق (2) بأنه كان فى قوم نوح طائفة تقول بالجبر وبأنه تعالى يريد الفساد، فخاطبهم منبها لهم على بطلان قولهم، فقال: ولا ينفعكم نصحى فيما أدعوكم إليه وأنبهكم عليه (3)، إن كان الأمر كما ذكرتم من أنه تعالى المريد لفسادكم ويخلق الكفر فيكم.
وهذا كما نقوله فى (4) المجبرة: إن كان الأمر كما تقولون فلا منفعة فى بعثة الله الأنبياء، ولا فى الدعاء إلى الله تعالى، ولا فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لأن ذلك أجمع لا يمنعه تعالى من خلق ما يريد، ولا يصح فيه تعالى المغالبة، فسلك صلّى الله عليه فى محاجة قومه هذه الطريقة.
وأما أبو على رحمه الله فإنه يقول إنما أراد أن يؤكد توبيخهم على كفرهم وتمسكهم به، فقال: {وَلََا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} فيما أدعوكم إليه، والله تعالى قد أراد أن يحرمكم الثواب وينزل بكم العقاب، إلا أن تتلافوا بالتوبة، ورغبهم بذلك فى الرجوع والإنابة.
وذكر أن المراد بالغى هو الخيبة، لأن من فاته الخير ولم يدركه وخاب منه، يوصف بذلك فى اللغة.
وقال غيره إن المراد به: إن كان تعالى قد حكم بأنه يريد أن يعاقبهم، فنصحى لا ينفع، من حيث كان المعلوم أنكم تستمرون على المعاصى، لسوء
__________
(1) هو جعفر بن حرب الهمدانى، متكلم من معتزلة بغداد درس الكلام بالبصرة على أبى الهذيل العلاف، وصنف كتبا معروفة عند المتكلمين كما قال الخطيب البغدادى، «وكان له اختصاص بالواثق» توفى عام 236عن تسع وخمسين سنة. تاريخ بغداد: 7/ 163162.
(2) د: إن الآية تنطق.
(3) ساقطة من د.
(4) ساقطة من د.(1/448)
اختياركم، وقد سمى الله العقاب غيا بقوله: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (1) وكل ذلك واضح.
وأما قوله تعالى من بعد: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فقد مضى (2) القول فيه (3).
343 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على جواز الجوارح عليه، فقال: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنََا وَوَحْيِنََا} [37]، وإذا جازت الأعين عليه جاز سائر الأعضاء، على ما تقوله المجسمة!
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه (4) أمره أن يصنع الفلك بأعينه، ولا يقول أحد من المجسمة إن (8) الفاعل منا يفعل بعينه تعالى، أو بأعينه، وإنما يفعل بقدرة، وبحسب آلاته وعلومه.
وبعد، فإنه يقتضى أن لله أعينا (5)، وليس ذلك مذهب القوم، لأنهم يقولون إن له عينا واحدة، ومنهم من يثبت له عينين، وهذا يقتضى أن له أعينا (9)، من غير أن بوقف على عدده، لأن لفظة الجمع لا تخصص، وهذا بخلاف دين المسلمين، فلا بد ضرورة للقوم من الرجوع إلى أن يتأولوا الآية، ويعترفوا بأن الظاهر لا يدل ولا يشهد بصحة قولهم.
والمراد بذلك: أن اصنع الفلك بما أعطيناك من البصيرة (6) والمعرفة، وسمى
__________
(1) من الآية 58فى سورة مريم.
(2) فى د: نصر.
(3) انظر الفقرة: 59.
(4) فى د: الأولى: أن، والثانية: أنه.
(5) فى نسختين بصيغة الرفع.
(6) د: التبصر.
(8) فى د: الأولى: أن، والثانية: أنه.
(9) فى نسختين بصيغة الرفع.(1/449)
ذلك أعينا، على جهة التوسع كما يقول القائل لغيره: افعل ذلك بمرأى منى ومسمع.
وقد قيل: إنه أراد تعالى: واصنع الفلك مستعينا بالملك (1) وما حمله من الوحى فى تعريفك كيف تصنعه فسمى الملك (2) أعينا له، من حيث كان يبلغ ويبين، كما يقال فى رسول الإنسان، وقد ورد متعرفا: إن هذا عين فلان، يراد بذلك أنه المتعرف (3) عنه الأحوال، أو المبين لغيره ما صدر عنه من الدلالة والبيان.
344 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى ما يدل على أن لوطا اعترف بأنه لا قوة له على ما لم يفعل، فقال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى ََ رُكْنٍ شَدِيدٍ} (4) [80].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يدل إلا على أنه لا قوة له على أمر ما، ولم يذكر فى الكلام ذلك الأمر، ونحن لا نخالف فى أن لا قوة له ولا لسائر العباد على أمور كثيرة، فلا ظاهر للكلام!!
وبعد، فإن ظاهره يقتضى أن لا قوة له البتة، وذلك مما لا يصح عند المخالف، لأنهم يثبتون له قوة على ما كان يفعله فى الحال، فلا بد إذا من دخولهم تحت التأويل واعترافهم بأن لا يصح تعلقهم بالظاهر!
والمراد به: أنه تمنى أن تكون له القوة على إهلاكهم أجمع، لعظيم ما كان يرد عليه من معايبهم وإقدامهم على المنكر ومحاجتهم له بالباطل، ولذلك قال:
__________
(1) فى النسختين: الفلك.
(2) فى النسختين: الفلك!
(3) فى د: المعترف.
(4) الآية {[قََالَ لَوْ أَنَ]} الخ.(1/450)
{أَوْ آوِي إِلى ََ رُكْنٍ شَدِيدٍ} فتمنى مع ذلك أن تكون فى قومه كثرة وقوة لينزل بهم ما يستحقون.
وما تقدم من الكلام وما تأخر عنه يدل على ما ذكرناه.
345 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه الموفق للعباد، وأن الأمور كلها إليه، لا يقدر العباد على ضر ونفع فقال: {وَمََا أُرِيدُ أَنْ أُخََالِفَكُمْ إِلى ََ مََا أَنْهََاكُمْ عَنْهُ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلََاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَمََا تَوْفِيقِي إِلََّا بِاللََّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} (1).
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يدل على أنه لا توفيق للعبد إلّا بالله، وهذا صريح قولنا لأن التوفيق هو عبارة عن اللطف الذى يفعله تعالى، لكى يختار العبد عنده الطاعة ويترك المعصية، فإذا كان المعلوم من حال العبد أنه يفعل ذلك عند أمر من قبله تعالى، فذلك الأمر يسمى لطفا وإذا اتفق عنده فعل الطاعة يسمى توفيقا، فلا توفيق إذا إلا بالله تعالى، فلا يدل الظاهر إذا على ما ظنوه.
وكذلك «فى التوكل (2) لا يكون عندنا إلا عليه لأن المراد بذلك سلوك الاستقامة فى طاعته وفى طلب الرزق من قبله ومجانبة الجزع، وذلك يبطل ظن الجهال، أنا إذا قلنا إن العبد يقدر على الطاعة والمعصية فقد أخرجناه من أن يكون معتمدا على الله تعالى فى التوفيق، متوكلا عليه، وربما تجاهلوا فقالوا: كيف يصح على قولكم أن يرجع الإنسان إلى الله، فيقول: لا حول ولا قوة الا بالله؟
__________
(1) من الآية: 88.
(2) د: فالتوكل.(1/451)
وهذا جهل لأن ذلك إنما يتم على قولنا، من حيث ثبت أنه تعالى المحسن بالحول والقوة علينا، لكى نطيع ونجتنب المعاصى، وعرّضنا بذلك لنيل الثواب والأمانى.
فأما إذا قالوا إنه تعالى قد خذل الكفار بقوة الكفر وأضلهم بها وأعماهم، فكيف يصح إضافة ذلك إليه تعالى، وأن يجعل ذلك من جملة مدائحه؟
ثم يقال للقوم: إن جميع الآية يدل على قولنا فى العدل، لأنه حكى عن نبيه عليه السلام أنه قال: {وَمََا أُرِيدُ أَنْ أُخََالِفَكُمْ إِلى ََ مََا أَنْهََاكُمْ عَنْهُ} فبعثهم بذلك على الإيمان والقبول، ولو كان تعالى ينهاهم عن الكفر ويخالفهم إلى فعله، بأن يخلفه فيهم، لكان لهم أن يقولوا: إن ربك هو (1) المقتدر على الأشياء يفعل ذلك، فما الوجه فى أن تتبرأ منه وترغبنا بذلك فى الإيمان؟
وقوله تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلََاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} يدل على أن الاستطاعة قد تتقدم، لأن ظاهر الكلام يدل على الاستقبال، ويشترط فيه الاستطاعة الثابتة فى الحال.
ويدل على أنه تعالى لا يريد الإفساد، لأنه لو أراده لكان لهم أن يقولوا: إذا كان من هو أقدر منك قد أراد منا الكفر والفساد، فإرادتك الصلاح غير مؤثرة!
وقوله تعالى: {وَمََا تَوْفِيقِي إِلََّا بِاللََّهِ} لا يصح مع القول بالجبر، لأنه إن خلق الإيمان وأراده فوجود التوفيق كعدمه، وكذلك إن أراد الكفر، وإنما يصح التوفيق إذا كان العبد هو المختار لفعله، فيوفق بالألطاف والدواعى، ويبعث بها على اختيار الحسن.
__________
(1) د: الذى هو.(1/452)
وقوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} إنما يصح على قولنا لأن تخصيص بعض العباد بالتوكل عليه دون بعض يقتضى أنه قادر على اختيار سلوك الطريقة المستقيمة، والعدول عن ترك الرضا بما قسم له، وعلى قولهم حال جميع العباد سواء فى أنهم قد فعل فيهم ما هم عليه، ويجب على قولهم أن يرضوا بما أعطوا دينا ودنيا من كفر وإيمان، وغنى وفقر، فلا يصح التخصيص فى باب التوكل.
وكل ذلك يقتضى التعجب من تعلقهم بهذه الآية، وحالها فى باب الدلالة على العدل ما ذكرناه.
346 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يجعل الشقى شقيا والسعيد سعيدا، وعلى أن الشقى فى النار إلى وقت وغاية ثم يخرج منها، فقال:
{يَوْمَ يَأْتِ لََا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلََّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النََّارِ لَهُمْ فِيهََا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خََالِدِينَ فِيهََا مََا دََامَتِ السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ إِلََّا مََا شََاءَ رَبُّكَ} (1)
والجواب عن ذلك: أنه تعالى وصف بأن فيهم شقيا وسعيدا، ولم يذكر أن الذى جعلهم كذلك هو الله، فلا ظاهر للقوم من هذا الوجه.
وعندنا أن منهم شقيا ومنهم سعيدا بما اختاروه، مما أوجب فيهم الشقاء والسعادة فلا خلاف فى وصفهم بذلك، وإنما الكلام فى من الفاعل له؟
ولو كان تعالى قد فعله لم يذمهم بذلك، ولما أوجب فيهم النار، وقد بينا القول فى ذلك!
__________
(1) الآيات 107105، وتتمة الأخيرة {(إِنَّ رَبَّكَ فَعََّالٌ لِمََا يُرِيدُ)}.(1/453)
فأما تعلقهم فى انقطاع العقاب فلا يصح، لأنه ليس فى ظاهره إلا أنهم فى النار ما دامت السموات والأرض، ولم يذكر أن المراد به دوامهما قبل الفناء أو بعده، والكلام محتمل فلا يصح.
وإن ثبت أن ذلك «شرط فالواجب أن يحمل (1)» على أن المراد حال انقطاعهما دون حال دوامهما.
والمراد بالآية عند بعض (2) شيوخنا رحمهم الله التبعيد دون الشرط، مبينا بذلك أنهم لا يخرجون من النار أبدا، وهذا كقولهم: لا حييتك ما لاح كوكب وأضاء الفجر، إلى ما شاكله، فجرى تعالى على طريقتهم فى الخطاب، لأن أبعد الأمور زوالا فى عقولهم كان السموات والأرضين، فعلق ذلك بهما، على ما ذكرناه، ودل على أن هذا هو المراد بوصفه الذين سعدوا بمثله، ولا خلاف أن كونهم فى الجنة لا يجوز أن يكون منقطعا، فلا بد من حمل الكلام فيهم على هذا الوجه، وكذلك القول فى الذين شقوا.
يبين ذلك: أن فى الذين شقوا الكفار، ولا خلاف فى دوام عقابهم فلا بد من هذا الوجه أيضا من (3) حمل الكلام على ما قلناه.
وقد قيل فى تأويله: إنه محمول على الشرط، وأنه تعالى أراد أن كونهم فى النار فى الآخرة يكون فى الدوام كدوام السموات والأرضين فى الآخرة، لأن الخطاب يقتضى ذلك، ويوجب أن حال الشرط حال المشروط، ولهذا يبطل تعقلهم بالظاهر.
__________
(1) فى د: شرفا أن. وفى: شرط أن يحمل!
(2) ساقطة من د.
(3) ساقطة من د.(1/454)
فأما قوله (1) {إِلََّا مََا شََاءَ رَبُّكَ} فالمراد به: إلا ما شاء ربك أن يوقفهم فى الموقف للمحاسبة، لأنهم فى تلك الحال غير كائنين فى النار، وليس لأحد أن يقول: كيف يستثنى ذلك من كونهم فى النار ويريد قبل الدخول (2)، لأن الاستثناء وقع على حد يصح فيه ذلك من حيث قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النََّارِ} فلو انفرد الظاهر لوجب القطع على كونهم فيها دائما، فاستثنى حال وقوفهم فى الموقف، لأنه فى دخوله فى الكلام الأول لو انفرد بمنزلة دخول سائر الأحوال فيه.
وقد قيل: إن المراد بقوله: {إِلََّا مََا شََاءَ رَبُّكَ}: «وما شاء ربك (3)
فكأنه تعالى بين كونهم فى النار قدر بقاء السموات والأرضين وما شاء بعده، وأراد الدوام، وهذا شائع فى اللغة، لأن أحدنا قد يقول لغيره: قد أحسنت إليك بأن أعطيتك وعلمتك، سوى ما فعلته من تربيتى لك، وإلا ما أعطيتك كيت وكيت، فيكون المراد بالجميع الإثبات.
347 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه إذا أراد الشيء فعله لا محالة، فقال: {إِنَّ رَبَّكَ فَعََّالٌ لِمََا يُرِيدُ} وهذا يدل على قولنا فى أن مراده لا بد من أن يقع.
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه فعال لما يريد، ولم يبين ما يريد أن يفعله أو يفعله الغير، أو يحملهم عليه، فلا ظاهر للكلام يصح تعلقهم به.
وبعد، فإن ظاهر الكلام يقتضى أنه فعال لما يريد أن يفعله لأن ذكر
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ساقط من د.
(3) ساقط من د.(1/455)
المراد فى صدر الكلام يقتضى أن الإرادة إذا ذكرت بعده، فالمراد بها أن تكون إرادة لذلك الأمر ألا ترى أن أحدنا إذا قال: إن فلانا متى وعد حقق وهو فاعل لما يريد، فالمراد بذلك لما يريد أن يفعله، ولا يتوهم منه:
ما يريده «من غيره من طاعة أو معصية (1).
وبعد، فإن الظاهر إن دل على أنه تعالى إذا أراد أمرا وقع، فيجب أن يدل على أنه إذا خلق الكفر كسبا أنه قد أراد كونه كذلك، وليس كذلك مذهب القوم!
وبعد، فإن الآية وردت بعد وصفه نفسه بأن يجعل الشقى فى النار إلا ما شاء، وذلك يقتضى رجوع الكلام إليه، وأن لا يكون مطلقا، على ما بيناه فى تعارف الخطاب.
348 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه لم يرد من جميع المكلفين الإيمان، وأنه خلقهم لكى يختلفوا فيه، فقال:
{وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النََّاسَ أُمَّةً وََاحِدَةً وَلََا يَزََالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلََّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذََلِكَ خَلَقَهُمْ} (2).
والجواب عن ذلك: أنه إنما أراد: ولو شاء ربك أن يلجئهم إلى (3) أن أن يتفقوا فى الإيمان فيكونوا أمة واحدة، لفعل ذلك، لكنه أراد لذلك منهم طوعا، فاختلفوا بحسب اختيارهم، وقد بينا فى نظير ذلك أنه لا ظاهر
__________
(1) د: من غير طاعة أو معصية.
(2) الآية: 118. ومن الآية: 119.
(3) ساقطة من د.(1/456)
له (1) يصح التعلق به، وأنه لا بد فيه من تأويل (2).
وقوله تعالى: {وَلََا يَزََالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلََّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} يعنى:
إلا الطائفة السالكة للطريقة الصحيحة.
ثم قال: {وَلِذََلِكَ خَلَقَهُمْ} يعنى: ولأن يرحمهم خلقهم لأن الكلام يجب أن يجعل متعلقا بأقرب ما يمكن تعلقه به إذا أمكن ذلك فيه، ولم يمكن (3) تعليقه بالكل، وهذا مطابق لقوله تعالى: {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ} (4).
349 - وقوله تعالى فى آخر السورة: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} (5)
لا يدل على أن له مكانا وموضعا، ولا يدل أيضا على أنه لا قدرة (6) للعبد، لأن قوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} ظاهره يقتضى أن الأمر جعل لغيره ثم رجع إليه، فبأن يدل ذلك على إثبات القوة والفعل أولى، وإنما أراد تعالى أن الأمور ترجع إلى حيث لا يحكم فيه سواه، كما يقال فى الشاهد إذا انتهى الحال فى الأمر إلى أن لا ينظر فيه إلا الأمير: رجع أمرنا إلى الأمير. والمراد «به هذا (7) المعنى، وهذا لأنه تعالى فى حال التكليف قد ملّك العباد الأمور والنظر فى الأحكام، وانفرد بذلك فى الآخرة، فلذلك صلح أن يقال ما ذكرناه.
__________
(1) ف: لهم.
(2) انظر الفقرة: 8.
(3) ف: يكن.
(4) سورة الذاريات، الآية 56.
(5) من الآية: 123.
(6) فى د: أنه المقدرة.
(7) د: بهذا.(1/457)
من سورة يوسف عليه السلام
350 - دلالة: وقوله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} [2] يدل من وجوه على حدث القرآن:
منها: أنه وصفه بأنه منزل، وذلك يستحيل فى القديم.
ومنها: وصفه إياه بأنه قرآن، وقد علم أن الجمع لا يصح إلا على الأفعال التى قد تفترق مرة وتجتمع، ويصح فيها النظام.
فإن قال: فإن الكلام فى الحقيقة لا يصح فيه الجمع، فكيف يصح تعلقكم (1) بهذا؟
قيل له: إن المراد بالجمع «فى الكلام (2) هو توالى حروفه، فيصير من هذا الوجه بمنزلة اجتماع الأجسام وتألفها. وهذا المعنى لا يصح إلا على المحدث، كما لا يصح التأليف فى الحقيقة إلا على المحدث. فالدلالة صحيحة.
ومنها: أنه وصفه بأنه عربى، وهذه الإضافة تقتضى تقدم المواضعة من العرب على كلماته، وإن لم يكن فى لغتها ما يبلغ هذا الحد فى الفصاحة، وهذا يوجب حدثه، لأنه حدث بعد مواضعة العرب.
ووصفه له من قبل بأنه (3) «مبين (4)» يدل أيضا على حدثه، لأن ذلك إنما يصح فيما يحدثه المحدث على وجه يصير دلالة وبيانا، والقديم يستحيل ذلك فيه.
__________
(1) فى د: تعلقهم.
(2) ساقط من د.
(3) ساقط من د.
(4) الآية الأولى من السورة، قوله تعالى: {[الر تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ الْمُبِينِ]}(1/458)
ووصفه له «بالجمع وبأنه آيات (1) إنما يدل على حدثه أيضا.
351 - وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) يدل على أنه أراد من جميع المكلفين أن يعقلوا عن الله تعالى ويفهموا أوامره، وذلك يبطل قول الجبرية فى أنه تعالى أراد من بعضهم أن يكفروا ويجهلوا، وقد بينا الوجه فى ذلك (3).
352 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعدها ما يدل على أنه يختص بالطاعة بعض عباده، فقال: {وَكَذََلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحََادِيثِ} [6].
والجواب عن ذلك قد سلف فى نظائره، ولأن (4) الاجتباء هو الاختصاص، ولم يقل تعالى إنه خصه بخلق الطاعة فيه، فالمراد إذا أنه اختاره واختصه بأن حمله الرسالة، وكان يعقوب صلّى الله عليه يعلم أنه تعالى سيبعثه رسولا ويختصه بذلك، فقال ما قال، وبين أنه يعلمه من تأويل الأحاديث، ويعنى بذلك كلام الله لأنها الأحاديث التى يعرف تأويلها الأنبياء عليهم السلام.
353 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على جواز المعاصى العظيمة على الأنبياء عليهم السلام، وعلى أنه يوقعهم فيها، ويصرفهم عنها، بحسب ما يريد ويشاء، فقال:
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهََا، لَوْلََا أَنْ رَأى ََ بُرْهََانَ رَبِّهِ كَذََلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشََاءَ} [24].
__________
(1) د: بالجمع بأنه.
(2) تتمة الآية الثانية.
(3) انظر الفقرة 34.
(4) ساقطة من د.(1/459)
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إضافة الهمّ إليهما، وليس فيه أنه تعالى فعله فيهما (1) فلا تعلق للمجبرة بذلك.
وبعد، فإنه ليس فى ظاهره إضافة الهم إليهما مطلقا: لأنه قال: {لَوْلََا أَنْ رَأى ََ بُرْهََانَ رَبِّهِ} فكان تحقيق الكلام: أنه لولا رؤيته البرهان لقد همت به وهم بها، كما يقول القائل: فلان ضرب غلامه ضربا شديدا لولا أنى استنقذته من يده! فمن أين أنه هم فى الحقيقة بذلك، مع ما ذكرناه من الشرط فى الكلام؟
يبين ذلك أنه تعالى وصفه بأنه صرف عنه السوء والفحشاء، ولو كان همّ فى الحقيقة كما يقولون بأن عزم على مواقعتها وأظهر ذلك واجتمع معها، لكان ذلك من الفحش العظيم، فكان لا يصح وصفه بأنه قد صرف عنه الفحشاء!
وقد قال أبو على رضى الله عنه: المراد بالآية أنه اشتهى ما دعته إليه، كما اشتهت ما أرادته منه، وقد تسمى الشهوة هما، ولذلك يقول القائل فى الذى يشتهيه إن هذا من همى، كما يقوله فيما يريده ويعزم عليه، فيجب حمل الكلام على الشهوة تنزيها للأنبياء عن الفاحشة. ودل على أنه المراد بقوله: {كَذََلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشََاءَ}.
وسائر ما ذكره تعالى من تنزيهه يوسف عليه السلام فى السورة، يدل على ما قلناه، لأنه تعالى وصفه بأنه يجتبيه، وهذه صفة من لا يعزم على الفواحش.
ووصفه بأنه من عباده المخلصين، وذلك أيضا لا يليق به الإقدام على العزم على الزنا (2).
وخبر عن النسوة أنهن قلن: حاش لله ما علمنا عليه من سوء، ولو كان قد عزم وقعد مقعد الزنا لم يصح ذلك.
__________
(1) ساقطة من د.
(2) فى د: الرؤيا.(1/460)
وحكى عنها أنها (1) راودته عن نفسه وإنه من الصادقين، وكل ذلك يبين صحة ما قلناه.
فأما قوله تعالى: {كَذََلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشََاءَ} فالغرض [به] بين لأنه تعالى ذكر أنه أراه البرهان فعدل عما (2) اشتهاه وانصرف عنه، ثم عطف على ذلك بقوله (3) {كَذََلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} فى سائر أفعاله بأن نلطف له كما لطفنا له بإظهار البرهان فيما تقدم، فالمراد بالصرف هو أنه يفعل من الألطاف ما يقوى به دواعيه إلى أن ينصرف عنه، على ما ذكرناه فى نظائر ذلك.
354 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه منعه من الإقدام فيما أرادته، وعلى أن يوسف أحب المعصية، فقال: {وَلَقَدْ رََاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} (4) ثم: {قََالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} [33].
وإن كان حبسهم إياه «فى السجن (5) معصية!
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام يدل على ما قلناه لأنه تعالى حكى عنها أنها قالت عند اجتماع النسوة {فَذََلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} لما شاركنها من ظهور محبتهن لما أحبت، ثم قالت: {وَلَقَدْ رََاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ}
أرادت فامتنع، لأن العصمة هى المنع والامتناع.
وهذا أيضا يدل على أنه لم يرد أن يواقعها، لأن ظاهر امتناعه يدل على أنه امتنع من كل ما أرادته، من غير تخصيص.
__________
(1) ساقطة من د.
(2) د: عن.
(3) د: فقال.
(4) من الآية: 32.
(5) ساقط من ف.(1/461)
فأما قوله تعالى {قََالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمََّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}
فليس يدل (1) على أنه أحب المعصية، لأن اعتصامه بالكون فى السجن عما أريد منه من المعصية، طاعة منه، وإن كان فعلهم معصية، كما أن الظالم لو أكره غيره على ملازمة الحبس بالقتل، يحسن ملازمة الحبس افتداء من القتل وإن قبح ذلك من الحابس!
هذا إن ثبت أن المراد ظاهر الكلام، فكيف وقد يجوز أن يكون يوسف عليه السلام فزع إلى هذا القول كما يفزع المضروب إلى الاستغاثة. وأظهر بذلك شدة التمسك بالتفادى من المعصية، فقال: إن الحبس مع ما فيه من المشقة الشديدة آثر عندى مما دعيت إليه من المعصية! وهذا بين.
355 - وقوله تعالى بعد ذلك: {وَإِلََّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} (2)
يجب أن يحمل على أنه سأله عز وجل أن يلطف له بضرب من اللطف ينصرف عنده عما أريد منه من المعصية، فلذلك قال تعالى من بعد: {فَاسْتَجََابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [34] ولو كان قد اضطره إلى ذلك لم يكن يمدحه عليه!
وقد قال بعض شيوخنا رحمهم الله: إن هذه الآية من أقوى ما يدل على بطلان الجبر لأنه تعالى بين أنه صرفه عن كيدهن بأن أراه الآيات، قال:
وكيف يصح وهو تعالى خلق فيه إرادة ذلك ومحبته، وعلى ما رووه: أقعده منها مقعد الطالب للفاحشة فكيف يصح أن يفعل ذلك، ويوصف بأنه صرفه عن كيدهن، وأنه أراه الآيات لكى ينصرف عن ذلك؟ وهل هذا إلا وصف لنفسه بالمغالبة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
__________
(1) د: يدل بذلك.
(2) من تتمة الآية السابقة 33.(1/462)
356 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن الأمور الواقعة من العباد، بقضاء منه وحتم، فقال: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيََانِ} (1).
والجواب عن ذلك: أنه صلّى الله عليه إنما قال ذلك لما تأول ما رأياه فى المنام، لأنه روى أن الذى تأول منامه على أنه سيصلب فتأكل الطير من رأسه، أظهر تكذيب نفسه ظنا منه بأن ذلك يعصمه من نزول ذلك فيه، فقال مؤيسا له من هذا: قضى الأمر الذى فيه تستفتيان.
ويحتمل أن يريد أنه لما أخبر عن هذا الأمر وإخبار الأنبياء لا يكون إلا صدقا قال لهما: قضى الأمر الذى فيه تستفتيان، تحقيقا لصدقه فيما خبر لأن القضاء قد يكون بمعنى الخبر، كقوله تعالى: {وَقَضَيْنََا إِلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ فِي الْكِتََابِ} (2) فالتعلق بذلك بعيد.
357 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يوقع المعصية تارة ويرحم العبد فى إزالتها عنه أخرى، فقال: {وَمََا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمََّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلََّا مََا رَحِمَ رَبِّي} [53].
والجواب عن ذلك: أن الآية قوية فى الدلالة على إضافة السوء إلى العباد، دونه تعالى لأنه تعالى لو فعله فيهم لم يضف إلى الأنفس، وظاهره أيضا يقتضى أن النفس أمارة بالسوء لا أنها فاعلة له، فالتعلق بظاهره لا يمكن.
والمراد بالآية: وصف النفس بأنها تدعو إلى السوء للشهوة الحاصلة التى تقتضى التوقان إلى المعصية.
وقوله: {إِلََّا مََا رَحِمَ رَبِّي} بأن يلطف ويعصم من الإقدام على ما تشتهيه
__________
(1) من الآية: 41، وانظر الآية بتمامها.
(2) من الآية: 4فى سورة الإسراء.(1/463)
الأنفس، وقد يقول أحدنا عند رجوعه على نفسه بالملامة: إنها تدعو إلى المعصية وتأمرنى بها، فأنا أجتهد فى التخلص، وهذا ظاهر فى اللغة والتعارف.
358 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أن الأمر كله لله، فقال:
{وَمََا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللََّهِ مِنْ شَيْءٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلََّا لِلََّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} (1).
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أن الحكم له، ولا ينطلق الحكم على أفعال العباد، ولو انطلق عليها أيضا لم تدل هذه الإضافة على أنه فاعلها، بل ظاهر الكلام أن ما سماه حكما بعد حصوله حكما هو لله، وهذا يوجب الإضافة بعد خروجه إلى الوجود، فكيف يدل على أنه الموجد له والمحدث؟
وإنما أراد يعقوب عليه السلام بهذا الكلام إظهار الاعتماد على الله فيما أراده وفى سائر أحواله، فقال ما ذكره على هذا الوجه.
359 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أنه فعل الكيد ليوسف ولأجله، وهذا مما تمتنعون منه، فقال: {كَذََلِكَ كِدْنََا لِيُوسُفَ مََا كََانَ لِيَأْخُذَ أَخََاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} (2).
ثم ذكر ما يدل على أن ذلك يكون بمشيئته، فقال: {إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ}.
وكل ذلك يصحح قولنا فى المخلوق.
__________
(1) من الآية: 67.
(2) من الآية: 76، وبعده {[إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ]}.(1/464)
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أن الكيد يستحيل على الله تعالى، لأنه توصل إلى الأمور بضروب من الحيل، وذلك إنما يصح على من يمتنع عليه مراده فى بعض الأحوال، ويتعالى الله عن ذلك، ولهذا قد يوصف أحدنا بالكيد إذا هو توصل إلى أمر، ولو فعله السلطان وهو مقتدر عليه وعلى غيره لم يوصف بذلك، فإذا لم يصح تعلقهم بالظاهر.
والمراد بذلك: أنه تعالى فعل من الألطاف ليوسف ما أوجب وصوله إلى المراد فسماه كيدا، تشبيها بما يفعله العباد إذا هم توصلوا بضروب من الأفعال إلى مرادهم وإلى التحرز من المكروه المراد بهم. ولولا ما فعله تعالى به وسهل فى أمر أخيه لم يكن ليجتمع مع أبيه ويحصل ما حصل، مما أراده الله تعالى وسهله.
وقوله تعالى: {إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} يعنى: أنه لولا تلك الألطاف لم يحصل له فى أخيه المراد، إلا أن يشاء الله، يعنى: أن يفعل ذلك على كل حال، لأنه قادر على ذلك، فالتعلق بما ذكره لا يصح.
360 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن الأمور تتم بمشيئته، وعلى أن السجود لغير الله يصح، فقال: {فَلَمََّا دَخَلُوا عَلى ََ يُوسُفَ آوى ََ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ، وَقََالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شََاءَ اللََّهُ آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} (1).
والجواب عن ذلك: أن إدخال المشيئة فى الخبر عن المستقبل مما أدبنا الله به، تخليصا للكلام من الكذب، وإنقاذا له عن أن يكون خبرا جزما، لأن العبد
__________
(1) الآية: 99ومن الآية: 100.(1/465)
لا يعلم ما سيكون فى المستقبل، فالواجب عليه أن يورد الخبر على هذا الوجه، وكما يلزمه تعليق خبره بالمشيئة فكذلك القول فى أمر غيره، لأنه لا يقطع من حال غيره على التمكين من ذلك على كل حال.
وقد يجوز أن يكون قد شك فى حال ما أمرهم بذلك، فى أنهم إذا دخلوها (1)
هل يحصلوا آمنين أو خائفين، فعلق ذلك بالمشيئة.
وقد يجوز أن يكون أظهر ذلك محققا لهم بأنهم الآن (2) قد أمنوا، وعلق الدخول بالمشيئة للأدب (3)، وقد يجوز أن يراد بالمشيئة الوقف، على ما قدمناه.
فأما السجود، فإنهم إنما سجدوا لله وعبدوه به كما سجدت الملائكة إلى جهة آدم عليه السلام، على هذا الوجه، وان كان فى ذلك ليوسف من التعظيم ما لا يجهل، كما أنا إذا (4) فعلنا الصلاة عبادة لله فقد عظمنا بها الرسول عليه السلام، من حيث اتبعنا مراده وانقدنا له فى فعلها، وإن لم تكن عباده له (5).
وإن كان قد يجوز أن يحمل ذلك على شدة خضوعهم! لأن السجود هو الخضوع، فلما خضعوا ليوسف «كل الخضوع (6) على ما استحقه استعمل فى ذلك المبالغة فى الخضوع فقال: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً}، لكن الأولى ما قدمناه.
361 - دلالة: وقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهََا وَهُمْ عَنْهََا مُعْرِضُونَ} [105].
__________
(1) د: وخلوا.
(2) ساقطة من د.
(3) ساقطة من د.
(4) ساقطة من د.
(5) انظر الفقرة 28مع التعليق.
(6) ساقطة من د.(1/466)
يدل على أنه قد حث على النظر وبعث عليه، وذم على تركه.
وفيه دلالة على أن المعرفة بالله تعالى وبالعبادات لا تكون ضرورة لأن العارف بالشيء اضطرارا لا يذم بأن يعدل عن النظر والتفكر فى الآيات، بل لو فعل ذلك لكان أقرب إلى الذم!
تم القسم الأول
ويليه القسم الثانى مبدوءا بسورة الرعد(1/467)
متشابه القرآن للقاضى عبد الجبّار بن أحمد الهمذانى
المتوفى سنة 415هـ
تحقيق الدكتور عدنان محمّد زرزور بجامعة دمشق
القسم الثانى
دار الثّراث
ص. ب 1185القاهرة(1/470)
ومن سورة الرعد
362 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه جسم يجوز عليه المكان والاستواء واللقاء، فقال: {اللََّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمََاوََاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهََا، ثُمَّ اسْتَوى ََ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (1) إلى قوله:
{لَعَلَّكُمْ بِلِقََاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}.
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا من قبل أن الاستواء: المراد به الاستيلاء والاقتدار، وكشفنا ذلك بما يغنى عن ذكره الآن (2). وبينا أن لفظة: «ثم» وإن اقتضت الاستقبال فإنها فى هذا المكان داخلة على تسخير الشمس والقمر وتدبير الأمر، دون الاستواء، فكأنه قال تعالى: ثم سخر الشمس والقمر، يدبر الأمر، يفصل الآيات وهو مستو على العرش لأنه لا يجوز أن يصير مقتدرا عليه بعد أن لم يكن كذلك لأن هذا المعنى لا يصح فى صفات ذاته.
وقد استدل شيوخنا، رحمهم الله، بهذه الآيات ضد المشبهة، لأنه بين تعالى أنه رفع السموات بغير عمد يرونها، وذلك لا يصح فى الأجسام، لأنه إنما يصح أن يفعل رفع الثقيل بعمد هو بعضه أو غيره، ومتى لم يعمده بذلك لم يصح منه رفعه، فدل على أنه تعالى قادر لذاته، وأنه ليس بجسم.
فإن قال: لم ينف تعالى العمد، وإنما نفى عمدا نراها، فلا يمتنع إثبات عمد لا نراها!
__________
(1) وبعده {[كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيََاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقََاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ]}
الآية الثانية.
(2) انظر الفقرة 23.(1/472)
قيل: هذا يسقط لأنه لو رفعها بعمد، لوجب كونه ثقيلا، وكان يحتاج إلى عمد أخر، ويؤدى إلى ما لا نهاية له، أو إلى تقبل رفعه لا بعمد، فيتم ما قلناه.
ولا يكون بأن تكون هذه الصفة أولى من السموات نفسها.
«وبعد، فإنه تعالى يبعد فيما يثبت عمدا للسماوات أن يكون بحيث لا يرى مع وجوب كونه عظيما كثيفا، وليصح أن تعمد عليه السماوات (1).
وبعد، فإن الغرض بالآية ذكر اقتداره على الوجه الذى يختص به. ورفع الثقيل بعمد يصح من كل قادر. فإذن (2) يجب أن يكون رفعها من جهته لا بعمد أصلا.
وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} من حيث أجراهما على طريقة واحدة لا تتفاوت مع عظمهما، يدل أيضا على أنه ليس بجسم، لأن الجسم لا بد من أن يختل حاله فيما يدبره من هذه الأمور، لحاجته إلى الآلات التى يصح عليها الاختلال والضعف!
وقد بينا من قبل أن تفصيله الآيات يدل على أنها محدثة (3).
وقد بينا أن المراد بلقائه هو لقاء ما وعد به من الثواب والدرجات الرفيعة، فلا وجه لإعادته (4).
363 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه لا شيء إلا
__________
(1) ساقط من د.
(2) ساقطة من د.
(3) انظر الفقرة 255.
(4) انظر الفقرة 30.(1/473)
وهو المقدر له: كان من فعله أو من فعل العباد، فقال: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدََارٍ} (1).
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إنما يدل على أن كل شيء يعلم مقداره وما يختص به لأن المراد بقوله: {عِنْدَهُ} فى هذا المكان: فى علمه، وصدر الكلام يدل عليه، لأنه قال تعالى: {اللََّهُ يَعْلَمُ مََا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ََ وَمََا تَغِيضُ الْأَرْحََامُ وَمََا تَزْدََادُ} (2) ثم عطف على ذلك، فقال: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدََارٍ}
ليبين أن ما ذكره وما لم يذكره من الأمور سواء فى أنه تعالى يعلم مقداره، وأن علمه لا يختص بمعلوم دون معلوم، فمن أين أن المراد بذلك ما قالوه، والظاهر لا يقتضيه؟
وبعد، فلو أراد بذلك أنه قدره لوجب حمله على أنه بين أحواله لأن «التقدير» فى اللغة قد يتناول فى الظاهر ذلك، فمن أين أن المراد به الخلق؟ ومتى حملنا الكلام على أن المراد به العلم والبيان وفينا العموم حقه لأنا نجعله متناولا للمعدوم والموجود، والماضى والحاصل، ومتى حمل على ما قالوه وجب تخصيصه، وألا يتناول إلا الموجود، فالذى قلناه أولى بالظاهر.
364 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أنه بغير أحوال الناس من طاعته إلى معصيته، ومن معصيته إلى طاعته، وأنه قد يريد بهم السوء، وأن ما يريده لا مرد له، ولا بد (3) من وقوعه، فقال: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُغَيِّرُ مََا بِقَوْمٍ حَتََّى يُغَيِّرُوا مََا بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِذََا أَرََادَ اللََّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلََا مَرَدَّ لَهُ} (4).
__________
(1) من الآية: 8.
(2) الآية: 8.
(3) ف: ولا بد له.
(4) من الآية: 11.(1/474)
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أن العبد هو الذى يغير ما بنفسه، وأنه تعالى يغير عند ذلك بعض أحواله، وليس فيه بيان ما يغيره تعالى، فلا ظاهر إذا يدل على ما قالوه، بل يدل ظاهره على أن العبد قد يفعل، كما أنه تعالى يفعل!
والمراد بالآية: أنه تعالى لا يغير بالعبد ما أنعم عليه من الصحة والسلامة وسائر النعم، ولا ينزل به العقوبات إلا بعد أن يغير ما بنفسه من الإيمان إلى الكفر.
وهذا يدل على أنه تعالى لا يفعل العقاب إلا على جهة الجزاء على ما يكون من العبد، ويبطل قول المجبرة فى أنه تعالى يعذب أطفال المشركين فى النار من غير ذنب وجرم، ويبطل قول من قال منهم: لو شاء أن يعذب الأنبياء لحسن منه!
وقوله تعالى: {وَإِذََا أَرََادَ اللََّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلََا مَرَدَّ لَهُ} لا ظاهر له «فى أنه قد أراد (1) ذلك لأن هذا اللفظ إنما ينبئ عن أنه إذا أراد لم يكن له مرد، وهل أراده أم لا؟ لا (2) ظاهر له «يدل عليه (3).
والمراد بذلك: أنه إذا أراد بقوم إنزال العقوبة وسماها سوءا على جهة التوسع «فلا يصح (4) لما كانت فى كونها مضرة جارية مجرى السوء، على ما بيناه من قبل «لم يمكن (5) أحد أن يرده لأنه تعالى هو الغالب فلا يصح أن يمنع مما يريده من إنزال العقوبات بالعصاة (6).
__________
(1) د: فى أنه فى أراد. وف: من أنه قد أراد.
(2) ساقطة من د.
(3) ساقط من ف.
(4) ساقط من د.
(5) د: لكن.
(6) ف: بالقضاء.(1/475)
365 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه قد يفعل له السجود كرها كما يفعل طوعا، وأنه المصرف للعباد فيما يفعلون من الطاعة والمعصية، فقال: {وَلِلََّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [15].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أن العباد فيما يفعلون من السجود تختلف أحوالهم، ففيهم من يسجد طوعا، ومنهم من يسجد كرها، وقد علمنا أن الأمر بخلاف ذلك، لاتفاق حالهم فيما يفعلون من السجود.
وبعد، فإن ذلك لا يتم على قول المجبرة لأن عندهم أن السجود الواقع من العباد أجمع يقع بأن يفعل تعالى فيهم القدرة الموجبة له، ويخلق فيهم نفس السجود، وذلك يوجب أن حالهم لا يختلف فيه، فيكون الساجد مرة طائعا ومرة مكرها، فإذا استحال ذلك على قولهم، فكيف يصح تعلقهم بالظاهر؟
فإن قيل: المكره على السجود هو من فعل ذلك فيه «بلا قدرة (1).
قيل لهم: إن هذا يوجب أن يكون الجماد مكرها على ما فيه، وكذلك الميت!! وأهل اللغة لا يطلقون ذلك إلا فيمن يتمكن من الأفعال، فيمنع منها أو يحمل عليها!
والمراد بالآية: أنه تعالى، لاقتداره، يخضع له من فى السموات والأرض:
ففيهم من يفعل الخضوع طوعا ويعترف به ويظهر الانقياد، ومنهم من يفعل ذلك بأن يستجيب فيما يريده فلا يصح منه الامتناع، مثل سائر الحيوان
__________
(1) د: فلا بد من قدرة.(1/476)
الذى ليس بمكلف، وأن السجود فى اللغة قد يراد به الخضوع، ظاهر لا يحتاج فيه إلى شاهد.
366 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه المختص بأن يخلق ويفعل، وأن العبد لا صنع له، فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ، أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمََاتُ وَالنُّورُ، أَمْ جَعَلُوا لِلََّهِ شُرَكََاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشََابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللََّهُ خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (1).
فبين أن إثبات شريك معه هو بأن يعتقد فيه بأنه يخلق كخلقه، فلو كان العبد فى الحقيقة يخلق ويفعل لوجب كونه شريكا لله، ثم حقق ذلك بقوله: {قُلِ اللََّهُ خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}.
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إنما يقتضى أن ما يخلق كخلقه تعالى يكون شريكا له، وليس يدل على أن إثبات خالق سواه يجب إثبات شريك معه، بل لو قيل: إن الظاهر يدل على خلافه لصح، وذلك أنه تعالى أنكر أن يكون له شريك إلا بأن يخلق كخلقه، فيجب إذا كان يخلق لا كخلقه ألا يكون بهذه الصفة.
ويجب على هذا القول أن يكون تعالى قد أثبت لنفسه شريكا بقوله:
{فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ} (2)! وبقوله: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} (3)
وبقوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} (4) وأن يكون عيسى شريكا له، إذ أثبته تعالى خالقا من الطين كهيئة الطير، وهذا بين الفساد.
__________
(1) من الآية: 16.
(2) من الآية: 14فى سورة المؤمنين.
(3) من الآية: 17فى سورة العنكبوت.
(4) من الآية: 110فى سورة المائدة(1/477)
والمراد بالآية: أنه تعالى أثبت الحجة على من يعبد الأصنام «واتخذها شريكا له (1)، بأن بين أنه إذا لم يصح أن تخلق الأجسام وتظهر النعم الجسام، لم يصح أن تكون معبودة لأن الذى يستوجب العبادة هو خالق هذه الأمور، فإذا تعذر ذلك عليها واستحال فيها. فيجب أن لا يصح أن تعبد وتستحق العبادة.
فإن قال: فقوله تعالى: {فَتَشََابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} يجب أن يدل على أن غيره تعالى لا يفعل ما يشبه فعله لأن ذلك يوجب تشابه خلقه بخلق غيره، وقد نفى الله ذلك.
قيل له: إنما يقع هذا التشابه متى قيل إن غيره تعالى يخلق العبد ويحييه وينعم عليه بالقدرة وغيرها، [ومتى قيل ذلك] فقد تشابه ما يفعله تعالى بما يفعله غيره، فلا يعلم عنده من المستحق للعبادة. فأما إذا قيل: إن جميع ذلك يختص تعالى بالقدرة عليه، والعبد إنما يفعل الحركات والتأليف وما شاكلهما، مما لا يلتبس حاله بحال ما يستوجب به العبادة، فلا شبهة ولا اشتباه.
وبعد، فإن هذا الكلام للمجبرة ألزم، وذلك لأنهم يقولون إن نفس «الشيء الذى (2) يفعله العباد هو الذى يفعله تعالى، والتشابه فى هذا الوجه أعظم، لأن نفس الشيء الذى يفعله إذا ثبت فعلا للعباد، كان الاشتباه أو التشابه آكد منه. إذا ثبت فعله غيرا لما يفعله تعالى، وبين طريقيهما حتى يعلم انفصال أحدهما من الآخر.
__________
(1) ف: واتخذهم شركاء له.
(2) ف: ما.(1/478)
وأما قوله: {قُلِ اللََّهُ خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فيجب أن يكون راجعا إلى ما للعبادة به تعلق، ليكون يدخل فيما تقدم ذكره، وهو خلق الأجسام وسائر النعم التى يختص تعالى بالقدرة عليها، مما عنده يستحق العبادة، وقد بينا من قبل الكلام فى هذا الظاهر فى سورة الأنعام، فلا وجه لإعادته (1).
367 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه الخالق للحق والباطل، فقال {كَذََلِكَ يَضْرِبُ اللََّهُ الْحَقَّ وَالْبََاطِلَ} (2).
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يدل على أنه الفاعل لهما، وإنما يوجب أنه يضرب الحق والباطل، وليس يقيد ذلك فى اللغة الخلق.
والمراد بذلك: أنه يضرب الأمثال للحق والباطل، ليبين حالهما فيرغب فى الحق، ويزجر عن الباطل، وظاهر الضرب إنما يدخل فى الأمثال لا فى الخلق، فإذا كان لا بد من تقدير محذوف، فبأن يجعل المحذوف ما تقتضيه اللغة أولى من غيره!.
368 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه لم يهد جميع الناس، وخص المؤمن بأن هداه دون غيره، فقال: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشََاءُ اللََّهُ لَهَدَى النََّاسَ جَمِيعاً} (3).
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إنما يدل على أنه لو شاء لهداهم جميعا، ولم يبين الوجه الذى كان يهديهم عليه، وقد بينا من قبل أن هذه الوجوه تتنافى،
__________
(1) انظر الفقرة: 220.
(2) من الآية: 17.
(3) من الآية: 31(1/479)
فلا يجوز أن تراد بعبارة واحدة فيدعى فيها العموم، فإذا بطل ذلك فلا بد من أن يراد به بعض الوجوه دون بعض، فإذا لم يكن الظاهر مبينا لذلك فلا بد من كونه مجملا محتاجا إلى بيان.
والمراد بذلك: أو لم يعلم الذين آمنوا أنه لو شاء أن يكره العباد لهداهم جميعا على جهة الإكراه، لكنه إنما أراد أن يؤمنوا طوعا، لكى يستحقوا الثواب والنفع، وقد بينا القول فى ذلك فى مواضع (1).
369 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أنه قد يبدو له فى الأمور، وأنه قد يريد الشيء ثم يكرهه، فقال تعالى: {يَمْحُوا اللََّهُ مََا يَشََاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتََابِ} [39].
ويدل ذلك على أنه لا يفعل ما يفعله بحسب الصلاح، لأنه إن فعله بحسب الصلاح لم تتغير إرادته، مع كونه عالما بالمصالح (2).
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إنما يدل على أنه يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، وليس فيه أن الذى محاه هو الذى أثبته، وقد يجوز أن يكون
__________
(1) انظر الفقرات: 76، 192، 205.
(2) البداء هو الظهور، قال القاضى: «فمتى ظهر للحى من حال الشيء ما لم يكن ظاهرا له.
إما بأن يعلمه ولم يكن من قبل عالما به، أو بأن يظن وجه الصلاح فيه ولم يكن من قبل كذلك وصف بأنه قد بدا له. ثم استعمله الناس فى تغير العزوم والإرادات، فقيل لمن لا يثبت على عزم واحد: إنه ذو بدوات، وقيل لمن يعد الشيء ولا يفعله مع سلامة الحال إنه قد بدا له».
وفى كتاب «الفرق» للبغدادى أن الكيسانية يجمعهم القول بجواز البداء على الله عز وجل وقد حكم عليهم بالكفر لهذه البدعة. انظر المغنى: 11/ 25الفرق بين الفرق. ص: 38 وانظر فى الفرق بين النسخ والبداء: شرح الأصول الخمسة، ص 585584.(1/480)
أحدهما غير الآخر، كما يجوز أن يكون هو الآخر، والظاهر لا يدل على أحد الأمرين. فمن أين أن المراد ما قالوه؟
وبعد، فإن المحو ظاهره لا يدل على الكراهة، ولا الإثبات على الإرادة، فكيف يصح أن يستدل بظاهره على ما قالوه؟!
والمراد بذلك عند بعض شيوخنا، رحمهم الله: أنه تعالى يمحو المعاصى المثبتة فى الصحف عند التوبة والإنابة، وقد يثبت ذلك عند الإصرار، ويثبت الطاعة عند ذلك.
ومتى حمل على هذا الوجه كان محمولا على ظاهره، فهو أولى.
وعند بعضهم: المراد بذلك أنه يمحو بعض ما يتعبد به بأن ينسخه، أو ينسيه من صدور الرجال، ويثبت ما يشاء، وهو الناسخ لذلك، فذكر المحو والإثبات فيه، وأراد به ما يتعلق به من الأحكام.
وعند بعضهم: المراد بذلك أنه يمحو عن الصحف ما أثبت فيه من المباحات التى لا مدخل لها فى الثواب والعقاب، ويثبت المعاصى والطاعات، لتعلق الثواب والعقاب بهما. وكل ذلك مما يصح أن يكون مرادا فيجب حمل الكلام والآية عليه، دون ما ذهبوا إليه.(1/481)
ومن سورة إبراهيم عليه السلام
370 - مسألة: قالوا: ثم ذكر فيها ما يدل على أن ما يقع من العبد إنما يقع بإرادته، فقال تعالى: {الر، كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النََّاسَ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [1] والإذن لا يجوز أن يكون إلا الإرادة التى لها يقع الخروج، دون العلم والأمر اللذين لا يؤثران فى هذا الباب.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام إنما يقتضى أنه أنزل الكتاب إليه صلى الله عليه، لكى يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومعلوم أنه لا يخرجهم بالقسر والإكراه، وإنما أريد بذلك أن يبعثهم على ذلك ويدعوهم إليه، وشبه الإيمان بالنور، والكفر بالظلمة، على مجاز الكلام.
وقوله تعالى: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} المراد به: بأمره، لأن الإذن إذا أطلق فالأولى به الأمر والإباحة، وقد علمنا أن الإباحة لا تدخل فى العدول عن الكفر إلى الإيمان، فالمراد به الأمر، وكأنه تعالى بين أنه أنزل الكتاب عليه، صلى الله عليه، ليعدل بهم بأمر الله تعالى عن الكفر إلى الإيمان، وهذا بين.
371 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يخص بالهدى بعض عباده، والضلال بعضا، فقال: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ رَسُولٍ إِلََّا بِلِسََانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، فَيُضِلُّ اللََّهُ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} [4]
والجواب عن ذلك قد تقدم عند بيان الهدى والضلال، وينبغى أن يكون المراد فى هذا الموضع أنه يضل من يشاء بأن يعاقبه ويهلكه جزاء له على كفره، ويهدى من يشاء إلى الثواب وطريق الجنة، جزاء له على إيمانه، ولا بد من تقدير
حذف فى الكلام، فكأنه قال تعالى: ليبين لهم، فمن قبل يهده، ومن رد ذلك يضله، فيكون ما يقع فى الهدى والضلال جزاء عليه محذوفا ذكره، وهذا قد تقدم القول فيه.(1/482)
والجواب عن ذلك قد تقدم عند بيان الهدى والضلال، وينبغى أن يكون المراد فى هذا الموضع أنه يضل من يشاء بأن يعاقبه ويهلكه جزاء له على كفره، ويهدى من يشاء إلى الثواب وطريق الجنة، جزاء له على إيمانه، ولا بد من تقدير
حذف فى الكلام، فكأنه قال تعالى: ليبين لهم، فمن قبل يهده، ومن رد ذلك يضله، فيكون ما يقع فى الهدى والضلال جزاء عليه محذوفا ذكره، وهذا قد تقدم القول فيه.
372 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يخص بالإيمان بعض عباده، فقال: {وَلََكِنَّ اللََّهَ يَمُنُّ عَلى ََ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ} (1).
والجواب عن ذلك قد تقدم لأنا قد بينا أن ظاهره لا يقتضى الإيمان والطاعة، ولا ننكر أن يخص تعالى بعض عباده بالنعم المتصلة بالدنيا، وقد بينا أنه لا يمتنع أن يريد به الإيمان أيضا، وبينا أن إضافة ذلك إليه تعالى ووصفه بأنه من نعمه صحيح من حيث لم يصل المؤمن إليه إلا بألطافه ومعونته وضروب التمكين الذى أعطاه.
373 - وقوله بعد ذلك: {وَمََا لَنََا أَلََّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللََّهِ وَقَدْ هَدََانََا سُبُلَنََا} [12] يجب أن يكون محمولا على ظاهره، وهو أنه هداهم الطريق، وفيه دلالة على أن للتوكل (2) تعلقا بالبيان، لأنه لولا ذلك لم يكن لقوله: {وَقَدْ هَدََانََا سُبُلَنََا} معنى، وذلك يبين أن التوكل عليه تعالى فى باب الدين هو سلوك الطريق الذى بينه طلبا للثواب، كما أن التوكل عليه تعالى فى الدنيا هو السعى فى طلب الرزق من جهته دون الجهات المحرمة.
374 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه لم يهد بعض
__________
(1) من الآية: 11
(2) فى النسختين: المتوكل.(1/483)
عباده إلى الإيمان والنجاة، فقال: {وَبَرَزُوا لِلََّهِ جَمِيعاً، فَقََالَ الضُّعَفََاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنََّا كُنََّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنََّا مِنْ عَذََابِ اللََّهِ مِنْ شَيْءٍ قََالُوا لَوْ هَدََانَا اللََّهُ لَهَدَيْنََاكُمْ} (1)!
وهذه الآية تدل على أنه تعالى جسم، ليصح أن يبرز إليه عباده.
والجواب عن ذلك: أنه تعالى إنما ذكر ذلك عنهم فى القيامة وقد زال التكليف وحصل وقت الجزاء، فلا يجوز أن يريد بقوله: {قََالُوا لَوْ هَدََانَا اللََّهُ لَهَدَيْنََاكُمْ} ما ذكروه من الإيمان.
وقوله تعالى من بعد: {سَوََاءٌ عَلَيْنََا أَجَزِعْنََا أَمْ صَبَرْنََا} يدل على أن المراد بما تقدم ذكره من الهدى ما يتصل بما يتعذر التخلص منه، فإذا يجب أن يكون المراد بذلك أنه تعالى لو جعل لهم إلى النجاة طريقا لنجوا، وتخلصوا، وخلصوا أتباعهم، فإذا لم يجعل لهم إلى ذلك طريقا فالنجاة فيهم وفى أتباعهم ميثوس منها، ولذلك قالوا: {سَوََاءٌ عَلَيْنََا أَجَزِعْنََا أَمْ صَبَرْنََا}.
وقد قيل: إنهم أرادوا بذلك أنه تعالى لو هداهم فى دار الدنيا إلى ما اختاروه من الكفر، بأن جعله دينا صحيحا، لهدوا أتباعهم الذين دعوهم إلى طريقهم! والأول أقوى.
375 - وقوله تعالى من بعد: {وَقََالَ الشَّيْطََانُ لَمََّا قُضِيَ الْأَمْرُ}
«وفرغ من ذكر القضاء (2) {إِنَّ اللََّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [22].
__________
(1) الآية: 21وتتمتها: {[سَوََاءٌ عَلَيْنََا أَجَزِعْنََا أَمْ صَبَرْنََا مََا لَنََا مِنْ مَحِيصٍ]}.
(2) د: وفرغ من فصل الخطاب،(1/484)
يدل على تنزيه القديم تعالى من القبائح لأنه تعالى لو كان هو الفاعل لها لما صح أن يوصف بأنه الحق فى الوعد، ويجوز فيه أعظم مما يقع من الشيطان لأنه الفاعل فى العباد المعاصى أجمع، وفى الشيطان الدعاء إلى الضلال والترغيب فيه.
376 - وقوله تعالى من بعد: {وَمََا كََانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطََانٍ إِلََّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، فَلََا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} (1) يدل على بطلان القول بالجبر من جهات:
منها: أنه تعالى لو كان الخالق فيهم الضلال لم يصح وصفهم بأنهم استجابوا للشيطان، لأن المستجيب لغيره إنما يوصف بذلك إذا اختار لأجل قوله ما لولاه لكان يصح أن يختار خلافه، ولذلك لا يوصف من رمى من شاهق فانهبط إلى الأرض أنه يستجيب فى ذلك لغيره، لما لم يمكنه الانفكاك منه.
ومنها: أنه أضاف اللوم إليهم ونفاه عن نفسه، ولو كان تعالى هو الذى خلق فيهم الضلال والكفر لكان الواجب فى الخطاب أن يقال: فلا تلومونى ولوموا خالقكم الذى فعل فيكم الكفر، وأوجبه بالقدرة الموجبة له، وجعلكم بحيث لا محيص لكم. وبطلان ذلك يبين صحة ما نقول.
ومنها: أن الوجه الذى له زال اللوم عن الشيطان على قولهم هو موجود فى العبد نفسه، فهو بأن يزول عنه اللوم أحق، لأنه بدعائه إياهم إلى الضلال لم يخلق فيهم ذلك ولا اضطرهم إليه، ولا أزالهم عن طريقة الاختيار
__________
(1) من تتمة الآية السابقة 22.(1/485)
و [أما] العبد فحاله مع الكفر فى ذلك أبعد! لأنه لم يفعله ولا حصل له سبيل إلى إزالته عن نفسه لأنه تعالى هو المختار لفعله فيه، ولا يجوز أن يقف اختياره على إرادته، فكان يجب أن يكون بزوال اللوم عنه أحق.
ومنها: أنه كان يجب على قولهم أن لا يكون لهذه المخاطبة الجارية بين الشيطان ومن اتبعه معنى لأنه تعالى هو الذى فعل فيه الدعاء، وفيمن اتبعه الاستجابة، وهما كالظرف لفعله، فما وجه هذا الخطاب الذى يقتضى تحقيق الذم فى أحدهما دون الأخر؟ وقد كان الأولى أن يظهر العذر ويذكر أنهما محمولان على ما وقع فيهما، مضطران إليه، فاللوم عنهما جميعا زائل.
377 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يفعل الإيمان والتوحيد فى القلوب والألسنة ويثبتهما، فقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثََّابِتِ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَفِي الْآخِرَةِ، وَيُضِلُّ اللََّهُ الظََّالِمِينَ} [27].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه يثبت الذين آمنوا، وليس فيه بيان الأمر الذى يثبته عليه، وقوله تعالى. {بِالْقَوْلِ الثََّابِتِ} لا يدل ظاهره على أنه الأمر الذى يثبته عليه بل يحتمل أن يراد به أنه يثبته لأجل ذلك، كما قال تعالى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمََانِهِمْ} (1) وكما قال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هََادُوا} (2) إلى ما شاكله، فلا يصح إذا أن يتعلقوا بالظاهر.
والمراد بذلك: أنه تعالى يثبتهم فى نعيم الدنيا وفيما يختصون به من الإكرام
__________
(1) من الآية: 9فى سورة يونس
(2) من الآية: 160فى سورة النساء.(1/486)
والتعظيم فى الآخرة، ويثبتهم فى الثواب والنعيم لأجل القول الثابت الذى هو الإيمان وسائر الطاعات، وعبر عن ذلك جميعه بالقول، على طريق المجاز، كما يعبر عن الدين بكلمة الحق، وكما يقال: إن فلانا يفعل بمذهب أبى حنيفة، ويراد بذلك أنه يدين به ويتمسك.
وقد قيل: إن المراد بذلك أنه يثبتهم لأجل الإيمان، بأن يفعل بهم زيادات الهدى من شرح الصدر وسكون النفس.
وقد قيل: إنه يثبتهم بالقول الثابت الذى هو الوعد والترغيب على الإيمان لأنه داعية لهم إلى الثبات عليه واستجلاب نعيم الآخرة. والأول أقوى.
378 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أن الفلك يجرى فى البحر بإذنه، وقد يجرى فى كثير من الأحوال باكتساب العباد، وذلك يوجب أنه إنما يقع بمشيئته وإرادته، فقال:
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} (1).
والجواب عن ذلك: أن الأمر إذا أطلق فحمله على الإرادة توسع، ولا يصح التعلق بظاهره، ويجب أن يتأول الكلام على أنه يجرى بما يختاره من الفعل فيه، لكنه لما كان يستجيب وينقاد فيما يريده فيه، قيل إنه بأمره: كما قال:
{فَإِذََا قَضى ََ أَمْراً فَإِنَّمََا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2) وكما قال: {قََالَتََا أَتَيْنََا طََائِعِينَ} (3).
__________
(1) من الآية: 32.
(2) من الآية: 68فى سورة غافر.
(3) من الآية: 11من سورة فصلت(1/487)
379 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يفعل فى العبد مجانبة عبادة الأصنام فقال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنََامَ} (1).
فدعا الله تعالى أن يجعله بهذه الصفة.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الدعاء إنما يقتضى أن الداعى أراد منه تعالى ذلك الأمر الذى سأل، وهل ذلك مما يفعله أم لا، وهل يفعله مع بقاء التكليف أم لا، وكيف الحال فيه إذا فعله؟ لا يعلم بهذا الظاهر، فمن أين أن الأمر على ما قالوه؟
ويجب أن يكون المراد بذلك: أنه سأل الله تعالى أن يلطف له بما عنده يجتنب عبادة الأصنام، ودعا مثل ذلك لبعض ولده.
380 - وقوله تعالى من بعد: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلََاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [40] يجب أن يحمل على مثل ما قلناه: لأنه إنما سأل اللطف الذى عنده يختار إقامة الصلاة «وقد بينا أنه متى لم يحمل الدعاء على هذا الوجه لم يكن فيه فائدة لأنه تعالى إن فعل الصلاة (2) ومجانبة الكفر، فلا بد من أن يكونوا كذلك، سألوا أم كفوا عن السؤال. وإن لم يفعل فيهم ذلك فالحال واحدة، فلا يكون للمسألة على قولهم فائدة ومعنى، ولا للرغبة إليه تعالى فى أن يجعلهم بهذه الصفة فائدة، وإنما يفيد ذلك على ما نقول، لأنه تعالى وإن كلف وأزاح العلة، فقد يصح أن يكون فى مقدوره ما إذا فعله اختار المكلف عنده الإيمان والطاعة، ولو لاه كان يضل ويعصى، فيحسن منه الرغبة والمسألة، على ما ذكرناه.
__________
(1) من الآية: 35.
(2) ساقط من د.(1/488)
381 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن المكر من قبله، فقال: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللََّهِ مَكْرُهُمْ} [46].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يدل على أنه الفاعل لذلك، لأن هذه الكلمة تقع محتملة قد يراد بها الفعل، كما يراد بها غيره، فلا ظاهر له إذا.
ويفارق هذا ما تعلقنا به من أنه تعالى قال فى تحريفهم: {وَمََا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ} (1) أن ذلك يدل على أنه ليس من فعله، لأن ما هو من فعل الفاعل لا ينفى أن يكون من عنده، وقد يقال فى الشيء: إنه عنده، «ومن عنده (2)، لا على طريقة الفعلية، والإثبات فيه يفارق النفى.
وبعد، فإن قولنا فى الشيء: إنه من عنده لو دل على أنه فعله لكان القول بأنه عنده، لا يدل على ذلك، لأن الأول يؤذن بحصوله من قبله، على بعض الوجوه، والثانى لا يؤذن بذلك، ولهذا يجوز أن يقال: عند فلان مال، ولا يقال من عنده المال، إذا لم يكن له فيه صنع، ويقال: عند فلان خبرى وما أنا عليه، بمعنى: أنه عالم به وإن لم يكن ذلك من قبله، ولا يقال فيما حل هذا المحل:
إنه من عنده ولا صنع له فيه. فإذا ثبت أنه لا ظاهر له، فالمراد بذلك أحد أمرين:
إما أنه عالم بحال مكرهم، وأنه غير مؤثر فيما أراده (3).
وإما أن عنده معاقبتهم على مكرهم، من حيث لا يشعرون.
__________
(1) من الآية: 78فى سورة آل عمران
(2) ساقط من ف.
(3) ف: أرادوه(1/489)
ثم يقال للقوم: لو كان ما ذكرتموه يدل على أن المكر من قبله لما جاز أن يضيفه إليهم، فيقول: مكرهم، ولما جاز أن يذمهم عليه! وذلك يدل على ما قلناه فى تأويله.
وبعد، فإنه تعالى نسب المكر إليهم، ثم بين أنه عنده (1)، فإن أراد به أنه فعله أدى ذلك إلى التناقض من حيث يوجب أن يكون مكرهم، ويكون فعلا له تعالى، وإن كان كذلك فإضافته إليه لا وجه له!
وبعد، فإن «عند» لا تستعمل إلا فى موجود، لأن المعدوم لا يصح ذلك فيه إلا مجازا، فإذا صح ذلك، ثم وقع منهم المكر ووجد، فيجب أن يكون فى تلك الحال عنده تعالى، وفى تلك الحال قد خرج من أن يكون فعلا له، وذلك يوجب إثبات الفعل فى حال يجب نفيه، وهذا محال، فيجب أن يكون المراد بالظاهر ما قلناه.
382 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أنه جسم يصح أن يبرز إليه، فقال: {وَبَرَزُوا لِلََّهِ الْوََاحِدِ الْقَهََّارِ} (2).
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يدل على ما توهموه لأنه لم يقل:
برزوا إليه، فيقرب أن يكون له ظاهر، وإنما قال: برزوا له، وهذا قد يذكر ويراد به الغرض، كما يقول القائل: صليت لله، وحججت له، وطفت. والمراد بذلك أنه فعل ذلك لأجله على جهة التقرب. فمن أين أن ظاهر ذلك أنهم ظهروا له فى مكان واحد؟
__________
(1) ف: من عنده
(2) من الآية: 48.(1/490)
والمراد بذلك: أنهم برزوا للمحاسبة والجزاء، وفى آخر الآية دلالة عليه لأنه تعالى قال: {لِيَجْزِيَ اللََّهُ كُلَّ نَفْسٍ مََا كَسَبَتْ} (1) [51] فبين بذلك أن بروزهم لهذا المعنى، ولو كان بروزهم لله تعالى من جهة الانكشاف فى المكان لم يكن لهذا القول فائدة! وإنما تقع به الفائدة إذا أراد ما ذكرنا.
أو يريد به: أنهم برزوا إلى حيث لا يجرى فيه إلا حكمه تعالى، فيكون كقولنا: إن فلانا ارتفع إلى الأمير، والمراد بذلك أنه الذى يقوم بفصل أمره دون غيره.
383 - وقد قال أبو على، رحمه الله، فى قوله: {إِنَّ اللََّهَ سَرِيعُ الْحِسََابِ} (2) إن ذلك يدل على بطلان قول المجسمة، لأنه لو كان جسما لوجب كونه متكلما بآلة، ولو كان كذلك لوجب ألا يصح منه الإسراع فى المحاسبة والجمع بين الكل فيه، وفى وقت واحد، خصوصا على قول من يثبته بصورة آدم، «على ما ذهب إليه بعضهم (3)، تعالى الله عن ذلك!
384 - وقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللََّهُ كُلَّ نَفْسٍ مََا كَسَبَتْ} (4)
يدل على العدل: لأنه لو جاز أن يفعل القبيح لجاز أن يبتدئ بالثواب والعقاب من لا يستحقه، فكان لا يعلم فيما يفعله من ثواب أو عقاب أنه جزاء.
وبعد، فإن كان تعالى فعل فى العباد الطاعة والمعصية، فيجب أن يكون
__________
(1) فى النسختين: {[لِتُجْزى ََ كُلُّ نَفْسٍ بِمََا كَسَبَتْ]} والآية فى سورة الجاثية: ولتجزى، إلخ 22.
(2) تتمة الآية: 51
(3) ف: على ما يذهب بعضهم إليه.
(4) فى النسختين أيضا آية سورة الجاثية.(1/491)
مجازيا لنفسه دونهم، لأنه لا يصح أن يكون الفعل من قبله، ولو لاه لم يقع منهم البتة، ثم يجازيهم.
ولو كان كما يذهبون إليه من أن العبد يكتسب حقيقة، كان لا يصح أن يجازيهم لأنه كان يجب أن يكون هو الموجب بخلقه أن يكونوا مكتسبين على وجه لا محيص لهم منه لأنه متى خلق الكسب والقدرة فلا بد من وقوعه، وإذا هو تعالى لم يخلقهما استحال وقوعه، وهذا يوجب أن يجازيهم بما لم يمكنهم مفارقته والخلوص منه على وجه، وهذا، فى أن المجازاة تقبح منه، بمنزلة مجازاة الإنسان على ما لا يتعلق به البتة.(1/492)
ومن سورة الحجر
385 - دلائل: اوقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [3] قد صح أنه تهديد وتقريع (1) والمقصد به بعثهم على الطاعة، والعدول عن خلافها، ولا يصح ذلك وليس للعبد فعل، كما لا يصح التوبيخ واللوم والذم إلا (2) على فعل، ولو كان تعالى هو الخالق للأكل والتمتع لما صح أن يهددهم عليه (3).
ب وقوله تعالى «من قبل (4) {رُبَمََا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كََانُوا مُسْلِمِينَ} [2] يدل على أنهم كانوا يمكنهم الإسلام، ولولا ذلك لما تمنوه على هذا الحد.
ج وقوله تعالى «من بعد (5) {مََا نُنَزِّلُ الْمَلََائِكَةَ إِلََّا بِالْحَقِّ} [9] يدل على أنه ليس فاعلا للقبيح، لأنه لو جاز أن يفعله كان لا يؤمن أن ينزلهم بغير حق، بل كان لا يوثق بشيء مما أنزل من الرسل والكتب.
د وقد بينا من قبل أن قوله: {مََا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهََا وَمََا يَسْتَأْخِرُونَ} [5] يدل على ما نقوله فى الآجال (6)، وأنه الوقت الذى يعلم أن موته وهلاكه يحصل
__________
(1) ساقطة من د.
(2) د: لا.
(3) د: به.
(4) ساقط من د.
(5) ساقط من د.
(6) لم يتقدم شرح هذه الآية، وقد وردت فى القرآن مرتين: هنا فى الحجر السورة الخامسة عشرة الآية: 5، وفى سورة المؤمنون 23الآية: 43، ولعل الاصوب فى عبارة الكتاب أن تكون: «وقوله تعالى {[مََا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهََا]} يدل على ما نقوله فى الآجال، كما بيناه من قبل». انظر فيما تقدم الفقرة: 132والفقرة: 253.(1/493)
فيه، فلا يجوز أن يتقدم أو يتأخر، وإن كان تعالى يقدر على تقديمه وتأخيره، لكنه إذا حكم بأنه يحدث فى ذلك الوقت لم يجز خلافه.
386 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أن الكفر من قبله، فقال: {كَذََلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [1312].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يدل على ما قالوه، من وجوه:
منها: أنه لم يتقدم للكفر ذكر، فترجع الكناية إليه، والذى تقدم ذكره هو القرآن والذكر، فى قوله {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} [9] فيجب أن يكون هو المراد.
ومنها: أن سلوك الشيء فى المكان من صفات الأجسام دون الأعراض، وهو بمنزلة الورود والوصول والمرور، فى أنه لا يصح إلا فى (1) الجسم، وظاهره لا يدل على ما قالوه، لأن الكفر يحل القلب ولا يسلكه، ومتى قالوا فيه إنه مجاز فقد تركوا الظاهر.
ومنها: أنه تعالى قال بعده: {لََا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}
وإنما أراد الذكر دون الكفر، فكذلك القول فى الكتابة الأولى، لأنهما جميعا تعودان إلى مذكور واحد.
فإن قال: إذا حملتم الآية على أنه أريد بها الذكر، والذكر عرض، فقد دخلتم فيما عبتم علينا.
__________
(1) ساقطة من د.(1/494)
قيل له: إنا لم نحمله على الذكر لأن الظاهر يقتضيه، لكن على وجه المجاز، ودللنا عليه بما تقدم ذكره، وأنتم أردتم الخلق بظاهره وبينا أنه لا ظاهر لكم فيه.
على أن للذكر فى هذا الباب مزية، وذلك أنه تعالى إذا أسمعهم ذلك وأورده عليهم، حتى قرع أسماعهم، صار بمنزلة السالك إلى القلب والوارد عليه، وحل محل الجسم إذا ورد على جسم، وليس كذلك حال الكفر، لأنه يبتدأ به فى القلب، فلا يصح فيه معنى السلوك، لا مجازا ولا حقيقة، يبين ذلك أنه خص القلب به لما كان المقصد بإيراد الذكر أن يفهم القلب ثم يعمل به، ولو كان المراد به الكفر والمعصية لم يكن للقلب فيه مزية، لأنهما قد يحلان فى غيره، كما يحلان فيه!
ثم يقال لهم: لو كان تعالى يسلك الكفر فى قلوبهم لم يجز أن يذموا ويكلفهم تركه، ولما جاز أن يقول تعالى، على جهة التوبيخ، {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى ََ عَلَيْكُمْ آيََاتُ اللََّهِ} (1) إلى غير ذلك!
فإن قال: فلماذا خص المجرمين بالذكر، وهو تعالى يورد القرآن على الجميع؟
قيل له: إنه تعالى أراد أن يبين لهم أنهم وإن عدلوا عن الإيمان بالرسول عليه السلام والذكر، واجتهدوا فى جحدهما، فلا بد من أن يورد ذلك على قلوبهم، فيكون مزيحا للعلة ومقيما عليهم (2) الحجة، وليبين أنهم من قبل أنفسهم أتوا، لا من قبله تعالى، وذلك مما لا يتأتى فيمن قد آمن، فلذلك خصوا بالذكر.
__________
(1) من الآية: 101من سورة آل عمران.
(2) فى النسختين: عليه.(1/495)
387 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن المعاصى من عنده، فقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلََّا عِنْدَنََا خَزََائِنُهُ} [21].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه لا شيء إلا وله عند الله (1) مكان، لأن الخزائن هى الأماكن التى تدخر فيها الأشياء، وهذا لا يصح فى أفعال العباد لأنه لا يمكن فيها أن تكون فى مكان، ولا يصح أيضا قبل وقوعها من العباد أن تكون موجودة، فضلا عن أن تكون فى مكان، يبين ذلك أنه تعالى قال بعده: {وَمََا نُنَزِّلُهُ إِلََّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (2) فيجب أن يكون المراد به ما يصح أن ينزل، وذلك لا يصح فى أفعال العباد: فلا بد إذا من تأويله على خلاف الظاهر. فبطل تعلقهم!
والمراد بذلك: ما ينزله تعالى من الغيث الذى يحمله السحاب، ولذلك قال تعالى بعده: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيََاحَ لَوََاقِحَ فَأَنْزَلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَسْقَيْنََاكُمُوهُ} [22].
ومتى حمل على هذا الوجه حمل على ما يصح كونه فى الأماكن، ويصح فيه (3) الإنزال، ولذلك قال تعالى بعده: {فَأَسْقَيْنََاكُمُوهُ وَمََا أَنْتُمْ لَهُ بِخََازِنِينَ} (4) فنبه على أنه تعالى خزنه فى مكان مخصوص ثم أنزله، وأنه ينزل ذلك بقدر الحاجة إليه، على ما قال: {وَمََا نُنَزِّلُهُ إِلََّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}.
ولو حمل على سائر ما يريده تعالى من أمر العباد، ويكون المراد بذكر
__________
(1) فى د: بدون لفظ الجلالة.
(2) تتمة الآية السابقة.
(3) فى النسختين: فيها.
(4) تتمة الآية: 22.(1/496)
الخزائن الملك والاقتدار، لصح أيضا. وعلى الوجهين جميعا سقط تعلق المخالف به، يبين ذلك أنه لا يصح عند الأمة إضافة القبائح إلى خزائنه «حتى يقال إن فى خزائنه (1) الفساد والكفر، وإنما تضاف إليها الرحمة والنعمة، كما قال تعالى:
{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزََائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} (2) إلى غير ذلك. وكل ذلك يبين بطلان تعلقهم به.
388 - دلالة: وقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلََائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلََّا إِبْلِيسَ أَبى ََ أَنْ يَكُونَ مَعَ السََّاجِدِينَ} [3130] يدل على أنه كان قادرا على السجود لأن من ليس بقادر على الشيء لا يوصف بالإباء والامتناع، كما لا يوصف بالإيثار والاختيار، ولذلك لا يقال فى الزمن: إنه أبى المشى، وفى الأخرس: إنه يأبى الكلام، وإنما يقال ذلك فى المتمكن (3).
389 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يضل ويغوى، فقال:
{قََالَ رَبِّ بِمََا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [39].
والجواب عن ذلك قد تقدم فى سورة الأعراف (4)، وبينا أن المراد بذلك (5) هو الحرمان والخيبة، وأن ذلك فائدته «فى اللغة (6)، وإن كان قد يراد به غيره، يبين ما ذكرناه أن إبليس جعل ذلك كالعلة فى أنه يزين لهم الفساد، ولا يليق ذلك بالضلال لأن إضلاله تعالى لا يكون داعيا له إلى ذلك، وتخييبه يجوز أن يكون
__________
(1) ساقط من د.
(2) من الآية: 100فى سورة الأسراء.
(3) انظر الفقرة 28مع التعليق.
(4) انظر الفقرة: 250.
(5) أى بالغواية.
(6) ساقط من د.(1/497)
داعيا له إليه، فكأنه قال: وإذ قد حرمتنى الثواب وجنبتنى الإحسان وحكمت على بالعقوبة فسأصيّر فى ذلك شركاء يستحقون ما أستحقه، لأن المشاركة فى النقمة قد تسأل (1) فى الدنيا على بعض الوجوه.
وقوله تعالى، حاكيا عنه: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} يمكن حمله على التخييب أيضا، فكأنه قال لأخيبنهم (2) بأن أنسب إلىّ كفرهم وضلالهم بالتزيين والدعاء.
ويمكن أن يحمل على الإضلال والإهلاك، فيكون سببا للحرمان.
390 - فأما قوله تعالى من بعد: {إِنَّ عِبََادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطََانٌ إِلََّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغََاوِينَ} [42] فإنه يدل على ما نقوله فى أفعال العباد لأنه تعالى لو خلق فيهم الضلال لم يكونوا متبعين له، وكان يجب أن يكون له على من اتبعه من السلطان الأعلى مثل من لم يتبعه لأن ما يقع عند دعائه إليه هو الفاعل [له] فيهم، فيفعل فى البعض الضلال والقبول، وفى البعض الامتناع والإيمان، فكان لا معنى للتفرقة بينهما!
ثم يقال للقوم: إذا كان تعالى يفعل فيمن اتبع إبليس الضلال والغواية، كما يفعله فى إبليس، فلم أصاف إلى نفسه ضلال إبليس، دون ضلال من اتبعه، فقال: {رَبِّ بِمََا أَغْوَيْتَنِي}، ثم قال: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}؟ ويجب على مذاهبهم أن يكون كأنه قال: بما أغويتنى لتغوينهم، لأن كلا الأمرين من قبله، ولولا خلقه فيهم لما حصل.
391 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه ينزع الكفر
__________
(1) تسلى.
(2) ساقطة من د.(1/498)
من القلوب بفعل الإيمان، فقال تعالى {وَنَزَعْنََا مََا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوََاناً، عَلى ََ سُرُرٍ مُتَقََابِلِينَ} [47].
والجواب عن ذلك: أن «الغل» لا يدل على الكفر ولا يفيده، ولذلك يصح فى الكافر أن يقال: ليس فى قلبه غل ولا غش، إذا سلم الناس غائلته، وزال عنه الحسد والتنافس، فالظاهر إذن لا يدل على ما قالوه.
وبعد، فإن الآية واردة فى أهل الجنة، فيجب أن يكون المراد بها بيان مفارقتها (1) للدنيا فى المنافسات وضروب الحسد والبغضاء لأن الآخرة ليست دار تكليف، فيزول الكفر عن القلوب بالإيمان، ولأن من أهل الجنة من لم يكن فى قلبه الكفر قط، كالأنبياء وغيرهم، فلا يمكن حمل الآية على ما قالوه.
والمراد بها: أن ما يلحق القلب من طلب الرتب، والاعتصام بقصور الأحوال لا يلحق أهل الجنة لأنه تعالى قصرهم على ما أعطاهم، وصيرهم فى هذا الباب بمنزلة الواحد منا الآن فى أنه لا يطلب مرتبة الرسول عليه السلام فى التبجيل والتعظيم، ولا يلحقه بفقد ذلك غم.
392 - وقوله تعالى من بعد: {لََا يَمَسُّهُمْ فِيهََا نَصَبٌ} [48] يدل على أن فى الدنيا يصيبهم ذلك، ولو كان فعلهم من خلقه تعالى لكان لا يصح عليهم النصب والتعب، كما لا يلحق الزنجى بلونه التعب.
393 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يقدر على المعاصى وسائر أفعال العباد، ويقضيها، فقال: {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنََا إِنَّهََا لَمِنَ الْغََابِرِينَ} [60].
__________
(1) د: مف.(1/499)
ثم قال بعده: {وَقَضَيْنََا إِلَيْهِ ذََلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دََابِرَ هََؤُلََاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [66].
والجواب عن ذلك: أن ظاهر قوله: {إِنَّهََا لَمِنَ الْغََابِرِينَ} إنها لمن الباقين، فخبر (1) تعالى أنها خارجة عن جملة من ينجو من آل لوط، داخلة فى جملة من يهلك، فمن حيث بقيت فى جملتهم وأخبر تعالى بذلك فيها، جاز أن يطلق فيها لفظة التقدير، والمراد بذلك الإخبار عن حالها.
ولو كان المراد بذلك ما فعله بها مع قوم لوط، لكان ذلك غير دال على ما ذكره أن الذى حل بها وبهم هو من فعله تعالى، لا من أفعال العباد. ولهذا استدللنا بهذه الآية على أن لفظة «القدر» قد تطلق على أفعال العباد، على بعض الوجوه، من حيث أخبر تعالى عنه وحكم به.
فأما قوله تعالى: {وَقَضَيْنََا إِلَيْهِ ذََلِكَ الْأَمْرَ} فالمراد به الإعلام والإخبار، ولذلك قال بعده: {أَنَّ دََابِرَ هََؤُلََاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} ولا يليق ذلك إلا بأن يكون المراد بما تقدم: الإخبار دون الإيجاد. وقد بينا من قبل الكلام فى القضاء والقدر، وما يجوز على الله، وما لا يجوز، فلا وجه لإعادته.
وقد قال بعض شيوخنا رحمهم الله: إن «القضاء» فى حقيقة (2) اللغة: هو الفراغ من الشيء وبلوغ آخره ونهايته، وإذا استعمل «ذلك فى الخبر (3) فمن حيث يدل من حال الفعل على ما ذكرناه، ولهذا يقال فيما يتم ويلزم عند حكم
__________
(1) ف: فبين.
(2) ف: حقيقة فى.
(3) ف: فى الخبر عن ذلك.(1/500)
الحاكم: إنه قضاء (1)، ويقال فى سائر ما خلقه تعالى: «إنه يقتضى به (2)، من حيث خلقه على تمامه، فيما تقتضيه المصلحة، «وهذا هو (3) المراد بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ} (4).
ولهذا لا يوصف «الخبر بأنه قضى به (5) إلا إذا اقتضى فى المخبر هذه الفائدة، فيقال فى خبر الحاكم إذا كان ملزما للحق: هو قضاء منه، ولا يقال فى خبر غيره ذلك.
فعلى هذا يجب أن لا يقال: إنه تعالى قضى أعمال العباد الحقيقة لأنه لم يخلقها على تمام، ويقال فى أخباره على أحوالها ذلك، على جهة التعارف، لما حقق ذلك فيها، ويقال فى إلزامه المكلف الواجبات ذلك، لما صار فى الحكم بهذه الصفة لأن الإلزام آكد من الإخبار، ولذلك لم يطلق شيوخنا رحمهم الله على أفعال العباد إنها بقضاء الله، دون التقييد، لئلا يوهم الفساد، وما لا يجوز القول به فى الدين!
394 - دلالة: وقوله تعالى: {وَمََا خَلَقْنَا السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا إِلََّا بِالْحَقِّ} [85] يدل على أنه تعالى لا يفعل القبيح لأنه لو فعل الكفر وسائر المعاصى وهى من حيث محلها بين السموات والأرض يقال إنها بينهما لوجب أن يكون الكفر حقا، وكذلك المعاصى. ولو جاز إطلاق ذلك عليه لجاز أن يكون صوابا وحكمة!
__________
(1) د: قضى.
(2) ف: إنه هو بقضائه.
(3) في د: لولا.
(4) من الآية 78فى سورة النمل.
(5) ف: فى الخبر بأنه قضاء.(1/501)
ويدل من وجه آخر على ما نقوله، وذلك أن قوله: {إِلََّا بِالْحَقِّ} يقتضى أنه خلقهما وما بينهما على وجه لا يكون عبثا، بل يكون حكمة، وذلك لا يتم مع القول بأنه يخلق القبائح، وأن كل ما يفعله: الحال فيه واحدة، من حيث كان الأمر أمره والعباد عباده، فله أن يفعل فيهم ما يشاء على ما يقوله القوم!
395 - وقوله تعالى بعد ذلك: {فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمََّا كََانُوا يَعْمَلُونَ} [9392].
يدل على قولنا فى العدل لأنه تعالى لو خلق فيهم المعصية والطاعة لما صح أن يسألهم، بل كان ينبغى أن يكون سائلا نفسه عما خلقه فيهم، ولم يكن لإضافته إلى أنه عملهم معنى ولا فائدة.
396 - وقوله تعالى من قبل: {وَإِنْ كََانَ أَصْحََابُ الْأَيْكَةِ لَظََالِمِينَ فَانْتَقَمْنََا مِنْهُمْ} (1)
يدل على قولنا لأن الانتقام والمجازاة لا تصح من الفاعل إلا على فعل غيره فكما لا ينتقم من نفسه، فكذلك لا ينتقم من نفسه، فكذلك لا ينتقم لأجل فعله.
__________
(1) الآية 78ومن الآية 79.(1/502)
ومن سورة النحل
397 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه خص بالهدى بعض المكلفين دون بعض، فقال تعالى: {وَعَلَى اللََّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهََا جََائِرٌ وَلَوْ شََاءَ لَهَدََاكُمْ أَجْمَعِينَ} [9].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إنما يقتضى أن عليه تعالى قصد السبيل، ليكون مزيحا لعلة المكلف ومبينا له ما كلفه، ليفصل بينه وبين الخارج عنه، وأنه لو شاء لهدى الخلق أجمعين، ولم يبين ما الذى أراده بالهدى، وقد علمنا أنه لا يجوز أن يريد بالهدى الدلالة والبيان لأن ذلك ينقض صدر الآية، ويدل على أنه لم يفعل ما عليه أن يفعله، وما التزمه بالتكليف، ويتعالى الله عن ذلك، فإذا يجب أن يكون المراد به الثواب.
وقد بينا من قبل: أن الأصل فى الهدى هو الفوز والنجاة، وأن الأدلة إنما توصف بذلك، من حيث تفضى إليه، فمتى حملناه على هذا الوجه لم يخرج عن الحقيقة، فكأنه تعالى قال: علىّ بيان السبيل الحق الذى من سلكه فاز، وفى السبيل ما هو جائر وباطل، وخارج من الاستقامة، ويفضى بصاحبه إلى الهلاك ولو شئت لأثبت الجميع، لكن لا أفعله إلا بمن يستحقه ممن يسلك قصد السبيل.
ثم يقال للقوم: لو كان تعالى هو الذى يخلق فيهم الهدى، ويوجبه بالقصد والإرادة لم يكن لقوله: {وَعَلَى اللََّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} معنى لأنه إذا جعلهم كذلك فقد حصلوا مهتدين، بين لهم ذلك أم لم يبين. فالآية إذا دالة على قولنا فى العدل.(1/503)
ويجوز أن يحمل قوله تعالى: {وَلَوْ شََاءَ لَهَدََاكُمْ أَجْمَعِينَ} على أنه لو شاء أن يحملهم ويلجئهم إليه لفعل، على نحو ما بيناه من قبل فى نظائر هذه الآية وقد بينا هناك أنه لا ظاهر لأمثاله (1)، فلا وجه لإعادته.
398 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه المختص بأنه يفعل ويخلق، دون غيره، فقال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لََا يَخْلُقُ أَفَلََا تَذَكَّرُونَ} [17].
ثم قال بعده: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ لََا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [20].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إنما يوجب أن من يخلق ليس كمن لا يخلق، وأن من يدعونه من دون الله، من الأصنام لا يخلق، وهذا مما لا خلاف فيه، فمن أين أن غير الله تعالى لا يجوز أن يفعل إذا كان حيا قادرا؟
وقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لََا يَخْلُقُ} ليس فيه بيان أن من يخلق: هو الله تعالى فقط، فكيف يصح تعلقهم بهذا الظاهر، وقد علم أن لفظة: «من» تتناول الواحد من العقلاء وتتناول الكثير، فلا دلالة إذن فيما قالوه.
وبعد، فلو صح أن يستدل به، كان لا يدل إلا على أن غيره تعالى لا يخلق، وليس فيه أنه لا يفعل، وقد بينا أن إطلاق الخلق إنما يصح فى الله عز وجل، لما كان مقدرا لجميع ما يحدثه، ولا يخرج شيء من أفعاله عن هذه الطريقة (2)،
__________
(1) انظر فيما تقدم الفقرات: 80، 195، 208.
(2) انظر الفقرة: 256.(1/504)
دون من يختلف حاله فيما يحدثه مرة بقدر (1) ومرة ببخت، ومتى استعمل ذلك فى أحدنا، فعلى تقييد وبيان.
والمراد بالآية تبكيت عباد الأصنام وتوبيخهم على عبادتهم، من حيث لا يصح منها أن تخلق وعدولهم وتنعم عن عبادة الله الذى هو الخالق للأعيان، والمنعم يساير وجوه الإنعام، ولذلك قال فى الآية الثانية: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ لََا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} فبين معنى ما ذكرناه، بعد أن ذكر نعمه وأنها لا تحصى، منبها بذلك على أنه المختص باستحقاق العبادة، من حيث يختص بخلق النعمة التى بها يستوجب العبادة، وهذا ظاهر.
فإن قال: فقد كان فيمن يدعون من دون الله من هو فاعل فى الحقيقة عندكم، كنحو من عبد عيسى وغيره، فيجب أن يدل ذلك على أنه لا يجوز أن يخلق!
قيل له: المقصد بالكلام هو من يعبد الأصنام، ولذلك قال بعده:
{أَمْوََاتٌ غَيْرُ أَحْيََاءٍ وَمََا يَشْعُرُونَ} [21] ولو دخل تحته ما ذكرته لكان ما تقدم يسقطه لأنا قد بينا أن العبد لا يخلق على الإطلاق، وقد بينا أيضا أن ما به تستحق العبادة لا يصح من العبد أن يفعله، وكل ذلك يسقط ما ذكرته.
399 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن العبد قد يؤخذ بذنب غيره، فقال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزََارَهُمْ كََامِلَةً يَوْمَ الْقِيََامَةِ، وَمِنْ أَوْزََارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [25].
__________
(1) أى: بتقدير.(1/505)
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إنما يدل على أنهم يحملون أوزار الذين أضلوهم ودعوهم إلى ما هم عليه من المذاهب، وهذا القدر مما لا يقول به القوم لأن أحدا منهم لا يقول إن العبد يستحق عقوبة غيره إذا كان مكلفا، ومن قال منهم:
إن الطفل يؤخذ بذنب أبيه، لم يقل بمثله فى المكلف، إلا من قال منهم آخرا:
إن لله أن يفعل بهم من العقوبة ما شاء، وهذا القائل يجوّز أن يعاقب الله الأنبياء، وأن يبتدئ المكلف العقوبات، فلا وجه لأن يستدل بهذه الآية مع هذا (1)
القول (2).
وبعد، فإن الظاهر يوجب أنهم يحملون أوزارهم وأوزار غيرهم، وذلك يوجب فى ذلك الغير أن يزول عنه ذلك الوزر، ومتى قالوا: فالمراد مثل أوزارهم، فقد تركوا الظاهر!
والمراد بالآية: أنهم يحملون أوزارهم، من حيث ضلوا وأخطئوا، ومن أوزار من دعوهم وأضلوهم من حيث كانوا السبب فى ضلالتهم، ويكون المراد بذلك أن وزرهم يعظم من حيث تأسى بهم القوم فى الضلال، على مثال ما روى عنه صلّى الله عليه فى قوله: «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ومثل وزر من عمل بها».
وقد بينا أن فعل الضال يعظم ما يستحق عليه، من حيث يكون سببا لضلال الغير، كما تعظم الطاعة بالتأسى، وعلى هذا حملنا أمر النبى صلّى الله عليه وسلم على أنه إنما زاد فى الفضل على سائر الأنبياء عليهم السلام مع قصور فى
__________
(1) ساقطة من د.
(2) انظر البغدادى: أصول الدين، ص: 259.(1/506)
المدة وكثرة المشقة، عن كثير منهم، من حيث كثر مستجيبوه والمتبعون له.
ويبين صحة هذا التأويل، قوله تعالى: {وَمِنْ أَوْزََارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} فنبه على أنهم يحملون البعض من ذلك، وفيما أقدموا عليه يحملون الأوزار كاملة، وهذا إنما يتم على هذا التأويل، وإلا فلم صار البعض بأن يحملوه، من حيث أضلوهم، بأولى من بعض؟
ويجوز أن يريد تعالى بذلك أنهم يحملون أوزار إضلالهم غيرهم، ومن حيث تعلق هذا الإضلال بغيرهم (1) جاز أن يقول: يحملون أوزارهم.
وقد قال أبو على، رحمه الله: إن هذه الآية تدل على أن المعارف ليست ضرورة من حيث قال: {يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} ولو كانت باضطرار لما صح ذلك، ولكانوا مع فقد العلم غير ضالين.
وتدل الآية على قولنا، وذلك أنه إن كان تعالى هو المضل، لم يكن لإضافة ضلالهم إليهم معنى، مع أنه تعالى هو الذى خلقه فيهم على وجه لولاه لكانوا لا يضلون، حصل الدعاء أو لم يحصل.
400 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه جسم يجوز عليه الحركة والإتيان، فقال تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللََّهُ بُنْيََانَهُمْ مِنَ الْقَوََاعِدِ} [26].
والجواب عن ذلك: أنه ليس فى المشبهة أحد يجوّز على الله تعالى ما يقتضيه
__________
(1) ساقطة من د.(1/507)
هذا الظاهر، من أنه تعالى يأتى من القواعد، وأنه كائن فى هذه المواضع، فلا يجوز تعلقهم به.
والمراد بذلك ظاهر فى أول الآية وآخرها لأنه تعالى بين أنهم مكروا وأقدموا على ما يوجب تعذيبهم، ثم بين أنه أتاهم عذاب الله تعالى من قواعد البنيان، فخر عليهم السقف وانخسفت بهم الأرض، ومتى لم يحمل على هذا لا يصح كونه عقوبة على مكرهم.
وقوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} (1) يقتضى تعلق ذلك بما تقدم ذكره، ولا يكون له معنى إلا والمراد به أنه أتاهم ابتداء الهلاك من قواعد البنيان، ثم خر السقف لأجل ذلك عليهم (2) فصاروا لا يشعرون بموقع العذاب.
وقد قيل: إن المراد بذلك أنهم مكروا فأتوا فيما أنزل الله بهم من العذاب من قبل أنفسهم، حتى نزل بهم العذاب بغتة من حيث لم يعرفوا ابتداءه.
401 - فأما قوله تعالى بعد ذلك: {وَقََالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا عَبَدْنََا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} الآية (3). فقد (4) بينا فى سورة الأنعام وجه الاستدلال بها على أنه لا يريد الكفر والشرك، وأن القائل بذلك مخطئ ومتخرص وقائل بالظن، وكاذب على الله تعالى، ومكذب لرسله (5)!
__________
(1) من تتمة الآية السابقة. وبعده {[وَأَتََاهُمُ الْعَذََابُ مِنْ حَيْثُ لََا يَشْعُرُونَ]}.
(2) ساقطة من د.
(3) تتمة الآية: {[نَحْنُ وَلََا آبََاؤُنََا وَلََا حَرَّمْنََا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، كَذََلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلََاغُ الْمُبِينُ]}: 35.
(4) فى النسختين: وقد.
(5) انظر الفقرة: 239.(1/508)
وقوله عقيب هذه الآية: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلََاغُ الْمُبِينُ} يدل على أنهم بينوا لهم خلاف قولهم إن الشرك بمشيئة الله، فلما لم يقبلوا، بين تعالى أنهم لم يؤتوا (1) من قبل البيان فقد ظهر وبان، وإنما أتوا فيه (2) من قبل أنفسهم.
402 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يهدى ويصل، فقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنََا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللََّهَ وَاجْتَنِبُوا الطََّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللََّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلََالَةُ} [36].
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أن فى الهدى ما لا يجوز فى الحكمة أن يفعله تعالى إلا ببعض عباده، وكذا الضلال، وإنما كان يصح تعلقهم بالظاهر لو كان الهدى والضلال لا يصح فيهما إلا العموم.
والمراد بالآية: أن فى كل أمة من انقاد الرسول وقبل منه واستحق الثواب، فهداه تعالى إليه، وفيهم من خالف فحقت عليه الضلالة.
قال أبو على رحمه الله: ظاهر قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلََالَةُ}
يمتنع من أن يراد به (3) الكفر، لأنه باطل وليس بحق، ولا يقال ذلك إلا فى الحق والعدل إذا استحقه العبد، وهذا مثل قوله تعالى: {وَلََكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذََابِ عَلَى الْكََافِرِينَ} (4) «ولو أن (5) قائلا قال: إن
__________
(1) فى د: يؤمنوا.
(2) ساقطة من د.
(3) ساقطة من د.
(4) من الآية: 71فى سورة الزمر.
(5) د: وأن.(1/509)
أضل (1) العباد من حقت عليه المعاصى وحق عليه الكفر، لكان خارجا عن اللغة والدين.
ثم يقال للقوم: إذا كان المراد بالآية ما قلتم، فيجب أن لا يكون لإرسال الرسل إلى الفريقين معنى، لأن من هداه الله تعالى بخلق الإيمان فيه، يصير كذلك مع فقد الرسول ووجوده، ومن أضله فكمثل، فكيف يجوز أن يكون تعالى يجعل الهدى فيهم والضلال متعلقا ببعثة الرسل؟ ولا بد (2) إذا بطل ذلك من حمله (3) على أنه بعث الرسل فدعوهم إلى عبادة الله تعالى، واجتناب عبادة الطاغوت، فمنهم من قبل فهداه الله، ومنهم من أبى فحقت عليه الضلالة، وهذا بين.
403 - وقوله تعالى بعد ذلك: {إِنْ تَحْرِصْ عَلى ََ هُدََاهُمْ فَإِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [37] لا ظاهر له فيما يقولون فى الهدى والضلالة لأنه لا يجوز أن يقول تعالى لرسوله: لا تحرص على إيمانهم فإنى أخلق الكفر فيهم! كما لا يجوز أن يقول: لا تحرض على إقامة الأدلة فإنى أعميهم عنها، وأخلق فيهم خلاف ما تدعوهم إليه، تعالى الله عن ذلك!
فالمراد بالآية: أنه من يضله تعالى ويعاقبه لكفره، وفسقه، لا يهديه إلى الجنة ولا يثيبه، وإذا كان تعالى لا يثيبه ولا يهديه، على هذا الوجه، من حيث لا يستحقه، فلا تحرص على أن يكون من أهل الثواب. وهذا بمنزلة قوله تعالى:
{إِنَّكَ لََا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} (4).
__________
(1) فى ف: من. وفى د: اصر.
(2) د: ولأنه.
(3) د: قبله.
(4) من الآية: 56فى سورة القصص.(1/510)
وتكون الآية جامعة لأمرين: أحدهما: تسلية الرسول صلّى الله عليه فى عدولهم عما أراده منهم.
والثانى: بعث المكلف على أن يطيع فيستحق الهدى والثواب (1)، من حيث لا يجوز أن يفعل إلا على جهة الاستحقاق، وهذا بين.
404 - وقوله تعالى: {وَمََا لَهُمْ مِنْ نََاصِرِينَ} (2) يمكن أن يستدل به على قولنا فى الشفاعة لأنه صلّى الله عليه وآله، لو كان يشفع لأصحاب الكبائر لكان ناصرا لهم، وقد بينا أن الضلال إذا أريد به العقاب دخل فيه الفاسق والكافر على سواء. ولم يخص تعالى أحدهما دون الآخر، ولا خص أمة رسول دون سائر الأمم.
405 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه لم يرد من الكافر الإيمان، وأنه لو أراده لكان، فقال تعالى: {إِنَّمََا قَوْلُنََا لِشَيْءٍ إِذََا أَرَدْنََاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [40] فلو كان الإيمان مما أراده. لمكان سيكون لا محالة من الكافر.
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا فى نظير هذه الآية أن المراد به ما يفعله تعالى ويدبره، وأنه لا يمتنع عليه المراد كما يجوز أن يمتنع على غيره، وأنه لا يجوز أن يخلق الأشياء ب «كن» وتقصينا القول فيه (3).
ولو حملت هذه الآية على ظاهرها لوجب أن يكون تعالى قائلا لإيمان
__________
(1) ساقطة من د.
(2) تتمة الآية السابقة: 37.
(3) انظر الفقرة: 51.(1/511)
الكافر: كن، وأن يكون آمرا الإيمان بذلك، وقائلا له ذلك، وهذا ليس بقول لأحد، والعقل يمنع منه، لأن ما أمر به الكافر من الإيمان معدوم، وليس ممن يصح منه الفعل ولا أن يكون يقتضيه (1)، ومتى عدلوا فى تأويل الآية عن هذا الوجه، فقد تركوا الظاهر، وصاروا ينازعونا تأويله، فعند ذلك نبين أن تأويلنا أولى مما قالوه بالدلالة، فثبت بطلان تعلقهم بالظاهر، على كل وجه.
406 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن كل شيء مضاف إليه، وهو الذى يقدر عليه ويملكه، فقال: {وَلَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وََاصِباً، أَفَغَيْرَ اللََّهِ تَتَّقُونَ} [52].
والجواب عن ذلك: أن الإضافة، على هذا الوجه، قد تكون على وجوه فلا ظاهر لها، لأنه قد يقال ذلك بمعنى الملك «وبمعنى الفعلية (2) وبمعنى الولادة وبمعنى الأفضال، وبمعنى المالك والفاعل، فيقال: له دار، وله ولد، وله إحسان وأفضال، وله يد ورجل وله رب وخالق، إلى ما لا يحصى. وذلك يبين أنه لا ظاهر للآية إذا تجردت.
وبعد، فلو دلت على أنه المالك لما ذكره لصح لأن السموات والأرض قد ثبت أنه الخالق لهما والمتصرف، وقد صح فى الدين أنه الذى شرعه وبينه وأوجبه، فمن أين أن أفعال العباد من خلقه؟ وقد بينا أنه لو قيل فى أفعال العباد إنه تعالى يملكها، من حيث يصح أن يمكّن منه ويمنع منه، فيكون وجوده
__________
(1) ف: نفسه.
(2) ساقط من د.(1/512)
وتعذره لأمر من قبله، لصح، لأن المالك قد يملك الشيء على وجوه ويختلف تصرفه فيما يملك. وذلك يبطل «تعلقهم بالظاهر (1).
407 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أن الإيمان من فعله ومن قبله، فقال تعالى: {وَمََا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللََّهِ} [53] فليس يخلو الإيمان من أن يكون نعمة، فيجب أن يكون من الله، أو لا يكون نعمة، فيكون القول به خروجا عن العقل والدين، وموجبا للتسوية بينه وبين الكفر، أو بينه وبين المباح!
والجواب عن ذلك: أننا نقول (2) فى الإيمان: إنه نعمة، وإنه من أعظم النعم، لأنه يؤدى إلى الثواب الدائم، ونقول: إنه من الله تعالى، لكن هذه الإضافة لا تدل على الفعلية، فمن أين من جهة الظاهر أن الإيمان من فعله؟
ولم يقل تعالى: وما بكم من نعمة فمن فعل الله.
فإن قال: لا فرق بين قوله: {فَمِنَ اللََّهِ} وبين قوله: «من فعل الله» فى هذا الباب.
قيل له: إن ادعيت فى التسوية بينهما لغة أو تعارفا، فبينه، وإلا إذا اختلفت اللفظتان لم يجب اتفاقهما فى الفائدة إلا بدليل، وقد علمنا أنه قد يقال فيما يتخذه الإنسان من دار وغيرها إذا أعانه غيره ببذل النفقة عليها: إنها من فلان، وإن لم يكن له فيها فعل! ويقال فيما يحصل للولد من الأدب والعلم: إنه من أبيه، لما أعان عليه، وإن لم يكن «الأدب من (3) فعله، وإذا وصل بأدبه
__________
(1) ساقط من ف.
(2) فى د: أن القول.
(3) ساقط من د.(1/513)
إلى ممالك فقد يضاف إلى والده، لما كان الأدب (1) هو السبب فيما هو السبب فيه، فما ادعاه من الظاهر لا يصح. وعلى هذا الحد يطلق فى المعاصى، فيقال: هى من الشيطان، لما كان دعاؤه إليها كالسبب والمعونة، وربما قويت هذه الإضافة فيتسع فيها بذكر الفعل لقوتها، فيقال فى أدب الولد، إنه من عمل أبيه، وقد قال تعالى فى مثله: {قََالَ هََذََا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطََانِ} (2).
وعلى هذا الحد نقول فى الطاعات أجمع: إنها من الله تعالى، لما وصلنا إليها بألطافه ومعونته وتيسيره، ولا نقول ذلك فى المعاصى، وإن مكن تعالى منها، لما منع منها بالنهى والزجر والتهديد.
وعلى هذا الوجه نقول فيما يصل إلينا من العطايا والهبات: إنها من نعم الله، وإن كان آخر السبب الذى به ملكنا من فعلنا، وما قبله من فعل المعطى، لما كان لا يتم كونه نعمة إلا بأمور من قبله تعالى فى الحال ومن قبل، و [لأنه] أراد ذلك ولم يمنع منه (3).
فإن قيل: أليس تعالى يشكر على نعمه أجمع، فيجب أن يستحق الشكر على الإيمان والمدح والتعظيم، وهذا يوجب كونه مستحقا لذلك على فعلنا!
ولئن جاز ذلك ليجوزن ما قالت المجبرة، من أنا نستحق المدح والذم والثواب والعقاب على فعله تعالى فينا!
وبعد، فيجب أن يكون القرآن من جملة النعم التى بها يستحق القديم تعالى
__________
(1) ساقطة من د.
(2) من الآية: 15فى سورة القصص.
(3) ساقطة من د.(1/514)
علينا العبادة، وذلك يوجب أن تكون العبادة مستحقة علينا بنفس الشيء الذى هو عبادة منا، وهذا يتناقض!!
قيل له: إن المنعم يستحق الشكر والتعظيم. وقد يكون منعما بأن يفعل النعمة، وقد يكون كذلك بأن لا يفعل بعض الأفعال، وقد يكون كذلك بأن ينوب عنه غيره، فبأى وجه فعل صار منعما يستحق الشكر (1)، ولذلك يستحق أحدنا الشكر إذا جاء (2) أجل الدين ولم يطالب الغريم، ويستحق تعالى الشكر (3) لو غفر للكفار والفساق، فالمعتبر فى كون المنعم منعما بأن يكون النعيم من قبله يحصل، والتمكن من ذلك من قبله. أو زوال الضرر عنه، أو التمكن من ذلك يحصل من قبله، فمتى حصل «ذلك أو (4) بعضه بفعل وجب الشكر، وإن حصل من غير فعل وجب الشكر، ولولا أن الأمر كذلك لما استحققنا الشكر على من نعمه ويأكل لأن الأكل والتنعم من فعله، لكنا لما مكنا منه وأتحناه له كنا منعمين عليه، وعلى هذا يكون الإنسان منعما على غيره إذا أعطاه المال وسائر ما ينتفع به.
فإذا ثبت ذلك وجب أن يكون تعالى منعما بالإيمان، وإن كان من فعلنا لما وصلنا إليه بأمور من قبله وتمكينه فيه ودواعيه إليه، فإذا صح ذلك وجب أن يستحق الشكر إذا كان منعما، وإن لم يكن فاعلا لنفس النعمة إذا فعل ما هو السبب فيها. وليس كذلك حال الذم والمدح، لأنه قد ثبت أن أحدا لا يستحق على فعل غيره هذين، كما ثبت أن المستحق للذم على القبيح من فعله لا يجوز أن
__________
(1) انظر المغنى، الجزء الرابع عشر، بتحقيق الأستاذ: مصطفى السقا ص: 180.
(2) ساقطة من ف.
(3) ساقطة من د.
(4) ساقطة من د.(1/515)
يكون مستحقا للمدح وإن لم يجب أن لا يستحق الشكر. وكل واحد من هذا له باب وطريقة لا يجب استعمال المقايسة فيه، كما لا يجوز أن يقال: إن أحدنا إذا جاز أن يستحق العوض على الفعل [و] لا يفعله، فيجب أن يستحق المدح والذم، على هذا الحد!
ومن شيوخنا، رحمهم الله، من أجاب عن ذلك بأنه تعالى يستحق التعظيم والشكر على الإيمان، كما يستحق المولى إذا أمر غلامه بالعطية، الشكر على العطية، وإن لم تكن من فعله لما صحت بفعله، فصارت كأنها واقعة منه، فكذلك الإيمان، وأجراه من هذا الوجه مجرى المسبب (1) عن فعله فى هذه القضية.
وفى شيوخنا، رحمهم الله، من قال: إنه تعالى إنما استحق الشكر على فعله من التمكين والتسهيل والألطاف لا على نفس الإيمان، لكنه لما عظم ما يستحقه عند مصادفة وقوع الإيمان صلح إطلاق ذلك، وإلا فالحقيقة ما ذكرناه. والذى نختاره ما ذكرناه أولا.
فأما العبادة فلا يجب أن نستحق بهذه النعم، بل يستحق عندنا بالنعم المتقدمة للتكليف إذا حصلت ثم دامت، فنفس «ما يقع به التكليف (2) لا نجعله شرطا فى استحقاق العبادة، بل بعده رائدا فى النعمة، ولو جعلناه شرطا لتناقض، على ما ذكره السائل.
وهكذا الجواب لمن سأل عن مثل ذلك فى الشكر، فقال: إن قيام العبد بالشكر من نعم الله تعالى، يستحق بها الشكر، فيجب أن يكون المستحق به
__________
(1) ف؟؟؟
(2)؟؟؟(1/516)
هو المستحق عليه لأنا قد نجعل المستحق به ذلك ما تقدمه، فلا يلزم هذا التناقض.
فأما ما يقولون من أنه تعالى لو وجب أن يشكر على النعم وأراد ذلك، لوجب فى كل شكر نفعله أن يلزمه به شكر ثان فيؤدى إلى ما لا نهاية له، فغلط، لأن الشاكر إذا شكر على سائر النعم بشكر واحد، فقد أدى ما عليه، ويدخل نفس قيامه بالشكر «فى جملة (1) ما شكر عليه حالا بعد حال، ولا يؤدى إلى ما لا نهاية له، وهذا بين (2).
408 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يختص بالهدى المؤمن، فقال تعالى: {وَمََا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ إِلََّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [64].
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام يقتضى أن يكون الكتاب هو الهدى لا الإيمان، فإذا صح ذلك فليس إلا القول بأنه دلالة لهم.
وإذا ثبت ذلك وجب كونه دلالة للجميع لأن القوم لا يخالفونا فى ذلك ولأنه تعالى قد بين فى غير موضع أنه هدى الجميع، وإنما خص بذلك المؤمن لأنه الذى اهتدى به دون غيره، فصار كأنه هدى له. وقد تقدم القول فى نظائر ذلك (3).
409 - وقوله تعالى من بعد: {وَنَزَّلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ تِبْيََاناً لِكُلِّ شَيْءٍّ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى ََ لِلْمُسْلِمِينَ} (4) الكلام فيه كالكلام فى هذه الآية.
__________
(1) فى النسختين: وجملة.
(2) انظر شرح الأصول الخمسة، ص: 86.
(3) انظر الفقرة: 16.
(4) من الآية: 89.(1/517)
410 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أن العبد لا يقدر على شيء، فقال تعالى: {ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لََا يَقْدِرُ عَلى ََ شَيْءٍ} [75].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يوجب نفى القدرة أصلا، وليس ذلك مما يقوله القوم، ويقضى أن الذى لا يقدر هو العبد إذا كان مملوكا، وهذا التخصيص مما لا يقوله أحد!.
والمراد بذلك: أنه لا يقدر على الإملاك كقدرة الأحرار من حيث جعل، لمكان الرق (1) غير مالك لما (2) تحتوى عليه يده. فصار كالفقير الذى لا يقدر على شيء من الرزق، ولذلك ذكر بعده أمر الرزق والانفاق، لينبه بذلك على ما ذكرناه.
411 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن تصرف العبد من قبله، فقال: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرََاتٍ فِي جَوِّ السَّمََاءِ مََا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللََّهُ} [79]
فدل على أن وقوف الطير فى الجوّ من قبله، وإذا صح ذلك فى الطير وجب مثله فى العبد!.
والجواب عن ذلك: أن الظاهر إنما يقتضى أنها مسخّرات إذا كانت فى جو السماء، وأنه تعالى يمسكها، وهذا يدل (3) على أن وقوفها وطيرانها من فعله تعالى لأن المسخّر لغيره يوصف بذلك، إذا فعل الأمور التى لولاها لما صح من
__________
(1) فى النسختين: الرزق.
(2) ف: مما،
(3) د: لا يدل.(1/518)
ذلك الغير التصرّف، فمن حيث يفتقر ذلك الغير فى تصرفه إلى هذه الأمور من قبله، يصح أن يوصف بأنه مسخّر، هذا هو الظاهر فى التعارف لأن المسخّر لغيره إنما يوصف بذلك متى كان ذلك الغير متصرفا، لكنه يتعلق تصرفه به، فيكون مانعا له عن سواه، أو حاملا له عليه، إلى ما شاكله.
وأما الممسك فقد يوصف بذلك متى فعل ما عنده يصير ذلك الغير ممسكا، بحيث هو لا ينحدر ولا يسقط، وإن كان سكونه من فعله، فلما كان تعالى بخلقه الهواء تحت الطير. يصح منها الوقوف والطيران، جاز أن يقال إنه الممسك لها بذلك، ولذلك لا يصح منها الوقوف إلا عند بسط الجناح، ومتى كسرته سقطت إلا أن تحركه للطيران. فبالهواء ما يصح كل ذلك منها، فيجب أن يكون تعالى هو الممسك لها من هذا الوجه وإن كانت فاعلة لحركتها وسكونها، ويكون تعالى مسخرا لها، من حيث يقوّى دواعيها إلى الطيران فى الجو والوقوف فيه، ويلهمها زوال المضارّ بذلك، وكل ذلك متسق مع ما نقوله.
412 - مسألة: قالوا: ثم ذكر ما يدل على أنه لم يشأ الهدى من جميعهم بل أراد من بعضهم الضلال، فقال: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً، وَلََكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} [93].
والجواب عن ذلك قد تقدم فى نظائر هذه الآية، وبينا أنه لا «ظاهر له (1) لأنه لم يقل تعالى: ولو شاء الله كيت وكيت. وإذا كان ما شاء محذوفا والوجه الذى عليه شاء محذوف، وكان ذلك قد يتنافى لم يجز أن يقتضيه
__________
(1) ساقط من د.(1/519)
الظاهر، فلا يمتنع أن يكون تعالى قد شاء من جميعهم الهدى، على جهة الاختيار ويقول مع ذلك: ولو شاء أن يلجئهم إلى الهدى لجعلهم أمة واحدة (1).
وبعد، فإنه تعالى لم يبين «الوجه الذى جعلهم أمة واحدة فيه، فمن أين أن المراد بذلك الهدى دون أن يكون المراد سائر ما تجتمع الجماعات فيه (2). ولو أن قائلا قال: أراد تعالى بذلك: أنه لو شاء أن يسوّى بينهم فى العقل والحياة والقدرة لجعلهم أمة واحدة، لكان حاله كحال المخالف إذا استدل بذلك على الهدى، وليس بعد ذلك إلا التنازع فى تأويله، وقد دللنا عليه من قبل، وقد بينا أن الضلال من الله هو العقاب، وأن من استوجبه يضله إن شاء، ويهدى إلى الثواب من «شاء ممن (3) يستحق ذلك، ولو أنه تعالى جعلهم مختلفين فأضل البعض وهدى البعض، لما جاز أن يقول فى آخر الآية: {وَلَتُسْئَلُنَّ عَمََّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (4).
413 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أن أفعاله لا تقع بحسب اختياره، فقال: {فَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ مِنَ الشَّيْطََانِ الرَّجِيمِ}
[98].
ولولا ذلك لم يكن للاستعاذة بالله من شر الشيطان معنى (5)
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إنما يدل على أنه تعالى أمر بالاستعاذة منه بالله تعالى. فمن أين أنه تعالى هو الخالق (6) لأفعالنا! وقد بينا من قبل أن الأمر
__________
(1) انظر آيات المشيئة فيما تقدم: الفقرات: 80، 195، 208
(2) ساقط من د،
(3) ساقط من ف.
(4) تتمة الآية: 93.
(5) ساقطة من د.
(6) ساقطة من د:(1/520)
من الله تعالى بالفعل، يدل على أنه من قبلنا، فمن هذا الوجه يجب أن يدلّ على قولنا.
ومن وجه آخر، وهو أن الشر الذى نستعيذ بالله منه لو كان الله خالقا له فينا لم يكن للاستعاذة معنى لأنه تعالى إن خلقه فينا «وجب كونه (1): وجدت الاستعاذة أم عدمت.
ومن وجه آخر: وهو أنه (2) كان يجب أن نستعيذ بالله من شرّه لا من شرّ الشيطان لأنه تعالى هو الفاعل لذلك فينا، دون الشيطان!
ومن وجه آخر: وهو أن هذه الاستعاذة تقتضى الانقطاع إلى الله تعالى، والاستعاذة فيما يريده من قراءة القرآن، وذلك لا يصح إن كان تعالى هو الذى يخلق فينا القراءة المستقيمة لأنه متى خلقها كذلك استقامت، وإن خلق فينا السهو اختلفت، فلا وجه لذلك إلا على ما نقوله، يبين ذلك أنه تعالى قال بعده: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطََانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [99] وقد أمرهم تعالى بالاستعاذة، فبين أنه لا سلطان له. فلو لم يكن الفعل للعبد، لكان لا وجه لذلك إلا التحرز مما يخلقه تعالى! والتحرز من ذلك محال.
ومن وجه آخر، وهو أن ما يفعله الشيطان من الوسواس أيضا من فعله تعالى، فإن كان التحرز بالاستعاذة منه وطلب المعونة فيه، فقد عاد الأمر إلى أنا نتحرز من الله، لكنه يلزم التحرز منه بشيئين: أحدهما: الوسواس، والآخر: ما يقع فينا من السهو، وإذا كان تعالى يريد أن يفعل فينا ذلك،
__________
(1) ساقط من د.
(2) ساقطة من د.(1/521)
ولا يحتاج إلى الوسواس فى أفعله فهو إذن عبث! فإذا كان عبثا فليس للشيطان فيما يلحق العبد مدخل البتة، فكيف تجب الاستعاذة بالله منه؟!
ومن وجه آخر: وهو أن الشيطان إذا وسوس، فالوسوسة فيه واجبة لأمر لا يتعلق بنا، وإذا أخطأنا فذلك واجب فينا، لأمر (1) لا يتعلق بالشيطان، فلم صرنا بأن نستعيذ من الشيطان بأولى من أن يستعيذ الشيطان منا فى هذا الفعل خاصة؟
ومن وجه آخر: وهو أنه تعالى بين أنه لا سلطان له على الذين آمنوا، وأن سلطانه على الذين يتولونه، ولو كان ما يحدث فى المؤمن وفيمن يتولاه، من قبله تعالى، لكان حاله فيهما سواء، فى أنه لا سلطان له عليهما.
فإن قال: فهذا يلزمكم إذا قلتم إن المؤمن ومن يتولاه يتساويان، فى أن ما فعلاه من قبلهما!.
قيل له: لا يجب ذلك لأن من يتولاه صار الوسواس الواقع من الشيطان داعية له إلى الفعل، فأقدم عليه لأجله، وعلى جهة القبول منه، وليس كذلك المؤمن لأنه أبى أن يقبل منه، ولم يؤثر وسواسه فيه، فلذلك افترقا ولو كان تعالى هو الخالق لفعلهما ولا يجوز أن يقال فى وسوسته إنه يدعو (2) القديم إلى الفعل أو يفعله لأجل قبوله منه، فوجب ما ذكرناه على المخالف.
فإن قيل: إذا كان يدعو من يتولاه على الحد الذى يدعو المؤمن، فكيف يجوز أن يقول تعالى: ليس له سلطان على الذين آمنوا، وإنما سلطانه
__________
(1) فى د. لأنه.
(2) فى ف: يدعوهم.(1/522)
على الذين يتولونه، وحال فعله معهما لا تختلف؟
قيل له: إن المؤمن، لما كان لقوة بصيرته وشدة رغبته فى الطاعة ومعرفته بموقع المعصية تصير وسوسته غير مؤثرة فيه، جاز أن يقول: «لا سلطان له (1)
عليه. ومن يتولاه لما خرج عن هذه الصفة، وصيّر نفسه كالمنقاد له فيما يخطر له من الشر، جاز أن يقول: له عليه سلطان، وإلا فلو كان يفعل بمن يتولاه أكثر من الوسوسة حتى يحمله على المعصية وقدر على ذلك، لكان يفعل مثله بالمؤمن لأنه إلى الإضرار بالمؤمن أقرب، ومحبته لصرفه عن الإيمان أشد.
وهذه الآية، من هذا الوجه، تدل على بطلان قول الحشوية أن الشيطان يقدر على أن يصرع الإنسان ويخبطه، لأنه لو قدر على ذلك لكان له سلطان على الذين آمنوا، لأن فيهم من قد يلحقه ذلك.
وتدل أيضا على أن الشيطان لا يقدر على أن يرفع الصوت على وجه نسمعه لأنه لو قدر على ذلك لأفشى سر المؤمن، ولبثّ عنه ما يضره انتشاره وظهوره، وكان يكون له عليه سلطان من بعض الوجوه.
ومن وجه آخر، وهو أن قوله تعالى: {وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) يدل على أن العبد يفعل، لأن توكله عليه إنما هو بأن يطلب الشيء من جهته ولا يعدل عنه إلى غير وجهه، ولو لم يكن فاعلا لما صح ذلك فيه، كما لا يصح أن يتوكل على الله فى لونه وسائر ما اضطر إليه!
__________
(1) ساقط من د.
(2) تتمة الآية 99السابقة.(1/523)
ومن وجه آخر: وهو أنه تعالى بين أن توكل المؤمن على الله هو كالسبب (1)
فى أن لا سلطان له عليه، ولا يكون كذلك إلا بأن يكون داعيا له إلى الطاعات، ولو كان تصرفه خلقا لله تعالى لما صح ذلك فيه.
414 - وأما قوله تعالى، بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِآيََاتِ اللََّهِ لََا يَهْدِيهِمُ اللََّهُ} [104]، المراد به: أنه لا يثيبهم. وقد تقدم القول فى نظائره.
__________
(1) ف: كالكشف.(1/524)
ومن سورة «بنى اسرائيل»
415 - مسألة: قالوا: ثم ذكر فيها ما يدل على أنه يقضى الفساد، فقال:
{وَقَضَيْنََا إِلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ فِي الْكِتََابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ، وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً} [4].
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أن القضاء قد ينطلق على الإعلام والإخبار، وهو المراد بهذه الآية. يبين ذلك أنه ذكر الفساد على وجه الاستقبال، والقضاء على وجه الماضى، ولو كان المراد له الخلق لما صح ذلك، ولأن لفظ «القضاء» إذا عدوى ب «إلى» فظاهره الخبر، ومتى أريد به الفعل عدى بغير ذلك، أو لم يعدّ بحرف. فإذا صح ذلك دل الظاهر على أنه تعالى خبر بفسادهم الذى يكون، ودل على (1) ذلك لضرب من المصلحة، وهذا مما لا ننكره، وإنما ندفع القول بأنه تعالى يقضى الفساد بمعنى الخلق والإيجاد، والتقدير والتدبير، لما فى ذلك من ارتفاع الحمد والذم وبطلان التكليف، ولما فيه من وجوب الرضا بالفساد، أو القول بأن فى قضائه ما لا يجب الرضا به، وقد شرحنا ذلك من قبل (2).
416 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه تعالى يريد من العباد القتل والظلم ويبعثهم عليه، فقال: {فَإِذََا جََاءَ وَعْدُ أُولََاهُمََا بَعَثْنََا عَلَيْكُمْ عِبََاداً لَنََا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجََاسُوا خِلََالَ الدِّيََارِ} [5].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إنما يدل على أنه يبعث عليهم من هذا حاله،
__________
(1) ساقطة من د.
(2) انظر الفقرة 393.(1/525)
وليس فيه أن الذى يقدمون عليه فساد، وقد يجوز أن يكون ذلك صلاحا، ويجوز أن يكون فسادا، فلا يصح تعلقهم به.
وبعد، فلو كان الفساد مذكورا فيه، لما صح تعلقهم بالظاهر، لأنه كان يجب أن يكون تعالى يبعث من يفسد ويأمر بذلك، وليس هذا بمذهب القوم لأنهم وإن قالوا إنه تعالى يريد ذلك، فمن قولهم إنه قد نهى عنه وزجر عن فعله، ولا يجوز أن يكون باعثا لهم عليه، أو إليه مع النهى والزجر، فلا يصح إذن تعلقهم بالظاهر!
والمراد عندنا بذلك: أنه تعالى بعث، لما وقع الفساد الأول من بنى إسرائيل، من حاربهم وغزاهم، فيكون الكلام على ظاهره، ثم قال تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنََا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنََاكُمْ بِأَمْوََالٍ وَبَنِينَ} [6].
فجعل لهم الظفر لما تابوا وعدلوا عن طريق الفساد، فبعض ذلك يصدق بعضا فى الوجه الذى ذكرناه.
وفى شيوخنا، رحمهم الله، من قال: إنه تعالى لما خلّى بين القوم وبينهم ولم يمنعهم من محاربتهم، جاز أن يقول {بَعَثْنََا عَلَيْكُمْ} كما قال: {أَنََّا أَرْسَلْنَا الشَّيََاطِينَ عَلَى الْكََافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (1) من حيث خلّى ولم يمنع على بعض الوجوه.
417 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه الفاعل لكل شيء، فقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنََاهُ تَفْصِيلًا} (2).
__________
(1) من الآية: 83من سورة مريم.
(2) من الآية: 12.(1/526)
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه فصل بين الأشياء، وقد ينطلق ذلك على تعريف حاله، كما قد يراد به الإحداث على وجه، فمن أين أن المراد ما ذكروه!
وبعد، فإن الفاعل للشيء الواحد لا يقال: «فصله» وإذا فعل الأشياء متميّزة يقال ذلك من حيث ميّزها، فإذا هو ميز ما ليس بفعل له جاز أن يقال ذلك فيه.
وبعد: فإنه تعالى عدّد علينا نعمه بما يفعله من ليل ونهار إلى غير ذلك (1)
ثم عقبه بقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنََاهُ تَفْصِيلًا} فبين [أن المراد] بذلك ما تقدم ذكره، فحمله على العموم لا يمكن.
ويبين أن الظاهر لا يصح تعلقه به: أنه يوجب فى الشيء الواحد أنه مفصل، وذلك يتأتى فى الأشياء، فالمراد إذن ما قدمناه.
ولا يمنع ذلك من تعلقنا بقوله تعالى: {الر كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} (2) فى حدث القرآن، لأن الإشارة هناك إلى نفس الكتاب الذى هو جملة، فإذا وصف بالتفصيل فقد وجب حدثه، لأنه لا يصح التفصيل فى القديم.
418 - دلالة: [قوله تعالى]: {مَنِ اهْتَدى ََ فَإِنَّمََا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمََا يَضِلُّ عَلَيْهََا، وَلََا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ، وَمََا كُنََّا مُعَذِّبِينَ حَتََّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [15]
__________
(1) قال تعالى: {[وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنََا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنََا آيَةَ النَّهََارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسََابَ، وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنََاهُ تَفْصِيلًا}] الآية: 12
(2) من الآية 1فى سورة هود.(1/527)
يدل على أمور: منها: أن العبد هو الذى يفعل الاهتداء والضلال.
ومنها: أنه يؤتى فى أن يضل من قبل نفسه.
ومنها: أنه لا يجوز أن يضر أحدا ضلاله لأنه لو أضرّ به ذلك لم يكن ضلاله على نفسه، بل كان عليها وعلى غيره، وذلك يدل على أن أحدا لا يؤخذ بذنب غيره، كما يدل قوله تعالى: {وَلََا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ} على ذلك.
ومنها: أنه تعالى نبه بهذا على أن العبد لا يجوز أن يؤخذ بما يخلق فيه لأنه لو جاز ذلك لكان الضلال من الخالق، ولا يكون حكمه وعقوبته عليه، بل يكون على من أوجده (1) فيه، ولو جاز ذلك لجاز أن يؤخذ بفعل غيره.
419 - وقوله تعالى: {وَمََا كُنََّا مُعَذِّبِينَ حَتََّى نَبْعَثَ رَسُولًا} يدل على بطلان قولهم فى المخلوق من جهات:
منها: أنه لو عذبهم على ما خلقه فيهم لم يكن لبعثه الرسول معنى، فضلا عن أن يجعل شرطا فى تعذيبهم!
ومنها: أنه تعالى نبه بذلك على أن تعذيبهم لا يقع إلا بعد إزاحة العلة ببعثه الرسل، فإن لم يكن تصرفهم يقع من قبلهم لم يحتج إلى ذلك، لأن وجوده كعدمه.
ومنها: أنه بين «أنه لا يعذبهم حتى يبعث إليهم رسولا (2) فبأن لا يعذبهم على ما لا يقدرون عليه أولى، لأنه إذا لم يعذّب القادر العاقل على فعله من حيث لم يبعث إليه من يبين له الأمور، فبأن لا يعاقب من لا يتمكن من الفعل أولى!
__________
(1) فى النسختين: وجد.
(2) ساقط من د.(1/528)
فإن قال: فما المراد بذلك، وعندكم أن المكلف بالتكليف العقلى يحسن تعذيبه وإن لم تبعث إليه الرسل؟
قيل له: إن المراد به العذاب المعجّل فى دار الدنيا لأن عادة الله تعالى لم يجرها إلا بعد بعثه الرسل، ووقوع التكذيب منهم.
وقد قيل: إن المراد بذلك: من المعلوم من حاله أن مصالحه موقوفة على شريعة الرسل لأن من هذه حاله لا يجوز أن يخلّى من رسول يبعث إليه، ولو لم يبعث إليه لم يحسن تعذيبه!
وقد قيل: إن المراد بذلك الخواطر الواردة على المكلف على كل حال لأن التكليف كان لا يصح إلا بعدها. وعلى جميع الوجوه فالذى ذكرناه من الأدلة صحيح.
420 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه تعالى يريد الكفر والفسق والهلاك، فقال: {وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا فَفَسَقُوا فِيهََا، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} [16].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إن دل فإنه يدل على أنه تعالى أمر بذلك، وليس هذا بقول لأحد، فكيف والظاهر لا يدل على ما قالوه، لأنه لم يذكر تعالى المأمور به، وحذف ذكره، وإنما بين أنهم فسقوا فيها، فكيف يصح التعلق بظاهره؟
وأما قوله تعالى: {وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} فالهلاك المراد قد يكون حسنا إذا كان عقابا أو محنة، فلا ظاهر له فى أنه قد أراد القبيح، تعالى الله عن ذلك!(1/529)
وبعد، فإن قوله: {فَفَسَقُوا فِيهََا} يدل على أن المأمور به هو الشيء الذى بفسقهم خرجوا عنه، ولولا ذلك لم يصح أن يتعلق به.
فالمراد بالآية: أنه أمرهم بالطاعة ففسقوا بالخروج عن ذلك، فحق عليهم القول والوعيد، لأنه تعالى كان خبر عنهم أنهم سيهلكون بسوء اختيارهم (1).
__________
(1) هذا التأويل الذى ارتضاه القاضى رحمه الله، هو أحد وجوه أربعة ذكرها الشريف المرتضى فى أماليه، وفصل فيها القول ووجوه الاعتراض بأحسن مما أوجزه شيخه هنا فى وجه واحد، إلا أن هذا الوجه هو اختيار أبى جعفر الطبرى رحمه الله أيضا فبعد أن ذكر فى تأويل الآية، وفى قراءة [أمرنا] عدة روايات، صوب قراءة من قرأ: أمرنا بقصر الألف، وتخفيف الميم وهي القراءة التى ذكرها القاضى. أولا «لإجماع الحجة من القراء على تصويبها، دون غيرها» كما ذكر، ثم قال: «وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب فأولى التأويلات به، تأويل من تأوله: أمرنا أهلها بالطاعة، فعصوا وفسقوا فيها فحق عليهم القول لأن الأغلب فى معنى [أمرنا] الأمر الذى هو خلاف النهي، دون غيره،
ومعنى قوله: {[فَفَسَقُوا فِيهََا]}: فخالفوا أمر الله فيها، وخرجوا من طاعته، [فحق عليها القول] يقول: فوجب عليهم بمعصيتهم الله وفسوقهم فيها، وعيد الله الذى أوعده به من كفر به، وخالف رسله، من الهلاك بعد الإعذار والإنذار بالرسل والحجج». انظر الأمالي 1/ 51 الطبرى: 15/ 57.
أما الزمخشرى رحمه الله، فقد رد هذا الوجه بإطلاق، وقال فى ذلك كلاما دقيقا ننقله بنصه تعقيبا على اختيار القاضى وترجيح الطبرى، قال: «فإن قلت: هلا زعمت أن معناه: أمرناهم بالطاعة ففسقوا! قلت: [لا يصح] لأن حذف ما لا دليل عليه [غير] جائز، فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه؟ وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن «فسقوا» يدل عليه، وهو كلام مستفيض يقال: أمرته فقام، وأمرته فقرأ، ولا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام وقراءة.
ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب» «ولا يلزم على هذا قولهم:
أمرته فعصانى، أو: فلم يمتثل أمرى لأن ذلك مناف للأمر، مناقض له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأمورا به، فكان محالا أن يقصد أصلا، حتى يجعل دالا على المامور به، فكان المأمور به فى هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوى لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوى لأمره مأمورا به، وكأنه يقول: كان منى أمر فلم تكن منه طاعة، كما أن من يقول: فلان يعطي ويمنع ويأمر وينهى، غير قاصد إلى مفعول، ثم يفعل. «فإن قلت: هلا كان ثبوت والعلم بأن لله لا يأمر بالفحشاء، وإنما يأمر بالقصد والخير، دليلا على أن المراد: أمرناهم بالخير ففسقوا قلت لا يصح ذلك لأن قوله: ففسقوا، يدافعه، فكأنك أظهرت شيئا وأنت تدعي إضمار خلافه».
أما الوجه عنده، فهو صرف الأمر إلى المجاز، قال فى قوله تعالى:(1/530)
فإن قيل: فقد قرئت الآية على وجه يدل على أنه تعالى يريد الفسق والفساد، وهو بتشديد الميم من: «أمرنا» (1) وإذا أمرهم بهذا، فيجب أن يكون قد أراده منهم.
قيل له: هذا كالأول فى أنه لا يدل على أنه أمّرهم ومكنهم لكى يفسقوا، فيجب أن يكون المقصود بتأميرهم غير مذكور، وأن يحمل الأمر فيه على أنه جعل إليهم الإصلاح ومكنهم من ذلك ففسقوا وأفسدوا، وليس التأمير والتمكين بأكثر من الإقدار والتمكين بالآلات فى العصاة. وذلك يحسن عندنا، لأن العبد معه، وعنده، لا يخرج من أن يكون ممكنا من الطاعة ومن مفارقة المعصية.
فأما إذا قرئ {أَمَرْنََا} بالتخفيف (2) فيجب أن يكون المراد به
__________
{[وَإِذََا أَرَدْنََا]}: «وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل، أمرناهم ففسقوا، أى: أمرناهم بالفسق ففعلوا» ثم قال: «والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق، أن يقول لهم افسقوا، وهذا لا يكون، فبقى أن يكون مجازا، ووجه المجاز: أنه صب عليهم النعمة صبا، فجعلوها ذريعة إلى المعاصى واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك، لتسبب إيلاء النعمة فيه، وإنما خولهم إياها ليشكروها ويعملوا فيها الخير، ويتمكنوا من الإحسان والبر، كما خلقهم أصحاء أقوياء، وأقدرهم على الخير والشر، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية، فآثروا الفسوق، فلما فسقوا حق عليهم القول، وهو كلمة العذاب، فدمرهم». ولعله أصح وجوه التأويل فى الآية. انظر: الكشاف: 2/ 355354. وانظر ما كتبه أبو عبيد الله البكرى (عبد الله بن عبد العزيز) حول الآية وما أورده من وجوه قراءة (أمر). التنبيه على أوهام أبى على فى أماليه. الطبعة الأولى بدار الكتب المصرية سنة 1344. ص: 4342.
(1) رواها الطبرى بسندها عن أبى عثمان النهدى، وذكرها ابن خالويه فى (القراءات الشاذة) عنه، وعن الليث عن أبى عمرو، وأبان عن عاصم، انظر الطبرى: 15/ 55.
القراءات الشاذة لابن خالويه، ص: 75.
(2) يصح أن يقال على القراءة الأولى بقصر الألف وتخفيف الميم وفتحها، وهى قراءة عامة قراء الحجاز والعراق إن المعنى: أكثرناهم، قال الطبرى: ذكر بعض أهل العلم أن:
أمرنا: أكثرنا» ولكن هذا من غير المشهور وقد سبق للقاضى كذلك أن ذكر وجه التأويل فيها، وهو ما علقنا عليه آنفا. فالذى يعنيه بقراءة التخفيف هنا فيما يبدو قراءة من قرأ(1/531)
كثرناهم، ولله تعالى أن يكثر المكلفين ويمكنهم من الطاعات، ومتى عصوا فإنما أتوا من قبل أنفسهم.
421 - مسألة: قالوا ثم ذكر بعده ما يدل على أنه تعالى يريد ما يريده العباد من تعجيل الشهوات التى قد تكون حسنة وقبيحة، فقال: {مَنْ كََانَ يُرِيدُ الْعََاجِلَةَ عَجَّلْنََا لَهُ فِيهََا مََا نَشََاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}.
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يدل على أن مرادهم قبيح، ولا على أن الذى عجله لهم كمثل، فليس له ظاهر فى الوجه الذى تعلقوا به، ولو كان مرادهم فعل القبائح لكان تعالى إذا عجل لهم الدنيا لا يجب أن يكون قبيحا لأن التمكين من اللذات يحسن وإن كان المتمكن بمثله يكون مقدما على القبيح، على بعض الوجوه. وقد صح أن التمكين من القبيح بالإقدار لا يقبح «بخلق الأجسام المشتهاة، فهذا أولى (1)، يبين ذلك أنه يمكنه مع وجودها أن يمتنع منه على وجه يشق فيستحق الثواب، كما يمكنه الإقدام، فلو قبح ذلك لوجب قبح
__________
«آمرنا» بالمد والتخفيف، ويبعد أن يعنى قراءة «أمرنا» بقصر الألف وتخفيف الميم وكسرها على مثال علمنا وفرحنا وهي التى نسبها بعضهم إلى الحسن البصرى لأن الذى ذكره الطبرى أن الحسن قرأ: (آمرنا) بمد الألف، قال الطبرى: «وذكر عن الحسن أنه قرأ ذلك (آمرنا) بمد الألف من «أمرنا» بمعنى: أكثرنا فسقتها» ولم يعرض الطبرى ولا غيره، لقراءة التخفيف وحدها، بالإضافة إلى أن «أمر» لازم، كما يقول العكبرى، وقد أخرج البخارى فى باب: {[وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا فَفَسَقُوا]} الآية من حديث عبد الله بن مسعود، قال (كنا نقول للحى إذا كثروا فى الجاهلية: أمر بنو فلان).
فاذا عدى: ضعّف: (أمرنا) بمعنى: أكثرنا، أيضا أو همز: (آمرنا) ولعل هذا الوجه هو ما يعينه القاضى. وإن كان صاحب تاج العروس ذكر أنه يقال: (أمرهم الله فأمروا، أى كثروا) وعلى كل حال، فقد ذكر ابن خالويه أن قراءة المد والتخفيف شاذة أيضا. راجع الطبرى 15/ 56. فتح البارى 8/ 318. أمالى المرتضى 1/ 54. القراءات الشاذة ص 75، إملاء ما من به الرحمن للعكبرى: 2/ 89وانظر تاج العروس مادة «أمر».
(1) ف: فبأن لا يقبح بخلق الأجسام المشتهاة أولى.(1/532)
النعم التى يتمكن منها فى حال الصيام، وهذا ليس بقول لأحد.
وإنما أراد تعالى أن يبين أن من المعلوم من حاله أن مقصده الدنيا، وأنه لا صلاح له فى شيء من الأفعال يختار عنده الآخرة، فإنه سيمكنه من العاجلة ثم يعاقبه بما يستحقه (1) ومن أراد الآخرة، فإنه سيلطف له بما فى المقدور ثم يثبته على ما بينه تعالى.
422 - مسألة: قالوا ثم ذكر بعده ما يدل على أنه يقضى أفعال الخلق، فقال: {وَقَضى ََ رَبُّكَ أَلََّا تَعْبُدُوا إِلََّا إِيََّاهُ وَبِالْوََالِدَيْنِ إِحْسََاناً} [23]
فإذا صح أنه يقضى الطاعات من فعلهم، فكذلك المعاصى.
والجواب عن ذلك: أن المراد بالقضاء قد يختلف إذا أطلق، وإنما يعرف المراد بضرب من التقييد أو الدلالة. وقد بينا ذلك من قبل (2).
فالمراد بهذه الآية: أنه ألزمهم ذلك وأمرهم به، ولذلك خص الواجب بالذكر دون غيره، والكلام فى أنه يقال فيمن ألزم غيره الشيء: إنه قضاء، وقضى به عليه، مشهور، وقد تقدم ذكره.
423 - دلالة: فأما قوله تعالى، بعد ذكر الزنا والقتل وغيرهما من المعاصى، {كُلُّ ذََلِكَ كََانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} فإنه يدل على أنه يكره المعاصى ولا يريدها لأنه لا يجوز أن يكون كارها مع كونه مريدا لها، لأن ذلك يتضاد، ولا يمكن أن يقال: إنه تعالى يكره منها ما لا يقع، لأنه تعالى عم ولم
__________
(1) تتمة الآية السابقة: 18 {[ثُمَّ جَعَلْنََا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلََاهََا مَذْمُوماً مَدْحُوراً]} والآية التى تليها: 19، قوله تعالى: {[وَمَنْ أَرََادَ الْآخِرَةَ وَسَعى ََ لَهََا سَعْيَهََا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولََئِكَ كََانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً]}.
(2) انظر الفقرة الأولى من هذه السورة.(1/533)
يخص، وفى جملة من نهى عن ذلك، من يقدم عليه، كما أن فيهم من يمتنع منه، فيجب كون الجميع مكروها. ولا يمكن حمل ذلك على أنه يكره ما يقع أن لا يقع، وما لا يقع يكره أن يقع لأن الكراهة يجب أن تكون على حسب ما جرى ذكره فيما تقدم. وقد علمنا أنه جل وعز إنما نهى عن فعله، فيجب أن يكون كارها لفعله.
424 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه تعالى قد يمنع المكلف من الطاعة، فقال: {وَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنََا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجََاباً مَسْتُوراً} [45].
والجواب عن ذلك: أن هذه الآية ظاهرها يدل على ما ليس بقول لأحد، لأنه لا يجوز عند الجميع أن يمنع تعالى من سماع الأدلة مع التكليف، فلو كان تعالى يمنع كل من لا يؤمن من سماع قراءته، صلى الله عليه، لما جاز أن يكلفهم عند جماعة الأمة.
وبعد، فقد علمنا أن الحال كان بخلاف ذلك لأنه صلّى الله عليه كان يقرأ القرآن على الكفار ويتحداهم به، ولا يجوز أن يريد تعالى بذلك ما يعلم خلافه، لأنه منزه عن الكذب!
وقد علمنا أيضا أنه لم يكن فى الكفار من إذا أراد سماع قرآنه جعل الله بينه وبينه حجابا حادثا، فيجب أن يكون المراد بالآية غير ظاهرها وهو:
أنه صلّى الله عليه كان يتأذى ببعض الكفار بالقول والفعل إذا هو قرأ القرآن، فشغلهم الله عنه بضرب من الشغل، من مرض أو غيره، وهو المراد(1/534)
بالحجاب. وهذا إنما يفعله بعد قيام الحجة وسماعهم القرآن مرة بعد مرة، لأنه إذا علم تعالى، فيمن هذا حاله، أنه لا مصلحة له فى سماع قراءته من بعد، وأن فيه تأذى الرسول عليه السلام جاز أن يمنعهم منه.
425 - فأما قوله تعالى: {وَجَعَلْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذََانِهِمْ وَقْراً} [46]، فالمراد به التشبيه. وقد بينا ذلك فى سورة الأنعام (1).
426 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أن العبد لا يقدر إلا عند الفعل، فقال: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثََالَ فَضَلُّوا فَلََا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [48] ولو قدروا على خلاف ما هم عليه لما صح أن يقول ذلك!
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يدل على ما أخبر أنهم لا يستطيعونه، من حيث لم يذكر ما لا يستطيعون (2) السبيل إليه، بل الظاهر يقتضى خلاف ما قالوه، وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم ضربوا الأمثال للرسول صلّى الله عليه بما لا يليق به، وأنهم ضلوا بذلك (3)، ثم قال: {فَلََا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}
إلى ما تقدم ذكره لأنهم كانوا لا يقدرون على أن يثبتوا أنه ساحر أو مجنون، وليس فيه أنهم كانوا لا يقدرون على مفارقة الضلال والكفر، فالتعلق به لا يصح.
427 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده، ما يدل على أنه الفاعل فى العبد
__________
(1) انظر الفقرة: 206.
(2) ف. ما يستطيعون.
(3) الآية السابقة: 47قوله تعالى: {[نَحْنُ أَعْلَمُ بِمََا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، وَإِذْ هُمْ نَجْوى ََ إِذْ يَقُولُ الظََّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلََّا رَجُلًا مَسْحُوراً]}(1/535)
تصرفه ومسيره فى البر والبحر، فقال: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تََارَةً أُخْرى ََ} (1) ثم قال بعده: {وَحَمَلْنََاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (2).
والجواب عن ذلك: أنه ليس فى ظاهره أنه فعل ذلك أو سيفعله. وإنما قال تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جََانِبَ الْبَرِّ} [68] ثم قال بعده مبينا لهم أنه المسلّم، وأن الواجب التوكل عليه والانقطاع إليه: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تََارَةً أُخْرى ََ} مبينا لهم أنهم لا يؤمنون بذلك، وليس فيه أنه يفعله بهم، أو قد فعله بهم. ولو أخبر أنه يفعله بهم لوجب أن يقول: إنه يعيدهم إلى البحر بفعل يفعله. فلا يدل ذلك على أنه الخالق لسائر أفعالهم!
فأما قوله: {وَحَمَلْنََاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فظاهر «حملناهم» لا يدل على أنه خلق فيهم تصرفهم فى الموضعين لأن خالق ذلك فى الحقيقة لا يقال فيه: إنه حملهم، لأن الحمل هو فعل مخصوص لا يصح إلا على الأجسام. ومتى حمل على خلافه فهو توسع، وإن ظهر فيه التعارف.
وهذا هو المراد عندنا لأنه تعالى بين أنه الذى يمكنهم من التصرف فى البر والبحر، ويعطيهم الآلات التى يركبونها فتصير حاملة لهم، كالدواب فى البر، والسفن فى البحر، وإنما ذكر ذلك على طريق الامتنان بهذه النعم العظيمة، ولو أراد به أنه يضطرهم إلى ذلك ويخلقه فيهم، لم يكن له معنى!
428 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يثبت المطيع على الطاعة، ولو لم تكن من فعله لما صح ذلك، فقال: {وَلَوْلََا أَنْ ثَبَّتْنََاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا} [74]
__________
(1) من الآية: 69.
(2) من الآية: 70.(1/536)
والجواب عن ذلك: أن التثبيت على الشيء ليس هو الشيء بنفسه، لأن الفعل قد يحصل ولا يثبت الفاعل عليه، وقد يحصل ويثبت عليه، فلا يدل ظاهره على أنه تعالى إذا ثبته فقد فعل فيه الإيمان، وعلى هذه الطريقة تجرى هذه اللفظة لأنه يقال: فلان قد ثبت على هذا الأمر، وقد ثبت على الفعل، ويراد بذلك غير الفعل، لكنا قد علمنا أن الفاعل لا يجوز أن يثبت على فعله لعلة سوى فعله، فلا بد من أن تحمل الآية على أنه تعالى يثبته بالألطاف والمعونة والتأييد والعصمة (1)، فلا تدل الآية على ما قاله القوم، ولو كان تعالى ثبته صلّى الله عليه بأن خلق فيه الفعل ونهاه لم يكن لقوله: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا}
معنى لأنه كان يجب أن يكون ممنوعا من هذا الركون، فإنما يصح على ما قلناه.
429 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه قد يريد الكفر والقبيح، فقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مََا هُوَ شِفََاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلََا يَزِيدُ الظََّالِمِينَ إِلََّا خَسََاراً} [82] فإذا علمنا أن القرآن لا يجوز أن يزيدهم، علمنا أن منزله هو الذى زادهم، وهذا يدل على أنه أراد منهم الخسران وفعله.
__________
(1) سبقت الإشارة إلى مثل هذه الألفاظ عند التعليق على اللطف والتوفيق (انظر تعليقنا على الفقرتين: 14، 154) وقد شرح القاضى فى آخر كتابه شرح الأصول الخمسة حقيقة المراد بهذه الألفاظ عندهم! فقال فى المعونة: إنها تمكين الغير من الفعل مع الارادة له، ولهذا لا يجوز إطلاق القول بأن أفعالنا كلها من جهة الله تعالى، على معنى أنه أعاننا عليها، لأنه لا يصح أن يقال إنه أعاننا على المعاصى، لأنه لم يردها. أما العصمة فهى فى الأصل:
المنع، وصارت بالعرف «عبارة عن لطف يقع معه الملطوف فيه لا محالة، حتى يكون المرء معه كالمدفوع إلى أن لا يرتكب الكبائر، ولهذا لا يطلق إلا على الأنبياء، أو من يجرى مجراهم» على ما جاء فى شرح الأصول، وإن كنا نعتقد أن قوله: أو من يجرى مجراهم» من عبارة معلق الكتاب، وهو زيدى، وقد أجاز لنفسه رحمه الله أن يكتب فصل الإمامة فى الكتاب من وجهة نظره كذلك.
انظر شرح الأصول الخمسة، ص: 780779. وانظر ص 749فما بعدها مع تعليق الأستاذ المحقق الدكتور عبد الكريم عثمان.(1/537)
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إنما يدل على أن القرآن لا يزيد الظالمين إلا خسارا، فمن أين أنه تعالى يريد ذلك أو يخلقه، ولم صاروا، إذا لم يمكنهم حمل الآية على ظاهرها، أن يتأولوها على أنه تعالى يزيدهم، دون أن تحمل على وجه آخر؟ لأن ما أمكن فيه الوجوه الكثيرة فحمله على البعض دون البعض يحتاج إلى دلالة. ولم صاروا بتأويلهم أولى منا بأن نقول: إن نزول القرآن لمّا كان كالسبب فى أن كفروا جاز أن يضاف ذلك إليه، كما أضاف تعالى زيادة الرجس إلى السورة، فى قوله: {فَزََادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} (1).
ولولا أن الأمر على ما قلناه لم يستحقوا الذم بذلك، ولم يكن القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين، لأنه تعالى هو الذى خلق فيهم الإيمان وفى غيرهم الكفر، فلا يكون للقرآن تأثير فى ذلك، وهذا ظاهر البطلان.
430 - دلالة: وقوله تعالى: {وَمََا مَنَعَ النََّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جََاءَهُمُ الْهُدى ََ} [94] يدل على أن المكلف يتمكن من الإيمان، قادر عليه، مزاح العلة فيه، وإنما يؤتى من قبل نفسه.
ولو كان تعالى لم يقدره عليه، بل خلق فيه الكفر وقدرة الكفر، لكان تعالى قد منعه من الإيمان، فكان لا يصح أن يوبخ بهذا القول أو يقرع بذكره.
ومن وجه آخر: وهو أنه قال: {إِلََّا أَنْ قََالُوا أَبَعَثَ اللََّهُ بَشَراً رَسُولًا} (2) فبين أنه لا مانع لهم إلا هذا بزعمهم، وبين أن هذا غير مانع أيضا
__________
(1) من الآية 125من سورة التوبة، والحديث عن السورة لأن الآية السابقة: 124 {[وَإِذََا مََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ]} الخ.
(2) تتمة الآية السابقة: 94.(1/538)
لأن بعثه الملك إليهم فيه فساد، ولو كان تعالى منعهم، بما ذكرناه عن القوم، لم يكن لهذا القول معنى. وكيف يجوز، وقد منعوا بوجوه كثيرة، كالكفر، وقدرة الكفر، وإرادة الكفر، وقدرة إرادة الكفر، أن يقول تعالى لا مانع لهم من الإيمان إلا هذه الشبهة!!
431 - وقوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنََاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}
[105] يدل على أنه تعالى منزّه عن القبيح لأنه لو جاز أن يفعله لم يعلم أنه بالحق أنزله، ولم يكن لإنزاله معنى ولا فائدة، ولا لإرسال الرسل مبشّرين ومنذرين وجه، ويجرى ذلك مجرى إنزال كتاب يشتمل على الأمر والنهى عن الألوان والهيئات، والوعد والوعيد فيها، وإرسال الرسل فى ذلك، وهذا مما تنافيه الحكمة.
432 - وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللََّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمََنَ أَيًّا مََا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمََاءُ الْحُسْنى ََ} [110] يدل على ما نقوله لأن حسن الاسم هو لحسن معناه لا لأمر يرجع إليه لأن اللغات يجوز فيها أن تتبدل وتتغير، وتقع المواضعة فى الاسم على الشيء وخلافه، والذى لا يتغير هو المستفاد بالاسم، فإذا صح ذلك فلو كان تعالى يفعل الظلم والجور لم يصح أن توصف جميع أسمائه بالحسنى!
* * *
ومن سورة الكهف(1/539)
* * *
ومن سورة الكهف
433 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه الخالق للإيمان والهدى، فقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنََاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} (1).
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أن الهدى لا يقع على الإيمان حقيقة، وإنما بوصف به من حيث يؤدى إلى الفوز والنجاة، فلا ظاهر لما تعلقوا به فى الوجه الذى ذكروه ويبين ذلك أنه تعالى عطف الزيادة على الإيمان، فيجب أن تكون غيره لأن من حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه.
والمراد عندنا بذلك أنه زادهم لطفا وأدلة، على جهة التأكيد، لكى يكونوا إلى الثبات على الإيمان أقرب كما بينا، فى قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ} (2).
ويحتمل أن يريد بذلك: الثواب والتعظيم لأنه تعالى يعظم من قد آمن ويثيبه ويحكم بذلك فيه.
وأما قوله: {وَرَبَطْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} فلا ظاهر له فيما قالوه، لأن فائدته الشد والعقد، وذلك إنما يصح فى الأجسام إذا شدّت بغيرها، وذلك لا يتأتى فى الإيمان وسائر الأفعال، فيجب أن يحمل الأمر فيه على أن المراد بذلك: الألطاف وضروب المعونة التى معها يثبت الإنسان على إيمانه.
أو يراد بذلك: أنه قوى قلوبهم حين أظهروا الإيمان، ولذلك قال: {إِذْ قََامُوا فَقََالُوا: رَبُّنََا رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} (3) فبين أن ذلك كالعلة فى قيامهم وإظهارهم هذا القول.
__________
(1) الآية 13ومن الآية 14.
(2) انظر الفقرة: 234.
(3) من تتمة الآية: 14.(1/540)
434 - فأما قوله تعالى بعد ذلك: {مَنْ يَهْدِ اللََّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً} (1) فقد بينا فى نظائره أنه لا يصح التعلق بظاهره، وإنما المراد بذلك الثواب والعقاب، وما يجرى هذا المجرى.
435 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن أفعال العباد لا تقع إلا بمشيئته تعالى، فقال: {وَلََا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فََاعِلٌ ذََلِكَ غَداً إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} (2).
ولم يخص شيئا من شيء، فدخول المعصية فيه كالطاعة، وذلك يوجب أنه متى فعل، فإنما يفعله بمشيئة الله، ولولا ذلك لم يكن لهذا القول معنى!
والجواب عن ذلك: أن ظاهر ذلك ليس بقول لأحد، لأن أحدا من المسلمين لا يقول إنه يجوز «أن يقول الرجل (3): أزنى غدا إن شاء الله، وأسرق وأقطع الطريق، وأقتل إن شاء الله، بل يمنعون من ذلك أشد منع، ويجيزون هذا القول فيما يخبر به الإنسان من الأمور الحسنة، وذلك يمنع من (4) تعلقهم بهذا الظاهر.
وبعد، فليس فى الظاهر بيان هذه المشيئة، والوجه الذى تحصل عليه، وقد بينا أنه تعالى قد يشاء من العبد الفعل على جهة الإلجاء، وعلى طريق الاختيار، فإذا لم يكن فى الظاهر بيان ذلك فمن أين أن (5) المراد بهذا القول الذى أدب الله تعالى نبيه به مشيئة الاختيار، ليصح أن يتعلق به!!
__________
(1) من الآية 17.
(2) الآية 23ومن الآية 24.
(3) د: لرجل أن يقول.
(4) ساقطة من د.
(5) ساقطة من د.(1/541)
والمراد عندنا بذلك: أنه أدب رسوله عليه السلام والعباد، بأن لا يخبروا فى الأمور المستقبلة على القطع، لأن المخبر لا يأمن أن يخترم دونه ويمنع منه، فيكون كاذبا أو واقعا موقع التهمة، فإذا أدخل فيه اشتراط المشيئة خرج عن هذا الباب، فحسن منه.
وقد اختلف الناس فى المراد بهذه المشيئة، وذكروا فيها وجوها: فمنهم من قال: ينبغى أن يريد بذلك مشيئة الإلجاء. ومنهم من قال: يجب أن يريد به مشيئة المنع والحيلولة: ومنهم من قال: يجب أن يريد به كل مشيئة تمكن فيه. وفى العلماء من قال: إن المقصد به إيقاف (1) الكلام على الوجه الذى ابتدئ عليه، لئلا يعتقد فى المتكلم أنه قاطع على ما أخبر به، ولا يجب أن ينوى فى ذلك الإلجاء ولا غيره، وقد حكى ذلك عن الحسن، رحمه الله. وطريقة الإلجاء هو مذهب أبى على، رحمه الله، ولذلك قال فى الحالف: إنه إنما لم يحنث إذا اشترط المشيئة فى يمينه، من حيث يريد به الإلجاء، ولو أراد به الاختيار وعينه ولم يقصد به سواه، وما كان ما حلف عليه مما يعلم أنه قد أراده، يحنث. وقد بينا ذلك (2) فى مواضع (3)، وتقصيه هاهنا يطول.
436 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يخلق فى قلب العبد الجهل والغفلة «ويمنعه من (4) الإيمان، فقال: {وَلََا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنََا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنََا} (5).
__________
(1) د: اتفاق.
(2) ساقطة من د.
(3) انظر الفقرات: 80، 195، 208، ويبدو أنه يعني أنه بينه فى كتب أخرى.
(4) د: ويمنع منه.
(5) من الآية: 28.(1/542)
والجواب عن ذلك: أن ظاهر ذلك قد ينطلق على السهو الذى قد يكون من فعله تعالى، كما ينطلق على غيره، فلا يصح تعلقهم به.
وبعد، فإن الغفلة إذا استعملت فيما يفعله المرء من الجهل والتشاغل عن ذكر الله والطعن فيه، لا تكون إلا مجازا لأن من هذا حاله هو ذاكر للشيء عالم به وبأحواله، فلا يوصف بأنه غافل.
وخروج الكلام على (1) طريق الذم يمنع من أن يكون ظاهره ما قالوه لأنه تعالى لو أغفل قلوبهم (2) بأن منعهم من الإيمان بالذكر (3) لما جاز أن يذمهم! ولما صح أن يصفهم بأنهم اتبعوا الهوى، وليس يمتنع فى الكلام أن يكون له ظاهر إذا تجرد (4)، فإذا اقترن به غيره، أو علم أنه قصد بعض الوجوه، خرج عن ذلك الظاهر.
والمراد بذلك عندنا: ما ذكره أبو على، رضى الله عنه، من أنه أراد: ولا تطع من «صادفنا قلبه غافلا (5) ووجدناه كذلك، كما يقال فى اللغة: أجبنت فلانا وأبخلته وأفحمته، إذا صادفه كذلك، وهذا ظاهر فى اللغة.
قال: ويمكن أن يراد بذلك أنا عرينا قلبه عن سمة الإيمان، كما قال تعالى:
{أُولََئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمََانَ} (6)، فبقى غفلا لا سمة عليه، فصح أن يقول لذلك: {أَغْفَلْنََا قَلْبَهُ}.
ومتى حمل على أحد هذين الوجهين لم ينقضه قوله {وَاتَّبَعَ هَوََاهُ وَكََانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (7) لأن كل ذلك ذم لا يصح لو كان منعه من الإيمان بالذكر.
__________
(1) ف: عن.
(2) د: قلبهم.
(3) ف: بالكفر.
(4) د: يجرد.
(5) د: صرفنا قلبه عن ذكرنا.
(6) من الآية 22من سورة المجادلة.
(7) من الآية السابقة: 28.(1/543)
437 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن الكفر (1)
والإيمان فى أنهما من قبله تعالى وبمشيئته، فقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شََاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شََاءَ فَلْيَكْفُرْ} [29].
فإذا صح أن ذلك لا يكون أمرا، فيجب أن يكون دالا على إرادته الأمرين، ولذلك قال فى صدر الكلام: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ}.
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه أمر بالكفر، وهذا ليس بقول لأحد، فلا بد من أن يكون المراد به التهديد والتقريع!
وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} المراد به أن الحق بالأدلة والبيان قد ظهر وعرف ثمرة التمسك به، وما يلحق العادل عنه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، على جهة التهديد، كما يقول أحدنا لغلامه، وقد بين له الشيء الذى يلزمه التمسك به، ويضره العدول عنه: إن سلكت ما أقوله، وإلا فاعمل ما شئت، على طريق التهديد. وهذا ظاهر.
438 - دلالة: وقوله تعالى: {وَلََا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (2).
يدل على أنه منزه عن الظلم، ولو كان يفعل الظلم على ما يقوله القوم لكان إنما ينزه نفسه عن العبارة والاسم، لا عن الظلم فى الحقيقة. والتنزيه لا يقع فى العبارات، وإنما يقع فى المعانى، وإنما تنزه تعالى عن كثير من الأسماء، لأن معانيها لا تصح عليه، أو لأنها توهم ما يتعالى عنه.
439 - وقوله تعالى من بعد: {وَمََا مَنَعَ النََّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ}
__________
(1) ساقطة من د.
(2) من الآية: 49.(1/544)
{جََاءَهُمُ الْهُدى ََ} [55] يدل على أنه مكنهم من الإيمان وأزاح سائر عللهم فيه، وإلا لم يكن ليصح هذا القول منه، ألا ترى أن أحدنا لو قيد غلامه بالقيد الثقيل وأغلق الباب عليه، لم يصح أن يقول له مع ذلك: ما منعك أن تتصرف فى الأسواق؟، ومتى وقع ذلك منه عد سخفا، تعالى الله عن ذلك!
440 - وأما قوله: {إِنََّا جَعَلْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَفِي آذََانِهِمْ وَقْراً} (1) فقد تقدم القول فى نظائره، فلا وجه لإعادته (2).
441 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أن العبد إنما يقدر على ما هو فاعله، وأنه غير قادر على ما ليس بفاعل له، فقال: {قََالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ََ مََا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [6867] فبين أنه غير مستطيع للصبر، من حيث لم يقع الصبر منه (3)!
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يدل على ما قالوه، لأنه يقتضى أن لا يستطيع الصبر فى المستقبل، لأن «لن» إذا دخلت فى الكلام أفادت الاستقبال، وهذا مما لا يمتنع عندنا، سواء قيل إن القدرة مع الفعل، أو قبله، وإنما كان يصح تعلقهم بالظاهر لو أفاد أنه غير مستطيع فى الوقت، من حيث لم يحصل الصبر منه. وليس فى الظاهر ذلك.
وقول موسى عليه السلام فى جواب ذلك: {قََالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شََاءَ اللََّهُ صََابِراً} [69] يدل على الاستقبال، ويدل أيضا على فساد تعلقهم به، من وجه آخر، وذلك أن صاحب موسى لو أراد بقوله: {لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} نفى
__________
(1) من الآية: 57.
(2) انظر الفقرة: 206.
(3) ساقطة من د.(1/545)
قدرته على الصبر فى الحقيقة، لم يكن قول موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شََاءَ اللََّهُ صََابِراً} جوابا له، بل كان الذى يليق به: ستجدنى إن شاء الله مستطيعا للصبر، فلما أجاب بذلك دل على أن المراد بالأول نفس الصبر. فكأنه قال: إنك لن تصبر، ويثقل ذلك عليك، فأجابه بما ذكره.
ويبين ذلك قوله لموسى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ََ مََا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} فلو كان لا قدرة له على الصبر لكان لا يجوز أن يصبر: لا على ما عرف علته، ولا على ما لم يعرف، ولكان حالهما سواء. فلما بين بهذا القول أنه لا يصبر على ما يعجب ظاهره، ولا يعرف علته علم أن المراد بالأول: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ} بمعنى: أن ذلك يثقل عليك ولا يخف، لأن المعلوم من حال الطباع أنها تحب الوقوف على علل الأمور الحادثة، إذا كانت معجبة فى الظاهر ومشتبهة.
يبين ذلك أنه قال فى الجواب: {لََا تُؤََاخِذْنِي بِمََا نَسِيتُ} [73] ولو كان لا يقدر عليه، لكان الأولى أن يقول: لا تؤاخذنى بما لست أقدر عليه، لأن مع النسيان قد يقع الفعل، ومع فقد القدرة يستحيل عليه على كل حال.
ويبين ذلك: أنه لما سئل عن سبب قتل الغلام أعاد هذا القول، ولولا أنه أراد بالأول أن ذلك يثقل عليه لم يكن لإعادته عليه معنى! ولكان لا يجوز أن يوبخه على ذلك! ولما صح من موسى أن يجعل العذر فى ذلك فى قوله: {قََالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهََا فَلََا تُصََاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [76] لأنه إذا كان لا يقدر على الصبر عن ذلك فى الحقيقة، لم يصح أن يكون هذا جوابا له ولذلك قال فى آخره: {قََالَ هََذََا فِرََاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مََا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [78] فبين أنه إنما أراد بالقول الأول أنه يثقل
عليه الكف عن المسألة عما شاهده من الأمور التى لا يقف على سببها. وقد يقال فى مثل هذا القول: ألا ترى إلى قول القائل: إن فلانا لا يستطيع أن يسمع كلام فلان، «فى أن (1) يراد بذلك أنه يثقل عليه، ولا يخف على طباعه! وكل ذلك يبين فساد تعلقهم بهذه الآية.(1/546)
ويبين ذلك: أنه لما سئل عن سبب قتل الغلام أعاد هذا القول، ولولا أنه أراد بالأول أن ذلك يثقل عليه لم يكن لإعادته عليه معنى! ولكان لا يجوز أن يوبخه على ذلك! ولما صح من موسى أن يجعل العذر فى ذلك فى قوله: {قََالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهََا فَلََا تُصََاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [76] لأنه إذا كان لا يقدر على الصبر عن ذلك فى الحقيقة، لم يصح أن يكون هذا جوابا له ولذلك قال فى آخره: {قََالَ هََذََا فِرََاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مََا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [78] فبين أنه إنما أراد بالقول الأول أنه يثقل
عليه الكف عن المسألة عما شاهده من الأمور التى لا يقف على سببها. وقد يقال فى مثل هذا القول: ألا ترى إلى قول القائل: إن فلانا لا يستطيع أن يسمع كلام فلان، «فى أن (1) يراد بذلك أنه يثقل عليه، ولا يخف على طباعه! وكل ذلك يبين فساد تعلقهم بهذه الآية.
442 - وقد استدل شيوخنا، رحمهم الله، بقوله: {وَأَمَّا الْغُلََامُ فَكََانَ أَبَوََاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينََا أَنْ يُرْهِقَهُمََا طُغْيََاناً وَكُفْراً} [80] على القول فى اللطف، لأنه تعالى بين أنه إنما قتله، وحسن منه ذلك «من حيث (2) لو بقى لكان فى بقائه مفسدة لأبويه. وكانا يختاران لأجله الكفر، وذلك يوجب أن منع ما هو مفسدة فى التكليف واجب، وأن فعل ما يدعو إلى ترك الكفر، وللإيمان، لا بد منه فى إزاحة العلة.
ويدل على قولنا فى أفعال العباد، وذلك أنه تعالى لو كان يخلق فيهما الكفر إذا بلغ، لكان وجود قتله كعدمه، فى أنه لا تأثير له فى ذلك، وإذا كان يتقيه الغلام لا يحمل القديم تعالى على فعل الكفر فيهما، فما الفائدة فى أن يقتل لهذه العلة.
443 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أن الاستطاعة مع الفعل وأن من لا يفعل الفعل لا يكون مستطيعا له، فقال: {وَعَرَضْنََا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكََافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كََانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطََاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكََانُوا لََا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [101100].
__________
(1) د: وأن.
(2) د: لأنه.(1/547)
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يدل على أن العبد لا يستطيع السمع الذى هو إدراك الصوت، وهذا قولنا، لأن مشايخنا يختلفون فيه فمنهم من يثبت للصوت إدراكا ويجعله مقدورا لله تعالى فقط، ومنهم من يقول فيه:
إنه ليس بمعنى، وإنما يدرك الصوت ويسمع بصحة الحاسة وارتفاع الموانع، فلا يثبت ما يصح إثبات القدرة عليه، أو نفيها، فكيف يصح تعلقهم بالظاهر؟
ويجب أن يحمل الكلام على أنهم كانوا يستثقلون ما يسمعون والتفكر فيه فيعرضون عنه وعن التدبر له، فوصفوا بذلك، على ما يقال فى الشاهد، فيمن يستثقل المسموع: إنى لا أستطيع «أن أسمع (1) هذا الكلام، ومقصده ليس إلا ما ذكرناه.
وقوله: {الَّذِينَ كََانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطََاءٍ عَنْ ذِكْرِي} لا يمكن حمله على ظاهره لأنه يوجب إثبات غطاء لأعينهم، والمعلوم خلافه، فإذن يجب أن يحمل على التشبيه، من حيث لم ينتفعوا بما رأوا. على ما بيناه فى الختم والطبع.
444 - فأما قوله تعالى، قبل ذلك: {وَمََا أَنْسََانِيهُ إِلَّا الشَّيْطََانُ} (2)
فقد استدل شيوخنا، رحمهم الله، به على بطلان قول القوم، لأنه لو كان كما يقولون لوجب أن يقول: وما أنسانيه إلا الرحمن، لأنه الذى يخلق فيهم ذلك على وجه لا يمكنهم التخلص منه. وإنما يصحّ ذلك على ما نقوله من حيث كان الشيطان يوسوس، فيتشاغل العبد عند ذلك عن الأمر الذى كلف، فيصح عنده أن يقال:
إن الشيطان أنساه ذلك وعلى مذهبهم لا يمكن ذلك، ولا يكون له معنى!
__________
(1) ساقط من د.
(2) من الآية: 63.(1/548)
ومن سورة مريم
445 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه يجعل المؤمن مؤمنا ويخلق الطاعة فيه، فقال: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (1)، فلو لم يكن رضيا بفعله، لما صح لهذا الدعاء معنى!
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إن دل، فإنما يدل على أنه تعالى يصح أن يجعله رضيا ويقدر عليه، وذلك مما لا نأباه، وإن كنا نقول: إن العبد يفعل ويقدر.
وبعد، فإن الرضىّ قد يكون رضيا بأمور من قبله، وقد يكون كذلك بأمور من قبل الله تعالى، نحو كمال خلقه وعقله وسائر ما يفضله الله تعالى به (2) على غيره وليس فى الظاهر عموم، فمن أين أن المراد بذلك أحدهما دون الآخر؟ وقد بينا من قبل أن الداعى إذا دعا بالشيء فلا ظاهر لدعائه، لأنه إنما يحسن منه القصد، فما لم يعلم إلى ماذا قصد لا يعرف فائدته، لأنه لا بد من شرط فى الدعاء مضمر إذا لم يظهر فيه ذلك، وكل ذلك يبطل تعلقهم به.
والمراد عندنا بذلك: أنه سأل الله تعالى أن يلطف له ويعينه ليختار ما يصير به رضيا، كما ذكرنا فى قوله تعالى: {وَاجْعَلْنََا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} (3) إلى ما جرى هذا المجرى، وهذا أصل معروف فى اللغة: أنه متى أضيف إلى الغير أمر من الأمور بلفظ يقتضى فى غيره الفعلية، فيجب أن يكون محمولا على أسبابه، فلما كان وصف
__________
(1) من الآية: 6.
(2) ساقطة من د.
(3) انظر الفقرة: 53.(1/549)
المسلم بذلك يفيد أن الإسلام من قبله اقتضت الإضافة ما ذكرناه، وكذلك القول فى الرضى إنه لا يكون رضيا فى الدين إلا بأمور من قبله، فإذا جعله غيره رضيا، فالمراد به الألطاف وسائر الأسباب فى ذلك، وهذا كما يقول أحدنا لولده: قد جعلتك عالما صالحا، فيكون المراد ما ذكرناه!
446 - دلالة: وقد استدل شيوخنا، رحمهم الله تعالى، بقوله: {يََا يَحْيى ََ خُذِ الْكِتََابَ بِقُوَّةٍ} [12] على أن قوة الفعل يجب أن تكون حاصلة قبل الفعل لأنه تعالى أمره بالأخذ قبل حصول الأخذ منه، وأمره أن يفعل بقوة حاصلة.
وهذه الآية وإن كان المراد بها غير ظاهرها، فوجه الاستدلال بها صحيح لأنه تعالى أمره أن يعرف الكتاب الذى أنزله ويتلقاه بالقبول، ويحمله على وجه يقوم بأدائه، وكل ذلك مما لا يصح إلا بقوة، فيجب أن تكون حاصلة.
447 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أن ما يصير به الإنسان (1) مؤمنا طاهرا من قبله، فقال: {وَحَنََاناً مِنْ لَدُنََّا وَزَكََاةً وَكََانَ تَقِيًّا} [13].
والجواب عن ذلك: أنا لا نمنع فى طاعة الإنسان أن نقول: إنها (2) من الله، على ما بيناه. ويجوز أن يقول تعالى فيه: {مِنْ لَدُنََّا} ويريد المعونة والألطاف والتسهيل لأنه إنما صار زكيا تقيا بهذه الأمور الكائنة من قبله تعالى، ولولاها لم يكن كذلك.
ولولا أن الأمر كما ذكرناه لم يصح أن يقول تعالى: {وَكََانَ تَقِيًّا} (3) فينسب
__________
(1) ساقطة من د.
(2) فى النسختين: إنه.
(3) فى النسختين: وإن كان تقيا.(1/550)
ذلك إليه لأن التقى هو القاصد بفعله توقى المخوف من العقاب، فلا بد من أن تكون الطاعة من قبله، ليصح ذلك فيها.
ولو قيل: إن المراد أنه رحمة من الله تعالى على أمته، تطهيرا لهم من الذنوب، فوصفه بأنه زكاة من هذا الوجه، لصح، ويكون محمولا على الظاهر لأن هذه الصفة، خاصة (1) إنما حصلت فيه من حيث أرسله الله وحمله الرسالة، وقد علمنا أن شخص يحيى عليه السلام لا يسمى زكاة إلا على جهة التوسع، فيجب حمله لا محالة «على ما ذكرناه (2).
448 - وقوله تعالى فى قصة عيسى: {قََالَ إِنَّمََا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلََاماً زَكِيًّا} [19] يجب أن يكون محمولا على نظير ما ذكرناه، بل الكلام فيه أكشف! لأنه ليس فى ظاهره أنه تعالى يجعله كذلك، وإنما يدل ظاهره على أنه يهب لها الغلام، ثم بماذا يصير زكيا؟ ليس فى الظاهر، فلا تعلق لهم به!
449 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن النبى إنما يصير ثابتا على الإيمان ومقدما عليه يخلق الله ذلك فيه ويجعله، فقال:
{قََالَ إِنِّي عَبْدُ اللََّهِ آتََانِيَ الْكِتََابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبََارَكاً} (3).
وقد علمنا أنه إنما يصير كذلك بطاعاته، فيجب أن تكون «من فعل (4)
القديم تعالى.
والجواب عن ذلك: أنه لو أراد ما قالوه لم يصح ما ذكره بعده، من قوله:
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ف: على بعض ما ذكرناه.
(3) الآية 30ومن الآية 31.
(4) ساقط من د.(1/551)
{وَأَوْصََانِي بِالصَّلََاةِ وَالزَّكََاةِ مََا دُمْتُ حَيًّا} (1) لأنه لا (2) يصير مباركا «على ما ذكروه (3) إلا بالصلاة والزكاة، فكان يجب أن يكون داخلا فى جملة ما جعله الله عليه، فلا يكون لتوصيته به معنى. ومتى ثبت أنه لا يكون مباركا فى المستقبل، على ما ذكروه، إلا بأمور من قبله تعالى، فكذلك القول فيما تقدم.
وبعد، فلو صح ما قالوه لأمكن حمله على أن المراد به: أنه تعالى جعله مباركا على أمته بإرساله، وتحميله إياه الرسالة ويثبتون على الطاعات، فصار سببا لثباتهم على ذلك، فوصف بأنه مبارك، لهذه الوجوه، لأن البركة هو الثبات، والتقى هو لزوم الخير.
ويجوز أن يراد بذلك: أنه تعالى فعل به من الألطاف ما يثبت معه على طاعاته وإيمانه، فكان جاعلا له كذلك، على ما بيناه فيما تقدم ذكره.
450 - وقوله تعالى: من بعد: {وَبَرًّا بِوََالِدَتِي} (4) يجوز أن يحمل على ما يكون من قبله تعالى ويجعله، فى الأحوال التى يكون عليها، مما لا يدخل تحت فعله، لأن ذلك قد يكون برا بها، أو يحمل على الألطاف على ما بيناه، لأن البرّ بوالديه يوصف بذلك على جهة الفعلية، فإضافته إلى غيره يجب أن تكون إضافة سببه، كما ذكرناه فى إضافة علم الولد وصلاحه إلى والده.
451 - وقوله تعالى من بعد: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبََّاراً شَقِيًّا} لا يدل على أنه لو كان كذلك لكان يجعله تعالى، وإنما يدل على أنه لم يجعله بهذه الصفة، فقط، فلا ظاهر له فيما يقولون!
__________
(1) الآية 31 {[وَجَعَلَنِي مُبََارَكاً أَيْنَ مََا كُنْتُ وَأَوْصََانِي بِالصَّلََاةِ وَالزَّكََاةِ مََا دُمْتُ حَيًّا]}.
(2) ساقطة من د.
(3) ساقط من د.
(4) الآية 32وتتمتها: {[وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبََّاراً شَقِيًّا]}.(1/552)
والمراد بذلك: أنه تعالى خلقه على صفة الخضوع والخشوع واللين وخفض الجناح، وقد يكون ذلك بأمور ترجع إلى ما يخلق الله عليه العبد وقلبه (1)، فلا يتعلق بما ذكروه.
452 - دلالة: وقوله تعالى: {مََا كََانَ لِلََّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ}.
[35] يدل على نفى الظلم عنه لأن اتخاذ الولد لا يجوز أن يحمل على أمر محال غير معلوم، فلو أريد به الولادة فى الحقيقة لم يصح لأنه لما هو عليه فى ذاته يستحيل ذلك فيه، فيجب أن يحمل على أمر يتعلق بالفعل، وهو أنه ما كان له أن يصف نفسه بذلك، أو يفعل ما يوهمه كما يدعيه النصارى.
فإذا ثبت أنه ليس له ذلك، لقبحه، فكذلك القول فى سائر القبائح.
ويبطل ذلك أيضا ما يقوله القوم من أن لله تعالى أن يفعل كل شيء، لأنه مالك، وإلى ما شاكل ذلك من عللهم، ويبين أن الصحيح أن يقال: ليس لله أن يفعل الظلم والجور. تعالى الله عن ذلك.
453 - وقوله تعالى من بعد: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضََاعُوا الصَّلََاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوََاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [59] يدل على أن الصلاة من قبلهم لأنها لو كانت بخلق الله فيهم لم يصح أن يكونوا المضيعين لها، كما لا يصح أن يوصف الإنسان بأنه أضاع لونه وهيئته. واتباع الشهوات لا يصح لو كان تعالى يضطر إليه، وإنما يصح ذلك متى اختار الفعل للدواعى والشهوة.
وهذا ظاهر.
454 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه قادر على أفعال
__________
(1) فى النسختين: وقبله.(1/553)
العباد، فقال: {رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا فَاعْبُدْهُ} [65] والربّ هو المالك القادر، والمعاصى (1) داخل فيما بينهما، فيجب أن تدل هذه الآية على قولنا!
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يتناول إلا الأجسام لأنه قال:
{فَاعْبُدْهُ} (2) فبين أن خلقه لما تقدم ذكره هو الموجب لعبادته، وليس لأفعال العباد مدخل فى ذلك، ولا يجوز أن يراد به إلا النعم التى بها يستوجب تعالى العبادة، ولذلك قال بعده: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} يعنى: مثلا ونظيرا فى هذا الأمر الذى به يستحق العبادة، مبينا بذلك أن الواجب إخلاص العبادة له فقط، دون غيره.
وقد بينا من قبل أنا لو قلنا: إنه تعالى مالك لأفعال العباد، من حيث يقدر على تمكينهم منها ومنعهم منها لصح، ولجرى ذلك على طريق الحقيقة، لأن المراد بالملك فى المملوك على ما ذكرناه، قد يختلف.
455 - مسألة: ثم ذكر بعده ما يدل على أنه يورد المؤمن النار يوم القيامة، ثم ينجيه منها، وعلى أن له أن يفعل بكل عباده ما يريد، فقال:
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلََّا وََارِدُهََا كََانَ عَلى ََ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا} [71].
والجواب عن ذلك: أن الورود لا يوجب الوقوع فى الشيء، وإنما يقتضى الدنو والمقاربة وعلى هذا الوجه يحمل قوله تعالى: {وَلَمََّا وَرَدَ مََاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النََّاسِ يَسْقُونَ} (3) لأن المتعالم فى ذلك «أنه لم يخض الماء (4)
__________
(1) د: العاصي.
(2) تتمة الآية السابقة 65 {[فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبََادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا]}.
(3) من الآية 23من سورة القصص.
(4) فى د: أنه يخص.(1/554)
وإنما قرب منه فذكر تعالى من قبل ما يدل على أنه أحضر الجميع حول جهنم جثيا، على ما ذكره (1)، ثم بين أن الكل وارد عليه، على هذا الحد، ثم بين أنه ينجى الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا، وإنما أراد تعالى بذلك أن المؤمنين إذا قربوا منها وعاينوها وعلموا أن المخلص لهم منها ما فعلوه من الطاعات فيما سلف، وأن أعداءهم يقعون فيها لأجل معاصيهم السابقة عظم عند ذلك سرورهم، فيكون ذلك زائدا فى سرورهم ونعيمهم.
ولو لم يحمل على ما قلناه لوجب أن يقال فى الأنبياء والمؤمنين: إن الله يدخلهم النار، وليس ذلك بمذهب لأحد، ولو كان فيه خلاف لم يمتنع أن يقال: إنهم يردون النار ويجنبهم تعالى الضرر فيها، كما نقوله فى الملائكة الموكلة بالعذاب.
456 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يرسل الشياطين على الكافرين، فإذا جاز أن يفعل ذلك جاز أن يضلهم، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنََّا أَرْسَلْنَا الشَّيََاطِينَ عَلَى الْكََافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [83].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه أرسل الشياطين لهذه العلة، كما أرسل الأنبياء للدعاء إلى سبيل ربهم (2)، وليس ذلك بقول لأحد.
والمراد عندنا به: أنه تعالى خلى بينهم وبين الكافرين مع قدرته على المنع والحيلولة من كل وجه، فقيل توسعا: إنه أرسلهم، كما يقال فيمن «يمكنه أن (3) يمنع كلبه من الإقدام على الإضرار بغيره إذا تركه وذاك: إنه أرسل كلبه
__________
(1) انظر الآيات: 7068.
(2) فى النسختين: ربه.
(3) ساقط من ف.(1/555)
على الناس، وكما يقال فى الملك إذا أمكنه ضبط جنده وكفهم عن الفساد وقطع الطريق: إنه قد أرسلهم على الناس، إذا هو لم يمنعهم.
ثم يقال لهم: إن مذهبكم ينافى ما تقتضيه الآية، لأنه تعالى إذا كان هو الذى يؤزهم ويخلق فيهم الكفر فلا تأثير للشيطان، ولا فرق بين أن يرسل عليهم أو لا يرسل، على أنه إذا عدى الإرسال ب «على» لم يقتض ظاهره الرسالة والأمر (1)، وإنما يفيد ما ذكرناه، فأما إذا عدى ب «إلى» فالمراد به الرسالة، ولذلك لا يقول أحدنا: أرسلت غلامى على فلان، إذا بعثه إليه برسالة.
وهذا ظاهر.
457 - فأما قوله تعالى، من قبل: {وَيَزِيدُ اللََّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً}
[76] فقد بينا أنه لا ظاهر له، وأنه يتأول على زيادة الألطاف والأدلة والبيان، أو على الثواب والتعظيم.
__________
(1) ساقطة من د.(1/556)
ومن سورة طه
458 - دلالة: وقوله تعالى: {طه مََا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ََ إِلََّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى ََ، تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ} (1) يدل على حدوث القرآن، من جهات:
أحدها: أنه وصفه بالتنزيل، وذلك لا يصح إلا فى الحوادث.
وثانيها: أنه وصفه بأنه تذكرة، وذلك لا يصح إلا فيما يفيد بالمواضعة، ولا يصح ذلك إلا فيما يحدث على وجه مخصوص، ولو كان قديما لاستحال جميع ذلك فيه، لأن ما لا مواضعة عليه لا يصح أن يعلم به الفائدة المقصود إليها.
وما هذا حاله لا يجوز أن يكون له معنى، فيصير تذكرة لمن يخشى.
وثالثها: أنه تعالى بين أنه أنزله عليه لهذا الغرض، والقصد إنما يؤثر فى الحوادث، ومتى قالوا: إن المراد بذلك أنه أنزل العبارة عنه فقد تركوا الظاهر وادّعوا أمرا مجهولا، وسلّموا أن القرآن محدث، وهو الذى نريده.
فإن قالوا: إذا كان القرآن عندكم عرضا، والأعراض لا يصح فيها الإنزال، فكيف يصح تعلقكم بالظاهر؟
قيل له: إن الكلام وإن كان عرضا، ولا يصح فيه ما ذكرته فى الحقيقة، فقد يقال فى التعارف: إنه أنزل، إذا تحمله من يحكيه ويؤديه على جهته، وهذا
__________
(1) وبعده: {[وَالسَّمََاوََاتِ الْعُلى ََ]} الآيات: 41.(1/557)
بالتعارف قد صار كالحقيقة، لأن المنشد منا لقصيدة امرئ القيس (1) يقال: إن ما أنشده هو شعر امرئ القيس، ولا يدعى فى ذلك الخروج عن التعارف والحقيقة، فيصح من هذا الوجه ما تعلقنا به.
459 - وقوله تعالى من بعد: {فَلَمََّا أَتََاهََا نُودِيَ يََا مُوسى ََ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} (2)
يدل أيضا على حدث النداء، من حيث علقه بإتيانه المكان، والقديم لا يصح ذلك فيه، لأن التوقيت إنما يصح فى الحوادث. من حيث تحدث فى وقت دون وقت.
ومن وجه آخر: وهو أنه لو كان قديما لكان لم يزل قائلا: {يََا مُوسى ََ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} وقد علمنا أن ذلك يقتضى النقص من جهات كثيرة: أحدها أن المتكلم إنما يكون حكيما متى استفاد بكلامه أو أفاد غيره، وذلك يستحيل فيما لم يزل، فإثباته على هذا الوجه نقص، يتعالى الله عنه، كما أن أحدنا لو قال وهو منفرد: السماء فوقى والأرض تحتى، ولم يزل يكرره، فإن ذلك وإن كان صدقا، فإنه من أقوى الدلالة على السّفه والنقص.
ومنها: أنه لا يجوز أن يكون مناديا على جهة المخاطبة للمعدوم، لأن ذلك يتعالى الله عنه.
__________
(1) هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندى، شاعر يمانى الأصل، كان أبوه ملك أسد وغطفان، وأمه أخت المهلهل الشاعر. وقد عده ابن سلام على رأس الطبقة الأولى من فحول شعراء الجاهلية. انظر: طبقات فحول الشعراء، لمحمد بن سلام الجمحي بشرح الأستاذ محمود محمد شاكر، ص: 43. معجم المؤلفين: 2/ 320.
(2) وبعده: {[فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوََادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً]} الآيتان: 1211.(1/558)
ومنها: أنه [لا] يجوز فيما لم يزل أن يقول: {إِنَّكَ بِالْوََادِ الْمُقَدَّسِ}
وهو معدوم لأن ذلك كذب، تعالى الله عن ذلك، فلا يجوز إذن إلا أن يكون حادثا فى ذلك الوقت.
460 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه يخلق فى العبد الإيمان وسائر ما يشرح به صدره، فقال: {قََالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [2625]
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه قد يلتمس منه تعالى انشراح الصدر، وهذا مما لا ندفعه، ولا نمنع من كونه تعالى قادرا عليه، ولا يجب إذا صح ذلك منه، أن لا يقدر العبد على الأفعال!.
وقد بينا من قبل الكلام فى الدعاء، وأنه لا يدل على أن المدعو به يجوز أن يفعل، فإنه متى فعل فهو (1) من الباب الذى من حقه أن يكون من أفعال العباد!
وبعد، فلسنا نمتنع أن يكون تعالى يفعل فى القلب وفى الصدر من المعانى ما يكون النبى والمؤمن أقرب إلى سكون النفس عن الأمور التى يشاهدها لأن العلوم الضرورية قد تقتضى ذلك، وهى (2) من فعل الله تعالى، على أن استعمال شرح الصدر فى الأعراض التى يفعلها العبد مجاز، وحقيقته يجب أن تفيد ما عليه الجسم من الصفة، التى تضاد الحرج والضيق، وهذا لا يكون إلا من فعله.
ومتى استعملناه فى الاستدلال والمعارف المكتسبة فذلك توسع، فلا يصح تعلقهم به.
__________
(1) فى النسختين: وهو.
(2) د: وهو(1/559)
والمراد بالآية: أنه سأله أن يكثر تعالى ألطافه ومعونته له وتقوية قلبه، ليكون أقرب إلى القيام بما ألزم نفسه، وكلّف تبليغه إلى غيره.
461 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أن أفعال العباد من جهته، فقال: {قََالَ فَمَنْ رَبُّكُمََا يََا مُوسى ََ قََالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى ََ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ََ} [5049]
وقد دخل تحت «كل شيء» أفعال العباد. وإذا كانت من عطيته فهى (1)
من فعله.
والجواب عن ذلك: أن العطية لا نصح إلا فيما يصح من المعطى تناوله وردّه. هذا هو الذى تقتضيه اللغة والتعارف، ولذلك يقال فى أحدنا إذا ناول غيره الثوب: إنه أعطاه، ولو أقامه وأقعده لم يقل ذلك فيه.
فإذا صح ما ذكرناه لم يدخل تحت الظاهر إلا الأجسام، فتعلقهم به لا يصح يبين ما ذكرناه أنه دل بهذا القول على الله تعالى، وقد علمنا أنه يمكن أن يدل عليه بالأفعال التى لا تصح من العباد، كالأجسام وغيرها، فيجب أن لا (2)
يتناول الظاهر سواهما، فكأنه قال: ربنا الذى فعل الأجسام وسائر ما لا يتأتى منا، ثم هدى وكلف (3) لأن كلا الوجهين مما لا يصح وقوعه من العبد، يبين ذلك أنه ذكر ذلك بلفظ الماضى لينبه به على الأمور الموجودة الدالة على ربه.
وذلك لا يصح فى أفعال العباد التى لا تثبت وتوجد على هذا الوجه!
يبين ذلك أن الكلام يقتضى أنه أعطاهم ثم هداهم، وأن ما أعطاهم له تعلق
__________
(1) فى د: فهو.
(2) ساقطة من د.
(3) فى د: وكلفه.(1/560)
بالهدى، وهذا يوجب أن يكون المراد: النعم التى معها يصح التكليف. وذلك لا يكون إلا من فعله.
وبعد، فلو لم يكن هذا هو المراد لكان الكلام فاسدا لأنه صلى الله عليه أورد ذلك على جهة الحجاج على عدوّ الله ولو أنه (1) عند قوله:
{فَمَنْ رَبُّكُمََا يََا مُوسى ََ} دل على ربه بتصرفه وتصرف العباد، لكان الكلام سخفا، فضلا عن أن يفسد. فالمراد إذن (2) بذلك ما يقنع فى الدلالة، وهو الذى ذكرناه، ولذلك كفّ عن الطعن فيه، وعدل عنه إلى مسألة سواها. وهذا كله بين. (3)
462 - وقوله تعالى من بعد: {قََالَ عِلْمُهََا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتََابٍ لََا يَضِلُّ رَبِّي وَلََا يَنْسى ََ} [52] يدل على نفى التشبيه لأنه تعالى لو كان جسما كما يقولون لوجب لا محالة جواز النسيان عليه، ولصح أن يضل عنه بعد ما عرفه، فلما نزه عن ذلك دل على أنه عالم لذاته، وأنه لا يصح أن يكون جسما البتة.
463 - مسألة: قالوا: ثم ذكر ما يدل على أن فعل الساجد (4) من قبله تعالى، فقال: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قََالُوا آمَنََّا بِرَبِّ هََارُونَ وَمُوسى ََ} (5)
والجواب عن ذلك: أن ظاهره أنهم ألقوا سجّدا، وليس فيه ذكر فاعل الإلقاء فيهم، فالتعلق به بعيد.
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ساقطة من د
(3) ساقطة من د.
(4) د: الساحر.
(5) الآية 70، وفى نسخة د قوله تعالى: {[وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سََاجِدِينَ، قََالُوا آمَنََّا بِرَبِّ الْعََالَمِينَ رَبِّ مُوسى ََ وَهََارُونَ]} من سورة الأعراف الآيات: 122120ولم يقصد المؤلف إليها بالطبع.(1/561)
فإن قيل: فإذا لم يصح أن يلقيهم سجّدا إلا الله، دون سائر الناس، وجب حمله على ما قلناه.
قيل له: لم صرتم بأن تحملوه على هذا، عند امتناع الظاهر، أولى من أن يحمل على أنهم سجدوا وألقوا أنفسهم سجّدا، لأن فى كل واحد من الأمرين خروجا عن الظاهر، وإنما قال تعالى ذلك، وإن بعد أن يستعمل فيما يكتسب الإنسان مثله لأن الذى له سجدوا هو أمرهم به، فصاروا كالمدفوعين عنده إلى ذلك، لعظم ما عاينوه من ابتلاع العصا المنقلبة حية للحبال والعصىّ التى ألقوها مع عظمها، فاستعمل فيه من العبارة ما استعمل مثله فيمن يفعل فيه الفعل.
464 - وأما قوله تعالى من بعد: {قََالَ فَإِنََّا قَدْ فَتَنََّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} (1) فقد بينا أن الفتنة لا ظاهر لها فى الكفر والمعصية، وأن الواجب أن يحمل على أن المراد به تشديد التكليف والمحنة، وقد ذكرنا ذلك من قبل (2).
465 - فأما قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُمُ السََّامِرِيُّ} فمن أقوى ما يدل على أنه تعالى لا يضلّ، لأنه لو كان قد أضلّ من عبد العجل بأن خلق فيهم الضلال، لم يكن لدعاء السامرىّ تأثير، وكان وجوده كعدمه، وقد بينا القول فى نظائر ذلك أيضا (3).
466 - وأما قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لََا تَنْفَعُ الشَّفََاعَةُ إِلََّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمََنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [109] يدل على قولنا فى الشفاعة «وأنها لا تكون لأعداء الله، لأنه تعالى بين أنها لا تنفع إلا من يختص بهذين الشرطين: أحدهما أن يكون
__________
(1) الآية: 85وتتمتها {[وَأَضَلَّهُمُ السََّامِرِيُ]}.
(2) انظر الفقرة 212.
(3) انظر الفقرة 399.(1/562)
الإذن واقعا فى بابه. والثانى أن يكون مرضى الطريقة فى القول. فمن يقول الكذب وما لا يجوز، لا يجب أن يكون داخلا فى الشفاعة (1)، على وجه.
467 - وقوله تعالى قبل ذلك: {وَإِنِّي لَغَفََّارٌ لِمَنْ تََابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صََالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ََ} [82] يدل على أن من شرط من يغفر له بالشفاعة أو غيرها، أن يكون تائبا مؤمنا عاملا للأعمال الصالحة، سالكا طريقة الهدى، وهذا يوجب أن لا شفاعة للكفار والفساق.
468 - وقوله تعالى، من بعد: {وَكَذََلِكَ أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنََا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [113] يدل على أمور، منها: حدث القرآن، لأنه جعله عربيا، ولا يكون كذلك إلا وهو حادث بعد تقرر العربية، لتصح هذه الإضافة.
ووصفه بأنه قرآن يقتضى أيضا حدوثه، لأن الأمور المقرونة بعضها ببعض لا تكون إلا حادثة، لاستحالة هذا الوجه على القديم.
وقوله: {وَصَرَّفْنََا فِيهِ} يقتضى حدثه، لأن التصريف لا يصح إلا فى الأفعال الواقعة على بعض الوجوه، وهذا بمنزلة التصريف (2) فى الأمور، التى تقتضى هذا المعنى.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} يدل على أنه قصد بذلك أن يتقى العباد وأراد ذلك منهم، ولم يخصص، فيجب كونه مريدا للتقوى ممن لا يتقى أيضا على خلاف ما يقوله القوم.
__________
(1) ساقط من د.
(2) فى النسختين: التصرف.(1/563)
469 - فأما قوله تعالى: {وَعَصى ََ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ََ} [121] فقد تكلمنا عليه فى سورة البقرة (1).
470 - وقوله: {ثُمَّ اجْتَبََاهُ رَبُّهُ فَتََابَ عَلَيْهِ} [122] فقد بينا أن الاجتباء والاختصاص يراد به اختياره لرسالته، ففعله غير داخل فيه، فلا يصح تعلقهم به فى هذا الباب.
__________
(1) لم ترد هذه الآية فى غير هذه السورة. وقد تحدث المؤلف رحمه الله فى سور أخرى عن عدم جواز وقوع الظلم والكبائر من آدم عليه السلام وسائر الأنبياء، ونفى الكفر والشرك عنهم. انظر الفقرة: 251. والفقرة: 273.(1/564)
ومن سورة الأنبياء
471 - دلالة: وقوله تعالى: {مََا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (1)
يدل على حدث القرآن لأنه تعالى قد نص على أن الذكر محدث، وبين بغير آية أن الذكر هو القرآن، بقوله: {إِنْ هُوَ إِلََّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (2)
وقوله. {وَهََذََا ذِكْرٌ مُبََارَكٌ أَنْزَلْنََاهُ} (3). فإذا صح أنه ذكر، وثبت بهذه الآية حدوث الذكر، فقد وجب القول بحدوث القرآن.
فإن قالوا: الوصف بالحدوث يرجع إلى قوله: {مََا يَأْتِيهِمْ} لا إلى الذكر.
قيل له: إن الذى يقتضيه الظاهر أن الذكر هو المحدث دون ما ذكرته، فلا يصح تعلقك به لأنه جعله صفة للذكر، ثم قال: {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ} فبين أن الذى يصح أن يسمع هو المختص بالحدث.
وقد قال بعض الجهال: إن هذا القول يوجب أن فى الأذكار ما ليس هذا حاله، وهذا جهل لأنه تعالى إنما ذكر الذكر من حيث عقبه بما يعمله (4) الكفار عند استماعه، فلذلك نكره، وخصه، لا لأن ما عداه ليس بحادث، ومتى صح فى بعض الأذكار أنه محدث وجب مثله فى سائره، لأن القرآن فى هذا الحكم لا يجوز أن يتبعض، فيكون بعضه حادثا وبعضه قديما (5).
__________
(1) من الآية: 2وتتمتها: {[إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ]}.
(2) من الآية: 69من سورة يس.
(3) من الآية: 50من سورة الأنبياء.
(4) فى النسختين: يعلمه.
(5) قال بعضهم فى تأويل الآية، ردا على استدلال المعتزلة، إن معناها أن الذكر محدث إلينا «محدث إلى العباد» لا أنه فى ذاته، محدث، قال ابن راهويه: «هو قديم من رب العزة، محدث إلى الأرض». وأنكر بعضهم أن يكون المراد بالذكر فى الآية هو القرآن لأن هذه اللفظة فيما يذكر تتصرف على وجوه، فقد تأتى بمعنى العلم [فاسألوا(1/565)
فإن قالوا: المراد بذلك العبارة عن كلام الله، «دون نفس الكلام (1).
قيل لهم: إنما يدل على حدث ما نعقله من القرآن، فأما ما يدعون من إثبات أمر لا يعقل فمحال أن يتكلم فى حدثه أو قدمه، لأن القول فى ذلك فرع على إثبات ذاته على كونه معقولا.
وقوله تعالى: {وَمََا خَلَقْنَا السَّمََاءَ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا لََاعِبِينَ} [16] يدل على أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد: لأنه لو خلقها وفيها لعب، لوجب كونه لاعبا بها، فكان لا يصح أن ينزه عن ذلك!
هذا إن حمل على ظاهره. وإن أريد به: إنى ما خلقتهما وما بينهما على وجه (2) العبث، فهو أقوى فى الدلالة، من الوجه الذى قدمنا ذكره، فى غير موضع.
473 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على قولنا فى المخلوق، وعلى أنه تعالى، وإن فعل القبيح، فإنه لا يقبح منه، بل يكون حسنا، وإنما يقبح من غيره، فقال: {لََا يُسْئَلُ عَمََّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [23].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يقتضى إلا أنه تعالى لا يسأل عما يفعل (3)
وليس فيه بيان ما يفعل مما لا يفعل من الأمور المعيبة، فالتعلق بظاهره لا يصح!
__________
أهل الذكر] وتأتى بمعنى العظة: [ص والقرآن ذى الذكر] كما تأتى بمعنى الصلاة [فاسعوا إلى ذكر الله] وبمعنى الشرف: [وإنه لذكر لك ولقومك]. قال: فإذا كانت جميع هذه الوجوه محدثة «كان حمله على إحداها أولى»! وكأن صاحب هذا الرأى لا يرى أن قوله تعالى بعد ذلك {[إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ]} مما يحدد أن المراد به القرآن، دون العلم والعظة والشرف! انظر فتح البارى لابن حجر: 13/ 426425. وقال قتادة فى تفسير الآية: «ما ينزل عليهم من شيء من القرآن إلا استمعوه وهم يلعبون» وبه قال الطبرى. انظر جامع البيان:
17/ 2.
(1) ساقط من د.
(2) د: موجب.
(3) وبعده فى ف: وهم يسألون.(1/566)
وبعد، فإنه لا خلاف بيننا وبينهم فى أنه تعالى لا يسأل عما يفعل، لكنا نقول: إن الذى يفعله هو الأمور الحسنة، وهم يقولون: إنه يفعل مع (1) ذلك القبائح. والخلاف فى ما الذى يدخل فى أفعاله ولا يعلم صحيحه من سقيمه، فمن حيث ثبت أنه لا يسأل عما يفعل، لأن إحدى المسألتين غير الأخرى، ولهذا صح الوفاق فى أحدهما مع الخلاف فى الأخرى.
وبعد، فإن الخلاف بيننا وبينهم فى العلة التى لها [لا] يسأل عما يفعل وفى حكمها، فنقول: إن كان (2) الأمر كما تقولون من أنه يفعل كل قبيح، فينبغى أن يسأل عما يفعل، وإنما يسلم ذلك متى نزه عن القبيح. ويقول القوم: إنما لا يسأل عما يفعل لأنه مالك، إلى غير ذلك من عللهم، وهذا الخلاف لا تعرف صحة الصحيح منه من ثبوت القول بأنه لا يسأل عما يفعل!
وقد استدل شيوخنا، رحمهم الله، بهذه الآية على ما نقول لأنه تعالى إنما وصف نفسه بذلك من حيث كان لا يفعل إلا الحكمة والعدل، ومن لا يكون فعله إلا بهذه الصفة لم يجز أن يسأل «عن فعله، لأن المحسن منا إذا ظهر فيما يفعله وانكشف أنه إحسان لم يجز أن يسأل (3) فيقال له: لم فعلت؟ وإنما يسأل عن ذلك الظالم والمسيء والفاعل للقبيح، فلولا أنه تعالى منزه عن القبائح لم يصح أن يوصف بذلك.
وبعد، فإنه تعالى قال: {وَهُمْ يُسْئَلُونَ} فلا يخلو من أن يريد به: أنهم يسألون عما يفعله، أو عن فعلهم، وقد علمنا فساد الوجه الأول، فليس إلا أنهم يسألون عن فعلهم، وهذا يوجب فى فعلهم أنه ليس بفعل له، وإلا لم يصح أن يقع السؤال عنه لأجل قوله: {لََا يُسْئَلُ عَمََّا يَفْعَلُ}. ولوجب دخوله تحت هذا
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ساقطة من د.
(3) ساقط من د.(1/567)
العموم. يبين ذلك أن العبد إذا كان لا يصح أن يتصرف إلا بأن يخلق الله تعالى فيه الفعل، فمتى لم يسأل: لم فعلت؟ عادت المسألة إلى أنها تتجه على من خلقها فيه لأنه لولا خلقه لما صح أن يكسب ويتصرف، فيجب أن يكون الصحيح متى يسأل عن ذلك أن يقول: فعلت لأنه تعالى خلقه فى، فمتى قيل مرة ثانية:
ولم خلق فيك؟ عادت المسألة إلى أنها متجهة إلى الله تعالى فيما فعل، وقد نزه الله نفسه عن ذلك بقوله: {لََا يُسْئَلُ عَمََّا يَفْعَلُ} فلو لم يكن فى القرآن ما يدل على قولنا فى «المخلوق والعدل إلا هذه الآية لكفى (1).
474 - دلالة: وقوله تعالى: {وَلََا يَشْفَعُونَ إِلََّا لِمَنِ ارْتَضى ََ} [28]
يدل على أن الشفاعة لا تكون إلا لمن كانت طرائقه مرضية، وأن الكافر والفاسق ليسا من أهلها.
فإن قال: الآية واردة فى الملائكة لا فى النبى صلّى الله عليه! (2).
قيل له: إذا ثبت فيهم أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى وكان هذا حاله، فكذلك القول فى الأنبياء لأن الكلّ يتفقون فى أنهم من أهل الشفاعة، لعظيم منزلتهم.
475 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يخلق الخير والشر، فقال:
{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (3)
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه يبتلى بذلك ويمتحن، وليس فيه:
أنهما من خلقه تعالى وفعله، فلا ظاهر للقوم فيما ذكروه.
__________
(1) د: المخلوق إلا هذه لكفى.
(2) انظر الآيتين: 2726.
(3) من الآية 35، وفى النسختين: ولنبلونكم!(1/568)
والمراد: أنه تعالى يمتحن العباد فى دار التكليف، فمرة يفعل فيهم السرّاء، ومرة يفعل فيهم الضراء. وأجرى اسم الشر على ذلك من حيث كان الشر من حقه أن يكون ضررا. وشابهه ما يلحق العبد من العلل والأمراض وسائر الآفات فى ذلك، فإما يفعله الله تعالى أو يكلفه، فلا يصح أن يكون شرا فى الحقيقة لأن الشر هو الضر والقبيح، ويتعالى الله عن أن يفعل المضار على وجه يقبح. ولو كان ما يفعله يوصف بذلك فى الحقيقة، لوجب أن يكون موصوفا منه بأنه شرير، وبأنه شر الأشرار، وهذا كفر من قائله. وهذا أحد ما يدل على أن الشر الواقع من العباد ليس من قبله، وإلا وجب كونه موصوفا بما ذكرناه.
476 - وقوله تعالى: {وَإِلَيْنََا تُرْجَعُونَ} (1) قد بينا أنه لا تعلق للشبهة به، وأن المراد بذلك أن حكمهم فى الآخرة يرجع إليه تعالى، من حيث لا ينظر فيه سواه.
477 - دلالة: وقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوََازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيََامَةِ فَلََا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كََانَ مِثْقََالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنََا بِهََا، وَكَفى ََ بِنََا حََاسِبِينَ} [47].
يدل على ما نقوله فى العدل، من وجوه:
منها: أنه بين أنه لا تظلم نفس شيئا، فيتنزّه عن ذلك، وقد بينا أن ذلك تنزه عن فعل «الظلم لا عن تسميته بذلك. وبين أنه لا يبخس المستحق مثقال حبة من خردل، ومن وصف بذلك على طريق المدح لا يجوز أن يوصف بأن جميع (2)
الظلم من قبله.
__________
(1) تتمة الآية: 35. وانظر الفقرة: 58.
(2) ساقط من د.(1/569)
وبين بوضع الموازين بالقسط وبالمحاسبة أنه تعالى لا يفعل إلا العدل لأنه لو جاز أن يفعل الظلم أو يكون ذلك من قبله لكان وصف نفسه بذلك عبثا وسفها!
ويدل ذلك على أنه تعالى لم يخلق الضلال والإيمان لأنه لو فعلهما لكانت المحاسبة راجعة إليه دون العبد.
ويدل ذلك على أنه تعالى لا يجوز أن يعذّب أطفال المشركين من غير ذنب لأنه بين بهذا الكلام أنه لا يفعل بهم إلا ما يستحقون، دون ما يكون ظالما بفعله.
ولا صفة للظلم تعقل إلا وهى حاصلة فى تعذيب أطفال المشركين لو فعله تعالى فقول من يقول: إنه تعالى يفعل ذلك ولا يكون ظالما، مناقضة، وهو بمنزلة أن يخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه ولا يكون كذبا. ومن بلغ به الأمر إلى هذا المبلغ لم يمكنه إثبات شيء من الحقائق، على وجه.
478 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يجعل المؤمن مؤمنا، فقال: {وَجَعَلْنََاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنََا} [73].
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا أن إضافة الشيء الذى من حقه أن يكون فعلا لفاعله إلى الله تعالى، يقتضى أنه ليس المراد به أنه فعله، كما أن قول القائل فى صلاح ابنه وعلمه، إنى جعلته عالما صالحا، يقتضى ذلك، وقد بينا أن الكلام يتغير ظاهره بالقرائن (1)، وبينا فى ذلك ما كفى (2) فلا يصح تعلقهم بذلك إذا (3) كان إنما يصير كذلك بأمور من قبله.
__________
(1) د: بالقران.
(2) انظر الفقرتين: 52، 53.
(3) ف: فإذا.(1/570)
فأما أن تحمل الآية على أنه تعالى جعلهم كذلك بأن حمّلهم الرسالة، فهذا صحيح عندنا، ويمكن معه (1) حمل الكلام على الظاهر، ولذلك قال: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنََا} فنبّه على هذا الوجه الآخر.
479 - وقوله تعالى من قبل: {وَوَهَبْنََا لَهُ إِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ نََافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنََا صََالِحِينَ} [72] يجب أن يحمل على ما ذكرناه، وإن لم يمتنع أن يقال:
إنه تعالى جعلهم فى الحقيقة صالحين فى خلقتهم وأحوالهم، ويكون ذلك من خلقه تعالى.
ولا يمتنع أن يراد بكل ذلك أنه تعالى أخبر بذلك وحكم به، وذلك بالعادة والتعارف صار كالحقيقة، ألا ترى أن الرجل يقول فيمن يخبر عن غيره بأنه سارق أو لص: قد جعلتنى سارقا لصا، إذا كان لقوله تأثير فى هذا الباب، فلما أخبر تعالى من حالهم، بما ذكرنا، جاز أن يضاف إليه على هذا الحد من الإضافة.
480 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أنه قد يفهم بعض المؤمنين والأنبياء الصواب، ويضلّ عنه غيره فقال: {وَدََاوُدَ وَسُلَيْمََانَ إِذْ يَحْكُمََانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنََّا لِحُكْمِهِمْ شََاهِدِينَ} [88].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره ليس إلا أنهما حكما فى القضية المذكورة، وأنه تعالى عالم بحكمهما، وأنه فهّم سليمان. ولا يدل شيء من ذلك على ما ظنه القوم لأنه ليس فى تخصيصه سليمان بالذكر دلالة على أنه لم يفهم داود ولم يدله على الحق، ولو صح أنه ذهب فى القضية عن الصواب كان ذلك لا يدل على أنه تعالى أضله، لأن مع البيان قد يجوز أن لا يتبين المكلف على بعض الوجوه.
__________
(1) ساقطة من ف.(1/571)
والمراد بهذه الآية ما قاله أبو على، رضى الله عنه، من أنه تعالى قد كان نسخ الحكم الذى حكم به داود على لسان سليمان، وأنزل عليه النسخ لذلك وألزمه أن يعرف داود ذلك، فلذلك خصه بأن فهمه الحكم لما كان (1) إنزال النسخ عليه خاصة، وغيره إنما يعرفه من قبله، وهذا لا يمنع أن يكون داود مصيبا وإن حكم بالمنسوخ لأن المكلف، ما لم يثبت عنده دليل النسخ، فهو مصيب بالمنسوخ.
وإنما يحصل مخطئا متى حكم به وقد قامت دلالة النسخ عليه. ولذلك قال تعالى:
{وَكُلًّا آتَيْنََا حُكْماً وَعِلْماً} (2) ولو كان قد أخطأ فى الحكومة لما صح هذا الثناء من الله تعالى عليهما جميعا.
وهذا دليل على بطلان قول من يظن فى هذه الآية أنها تدل على أن الحق فى واحد من مسائل الاجتهاد، لأن ما اختلف حكمهما فيه على ما ذكرناه ليس هو من هذا الباب، ولأنه تعالى صوّبهما جميعا، فكيف يدل ذلك على أن أحد القولين خطأ فى غير هذه القضية، مع أن الآية لا تدل على ذلك فى هذه القضية نفسها؟
ولو صح أن ما اختلفا فيه: طريقه الاجتهاد على ما تأوله بعضهم لما دل إلا على قولنا فى أن كل مجتهد مصيب لأنه تعالى صوّبهما جميعا وأثنى عليهما معا! وإنما يدل على أنه تعالى فهمّ سليمان فى ذلك ما لم يعرفه (3) داود، فما (4)
فى هذا ما (5) يوجب خلاف ما قلناه.
481 - وقوله تعالى، من بعد: {وَوَهَبْنََا لَهُ يَحْيى ََ وَأَصْلَحْنََا لَهُ}
__________
(1) ساقطة من د.
(2) من الآية: 79.
(3) ف: يعرف.
(4) فى د: مما.
(5) فى النسختين: مما.(1/572)
{زَوْجَهُ} (1) لا يدل على أن فعل الصلاح من قبله، وذلك أنه تعالى ذكر بأنه أصلح له زوجته، وذلك قد يراد به الصلاح الراجع إلى الجسم، لأن ذلك مما يبتغى فى الأزواج. فمن أين أن المراد به الصلاح فى الدين؟
وبعد، فإنا نصف الله تعالى بأنه أصلح فى الدين من لم يختر الصلاح على بعض الوجوه، لأن الصلاح فى الدين من الله تعالى لا يوجب أن يكون العبد صالحا [إلا] إذا أقبل واختار، كما أن النفع فى الدين لا يوجب انتفاعه إلا على هذا الحد، فلا يمتنع أن يفعل الصلاح فى الدين وإن كان العبد يصلح عند اختياره لكنه إذا قبل العبد يوصف بأنه أصلحه، وإذا لم يقبل يقال: استصلحه لأن إطلاق القول بأنه أصلحه يوهم أنه قد صلح. فأما إذا قيل بما يزيل الإيهام، فذلك سائغ. وهذا بين فيما تأولنا عليه.
482 - وأما قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمََا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [98]، فالمراد به الأصنام والأوثان دون ما عبدوه من الملائكة والأنبياء، ولا (2) يمتنع أن يعلم الله تعالى أن الصلاح أن يعرفهم بأنهم وما يعبدون من هذه الجمادات يجتمعون فى النار، وأنها لا تغنى عنهم فيما وقعوا فيه وحل بهم، ليتنبهوا على أن الواجب عليهم إخلاص العبادة لله الذى (3) ينفع ويضر، ولهذا قال تعالى من بعد: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ََ أُولََئِكَ عَنْهََا مُبْعَدُونَ} [101] لئلا يظن ظان أن من عبدوه من المسيح وغيره من الملائكة داخلون فى الآية الأولى لأنهم بما سبق منهم من الحسنى يجب إبعادهم من النار.
__________
(1) من الآية: 90.
(2) ف: ولم.
(3) سقط من د لفظ الجلالة.(1/573)
فإن قيل: فإذا كانت الحسنى فعلهم، فلماذا قال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ََ} وهذا يوجب أنه من فعله!
قيل له: قد بينا أن الطاعات قد تضاف إلى الله تعالى على وجوه، بما يغنى عن إعادته (1).
ولا يمتنع أيضا أن يكون المراد بذلك أنهم سبقت لهم الحسنى الذى هو الوعد بأنهم يدخلون الجنة ويبعد بهم من النار لأنه ليس فى الظاهر أنه الطاعات، دون ما ذكرناه، فمتى حمل على هذا كان محمولا على حقيقته.
* * * __________
(1) انظر الفقرات: 15، 42، 165، 374.(1/574)
ومن سورة الحج
483 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه يضلّ من يتولاه ويجعله ضالا بعد الاهتداء، فقال: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلََّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى ََ عَذََابِ السَّعِيرِ} [4]
والجواب عن ذلك: أن «الهاء» من «تولاه» ترجع إلى الشيطان الذى تقدم ذكره: {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطََانٍ مَرِيدٍ} (1) وقال بعده: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلََّاهُ} يعنى: الشيطان، {فَأَنَّهُ} يعنى: الله تعالى {يُضِلُّهُ}، لأنه استحقه باتباعه الشيطان وإقدامه على الكفر، والمراد بهذا الضلال هو العقوبة التى يستحقها على كفره وتوليه للشيطان واتباعه إياه.
484 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أن الوطء الذى يكون منه (2) العلوق من فعله وخلقه، وذلك يوجب فى كل أفعال العباد مثله (3)، فقال {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحََامِ مََا نَشََاءُ} (4).
والجواب عن ذلك: أن ظاهره إنما يقتضى أنه يقر فى الأرحام ما يشاء، وليس فيه بيان ما يقره، فلا تعلق لهم به فى أن الإنزال يجب أن يكون من فعله وخلقه، فأما ذكر الوطء فى ذلك فيبعد من أن يذكر، لأن الذى فيه شبهة هو
__________
(1) من الآية: 3.
(2) ساقطة من د.
(3) ساقطة من ف.
(4) من الآية: 5.(1/575)
الإنزال الذى يحصل فى الرّحم، فإما أن يقرّه تعالى فيه على وجه. فيصير علوقا وإما أن يزول.
وبعد، فإن الإنزال لا يجب أن يكون فعلا للعبد، وإن كان عند فعله يحصل، فهو كنزول الدمعة عند البكاء لأنه من فعل الله تعالى، ولذلك تختلف أحوال الناس فيه، ولو كان من فعل العبد الواطئ لوجب أن يكون متولدا عن الحركة المخصوصة، فكان لا يختلف فيمن يقدم على هذا الفعل، وكان يجب أن لا يتأخر عن الحركة الأولى! أو كان يجب أن تكون موجبة لليسير من الإنزال عقيبها إن كانت الحركات أجمع هى الموجبة لكل الإنزال، وبطلان ذلك يبين صحة ما ذكرناه.
فإذا كان من فعله تعالى فبأن يكون استقراره فى الرحم من قبله أولى، ولو ثبت أن الإنزال أولا من فعل العيد كان لا يمتنع أن يكون لبثه واستقراره من فعل الله تعالى، فقد سقط تعلقهم بالظاهر على كل وجه وإنما ذكر تعالى ذلك منبها على التوحيد، ولذلك قال: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنََّا خَلَقْنََاكُمْ مِنْ تُرََابٍ} [5] ثم بين ما يزيل هذا الريب من خلق الإنسان وتدريجه فى الخلق من حال إلى حال.
485 - مسألة: قالوا: ثم ذكر ما يدل على أنه يفعل كل ما يريده، فإذا صح كونه مريدا للطاعات فيجب أن تكون عن فعله، ويجب فيما يقع من المعاصى أن يكون مريدا لها، فقال: {إِنَّ اللََّهَ يَفْعَلُ مََا يُرِيدُ} (1) وقوّى ذلك من بعد
__________
(1) من الآية: 14.(1/576)
بقوله: {وَأَنَّ اللََّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} (1) وكذلك بقوله: {إِنَّ اللََّهَ يَفْعَلُ مََا يَشََاءُ} (2).
والجواب عن ذلك: أن ظاهره (3) إنما يدل على أنه يفعل ما يريد أن يفعله ولا يدل على «أنه يفعل ما يريد غيره (4) مما ليس بفعل له، وهذا هو المعقول بالتعارف لأن القائل إذا قال: أفعل ما أريد، لم يعقل منه إلا إرادة ما تقدم ذكره، كما إذا قال: آكل ما أريد، «فالمراد به (5) ما أريد أكله، وأضرب من أريد: يعنى «من أريد (6) ضربه، ومتى لم يحمل ذلك عليه تناقض الكلام وفسد ولم يكن لآخره تعلق بأوله، وهذا مما لا يقع، فإذا صح ذلك فالذى اقتضاه الظاهر أنه تعالى يفعل ما يريد أن يفعله، وهذا مما لا نخالف فيه. ومتى قالوا: إن فعل العبد مما يريد أن يفعله، يلزمهم أن يدلوا أولا على أنه من فعله (7)، ثم (8) يستقيم لهم ذلك، وإذا كان لا بد من تقديم الدلالة على ذلك، فكيف يمكن أن يستدل به عليه؟!
وبعد، فإنه تعالى ذكر قبل ذلك: أن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار، ثم قال: {إِنَّ اللََّهَ يَفْعَلُ مََا يُرِيدُ} (9) مبينا بذلك أنه مريد لما تقدم، فاعل له لا محالة، لا يجوز عليه
__________
(1) من الآية: 16.
(2) من الآية: 18.
(3) ساقطة من د.
(4) ف: أنه يفعل ما يريد غيرها وما يريد من غيره.
(5) د: والمراد.
(6) ساقط من د.
(7) فى د: فعلهم!
(8) ف: لم.
(9) قال تعالى: {[إِنَّ اللََّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ إِنَّ اللََّهَ يَفْعَلُ مََا يُرِيدُ]}.
الآية: 14.(1/577)
فعل المنع. ومتى قال القائل مثل هذا (1) القول عقيب بعض الأفعال المخصوصة أو بعض الأمور التى تقدمها، فالظاهر أنه المراد بالقول، لأنا قد بينا أن فى الكلام حذفا، فإذا تقدم ذكر ما يمكن أن يكون هو المحذوف فبأن يقال «إنه المراد أولى (2).
وأما قوله تعالى: {وَأَنَّ اللََّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} فالتعلق به يبعد، لأنه ذكر أمرا مخصوصا، وبين أنه يريده، ولم يعمّ، وذلك الأمر هو الثواب. أو يكون المراد به: الهداية والدلالة (3)، وهذا أشبه بالكلام، لأنه ذكر عقيب قوله:
{وَكَذََلِكَ أَنْزَلْنََاهُ آيََاتٍ بَيِّنََاتٍ وَأَنَّ اللََّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} [16] فكأنه بين أنه يهدى بالآيات من يريد أن يكلفه دون من لا يبلغه هذا الحد، وأراد به يهدى بذلك أمة دون أمة من المكلفين، لأن الشرائع قد تختلف فى مثل ذلك.
وعلى جميع الوجوه فتعلقهم بذلك قد بطل.
وأما قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ يَفْعَلُ مََا يَشََاءُ} الكلام فيه كالكلام فى الآية الأولى فى كل ما ذكرناه، فلا وجه لإعادته.
486 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه الذى يخلق العبادات، فقال: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنََا مَنْسَكاً} [34] والمنسك هو العبادة، ولذلك قال من بعد: {(وَالْبُدْنَ جَعَلْنََاهََا لَكُمْ مِنْ شَعََائِرِ اللََّهِ)} [36]
والجواب عن ذلك: أن المنسك هو محل العبادة، وهو ما أمر الله بذبحه، وذلك من خلقه تعالى، وإن كان ما نفعله فيه من الذبح من جهتنا، وهو الذى
__________
(1) ساقطة من د.
(2) فى د: إن المراد أول.
(3) د: الذكر.(1/578)
يقتضيه الظاهر، وهو الصحيح. وكذلك قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنََاهََا لَكُمْ مِنْ شَعََائِرِ اللََّهِ} يعنى: خلقناها وبينا وعرّفنا وأشعرناكم العبادة التى عليكم فيها، فخلقها من قبله، وهو الذى جعلها من الشعائر بالبيان والإظهار، وإن كان النحو من فعلنا، فلا تعلق للقوم فى ذلك.
487 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يفعل فى العباد محاربة الغير ومدافعته فقال: {وَلَوْلََا دَفْعُ اللََّهِ النََّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} (1).
والجواب عن ذلك: أن ظاهر قول القائل: إن فلانا دفع فلانا بفلان لا يقتضى أن ذلك الفعل وذلك الدفع من قبله، وإنما يقتضى أن له فيه مدخلا إما بالأمر والتزيين، وإما بالإلجاء.
فلما كان تعالى دفع عادية الكفار وأذيتهم بالمؤمنين، من حيث قمعوهم وأذلوهم ومنعوهم من الإقدام على إذلال الإسلام، جاز أن يقول تعالى هذا القول مبينا بذلك أنه لولا تعبده لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد.
488 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه لا رسول إلا والشيطان يتسلط (2)، فقال: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلََا نَبِيٍّ إِلََّا إِذََا تَمَنََّى أَلْقَى الشَّيْطََانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، فَيَنْسَخُ اللََّهُ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللََّهُ آيََاتِهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، لِيَجْعَلَ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} (3).
فبين أنه تعالى يجعل ما يلقى الشيطان «فتنة وفسادا (4): ولولا أنه من قبله لما صح ذلك.
__________
(1) من الآية: 40.
(2) د: يسلطه. والمعنى: يتسلط عليه.
(3) الآية: 52ومن الآية: 53.
(4) ف: فتنة للذين فى قلوبهم مرض وفساد.(1/579)
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يقتضى إلا أن الشيطان يلقى أمرا، وأن ذلك الأمر يزال ويرفع، ولا يدل على أنه تعالى يفعل ذلك، أو على أن ما يفعله الشيطان يؤثر فى الرسول، ولا ينافى ذلك ما ذكره تعالى من أنه لا سلطان له على المؤمنين، وذلك أنهم إذا لم يقبلوا وعدلوا عن ذلك زال سلطانه، وإن كان قد يلقى إليهم ما ذكره تعالى.
وأما قوله: {لِيَجْعَلَ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ فِتْنَةً} فظاهره أنه تعالى يجعله تشديدا فى المحنة، وهذا مما لا نمنع منه، وقد بينا أن الفتنة تنصرف على وجوه (1)، وأن (2) ظاهرها فى التعارف ينطلق على تشديد المحنة، وهو الذى أراد بقوله:
{إِنْ هِيَ إِلََّا فِتْنَتُكَ} (3) وبقوله: {الم، أَحَسِبَ النََّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنََّا وَهُمْ لََا يُفْتَنُونَ} (4) وكل ذلك يمنع من تعلقهم بهذا الظاهر.
والمراد «بالآية عند أبى على، رحمه الله، أنه ما من رسول إلا إذا قرأ كتاب الله تعالى ووحيه ألقى الشيطان بوسوسة (5) ما يشغله عن الاستمرار، فربما لحقه سهو فى القراءة وغلط يجوز عليه، فينسخ الله ذلك، لئلا يقدر أنه من القرآن، ويحكم آياته، لكى يعلم أنه لا يلتبس بغيره، ويبين أن التمنى ينطلق على القراءة بيت حسان (6):
__________
(1) انظر الفقرة: 212.
(2) د: ولو أن.
(3) من الآية: 155من سورة الأعراف.
(4) سورة العنكبوت، الآيتان: 21.
(5) ساقط من ف.
(6) هو أبو الوليد حسان بن ثابت الخزرجي الأنصارى، شاعر النبى صلّى الله عليه وسلم وأحد المخضرمين الذين عمروا، أدرك فى الجاهلية ستين سنة، وفى الإسلام مثلها، قال فيه عمرو بن العلاء: إنه أشعر أهل الحضر! وقال فيه ابن سلام: وهو كثير الشعر، جيده، وقد حمل عليه ما لم يحمل على أحد (نسب إليه وليس له)، وقد روى عن النبى أحاديث كثيرة. تهذيب التهذيب: 2/ 247. طبقات فحول الشعراء: 179، الأعلام:
2/ 189188.(1/580)
تمنى كتاب الله أول ليله ... وآخره (1) لاقى حمام المقادر
ويبين فساد ما ذكره بعضهم من أنه صلّى الله عليه غلط فى القرآن حتى أدخل فيه: تلك الغرانيق العلا، شفاعتهم ترتجى، وأن المشركين بمكة لما سمعوا ذلك سجدوا شكرا وفرحا، وظنوا أن الرسول صلّى الله عليه، قد عظم آلهتهم (2)، بأن يقال: إن مثل ذلك لا يجوز أن يقع من الأنبياء على سبيل
__________
(1) في د: وآخرها. وفى تاج العروس: وتمنى الكتاب: قرأه وتلاه، قال الأزهرى:
والتلاوة سميت أمنية لأن تالى القرآن إذا مر بآية رحمة تمناها، وإذا مر بآية عذاب تمنى أن يوفاه، وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى: {[وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لََا يَعْلَمُونَ الْكِتََابَ إِلََّا أَمََانِيَ]}
قالوا: إلا تلاوة: 1/ 349، وقال الفراء: التمنى التلاوة. فتح البارى: 8/ 354، وبيت حسان في رثاء عثمان رضى الله عنه.
انظر الزبيدى: المصدر السابق. الرازى: التفسير الكبير: 6/ 166.
(2) أخرج البخارى من حديث ابن عباس رضى الله عنهما، فى تفسير قوله تعالى: {[فَاسْجُدُوا لِلََّهِ وَاعْبُدُوا]} من سورة النجم، قال: «سجد النبى صلّى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس» وليس فى هذه الرواية ذكر لمسألة الغرانيق، وأن النبى قد جرى على لسانه ذكر آلهتهم بخير، وإن كانت هذه المسألة قد رويت من عدة طرق ذكر الطبرى أكثرها، وكلها كما ذكر ابن حجر إما ضعيف وإما منقطع، خلا رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقد حملت كثرة الطرق ابن حجر على القول «بأن للقصة أصلا» لأن من طرقها كذلك طريقين مرسلين ذكرهما رجالهما على شرط الصحيح، واختار لها من وجوه التأويل: ان رسول الله كان يرتل القرآن فارتصده الشيطان فى سكتة من السكتات، ونطق بتلك الكلمة تلك الغرانيق العلى محاكيا نغمته، بحيث سمعها من دنا فظنها من قوله وأشاعها، يؤيد ذلك تفسير التمنى بالتلاوة فصار معنى قوله تعالى: {[فِي أُمْنِيَّتِهِ]} أى فى تلاوته، قال ابن حجر: «فأخبر تعالى أن سنته فى رسله إذا قالوا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه» وقال: «فهذا نص فى أن الشيطان زاده فى قول النبى صلى الله عليه وسلم لا أن النبى قاله». وقد ذهب آخرون إلى أن القصة مختلقة من الأساس، وحكموا ببطلان ما روى فى ذلك، وشدد بعضهم النكير على رواتها، كما فعل أبو بكر بن العربى والقاضي عياض، ولعل احسن ما كتب فى رد هذه القصة وإبطالها بدليل الكتاب والسنة والمعقول ما كتبه الإمام الرازى رحمه الله فى تفسيره.
انظر: الطبرى: 17/ 190186.
الرازى: وبهامشه أبو السعود، 6/ 166165.
فتح البارى 8/ 355354.(1/581)
الغلط أيضا، لما فيه من التنفير، كما لا يجوز أن يقع منهم، على جهة السهو، العبادة لغير الله، وإن جاز السهو عليهم فى الأفعال، وبين أن المتعالم من قارئ القرآن أنه لا يجوز أن يغلط فيه بمثل هذا، وإنما يغلط بما هو متشابه فى القرآن، كما لا يجوز أن يغلط فيدخل فى القرآن شعر امرئ القيس، ومتى علم ذلك من حال بعض القراء عد زائل العقل، فكيف يجوز مثل ذلك على الرسول صلى الله عليه! وكيف يجوز، والمعلوم من حاله بمكة أنه كان يستسر بالصلاة خوفا، فكيف اتفق ذلك منه فى ملأ منهم، وقد صح أن المشركين كانوا مضطرين إلى قصده فى الدعاء إلى عبادة الله والاستخفاف بمعبودهم، فكيف ظنوا هذا الغلط الواقع حتى سجدوا شكرا، وكيف زال عن قلوبهم العداوة الشديدة لهذا الأمر اليسير، حتى أقدموا على هذا الصنع. وكل ذلك يبين جهل القوم.
«وأما قوله (1): {لِيَجْعَلَ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ فِتْنَةً} فالمراد بذلك أنه عند ذلك شدد المحنة والتكليف على الكفار، فيلزمهم الدلالة على الفرق بين ما يحكمه الله وبين ما يلقيه الشيطان، وأنه تعالى يزيل ذلك، لئلا يقع به فساد، وينسخه، ويحكم آياته بأن يجعلها على وجه لا يلتبس بها غيرها. وهذا بين.
489 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه المسخر للبهائم والفاعل لتصرفها، والمجرى للفلك، على كل حال، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [65].
والجواب عن ذلك: أن ظاهر التسخير لا يقتضى الاضطرار، وإنما يقتضى أنه قصد تعالى بها نفع المكلف وأعدها لذلك، وقد بينا القول فى ذلك، وأن
__________
(1) فى النسختين: ويبين أن قوله.(1/582)
المراد بذكر الأمر فى الفلك: أنه يجرى من جهته بالرياح التى تجريها. وقد مضى الكلام فى ذلك من قبل (1).
490 - وقوله تعالى من بعد: {وَمََا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) فإنه من أقوى ما يدل على أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يطيقه، لأنه إذا لم يجعل فى الدين من ضيق ومشقة شديدة رأفة ورحمة، فكيف يجوز أن يتوهم مع ذلك أنه كلفه ما لا يقدر عليه، ثم يعذبه لأنه لم يفعل؟!
* * * __________
(1) انظر الفقرة: 378.
(2) من الآية: 78.(1/583)
ومن سورة المؤمنين
491 - دلالة: قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} الآيات [111] تدل على أن العبد هو الفاعل المختار لأن الخشوع فى الصلاة لا يكون إلا بفعل من قبله على وجه مخصوص. والإعراض عن اللغو لا يصح وصفه به إلا مع قدرته عليه. ولا يجوز أن يكون فاعلا للزكاة إلا بأن يحدث الفعل الذى يقدر عليه. ولا يصح أن يحفظ فرجه على شيء مخصوص إلا وهو متخير لفعله يختار بعضه على بعض. ولا يجوز أن يوصف بأنه للأمانة راع إلا بأن يختار فعلا على فعل، وكذلك القول فى المحافظة على الصلاة.
492 - وقوله تعالى من بعد: {فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ} (1)، يدل على أن غير الله يصح منه الفعل والخلق ألا ترى إلى فساد القول بأنه أحسن الآلهة، لما لم يصح إثبات إله سواه، وصحة القول بأنه أرحم الراحمين، لما صح إثبات راحم سواه.
فإن قال: فيجب أن يقال فى غيره تعالى إنه خالق بالإطلاق!
قيل له: لا يجب لأن التعارف أوجب أن لا يطلق هذا الإسم إلا فى الله تعالى، كما اقتضى أن لا يطلق اسم الرب إلا فيه، ثم لم يمتنع أن يكون العبد ربا لدابته وداره، فإن صح [هذا] المعنى فيه، فكذلك يجب أن يصح فيه معنى الخلق والفعل، وإن منع فيه الإطلاق للإبهام.
وما قدمناه من الآى يدل على أن المؤمن لا يتكامل كونه مؤمنا إلا بسائر ما ذكره من الصلاة والزكاة وغيرهما، وأن الإيمان عبارة عن الواجبات والطاعات، ولا يختص القلب فقط.
__________
(1) من الآية: 14.(1/584)
ويدل أيضا على أن المؤمن لا يفلح ولا يفوز بالظفر والثواب إلا بأن يختص بهذه الصفات. وفى ذلك دلالة على أن مرتكب الكبائر لا يستحق الجنة.
493 - مسألة: قالوا ثم ذكر بعده ما يدل على أنه يخلى العبد والجهل، وأنه يفعل الأفعال لا لصلاح الخلق، فقال: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتََّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمََا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مََالٍ وَبَنِينَ نُسََارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرََاتِ بَلْ لََا يَشْعُرُونَ}
[5654].
والجواب عن ذلك: أن ظاهر قوله: {[فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ]} يقتضى الأمر بتخليتهم وما يختارون من الجهل والكفر، وهذا هو الواجب على الرسول عليه السلام، لأنه لا يجوز أن يمنعهم عن ذلك قسرا، فنبه تعالى بهذا الكلام على التقريع والتوبيخ، للعقاب المنتظر الذى دل عليه بقوله: {حَتََّى حِينٍ}
فزجر بذلك الكافر عن كفره! وإنما سمى ذلك غمرة لاستيلائه على القلب، ولأنه غمر سائر أفعاله وغلبه، فصار العقاب أولى به.
وبين بقوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمََا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مََالٍ وَبَنِينَ} أن الذى عجله لهم من اللذة لا يرفع عنهم من العقاب شيئا، لئلا يظن ظان فيقول: لو كانوا مستوجبين للعقاب، بما أقدموا عليه، لم يكن تعالى ليديم عليهم النعم بالأموال والأولاد وهذا بين.
494 - وأما قوله تعالى، من بعد: {وَلََا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا} (1)
وقد ثبت أن الوسع دون الطاقة، من أقوى ما يدل على أنه تعالى لا يكلف العبد فعلا فى وقت دون وقت إلا وهو قادر عليه، وذلك يبطل قولهم إنه تعالى كلف
__________
(1) الآية 62، وتتمتها {(وَلَدَيْنََا كِتََابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لََا يُظْلَمُونَ)}.(1/585)
الكافر الإيمان، ولم يقدره عليه، ويوجب أن القدرة متقدمة للأفعال، ليصح القول بأن المأمور بالإيمان قادر عليه من قبل.
495 - وقوله تعالى: {وَلَدَيْنََا كِتََابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} يدل «على نفى (1)
القبائح عن الله، لأن هذا الوصف فى الكتاب لا يصح إلا مع هذا القول.
496 - وقوله: {وَهُمْ لََا يُظْلَمُونَ} يوجب أنهم متى عوقبوا فعن استحقاق، وذلك يبطل القول بأنه تعالى يجوز أن يبتدى بذلك، أو يخلق الكفر ثم يعاقب عليه!
497 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أن الإماتة فى جميع الموتى من فعله، وفيهم المقتول الذى بزعمكم مات بفعل القاتل، فقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلََافُ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ} [80].
والجواب عن ذلك: أن الموت لا يكون إلا من فعله تعالى، كالحياة، والقتل غير الموت، فلا يجب أن يتنافى فى إضافة القتل إلى القاتل، مع القول بأن الموت لا يكون إلا من فعله تعالى لأنهما غيران لا يمتنع اختلاف حكميهما، ولذلك أضاف الموت (2) إلى نفسه فعلا، وأضاف القتل إلى القاتل وتوعده عليه، فلا يصح تعلق القوم بما ذكره، ويجب أن ينظر فى المقتول: فإن حصل فيه مع القتل الموت «من فعله تعالى (3) فيجب إضافة الموت إلى الله تعالى، وإن لم يحصل ذلك لم يحصل ميتا أصلا، فلا معنى لهذه الإضافة، ومتى قيل إنه ميت، فليس المستفاد بذلك [إلا] ثبوت الموت فيه.
واختلف شيوخنا رحمهم الله فى ذلك. فمنهم من يثبت فى المقتول والمذبوح
__________
(1) د: على أن نفى.
(2) ساقطة من ف.
(3) يبدو أن قوله «من فعله تعالى» لا ضرورة له؟؟؟.(1/586)
الموت لا محالة، ومنهم من يجوزه، ومنهم من يقطع بأن الموت فى المذكى ولا يحتاج إلى ذكر الصحيح من ذلك فى بيان فساد تعلقهم بالظاهر (1).
498 - وأما قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهََا} الآيات [9084] فإنه من أقوى ما يدل على الحجاج والنظر وفساد التقليد.
ومن هذا الوجه، يدل على بطلان قول المجبرة، لأن على مذهبهم لا فائدة فى النظر والحجاج لأنه إن خلق تعالى فى العبد المعرفة بربه حصل عارفا، تقدم منه الاستدلال أم لا، وإن فعل فيه خلافه فكمثل، فلا فائدة على قولهم فى الدعاء إلى النظر والتنبيه عليه، بل لا فائدة على مذهبهم فى مكالمتنا لهم، ولا فى سماع محاجتهم بزعمهم منهم، وذلك أنا نقول لهم: إن كان تعالى يريد أن يثبتنا على ما نحن عليه، فما الفائدة فى «إظهار الحجاج لنا؟ وإن كان لا يريد منكم ربكم إلا ما أنتم عليه، ويخلقه فيكم حالا بعد حال. فما الفائدة فى (2)
مناظرتنا لكم؟!
ومن وجه آخر، وذلك أن من قولهم: إن القدرة توجب الفعل من حيث لا يصح وجودها خالية منه، فالنظر منا ومنهم واجب وقوعه بأمر من قبل الله تعالى، فما الفائدة فيه؟ لأنه لو شاء أن يختار فينا خلافه لفعل، وهذا يوجب، من وجه آخر الفساد وذلك أنه يجب أن لا يستدل بالحجاج على علم العالم لأنه تعالى هو الخالق فيه القدرة الموجبة، فمن أين أن المناظر والمجادل عالم بكيفيته حتى أمكنه إيراده؟ ويجب على قول القوم أن لا يكون لتأليف الكتب معنى، وأن يكون أعظم الناس عبثا ولغوا من صنف منهم الكتب لأنهم
__________
(1) انظر الفقرة 132مع التعليق.
(2) ساقط من د.(1/587)
إذا دعوا بذلك الموافق إليه، فقد خلق الله فيه الوفاق (1) وإن دعوا به المخالف فقد خلق الله فيه الخلاف! ومتى تغير حالهما إلى غير مذهبهما فلأن الله تعالى يخلق ذلك، فما الفائدة فى تأليفهم الكتب وتكلفهم (2) الكثير من ذلك؟!
وقد قال شيوخنا، رحمهم الله، للقائلين بالإلهام: إذا كان الله تعالى هو الملهم للمعارف، فما الفائدة فى تأليفكم الكتب؟ وهل هذا إلا بعث للقديم تعالى على خلق المعارف! وإن لم يصح ذلك فهو لغو!
وهذا للمجبرة ألزم لأنهم يقولون فى جميع الأفعال بمثل قولهم فى المعارف فقط، ولو أن الواحد منا سأل وألحف فى مسألته ووجد المسئول ساكتا للامه، ونسى عند ذلك مذهبه من أن العبد مصرف فيما يأتيه من سكوت ونطق!
وبعد، فإنه يجب على قولهم أن لا يحصل العبد منعما بشيء من نعم الدنيا، كما لا يحصل منعما بالدعاء إلى الله تعالى بالقول والكتب، وذلك أنه إن أنعم بالإطعام فالله تعالى هو الذى خلق فيه حركات يده التى بها نقل الطعام وأصلحه، بل عندهم أن سائر ما فى الطعام مما معه يعد نعمة من خلقه تعالى متفردا، وكذلك القول فى العطايا أجمع، فقد صح أن قولهم كما يوجب أن لا نعمة لله تعالى على أحد، من الوجوه التى بيناها، فكذلك يوجب أن لا نعمة لأحد على أحد، وأن (3) لا يصح الدعاء إلى المنافع، ولا الجدال فى الدين.
499 - وأما قوله تعالى: {رَبِّ فَلََا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظََّالِمِينَ}
[94] فقد بينا أنه لا يدل على أنه تعالى يجعل الظالم ظالما، وذكرنا الوجه بالدعاء
__________
(1) ساقطة من د.
(2) ف. وتكليفهم.
(3) ساقطة من د.(1/588)
فلا وجه لإعادته (1). هذا وظاهر هذا القول يقتضى أنه لا يجعله فيهم، وليس فيه أنه لا يجعله ظالما، وإنما يعلم ذلك لا بالظاهر.
500 - وقوله تعالى: {حَتََّى إِذََا جََاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قََالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صََالِحاً فِيمََا تَرَكْتُ} (2) يدل على أن العبد مختار فاعل، وإلا كان لا يصح منه ذلك!
501 - وقوله من بعد: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوََازِينُهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
[102] يدل على قولنا فى العدل (3)، لأنه تعالى إن كان يفعل ما يشاء، على ما يقوله القوم، فما الفائدة فى الموازين التى يظهر بها حال المحسن من المسيء بين الخلائق وعلى رءوس الأشهاد؟ وإنما يصح ذلك على قولنا لأن العبد إذا علم ذلك فى حال التكليف يكون أقرب إلى أن يفعل الطاعة ويتمسك بها هربا من الفضيحة يوم القيامة بما يظهر من ثقل الميزان (4) وخفته.
502 - وقوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيََاتِي تُتْلى ََ عَلَيْكُمْ} (5)، على التقريع والتوبيخ لهم فى تلك الحال، من أقوى ما يدل على أن التكذيب كان من قبلهم، وعلى أنه قد كان أزاح العلة وأوجد السبيل إلى الطاعة.
503 - وقوله تعالى، من بعد: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمََا خَلَقْنََاكُمْ عَبَثاً} (6)
يدل على العدل، وعلى تنزيهه عن القبيح لأنه مع تجويز ذلك عليه يلزم القول بأنه عابث بسائر ما خلق الله، تعالى عن ذلك.
ويدل على بطلان قول من ينكر المعاد والرجعة.
__________
(1) انظر الفقرة: 53.
(2) الآية: 99ومن الآية: 100.
(3) د: العبد.
(4) د: الموازين.
(5) الآية: 105وتتمتها: {[فَكُنْتُمْ بِهََا تُكَذِّبُونَ]}.
(6) فى د: {(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمََا خَلَقْنََاكُمْ)}؟ وفى هذا مع عدم جواز هذا الوقف، إسقاط لموضع الاستدلال بالآية، وتتمة الآية: {(وَأَنَّكُمْ إِلَيْنََا لََا تُرْجَعُونَ)} 115.(1/589)
ومن سورة النور
504 - دلالة. وقوله تعالى: {الزََّانِيَةُ وَالزََّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وََاحِدٍ مِنْهُمََا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [2] يدل على ما نقوله فى الوعيد، من جهات: أحدها:
أن الزنا لو لم يكن كبيرة مزيلة لثواب فاعلها لم يكن ما يلزمه من الحد عقوبة له، وذلك يدل على أنه من أهل النار، لأنه لا يجوز أن يستحق العقوبة فى الدنيا وما معه من الإيمان قد أزال عقاب الآخرة لأن كل ما أزال العقاب يجب أن يزيل جميعه، كالتوبة، وكان يجب أن لا يحد إلا امتحانا! ولو كان كذلك لم يوصف حده بأنه عذاب، وكان يجب، لو لم يكن كذلك على جهة العقوبة، أن يجوز أن يرأف (1) به، فلما منع من ذلك و (2) أوجب أن يستخف به، دل ذلك على بطلان هذا القول!
505 - وقوله تعالى من بعد: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنََاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدََاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمََانِينَ جَلْدَةً وَلََا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهََادَةً أَبَداً، وَأُولََئِكَ هُمُ الْفََاسِقُونَ} [4] يدل على أن رمى المحصنات من الكبائر، على ما قدمناه.
ويدل أيضا على أن فاعله فاسق إن لم يتب، وبين أن المؤمن التائب لا يكون فاسقا وإلا كان يجب، وإن تاب، أن يكون بهذه الصفة، وكان لا يصح لهذا الاستثناء معنى!
506 - وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تََابُوا مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [5] يدل على أن المغفرة للتائب تختصه متى صلح واستقامت طريقته، ولو كان مرتكب الكبائر يجوز أن يغفر له لكانت التوبة فى المغفرة كافية.
__________
(1) د: يروق.
(2) ساقطة من د.(1/590)
ويدل ذلك على بطلان قولهم فى الشفاعة لأنه لو غفر له بشفاعته عليه السلام لم يتعلق غفرانه بالتوبة والصلاح (1).
507 - مسألة: قالوا: ثم ذكر بعده ما يدل على أن القبيح قد يكون حسنا وخيرا من الله تعالى، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ جََاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لََا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [11].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يوجب أن (2) الإفك والكذب هو خير لمن يفعل به وليس بشر، وهذا مما لا يطلقه أحد من الأمة، فلا بد للجميع من أن يتأولوه، وإذا تنازعوا التأويل فقد زال الظاهر.
ولولا أن الأمر كذلك لوجب أن يكون من جاء بالإفك يحمد على ما فعل لأنه قد فعل بمن رماه الخير، وهذا يوجب كونهم محسنين إلى النبى صلى الله عليه، وهذا كفر من قائله! ولو كان كذلك لم يحتج إلى إنزال الآيات فى تكذيبهم!
«فإذا صح ذلك (3) فيجب أن يكون المراد بالآية أن ما فعلوه، بما حصل عنده الصبر على ما ورد على القلب من الغم، وعظم الثواب فى ذلك، أو العوض، كان ذلك خيرا كثيرا. ونبه تعالى بذلك على أنه «لما بين (4)
من حالهم الكذب لم يكن لقولهم تأثير البتة، فصار وجوده كعدمه، وزال الشر فصار الخير مشتملا حاصلا، وهذا بين.
508 - وأما قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللََّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ}
__________
(1) ف: والإصلاح.
(2) ساقطة من د.
(3) ساقط من ف.
(4) د: لما لم يكن.(1/591)
{كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [17] فإنه يدل على أنه أراد منهم ترك العود إلى ما اقترفوه من الذنب.
وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} يوجب أنهم لا يصيرون كذلك إلا بترك المعاودة. وهذا يوجب أن من جملة الإيمان أفعال الجوارح.
509 - وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفََاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [19] قد بينا أنه يدل على أمور: منها: أن الإنسان يؤاخذ بأفعال قلبه، لأن المحبة هى من أفعال القلوب.
ومنها: أن محبة القبيح (1) لا تكون إلا قبيحة، وإلا لم يحسن ذمهم من حيث أحبّوا الفاحشة فقط. وإذا ثبت ذلك فيها وكانت هى الإرادة، فيجب أن تكون «إرادة القبيح (2) قبيحة.
ومنها: أنه قد يحصل فى الإرادات الكبائر لأنه تعالى بين فى هذه المحبة أنه يتعلق الوعيد بها.
ومنها: أن من أحب الفاحشة، فإيمانه لا يزيل عذاب الآخرة عنه لأنه تعالى قال: {لَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ} (3).
ومنها: أنه يدل على أن ما يستحقه من العذاب قد يقدم إلى الدنيا، وأن الحدود فيها عقوبات، وليس كفارات، على ما يقوله بعضهم!
ومنها: أنه يدل على أنه لا فرق بين أن يريد الإنسان المعصية من نفسه، أو من غيره، فى تعلق الوعيد لأنه تعالى سوى بين الأمرين.
ومنها: أن انتشار الفاحشة فى المؤمنين له من المزية ما ليس لغيرهم، فلذلك
__________
(1) د: القلوب.
(2) ساقط من د.
(3) من تتمة الآية: 19.(1/592)
جل وعز خصهم بالذكر، ولا يكون الأمر كذلك إلا والفاحشة إذا ظهرت من المؤمن لا يكون الحال فيها كالحال إذا كتمها، وهذا دلالة على أن المستحب أن يكتمها وأن لا يفضح نفسه، لأنه إذا رغب غيره (1) فى ذلك فكذلك حاله.
ومنها: أن المحب للمنكر ولظهوره فى حكم المقدم عليه، فى أنه بمنزلة إقدامه على المنكر، وأنه يجوز أن يؤاخذ كمؤاخذة من أقدم على ذلك.
ولا تدل هذه الآية على أن المقدم على الفاحشة مؤمن، على ما تقوله المرجئة لأنه تعالى إنما ذكر محبة ظهور الفاحشة فى الذين آمنوا، ولم يبين أنها إذا وقعت كيف حالهم، ولا يمتنع أن يكون المؤمن مؤمنا ثم يظهر فى المستأنف ما يخرج به عن هذه السمة (2)، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفََاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} يفيد الاستقبال لا محالة، فكيف يدل على ما قالوه؟
وإذا ثبت أن من هذا حاله له عذاب فى الآخرة لا محالة بطل القول بالشفاعة، على ما يقوله من يذهب إلى أنه بشفاعته لا يدخلون النار.
510 - وقوله تعالى من بعد: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنََاتِ الْغََافِلََاتِ الْمُؤْمِنََاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ} (3) يدل أيضا على قولنا فى الوعيد، لأنه تعالى بين كونهم ملعونين [و] أنهم من أهل النار والعقاب، وبين بقوله: «فى الآخرة»، أنهم يبعدون من الثواب، وينزل بهم العقاب هناك، وبين مع ذلك أن لهم عذابا أليما، سوى اللعن الذى هو بالقول.
511 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه لا يمتنع أن يكون
__________
(1) ف: غيرهم.
(2) د: السمعة.
(3) الآية: 23وتتمتها: {(وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ)}.(1/593)
فاعلا للكلام فينا ونحن متكلمون به، فقال: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} [24].
فبين أن الشهادة من فعل غير الألسنة، وإن كانت هى الشاهدة.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الكلام إنما يدل على أن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد، وليس فيه أن ذلك الكلام من فعلها أو من فعل الله فيها، فلا ظاهر لهم!
وقد جوز شيخنا أبو على، رحمه الله، فى ذلك أن تكون الشهادة من فعلها (1)، بأن جعلها الله أحياء ناطقة، وجوز أن يفعل تعالى ذلك فيها وتوصف بأنها تشهد، على جهة المجاز، وبين أن الغرض بذلك لطف المكلف فى الدنيا لأنه متى علم أنه سيلحقه (2) ذلك فى الآخرة كان أقرب إلى العدول عن المعصية إلى الطاعة.
512 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه جسم، فقال، {اللََّهُ نُورُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} [35].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره مما لا يقول به مسلم، لأنهم لا يقولون إنه (3) فى الحقيقة بهذه الصفة، ولو كان الأمر كذلك لوجب كونه (4) محدثا، ولوجب أن يكون ضياء النهار أبدا باقيا، لأنه لا يخرج من أن يكون نور (5)
السموات والأرض: لأن التغير عليه لا يجوز، ومتى جوزوا ذلك فيه لزمهم أن يكون مرة نورا لهما (6) وأخرى ظلمة، يتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وفى الكلام، ما إن حمل ما قالوه (7) على ظاهره، تناقض لأنه قال: {مَثَلُ نُورِهِ}
__________
(1) فى د: فعلنا.
(2) د: سبحانه يستحلفه!
(3) ساقطة من د.
(4) ساقطة من د.
(5) ساقطة من د.
(6) ساقطة من د.
(7) د: على ما قالوه.(1/594)
وهذا يوجب كون النور غيره بحق الإضافة، والأول يقتضى أنه النور، ويتعالى عن أن يريد ذلك بكلامه.
والمراد بذلك: أنه تعالى نوّر السموات والأرض بالنور الذى يحدثه تعالى، أو يكون المراد به: أنه الهادى لأهل السموات والأرض، المبين لهم أمر دينهم، وهذا كما وصف فى كثير من المواضع الإيمان نورا، والكفر ظلمة. وعلى قريب من ذلك يتأول قوله صلّى الله عليه: «إن الله هو الدهر» إن صح عنه (1). وقوله: {يُقَلِّبُ اللََّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ} [44] ويأتى بالأزمان، يبين «ذلك أنه أراد (2) أنه المصرف للدهر.
513 - فأما قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافََّاتٍ} [41] فقد علمنا أن ظاهره لا يتأتى، لأن جميع من فيهما لا يسبح، نحو الكفار ومن ليس بمكلف، والكلام خبر، فإذا ثبت ما ذكرناه علم أن المراد غير ظاهره، وأنه تعالى أراد أنها بما يظهر «منها: تنزهه (3) تعالى عما لا يليق به فى ذاته، من إثبات صاحبة وولد وشريك، وما يليق من فعله من المقبحات.
وقوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلََاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} (4) يوجب إن حمل
__________
(1) صح ذلك من عدة طرق، وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: (يسب بنو آدم الدهر، وأنا الدهر يبدى الليل والنهار) ورواية مسلم: ابن آدم وفى البخارى من حديث أبى هريرة أيضا:
عن النبى صلّى الله عليه وسلم قال: (لا تسموا العنب الكرم ولا تقولوا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر) وفى مسلم من حديث أبى هريرة كذلك عن النبى صلّى الله عليه وسلم قال:
(لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر) انظر فتح البارى 10/ 466465. مسلم بشرح النووى:
15/ 32.
(2) ساقط من ف.
(3) د: تنزيهه.
(4) من تتمة الآية: 41.(1/595)
على ظاهره، أنها تصلى كما أنها تسبح، وهذا مما لا يركبه أحد، فلا بد من حمل ذلك على دلالتها على الخضوع والانقياد لما يريده، وكذلك القول فى التسبيح.
514 - وأما قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى ََ حَرَجٌ وَلََا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلََا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [61].
فمن قوىّ ما يدل على بطلان قولهم بتكليف ما لا يطاق لأنه تعالى إذا أزال عنهم الضيق وعذرهم بالتأخر عن الجهاد للعذر الحاصل الذى لا يمنع فى الحقيقة من الجهاد، لكنه يشق معه، فكيف يجوز أن يوجب فيمن لم يفعل ما لا يقدر عليه ولا سبيل له إلى فعله، العقاب الدائم؟! هذا مما «لا يجوز أن يتصوره (1) أحد من العقلاء!.
* * * __________
(1) ف: لا يتصوره.(1/596)
ومن سورة الفرقان
515 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه الخالق لكل شيء والمقدّر له، فقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (1).
والجواب عن ذلك قد تقدم فى سورة الأنعام (2)، وبينا أن ذلك لا يدل على خلقه أفعال العباد «من جهات، وأن ظاهره فى اللغة يقتضى أنه قد قدّر كل شيء، وذلك مما لا نأباه فى أفعال العباد (3)، لأنه تعالى قد قدّرها وبينها. ودللنا على أن ظاهر التقدير فى اللغة ليس هو الخلق، ولا يفيد ذلك أن المقدّر من الفعل المقدور، وبينا ذلك بقول الشاعر:
وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى
فأثبته خالقا ونفى عنه القطع الذى هو الفعل.
وقوله تعالى فى هذه الآية: {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} يدل على أن هذا هو المراد بالخلق، على ما ذكرناه.
وبعد، فإن التقدير إنما يصح فى الأجسام لأنها التى يظهر فيها اختلاف الأشكال «ولذلك كثر (4) ذكر الخلق فى الأديم دون غيره. فإذا صح ذلك وجب حمل الآية على أنه خلق الأجسام وقدّرها على ما أراده، ولهذا ذكر هذا عقيب قوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} فأراد أن يدل على أنه المختص بالأمور التى توجب العبادة، ليبين أنه لا إله سواه، ولذلك قال بعده:
__________
(1) من الآية: 2والآية بتمامها: {(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)}.
(2) انظر الفقرة: 220.
(3) ساقط من د.
(4) ساقة من د.(1/597)
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [3] وإنما يتعلق الأول به متى حمل على ما ذكرناه ولذلك قال {لََا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (1) منبها بذلك على أن ما ادعوه إلها لا يصح منه الخلق، وكل ذلك واضح.
516 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يبقيهم ويريد منهم المعاصى والعدول عن الطاعة، فقال: {وَلََكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبََاءَهُمْ حَتََّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكََانُوا قَوْماً بُوراً} (2).
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يؤذن بأنهم بعد ذلك نسوا الذكر، ولا يدل على أنه تعالى متّعهم لأجل ذلك، بل الدلالة دلت على أنه يبقيهم لكى يطيعوا!
وبعد، فلو حملناه على ظاهره لم ينفعهم، وذلك أن النسيان عندنا من فعل الله، فلا يمتنع أن يقال إنه أراد أنه أبقاهم البقاء (3) الطويل حتى آل الأمر بهم إلى أن نسوا، وإلى أن زال عنهم التكليف، ولم يتلافوا ما كان منهم، زاجرا بذلك المقدم على هذا عن ترك التوبة، مرغبا له فيها.
517 - وقوله تعالى: {وَقََالَ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا لَوْلََا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلََائِكَةُ أَوْ نَرى ََ رَبَّنََا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً} [21] يدل على نفى الرؤية لأنه تعالى عظّم هذا القول من قائله، ولو كانت الرؤية جائزة، لم يجب ذلك فيه، وقد بينا القول فى نظير ذلك من قبل (4).
__________
(1) من تتمة الآية الثالثة.
(2) من الآية: 18.
(3) ساقطة من د.
(4) انظر الفقرة: 178.(1/598)
518 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يخلق الأعداء للأنبياء، عليهم السلام، ويجعلهم بهذه الصفة، فقال: {وَكَذََلِكَ جَعَلْنََا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} [31]
والجواب عن ذلك: أنه ليس فيه إلا أنه جعلهم أعداء، فمن أين أنه خلق فيهم المعاصى؟
وقد يجوز أن يكون العدو عدوا بأمور من قبله تعالى إذا أعلمه ضرورة ما يريده النبى صلّى الله عليه، «ان الشر (1) بالأمارات التى يظهرها، جاز أن يقال إنه جعله عدوا له فى الحقيقة، ومتى ألزم النبى، عليه السلام، قتالهم وأن يعاديهم فى الدين، جاز إضافة ذلك إليه (2) ولو كان تعالى جعلهم أعداء للأنبياء لزال عنهم الذم، ولوجب إذا أمر بدفعهم عن العداوة أن يكون آمرا بدفعه (3) عن فعله، ومتى غلبوا أن يكون تعالى مختصا بذلك، وهذا كفر من قائله!
519 - فأما قوله تعالى أن بعد: {كَذََلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ} (4) فى الرسول عليه السلام فى؟؟؟ قولهم إن ذلك يدل على أنه الخالق للإيمان فى قلبه، فيعبد، لأن ظاهره؟؟؟ أنه يثبت، بما ذكره من القرآن، فؤاده، وليس فيه ذكر الإيمان، بل الواجب أن يحمل على نفس القرآن، وأنه تعالى إنما لم ينزله دفعة واحدة كما قاله الكفار، لكى يثبت فؤاده به، ويحفظه، من حيث كان
__________
(1) ساقط من د.
(2) ساقطة من د.
(3) د: لا يدفعه.
(4) من الآية 32.(1/599)
صلى الله عليه لا يكتب ولا يقرأ، ويبين بذلك وجه المصلحة فى تفريق إنزاله، فلا يدل إذا على ما قالوه.
520 - وأما قوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلََّا كَالْأَنْعََامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [44]
فقد بينا من قبل القول على نظير هذه الآية (1).
521 - وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا فِي سِتَّةِ أَيََّامٍ} (2).
وتعلقهم بذلك فى أنه الخالق لأفعال العباد، فقد بينا الكلام فى نظائره (3)
على أن هذه الآية أبعد من غيرها، وذلك أنه إنما ذكر هذا القول فى الحال التى خلقها، ولم يثبت فى تلك الأيام للعباد أفعالا (4) عصوا فيها وأطاعوا.
ويجوز عندنا أن يخلق تعالى [ذلك] فى بعض الأحياء وإن لم تكن مكلفة قادرة، ويحسن ذلك، فتعلقهم بذلك بعيد.
522 - فأما قوله: {ثُمَّ اسْتَوى ََ عَلَى الْعَرْشِ} فقد بينا أنه لا يدل على ما تقوله المشبهة (5).
523 - وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لََا يَدْعُونَ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ وَلََا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللََّهُ إِلََّا بِالْحَقِّ} [68].
__________
(1) انظر الفقرة: 19والفقرة: 259.
(2) الآية 59وتتمتها: {[ثُمَّ اسْتَوى ََ عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمََنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً]}.
(3) انظر الفقرة: 24.
(4) ف: أفعال.
(5) انظر الفقرة: 23.(1/600)
يدل على الوعيد: وذلك أنه تعالى بين أن من يفعل ذلك يلق أثاما، والوعيد إذا تعلق بأفعال مذكورة متقدمة، وجب تعلقه بكل واحد منها، فيجب أن يكون الزنا بانفراده، يتعلق هذا الوعيد به (1).
ويدل أيضا على الخلود، كما نقوله، لأنه قال: {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهََاناً} (2).
والخلود ينبئ عن الدوام ونفى الانقطاع، ولذلك قال لنبيه صلّى الله عليه:
{أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخََالِدُونَ} (3) ولو كان الوقت المنقطع يوصف بذلك لم يكن فى موته منع للتخليد فيهم!
524 - وأما قوله تعالى: {وَاجْعَلْنََا لِلْمُتَّقِينَ إِمََاماً} (4) وقولهم إن ذلك يدل على أنه الفاعل لما يصيرون به أئمة ومؤمنين، فقد بينا من قبل أنه لا يدل على ذلك، وأنه لا يمتنع كون الإمام إماما بأمور من قبله لولاها لم يجب الائتمام به، وتقصّينا ذلك (5)، وبينا أن الظاهر إذا زال، فالواجب حمله على الألطاف وغيرها.
* * * __________
(1) تتمة الآية السابقة. قوله تعالى: {[وَلََا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ يَلْقَ أَثََاماً]}.
(2) الآية 69قوله تعالى: {[يُضََاعَفْ لَهُ الْعَذََابُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهََاناً]}.
(3) من الآية: 34من سورة الأنبياء.
(4) من الآية: 74.
(5) انظر الفقرة: 53والفقرة السابقة لها.(1/601)
ومن سورة الشعراء
525 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أن الأنبياء يجوز أن يضلوا، فقال: {قََالَ فَعَلْتُهََا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضََّالِّينَ} [20] وقوله تعالى من بعد: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً} (1) يدل على أن (2) ما به صار عالما حكيما، من قبل الله تعالى.
وقوله من بعد: {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} يدل على أن الفضل الذى له صح كونه رسولا من قبله تعالى.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر قوله: {وَأَنَا مِنَ الضََّالِّينَ} لا يدل على ما قالوه لأن الضلال قد يكون فى الدين وفى غير الدين، وقد يسمى العقاب ضلالا، على ما بيناه من قبل (3)، وقد يوصف من ذهب عن طريق الرشد فى باب ما، إنه قد ضل عنه، وعلى هذا قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ََ} (4) وقال: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا فَتُذَكِّرَ إِحْدََاهُمَا الْأُخْرى ََ} (5) فلا يمتنع أن يكون مراده بقوله:
{وَأَنَا مِنَ الضََّالِّينَ}: من الذاهبين عن طريق الدلالة على أنه لم يكن لى إن أضرب ذلك الرجل، وأراد بذلك الذهاب عن الطريق، فإنه يؤدى إلى الهلاك نفسه.
__________
(1) قال تعالى على لسان موسى: {[فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمََّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ]} الآية 21.
(2) ساقطة من د.
(3) انظر الفقرة: 163.
(4) سورة الضحى، الآية: 7.
(5) من الآية: 282فى سورة البقرة.(1/602)
526 - وقوله تعالى: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً} ظاهره «أنه آتاه العلوم التى بها بان من غيره. وكذلك نقول.
وقوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (1) إنه بإرسال الله صار كذلك.
وهذا قولنا فلا تعلق للقوم به.
527 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى ما يدل على أن موسى أراد من السحرة الكفر، فقال لهم: {أَلْقُوا مََا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} (2) وقد علم أن وقوع ذلك منهم كفر.
والجواب عن ذلك: أن الإلقاء قد يقع على وجه يحسن عليه، بأن يكون مقصدهم فى ذلك ظهور الفصل بينه وبين المعجز، لينكشف صدقه عما يدعيه، وقد يقبح متى قصدوا به التلبيس وبيان كذبه، فلا يمتنع أن يأمرهم موسى عليه السلام بالإلقاء على الوجه الأول، وبطل (3) ما توهموه. وإن كان يقدح ذلك لو كان الإلقاء على كل وجه يكون كفرا، والحال بخلافه.
وبعد، فإن المعلوم من حال موسى أنه لم يأمر بذلك ولا أراده، لأنه كان يريد من جميعهم البدار إلى تصديقه فى النبوة، وإنما قال ذلك على وجه التقرير ليبين أنكم إن كان لا بد من أن تفعلوا ما عزمتم عليه فافعلوه، ليتبين الفرق بين الدلالة والتمويه، كما يقول الواحد منا للمبطل إذا كلمه وقد أظهر عليه الدلالة تكلم على هذا إن كنت محقا!
__________
(1) هذا المقدار ساقط من د.
(2) من الآية: 43.
(3) لعل الأصوب: «ليبطل» ويكون الكلام عن السحرة، أو «فبطل» ما توهمه المخالف.(1/603)
528 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يخلق فعل العبد ويريده، فقال: {وَأَزْلَفْنََا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنََا مُوسى ََ} (1) فبين أنه قرّب فرعون من المسلك فى البحر.
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يقتضى إلا أنه فعل تعالى الإزلاف، وليس فيه أن ذلك القرب هو قرب من البحر، أو من غيره، فلا ظاهر لهم فى الوجه الذى قالوه.
وقد قال شيخنا أبو على، رحمه الله: يحتمل أن يكون المراد بذلك أنه قرّبهم من الأجل والهلاك، لأن ورودهم المسلك فى البحر أوجب هلاكهم وغرقهم، فهذا فى الحقيقة تقريب من الأجل فعله الله.
قال: ويجوز أن يكون المراد بالإضافة: أنه تعالى لما جعل ذلك المسلك يبسا وعبر موسى فيه بأصحابه، وظن فرعون أن يبقى على تلك الحالة، دعاه ذلك إلى القرب والدخول، فمن حيث فعل ما هو الداعى والسبب فى ذلك جاز أن يقال:
إنه أزلفهم، وإن كان الفعل لهم.
529 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه الخالق للهدى والإيمان، فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [78] [و] قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [82] وذلك يدل على أنه جوز العقوبة على نفسه مع كونه نبيا، لأن الطمع ظن.
__________
(1) الآية: 64ومن الآية: 65.(1/604)
وقوله: {وَلََا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [87] يدل على أنه جوز ذلك على الله تعالى، وهذا كله يدل على أنه يجوز أن يفعل القبيح!
والجواب عن ذلك: أن قوله: (يهدين) المراد به الدلالة والتكليف، وذلك من فعله تعالى، وقد سلف القول فيه.
وقوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي} المراد به: الانقطاع إليه فى طلب المغفرة (1) فأورد الكلام على وجه الحذر والخوف ليكون إلى الانقطاع أقرب.
ولو أورده على غير هذا اللفظ لم يقتض هذا المعنى، وإن كان عالما بأنه سيغفر له.
وهذا كاستغفارهم لذنوبهم وتكريرهم التوبة.
530 - وقوله من بعد: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً} [83] قد (2)
بينا أن المراد به ما يكون من قبل الله من العلوم والأدلة والألطاف.
531 - وقوله تعالى من بعد: {وَأَلْحِقْنِي بِالصََّالِحِينَ} [83] ليس المراد به أن يجعله صالحا فيلحقه بهم من هذا الوجه، لأن الظاهر لا يقتضيه.
والمراد به أن يلحقه بدرجتهم ويدخله الجنات فى أعلى المراتب. وإن حمل على أن المراد به مسألة اللطف والمعونة ليبلغ مرتبة الصالحين جاز أيضا.
532 - وقوله: {وَلََا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [87] فهو على سبيل
__________
(1) يبدأ من هنا الحرم فى النسخة (د) وينتهى بآخر الكتاب. والمراد «بالأصل» فى التعلقات القادمة النسخة الأخرى (ف).
(2) فى الأصل: وقد.(1/605)
الانقطاع إلى الله تعالى، لا لأنه جوز أن يخزيه، لأن القول بذلك فى المؤمن ليس بمذهب لأحد! فكيف فى الأنبياء؟
وقد بينا أن الداعى إذا دعا وطلب الشيء لا يدل على أن ذلك الشيء يقع على كل حال، وقد بينا وكشفنا القول فى ذلك (1).
533 - وقوله: {قََالُوا وَهُمْ فِيهََا يَخْتَصِمُونَ تَاللََّهِ إِنْ كُنََّا لَفِي ضَلََالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعََالَمِينَ وَمََا أَضَلَّنََا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} [9996] يدل على نفى التشبيه، لأنهم وقد حل بهم العقاب بينوا أن الضلال الذى أوردهم ذلك المورد هو تسويتهم المخلوق بالخالق. والقول بالتجسيم والتشبيه يوجب ذلك.
ومتى قال قائل: إن المراد أنهم سووا بينه وبين المخلوق فى أنهم قبلوا من المخلوق وأطاعوه، فأدّاهم ذلك إلى الضلال، فهذا إن صح فهو غير ممتنع، وهو دال على ما قلناه، لأنهم إذا عدوا ذلك ضلالا، من حيث قبلوا عن غير الله ما يختص القديم تعالى بما يوجب القبول منه وكذلك إذا سوى الواحد منا بينه وبين المخلوق فى ذاته لزم ذلك.
وقوله (2) تعالى: {وَمََا أَضَلَّنََا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} يبطل قول المجبرة، لأن على قولهم لم يضلهم إلا القديم، ولولا إضلاله لهم لم يؤثر إضلال المجرمين، بل هو الذى أضل المجرمين حتى أضلوا القوم!
534 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى ما يدل على أن عمل العبد من قبله،
__________
(1) راجع الفقرة 94.
(2) فى الأصل: فقوله.(1/606)
وهو الذى يقدر أن ينزله بالعبد ويخلصه منه، فقال: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمََّا يَعْمَلُونَ} [169].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يوجب أنه طلب النجاة من عملهم، ومعلوم خلافه، لأنه مخلّص من عملهم، فلا يجوز أن يطلب النجاة.
535 - وقوله تعالى من بعد: {كَذََلِكَ سَلَكْنََاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [200] قد تقدم القول فى أمثاله.
536 - وقوله من بعد: {وَمََا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيََاطِينُ وَمََا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمََا يَسْتَطِيعُونَ} [211210] لا يدل على أنهم لا يستطيعون الإيمان والطاعة، لأن الأمر الذى نفى استطاعتهم فيه غير مذكور، فالتعلق به لا يصح على أن فى مقدمة الكلام ما يدل على أن المراد هو ذكر القرآن، كأنه بين تعالى أن المنزل له هو الروح الأمين، دون الشياطين، وأنهم لا يستطيعون ذلك، ولا يليق بهم، وبين أنهم عن السمع لمعزولون، منبها بذلك على أنهم ممنوعون من استماع ذلك، لورود الشهب (1) عليهم، على ما ذكره فى قوله: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهََاباً رَصَداً} (2).
* * * __________
(1) فى الاصل: الشبهة.
(2) الآية: 9من سورة الجن. وورد بعدها فى الأصل عبارة: (على ما ذكره فى قوله) وهى التى تقدمت الآية المذكورة، ويبدو أنها زائدة.(1/607)
ومن سورة النمل
537 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يريد الكفر والمعاصى ويزينه، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنََّا لَهُمْ أَعْمََالَهُمْ} [4].
والجواب عن ذلك: أنه لو كان المراد به ما يقتضيه الظاهر، لوجب أن يكون تعالى مزينا لما وقع من عملهم من الكفر، ولا يجوز ذلك عند أحد لأنه تعالى نهى عنه وزجر عن فعله وقبّحه. وكان يجب على هذا أن يكون عملهم حسنا، لأن ما زينه الله لا يكون قبيحا.
فإذن يجب أن يكون المراد به: أنه زين لهم ما كلفهم من الأعمال، ومن حيث كلفهم جاز أن يسميه عملا لهم. وقد ذكرنا «ذلك من قبل (1).
538 - وأما قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [6] [فإنه] يدل على حدثه، لأن القديم لا يصح وصفه بأنه يصدر من لدن الحكيم.
539 - وقوله تعالى من بعد: {فَلَمََّا جََاءَهََا نُودِيَ} [8] يدل على حدث النداء، لأن وقته حال المجيء، وذلك لا يصح من حال القديم!
540 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على حسن تعذيب من لا يستحقه، فقال: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقََالَ مََا لِيَ لََا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كََانَ مِنَ الْغََائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذََاباً شَدِيداً} [2120]، فإن قلتم إنه مستحق لذلك، لزمكم جواز تكليف الطيور، على ما يقوله كثير من أصحاب التناسخ!
__________
(1) فى الأصل: ذلك على حدثه من قبل. وانظر فيما تقدم الفقرة: 225.(1/608)
والجواب عن ذلك: أن من شيوخنا من قال إنه كان عاقلا مكلفا فى زمن سليمان، وكان ذلك معجزة له، فصح أن يقول هذا القول.
فأما أبو على، رحمه الله، فإنه كان يقول: إنه بمنزله المراهق الذى يقارب حال العاقل، فصح منه ذلك على جهة التأديب، كما يصح من أحدنا مثله فى المراهق إذا أرسله وعصى فيما أراد منه. قال: ولا يمتنع مع هذا أن يقول: {وَجَدْتُهََا وَقَوْمَهََا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللََّهِ} [24] فيكون حاكيا لذلك من غير معرفة بالله تعالى، كما يحكى مثله المراهق.
541 - وقوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطََانُ أَعْمََالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لََا يَهْتَدُونَ} [24] يدل على قولنا فى العدل، من جهات:
منها: أنه أضاف تزيين عملهم إلى الشيطان، ولو لم يكن ذلك فعلهم لم يكن عملا لهم، ولو لم يكن من جهتهم لم يكن لتزيينه تأثير لأن الدواعى إنما تصح فيما لا يحصل من الفعل على جهة الوجوب، ألا ترى أن أحدنا لا يجوز أن يزيّن له الألم الذى يقع عن ضرب غيره فيه! لأن ذلك يقع به على جهة الوجوب.
ومنها: أنه تعالى لو خلق فيهم عملهم لم يصح من الشيطان أن يكون صادّا لهم عن السبيل، بل كان تعالى هو الموصوف بذلك، وكان لا يكون لفعله من التأثير ما يكون صدّا.
542 - وقوله تعالى: {فَهُمْ لََا يَهْتَدُونَ} يدل على تمسكنهم من الاهتداء، وعلى أنه لو وقع لكان من قبلهم، وذلك ظاهر.
543 - وقوله تعالى من بعد: {قََالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ}
{قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقََامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [39] يدل على أن القوة قبل الفعل لأنه وصف نفسه بأنه قوى على ذلك قبل أن يفعله. ومتى قيل إنه أراد أنه قوى على غير ذلك اقتضى الخروج عن الظاهر، وبطلت الفائدة بالكلام (1).(1/609)
543 - وقوله تعالى من بعد: {قََالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ}
{قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقََامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [39] يدل على أن القوة قبل الفعل لأنه وصف نفسه بأنه قوى على ذلك قبل أن يفعله. ومتى قيل إنه أراد أنه قوى على غير ذلك اقتضى الخروج عن الظاهر، وبطلت الفائدة بالكلام (1).
544 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يفعل المكر، فقال:
{وَمَكَرُوا مَكْراً، وَمَكَرْنََا مَكْراً وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ} [50].
والجواب عن ذلك ونظيره قد تقدم (2). وإنما أراد أنه ينجّى صالحا من قومه الذين عزموا على قتله (3)، من حيث لا يشعرون، فوصف ذلك مكرا على جهة التوسع، على ما قدمناه من قبل.
545 - وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذََا دَعََاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفََاءَ الْأَرْضِ} [62] قد بينا أن المراد ما يجعل (4) بما صاروا به خلفاء فى الحقيقة، من الأحوال التى يفعلها الله تعالى لهم.
ويجوز أن يراد بذلك اللطف والمعونة.
__________
(1) روى القاضى أن أبا العباس الحلبى سأل أبا الحسن البرذعى (من رجال الطبقة الثامنة):
ما الدليل على أن الاستطاعة قبل الفعل؟ فقال: قوله تعالى: {[قََالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقََامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ]} فأخبر أنه قوى على أن يأتى بعرش ملكة سبأ قبل أن يأتى به فقال الحلبى: كذب العفريت وقوله غير مقبول كقول المعتزلة! فقال البرذعى:
ما أجراك ويحك، إن الله تعالى إذا أخبر عن قوم يكذب كذبهم، ألا ترى إلى قوله:
{[غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ]} المائدة 64وقوله تعالى: {[لَوِ اسْتَطَعْنََا لَخَرَجْنََا مَعَكُمْ]} ثم قال: {[إِنَّهُمْ لَكََاذِبُونَ]} التوبة 42أفتكذب من لم تكذّبه الله، وتنكر على من لم ينكر عليه سليمان نبى الله؟ فانقطع الحلبى. شرح عيون المسائل للحاكم، مخطوط.
(2) انظر الفقرة 20والفقرة 62.
(3) انظر الآيات: 5045من السورة.
(4) خرم فى الأصل بمقدار كلمة واحدة، والمعنى: أن المراد ما صاروا به خلفاء الخ.(1/610)
546 - وقوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ} [64] لا يدل على أن الحرام من رزقه تعالى لمن تناوله (1). وإنما يدل على أنه يرزقنا فقط، «ثم يعتبر ذلك من الرزق ومن الرزق رزقا له (2)، لا يدل الظاهر عليه. والمتناول للحرام قد رزقه الله تعالى الحلال.
وذلك الحرام فهو رزق لمن ملكه، فهو داخل تحت الظاهر فى الوجه الذى يقتضيه ويدل عليه.
547 - وقوله: {إِنَّكَ لََا تُسْمِعُ الْمَوْتى ََ وَلََا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعََاءَ} [80] فقد بينا فى نظائر ذلك أنه على جهة التشبيه بحال الميت الأصم، بحيث أعرضوا عما يلزمهم النظر فيه وتأمل معانيه (3).
548 - وقوله تعالى: {وَمََا أَنْتَ بِهََادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلََالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلََّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيََاتِنََا} [81] المراد به أيضا ما ذكرناه، وقد تقدم ذلك مشروحا.
549 - وقوله: {صُنْعَ اللََّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [88] يدل على أنه تعالى لم يخلق القبائح: لأنه لو خلقها وصنعها لوجب فيها أن تكون متقنة، ولو جاز ذلك فيها لجاز أن تكون حكمة وصوابا، وذلك محال.
أو أن يقال: إنه خلقها ولم يتقنها، وهذا بخلاف الظاهر، لأنه يقتضى أنه أتقن الجميع على العموم، فلم يبق إلا القول بأنها لم تحت تدخل الظاهر، وأنها ليست من صنعه، وهى من أفعال العباد.
__________
(1) انظر الفقرة 31مع التعليق.
(2) كذا فى الأصل. ولعل المعنى: ثم هل يعتبر الحرام من الرزق أم لا؟
(3) انظر الفقرة 21والفقرة 59.(1/611)
ومن سورة القصص
550 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه يجعلهم أئمة، ويخلق فيهم الأعمال الصالحة، فقال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [5].
والجواب عن ذلك قد تقدم (1)، لأنه لا يجوز أن يجعلهم فى الحقيقة أئمة، لأنه يجب القبول منهم والاقتداء بهم، من حيث يحملهم الرسالة ويثبتهم بالمعجزة، وقد علم أنهم لا يصيرون كذلك بأفعالهم، فإذن يجب أن يكون المراد بالظاهر ما قلناه. وإذا ملكهم للأمور جاز أن يقول: {وَنَجْعَلَهُمُ الْوََارِثِينَ} (2) من حيث ملكوا ذلك، ومن حيث ملّكهم ومكّنهم من التصرف. ويجوز أن يقول: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} (3) من هذا الوجه، ومن جهة إيجابه على الناس الانقياد لهم والقبول منهم.
551 - وقوله تعالى: {لَوْلََا أَنْ رَبَطْنََا عَلى ََ قَلْبِهََا} (4) فقد بينا فى نظائره (5)
أنه لا يمكن التعلق بظاهره، لأنه يقتضى الربط الذى لا يصح إلا فى الجسمين، فالمراد أنه صبّرها وقوّى قلبها حتى فعلت بموسى ما فعلته، وكتمت من حالها ما كتمته.
552 - وقوله تعالى، من بعد: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى ََ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهََا} وقوله: {قََالَ هََذََا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطََانِ} (6) يدل على أن ما فعله لم يكن
__________
(1) انظر الفقرة: 52.
(2) تتمة الآية السابقة، رقم 5.
(3) من الآية السادسة.
(4) من الآية العاشرة.
(5) انظر الفقرة: 433.
(6) قال تعالى: {[دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى ََ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهََا فَوَجَدَ فِيهََا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلََانِ هََذََا مِنْ شِيعَتِهِ وَهََذََا مِنْ عَدُوِّهِ، فَاسْتَغََاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ، فَوَكَزَهُ مُوسى ََ فَقَضى ََ عَلَيْهِ قََالَ هََذََا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطََانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ]} الآية 15.(1/612)
خلقا لله، وإلا لم يكن لإضافته إلى الشيطان معنى لأن وجود دعائه كعدمه فى هذا الباب. وإنما قال تعالى: {هََذََا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطََانِ} وإن كان (1) من عمله لتقوى بذلك إضافته إليه. وقد يستعمل مثل ذلك كثيرا فى الشاهد إذا كان سبب الفعل وقع من الغير.
553 - وقوله تعالى: {قََالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [66] يدل على أن ذلك من فعله، فلذلك كان هو الظالم لنفسه. ولو كان من فعل الله تعالى لكان هو الظالم له، تعالى الله عن ذلك!
فإن قال: فكيف يجوز أن يظلم نفسه، وتلك المعصية هى صغيرة لا ضرر عليه فيها؟
قيل له: إن أبا على، رحمه الله، قال فى ذلك: إنه لما ألزم نفسه التوبة، مع كونها شاقة، من حيث أقدم عليها، كان ظالما لنفسه من هذا الوجه!
وقد اعترض شيخنا أبو هاشم، رحمه الله، بأن قال إن ذلك يوجب أن يكون تعالى بأصل التكليف ظالما للعبد، وهذا مما لا يجوز القول به لأن التكليف نفع، من حيث يستحق أنه يصل إلى الثواب، فكيف يكون ظالما؟.
وقال، رحمه الله: إنما صار ظالما لنفسه بالصغيرة، من حيث نقصت من ثوابه، فصار فوت النفع بمنزلة حصول المضرة.
قيل: وهذا هو الصحيح من الجوابين.
552 - وقوله تعالى: {قََالَتْ إِحْدََاهُمََا يََا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ}
__________
(1) فى الاصل: فإن.(1/613)
{خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [26] يدل على أن القوة على الفعل تحصل قبله، لأنها لو كانت تحصل حالا بعد حال لم يكن ذلك ترغيبا لأبيها فى استئجاره. ووصفها له بأنه قوى، متى لم يرد به ما ذكرته من قبل من الاستئجار لم يكن فيه فائدة ولا له معنى، وكان فيه الزوال عن الظاهر.
555 - وقوله تعالى: {فَلَمََّا أَتََاهََا نُودِيَ مِنْ شََاطِئِ الْوََادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبََارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يََا مُوسى ََ إِنِّي أَنَا اللََّهُ رَبُّ الْعََالَمِينَ}
[30] يدل على حدث النداء، من حيث علقه أولا بإتيانه الموضع، وقد علمنا أن الوقت إنما يصح فى المحدث دون القديم. ومن حيث قال: {مِنَ الشَّجَرَةِ} وقد علمنا أن لفظة «من» إذا دخلت فى الكلام لمعنى، فإما أن يراد بها التبعيض، وذلك لا يصح فى هذا المكان، لأن النداء لا يصح كونه بعضا للشجرة. أو يراد به ابتداء الغاية، وهو الذى يصح فى هذا المكان، كقولهم: هذا كتاب من زيد، فكأنه تعالى بين أن ابتداء النداء كان (1) من الشجرة، وهذا يوجب حدوثه فيه ليصح ذلك.
556 - وقوله بعد ذلك: {فَأَخَذْنََاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنََاهُمْ فِي الْيَمِّ}
[40] لا يدل على أن دخولهم البحر من خلق الله، لأن الظاهر لا يقتضيه، من حيث سمى ذلك نبذا وطرحا. فالمراد أنه أغرقهم عند إيصال الماء، فصار حالهم عند ورود الماء عليهم حال من يرد على الماء بالطرح والنبذ.
557 - وقوله تعالى: {وَجَعَلْنََاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النََّارِ} [41] أحد ما يتعلقون به فى أنه يدل على أن ما به صاروا كذلك من خلق الله تعالى، قالوا
__________
(1) فى الأصل: كانت.(1/614)
ولا يمكنهم فى هذا الموضع أن يحملوه على اللطف (1)، لأن القوم كانوا يدعون إلى المعاصى!!
والجواب عن ذلك: أن الظاهر يوجب أنه تعالى جعلهم أئمة يدعون إلى النار، كما جعل الأنبياء أئمة يدعون إلى الجنة! وهذا مما لا يقول به أحد، فلا بد عند الجميع له من تأويل!.
والمراد بذلك: أنه أخبر عن حالهم بذلك، وحكم بأنهم كذلك. وقد بينا أن الإضافة على هذا الوجه قد تحصل بالتعارف.
ويجوز أن يراد بذلك: أنه لما شهر حالهم وأظهرها ببعثه الأنبياء حتى عرفوا وعرف مذهبهم، جاز أن يضاف إليه من هذا الوجه (2).
558 - وقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنََا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
[51] يدل على حدث القول لأن وصل بعضه ببعض لا يصح إلا مع القول بحدثه، لاستحالة ذلك فى القديم والمعدوم.
559 - وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يدل على أنه أراد من جميعهم التذكر، كافرهم ومؤمنهم، لأنا قد بينا أن «لعل» من الله تعالى، بمعنى الشك لا تصح، فهو بمعنى «كى»، وقد ذكرنا ذلك فى مواضع (3)
560 - وأما قوله تعالى: {إِنَّكَ لََا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} [56] فغير دال على أن الهدى هو الإيمان الذى لا يصح من الرسول، عليه السلام، على ما يذكرون!، وذلك لأن الهدى قد بينا أنه يحتمل،
__________
(1) الكلام عن أصحاب العدل والتوحيد، وكان الأولى أن يكون بضمير المخاطب.
(2) راجع الفقرة 15والفقرة 305.
(3) انظر الفقرة: 34والفقرة: 184.(1/615)
وأن الأصل فيه هو الفوز والنجاة، والدلالة والبيان. فيجب أن يحمل على أن المراد بذلك أنه لا يثيب من أحب. وأن ذلك لا يصح، ولا يحصل بحسب محبته، وإنما يحصل بفعل الطاعة والإيمان، وأنه تعالى يهدى من يشاء ممن قد آمن واستحق ذلك. ولا يجوز أن يحمل على معنى الدلالة لأنه تعالى وصفه بأنه يهدى وينذر، بقوله: {إِنَّمََا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هََادٍ} (1) وبقوله:
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2). فيجب أن يكون المنفى غير المثبت، وإلا تناقض الكلام، وكلامه يتعالى عن ذلك.
561 - وأما قوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ وَيَخْتََارُ} [68] فالكلام عليه كالكلام على قوله: {إِنَّ اللََّهَ يَفْعَلُ مََا يُرِيدُ}، وقد بينا ذلك من قبل (3).
* * * __________
(1) الآية: 7من سورة الرعد.
(2) الآية: 52من سورة الشورى.
(3) انظر الفقرة: 80.(1/616)
ومن سورة العنكبوت
562 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه يفتن فى الدنيا فقال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [3]
والجواب عن ذلك: أن المراد بالفتنة ليس هو الكفر والمعصية، وقد بينا ذلك فى مواضع (1).
وما ذكره فى هذا الموضع من أقوى ما يدل على أن المراد بها تشديد المحنة لأنه بين تخطئة القول بأنه (2) خلق الخلق لا لتكليفهم، فقال: {الم. أَحَسِبَ النََّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنََّا وَهُمْ لََا يُفْتَنُونَ} [21] وقوله:
{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} المراد به: أنا امتحناهم بالضراء والمصائب والمحن فصبروا (3) فى المستقبل يدل على الصبر على ما يلحق المكلف من المحن، وهو الذى أراد به بقوله: {أَوَلََا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عََامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} (4).
563 - وقوله تعالى: {مَنْ كََانَ يَرْجُوا لِقََاءَ اللََّهِ} [5] فقد بينا أنه لا يدل على قول المجسمة، فى مواضع، وأن المراد بذلك لقاء ثوابه وعقابه (5).
564 - وقوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقََالَهُمْ وَأَثْقََالًا مَعَ أَثْقََالِهِمْ}
[13] فقد بينا الكلام عليه فى قوله: {لِيَحْمِلُوا أَوْزََارَهُمْ كََامِلَةً يَوْمَ الْقِيََامَةِ} (6).
__________
(1) انظر الفقرات: 46، 212، 306.
(2) فى الأصل: لأنه.
(3) وبعده خرم فى الأصل بمقدار كلمتين.
(4) الآية: 126من سورة التوبة.
(5) انظر الفقرة 30والفقرة 313.
(6) انظر الفقرة: 399.(1/617)
565 - وقوله: {فَكُلًّا أَخَذْنََا بِذَنْبِهِ} [40] يدل على قولنا فى العدل لأنه لو كان اضطرهم إليه لم يكن أخذا لهم بذنوبهم.
566 - وقوله تعالى: {وَلََكِنْ كََانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بعد قوله: {وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} (1) يدل على أنه تعالى لا يخلق فيهم الكفر والمعاصى، ولا يكلفهم ما لا يطيقون ثم يعاقبهم.
567 - وقوله تعالى: {خَلَقَ اللََّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [44] قد بينا من قبل فى نظائره أنه يدل على تنزيهه عن القبائح، وأنه لا يفعل إلا على الوجه الذى يحسن (2).
568 - وقوله تعالى: {وَمََا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتََابٍ وَلََا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتََابَ الْمُبْطِلُونَ} [48] يدل على قولنا فى العدل من جهات:
منها: أنه تعالى إذا منّ أنه جنّبه الكتابة والقراءة لئلا يرتاب به، فكيف يظن مع ذلك أنه يخلق فى القوم الريبة، والشك، والجهل، والكفر؟
ومنها: أنه تعالى لو فعل ذلك فيهم لكان جعله، صلى الله عليه، بهذه الصفة عبثا لا فائدة فيها (3)، وذلك أنه إن خلق ذلك فيهم وجب كونهم كذلك على
__________
(1) قال تعالى: {[فَكُلًّا أَخَذْنََا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنََا عَلَيْهِ حََاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنََا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنََا، وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلََكِنْ كََانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]} الآية 40.
(2) انظر الفقرة: 431. وانظر بيان ذلك أيضا فى الفقرة التالية: 574.
(3) لعل الأصوب: فيه.(1/618)
كل حال، وإن لم يخلقه فكمثل، سواء كان، صلى الله عليه، على هذه الصفة أو لم يكن.
ومنها: أنه لا يجوز أن يجنب نبيه هذه الأمور لئلا يرتابوا به إلا ويفعل كل ما كان أدعى إلى الطاعة وأبعد عن المعصية، وذلك يحيل القول بأنه الفاعل لنفس المعصية.
569 - وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنََّا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ يُتْلى ََ عَلَيْهِمْ} [51] يدل على أن الكفار كانوا يقدرون على الإيمان، وعللهم فيما كلّفوا مزاحة لأنهم لو لم يكونوا كذلك لم تقع لهم الكفاية بالقرآن. ولوجب لو أنزل الله من الكتب ما لا يحصى أن يكون وجوده كعدمه فى أنه لا يمكنهم الفعل مع عدم القدرة.
570 - وقوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكََافِرِينَ} [54] لا يدل على قول المرجئة إنها لا تحيط إلا بهم، [ولا] على قول الخوارج إن كل من فيها يجب كونه كافرا لأن الكلام إنما يدل على أنها تحيط بهم، ولا يمنع من كونها محيطة بسواهم.
571 - وقوله تعالى: {يََا عِبََادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وََاسِعَةٌ فَإِيََّايَ فَاعْبُدُونِ} [56] يدل على أنه تعالى ألزم العبد أن يقوم بما كلف على كل حال، وإن احتاج إلى الانتقال من مكان إلى مكان. ولو كان الكافر والعاصى لا يقدران على ذلك، لكان سعة الأرض كضيقها، فى أنه لا يؤثر فى حالهما، ولكان الخوف فى مكان الأمن فى أنه لا يؤثر فى ذلك.
ويجب على قولهم أنه لا يكون للإكراه على الكفر معنى، وذلك أن
المكره غيره على كلمة الكفر إذا أكرهه ثم وجد ذلك من المكره فإنما وجد على الحد الذى يوجد لولا الإكراه لأن فى الحالين جميعا لا بد من وجود القدرة الموجبة فيه، ولا بد من خلقه تعالى ذلك، فما الفائدة إذا فى الإكراه، حتى يختلف حكمه وحكم الاختيار فى العقل والشرع؟ وكيف يعذب المكره من حيث هدده غيره على ما وجد فيه، ولا يعذب إذا كان الله تعالى خالقا لذلك فيه؟ وقد علمنا أن مع تهديد الغير قد يصح خلافه، ومع خلق الله تعالى ذلك فيه يستحيل وقوع خلافه. وهذا بين.(1/619)
ويجب على قولهم أنه لا يكون للإكراه على الكفر معنى، وذلك أن
المكره غيره على كلمة الكفر إذا أكرهه ثم وجد ذلك من المكره فإنما وجد على الحد الذى يوجد لولا الإكراه لأن فى الحالين جميعا لا بد من وجود القدرة الموجبة فيه، ولا بد من خلقه تعالى ذلك، فما الفائدة إذا فى الإكراه، حتى يختلف حكمه وحكم الاختيار فى العقل والشرع؟ وكيف يعذب المكره من حيث هدده غيره على ما وجد فيه، ولا يعذب إذا كان الله تعالى خالقا لذلك فيه؟ وقد علمنا أن مع تهديد الغير قد يصح خلافه، ومع خلق الله تعالى ذلك فيه يستحيل وقوع خلافه. وهذا بين.
572 - وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا جَعَلْنََا حَرَماً آمِناً} [67] يمكن أن يحمل على ما يقتضيه ظاهره، من أنه ألقى فى قلوب من يخيف ذلك المكان حاله ولأجله انصرفوا عنه، فحصل آمنا، ويعتد فيه بما يقتضى زوال الخوف، فحصل ذلك.
573 - وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جََاهَدُوا فِينََا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنََا}
[69] لا يدل على أنه يخصهم بالدلالة والبيان، لأنا قد بينا أن ذلك واجب عمومه فى جميع المكلفين (1)، ومتى خص بعضهم بالهداية فالمراد به غير ذلك. أو المراد به أنه لما اختص بأن اهتدى بذلك خص بالذكر. وإنما أراد تعالى بذلك سبيل النجاة، والفوز، والثواب لأنه تعالى يخص بذلك من جاهد وأدى ما كلّف.
__________
(1) انظر ما قدمه القاضى فى ذلك فى الفقرة 21التى يحيل عليها فى الأعم سائر الآيات المتصلة بموضوع الهدى والضلال.(1/620)
ومن سورة الروم
574 - دلالة: وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مََا خَلَقَ اللََّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا إِلََّا بِالْحَقِّ} [8] يدل على أنه تعالى لم يفعل ولا يفعل القبائح، وذلك أنه لو كان فاعلا لها لم يصح أن يقول: ما خلقهما وما بينهما إلا بالحق، لأن الباطل لا يجوز أن يكون مفعولا بالحق ألا ترى أن الرجل إذا قال لغريمه: لا آخذ منك هذا المال إلا بالحق، أن ذلك يدل أنه يأخذه على وجه يحسن، ولو كان تعالى يفعل القبيح لم يوثق فى شيء مما فعله أنه خلقه بالحق، بل كان يجوز أن يكون فاعلا له على وجه العبث والظلم، لأنه مالك، ولأنه يفعل فى ملكه ما يريد.
وقول من يقول: إن المراد بقوله: {إِلََّا بِالْحَقِّ}: قال كن فكان، جهل، لأن ذلك لا يعرف فى اللغة، فيمنع أنهم يعرفون الحق والباطل، وما يقتدى به، فكيف يجوز أن يحمل عليه؟ وكأنه تعالى أراد أن يبين أنه خلق جميع ذلك على وجه الحكمة، لكى يعتبر المكلف، ويستدل، فيصل إلى المطلوب، ويؤديه ذلك إلى الفوز والنجاة، وذلك لا يتم إلا على قولنا فى العدل.
ومن وجه آخر، وذلك أن الآية تدل على أنه تعالى بعث بهذا القول على التفكر فى خلقهما وما بينهما، والاستدلال بذلك، وهذا لا يتم متى قيل:
إن المعرفة ضرورة، لأنه تعالى إذا خلقها فيه استغنى عن التفكر، وإن لم يخلقها، وخلق الجهل بدلا منها، فلا وجه للتفكر، وبمثل ذلك أبطلنا قول أصحاب المعارف، وبينا أن مع الاضطرار لا يصح البعث على التفكر والاستدلال بهذه الأمور!(1/621)
575 - وقوله تعالى من بعد: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النََّاسِ بِلِقََاءِ رَبِّهِمْ لَكََافِرُونَ} (1) يدل على أن المراد باللقاء ليس هو الرؤية والقرب منه، وإنما هو الوصول إلى الثواب والمنازل الرفيعة.
576 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه الخالق لما يجرى بين الزوجين من المودّة والعشرة، فقال: {وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهََا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [21].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى ما نقوله لأنه تعالى هو الذى خلق الأزواج، وهو الذى يجعل بين الزوجين المودة والرحمة لأن ذلك إنما هو الشهوة ورقة القلب لأنهما يبعثان على الألفة، والإكثار من النسل.
577 - مسألة: قالوا ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه الخالق لكلام العبد، فقال: {وَمِنْ آيََاتِهِ خَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوََانِكُمْ} [22].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه خلق نفس الألسنة، ومتى أريد بذلك الكلام المفعول فيها، فهو توسع، وذلك مما لا ينكر.
فإن قالوا: هذا وإن كان كذلك، فمتى حمل الكلام عليه لم يفد.
قيل له: هذا لو صح لم يمنع مما قلناه، لأن الكلام إنما لم يصر له ظاهر من حيث لو لم يحمل على وجه مخصوص لم يفد، وإنما يقال ذلك عند التنازع فى المراد به، مع الاتفاق أن الكلام ليس على ظاهره، وذلك أن اللسان آلة فى الكلام، وبحسبه يختلف الكلام، فأراد تعالى أن يبين أنه خالف بين الألسنة،
__________
(1) من تتمة الآية: 8. وارجع إلى الفقرة 30.(1/622)
لكى تختلف الأصوات والنظم فى الكلام، فيفصل بين متكلم من متكلم، كما خالف بين الألوان، ليقع للمشاهد التمييز.
هذا لو ثبت أن ظاهره يقتضى أنه خلق اختلاف الألسنة، فكيف والطاهر لا يقتضيه لأنه تعالى قال: {وَمِنْ آيََاتِهِ خَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافُ أَلْسِنَتِكُمْ} ورجع إلى الآيات، فكأنه قال: ومن آياته اختلاف ألسنتكم، وهذا إنما يوجب أنه دلالة على الله تعالى، ولا يمتنع عندنا فى أفعال العباد أن تساوى أفعاله تعالى فى كونها دلالة، فلا ظاهر للقوم يتعلقون به.
والأولى ألا يكون المراد بقوله: {وَأَلْوََانِكُمْ} ظاهر الألوان لأنه لا يحصل فيه من الاعتبار ما تقتضيه الآية، والمراد بذلك (1) التى يعظم اختلافها، حتى لا يقع فيها تشابه. ولو كان المراد به اللون، وأجناسه محصورة، لوجب أن يكون الاختلاف إنما يقع بين الأسود والأبيض، ولا يقع بين الأشخاص البيض، وهذا بعيد. فالمراد به إذن ما قلناه، من أنه خالف بين الصور (2) لكى يقع التمييز، فيصل العبد إلى منافع دينه ودنياه، وخالف بين أنواع الألسنة، فاختلف لذلك الأصوات والنغم فوقع التمييز، لكى يصل أحدنا إلى ما يحتاج إليه فى دينه ودنياه.
وقد تأول بعض شيوخنا، رحمهم الله، ذلك على أنه تعالى هو خلق اللغات أولا وعلّمها، وهو الذى أراده بالكلام. وما قدمناه أولى بالآية من حيث لا يخفى الحال فيها على كل مستدل، وليس كذلك هذا القول.
578 - وقوله تعالى: {وَمِنْ آيََاتِهِ مَنََامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ}
__________
(1) كذا فى الأصل، ولعل الصواب: الصور
(2) وعده فى الأصل خرم بمقدار ثلاث كلمات(1/623)
{وَابْتِغََاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [23] ليس (1) فى ظاهره أكثر من أنهما دلالة، ولا يجب لذلك أن يكونا خلقا من خلقه تعالى، ويجب أن يرجع فى الفرق بين ما هو من خلقه، ومن فعل العبد، إلى أمر سواء.
وأراد تعالى أن يبين أن من آياته ونعمه أن فصل بين الليل والنهار، وجعل الليل سكنا، والنهار معدّا للتصرف وابتغاء الفضل، ونبه بذلك على حالهما وموقع النعمة بهما.
579 - وقوله تعالى من بعد: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قََانِتُونَ} [26] فقد بينا أن هذه الإضافة لا توجب بظاهرها أمرا مخصوصا، وأنه يحتاج فيها إلى دلالة (2)، وإن كنا لا ننكر أنه المالك لمن فى السموات والأرض، وأنه الخالق لهم، لأن المراد بذلك العقلاء.
وقوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قََانِتُونَ} المراد بذلك: ثابتون على الانقياد والاستسلام لأن هذا هو الذى يشترك الكل فيه، دون العبادة والقيام بها، لأنهم فى ذلك يختلفون.
580 - وقوله تعالى من بعد: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللََّهُ} [29] قد بينا القول فى نظائره، وأنه لا يدل على أنه يقال: يضل بخلق الكفر وبخلق سببه (3). فالمراد بذلك: أن أحدا لا ينجى من أهلكه الله، ولا يثبت من حكم الله بعقابه، ولذلك قال بعده: {وَمََا لَهُمْ مِنْ نََاصِرِينَ} منبها بذلك على ما ذكرناه.
581 - دلالة: وقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللََّهِ}
__________
(1) فى الأصل: وليس.
(2) انظر الفقرة 42والفقرة 85.
(3) انظر الفقرة 22، والفقرة 163.(1/624)
{الَّتِي فَطَرَ النََّاسَ عَلَيْهََا} (1) يدل على أنه خلق جميع العباد للطاعة والقيام بالدين، على خلاف ما تقوله المجبرة، وذلك أن فطرة الله هى دينه، لأنه الذى خلقهم لأجلها وفطرهم لها، فلما فطر الخلق لذلك، وصف نفس الدين بأنه فطره.
وعلى هذا الوجه يصح ما روى عنه، صلى الله عليه، من قوله: «كل مولود يولد على الفطرة (2)». وقوله: {لََا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللََّهِ} يبين ذلك، لأنه أراد أن الوجه الذى له خلق الخلق لا يتبدل، لأنه لا يخلق مرة للعبادة وأخرى بخلافها، ولذلك قال من بعد: {ذََلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، ولو لم يرد بما تقدم ما قلناه لم يكن لهذه الإشارة معنى!
582 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه الخالق لأفعال العباد والقادر عليها، فقال: {إِنَّ ذََلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى ََ وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
[50] فعم الجميع بأنه قادر عليه، وأفعال العباد داخلة فيه.
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يقتضى إلا أنه تعالى قادر على كل شيء فمن أين أن العبد إذا فعل تصرفه أن ذلك من خلقه؟ ولا يجب عند كثير من العلماء أن يكون المقدور إذا صح كونه مقدورا لله، أن يكون عند الوجود مفعولا
__________
(1) الآية 30وتتمتها: {[لََا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللََّهِ، ذََلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ]}.
(2) أخرج البخارى فى باب «قوله: [لا تبديل لخلق الله] لدين الله» من حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة عجماء هل تحسّون فيها من جدعاء؟ ثم يقول: أى أبو هريرة [فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم].
انظر فتح البارى الجزء الثامن ص 416
وانظر كذلك الجزء الثالث، ص: 172.(1/625)
لله تعالى، ويقولون: يصح من الله فعله لو أراده، لكنه إذا قدر العبد عليه لم يجز أن يريد فعله، وإنما يفعله العبد، وفى ذلك سقوط تعلقهم بالظاهر.
فأما على قولنا فى أن ما لا يكون فعلا لله لا يجوز يكون أن مقدورا له، فالجواب أيضا ظاهر، لأن وصفه جل وعز بأنه قادر على الشيء لا يتضمن صحة كون ذلك الشيء مقدورا له أولا! لأن إثبات الصفة يتضمن صحتها، فما لا يصح لا يجوز دخوله تحت الظاهر، كما أنه إذا وصفناه بأنه عالم بالأشياء لم يدخل فى ذلك ما لا يكون معلوما، وقد ثبت أن فعل العبد لا يصح كونه مقدورا، فالظاهر لا يتناوله.
وبعد، فإن لفظة الشيء تنطلق على الموجود، والباقى، والمعدوم، وقد تكلمنا أنه لا يكون مقدورا إلا إذا كان على بعض هذه الصفات (1)، فالوجوه التى يحتمل عليها تتنافى، ويستحيل مع بعضها أن يكون معدوما، ويصح على البعض، فما هذا حاله لا يجوز دخوله تحت الظاهر، لأن إرادته كالمتنافى.
وبعد، فإن هذه اللفظة فى الإثبات لا تفيد فى اللغة العموم، لأنها بالتعارف تطلق فى المبالغة والتكثير، كقوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (2)
و {مََا فَرَّطْنََا فِي الْكِتََابِ مِنْ شَيْءٍ} (3) و {يُجْبى ََ إِلَيْهِ ثَمَرََاتُ كُلِّ شَيْءٍ} (4) فإذا كان التعارف خصصها لم يمكن حملها على العموم. ويجب أن تكون محمولة على ما تقدم فى الكلام من إحياء الموتى وغيره، مما بين أنه تعالى يختص بالقدرة عليه، وأنه أولى أن يعبد من الأصنام والأوثان.
583 - فأما قوله تعالى: {كَذََلِكَ يَطْبَعُ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِ الَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ} [59] فقد تقدم القول فى الطبع، فى غير موضع (5).
__________
(1) انظر الفقرة 220.
(2) سورة النمل، الآية 23.
(3) سورة الأنعام الآية 38.
(4) سورة القصص، الآية 57.
(5) انظر الفقرات: 18، 179، 259.(1/626)
ومن سورة لقمان
584 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أن الكافر لا سبيل [له] إلى سمع الكلام والاستدلال، فقال: {وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِ آيََاتُنََا وَلََّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهََا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} [7].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره لا يقتضى أنه لا يسمع، ولا إثبات الوقر فى أذنيه لأنه تعالى شبهه بمن هذا حاله، لا أنه أثبته بهذه الصفة!! بل لو استدللنا بذلك على ما تأولنا عليه سائر الآى، من أن المراد التشبيه لا التحقيق لصلح لأنه كشف ما ذكره هاهنا على أن مراده فى كل موضع هو تشبيه حالهم، من حيث أعرضوا عن الاستدلال بما سمعوا، بحال من لا يسمع الموقر والصمم.
585 - فأما قوله تعالى: {هََذََا خَلْقُ اللََّهِ فَأَرُونِي مََا ذََا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [11] فلا يدل على أن غير الله لا يفعل، لأن الكلام إنما يقتضى أمرا مخصوصا، وأنه خلقه دون غيره. وإنما دل بذلك على أن ما يدعونه من دون الله إلها لا يخلق، ولا يملك ضرا ولا نفعا. ولو صح أن المراد بذلك الخلق، لكان إنما يدل على أن الأشياء المعينة لا يخلقونها، وكذلك نقول. أو لكان (1) يدل على أنهم لا يحلقون، وإن كانوا يقدرون ويفعلون، فلا ظاهر للقوم يتعلقون به.
586 - وقوله من بعد: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللََّهِ} [31] لا يدل على أن فعل الجادف للفلك من خلقه تعالى، وإنما يدل على
__________
(1) فى الأصل: لو كان.(1/627)
أن (1) المجرى لها بالرياح لأنها النعمة التى يجرى بها الفلك. أو أنه يجريها بما يفعل فى الماء من شدة الجرى، لأن كلا هذين الأمرين يقتضيان جرى الفلك.
587 - وقوله تعالى قبل ذلك: {وَلَوْ أَنَّ مََا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلََامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مََا نَفِدَتْ كَلِمََاتُ اللََّهِ} [27] يدل على أن كلامه محدث، من جهات:
منها: أنه وصفه بأنه كلمات، وذلك لا يصح إلا فى المحدث المنظوم ضربا من النظام، والمخالف فى ذلك لا يقول فى كلامه إنه أشياء، لكى يتم له بزعمه القول بقدمه!
ومنها: أنه جوز عليه النفاد، وذلك لا يصح إلا فى الحوادث.
ومنها: أنه وصف نفسه بالقدرة على ما لا نهاية له منها، وذلك يقتضى أن الموجود منها لا يكون إلا محدثا.
* * * __________
(1) كذا فى الأصل، ولعل الصواب:(1/628)
ومن سورة السجدة
588 - دلالة: وقوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [7] يدل على نفى القبائح عن فعله لأنه لو كان الخالق لما يحصل منها، لم يجز أن يصف خلقه بذلك لأن فاعل القبيح لا يكون محسنا فيما خلق، لا على وجه الإحسان، ولا على وجه الحسن، بل يجب أن يكون مسيئا بما يخلق من تعذيب الكفار لأنه أوجد الكفر فيهم ثم عذبهم، فهنا تمدح نفسه بوجه يبين به من كل فاعل لأن سائر الفاعلين يفعلون الحسن والقبيح، فتمدّح تعالى بأنه المختص، بأنه لا يفعل إلا حسنا.
589 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه لم يشأ من الكفار الإيمان والهدى، فقال: {وَلَوْ شِئْنََا لَآتَيْنََا كُلَّ نَفْسٍ هُدََاهََا} [13].
والجواب عن ذلك: أن الآية واردة فى أهل النار، فقال تعالى: {وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نََاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنََا أَبْصَرْنََا وَسَمِعْنََا فَارْجِعْنََا نَعْمَلْ صََالِحاً إِنََّا مُوقِنُونَ} [12] فطلبوا من الله الرجعة، لكى يفوزوا بالنجاة مما حل بهم من العذاب، فقال تعالى جوابا لهذا القول: {وَلَوْ شِئْنََا لَآتَيْنََا كُلَّ نَفْسٍ هُدََاهََا} يعنى: لو أراد لفعلنا ما طلبوه من الرجعة، وسماها هدى لأن ذلك يتضمن الفوز والنجاة. ثم بين أن وعيده السابق هو الواجب، فقال:
{وَلََكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنََّاسِ أَجْمَعِينَ} (1)
والظاهر بدل على أن المراد ما ذكرناه.
__________
(1) تتمة الآية: 13.(1/629)
وقد قيل: إن المراد نفس الثواب، [أى] أنا لو شئنا لأثبناهم وخلصناهم بالمغفرة مما هم فيه.
وقد قيل: إن المراد بذلك الإلجاء، فكأنه تعالى قال: ولو شئنا لألجأنا كل نفس إلى الهدى والإيمان، ولآمنوا عند ذلك، لكنا أردنا ذلك على وجه الاختيار، فمتى عصى الواحد وكفر فليس إلا النار، للوعيد السابق.
590 - وقوله: {أَفَمَنْ كََانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كََانَ فََاسِقاً لََا يَسْتَوُونَ} [18] يدل على أن الفاسق لا يساوى المؤمن فى الجنة والثواب، ولو كان الأمر كما يقوله كثير من المرجئة، لكان قد ساواه فى ذلك. وبين بما بعده ذلك مفصلا، فقال:
{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ فَلَهُمْ جَنََّاتُ الْمَأْوى ََ نُزُلًا بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوََاهُمُ النََّارُ كُلَّمََا أَرََادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهََا أُعِيدُوا فِيهََا} [2019] (1) ولو كان الفاسق يخرج من النار، إما بانقطاع ما يستحقه من النار، أو بالشفاعة، لما صح ما ذكره تعالى من أنه كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، بل كان يجب أن يقال: إنهم يريدون الخروج فلا يعادون فيها! وهذا يكذّب الظاهر!!
591 - وقوله تعالى: {ذُوقُوا عَذََابَ النََّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (2) لا يدل على أن جميع ما تقدم فى الكفار لأن بعض الكلام إذا استقل بنفسه لم يجب تخصيصه بما يتعقبه، ولأن فى الفساق من يكذّب بدوام
__________
(1) تتمة الآية: 13.
(2) قوله تعالى: {[وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا]} الخ تتمة الآية 20.(1/630)
العقاب ولا يقطع، فهو مكذب على بعض الوجوه، وذلك يوجب دخوله فى الظاهر.
592 - فأما قوله تعالى: {وَجَعَلْنََاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرََائِيلَ} {وَجَعَلْنََا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} (1) فقد تقدم القول فيه (2).
__________
(1) من الآيتين: 2423.
(2) انظر الفقرات: 16، 22، 52.(1/631)
ومن سورة الأحزاب
593 - دلالة: وقوله تعالى: {وَاللََّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}
[4] يدل على تنزيهه عن الكذب، وذلك أنه لو كان يخلقه لكان قوله خطأ من وجهين: أحدهما أن نفس الكذب ليس بحق. والثانى: أن ذلك يمنع من الثقة يصدقه، فلا يوثق به على وجه من الوجوه!؟ فإن قالوا: إنا نقول إنه يخلق القول الكذب، ولا نقول: إنه يقول الكذب، فلا يلزم ما قلتم. فهذا فاسد، لأن فاعل القول لا بد من أن يكون قائلا، ويوصف بأنه قال ويقول، على حسب المضى والاستقبال، ولا يعرف فى اللغة سواه.
وهذا يوجب، لو فعل الكذب، أن يكون قائلا ما ليس بحق، وقد نفى الله ذلك عن نفسه.
594 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه تعالى يعاقب المكلف بما لا يستحقه، فقال: {يََا نِسََاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفََاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضََاعَفْ لَهَا الْعَذََابُ ضِعْفَيْنِ} [30].
والجواب عن ذلك: أنه تعالى ذكر أنه يضاعف لها العذاب، ولم يقل: إن الذى يفعله من ذلك لا تستحقه! بل ظاهر وصفه لذلك بأنه عذاب، بعد ذكر المعصية، يقتضى أنه مستحق به، فلا يصح تعلقهم بالظاهر.
فإن قال: فكيف يصير عقوبة ما تأتيه أزواج النبى، صلى الله عليه، ضعف عقوبة غيرهم؟
قيل له: لوجوه تجوز فى ذلك، منها: أن ما يفعلنه من ذلك يغم رسول الله، صلى الله عليه، ويعظم ذلك عليه، فتعظم المعصية لذلك، ويزيد عقابها له، ومنها:
أن نعم الله تعالى عليهن، بموقعهن من الرسول، صلى الله عليه، أعظم، والمعصية تعظم لأجل عظم نعمة المعصى، كما أن معصية الأب تعظم لأجل عقوقه ما لا تعظم
معصية الأجانب. ومنها: أنه يجوز أن تقع بفعلهن المعصية والفاحشة من الفساد، والتأسى من سائر النساء، وكان لا تقع لولاه، فعظمت المعصية لأجل ذلك لو وقعت منهن.(1/632)
أن نعم الله تعالى عليهن، بموقعهن من الرسول، صلى الله عليه، أعظم، والمعصية تعظم لأجل عظم نعمة المعصى، كما أن معصية الأب تعظم لأجل عقوقه ما لا تعظم
معصية الأجانب. ومنها: أنه يجوز أن تقع بفعلهن المعصية والفاحشة من الفساد، والتأسى من سائر النساء، وكان لا تقع لولاه، فعظمت المعصية لأجل ذلك لو وقعت منهن.
فإن قال: فكيف يصح وقوله تعالى: {نُؤْتِهََا أَجْرَهََا مَرَّتَيْنِ} (1) هذا المعنى، وقد علمنا أن عظم النعمة كما يعظّم المعصية يصغّر الطاعة، فكان يجب فى أجر طاعتهن أن ينقص!
قيل له: لو كان لا يزيد أجرهن إلا لهذا الوجه لوجب ما قلته، لكنه لم يمتنع أن يحصل فيه من سرور رسول الله، صلى الله عليه، وانتفاعه به ما يعظم لأجله [و] من زوال الغم عن قلبه، ما يختص بذلك لأجله. أو لتأسى سائر النساء بهن فى ذلك، فيحصل لطاعتهن من المزية نظير ما كان يحصل للفاحشة لو وقعت منهن، وهذا ظاهر.
595 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه الفاعل للكفر والمعاصى والذاهب بهما، فقال: {إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [33]
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الرجس فى اللغة ليس هو الكفر والمعصية، وبأن تنطلق على النجاسات والأمور التى تستقذر أولى، فلذلك سمى الله ما هذا حاله رجسا، والخمر والميتة، فإذا صح ذلك فلا يصح تعلقهم بالظاهر.
وبعد، فإن ظاهره يوجب أن (2) أهل البيت ما ذكروه من الكفر
__________
(1) سورة الأحزاب. الآية 31
(2) وبعده خرم فى الاصل يسع كلمتين. والمعنى أن الظاهر يوجب أن الكفر والمعاصي حاصل فى أهل البيت فأزاله تعالى وأذهبه.(1/633)
والمعاصى حاصل فأزاله وأذهبه، وهذا معلوم فساده. والمراد بالكلام أنه خصهم لمكان رسول الله، صلى الله عليه، بضروب الألطاف والكرامات، وطهرهم بذلك، وفضلهم تعالى على غيرهم.
596 - قوله جل وعز: {وَمََا كََانَ لِمُؤْمِنٍ وَلََا مُؤْمِنَةٍ إِذََا قَضَى اللََّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [36] فالمراد به الإيجاب والإلزام.
وقد بينا أن ذلك داخل تحت ما ينطلق عليه «القضاء» فى اللغة، فلا يصح حملهم على أنه الخالق لذلك فيهم، فخرجوا فيه عن الاختيار (1).
وبعد، فإن القوم إن قالوا بأن ذلك من خلقه تعالى، فإنهم لا يصفون العبد بأنه لا اختيار له ولا خيرة، وذلك يبين صحة ما قلناه.
597 - وأما قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلََائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ} [43] فقد بينا أن ظاهر النور والظلمات لا يفيدان الكفر والإيمان، ومتى حمل عليهما فقد اعترف فيه بأنه مجاز (2).
والمراد بذلك: أنه يرحم العباد بالألطاف، فيخرجون بها من الكفر إلى الإيمان، ولذلك قال من بعد: {وَكََانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (3)
598 - وقوله تعالى قبل (4) ذلك: {فَلَمََّا قَضى ََ زَيْدٌ مِنْهََا وَطَراً زَوَّجْنََاكَهََا} 37فالتعلق به فى أن العقد من فعله تعالى بعيد، لأن المزوّج فى الشاهد ليس هو الفاعل لعقد التزويج لأن العقد لا يتم به، وإنما يوصف
__________
(1) انظر الفقرة: 393.
(2) انظر الفقرة: 86.
(3) تتمة الآية: 43.
(4) فى الأصل: بعد.(1/634)
بذلك لأنه فعل ما عنده يصح من الزوج الفعل الذى به يستبيح الاستمتاع، والله تعالى قد فعل ذلك وسهله للرسول، صلى الله عليه، بوجوه كثيرة، لولاها لما حلت له صلّى الله عليه، فعلى هذا يحمل الكلام.
599 - دلالة: وقوله تعالى: {وَكََانَ أَمْرُ اللََّهِ مَفْعُولًا} (1) نصّ فى حدوث القرآن، لأن فى جملته أوامر [و] قد نص تعالى أن أمره مفعول، والمفعول لا بد أن يكون محدثا.
واختلف العلماء فى الأمر، فمنهم من يقول: إن ظاهره يقتضى القول المخصوص، فإذا استعمل فى الأفعال [فهو] مجاز. ومنهم من يقول: إنه حقيقة فى الأمرين، وعلى كلا الوجهين فالاستدلال بالظاهر صحيح، إلا أنه فى أحد الوجهين يكون أخص، ودلالته من الوجه الآخر أشهر.
600 - وقوله تعالى من بعد: {وَكََانَ أَمْرُ اللََّهِ قَدَراً مَقْدُوراً}
[38] يدل على ذلك أيضا لأن المقدور هو الذى يصح من القادر أن يفعله ويوجده، وإنما يوصف الموجود بأنه مقدور من حيث كان هذا حاله من قبل، وذلك يقتضى حدث الأوامر على ما ذكرناه (2).
601 - قوله تعالى: {رَبَّنََا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذََابِ} [68] فقد بينا أن ظاهره لا يدل على أن ذلك إذا وقع يكون غير مستحق (3).
والمراد بذلك: أنهم دعوا على الرؤساء المضلّين [لهم الذين (4)] أضافوا
__________
(1) من تتمة الآية: 37.
(2) انظر الفقرة: 47.
(3) انظر الفقرة: 594.
(4) حرم فى الأصل بمقدار كلمتين، والمعنى واضح؟؟؟.(1/635)
إلى ضلالهم وكفرهم إضلال من تبعهم، فدعوا عليهم بضعفين من العذاب، أحدهما لكفرهم، والآخر لإضلالهم غيرهم، وبين تعالى أن أتباعهم لا يستوجبون ذلك من حيث ضلّوا ولم يضلّوا.
602 - مسألة: قالوا: ثم ذكر ما يدل على أنه يجوز أن يكلف السموات والأرض بالأمانة، وعلى أن العبد مع عمله الأمانة قد يكون ظلوما، فقال:
{إِنََّا عَرَضْنَا الْأَمََانَةَ عَلَى السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبََالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهََا وَأَشْفَقْنَ مِنْهََا وَحَمَلَهَا الْإِنْسََانُ إِنَّهُ كََانَ ظَلُوماً جَهُولًا} [72]
والجواب عن ذلك: أن الظاهر لا يدل على ما ذكروه، وإنما يقتضى أنه عرض الأمانة على هذه الأمور، والعرض ليس من التكليف بسبيل، وفيه أن الإنسان حملها فلا ظاهر لذلك لأن الأمانة إذا أريد بها الأفعال المخصوصة، فوصف الإنسان بأنه حاملها، توسع لأن الحمل فى الحقيقة إنما يصح فى الأجسام وقوله: {إِنَّهُ كََانَ ظَلُوماً جَهُولًا} ليس فى ظاهره لماذا صار كذلك، فتعلقهم بظاهره لا يصح.
ولم يبق إلا أن يقال: فما المراد إذا كان حمله على ظاهره لا يستقيم؟ وهذا تنازع فى التأويل وتسليم بأن (1) الظاهر لا دلالة لهم فيه.
وقد قال أبو على، رحمه الله، إنه تعالى أراد به أنه عرض الأمانة على أهل السموات والأرض والجبال، من الملائكة والجن والإنس، وأنه ذكر الأمانة وأراد تضييع الأمانة!. وأن الملائكة لم تحمل ذلك وحملها الإنسان لأنه كان
__________
(1) فى الأصل. لأن.(1/636)
ظلوما جهولا، وبين أن حمله على نفس السموات والأرض والجبال، إذا لم يصح، فيجب أن يكون المراد بها أهلها، ويجب أن يكون المراد المكلفين دون غيرهم لأن ذلك لا يصح فيهم، ويجب أن يراد به خفر الأمانة وتضييعها لأن نفسها قد حملته الملائكة وقامت بها.
وقال أبو مسلم، رحمه الله: المراد بذلك أنا عرضنا الأمانة على هذه الأمور فى الحقيقة من حيث عارضناها بها فوجدناها تعجز عنها وتقصر، وهو الذى أراده بقوله: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهََا وَأَشْفَقْنَ مِنْهََا} وأن الإنسان مع ضعفه حملها ثم لم يقم بها، وكأن المراد بذلك «أن الذى (1) لا تفى به الجبال والأرض والسموات على عظمها، قد حملها (2) الإنسان، وتحمل التكفل بها، والقيام بحقها، فإذا عصى وخفر وضيّع، فهو ظلوم جهول يلحقه العذاب العظيم.
* * * __________
(1) فى الاصل: أن المراد بذلك الذى.
(2) كذا فى الأصل، بضمير المؤنث، فيها وفيما يليها. ولعل المراد: الذى لا تفى به الجبال من الأمور وهى الامانة قد حملها الإنسان. والقريب أن تكون عدوى التأنيث سبقت إلى الناسخ من «عظمها»!(1/637)
ومن سورة سبأ
603 - أما قوله تعالى: {وَجَعَلْنََا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بََارَكْنََا فِيهََا قُرىً ظََاهِرَةً وَقَدَّرْنََا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا} [18] فليس فيه أكثر من أنه قدر السير، وذلك لا يدل على أنه من خلقه لأن «قدر» كما يراد به ذلك، فقد يراد به البيان والتعريف والحكم بمقادير مخصوصة. وإنما أراد تعالى بذلك أنه غيّر مسالكهم عن الحالة التى كانت عليها فى الخصب والعمارة، إلى خلافه، وقدر فيها خلاف ما كان فى سيرهم.
604 - وقوله تعالى قبل ذلك: {وَهَلْ نُجََازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [17] لا يدل على مذهب الخوارج من أن كل معذّب كافر لأن ظاهره وإن دل على ذلك يجب أن يدل على أن المؤمن كافر، لأنه يجازى على ما كان منه!
والمراد بذلك: أنه لا يجازى بعذاب الاستئصال المعجل فى الدنيا إلا من كفر وكذب الأنبياء (1).
605 - وقوله تعالى: {قُلْ لََا تُسْئَلُونَ عَمََّا أَجْرَمْنََا وَلََا نُسْئَلُ عَمََّا تَعْمَلُونَ} [25] يدل على أن كل واحد لا يؤاخذ إلا بذنبه وعمله، وأنه تعالى لو خلق ذلك فيهم لما سئلوا عنه ولا أخذوا به.
606 - وقوله: {وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الظََّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [31] يدل على ما نقوله فى العدل، وذلك إنما ذكر تعالى مما يجرى بينهم ويرجع فيه بعضهم إلى بعض، من قول المستضعفين للمستكبرين
__________
(1) انظر الآيات: 1715من السورة.(1/638)
{لَوْلََا أَنْتُمْ لَكُنََّا مُؤْمِنِينَ} (1) وقولهم لهم: {أَنَحْنُ صَدَدْنََاكُمْ عَنِ الْهُدى ََ بَعْدَ إِذْ جََاءَكُمْ}
يدل على أنه لا يخلق الكفر فى الكافر، لأنه لو صح خلقه فيه لما صح أن يكون لهم تأثير فى كفرهم، ولما صلح أن يقولوا: {أَنَحْنُ صَدَدْنََاكُمْ عَنِ الْهُدى ََ بَعْدَ إِذْ جََاءَكُمْ}، بل كان يجب أن يقولوا إن الله صدكم وصدّنا، ولولا خلقه الضلال فينا وفيكم لكنا مؤمنين.
* * * __________
(1) قال تعالى: {[وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهََذَا الْقُرْآنِ وَلََا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الظََّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى ََ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلََا أَنْتُمْ لَكُنََّا مُؤْمِنِينَ قََالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنََاكُمْ عَنِ الْهُدى ََ بَعْدَ إِذْ جََاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ]} الآيتان 3231.(1/639)
ومن سورة الملائكة
607 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه لا خالق ولا فاعل إلا الله، فقال: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خََالِقٍ غَيْرُ اللََّهِ يَرْزُقُكُمْ} [3].
والجواب عن ذلك: أنه لم يطلق القول فى ذلك إطلاقا بل علقه بالرزق.
وعندنا لا خالق إلا الله يرزقنا البتة لأن غير الله وإن كان يفعل فلا يجوز؟؟؟ أن يفعل الرزق. وإنما نبه تعالى بذلك على أن المنعم بالأرزاق، والمالك للضر والنفع أولى أن يعبد من غيره. وقد بينا أن نفى الخلق على الإطلاق ليس ينفى الفعل (1)، فهذا أيضا يبطل تعلقهم بالآية.
وقوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [8] ليس فيه ذكر من زين ذلك. والمراد به شياطين الجن والإنس (2).
608 - وقوله: {فَإِنَّ اللََّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} [8] قد تقدم القول فيه (3)
609 - وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [10] لا تعلق للمشبهة به، لأن المراد هو أنه يصعد إلى حيث يختص بالحكم فيه ولا حاكم فيه سواه، وقد بينا لذلك أمثلة من قبل (4)، وبينا أن حمله على ظاهره يوجب أن الكلم فى الحقيقة يصعد، وذلك لا يصح فيه، وبينا أن صعود الكلم إليه إذا لم
__________
(1) انظر الفقرة 492والفقرة 366.
(2) انظر فيما تقدم الفقرة 45، 66
(3) انظر الفقرة 22والفقرة 371
(4) انظر؟؟؟ أمثلة ذلك فى كتاب ملاقاة الله تعالى والرجوع إليه. فارجع الفقرة؟؟؟ 3، 23، 58،؟؟؟.(1/640)
يحمل على ما ذكرناه لا يفيد، وقد بينا أن ذلك يوجب أنه تعالى على العرش، وفى السماء، دون سائر الأماكن، وقد ذكر تعالى فى الآيات خلافه.
610 - وقوله: {وَالْعَمَلُ الصََّالِحُ يَرْفَعُهُ} [10] يدل على أن المراد إثبات ذلك وتحصيله، والورود به عرصة القيامة دون إثبات (1) مكان لله، تعالى عن ذلك!
611 - وقوله: {إِنَّ اللََّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشََاءُ وَمََا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلََّا نَذِيرٌ} [2322] لا ظاهر له يصح تعلقهم فى أن الكافر الذى لا يقبل، ممنوع من سماع ذلك. بل ظاهره يوجب أنهم موتى فى القبور، وذلك مما لا يقوله أحد!
وإنما المراد به المبالغة فى ذمهم لإعراضهم عن النظر والاستدلال والقبول.
612 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أن فى جملة من اصطفاه بالرسالة من هو ظالم فى الحقيقة، وذلك لا يصح عندكم، فقال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتََابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنََا مِنْ عِبََادِنََا فَمِنْهُمْ ظََالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سََابِقٌ بِالْخَيْرََاتِ} [32].
والجواب عن ذلك: أن ظاهره ليس فيه إلا أن منهم ظالم لنفسه، وقد بينا أن مرتكب الصغيرة قد يوصف بذلك من حيث فوّت نفسه قدرا من الثواب، لولاها لكان حاصلا.
والمراد بذلك، على ما ذكر أبو على، رحمه الله: أنه تعالى اختص بالرسالة
__________
(1) فى الأصل: سائر.(1/641)
والوحى وأنزل الكتب على الأنبياء، ثم قسم: فذكر أن منهم ظالم لنفسه بارتكاب الصغائر، ومنهم مقتصد، وهو الذى لم يرتكبها، ويفعل سائر الواجبات، ومنهم سابق بالخيرات، وهو الذى يبالغ فيما يفعله من النوافل، وينتهى فيه إلى حد عظيم، وكل ذلك مما يليق بالأنبياء، عليهم السلام.
وقد قال غيره: إن المراد بذلك أنه أورث الكتاب المؤمنين القابلين عن الأنبياء ما أدوه من الرسالة، لأنه لا بد أن يرثوا كتب الأنبياء من حيث قبلوا وتمسكوا، ولا بد من أن يصطفيهم تعالى ويخصهم بالعز والكرامة، ثم قسمهم فقال: منهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق، على ما ذكرناه.
613 - وقوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ يُمْسِكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولََا}
[41] يدل على نفى التشبيه لأنه لو كان جسما لما صح تسكينهما على الحد الذى قد علمناه لأن الجسم لا يجوز أن يسكّن الشيء المنفصل منه إلا ببعض جوارحه، ولا يصح أن يسكنه على غير هذا الوجه، فلولا أنه تعالى قادر لنفسه يخترع الأفعال اختراعا لما صح ذلك.(1/642)
ومن سورة يس
614 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه أقام الحجة على بعض دون بعض، فقال: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مََا أُنْذِرَ آبََاؤُهُمْ} [6]
والجواب عن ذلك: أن الإنذار إذا كان من قبل الرسول فغير ممتنع أن ينذر قومه «دون من (1) تقدمهم، إن لم يكن إرسال الرسول إليهم مصلحة لهم، فاقتصر بهم على ما كلفوه من جهة العقل. وإنما لم ينذروا بالسمع للاستغناء عنه، فلأن الحجة قامت عليهم فى سائر ما كلفوه بالعقل دونه، فبين تعالى أن قبل بعثته الرسول، صلى الله عليه، كانت الحال حال فترة لم يبعث فيها الرسل، وإن كان التكليف قائما، فليس فى ظاهر الكلام ما يمنع مما ذكرناه!
وبعد، فإن المخالفين لا يقولون بجواز التكليف مع عدم الدلالة والحجج، فلا بد من أن يتأولوا هذه الآيات على بعض الوجوه. وإنما يلزمهم جواز التكليف مع عدم الدلالة، على قولهم بجوازه مع عدم القدرة، ويبين أن الحاجة إلى القدرة آكد من الحاجة إلى الدلالة، فإذا جاز التكليف معه فبأن يجوز مع عدم الدلالة أولى، وإلا فالقوم لا يرتكبون ذلك على وجه!
615 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه قد يكلف ويمنع مما كلف: فقال: {إِنََّا جَعَلْنََا فِي أَعْنََاقِهِمْ أَغْلََالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقََانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنََا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنََاهُمْ فَهُمْ لََا يُبْصِرُونَ} [9]
__________
(1) فى الأصل: ومن.(1/643)
والجواب عن ذلك: أن ظاهره يقتضى أنه جعلهم بهذه الصفة، وهذا لو ثبت لما منع من الإيمان، لأن الغل والسد لا يمنعان من الإيمان، ولو أن العدو عمل ذلك بالأسير لم يمنعه ذلك من الإيمان، والقيام بما كلف، فالتعلق به فى الوجه الذى ذكروه لا يصح!
وبعد، فإن المعلوم من حالهم أنهم لم يكونوا كذلك، فحمله على ظاهره تكذيب للخبر، فالضرورة توجب صرفه إلى خلافه.
وقد بينا من قبل فى أمثاله: أن المراد به التمثيل والتشبيه لحالهم بحال المقيّد المغلول الممنوع بالسد والحجب، من حيث لم ينتفع بما سمع، وأعرض عن الاستدلال، وشرحنا ذلك بما يغنى عن الإعادة (1).
616 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يخلق أعمال العباد، فقال: {وَجَعَلْنََا فِيهََا جَنََّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنََابٍ وَفَجَّرْنََا فِيهََا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ، وَمََا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلََا يَشْكُرُونَ} [35] فخبر بأنه جعل ما عملته أيديهم.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر قوله: {وَمََا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} يقتضى الرجوع إلى أقرب المذكور، فكأنه تعالى قال: وفجرنا فيها من العيون، لكى يأكلوا من ثمره، وما عملته أيديهم من المكاسب، وقد علمنا أن رجوعه إلى هذا وإلى ما تقدم لا يصح، لاختلاف الغرضين، فليس إلا ما ذكرناه. ولو حمل على
__________
(1) انظر الفقرة: 21.(1/644)
ما ذكروه لتناقض، لأن جعله تعالى يقتضى أنه من فعله، وأنه مما عملته أيديهم:
يقتضى أنه من فعلهم، وذلك يناقض.
على أنه يؤدى إلى أن لا يفيد، لأنه لا يجوز منه تعالى أن يذكر فى جملة النعم ما عملته أيدينا، لأن ظاهر ذلك لا يوجب كونه نعمة. ومتى حملناه على أن المراد ما يؤدى إليه عملنا من المكاسب دخل فى باب النعم، لأنها عندنا من قبله تعالى، ومن جملة ما قدره من الأرزاق. فحمله على هذا الوجه الذى يليق بالآية أولى.
617 - وقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لََا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلََا تُجْزَوْنَ إِلََّا مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [54] يدل على أنه لا يجوز أن يأخذ فى ذلك اليوم أحدا بذنب غيره، من الأطفال وغيرهم. لأنه جعل ما ذكروه من حكم ذلك اليوم، فظاهره يقتضى أنه لا يجوز خلافه.
ويدل أيضا على أنه لا يجازيهم على ما يخلفه فيهم، لأنه يكون مجازيا لهم على ما لا سبيل لهم إلى التخلص منه، وهذا أعظم من تعذيب الواحد على ذنب غيره!
وقوله: {فَالْيَوْمَ لََا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} يقتضى تنزيهه عن الظلم وذلك لا يتم إلا على ما نقول، لأنه لو عذب فى ذلك اليوم الأطفال لم يكن فى الظلم أعظم [منه]، وكذلك لو كان سائر من يعذّبه هو الذى خلق فيه ما عذّبه عليه لم يكن فى الظلم أعظم منه. ولو كان يجب أن يكون ظالما بالعذاب فى الحال ويفعله لما أوجب ذلك من قبل، فالله يتعالى عن قولهم علوا كبيرا.
618 - وقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يََا بَنِي آدَمَ أَنْ لََا تَعْبُدُوا الشَّيْطََانَ}
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هََذََا صِرََاطٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [6260] يدل على قولنا فى العدل، من وجوه:(1/645)
618 - وقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يََا بَنِي آدَمَ أَنْ لََا تَعْبُدُوا الشَّيْطََانَ}
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هََذََا صِرََاطٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [6260] يدل على قولنا فى العدل، من وجوه:
أحدها: أنه تعالى منع من عبادة الشيطان والقبول منه، لأنه عدو. وعلى قولهم يوجب ذلك أن لا يقبل منه تعالى أيضا لأن عداوته للكافر أشد، لأن الشيطان إنما يدعو إليه ويزينه، والله تعالى يخلقه فيه على وجه لا مخلص له منه! فما أوجب أن لا يقبل من الشيطان، يوجب أن لا يقبل منه تعالى على زعمهم!.
ومن وجه آخر، وهو على قولهم يجب أن تكون العداوة من الشيطان لا تصح، وإنما تصح من قبله تعالى، لأن الشيطان لو دعاه، وبلغ النهاية فيه ولم يختر تعالى خلقه الكفر فيه لكان وجود ما فعله كعدمه، ولو خلق فيه تعالى ذلك لوجب كونه كافرا وإن لم يدعه الشيطان أو رغبه فيه. وهذا يوجب كونه تعالى هو العدو للكافر دون الشيطان! وذلك يؤدى إلى أمرين فاسدين: أحدهما:
أنه تعالى جعل ما ليس بموجود فى الشيطان علة فيه! والثانى: يوجب كونه علة فيه تعالى، ونفاه عن نفسه!!
وبعد، فإنه تعالى فعل فى الشيطان ما صار به عدوا لبنى آدم، ولولا فعله ذلك لم يصح كونه عدوا. فيحب أن يكون تعالى هو العدو للكافر على قولهم من وجهين: أحدهما أنه فعل به الضرر. والآخر أنه فعل بغيره دعاءه إلى الضرر. فهو العدو والحامل للعدو على العداوة، وقد علمنا أن العاجز عن
الإضرار، بإرادته المضرة بالغير، لا يكون عدوا فى التعارف مع ظهور عجزه، فكيف يقال فى الشيطان: إنه عدو ولا سبيل له إلى فعل العداوة إلا بأن تخلق فيه! ولا يكون تعالى عدوا للكافر على قولهم مع أنه يخلق الكفر فيه ويحمله عليه ويصرفه عن الإيمان وقدرته ثم يعاقبه عقابا دائما؟ وكيف يقبل نقض الكافر هذا العهد من الله تعالى مع أنه الذى يخلق فيه المعاصى ولا يمكنه التخلص منها.(1/646)
وبعد، فإنه تعالى فعل فى الشيطان ما صار به عدوا لبنى آدم، ولولا فعله ذلك لم يصح كونه عدوا. فيحب أن يكون تعالى هو العدو للكافر على قولهم من وجهين: أحدهما أنه فعل به الضرر. والآخر أنه فعل بغيره دعاءه إلى الضرر. فهو العدو والحامل للعدو على العداوة، وقد علمنا أن العاجز عن
الإضرار، بإرادته المضرة بالغير، لا يكون عدوا فى التعارف مع ظهور عجزه، فكيف يقال فى الشيطان: إنه عدو ولا سبيل له إلى فعل العداوة إلا بأن تخلق فيه! ولا يكون تعالى عدوا للكافر على قولهم مع أنه يخلق الكفر فيه ويحمله عليه ويصرفه عن الإيمان وقدرته ثم يعاقبه عقابا دائما؟ وكيف يقبل نقض الكافر هذا العهد من الله تعالى مع أنه الذى يخلق فيه المعاصى ولا يمكنه التخلص منها.
وفائدة العهد: أن يكون تذكره داعيا إلى ما عهد إليه من ترك المعصية، وذلك لا يصح، مع وجوده فيه من فعل الغير على وجه لا يمكن مفارقته.
619 - وقوله: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هََذََا صِرََاطٌ مُسْتَقِيمٌ} يقتضى أنه بعثه على عبادته من حيث سهّل الطريق وأوضح السبيل، وذلك لا يصح إلا إذا كانت العبادة من جهتهم تقع، وباختيارهم تكون وإن كان تعالى هو الممكّن لهم من فعلها.
620 - وقوله: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً} إنما يتم متى لم يكن هو الخالق للضلال فيهم. وإلا فوجود إضلال الشيطان كعدمه، لأنه لا تأثير له، لأنه إن اختار تعالى فيه خلق الكفر وجب وجوده، أضله الشيطان أم لا، وإن لم يختر ذلك منه فكمثل، فكيف يقال، على طريق الذم للشيطان: إنه أضل خلقا كثيرا، مع أنه تعالى هو الخالق للضلال فيهم، بل هو الخالق لإضلاله لهم وللشيطان أيضا؟ فتعود الحال إلى أنه لا مضلّ إلا الله تعالى، ولا عدوّ للكافر إلا هو، لكنه يضل ويعادى بخلقه الضلال، وبخلق الإضلال والعداوة فى غيره.
وهذا ظاهر فيما نريده من إثبات العدل، وأنه لا يخلق أفعال العباد، ولا يضلّ الكفار والعصاة.
621 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على جواز الجوارح عليه،
فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا خَلَقْنََا لَهُمْ مِمََّا عَمِلَتْ أَيْدِينََا أَنْعََاماً} [71](1/647)
621 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على جواز الجوارح عليه،
فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا خَلَقْنََا لَهُمْ مِمََّا عَمِلَتْ أَيْدِينََا أَنْعََاماً} [71]
والجواب عن ذلك: أنا قد بينا من قبل الكلام فى ذلك (1).
وظاهر هذه الآية مما لا يقول به مسلم لأن من يجوّز الجوارح على الله تعالى لا يثبت له الأيدى، فلا بد من حاجته إلى تأويل هذه الآية، فيكون حاله كحالنا فى تركه الظاهر، والعدول إلى التأويل.
وقد ثبت أن ذكر الأيدى هو على طريق التأكيد، وذكرنا لذلك أمثالا، نحو قول القائل لغيره: ذلك بما جنته يداك، وإن كانت الجناية بالقول والكلام، فالمراد به ما جنيته. فكذلك المراد بهذه الآية: أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما وذكر على جهة الامتنان، وبين سائر وجوه منافعهم بالأنعام مما عدد من بعد، إلى قوله: {أَفَلََا يَشْكُرُونَ} (2).
622 - فأما قوله تعالى: {إِنَّمََا أَمْرُهُ إِذََا أَرََادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [82] فقد بينا الكلام فيه (3).
* * * __________
(1) انظر الفقرة: 197.
(2) تتمة الآية السابقة 71قوله تعالى: {[فَهُمْ لَهََا مََالِكُونَ]} وما بعدها:
{[وَذَلَّلْنََاهََا لَهُمْ فَمِنْهََا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهََا يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيهََا مَنََافِعُ وَمَشََارِبُ أَفَلََا يَشْكُرُونَ]}
الآيتان: 7372.
(3) انظر الفقرة: 51.(1/648)
ومن سورة والصافات
623 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يعاقب من لا ذنب له، فقال: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوََاجَهُمْ وَمََا كََانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى ََ صِرََاطِ الْجَحِيمِ} [2322].
والجواب عن ذلك: أنه تعالى لم يذكر أن أزواجهم لا يستحقون العذاب، وقد يجوز أن يكونوا بهذه الصفة لأن الظاهر [لا] يمنع منه، فلا يصح تعلقهم بالظاهر، ولو أن أحدنا قال لغيره: اضرب هذا، فقد جنى. واضرب هذا معه، لم يكن فى الكلام ما يدل على أن الثانى ما حاله.
والمراد بالآية: احشروا الذين ظلموا وقرناءهم الذين شاركوهم فى الظلم وأعانوهم عليه، لأن من هذا حاله، لأجل المشاركة، يوصف بهذه الصفة.
وقوله: {وَمََا كََانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ} يدل على أن جميع من تقدم ذكره عبدوا من دون الله تعالى، فقد دل على مشاركة أزواجهم لهم بما يوجب عقابهم.
فأما ما كانوا يعبدون من دون الله من الأصنام فغير ممتنع أن يدخلها تعالى الجحيم، كى يزداد غمهم عند مشاهدتهم لها، وتذكرهم أحوالهم معها، وعلمهم بأنهم يعاقبون لأجل ذلك.
624 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يخلق أفعال العباد، فقال: {أَتَعْبُدُونَ مََا تَنْحِتُونَ وَاللََّهُ خَلَقَكُمْ وَمََا تَعْمَلُونَ} [9695] والجواب عن ذلك: أن ظاهر قوله: {وَاللََّهُ خَلَقَكُمْ وَمََا تَعْمَلُونَ} يقتضى أنه علة فى الأول، وقد علمنا أن قوله: {قََالَ أَتَعْبُدُونَ مََا تَنْحِتُونَ} هو تبكيت لهم، وليس
باستفهام (1)، ولا يجوز أن يبكتهم فى عبادة الأصنام، ثم يقول على طريق التعليل:(1/649)
624 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يخلق أفعال العباد، فقال: {أَتَعْبُدُونَ مََا تَنْحِتُونَ وَاللََّهُ خَلَقَكُمْ وَمََا تَعْمَلُونَ} [9695] والجواب عن ذلك: أن ظاهر قوله: {وَاللََّهُ خَلَقَكُمْ وَمََا تَعْمَلُونَ} يقتضى أنه علة فى الأول، وقد علمنا أن قوله: {قََالَ أَتَعْبُدُونَ مََا تَنْحِتُونَ} هو تبكيت لهم، وليس
باستفهام (1)، ولا يجوز أن يبكتهم فى عبادة الأصنام، ثم يقول على طريق التعليل:
{وَاللََّهُ خَلَقَكُمْ وَمََا تَعْمَلُونَ} إلا وللثانى تعلق بالأول وتأثير فيه، وقد علمنا أنه لا يجوز أن يكون كذلك إلا والموصوف ثانيا، هو الموصوف أولا حتى يصح كونه علة فيه وسببا يمنع من عبادتهم له. ولولا ذلك لخرج القول الثانى من أن يتعلق بالقول الأول. فإذا صح ذلك وجب ضرورة حمل قوله {وَمََا تَعْمَلُونَ}
على أن المراد به الصنم، ليصح أن يكون علة فى المنع من عبادته، ومقتضيا التبكيت والتوبيخ، ويكون كأنه قال: أتعبدون ما تنحتون من الأصنام المعمولة من الخشب والله خلقكم وخلق ذلك معكم، فكيف يصح أن تنحتوه إلها يعبد، مع حاجته فى خلقه إلى الله تعالى، كما أنكم تحتاجون إليه ومع أنه لا يملك ضرا ولا نفعا، وهو تعالى المالك لذلك لكم وله؟
ومتى حمل الكلام على خلاف ذلك أدى إلى كونه سخفا، لأنه يصير كأنه قال: أتعبدون ما تنحتون، والله خلقكم وخلق فى أيديكم الحركة! وقد علمنا أن ذلك لا يقع من كثير من السفهاء، فضلا عن الحكيم!
وليس لأحد أن يقول: إن الذى ذكرتموه زوال عن الظاهر، وقد بينتم فى جميع ما يتعلق به القوم أن تثبتوا أن الظاهر ليس معهم، وذلك أن هذا الكلام إذا ورد مورد التعليل كان ظاهره ما قلناه، ولو كان لو انفرد لكان ظاهره ما زعموه، ولا يمتنع فى الكلام أن يتغير ظاهره بما يتصل به من مقدمة ومؤخرة، وقد بينا أن ظاهر التعليل إذا ذكر عقب التبكيت يقتضى ما قلناه، فلم يخرج إذا لهذا الوجه عما نظمناه فى جميع الآى، على ما زعمه السائل.
__________
(1) انظر الآية: 83فما بعدها من السورة.(1/650)
يبين ما قلناه: أن قوله تعالى: {وَاللََّهُ خَلَقَكُمْ وَمََا تَعْمَلُونَ} لو انفرد لم يفد، وإنما يفيد إذا علق بما تقدم، وفائدته تقتضى ما ذكرناه.
وبعد، فإن قوله: {وَمََا تَعْمَلُونَ} لا بد من أن يكون راجعا إلى ما تقدم رجوعه إليه، فيقتضى تقدير محذوف، ولا يخلو ذلك من وجهين: إما أن يريد:
وما تعملون فيه النحت. أو يريد: وما تعملونه من النحت فيه، لأنا إن حملنا الكلام على عمل لا تعلق له بالأصنام البتة، اقتضى كون الكلام لغوا. وقد علمنا أنه متى حمل على الثانى خرج من باب التعليل وصار كأنه يتعلق بالأصنام، لأن القوم لا يعبدون النحت الذى هو فعلهم فى المنحوت، ولا استحقوا التبكيت واللائمة على شيء يتعلق به، فيجب إذا أن يكون محمولا على الوجه الأول، وهو ما يعملون النحت فيه، وهذا يوجب أن المراد ما قلناه من أنه خلقهم وخلق ما عملوا فيه النحت من الأصنام. وهذا مما لا ينكر.
يبين ما قلناه أن الفصيح لو قال وقد عصى غيره (1) فى أكل أو شرب أو لباس: كيف تعصينى وقد ربيتك وأعطيتك ما تأكل وما تشرب، لوجب حمل الظاهر على المأكول والمشروب دون الأكل والشرب، اللذين هما من فعله.
وكذلك ما ذكرناه، لأن {مََا تَعْمَلُونَ} بمنزلة قول القائل: «ما تأكلون» وإن كان أحدهما أخص من الآخر.
وهذا هو الواجب فى كل ما تعلق العمل به إذا كان العمل فى الأجسام المشار إليها، لأن الإنسان إذا قال: الصانع يعمل الخلخال، فالمراد به نفس الجسم، والنجار يعمل الباب، والحداد يعمل الفأس، فعلى هذا الوجه قال تعالى:
__________
(1) كذا الأصل، والصواب: وقد عصاه غيره. أو: لو قال لغيره وقد عصاه فى(1/651)
{يَعْمَلُونَ لَهُ مََا يَشََاءُ مِنْ مَحََارِيبَ وَتَمََاثِيلَ} (1) وأراد بكل هذا المعمول فيه دون العمل، وقال تعالى: {تَلْقَفُ مََا يَأْفِكُونَ} (2) و {تَلْقَفْ مََا صَنَعُوا} (3) وأراد بذلك ما صنعوا فيه من الحبال أو غيرها لأنها التى يصح فيها التلقف والتناول، دون حركاتهم.
فهذه طريقة فى التعارف أقوى مما ادعوه لو لم يكن الكلام جاريا مجرى التعليل أيضا.
على أن الكلام متى كان على ما حملوه تناقض فى المعنى، وذلك أنه تعالى إذا أراد: والله خلقكم وخلق عملكم، فقد وجب بذلك لا محالة أن يكون خالقا لنفس عبادتهم لأنها من جملة العمل، ولأنه لا يصح التفرقة بين الأعمال فى أنه تعالى يخلقها عندهم، فإذا صح ذلك وجب على هذا أن يكون تعالى كأنه قال:
أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وخلق عبادتكم مع سائر أفعالكم؟ وهذا يوجب زوال التبكيت واللائمة، من حيث قصد به التبكيت، وهذا يتناقض، على ما ذكرناه، لأنه تعالى إن خلق عبادتهم فكيف يجوز أن يوبخهم عليها؟! وإن خلق فيها تحت الأصنام، فكيف يجوز أن يوبخهم على ذلك؟ وكل كلام صدر من حكيم فحمله على ما يناقض فى الوجه المقصود إليه لا يصح، والواجب حمله على ما يشاء ويصح، وهو الذى قلناه.
وبعد، فإنه تعالى حكى ذلك عن إبراهيم، عليه السلام، فى إنكاره عليهم عبادة الأصنام، وقوله: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللََّهِ تُرِيدُونَ} [86] إلى آخر
__________
(1) سورة سبأ، الآية 13.
(2) سورة الأعراف، الآية: 117.
(3) سورة طه، الآية 69.(1/652)
الآية يدل على ما قلناه وذلك يوجب أنه أورد ذلك عليهم مورد الحجاج، ليصرفهم به عماهم عليه من عبادة الصنم، ولكى يعدلوا عن عبادة الصنم إلى عبادة الله تعالى. فلو حمل الكلام على ما قالوا لكان إبراهيم كأنه قال لهم: أتعبدون الأصنام، والله خلقكم وخلق فعلكم؟ ولو أراد ذلك لكان فى نهاية الركاكة، وكان لهم أن يقولوا: وما فى أنه خلقنا وخلق أعمالنا ما (1) يوجب أن ننصرف عن عبادة الصنم، فليس الصنم نحن، ولا عملنا وإنما هو ثالث لهذين الأمرين اللذين ذكرنا، فكيف ننصرف عن عبادته من حيث ثبت فى غيره أن الله خلقه؟ فكانت الحجة لهم عليه ثابتة، وكل قول يؤدى إلى لزوم حجة الكفار للأنبياء، فهو فى نهاية الفساد.
فالصحيح إذن ما ذكرناه من أنه بين أنكم تعبدون ما الله خلقكم وخلقه، فبأن تعبدوا الله الذى خلق الأمرين، وهو مالك الضر والنفع، أولى من أن تعبدوا الصنم الذى فى أصل وجوده يحتاج إلى الإله الذى أدعوكم إلى عبادته، فضلا عن سائر صفاته. وقد علمناه أنه متى حملوه على هذا الوجه فحجته لهم لازمة، فحمله عليه أولى. وعلى هذا الوجه سلك الحجاج الذى قبله حيث قال:
{مََا لَكُمْ لََا تَنْطِقُونَ} [92] وقال لهم: {أَلََا تَأْكُلُونَ} [91] ليتبين ذلك (2) للسامع أن الأصنام إذا لم يصح منها النظر ولا الأكل ولا التصرف فهى مدبّرة، فلا يصح أن تعبد وتترك عبادة الله تعالى المدبر للخلائق.
وبعد، فإنه جل وعز حكى عن قوم إبراهيم، عليه السلام، أنهم كانوا عباد أصنام، وأنه صلّى الله عليه، كان يخاطبهم دائما فى ذلك، ولم يحك عنهم الكلام
__________
(1) فى الأصل: مما.
(2) لعلها زائدة.(1/653)
فى خلق الأفعال، وأنهم أضافوها إلى العبيد أو إلى القديم تعالى، فكيف يصح، مع أن هذا هو المعلوم من حال قومه، وصدر الآيات وعجزها، بل جميعها، هو فى هذا الباب أن يذكر فى خلاله ما لا يتعلق به ولا يليق بما هو فيه؟
وكل ذلك يوجب بطلان ما حملوا الآية عليه.
وبعد، فإن الأمر لو كان كما قالوا، وصح كونه خالقا لتصرفهم [لما صح]، أن يجعله عملا لهم لأن العمل إنما يكون عملا للعامل بأن يوجده ويحدثه، ومتى وجب ذلك استحال أن يكون تعالى خالقا له، لأن خلقه لا يفيد إلا إخراجه من العدم إلى الوجود، فإذا حصل كذلك بمن عمله فما الفائدة فى كونه خلقا له تعالى؟ هذا يوجب أن يكونوا قد حملوا الكلام على وجه يتناقض!
وبعد، فلو أراد تعالى بذلك أفعال العباد، على ما زعموه، لكان الظاهر لا يقتضي ما قالوه، لأنا قد بينا أن ظاهر الخلق هو التقدير، وأنه لا يمتنع من حيث اللغة أن يكون الخالق خالقا لما لم يفعله فى الحقيقة، إذا دبره وقدره والفاعل غيره (1) فكان يجب على هذا الوجه الذى ذكروه أن يقال إنه تعالى أراد: والله دبركم ودبر أعمالكم، ولا يجب كون عملنا خلقا له تعالى.
وبعد، فإن ظاهر الكلام يقتضى أن يكون المراد بقوله: {(وَمََا تَعْمَلُونَ)}
أمرا مستأنفا، لأن اللفظة تدل على الاستقبال وقد علمنا أن ما سيعملونه (2)، مما لم يوجد بعد، محال أن يكون خلقا له تعالى، لأن ذلك هو صفة الموجود على بعض الوجوه. ومتى قالوا: إن المراد بذلك ليس هو الاستقبال، بل المراد به عملهم الذى تقضى، أو الكائن، فقد زالوا عن الظاهر ونازعونا فى التأويل
__________
(1) انظر الفقرة: 220.
(2) فى الأصل: ما يستعملونه.(1/654)
ويصير الكلام متناقضا لأنه كأنه قال: والله خلقكم وخلق المعدوم الذى لم يوجد ويوجب أن لا يكون فى القول فائدة، وأن لا يتعلق ذلك بما وبخهم عليه، وبكتهم به.
وبعد، فإن كان الظاهر يوجب ما قالوه، فيجب أن لا يكون عملهم باطلا، ولا قبيحا ولا متفاوتا، لقوله تعالى: {مََا تَرى ََ فِي خَلْقِ الرَّحْمََنِ مِنْ تَفََاوُتٍ} (1)
ولقوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (2) وقد علمناه متفاوتا، ويقبح، ولا بد من كونه باطلا، خصوصا عبادة الأصنام والأوثان، فلم صاروا بأن يتعقلوا بظاهر هذه الآية بأولى من سائر الآيات فى المنع من التعلق بظاهرها، وقد علمنا أن الحكيم إذا بين بعض الأمور وأوضحها، فالواجب فى خطابه من بعد أن يترتب عليه، ومتى رتب على ذلك لم يعد ذلك خروجا عن الظاهر لأنه يخاطب على معهود وعرف. فإذا كان تعالى قد بين من جهة العقل أن تصرف العبد الذى يستحق به الحمد، والذم، والثواب، والعقاب، ويقع بحسب دواعيه ومقاصده، وبحسب اختياره وعلمه وآلاته لا بد من أن يكون واقعا من جهته لأنه لو كان فعلا لغيره لم يجب كونه موقوفا على قدره وعلومه وآلاته ودواعيه ثم بين من جهة السمع مثل ذلك، ونبه على أنه لا يفعل إلا الحسن الذى لا تفاوت فيه، والمتقن المحكم، فالواجب فيما دبر من الآى إذا احتمل ما يوافق (3)، أن يكون حمله على ذلك كالظاهر المعهود المتقدم، على بيناه.
وكل ذلك يبين أن تعلق القوم بمثل هذا يدل على ذهابهم عن طريق
__________
(1) سورة الملك، الآية: 3.
(2) سورة السجدة، الآية: 7.
(3) أى: ما يوافق هذه الجملة.(1/655)
الأدلة، عقلا وسمعا، وقلة معرفتهم بوجوه الكلام ومخارجه وتعلق البعض بالبعض.
625 - فأما قوله تعالى، من بعد: {وَقََالَ إِنِّي ذََاهِبٌ إِلى ََ رَبِّي}
[99] فالمراد بذلك: إلى حيث أمرنى ربى. وقد بينا القول فى نظائر ذلك (1).
626 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى ما يدل على أنه يأمر بالشيء ولا يريده فقال: {قََالَ يََا بُنَيَّ إِنِّي أَرى ََ فِي الْمَنََامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مََا ذََا تَرى ََ} [102] ثم بين فى الآية ما يدل على أنه لم يرد الذبح، فإنه فداه بذبح عظيم (2)؟
والجواب عن ذلك أن الذى (ا) مأمور به، وأنه ليس بمراد (ب) يستدلوا به على أن الذبح مأمور به لم يكن فيه دلالة على أنه ليس بمراد، بل من يقول إنه مأمور به يقول إنه مراد، ويجوز فى الأمرين البداء والنسخ، على بعض الوجوه، فتعلقهم بذلك على هذا الوجه مما لا يشهد له الظاهر.
وإنما بنوه على أصولهم فى أن ما لا يقع لا يكون مرادا لله، ورأوا أن الذبح لم يقع فقطعوا على ذلك، وحكموا عنده بأنه مأمور به وإن كان هذا حاله.
وهذا جمع بين الظاهر وبين مذهب لهم، فيه التنازع. وكيف يصح فيما هذا حاله أن يعد استدلالا بالظاهر مع حاجته إلى ضم ما فيه الخلاف إليه، وما يجرى مجراه من المذاهب؟ ولا فرق بينهم فى ذلك وبين من يقول: إذا ثبت أنه ليس بمراد
__________
(1) انظر الفقرات: 30، 58، 309.
(2) انظر الآيات: 107102.
(ا) خرم فى الأصل.
(ب) خرم فى الأصل.(1/656)
وقد صح أن المأمور به لا بد من كونه مرادا، فيجب أن لا يكون مأمورا به.
أصلا! ومتى قالوا فى هذا القول: إنه رجوع إلى غير الظاهر، لزمهم مثله فيما قالوه.
وبعد، فإن الظاهر يقتضى أنه رأى فى المنام أنه يذبحه، فمن أين أن ذلك أمر من الله تعالى؟ وقد يرى فى المنام ذلك وغيره. بل الظاهر فيما هذا حاله أن لا يقطع بأنه أمر من الله فى الحقيقة إلا بمقدمة يعلم بها هذا من حاله، فكيف يصح تعلقهم بالظاهر؟ ومتى قالوا: قد علمنا بغير الظاهر أنه أمر من الله تعالى، فقد خرجوا عن الظاهر ودخلوا فى باب التأويل معنا.
وقد بينا فى أصول الفقه القول فى ذلك، وأنه تعالى ذكر الذبح، وأراد به مقدماته من الإضجاع وأخذ المدية، لأن فاعل ذلك من حيث يقرب إلى أن يكون ذابحا يوصف بهذه الصفة، كما قيل فى مقدمات الموت من المرض المخوف: إنه موت، فقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذََا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} (1)
وقد علمنا أن الوصيّة لا تكون منه مع وقوع الموت.
وقوله تعالى من بعد: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيََا} [105] ولما وقع الذبح وإنما فعل ما قلناه، يدل على أن المراد بالكلام ما قلناه. فإذا صح ذلك وقد فعل إبراهيم، عليه السلام ما أريد منه، ثبت أن الذبح الذى لم يفعله ليس بداخل فيما أمر به، ولا فيما أريد منه، وذلك يبطل تعلقهم بالظاهر.
وقد بينا الكلام على من يستدل بذلك فى جواز البداء، وفى جواز النسخ قبل وقوع الفعل، فلا وجه لإعادته.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 180.(1/657)
ومن سورة ص
627 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه يجعل النبى نبيا، والفاضل فاضلا، فقال: {يََا دََاوُدُ إِنََّا جَعَلْنََاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [26] والجواب عن ذلك: [أنه لا يمتنع فيما] (1) هذا حاله أنه يجوز أن يراد به ما يقتضيه الظاهر من إرساله إياه، وبعثه إلى الناس، فصيره بذلك خليفة من حيث يلزمهم القبول منه، والانقياد له، كما يلزمهم ذلك لو سمعوا كلامه تعالى وفهموا أوامره.
ويجوز أن يراد بذلك اللطف والمعونة، فليس للمخالف فى ذلك متعلق.
628 - وقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النََّاسِ بِالْحَقِّ وَلََا تَتَّبِعِ الْهَوى ََ}
[26] يدل على أنه قادر على الأمور قبل فعله لها، وعلى أنه يختار فعلا على فعل.
629 - وقوله: {فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ} [26] يدل على أنه تعالى لا يضل، لأنه لو أضل لكان لا يضاف الضلال إلى الهوى وإلى الشيطان، وقد مضى الكلام فى جميع ذلك (2).
630 - وقوله تعالى: {وَمََا خَلَقْنَا السَّمََاءَ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا بََاطِلًا ذََلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [27] يدل على أنه منزه من فعل القبيح، وأن من أضاف إليه ذلك ووصف ما خلقه بأنه باطل فهو كافر. وقد تقدم كيفية الاستدلال بذلك من قبل (3).
631 - وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ}
__________
(1) خرم فى الأصل.
(2) انظر الفقرات: 399، 465، 533، 620.
(3) انظر الفقرة: 574.(1/658)
{كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجََّارِ} [28] يدل على قولنا فى الوعيد، وذلك أن على مذهب المرجئة لا يمتنع أن يتساوى حال الفاجر والمتقى إذا كانا مؤمنين، بأن يحصل مع الفاجر من الأعمال ما يساوى عمل المتقى ويزيد عليه، بل لا يمتنع على قولهم أن يكون أرفع حالا من المتقى، وقد علمنا أنه تعالى إنما أراد أنه لا يجعلهما بمنزلة فيما يتعلق بالثواب والعقاب، لأنه قد سوى بينهما فى أكثر أحكام الدنيا ونعيمها، فإذا كان المراد ما قلناه وجب أن يدل على أن الفاجر يدخل النار، وإلا أدى إلى أن يكون بمنزلة المتقى.
* * *
ومن سورة الزمر(1/659)
* * *
ومن سورة الزمر
632 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه لم يهد الكافرين فقال: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي مَنْ هُوَ كََاذِبٌ كَفََّارٌ} [3]
والجواب عن ذلك قد تقدم، لأنا قد بينا أن الهدى قد يكون لغير معنى الدلالة، كما يراد به الدلالة (1). والمراد به فى هذا الموضع أنه لا يهديه للثواب لأجل كفره وكذبه، أو لا يهديه بزيادات الهدى من حيث لم يهتد، ولذلك أورد الهدى بلفظ الاستقبال، وإن كان كاذبا كافرا فى الحال.
والذى ينبغى أن يعلم فى هذا الباب: أنه تعالى متى نفى الهدى عمن وصفه بصفات الذم، فالواجب أن يكون محمولا على ما قلناه، من أنه لا يهديه إلى الثواب، ليصح تعلقه بما تقدم، ولهذا قال تعالى فى السورة التى بعدها: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذََّابٌ} (2) وقال: {فَإِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} (3) إلى غير ذلك. وهكذا القول فى الضلال إذا علقه تعالى بين وصفه بالذم أو بالأفعال المقتضية للذم، فى أنه يجب حمل الضلال على العقاب، وعلى الذهاب عن الثواب وطريقة. وهذا كقوله: {كَذََلِكَ يُضِلُّ اللََّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتََابٌ} (4)، {وَيُضِلُّ اللََّهُ الظََّالِمِينَ} (5)، {وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ} (6).
__________
(1) انظر الفقرة: 22.
(2) الآية 28من سورة غافر.
(3) سورة النحل، الآية 37.
(4) سورة غافر، الآية 34.
(5) سورة إبراهيم، الآية 27.
(6) سورة البقرة، الآية 26.(1/660)
633 - وقوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللََّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلََا يَرْضى ََ لِعِبََادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [7] يدل على أنه تعالى لا يريد الكفر الواقع، لأنه لو أراده لوجب، متى وقع أن يكون راضيا له وبه لأن الرضا بالفعل ليس إلا ما ذكرناه، ولذلك يستحيل أن نريد من غيرنا شيئا ويقع على ما أردناه، ولا نكون راضين به، أو نرضاه وإن لم نرده البتة.
فإذا صح ذلك وبين أنهم إن كفروا لم يرض ذلك مع وقوعه، فقد دل ذلك على ما ذكرناه.
وفصله تعالى بين الشكر والكفر فى إثبات الرضا بالشكر ونفيه عن الكفر من أدل الدلالة على أنه تعالى يريد الطاعات ويرضاها دون المعاصى والكفر.
634 - وقوله تعالى: {وَلََا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ} [7] فقد بينا أنه يدل على أن أحدا لا يؤخذ بذنب غيره (1). ويدل على نفى تعذيب أطفال المشركين.
634 - وقوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذََابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النََّارِ} [19] يدل على أن من أخبر الله تعالى أنه بعدله لا يخرج من النار، فإذا صح أنه أخبر بذلك فى الفجّار والفسّاق فيجب ذلك فيهم.
ويدل أيضا على أنه صلّى الله عليه لا يشفع لهم، لأنه لو شفع لهم لوجب أن يكون منقذا من النار، وقد نفى الله تعالى عنه ذلك.
__________
(1) انظر الفقرتين: 246، 418.(1/661)
636 - وقوله: {لََكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهََا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [20] يدل على أنهم يختصون بالجنة.
637 - وقوله من بعد: {وَعْدَ اللََّهِ لََا يُخْلِفُ اللََّهُ الْمِيعََادَ} [20] يدل على أن ما تخوّف وتوعّد به لا يجوز فيه الخلف، كما لا يجوز فى وعده.
638 - وقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللََّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ فَهُوَ عَلى ََ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [22] لا يدل على أنه تعالى يخلق (1) الإيمان والثبات عليه، وذلك لأن ظاهر شرح الصدر لا يجوز أن يكون هو المراد، لأن ذلك يرجع إلى تفريق الأجسام وبسطها، وذلك غير مراد، فالمراد بالكلام غير ظاهره، وقد علمنا أن الإيمان ليس بشرح الصدر فى الحقيقة، فكيف يصح حمله عليه؟
وإنما أراد تعالى بذلك زيادات الألطاف وإيراد الأدلة والخواطر، على ما قدمناه من قبل (2).
وقوله تعالى: {فَهُوَ عَلى ََ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أراد بذلك الهدى والدلالة [وإنما سمّاه نورا] (3)، من حيث يهدى به وإن كان يدل على أنه قد اهتدى، فجعله نورا (4) فى الحقيقة.
639 - وقوله تعالى: {اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتََاباً مُتَشََابِهاً مَثََانِيَ} [23] يدل على أنه محدث، لأن الحديث هو المحدث إذا تقارب وجوده، وتقول العرب فيما تقادم وجوده: قديم فصلا بينه وبين ما تقارب وجوده،
__________
(1) فى الأصل: لا يخلق،
(2) انظر الفقرة: 234.
(3) خرم فى الأصل.
(4) فى الأصل: يوما.(1/662)
فإذا وصفه تعالى بأنه حديث، فيجب كونه محدثا، ولهذا وصف الحديث الذى يتجارى فيه وبه بهذا الوصف، لأنه حادث فى الوقت، ولهذا يصفون ما تقارب وجوده بأنه حديث. وما تقدمه فى السنة الماضية بأنه عتيق.
ووصفه تعالى للكتاب بأنه منزل يدل أيضا على ما قلناه، لأنه إن كان قديما فذلك يستحيل فيه، فلا بد من أن يراد به (1) أنه منزل إما بنفسه أو بمحله.
وكل ذلك يقتضى حدوثه.
ووصفه بأنه متشابه، وأراد به أنه متشاكل فى الحكمة، يقتضى أيضا حدثه، لأن القديم يستحيل فيه أن يكون أشياء متشابهة.
640 - وقوله من بعد: {ذََلِكَ هُدَى اللََّهِ يَهْدِي بِهِ} (2) يدل على أن الهدى هو الدلالة والبيان، وأنه يهدى به المكلف، وإنما قال: {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشََاءُ} (3) لأنه يهدى بذلك من بلغ حد التكليف من عباده، بأن يجعله دلالة لهم دون سائر العباد، فالتخصيص صحيح فى هذا الباب، وإن قلنا إن الدلالة عامة فى جميع المكلفين.
641 - وقوله تعالى من بعد: {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [28] يدل أيضا على حدثه، من حيث وصفه بكلا الوصفين.
642 - وقوله تعالى من بعد: {أَلَيْسَ اللََّهُ بِكََافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ}
__________
(1) فى الأصل: به فى.
(2) قال تعالى: [{ذََلِكَ هُدَى اللََّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشََاءُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ هََادٍ}] من الآية 23.
(3) فى الأصل: يهدى به من يشاء من عباده.(1/663)
{بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ هََادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [3736] يجب أن يحمل على الثواب والعقاب، لأن من هداه الله إلى الثواب فلا مضل له عنه، ومن أضله عنه وعاقبه فلا هادى له إليه (1). وقد بينا من قبل أن ذلك الظاهر لا يدل على ما يزعمون فى الضلال والإيمان، من أنه الإيمان والكفر. (2)
643 - وقوله تعالى من بعد: {اللََّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهََا} [42] لا يدل على أن الله تعالى خلق الموت والقتل فيه، لأن ظاهره إنما يقتضى أنه يتوفى الأنفس، والتوفى لا يفيد الموت والقتل.
وإنما المراد: أنه يستوفى ما فيها من الروح، إما بنفسه وإما بأمره، فيكون متوفى لها، ومتى أريد بذلك الموت فهو مجاز. وقد بينا أنه لو حمل على الموت لم يمنع ذلك من كون القتل فعلا للقاتل (3) وإنما كان يجب أن يقال: فإنه؟؟؟
تعالى يحدث مع القتل موتا، وهذا مما لا نأباه.
644 - وقوله تعالى: {قُلْ يََا عِبََادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ لََا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
[53] لا يدل على ما يقوله المرجئة من أن الفاسق يغفر له إذا كان من أهل الصلاة، وذلك لأن ظاهره بأن يتناول الكافر أولى، لأنه أدخل فى كونه مسرفا على نفسه، ولا يكاد يقال ذلك فى كل من عصى، وإنما يقال فيمن بالغ فى المعصية وانتهى فيه إلى غاية عظيمة، فإذا لم يوجب ذلك غفران الكفار فبأن لا يوجب غفران الفساق [أولى].
__________
(1) فى الأصل: إليها.
(2) انظر الفقرتين: 22و 403.
(3) انظر الفقرة: 132مع التعليق.(1/664)
وبعد، فإنه يوجب بظاهره أنه تعالى يغفر لهم لا محالة، وليس ذلك بقول لمن يعرف من المرجئة، ويوجب القول بأنه تعالى قد أغرى بالمعاصى من حيث علمنا أنه يغفرها لا محالة، وهذا مما لا يجوز فى تكليف الحكيم.
وبعد، فإن القنوط من رحمة الله هو أن يعتقد المسرف على نفسه أنه لا يغفر له البتة، فأما إذا اعتقد أنه يغفر له بالتوبة، فإنه لا يكون قانطا، فيجب أن تكون المغفرة المذكورة على الوجه الذى يخرج المسرف على نفسه من أن يكون قانطا من رحمة الله، ولا يوجب ذلك إلا جواز المغفرة على بعض الوجوه فقط فمن أين أنه تعالى يغفر على كل حال.
وبعد، فإنه تعالى بين من بعد أنه يغفر مع التوبة والإنابة، فقال: {وَأَنِيبُوا إِلى ََ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذََابُ} [54] ولو أراد المغفرة على كل وجه لم بخوف من العذاب إذا هم لم ينيبوا ولم يسلموا، بل كان يجب زوال العذاب عنهم للمغفرة المتقدم ذكرها، أنابوا وأسلموا أم لم يفعلوا ذلك.
وبعد، فإذا ثبت أن الكفار داخلون فى الآية صح أن المغفرة بشرط التوبة، فكذلك المغفرة فى الفساق، لأن الكلام على وجه واحد [و] لا يمكنهم التخلص من ذلك إلا مع القول بأنه تعالى إنما أراد الفساق فقط. وقد بينا أن وصفه لهم بأنهم أسرفوا على أنفسهم كالمانع من ذلك، على أن فيما بعده ما يدل على أن الآية فى الكفار فقط، وهو قوله تعالى: {بَلى ََ قَدْ جََاءَتْكَ آيََاتِي فَكَذَّبْتَ بِهََا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكََافِرِينَ} [59] لأن هذا راجع إلى ما تقدم.
645 - وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذََابُ} [54] يدل على أن التوبة والإنابة لا تنفع إذا جاء العذاب، على ما نقوله من أن أهل النار ملجئون، فلا تقبل لهم توبة.(1/665)
646 - وقوله تعالى: {ثُمَّ لََا تُنْصَرُونَ} (1) يدل على أن من جاءه العذاب لا يكون له ناصر، وفى هذا إبطال القول بالشفاعة.
647 - وقوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يََا حَسْرَتى ََ عَلى ََ مََا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللََّهِ} [56] لا يدل على أن الله جنبا على ما تقوله المشبهة وذلك أن هذه اللفظة إذا ذكرت مع الفعل الذى يفعل للغير أو لأجل الغير، فالمراد به الذات، وهو الذى يعقل من قول القائل: احتملت هذا فى جنب فلان، وكسبت المال فى جنب فلان. فإنما أراد الله تعالى: على ما فرطت فى ذات الله. ومتى لم يحمل على هذا الوجه لم يفد البتة.
وتدل هذه الآية على اعترافهم بأنهم فرّطوا، وذلك يوجب أنهم قصّروا فيما كلّفوا، ولا يكونون كذلك إلا وكانوا متمكنين قادرين على الاستقامة، فلما زاغوا عنها حصلوا مفرطين.
648 - وقوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللََّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [60] مما كان يحلف الحسن البصرى، عليه رحمة الله، أن الله تعالى ما أراد به إلا المجبرة، لأنهم كذبوا عليه فى إضافة القبائح إليه!
649 - وأما قوله: {خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [62] فقد تقدم القول فيه (2).
650 - وقوله بعده: {وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [62] يدل على أن المراد بالأول: الأجسام والنعم لأنها التى يصح وصف القديم بأنه وكيل عليها، دون المعلومات وما شاكلها من أفعال العباد.
__________
(1) تتمة الآية: 54.
(2) انظر الفقرة: 220.(1/666)
651 - وقوله تعالى: {وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ} (1) فلا يصح تعلق المشبهة أن لله تعالى يمينا. ولا بقوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ} أن له كفا، وذلك لأن التعارف فى اللغة أن التمدح بما يجرى هذا المجرى إنما يريد به الملك والاقتدار، ليصح فيه التمدح، وذلك لأن المتعالم أن كون الشيء فى يد الإنسان لا يمنع كونه ملكا لغيره، وأن لا يكون مقتدرا عليه، وإنما كان متمدحا متى حمل على طريقة الملك، ولذلك قالوا فى المملوك هذه اللفظة، وأن فلانا يملك عبده ملك اليمين، وإنما أرادوا بذلك المبالغة فى كونه مالكا لأن حظ اليمين فى هذا الوجه أقوى من حظ الشمال لأنها أشرف اليدين، فلما قالوا فيما يملكه إن يده تحتوى عليه، وقد صار فى يده، لم يمتنع أن يحققوا ذلك بذكر اليمين. وقد بينا القول فى ذلك من قبل وشرحناه (2).
وكذلك فإنما يراد بأن الشيء فى قبضة فلان، أنه يصرّفه كيف أراد، وأنه مستجيب له فيما شاء، فلما كانت الأرض هذه حالها مع الله تعالى، وكذلك السموات، جاز أن يتمدح بأنها فى قبضته، وأن السموات مطويات بيمينه.
* * * __________
(1) قال تعالى: {[وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحََانَهُ وَتَعََالى ََ عَمََّا يُشْرِكُونَ]} الآية: 67.
(2) انظر الفقرة: 197.(1/667)
ومن سورة المؤمن
652 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه يفعل المعاصى ويزيلها (1)، فقال: {وَقِهِمُ السَّيِّئََاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئََاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [9]
والجواب عن ذلك: أن الآية واردة فى أهل الآخرة (2)، ولا يجوز أن يقال: إنهم هناك مكلفون يفعل فى بعضهم السيئات، ويوقّاها البعض، فيجب أن تكون محمولة على العذاب الذى فى التخلص منه ثبوت الرحمة والفوز المبين، على ما ذكره تعالى. ولا يمتنع فى العذاب وإن كان حسنا أن يوصف بذلك من حيث كان ضررا، فشبّه بالسيئات على ما ذكرناه فى وصفه بأنه شر فيما تقدم يبين ذلك أن السيئات تقدمت منهم، والدعاء فيه بما ذكره فى الآية يقتضى أنه متوقع، فلا يجوز أن يكون محمولا عليه.
653 - وقوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجََاتِ ذُو الْعَرْشِ} [15] لا يدل على ما تقوله المشبهة من أنه فى مكان، وذلك أن ظاهرها إنما يقتضى أنه رفيع الدرجات، وليس فيه أنه عليها، ودرجات الله عندنا رفيعة لأنها للمؤمن فى الجنة. ومتى قيل: دور زيد حسنة، لم يوجب ذلك أن يكون فيها، فكذلك القول فيما ذكرناه. وإضافة العرش إليه لا يقتضى أنه عليه، كما أن إضافة البيت إليه بمثل هذه اللفظة لا يقتضى أنه فيه.
وهذه اللفظة قد تستعمل على وجوه، فيقال: زيد ذو إحسان، وذو أفضال، وذو قدر، وذو لحية حسنة، وذو جمال وأخلاق، والمراد بها يختلف، فلا يصح تعلقهم بظاهرها.
__________
(1) فى الأصل: ويزيلها بأن لا يفعله. ويبدو أن هذه زيادة.
(2) انظر الآيتين: 87من السورة.(1/668)
654 - وقوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزى ََ كُلُّ نَفْسٍ بِمََا كَسَبَتْ لََا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [17] يدل على أن أحدا لا يؤخذ اليوم بذنب غيره. ويدل أيضا على أن من يستحق على عمله شيئا أنه يجازى به فى ذلك اليوم، وفى ذلك إبطال القول بالشفاعة على الوجه الذى يقوله القوم، لأن إثباته كذلك يؤدى إلى أن فيهم ذلك اليوم من لا يجازى بما عمل، وذكر تعالى الكسب وأراد به العذاب والثواب، لأن ما يستفيده الفاعل بفعله من المنافع أو يجتنبه من المضار يوصف بأنه كسب له، ولذلك يقال فى المال الذى ربحه التاجر إنه كسبه، فهو على هذا حقيقة، وإن لم يمتنع أن يقال إنه تعالى ذكر الكسب وأراد المستحق عليه.
655 - وقوله تعالى بعد: {مََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلََا شَفِيعٍ يُطََاعُ}
[18] بين [فى] أن الظالم لا يشفع له النبى صلّى الله عليه، وأن الشفاعة لا تكون إلا للمؤمنين لتحصل لهم مزية فى التفضل وزيادة الدرجات، مع ما يحصل له، صلى الله عليه، من التعظيم والإكرام.
ومتى حملت الآية على أن المراد بها الكفار، فهو تخصيص بلا دليل يوجب ذلك.
656 - وقوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذََّابٌ}
[28] وقوله: {كَذََلِكَ يُضِلُّ اللََّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتََابٌ} [34] قد تقدم القول فيه (1).
657 - قوله {وَكَذََلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [37]
__________
(1) انظر الفقرتين: 632والفقرة 22.(1/669)
فليس له ظاهر يقتضى من المزيّن له ذلك والصادّ له عنه، فلا يصح تعلق القوم به (1).
والمراد بذلك: أن الشيطان زين له سوء عمله ودعاه ورغبه فيه، فوصف من حيث كان كذلك بأنه صاد عن السبيل، ولم يرد أنه منع منه بالقسر لأن ذلك كان يبطل التكليف، وإنما أريد به الترغيب والبعث عليه.
ولولا أن الأمر كذلك، لوجب أن يوصف تعالى بأنه زين للكفار وصدّهم عن سبيله، وذلك مما لا يجيزه مسلم!.
658 - وقوله تعالى: {فَلَمََّا رَأَوْا بَأْسَنََا قََالُوا آمَنََّا بِاللََّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنََا بِمََا كُنََّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمََانُهُمْ لَمََّا رَأَوْا بَأْسَنََا} [8584] فمن قوّى ما يدل على بطلان قول المجبرة لأنه تعالى بين أنهم عند رؤية العذاب لم ينتفعوا بالإيمان من حيث كانوا ملجئين إليه، فلو كان مخلوقا لله تعالى فيهم على كل حال، لكانوا بأن لا ينتفعوا به أولى من حيث كانوا ملجئين، ولوجب أن تكون أحوالهم عند رؤية العذاب وعند فقده إذا هم آمنوا تتفق ولا تختلف.
وقد بينا القول فى ذلك مشروحا (2).
__________
(1) انظر الفقرتين 45و 66.
(2) انظر الفقرة 247.(1/670)
ومن سورة فصلت
659 - فصل: قد بينا أن قوله تعالى فى وصف القرآن بأنه تنزيل، وبأنه قرآن، وبأن آياته فصّلت، وبأنه عربى، وبأنه بشير ونذير، وبأنه مسموع، يقتضى حدثه، فلا وجه لإعادته (1).
660 - فأما قوله تعالى: {وَقََالُوا قُلُوبُنََا فِي أَكِنَّةٍ مِمََّا تَدْعُونََا إِلَيْهِ وَفِي آذََانِنََا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنََا وَبَيْنِكَ حِجََابٌ} [5] فقد بينا أن المراد به التمثيل والتشبيه (2). ولو كان المراد به التحقيق لكان عذرا لهم فى الإعراض وترك ما كلفوا، ولما هددهم تعالى بقوله: {فَاعْمَلْ إِنَّنََا عََامِلُونَ} (3).
661 - وأما قوله تعالى: {وَأَمََّا ثَمُودُ فَهَدَيْنََاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى ََ عَلَى الْهُدى ََ} [17] فقد بينا أنه يدل على أن الهدى بمعنى الدلالة والبيان لا بمعنى خلق الإيمان (4)، لأنه وصفهم بأنه هداهم وإن كانوا كفارا، وبين أنهم استحبوا العمى على الهدى وإن كان قد هداهم. وهذا يوجب أن الهدى أمر يجوز أن يختار التمسك به وأن يستحب غيره عليه.
662 - وأما قوله تعالى: {حَتََّى إِذََا مََا جََاؤُهََا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصََارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ} [20] فقد بينا الكلام فى هذه الشهادة، وهل هى فعل لله، أو فعل لهذه الجوارح، بما لا وجه لإعادته (5).
__________
(1) انظر الآيات: 41وراجع الفقرة 47مع التعليق.
(2) انظر الفقرة 206.
(3) تتمة الآية الخامسة، ولا يبدو أنه من تهديد الله تعالى لهم لأنه من قولهم الذى أرادوا به صدّ النبى صلى الله عليه وتيئيسه من إجابته لما يدعوهم إليه. انظر الآيات التالية.
(4) انظر الفقرة 22مع ما ذكرناه هناك من التعليق المتصل بهذه الآية.
(5) انظر الفقرة: 511.(1/671)
663 - وقوله تعالى: {قََالُوا أَنْطَقَنَا اللََّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [21] لا يدل ظاهره على أن الكلام لا يكون إلا خلقا لله تعالى لأنه كان يجب أن يكون ناطقا به، وأن لا يصفهم بأنهم ناطقون، ونطقوا!
وعلى أحد الوجهين الذى تأولنا عليه الشهادة يكون تعالى فاعلا لذلك النطق فى الحقيقة، فلا يكون فيه كلام.
وعلى الوجه الآخر يكون ملجأ إليه، فيضاف إليه من هذا الوجه.
664 - وقوله: {وَقَيَّضْنََا لَهُمْ قُرَنََاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمََا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [25] ليس فى ظاهره أكثر مما أنه سهل لهم وأتاح، أو خلق قرناء، فلا يدل على أن ما به صاروا كذلك من قبله. ولا يمتنع إذا لم يمنعهم من التزيين لما فيه من منع التكليف وزواله، أن يقال: قيضهم تعالى، كما ذكرنا فى قوله: {أَنََّا أَرْسَلْنَا الشَّيََاطِينَ عَلَى الْكََافِرِينَ} وما ذكرنا هنالك يغنى عن البيان فى هذا الموضع (1)
665 - وقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنََاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقََالُوا لَوْلََا فُصِّلَتْ آيََاتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (2) [44] يدل على أنه أحدثه على وجه دون وجه كان يجوز أن يحدثه عليه، وكان يقول عند ذلك الكفار: كيف يكون عربيا والكلام الذى جاء به عجمى؟
666 - وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ فِي آذََانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} قد تقدم القول [فيه] (3).
__________
(1) انظر الفقرة: 456.
(2) تتمة الآية: {[قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفََاءٌ، وَالَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ فِي آذََانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولََئِكَ يُنََادَوْنَ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ]}.
(3) انظر الفقرة الثانية من السورة.(1/672)
ومن سورة حم عسق
667 - مسألة: قالوا: ثم ذكر فيها ما يدل على أنه لم يرد من جميعهم الإيمان، فقال: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً} [8].
والجواب عن ذلك: أنه لا ظاهر للكلام فيما ادعوه لأنه تعالى لم يذكر الوجه الذى لم يجعلهم فيه أمة واحدة وجماعة، فالمراد به محذوف، لأنه يحتمل أن يجعلهم أمة فى خصال كثيرة، من حيث صح أن يشتركوا فى أمور كثيرة.
والمراد بذلك: أنه لو شاء أن يلجئهم إلى الإيمان لجعلهم أمة واحدة فيه، ولكنه أراد ذلك منهم على طريقة التكليف، فمن آمن دخل فى الرحمة، ومن ظلم لم يكن له ولى ولا نصير.
668 - وقوله تعالى: {وَالظََّالِمُونَ مََا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا نَصِيرٍ}
[8] يدل على بطلان القول بأنه، عليه السلام، يشفع للظالمين من أمته.
669 - وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [11] يدل على نفى التشبيه لأن هذه الكاف إذا دخلت على هذا الوجه وكدت نفى التماثل. وهذا كقول القائل: ليس كمثل فلان أحد، فليس لأحد أن يقول: كيف يدل على ما ذكرتم؟ ومتى حمل على حقيقته أوجب له إثبات المثل، من حيث يفيد أنه لا مثل لمثله!
670 - فأما تعلقهم بقوله تعالى: {لََا حُجَّةَ بَيْنَنََا وَبَيْنَكُمُ} [15] فى أنه عليه السلام بين أنه لا حجة عليهم له، وأن ذلك يوجب عذرهم فبعيد (1)، وذلك
__________
(1) فى الأصل «فيعذرهم» وما صوبناه لا بد من إضافته، لو كان ما فى الأصل ضروريا للمعنى، ومستقيما بدون تعسف فى التقدير.(1/673)
لأن حمله على ما يعلم ضرورة خلافه لا يجوز، ومعلوم من حاله، صلى الله عليه، أنه كان من دينه ومذهبه أن له الحجة لازمة للكفار، وأن عليهم الانقياد له ولها، فلا يصح حمله على ظاهره، مع أن من خالفنا من المجبرة لا يقول إن الكفار لا حجة للرسول عليهم، فلا يصح تعلقهم بذلك. وإنما نلزمهم نحن، على مذهبهم، أن لا يكون لله تعالى، ولا لأحد من الرسل على أحد من الكفار حجة لأن الغرض بالحجة التمسك بما توجبه عند القدرة عليه وعلى الإعراض عنه، وإن كان تعالى هو الخالق للكفر فيهم، لم يصح ذلك فيه، وإن كان تعالى يخلق فيه المعارف وإنما يحصل القوم عارفين بها فلا وجه لثبوت الحجة وتكريرها وإعادتها مرة بعد مرة، فلما أعرضوا ولم ينتفعوا قال هذا القول توبيخا وتبكيتا ليبين ذلك أن نفس الآية تتضمن الحجاج عليهم، فكيف يصح أن تتضمن مع ذلك أن لا حجة له عليهم؟ وهذا بين.
671 - وقوله تعالى: {تَرَى الظََّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمََّا كَسَبُوا وَهُوَ وََاقِعٌ بِهِمْ} [22] يدل على قولنا فى الوعيد لأن الذى كسبوه هو العقوبة المستحقة على ظلمهم، فخبر تعالى أنه واقع بهم لا محالة.
وإذا ثبت أنها دائمة، فيجب إدامة وقوعها بهم، وفى ذلك بطلان قولهم فى إلا رجاء، والشفاعة لأهل الكبائر.
672 - قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللََّهُ يَخْتِمْ عَلى ََ قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللََّهُ الْبََاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ} [24] فلا يدل على المنع مما كلفوا، لأن ظاهره ليس فيه أنه ختم على قلبه، وإنما فيه أنه لو شاء لفعل، وقد بينا أن الختم يفيد ظاهره السمة والعلامة، فلا تعلق لهم بالظاهر
المذكور فيها (1).(1/674)
672 - قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللََّهُ يَخْتِمْ عَلى ََ قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللََّهُ الْبََاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ} [24] فلا يدل على المنع مما كلفوا، لأن ظاهره ليس فيه أنه ختم على قلبه، وإنما فيه أنه لو شاء لفعل، وقد بينا أن الختم يفيد ظاهره السمة والعلامة، فلا تعلق لهم بالظاهر
المذكور فيها (1).
673 - وقوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللََّهُ الرِّزْقَ لِعِبََادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلََكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مََا يَشََاءُ} [27] يدل على بطلان قول المجبرة، لأنه تعالى بين أنه لا يبسط الرزق لئلا يقع منهم البغى، فكيف يظن مع ذلك أنه الذى يخلق الكفر والبغى فيهم؟
ويدل على ما نقول فى اللطف لأنه تعالى خبر بأنه إنما لم يبسط الرزق لهم لئلا يقع منهم البغى، ولو كان ما عنده يقع منهم ذلك بمنزلة ما عنده لا يقع فى أنه لا يجب فى الحكمة فعله، كان لا يمتنع أن يكون تعالى لم يفعل بسط الرزق لهم وقد فعل أمورا كثيرة عندها كفروا، فكان لا يكون فى أن لم يفعل ذلك فائدة ولا له معنى!
674 - وقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ}
[44] يدل على أن المراد «بالضلال العقاب والذهاب (2) بهم عن طريق الثواب.
ويدل على أن من يستحق ذلك لا ولى له ولا شفيع، وكذلك قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} [46]، لأنه تعالى إذا أضله على هذا الوجه فلا سبيل له إلى المخلص.
675 - وأما تعلقهم بقوله: {وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلََّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ} [51] فى أنه تعالى يجوز عليه الحجاب والستر، ويجوز ارتفاعه [عنه] (3)، وأن ذلك يوجب كونه جسما فبعيد، وذلك أن ظاهره إنما يقتضى أنه لا يكلم إلا من وراء حجاب، وإلا بوحى
__________
(1) انظر الفقرة: 18.
(2) فى الأصل: بالعقاب والضلال والذهاب.
(3) خرم فى الأصل، وربما كانت: لذلك، والمعنى واضح.(1/675)
وإرسال، والحجاب يحتمل أن يكون داخلا على كلامه، وعلى ذاته، وعلى المتكلم، فمن أين أن المراد ما ذكرناه (1)؟
وقد يقول أحدنا للأعجمى وقد كلمه: إنى أكلمك من وراء حجاب! والحجاب يرجع إليه لا إلى المتكلم، فإذا حصل الكلام عنه ولا يعرف المكلّم، فكأنه يجوز أن يقول: أسمع الكلام من وراء حجاب.
والمراد بالآية: أنه يفعل الكلام فى جسم محتجب عن المتكلم غير معلوم له، فمن حيث سمعه ولا يعرف الجهة يجوز أن يقال: هو مكلّم من وراء حجاب.
وعلى هذا الوجه كلم موسى، عليه السلام.
676 - وقوله تعالى: {وَلََكِنْ جَعَلْنََاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشََاءُ مِنْ عِبََادِنََا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [52] يدل على أن الهدى هو الدلالة، وهو عام فى كل مكلف، وأنه، صلى الله عليه، يهدى الجميع إلى الإيمان. وقد ثبت أن فائدة قوله: {مَنْ نَشََاءُ مِنْ عِبََادِنََا} هو إنما يهتدى بذلك من يبلغ حد التكليف من عباده، فيصلح التخصيص فيه من هذا الوجه.
__________
(1) أى: ما ذكرناه لهم. وإلا لقال: ما ذكروه. وهو الأصوب.(1/676)
ومن سورة الزخرف
677 - مسألة: قالوا: ثم ذكر تعالى فيها ما يدل على أنه الخالق للكفر والإيمان، فقال: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوََاجَ كُلَّهََا} [12] ويدل فى ذلك على ما ذكرناه.
والجواب عن ذلك: أن ظاهر الأزواج إنما يفيد الأشياء المتشاكلة المتشابهة، فلا يقع هذا القول فى الأعراض وأعمال العباد، وإنما يراد به الصور والأشخاص، الذى يظهر فيها التشابه.
وإنما أراد تعالى أن يبين بهذه الآية أنه الخالق لسائر ما ينتفعون به من الأشياء المتشاكلة التى يقع النفع بها، على طريق التمدح والامتنان، ولو كان تعالى أراد به الكفر لم يكن تمدحا، ولوجب أن يكون ذما!
678 - وقوله: {وَقََالُوا لَوْ شََاءَ الرَّحْمََنُ مََا عَبَدْنََاهُمْ مََا لَهُمْ بِذََلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلََّا يَخْرُصُونَ} [20] فقد بينا أنه يدل على إبطال قولهم فى أنه تعالى يريد ما يقع من العباد من عبادة الأصنام وسائر المعاصى، فى سورة الأنعام (1).
وقوله تعالى: {وَلَوْلََا أَنْ يَكُونَ النََّاسُ أُمَّةً وََاحِدَةً لَجَعَلْنََا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمََنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} [33] فإنه يدل على أنه لم يفعل ما يكون المكلف عنده أقرب إلى المعصية لأنه بين أنه لم يجعل الكفار بهذه الصفة لئلا يفسد غيرهم، فيكفروا، فيصيروا أمة واحدة.
ويدل على أنه تعالى إذا لم يفعل ذلك، أنه لا يجوز أن يكون خالقا لنفس
__________
(1) انظر الفقرة: 239.(1/677)
الكفر فيهم، لأنه لو كان كذلك لم يكن فى هذا القول فائدة، ولوجب أن يكون أمر المكلف موقوفا على ما يخلقه فيه من كفر وإيمان، فعل ذلك فى الكفار أم لم يفعل.
679 - وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمََنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطََاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [36] فقد بينا القول فى مثله (1).
وفى هذه الآية: الظاهر أنه أراد به أنه يقيض له فى الآخرة شيطانا يقارنه فى النار ليعرف أنه من حيث اتبعه حل به ما حل من العقوبة، فيكون أعظم لغمة وحسرته.
680 - وقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} [40] فقد بينا أن المراد به التمثيل والتشبيه لحالهم بحال الأعمى والأصم، وشرحناه (2).
681 - وقوله تعالى: {وَفِيهََا مََا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [71] لا يصح تعلق من يقول بأن الله يرى [به] إلا إذا كان مجسما يجوز أن يكون تعالى بالصورة التى تشتهى، وذلك مما لا يقتضيه الظاهر.
وبعد، فليس من قول أحد أن الله يشتهى ويلتذ به. والظاهر [لا] يوجب ذلك، فلا يصح تعلقهم به.
وبعد، فإن الظاهر إنما يوجب أن لهم فيها ما يشتهون، وما الذى يصح ذلك فيه أو لا يصح لا يعقل بالظاهر. وكما لا يصح أن يستدل بذلك على أنه تعالى يدرك لمسا وذوقا وشما، فكذلك القول فى الرؤية.
682 - وقوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذََابِ جَهَنَّمَ خََالِدُونَ} [74] يدل على الوعيد والخلود، لأنه لم يخص مجرما من مجرم، وبين أنهم خالدون فى النار، والخلود هو الدوام الذى لا انقطاع له.
__________
(1) انظر الفقرة: 456، والفقرة: 664.
(2) انظر الفقرة: 21.(1/678)
ومن سورة الدخان
683 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنََّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} [17] لا يدل على أنه خلق الكفر فيهم، لأنا قد بينا أن ظاهر الفتنة لا يقتضى الكفر، وإنما أراد تعالى بذلك التكليف وتشديد المحنة، ولذلك عقبه بذكر المعنى فقال:
{وَجََاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبََادَ اللََّهِ} [1817].
684 - وقوله: {وَلَقَدِ اخْتَرْنََاهُمْ عَلى ََ عِلْمٍ عَلَى الْعََالَمِينَ} [32] فظاهره يقتضى ما نقول من أنه تعالى اختارهم بوجه من حيث علم أنهم يصلحون لذلك، وأن فى بعثهم استصلاح العباد.
685 - وقوله تعالى: {وَآتَيْنََاهُمْ مِنَ الْآيََاتِ مََا فِيهِ بَلََؤُا مُبِينٌ}
[33] أراد (1) بذلك المعجزات، فلا يصح تعلق القوم به فيما يذهبون إليه.
686 - وقوله تعالى: {وَمََا خَلَقْنَا السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا لََاعِبِينَ مََا خَلَقْنََاهُمََا إِلََّا بِالْحَقِّ} [3938] فمن أوضح الدلالة على أنه تعالى لا يخلق إلا الحسن، وأنه منزه عن الباطل واللغو وسائر القبائح.
687 - وقوله تعالى: {فَإِنَّمََا يَسَّرْنََاهُ بِلِسََانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
[58] يدل على أن القرآن من فعله، فلذلك يصح [القول] بأنه يسره وسهل السبيل إلى معرفة المراد به.
688 - وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، يدل على أن جعله كذلك وأراد أن يتذكروا ويؤمنوا، فإذا لم يخص فيجب أن يكون أراد ذلك من الجميع، كما نقوله (2).
__________
(1) فى الأصل: وأراد.
(2) وانظر الفقرة: 184.(1/679)
ومن سورة الجاثية
689 - دلالة: وقوله تعالى {هََذََا بَصََائِرُ لِلنََّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} [20] يدل على أن الهدى هو الدلالة، على ما بيناه من قبل (1).
690 - وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئََاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} [21] فقد بينا أنه يدل على بطلان قول المرجئة، لأن قولهم لا محالة ينتهى إلى أن يقولوا بتساويهما فى باب الثواب، على ما بيناه من قبل (2).
691 - وقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلََهَهُ هَوََاهُ وَأَضَلَّهُ اللََّهُ عَلى ََ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى ََ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى ََ بَصَرِهِ غِشََاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللََّهِ}
[23] فإنه لا يدل على ما يقوله القوم، وذلك أنا قد بينا أن الختم هو السمة والعلامة (3) فلا يمتنع أن يكون تعالى قد فعل ذلك بالكافر، وقد بينا أن وجود الكافر صحيح السمع والبصر والقلب يمنع من أن يحمل الكلام إلا على طريقة التشبيه لحالهم، من حيث أعرضوا عما كلفوا ورأوا وسمعوا، وإنما شبهوا بمن ذلك حاله فى الحقيقة، وبينا أن ذلك لو ثبت فى الحقيقة لم يمنع من الإيمان، لأن الأصم والأعمى لا يمتنع عليهما الإيمان، ولا يستحيل فيهما التكليف (4).
وإنما أراد تعالى أن من (5) اتخذ غيره معبودا واتبع الهوى فى ذلك، وأضله وعاقبه على علم بأنه يستحقه، وختم على سمعه وقلبه بأن بين وحكم. فمن الذى
__________
(1) انظر الفقرة: 22.
(2) انظر الفقرة: 631.
(3) انظر الفقرة: 18.
(4) انظر الفقرة: 21.
(5) فى الأصل: ما.(1/680)
يهديه؟ منبها بذلك على أنه لا مخلص لمن هذا حاله من العذاب البتة.
692 - وقوله: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [28] يدل على ما نقوله فى العذاب، وعلى أنه لو اضطرهم تعالى إلى ذلك وخلقه فيهم لما جاز أن يستحقوا الجزاء عليه.
* * *
ومن سورة الاحقاف(1/681)
* * *
ومن سورة الاحقاف
693 - دلالة: وقوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتََابُ مُوسى ََ إِمََاماً وَرَحْمَةً}
[12] يدل على حدث القرآن لأنه إذا كان بعد كتاب موسى، متأخرا عنه، فيجب أن يكون حادثا.
ومتى قال قائل: إن المراد بذلك أن من قبله إنزال كتاب موسى، فقد زاد فى الظاهر ما ليس منه!
فإن قال: قد روى عن الرسول، عليه السلام: «كان الله ولا شيء، ثم خلق الذكر» وهو القرآن، فكيف يجوز مع هذا أن يكون بعد كتاب موسى؟
قيل له: لا يمتنع أن يكونا جميعا مرادين بالذكر فى الخبر، وإن كان كتاب موسى خلق قبل القرآن، لأن الخبر لا يدفع ذلك، فليس فى القرآن ما يوجب أن كتاب موسى حدث فى أيام موسى، فإذا صح ذلك لم يقع فيه تناف.
ولا يمنع من صحة ذلك ما ثبت من أنه تعالى فعل القرآن، وأنزله دفعة واحدة إلى سماء الدنيا، ثم كان ينزل على قدر الحاجة إليه (1) لأن ذلك لا تمتنع صحته
__________
(1) أخرج الحاكم والبيهقى والنسائى، من طريق داود بن أبى هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك بعشرين سنة، ثم قرأ: {[وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا]}. وروى عنه نحوه من طرق أخرى، قيل إن أسانيدها كلها صحيحة. انظر الاتقان: 1/ 68، الطبعة الثالثة سنة 1360.(1/682)
مع ما ذكرناه من تقدم خلق كتاب موسى له، فجميع ذلك إذن متفق غير مختلف.
694 - وأما قوله: {قََالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى ََ وََالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صََالِحاً تَرْضََاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}
[15] فلا يصح تعلقهم به فى أنه تعالى الخالق لأفعال العباد، وذلك أنا قد بينا أن الصلاح فى الدين يراد به الاستصلاح (1) الذى عند مصادفة القبول يكون العبد صالحا، لأنه لا بد من أن يكون مختارا محتملا للكلفة فيه ليستحق الثواب، فيكون صالحا به وصلاحا له، وذلك يقتضى صحة ما ذكرناه فيه، ويفارق صلاح الدنيا، لأنه قد يصح أن يكون اضطرارا، فيصلح المفعول به ذلك لا محالة، كصلاح الجسم فى الخلقة وزوال السقم، إلى ما شاكله.
فإذا ثبت ذلك، فإنما دعا الله فى إصلاح ذرّيته على هذا الحد الذى ذكرناه فى الدين، بأن يلطف لهم ويعينهم ويسهل سبيلهم إلى الطاعات، فيصيروا صالحين.
وقد مضى القول فى ذلك من قبل، ولذلك قال فى نفسه: {وَأَنْ أَعْمَلَ صََالِحاً تَرْضََاهُ}. فسأل الله تعالى أن يسهّل له الشكر على نعمه، وأن يلطف له فى أن يعمل صالحا، وكل ذلك متفق غير مختلف.
695 - وأما تعلق المرجئة بقوله تعالى: {وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمََالَهُمْ وَهُمْ لََا يُظْلَمُونَ} [19] فى أن الذى يرتكب الكبيرة من [أهل] الإيمان لا يجوز أن يضيّع، ولا بد أن يوفّى! فبعيد لأن ظاهره يقتضى أنه يوفيهم نفس أعمالهم، وذلك لا يصح، لأن عملهم قد تقضى، فلا يصح هذا الوجه فيه.
__________
(1) انظر الفقرات: 478، 479، 481.(1/683)
فإذا قالوا: المراد بذلك الجزاء المستحق عليه، فقد زالوا عن الظاهر وصاروا ينازعوننا التأويل.
فإن قال: فيجب إذا كان المراد به الجزاء أن يكون يوفيهم ذلك فى كل عمل.
قيل: إن المستحق على الفعل لا بد من أن يوفيه تعالى إذا لم يكن هناك منع، ومتى كانت معه كبائر يستحق عليها من العقاب ما يزيد على ثوابه فالثواب عندنا غير مستحق للمنع الحاصل فيه، ويكون الفاسق هو المخرج نفسه من أن يستحق ذلك بمعاصيه، فلا يجب متى لم يوفّ عليه أن يكون مظلوما، بل هو معدول عليه.
696 - وأما قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنََا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [29] فلا يصح تعلقهم فى أنه تعالى خالق فيهم الحضور عنده، وذلك أن ظاهر هذا القول لا يوجب ما ادعوه، لأن أحدنا لو حمل غيره إلى حضرة رجل لما جاز أن يقال: صرفه إليه، وإنما يقال ذلك متى فعل انصرافه وحضوره، وكذلك نقول لأن الجن الذين ذكرهم حضروا وآمنوا، فلا يمتنع أن يكون تعالى لطف لهم وأعانهم. فوصف لذلك بأنه صرفهم إليه يستمعون القرآن.(1/684)
ومن سورة محمد [صلى الله عليه]
697 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمََالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بََالَهُمْ} [54] من أقوى ما يدل على أن الهدى قد يكون بمعنى الثواب، لأنه تعالى بين أنه بعد القتل سيهديهم، فلا يصح حمله على خلق الإيمان فيهم كما يقوله المخالف، ولا على الدلالة والبيان لأن التكليف قد زال، فليس إلا ما ذكرناه، ولذلك أتبعه بقوله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهََا لَهُمْ} [6].
698 - وقوله: {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمََالَهُمْ} يدل على أن الضلال قد يكون بمعنى الهلاك، لأنه لا يمكن حمله على الضلال عن الدين على ما يقوله القوم، فليس إلا ما ذكرناه من أنه يهلكها ويبطلها، ويبين ذلك قوله من بعد: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمََالَهُمْ} [8] فأثبت فى أعمالهم من الضلال ما نفاه عن أعمال من قتل فى سبيل الله، فالمراد واحد على ما ذكرناه.
699 - وقوله تعالى، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زََادَهُمْ هُدىً} [17] يبين أن الهدى قد يكون بمعنى الدلالة والبيان، لأنه لا يمكن أن يحمل الأمر فيه على خلق الإيمان فيهم، لأنه وصفهم بالاهتداء، فلا بد من أن يكون محمولا على زيادات الأدلة. وقد بينا أن المهتدى هو المتمسك بالأدلة، والعامل بموجبها لا بد من أن ترد عليه خواطر من قبل الله تعالى تزيده بصيرة إلى ما هو عليه من المعرفة، فيشرح بذلك صدره ويكون إلى الثبات على الاهتداء أو الطاعة أقرب، وهذا مما يعرفه العالم من نفسه، لأنه كلما كثر نظره تكون معرفته بالشيء الواحد أقوى. وقد يجوز أن يخطر ببالهم ما تحل به الشبه الواردة عليهم فى النظر والمعرفة فيزيدهم ذلك سكونا وثلج صدر، وهذا أيضا معروف من حال العلماء.(1/685)
700 - وأما قوله {أُولََئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللََّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى ََ أَبْصََارَهُمْ أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [2423] فقد بينا أنه لا يمكن للقوم حمله على ظاهره (1)، لأن من لعنه الله لا يجب أن يختص بالعمى والصمم، بل أكثرهم بخلاف هذه الصفة، ولو اختصوا بذلك لم يمنعهم من التدبر والقيام بأداء ما كلفوا. فالمراد بذلك ما قدمنا من تشبيه حالهم بحال الأعمى الأصم، من حيث لم ينتفعوا بما سمعوا ولم يتدبروا، فشبه حالهم بما ذكرناه، كما يقال لمن لا يفهم بعد أن تبين له، وتكرر القول مرة بعد أخرى: إنه حمار وأعمى، قد طبع على قلبه، على طريق التشبيه والتمثيل:
701 - وقوله: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} يدل على وجوب النظر.
ويدل أيضا على بطلان قول المجبرة، لأن تدبرهم لو كان من خلق الله تعالى فيهم لما جاز أن يبكتوا بهذا القول، وأن يبعثوا على التدبر له، لأنهم إن خلق الله فيهم التدبر، فلا بد من أن يكونوا متدبرين على كل حال، وإن لم يخلق ذلك فيهم فكمثل، فكيف يصح على هذا القول البعث على التدبر، والتوبيخ على تركه؟
702 - فأما تعلقهم بقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللََّهُ أَضْغََانَهُمْ} [29] فى أن ما يحصل فى قلوبهم من المرض والكفر من فعله تعالى، وهو الذى يدخلهم فيه ويخرجهم عنه، فبعيد، وذلك أن ظاهره يقتضى إثبات مرض فى قلوبهم فقط، من غير بيان ذكر فاعله، وإن كان لو أضيف إليه تعالى لكان ظاهره إنما يقتضى أن يخلق فى قلوبهم المرض والغم، وهذا مما لا نأباه، على ما ذكرناه فى سورة البقرة (2).
وإنما أراد تعالى بهذه الآية: المنافقين الذين استسروا عداوة الرسول، عليه
__________
(1) انظر الفقرة: 18والفقرة 278.
(2) انظر الفقرة: 19.(1/686)
السلام، وتواطئوا على الإضرار به، فلما أظهر تعالى عنهم هذه الحال جاز أن يوصف بأنه أخرج أضغانهم:
703 - فأما تعلق من يقول بحدث العلم بقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتََّى نَعْلَمَ الْمُجََاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصََّابِرِينَ} [31] فلا يصح، لأن علمه بحالهم وحال ما كلفهم لو لم يتقدم لقبح التكليف والابتلاء أصلا، لأنه إنما يحسن من المكلف يأمر بما يعلم حسنه واختصاصه بصفات زائدة تقتضى فيه كونه واجبا وندبا، فاذا صح ذلك [فلا بد] من أن يكون عالما بذلك، وبأن المكلف يتمكن من فعله على الوجه الذى كلّف، فكيف يصح مع هذا أن يكون علمه بحالهم حادثا بعد التكليف والابتلاء؟
فالمراد بالآية: ولنأمرنكم بالمجاهدة والصبر حتى يقع الجهاد والصبر منكم وتتميز حالكم من حال من لا يجاهد فتكون لفظة «حتى» داخلة على نفس الجهاد، من وقت وقوعه ومفارقته لمن عصى، لا على نفس العلم: وهذا كما يقول أحدنا:
ما علم الله متى ما ذكرته، وإنما يعنى بذلك نفى المعلوم لا نفى العلم.
704 - وقوله: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللََّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلََا تُبْطِلُوا أَعْمََالَكُمْ} [33] يدل على الإنسان قد يبطل عمله الذى فعله، وقد علمنا أن ما وقع لا يجوز أن يبطله، وليس ذلك فى المقدور، لأنه قد تقضّى ووقع. فالمراد إذن: لا تبطلوا الثواب المستحق عليه. وفى ذلك دلالة على أن فى الطاعات ما يبطل ثوابه بالمعاصى، على خلاف ما يقول بعض المرجئة فى ذلك.(1/687)
ومن سورة الفتح
705 - أما تعلقهم بقوله: {إِنََّا فَتَحْنََا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللََّهُ مََا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمََا تَأَخَّرَ} [21] فى أن ما لم يفعله من الذنب يجوز أن يؤاخذ به ولذلك صح التماس المغفرة فيه فبعيد، وذلك أنه تعالى ذكر أنه يغفر فى المستقبل ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وذلك غير ممتنع أن يكون ما تقدم ذنبه قبل النبوة وما تأخر منه بعد النبوة يغفرها فى الآخرة له، وفى الدنيا بعد وقوعها، فليس فى الظاهر ما ذكروه، فيصح تعلقهم به.
ولا يمتنع أن يكون الفتح الذى فتحه الله عليه مصلحة فى كثير من الطاعات المستقبلة التى تقتضى غفران ذنبه، فلذلك قال تعالى هذا القول. ومتى لم يحصل على هذا القول لم يكن لغفران الذنب تعلق بالفتح. وقد علمنا أن ذلك لا يصح.
706 - فأما إضافته تعالى الفتح إلى نفسه فلأنه أعان ونصر وسهل وقوى وثبت أقدامهم، فصح بهذه الأمور أن يضيف ذلك إلى نفسه على ما تقدم ذكره (1).
707 - وقوله تعالى: {وَيَنْصُرَكَ اللََّهُ نَصْراً عَزِيزاً} [3] فقد بينا من قبل وجوه النصرة كيف تقع (2)، وعلى أى سبيل يكون من فعله تعالى، فلا وجه لإعادته، لأنا قد بينا أنه ينصر بسائر وجوه النصرة، بالحجة والمعونة وتثبيت الأقدام، وتقوية النفوس، والإمداد بالملائكة، إلى غير ذلك فيصح بذلك أجمع أن يصف نفسه بأنه نصر الرسول والمؤمنين.
__________
(1) انظر الفقرات: 42، 98، 85.
(2) انظر الفقرة: 98والفقرة: 171.(1/688)
708 - فأما تعلقهم بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدََادُوا إِيمََاناً مَعَ إِيمََانِهِمْ} [4] فى أنه تعالى يخلق إيمان المؤمن، فبعيد، وذلك أن الظاهر إنما يقتضى أنه أنزل السكينة فى قلوبهم، ولفظة «الإنزال» لا تقتضى الخلق، فكيف يصح تعلقهم بالظاهر؟
والمراد بذلك: أنه سكّن قلوبهم وآمنهم من العدو، فمن حيث فعل ذلك كان منزلا السكينة فى قلوبهم، ليزدادوا إيمانا، ويقووا على الجهاد، ويطلبوا الظفر.
وهذا هو المراد بقوله تعالى بعد ذلك: {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثََابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغََانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهََا} [1918] وقوله تعالى من بعد: {فَأَنْزَلَ اللََّهُ سَكِينَتَهُ عَلى ََ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [26].
ومتى حمل الكلام على ما ذكرنا كان الكلام على الحقيقة، لأن الأمر الذى تأولناه عليه من فعله تعالى. وإن كان فى شيوخنا، رحمهم الله، من تأوله على معنى اللطف والمعونة وأنه تعالى لما فعل هذه الأسباب الداعية لهم إلى إثبات القلب وسكونه، جاز أن يضيف ذلك إلى نفسه.
709 - فأما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبََايِعُونَكَ إِنَّمََا يُبََايِعُونَ اللََّهَ يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [10] فلا يصح تعلق المشبهة به فى إثبات اليد لله تعالى، وذلك أن ظاهره يوجب جواز المصافحة عليه، وجواز اليمين على يده، حتى يصح فيه معنى الفوق، وقد علمنا أن القوم لا يجوزون ذلك!
ولا يكون فى وصفه تعالى بأن يده فوق أيديهم، على معنى المكان على هذا الوجه فائدة، لأن الضعيف قد تكون يده فوق يد القوى. فالمراد إذن بالآية «إذا علمنا (1) أن المقصد أنه أقوى منهم وأقدر، مبينا بذلك أنهم إذا نكثوا
__________
(1) كذا الأصل، ولعل الصواب إن لم تكن زائدة «أن يعلمنا».(1/689)
البيعة فالله تعالى يقدر عليهم وعلى إنزال العقوبة بهم.
710 - وقوله تعالى: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هََذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النََّاسِ عَنْكُمْ}
[20] ثم قوله من بعد: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [24] فلا يدل ظاهره على أنه تعالى خلق أعمالهم، وذلك أن المعقول بالتعارف إذا قال القائل: كففت فلانا عن فلان أنه فعل الأسباب التى معها كف عن الإقدام، ولا يعقل من ذلك أنه قد اضطره، فهذا هو المراد بالظاهر.
فإذا منعهم تعالى من مقاتلة الكفار بالنهى والزجر، ومنع الكفار من ذلك بإلقاء الرعب فى قلوبهم، جاز أن يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ}، وقد تقدم نظائر ذلك من قبل.
* * *
ومن سورة الحجرات(1/690)
* * *
ومن سورة الحجرات
711 - أما قوله تعالى: {وَلََا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمََالُكُمْ وَأَنْتُمْ لََا تَشْعُرُونَ} [2] فإنه يدل على أن ثواب الإنسان ينحبط بما يستحقه من العقاب على الكفر والفسق، على ما نذهب إليه فى الإحباط والتفكير، وذلك يبطل قول من ينفى ذلك من المرجئة.
712 - وقوله تعالى: {وَلََكِنَّ اللََّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمََانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيََانَ} [7] فانه يدل (1) على أمور:
منها: انقسام المعاصى إلى هذه الأقسام الثلاثة، وأن كل قسم منها يتميز عن صاحبه، فلا يكون داخلا فى جملته، فقد تكون المعصية من باب الفسق خارجة من باب الكفر، وقد تكون معصية صغيرة خارجة عن البابين جميعا. وهذا يبطل قول من يقول إنه ليس فى المعاصى صغائر، وقول من لا يثبت الفاسق بالإطلاق إلا الكافر.
ومنها: أنه يدل أنه يحب من جميع المكلفين الإيمان، ويكره منهم ضده من الوجوه الثلاثة، لأنه لم يخص فى الخطاب مكلفا من مكلف، ولا يجوز أن يكون محببا إليهم إلا ما يريده منهم، ولا يجوز أن يكره إليهم إلا ما يكرهه، والمحبة المذكورة لا يجوز أن تكون الشهوة، لأن المؤمن لا يشتهى ما يفعله من الإيمان لكونه شاقا عليه، وإنما يشتهى المرء ما يتلذذ به ويسر.
فاذا صح ذلك، وجب أن يكون المراد به الإرادة، وقد علمنا أن الإرادة تقع من المؤمن على طريق الاختيار لا على طريق الاضطرار. فالمراد إذن بالكلام أنه فعل ما عنده أحب المؤمن الإيمان من الأمر والوعيد والترغيب.
__________
(1) فى الأصل: فإنها تدل. ولا وجه للحديث عن «الآية».(1/691)
وأما قوله تعالى: {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}، فمحمول على ظاهره، لأن خبره عن الإيمان ووعده عليه الثواب، يوصف فى الحقيقة بأنه يزين الإيمان.
وفعل تعالى من النهى والوعيد والتخويف ما بعث به المكلف على كراهة الكفر والفسق، ولذلك صح أن يضيفه إلى نفسه، وإن لم يفعل نفس الكراهة فيه.
713 - وقوله تعالى: {وَإِنْ طََائِفَتََانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمََا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدََاهُمََا عَلَى الْأُخْرى ََ فَقََاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتََّى تَفِيءَ إِلى ََ أَمْرِ اللََّهِ} [9] فانه لا يدل على أن الباغية منهما مؤمنة فى تلك الحال على ما تقوله المرجئة، وذلك لأنه وصفها بالإيمان ولما وقع البغى والقتال، وهذا كقولنا: إن المؤمن إذا ارتد وجب قتله، ولا يوجب ذلك كونه مرتدا فى حال إيمانه!
والآية دالة على ما نقوله من أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يجب (1)
لأنه تعالى أوجب الإصلاح بينهما، لأن حالهما لا يخلو من وجهين: إما أن يكونا مبطلين. أو أحدهما محق والآخر مبطل، لأنه لا يصح كونهما محقين جميعا والحال هذه، ولا بد من أن يكون القتال الواقع منهما قبيحا، فأوجب الله تعالى الإصلاح بالقول وما يجرى مجراه، ثم بين أن ذلك إذا لم يصادف القبول وبغت
__________
(1) الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، هو الأصل الخامس من أصول المعتزلة، وهو موضع اتفاق الأمة الإسلامية (إلا ما يحكى عن شرذمة من الإمامية لا يقع بهم وبكلامهم اعتداد) كما يقول القاضى. والغرض به ألا يضيع المعروف ولا يقع المنكر ولذا يمكن عده من الأصول العملية فمتى حصل هذا الغرض بالأمر السهل لا يجوز العدول عنه إلى الامر الصعب.
كما تشير إلى ذلك الآية، وكما تقرر فى العقول.
انظر شرح الاصول الخمسة للقاضى، بتحقيق الأستاذ الدكتور عبد الكريم عثمان، ص:
148141 - وص: 741فما بعدها.(1/692)
أحدهما، وجب كفهما عن البغى بالمقاتلة. ونبه بهذين الطريقين اللذين أحدهما الإصلاح بالقول، والآخر بالقتال، على ما بينهما من الوسائط، مما يقرب عنده كف الباغى عن البغى، ولو كان الأمر على ما تقوله المجبرة لم يكن لذلك معنى، لأنه تعالى إن خلق فيهم المقاتلة فالإصلاح لا يؤثر، فان لم يخلق ذلك فكمثل، وكذلك كل من ينهاه عن منكر، فعلى قولهم لا فائدة فى النهى عنه، لأن أمره فى المستقبل موقوف على خلقه تعالى فيه المنكر أو ضده، فما الفائدة فى ذلك؟
وإنما يصح على مذهبنا، لأنا نبعث بذلك المقدم على المنكر إلى الكف عن أمثاله فى المستقبل، ونكون نحن عند ذلك أقرب إلى الامتناع من المنكر.
فأما على مذهبهم لا فائدة فيه على وجه، وكذلك الأمر بالمعروف.
714 - وقوله {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمََانِ} [11] فمن قوىّ ما يدل على أن الفاسق لا يجوز أن يكون مؤمنا، لأنه لو صح اجتماع الأمرين، لم يكن لترتيبه لهما على الوجه الذى ذكره (1) معنى!
715 - وقوله تعالى: {قََالَتِ الْأَعْرََابُ آمَنََّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلََكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنََا} [14] فإنه لا يدل على أن الإيمان غير الإسلام، وذلك أن المراد بهذا الكلام أنهم لم يؤمنوا فى الحقيقة، وانقادوا واستسلموا، فذكر تعالى فى حالهم ما ذكر يبين ذلك أنه تعالى قال: {وَلَمََّا يَدْخُلِ الْإِيمََانُ فِي قُلُوبِكُمْ}
[14] ومن لم يدخل الإيمان فى قلبه البتّة، لا يكون مسلما عند أحد إلا بعض المتأخرين فإنه يقول فى مظهر الشهادتين إنه مسلم، لكنه لا يقول مع ذلك إنه مؤمن أيضا، فلا يقدح خلافه فيما ذكرناه.
__________
(1) فى الأصل: ذكروه.(1/693)
716 - وقوله تعالى: {بَلِ اللََّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدََاكُمْ لِلْإِيمََانِ}
[17] فإنه يدل على أن الهدى غير الإيمان من حيث فصل بينهما، ويدل على أن الإيمان هو الإسلام لأنه قال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا، قُلْ لََا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلََامَكُمْ بَلِ اللََّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدََاكُمْ لِلْإِيمََانِ} [17] ولو كان أحدهما غير الآخر لم يكن للثانى تعلق بالأول.
* * *
ومن سورة ق(1/694)
* * *
ومن سورة ق
717 - دلالة: قوله: {قََالَ لََا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مََا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمََا أَنَا بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ} [2928] يدل على أن الوعيد الوارد عن الله لا يتبدل ولا يتغير. وأنه لا يجوز أن يكون فيه إضمار وشرط. ولا أن يكون خارجا على وجه التعمية. ولا يجوز فيه الخلف، لأن كل ذلك يقتضى التبديل، وقد أبى الله تعالى ذلك فى وعيده.
وبين أنه وإن فعل ما توعّد به، فليس بظلام للعبيد، لأنه لم يفعل بهم إلا ما استحقوه من العقاب على ما كان منهم من المعاصى.
وتنزيهه تعالى أن يكون ظلّاما للعبيد يدل على أنه لم يفعل الظلم ولا القبيح، على ما قدمنا ذكره فى نظائره (1).
718 - وقوله تعالى: {لََا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ}، يدل على بطلان مذهب المجبرة، لأنه بين [أنه] لا فائدة فيما يخاصمه قرينه فى الآخرة، فلو كان الأمر على ما يقوله القوم، لوجب أن يكون المؤكّد لعذرهم والمزيل للعقاب عنهم، ما وجب كونهم خصما لله تعالى! بأن يقولوا إنما كفرنا لأنك خلقت ذلك فينا وأوجبته بالقدرة التى لا تخلو عند وجودها من الكفر، وبالإرادة وبقدرة الإرادة، فكيف يجوز أن تعذبنا وقد منعتنا ولم تسهل لنا السبيل إلى ما فرضته علينا، بل منعتنا من فعله بوجوه من المنع، فكيف المخلص لنا من الكفر، وهل ما تفعله فينا من العقاب إلا بالكفر الذى فعلته، فى أنه لا سبيل لنا إلى التخلص منه؟! فتكون
__________
(1) انظر الفقرة: 145.(1/695)
هذه الخصومة مبينة لعذرهم، ومزيلة للعقوبة، إن كان القديم تعالى ممن يعمل بالحكمة والصواب. تعالى الله عما يقوله القوم علوا كبيرا.
719 - وقوله تعالى: {لَهُمْ مََا يَشََاؤُنَ فِيهََا وَلَدَيْنََا مَزِيدٌ} [35] لا يدل على أنه، عليه السلام، يشفع لهم من حيث ضمن الزيادة، فلا يكون فى الشفاعة فائدة، وذلك أنه تعالى بين أن لهم المزيد عنده، ولم ينف أن يكون ذلك بالشفاعة ولا أثبتها، فيجب أن يكون الأمر موقوفا على الدليل، وإن كان لا يمتنع أن يقال إن هناك زيادتين: إحداهما هذه، والأخرى تنال بالشفاعة، فلا يتنافى ذلك.
720 - وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا فِي سِتَّةِ أَيََّامٍ} [38] وتعلقهم بذلك فى أنه الخالق لأفعال العباد، فقد تقدم القول فيه من قبل (1).
721 - وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخََافُ وَعِيدِ} [45] لا يدل على أن من (2) لا يخاف ذلك لا يذكّر بالقرآن. وإنما خصه بالذكر، لأنه الذى انتفع به عاجلا بالاعتبار والتذكر والانزجار، والكلام فى ذلك كالكلام فى قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} وقد تقدم ذلك (3).
* * * __________
(1) انظر الفقرتين: 24، 521.
(2) فى الأصل: يومن.
(3) انظر الفقرة: 16.(1/696)
ومن سورة الذاريات
722 - قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنََا مَنْ كََانَ فِيهََا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمََا وَجَدْنََا فِيهََا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [3635] يدل على أن الإيمان هو الإسلام، وإلا لم يصح فى المعنى استثناء أحدهما من الآخر، ويحل الكلام فى محل قول القائل: فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير جماعة من العرب! فى أن ذلك لغو لا فائدة فيه.
723 - وقوله تعالى: {فَأَخَذْنََاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنََاهُمْ فِي الْيَمِّ} [40] قد تقدم القول فيه فى الشعراء (1).
724 - وقوله: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنََا زَوْجَيْنِ} [49] قد بينا أن المراد بذلك الأشياء المشاكلة التى يحصل لها بالانضمام حكم وفعل، لولاه لما حصل (2)، ولذلك يقال فى الذكر والأنثى: زوجين، ويقال: زوج نعل، وزوج خف إذ حصل لها بالاقتران الحكم المعقول، وذلك لا يصح فى أفعال العباد، فلا يمكن أن يدّعوا دخوله فيه.
وقد فسر تعالى ذلك فى سورة النجم، فقال: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ََ} (3) فبين أن المراد بذلك ما قلناه.
725 - فأما قوله تعالى: {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ}
__________
(1) يعنى المؤلف فيما يبدو الآيتين: 6564. راجع الفقرة: 528. على أنه قد تقدم شرح المؤلف لقوله تعالى: {[فَأَخَذْنََاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنََاهُمْ فِي الْيَمِ]} من سورة القصص.
انظر الفقرة: 556.
(2) انظر الفقرة: 677.
(3) الآية: 45.(1/697)
[56] فبين فى الدلالة على أنه خلق جميعهم للعبادة، وأنه أراد منهم ذلك إذا بلغهم حد التكليف، فأما المجنون ومن لم يبلغ هذا الحد، فلا يجوز دخوله فى الكلام لأنه يتضمن أنه أراد العبادة ممن تصح منه.
ولا يمكن حمله على أن المراد الانقياد بما يريده من الخضوع والخشوع، على ما زعمه بعض من يقول فى المعارف إنها ضرورية، وذلك أن ظاهر العبادة هو ما يختاره العبد من الفرائض التى يقوم بها، ومن النوافل، دون ما ذكروه، وإن كنا نخالف القوم فيما قالوه، ونقول فى المعارف: إنها اكتساب إذا كانت معارفا بالله تعالى، وبالرسول، صلى الله عليه، وبالشرائع (1).
ولا يجوز أن تحمل الآية على أن المراد بها من العموم أنه يعبد، لأن ذلك تخصيص من غيره دلالة، فإن قال: يدل على ذلك قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنََا لِجَهَنَّمَ} (2)، قيل له: لا بد فى هذه الآية من حذف مقدر، فإما أن تقدر فيه: ولقد ذرأنا للكفر الذى يؤديهم إلى جهنم، أو لكى يدخلوا جهنم، لأنه لا يجوز أن يكون خلقهم تعالى لجهنم، التى هى للأجسام المخصوصة، فإذا وجب ذلك، حصلت الآية داخلة فى المجاز، فوجب حملها على مطابقة ما قدمناه، وذلك يقتضى أن يكون المراد باللام الداخلة فيها العاقبة، على ما قدمناه من قبل.
726 - وقوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ هُوَ الرَّزََّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [58] فلا يدل على إثبات القوة بما يصير قويا قادرا، على ما يقوله أصحاب الصفات (3)،
__________
(1) انظر ص 52فما بعدها من شرح الأصول الخمسة، للقاضي.
(2) الآية: 179من سورة الأعراف، وانظر الفقرة: 269.
(3) انظر ص: 185فما بعدها من شرح الأصول الخمسة.(1/698)
وذلك أن إضافة القوة إليه على هذا الحد، لا تفيد أنها قوة له يصير بها قويا، لأن هذه الإضافة قد تجرى على وجوه شتى، وقد بينا ذلك من حالها (1)، فمن أين أنه تعالى هو القوى بها دون أن تكون قوته لغيره، وأضيفت إليه من حيث كانت عطية من جهة؟
والمراد عندنا بذلك: أنه قوى على الأمور، قادر عليها، ولا يجوز أن يمنعه مانع منها. وعلى هذا الحد من المجاز وصف نفسه بأنه متين، لما كان المتين منا الصلب: هو الجسم يكون أقوى من غيره، فلما أراد تعالى المبالغة لنفسه فى الوصف بالقوة، قال هذا القول.
__________
(1) انظر الفقرة: 85والفقرة: 42.(1/699)
ومن سورة الطور
727 - أما تعلقهم بقوله {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمََانٍ أَلْحَقْنََا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [21] فى أن الابن يصير مؤمنا بايمان الأب، وأن ذلك إذا صح فيه، لم يتمنع أن يكون طفل الكافر كافرا بكفر أبيه فى الحقيقة، فبعيد، وذلك أنه ليس فى ظاهره إلا أنه ألحق ذرّيتهم بهم، وليس فيه بيان أنهم غير بالغين، فقد يقع هذا القول على أولاد الرجل وإن بلغوا، ولذلك قال تعالى:
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دََاوُدَ وَسُلَيْمََانَ} (1).
فإذا صح ذلك، فالمراد: أنه تعالى ألحقهم بهم من حيث شاركوهم فى الإيمان، فاستحقوا ما استحقوه من الثواب والجزاء، ولذلك قال تعالى: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمََانٍ} فخبر عن الوجه الذى اتبعتهم فيه. وقد قال تعالى فى آخره:
{كُلُّ امْرِئٍ بِمََا كَسَبَ رَهِينٌ} (2) مبينا بذلك ما ذكرناه.
728 - وقوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [35] هو إثبات الفاعل الخالق، وهو المراد بالشيء المذكور لأن الدلالة قد دلت عندنا على أن الفاعل يخترع فعله، لا أنه يفعل الفعل من شيء سواء، فالمراد إذن ما ذكرناه.
729 - وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنََا} [48] لا يدل على ما تقوله المشبهة لأن ذلك يوجب أن يكون له أعينا، وليس أوّل الجمع بذلك أولى من آخره! فيوجب ذلك إثبات عيون له لا آخر لها، وأن لا يوقف على حد لا يصح إثبات أكبر منه، وذلك يبطل قولهم، لأن من يصرح بالجسم منهم، وبإثبات الجوارح، يثبته كمثل صورة آدم، ولا يثبت له إلا عينين. فيجب أن يكون المراد بذلك: إثباته عالما بجميع ما يحصل من العباد.
وهذا كما يقال: إن هذا الشيء وقع بمرأى منى ومسمع إذا كان عالما بتفصيله.
__________
(1) الآية: 84من سورة الأنعام.
(2) تتمة الآية السابقة 21: {[وَمََا أَلَتْنََاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. كُلُّ امْرِئٍ بِمََا كَسَبَ رَهِينٌ]}.(1/700)
ومن سورة النجم
730 - وقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ََ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ََ}
[1413] ربما استدل [به] بعض الجهال فى أنه تعالى يرى، وأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رآه مرة بعد مرة. وهذا باطل، لأن المراد بذلك جبريل، عليه السلام، والكلام يدل عليه، لأنه قال من قبل: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ََ، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ََ، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ََ ثُمَّ دَنََا فَتَدَلََّى} [85] وهذا كله من صفات جبريل، عليه السلام، ثم قال بعد ذلك: {مََا كَذَبَ الْفُؤََادُ مََا رَأى ََ} [11] فأثبته رائيا مرة، ثم قال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ََ} [13] فأثبته له رائيا مرة أخرى، ورسول الله، صلى الله عليه، وإن رآه الكثير، فلم يره على صورته التى هو عليها إلا هاتين المرتين، ومتى قال القائل إن فى جميع ذلك المراد هو الله، فقد علمنا أنه تعالى لا يوصف بالدنو والتدلّى، ولا يحد بقاب قوسين أو أدنى، لأن كل ذلك يستحيل فيه!
وبعد، فلم صار بأن يحمله على أنه المراد بأولى مما ذكرناه، وليس فى الكلام ما يوجب لما قاله مزية، بل الذى قلناه أولى. لأن الذى يتحمل الوحى إليه، صلى الله عليه، هو جبريل، وذكره قد تقدم، فرجوع الكلام إليه أولى، وإن كان لو تقدم ذكرهما، لوجب ما قلناه لأن الوصف المذكور يليق بجبريل دونه تعالى، ولأن العقل قد دل على استحالة الحركات عليه، والمجيء والذهاب.
731 - وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبََائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوََاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وََاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [32] فانه يدل على أن الإلمام بصغائر المعاصى يغفر باجتناب الكبائر، ويجرى ذلك مجرى قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبََائِرَ مََا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئََاتِكُمْ} (1).
__________
(1) الآية: 41من سورة النساء.(1/701)
732 - فأما دلالة قوله تعالى: {وَإِبْرََاهِيمَ الَّذِي وَفََّى أَلََّا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسََانِ إِلََّا مََا سَعى ََ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ََ}
[4037] على أن أحدا لا يؤخذ بذنب غيره، وأنه يجازى عليه فعله، وأنه لا يجوز أن يكون ما يجازى عليه من خلق الله فيه فبين لا يحتاج فيه إلى الإكثار فيه.
733 - وأما تعلقهم فى المخلوق بقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ََ}
[43] فى أنه تعالى يحلق الضحك والبكاء، وأن ذلك حكم سائر الأفعال فبعيد، وذلك أن ظاهره إنما يقتضى أنه أضحك وأبكى، ولم يذكر متى فعل ذلك وفيه (1)، وليس فيه الكلام ما يوجب ذلك العموم فيحمل عليه، لأن هذا القول يصح إذا كان ما فعله من الضحك أقل ما يقع الاسم عليه، فهو كقولنا: فلان ضرب فى أنه لا يقتضى العموم.
وبعد، فلو ثبت أنه أضحك وأبكى، لم يوجب ذلك فى أفعال العباد ما قالوه، لأن البكاء الذى هو إرسال الدمعة، من فعله تعالى، والضحك الذى هو التفتح، قد يجوز أن يكون من لعله، ولا ينافى إضافة الأمرين إليه، ما نقوله من أن العبد فاعل فى الحقيقة.
وبعد، فان ذلك يوجب أن يوصف تعالى من كل فعل فعله عندهم بمثل ذلك، فيقال: إنه تعالى جهّل وفسّق وقتل، إلى سائر الأسماء المشتقة، ولا يرتكب القوم ذلك.
فالمراد بالآية: أنه تعالى فعل السبب الذى عنده وقع منهم ذلك، وأراد بالضحك ما قالوه من السرور، وبالبكاء خلافه.
__________
(1) لعل الصواب: وفيمن.(1/702)
وقد قيل: إن المراد بذلك العقاب والثواب.
734 - فأما قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى ََ وَأَقْنى ََ} [48] فلا يدل إلا على ما يقتضيه ظاهره من أنه المغنى، وكذلك نقول: إن جميع ما يستغنى به المؤمن [من] الأموال، هو من عند الله تعالى وإن كان يختلف حاله ففيه ما يحصل له بكسب ومشقة، ومنه ما يحصل إليه عفوا من غير كد وطلب.
وما يصل العبد إليه ويحتوى عليه من الحرام لا يستغنى به فى الحقيقة، فلا يدخل تحت الظاهر على وجه (1).
* * * __________
(1) انظر التعليق على الفقرة: 31.(1/703)
ومن سورة القمر
735 - أما قوله تعالى: {وَحَمَلْنََاهُ عَلى ََ ذََاتِ أَلْوََاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنََا} (1) [1413] [وما] يستدل بذلك فى إثبات العين له تعالى، فقد بينا [5] من قبل (2)، وبينا أن الله تعالى هو الحامل لراكب السفينة فى الفلك، بالأمور التى يفعلها فى الماء حتى يجرى أو يقف، فلا تعلق للمجبرة فى ذلك (3).
736 - وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [17] (4) يدل على أنه تعالى بعثهم على الادكار وعلى الاتعاظ، وعلى أن يقوموا بالواجب فى ذلك، ولا يجوز أن يكون كذلك إلا وقد أراد ذلك من جميعهم، فلا تخصيص. وذلك يدل على أنه قد أراد من الكفر الطاعة، كما أراد من المؤمن.
737 - فأما قوله تعالى: {إِنََّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنََاهُ بِقَدَرٍ} [49] فلا يدل على ما نقوله المجبرة، من أنه تعالى يخلق أفعال العباد، وذلك أن الآية واردة فى النار وعذابها، فقال تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النََّارِ عَلى ََ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنََّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنََاهُ بِقَدَرٍ} [4948] فبين ذلك أنه لا يعذب أحدا إلا بقدر استحقاقه.
ولو حمل على العموم، لصلح أن يقال: إن كل شيء خلقه بقدر لأنه ممن
__________
(1) موضع الحديث فى الآية قوله: {[تَجْرِي بِأَعْيُنِنََا]} ولم يذكر فى الأصل.
(2) انظر الفقرة: 343.
(3) انظر الفقرة 378، والفقرة: 489.
(4) ووردت الآية كذلك ثلاث مرات أخرى فى السورة: الآيات رقم: 22، 32، 40.(1/704)
لا يجوز عليه السهو والغفلة فى أفعاله تعالى، كالواحد منا، فلا يقع الشيء إلا مقدرا.
738 - وقوله تعالى: {وَمََا أَمْرُنََا إِلََّا وََاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}
[50] يدل على أنه ليس بجسم، لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يفعله يجرى على حد واحد، بل كان يجب أن يكون بعضه أسبق (1) من بعض، وأن يحتاج فى بعض إلى تطاول الأوقات دون بعض، فلما بين تعالى أن سائر ما يريده متفق، وأنه يقع على ما يريده، كلمح بالبصر، من غير تأخير، دل ذلك على أنه ليس بجسم، وأنه قادر لذاته، يخترع الأفعال كيف شاء وأراد.
* * * __________
(1) تقرأ فى الأصل: أسبق، وأشق.(1/705)
ومن سورة الرحمن
739 - أما قوله تعالى: {الرَّحْمََنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسََانَ عَلَّمَهُ الْبَيََانَ} [41] [فإنه لا يدل على قولهم فى المخلوق لأن الله أضاف إلى نفسه تعليم البيان] (1) والقرآن لأن العلم بهذين ضرورى، ولا يمكن إلا من قبله تعالى، فأما العلم بالقرآن، فهو الحفظ له على الوجه الذى يمكنه أن يؤديه ويتلوه.
وأما العلم بالبيان، فهو العلم بكلام العرب، ومواضعتها، ومواقع فائدته، وذلك كله ضرورى يحصل بالعادة، فلا يمتنع من إضافتها جميعا إلى الله تعالى على الحقيقة، وذلك يدل على حدث القرآن لأن تعلمه إنما هو طريقة الحفظ لترتيبه، وذلك يقتضى حدثه. ولا يجب من حيث فصل بين القرآن وبين الإنسان، فوصفه بأنه علمه، والإنسان بأنه خلقه، أن يدل فى ذلك على أن القرآن ليس بمخلوق، على ما زعمه بعض الجهال، وذلك لأن كون الشيء موصوفا لا يمتنع من أن يختص بصفة أخرى. فما الذى يمنع من أن يكون تعالى خلق الأمرين، وإن كان فى هذه الآية لم يذكر إلا خلق الإنسان؟!
وكان يجب على هذه الطريقة أن يكون البيان غير مخلوق أيضا، لأنه تعالى فرق بينه وبين الإنسان. وكان يجب مثل ذلك فى سائر الأجسام من حيث خص تعالى الإنسان بالذكر. وهذا فى نهاية البعد.
740 - وأما قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهََا فََانٍ وَيَبْقى ََ وَجْهُ رَبِّكَ}
[2726] فلا يدل على إثبات وجه له، تعالى عن قولهم، وذلك لأن الوجه قد يراد به ذات الشيء. وعلى هذا تقول العرب: هذا وجه الرأى، ووجه الأمر، ووجه
__________
(1) خرم فى الأصل. على أن القاضى رحمه الله يستدل بالآية، من وجه آخر، على حدث القرآن.(1/706)
الطريق. ومتى كان الكلام فيما لا بعض له، فلا شك أن المراد به ذاته، فيختلف موقع هذه اللفظة بحسب حال ما يستعمل فيه، فإذا صح ذلك وجب أن يكون المراد بذلك: ويبقى ربك.
741 - وأما تعلق المشبهة بقوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [29] وبقوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلََانِ} [31] فى أن الفراغ والشغل لا يجوز ان إلا على الأجسام، وهى التى يجوز عليها الشأن، إذا هى اشتغلت بالفعل، فلولا أنه تعالى جسم، لما صح ذلك عليه فبعيد، وذلك أن ظاهر الشأن لا يقتضى ما قالوه، لأنه الأمر الذى يفعله القادر ويؤثره على غيره، فلا يمتنع أن يوصف تعالى بذلك، وإن كان ممن لا يشتغل بفعل عن فعل فلذلك ذكر تعالى أنه لا يشغله شأن عن شأن فيراد به هذا المعنى.
فأما الفراغ، فإنه لا يجوز إلا على من يجوز عليه الشغل، ومتى حمل الكلام على حقيقته، لزمهم القول: بأنه تعالى يفعل الأفعال فى نفسه، فيشتغل بها، ويمنعه ذلك من غيره من الأفعال، وذلك مما لا يرتكبه مسلم لأنهم يقولون بأنه يفعل فى غيره، وأنه لا يشتغل بفعل عن فعل. فالمراد بالآية التهديد دون وصف نفسه بالفراغ لأن هذه اللفظة قد جرت العادة فيها بمثله، لأن القائل منا قد يقول لغيره: سأفرغ لك إذا أراد أن يهدده ويبكته فى أمر يفعله. ولولا أن المراد بذلك، لوجب أن يكون تعالى فى حال هذا الخطاب كان مشغولا عن هذا الأمر، الذى ذكر أنه يفرغ له، وكان لا يمكنه أن يفعله فى الحال. وذلك مما لا يرتكبه أحد!!
742 - وأما قوله تعالى: {وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ} [46] فلا يدل على أنه تعالى فى مكان، وهو قائم فيه حتى صار مقاما له، وذلك أنه تعالى وعد من يخاف ورغبه، وقد علمنا أن الخوف لا يجوز أن يكون من مكانه
ومقامه، حتى يكون ذلك مرغّبا فى الطاعة، وصارفا عن المعصية، فيجب أن يحمل الكلام على أن المراد به: أن من خاف مقامه، ووقوفه للمساءلة، والمحاسبة بفعل الطاعة، فله الثواب. وأضاف المقام إلى الله تعالى وإن كان مقاما للعبد، لأنه بحيث يحكم تعالى، ولأن الموضع المعد من قبله لوقوف العبد، ومقامه، فأضيف إليه تعالى لذلك.(1/707)
742 - وأما قوله تعالى: {وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ} [46] فلا يدل على أنه تعالى فى مكان، وهو قائم فيه حتى صار مقاما له، وذلك أنه تعالى وعد من يخاف ورغبه، وقد علمنا أن الخوف لا يجوز أن يكون من مكانه
ومقامه، حتى يكون ذلك مرغّبا فى الطاعة، وصارفا عن المعصية، فيجب أن يحمل الكلام على أن المراد به: أن من خاف مقامه، ووقوفه للمساءلة، والمحاسبة بفعل الطاعة، فله الثواب. وأضاف المقام إلى الله تعالى وإن كان مقاما للعبد، لأنه بحيث يحكم تعالى، ولأن الموضع المعد من قبله لوقوف العبد، ومقامه، فأضيف إليه تعالى لذلك.
743 - وقوله تعالى: {هَلْ جَزََاءُ الْإِحْسََانِ إِلَّا الْإِحْسََانُ} [60] فأحد ما استدل به أصحابنا، رحمهم الله، على العدل. وذلك أن المطيع قد يعبد الله المدة الطويلة، فيحسن بذلك، ثم يرتد ويموت عليه، فلو كان تعالى خلق الكفر فيه، لكان قد جازى المحسن بالإساءة التى لا غاية أكبر منها، وذلك يكذب ما تقتضيه الآية، فإذن يجب أن نقطع بأنه لا يجوز أن يخلق تعالى الكفر والردة، وأنهما من فعل العبد، حتى إذا عاقبه، لم يفعل إلا باستحقاق، ولا يفعل تعالى بالمحسن إلا الإحسان فى الحقيقة، إلا إذا أحبط المحسن إحسانه وأفسده.(1/708)
ومن سورة الواقعة
744 - أما قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مََا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخََالِقُونَ} [5958] فإنه لا يدل على أن فعل العبد الله خلقه، وذلك أنه وصف العبد بأنه يمنى من حيث يحصل الإنزال، واستقرار الماء فى الرحم عنه.
ثم ذكر أنه تعالى يخلق ذلك ولدا مصوّرا. وهذا هو الذى يقتضيه ظاهره وبه نقول.
وقد بينا من قبل، أن إنزال الماء لا يمكن أن يقال: إنه من فعل العبد أيضا وإن كان قد يحصل له فيه فعل، وشرحنا القول فيه (1)، فتعلقهم بذلك لا يصح على وجه.
745 - وأما تعلقهم بقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مََا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزََّارِعُونَ} [6463] فى أن طرح البذر والحرث، كان يكون من خلقه تعالى وأن العبد [ما] فعله، فبعيد، وذلك لأن الزرع قد اختلف فيه، فمنهم من قال: إنه اسم للنبات الظاهر، وهذا هو من خلقه تعالى، لأنه الذى ينبت الزروع وينميها، ويجعلها بالصفة التى تحصل عليها. ومنهم من قال: إنه طرح البذر، ولذلك يقول القائل: قد زرعنا الحنطة والشعير، إذا بذره.
وعلى هذا القول فى الكلام ما يدل على أن المراد به ما قلناه أولا، لأنه قال:
{أَفَرَأَيْتُمْ مََا تَحْرُثُونَ} فأضاف الحرث إليهم، ثم قال: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} يعنى ما تقدم ذكره، فيجب أن يكون المراد به: النبت والظهور، على الوجه الذى قلناه.
__________
(1) انظر الفقرة: 484.(1/709)
ومن وجه آخر، وهو أنه تعالى عدّد فى ذلك عظيم نعمه، ولا يليق به طرح البذر، فيجب أن يكون محمولا على ما ذكرناه، مما يؤدى إلى منافع الخلق وقيام أبدانهم به.
746 - وأما قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [85] فلا يدل على جواز القرب على الله تعالى لأن الكلام فيمن حضره الموت وعاينه، وهو الذى أراده بقوله: {فَلَوْلََا إِذََا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} [8483] ثم قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلََكِنْ لََا تُبْصِرُونَ} وأراد بذلك حضور الملائكة على وجه يراهم المحتضر، ولا يراهم القوم، ولو كان القرب فى الحقيقة قد صح فيه، لوجب كونه فى ذلك المكان، ولا يمتنع أن يكون فى غيره من الأماكن كسائر الأجسام!
ومتى قالوا: إنه يقرب ولا يجب ذلك فيه، فقد نفوا حقيقة القرب وزالوا عن الظاهر.
* * *
ومن سورة الحديد(1/710)
* * *
ومن سورة الحديد
747 - قد بينا أن الجمادات إذا كانت لا تفعل التسبيح فى الحقيقة، فالواجب إذا وصفت بأنها تسبّح، أن يحمل ذلك على أنها تدل على تنزيهه تعالى (1)، فمن حيث حلت محل من يظهر ذلك بقوله، فهذا هو المراد بقوله، {سَبَّحَ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [1]
748 - وأما قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} (2) فإنه من أقوى ما يدل على إبطال قول من يثبت لله تعالى علما وقدرة وسمعا وبصرا وصفات فى الأوّل، لأنها لو كانت فى الأول على ما يقولون لم يكن هو الأول من حيث وجد معه غيره!
فإن قال: هذه الصفات ليست غيرا له، وهى داخلة فى الاسم الذى يذكرونه، فيصح من هذا الوجه أن يكون هو الأول، فهذا باطل، لأنا قد بينا فى غير موضع أن إطلاق لفظة الإله لا يدخل تحته إلا ذاته تعالى، دون ما يدعونه من الصفات (3). وبينا أن الصفات يجب أن تكون غيرا له، لأنها مخالفة له، ويجوز عليها ما لا يجوز عليه، ومميزة ببعض الأذكار منه تعالى إذا ذكرناه بأسمائه، وذلك يحقق ما ذكرناه من الدلالة.
وقوله تعالى: {وَالْآخِرُ} يدل على أن سائر الموجودات فى بعض الأحوال تفنى ويبقى وحده موجودا، على ما نقوله من أنه تعالى يفنى العالم.
__________
(1) انظر الفقرة: 513.
(2) قال تعالى: {[هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظََّاهِرُ وَالْبََاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]} الآية: 3.
(3) انظر ص: 195فما بعدها من شرح الأصول الخمسة.(1/711)
749 - وأما تعلق المشبهة بقوله: {وَالظََّاهِرُ وَالْبََاطِنُ} فى أنه جسم، وأنه يجوز عليه الاحتجاب والظهور [فباطل] (1)، وذلك أنه لو كان بهذه الصفة لم يجب أن يوصف فى حالة واحدة بأنه ظاهر وباطن، بل كان يجب أن تختلف أحواله فى ذلك، فكان يجب أن يكون فى مكان مخصوص، وأن يكون له حد محدود، يصح أن يبطن ويظهر، وكان يجب أن يكون هذا وصفه أبدا، على ما ذكره، وذلك يوجب إثبات الأجسام لم تزل.
فالمراد بذلك: أنه القاهر المستعلى لأن من هذا حاله يقال إنه ظاهر، وإنه ظهر على الشيء. كما يقال: ظهر القوم على العدو، وهم ظاهرون عليه. والمراد بوصفه بأنه باطن: أنه عالم بالسرائر، وعلى هذا يقال: إن فلانا استبطن فلانا، إذا خصه بأحواله.
750 - وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى ََ عَبْدِهِ آيََاتٍ بَيِّنََاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ} [9] فقد بينا أن ظاهره يقتضى أنه يخرج من جسم إلى جسم. ومن ظلمة إلى ضياء. ولا يقتضى الكفر والإيمان (2).
فتعلقهم بظاهره لا يصح.
والمراد بذلك: أنه ينزل القرآن ليبعثهم بذلك على مفارقة الكفر، والعدول عنه إلى الإيمان. وذلك يدل على ما نقول من أنه تعالى يريد من جميعهم الإيمان لأنه لم يخص بذلك قوما دون قوم.
ولو حمل على ظاهره، لوجب أن يكون تعالى أنزل القرآن لكى يفعل فيهم الإيمان ويخلقه، ولو كان ذلك من خلقه لكان انزال القرآن ليس بسبب
__________
(1) لا بد من هذه الزيادة، أو أن تكون الجملة: (ولا تعلق للمشبهة الخ.).
(2) انظر الفقرة: 86.(1/712)
له، ولا هو ممن يفعل به، فكان لا وجه له البتة. وإذا حملناه على ما قلناه، يصح لأنه يكون باعثا لهم على الإيمان وداعيا لهم.
751 - وقوله: {وَجَعَلْنََا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبََانِيَّةً ابْتَدَعُوهََا} [27] فغير دال على قول المجبرة فى أن أفعال القلب من قبله تعالى، وذلك أن ظاهره يقتضى أنه جعل فى قلوبهم الرأفة والرحمة، وكذلك نقول لأن رأفة القلب ورقته هما من فعله تعالى، وإن كان المراد بها النعمة، فمتى قرنت بالقلب، فالمراد بها ما ذكرناه، والله تعالى هو الذى يخلق القلوب مختلفة: ففيها ما يختص بالقسوة، وفيها ما يختص بالرحمة والرأفة.
وأما الرهبانية فلم يذكر تعالى أنه جعلها، وإنما ذكرها، ثم خبر أنهم ابتدعوها، وبين أنه تعالى ما كتبها عليهم، وما ألزمهم إياها إلا ابتغاء مرضاته، وأنهم ما رعوها حق رعايتها، فخرجوا عنها إلى المعاصى، ولم يتمسكوا بها، ولم يدوموا عليها.
752 - وقوله تعالى: {لِئَلََّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتََابِ أَلََّا يَقْدِرُونَ عَلى ََ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللََّهِ} [29] وتعلقهم بذلك فى أن العبد لا يقدر على فعله لأن الفضل من فعله، فبعيد، وذلك أن ظاهره إن دل، فإنما يدل على أن العبد لا يقدر أصلا، على ما يقوله جهم (1) والقوم وإن جعلوا فعله خلقا لله، تعالى
__________
(1) هو الجهم بن صفوان، مولى بنى راسب من الأزد، نشأ بسمرقند، وانتقل إلى الكوفة وأخذ فيها عن الجعد بن درهم منهجه فى التأويل، ثم انتقل إلى بلخ، ولقى فيها مقاتل بن سليمان (150) المفسّر، وحمله ما وجده عنده من القول بالتشبيه على القول بنفى الصفات، فنفى إلى ترمذ، ثم دعاه الحارث بن سريج إلى قتال بنى أمية ففعل، فقتلهما الأمويون شر قتلة وهم يزعمون أن جهما دهرى! وكان مقتله رحمه الله عام (128) هـ. وإليه تنسب فرقة الجهمية، كما نسبت إليه المعتزلة منذ عهد المأمون. ومما اشتهر عنه القول بالجبر المحض!(1/713)
فإنهم يثبتونه قادرا فى الحقيقة على الفضل (1)، فكيف يصح تعلقهم به؟
وبعد، فإن الفضل إذا أضيف إلى الله تعالى. فالمراد به ما يختص بفعله من النعم، فلا يصح ما ذكروه.
على أن الآية واردة فى ذكر الرسل، فبين تعالى أن أهل الكتاب لا يقدرون على إرسال الرسل، ولا يتعلق ذلك باختيارهم، وقد ذكر تعالى ما يدل على ما قلناه، فقال: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} [28] ثم عقبه بهذه الآية، وبين أن أهل الكتاب لا اختيار لهم فى هذا الباب، وقال بعده:
{وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللََّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشََاءُ} [29] وأراد به النبوة التى يضعها مواضع المصلحة، على قدر إرادته ومشيئته.
__________
راجع الطبرى: تاريخ الامم والملوك: 7/ 320. ابن الاثير: الكامل: 5/ 127 القاسمي: تاريخ الجهمة والمعتزلة، طبع المنار. النشار: نشأة الفكر الفلسفى فى الإسلام:
1/ 331فما بعدها. الطبعة الثالثة.
(1) كذا الأصل، ولعل الصواب: الفعل.(1/714)
ومن سورة المجادلة
753 - مسألة: قوله تعالى فى كفارة الظهار: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيََامُ شَهْرَيْنِ مُتَتََابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسََّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعََامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [4]، مع إجماع الأمة على أن من يدخل فى الصيام، فلا يكون مستطيعا (1)، ويكون فرضه الصوم دون الإطعام، يدل على بطلان قولهم فى أن القدرة مع الفعل، وأن من ليس بصائم، ولم يدخل فيه، فهو غير مستطيع له فى الحقيقة.
754 - وتعلق المشبهة بقوله: {مََا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ََ ثَلََاثَةٍ إِلََّا هُوَ رََابِعُهُمْ وَلََا خَمْسَةٍ إِلََّا هُوَ سََادِسُهُمْ وَلََا أَدْنى ََ مِنْ ذََلِكَ وَلََا أَكْثَرَ إِلََّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مََا كََانُوا} [7] فبعيد، وذلك أنه متى حمل على ظاهره، يتناقض، لأنه إن كان رابعا لثلاثة فى مكان، استحال كونه رابعا لغيرهم فى سائر الأماكن، والظاهر يقتضى كونه رابعا لكل ثلاثة تناجوا. وقد بينا أنه لا يمكنهم القول بأنه معهم إلا مع القول بأنه جسم لأن هذه اللفظة لا تطلق إلا فيما هذا حاله، خصوصا فى الأماكن والأشخاص.
فيجب أن يحمل الكل على أن المراد به: أنه عالم بأحوالهم، وأنهم لا يقدرون على أن يستسروا بما يتناجون، دونه، ولذلك خص من يتناجى بذلك، دون غيرهم والمشبهة لا تقول بأنه تعالى عند النجوى يحصل فى المكان أو مع العبد، وفى سائر الأحوال يغيب منبها بذلك على أن إخفاء النجوى إنما يصح على العباد دون الله تعالى.
__________
(1) انظر الآية رقم 3.(1/715)
755 - وقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوى ََ مِنَ الشَّيْطََانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضََارِّهِمْ شَيْئاً إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ} [10] فلا يدل على أنه تعالى يريد أضرار الشيطان، وذلك أنه تعالى بين أن الشيطان بوسوسته يريد أن يغمهم، وأن ما يفعله ليس بضارهم فى الحقيقة لأنهم يعدلون عما يقتضيه دعاؤه ووسوسته.
وقوله تعالى: {إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ} أراد: إلا بأن يحدث تعالى الغم فى قلوبهم بما يحدث من الأمور، فيكون حادثا من جهته. أو يريد بذلك ما يفعله القوم من الغم عند أمر الله تعالى بذلك، فيكون المراد بالإذن الأمر على الحقيقة.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوى ََ مِنَ الشَّيْطََانِ} وإضافته ذلك إليه يدل على أنه لم يخلقه لأنه لو خلقه، لم يكن لإضافته إلى الشيطان وجه من حيث علم أن دعاءه لا يؤثر فى حصوله منهم، وإنما يجب وجوده عند خلقه تعالى، وهذا ظاهر.
756 - وقوله: {اتَّخَذُوا أَيْمََانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ}
[16] فى بيان المنافقين. من أدل الدلالة على أنه تعالى لا يخلق الذهاب عن الحق، لأنه لو خلق ذلك، لم يضف الصد عن سبيل الله إليهم، على ما بيناه.
757 - وقوله: {أُولََئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمََانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [22] لا يدل على أن الإيمان من خلقه تعالى لأن الكتاب لا يفيد ذلك.
والمراد عندنا: أنه تعالى يسم قلوبهم بعلامة من كتابة أو غيرها، ما يدل على أنهم مؤمنون مستحقون للثواب، لتفرق الملائكة بينهم وبين المطبوع على قلبه الذى
يستحق الذم. وقد بينا القول فى ذلك (1).(1/716)
والمراد عندنا: أنه تعالى يسم قلوبهم بعلامة من كتابة أو غيرها، ما يدل على أنهم مؤمنون مستحقون للثواب، لتفرق الملائكة بينهم وبين المطبوع على قلبه الذى
يستحق الذم. وقد بينا القول فى ذلك (1).
وقد قال بعضهم: إنه تعالى أراد أنه يثبت فى قلوبهم الحفظ، والعلم بالشرائع، ولطف لهم فى التمسك بها، فوصف نفسه من هذا الوجه بأنه كتب فى قلوبهم الإيمان.
* * * __________
(1) انظر الفقرة: 18.(1/717)
ومن سورة الحشر
758 - قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ مِنْ دِيََارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [2] تعلقوا به فى أن خروجهم يجب أن يكون خلقا لله تعالى، وقد بينا فى (1) مواضع أن ذلك يوجب أنه تعالى يوصف به، لأنه إن كان يوصف بأنه أخرجهم من حيث خلق الإخراج الذى هو خروجهم، فيجب أن يوصف الظلم بأنه ظلمهم (2). وهذا مما لا يقول به مسلم. ولو كان ذلك حقيقة لما جاز أن يصفهم فيقول: {مََا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} [2] فيضيف الخروج إليهم.
فالمراد بذلك: أنه تعالى لما أمر بإخراجهم، وتخريب منازلهم، وإجلائهم إلى الشام، جاز أن يقول تعالى على طريق الامتنان على النبى، صلى الله عليه، بهذا القول.
759 - وقوله تعالى: {وَلَوْلََا أَنْ كَتَبَ اللََّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلََاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيََا} [3] فالمراد أنه كتب فى الحقيقة وأخبر بذلك، ثم وقع الأمر على ما أخبر به. يدل ذلك على أن تعذيبهم فى الدنيا من القتل وغيره (3) كان يقوم مقام الجلاء، فيما يقع به من المصلحة. وهذا يدل على ما نقوله فى اللطف، وأن فيها ما يقوم مقام غيره.
760 - وقوله: {مََا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهََا قََائِمَةً عَلى ََ أُصُولِهََا فَبِإِذْنِ اللََّهِ} [5] لا يدل على أن قطعهم من خلقه، وذلك أن الإذن
__________
(1) فى الأصل: يتنافى فى.
(2) كذا فى الأصل. وربما كان قد سقط بعد كلمة (يوصف): (من حيث خلق) ويكون الكلام لإلزام الخصم فقط أو: (من حيث فعلوا).
(3) فى الأصل: وغيرها.(1/718)
قد يكون الأمر والإعلام، على ما بينا (1). ونحن نحمله على الأمر فى الحقيقة، لأنه تعالى أمرهم بقطع نخيلهم، لما فيه من المصلحة.
761 - وتعلقهم بقوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [9] فى أن الشحّ والبخل من فعله، فيصح أن يقيه العبد، وأن يفعله به فبعيد، وذلك أن ظاهره يقتضى أنه جنّب البخل، وليس فيه ذكر من جنبه ذلك، وأزاله عنه، فلا يدل الظاهر على ما قالوه، وإن (2) كان لا يمتنع أن يحمل الشح (3) على ما يختص به البخيل من ضيق القلب عن العطايا، وهذا هو من خلقه تعالى.
762 - وقوله تعالى: {وَلََا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنََا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [10] لا يدل على أن فعل القلب من خلقه تعالى، لأن الغل لا يمتنع عندنا أن يكون ما يحصل فى القلب من شدة الشهوة بالنعم، فيكون كالباعث له على الحسد والخديعة، فسألوا زوال ذلك، وقد بينا أن الدعاء بالفعل لا يدل على حال ذلك الفعل وكيفيته، وعلى أن جنسه لا يقدر عليه إلا الله تعالى، مشروحا فى غير موضع (4).
763 - وقوله تعالى: {لََا يَسْتَوِي أَصْحََابُ النََّارِ وَأَصْحََابُ الْجَنَّةِ أَصْحََابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفََائِزُونَ} [20] يدل على أن من استحق النار لا يفوز بالجنّة، والنجاة منها، وإلا كان يجب أن يكون قد ساووا أصحاب الجنة فى ذلك، وقد نفاه الله تعالى ومنع منه. وذلك يحقق قولنا فى الوعيد.
__________
(1) انظر الفقرة: 46.
(2) فى الأصل: فإن.
(3) فى الأصل: الشيء.
(4) انظر الفقرات: 13، 14، 52، 53.(1/719)
764 - وقوله: {هُوَ اللََّهُ الْخََالِقُ} [24] لا يدل على أن العبد لا يفعل لأن وصفه نفسه بذلك، لا يمنع من أن غيره بمنزلته. هذا لو أطلقنا القول بأن العبد يخلق، فكيف ونحن تمتنع منه، وإنما نقول بالإطلاق إنه يفعل، وعلى التقييد نصفه بالخلق، كما ذكر تعالى فى عيسى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} (1).
765 - وقد بينا أن قوله تعالى: {لَهُ الْأَسْمََاءُ الْحُسْنى ََ} [24] يدل على أن أفعاله حسنة، وإلا وجب أن يكون فى أسمائه خلاف ذلك (2)!
766 - وقوله تعالى: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [23] يدل على أنه منزه عن القبائح لأن التقديس هو التطهير، ولو جاز أن يفعل القبائح لم يختص بذلك.
* * * __________
(1) الآية: 110من سورة المائدة.
(2) انظر الفقرة: 432.(1/720)
ومن سورة الممتحنة
767 - أما تعلقهم بقوله تعالى: {إِلََّا قَوْلَ إِبْرََاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمََا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللََّهِ مِنْ شَيْءٍ} [4] فى أنه يدل على أنه تعالى قد لا يجيب النبى إلى ما يدعو به، وأنه يغفر للكفار، فبعيد، وذلك أن ظاهر الآية ليس إلا أنه وعد أن يستغفر له، ولا يوجب ذلك العلم بحال ما سأل عنه، وكيفيته، على ما ذكرناه فى الدعاء (1)، فالتعلق بظاهره لا يصح. وقد قال: {وَمََا كََانَ اسْتِغْفََارُ إِبْرََاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلََّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهََا إِيََّاهُ} (2) فبين أنه وعده أنه يؤمن، ويعدل عن عبادة الأصنام إلى عبادة الله تعالى، فعند ذلك وعده إبراهيم بالاستغفار، فلما ثبت على كفره تبرأ منه، وترك الاستغفار له.
وبعد، فإن غفران الكفار يحسن عندنا فى العقول، فلو أريد به الظاهر، لصح، وإنما يمتنع عندنا سمعا.
768 - وتعلقهم بقوله تعالى: {رَبَّنََا لََا تَجْعَلْنََا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}
[5] فى أنه تعالى ينزل بالمؤمن الأمور التى معها يشمت الكافر، فليس فى ظاهره أكثر من أنهم سألوا ألا يجعلهم فتنة لهم، وقد يكونون كذلك بأمور من قبله فى الحقيقة، وظاهره لا يدل على ما قالوه.
والمراد بذلك: أنه يصرف عنه المحن التى عندها يفرح الكفار بهم، ويلحقهم الغم به، ويفرحهم، فيكون فتنة، ومشقة جديدة. وقد يجوز أن يريد بذلك أن يثبت أقدامهم، ويقويهم، ولا يقوى العدو حتى يغلبهم، فيكون ظفرهم فتنة لهم.
__________
(1) انظر الفقرة: 13.
(2) الآية 114من سورة التوبة.(1/721)
ومن سورة الصف
769 - أما تعلقهم بقوله تعالى: {فَلَمََّا زََاغُوا أَزََاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ} [5] فى أنه تعالى يخلق الكفر وسائر المعاصى، فبعيد. وذلك أنه تعالى وصفهم بالزيغ، وأضاف ذلك إليهم فى الحقيقة، وبين أن عند ذلك تزيغ قلوبهم، فالمراد به أنه يعاقبهم على ذلك، والكلام فيه كالكلام فى قوله: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ} (1)، وقد بينا الكلام فى ذلك.
* * *ومن سورة الجمعة
770 - قوله تعالى: {ذََلِكَ فَضْلُ اللََّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشََاءُ} [4] لا يصح تعلقهم به فى أنه خص بالإيمان والفضل بعض عباده دون بعض، وذلك أن المراد بالكلام النبوة، وهو تعالى يخص به بعض عباده دون بعض.
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [2] يدل على ما قلناه.
* * * __________
(1) الآية: 127من سورة التوبة وانظر الفقرة: 307.(1/722)
ومن سورة المنافقين
771 - أما قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمََانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ}
[2] فإنه يدل على أنه تعالى لا يخلق الصد عن السبيل ولا الذهاب عنه، وإلا لم يكن لإضافته ذلك إلى المنافقين معنى، ولا كان لإيمانهم تأثير فى ذلك لو كان تعالى هو الذى يخلق الكفر والذهاب عن الإيمان. وإنما يكون لذلك معنى من حيث كانوا يدعون إلى خلاف ما أظهروه من الإيمان ويحلفون عليه بأيمان فيستغوون به، ويبعثون به على الكفر، ولو كان العبد لا يختار فعله، وإنما يخلق فيه لم يكن لكل ذلك تأثير.
772 - وقوله تعالى: {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} [3] فقد بينا القول فى الطبع، ودللنا على أنه ليس بمنع على الحقيقة (1).
773 - وقوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفََاسِقِينَ} [6] يدل على أنه لا يثيبهم البتة. ويدل على أنهم لا يتخلصون من العقاب لأنهم لو تخلصوا من ذلك، لكان تعالى قد هداهم إلى البغى!
* * * __________
(1) انظر الفقرة: 18.(1/723)
ومن سورة التغابن
774 - أما قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كََافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [2] فانه لا يدل على أنه خلق الكافر كافرا، والمؤمن مؤمنا لأن ظاهره يقتضى أنه خلقهم، وذلك يقتضى خلقه لأجسامهم، ثم قسمهم قسمين على الوجه الذى ذكره، وليس فيه أن ما صار به المؤمن مؤمنا، والكافر كافرا من خلقه تعالى.
وقد قال أبو على، رحمه الله: لو كان كما قالوا، لقال: فمنكم كافرا ومنكم مؤمنا، بالنصب، فلما ذكر تعالى بالرفع دل على أن الإيمان من فعلهم، لا من خلق الله فيهم!
775 - وقوله: {خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [3] فإنه يدل على العدل من حيث بين أنه خلقها بالحق. وقد بينا أنه لو جاز أن يفعل القبيح، لما صح أن يثبت ذلك، ولما صح أيضا أن يكون قد أحسن الصورة وفعلها على وجه تحسن عليه. فالآية تدل على تنزيهه عن القبيح.
776 - وقال أبو على، رحمه الله: وصفه تعالى ذلك اليوم، وهو يوم القيامة، بأنه (1) يوم التغابن (2)، إنما يصح على قولنا فى العدل، وذلك ينبئ أنهم صاروا مغبونين. وأن من فاز وظفر بالجنة، فهو غابن لهم، وذلك لا يصح
__________
(1) فى الأصل: لأنه.
(2) قال تعالى: {[يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذََلِكَ يَوْمُ التَّغََابُنِ]} الآية: 9.(1/724)
إلا مع العلم بأنهم قصروا فيما قدروا عليه، فلحقهم الغبن. ولو كانوا لم يقدروا فى دار الدنيا على ذلك لم يصح هذا القول.
777 - وقوله تعالى: {مََا أَصََابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللََّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [11] فلا يدل على أن ما يؤدى إلى المضرة من تصرف العبد، من فعله تعالى، لأنه لو دل ظاهره على ذلك لدل على أنه بأمره تعالى، ولا خلاف فى أنه تعالى لا يأمر بالقبيح. فالمراد بذلك ما ينزل به من الشدائد والمحن، التى تكون من قبله تعالى، وذلك لا يكون إلا بعلمه وإرادته.
وقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللََّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} أراد به تعالى ما بيناه من زيادة الهدى والبصيرة لأنها تؤثر فى قلبه فتزيده سكونا، وقد بينا القول فى ذلك (1).
* * * __________
(1) انظر الفقرة: 22.(1/725)
ومن سورة الطلاق
778 - وأما تعلقهم بقوله: {لَعَلَّ اللََّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذََلِكَ أَمْراً} (1)
فى أن الرجعة يجب أن تكون حادثا من فعله تعالى، فغلط، وذلك أنه تعالى لم يذكر ما ذلك الأمر الذى يحدثه، فمن أين أن المراد به الرجعة دون أن يكون الشهوة والرغبة لمراجعتها، وذلك من فعله، والظاهر لا يليق إلا بهذا الوجه، وذلك أنه تعالى منع المطلّق من أن يبتّ الطلاق، لكى يتمكن من التلافى إذا وجد فى قلبه الشهوة والرغبة.
779 - وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [3] لا يدل على أن تصرفه من قبله، بل يدل على أنه الذى يحدثه، ليصح أن يكون متوكلا.
وقد بينا حقيقة التوكل، وأنه يقتضى كون المتوكل متخيرا فيما يفعل، مؤثرا لفعل على فعل (2).
780 - وقوله: {قَدْ جَعَلَ اللََّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [3] غير دال على أن الأشياء حادثة من قبله تعالى، وذلك أن جعله لها قدرا، لا ينبئ عن أن ذاتها موجودة من جهته لأن المقدّر والمدبّر قد يريد فعل غيره، وفعل نفسه، ويقدرهما.
فالتعلق بظاهره لا يصح.
ولا يمتنع من أنه تعالى قد قدر أفعال العباد، وجعل لها مقادير بالحبر والكتابة.
__________
(1) قال تعالى: {[يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ، وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللََّهَ رَبَّكُمْ لََا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلََا يَخْرُجْنَ إِلََّا أَنْ يَأْتِينَ بِفََاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللََّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللََّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لََا تَدْرِي لَعَلَّ اللََّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذََلِكَ أَمْراً]} الآية: 1.
(2) انظر الفقرة: 345.(1/726)
781 - وقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمََّا آتََاهُ اللََّهُ لََا يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلََّا مََا آتََاهََا} [7] يدل على أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يطيقه، على وجه من الوجوه، وقد بينا القول فى ذلك فى مواضع (1).
ويدل أيضا على أن الفعل للعبد لأنه تعالى أمره بأن ينفق بحسب ما يؤتيه فإذا ضيق عليه رزقه أنفق بحسبه، وإذا وسع عليه فكمثل، لأن قوله:
{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} المراد به: ومن ضيق عليه فى رزقه. وهو الذى أراده تعالى فى قصة ذى النون: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} (2) يعنى:
أن لا نضيق عليه.
* * * __________
(1) انظر الفقرتين: 94، 242، وراجع الفقرة 27وص: 401400من شرح الأصول الخمسة للقاضى رحمه الله.
(2) الآية: 87من سورة الأنبياء.(1/727)
ومن سورة التحريم
782 - قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نََاراً} [6] يدل على أن العبد قادر على فعله، وأنه الذى يحدثه، ليصح منه أن يتقى النار بما يختاره، وأن يقى أهله ذلك بما يدعوهم إليه. وهذا لا يصح مع القول بأنه تعالى يخلق فيه الفعل على وجه لا يمكنه خلافه.
783 - وقوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لََا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمََا تُجْزَوْنَ مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [7] فمن قوى ما يدل على أنه تعالى لا يخلق أفعال العباد، لأنه لا يخلو قوله: {لََا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} من أن يريد به منعهم من الاعتذار ولهم عذر، أو أن يريد بذلك أن لا عذر لهم، وقد علمنا أنه لا يجوز أن يكون المراد الأول، لأنه كان يجب أن يكون لهم عذر فى الحقيقة، وقد منعهم من ذكره، وهذا لا يجوز عند أحد، خصوصا فى الآخرة.
وقوله تعالى: {(إِنَّمََا تُجْزَوْنَ مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)} يدل على بطلان ذلك أيضا، لأنه لو كان لهم عذر فى الحقيقة، لكانوا قد جوزوا بما لم يفعلوا، وعلى وجه يقبّح العذر الذى معهم، فإذن صح بأنه لا بد من القول بأنه لا عذر لهم. ولو كان الأمر كما تقوله المجبرة، لوجب أن يكون لهم عذر، بل أعذار كثيرة، كل واحد منها يقوم بنفسه فى ظهور عذرهم، وفى سقوط العقاب عنهم. وذلك أن لهم أن يقولوا: إنما أتينا فى كفرنا من قبلك، وفى أن لم نفعل الإيمان من جهتك، لأنك سلبتنا القدرة عليه، وأعطيتنا قدرة الكفر، وجعلتها موجبة للكفر، وخلقت مع ذلك الكفر فينا وإرادته فيما لم تزل، فلم يمكن مفارقته، وخلقت فينا قدرة الإرادة له، ونفس الإرادة والاختيار. وكل واحد من ذلك لو حصل بانفراده
فينا، لامتنع الإيمان منا، ووجب الكفر!! فكيف لا يكون ذلك عذرا لنا فى زوال العقاب عنا؟ ولئن جاز أن لا يعدّ ذلك عذرا، فيجب أن يجوز معاقبة العاجز والزمن، وأن لا يجعل ذلك عذرا فيهم. وفى هذا إخراج كل عذر من أن يكون عذرا!(1/728)
وقوله تعالى: {(إِنَّمََا تُجْزَوْنَ مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)} يدل على بطلان ذلك أيضا، لأنه لو كان لهم عذر فى الحقيقة، لكانوا قد جوزوا بما لم يفعلوا، وعلى وجه يقبّح العذر الذى معهم، فإذن صح بأنه لا بد من القول بأنه لا عذر لهم. ولو كان الأمر كما تقوله المجبرة، لوجب أن يكون لهم عذر، بل أعذار كثيرة، كل واحد منها يقوم بنفسه فى ظهور عذرهم، وفى سقوط العقاب عنهم. وذلك أن لهم أن يقولوا: إنما أتينا فى كفرنا من قبلك، وفى أن لم نفعل الإيمان من جهتك، لأنك سلبتنا القدرة عليه، وأعطيتنا قدرة الكفر، وجعلتها موجبة للكفر، وخلقت مع ذلك الكفر فينا وإرادته فيما لم تزل، فلم يمكن مفارقته، وخلقت فينا قدرة الإرادة له، ونفس الإرادة والاختيار. وكل واحد من ذلك لو حصل بانفراده
فينا، لامتنع الإيمان منا، ووجب الكفر!! فكيف لا يكون ذلك عذرا لنا فى زوال العقاب عنا؟ ولئن جاز أن لا يعدّ ذلك عذرا، فيجب أن يجوز معاقبة العاجز والزمن، وأن لا يجعل ذلك عذرا فيهم. وفى هذا إخراج كل عذر من أن يكون عذرا!
فلما بين تعالى أن لا عذر للكافرين، وكان قولهم يقتضى ما ذكره، فيجب صحة ما نقوله، ليسلم معه القول بأنهم من قبل أنفسهم أتوا، لأنهم مكّنوا من الإيمان، وأزيحت عللهم فيه، فعدلوا عن فعله، لغلبة الشهوة، وإيثار الهوى، وتركوا ما فيه فوزهم ونجاتهم، فلم يكن لهم عند نزول العقاب بهم معذرة على وجه.
784 - وقوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللََّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى ََ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئََاتِكُمْ} [8] يدل على أن السيئات إنما تكفّر، إذا عظمت أو صارت كبيرة، بالتوبة، على ما نقوله.(1/729)
ومن سورة الملك
785 - قوله: {مََا تَرى ََ فِي خَلْقِ الرَّحْمََنِ مِنْ تَفََاوُتٍ} [3] يدل على نفى القبائح عن خلقه لأنه لو كان هو الخالق لها، وفيها توحيد وتشبيه وتثليث، لكان ذلك متفاوتا. وفيها عبادة الله وعبادة غيره، والحكمة والصواب، والسفه والباطل. ولا تفاوت أعظم مما اختص به ذلك، فيجب أن يدل على أنه ليس من خلقه تعالى على وجه.
وليس لأحد أن يقول: المراد بذلك أنه لا تفاوت فيما خلقه من السموات، لأن حمله على ظاهره يمكن ويفيد. فلا يجب تعليقه بما تقدم (1). وإن كان لو حمل على ذلك لوجب ما قلناه أيضا، لأن نفى التفاوت، فى باب الحكمة والسفه، عن شيء من أفعاله، لا يصح إلا مع القول بأنه منزه عن القبائح.
786 - وتعلقهم بقوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ أَلََا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [1413] فى أنه يدل على أنه خلق ما فى الصدور، فبعيد، وذلك أن ظاهره لا يدل إلا على أنه خلق ما تقدم ذكره، وكما تقدم ذكر ذات الصدور، فقد تقدم ذكر الصدور بنفسها، فمن أين أن المراد به أحدهما دون الآخر؟
وبعد، فإن حمله على ما قالوه يوجب أنه خلق ما فى الصدور من القول وقد علمنا أن ذلك لا حقيقة له! ومتى قال: المراد به العلم بالقول، فقد خرج عن الظاهر!
__________
(1) الآية 3بتمامها: {[الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ طِبََاقاً مََا تَرى ََ فِي خَلْقِ الرَّحْمََنِ مِنْ تَفََاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى ََ مِنْ فُطُورٍ]}.(1/730)
وبعد، فإن العلم الذى يستسرّه الإنسان، الأقوى أن يكون ضرورة، ويكون تعالى هو الخالق لها، فحمله على ظاهره يصح على قولنا، فأما أن تدل الآية على أنه يخلق ما يسره الإنسان من الإرادة، والعزم، وسائر ما يكتسبه، فالظاهر لا يدل عليه.
وبعد، فإن الذى يقتضيه الكلام، أنه وصف نفسه بأنه يعلم السر وأخفى.
ثم بين الوجه الذى له وجب كونه عالما، فقال: {أَلََا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}! يريد:
ألا يعلم الخالق الأشياء، الذى هو قديم قادر لذاته؟ فحملهم على ما ذكروه بعيد.
787 - وأما قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صََافََّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مََا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمََنُ} [19] فقد بينا من قبل المراد بذلك، فلا وجه لإعادته (1).
__________
(1) انظر الفقرة: 411.(1/731)
ومن سورة «ن»
788 [قوله تعالى]: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنََّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [3534] يدل على ما نقوله فى الوعيد لأن الأمر لو كان كما تقوله المرجئة، لكان لا يمتنع فى كثير من المجرمين أن يجعل حالهم فى إدخال الجنة، كحال المسلمين، وقد شرحنا ذلك من قبل 1.
789 - وأما تعلق المشبهة بقوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سََاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلََا يَسْتَطِيعُونَ} [42] فبعيد، وذلك أنه ليس فى الظاهر إضافة الساق إلى من هو له، لو كان المراد بالساق الجارحة، فمن أين أن المراد إثباته لله؟
تعالى عنه! وإنما أراد بذلك أن يبين شدة ذلك اليوم، وعظيم ما ينزل فيه على أهل العقاب عند المحاسبة، فقال تعالى هذا القول على طريق العرب فى هذا الباب.
وقوله: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلََا يَسْتَطِيعُونَ} لا يجوز تعلق المجبرة به فى تكليف ما لا يستطاع لأن الغرض بذلك ليس هو التكليف، لأن الآخرة لا يصح فيها ذلك. والمراد به: التبكيت على تقصيرهم فيما كلفوه من السجود، وبيان أنهم لا يمكنهم تلافى ما فرطوا فيه من قبل.
790 - وقوله: {وَقَدْ كََانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سََالِمُونَ}
[43] يدل على أنهم فى حال التكليف، كانوا سالمين من الموانع، ممكّنين منه، فعدلوا عنه، فلحقهم العذاب.
791 - وأما قوله تعالى: {فَاجْتَبََاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصََّالِحِينَ} [50] فقد مر الكلام فى نظائر ذلك، وبينا تأويله (1).
__________
(1) انظر الفقرات: 52، 76، 103.(1/732)
ومن سورة الحاقة
792 - أما تعلق المشبهة بقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمََانِيَةٌ} [17] فى أنه يدل على أن العرش مكان له، من حيث الإضافة، فبعيد، وذلك لأن الإضافة على هذا الوجه تصح على وجوه مختلفة، فلا يدل على ما قالوه، ولو وجب بذلك أن يكون العرش مكانه، لوجب، متى وصفت الكعبة بأنها بيت الله أن تكون مسكنا له! وأن يكون فيها، ويتعالى الله عن ذلك. وكان يجب على قولهم أن يكون عرشه محمولا، ولا يكون كذلك إلا وهو محمول لأن الجسم إذا حمل فقد حمل ما عليه، والله يتعالى عن ذلك!
793 - وتعلقهم بقولهم: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنََا بَعْضَ الْأَقََاوِيلِ لَأَخَذْنََا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [4544] فى إثبات اليد لله تعالى، فبعيد، وذلك أن المراد به القدرة، على ما بيناه من قبل. وقد بينا أن حمله فى الحقيقة على ظاهره يوجب إثبات يمين ويسار على الصفة المخصوصة التى عقلناها، وذلك لا يصح عند مسلم (1).
* * * __________
(1) انظر الفقرة: 197.(1/733)
ومن سورة سأل سائل
794 - أما تعلق المشبهة بقوله: {مِنَ اللََّهِ ذِي الْمَعََارِجِ تَعْرُجُ الْمَلََائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [43] فبعيد، وذلك أن المعارج هى الدرجات الرفيعة، والله تعالى مالك لذلك وخالق له، فصح أن يضيفهما إلى نفسه.
795 - وقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلََائِكَةُ وَالرُّوحُ} وهو يعنى جبريل إليه المراد به: إلى موضع هذه الدرجات. وقد بينا فى مواضع أن ذلك لا يجب حمله على ظاهره 3.
796 - وقوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرََاهُ قَرِيباً} [76] لا يدل على جواز القرب على الله تعالى، لأن المراد بالآية يوم القيامة والساعة، وهى معدومة، فالقرب فى الحقيقة فيها لا يصح، كما أن بعدها لا يصح، فالمراد أنه تعالى يعلمه قريبا، من حيث يظنونه بعيدا.
797 - وقوله تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذََابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [11] يدل على نزول العذاب بكل مجرم. وعلى أنه لا مخلص له من ذلك اليوم من العذاب لأنه لو خلص منه بشفاعة، أو غيرها، لما جاز أن يوصف بهذه الصفة التى تقتضى اليأس من التخلص من العقاب.
798 - وقوله تعالى: {إِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً} [20] لا يدل على أن الشر من فعله، لأنه ليس فى الظاهر أن الشر الذى مسه من فعله، أو من فعل غيره، وإنما وصفه بالجزع والهلع عند مس الشر له، فمن أين أن المراد قالوه؟
وإنما المراد بالآية: أنه إذا مسته المصائب يلحقه الجزع والقلق، ويقل
صبره على الشر، ليبين ضعف الإنسان، وقلة نظره لنفسه. وقد بينا أن حقيقة الشر هو الضرر القبيح، والله تعالى لا يفعله، لكنه لا يمنع أن يستعمل فيما يفعله من المحن، من حيث شابهت الشر فى أنها مضرة، وقد تقدم القول فى ذلك (1).(1/734)
وإنما المراد بالآية: أنه إذا مسته المصائب يلحقه الجزع والقلق، ويقل
صبره على الشر، ليبين ضعف الإنسان، وقلة نظره لنفسه. وقد بينا أن حقيقة الشر هو الضرر القبيح، والله تعالى لا يفعله، لكنه لا يمنع أن يستعمل فيما يفعله من المحن، من حيث شابهت الشر فى أنها مضرة، وقد تقدم القول فى ذلك (1).
* * * __________
(1) انظر الفقرة: 475.(1/735)
ومن سورة نوح
799 - قوله تعالى: {مََا لَكُمْ لََا تَرْجُونَ لِلََّهِ وَقََاراً} [13] لا يدل على أنه جسم يوصف بالوقار فى الحقيقة لأنه ليس فى الظاهر أن الوقار من صفته، فيجوز لهم التعلق به.
والمراد عندنا بذلك: ما لكم لا تعظّمون الله حق تعظيمه، فتجانبوا معاصيه، وتمسّكوا بطاعته.
800 - وقوله تعالى: {وَلََا تَزِدِ الظََّالِمِينَ إِلََّا ضَلََالًا} [24] لا يدل على أن الضلال الذى هو الكفر، من قبله تعالى، لأنا قد بينا أن هذه اللفظة تقع محتملة (1)، فلا تدل على أنه المراد بها، وإنما أراد بهذا الدعاء أن يزيدهم عقابا إلى ما هو عليه من المحن، لأنهم بظلمهم وكفرهم، قد استوجبوا العقاب المعجّل، والمؤجّل ولا يمتنع أن يدعوه بأن يزيدهم فى المعجل غير ما أنزله بهم، ولا يكون المدعو به إلا حسنا مستحقا.
801 - وقوله تعالى: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبََادَكَ وَلََا يَلِدُوا إِلََّا فََاجِراً كَفََّاراً} [27] لا يصح أن يتعلق به من يرى جواز تعذيب الأطفال لأنه يجب على هذا الظاهر أن يكون المولود منهم فى حال سقوطه فاجرا كافرا، وهذا مما لا يبلغه أحد، فالمراد إذن به: ولا يلدوا إلا من سيفجر ويكفر عند البلوغ، لأنه تعالى كان قد أعلمه أن ذلك يكون حال ذريتهم، وندبه إلى هذا الدعاء، لما فيه من المصلحة.
__________
(1) انظر الفقرة: 22.(1/736)
ومن سورة الجن
802 - قوله تعالى: {وَأَنََّا لََا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرََادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [10] لا يدل على أنه تعالى يريد الشر والقبيح، لأنه ليس فى ظاهره ذكر المريد من هو، كما ذكر فى ظاهره أنه تعالى أراد بهم الرشد، ولأنه حكاية عنهم، أنهم أوردوه على طريقة الشك، فلا يجوز أن يتعلق بظاهره وقد بينا من قبل أن الشدائد والمحن الواردة من قبله تعالى قد توصف بأنها شر، على طريقة المجاز، ولا يمتنع أن يكون أهل اللغة استعملوه على طريق الحقيقة، من حيث عندهم أن الشر هو الضرر، وإنما يخرج عن هذه الصفة بالعاقبة، فإذا لم يعرفوها، دخل عندهم فى حقيقة الشر.
803 - وقوله تعالى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقََامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنََاهُمْ مََاءً غَدَقاً} [16] بعد ذكر الوعيد فى القاسطين (1)، يدل على أنهم متمكنون من الاستقامة على الطريق، وإن كانوا فى الحال قاسطين. وذلك يوجب أن المكلف متمكن من غير الفعل الذى اختاره.
804 - وقوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [17] تقدم القول فيه: أن المراد به تشديد المحنة دون الكفر والمعاصى (2).
805 - وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نََارَ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً} [23] يدل على ما نقوله فى الوعيد، لأنه تعالى أوجب لمن هذا وصفه، الخلود فى النار، ولم يخص الكافر من الفاسق.
__________
(1) قال تعالى: {[وَأَنََّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقََاسِطُونَ، فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولََئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا الْقََاسِطُونَ فَكََانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً]} الآيتان: 1514.
(2) انظر الفقرتين: 212، 4، 464.(1/737)
ومن سورة المزمل
806 - قوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدََانَ شِيباً} [17] لا يدل على أن فى ذلك اليوم يخاف الولدان ويعذّبون.
وذلك أن هذه الطريقة تذكر لعظم حال يوم القيامة، وعلى هذا الوجه يقال فى الأمر الهائل العظيم: تشيب منه النواصى، وتشيب الولدان. وهذا كقوله: {(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سََاقٍ} (1)، وكقوله: {وَالْتَفَّتِ السََّاقُ بِالسََّاقِ} (2) فى أن المقصد بجميعه الإنباء عن عظيم ما يرد ذلك اليوم على أهل المعاصى، دون تحقيق ذلك على جهة الخبر يبين ذلك أنه تعالى جعل هذا الذكر باعثا للعباد على ترك الكفر، والتقوى. ولو كان ذلك اليوم بهذه الصفة، لكان بأن يزهد فى الإيمان والتقوى أقرب، لأن المكلف إذا تصور أن ذلك اليوم يعذب من لا ذنب له، زهد فى طاعته، ويجوز أن تكون من أسباب هلاكه، يبين ذلك أنه تعالى أضاف ذلك إلى اليوم، وقد علمنا أن اليوم لا يجعل ولا يفعل، وأن الفاعل سواه.
وكل ذلك يبين أن الظاهر يقتضى ما قلناه.
807 - فأما قوله تعالى قبل ذلك: {إِنََّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (5) فانه لا يدل على أن قول الإنسان من فعله تعالى، لأن المقصد بهذا الكلام: أنا ننزل عليك القرآن الذى يثقل تحمله، وتكفل أداءه إلى من يلزم الأداء إليه. ووصفه بالثقيل لهذه العلة، وجعل الإنزال إليه، ويحمله الفاعل، على طريقة اللغة فى مثله.
__________
(1) الآية 42من سورة القلم.
(2) الآية 29من سورة القيامة.(1/738)
ومن سورة المدثر
808 - قوله تعالى: {وَمََا جَعَلْنََا أَصْحََابَ النََّارِ إِلََّا مَلََائِكَةً وَمََا جَعَلْنََا عِدَّتَهُمْ إِلََّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ وَيَزْدََادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمََاناً وَلََا يَرْتََابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ وَالْمُؤْمِنُونَ}
[31] فلا يدل على أن الملائكة يعذبون، ولا على أنه تعالى يجعلهم فتنة، لكى يكفر الكافر، وذلك أنه تعالى بين أنه جعلهم أصحاب النار، بمعنى أنه وكلهم بتعذيب أهل النار، ولو حمل الأمر على خلاف ذلك، لوجب ألا يدخل النار سواهم، وأن يكونوا معذبين، وهذا بخلاف دين المسلمين! وبيّن تعالى أن القدرة التى ذكرها منهم، على قلتها، جعل الاكتفاء بها دلالة على قدرته، وألزم من هذا الوجه الاستدلال على ما هو عليه، وشدد فيه المحنة، فصار ذلك فتنة للذين كفروا، وجعلهم كذلك، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب، من حيث يعلمون بهذا الخبر أنه، صلى الله عليه وسلم، لا يخبر إلا عن وحى، من حيث توافق ذلك، وليزداد الذين آمنوا إيمانا. وكل ذلك يدل على أنه تعالى يفعل هذه الأمور ويخبر عنها ليعتبر الخلق، ويستدلوا، ويقوموا بما كلّفوا.
809 - وأما قوله: {كَذََلِكَ يُضِلُّ اللََّهُ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ}
[31] فقد تقدم القول فى مثله، وأن المراد بذلك الضلال عن الثواب، والهدى إليه (1).
810 - وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمََا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [38] يدل
__________
(1) انظر الفقرة: 22.(1/739)
على أنه لا يؤاخذ الإنسان إلا بذنبه، وأن أطفال المشركين لا يجوز أن يعذبوا بذنوب آبائهم. «ويدل ذلك أيضا على أن (1) أفعال العباد لا يجوز أن تكون خلقا لله تعالى وإلا كان مأخوذا بخلق غيره على وجه لا يمكنه التخلص منه، ولئن جاز ذلك، ليجوزن أن يؤخذ بكسب غيره، وإن كان لا بقدر» على تركه (2).
811 - وقوله تعالى: {مََا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قََالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [4342] من أقوى ما يدل على أن من لم يصلّ فى دار الدنيا، قادر على الصلاة لأنه لو لم يكن قادرا عليها، لما صح أن يعذب، لأنه لم يفعلها كما لا يعذّب العاجز، لأنه لم يفعل ما لا سبيل له إلى فعله.
812 - وقوله: {كَلََّا إِنَّهََا تَذْكِرَةٌ} [54] للمكلفين، لكى يتعظوا وينزجروا. ثم قال: {فَمَنْ شََاءَ ذَكَرَهُ} [55] ولا يطلق ذلك فيمن لا يقدر على الفعل، لأنه لا يقال فى العبد: إن شاء أدار الفلك وطار فى الجو، من حيث يتعذر ذلك عليه، وإنما يقال هذا القول فيما يتمكن منه.
813 - وقوله تعالى: {وَمََا يَذْكُرُونَ إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} [56] فليس فى ظاهره إلا ما نقول: من أن العبد لا يطيع إلا والله قد شاءه لأنه تعالى لو لم يكلف ذلك، ولم يأمر به، ولم يشأ حدوثه، لم يكن ذلك طاعة، فكان لا يصح من العبد أن يشاء على هذا الحد. وإنما كان يكون شبهة للقوم لو كان المذكور من المعاصى، فأما إذا كان من الطاعات، فلا تعلق لهم به. وقد قال تعالى مثل ذلك فى سورة الإنسان: {إِنَّ هََذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شََاءَ}
__________
(1) فى الأصل: ويدل على ذلك أيضا.
(2) فى الأصل: عليه فتركه.(1/740)
{اتَّخَذَ إِلى ََ رَبِّهِ سَبِيلًا وَمََا تَشََاؤُنَ إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} [3029] فبين أنه لا يشاء اتخاذ السبيل، وسلوك طريق الحق، إلا أن يشاء الله ذلك بالتكليف، والأمر والنهى، وإبلاغهم حد التكليف، على ما بيناه. وقال تعالى بعد ذلك فى {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (1): {إِنْ هُوَ إِلََّا ذِكْرٌ لِلْعََالَمِينَ لِمَنْ شََاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمََا تَشََاؤُنَ إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} (2) يعنى: ما تقدم ذكره من الاستقامة، على الوجه الذى بينا.
وما لم يحمل الكلام فى هذه الآيات على ما قلناه، لم يصح أن يتعلق به المخالف، لأنه يوجب أنه تعالى يوجب أنه يشاء، بعد ما لم يكن شائيا له، على ما يقتضيه ظاهره، وليس ذلك طريقة القوم.
وقوله تعالى: {وَمََا تَشََاؤُنَ} لا بد من أن يكون متعلقا بما تقدم، على ما تقتضيه اللغة. فكأنه قال: وما تشاءون من استقامة الطريق إلا أن يشاء الله تعالى، فلا يخلو المراد به من أن يكون مشيئة مستقبلة، أو المشيئة التى ذكرناها.
وقد علمنا أن فى المستقبل لا يجب أن يشاء تعالى ما قد تقدم فعله، أو وفيه من أفعال المكلف. فلا بد من أن يحمل الكلام على ما ذكرناه.
* * * __________
(1) السورة 81، وتعرف بسورة التكوير، وقوله تعالى: {[إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ]}، الآية الأولى.
(2) الآيات: [3937].(1/741)
ومن سورة القيامة
814 - قوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسََانُ عَلى ََ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى ََ مَعََاذِيرَهُ}
[1514] يدل على أنه لا حجة ولا عذر للكافر والفاسق فيما ينزل بهما من العذاب ذلك اليوم. وقد علمنا أن الأمر لو كان كما يقوله القوم، لكان لهم أوضح العذر وآكد الحجة. وقد فسرنا ذلك من قبل (1).
815 - وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ}
[2322] لا يدل ظاهره على أنه تعالى يرى: من وجوه: أحدها: أنه تعالى ذكر أنها ناظرة إلى ربها، والنظر غير الرؤية «لأنه إذا علق (2) بالعين، فالمراد طلب الرؤية، كما إذا علق بالقلب، فالمراد طلب المعرفة، ولذلك يقول القائل:
نظرت إلى الشيء فلم أره، ونظرت إليه حتى رأيته، فلذلك نعلم باضطرار أن الناظر ناظر ولا نعلمه رائيا إلا بخبره. ولذلك أضافت العرب النظر إضافات، (3)
فجعلت منه نظر الراضى والغضبان إلى غير ذلك، ولم تضف الرؤية على هذا الحد. وإذا كان النظر غير الرؤية لما ذكرناه فكيف يدل الظاهر على أنهم يرون الله؟
ومتى قالوا: إذا ثبت بالظاهر أنه ينظر إليه، وجب أن يكون مما يصح رؤيته، [قلنا (4)] هذا يؤدى إلى أن يكون جسما فى جهة مخصوصة لأن النظر هو تقليب الحدقة نحو الشيء التماسا لرؤيته، وهذا لا يصح إلا والمطلوب رؤيته فى جهة مخصوصة، وذلك يوجب أنه جسم، تعالى الله عن ذلك! ولهذا قلنا إنه
__________
(1) انظر الفقرة: 783.
(2) فى الأصل: لأنها إذا علقت.
(3) فى الأصل: إضافا.
(4) فى الأصل: و.(1/742)
تعالى لما خلق النظر بنفسه، وعلمنا أن ذلك لا يصح فيه وجب أن يكون المراد به الثواب لأن الحكم الذى يقتضيه الاسم إذا لم يصح فيما علق به، وجب أن يكون المراد غيره، كقوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}، إلى غير ذلك من وجوه المجاز.
والثانى: أنه تعالى وصف الوجوه بأنها ناظرة، وقد علمنا أن هذه اللفظة تفيد الجملة لأن الناظر هو الإنسان دون بعضه، كما أنه العالم والقادر والفاعل، فإذا صح وكان الإنسان يوصف بأنه ناظر على وجه فيراد به الانتظار، وقد يراد به تقليب الحدقة طلبا للرؤية، وقد يراد به التفكر بالقلب طلبا للمعرفة، فليس فى الظاهر إذن دلالة على ما قاله القوم، وهو محتمل له ولغيره.
والثالث: أنه تعالى أراد بذكر الوجوه جملة الإنسان، لا البعض المخصوص ولذلك وصف الوجوه بأنها ناظرة، وذلك يليق بها دون الأبعاض، ولذلك قال من بعد: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بََاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهََا} [2524] فوصفها بالظن الذى لا يليق بالوجه. فإذا صح ذلك وجب كون الكلام مجملا، لأن الجملة إذا وصفت بأنها ناظرة، لم يفهم أن المراد بها الرؤية. وما يذكرون من قولهم: إن النظر إذا علق بالوجه فالمراد به الرؤية، لا يصح، [لأن] تعليق النظر بالوجه غير معروف فى اللغة. والذى يعرف تعليقه بالعين هو الرؤية، فأما تعليقه بالوجه، فهو كتعليقه بالرأس، فى أنه غير معروف أصلا! لأن هذا القول إنما كان يتم لو كان المراد بالوجه العضو المخصوص، وقد بينا أن الأمر بخلافه، ففارق ذلك ما استدللنا به من قوله تعالى: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} (1) فى نفى الرؤية، لأن الإدراك المطلق متى قرن بالبصر، لا يعرف فى اللغة أن يراد به إلا الرؤية بالبصر. وهذا بين.
__________
(1) الآية 103من سورة الأنعام. وانظر الفقرة 221.(1/743)