مقدمة التحقيق
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
الحمد لله ربّ العالمين. وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.
هذا كتاب (لباب الآداب) ألفه أحد أبطال الاسلام وفرسانه:
(الأمير أسامة بن منقذ) (584488هجرية) رحمه الله رحمة واسعة.
عهد إلىّ بتصحيحه صديقى الفاضل الأديب لويس سركيس. وكانت نسخته الأصلية المخطوطة عند أستاذنا الكبير العلامة الدكتور يعقوب صروف صاحب مجلة (المقتطف) الغراء. وقد وصفها وصفا جيدا فى المقتطف (شهر ديسمبر سنة 1907مجلد 32صفحة 960953) ستراه فيما يأتى.
وفى دار الكتب المصرية نسخة نقلت عنها بالتصوير الفتوغرافى برقم (4700أدب) وعندنا صورة أخرى منها.
وهذه النسخة هي نسخة المؤلف كتبت فى حياته (سنة 579هجرية) ثم أهداها لابنه الأمير (مرهف بن أسامة).
وفى أثناء طبع الكتاب، بعد إتمام (باب الكرم) وعند الشروع فى (باب الشجاعة) (ص 148) وجدنا نسخة أخرى منه فى دار الكتب المصرية، دلنى عليها صديقى الفاضل الأستاذ الشيخ محمد عبد الرسول. وكانت موضوعة فى الفهرس القديم فى علم التصوف.
وقد تفضل حضرة صاحب العزة الأستاذ الجليل (أسعد بك برادة مدير دار الكتب) باعارتى إياها لأستعين بها فى التصحيح.
وهى مكتوبة فى آخر (سنة 1066هجرية). وهى نسخة غير جيدة، وفيها تحريف كثير. ويظهر أن ناسخها كان يترك أشياء من الكتاب لا ينقلها:(1/3)
وقد تفضل حضرة صاحب العزة الأستاذ الجليل (أسعد بك برادة مدير دار الكتب) باعارتى إياها لأستعين بها فى التصحيح.
وهى مكتوبة فى آخر (سنة 1066هجرية). وهى نسخة غير جيدة، وفيها تحريف كثير. ويظهر أن ناسخها كان يترك أشياء من الكتاب لا ينقلها:
إما اختصارا، وإما كسلا، وإما عجزا عن قراءتها. ولكنها أفادتنا في التصحيح فى مواضع متعددة.
وكان أول همى أن أرجع إليها فى موضع الخرم فى النسخة الأصلية، وهو الموضع الذى أشار إليه الدكتور صروف فى مقاله الآتى، وهو فى الكتاب (ص 17 من النسخة المطبوعة). فوجدت أن كاتبها وصل الكلام ببعضه، فقال بعد قوله «ومن مزح استخف به» (ص 17س 2): «وقال الشاعر»، ثم ذكر البيتين «لا تله عن أمر» الخ، ولكنه كتبها «فلا تله عن أمر». وجاء هذا الكلام في وسط الصفحة. ولذلك ظننت بادىء ذى بدء أن نسخة الدكتور صروف كاملة، ولكنى تبينت بعد ذلك أن رأيه صحيح، وأن النسخة مخرومة.
لأن جملة «ومن مزح استخف به» جاءت فى آخر الصفحة هناك. ثم كتب الكاتب فى أسفل الصفحة كلمة «ومن أكثر» ثم جاء فى أول الصفحة التالية قوله «لاتله عن أمر».
وهذه الكلمة التى تكتب فى أسفل الصفحة تسمى فى اصطلاح الناسخين القدماء (التعقيبة) وهى تعاد مرة أخرى فى أول الصفحة التالية لتدل على أن الكلام متصل، وعلى أنه لم يسقط شىء بين الصفحتين، ولا تزال هذه الطريقة مستعملة فى المطبوعات القديمة وبعض المطبوعات الحديثة، وهى معروفة إلى الآن فى الأوساط العلمية الأزهرية وغيرها.
ويظهر لى أن النقص فى النسخة قديم فى عصر المؤلف أو بعده بقليل، وأن الناسخين نقلوا الكتاب على ما فيه من خرم، لأن النسخة الأخرى الجديدة تخالف القديمة فى مواضع كثيرة: باختلاف الألفاظ وبالنقص وبالزيادة أيضا كما سترى
من المقارنة بينهما فى أثناء الكتاب وهذا يدل على أن ناسخها لم ينقل عن الأصل العتيق الذى بين أيدينا، بل نقل عن أصل آخر.(1/4)
ويظهر لى أن النقص فى النسخة قديم فى عصر المؤلف أو بعده بقليل، وأن الناسخين نقلوا الكتاب على ما فيه من خرم، لأن النسخة الأخرى الجديدة تخالف القديمة فى مواضع كثيرة: باختلاف الألفاظ وبالنقص وبالزيادة أيضا كما سترى
من المقارنة بينهما فى أثناء الكتاب وهذا يدل على أن ناسخها لم ينقل عن الأصل العتيق الذى بين أيدينا، بل نقل عن أصل آخر.
وقد أشرنا فى تعليقاتنا الى النسخة القديمة بقولنا «الأصل» وإلى النسخة الأخرى الحديثة برمز «ح» واليهما معا بقولنا «الأصلين».
ولقد عنيت بالكتاب، وبذلت فيه جهدا كثيرا، وحاولت أن أخرجه للناس مثالا يحتذى فى جودة الطبع ودقة التصحيح. ولم يضن صديقى الفاضل الأديب لويس سركيس بشىء من النفقة فى سبيل ذلك.
وأعاننى فى تصحيحه شقيقى الأصغر السيد محمود محمد شاكر. وكثيرا ما سهر الليالى فى تحقيق بيت شعر أو تصويب جملة. وأعاننى أيضا صديقى الفاضل الشيخ محمد حامد الفقى فى مقابلة كثير من الكتاب على الأصلين، وفى تخريج بعض الأحاديث الواردة فيه.
والمؤلف رحمه الله يذكر فى أوائل الأبواب بعض الأحاديث النبوية، ولكنه لم يكن من العلماء بالسنة، فيأتى بأحاديث منها الصحيح ومنها غير الصحيح.
ولم أستجز لنفسى أن أترك حديثا واحدا من غير بحث عن أصله وصحته، نصيحة للأمة، وأداء للأمانة.
وعلى الرغم من كل هذا فانى عجزت عن معرفة كثير من الأحاديث التى.
فيه، ولذلك أنصح كل قارىء أن لا يحتج بشىء من الأحاديث فى الكتاب الّا بما صرحت أنه حديث صحيح أو حسن. وأما الأحاديث التى لم أكتب شيئا عنها أو أشرت إلى أنى لم أجدها فانه لا يجوز الاحتجاج بها، إلا أن يثبت للقارىء صحتها بالطريق العلمى الصحيح المعروف عند أهل هذا الفنّ. وهذا مما يجب على كل مسلم مراعاته بالدقة التامة فى كل كتاب. والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد، والاحتياط فيه واجب.
وقد وقعت فى الكتاب بعض أغلاط مع كل ما عانينا فى تصحيحه بعضها جاء سهوا منّي، وبعضها جاء خطأ فى النظر، وبعضها من الأغلاط المطبعية التى لا يتنزه عنها كتاب.(1/5)
فيه، ولذلك أنصح كل قارىء أن لا يحتج بشىء من الأحاديث فى الكتاب الّا بما صرحت أنه حديث صحيح أو حسن. وأما الأحاديث التى لم أكتب شيئا عنها أو أشرت إلى أنى لم أجدها فانه لا يجوز الاحتجاج بها، إلا أن يثبت للقارىء صحتها بالطريق العلمى الصحيح المعروف عند أهل هذا الفنّ. وهذا مما يجب على كل مسلم مراعاته بالدقة التامة فى كل كتاب. والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد، والاحتياط فيه واجب.
وقد وقعت فى الكتاب بعض أغلاط مع كل ما عانينا فى تصحيحه بعضها جاء سهوا منّي، وبعضها جاء خطأ فى النظر، وبعضها من الأغلاط المطبعية التى لا يتنزه عنها كتاب.
وأهمها أغلاط أربعة فى آيات قرآنية، نرجو من القارىء أن يصححها بقلمه عند اقتناء الكتاب. وذكرناها وحدها فى أول الاستدراك الملحق به.
ثم إنى عنيت بوضع الفهارس المفصلة، إذ هى مفاتيح الكتب، فجعلت له فهارس خمسة: أولا: أبواب الكتاب. ثانيا: الأعلام. ثالثا: الأماكن.
رابعا: أيام العرب. خامسا: قوافى الشعر.
وكنت أريد أن أضع فهرسا للآيات القرآنية، وآخر للأحاديث النبوية.
ولكنى وجدت فائدتهما فى الكتاب قليلة، لأنه يذكر الآيات ثم الأحاديث فى أول الأبواب. فموضعها فيه معروف ظاهر.
وبعد: فانى لا أظننى مغاليا إذا قلت إن هذا الكتاب من أجود كتب الأدب وأحسنها، وسيرى قارئه أنه ينتقل فيه من روض الى روض، ويحتنى أزاهير الحكمة، وروائع الأدب، ويقتبس مكارم الأخلاق.
وفيه ميزة أخرى جليلة: أن فيه أقوالا من نثر ونظم لم نجدها فى كتاب غيره من الكتب المطبوعة، فقد وجدنا فيه أبياتا لعامر بن الطفيل لم تذكر فى ديوانه المطبوع فى أوربا، مع أن المستشرق الذى طبعه جمع فيه كل ما وجد لعامر فى كتب الأدب الأخرى. ووجدنا أبياتا أخرى لمالك بن حريم الهمدانى لم نجدها فى غيره من الكتب، وكذلك لابن المعتز ولأبى العلاء المعرّى، ولغيرهم.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح.
مساء الأحد ثانى صفر الخير سنة 1354 5مايو سنة 1935 كتبه أبو الاشبال احمد محمّد شاكر(1/6)
مساء الأحد ثانى صفر الخير سنة 1354 5مايو سنة 1935 كتبه أبو الاشبال احمد محمّد شاكر
مقدمة الكتاب بقلم الدكتور يعقوب صروف
منشىء مجلة المقتطف كتاب لباب الآداب وقع لنا فى هذه الأيّام كتاب من خيرة كتب الادب العربيّة، وضعه كاتب من مشاهير الكتّاب، وهو أسامة بن مرشد بن على بن مقلّد بن نصر بن منقذ الكناني. والنسخة التى وقعت لنا هى النسخة الأصلية التى كتبت للمؤلف سنة 579للهجرة، وقد وهبها لابنه، وكتب ابنه عليها بيده يقول إن أباه وهبه إياها كما سيجىء. فهي من أقدم كتب الخط العربيّة المحفوظة إلى الآن.
والكتاب متوسط الحجم، طوله 23سنتمترا ونصف سنتمتر، وعرضه 15 سنتمترا، وفيه 249ورقة فى واحد وعشرين كراسا لا ينقصه إلّا ست ورقات من الكراس الثانى وجانب من حاشية الورقة الاخيرة.
واسم الكتاب فى الصفحة الأولى أبيض تحيط به نقوش مذهبة وزرقاء، وتحته اسم المؤلف ويحيط بالاثنين برواز منقوش. وقد تفنن ولده فى ما كتبه، فرسم حوله دوائر تحيط به كالغيوم بحبر أسود وذهبى، وملأ ما بين السطور بنقوش عقفاء تدلّ على أن الناس كانوا قد خرجوا من قيد الخطوط المستقيمة، وعكفوا على المنحنيات شأن المصورين. وخط الكتاب واضح جميل، وحبره أسود برّاق، وحروفه المعجمة منقوطة غالبا ما عدا الكلمة التى تكتب فى آخر الصفحة وتعاد فى الصفحة التالية، فانها غير منقوطة فى الغالب ويحتمل أن
يكون النقط طارئا على الكتاب، لكنّ هذا الاحتمال بعيد، لأن حبر النقط مثل حبر الحروف تماما، وحجمها يدل على أنها مكتوبة بالقلم الذى كتبت به الحروف. ويمتاز بتعلق بعض الحروف المنفصلة: فاذا وقعت بعد الألف دال، أو ذال، أو عين، أو غين علقت الألف بها، كما تعلق باللام فى الخط الديوانى وإذا وقعت بعد الدال ياء متطرفة مثل «عندى» علقت بها، وكثيرا ما توصل الكلمة الواحدة بالتى بعدها. وتترك الكاف أحيانا من غير شرطة ولا سيما إذا كانت فى أول الكلمة. وليس فى وسط الكاف الأخيرة كاف صغيرة. وقلما توضع علامة للحروف المهملة.(1/7)
واسم الكتاب فى الصفحة الأولى أبيض تحيط به نقوش مذهبة وزرقاء، وتحته اسم المؤلف ويحيط بالاثنين برواز منقوش. وقد تفنن ولده فى ما كتبه، فرسم حوله دوائر تحيط به كالغيوم بحبر أسود وذهبى، وملأ ما بين السطور بنقوش عقفاء تدلّ على أن الناس كانوا قد خرجوا من قيد الخطوط المستقيمة، وعكفوا على المنحنيات شأن المصورين. وخط الكتاب واضح جميل، وحبره أسود برّاق، وحروفه المعجمة منقوطة غالبا ما عدا الكلمة التى تكتب فى آخر الصفحة وتعاد فى الصفحة التالية، فانها غير منقوطة فى الغالب ويحتمل أن
يكون النقط طارئا على الكتاب، لكنّ هذا الاحتمال بعيد، لأن حبر النقط مثل حبر الحروف تماما، وحجمها يدل على أنها مكتوبة بالقلم الذى كتبت به الحروف. ويمتاز بتعلق بعض الحروف المنفصلة: فاذا وقعت بعد الألف دال، أو ذال، أو عين، أو غين علقت الألف بها، كما تعلق باللام فى الخط الديوانى وإذا وقعت بعد الدال ياء متطرفة مثل «عندى» علقت بها، وكثيرا ما توصل الكلمة الواحدة بالتى بعدها. وتترك الكاف أحيانا من غير شرطة ولا سيما إذا كانت فى أول الكلمة. وليس فى وسط الكاف الأخيرة كاف صغيرة. وقلما توضع علامة للحروف المهملة.
وفى الكتاب علامات تدلّ على أن الناسخ قرأه للمؤلف، فأصلح فيه قليلا لكنّ المؤلف لم يقرأه بنفسه، إمّا لضعف بصره فى شيخوخته، أو لسبب آخر لأن الكاتب يخطىء أحيانا خطأ صرفيا لا يدركه من يسمع ولا يقرأ، ولو رآه المؤلف لأصلحه حتما (1).
وهذه الأمور العرضية يعنى بها اليوم جماعة من العلماء الذين يبحثون عن الخطوط والكتب القديمة: ألمعنا إليها إلماعا وجوهر الكتاب قائم بموضوعه واسلوبه، فقد قسمه المؤلف إلى سبعة أبواب وهي: باب الوصايا، وباب السياسة، وباب الكرم، وباب الشجاعة، وباب الآداب، وباب البلاغة، وباب ألفاظ من الحكمة فى معان شتى.
ويبتدىء الباب بآيات من القرآن، تتلوها أحاديث نبوية، ثم أقوال حكميّة يتمثل بها، ونوادر وأشعار ونحو ذلك مما يرى بعضه فى كتاب «الغرر والعرر» للوطواط، وكتاب «محاضرات الأدباء» للراغب الأصبهانى.
__________
(1) وفى الكتاب مواضع من خطأ السماع تدل على أن المؤلف أملى الكتاب إملاءه وهو ما يسمى عند المحدثين فى علم المصطلح «تصحيف السماع». انظر شرحنا على الفية السيوطى (ص 205) كتبه أحمد محمد شاكر(1/8)
والمؤلف كاتب مشهور، ترجمه ابن خلكان فى «وفيات الأعيان».
[ثم نقل ترجمة المؤلف عن ابن خلكان، وقد حذفناها اكتفاء بالترجمة التى ستقرؤها فيما يأتى] وواضح من ذلك (1) أن المؤلف ألّف كتاب «لباب الآداب» قبل وفاته بنحو خمس سنوات، فألّفه وهو شيخ عرك الدهر واجتنى ثمار الاختبار.
وقد صورنا منه النصف الأعلى من الصفحة الأولى بعد الفهرس، والنصف الأعلى من الصفحة الأخيرة، كما ترى فى صدر هذه المقالة (2). وهاك قراءة ما فيها سطرا سطرا:
الصورة الاولى:
كتاب لباب الآداب تأليف أسامة بن مرشد بن مقلد بن نصر ابن منقذ الكنانى غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين حبانى مولاى والدى مجد الدين مؤيد الدولة وفقه الله بهذا الكتاب الذى هو من تأليفه بدمشق المحروسة فى شهور سنة اثنتين وثمانين وخمس مائة وكتبه ولده مرهف بن أسامة حامدا ومصليا الصورة الثانية:
[فرحم الله كريما وقف عليه وتصدق على مؤلفه بدعوة صالحة يثيبه الله تعالى عنها ويجزل حظه منها فهو سبحانه [من الدا] عى قريب يسمع ويجيب [وكان الف] راغ منه فى صفر سنة تسع وسبعين وخمس مائة
__________
(1) أى مما نقله عن ابن خلكان أن المؤلف مات سنة 584
(2) ونحن قد صورنا الصفحة الأولى كلها «وكذلك الصفحة الأخيرة والتى قبلها.(1/9)
[والحمد لله و] حده وصلواته على سيدنا محمد نبيه وصحبه وسلامه ناسخه الفقير الى رحمة ربه [غ] نايم (1) الناسخ المعرى غفر الله له ولوالديه ولجمع المسلمين وقد أشكلت علينا قراءة اسم ابنه فى خطه، واتفق أننا فتحنا «وفيات الأعيان» لنقرأ ترجمة الملك الأفضل، والد السلطان صلاح الدين، فاذا فيه:
ورأيت فى تاريخ كمال الدين بن العديم فصلا نقله من تعليق العضد مرهف بن أسامة بن منقذ الخ. فاتضح لنا من ذلك اسمه وأنه أديب ابن أديب.
والظاهر أن المؤلف نقح الكتاب بعد أن تمّ تبييضه ونسخه، فقطع الأوراق الأولى من أوائل الأبواب، وأبدلها بغيرها وزاد فيها كثيرا من الآيات والأحاديث. وهو فى الأصل واحد وعشرون كرّاسا، فى كل كراس منها عشر ورقات، أى إنه كان 210ورقات، لكن فيه الآن 249ورقة. وفى كل صفحة من الصفحات الأصلية 13سطرا، لكن الورقات التى زيدت فيه يختلف عدد سطورها، فيزيد تارة حتى يبلغ 20سطرا، وينقص أخرى حتى يبلغ 11سطرا.
والخط والحبر فى بعض هذه الأوراق غير جيدين، كأنها مقحمة فى الكتاب بعد حين. ولكن أكثره بالخط الجيد، والحبر الجيد، ولا شبهة فى أنه هو الأصل، كما هو واضح من وضع الكراريس، ولأن المؤلف يذكر فيه أهله وبلده ومؤلفاته وبعض ما لقيه فى سفراته، كقوله عن على بن أبى طالب (2): «وقد
__________
(1) كتب الينا الأستاذ درنبرج المستشرق الشهير من باريس يقول: إن الكلمة التى تعذرت علينا قراءتها فى اول السطر الثانى من الصفحة الأخيرة هي كلمة (عالية) واسم الناسخ (غنايم) فنرفع الى حضرته واجب الشكر، وما هى أول مرة أخذنا لغتنا عن أعجمى (المقتطف 33: 308).
اقول: هكذا قال الدكتور نقلا عن رأى المستشرق، ولكن تبين لنا من النسخة ح ان الكلمة التى فى أول السطر الثانى من الصفحة الأخيرة هي: (يهديها اليه). كتبه احمد محمد شاكر
(2) (ص 173من هذه المطبوعة).(1/10)
ذكرت شيئا من حروبه ووقعاته فى كتابى المترجم بكتاب فضائل الخلفاء الراشدين». وقوله (1): «كان بيننا وبين الاسماعيلية قتال فى قلعة شيزر فى سنة سبع وعشرين وخمس مائة». وقوله (2): «وقد كان عندنا بشيزر رجل يقال له محمد البشيبش كان يخدم جدّى سديد الملك أبو الحسن على بن نصر بن منقذ الكنانى، رحمه الله». وقوله (3): «قرأت على حائط مسجد بديار بكر سنة خمسة وستين وخمس مائة:
صن النفس وابذل كل شىء ملكته ... فان ابتذال المال للعرض أصون
ولا تطلقن منك اللسان بسوءة ... ففى الناس سوءات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت لديك معايبا ... لقوم فقل: يا عين للناس أعين
ونفسك إن هانت عليك فانها ... على كل من تلقى أذلّ وأهون».
فهل من أديب من أدباء دياربكر يبحث عن هذا المسجد، وينبئنا عما على حائطه من الأشعار، عساه لا يزال قائما كما كان؟
ثم شرع الدكتور فى نقل بعض فقرات من الكتاب لم نجد فائدة فى إعارتها هنا ثم كتب عنه مقالا آخر في عدد (ابريل سنة 1908مجلد 33ص 308 313) نقل فيه فقرات أيضا، وفى آخرها حكاية بطرك مصر مع الملك العادل بن السلار وطلب ملك الحبشة منه عزل بطرك الحبشة (ص 7372من هذه الطبعة) وقال عقب ذلك: «فهذا أمر جرى منذ نحو ثمانمائة سنة فى هذ القطر وفى هذه العاصمة، رآه مؤلف هذا الكتاب بعينه، وسمع ما قيل فيه بأذنه، وهو كأنه حدث أمس، وكتب عنه كما نكتب عنه اليوم. مرت ثمانمائة سنة والعادات لم تتغير، ولغة الكتاب لم تختلف اختلافا يذكر».
__________
(1) (ص 190).
(2) (ص 192).
(3) (ص 362).(1/11)
ثم كتب مقالا ثالثا فى عدد (مايو سنة 1908مجلد 33ص 483479) قال فى أوله: «فى كتاب لباب الآداب أمور كثيرة مذكورة فى كتب الأدب، وفيه أمور أخرى وقعت للمؤلف أو حدثت فى زمانه. والغالب أنه لم يذكرها أحد غيره، كقصة بطريرك الأقباط التى نقلناها عنه فى مقتطف ابريل. وها نحن موردون الآن حوادث أخرى حدثت فى زمانه، لا قصد الفكاهة، بل للاستدلال بها على شىء من أحوال الناس فى عصره، أى منذ نحو ثمانمائة سنة».
ثم نقل حكايات من الكتاب، منها حكاية فتح الافرنج انطاكية (ص 134132من هذه الطبعة) وحكاية المؤلف مع شيخة ابن المنيرة حين هجوم الاسمعيلية على حصن شيزر (ص 191190) وحكاية زهر الدولة بختيار مع الأسد (ص 199) ثم قال:
«نقف الآن عند هذا الحدّ، وفى النوادر التى نقلناها أمور كثيرة حرية بالنظر. من ذلك ذكره كلمة الافرنج بهذا اللفظ الشائع الآن فى مصر والشأم، فاستعمالها كذلك قديم، ولا داعى للعدول عنه إلى كلمة فرنج أو فرنجة. ولم نر فيما لدينا من التواريخ إشارة إلى قصة بغدوين ملك القدس وجوسلين صاحب تل باشر، لكن أبا الفرج قال فى تاريخه إن بغدوين مات فى القدس ووصى ببلاده للقمص صاحب الرها، وهو الذى أسره جكرميش وأطلقه سقاوو جاولى. وعليه فاسم الموصول راجع إلى بغدوين لا إلى القمص، إذا كان مراد أبى الفرج الاشارة إلى أسر بغدوين مع جوسلين واطلاق جاولى سقاوى لهما. وجاء فى تاريخ الصليبيين للسر جورج كوكس أن جوسلين أعان بلدوين البرجى حتى خلف الملك بلدوين الثانى، فجعله بلدوين البرجي أميرا على الرها. لكن جوسلين هذا أسر أخيرا سنة 546ومات أسيرا، فهل هو جوسلين عينه الذى أسر أو لا سنة 490؟. أو إن أسامة لم يكن يدقق فى ذكر السنين، كما يظهر مما نقلناه عنه فى الجزء الماضى، حيث
قال: إنه كان فى مصر سنة 547فى عهد الملك العادل، مع أن الملك العادل خلف الملك الصالح سنة 655.(1/12)
«نقف الآن عند هذا الحدّ، وفى النوادر التى نقلناها أمور كثيرة حرية بالنظر. من ذلك ذكره كلمة الافرنج بهذا اللفظ الشائع الآن فى مصر والشأم، فاستعمالها كذلك قديم، ولا داعى للعدول عنه إلى كلمة فرنج أو فرنجة. ولم نر فيما لدينا من التواريخ إشارة إلى قصة بغدوين ملك القدس وجوسلين صاحب تل باشر، لكن أبا الفرج قال فى تاريخه إن بغدوين مات فى القدس ووصى ببلاده للقمص صاحب الرها، وهو الذى أسره جكرميش وأطلقه سقاوو جاولى. وعليه فاسم الموصول راجع إلى بغدوين لا إلى القمص، إذا كان مراد أبى الفرج الاشارة إلى أسر بغدوين مع جوسلين واطلاق جاولى سقاوى لهما. وجاء فى تاريخ الصليبيين للسر جورج كوكس أن جوسلين أعان بلدوين البرجى حتى خلف الملك بلدوين الثانى، فجعله بلدوين البرجي أميرا على الرها. لكن جوسلين هذا أسر أخيرا سنة 546ومات أسيرا، فهل هو جوسلين عينه الذى أسر أو لا سنة 490؟. أو إن أسامة لم يكن يدقق فى ذكر السنين، كما يظهر مما نقلناه عنه فى الجزء الماضى، حيث
قال: إنه كان فى مصر سنة 547فى عهد الملك العادل، مع أن الملك العادل خلف الملك الصالح سنة 655.
وكيفما كانت الحال فالقصة محتملة الصدق، ولا بد من أنها كانت تروى فى عهده حتى تمثل بها. وهى تماثل ما يروى عن أخلاق فرسان الصليبيين وشهامتهم وحفظهم للذمام، وما كان جاريا فى ذلك العهد من استعانة أمراء المسلمين بأمراء الصليبيين، وأمراء الصليبيين بأمراء المسلمين.
ومنها اهتمام أمراء المسلمين بتعليم أولادهم، فقد كان أبو أسامة مستخذما شيخا من كبار العلماء لتعليم أولاده، وظهرت نتيجة تعليمه فى تفوق أسامة فى الانشاء، نثرا ونظما.
ومنها أن ذلك الزمان كان زمان حروب متتابعة، ولذلك كانوا يضطرون أن يقيموا فى الحصون ويصعدوا إليها بالحبال.
ومنها أن الاسود كانت لا تزال كثيرة فى بلاد الشام، أو فى أطرافها، فذكر هذا الاسد من غير استغراب، وقد انقرضت الأسود منها الآن
وواضح مما ذكره هنا أنه ألف كتاب (لباب الآداب) وعمره أكثر من تسعين سنة (1)، فهو ثمرة يانعة من ثمار عقله، بعد أن حنكته التجارب، وراضته الايام.
وفى الكتاب أدلة على أن الكاتب بيّض مسودات كانت عند أسامة وخطها غير جلىّ، لانه ترك بعض الأعلام الأعجمية ثم كتبها بقلم آخر وهو يقرأ الكتاب على المؤلف، أو أخطأ فى كتابتها ثم أصلحها لما قرأ الكتاب. أما دعاء أسامة على الافرنج بقوله: خذلهم الله (ص 132) فأقل مما كان يستعمله غيره من كتاب عصره». اه كلام العلامة الدكتور يعقوب صروف.
__________
(1) صرح المؤلف فى آخر الكتاب (ص 467) أنه ألّفه وهو ابن احدى وتسعين سنة.(1/13)
استدراك على كلام الدكتور صروف بقلم مصحح الكتاب
ولنا عليه استدراك فى قوله: «إن أسامة لم يكن يدقق فى ذكر السنين، كما يظهر مما نقلناه عنه فى الجزء الماضى، حيث قال: إنه كان فى مصر سنة 547فى عهد الملك العادل، مع أن الملك العادل خلف الملك الصالح سنة 655».
وذلك أنه نقل فى ترجمة المؤلف أنه توفى سنة 584، وبيده برهان ماديّ هو نسخة الكتاب (لباب الآداب) المخطوطة فى عصر المؤلف وعليها تاريخ كتابتها سنة 579. فمن الواضح إذن أن الملك العادل الذى كان بمصر سنة 547غير الملك العادل الذى كان بها سنة 655، وبينهما أكثر من مائة سنة، بل إن مؤلف الكتاب توفي قبل التاريخ الذى ذكره الدكتور صروف بأكثر من سبعين سنة، فلن يكون هذا من أن أسامة لم يكن يدقق فى ذكر السنين.
وإنما حقيقة الأمر: أن لقب «الملك العادل» كان ذائعا فى تلك العصور، وقد كان فى عصر المؤلف اثنان بهذا اللقب.
أحدهما: الملك العادل سيف الدين أبو الحسن على بن السلار، وهو الذى نقل أسامة القصة عنه. وكان أسامة دخل مصر يوم الخميس 2جمادى الآخرة سنة 539فى خلافة (الحافظ لدين الله الفاطمى)، ثم توفى الحافظ وجلس بعده فى كرسى الخلافة ابنه (الظافر بأمر الله)، وهذا الظافر أسند الوزارة لابن السلار، وخلع عليه خلع الوزارة، ولقّبه (الملك العادل). انظر (كتاب الاعتبار) للمؤلف (ص 86)، ولهذا الملك العادل بن السلار ترجمة عند ابن خلكان (ج 1ص 469467) وذكر فيها أنه تولى الوزارة للظافر الخليفة سنة 543ودخل القاهرة فى 15شعبان سنة 544، وأنه مات بمصر قتيلا يوم السبت 11محرم سنة 548.
والثانى: الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى، وله ترجمة عند ابن خلكان (ج 2ص 117115) وذكر فيها أنه ولد فى يوم الأحد 17شوال سنة 511، ومات يوم الأربعاء 11شوال سنة 569بقلعة دمشق. وهذا الملك العادل نور الدين لقيه المؤلف أسامة أيضا، إذ أرسله اليه صديقه الملك العادل بن السلار فى سفارة سياسية حربية كما قال فى الاعتبار (ص 10): «تقدم الى الملك العادل رحمه الله بالتجهز للمسير إلى العادل نور الدين رحمه الله» ثم قال فى (ص 14):(1/14)
أحدهما: الملك العادل سيف الدين أبو الحسن على بن السلار، وهو الذى نقل أسامة القصة عنه. وكان أسامة دخل مصر يوم الخميس 2جمادى الآخرة سنة 539فى خلافة (الحافظ لدين الله الفاطمى)، ثم توفى الحافظ وجلس بعده فى كرسى الخلافة ابنه (الظافر بأمر الله)، وهذا الظافر أسند الوزارة لابن السلار، وخلع عليه خلع الوزارة، ولقّبه (الملك العادل). انظر (كتاب الاعتبار) للمؤلف (ص 86)، ولهذا الملك العادل بن السلار ترجمة عند ابن خلكان (ج 1ص 469467) وذكر فيها أنه تولى الوزارة للظافر الخليفة سنة 543ودخل القاهرة فى 15شعبان سنة 544، وأنه مات بمصر قتيلا يوم السبت 11محرم سنة 548.
والثانى: الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى، وله ترجمة عند ابن خلكان (ج 2ص 117115) وذكر فيها أنه ولد فى يوم الأحد 17شوال سنة 511، ومات يوم الأربعاء 11شوال سنة 569بقلعة دمشق. وهذا الملك العادل نور الدين لقيه المؤلف أسامة أيضا، إذ أرسله اليه صديقه الملك العادل بن السلار فى سفارة سياسية حربية كما قال فى الاعتبار (ص 10): «تقدم الى الملك العادل رحمه الله بالتجهز للمسير إلى العادل نور الدين رحمه الله» ثم قال فى (ص 14):
«ووصلنا فى طريقنا الى بصرى فوجدنا الملك العادل نور الدين رحمه الله على دمشق». ثم اتصل أسامة بعد ذلك بخدمته (ص 34).
وأما بعد عصر المؤلف، وبعد زوال دولة الفاطميين، فقد كان بمصر الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب بن شادى، بويع بالسلطنة فى شوال سنة 595، ثم حفيده الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبى بكر بن أيوب، ولى الملك سنة 635. ثم خلع وبويع أخوه الملك الصالح نجم الدين أيوب سنة 636، ثم توفى سنة 647، وخلفه ابنه الملك المعظم توران شاه، ثم قتل يوم الاثنين 17محرم سنة 648، وتولت السلطنة بعده (شجرة الدر زوجة أبيه الملك الصالح) فى 2صفر سنة 648وخلعت نفسها بعد ثلاثة أشهر.
تقريبا. وكانت ختام الدولة الأيوبية. ثم بدأت دولة الأتراك. انظر تاريخ ابن اياس (ج 1ص 75و 82و 83و 85و 89و 90).
وأنت ترى من هذه السلسلة التاريخية أن الملك العادل الأيوبى كان قبل الملك الصالح لا بعده، وأنه تولى ملك مصر سنة 635لا سنة 655.
وأسال الله سبحانه أن يوفقنا لما فيه رضاه.
كتبه احمد محمد شاكر عفا الله عنه(1/15)
بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة المؤلف (1)
ولد يوم الأحد 47جمادى الآخرة سنة 488 (يوليو سنة 1095) توفى ليلة الثلاثاء 23رمضان سنة 584 (نوفمبر سنة 1188)
نسبه
أسامة بن مرشد بن على بن مقلّد بن نصر بن منقذ (2) بن محمد بن منقذ بن نصر بن هاشم بن سوار بن زياد بن رغيب بن مكحول بن عمرو بن الحارث بن عامر بن مالك بن أبى مالك بن عوف بن كنانة بن عوف (3) بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب (4) بن حلوان بن
__________
(1) هذه الترجمة مقتبسة من: الاعتبار للمؤلف (طبعة برنستون). ومختصر تاريخ ابن عساكر (2: 404400) وابن خلكان (بولاق سنة 1299، 1: 8078) ومعجم الأدباء لياقوت (2: 196173) والروضتين لأبى شامة (1: 105و 120111و 264) وتاريخ الاسلام للذهبى (مصور فتوغرافى بدار الكتب المصرية) ومن مصادر أخرى تذكر فى موضعها.
(2) بالذال المعجمة، ووقع فى بعض الكتب المطبوعة مثل (الروضتين) بالدال المهملة، وهو تصحيف، فانه فى النسخة العتيقة من لباب الآداب وهى نسخة المؤلف بالذال المعجمة، وإعجامها واضح جدا هناك وكذلك جاء فى قصيدة قافيتها بالذال المعجمة للقاضى ابن الذروي يمدح بها المبارك بن كامل ابن عم المؤلف، نقلها ابن خلكان (1: 559)
(3) فى المعجم «بكر» بدل «عوف» وصححناه من طبقات ابن سعد (ج 3ق 1ص 27) ومن ذيل المذيل للطبرى وهو الجزء (13ص 2) فى ترجمة زيد بن حارثة، ومن سبائك الذهب (ص 30). وفى الاستيعاب (ج 1ص 191) وأسد الغابة (ج 2ص 224) «كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة».
(4) بالتاء المثناة والغين المعجمة وكسر اللام. كما فى ابن سعد (ج 3ق 1ص 27) فى ترجمة زيد بن حارثة. و (ج 4ق 1ص 184) فى ترجمة دحية الكلبى، وفى ذيل المذيل للطبري (13: 2) وفى سبائك الذهب (ص 23). وضبطه بالكتابة. ووقع فى معجم الأدباء «ثعلب» بالثاء المثلثة والعين المهملة وفتح اللام، وكذلك فى الاشتقاق لابن دريد (ص 314) والاستيعاب وأسد الغابة، ووقع فى صبح الأعشى (ج 1ص 316) وفى الانباه على قبائل الرواة لابن عبد البر (ص 121) «ثعلبة» بزيادة التاء فى آخره. وكل هذا تصحيف، وصوابه بالمثناة والغين المعجمة كما قلنا.(1/16)
عمران بن الحاف (1)] بن قضاعة بن مالك بن عمرو (2) بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
قال ياقوت: «هكذا ذكر هو نسبه، وفيه اختلاف يسير عند ابن الكلبى»
أسرته
بنو منقذ: أسرة مجيدة، نشأ فيها رجال كبار، كلهم فارس شجاع، وكلهم شاعر أديب. وكانوا ملوكا فى أطراف حلب، «بالقرب من قلعة شيزر، عند جسر بنى منقذ المنسوب إليهم، وكانوا يترددون إلى حماة وحلب وتلك النواحى، ولهم بها الدور النفيسة، والأملاك المثمنة، وذلك كله قبل أن يملكوا قلعة شيزر، وكان ملوك الشام يكرمونهم، ويجلون أقدارهم، وشعراء عصرهم يقصدونهم، ويمدحونهم، وكان فيهم جماعة أعيان رؤساء كرماء أجلاء علماء (3)».
وحصن شيزر: قلعة قريبة من حماة، على بعد خمسة عشر ميلا منها، ولم يزل قائما إلى اليوم، معروف باسم «سيجر» تصحيف «شيزر» كما ذكر الأستاذ «فيليب حتي» فى مقدمة كتاب «الاعتبار».
وكان الحصن «لآل منقذ الكنانيين، يتوارثونه من أيام صالح بن مرداس (4)»
__________
(1) «الحاف» بدون ياء، ويقال «الحافي» بالياء، وهذه الزيادة زدناها من أكثر المصادر التى نبهنا إليها.
(2) فى معجم الأدباء «حمير» بدل «عمرو» وهو خطأ صححناه من المصادر المشار إليها، ومن سبائك الذهب (ص 19).
(3) ابن خلكان (2: 155)
(4) عن ابن الأثير (11: 88) والروضتين (1: 111)(1/17)
وصالح هذا ملك حلب سنة 417وقتل سنة 419أو 420كما فى ابن خلكان (1: 286) ويظهر أنه خرج بعد ذلك من أيديهم إلى الروم، واسترده منهم «سديد الملك أبو الحسن علي بن مقلد» جد المؤلف فى يوم السبت 27رجب سنة 474بالأمان بمال بذله للأسقف الذي كان فيه (انظر ذيل تاريخ دمشق) لأبى يعلى بن القلانسي ص 113وابن خلكان 1: 464ومعجم الأدباء 2: 187) وبقي الحصن فى أيديهم حتى خرب بالزلازل فى سنة 552وقتل كل من فيه من بنى منقذ تحت أنقاضه.
ورأس هذه الأسرة وزعيمها: أبو المتوّج مقلّد بن نصر بن منقذ، الملقب «مخلص الدولة». قال ابن خلكان (2: 155): «كان رجلا نبيل القدر، سائر الذكر، رزق السعادة فى بنيه وحفدته». مات بحلب فى ذى الحجة سنة 450وحمل الى كفر طاب. وكان الشعراء يقصدونه ويمدحونه، ورثاه بعضهم بقصائد نفيسة، منهم أبو محمد بن سنان الخفاجى مؤلف «سر الفصاحة». ونقل أسامة فى هذا الكتاب (ص 368) أبياتا من قصيدة ابن سنان فى رثائه.
ونقل ابن خلكان قصيدة «من فائق الشعر» لأبى يعلى حمزة بن عبد الرزاق بن أبى حصين فى رثائه أيضا.
ثم ابنه: أبو الحسن علي بن مقلد جد المؤلف الملقب «سديد الملك».
وكان أديبا شاعرا، وشجاعا مقداما، قوى النفس كريما، مات سنة 475، ومدحه جماعة من الشعراء، كابن الخياط وابن سنان الخفاجى.
ثم ابنه: أبو سلامة مرشد بن علي والد المؤلف الملقب «مجد الدين» ولد سنة 460ومات يوم الاثنين 8رمضان سنة 531 (31مايو سنة 1136).
وكان فارسا شجاعا، ثابت الجنان عند البأس، لا يرتاع، صالحا دائبا على مرضاة
ربه، ليس له شغل سوى الحرب وجهاد الافرنج ونسخ كتاب الله عز وجل، وهو صائم الدهر مواظب على تلاوة القرآن. وكان مغرما بالصيد لهجا به، له فيه ترتيب لا نظير له فيما حكى ابنه عنه، نسخ أكثر من أربعين مصحفا بخطه.(1/18)
وكان فارسا شجاعا، ثابت الجنان عند البأس، لا يرتاع، صالحا دائبا على مرضاة
ربه، ليس له شغل سوى الحرب وجهاد الافرنج ونسخ كتاب الله عز وجل، وهو صائم الدهر مواظب على تلاوة القرآن. وكان مغرما بالصيد لهجا به، له فيه ترتيب لا نظير له فيما حكى ابنه عنه، نسخ أكثر من أربعين مصحفا بخطه.
وحضر وقائع كثيرة، وفى بدنه جراح هائلة، ومات على فراشه (1).
وكانت امارة الحصن لأخيه الأكبر «نصر بن علي» فمات سنة 491عن غير عقب، ولما حضرته الوفاة عهد بالامارة إلى مرشد هذا فأبى زهدا فيها وقال:
«والله لا وليتها، ولأخرجنّ من الدنيا كما دخلتها ثم ولّاها أخاه أبا العساكر سلطان بن علي، وكان أصغر منه (2)».
وسلطان هذا لم يرزق أولادا فى أول أمره، فاصطفى لنفسه ابن أخيه مؤلف الكتاب: أسامة بن مرشد وكان يوليه عنايته ويعهد اليه بكثير من المهامّ، ثم رزق أولادا فى آخر أمره، فأظهر التجني على أخيه وأولاد أخيه، وكان فى الأمر بعض الستر فى حياة مرشد. وأما بعد وفاته فقد صارح سلطان أولاد أخيه العداء وأخرجهم من الحصن كرها فى العام التالى سنة 532.
وكان هذا من فضل الله عليهم، فنجوا من القتل تحت أنقاض الحصن فى سنة 552.
نشأته وأخباره
ولد أسامة يوم الأحد 27 (3) جمادى الآخرة سنة 488 (يوليو سنة 1095) بقلعة شيزر. وقد حكى هو تاريخ ولادته فى الاعتبار (ص 124). وكنيته «أبو المظفر». ونقل ياقوت كنية أخرى له وهى «أبو أسامة» وقد وجدت كنية ثالثة له فى عنوان كتابه (البديع فى نقد الشعر) الموجود بمكتبة بلدية
__________
(1) الاعتبار (ص 199و 192و 51).
(2) عن ابن الأثير (11: 88) والروضتين (1: 112111)
(3) مضى فى (ص 16س 3) 47بدلا من 27وهو خطأ مطبعى ظاهر، نأسف لوقوعه.(1/19)
الاسكندرية، وهى «أبو الفوارس» والكنية الأولى أشهر، ولم أجد ما يؤيد الأخريين. ويلقب «مؤيد الدولة مجد الدين».
ونشأ أسامة فى كنف أبويه وعمه وجدته، وفى وسط أسرة من أعظم الأسر العربية، أكثر رجالها فرسان محاربون من الطبقة الأولى، وبعد ولادته بنحو سنتين بدأت الحروب الصليبية فى بلاد الشام سنة 490، ورباه أبوه على الشجاعة والفتوة والرجولة، ومرّنه على الفروسية والقتال، وكان يخرجه معه إلى الصيد، ويدفع به بين لهوات الأسود. فأخرج منه فارسا كاملا، وسياسيا ماهرا، ورجلا ثابتا كالرواسى، لا تزعزعه الأعاصير، ولا تهوله النكبات والرزايا. فهو يقول عن نفسه بعد أن جاوز التسعين، إذ يحكي بعض ما لقي من الأهوال:
«فهذه نكبات تزعزع الجبال، وتفني الأموال، والله سبحانه يعوّض برحمته، ويختم بلطفه ومغفرته. وتلك وقعات كبار شاهدتها، مضافة إلى نكبات نكبتها، سلمت فيها النفس لتوقيت الآجال، وأجحفت بهلاك المال» (الاعتبار ص 35).
ويقول أيضا: «فلا يظنّ ظانّ أن الموت يقدمه ركوب الخطر، ولا يؤخره شدة الحذر، ففى بقائي أوضح معتبر، فكم لقيت من الأهوال، وتقحّمت المخاوف والأخطار، ولاقيت الفرسان، وقتلت الأسود، وضربت بالسيوف، وطعنت بالرماح، وجرحت بالسهام والجروخ (1) وأنا من الأجل فى حصن حصين إلى أن بلغت تمام التسعين فأنا كما قلت:
مع الثمانين عاث الدّهر فى جلدي ... وساءنى ضعف رجلى واضطراب يدي
اذا كتبت فخطّي جدّ مضطرب ... كخطّ مرتعش الكفّين مرتعد
فاعجب لضعف يدي عن حملها قلما ... من بعد حطم القنا فى لبّة الأسد
__________
(1) بالجيم فى أوله والخاء المعجمة فى آخره، وهى: من أدوات الحرب نرمى عنها السهام والحجارة. والكلمة معربة عن التركية أو الكردية.(1/20)
وإن مشيت وفى كفّي العصا ثقلت ... رجلي كأنّي أخوض الوحل فى الجلد
فقل لمن يتمنّى طول مدّته ... هذى عواقب طول العمر والمدد»
(الاعتبار ص 164163) (1)
ولم يكتف أبوه بتربيته الحربية، بل كان يحضر له الشيوخ الكبار ليعلموه هو وإخوته، فسمع الحديث من الشيخ الصالح أبى الحسن علي بن سالم السنبسي فى سنة 499كما فى تاريخ الاسلام للذهبى (2)، وقد روى عنه حديثا فى أول (لباب الآداب ص 1). وكان يؤدبه الشيخ العالم أبو عبد الله محمد بن يوسف المعروف بابن المنيرة المتوفى سنة 503 (3) وقرأ علم النحو قريبا من عشر سنين على الشيخ العالم أبى عبد الله الطّليطلي النحوي، وكان فى النحو سيبويه زمانه. (4)
والتوسع فى علم النحو هذه السنين الطويلة يستدعي كثرة الاطلاع على الشعر القديم، وعلى غريب القرآن وتفسيره، وعلى علوم البلاغة وما يتبعها. وكان الأمراء بنو منقذ ممن يقصدهم الأدباء والشعراء، يمدحونهم ويسترفدونهم، وكانوا هم أيضا علماء شعراء، فاقتبس أسامة من هذا المجتمع الأدبي الذي نشأ فيه أدبا جمّا، وعلما واسعا، وحفظ كثيرا من الشعر القديم، فقد نقل الحافظ الذهبى فى تاريخ الاسلام عن الحافظ أبي سعد السمعاني قال: «قال لى أبو المظفر يعنى أسامة أحفظ أكثر من عشرين ألف بيت من شعر الجاهلية» (5). وصار
__________
(1) الأبيات أيضا فى الروضتين (1: 114)
(2) مخطوط بدار الكتب المصرية
(3) الاعتبار (ص 85) ولباب الآداب (ص 101و 190)
(4) الاعتبار (ص 208)
(5) ينشر الأستاذ (فيليب حتى) سحابة من الشك على هذه الرواية فى ترجمته للمؤلف، ويقول «الراجح أنه لم يتصل بجيل أسامة هذا المقدار من الأبيات» وأظنه لو اطلع اطلاعا واسعا على ما بين أيدينا الآن من الشعر المنسوب لشعراء الجاهلية، ونظر إلى ما فقد من كتب الاسلام، وآثار العلماء والحفاظ، فى الحروب الصليبية، وفى هجوم التتر على البلاد الاسلامية، ثم فى الفتن والأحداث، ثم ما أخذته أوروبا من الكتب بعد أن خرجت باحتكاكها بالمسلمين من ظلمات لجهالة إلى نور العلم إما بالشراء وإما اختلاسا وانتهابا: لو نظر إلى هذا كله لم يكن لديه أي شك فى أن الشعر الجاهلي كان أكثر مما حفظ أسامة.(1/21)
شاعرا فحلا. حتى كان السلطان صلاح الدين الأيوبي لشغفه بديوان شعره يفضله على جميع الدواوين. (1)
ولما خرج أسامة من شيزر سنة 532أقام بدمشق نحوا من ثمان سنين فى رعاية صديقه وظهيره الأمير معين الدين أنر وزير شهاب الدين محمود، حتى نبت به دمشق «كما تنبو الدار بالكريم» (2). فسار إلى مصر فدخلها يوم الخميس 2جمادى الآخرة سنة 539قال: «فأقرّنى الحافظ لدين الله يعني الخليفة الفاطمي عبد المجيد بن المنتصر بالله العلويّ ساعة وصولى، فخلع عليّ بين يديه، ودفع لى تخت ثياب ومائة دينار، وخوّلنى دخول الحمام، وأنزلنى فى دار من دور الأفضل بن أمير الجيوش، فى غاية الحسن، وفيها بسطها وفرشها ومرتبة كبيرة وآلتها من النحاس، كل ذلك لا يستعاد منه شىء، وأقمت بها مدة فى إكرام واحترام، وإنعام متواصل» (3). ثم مات الخليفة الحافظ وولي الخلافة ابنه الأصغر (الظافر بأمر الله أبو منصور اسمعيل) وكان عمره 17سنة تقريبا، ووثب على الوزارة سيف الدين أبو الحسن (علي بن السلار) فخلع عليه الخليفة خلع الوزارة، ولقّبه (الملك العادل). وأرسل ابن السلار أسامة فى مهمة حربية سياسية لدى (الملك العادل نور الدين بن زنكى) وبعد وقائع وحروب عاد إلى مصر باستدعاء ابن السلار، ومكث فيها إلى سنة 549ثم خرج منها مكرها بعد قتل الخليفة الظافر. وقد وقعت فى مصر فى هذه السنوات الخمس مدة خلافته (549544) أحداث وفتن كبار، قتل فيها ابن السلار الوزير والظافر الخليفة. واتهم المؤرخون أسامة بأن له يدا فى قتلهما، بل بأنه هو الذي حرّض
__________
(1) نقل هذا فى الروضتين (1: 264) عن العماد الأصبهانى الكاتب.
(2) عن الخريدة للعماد الكاتب (مصور فتوغرافى بدار الكتب المصرية) ونقله عنه أيضا ابن خلكان وياقوت.
(3) الاعتبار (ص 6).(1/22)
على هذه الجرائم المنكرة (1). وقد برأه الله من أن يغمس يده فى الدماء البريئة.
وإنما اتّهم بذلك افتراء واتباعا للشائعات الكاذبة التى أشاعها ذوو الأغراض من الدساسين. وأسامة حكى فى الاعتبار تفاصيل هذه الحوادث (2)، والقارىء المنصف يتبين له أن الرجل برىء مما نسب إليه زورا وبهتانا.
وسنفصل القول فى ذلك فى ترجمته المطولة التى سننشرها قريبا إن شاء الله.
ذهب أسامة من مصر إلى دمشق فأقام بها مدة. ثم انتقل باهله وولده إلى «حصن كيفا» (3) وأقام بها إلى أن أخذ السلطان صلاح الدين الأيوبى دمشق فى ربيع الأول سنة 570، وكان الأمير عضد الدين أبو الفوارس «مرهف بن أسامة» جليس صلاح الدين وأنيسه، ولم يزل مشغولا بذكر أسامة، مشتهرا باشاعة نظمه ونثره، فاستدعاه إلى دمشق، وهو شيخ قد جاوز الثمانين (4). قال العماد: «فلما جاء مؤيد الدولة يعنى أسامة أنزله أرحب منزل، وأورده أعذب منهل، وملّكه من أعمال المعرّة ضيعة زعم أنها كانت قديما تجرى فى أملاكه، وأعطاه بدمشق دارا وإدرارا. وإذا كان يعني السلطان صلاح الدين بدمشق جالسه وآنسه، وذاكره فى الأدب ودارسه، وكان ذا رأي وتجربة، وحنكة مهذبة، فهو يستشيره فى نوائبه، ويستنير برأيه فى غياهبه. وإذا غاب عنه فى غزواته كاتبه، وأعلمه بواقعاته ووقعاته، واستخرج رأيه فى كشف مهماته، وحلّ مشكلاته» (5).
ومكث أسامة فى دمشق إلى أن مات بها ليلة الثلاثاء 23رمضان سنة 584
__________
(1) أنظر ابن الأثير (11: 75و 78) وتاريخ أبى الفداء (3: 27و 28) وابن خلكان (1:
97 - و 468) والنجوم الزاهرة (5: 289288و 293و 309) وابن خلدون (4: 7574) وخطط المقريزى (3: 4846).
(2) ص (296)
(3) من أطراف العراق والشام قال ياقوت فى معجم البلدان: «هى بلدة وقلعة عظيمة مشرفة على دجلة، بين آمد وجزيرة ابن عمر من دياربكر».
(4) لنظر تاريخ الاسلام، ومعجم الأدباء (2: 175) والروضتين (1: 264).
(5) عن الروضتين (1: 264).(1/23)
(نوفمبر سنة 1188) فعاش رحمه الله يوم / 25شهر / 2سنة / 96بالحساب الهجري.
وأخباره رضي الله عنه كثيرة، وآثاره عظيمة. حكى منها كثيرا فى كتابه (الاعتبار).
ثناء العلماء عليه
وصفه الذهبى فى تاريخ الاسلام بأنه «أحد أبطال الاسلام، ورئيس الشعراء الأعلام». وقال ياقوت فى معجم الأدباء (2: 174): «وفى بنى منقذ جماعة أمراء شعراء، لكن أسامة أشعرهم وأشهرهم». وقال العماد الأصبهانى الكاتب:
«وأسامة كاسمه، فى قوة نثره ونظمه، يلوح من كلامه أمارة الامارة، ويؤسس بيت قريضه عمارة العبارة، حلو المجالسة، حالي المساجلة، ندي الندي بماء الفكاهة، عالي النجم فى سماء النباهة، معتدل التصاريف، مطبوع التصانيف». (1)
وقال أيضا: «هذا مؤيد الدولة من الأمراء الفضلاء، والكرماء الكبراء، والسادة القادة العظماء. وقد متعه الله بالعمر وطول البقاء. وهو من المعدودين من شجعان الشام، وفرسان الاسلام. ولم تزل بنو منقذ ملّاك شيزر، وقد جمعوا السيادة والمفخر وكلهم من الأجواد الأمجاد. وما فيهم إلّا ذو فضل وبذل، وإحسان وعدل. وما منهم إلّا من له نظم مطبوع، وشعر مصنوع، ومن له قصيدة وله مقطوع. وهذا مؤيد الدولة أعرقهم فى الحسب، وأعرفهم بالأدب (2)».
وقال أيضا: وكنت قد طالعت مذيل السمعانى، ووجدته قد وصفه وقرظه، وأنشدني العامري له بأصفهان من شعره ما حفظه، وكنت أتمنى أبدا لقياه، وأشيم على البعد حياه، حتى لقيته فى صفر سنة 71يعنى 571بدمشق (3)»
__________
(1) نقله ياقوت عن العماده
(2) نقله فى الروضتين (1: 264).
(3) عن خريدة القصر (مصور فتوغرافى بدار الكتب المصرية) وعن ياقوت (2: 175) وعن تاريخ الاسلام للذهبى.(1/24)
وقال الحافظ ابن عساكر: «اجتمعت به دمشق وأنشدني قصائد من شعره سنة 558وقال لى أبو عبد الله محمد بن الحسن بن الملحي: إن الأمير مؤيد الدولة أسامة شاعر أهل الدهر، مالك عنان النظم والنثر، متصرف فى معانيه، لاحق بطبقة أبيه. ليس يستقصى وصفه بمعان، ولا يعبر عن شرحها بلسان.
فقصائده الطوال لا يفرق بينها وبين شعر ابن الوليد، ولا ينكر على منشدها نسبتها إلى لبيد. وهى على طرف لسانه، بحسن بيانه، غير محتفل بطولها، ولا يتعثر لفظه العالي فى شيء من فضولها وأما المقطعات فأحلى من الشهد، وألذّ من النوم بعد طول السهد، فى كل معنى غريب وشرح عجيب (1)».
وقد سمع منه من الكبراء الأجلّاء: الحافظ أبو سعد السمعانى عبد الكريم بن محمد (562506) وهو صاحب كتاب الأنساب. والحافظ ابن عساكر، وهو أبو القاسم علي بن الحسن (571499) صاحب تاريخ دمشق.
والعماد الكاتب الأصبهانى، واسمه محمد بن محمد بن حامد (597519).
والحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي (600541) وغيرهم.
مؤلفاته
(1) (لباب الآداب)، وهو هذا الكتاب الذى نقدمه للقراء، وألفه وهو ابن إحدى وتسعين سنة، كما ذكر فى آخره، ولم يطبع قبل الآن (2) (الاعتبار)، وهو كتاب طريف فى سيرته وأحواله، وألفه وهو ابن تسعين سنة، كما نص على ذلك فيه (ص 163). وقد طبع مرتين: الأولى فى ليدن سنة 18861884باعتناء الأستاذ هرتويغ در نبرغ. والثانية: فى مطبعة جامعة برنستون بالولايات المتحدة سنة 1930باعتناء الأستاذ فيليب حتى، وهى
__________
(1) تهذيب تاريخ ابن عساكر (2: 401).(1/25)
التى نشير إليها فى هذه الترجمة وفى تعليقاتنا على لباب الآداب.
(3) (البديع فى نقد الشعر). وهو كتاب جمع فيه ما تفرق فى كتب العلماء المتقدمين المصنفة فى نقد الشعر. كما قال فى مقدمته. وتوجد منه نسخة جيدة فى مكتبة بلدية الاسكندرية برقم (1344ب) وهى مكتوبة فى سنة 711وأوراقها 129ورقة.
(4) (التأسى والتسلى) أشار إليه فى لباب الآداب (ص 294و 410) (5) (الشيب والشباب) أشار إليه فى اللباب (ص 377) وذكر ياقوت أنه ألفه لأبيه.
(6) (النوم والأحلام) أشار إليه فى الاعتبار (ص 186).
(7) (أزهار الأنهار) ذكره صاحب كشف الظنون.
(8) (التاريخ البدري) جمع فيه أسماء من شهد بدرا من الفريقين، ذكره الذهبى (1)
(9) (التجائر المربحة والمساعي المنجحة) ذكره صاحب كشف الظنون (10) (كتاب القضاء) ذكره ياقوت. (2)
(11) (تاريخ القلاع والحصون) هذه الأربعة ذكرها الأستاذ فيليب حتى.
(12) (نصيحة الرعاة) هذه الأربعة ذكرها الأستاذ فيليب حتى.
(13) (أخبار النساء) هذه الأربعة ذكرها الأستاذ فيليب حتى.
(14) (كتاب المنازل والأديار) هذه الأربعة ذكرها الأستاذ فيليب حتى.
(15) (أخبار البلدان) فى مدة عمره. ذكره الذهبى.
(16) (ذيل يتيمة الدهر) ذكره ياقوت. وسماه الذهبى «ذيل خريدة
__________
(1) سماه الأستاذ فيليب حتى «التاريخ البلدى»، وهو خطأ واضح.
(2) سماه الأستاذ فيليب حتى «كتاب العصا» وهو خطأ.(1/26)
القصر للباخرزى» وهو خطأ فان كتاب الباخرزى اسمه «دمية القصر» وهو ذيل اليتيمة.
(17) (ديوان شعره) ذكره ابن خلكان، وذكر أنه فى جزأين، وأنه رآه بخط أسامة ونقل منه.
(18) (كتاب فى أخبار أهله) هكذا ذكر ياقوت، وقال إنه رآه. وذكر له كتابا آخر باسم (كتاب تاريخ أيامه) ولم أذكره وحده، لأني أرجح أنه يريد به كتاب (الاعتبار).
ويظهر من كلام الأستاذ فيليب حتى أن بعض هذه الكتب يوجد مخطوطا فى بعض مكاتب أوروبا. وإن أجدرها بالنشر ديوان شعره، فلعلنا نوفق إلى الحصول على نسخة منه ثم إلى طبعه، إن شاء الله.
شىء من شعره
ذكر المؤلف بعض أشعاره فى هذا الكتاب (لباب الآداب) وهى فى الصفحات (47و 184و 195و 202و 203و 225و 226و 380و 418و 429 و 451) ومجموعها 42بيتا.
وقد نقل الذين ترجموا له كثيرا من شعره. وسنذكر بعضه:
قال فى قلع ضرسه (عن الخريدة وياقوت وابن خلكان وغيرهم):
وصاحب لا أملّ الدهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد
لم ألقه مذ تصاحبنا فحين بدا ... لناظريّ افترقنا فرقة الأبد
ومن قديم شعره (عن الخريدة وياقوت والذهبى):
قالوا: نهته الأربعون عن الصبى ... وأخو المشيب يحور ثمّت يهتدي
كم حار فى ليل الشباب فدلّه ... صبح المشيب على الطريق الأقصد(1/27)
وإذا عددت سيّ ثم نقصتها ... زمن الهموم فتلك ساعة مولدي
ومن قديم شعره (عن الخريدة وياقوت):
لم يبق لي في هواكم أرب ... سلوتكم والقلوب تنقلب
أوضحتم لي سبل السلوّ وقد ... كانت لي الطّرق عنه تنشعب
الام دمعي من هجركم سرب ... قان، وقلبي من غدركم يجب؟
إن كان هذا لأن تعبّدني ... الحبّ فقد أعتقتني الريب
أحببتكم فوق ما توهّمه ... النّاس وخنتم أضعاف ما حسبوا
وسأله العماد: هل لك معنى مبتكر فى الشيب؟ فأنشده (عن الخريدة وياقوت):
لو كان صدّ معاتبا ومغاضبا ... أرضيته وتركت خدّي شائبا
لكن رأى تلك النضارة قد ذوت ... لمّا غدا ماء الشبيبة ناضبا
ورأى النّهى بعد الغواية صاحبي ... فثنى العنان يريغ غيري صاحبا
وأبيه ما ظلم المشيب فانّه ... أملى، فقلت: عساه عني راغبا
أنا كالدّجى لمّا تناهى عمره ... نشرت له أيدي الصباح ذوائبا
ونقل ابن خلكان من (ديوانه بخطه) قوله:
لا تستعر جلدا على هجرانهم ... فقواك تضعف من صدود دائم
واعلم بأنك إن رجعت اليهم ... طوعا، وإلّا عدت عودة راغم
ونقل منه أيضا فى ابن طليب المصرى وقد احترقت داره:
أنظر الى الأيام كيف تسوقنا ... قسرا الى الإقرار بالاقدار
ما أوقد ابن طليب قطّ بداره ... نارا، وكان خرائها بالنّار
ونقل منه أيضا أبياتا كتبها الى أبيه «مرشد» جوابا عن أبيات كتبها أبوه اليه، وهى:(1/28)
أنظر الى الأيام كيف تسوقنا ... قسرا الى الإقرار بالاقدار
ما أوقد ابن طليب قطّ بداره ... نارا، وكان خرائها بالنّار
ونقل منه أيضا أبياتا كتبها الى أبيه «مرشد» جوابا عن أبيات كتبها أبوه اليه، وهى:
وما أشكو تلوّن أهل ودّي ... ولو أجدت شكيّتهم شكوت
مللت عتابهم ويئست منهم ... فما أرجوهم فيمن رجوت
اذا أدمت قوارضهم فؤادي ... كظمت على أذاهم وانطويت
ورحت عليهم طلق المحيّا ... كأنّي ما سمعت ولا رأيت
تجنّوا لى ذنوبا ما جنتها ... يداي ولا أمرت ولا نهيت
ولا والله ما ضمّرت غدرا ... كما قد أظهروه ولا نويت
ويوم الحشر موعدنا وتبدو ... صحيفة ما جنوه وما جنيت
قال ابن خلكان: «وله بيتان فى هذا الرويّ والوزن، كتبهما فى صدر كتاب الى بعض أهل بيته، فى غاية الرقة والحسن، وهما»:
شكا ألم الفراق الناس قبلي ... وروّع بالنّوى حيّ وميت
وأما مثل ما ضمّت ضلوعي ... فإني ما سمعت ولا رأيت
وقال في محبوس (عن الخريدة وياقوت):
حبسوك والطير النواطق إنّما ... حبست لميزتها على الأنداد
وتهيّبوك وأنت مودع سجنهم ... وكذا السيوف تهاب في الأغماد
ما الحبس دار مهانة لذوي العلى ... لكنّه كالغيل للآساد
وقال فى الشمعة (عن الخريدة وياقوت):
انظر الى حسن صبر الشمع يظهر لل ... رّائين نورا وفيه النار تستعر
كذا الكريم تراه ضاحكا جذلا ... وقلبه بدخيل الغمّ منفطر
وقال أيضا (عن الخريدة):(1/29)
انظر الى حسن صبر الشمع يظهر لل ... رّائين نورا وفيه النار تستعر
كذا الكريم تراه ضاحكا جذلا ... وقلبه بدخيل الغمّ منفطر
وقال أيضا (عن الخريدة):
لأرمينّ بنفسي كلّ مهلكة ... مخفوفة يتحاماها ذوو الباس
حتى أصادف حتفي فهو أجمل بي ... من الخمول، وأستغني عن الناس
وقال أيضا (عن الخريدة وياقوت):
نافقت دهري فوجهي ضاحك جذل ... طلق، وقلبي كئيب مكمد باك
وراحة القلب فى الشكوى ولذّتها ... لو أمكنت لا تساوي ذلّة الشاكي
وقال من قديم شعره (عن الخريدة وياقوت):
لئن غضّ دهري من جماحي أوثني ... عناني أو زلّت بإخمصي النّعل
تظاهر قوم بالشّمات جهالة ... وكم إحنة فى الصدر أبرزها الجهل
وهل أنا إلّا السّيف فلّل حدّه ... قراع الأعادي ثم أرهفه الصّقل
قال أسامة فى الاعتبار (ص 161160): «ولم أدر أن الكبر عامّ، يعدي كلّ من أغفله الحمام. فلمّا توقّلت ذروة التسعين، وأبلانى مرّ الأيام والسنين، صرت كجواد العلّاف، لا الجواد المتلاف، ولصقت من الضعف بالأرض، ودخل من الكبر بعضي في بعض، حتى أنكرت نفسي، وتحسّرت على أمسي، وقلت في وصف حالي:
لمّا بلغت من الحياة الى مدى ... قد كنت أهواه تمنيت الردى
لم يبق طول العمر منّى منّة ... ألقى بها صرف الزمان اذا اعتدى
ضعفت قواي وخانني الثّقتان من ... بصري وسمعي حين شارفت المدى
فاذا نهضت حسبت أبى حامل ... حملا، وأمشي إن مشيت مقيّدا(1/30)
وأدبّ في كفّي العصا وعهدتها ... فى الحرب تحمل أسمرا ومهنّدا
وأبيت فى لين المهاد مسهدا ... قلقا كأنّني افترشت الجلمدا
والمرء ينكس فى الحياة، وبينما ... بلغ الكمال وتمّ عاد كما بدا
وأنا القائل بمصر، أذمّ من العيش الراحة والدّعة، وما كان أعجل تقضّيه وأسرعه! (1):
أنظر إلى صرف دهري كيف عوّدني ... بعد المشيب سوى عاداتي الأول
وفى تغاير صرف الدهر معتبر ... وأيّ حال على الأيّام لم تحل
قد كنت مسعر حرب كلّما خمدت ... أذكيتها باقتداح البيض فى القلل
همّي منازلة الأقران أحسبهم ... فرائسي، فهم منّي على وجل
أمضى على الهول من ليل، وأهجم من ... سيل، وأقدم في الهيجاء من أجل
فصرت كالغادة المكسال مضجعها ... على الحشايا وراء السّجف والكلل
قد كدت أعفن من طول الثّواء كما ... يصديّ المهنّد طول اللبث فى الخلل
أروح بعد دروع الحرب في حلل ... من الدّبيقي، فبؤسا لى وللحلل
وما الرّفاهة من رامي ولا أربي ... ولا التنعم من شاني ولا شغلي
ولست أرضى بلوغ المجد في رفه ... ولا العلى دون حطم البيض والأسل
وكنت أظنّ أن الزمان لا يبلى جديده، ولا يهي شديده، وأني إذا عدت إلى الشأم وجدت به أيامي كعهدي، ما غيّرها الزمان بعدي. فلما عدت كذبتني وعود المطامع، وكان ذلك الظنّ كالسراب اللامع. اللهم غفرا: هذه جملة اعتراضية عرضت، ونفثة همّ أقضّت ثمّ انقضت».
__________
(1) الأبيات الآتية رواها ابن عساكر أيضا (2: 403)(1/31)
وقال يمدح السلطان صلاح الدين الأيوبي بعد اجتماعه به فى دمشق سنة 570 (عن الروضتين 1: 264):
حمدت على طول عمري المشيبا ... وإن كنت أكثرت فيه الذّنوبا
لأني حييت إلى أن لقيت ... بعد العدوّ صديقا حبيبا
وفى هذا القدر كفاية الآن، وقد كنت إذ شرعت فى ترجمته بدالى أن أستوعب أحواله وأحوال أسرته، وأستقصي ما أجده من شعره ومناسباته، ولكني وجدت مجال القول ذا سعة، وأن المقام يضيق بهذا التوسع فى مقدمة كتاب، فعزمت على إفراد ذلك فى جزء خاصّ. وأسأل الله سبحانه أن يوفقني لاتمامه ونشره، إنه سميع الدعاء.
كتبه أبو الاشبال احمد محمّد شاكر(1/32)
1 - باب الوصايا
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
الوصيّة وصيّتان: وصيّة الأحياء للأحيآء وهي أدب وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وتحذير من زلل، وتبصرة بصالح عمل ووصيّة الأموات للأحيآء، عند الموت بحق يجب عليهم أداؤه، ودين يجب عليهم قضاؤه.
وقد أمرنا بالوصية بذلك عند الموت في الكتاب العزيز، والأخبار المرويّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى [فى سورة البقرة]: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذََا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوََالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [180] فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مََا سَمِعَهُ فَإِنَّمََا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [181])}
وأخبرني الشيخ الصالح أبو الحسن علي بن سالم بن الأعزّ علي السّنبسي رحمه الله بثغر شيزر في سنة تسع وتسعين وأربع مائة، قال: حدثني الشيخ أبو صالح محمد بن المهذب بن علي بن المهذب بن أبي حامد رحمه الله بمعرّة النعمان في منزله، [قال: حدثنى] جدي أبو الحسين علي بن المهذب رحمه الله، قال:
حدثنا جدي أبو حامد محمد بن همّام، قال: حدثنا محمد بن سليم القرشيّ، قال:
1. حدثنا إبراهيم بن هدبة (1) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن امرأتين أتتا (2) النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم: واحدة عليها ثياب خضر، والأخرى عليها ثياب صفر. واحدة تتكلم، والأخرى لا تتكلم، كلتاهما من أهل الجنّة قال: تتكلمين وهذه لا تتكلم؟ قالت: أنا إذ متّ أوصيت، وهذه ماتت بغير وصيّة، فهي لا تتكلم إلى يوم القيامة» فالوصيّة مندوب إليها، مأمور بها. وسأورد في هذا الكتاب ما يحضرنى منها في اختصار وأفتتحه بشىء مما ورد في الكتاب العزيز من ذلك، ثم ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم، ثم أفيض في سوى ذلك(1/33)
حدثنا جدي أبو حامد محمد بن همّام، قال: حدثنا محمد بن سليم القرشيّ، قال:
1. حدثنا إبراهيم بن هدبة (1) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن امرأتين أتتا (2) النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم: واحدة عليها ثياب خضر، والأخرى عليها ثياب صفر. واحدة تتكلم، والأخرى لا تتكلم، كلتاهما من أهل الجنّة قال: تتكلمين وهذه لا تتكلم؟ قالت: أنا إذ متّ أوصيت، وهذه ماتت بغير وصيّة، فهي لا تتكلم إلى يوم القيامة» فالوصيّة مندوب إليها، مأمور بها. وسأورد في هذا الكتاب ما يحضرنى منها في اختصار وأفتتحه بشىء مما ورد في الكتاب العزيز من ذلك، ثم ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم، ثم أفيض في سوى ذلك
فممّا ورد فى الكتاب العزيز
قول الله عز وجل في سورة النساء والوصيّة من الله تبارك وتعالى أمر:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلََا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى ََ إِلَيْكُمُ السَّلََامَ لَسْتَ مُؤْمِناً، تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا، فَعِنْدَ اللََّهِ مَغََانِمُ كَثِيرَةٌ، كَذََلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ، فَمَنَّ اللََّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا، إِنَّ اللََّهَ كََانَ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيراً [94])}
ومنها [سورة النساء]: {وَلِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيََّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللََّهَ، وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَكََانَ اللََّهُ غَنِيًّا حَمِيداً [13]}
ومن سورة الأنعام: {وَإِذََا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيََاتِنََا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}
__________
(1) ابراهيم بن هدبة أبو هدبة: كذاب، وادعى أنه رأى أنس بن مالك وسمع منه، وليس بصادق في هذا، وأحاديثه موضوعة. وهذا الحديث لم أجده في كتب الحديث ولعله من أكاذيب أبى هدية.
(2) في الأصل «اتيا».(1/34)
{حَتََّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، وَإِمََّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطََانُ فَلََا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى ََ مَعَ الْقَوْمِ الظََّالِمِينَ [68]}
ومنها [سورة الأنعام]: {وَلََا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ فَيَسُبُّوا اللََّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذََلِكَ زَيَّنََّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ، ثُمَّ إِلى ََ رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ، فَيُنَبِّئُهُمْ بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ [108]}
ومنها [سورة الأنعام]: {قُلْ تَعََالَوْا أَتْلُ مََا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، أَلََّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَبِالْوََالِدَيْنِ إِحْسََاناً، وَلََا تَقْتُلُوا أَوْلََادَكُمْ مِنْ إِمْلََاقٍ، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيََّاهُمْ وَلََا تَقْرَبُوا الْفَوََاحِشَ مََا ظَهَرَ مِنْهََا وَمََا بَطَنَ، وَلََا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللََّهُ إِلََّا بِالْحَقِّ ذََلِكُمْ وَصََّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [151] وَلََا تَقْرَبُوا مََالَ الْيَتِيمِ إِلََّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتََّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزََانَ بِالْقِسْطِ، لََا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا، وَإِذََا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كََانَ ذََا قُرْبى ََ، وَبِعَهْدِ اللََّهِ أَوْفُوا ذََلِكُمْ وَصََّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [152] وَأَنَّ هََذََا صِرََاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلََا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذََلِكُمْ وَصََّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [153]}
ومن سورة بني إسرائيل (1): {أَقِمِ الصَّلََاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى ََ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كََانَ مَشْهُوداً [78] وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نََافِلَةً لَكَ عَسى ََ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقََاماً مَحْمُوداً [79] وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطََاناً نَصِيراً [80] وَقُلْ جََاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبََاطِلُ إِنَّ الْبََاطِلَ كََانَ زَهُوقاً [81]}
__________
(1) وهي سورة الاسراء أيضا.(1/35)
ومن سورة الكهف: {وَلََا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فََاعِلٌ ذََلِكَ غَداً [23] إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذََا نَسِيتَ، وَقُلْ عَسى ََ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هََذََا رَشَداً [24]}. ومنها: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدََاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلََا تَعْدُ عَيْنََاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا، وَلََا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنََا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنََا وَاتَّبَعَ هَوََاهُ وَكََانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [28] وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شََاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شََاءَ فَلْيَكْفُرْ، إِنََّا أَعْتَدْنََا لِلظََّالِمِينَ نََاراً أَحََاطَ بِهِمْ سُرََادِقُهََا، وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغََاثُوا بِمََاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ، بِئْسَ الشَّرََابُ وَسََاءَتْ مُرْتَفَقاً [29]}
ومن سورة طه: {فَاصْبِرْ عَلى ََ مََا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهََا، وَمِنْ آنََاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرََافَ النَّهََارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ََ [130] وَلََا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ََ مََا مَتَّعْنََا بِهِ أَزْوََاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى ََ [131] وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلََاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهََا لََا نَسْئَلُكَ رِزْقاً، نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعََاقِبَةُ لِلتَّقْوى ََ [132]}
ومن سورة العنكبوت: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ حُسْناً، وَإِنْ جََاهَدََاكَ لِتُشْرِكَ بِي مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلََا تُطِعْهُمََا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [8]}
ومن سورة لقمان: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى ََ وَهْنٍ، وَفِصََالُهُ فِي عََامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوََالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [14]}(1/36)
ومن الأحاديث في ذلك
عن عبد الله بن عمر رضوان الله عليهما (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله عند لسان كلّ قائل، فليتّق الله عبد، ولينظر ما يقول» روى: «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أوصني قال: عليك باليأس مما في أيدي الناس، وإياك والطّمع، فإنه فقر حاضر وإذا صلّيت فصلّ صلاة مودّع وإياك وما يعتذر منه» وعن إسمعيل بن عمر (2) قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يوصي رجلا فقال: «أقلل من الدّين تعش حرّا، وأقلل من الذنوب يهن عليك الموت، وانظر في أي نصاب تصيّر (3) ولدك، فإنّ العرق دسّاس (4)» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أوصاني ربي جلّ وعزّ بتسع، وأنا أوصيكم بهنّ:
أوصانى بالسرّ والعلانية، وأن أعفو عمّن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني، وأن يكون صمتي فكرا، ونطقي ذكرا، ونظري عبرا (5)» روى أبو القاسم الزجاجي عن حرملة بن عبد الله (6) قال: «ارتحلت
__________
(1) الأصل «عليهم»
(2) يوهمنا هذا النص ان اسماعيل بن عمر هذا صحابى، ولكن لم أجده في الصحابة، ويظهر ان فى الأصل سقطا ضاع معه اسم الصحابى الذى روى الحديث، إن كان له اصل.
(3) غير واضحة في الاصل.
(4) قال ابن الاثير فى (دس) «استجيدوا الخال، فان العرق دساس» اى دخال، لانه ينزع في خفاء ولطف.
(5) في الكامل للمبرد (ج 1ص 122) وعيون الاخبار لابن قتيبة (ج 2ص 362). والوصايا هنا سبع والرواية هناك «بالاخلاص في السر والعلانية والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وأن أعفو» ورواية الكامل «ونظرى عبرة» واللفظان سواء.
(6) حرملة بن عبد الله العنبري من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رحل إليه وحدث عنه بهذا الحديث في الادب المفرد للبخارى طبعة سنة 1304 (ص 45) وفي الرواية اختلاف، ورواه أبو داود الطيالسى في مسنده مختصرا برقم (1207) وقال ابن حجر في الاصابة إن اسناده في الطيالسى والبخاري اسناد حسن(1/37)
الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزداد من العلم، فجئت حتى قمت بين يديه، فقلت:
يا رسول الله، ما تأمرنى أن أعمل به؟ فقال: يا حرملة، إيت المعروف، واجتنب المنكر، وانظر إلى الذى تحب أن يقوله القوم من الخير إذا قمت من عندهم فأته، وانظر إلى الذي تكره أن يقوله القوم من الشر إذا قمت من عندهم فاجتنبه. قال حرملة: فلما قمت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرت، فاذاهما أمران لم يتركا شيئا من إتيان المعروف واجتناب المنكر» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوصيكم بثلاث، وأنهاكم عن ثلاث: أوصيكم بالذكر، فان الله تعالى يقول: {فَاذْكُرُونِي} [1] أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] وأوصيكم بالشكر، فان الله تعالى يقول: {لَئِنْ} [2] شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ
[إبراهيم: 7] وأوصيكم بالدعاء، فان الله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
[غافر: 60] وأنهاكم عن البغى، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمََا بَغْيُكُمْ عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23] وأنهاكم عن المكر، فإن الله تعالى يقول: {وَلََا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلََّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] وأنهاكم عن النكث، فإن الله جل جلاله يقول: {فَمَنْ} [3] نَكَثَ فَإِنَّمََا يَنْكُثُ عَلى ََ نَفْسِهِ
[الفتح: 10]».
وقال عيسى ابن مريم صلى الله عليه لأصحابه: «إذا اتّخذكم الناس رؤوسا فكونوا أذنابا».
وقال عليه السلام: «يا معشر الحواريين، تحبّبوا إلى الله تعالى ببغض أهل المعاصي، وتقرّبوا إليه بالبعد منهم، والتمسوا رضاه بسخطهم».
8* عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال (4): «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة
__________
(1) في الأصل «اذكرونى»
(2) في الاصل «ولئن»
(3) في الاصل «ومن» وهو خطأ في التلاوة.
(4) هذا الحديث لم أجده بهذه السياقة. وإنما يوجد شىء منه في كتب السنة.(1/38)
وأنا ابن ثماني سنين، فانطلقت بي أمي إليه، فقالت: يا رسول الله، إنه ليس أحد من الأنصار إلا وقد أتحفك بهدية، وإني لم أجد شيئا أتحفك به غير ابنى هذا، فأحب أن أتحفك به، وتقبله منى، يخدمك ما بدا لك. قال أنس رضي الله عنه: فخدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما ضربني ضربة، ولا سبّني سبّة قط، ولا انتهرني قط، ولا عبس في وجهي قط. وقال: يا بنى، اكتم سرّي تكن مؤمنا. قال: فكانت أمى تألنى عن الشىء من سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أخبرها به وإن كانت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمة الله عليهنّ يسألنى عن سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أخبرهن به وما أنا بمخبر بسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا حتى أموت. قال: وقال لي: يا بنىّ، عليك بإسباغ الوضوء يزد في عمرك ويحبّك حافظا. يا بنىّ، بالغ في غسلك من الجنابة، فإنك تخرج من مغتسلك وليس عليك ذنب ولا خطيّة. قلت يا رسول الله، وما المبالغة في الغسل؟
قال: أن تبلّ أصول الشعر وتنقّى البشر. يا نبىّ، كن إن استطعت أن تكون (1) على وضوء فافعل، فإنه من أتاه ملك الموت وهو على وضوء أعطي الشهادة. يا بنيّ، إن استطعت أن لا تزال تصلي (2) فإن الملائكة تصلي عليك ما دمت تصلي. يا بنيّ، إياك والالتفات في الصلاة (3) فانّه هلكة. يا بنيّ إذا ركعت فارفع يديك عن جنبيك، وضع كفيك على ركبتيك. يا بنيّ، إذا رفعت رأسك من السجود فأسكن كل عضو موضعه، فانّ الله عزّ وجلّ لا ينظر يوم القيامة إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه. يا بنيّ، إذا قعدت بين السجدتين فابسط ظهري قدميك على الأرض، وضع أليتيك على عقبيك، فإن ذلك من سنّتي
__________
(1) كذا في الاصل، ولعله سقط من الاصل كلمة «أبدا» أو نحو هذا
(2) لعله سقط من الاصل كلمة «فافعل».
(3) في الاصل «فانها».(1/39)
ومن أحيا سنتي فقد أحبّني، ومن أحبّني كان معي في الجنة. لا تقع كما يقعي (1)
الكلب، ولا تنقر كما ينقر الدّيك. يا بنيّ، إذا خرجت من منزلك فلا يقعنّ بصرك على أحد من أهل القبلة إلا سلّمت عليه، فإنك ترجع وقد زيد فى حسناتك. يا بنيّ، إن استطعت أن تمسي وتصبح وليس في قلبك غشّ لأحد فافعل، فانّه أهون عليك في الحساب. يا بنيّ، إن حفظت وصيّتي فلا يكوننّ شىء أحبّ إليك من الموت» وعن أسامة بن زيد رحمهما الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كرهت أن يراه الناس منك، فلا تعمله إذا خلوت».
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من الكبائر أن يشتم الرجل والديه. قالوا: وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسبّ أبا الرّجل فيسبّ أباه، ويسبّ أمّه فيسبّ أمّه (2)» قيل: مرّ عيسى بن مريم صلى الله عليه على قوم يبكون على ذنوبهم فقال:
«دعوها يغفر (3) لكم» 11* وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي وقال:
«يا أبا هريرة، اتّق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وحبّ للناس ما تحبّ لنفسك تكن مسلما، وإياك وكثرة الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب (4)».
__________
(1) في الاصل «يقع»
(2) الحديث رواه البخارى في الصحيح في اوائل كتاب الادب ولفظه «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه» ورواه مسلم في الصحيح (ج 1ص 27) بلفظ «من الكبائر شتم الرجل والديه»
(3) كذا في الاصل «يغفر» بالياء، ولو كان «تغفر» بجعل الضمير عائدا على الذنوب لكان أصح واحسن.
(4) نسبه في الجامع الصغير لمسند احمد والترمذى والبيهقى في شعب الايمان. وقوله «حب» بكسر الحاء بمعنى «احب»: يقال «حبه يحبه بكسر الحاء» حكاه سيبويه، وقال الجوهرى إنه شاذ.(1/40)
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره. قالوا: يا رسول الله، وما حقّ الجار على الجار؟ قال: إن سألك فأعطه، وإن استعانك فاعنه، وإن استقرضك فأقرضه، وإن دعاك فأجبه، وإن مرض فعده، وإن مات فشيعه، وإن أصابته مصيبة فعزّه، ولا تؤذه بقتار (1) قدرك إلّا أن تغرف له منها، ولا ترفع عليه البناء لتسدّ عليه الريح إلا بإذنه» عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أوصني. قال: عليك بتقوى الله، فانه جماع كلّ خير، وعليك بالجهاد، فانه رهبانيّة الاسلام وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإنه نور في الأرض وذكر لك في السماء واخزن لسانك إلّا من خير، فإنه بذاك تغلب الشّيطان (2)» وعن أبي أميّة، قال: سألنا أبا ثعلبة الخشني رحمه الله، فقلنا: كيف نصنع بهذه الآية؟ قال: أيّة آية؟ قلت: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، لََا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فقال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا. سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «نعم ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيتم شحّا مطاعا، وهوى متّبعا، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه، ورأيت أمرا لا يدان لك به، فعليك بنفسك، ودع أمر العوامّ، فإن من ورائكم أياما، الصّابر (3) فيهنّ مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن
__________
(1) القتار بضم القاف ريح القدر والشواء ونحوهما.
(2) رواه احمد في المسند (3: 82) رقم 11797ولفظه «عن ابى سعيد الخدرى أن رجلا جاءه فقال: أوصنى، فقال: سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبلك: أوصيك بتقوى الله، فانه رأس كل شىء» وعليك بالجهاد، فانه رهبانية الاسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فانه روحك في السماء وذكرك في الارض واسناده ضعيف.
(3) في الاصل «ايام الصبر».(1/41)
كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله (1)» وعن عبد العزيز (2) قال: أوحى الله سبحانه إلى داود عليه السلام:
«يا داوود، اصبر على المؤونة، تأتك المعونة» وعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السّبع الموبقات، قيل: يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: الشرك بالله، والسّحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتّولّى يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (3)».
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال، قال موسى عليه السلام: «يا ربّ، أىّ عبادك أغنى؟ قال: الراضي بما أعطيته. قال: فأيّ عبادك أحبّ إليك؟
قال: أكثرهم لي ذكرا. قال: يا ربّ، فأيّ عبادك أحكم؟ قال: الذي يحكم على نفسه بما يحكم على الناس» وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا بعثه إلى اليمن مشى معه أكثر من ميل يوصيه قال: يا معاذ، أوصيك بتقوى الله العظيم، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، وحفظ الجار، وخفض الجناح، ولين الكلام، ورحمة اليتيم، والتّفقّه في القرآن، وحبّ الآخرة. يا معاذ، لا تفسد أرضا، ولا تشتم مسلما، ولا تصدّق كاذبا، ولا تعص إماما عادلا. يا معاذ، أوصيك بذكر الله عند كل شجر وحجر، وأن تحدث لكلّ ذنب توبة:
السّرّ بالسّرّ، والعلانية بالعلانية. يا معاذ، إني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي. يا معاذ، إني لو أعلم أنّا لو نلتقي لقصّرت لك من
__________
(1) الحديث رواه الطبرى في التفسير (7: 62) وذكره ابن كثير في تفسيره (3: 258) ونسبه لابى داود والترمذى وانه قال «حديث حسن غريب صحيح».
(2) لم اعرف من عبد العزيز هذا؟
(3) نسبه في الجامع الصغير إلى البخارى ومسلم وابى داود والنسائى.(1/42)
الوصيّة، ولكنى لا أرانا (1) نلتقي إلى يوم القيامة. يا معاذ، إن أحبّكم إليّ من لقيني يوم القيامة على مثل الحالة التي فارقني عليها» قال أبو موسى العطار: حدثنى رجل قال: «رأيت النبى صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت:
يا رسول الله، أوصني. فقال: من اعتدل يوماه (2) فهو مغبون، ومن كان غده شرا من يومه، فهو ملعون، ومن لم يتفقد النقصان من نفسه فهو في نقصان، فالموت خير له» عن عقبة بن أبي الصّهباء قال: لمّا ضرب ابن ملجم لعنه الله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه دخل عليه الحسن رضوان الله عليه وهو باك فقال: ما يبكيك يا بنيّ؟ قال: وما لي لا أبكي، وأنت في أول يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا؟! قال: يا بنيّ، احفظ عني أربعا وأربعا، لا يضرك ما عملت معهن. قال: وما هنّ يا أبه؟ قال: «أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العجب، وأكرم الحسب حسن الخلق». قال: يا أبه هذه الأربع فأعطني الأربع. قال: «يا بنيّ، إياك ومصادقه الكذاب فإنه يقرّب عليك البعيد (3)، ويبعد عليك القريب. وإياك ومصادقة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك. وإياك ومصادقة البخيل فإنه يعقد عنك أحوج ما تكون إليه. وإياك ومصادقة الفاجر، فإنه يبيعك (4) بالتافه (5)»
__________
(1) في الاصل «اراني».
(2) يعنى يومه وغده.
(3) في نهج البلاغة (ابن أبى الحديد 4: 259) «واياك ومصادقة الكذاب، فانه كالسراب، يقرب عليك البعيد»
(4) في الاصل «؟ ت؟ عك».
(5) هذه القطعة ذكرها المؤلف على انها وصية علي لابنه، وقد تكون كذلك، ولكنها في نهج البلاغة لم تذكر على انها وصية. والوصية غيرها هناك (4: 111). وعقبة بن ابى الصهباء راوى هذه القطعة هنا متأخر لم يدرك مقتل علي، بل هو من طبقة الامام مالك، أى في القرن الثاني من الهجرة، وله ترجمة في تعجيل المنفعة (ص 288).(1/43)
وقال محمد بن علي (1) رضوان الله عليهما لابنه: يا بنيّ، لا تكسل، فإنك ان كسلت لم تؤدّ حقّا ولا تضجر، فإنك إن ضجرت لم تصبر على حقّ ولا تمتنع من حقّ، فإنه ما من عبد يمتنع من حقّ إلا فتح الله عليه باب باطل فأنفق فيه أمثاله.
قال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: «من عرّض نفسه للتهمة فلا يلومنّ من أساء به الظنّ ومن كتم سرّه كانت الخيرة بيده. وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك عليه. ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من امرىء مسلم شرّا وأنت تجد لها في الخير مخرجا (2) وعليك بإخوان الصدق فكس (3)
في اكتسابهم، فإنهم زينة في الرخاء، عدة في البلاء. ولا تهاون في الحلف بالله فيهينك. وعليك بالصدق ولو قتلك، ولا تعتز إلى من لا يغنيك (4) واعتزل عدوّك واحذر صديقك إلّا الأمين: والأمين من خشى الله تعالى. ولا تصحب الفاجر فتتعلّم من فجوره، ولا تطلعه على سرّك فيفضحك. وتخشّع عند القبور واخ الإخوان على قدر التقوى ولا تستعن على حاجتك من لا يحبّ نجاحها لك وشاور في أمرك الذين يخافون الله عز وجل» ومن عجيب الوصايا ما روي عن قتادة قال: أخبرني محمد بن ثابت بن قيس ابن شمّاس الأنصاري رحمه الله، قال: «كان ثابت بن قيس رجلا (5) جهير
__________
(1) هو إما محمد الباقر بن زين العابدين على بن الحسين بن على بن أبى طالب، وإما محمد بن على ابن أبى طالب المعروف «بابن الحنيفة».
(2) في سيرة عمر لابن الجوزى (ص 177) طبعة الخانجى «محملا».
(3) الكيس العقل والتوقد، أى كن كيسا في اكتسابهم، وفي ابن الجوزى «فكثر في اكتسابهم ولعله تصحيف، وما هنا أحسن وأوضح
(4) في ابن الجوزى (ص 178)، «لا تعترض لما لا يعنيك» ولعلها كلمة أخرى غير هذه. واعلم أن بعض هذه الوصايا مذكور عند ابن الجوزى مفرقا، وليس مجموعا في وصية واحدة، فلعلها رواية أخرى.
(5) في الاصل «رجل» ولعله كتب على قاعدة من يكتب المنصوب بغير الف اتباعا للوقف عليه بالسكون كالوقف على المرفوع والمجرور، وهى لغة قليلة معروفة.(1/44)
الصوت، يحب الجمال والشرف، وكان قومه قد عرفوه بذلك. فلما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتََالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] انصرف ثابت بن قيس بن شماس رحمه الله من عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينتحب فدخل بيته وأغلق عليه وطفق يبكي، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه بشير بن سعد رحمه الله فأخبره خبره. فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أمره، فقال: أنزل الله تعالى عليك {إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتََالٍ فَخُورٍ} وأنا أحب الجمال، وأحب أن أسود قومي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لست منهم. إنك تعيش بخير، وتموت بخير وتدخل الجنّة. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من بيته، وسرّ بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أنزل الله تعالى {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَرْفَعُوا أَصْوََاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] (1) رجع ثابت ابن قيس بن شماس رحمه الله إلى بيته ينتحب فدخل بيته وأغلق عليه. فافتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه أبا مسعود الانصارى (2) رحمه الله فأخبره خبره. فأرسل إليه رسول الله عليه صلى الله عليه وسلم فساله، فقال: إن الله عز وجل أنزل عليك {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَرْفَعُوا أَصْوََاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} وأنا جهير الصوت، فأخاف أن يكون قد حبط عملي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لست منهم، إنك تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، ويدخلك الله الجنة. فكان ثابت رحمه الله يتوقع الشهادة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرزقها. فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدّت العرب، وبعث أبو بكر الصديق رضوان الله عليه خالد بن الوليد
__________
(1) تمام الآية {وَلََا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمََالُكُمْ وَأَنْتُمْ لََا تَشْعُرُونَ}
(2) اسمه «عقبة بن عمرو بن ثعلبة».(1/45)
رضي الله عنه إلى اليمامة (1)، انتدب (2) ثابت بن قيس بن شماس، فعقد له أبو بكر الصديق رضي الله عنه لواء على الأنصار رضي الله عنهم. ثم سار مع خالد إلى أهل الردة، فشهد وقعة طليحة بن خويلد (3) وأصحابه، ثم شهد اليمامة، فلما رأى انكشاف المسلمين، قال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم:
ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفرا لأنفسهما حفرتين وقاما فيهما (4)
مع سالم مولى أبي حذيفة راية المهاجرين، ومع ثابت بن قيس راية الأنصار حتى قتلا رضي الله عنهما، وعلى ثابت درع له نفيسة كانت لآبائه، فمر به رجل من الضاحية (5) فأخذها عنه، وهو قتيل رحمه الله، فأري بلال بن رباح رحمه الله ثابت بن قيس يقول له في منامه: إني أوصيك بوصيّة، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعها. إني لما قتلت بالأمس جاء رجل من ضاحية نجد، وعليّ درعي فأخذها، فأتى بها منزله فأكفأ عليها برمة، وجعل على البرمة رحلا، وخباؤه في أقصى العسكر، إلى جانب خبائه فرس يستنّ في طوله (6). فأت خالد بن الوليد فخبّره، فليبعث إلى درعي فليأخذها، وإذا قدمت على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن علىّ من الدّين كذا، ولي من الدين كذا وسعد ومبارك غلاماي حرّان: فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه. فلما أصبح بلال رحمه الله أتى خالدا رحمه الله فخبره الخبر فبعث خالد نفرا إلى الدرع فوجدوها كما قال، فلما قدم بلال رحمه الله المدينة، أتى أبا بكر الصديق رضوان الله عليه فأخبره
__________
(1) اليمامة: قريب من البحرين، كانت تعد من بلاد نجد، وهى التى ظهر فيها مسيلمة الكذاب.
(2) انتدب إلى الامر: أسرع ولو لم يدع إليه.
(3) ادعى النبوة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتله المسلمون ففر إلى الشام، ثم أسلم وحسن اسلامه رحمه الله.
(4) في الأصل «فيها» وهو خطأ
(5) الضاحية: ما تنحى عن المساكين والأسواق وكان بارزا.
(6) يستن:
يمرح. والطول بكسر الطاء وفتح الواو: الحبل الطويل يشد أحد طرفيه في وتد أو غيره والآخر في يد الفرس فيدور فيه ويرعى.(1/46)
بوصيّة ثابت بن قيس بن شمأس رحمه الله فاجازها. فلا نعلم أحدا من المسلمين أجيزت وصيّته بعد موته على هذا الوجه إلا ثابت بن قيس بن شماس رحمه الله» (1).
عن الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال لي أبي: إني أرى أمير المؤمنين يعني عمر بن الخطاب رضوان الله عليه يدنيك دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فاحفظ عني ثلاثا: لا يجرّبنّ عليك كذبا، ولا تغتابنّ عنده أحدا، ولا تفشينّ له سرّا. قال: فقلت: يا أبا عباس (2) كل واحدة خير من ألف دينار، قال: كل واحدة منهن خير من عشرة آلاف دينار (3).
قال عبد الله بن الحسن بن الحسين (4) رضوان الله عليهم لابنه محمّد رضي الله عنه: يا بنيّ، احذر مشهورة الجاهل وإن كان ناصحا، كما تحذر العاقل إذا كان عدوّا فيوشك أن يورطك الجاهل بمشورته في بعض اغتراره (5)، فيسبق إليك مكروه فكر العاقل. وإياك ومعاداة الرجال، فإنها لن تعدّيك مكر حليم أو مفاجأة جاهل.
كتب إلى عبد الله بن الحسن رضى الله عنهما صديق له: أوصيك بتقوى الله عز وجل، فإنه جعل لمن اتّقاه من عباده المخرج مما يكره، والرزق من حيث لا يحتسب.
دخل كعب الأحبار يوما على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، فأمره بالجلوس إلى جانبه، فتنحّى (6) كعب قليلا، فقال له عمر: ما منعك من
__________
(1) هذه القصة المطولة رويت أجزاؤها بأوجه مختلفة، وأطولها رواية الحاكم في المستدرك (3: 235) وعنده أيضا قطع اخرى منها. وانظر تفسير الطبرى (26: 7675) والدر المنثور للسيوطى (6: 8684) وفي الفاظها وترتيبها خلاف لما هنا. وانظر أيضا ترجمة ثابت في الاستيعاب واسد الغابة والاصابة.
(2) عبد الله بن عباس كنيته (ابو عباس)
(3) هى في الكامل للمبرد (1:
155) مع اختلاف يسير.
(4) صوابه «عبد الله بن الحسن بن الحسن» إذ ليس في أولاد الحسين من اسمه «الحسن». ثم هذا النسب معروف «محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن على بن ابي طالب».
(5) في الاصل «اعتزاره» وهو تصحيف.
(6) في الاصل «فتنحا» بالألف.(1/47)
الجلوس إلى جانبي؟ قال: يا أمير المؤمنين، وجدت في حكمة لقمان مما أوصى به ابنه أن قال له: يا بنيّ، إذا قعدت إلى ذي سلطان فليكن بينك وبينه مقعد رجل، فلعلّه أن يأتيه من هو آثر عنده منك، فيريد أن تنحّى (1) له عن مجلسك، فيكون ذلك نقصا عليك وشينا.
قال المدائنى: قال زيد بن علي رضي الله عنهما لأصحابه: أوصيكم بتقوى الله، فإن الموصى (2) بها لم يدّخر نصيحة، ولم يقصر في الإبلاغ. فاتقوا الله في الأمر الذي لا يفوتكم منه شيء وإن جهلتموه وأجملوا في الطلب، ولا تستعينوا بنعم الله على معاصيه. وتفكّروا وأبصروا: هل لكم قبل خالقكم من عمل صالح قدّمتموه فشكره لكم؟ فبذلك جعلكم لله تعالى أهل الكتاب والسنّة، وفضلكم على أديان آبائكم. ألم يستخرجكم نطفا من أصلاب قوم كانوا كافرين، حتى بثكم في حجور أهل التوحيد، وبثّ من سواكم في حجور أهل الشرك؟ فبأيّ سوابق أعمالكم طهّركم؟ إلّا بمنّه وفضله الذي يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
كان أبو الدّرداء رضي الله عنه يقول لأصحابه: لا تكلفوا (3) من أمور الناس ما لم تكلّفوا (4)، ولا تحاسبوهم دون ربهم تعالى. ابن آدم، عليك نفسك: فإنّه من يكثر تتبّع الناس لما يرى في أيديهم يطل حزنه، ويكثر فكره، ولا يشفى (5) غيظه.
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه في وصيّته: إنه لا بدّ لك من نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج. فابدأ بنصيبك من الآخرة فخذه، فإنه سيمرّ على نصيبك من الدنيا فينتظمه انتظاما، ويزول (6) معك حيث مازلت.
__________
(1) كتبت في الأصل بالالف أيضا.
(2) ضبط في الأصل «الموصى» بفتح الصاد، وهو خطأ ظاهر، بل هو بكسرها اسم فاعل.
(3) كلف الأمر وتكلفه: تعرض له وهو لا يعنيه.
(4) في الاصل «ما لا تكلفوا».
(5) ضبط في الاصل «يشفي» بكسر الفاء، ولو كان هذا لكان «ولا يشف» بحذف حرف العلة عطفا على المجزوم قبله.
(6) يزول: يتحرك.(1/48)
عن الأحنف بن قيس رحمه الله قال، قال لي عمر رضوان الله عليه: يا أحنف، من كثر ضحكه قلّت هيبته، ومن مزح استخفّ به، [ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه] (1)
لا تله عن أمر وهى منه جانب ... فيتبعه في الوهي لا شكّ سائره
إذا طرف من حبلك انحلّ صدره ... تداعت وشيكا بانحلال مرائره (2)
وقال آخر (3):
اقض الحوائج ما استطعت، وكن لهمّ أخيك فارج فلخير أيام الفتى يوم قضى فيه الحوائج كتب بعض الحكماء إلى أخ له: أما بعد، فاجعل القنوع ذخرا تبلغ به إلى أن يفتح باب يحسن بك الدخول فيه فإن الثقة من القانع لن تخذل، وعون الله سبحانه مع ذي الأناة. وما أقرب الصنع من الملهوف! وربما كان الفقر نوعا من آداب الله عزّ وجلّ، وخيرة في العواقب. والحظوظ مراتب. فلا تعجل على ثمرة لم تدرك، فإنك تدركها في أوانها عذبة. والمدبّر لك أعلم بالوقت الذي تصلح فيه لما توصل [به] (4) فثق بخيرته لك في الأمور كلها.
وقال المهلّب بن أبى صفرة رحمه الله لولده: إذا سمع أحدكم العوراء فليتطأطأ لها تخطّه.
__________
(1) ما بين القوسين تكملة الكلام من سيرة عمر لابن الجوزى (ص 177) ثم بعد ذلك خرم في الاصل يبلغ نحو ست ورقات، كما ذكر ذلك العلامة الدكتور يعقوب صروف في مجلة «المقتطف» عدد شهر ديسمبر سنة 1907.
(2) مرة الحبل بكسر الميم وفتح الراء المشددة طاقته، وهي المريرة، وجمعها مرائر.
(3) هو أبو العتاهية وانظر ديوانه (ص 62).
(4) في الاصل «يصلح» بالياء، وبحذف «به».(1/49)
قال أبو حازم رحمه الله: رأيت الدنيا شيئين: لي ولغيري: فما كان لغيري فلا سبيل إليه، وما كان لي فلو جهدت لم أقدر عليه قبل وقته. ففيم أتعب نفسي؟
قال المدائني: لقي رجل راهبا فقال له: يا راهب، كيف ترى الدهر؟ قال.
يخلق الأبدان، ويجدّد الآمال، ويقرّب المنيّة. قال: فما حال أهله؟ قال:
من ظفر به تعب، ومن فاته نصب. قال: فما المغني؟ قال: قطع الرجاء. قال:
فأيّ الأصحاب آثر وأوفى؟ قال: العمل الصالح والتقوى. قال: فأيّهم أضرّ وأردى؟ قال: النفس والهوى. قال: فأين المخرج؟ قال: سلوك المنهج. قال:
وما هو؟ قال: ترك الراحة وبذل المجهود. قال: أوصني، قال: قد فعلت (1)
عن الشعبيّ قال: قلت لابن هبيرة: عليك بالتؤدة فإنك على رد ما لم تفعل أقدر منك على ردّ ما فعلت.
عن العتبيّ، قال: حدثني بعض علماء الفرس أن أردشير قال لابنه: يا بنيّ، إن الملك والدّين أخوان، ولا غنى بأحدهما عن صاحبه، ولا قوام له إلّا به.
الدين أسّ، والملك حارس فما لم يكن له أس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع. يا بنيّ، اجعل مرتبتك (2) مع أهل المراتب، وعطيّتك لأهل الجهاد، وبشرك لأهل الدّين، وسرّك لمن يعنيه ما عناك من أهل العقل (3).
وعن سعد بن عبد العزيز رحمه الله (4) قال: من أحسن فليرج الثواب، ومن أساء فلا يستنكر الجزاء، ومن أخذ عزّا بغير حقّ أورثه الله تعالى ذلّا بحقّ، ومن جمع مالا بظلم أورثه الله فقرا بغير ظلم.
__________
(1) أنظر أمالى القالى (2: 57) وزهر الآداب (4: 146) ففي الروايات اختلاف.
(2) في عيون الاخبار (1: 13) «حديثك»
(3) فيه أيضا «وسرك لمن عناه ما عناك من ارباب العقول».
(4) كذا في الاصل، ولعله «سعيد بن عبد العزيز بن أبى يحيى التنوخى الدمشقي» وكان لأهل الشام كما لك لأهل المدينة في التقدم والفضل والفقه والامانة، كما قال الحاكم، وله ترجمة في النهذيب. ولد سنة 90ومات سنة 167.(1/50)
ووصّى حكيم ابنه فقال: يا بنيّ، إنّ المدبر لا يوفّق لطرق المراشد. فإيّاك وصحبة المدبر فإنك إن صحبته علق بك ادباره، وإن تركته بعد صحبتك إيّاه تتبّعت نفسك آثاره.
وقال الحكيم: من التوفيق حفظ التجربة.
وقال بعض العلماء: صن عفّتك بالحلم، ومروءتك بالعفاف، ونجدتك (1)
بمجانبة الخيلاء، وجهدك بالإجمال في الطلب.
كتب حكيم إلى حكيم: من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن نظر في العواقب نجا، ومن أطاع هواه ضلّ، ومن لم يحلم ندم، ومن صبر غنيم، ومن خاف رحم، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم.
قال أنو شروان لابنه: يا بنيّ، إنّ من أخلاق الملوك العز والأنفة. وإنك ستبلى بمداراة أقوام، وإنّ سفه السفيه ربما تطلع (2) منه فان كافأته بالسفه فكأنك رضيت بما أتى. فاجتنب ان تحتذيّ على مثاله، فإن كان سفهه عندك مذموما فحقّق ذمّك إياه بترك معارضته بمثله.
عن عطاه بن مسلم الخفّاف قال، قال لي سفيان رضي الله عنه (3): يا عطاء، احذر الناس، وأنا فاحذر بي. فلو خالفت رجلا في رمّانة، قال: حامضة، وقلت: حلوة أو قال (4): حلوة، وقلت: حامضة: لخشيت أن يشيط بدمي. (5)
أوصى رجل ابنه فقال: إن وصيّتي مع وصيّة الله عزّ وجلّ لهجنة، وإنّ
__________
(1) الكلمة غير واضحة في الاصل.
(2) كذا بالاصل بالطاء، وضبطه بتشديدها وكسر اللام.
ولعله «تطلع» بضم التاء واسكان الطاء وفتح اللام، يقال «أطلعنى فلان» أى أعجلنى. ويحتمل أن أصله بالضاد «تضلع». و «الضلع» الميلى يقال «ضلع عن الشىء بالفتح بضلع بفتح اللام ضلعا باسكان اللام مع فتح الضاد مال وجنف، فكأنه يقول له: إنك قد تميل عن الحلم عند سفه السفيه
(3) في الاصل «عنهما». وسفيان هو ابن سعيد بن مسروق الثورى الامام الثقة الورع، مات سنة 161، وعطاء بن مسلم الخفاف من تلاميذه الراوين عنه، مات سنة 196.
(4) في الاصل «وقال»
(5) أشاط بدمه: قتله وأهدر دمه.(1/51)
في التذكرة ليقظة، وعود الخير محمود. وأنا أسترعي لك بعد وفاتي الذي أحسن إليك في حياتي. تحرّ في كل أمرك طاعة الله تنجك، وإيّاك والأخرى فتردك (1). وابذل لجلّة الناس إكرامك تنصرف إليك أبصارهم، وابذل لسائرهم بشرك يطب ذكرك في أفواههم. وأصلح بكلّ الأدب (2)
لسانك، واستعمل في إصلاحها بدنك فإن الأدب أوّل مدلول به على عقلك.
وأوصى بعض الحكماء بنيه فقال: أصلحوا ألسنتكم، فإنّ الرجل تنوبه النائبة فيستعير من أخيه ثوبه، ومن صديقه دابّته، ولا يجد من يعيره لسانه.
قال الصولي: كاتبت أبا حنيفة رحمه الله (3) فأغفلت التاريخ، فكتب إلي.
وصل كتابك مبهم الأوان، مظلم البيان، فأدّى خبرا ما القرب فيه بأولى من البعد منه. فإذا كتبت أعزّك الله فلتكن كتبك موسومة بالتاريخ، لأعرف أدنى آثارك وأقرب أخبارك قال أبو العيناء: سمعت الحسن بن سهل يقول: من أحبّ الازدياد من النعم فليشكر، ومن أحبّ المنزلة عند السلطان فليعظه، ومن أحبّ بقاء عزّه فليتواضع، ومن أحبّ السلامة فليدم الحذر.
قال لقمان لابنه: إياك وصاحب السّوء، فانه كالسيف المسلول: يعجب منظره، ويقبح أثره، ولا يهوننّ عليك من قبح منظره ورثّ لباسه، فإن الله تعالى إنما ينظر الى القلوب ويجازي بالأعمال.
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) كذا في الاصل «بكل الأدب» والكلام غير متجه ولا واضح.
(3) ليس ابو حنيفة هذا الامام المشهور، بل أرجح جدا أنه أبو حنيفة الدينورى (واسمه احمد بن داود) وهو الكاتب البليغ. جمع بين حكمة الفلاسفة وبيان العرب. والصولى أبو بكر محمد بن يحيى الكتاب المعروف مؤلف كتاب (أدب الكتاب). وهو أدرك الدينوري قطعا، لأنه أخذ العلم عن ابى داود السجستاني صاحب السنن المتوفى سنة 275والدينوري مات سنة 282او سنة 290.
واما الصولى فانه مات سنة 235.(1/52)
كان قسّ بن ساعدة يفد على قيصر ويزوره، فقال له: يا قس، ما أفضل العقل؟ قال: معرفة المرء بنفسه. قال: فما أفضل العلم؟ قال: وقوف المرء عند علمه قال: فما أفضل المروءة؟ (1) قال: استبقاء الرجل ماء وجهه. قال: فما أفضل المال؟ قال ما قضي به الحقّ (2).
لما حضرت أبا بكر الصديق رضوان الله عليه الوفاة دعا عثمان بن عفّان، رضوان الله عليه، وقال: اكتب.
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما عهد أبو بكر بن أبى قحافة، في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وعند أوّل عهده بالآخرة داخلا فيها حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدّق الشاكّ المكذّب: إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، فإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإيّاكم خيرا. فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدّل فلكلّ امرىء ما اكتسب، والخير أردت، ولا يعلم الغيب إلا الله {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] والسلام عليكم ورحمة الله. (3)
روي أن عمر رضوان الله عليه أوصى ابنه عبد الله عند الموت، فقال: عليك بخصال الإيمان. قال: وما هنّ يا أبه؟ قال: الصوم في شدة أيام الصيف، وقتال الأعداء بالسيف، والصبر على المصيبة، وإسباغ الوضوء في اليوم الشاتى، وتعجيل الصلاة في يوم الغيم، وترك ردغة الخبال (4). قال [فقال]: وما ردغة الخبال؟ قال: شرب الخمر (5) وقال: إذا قبضت فغمضني، واقتصد
__________
(1) في الأصل «المروة»
(2) امالى القالى (2: 27) وفيه «الحقوق» بدل «الحق»
(3) في إعجاز القرآن للباقلانى (ص 115) وعيون الاخبار (9: 14) مع اختلاف يسير.
(4) الردغة بفتح الراء وسكون الدال وفتحها: الماء والطين والوحل الكثيرة أي إن الله جعل في الخمر فساد الأمور واختلالها وخبالها
(5) طبقات ابن سعد (ج 3ق 1ص 261) والزيادة بين القوسين منها، والالفاظ متفقة في الروايتين. والذى بلى هذا مقتطع من خبر آخر في ابن سعد (ج 3ق 1ص 260) مع بعض الحلاف، والزيادة منه أيضا.(1/53)
في الكفن، ولا تخرجنّ معي امرأة، ولا تزكّوني بما ليس فيّ، فإن الله تعالى [هو] أعلم بي. وأسرعوا بي في المشي، فإنه إن كان لي عند الله خير قدّمتموني إلى ما هو خير لي، وإن كنت على غير ذلك كنتم قد ألقيتم عن رقابكم شرّا [تحملونه].
لما حضرت عبد الله بن شدّاد الوفاة دعا ابنه محمدا فقال له (1): يا بنيّ، أرى داعي الموت لا يقلع، ومن مضى منّا لا يرجع، ومن بقي فإليه ينزع، وليس أحد عليه بممتنع (2) وإنّي أوصيك يا بنيّ بوصية [فاحفظها]:
عليك بتقوى الله [العظيم]، وليكن أولى الأمور بك الشكر لله (3) وحسن النيّة (4) في السّرّ والعلانية. واعلم بأنّ الشاكر مزاد (5)، والتقوى خبر زاد.
وكن يا بنيّ كما قال [الحطيئة]:
ولست أرى السعادة جمع مال، ... ولكنّ التقيّ هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخرا، ... وعند الله للأتقى مزيد
وما لا بدّ أن يأتي قريب ... ولكنّ الذي يمضي بعيد
ثم قال: يا بنيّ، لا تزهدنّ في معروف فإنّ الدهر ذو صروف، والأيام ذات نوائب، على الشاهد والغائب. فكم (6) من راغب كان مرغوبا إليه، وطالب قد أصبح (7) مطلوبا مالديه. واعلم بأنّ (8) الزمان ذو ألوان، ومن يصحب الزمان يرى (9) الهوان. وكن كما قال أخو بني الدئل (10) [أبو الأسود الدؤلى]:
__________
(1) هذه الوصية رواها أبو على القالى في أماليه (2: 204202) وسنبين بعض الخلاف بين الروايتين، ونزيد ما نرى داعيا لزيادته من رواية القالى بين قوسين
(2) في الأصل «ممتنع» وهذه الجملة ليست في الأمالى.
(3) في الامالى «شكر الله»
(4) في الاصل «حسن الشكر»
(5) في الأمالي «فان الشكور مزداد»
(6) في الاصل «كم»
(7) في الاصل «قد كان» وفي الامالى «وطالب أصبح» بحذف «قد»
(8) في الأمالى «واعلم أن»
(9) في الاصل «يرا»
(10) في الامالى «كما قال أبو الاسود الدؤلى»(1/54)
وعدّد (1) من الرّحمن فضلا ونعمة ... عليك، إذا ما جاء للخير (2) طالب
وإن امرأ (3) لا يرتجى الخير عنده ... يكن هيّنا ثقلا على من يصاحب
فلا تمنعن ذا حاجة جاء طالبا ... فإنك لا تدري متى أنت راغب
رأيت تصاريف الزمان بأهله (4) ... وبينهم فيه تكون النوائب
ثم قال: يا بنيّ، كن جوادا بالمال في مواضع الحقّ، بخيلا بالأسرار عن جميع الخلق فإنّ أحمد جود الحرّ (5) الإنفاق في وجوه (6) البرّ [وإنّ أحمد بخل الحرّ]، الضنّ بمكتوم السر (7)، وكن يا بني كما قال [قيس بن] الخطيم [الأنصاري]:
أجود بمضنون التّلاد وإنّني ... بسرّك (8) عمّن سالني لضنين
إذا جاوز الإثنين سرّ، فإنّه ... بنثّ (9) وتكثير الحديث قمين
وإن ضيّع الإخوان (10) سرا فإنّني ... كتوم لأسرار العشير (11) أمين (12)
وعندي له يوما إذا ما ائتمنته ... مكان بسوداء الفؤاد مكين
ثم قال: يا بنيّ، وإن غلبت يوما عن المال فلا تدع الحيلة بكل مكان (13)
فإن الكريم محتال، واللئيم مغتال (14). وكن أحسن ما تكون في الظاهر حالا:
أقلّ ما تكون في الباطن مالا. واعلم أنّ الكريم من كرمت عند الحاجة
__________
(1) في الامالى «وعد»
(2) في الامالى «للعرف»
(3) قال البكري في التنبيه على أوهام القالى: إن صواب انشاده «واي امرىء» لانجز ام قوله «يكن هينا» من غير جازم. ولم يذكر البكرى اسناده في الرواية، والتعليل النحوى لا يكفي في الحكيم على رواية القالى بالخطأ.
(4) في الامالى «رأيت التوا هذا الزمان بأهله»
(5) في الامالي «المرء»
(6) في الامالى «وجه»
(7) في الاصل «والبخل بمكتوم السر»
(8) في الاصل «بسرى». والتلاد: المال الموروث، وسالنى: مخففة من سألنى
(9) في الاصل «بنشر» والنث: افشاء السر ونشره
(10) في الاصل «الاقوام»
(11) في الاصل «العباد».
(12) هذا البيت ليس في هذا الموضع في الامالى ولكنه فيها فى (2: 177)
(13) في الامالى «فلا تدع الحيلة على كل حال»
(14) في الامالى «فان الكريم يحتال والدنيّ عيال»(1/55)
طبيعته [وظهرت عند الإنفاد نعمته] وكن كما قال الشاعر [ابن خذّاق العبدى]:
[وجدت أبي قد أورثه أبوه ... خلالا قد تعدّ من المعالي]
فأكرم (1) ما تكون عليّ نفسي ... إذا ما قلّ في الأزمات مالي
[فتحسن سيرتي، وأصون عرضي ... ويجمل عند أهل الرأي حالي]
فإن نلت الغنى لم أغل فيه ... ولم أخصص بجفوتي الموالي
ثم قال: يا بنيّ، وإن سمعت كلمة من حاسد، فكن كأنك لست بالشاهد، [فإنّك] إن (2) أمضيتها حيالها (3)، وقع العيب على من قالها. وقد كان يقال: إن الأريب العاقل هو الفطن المتغافل. وكن كما قال حاتم الطائى:
وما من شيمتي شتم ابن عمّي ... وما أنا مخلف من يرتجيني
وكلمة حاسد من غير جرم ... سمعت، فقلت: مرّي فانفذيني
فعابوها علي ولم تعبني ... ولم يعرق لها يوما جبيني
وذو اللونين (4) يلقاني طليقا ... وليس (5) إذا تغيّب يأتليني (6)
بصرت بعيبه فكففت عنه (7) ... محافظة على حسبي وديني
ثم قال: يا بنيّ، لا تواخ أخا حتى تعاشره وتعرف أمره، وتتفقّد موارده ومصادره فإذا استطبت العشرة، ورضيت الخبرة، فآخه (8) على إقالة العثرة، والمواساة في العشرة (9). وكن يا بنيّ كما قال [المقنّع] الكنديّ:
__________
(1) في الاصل «وأكرم»
(2) في الاصل «فان»
(3) حيالها: مقابلتها
(4) في الاصل «وذا الوجهين»
(5) في الاصل «ولست»
(6) قال أبو على القالي: «ما ألوت: ما قصرت، وما ألوت: ما استطعت»
(7) في الامالى: «سمعت بعيبه فصفحت عنه» ونقل القالى أن في رواية «سمعت بعيبه» يعنى بالغين المعجمة.
(8) قال في الاولى: «تواخ» والوجه فيها أن الهمزة قلبت واوا طلبا للتخفيف واما الماضى فتقول «آخى» ولا نقول «واخى» إلا على ضعف، ورواية الامالى «فواخه».
(9) في الاصل «العشرة».(1/56)
أبل الرجال إذا أردت إخاءهم ... وتوسّمنّ فعالهم (1) وتفقّد
فإذا (2) ظفرت بذي الأمانة والتّقى ... فبه اليدين قرير عين فاشدد
وإذا رأيت (3) ولا محالة زلّة ... فعلى أخيك بفضل حلمك فاردد
ثم قال: يا بنيّ، وإذا أحببت حبيبا فلا تفرط، وإذا أبغضت بغيضا فلا تشطط، فانه قد قال أمير المؤمنين رضوان الله عليه (4):
«أحبب حبيبك هو نامّا، عسى أن يكون بغيضك يوما مّا. وأبغض بغيضك هونا مّا، عسى أن يكون حبيبك يوما مّا (5)». وكن كما قال الشاعر [هدبة بن الخشرم العذريّ]:
وكن معقلا للخير، واصفح عن الخنى (6) ... فإنك راء ما حييت (7) وسامع
وأحبب إذا أحببت حبّا مقاربا ... فإنك لا تدري متى أنت نازع
وأبغض إذا أبغضت بغضا مقاربا ... فإنك لا تدري متى الودّ (8) راجع
وعليك يا بنيّ بصحبة الأخيار وصدق الحديث، وإياك وصحبة الأشرار [فإنه عار]. وكن كما قال الدارمي:
صاحب (9) الأخيار وارغب فيهم ... ربّ من صاحبته مثل الجرب
[ودع الناس فلا تشتمهم، ... وإذا شاتمت، فاشتم ذا حسب
إن من شاتم وغدا كالذي ... يشتري الصفر بأعيان الذهب]
__________
(1) في الاصل «إخاءهم».
(2) في الاصل «وإذا».
(3) في الاصل «فمتى نزل» وإن كان لهذه الرواية أصل فلعل صوابها «فمتى يزل» بالياء.
(4) يعنى علي بن أبي طالب عليه السلام. وفي الامالى «فانه قد كان يقال»
(5) هذه الكلمة وردت أيضا حديثا مرفوعا عن النبى صلّى الله عليه وسلم.
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبى هريرة مرفوعا، والطبراني من حديث ابن عمرو وابن عمر مرفوعا، والدارقطنى والبيهقى والبخارى في الأدب المفرد عن على موقوفا كما هنا.
(6) في الاصل «الاذى».
(7) في الاصل «ما عملت».
(8) في الامالى «متى انت».
(9) في الامالى «اصحب».
وأصدق الناس إذا حدّثتهم ... ومدع الكذب فمن شاء كذب (1)
ربّ مهزول سمين عرضه ... وسمين الجسم مهزول الحسب
ثم قال: يا بنيّ، وإذا آخيت فآخ من يعدّ لنوائب الزّمان. وعليك بذوي الألباب الذين ثقّفتهم (2) الآداب، ووثّقتهم الأحساب، فإنهم أطيب مختبر، وأكرم محتضر، وأعذب معتصر. واحذر إخاء كلّ جهول، وصحبة كل عجول فانه لا يغفر الزّلة، وإن عرف العلّة، سريع (3) غضبه، عال لهبه، إن سأل ألحف، وإن وعد أخلف، يرى ما يعطيك غرما، وما يأخذ منك غنما (4) فهو يرضيك، ما طمع فيك فإذا يئس من خيرك، مال إلى غيرك.(1/57)
__________
(9) في الامالى «اصحب».
وأصدق الناس إذا حدّثتهم ... ومدع الكذب فمن شاء كذب (1)
ربّ مهزول سمين عرضه ... وسمين الجسم مهزول الحسب
ثم قال: يا بنيّ، وإذا آخيت فآخ من يعدّ لنوائب الزّمان. وعليك بذوي الألباب الذين ثقّفتهم (2) الآداب، ووثّقتهم الأحساب، فإنهم أطيب مختبر، وأكرم محتضر، وأعذب معتصر. واحذر إخاء كلّ جهول، وصحبة كل عجول فانه لا يغفر الزّلة، وإن عرف العلّة، سريع (3) غضبه، عال لهبه، إن سأل ألحف، وإن وعد أخلف، يرى ما يعطيك غرما، وما يأخذ منك غنما (4) فهو يرضيك، ما طمع فيك فإذا يئس من خيرك، مال إلى غيرك.
وفي مثله يقول الشاعر (5):
لا تواخ الدهر جبسا راضعا ... ملهب (6) الشرّ، قليل المنفعة
ما ينل منك فأحلى مغنم ... ويرى ظرفا به أن يمنعه (7)
يسأل الناس ولا يعطيهم ... ثكلته أمّه، وما أطمعه (8)!
ثم قال: يا بنيّ، من عتب على الزّمان، وتتبّع عثرات الإخوان، قطعه صديقه، وملّه رفيقه، واحتماه الأهلون، وظفر به الشامتون، ومن سار في البلاد ثمّر المراد. وطالب (9) الكفاف بالقناعة والعفاف: يعيش حميدا، ويموت فقيدا. وقد قال النابغة (10):
(1) إلى هنا تمت رواية الأمالى، وما بعد ذلك ليس فيها.
(2) في الاصل «نفقتهم».
(3) في الاصل «فسريع».
(4) في الاصل «رغما» وهو غير موافق للمعنى.
(5) هو ابو الاسود الدؤلى.
والابيات في حماسة البحترى (ص 58).
(6) في الحماسة «ظاهر الجهل». وملهب الشر: شديده، كأن شره لهب. والجبس: الدنىء، والراضع: اللئيم من قولهم: «رضع الرجل يرضع رضاعة فهو رضيع وراضع».
(7) في الحماسة «وبرى ما عنده ان يمنعه».
(8) في الحماسة «هبلته امه ما اجشعه!».
(9) في الاصل «لتثمير المرناد. طالب» الخ.
(10) هذه الابيات ذكر بعضها في الاغانى (ج 16ص 78طبعة الساسى) ونسبت إلى ابي عطاء السندى. وفي عيون الاخبار (ج 1ص 242) ولم ينسبها لشاعر معين.(1/58)
إذا المرء لم يطلب (1) معاشا لنفسه ... شكا الفقر، أو لام (2) الصديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلّا، وأوشكت ... صلات ذوي القربى له أن تنكّرا
فسر في بلاد الله والتمس الغنى، ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
وما طالب الحاجات في كل وجهة (3) ... من النّاس، إلّا من أجدّ وشمّرا (4)
ولا ترض (5) من عيش بدون، ولا تنم ... وكيف ينام الليل من بات معسرا (6)؟
ثم قال: وليكن إخوانك وأهل بطانتك أولى الدّين والعفاف، والمروءات والأخلاق الجميلة فإنّى رأيت إخوان المرء يده التي يبطش (7) بها، ولسانه الذي يصول به، وجناحه الذي ينهض به. فاصحب هؤلاء تجدهم إخوانا، وعلى الخير أعوانا. واجتنب الصّغار الأخطار، اللّئام الأقدار، الّذين لا يحامون على حسب، ولا يرجعون إلى نسب، ولا يصبرون على نائبة، ولا ينظرون في عاقبة فإنهم إن راوك في رخاء سألوك، وان رأوك في شدّة أسلموك ولعلّهم أن يكونوا عليك مع بعض الأعداء.
واعلم بأنّ الرّجل بلا خدين، كذي الشّمال بلا يمين. واخلط نفسك مع الأبرار، وطهّرها من الفجّار، فالمرء يعرف بقرينه. وقد قال الشاعر (8):
وقارن إذا قارنت حرّا، فإنما ... يزين ويزرى بالفتى قرناؤه
__________
(1) في عيون الاخبار «لم يكسب».
(2) في العيون «لاقى» بدل «لام».
(3) في العيون «وما طالب الحاجات من حيث تبتغى».
(4) هذا البيت غير موجود في الاغانى، وهو في حماسة البحترى وحده (ص 125) ونسبه لابى عطاه السندى ايضا، وروايته «وما يدرك الحاجات من حيث تبتغى ... من القوم إلا من أعد وشمّرا»
(5) في العيون «فلا نرض»
(6) في الأغانى والعيون «من كان معسرا»
(7) بكسر الطاء وبضمها، لغتان.
(8) حقق أخي السيد محمود محمد شاكر أن هذه الأبيات لصالح بن عبد القدوس.
وله ترجمة مطولة في تاريخ بغداد للخطيب (ج 9ص 303) وفي لسان الميزان للحافظ ابن حجر.(1/59)
ولن يهلك الانسان إلّا إذا أتى ... من الامر [ما لم يرضه نصحاؤه] (1)
إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه ... ولا خير في وجه إذا قلّ ماؤه
ثم قال: يا بنيّ، قد جمعت لك مصالح نفسك، فاستفتح الله بمسامع عقلك وتفهّم ما وصفت لك بالتجارب، تحز (2) صلاح العواقب.
واعلم أنّ من حاسب نفسه تورّع، ومن غفل عنها خسر، ومن نظر في العواقب نجا، ومن اعتبر أبصر، ومن فهم علم وفي التّواني تكون الهلكة، وفي التّأنّى السلامة. وزارع البرّ يحصد السرور. والقليل مع القناعة في القصد، خير من الكثير مع السّرف في المذلة. والتقوى نجاة، والطاعة ملك وحليف الصّدق موفّق، وصاحب الكذب مخذول وصديق الجاهل تعب، ونديم العاقل مغتبط. فاذا جهلت فسل، وإذا ندمت فأقلع، وإذا غضبت فأمسك. ومن لاقاك بالبشر فقد أدّى إليك الصنيعة، ومن أقرضك الثناء فاقضه الفضل.
وضع يا بنيّ الصنائع عند الكرام ذوي الأحساب، ولا تضعنّ معروفك عند اللئام فتضيعه، فإن الكريم يشكرك ويرصدك بالمكافأة، وإن اللئيم يحسب ذلك حتما، ويؤول أمرك معه إلى المذلّة. وقد قال الشاعر:
إذا أوليت معروفا لئيما ... فعدّك قد قتلت له قتيلا
فعد من ذاك معتدرا إليه ... وقل: «إنى أتيتك مستقيلا
فإن تغفر فمجترم عظيم ... وإن عاقبت لم تظلم فتيلا»
وإن أوليت ذلك ذا وفآء ... فقد أودعته شكرا طويلا
__________
(1) ما بين القوسين موضعه في الأصل بياض، ويظهر أن المؤلف كتب بعض البيت ولم يذكر باقيه فأرجأه حتى بذكره، ثم بقى في الكتاب من غير إتمام. وقد وجد أخى السيد محمود محمد شاكر نتمة البيت في تهذيب تاريخ ابن عساكر (6: 376) منسوبا لصالح بن عبد القدوس.
وفي كتاب (الأدب والمروءة) المطبوع في مجموعة (رسائل البلغاء) (ص 314) والكتاب منسوب لصالح بن جناح، وقد نسب مؤلفه البيت لنفسه، وهذا مما يؤيد ما يظن بعض أهل العلم: أن صالح بن جناح هو صالح بن عبد القدوس، ولعله أخفى نفسه بهذا الاسم في بعض الأوقات خوف الطلب.
والله أعلم.
(2) في الأصل «تحوز» وهو لحن(1/60)
لما حضرت المهلب بن أبى صفرة رحمه الله الوفاة، قال لولده وأهله: أوصيكم بتقوى الله، وصلة الرّحم: فإنّ تقوى الله تعقب الجنّة وإن صلة الرّحم تنسىء الأجل، وتثري المال، وتجمع الشّمل، وتكثّر العدد وتعمّر الديار، وتعزّ الجانب.
وأنهاكم عن معصية الله تعالى، فإنّ معصية الله تعقب النار وإنّ قطيعة الرّحم تورث الذّلّة والقلّة، وتقلّ العدد، وتفرّق الجمع، وتذر الديار بلاقع، وتذهب المال، وتطمع العدوّ، وتبدي العورة.
يا بنيّ، قومك قومك: إنّه ليس لكم فضل عليهم، بل هم أفضل منكم، إذ فضّلوكم وسوّدوكم، أوطؤا أعقابكم، وبلّغوا حاجتكم فيما أردتم وأعانوكم فإن طلبوا فأطلبوهم، وإن سألوا فأعطوهم، وإن لم يسلوا فابتدئوهم، وإن شتموا فاحتملوهم، وإن غشوا أبوابكم فلتفتح لهم ولا تغلق دونهم.
يا بنيّ، إني أحب للرجل منكم أن يكون لفعله الفضل على لسانه، وأكره للرجل منكم أن يكون للسانه الفضل على فعله.
يا بنيّ، اتّقوا الجواب، وزلّة اللسان: فاني وجدت الرجل تعثر قدمه فيقوم من زلّته وينتعش منها سويّا، ويزلّ لسانه فيوبقه ويكون فيه هلكته.
يا بنيّ، إذا غدا عليكم رجل وراح فكفى بذلك مسألة وتذكرة بنفسه.
يا بنيّ، ثيابكم على غيركم أجمل منها عليكم، ودوابّكم تحت غيركم أجمل منها تحتكم.
يا بنيّ، أحبّوا المعروف، وأنكروا المنكر واجتنبوه وآثروا الجود على البخل واصطنعوا العرب وأكرموهم، فإن العربي تعده العدة فيموت دونك،
ويشكر لك، فكيف بالصّنيعة إذا وصلت إليه في احتماله لها وشكره، والوفاء منه لصاحبها؟(1/61)
يا بنيّ، أحبّوا المعروف، وأنكروا المنكر واجتنبوه وآثروا الجود على البخل واصطنعوا العرب وأكرموهم، فإن العربي تعده العدة فيموت دونك،
ويشكر لك، فكيف بالصّنيعة إذا وصلت إليه في احتماله لها وشكره، والوفاء منه لصاحبها؟
يا بنيّ، سوّدوا أكابركم، واعرفوا فضل ذوي أسنانكم وارحموا صغيركم وقرّبوه وألطفوه، واجبروا يتيمكم وعودوا عليه بما قدرتم ثم خذوا على أيدي سفهائكم، وتعاهدوا فقراءكم وجيرانكم بما قدرتم عليه واصبروا للحقوق ونوائب الدّهور واحذروا عار غد وعليكم في الحرب بالأناة والتؤدة في اللّقاء، وعليكم بالتماس الخديعة في الحرب لعدوّكم وإياكم والنزق والعجلة، فإن المكيدة والأناة والخديعة أنفع من الشجاعة والشّدّة.
واعلموا أنّ القتال والمكيدة مع الصبر، فاذا كان اللّقاء، نزل القضاء المبرم.
فان ظفر المرء وقد أخذ بالحزم قال القائل: قد أتى الأمر من وجهه وإن لم يظفر قال: ما ضيّع ولا فرّط، ولكنّ القضاء غالب.
يا بنيّ، الزموا الحزم على أيّ الحالين وقع الأمر والزموا الطاعة والجماعة وتواصلوا وتوازروا وتعاطفوا، فانّ ذلك يثبّت المودّة، وتحابّوا وخذوا بما أوصيكم به بالجدّ والقوّة، والقيام به والتعهّد له، وترك الغفلة عنه، تظفروا بدنياكم ما كنتم فيها، وآخرتكم إذا صرتم إليها، ولا قوّة إلا بالله.
يا بنيّ، وليكن أوّل ما تبدؤن (1) به أنفسكم إذا أصبحتم تعلّم (2) القرآن والسنن، وأداء الفرائض وتأدّبوا بأدب الصالحين من قبلكم من سلفكم ولا تقاعدوا أهل الدّعارة (3) والرّيبة، ولا تخالطوهم، ولا يطمعنّ في ذلك منكم.
وإيّاكم والخفّة في مجالسكم وكثرة الكلام، فإنّه لا يسلم منه صاحبه. وأدّوا حقّ الله
__________
(1) في الأصل «نبدؤا»
(2) في الاصل «بتعليم»
(3) في الاصل «الذعارة» بالذال المعجمة، وضبطت فيه بالكسر، وهو خطأ، والصواب بفتح الدال المهملة(1/62)
تعالى عليكم فإنّى قد أبلغت إليكم في وصيّتى، واتّخذت الله حجة عليكم.
وتوفّى بمرو الرّوذ بعد ولاية خراسان أربع سنين. وفيه يقول نهار بن توسعة [التميمى]:
ألا ذهب الغزو المقرّب للغنى ... ومات النّدى والجود بعد المهلّب
أقاما بمرو الرّوذ رهن ترابه (1) ... وقد غيّبا عن كلّ شرق ومغرب
قال الشاعر من وصيّة عبد الملك بن مروان لبنيه:
انفوا الضّغائن والتخاذل عنكم ... عند البعيد، وفي الحضور الشهد
بصلاح ذات البين طول بقائكم ... إن مدّ في عمري وإن لم يمدد
فلمثل ريب الدّهر ألفة بينكم ... بتواصل وتراحم وتودّد
وانفوا الضغائن والتخاذل عنكم ... بتكرّم وتوسّع وتغمّد (2)
حتّى تلين جلودكم وقلوبكم ... لمسوّد منكم وغير مسوّد
إنّ القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو بطش شديد أيّد (3):
عزّت فلم تكسر وإن هي بدّدت ... فالوهن والتكسير للمتبدّد
وقال آخر:
وادن ليدنو منك من كان نائيا ... وشب منك بعض اللّين والبذل في العدم
تنل بارتجاء القوم والخوف طاعة ... فتوصف في التدبير بالحزم والعزم
وقال آخر:
نظيرك لا تظهر عليه تطاولا ... فتملأ ضغنا صدره بالتّطاول
__________
(1) في تاريخ الطبري (ج 8ص 20) «رهنى ضريحه». وبقية الابيات هناك
(2) التغمد:
الستر، يقال: تغمدت فلانا: سترت ما كان منه وغطيته.
(3) الابد: القوى
ولكن له لن، وارع إن كنت راعيا ... له الحقّ وارمم حاله بالنوافل (1)
وقال آخر:(1/63)
__________
(3) الابد: القوى
ولكن له لن، وارع إن كنت راعيا ... له الحقّ وارمم حاله بالنوافل (1)
وقال آخر:
ولا تهدمن بنيان من قد وجدتّه ... بنى (2) لك بنيانا، وكن أنت بانيا
وقال آخر:
ولا تأمننّ الدّهر حرّا وترته (3) ... ولا تحسبنه ليله (4) عنك نائما
(1) النوافل: جمع نافلة، وهى العطية.
(2) في الاصل «بنا» وهو خطأ في الرسم.
(3) أى جعلت له عندك ترة وثأرا
(4) في الاصل «ليلة» وما هنا أحسن وأدق في المعنى.(1/64)
2 - باب السياسة
مما ورد فى الكتاب العزيز
من سورة آل عمران: {فَبِمََا رَحْمَةٍ مِنَ اللََّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشََاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذََا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ، إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [159]}
ومن سورة حم السجدة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعََا إِلَى اللََّهِ وَعَمِلَ صََالِحاً وَقََالَ: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [33] وَلََا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدََاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [34] وَمََا يُلَقََّاهََا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، وَمََا يُلَقََّاهََا إِلََّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [35] وَإِمََّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطََانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [36]}.
ومن سورة حم عسق: {فَلِذََلِكَ فَادْعُ، وَاسْتَقِمْ كَمََا أُمِرْتَ، وَلََا تَتَّبِعْ أَهْوََاءَهُمْ، وَقُلْ آمَنْتُ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنْ كِتََابٍ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللََّهُ رَبُّنََا وَرَبُّكُمْ، لَنََا أَعْمََالُنََا وَلَكُمْ أَعْمََالُكُمْ، لََا حُجَّةَ بَيْنَنََا وَبَيْنَكُمُ، اللََّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنََا، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [15]}.
ومن سورة المزّمّل: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [8] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [9] وَاصْبِرْ عَلى ََ مََا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا [10]}.(1/65)
ومن الاحاديث
18* عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يوم من إمام عدل خير من عبادة ستّين سنة، وحدّ يقام فى الأرض بحقّه أزكى من مطر أربعين صباحا (1)».
19* وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من رفق بأمّتي رفق الله تعالى به، ومن شقّ على أمّتي شقّ الله عليه (2)».
20* وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من الناس أعظم أجرا من وزير صالح مع سلطان يأمره بذات الله فيطيعه».
21* وعن أبي رجاء العطارديّ رحمه الله قال: سمعت أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه وهو على المنبر يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الوالي العادل المتواضع ظلّ الله عز وجل في أرضه، فمن نصحه في نفسه وفي عباد الله حشره الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه، ومن غشّه في نفسه وفي عباد الله خذ له الله يوم القيامة. ويرفع للوالي العادل المتواضع في كل يوم وليلة عمل ستين صدّيقا كلّهم عابد مجتهد في نفسه».
22* وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«إنّ أحبّ الناس إلى الله عز وجل وأقربهم منه مجلسا: الإمام العادل (3)».
__________
(1) الحديث نقله المنذري في الترغيب (3: 135) وقال: «رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط واسناد الكبير حسن». وفي لفظه «من امام عادل» بدل «عدل».
(2) رواه مسلم فى صحيحه (2: 82) بلفظ: «اللهم من ولى من أمر أمتى شيئا فشق عليهم فاشقق عليه» ومن ولى من أمر أمتى شيئا فرفق بهم فارفق به». ونسبه المنذرى فى الترغيب (3: 140) أيضا للنسائى وأبى عوانة فى صحيحه
(3) نقله السيوطى فى الجامع الصغير (رقم 2174) مطولا، ونسبه لاحمد والترمذي.(1/66)
وعن أبي هريرة رحمه الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ في الجنة درجة * 23 لا ينالها إلّا ثلاثة: إمام عادل، وذو رحم وصول، وذو عيال صبور.
فقال عليّ رضوان الله عليه: وما صبر ذي العيال؟ قال: لا يمنّ على أهله بما أنفق عليهم».
وعن أبي هريرة رحمه الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة، * 24 عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة، قيام ليلها وصيام نهارها. يا أبا هريرة، جور ساعة في حكم أشدّ وأعظم عند الله من معاصي ستين سنة (1)».
وعن عبد الله بن مغفّل رحمه الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله * 25 رفيق يحبّ الرّفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف (2)» وقال زياد بن أبيه: جمال الولاية شدة فى غير إفراط، وايمن في غير إهمال.
وقال معاوية رحمه الله لعمرو بن سعيد: ما بين أن تملك الملك رعيّته وبين أن يملكها إلّا الحزم والتواني.
وعن المدائني قال: قال الوليد بن عبد الملك لأبيه: يا أبه، ما السياسة؟ قال:
هيبة الخاصّة مع صدق محبّتها، واقتياد قلوب العامّة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصّنائع فإن شكرها أقرب للأيدي منها (3).
__________
(1) نقله المنذرى فى الترغيب (3: 135) ونسبه إلى الاصبهانى، وأشار إلى تضعيفه.
(2) عبد الله بن مغفل بضم الميم وفتح الغين المعجمة وفتح الفاء المشددة صحابى معروف.
وحديثه هذا رواه أبو داود فى سننه (4: 402) ونسبه السيوطى فى الجامع الصغير إلى البخارى فى الادب المفرد أيضا. ورواه أيضا مسلم فى صحيحه (2: 285) من حديث عائشة. ونسبه السيوطى أيضا لابن ماجه وابن حبان عن أبى هريرة، ولاحمد والبيهقي فى الشعب عن علي، وللطبرانى عن أبى أمامة، وللبزاز عن أنس.
(3) قوله «فان شكرها» الخ، هذه الجملة غير مفهومة، وهذه القطعة موجودة فى عيون الاخبار (1: 10) إلى قوله «هفوات الصنائع» فقط.(1/67)
وقالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: من أراد الله به خيرا جعل الله له وزير صدق صالحا إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه (1).
عهد بعض الملوك إلى وصيّه فقال: كن بالحق عمولا قؤولا، وعما جهلت سؤولا، وافحص عن الأمور تنجل (2)، واستبطن (3) أهل التقوى وذوي الأحساب، تزن نفسك وتحكم أمرك. وإياك وقبول التزكية فيما لا تشكّ أنك فيه مكذوب، فإنّها خدعة تتبعها صرعة. ولا تختصّ بسرك إلّا من يكتمه، ولا تولّ أمرك إلّا من يهمّه، ولا تثق برجل تتّهمه، ولا تعوّد لسانك الخنا وكثرة التألّى (4)، ولا تكلّف نفسك مالا تقوى عليه، وإذا هممت بخير فعجّله، وإذا هممت بخلافه فتأنّ فيه، وارحم ترحم.
وعهد آخر إلى وصيّه فقال: اتّق من فوقك، يتّقك من تحتك وكما تحبّ أن يفعل بك فافعل برعيتك، وانظر كل حسن فالزمه واستكثر من مثله، وكلّ قبيح فارفضه وبالنّصحاء يستبين (5) لك ذلك، وخيرهم أهل الدين وأهل النظر في العواقب. ولا تستنصح غاشّا، ولا تستغشّ ناصحا فربما غشّ العاقل إذا وتر أو حرم أو كان ضعيف الورع. ولكل طبقة مهنة، وكل ذى علم بأمر فهو أولى به. وإنما رأيت آفة الملوك فى ثلاثة أمور، فاحسم عنك واحدا وأحكم اثنين:
اتباع الهوى، وتولية من لا يستحق، وطيّ أمور الرعية عن الراعي، فإنك إن ملكت هواك لم تعمل إلّا بالحقّ، وإن ولّيت المستحقّ كان عونا لك على ما يجب، ولم تضع الأمور على يديه. وإذا تناهت إليك الأمور
__________
(1) هكذا نقله المؤلف من كلام عائشة. وقد جاء عنها معناه فى حديث مرفوع، نقله المنذرى فى الترغيب (3: 165) ونسبه لابى داود والنسائى وابن حبان فى صحيحه.
(2) فى الاصل «تنجلي».
(3) أى اجعلهم بطانة لك.
(4) التألى: الحلف.
(5) فى الاصل «بستبن».(1/68)
من أمور الرعية على حقائقها، عاش الوضيع، وحذر الرفيع، وأمسك الظّلوم، وأمن المظلوم.
قال كسرى: إني ضبطت ملكي بأني لم أهزل في أمر ولا نهي قط وأعطيت للغناء لا للرضى (1)، وعاقبت للأدب لا للغضب، وصدقتهم الوعد والوعيد، وعممت بالعدل والإنصاف، وكففت يدي عن دمائهم وأموالهم إلّا بحقها.
وغضب كسرى على رجل من أصحابه فأمر بحبسه وقطع ما كان جاريا عليه، فقال له بزرجمهر: إن الملوك تؤدّب بالهجران، ولا تعاقب بالحرمان.
لما قدم محمد بن عبد الله بن خالد أذربيجان أميرا عليها جاء قوم إلى كاتبه، فقالوا له: هاهنا أموال قد أخفيت، وحقوق قد بطلت. فكتب الكاتب بذلك رقعة إلى الأمير، فأجابه الأمير في ظهرها: أجر الناس على دواوينهم، وما صحّ من قوانينهم، واعلم أني ما وردت الناحية لإحياء الرسوم الرديّة، والاستماع من سقّاط (2) الرعية، فلا تركن إلى الفضول، وتدع الذي توجبه العقول، فإنما هي أيام تمضي، ومدة تنقضي فإما ذكر جميل، وإما خزى طويل. وإياك وقول جرير:
وكنت إذا نزلت بدار قوم ... رحلت بخزية وتركت عارا (3)
واعمل على أن يكون الدّعاء لنا لا علينا.
وقّع بعض العمال إلى كسرى قباذ في أنطاكية: للملك، جماعة قد فسدت نيّاتهم، وخبثت ضمائرهم، وقد همّوا بما لم يفعلوا، وهم غير مأمونين على المملكة
__________
(1) فى عيون الاخبار (1: 10) «وأثبت على العناء لا للهوى»
(2) جمع ساقط، وهو اللئيم فى حسبه ونفسه.
(3) في الاصل «عابا» وهو خطأ فى الرواية، لان القصيدة رائية لجرير، وهي في ديوانه المطبوع بمصر (1: 129127) وفى النقائض المطبوع فى أوربا (رقم 43ص 255249) والرواية فيها «حللت» بدل «نزلت».(1/69)
وهم: فلان وفلان وفلان، فإن رأى الملك أن يعاجلهم فعل. فوقّع في رقعته:
إنما أملك الأجساد لا النّيّات، وأحكم بالعدل لا بالرضى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.
روي أن الموبذ سمع ضحك الخدم في مجلس أنو شروان، فقال له: أما تمنع هؤلاء الغلمان؟ فقال له أنو شروان: إنّما يهابنا أعداؤنا.
أوصى الاسكندر صاحب جيش له، فقال: حبّب إلى العدوّ الهرب. قال:
نعم. قال: فكيف تصنع؟ قال: إن ثبتوا جددت في قتالهم، وإذا انهزموا لم أطلبهم. قال: أصبت.
وقال قتيبة بن مسلم: ملاك السلطان الشدة على المريب، والإغضآء عن المحسن، ولين القول لأهل الفضل.
قال ابن الكلبي: بلغني أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه سأل كبيرا من كبراء فارس: أيّ ملوككم أحمد عندكم؟ فقال: لأردشير فضيلة السّبق فى المملكة، غير أن أحمدهم سيرة أنوشروان. قال: فأيّ أخلاقه كان أغلب عليه؟ قال: الحلم والأناة فقال علي رضوان الله عليه: هما توأم (1)
ينتجهما علوّ الهمة.
وقالت أمّ جبغويه ملك (2) طخارستان لنصر بن سيّار: ينبغي للأمير
__________
(1) «هما توأم» كقولك «هما توأمان» كلاهما صحيح.
(2) فى الاصل «أم جيعونة بالجيم والياء والعين المهملة والياء بعد الواو ملكة» الخ وهو خطأ صوابه «جبغويه» بالجيم والياء الموحدة والغين المعجمة، و «ملك» على أنها أم الملك، لا على أنها الملكة. كما فى عيون الاخبار (1: 110) وقد ذكر اسم ابنها الملك فى تاريخ الطبرى مرارا كما فى فهارسه، وبين رواية المؤلف هنا ورواية عيون الاخبار خلاف يسير.(1/70)
أن يكون له ستّة أشيآء: وزير يثق به ويفضي إليه بسرّه، وحصن يلجأ إليه، إذا فزع أنجاه، تعني فرسا جوادا، وسيف إذا نازل به الأقران لم يخف أن يخونه، وذخيرة خفيفة المحمل إذا نابته نائبة حملها، وامرأة إذا دخل عليها أذهبت همّه، وطبّاخ إذا لم يشته الطعام صنع له شيئا يشتهيه.
وقال بزرجمهر: عاملوا أحرار الناس بصفو المودّة، وعاملوا العامّة بالرّغبة والرّهبة، وعاملوا السّفلة بالمخافة صراحا (1).
وقال بعض ملوك الفرس لحكيم من حكمائهم: أىّ الملوك أحزم؟ قال:
من ملك جدّه هزله، وقهر لبّه هواه، وأعرب عن ضميره فعله، ولم يخدعه رضاه عن حظّه، ولا غضبه عن كيده.
وقيل لملك قد زال عنه ملكه: ما الذي سلبك ما كنت فيه؟ قال: دفع عمل يوم إلى غد، والتماس عذر بتضييع عمل.
وكتب بعض الحكماء إلى ملك زمانه: لا تستكفينّ في مهامّك مخدوعا عن عقله. والمخدوع عن عقله من بلغ به قدر لا يستحقّه، وأثيب ثوابا لا يستوجبه.
كتب بعض ملوك العجم إلى بعض حكمائهم: إن الحكمآء قد أكثروا في وصف خلال أسباب الفتن، فاكتب إليّ بما ينشئها ويميتها، فكتب إليه:
تنشئها ضغائن، وتنتجها أثرة وأطماع لم يقمعها ذعر، وجرأة عامّة ولّدها استخفاف بخاصة، وأكّدها انبساط الألسن بضمائر القلوب، وإشفاق موسر، وأمل معسر، وغفلة متلذّذ، ويقظة محروم. ويميتها ذلّ مسلوب وعزّ
__________
(1) الصراح بالكسر والصراح بالضم والكسر أفصح: المحض الخالص من كل شىء، كما فى اللسان.(1/71)
سالب، ودرك بعيد وموت أمل، وذهاب ذعر وتمنّي رغب. فكتب إليه: الذي وصفت كما وصفت. فأيّ الامور أدفع لما ذكرت؟ فكتب إليه:
أخذ العدّة لما تخاف حلوله، وإيثار الجدّ حتّى تبيد الهزل، والعمل بالعدل في الغضب والرضا.
قال المدائني: لما ولي زياد بن أبيه صعد المنبر بعد صلاة الظهر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس، إني رأيت خلالا ثلاثا نبذت إليكم فيها بالنصيحة: رأيت إعظام ذي الشرف، وإجلال ذي العلم، وتوقير ذوي الأسنان، وإني أعاهد الله لا يأتينّي شريف بوضيع لم يعرف له شرفه على ضعته: إلّا عاقبته، ولا يأتينّي عالم بجاهل لاحاه (1) فى علمه ليهجّنه عليه: إلّا عاقبته (2)، فإنّما الناس بأعلامهم وذوي أسنانهم. ثم تمثل:
تهدى الأمور (3) بأهل الرأي ما صلحت ... فإن تولّت فبالأشرار تنقاد
لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهّالهم سادوا
قال أبو الحسن المدائني: أوفد زياد بن أبيه عبيد بن كعب النّميري إلى معاوية، فقال له معاوية: أخبرني عن زياد؟ قال: يستعمل على الخير والأمانة، دون الهوى، ويعاقب على قدر الذنب، ويسمر فيستحزم (4) بحديث الليل
__________
(1) أى جادله بغير علم، كما يفعل كثير من كتاب عصرناه فى الصحف والمجلات، وكما يفعل أكثر الناس فى مجالسهم، يتعرضون لما لا يعلمون، ويفتون فيما لا يفقهون. بل ويجادلون فى دين الله وفى دقائق المسائل من الفقه والاصول والحديث، ولم يأخذوا منها بحظ، ويرى كل واحد منهم هواه دينا، ثم يرفض ما لا يوافق هواه، ثم هم يزعمون ولا يستحيون أنهم أعلم بها من أهلها.
(2) لعله سقط من الاصل الخلة الثالثة: أنه لا يأنيه كبير بصغير لم يوقر له سنة إلا عاقبه. كما يفهم من سياق الكلام
(3) البيتان للافوه الاودى، ورواية الامالى «تبقى الامور» والقصيدة فيه (2: 225224)
(4) بالزاى، من الحزم. وفي الاصل لم تعجم الزاى.(1/72)
تدبير النهار. قال: أحسن (1). فكيف يعمل فى حقوق الناس؟ قال: يأخذ ماله عفوا. قال: فكيف عطاياه؟ يمنع حتى يبخّل، ويعطي حتى يقال جواد. قال: أحسن (2). إن البذل رضيع العدل. فكيف الشفاعة عنده؟ قال:
ليس فيها مطمع، وما فعل من خير فلك وله.
عن المدائني قال: لمّا هلك معاوية، وملك ابنه يزيد، أتته بنو أميّة، فأظهر لهم يقظة وتفقّدا لأمور الرعيّة، حتى بلغ خسيسها، فأعجبهم ما رأوا منه، وظهر على ألسن العامّة حزمه، فقال لهم عبد الملك بن مروان: ما رأيتم منه؟ فقال أحدهم:
أنساني معاوية. فقال: وأيّ أموره أنساكم معاوية؟ فقال: من تفقّده أمور الرعية ما كان أغفله معاوية. قال: إن معاوية لم يكن يغفل من الأمور مهمّا فهل يتفقد خسيسها؟ قال: نعم. قال: أزرى بالمهمّ، لأنه إذا استكفى بالخسيس لم تفرغ نفسه للمهمّ.
وقالت الحكماء: إنّ الملوك حقيقون باختيار الأعوان فيما يهتمّون به من أعمالهم وأمورهم، من غير أن يكرهوا على ذلك أحدا، فان المكره لا يستطيع المبالغة في العمل.
وقالوا: ينبغي للملك أن يجتنب السّكر، لأنه حارس المملكة، ومن القبيح أن يحتاج الحارس إلى من يحرسه! وقالوا: إن السلطان إذا كان حارسا (3) ووزراؤه وزرآء سوء منعوا خيره من الناس، فلم يجتر (4) عليه أحد ولم يدن منه، وإنما مثله في ذلك كالماء الصافي
__________
(1) ضبطت السين فى الاصل في الموضعين بالكسر، وهو خطأ.
(2) ضبطت السين فى الاصل في الموضعين بالكسر، وهو خطأ.
(3) كذا فى الاصل، ولعله «حازما».
(4) كذا فى الاصل، وله وجه بأن يكون أصله «يجترىء» ثم حذفت الهمزة تسهيلا، وعومل معاملة الفعل المعتل الآخر.(1/73)
الطيب الذي فيه التماسيح فلا يستطيع أحد وإن كان سابحا وكان إلى الماء محتاجا:
أن يدخله، وإنما حلية الملوك وزينتهم أصحابهم: إن يكثروا ويصلحوا.
قالوا: ويجب على الملوك تعاهد عمّالهم، والتفقّد لأمورهم، حتى لا يخفى عليهم إحسان محسن، ولا إساءة مسىء. ثم عليهم بعد ذلك أن لا يتركوا محسنا بغير جزآء، ولا يقرّوا مسيئا ولا عاجزا على العجز والإساءة، فإنهم إن صنعوا ذلك، تهاون المحسن، واجترأ المسيء، وفسد الأمر، وضاع العمل.
وقالوا: ينبغي للملك أن يحصّن دون المتّهم أسراره وأموره، ولا يدنيه من مواضع أسراره، ولا من ماء الحوض الذي يعدّ لغسله، ولا من فرشه ودثاره، ولا من كسوته، ولا من مراكبه، ولا من سلاحه، ولا من طعامه وشرابه، ولا من دهنه وطيبه.
وقالوا: إنّ اللئيم الجاهل لا يزال باصحا حتى يرفع إلى المنزلة التي ليس لها بأهل، فإذا بلّغها التمس ما فوقها بالغشّ والخيانة وإن اللئيم لا يخدم السلطان وينصح له إلّا عن فرق أو حاجة، فإذا أمن وذهبت الحاجة عاد إلى جوهره، كذنب الكلب الذي يربط ليستقيم، فلا يزال مستقيما ما دام مربوطا، فاذا حلّ عاد إلى أصله فانحنى.
وقالوا: إنما يؤتى السلطان من قبل ستّ خلال: الحرمان، والفتنة، والهوى والفظاظة، والزمان، والخرق. فأمّا الحرمان فأن يحرم من الأعوان والنصحاء والسّاسة (1) أهل الرأي والنجدة والأمانة، أو يقصد (2) بعض من هو كذلك
__________
(1) في الاصل «والسياسة».
(2) كذا فى الاصل» والمراد أن يحرم من وجود هؤلاء أو محرم من أن يقصدهم.(1/74)
منهم. وأمّا الفتنة فتحزّب الناس ووقوع الحرب بينهم. وأما الهوى فالإغرام (1)
بالنساء والدّعة والشّراب، أو بالصّيد وما أشبه ذلك. وأمّا الفظاظة فإفراط الشدّة حتى ينبسط اللّسان بالشّتم، واليد بالبطش في غير موضعهما. وأمّا الزمان فهو ما يصيب الناس من السّنين والموتان (2) ونقص الثمرات والغرق وأشباه ذلك.
وأما الخرق فإعمال الشدّة فى موضع اللين، واللين فى موضع الشدّة.
وقالوا: إن الملوك إذا وكلوا إلى غيرهم ما ينبغي لهم مباشرته بأنفسهم ضاعت أمورهم ودعوا الفساد إلى أنفسهم.
وقالوا: إذا ضيّع الملك الفرصة، وترفّع عن الحيلة، وأنف من التحرّز، وظنّ أنّه يكتفى بنفسه: فهنالك من سدّد إليه سهمه وجد عورته واضحة، ومقاتله بادية. وينبغي أن تكون الملوك أغلب (3) على الدّين من المدّعين له، ويحذروا مبادرة السفّل (4) إياهم إلى دراسة الدّين وتأويله والتفقه فيه، لئلا يحدث في الناس رياسات مستسرّة في من قصد صغّروا قدره من سفّل الرعيّة وحشو العامّة، فإنه لم يجتمع قطّ رئيس دين ورئيس ملك إلّا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس من الملك.
وقالوا: إذا عرف الملك من الرجل أنه قد ساواه في الرأي والمنزلة والهيبة والمال والتبع فليصرعه، وإلّا كان هو المصروع.
وقالوا: ينبغي للملك أن يقلّ الإذن للعامّة، لأنهم إذا لم يروه هابوه، وإذا
__________
(1) مصدر قياسي، فعله «أغرم» بالبناء للمجهول، يقال: «أغرم بالشىء غراما» اى اولع به.
(2) الموتان بضم الميم بوزن «بطلان» او بفتحها مع سكون الواو: الموت الكثير الوقوع، أو الموت يقع فى المال والماشية. واما الموتان بفتح الميم والواو معا: فهو الموت.
(3) ضبطت فى الاصل بضم الباء، وهو خطأ.
(4) ضبط فى الاصل بكسر السين، وهو خطأ(1/75)
رأوه كثيرا هان عليهم كما أن الأسد يهابه كلّ من رآه، إلّا الرعاة، فإنهم من كثرة ما يرونه قد هان عليهم.
وقيل: سلطان تخافه الرعيّة خير من سلطان يخافها، وخير الملوك ما أشبه النّسر حوله الجيف، لا ما أشبه الجيفة حولها النسور.
وقال أبرويز لابنه: استكثر القليل مما تأخذ، واستقلّ الكثير مما تعطي واعلم أن قرّة أعين الكرام فى الإعطاء، وقرة أعين اللئام فى الأخذ. والملك إذا كان على رأس الكرماء فهو جدير أن يعطي ما وجد، ويمتنع من الأخذ ما استطاع.
وقال أيضا: املك الرعيّة بالإحسان إليها، تظفر بالمحبّة منها، فإنّ ذلك بإحسانك أدوم منه باعتسافك، وليس الملك سلك الأبدان. واعلم أنّ الرعيّة إن قدرت أن تقول قدرت أن تفعل، فاجتهد أن لا تقول تسلم من أن تفعل.
وقال الحكيم: إذا تناصرت عليك الخصوم فلن يدفع ذلك غير الله سبحانه، ثم عزم لا يشوبه وهن، وصدق لا يطمع فيه التكذيب، ومضاء لا يقارنه الشّكّ، وصبر لا يختانه جزع، ونيّة لا يتقسّمها عجز.
وقال الحكيم: يجب على الملك الفاضل أن يحصّن عقله من العجب، ووقاره من الكبر، وعطاءه من السّرف، وصرامته من العنف، وحياءه من البلادة، وحمله من التّهاون، وإمضاءه من العجلة، وعقوبته من الإفراط، وعفوه من تعطيل الحقوق، وصمته من العيّ، واستئناسه من البذآء، وخلواته من الإصاعة، وعزماته من اللّجاجة، وأناته من الملالة، وفرحاته من البطر، وروعاته من الاستسلام.
وقالت حكماء الهند: الملك إذا لم يقبل من نصحائه ما يقبل عليه مما ينصحون (1) له به: لم يحمد غبّ أمره، كالعليل الذى يدع ما يصف له الطبيب ويعود إلى استعمال ما يشتهي، فمن التمس الرّخصة من الإخوان عند المشاورة، ومن الأطباء، عند المرض، ومن الفقهاء عند الشّبهة: أخطأ الرأي، وازداد مرضا، واحتمل وزرا.(1/76)
وقال الحكيم: يجب على الملك الفاضل أن يحصّن عقله من العجب، ووقاره من الكبر، وعطاءه من السّرف، وصرامته من العنف، وحياءه من البلادة، وحمله من التّهاون، وإمضاءه من العجلة، وعقوبته من الإفراط، وعفوه من تعطيل الحقوق، وصمته من العيّ، واستئناسه من البذآء، وخلواته من الإصاعة، وعزماته من اللّجاجة، وأناته من الملالة، وفرحاته من البطر، وروعاته من الاستسلام.
وقالت حكماء الهند: الملك إذا لم يقبل من نصحائه ما يقبل عليه مما ينصحون (1) له به: لم يحمد غبّ أمره، كالعليل الذى يدع ما يصف له الطبيب ويعود إلى استعمال ما يشتهي، فمن التمس الرّخصة من الإخوان عند المشاورة، ومن الأطباء، عند المرض، ومن الفقهاء عند الشّبهة: أخطأ الرأي، وازداد مرضا، واحتمل وزرا.
وقالت حكماء الهند: الملوك ثلاثة: حازمان وعاجز. فأحد الحازمين: من إذا نزل به الأمر المخوف لم يدهش، ولم يذهب قلبه شعاعا (2)، ولم يعي برأيه وحيلته ومكيدته التي بها يرجو النجاة. والثاني وهو أحزم من هذا:
ذو العدّة (3) الذي يعرف الأمر متقدما قبل وقوعه فيعظمه إعظامه (4) به، ويحتال له حيلته، كأنه رأي عين، فيحسم الدآء قبل أن يبتلى (5) به، ويدفع الأمر قبل وقوعه. وأما العاجز: فهو الذي لا يزال في التردّد والتمني حتى يهلك نفسه.
وقالت الحكماء: الطّمأنينة مقرونة بالمضّار، والحذر مقرون بالنجاة.
ومن ضيّع الحزم وهو غنيّ عنه ضيّعه الحزم حين يفتقر إليه.
وقالوا: من أخذ بالحزم وقدّم الحذر وجاءت المقادير بخلاف مراده: كان أحمد رأيا وأظهر عذرا ممّن عمل بالتفريط، وإن اتّفقت له الأمور على ما يريد.
__________
(1) فى الأصل «ينتصحون» وهو خطأ، لأن قولهم: «انتصح فلان» مطاوع «نصح» أى:
قبل النصيحة، وقولهم: «انتصحت فلانا» معناه: اتخذته لي نصيحا. ومنه قولهم: «لا أريد منك نصحا ولا انتصاحا» أى لا أريد منك أن تنصحنى ولا أن تتخذنى نصيحا. قاله فى اللسان.
(2) بفتح الشين المعجمة أى: انتشر رأيه فلم يتجه لأمر جزم. وضبط فى الأصل بضم الشين، وهو خطأ
(3) بضم العين المهملة وتشديد الدال المهملة المفتوحة. وضبط فى الأصل بكسر العين وفتح الدال، وهو خطأ
(4) ضبط في الأصل بضم الميم، وهو خطأ
(5) رسم في الأصل «ببتلا» بالألف.(1/77)
فليس على العاقل النظر في القدر الذي لا يدري ما يأتيه منه، وما ينصرف عنه ولكن عليه العمل بالحزم في أمره ومحاسبة نفسه في ذلك.
وقال الحكماء: الحازم من لم يشغله البطر بالنعمة عن العمل للعاقبة، والهمّ بالحادثة عن الحيلة لدفعها.
وقالوا: الحزم: الحذر عند الأمن. والعاقل من حذر الليل والنهار، فإنّ فيهما مكمن الآفات.
وقالوا: إياك أن يطمعك الاغترار: بالتهاون بالعدوّ الضعيف، فإن العدوّ الضعيف المحترس من العدوّ [القويّ] (1): أحرى بالظفر من العدوّ القويّ المغترّ بالعدوّ الضعيف.
وقالت الحكماء: العجز عجزان: عجز عن طلب الأمر وقد أمكن، والجدّ في طلبه وقد فات.
وقالت الحكماء: من كانت فيه ثلاث خلال لم يستقم له أمر: التوانى في العمل، والتضييع للفرص، والتصديق لكلّ مخبر.
وقد قيل: أربعة أشياء لا يستقلّ قليلها: المرض، والنار، والدّين، والعداوة.
وقالوا: إن العاقل وإن كان واثقا بقوته وعقله: فليس ينبغي أن يحمله ذلك على أن يجني على نفسه العداوة والبغضاء اتّكالا على ما عنده من الرأي والقوة.
كما أن العاقل إذا كان عنده الترياق لا ينبغي له أن يشرب السّم اتّكالا على ما عنده.
__________
(1) زيادة ضرورية لصحة المعنى وتمامه.(1/78)
وقالوا: احذر معاداة الذليل، فربما شرق العزيز بالذّبابة (1).
وقالت الحكماء: لا تنم عن عدوّك، فإنه غير نائم عنك، ولا تتغافل عنه، فإنه غير متغافل عن تتبّع عثراتك، وكيف لا يكون كذلك، وهو يرى أن بحياتك يكون موته، وبغناك يكون فقره، وبقوتك يكون ضعفه؟! وقد قال مؤلف الكتاب:
لا تحقرنّ من الضعيف عداوة ... فالنار يحرق جمرها وشرارها
واحذر مداجاة العدوّ وكيده ... إنّ العداوة ليس تخبو (2) نارها
وقال العربي:
لله درّك ما تظنّ بثائر ... حرّان (3) ليس عن الترات (4) براقد؟!
أيقظته ورقدت عنه ولم ينم ... حنقا عليك وكيف نوم الحاقد؟!
إن تمكن الأيام منك (5) وعلّها ... يوما يكل لك بالصّواع (6) الزائد
وقالت الحكماء: إياك والثقة بعدوّك إذا صالحك وأظهر لك غاية النصيحة، فإنّ صلح العدوّ لا يسكن إليه، ولا يغترّ به فإن الماء لو أسخن فأطيل إسخانه لم يمنعه ذلك من إطفاء النار إذا صبّ عليها. وإنما صاحب العدوّ المصالح كصاحب حيّة يحملها في كمّه.
وقالوا: إذا أحدث لك عدوّك صداقة لعلة ألجأته إلى ذلك فبعد
__________
(1) في الأصل «بالدنابة» وهو تصحيف
(2) رسم في الأصل «تخبوا» بألف بعد الواو
(3) حران: أى عطشان محترق القلب من الغيظ.
(4) التراث: بتاءبن مع كسر الأولى جمع «ترة» كالوتر، وهو الثأر. وفي الاصل «التراث» وضبط فيه بضم التاء في أوله وبالثاء المثلثة في آخره، وهو خطأ
(5) في الاصل «فيك»
(6) بضم الصاد المهملة: مكيال من المكابيل(1/79)
زوال تلك العلة ترجع العداوة إلى ما كانت عليه كالماء الذى يطال إسخانه، فإذا رفع عن النار عاد باردا.
وقالوا: إن الأحقاد مخوفة حيث كانت، وأشدّها ما كان في أنفس الملوك فإن الملوك يدينون بالانتقام، ويرون الطّلب بالوتر مكرمة. فلا ينبغي للعاقل أن يغترّ بسكون الحقد، فإنما مثله في القلب ما لم يجد محرّكا مثل الجمر المكنون ما لم يجد حطبا. ولا يزال الحقد يتطلّع إلى العلل كما تبتغي النار الحطب فإذا وجد علّة استعر استعار النار، فلا يطفئه ماء ولا كلام ولا لين ولا رفق ولا خضوع ولا تضرّع، ولا شىء دون الأنفس.
وقد قيل: أحزم الملوك من لم يلتمس الأمر بالقتال، وهو يجد إلى غير القتال سبيلا، لأن النفقة في القتال من الأنفس وسائر الأشياء إنما النفقة فيها من الأموال والقول.
وقالوا: أضعف حيل الحرب اللقاء. وصرعة اللين والمكر أشدّ استئصالا للعدوّ من صرعة المكابرة. والحازم إذا نابه الأمر العظيم المفظع (1) الذي يخاف منه الجائحة المخوفة على نفسه وقومه: لم يجزع من شدّة يصبر عليها، لما يرجو (2) من حميد عاقبتها، ولم يجد لذلك مسّا، ولم يشمخ بنفسه عن الخضوع لمن هو دونه، حتى يبلغ حاجته ومقصوده، وهو حامل لغبّ أمره، لما كان من رأيه وحسن اصطباره.
وقال الشاعر (3):
إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هوانا، وإن كانت قريبا أواصره (4)
__________
(1) في الاصل «المفضع» بالضاد، وهو خطأ.
(2) رسم في الاصل «يرجوا» بألف بعد الواو.
(3) نسبه ابو تمام في الحماسة لأوس بن حبناء. انظر التبريزى (ج 2ص 101).
(4) جمع «آصرة» وهي: ما عطفك على آخر من رحم أو قرابة أو صهر أو معروف.
فإن أنت لم تقدر على أن تهينه ... فذره إلى اليوم الذي أنت قادره (1)
وقارب إذا ما لم تكن لك قدرة ... وصمّم إذا أيقنت أنّك فاقره (2)
كتب أرسطاطاليس إلى الإسكندر: «إنك قد أصبحت ملكا على ذوي جنسك، وأوتيت فضيلة الرئاسة عليهم، فممّا تشرّف به رئاستك وتزيدها نبلا: أن تستصلح العامّة، لتكون رأسا لخيار محمودين، لا لشرار مذمومين. ورئاسة الاغتصاب وإن كانت تذمّ لخصال شتّى فإنّ أوّل ما فيها [من] (3) المذمّة أنها تحطّ قدر الرئاسة. وذلك: أنّ الناس في سلطان الغاصب كالعبيد لا كالأحرار، ورئاسة الأحرار أشرف من رئاسة العبيد، ومن تخيّر رئاسة العبيد على رئاسة الأحرار كمن تخيّر رعي البهائم على رعي الناس، وهو يظن أنّه قد أصاب وغنم. فحال الغاصب فيما يركب من الغصب هذه الحال لأنه يطلب محلّ الملك وشرفه، وليس شىء أبعد من شرف الملك من الاغتصاب، لأن الغاصب في شكل المولى، والملك في شكل الأب اللطيف. وممّا يضع قدر الرئاسة ما كان يصنع ملك فارس: فإنه كان يسمي أباه وكلّ أحد من رعيته: «عبيدا». والرئاسة على الأحرار والأفاضل خير من(1/80)
__________
(4) جمع «آصرة» وهي: ما عطفك على آخر من رحم أو قرابة أو صهر أو معروف.
فإن أنت لم تقدر على أن تهينه ... فذره إلى اليوم الذي أنت قادره (1)
وقارب إذا ما لم تكن لك قدرة ... وصمّم إذا أيقنت أنّك فاقره (2)
كتب أرسطاطاليس إلى الإسكندر: «إنك قد أصبحت ملكا على ذوي جنسك، وأوتيت فضيلة الرئاسة عليهم، فممّا تشرّف به رئاستك وتزيدها نبلا: أن تستصلح العامّة، لتكون رأسا لخيار محمودين، لا لشرار مذمومين. ورئاسة الاغتصاب وإن كانت تذمّ لخصال شتّى فإنّ أوّل ما فيها [من] (3) المذمّة أنها تحطّ قدر الرئاسة. وذلك: أنّ الناس في سلطان الغاصب كالعبيد لا كالأحرار، ورئاسة الأحرار أشرف من رئاسة العبيد، ومن تخيّر رئاسة العبيد على رئاسة الأحرار كمن تخيّر رعي البهائم على رعي الناس، وهو يظن أنّه قد أصاب وغنم. فحال الغاصب فيما يركب من الغصب هذه الحال لأنه يطلب محلّ الملك وشرفه، وليس شىء أبعد من شرف الملك من الاغتصاب، لأن الغاصب في شكل المولى، والملك في شكل الأب اللطيف. وممّا يضع قدر الرئاسة ما كان يصنع ملك فارس: فإنه كان يسمي أباه وكلّ أحد من رعيته: «عبيدا». والرئاسة على الأحرار والأفاضل خير من
(1) قال التبريزى: «أى قادر فيه» فقدر الظرف تقدير المفعول الصحيح، لأن الظرف إذا أضيف إليه يخرج من أن يكون ظرفا» يعنى فحذف الجار مع تقديره وإرادته.
(2) أى كاسر فقار ظهره. يقال: «فقرته الفاقرة» أي كسرت فقار ظهره». والمراد هنا إذا أيقنت أنك منتصر عليه بما يكف عنك عاديته. ورواية الحماسة:
وقارب اذا ما لم تكن لك حيلة ... وصمم إذا أيقنت أنك عاقره
و «عاقره» يعنى: قائله، وأصل العقر القطع.
(3) سقطت الكلمة من الاصل، وزيادتها ضرورية في الكلام.(1/81)
التسلّط على العبيد وإن كثروا وهي عند الناس جميعا أولى، ولا سيّما لذوي الفهم والأخطار. وأنت حقيق أن تسلّ سخيمة (1) العامّة، بما تذيفهم من رفق تدبيرك، وتضعه عنهم من مكروه العنف والخصاصة (2) فإن العبيد إذا عرضوا على المشترين لا يسألون عن يسارهم وجاههم، وإنما يسألون عن أخلاقهم،: وهل فيهم فظاظة؟ فالأحرار أجدر أن يتعرّفوا ذلك، وأن يعرّوا منه إذا كان ذلك في السلطان ولذلك ما يصيرون (3) إلى خلعه والوثوب عليه. وإذا ظهرت على فئة فضع من أوزار الحرب وأوزار الغضب، لأنهم في تلك الحال كانوا عدوّا، وفي هذه الحال صاروا خولا. فقد ينبغي أن تبدّلهم من الغضب رحمة وعطفا. وقد ينبغي للسلطان أن يعرف مقدار الغضب، فلا يكون غضبه شديدا طويلا، ولا ضعيفا قصيرا، فإن ذلك من أخلاق السّباع، وهذا من أخلاق الصبيان. ومن كبر الهمّة أن يكون الملك متعطّفا على الناس، فإنه بالعطف والرحمة ينبل ويبعد صيته. وأنا أعرفك على هذا المذهب، ولكنّي لا آمن أن تتوانى (4) فيه، ممّا جرى عليك من ناس كثير من سوء المشورة فإن كثيرا من الناس يشيرون إذا استشيروا بغير ما يشاكل المشار عليه، بل بما يشاكلهم، وليس بما ينتفع به في الأمر الحادث، ولكن بما يخصّهم نفعه في أنفسهم. وأنا أحب لك أن تقتدي برأي أسندوس حيث يقول: إن فعل الخير في الجملة أفضل من فعل الشّرّ، ومن يستطيع أن يغلب الشّرّ بالخير دون الشّرّ، فهي أشرف الغلبتين لأن الغلبة بالشر جلد (5)، والغلبة بالخير فضيلة. واعلم أنّه قد أمكنك أن تودع
__________
(1) السخيمة: الضغينة والحقد.
(2) الخصاصة بفتح الخاء المعجمة: الفقر وسوء الحال والخلة والحاجة.
(3) كذا في الاصل، ويصح المعنى بأن تكون «ما» مصدرية.
(4) رسم في الاصل «تتوانا» بالألف.
(5) بفتح الجيم واللام، أى قوة. وضبط في الاصل باسكان اللام، وهو خطأ، لأن «الجلد» هو القويّ. والمقصود هنا الوصف لا الموصوف.(1/82)
الناس من حسن أثرك ما ينشر ذكره في آفاق البلاد، ويبقى على وجه الدهر: فافترص (1) ذلك في أوانه. واعلم أنّ الذي يتعجّب منه الناس:
الجزالة وكبر الهمّة والّذي يحبّون عليه: التواضع ولين الجانب. فاجمع الأمرين، تستجمع محبّة الناس لك، وتعجّبهم منك. ولا تمتنع أن تتكلّم بما يطيّب قلوب العامّة فإن الناس ينقادون للكلام أكثر من انقيادهم بالبطش.
ولا تحسب (2) أن ذلك يضع من قدرك، بل يزيده نبلا: أن تنطق بالخير إذ أنت على الشرّ قادر. واعلم أنّ التودّد من الضعيف يعدّ ملقا، والتودّد من القويّ يعدّ تواضعا وكبر همّة فلا تمتنع أن تتودّد إلى العامّة لتحصل لك محبّتهم، وتنال الطاعة منهم. واعلم أنّ الأيام تأتي على كلّ شيء فتخلق الأفعال، وتمحو الآثار، وتميت الذكر، إلّا ما رسخ في قلوب الناس، لمحبّة تتوارثها الأعقاب. فاجتهد أن نظفر بالذّكر الذي لا يموت، بأن تودع قلوب الناس محبّة يبقى بها ذكر مناقبك، وشرف مساعيك. ولا ينبغي للمدبّر أن يتخذ الرعية مالا وقنية (3)، ولكن يتّخذهم أهلا وإخوانا. ولا ترغب في الكرامة التي تنالها من العامّة كرها، ولكن التي تستحقّها بحسن الأثر وصواب التدبير».
قيل: بلغ بعض الملوك حسن سياسة ملك آخر، فكتب إليه: «قد بلغت من حسن السياسة ما لم يبلغه ملك، فأفدني: ما الذي بلّغكه؟» فكتب
__________
(1) افترص الفرصة: اغتنمها.
(2) يجوز فتح السين وكسرها والكسر أجود اللغتين.
(3) القنية بكسر القاف واسكان النون وفتح الياء: مال يتخذه الرجل لنفسه لا للتجارة وفي الأصل «قينة» بتقديم الباء على النون، وهو خطأ.(1/83)
إليه: «لم أهزل في أمر ولا نهي ولا وعيد، واستكفيت للكفاية، وأثبت على الغناء لا على الهوى، وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت، وودّا لم يشبه كذب، وعمّمت بالقوت، ومنعت الفضول» (1).
قيل: لما أراد الإسكندر الخروج إلى أقاصي الأرض قال لأرسطا طاليس:
اخرج معي قال: قد نحل بدني، وضعفت عن الحركة، فلا تزعجني. قال:
فأوصني في عمّالي خاصة. قال: انظر من كان منهم له عبيد فأحسن سياستهم.
فولّه الجند، ومن كانت له ضيعة فأحسن تدبيرها فولّه الخراج.
عن عوانة قال: قال زياد بن أبيه: ما غلبني معاوية في شيء من أمر السياسة إلّا في شيء واحد، وذاك: أنني استعملت رجلا على دست ميسان، فكسر الخراج ولحق بمعاوية، فكتبت إليه أسأله أن يبعثه إليّ، فكتب إليّ:
«بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فإنه ليس ينبغي لمثلي ومثلك أن نسوس الناس جميعا بسياسة واحدة: أن نشتدّ جميعا فنخرجهم (2)، أو نلين جميعا فنمزجهم ولكن تكون أنت تلي الفظاظة والغلظة، وأكون أنا ألي الرأفة والرحمة فإذا هرب هارب من باب، وجد بابا فدخل فيه. والسلام».
قال بعض الحكماء: منازل الرأي أربعة: التقدّم في الأمر قبل حلوله، فإن قصّر فيه فالجدّ عند وقوعه، فإن قصّر عن ذلك فالسّعي في التخلّص منه، فإن قضر فيه فليس إلا بذهاب الزمان الذي يذهب بنفع صواب الرأي.
روي أنّ بعض ملوك الفرس سأل حكيما من حكمائهم: ما شىء يعزّ به
__________
(1) أنظر عيون الأخبار (ج 1ص 10) وانظر (ص 27) من هذا الكتاب.
(2) بالحاء المهملة، من الحرج.(1/84)
السلطان؟ قال: الطاعة. قال: فما سبب الطاعة؟ قال: التودّد إلى الخاصّة، والعدل على العامّة. قال: فما صلاح الملك؟ قبل: الرفق بالرعيّة، وأخذ الحق منهم في غير مشقّة، وأداؤه إليهم عند أو انه، وسدّ الفروج، وأمن السّبل، وإنصاف المظلوم من الظالم، وأن لا يفرط القويّ على الضعيف. قال: فما صلاح الملك؟ قال: وزراؤه أصوله فإن هم فسدوا فسد وإن صلحوا صلح.
قال: فأيّة خصلة تكون في الملك أنفع؟ قال: صدق النيّة.
وقال بعض الحكماء: لا تصغّر أمر عدوّ تحاربه فإنك إن ظفرت به لم تحمد، وإن عجزت عنه لم تعذر.
وقال الحكيم: يجب على السّلطان أن يعمل بثلاث خصال: تأخير العقوبة في سلطان الغضب، وتعجيل مكافأة المحسن، والعمل بالأناة فيما يحدث فإن له في تأخير العقوبة إمكان العفو، وفي تعجيل المكافأة بالإحسان المسارعة في الطاعة من الرعبّة، وفي الأناة انفساح الرأي واتّضاح الصواب.
وقال أنو شروان: الناس ثلاث طبقات، تسوسهم ثلاث سياسات:
طبقة من خاصّة الأبرار، وتسوسهم بالعطف واللّين والإحسان، وطبقة من خاصة الأشرار، تسوسهم بالغلظة والشدّة، وطبقة وهم العامّة تسوسهم باللين والشدة، لئلّا تحرجهم (1) الشدّة ولا يبطرهم اللّين.
روي أن ملكا من ملوك اليمن أوصى من يخلفه من بعده، فقال: أوصيك بتقوى الله، فإنك إن تتّقه يهدك ويكفك ويرض عنك، ومتى يرضى ربّ
__________
(1) بالحاء المهملة، من الحرج.(1/85)
عن عبد يرضه. وآمرك أن لا تعجل فيما تخاف فيه الفوت فإن العجلة مندمة.
وإذا شككت في أمر فشاور من ينصح لك، وإن اتّهمت فاستبدل، وإذا استكفيت فاختر، وإذا قلت فاصدق، وإذا وعدت فأنجز، وإذا أوءدت في حقّ فأنفذ. واعلم أنّك إن ضبطت حاشيتك ضبط قاصيتك.
وأوصى ملك من ملوك حمير أخاه، فقال: لا تتجاوز بالأمور حدودها، ولا يكن الإفراط من شأنك في نكان ولا نوال فإنه في النوال يجحف ويكثّر فيه عليك، وفي النكال ما يؤثمك ويحنق عليك ويبغّضك. وإذا أنكرت نفسك فأمسك وغالب هواك، فانه أضرّ ما اتّبعت، واعمل بالحقّ فإنه لا يضيق معه شىء، ولا يتعب منه عاقل، ولا يتعقّب منه تبعة. وليكن خوف بطانتك منك أشدّ من أمنهم بك.
وقال الحكيم: ما استعين على العزم بمثل مجانبة الهوى.
وقال آخر: من جعل ملكه خادما لدينه انقادا له كل سلطان، ومن جعل دينه خادما لملكه طمع فيه كلّ إنسان.
وقال آخر: من تمام الكرم أن تذكر الخدمة لك، وتنسى النعمة منك وتفطن (1) للرغبة إليك، وتتغابى (2) عن الجناية عليك.
وقال آخر: ما أقبح منع الإحسان مع حسن الإمكان.
وقال آخر: كن بعيد الهمم إذا طلبت، كريم الظّفر إذا غلبت، جميل العفو إذا قدرت، كثير الشكر إذا ظهرت.
__________
(1) فطن: من باب فرح ونصر وكرم، كما فى القاموس.
(2) رسم فى الأصل «تتغابا» بالألف(1/86)
وقال الآخر: أحسن إلى من كان له قدمة (1) في الأصل، وسابقة في الفضل.
ولا يزهّدنّك فيه سوء الحالة منه، وإدبار الدّولة عنه، فإنك لا تحلو (2) في اصطناعك له وإحسانك إليه: من نفس حرّة تملك رقّها، أو مكرمة حسنة توفّي حقّها، فإن الدنيا تجبر كما تكسر، والدولة تقبل كما تدبر.
وقال آخر: بالراعي تصلح الرعيّة، وبالعدل تملك البريّة. (3)
وقال آخر: من ظلم يتيما ظلم أولاده، ومن أفسد أمره أفسد معاده.
وقال آخر: أفضل الملوك من أحسن في فعله ونيّته، وعدل في جنده ورعيّته (4) وأعظم الملوك من ملك نفسه وبسط عدله.
وقال آخر: سلطان السّوء يخيف البريء ويصطنع الدّنيّ.
وقال الحكيم: ليكن مرجعك إلى الحق، ومنزعك إلى الصّدق. فالحقّ أقوى معين، والصدق أفضل قرين.
وقال: استعن على العدل بخلّتين: قلّة الطمع، وشدّة الورع.
وقال آخر: لا تعوّدنّ نفسك إلّا ما يكتب لك أجره، ويحسن عنك نشره.
وقال آخر: ارفق بإخوانك، واكفهم غرب لسانك فطعن اللسان أشدّ من طعن السّنان، وجرح الكلام أصعب من جرح الحسام.
قال العتّابي: مما يعين على العدل اصطناع من يؤثر التّقى، واطّراح من يقبل الرّشا، واستكفاء من يعدل في القضيّة، واستخلاف من يشفق على الرعيّة.
وقال أردشير: حقيق على كلّ ملك أن يتفقّد وزيره ونديمه وحاجبه
__________
(1) القدم بفتح القاف والدال والقدمة بضم القاف وإسكان الدال: السابقة فى الامر.
يقال: «لفلان قدم صدق» أى أثرة حسنة. قاله فى اللسان. وضبطت «قدمة» فى الأصل بفتح الدال ولم نجد ما يؤيده.
(2) كتبت فى الأصل «تخلوا»
(3) انظر (ص 56)
(4) انظر (ص 56)(1/87)
وكاتبه: فإن وزيره قوام ملكه، ونديمه بيان معرفته (1)، وكاتبه وكيل معرفته (2)، وحاجبه برهان سياسته.
وقال بهرام جور: لا شىء أضرّ بالملك من استخبار من لا يصدق إذا خبّر، واستكفاء من لا ينصح إذا دبّر.
وقال أبرويز: من اعتمد على كفاة السّوء ما ينجو من رأي فاسد، وظنّ كاذب، وعدوّ غالب. وإنّ ممّا يعود بنصح الولاة ويؤمنهم عذر الكفاة:
ربّهم (3) لسالف النّعم، وحفظهم لواجب الذّمم، وتعفّفهم عن أموال الخدم، وتصرّفهم على شرط الكرم. فمن خافه وزيره سآء تدبيره، ومن طمع في أموال عمّاله الجأهم إلى اقتطاع أمواله.
وقال الحكيم: بالراعي تصلح الرعيّة. وبالعدل تملك البريّة. ومن مال إلى الحقّ، مال إليه الخلق. ومن سلّ سيف العدوان، سلب عزّ السلطان. ومن أحسن الملكة، أمن الهلكة. وأفضل الملوك من أحسن في فعله ونيّته، وعدل في جنده ورعيّته. (4)
قال الحكيم: الأدب أدبان: أدب شريعة، وأدب سياسة. فأدب الشريعة ما انتهى الى قضاء (5) الفرض، وأدب السياسة ما أعان على عمارة الأرض، وكلاهما يرجع إلى العدل، الذي به سلامة السّلطان، وعمارة البلدان، وصلاح الرعيّة، وكمال المزيّة، لأنّ من ترك الفرض ظلم نفسه، ومن خرّب الأرض ظلم غيره.
__________
(1) كذا في الاصل، والمعنى غير واضح
(2) كذا في الاصل، والمعنى غير واضح
(3) اى تربيتهم، يقال: «رب ولده» بمعنى رباه.
(4) (انظر ص 55)
(5) كتب فى الأصل «قضى»(1/88)
وقال أفلاطون: بالعدل ثبات الأشياء، وبالجور زوالها، لأن المعتدل هو الذي لا يزول.
وقال الإسكندر: لا ينبغي لمن تمسّك بالعدل أن يخاف أحدا، فقد قيل:
إنّ العدول لا يخافون الله تعالى، أي: لا خوف عليهم منه، إذ (1) اتّبعوا رضاه وانتهوا إلى أمره.
وقال ذيو جانس للاسكندر: أيها الملك، عليك بالاعتدال في الأمور، فان الزيادة عيب، والنّقصان عجز.
وقال الإسكندر لقوم من حكماء الهند: أيّما أفضل: العدل أو الشّجاعة؟
قالوا: إذا استعمل العدل استغني عن الشجاعة.
وقال بزرجمهر: العدل هو ميزان الباري جلّ وعزّ، وذلك هو مبرّأ (2)
من كل زيغ وميل.
وقيل لأردشير: من الذي لا يخاف (3) أحدا؟ قال: الذي لا يخافه أحد.
فمن عدل في حكمه وكفّ عن ظلمه: نصره الحقّ، وأطاعه الخلق، وملك القلوب، وأمن الحروب. وإنّ أوّل العدل أن يبدأ الإنسان بنفسه، فيلزمها كلّ خلّة زكيّة، وخصلة مرضيّة، ومذهب سديد، ومكسب حميد، ليسلم عاجلا ويسعد آجلا.
وقال أفلاطون: من بدأ بنفسه أدرك سياسة الناس.
وقال: أصلحوا أنفسكم تصلح لكم آخرتكم.
__________
(1) في الأصل «إذا» ولكن «إذ» أنسب للمعنى وأدق
(2) رسم فى الأصل «مبرا»
(3) فى الأصل «يخافه» وهو خطأ واضح(1/89)
وقال أرسطاطاليس: أصلح نفسك لنفسك، يكن الناس تبعا لك.
وقال بزرجمهر: من حقّ الملك أن يستوزر من يحفظ دينه، ويستبطن من يحفظ سرّه.
وقال أبرويز: أجهل الناس من يعتمد في أموره على من لا يأمل خيره، ولا يأمن شرّه.
وقال الحكيم: من عدل في سلطانه، استغنى عن أعوانه.
وقال: لأن تحسن وتكفر، خير من أن تسيء وتشكر. فمن أحسن فبنفسه بدا، ومن أساء فعلى نفسه أعتدى.
وقال الحكيم: من أحبّ نفسه اجتنب الآثام، ومن أحبّ ولده رحم الأيتام.
وقال: إذا بني الملك على قواعد العدل أو دعم بدواعم العدل وحصّن بدوام الشّكر، وحرس بإعمال البصر: نصر الله واليه، وخذل معاديه، وعضده بالقدر، وسلّمه من الغير. فاعدل فيما وليت، واشكر الله على ما أوليت، يمدّك الخالق، ويودّك الخلائق.
وقال الحكيم: حاجة السلطان الى صلاح نفسه، أشدّ من حاجته الى صلاح رعيّته. وفائدته في إحسان سيرته، وأعظم من فائدته في ثبات وطأته. لأنّه إذا أصلح نفسه صلحت (1) رعيّته، وإذا أحسن سيرته ثبتت وطأته، ثم يبقى له جميل الأحدوثة والذّكر، ويتوفّر عليه جزيل المثوبة والأجر. لأنّ السلطان خليفة الله في أرضه، والحاكم في حدود دينه وفرضه، قد خصّه الله بإحسانه،
__________
(1) الافصح فيه فتح اللام، وضبط في الأصل بضمها، وهو لغة.(1/90)
وأشركه في سلطانه، وندبه لرعاية خلقه، ونصبه لنصرة حقّه. فإن أطاعه في أوامره ونواهيه تكفّل بنصره، وإن عصاه فيهما وكله إلى نفسه.
وقال الحكيم: من ملّكه الله من أرضه وبلاده، وائتمنه على خلقه وعباده، وبسط يده وسلطانه، ورفع محلّه ومكانه: فحقيق عليه أن يؤدّي الأمانة، ويخلص الدّيانة، ويجمل السّيرة، ويحسن السّريرة، ويجعل الحقّ دأبه المعهود، والأجر غرضه المقصود، فالظلم يزلّ القدم، ويزيل النّعم، ويجلب النّقم، ويهلك الامم.
وقال: من أبلى جدّته في خدمتك، وأفنى مدته في طاعتك: فارع ذمامه في حياته، وتكفّل أيتامه بعد وفاته. فإنّ الوفاء لك، بقدر الرّجاء فيك.
أفض على جيشك سيب عطائك، واصرف إليهم أحسن عنايتك وإرعائك (1)، فإنّهم أهل الأنفة والحميّة، وحفظ (2) الحوزة والرّعيّة، وسيوف الملك، وحصون الممالك والبلدان، وأوثق الأصحاب والأعوان، بهم تدفع العوادي وتقهر الأعادى، ويزال الخلل، ويضبط العمل. قوّضعيفهم يقوّ أمرك، وأغن فقيرهم يشدّ أزرك، وامنحهم قبل الفرض، واختبرهم عند العرض، ولا تثبت منهم إلا الوفيّ الكميّ الذي لا يعدل عن الوفاء، ولا يجبن لدى الهيجاء وفانّ المراد منهم قوّة العدّة، لا كثرة العدّة. وإن أصاب أحدهم في وقعة تندبه لها، أو حملة تبرز فيها، ما يعطّله عن اللّقاء، ويؤخّره عن الأكفاء:
__________
(1) أرعى عليه: أبقي، والارعاء الابقاء على اخيك. قاله فى اللسان
(2) كذا فى الأصل «وحفظ» باسكان الفاء مع كسر الحاء، ولو كان «وحفظة» بفتحها جمع حافظ مرفوعا لكان احسن وأرجح(1/91)
فلا تمح اسمه، ولا تمنعه رسمه. وإن قتل في طاعتك، واستشهد تحت رايتك:
فاكفل بنيه، وذبّ عن أهله وذويه، فإنّ ذلك يزيدهم رغبة فى خدمتك، ويسهّل عليهم بذل المهج والأرواح في نصرة دولتك ودعوتك.
وقال الحكيم: من أبرم الأمر بلا تدبير، وصيّره الدهر إلى تدمير. ومن أخلد إلى التّواني، حصل على الأماني. وزوال الدّول، باصطناع السّفل.
وقال الحكيم: الصبر على ما تكرهه وتجتويه (1)، يؤدّيك الى ما تحبه وتشتهيه.
وقال: من اغترّ بحاله، قصّر في احتياله. ومن اغترّ بمسالة الزمن، عثر بمصادمة المحن.
وقال: من أعجبته آراؤه، غلبته أعداؤه. ومن ساء تدبيره، كذب تقديره. ومن جهل مواطيء قدمه، عثر بدواعي ندمه.
وقال: من أتمّ النّصح، الإشارة بالصّلح. ومن أضرّ الغدر، الإشارة (2) بالشّر.
وقال: من استصلح عدوّه زاد في عدده. ومن استفسد صديقه نقص من عدده.
وقال: لا تثق بالصديق قبل الخبرة، ولا توقع بالعدوّ قبل القدرة.
وقال: لا تفتح بابا يعييك سدّه، ولا ترم سهما، يعجزك ردّه، ولا تفسدنّ أمرا يعييك إصلاحه، ولا تغلق بابا يعجزك افتتاحه.
وقال: الكسل يمنع من الطلب، والفشل يدفع إلى العطب. ومن حق
__________
(1) اى تكرهه.
(2) كذا بالاصل، ولو كان «الاشادة» بالدال، لكان أحسن وأبدع.(1/92)
العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء، ويجمع الى عقله عقل الحكماء، ويديم الاسترشاد، بترك الاستبداد، فالرأي الفذّ ربّما زلّ، والعقل الفذّ ربّما ضلّ.
من أعرض عن الحزم والاحتراس، وبنى على غير أساس: زال عنه العزّ، واستولى عليه العجز، وصار من يومه في نحس، ومن غده في لبس.
تاج الملك وحصنه إنصافه، وسلاحه كفاته، وماله رعيّته.
إذا أنشأت حربا فأرهجها (1)، وإذا أوقدت نارا فأجّجها، واستعمل في الضّعفاء حسن الحراسة، واستعمل في الأقوياء حكم السياسة، فمن لم تقمعه بسياستك، أطمعته في رياستك، وعدّ أضعف أعدائك قويا، وأجبن أضدادك جريّا تكف الغيلة (2)، وتأمن الحيلة.
من استعان بصغار رجاله، على كبار أعماله: ضيّع العمل، وأوقع الخلل.
الخطأ مع العجلة، والصواب مع التّؤدة (3)، ففوّض كلّ أمر إلى أهله، واتئد في عقده وحلّه، تأمن الزّلل وتبلغ الأمل.
الشركة في الرأي تؤدّي إلى صوابه، والشركة في الملك تؤدّي إلى اضطرابه.
أغنى الأغنياء من لم يكن للحرص أسيرا، وأجلّ الأمراء من لم يكن الهوى عليه أميرا. فمن حقّ السائس أن يسوس نفسه قبل جنده، ويقهر هواه قبل ضدّه.
من جدّ في حرب عدوّه وقتاله، واحتال في قتله واستئصاله: يشغل
__________
(1) أرهج الغبار: اثاره.
(2) الغيلة بكسر الغين المعجمة: الخديعة والاغتيال.
(3) كتبت فى الأصل «التوودة» بواوين وضبطت بفتح التاء وضم الواو، ولم ار لهذا دليلا من كتب اللغة. والصواب ضم التاء وفتح الهمزة.(1/93)
بذلك قلبه، ويسخط ربّه، وينفق عليه ماله، ويكدّ فيه نفسه ورجاله، ثم يكون من أمره على غرر، ومن حربه على خطر. ولو استعطفه بلطف مقاله، واستصلحه بحسن فعاله، واتّخذه وليّا صفيّا يشاركه في الخير والشرّ، ويساهمه في النفع والضّرّ، ويعضده في الأحداث والعوادي، وينجده على الأضداد والأعادي: لكان أصلح له في دينه ودنياه، وأعود عليه في بدئه وعقباه.
لا تصطنع (1) من خانه الأصل، ولا تستنصح من فاته العقل، لأنّ من لا أصل له يغشّ من حيث ينصح، ومن لا عقل له يفسد من حيث يصلح، وذلك ممّا يعزّ توقّيه، ويفوت تداركه وتلافيه.
وإذا ولّيت فولّ الملئ الوفيّ الذي يحسّن كفايته غناؤه (2)، ويجمّل رعايته وفاؤه، ويعلم بواطن الأمور وظواهرها، ويعرف مواردها الأعمال ومصادرها.
فالولاة أركان الملك، وخزّان الملك، وحصون الدّوله، وعيون الدّعوة، وبهم تستقيم الأعمال، وتجتمع الأموال، ويقوى (3) السّلطان، وتعمر البلدان.
فإن استقاموا استقامت الأمور، وان اضطربوا اضطرب الجمهور.
وأمّا من يتّصل بنسبك، أو يجب حقّه عليك: فأدم له بشرك وإقبالك، وأفض عليه برّك وإفضالك. فتكون قد قضيت واجبه، وأمنت جانبه، وولّيت العمل من يقيم ميله، ويزيل خلله، ويجنيك ثماره، ويكفيك انتشاره.
وقالوا: الأمور التى يشرف (4) بها الملك ثلاثة: سنّ السّنن الجميلة،
__________
(1) فى الاصل «يصطنع» بالياء وهو تحريف.
(2) الغنى غنى المال بكسر الغين وبالقصر، وقد يمد فتفتح الغين او نكسر، كما فى كتب اللغة.
(3) فى الاصل «وتقوى» وهو خطأ واضح
(4) فى الاصل «تشرف» وضبط بتشديد الراء المفتوحة، وهو خطأ(1/94)
وفتح الفتوح المذكورة، وعمارة البلدان المعطّلة.
العفو احتمال الذنب الذي لا يكون عن عمد، ولا يقصد بحدّ، ولا ينقض سنّة، ولا يولّد جرأة. فأمّا الذنب الذي يرتكب عمدا، ويوجب جراءة (1):
فالاحتمال له ترخيص في الذّنوب، والتجاوز عنه إبطال للحدود، وذلك مما لا تحتمله السياسة، ولا تطلقه الشريعة. فلا يكوننّ عفوك وتجاوزك وحلمك وإغضاؤك سببا للجراءة عليك، وعلة للإساءة إليك. فإنّ الناس رجلان:
عاقل يكتفي بالعدل والتأنيب، وجاهل يحوج إلى الضرب والتّأديب، فمن عفا عمّن (2) يستوجب العقوبة، كمن عاقب من يستوجب المثوبة.
إذا عقدت فأحكم، وإذا دبّرت فأبرم، وإذا قلت فاصدق، وإذا فعلت فارفق. ولا تستكف إلّا الكفاة النّصحاء، ولا تستبطن إلّا الثّقات الأمناء. وإذا استكفيتهم شغلا، أو ولّيتهم أمرا: فأحسن الثّقة بهم، وأكّد الحجّة عليهم، ولا تتّهمهم فيه، ولا تعارضهم فى تولّيه، ما لم يعدلوا (3) عن نصح وأمانة، ولم يقصروا عن ضبط وكفاية. فان رأيت منهم عذرا (4)، أو تبيّنت منهم عجزا: فاستبدل بهم، واستوف مالك عليهم، ولا تقلّد منهم أحدا، ولا تعتمد عليهم أبدا. فمن عارض مع الاستقلال والأمانة، قبض كفاته وعمّاله. ومن قلّد مع العجز والخيانة، ضيّع ماله وأعماله.
تجرّع من عدوّك الغصّة، إلى أن تجد الفرصة، فاذا وجدتها فانتهزها قبل
__________
(1) يقال: جرؤ يجرؤ جراة بضم الجيم وإسكان الراء وفتح الهمزة من غير مد، وجراءة بالمد وفتح الجيم
(2) رسمت فى الاصل «عن من»
(3) بالدال المهملة، وكتب فى الاصل بالمعجمة وهو خطأ.
(4) كذا ضبط بالأصل، ولو كان «غدرا» بالغين المعجمة والدال المهملة:
لكان اقرب واحسن.(1/95)
أن يفوتك الدّرك، أو يعينه الفلك، فإنّ الدنيا دول تقّلبها الأقدار، ويهدمها (1)
اللّيل والنهار.
تفقّد أمر عدوّك قبل أن يمتدّ باعه، ويطول ذراعه، وتكثر شكّته (2)، وتشتدّ شوكته. وعالجه قبل أن يعضل (3) داؤه، ويصعّب دواؤه. فكلّ أمر لا يداوى قبل أن يعضل (4)، ولا يدبّر قبل أن يستفحل: يعجز عنه مداويه، ويصعب تداركه وتلافيه. ولا تشغل نفسك بإصلاح ما بعد عنك، حتّى تفرغ من إصلاح ما قرب منك.
اعلم أنّ السعاية نار، وقبولها والعمل بها دناءة، والثقة بأهلها غباوة. لأن الذي يحمل الساعي على سعايته قلة ورع، أو شدّة طمع، أو لؤم طبع، أو طلب نفع. فأعرض عن السّعاة، وعدّهم من جملة العداة، لأنهم يفسدون دينك، ويزيلون يقينك، وينقضون عهدك ونيّتك، ويحنقون خدمك (5) ورعيتك، ويحملونك على اكتساب الآثام، ويعرّضونك لاجتلاب الملام.
واعتمد في أعمالك على أهل المروءة، وفي قتالك على أهل الحمية، ولا تباشر الحرب بنفسك، فانك لا تخلو في ذلك من ملك تخاطر به، أو هلك تبادر اليه.
ولتكن مشاورتك بالليل، فانه أجمع للفكر، وأعون على الذّكر، ثم شاور في أمرك من تثق بعقله وودّه.
__________
(1) فى الاصل «وتهدمها» بالتاء، وهو خطأ
(2) الشكة بكسر الشين المعجمة: السلاح.
(3) كتب فى الموضعين فى الاصل «يعظل» بالظاء المعجمة. ولعله على لغة من يقلب الضاد ظاء مطلقا فيما عدا القرآن. وانظر المزهر للسيوطى (ج 1ص 268267طبعة بولاق)
(4) كتب فى الموضعين فى الاصل «يعظل» بالظاء المعجمة. ولعله على لغة من يقلب الضاد ظاء مطلقا فيما عدا القرآن. وانظر المزهر للسيوطى (ج 1ص 268267طبعة بولاق)
(5) فى الأصل «خدك» وهو خطأ، بل لا معنى له.(1/96)
أيّ ملك أحسن إلى كفاته وأعوانه، استظهر لملكه وسلطانه. وأيّ ملك عدل في حكمه وقضيّته، استغنى عن جنده ورعيّته. وأيّ ملك نفذ في ملكه حكم النساء، نفذ في دولته حكم الأعداء. وأيّ ملك ملكته حاشيته وأصحابه، اضطربت عليه أموره وأسبابه. وأيّ ملك عمي عن سياسة داره ودانيته، عمي عن سياسة أقطاره وقاصيته. وأيّ ملك خفّت وطأته على أهل الفساد، ثقلت عليه وطأة الأعداء والأضداد.
أربعة لا يزول معها ملك: حفظ الدّين. واستكفاء الأمين. وتقديم الحزم. وإمضاء العزم.
وأربعة لا يثبت معها ملك: غشّ الوزير. وسوء التّدبير. وخبث النّيّة.
وظلم الرّعيّة.
أربعة تولّد المحبّة: حسن البشر. وبذل البرّ. وقصد الوفاق.
وترك النّفاق.
أربعة من علامات الكرم: بذل النّدى. وكفّ الاذى. وتعجيل المثوبة. وتأخير العقوبة.
أربعة يزلن بأربعة: النّعمة بالكفران. والقدرة بالعدوان. والدّولة بالإغفال. والحظوة (1) بالإدلال.
أربعة تدلّ على صحّة الرأي: طول الفكر. وحفظ السّر. وفرط الاجتهاد.
وترك الاستبداد.
أربعة توصل إلى أربعة: الصّبر إلى المحبوب. والجدّ إلى المطلوب.
__________
(1) بكسر الحاء وبضمها لغتان.(1/97)
والزّهد إلى التّقى. والقناعة إلى الغنى.
أربعة لا تستغني عن أربعة: الرعيّة عن السياسية. والجيش عن القادة.
والرّأي عن الاستشارة. والعزم عن الاستخارة.
ومن أمن المكائد، لقي الشّدائد. ومن أمن المكر، لقي الشّرّ.
لا تقطع قريبا وإن كفر. ولا تأمن عدوّا وإن شكر.
ضعف (1) النّظر يورث العثار، وضعف الرّأي يورث الدّمار.
قال معاوية بن أبي سفيان لصعصعة بن صوحان: صف لي عمر بن الخطّاب؟ فقال: كان عالما برعيّته، عادلا في قضيّته، عاريا من الكبر، قبولا للعذر، سهل الحجاب، مصون الباب، متحرّيا للصّواب، رفيقا بالضّعيف، غير محاب للقريب، ولا جاف للغريب.
دخل حكيم على بعض الملوك، فقال له: ما أقدمك؟ قال: حوادث الدّهر، وخذلان الصّبر. قال: فعندنا درك ما قصدت له، فأفدنا شيئا.
قال: اذكر حسرات التّفريط تلذّ (2) الحزم، والحظ مصارع الهزل تؤثر الجدّ، وألق خطرات الهوى تذكر عواقبها. إنّ الدهر قد نبّهك من رقدتك، وأظهر لك ما كان استتر عنك، فلا حين (3) أحين من سلامة مع تضييع، ولا عدوّ أقتل (4) من أمن الاغترار، ولا تخاذل أخذل من
__________
(1) الضعف: بضم الضاد وبفتحها لغتان، وردت بهما القراءات الصحيحة فى القرآن.
(2) في الأصل «يلذ» وهو خطأ، و «لذ» يتعدى بالباء، يقال «لذبه» ويتعدى بنفسه، ويقال «لذذت الشىء» بكسر الذال، أى وجدته لذيذا
(3) الحين بفتح الحاء المهملة: الهلاك.
(4) فى الاصل «اقبل» بالباء: وهو خطأ، والجملة بكل حال غير واضحة، ولو كانت «ولا عدو أقتل من أمن مع اغترار» لكان معناها جيدا.(1/98)
رأي ينتجته قدره (1).
قال الحكيم: إذا استبدّ الملك برأيه عميت عليه المراشد.
قال الحكيم: الحازم فيما أشكل عليه، من الرأي مثل الذي أضلّ جوهرة فجمع ما حول مسقطها من التّراب فنخله حتّى وجدها. كذلك الحازم يجمع أصناف الرأي في الأمر المشكل ثمّ يخلّصه ويسقط بعضه حتّى يحصل منه الرأي الخالص.
وذلك في كتاب الله عزّ وجل قوله سبحانه {وَشََاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذََا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ} [آل عمران 159].
قال أبو الحسن عليّ بن محمد الصغاني فى كتاب «الفرائد والقلائد (2)» في الاستعانة على حسن السّياسة: آفة الملوك سوء السّيرة. وآفة الوزراء خبث السّريرة. وآفة الجند مخالفة القادة. وآفة الرعيّة مخالفة الطاعة. وآفة الزّعماء ضعف السياسة. وآفة العلماء حبّ الرّياسة. وآفة القضاة شدّة الطّمع. وآفة العدول قلّة الورع. وآفة العدل ميل الولاة. وآفة الملك تضادد (3) الحماة. وآفة الحرب إضاعة الحزم. وآفة القويّ استضعاف الخصم.
وقال: الحزم الأسدّ (4) الآراء، والغفلة أضرّ الأعداء. ومن قعد عن حيلته أقامته الشّدائد، ومن نام عن عدوّه أنبهته (5) المكائد. ومن سالم الناس
__________
(1) كذا رسمت بالاصل «ينتجته» ولا معنى لها، وهي خطأ واضح، وقد حاولت أنا واخى السيد محمود محمد شاكر أن نجد تصحيفا أو تحريفا لهذا الرسم ينفع مع المعنى، أو نجد هذه الجملة في كتب أخرى: فلم تصل فيها إلى شىء، ولعل غيرنا واجدها.
(2) لم أجد لهذا الكتاب ولا لمؤلفه ذكرا فى شيء مما بين يديّ من المراجع.
(3) أصلها «تضاد». بالادغام، وفك الادغام لغة معروفة
(4) في الاصل «أشد» بالشين المعجمة، والمهملة أصح وأجود.
(5) فى الاصل «أنهبته» بتقديم الهاء على الباء، وهو خطأ.(1/99)
سلم، ومن قدّم الحزم غنم. ومن لزم الحلم لم يعدم السّلم. ومن ضعف رأيه قوي ضدّه، ومن ساء تدبيره أهلكه جدّه (1). والغرّة (2) ثمرة الجهل، والتجربة مرآة العقل. والصّبر على الغصّة، يؤدّي (3) الى الفرصة. ومن استرشد غويّا ضلّ، ومن استنجد ضعيفا ذلّ. ومن ضلّ مشيره قلّ نصيره.
والأناة حسن، والتّودّد يمن. من نام عن نصرة وليّه، انتبه بوطأة (4)
عدوّه. ومن دام كسله، خاب أمله. والعجول مخطىء وإن ملك، والمتّئد مصيب وإن هلك. ومن بان عجزه، زال عزّه. ومن استبدّ برأيه، خفّت وطأته على أعدائه. وعلّة الأمن، سوء الظّنّ. ومن أمارة الخذلان، معاداة الإخوان. ومن علامات الإقبال، اصطناع الرّجال. ومن كثرت مخافته، قلّت آفته. ومن طلب الرياسة، أحسن السياسة. واستفساد الصّديق، من عدم التّوفيق. والرّفق مفتاح الرزق. ومن نظر في العواقب، سلم من النوائب.
وفضيلة السّلطان، عمارة البلدان.
من استحلى معاداة الرجال، استمرّ ملاقاة القتال. ومن فعل ما شاء، لقي ما ساء. من خانه الوزير، فاته التّدبير. من كتم سرّه، أحكم أمره. ومن كثر اعتباره، قلّ عثاره، ومن عمل بالرأي اعتلى مناره. ومن أحكم التجارب، أحمد (5) العواقب. ومن أمارات الجدّ حسن الجدّ (6). وزوال الدّول،
__________
(1) ضبط في الاصل بفتح الجيم، والصواب كسرها، بمعنى الاجتهاد
(2) بكسر الغين المعجمة، بمعنى الاغترار، وضبط فى الاصل بضمها، وهو خطأ.
(3) فى الاصل «تودى» ولا معنى لها هنا
(4) رسم فى الاصل «بوطية»
(5) أى وجد العواقب حميدة، يقال:
«أتيت موضع كذا فأحمدته» أى صادفته محمودا موافقا، و «أحمد الارض» صادفها حميدة.
(6) الجد: الاولى بفتح الجيم بمعنى البخت والحظوة، والثانية بكسرها بمعنى الاجتهاد.(1/100)
باصطناع السّفل (1). القليل مع التدبير، أبقى من الكثير مع التبذير، عزيمة الصبر، تطفىء نار الشرّ، فان الصبر على ما تكرهه وتجتويه، يؤدّيك إلى ما تحبّه وتشتهيه. من وثق بإحسانك، أشفق على سلطانك.
إذا استشرت الجاهل، اختار لك الباطل. ومن اغترّ بحاله، قصّر في احتياله.
ومن اغترّ بمسللة الزّمن، عثر بمصادمة المحن. ومن اقتحم الأمور، لذي المحذور. ومن ترك ما يعنيه، امتحن بما لا يعنيه (2). ومن استعان بذوي العقول، فاز بدرك المأمول. ومن استشار ذوي الألباب، سلك سبيل الصواب.
ومن ضيّع أمره ضيّع كلّ أمر، ومن جهل قدره جهل كلّ قدر. والحازم من حفظ ما في يده، ولم يؤخّر شغل يومه إلى غده. ومن طلب ما لا يكون طال به تعبه، ومن فعل ما لا يجوز كان فيه عطبه. لا تثق بالصّديق قبل الخبرة، ولا توقع بالعدوّ قبل القدرة. وإذا أشكلت عليك الأمور، وتغيّر عليك الجمهور:
فارجع إلى رأي العقلاء، وافزع إلى استشارة النّصحاء، ولا تأنف من الاسترشاد، ولا تستنكف من الاستمداد، فلأن (3) تسأل وتسلم، خير من أن تستبدّ وتندم. ومن نصحك فلا تستبدل به، ومن وعظك فلا تستوحش منه، فمن نصحك أحسن اليك، ومن وعظك أشفق عليك.
واعلم أنّ الأيدي بأصابعها، والملوك بصنائعها، فلا يغرّك كبر الجسم، ممّن صغر في المعرفة والعلم، ولا طول القامة، ممّن قصّر في الكفاية والاستقامة، فأن الدّرة على صغرها: أعود من الصّخرة على كبرها.
__________
(1) انظر (ص 60)
(2) ضبط فى الاصل بضم الياء وهو خطأ.
(3) رسم فى لاصل «فلين»(1/101)
واعلم أن سبب هلاك الملوك والممالك اطراح ذوي الفضائل، واصطناع ذوي الوسائل، والاستخفاف بعظة الناصح، والاغترار بتزكية المادح.
واعلم أنّ عمّال الولاة بمنزلة سلاحهم في القتال، وسهامهم في النّضال.
ومن ولي الملك بلا كفاة، كمن لقي الحرب بلا حماة. وممّا يديم لك نصحهم ووفاءهم، ويحفظ عليك ودّهم وولاءهم: قلة الطّمع فيهم، وحسن المقابلة لمساعيهم.
واعلم أنك إن طمعت منهم في ذرّة، طمعوا منك في بدرة، وإن ارتجعت من رفقهم (1) دينارا، اقتطعوا من ملكك قنطارا، ثم أساءوا القول فيك، وأنكروا بيض صنائعك وأياديك. وإذا اصطنعت فاصطنع من ينزع الى أصل وأبوّة، ويرجع الى عقل ومروّة، فإن الأصل والأبوّة تمنعانه من الغدر والخيانة، والعقل والمروّة يبعثانه على الوفاء والأمانة، فان كلّ فرع يرجع إلى أصله، وكلّ شيء يعود إلى طبعه.
وقالت الحكماء: الملك كالبحر الأعظم: تستمدّ منه الأنهار الصغار، فإن كان عذبا عذبت، وإن كان ملحا ملحت.
وقالوا: مهما كان في الملك فانه لا ينبغي أن يكون فيه خمس خصال:
لا ينبغي أن يكون كذّابا، فإنه إذا كان كذّابا فوعد خيرا لم يرج، أو توعّد بشرّ لم يخف. ولا ينبغي أن يكون بخيلا، فإنه إذا كان بخيلا لم يناصحه أحد، ولا تصلح الولاية إلّا بالمناصحة. ولا ينبغي أن يكون حديدا، فإنه إن كان حديدا مع المقدرة (2) هلكت الرعيّة. ولا ينبغي أن يكون حسودا، فإنه
__________
(1) الرفق بكسر الراء وإسكان الفاء هو: ما ارتفقت وانتفعت به. كالمرفق: بكسر الميم مع فتح الفاء، أو بفتح الميم مع كسر الفاء، أو مع فتحها، لغات ثلاث.
(2) يجوز فى الدال الحركات الثلاث، ومعناها القدرة، كما فى اللسان والقاموس.(1/102)
إن كان حسودا لم يشرّف أحدا، ولا يصلح الناس إلّا على أشرافهم. ولا ينبغي أن يكون جبانا، فإنه إن كان جبانا اجترأ (1) عليه عدوّه، وضاعت ثغوره.
وقالوا: لا ينبغي للملك أن يكون جائرا، ومن عنده يلتمس العدل.
ولا سفيها، ومن عنده يلتمس الحلم. ولا غضوبا، لأنّ القدرة من وراء حاجته. ولا كذوبا، لأنّه ليس يقدر أحد على استكراهه على ما لا يريد.
ولا حقودا، لأنّ قدره قد جلّ عن المكافأة.
وقالوا: أفضل الملوك من بقي بالعدل ذكره، واستملى منه من يأتي بعده.
وقالوا: من ملك فقد استوفى من رعاياه وشريعته أجرته (2)، وهو التملّك، وبقي عليه ما يجب لهما من الخدمة، وهو إقامة السّنن والدّين، والعدل على الرعيّة، ومنع من قوي فيها عمّن ضعف منها.
أيّ (3) ملك أحسن إلى كفاته وأعوانه، استظهر لملكه وسلطانه.
واذا عدل في حكمه وقضيّته، استغنى عن جنده ورعيّته. وأيّ ملك نفذ في ملكه حكم النّساء، نفذ في دولته حكم الأعداء. وأيّ ملك ملكته حاشيته وأصحابه، اضطربت عليه أموره وأسبابه. وأيّ ملك خفّت وطأته على أهل الفساد، ثقلت عليه وطأة الأعداء والأضداد (4).
إذا بني الملك على قواعد العدل، ودعائم العقل، وحصّن بدوام الشّكر،
__________
(1) رسم فى الاصل «اجترى» وهو جائز بتسهيل الهمزة.
(2) ضبط فى الاصل بضم التاء، وهو لحن.
(3) ضبط فى الأصل بفتح الياء، وهو لحن.
(4) تقدمت هذه القطعة فى صحيفة (65)(1/103)
وحرس بأعمال البرّ: نصر الله واليه، وخذل معاديه، وعضده بالقدر، وسلمه من الغير.
وقالت الحكماء: السلطان خليفة الله في أرضه، والحاكم في حدود دينه وفرضه، قد خصّه الله تعالى بإحسانه، وأشركه في سلطانه، وندبه لرعاية خلقه، ونصبه لنصرة حقّه، فإن أطاعه في أوامره ونواهيه تكفّل نصره (1)، وإن عصاه فيهما وكله إلى نفسه.
ويجب على السلطان أن لا يلحّ في تضييع حقّ ذي الحق، ووضع منزلة ذي المروءة، وأن يستدرك رأيه فى صلاح ذلك، ولا يغرّه أن يرى من صاحبه المفعول ذلك به رضى. فإنّ الناس فى ذلك رجلان: رجل أصل طباعه الشّراسة، فهو كالحيّة التي لو وطئها الواطىء فلم تلدغه: لم يكن جديدا أن يغرّه ذلك منها فيعود لوطئها ثانية. ورجل أصل طباعه السّهولة، فهو كالصّندل البارد الذي إذا أفرط في حكّه عاد حارّا (2) مؤذيا.
وقالوا: قلوب الرعيّة خزائن ملكها (3)، فما استودعها من شيء فليعلم أنه فيها. وإنما سلطان الملك على الأجساد دون القلوب، فإن غلب الناس على ذات أيديهم فلن يقدر أن يغلبهم على قلوبهم.
وقالت الحكماء: عمود الدّنيا وصلاح الدّين: في مملكة عادلة، وسلطان ورع قويّ، ورعيّة طائعة.
قلت: أذكرني قول الحكيم: «إنما سلطان الملك على الأجساد دون
__________
(1) كذا في الاصل، والمنصوص عليه «تكفل بكذا» فاما ان يكون ما هنا على حذف الخافض، أو يكون الفعل متضمنا معنى فعل آخر نحو «كفل» او «ضمن».
(2) فى الاصل «حرا»
(3) ضبط فى الاصل بضم الميم، وفتحها أنسب للمعنى والسياق.(1/104)
القلوب» أمرا شهدته بمصر في سنة سبع وأربعين وخمس مائة، وهو: أنّ رسول ملك الحبشة وكتابه وصل إلى الملك العادل «أبي الحسن علي بن السّلار (1)» رضى الله عنه، فسأله أن يأمر البطرك بمصر أن يعزل بطرك الحبشة وتلك البلاد كلّها مردودة الى نظر بطرك مصر فأمر الملك العادل بإحضار البطرك، فحضر وأنا عنده، فرأيت شيخا نحيفا مصفرّا، فأدناه حتى وقف عند باب المجلس، فسلم، ثمّ انحرف فجلس على دكل (2) في الدار، ونفّذ إليه يقول له: ملك الحبشة قد شكا من البطرك الذي يتولّى بلاده، وسألني في التّقدّم إليك بعزله. فقال: يا مولاي، ما ولّيته حتى اختبرته، ورأيته يصلح للنّاموس الذي هو فيه، وما ظهر لي من أمره ما يوجب عزله، ولا يسعني في ديني أن أعمل فيه بغير الواجب، ولا يجوز لي أن أعزله. فاغتاظ الملك العادل رحمه الله من قوله، وأمر باعتقاله، فاعتقل يومين. ثم أنفذ إليه وأنا حاضر يقول له: لا بدّ من عزل هذا البطرك لأجل سؤال ملك الحبشة في ذلك. فقال: يا مولاي، ما عندي جواب غير ما قلته لك، وحكمك وقدرتك إنّما هي على الجسم الضعيف الذي بين يديك، وأما ديني فما لك عليه سبيل، والله ما أعزله ولو نالني كلّ مكروه. فأمر الملك العادل رحمه الله بإطلاقه، واعتذر إلى ملك الحبشة.
رجع القول الى السّياسة.
__________
(1) أنظر ترجمته فى ابن خلكان (ج 1ص 469467)
(2) الدكلة بفتح الدال والكاف: الطين الرقيق، ولعله استعمل بعد ذلك فى اللهجات العامية بحذف التاء الاخيرة لشيء مما يجلس عليه، وقد يكون ذلك بناء من الطين.(1/105)
قال الحكيم: اعلم أنّ الملوك ثلاثة: ملك دين، وملك حزم، وملك هوى. فأمّا ملك الدّين فإنّه إذا أقام لأهله دينهم، كان (1) دينهم هو الذي يعطيهم الذي لهم، ويلحق بهم الذي عليهم: أرضاهم ذلك، وأنزل الساخط منهم منزلة الرّاضي في الإقرار والتسليم. وأمّا ملك الحزم فإنّه يقوم به الأمر، ولا يسلم من الطّعن والسخط، ولن يضرّ طعن مع حزم القويّ. وأمّا ملك الهوى فلعب ساعة ودمار الدّهر.
وقال الحكيم: أمرّ (2) ما يحتاج إليه الملك من أمر الدّين والدنيا رأيان: رأي يقوّي سلطانه، ورأي يزيّنه في الناس. ورأي القوة أحقّهما في التّبدية، وأولاهما بالأثرة، ورأي التّزيين أحضرهما حلاوة (3)، وأكثرهما أعوانا، مع أنّ القوة من الزينة، والزينة من القوة، ولكن الأمر ينسب الى معظمه.
وقال الشاعر:
ركوبك الهول ما أيقنت فرصته ... جهل، ورأيك بالإقحام تغرير
فاعمل صوابا تجد بالحزم مأثرة ... فلن يذمّ لأهل الحزم تدبير
فإن ظفرت مصيبا أو هلكت به ... فأنت عند ذوي الألباب معدور
وإن ظفرت على جهل فعشت به ... قالوا: جهول أعانته المقادير!
__________
(1) كذا في الاصل، ولعله سقط حرف الواو من «وكان» أو لعل الجملة الآتية مفسرة للجملة قبلها فى قوله «إذا أقام لأهله دينهم».
(2) أى احكم، يقال: «فلان أمر عقدا من فلان أى أحكم أمرا منه «ولعل أصله من «المرة» بكسر الميم وتشديد الراء، وهي القوة
(3) يعنى أن حلاوته حاضرة قريبة.(1/106)
وقال آخر:
إذا الأمر أشكل إنفاذه ... ولم تر منه سبيلا فسيحا
فشاور بأمرك في سترة ... أخاك أخاك اللّبيب النّصيحا
فربّتما فرّج (1) النّاصحون ... وأبدوا من الرّأي رأيا صحيحا
ولا يلبث المستشير الرّجال ... إذا هو شاور أن يستريحا
وقال آخر:
تهدى الأمور بأهل الرّأي ما صلحت ... فإن تولت فبالاشرار تنقاد
لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهّالهم سادوا (2)
__________
(1) فى الاصل «فرح» بالحاء المهملة، وهو خطأ
(2) البيتان سبقا فى (ص 40)(1/107)
3 - باب الكرم
مما ورد فى الكتاب العزيز
قال الله عز وجل في سورة البقرة: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمََّا رَزَقْنََاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لََا بَيْعٌ فِيهِ وَلََا خُلَّةٌ وَلََا شَفََاعَةٌ، وَالْكََافِرُونَ هُمُ الظََّالِمُونَ [254]}.
ومنها: {مَثَلُ} [1] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنََابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللََّهُ يُضََاعِفُ لِمَنْ يَشََاءُ، وَاللََّهُ وََاسِعٌ عَلِيمٌ [261] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ ثُمَّ لََا يُتْبِعُونَ مََا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلََا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ [262].
ومنها: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبََاتِ مََا كَسَبْتُمْ وَمِمََّا أَخْرَجْنََا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَلََا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلََّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [267] الشَّيْطََانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشََاءِ، وَاللََّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا، وَاللََّهُ وََاسِعٌ عَلِيمٌ [268]}.
ومنها: {وَمََا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ، وَمََا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغََاءَ وَجْهِ اللََّهِ، وَمََا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لََا تُظْلَمُونَ [272]}.
ومن سورة آل عمران: {وَلََا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمََا آتََاهُمُ اللََّهُ مِنْ}
__________
(1) فى الاصل «ومثل» وهو خطأ مخالف للتلاوة.(1/108)
{فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ، سَيُطَوَّقُونَ مََا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَلِلََّهِ مِيرََاثُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ، وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [180]}.
ومن سورة النساء: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ مَنْ كََانَ مُخْتََالًا فَخُوراً [36] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مََا آتََاهُمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَعْتَدْنََا لِلْكََافِرِينَ عَذََاباً مُهِيناً [37]}.
ومن سورة ابراهيم (1): {قُلْ لِعِبََادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلََاةَ وَيُنْفِقُوا مِمََّا رَزَقْنََاهُمْ سِرًّا وَعَلََانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لََا بَيْعٌ فِيهِ وَلََا خِلََالٌ [31]}.
ومن سورة بني إسرائيل: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزََائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفََاقِ، وَكََانَ الْإِنْسََانُ قَتُوراً [100]}.
ومن سورة سبأ: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ} [2]
وَيَقْدِرُ لَهُ، وَمََا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وَهُوَ خَيْرُ الرََّازِقِينَ [39].
ومن سورة يس: {وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمََّا رَزَقَكُمُ اللََّهُ قََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشََاءُ اللََّهُ أَطْعَمَهُ؟ إِنْ أَنْتُمْ إِلََّا فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ [47]}.
ومن سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلََا يَسْئَلْكُمْ أَمْوََالَكُمْ [36] إِنْ يَسْئَلْكُمُوهََا فَيُحْفِكُمْ} [3] تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغََانَكُمْ [37] هََا أَنْتُمْ هََؤُلََاءِ
__________
(1) فى الاصل «ومن سورة الرعد» وهو خطأ.
(2) فى الاصل لم يذكر قوله «من عباده» وهو سهو من الناسخ.
(3) وضع الكاتب فى الأصل على الفاء نقطتين فصارت قافا، وهو خطأ.(1/109)
{تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ} [1]، فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمََا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ، وَاللََّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرََاءُ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لََا يَكُونُوا أَمْثََالَكُمْ [38].
ومن سورة الحديد: {وَمََا لَكُمْ أَلََّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ، وَلِلََّهِ مِيرََاثُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ، لََا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقََاتَلَ، أُولََئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقََاتَلُوا، وَكُلًّا وَعَدَ اللََّهُ الْحُسْنى ََ، وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [10]}.
ومنها: {مََا أَصََابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلََّا فِي كِتََابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهََا، إِنَّ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيرٌ [22] لِكَيْلََا تَأْسَوْا عَلى ََ مََا فََاتَكُمْ، وَلََا تَفْرَحُوا بِمََا آتََاكُمْ، وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتََالٍ} [2] فَخُورٍ [23] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبُخْلِ، وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللََّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [24].
ومن سورة التّغابن: {فَاتَّقُوا اللََّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [16].
ومن الأحاديث
26* عن عليّ بن زيد بن جدعان (3) قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى
__________
(1) سها الناسخ عن كتابة لفظ الجلالة فى الأصل.
(2) كتب فى الأصل «مختار» وهو خطأ مخالف للتلاوة، ويظهر أن الناسخ لم يكن بحفظ القرآن.
(3) بضم الجيم وإسكان الدال المهملة وبالعين المهملة ايضا، وكتب فى الأصل بالغين المعجمة وهو خطأ.(1/110)
ليحبّ [أن] (1) يرى أثر نعمته على عبده فى مأكله ومشربه» (2).
وعن ابن جريج قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى ليحبّ البيت * 27 الخصب (3)».
وعن عطاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال: أحبّ الطعام إلى الله تعالى ما كثرت عليه الأيدي (4).
وعن شهر بن حوشب قال: كان يقال: إذا اجتمع للطعام أربع (5) فقد كمل (6) كلّ شيء: إذا كان أوّله حلالا، وذكر اسم الله تعالى عليه حين يوضع، وكثرت عليه الأيدي، وحمد الله تعالى حين يفرغ منه.
وعن جابر بن عبد الله رحمه الله عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «كفى بالمرء * 28 شرّا أن يتسخّط ما قرّب إليه (7)».
__________
(1) كلمة «أن» سقطت من الأصل خطأ.
(2) علي بن زيد هذا من صغار التابعين، فحديثه مرسل، وقد نسبه فى كشف الخفا (ج 1ص 247) لابن ابي الدنيا من رواية علي بن زيد. ولكن ورد الحديث من طرق أخرى أصح، فرواه الترمذي (ج 2ص 134) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا بلفظ: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» وقال الترمذي: «حديث حسن» ورواه الحاكم فى المستدرك من حديثه ايضا (ج 4ص 135) وصححه هو والذهبى، وهو صحيح الاسناد. وكذلك رواه أحمد فى المسند (ج 2ص 182برقم 6708).
وكذلك رواه أحمد فى المسند من حديث أبى هريرة (ج 2ص 311برقم 8092)
(3) ذكره السيوطى فى الجامع الصغير (برقم 1898) بلفظ: «إن الله تعالى يحب أهل البيت الخصب» ونسبه لابن أبى الدنيا فى قرى الضيف عن ابن جريج معضلا، أي سقط منه راويان، لأن ابن جريج بضم الجيم وفتح الراء وآخره جيم يروي عن التابعين، فسقط من إسناد الحديث التابعى والصحابى، وبذلك كان هذا الحديث ضعيفا.
(4) هكذا ذكره المؤلف من كلام ابن عمر، وقد جاء بهذا اللفظ مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم من حديث جابر، نقله السيوطى فى الجامع الصغير (برقم 213) ونسبه لمسند أبى يعلى وصحيح ابن حبان وشعب الايمان للبيهقى والمختارة للضياء المقدسى، وأشار إلى صحته. ونسبه صاحب كشف الخفا (ج 1ص 52) لابن ماجه، ولم أجده فيه.
(5) فى الأصل «أربعا» وهو خطأ.
(6) كمل: بفتح الميم أو ضمها، وفيها لغة ثالثة بالكسر أيضا.
(7) نسبه السيوطى فى الجامع الصغير (برقم 6239) لابن أبى الدنيا فى قرى الضيف وأبى الحسين بن بشران فى أماليه، وأشار إلى أنه حديث ضعيف. ونسبه المنذرى في الترغيب (ج 3ص 244) إلى أبى يعلي.(1/111)
وقال جابر رحمه الله: هلاك بالرجل يدخل عليه الرجل من إخوانه فيحتقر ما في بيته أن يقدّمه له، وهلاك بالقوم أن يحتقروا ما قرّب إليهم (1).
وعن الأصمعي عن إسحق بن إبراهيم قال: دخلنا على كهمس العابد رحمه الله، فقدّم إلينا إحدى عشرة تمرة حمراء، وقال: هذا الجهد (2) من أخيكم، والله المستعان.
وقال الأحنف بن قيس: ثلاث ليس فيهنّ انتظار: الجنازة (3) إذا وجدت من يحملها. والأيّم (4) اذا أصبت لها كفؤا. والضيف إذا نزل لم ينتظر له الكلفة.
وعن بكر بن عبد الله المزنى (5) رحمه الله قال: إذا أتاك الضيف فلا تنتظر به ما ليس عندك وتمنعه ما عندك، قدّم له ما حضر، وانتظر بعد ذلك ما تريد من إكرامه.
وقال أبو خلدة (6): دخلنا على محمد بن سيرين رحمه الله أنا وعبد الله (7)
بن عون فقال: ما أدرى ما أتحفكم؟ كلّ منكم في بيته خبز ولحم، ولكن
__________
(1) نقله المنذري في الترغيب (ج 3ص 244) من حديث جابر مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فى ضمن حديث. ونسبه لمسند أحمد بن حنبل وللطبرانى
(2) بضم الجيم، بمعنى الطاقة، ويجوز فتح الحيم بهذا المعنى فى لغة
(3) بفتح الجيم وكسرها، لغتان
(4) الأيم بفتح الهمزة وكسر الياء المشددة: من النساء هي التى لا زوج لها، بكرا كانت أم ثيبا، وهذا المعنى هو المراد هنا.
وأما من الرجال فهو الذى لا امرأة له.
(5) فى الأصل «المدنى» بالدال ووضعت فوق الميم ضمة، وهو خطأ، صوابه «المزني» بالزاى مع ضم الميم، وبكر هذا من التابعين العابدين الثقات.
(6) خلدة: بفتح الخاء المعجمة وإسكان اللام، وأبو خلدة هذا إسمه «خالد بن دينار» وهو تابعى يروى عن ابن سيرين. وفى الأصل «أبو كلدة» بالكاف بدل الخاء، وهو خطأ.
(7) فى الاصل «عبيد الله» بالتصغير، وهو خطأ، بل هو عبد الله بن عون بن أرطبان المزنى، يروى عن محمد بن سيرين وأخيه أنس بن سيرين والحسن البصري، وعن غيرهم من التابعين.(1/112)
سأطعمكم شيئا لا أراه في بيوتكم، فجاء بشهدة (1)، فكان يقطع بالسكين ويلقمنا.
وعن الأعمش عن خيثمة (2) قال: كان عيسى ابن مريم صلّى الله عليه إذا دعا أصحابه قام عليهم، ثم قال: هكذا اصنعوا بالقرى.
وعن أبي هريرة رحمه الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ من السّنّة أن * 29 يمشي الرجل مع ضيفه الى باب الدار (3)».
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: «لما قدم وفد النّجاشيّ على النبيّ * 30 صلّى الله عليه وسلم قام يخدمهم، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله، قال: إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، فأنا أحبّ أن أكافئهم (4)».
وسئل مجاهد رحمه الله عن قول الله تعالى: {ضَيْفِ إِبْرََاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}
[الذاريات 24] قال: خدمته إيّاهم بنفسه (5).
عن ثابت البنانيّ رحمه الله قال: جئت إلى أنس بن مالك رحمه الله لأبيت عنده، فلما تعشّينا جاء الغلام بالطّست، فوضعه بين يدي أنس، فأخذه أنس، وضعه بين يديّ، فرددته إليه، فقال لي: يا ثابت، إذا دخلت
__________
(1) بضم الشين وفتحها، واحدة «الشهد» بالضم والفتح أيضا، وهو العسل ما دام لم يعصر من شمعه. وقيل: العسل مطلقا.
(2) فى الأصل «وعن الأعمش بن خيثمة» وهو خطأ، إذ لا يوجد من يسمى هكذا، وإنما الأعمش هو سليمان بن مهران الامام المشهور، وشيخه هو خيثمة بن عبد الرحمن الجعفى التابعى.
(3) رواه ابن ماجه فى السنن (ج 2ص 168) باسناد ضعيف جدا
(4) لم اجد هذا الحديث، إلا أن الغزالى نقله فى الاحياء (ج 2ص 17) ولم يبين الحافظ العراقى من أخرجه، ولعله لم يجده.
(5) انظر تفسير الطبرى (ج 26ص 128) والدر المنثور للسيوطى (ج 6ص 114)(1/113)
على أخيك المسلم فأكرمك فاقبل كرامته: حيث أجلسك فاجلس، وما قدّم إليك فكل، فإنّ المؤمن إنما يكرّم ربّه عزّ وجلّ (1).
31* وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا وضعت المائدة فليأكل الرجل مما يليه، ولا يرفع يديه وإن شبع، وليعذّر، فانّ ذلك يخجل جليسه». التّعذير: التّقصير. (2)
وكان بعض السلف رضي الله عنهم يقول: مؤاكلة الأسخياء دواء، ومؤاكلة البخلاء داء.
وروي: الخير أسرع الى البيت الذي يطعم فيه الطعام من السّيل الى مستقرّه (3).
32* وعن عبد الله بن عمرو رحمه الله: «أنّ رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
أيّ الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتفشي السلام على من عرفت ومن لم تعرف (4)».
33* وعن أبي هريرة رحمه الله عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا إنّ كلّ جواد في الجنّة، حتم على الله تعالى، وأنا به كفيل. ألا وإنّ كلّ بخيل في النار حتم على الله تعالى، وأنا به كفيل. قالوا: يا رسول الله: من الجواد، ومن البخيل؟
__________
(1) نقل مثل هذه الحكاية الغزالى فى الاحياء (ج 2ص 7)
(2) الحديث رواه ابن ماجه (ج 2ص 160) بأطول من هذا، وإسناده ضعيف. ومعنى التعذير: أن يأكل قليلا لئلا يخجل من ياكل معه بقيامه قبله.
(3) جاء هذا المعنى فى حديث مرفوع إلى النبى صلّى الله عليه وسلم» بلفظ: «الرزق إلى اهل البيت فيه السخاء أسرع من الشفرة إلى سنام البعير» نقله المنذرى فى الترغيب (ج 3ص 249) من حديث جابر ونسبه لأبي الشيخ، ونقله أيضا (ج 3ص 243) من حديث ابن عباس ونسبه لابن ماجه، ومن حديث أنس ونسبه لابن أبى الدنيا.
(4) رواه البخاري ومسلم والنسائى بلفظ «وتقرا السلام».(1/114)
قال: الجواد من جاد بحقوق الله في ماله، والبخيل من منع حقوق الله تعالى وبخل على ربّه. وليس الجواد من أخذ حراما وأنفق إسرافا (1)».
وعن أبي هريرة رحمه الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ السّخيّ * 34 قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد من النار. وإنّ البخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة، قريب من النار.
ولجاهل سخيّ أحبّ إلى الله تعالى من عابد بخيل. وأكبر الدّاء البخل (2)» وعن عبد الله بن عمرو رحمه الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «خلقان يحبّهما * 35 الله عزّ وجلّ، وخلقان يبغضهما الله عزّ وجلّ: فأمّا اللذان يحبّهما الله تعالى فالسّخاء وحسن الخلق. وأما اللذان يبغضهما الله عزّ وجلّ فالبخل وسوء الخلق.
وإذا أراد الله بعبد خيرا استعمله على قضاء حوائج الناس (3)».
رفع الواقديّ رحمه الله إلى المأمون رقعة يذكر فيها كثرة الدّين وقلة * 36 صبره عليه. فوقّع فيها المأمون: أنت رجل فيك خلتان: السخاء والحياء.
فالسخاء أطلق ما في يديك، والحياء منعك من إبلاغنا ما أنت عليه. وقد أمرت لك بمائة ألف، فإن كنت أصبت إرادتك فازدد في بسط يدك (4) وإن لم
__________
(1) نقله المنذرى في الترغيب (ج 3ص 248247) وقال: «رواه الأصبهانى وهو غريب»
(2) رواه الترمذى فى السنن (ج 1ص 355) وقال: «حديث غريب» ونسبه السيوطى فى الجامع الصغير (رقم 4804) للبيهقى فى شعب الايمان من حديث جابر، وللطبراني فى المعجم الأوسط من حديث عائشة، وأشار إلى ضعفه. والكلمة الأخيرة فى الحديث «وأكبر الداء البخل» لم أجدها فى هذه الروايات. ولكن ورد من حديث أبى هريرة عن النبى صلّى الله عليه وسلم قال: «شر ما فى الرجل شح هالع وجبن خالع، رواه أبو داود وابن حبان فى صحيحه، نقله المنذرى فى الترغيب (ج 3ص 246)
(3) نقله السيوطى فى الجامع الصغير (رقم 3924) ونسبه للبيهقى فى شعب الايمان، وأشار إلى أنه حديث حسن. ولكن فيه «فالسخاء والسماحة» بدل «وحسن الخلق» والمعنى واحد.
(4) فى الأصل هنا زيادة «وإن لم أصب إرادتك فازدد بسط يدك» وهي زيادة خطأ من لناسخ، ومعناها غير صحيح(1/115)
أصب إرادتك فبجنايتك على نفسك. وأنت كنت حدّثتني إذ كنت على قضاء الرّشيد عن محمد بن اسحق عن الزّهريّ عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ مفاتيح أرزاق العباد بإزاء العرش، يبعث الله عزّ وجلّ إلى عباده على قدر نفقتهم، فمن قلّل قلّل له، ومن كثّر كثّر له».
فقال الواقديّ: فلمذاكرة أمير المؤمنين أعجب إليّ من الجائزة.
37* وعن جابر بن عبد الله رحمه الله قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الإيمان؟
فقال: الصّبر والسّماح».
وعن الحميديّ قال: قدم الشافعيّ رضي الله عنه مرّة من اليمن، ومعه عشرون ألف دينار، فضرب خيمته خارجا من مكة، وأقام حتى فرّقها كلها.
38* وعن أبي الحسن المدائني عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنّه اطّلع من وافد قوم على كذبة، فقال: لولا سخاء فيك ومقك الله (1) عليه لشرّدت بك من وافد قوم (2)».
وقال: أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى عليه السلام: أن لا تقتل السّامريّ، فإنّه سخيّ.
وقيل للحسن بن عليّ رضوان الله عليهما: من الجواد؟ قال: الذي لو كانت الدّنيا له فأنفقها لرأى على نفسه بعد ذلك حقوقا.
وقال أبو الحسن المدائنيّ: تحمّل الهذيل بن زفر بن الحارث ديات
__________
(1) ومقك: بفتح الواو وكسر الميم: أي أحبك الله.
(2) قوله «من وافد قوم» ارجح انها زيادة من الناسخ خطأ، فانها لا موضع لها فى الكلام، وقد ذكر الحديث فى النهاية وفى اللسان فى مادة (وم ق) ولم يذكرا فيه هذه الزيادة، أو لعل الأصل «تبالك من وافد قوم»(1/116)
قومه، فأتى يزيد بن المهلّب، فقال: أصلحك الله، إنّه قد عظم شأنك عن أن يستعان بك أو يستعان عليك، ولست تصنع شيئا من المعروف إلّا أنت أعظم منه، وليس العجب أن تفعل، إنما العجب أن لا تفعل! فقال: حاجتك؟
فسأله أن يعينه في الدّيات التي تحمّل، فأمر له بها وبمائة ألف درهم، فقبل الدّيات ولم يقبل المائة ألف درهم، وقال: ليس هذا موضعها (1).
ودعا الحسن رحمه الله حجّاما ليسوّي من شار به، فأعطاه درهمين، فقيل له في ذلك: فقال لا تدنّقوا فيدنّق عليكم (2).
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: ربّ رجل فاجر في دينه، أخرق (3) في معيشته: يدخل بسماحه الجنّة.
وقال شيخ من بني عمرو بن كلاب: خرج عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما يريد الشّأم، فألجأه المطر إلى أبيات، فإذا قبّة حمراء بفنائها رجل ينادي: الذّرى الذّرى (4)! قال عبد الله: فأنخنا فدخلنا القبّة، وحطّ عن رواحلنا، ثم أتى بجزور فنحرها، فبتنا في شواء وقديد (5) وتحدّث معنا من الليل هنيهة ثمّ انصرف. فلمّا أصبح وقف عن القبّة (6)، وسألنا عن تنبيتنا؟
__________
(1) انظر القصة مختصرة فى عيون الاخبار (ج 3ص 124). وقد أشير إليها إشارة فى نقائض جرير والفرزدق: أنظر فهارس النقائض فى اسم (الهذيل بن زفر).
(2) الدانق بفتح النون وكسرها: سدس الدرهم، واشتق منه «دنق» أي استقصى فى الحساب حتى يحاسب على الصغير والتافه، وهو كناية عن البخل والشح. قال فى اللسان: «وأهل العراق يقولون: فلان مدنق إذا كان يداق النظر فى معاملاته ونفقاته ويستقصى».
(3) الأخرق: الجاهل، والمراد هنا الذي لا يحسن تدبير أمور معاشه
(4) الذرى: الكن، يعنى: ما كنك من الريح الباردة أو غيرها من حائط أو شجر او نحو ذلك.
(5) القديد بدالين: اللحم المجفف.
وفى الأصل «وقدير» بالراء وهو خطأ.
(6) كذا فى الاصل، ولعل صوابه «وقف بعيدا عن القبة» أو نحو هذا.(1/117)
وانصرف، فأتى بجزور فعقرها، فقلنا: رحمك الله ما تريد إلى هذا؟! قال:
كلوا رحمكم الله طريّا، فإنّا لا نطعم الضّيف غابّا (1). قال عبد الله رحمه الله:
فدعوت بثوب فجعلت فيه زعفرانا وصررت في طرف منه مائة دينار، ثم بعثت به إلى أهله، فقالوا: إنّا لا نقدر على أخذه إلّا بإذنه، فسألته أن يقبله منّى، فأبى، فلمّا ارتحلنا وودّعته أمرت فألقي الثوب بين البيوت، ومضينا.
فإنّا لنسير إذ لحقنا على فرس مشرعا رمحه (2)، قد احمرّت عيناه، والثوب بين يديه، فصاح بنا: أغنوا عنّي هذا (3)، ونبذه إلينا، وولّى وهو يقول:
وإذا أخذت ثواب ما أعطيته ... فكفى (4) بذاك لنائلي تكديرا
عن محمد بن سلّام (5) قال: أخبرني أبان بن عثمان قال: أراد رجل أن يضارّ عبيد الله بن العباس رضى الله عنهما فأتى وجوه قريش، فقال:
يقول لكم عبيد الله: تغدّوا عندي اليوم. فأتوه فملئت عليه الدار، فقال:
ما هذا؟! فأخبر بما صنع الرجل، وعرف ما أراد. فأمر بالباب فأغلق، وأرسل الى السّوق فجيىء بالفاكهة، وأرسل قوما فذبحوا وخبزوا وشووا، فلم ينقض أكلهم الفاكهة حتى جاء الطعام، وكان فيما أتاهم من الفاكهة الاترجّ والعسل، قال: فأكل القوم حتى صدروا، فقال عبيد الله لو كلائه: أموجود هذا كلّما أردت؟ قالوا: نعم، قال: فليتغدّ عندنا هؤلاء (6) في كلّ يوم.
__________
(1) الغاب بتشديد الباء: اللحم البائت، يقال: «غب الطعام والتمر فهو غاب»: بات ليلة، فسد أو لم يفسد، وخص بعضهم به اللحم.
(2) اشرع الرمح: سدده
(3) أى:
اصرفوها عنى وكفوها، يقال: «أغن عنى شرك» على هذا المعنى
(4) كتب فى الاصل «فكفا»
(5) لم أعرف «محمد بن سلام» هذا
(6) رسمت فى الأصل «هاولاي» ووضع على الواو فتحة، وهو خطأ غريب.(1/118)
وقال مصعب الزّبيريّ (1) حجّ معاوية بن أبي سفيان، فلما انصرف مرّ بالمدينة، فقال الحسين بن عليّ لأخيه الحسن رحمهما الله: لا تلقه ولا تسلّم عليه. فلما خرج معاوية رحمه الله، قال الحسن: يا أخي، إنّ علينا دينا ولا بدّ لي أن أذهب إليه، فلحقه بثنية النول (2)، وهو منحدر على الوادي، فسلّم عليه وأخبره بدينه، فمرّوا ببختيّ (3) عليه ثمانون ألف دينار، وهو يضلع (4) وهم يزجّونه (5)، فقال معاوية: ما هذا؟ قالوا: أعيى (6) وعليه المال، ونحن نزجّيه ليلحق، فقال: اصرفوه إلى أبي محمد (7)، فدفعه إليه وعليه ثمانون ألف دينار.
قال: لمّا قدم مصعب بن الزّبير (8) رحمهما الله من العراق القدمة الاولى مرّ بالمدينة ليلا، فجاوزها ونزل البيداء، فبلغ عبد الله بن جعفر وعاصم بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهم ما صنع من ذلك، فالتقيا في صلاة الصّبح في المسجد، فقال أحدهما لصاحبه: هل لك بنافيه، فلا ينجيه منّا ما فعل؟
فركبا إليه، حتى أتياه بالبيداء خلف الشّجرة إلى مكّة، فوجدوا فسطاطا مضروبا وقد فرش، فقيل لهما: انزلا حتى يخرج إليكما، فأتاهما يمشي، حتى دخل عليهما الفسطاط، فسلّم عليهما وحيّاهما، ثم قال له عبد الله بن جعفر: إنّه قد بلغنا خبر وأردنا أن نلقيه إليك لتكون منه على علم: إنّ أخاك عبد الله بن
__________
(1) هو مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، مات سنة 236
(2) هكذا ضبط في الأصل بفتح النون، ولم أجد هذه الثنية في شيء مما بين يدي من المصادر
(3) هي الابل الخراسانية
(4) بالضاد المعجمة، أى يميل من ثقل ما يحمل
(5) اي يدفعونه ويسوقونه، ويجوز إسكان الزاى وتخفيف الجيم، يقال: «زجى الشيء بالتضعيف وأزجاه» بمعنى.
(6) رسمت في الأصل «أعيا»
(7) الحسن بن علي عليه السلام يكنى أبا محمد.
(8) هو مصعب بن الزبير بن العوام، كان واليا على العراق لاخيه عبد الله بن الزبير، ثم قتله عبد الملك بن مروان سنة 72(1/119)
الزبير لا يضع عبد الله بن أبي فروة (1) من لسانه، فجعل عليه: لئن أظفره الله به ليقطعنّ يده وليأتين على ما وراء ظهره، فخذ حذرك، فإنما يريد قتلك.
فأمر مصعب براحلتين فرحلتا (2)، ثم قال: عليّ بعبد الله بن أبي فروة، فأتاه عبد الله بن أبي فروة، فقال له: إنه بلغني أنّ أمير المؤمنين عليك غضبان، ولا قرار على غضبه، فعزمت عليك إلّا ركبت وعون معك من أعوانك هاتين الرّاحلتين، ثمّ مضيت حتى تدفع يدك في يده، ثم لا يسألك (3) عن شيء إلا صدقته عنه، اركب، فركب ومضى لوجهه. ثم أقبل مصعب على عبد الله بن جعفر وعلى عاصم، فقال: كأنى بكما التقيتما في المسجد، فذكرتما مروري بالمدينة ليلا، ثم تجاوزتها ولم أنزل بها، غير صلاة صلّيتها في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقلتما: لا ندعه، ولنغيظنّه؟! والله ما يغيظني من أمير المؤمنين شيء، وما عندنا إلّا السّمع والطاعة، ولكني أعتذر إليكما: إنه كتب إليّ يأمرنى أن أطوي المدينة فلا أجعلها منزلا حتى يكون منزلي البيداء، ثم لا أريمها (4)
حتى يأتيني أمره، فلم أجاوز ما أمرني به، وما أجهل حقوقكما وما يجب لكما علي، يا عاصم، احتكم وسل ما شئت. فجعل عاصم يقول كذا وكذا، حتى ذكر الغلّة والماشية والرقيق وما يحتاج إليه الإنسان، فقال: قوّم هذا، قال:
عشرين ألف دينار، قال: هي لك، قال: وصلتك رحم أيّها الأمير. ثم أقبل على عبد الله بن جعفر وقال: هي لك وضعفها، فقال له عبد الله: ما منعك أن
__________
(1) له ذكر فى الأغاني مع مصعب بن الزبير (ج 2ص 380) طبعة دار الكتب، ومع نصيب وعبد العزيز بن مروان (ج 1ص 330)
(2) الراحلة من الابل: البعير القوى على الأسفار، ورحل البعير وارتحله: جعل عليه الرحل باسكان الحاء المهملة
(3) رسم في الأصل «يسلك»
(4) أى: لا ابرحها، يقال: «رام يريم» إذا برح.(1/120)
تحكّمني كما حكّمت صاحبي؟! قال: أنا أعرف سرفك! ولك في هذا مقنع! قال: أما لو فعلت لأخرجتك صفرا، أو لألحقتك عجزا! فأمر لهما بالمال وانصرفا.
قال: قدم المغيرة بن خنساء أظنّه «ابن حبناء» (1) على طلحة الطّلحات (2) يطلب صلته فأخرج إليه حجري ياقوت في درج (3)، فقال: أيّما أحبّ إليك: عشرة آلاف (4)، أو هذان الحجران؟ فقال:
ما كنت لإختار الحجارة على الدراهم! فأعطاه عشرة آلاف (5) درهم فقال:
إنّ نفسي قد تتبّعت أحد (6) الحجرين، فدفعهما إليه (7)، فقال المغيرة:
أرى الناس عاضوا ثم غاضوا (8) ولا أرى ... بني خلف إلّا رواء الموارد
إذا نفعوا عادوا لمن ينفعونه ... وكائن ترى من نافع غير عائد
وقال مصعب: قدم الرّاعي (9) على سعيد بن عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد
__________
(1) المغيرة بن حبناء: شاعر إسلامى من شعراء الدولة الأموية، و «حبناه» لقب غلب على ابيه «جبير بن عمرو، ووقع فى الأصل هكذا» قدم المغيرة بن خنساء على أطمه بن حسا طلحة الطلحات» وهو كلام مضطرب. ولعل الناسخ رأى فى الأصل «بن خنساء» فأراد ان يصححه بما ظنه من أنه «ابن حبناء» فلم يحسن التصحيح، إذ وضع ظنه بعد كلمة «على» فاشتبه الأمر، وإن كان ظنه قد صدق فى أن الصواب «المغيرة بن حبناء». وللمغيرة هذا ترجمة فى الأغانى (ج 11ص 165156 طبعة الساسي) والخبر الذى هنا مروى هناك بشىء من المخالفة.
(2) طلحة الطلحات هو: طلحة بن عبد الله بن خلف بن أسعد الخزاعى البصرى، أحد الأجود المشهورين، له ترجمة فى تهذيب التهذيب (ج 5ص 17) وفى مختصر تاريخ ابن عساكر (ج 7ص 6965) والقصة فيه أيضا
(3) الدرج: سفط صغير
(4) كتب فى الموضوعين «ألف» وهو خطأ.
(5) كتب فى الموضوعين «ألف» وهو خطأ.
(6) فى الأصل «إحدى» وهو خطأ
(7) الذى فى الأغانى: أنه خيره بين حجرين أو اربعين ألف درهم وأنه اختار الدراهم ثم سأله حجرا فوهبه له فباعه بعشرين الف درهم.
(8) ورواية الأغانى: «أرى الناس قد ملوا الفعال ولا أرى «الخ» ورواية ابن عساكر: «قد هروا الفعال» وهروا بمعنى كرهوا
(9) الراعى هو: عبيد بن حصين بن معاوية بن جندل النميرى، لقب بالراعي لكثرة وصفه الابل وجودة نعته إياها، وهو شاعر فحل من شعراء الاسلام، وله شعر كثير فى النقائض، وله ترجمة فى الأغانى (ج 20ص 174168) وهو الذى هجاه جرير بقصيدته الدامغة المشهورة التى منها فغض الطرف انك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وله ترجمة أيضا فى طبقات الشعراء لابن قتيبة (ص 248246طبع ليدن)(1/121)
بن أبى العيص (1)، فأنشده مديحه، فقال له: حاجتك؟ قال: ثلاثة آلاف (2)
دينار، فأمر له بها. فقال: حاجة أخرى. قال: ما هي؟ قال: ترحلني السّاعة، فرحله إلى أهله، فقال:
وأنضاء (3) أنخن (4) إلى سعيد ... طروقا ثمّ عجّلن ابتكارا
حمدن مزاره ورضين منه (5) ... عطاء لم يكن عدة ضمارا (6)
قال أبو الحسن المدائني: لقي ابن أبي بكرة سعيد بن عثمان بن عفان (7)
رضي الله عنهم وقد ولّاه معاوية خراسان، وابن أبي بكرة يريد المدينة فرأى خباء مضروبا رثّا، فقال: لمن هذا؟ قالوا: لسعيد بن عثمان بن عفان، يريد خراسان. فمشى إليه، وقال: أنت ابن أمير المؤمنين عثمان والي خراسان في هذه الهيئة؟! اجعل طريقك بالبصرة، وأكتب إلى وكيلي يجهّزك.
فكتب إلى وكيله سليم الناصح: أن أعطه عشرين ألفا وعشرين عبدا وعشرين برذونا وعشرين بعيرا وعشرين طيلسانا. فظن سعيد (8) بن عثمان بن عفان
__________
(1) سعيد هذا له ترجمة فى ابن عساكر (ج 6ص 151150) وجده عتاب بن اسيد هو الذى ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة حين خروجه إلى غزوة حنين، واقره ابو بكر، فلم يزل عليها واليا إلى أن مات، رضى الله عنه.
(2) فى الاصل «ثلثة الف»
(3) جمع نضو بكسر النون وإسكان الضاد وهو البعير المهزول.
(4) فى الاغانى «تحن» وما هنا اصح وأجود وهو الموافق لما فى ابن عساكر.
(5) فى الاغانى «ولقين منه» وكذلك فى ابن عساكر
(6) العدة:
الوعد، والضمار بكسر الضاد: الغائب الذى لا يرجى، فاذا رجي فليس بضمار، من أضمرت الشيء، إذا غيبته. قاله ابو عبيد فيما نقله عنه فى اللسان.
(7) ابن ابى بكرة هو عبيد الله، وكان من الاجواد المشهورين، وله ترجمة فى طبقات ابن سعد، وسعيد بن عثمان ولاه معاوية خراسان لما خاف ان يعارض يزيد بن معاوية فى الخلافة بعده، وانظر ترجمته فى مختصر تاريخ ابن عساكر (ج 6ص 157154)
(8) فى الاصل «سعيدا» وضبط بالنصب، وهو خطأ.(1/122)
رحمه الله أنّه يهزأ به، فدخل البصرة، فنزل على مولى لعثمان بن عفّان رحمه الله، وقال: إن ابن أبي بكرة قد كتب إلى وكيله بشيء، أفتراه ينفّذ ما كتب به؟
فأرسل إلى وكيله، فأعطاه الكتاب، فقال: أجّلني جمعة، فأجّله، فأتاه بما في الكتاب. ثم قال له سليم: ألك حاجة؟ فقال له سعيد: ولو كانت لي حاجة كنت تقضيها؟ قال: أمّا في مثل ما أعطاك مولاي ما كنت لأفعل، فقال سعيد: ما أدري أيّكما أكرم؟!.
عن سليمان بن عيّاش قال: قال إبراهيم بن هشام وكان في مال له قريبا من أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة: هل لكم أن أبخّل أبا عبيدة (1)
بن عبد الله؟! فركب إليه في سبعين راكبا، وأبو عبيدة (2) بما له بالفرش (3)، فوافاه قبل طلوع الشمس فقال له: أصلحك الله، انزل بنا، قال: لسنا ننزل، ولكن عجّل لنا ما حضر، فوافاهم بسبعين رأسا قد شويت من اللّيل، فغاظه ما رأى من تعجيل ذلك عليه، فانصرف ولم يأكل عنده شيئا.
قال أبو الحسن المدائني: قال عبد الله بن عبّاس رحمه الله: لقد رأيت من.
عبد الله بن عامر (4) منظرا وددت أنّي كنت فعلته! كنّا في الرّبيع في المسجد،
__________
(1) فى الاصل فى الموضعين «عبيد الله» وهو خطأ، صوابه ما هنا، لان ابن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب: اسمه «ابو عبيدة». كما في التهذيب (ج 5ص 219218) وكما فى الاغاني (ج 12ص 163وج 14 ص 142و 151) ولكن وقع اسم جده فى الاغانى «ربيعة» وهو خطأ أيضا، صوابه «زمعة»
(2) فى الاصل فى الموضعين «عبيد الله» وهو خطأ، صوابه ما هنا، لان ابن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب: اسمه «ابو عبيدة». كما في التهذيب (ج 5ص 219218) وكما فى الاغاني (ج 12ص 163وج 14 ص 142و 151) ولكن وقع اسم جده فى الاغانى «ربيعة» وهو خطأ أيضا، صوابه «زمعة»
(3) بفتح الفاء وإسكان الراء وآخره شين معجمة، وهو مكان قريب من «ملل» بفتح الميم واللام وآخره لام ثانية، وهو فى الطريق بين المدينة وبدر، وكان ابو عبيدة ينزل في هذا الموضع، وله قصة فى معجم البلدان لياقوت (ج 6ص 361360)
(4) هو عبد الله بن عامر بن كريز بضم الكاف وفتح الراء واخره زاى وكان عبد الله بن فتيان قريش جودا وحياء وكرما.(1/123)
فنشأت سحابة فأمطرت فتقوّضت الحلق (1)، فدعا ابن عامر بطيالسة، فألقى على كلّ رجل من جلسائه طيلسانا مطبقا، ثم لم تلبث أن تجلّت، فقال: قوموا بها.
قال مصعب الزبيريّ: حدثني مصعب بن عثمان قال: كان قيس بن سعد بن عبادة رحمه الله بعين (2)، وكان بينه وبين رجل عداوة، وكان لقيس على الناس دين كثير، فذهب الرّجل الى الناس، فقال: يدعوكم قيس، فحضره ناس كثير، فقال: ما بال الناس؟! فأخبر بذلك، فأخذ صكاكا كانت عنده بعشرين ألف دينار فقال: هذه لكم، فتوزّعوها بينكم.
قال: وباع ثابت بن عبيد الله دار الشّقاق من مقاتل بن مقاتل (3) بنسيئة (4)، ثم تقاضاه، فلزمه في مسجد ابن أبي عبيدة (5)، فرأى عبيد الله مقاتلا، فقال له: مالك يا أبا المهاجر؟ قال: لزمني ابنك، قال: بم؟ قال: بثمن دار الشقاق (6)، قال: يا ثابت، ما وجدت محبسا لغرمائك (7) إلّا داري؟ ادفع إليه صكّه وأعوّضك، فعوّضه عنها.
__________
(1) بكسر الحاء المهملة وفتح اللام، جمع «حلقة» وفى الأصل «فتفوضت» بالفاء «الخلق» بالخاء المعجمة، وهو تصحيف
(2) يعنى بعين واحدة، ولم اجد ذكر هذا فى ترجمة قيس فى الكتب، وكان قيس احد الفضلاء الجلة من دهاة العرب، من اهل الرأى والمكيدة فى الحرب والنجدة والسخاء والشجاعة، وكان شريف قومه غير مدافع، وله فى الكرم أخبار مأثورة، وقال فيه النبى صلّى الله عليه وسلم: «إن الجود من شيمة اهل ذلك البيت» وكان من النبى صلّى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الامير، وله ترجمة حافلة فى ابن سعد (ج 6ص 34) وتاريخ بغداد (ج 1ص 177) وفى الاستيعاب واسد الغابة والاصابة والتهذيب وغيرها.
(3) فى الاصل «وأباع» وهو خطأ. وثابت هو ابن عبيد الله بن ابي بكرة، والحكاية فى عيون الأخبار (ج 1ص 337) ولكن فيه «دار الصفاق من مقاتل بن مسمع»
(4) فى الاصل «بنسية» بتشديد الياء وحذف الهمزة، وهو جائز تسهيلا.
(5) فى عيون الأخبار «فلزمه فى دار أبيه» وهو أصح، لما سيأتى من قول عبيد الله «ما وجدت مجلسا لغرمائك إلا دارى»
(6) فى عيون الأخبار «الصفاق»
(7) فى الأصل «ما وجدت وضبطت التاء بالضم مجلسا لغرمائى إلا دارى» وهو خطأ واضح، صححناه من عيون الاخبار(1/124)
كان الحزين الكنانيّ (1) مع قوم من أهل المدينة يقامر، فقمر ثيابه، فكان عريانا فى جانب البيت، وكانوا بالعقيق، فبيناهم كذلك إذ أقبل عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، فقال الحزين: أعطوني ثوبا حتى ألقاه، فلعلّه يخلف عليّ ثيابي، فما أمنوه حتّى تبعه رجل يمسك بطرف رداء أعاروه (2) إيّاه، فقال له:
أقول له حين واجهته: ... عليك السّلام أبا جعفر
قال: وعليك السلام، فقال:
فأنت المهذّب من هاشم ... وفى البيت منه الّذي يذكر
فقال: كذبت! ذاك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال:
فهذى ثيابي قد أخلقت وقد عضّني زمن منكر قال: فثيابي لك بها، وانصرف حتّى أتى منزله، وبعث إليه بثيابه التي كانت عليه.
قال أبو الحسن المدائني: كان لبيد بن ربيعة (3) لا يمرّ به يوم إلّا أراق فيه دما، وكان يفعل ذلك إذا هبّت الرياح، وربّما ذبح العناق إذا أضاف، فصعد الوليد بن عقبة المنبر وقد هبّت الرّياح، فقال: أعينوا أبا عقيل على مروءته، وبعث إليه بمائة ناقة، فلمّا جاءته قال لابنته: أجيبيه عنّي، وكان لبيد قد ترك قول الشّعر، فقالت ابنته:
إذا هبّت رياح أبى عقيل ... دعونا عند هبّتها الوليدا
__________
(1) الحزين: لقب غلب عليه، واسمه «عمرو بن عبيد بن وهيب بن مالك» وهو من شعراء الدولة الأموية، وله ترجمة كبيرة في الاغانى (ج 14ص 8574).
(2) فى الاصل «عاروه» بدون همزة، وهو خطأ
(3) لبيد هو الشاعر المخضرم الصحابى المشهور، له ترجمة حافلة فى الاغانى (ج 14ص 9890) وهذه القصة هناك (ص 9594)
طويل الباع أبيض عبشميّا (1) ... أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأنّ ركبا ... عليها من بنى حام قعودا
أبا وهب جزاك الله خيرا ... نحرناها وأطعمنا (2) الثّريدا
فعد إنّ الكريم له معاد ... وظنّى يابن أروى أن تعودا
فقال لها أبوها لبيد: أحسنت، لولا أنّك سألت! فقالت: إنّ الملوك لا يستحى من مسئلتهم، قال: وأنت في هذه أشعر.(1/125)
__________
(3) لبيد هو الشاعر المخضرم الصحابى المشهور، له ترجمة حافلة فى الاغانى (ج 14ص 9890) وهذه القصة هناك (ص 9594)
طويل الباع أبيض عبشميّا (1) ... أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأنّ ركبا ... عليها من بنى حام قعودا
أبا وهب جزاك الله خيرا ... نحرناها وأطعمنا (2) الثّريدا
فعد إنّ الكريم له معاد ... وظنّى يابن أروى أن تعودا
فقال لها أبوها لبيد: أحسنت، لولا أنّك سألت! فقالت: إنّ الملوك لا يستحى من مسئلتهم، قال: وأنت في هذه أشعر.
قال: خرج عبد الرحمن بن هشام في بعض طرقه، ثم انصرف على طريق الكوفة، فمرّ بالوليد بن عقبة، فلما صار بقصر ابن مقاتل (3) أنفض (4) من الزّاد، فبعث إلى الوليد بن عقبة براحلتين، ولم يدخل الكوفة، ومضى على طريق المدينة، وقال: إنّا أرملنا من الزّاد، فابعث إلينا من زاد العراق، فبعث إليه عليهما ستّين ألف درهم.
قال أبو الحسن المدائني: بلغني أنّ أسد بن عبد الله قدم خراسان، ومعه مرزبان مرو الرّوذ، فلمّا صار بأصبهان (5) بعث إلى واليها خالد بن ورقاء
(1) فى الاصل «عبشمى» وضبط بالكسر، وهو لحن.
(2) فى الاغاني «فأطعمنا»
(3) قصر ابن مقاتل، ويسمى أيضا «قصر مقاتل» و «قصر بنى مقاتل» كان بين عين التمر والشأم، وعين التمر بلدة قريبة من الكوفة. وهو منسوب الى مقاتل بن حسان بن ثعلبة، وانظر الكلام عليه فى معجم البلدان (ج 7ص 111) وله ذكر فى الاغانى (ج 2ص 40وج 10 ص 28) وتاريخ الطبري (ج 4ص 111) وله ذكر فى الاغانى (ج 2ص 40وج 10 ص 28) وتاريخ الطبري (ج 4ص 137وج 6ص 231وج 7ص 232وج 9ص 18 وج 10ص 36)
(4) بالفاء والضاه المعجمة، يقال: «انفض القوم» نفد زادهم وطعامهم.
مثل «أرملوا»، وفى الحديث «كنا فى سفر فأنفضنا» أى فنى زادنا، كأنهم نفضوا مزاودهم لخلوها، وهو مثل «أقفر وأرمل» والاسم «النفاض» بضم النون. قاله في اللسان.
(5) بفتح الهمزة وبكسرها.(1/126)
الرياحى (1): أن ابعث إلينا من شهد بلادك. فنظر خالد فوجد في بيت المال سبع مائة ألف درهم، فأمر بحملها إليه، وكتب إليه: إنّي قد بعثت إليك بجميع ما كان عندي من الشّهد، ولو حضرني أكثر منه لبعثت [اليك] به. فقال المرزبان: لست أعجب من قدر المال، ولكن من بعثه كلّ شيء عنده! قال ابن عائشة: كان طلحة بن عبد الله (2) بن عوف جوادا، وولي المدينة، وأنشدني بعض قريش فيه:
يا طلح أنت أخو النّدى وعقيده ... إنّ النّدى إن مات طلحة ماتا (3)
إنّ الفعال إليك أطلق رحله ... فبحيث بتّ من المنازل باتا
قال: وقدم الفرزدق المدينة وقد مات طلحة، فقال: يا أهل المدينة، أنتم أذلّ قوم في الأرض. قالوا: وما ذاك؟ قال: غلبكم الموت على طلحة!.
قال مصعب بن عبد الله الزبيري: حدثني مصعب بن عثمان عن نوفل بن عمارة قال: بلغني أنّ رجلا من قريش من بني أميّة بن عبد شمس، له قدر وخطر، لم يسمّ لي: رهقه (4) دين، وكان له مال من نخل وزرع، فخاف أن يباع ماله عليه، فشخص من المدينة يريد الكوفة، يعمد (5) خالد
__________
(1) فى الأصل «الرياشى» وهو خطأ، بل هو «خالدين عتاب بن ورقاء الرياحى» بالحاء المهملة، وله ترجمة فى ابن عساكر (ج 5ص 8382) وذكر فى تاريخ الطبرى (ج 7ص 251 253و 268) وفى الامالى (ج 3ص 79) وفى عيون الاخبار (ج 3ص 94)
(2) فى الاصل «عبيد الله» بالتصغير، وهو خطأ، لان ابن عبيد الله هو طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمي الصحابي المشهور، المعروف بطلحة الفياض، وأما هذا فانه طلحة بن عبد الله بن عوف الزهرى التابعى ابن أخى عبد الرحمن بن عوف وهو المشهور باسم «طلحة الندى» وكلاهما من الطلحات المعروفين بالجود والكرم
(3) عقيده: يعنى حليفه، وهذا البيت ذكره ابن عساكر فى ترجمة طلحة (ج 7ص 7169) ونسبه للفرزدق
(4) بكسر الهاء، أى غشيه وأدركه، وفى الحديث «فان رهق سيده دين» أي لزمه أداؤه وضيق عليه. قاله فى اللسان.
(5) عمد من باب ضرب يتعدى بنفسه وبالحرف، يقال: «عمده، وعمد اليه وعمد له» بمعنى قصد(1/127)
بن عبد الله القسري وكان واليا لهشام بن عبد الملك على العراق، وكان يبرّ من قدم عليه، من قريش فخرج الرجل إليه، وأعدّ له الهدايا من طرف المدينة، فسار حتّى قدم فيدا (1) فأصبح بها، فنظر إلى فسطاط عنده جماعة، فسأل عنه؟ فقيل له: الحكم بن المطّلب بن حنطب (2)، فلبس نعليه ثم خرج حتّى دخل عليه، فلمّا رآه قام إليه فتلقّاه وسلّم عليه، وأجلسه في صدر فراشه، ثم سأله عن مخرجه؟ فأخبره بدينه وما أراد من إتيان خالد بن عبد الله القسري، فقال له الحكم: انطلق بنا إلى منزلك، فلو علمت بمقدمك لسبقتك إلى إتيانك، فمضى معه حتى أتى منزله، فرأى الهدايا الّتي أعدّ لخالد، فتحدّث معه ساعة ثم قال: إنّ منزلنا أحضر عدّة، وأنت مسافر ونحن مقيمون، فأقسمت عليك إلّا قمت معي الى المنزل وجعلت لنا من هديّتك نصيبا، فقام معه، وقال: خذ منها ما أحببت، فأمر بها فحملت إلى منزله، وجعل الرجل يستحي أن يمنعه شيئا منها، حتّى صار معه الى منزله، فدعا بالغداء فتغدّى (3)، وأمر بالهدايا ففتحت، فأكل منها هو ومن حضر، ثم أمر ببقيّتها فرفع إلى خزانته، وقام الناس. ثم أقبل على الرجل فقال: أنا أولى بك من خالد وأقرب
__________
(1) قال ياقوت فى المعجم: «بليدة فى نصف طريق مكة من الكوفة»
(2) حنطب: بوزن جعفر، كما ضبطه النووي في تهذيب الاسماء وصاحب القاموس. والحكم هذا هو ابن المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنطب، وكان من سادة قريش ووجوهها، وكان ممدوحا، وكان من ابر الناس بأبيه وله ترجمة فى تعجيل المنفعة (ص 101) ونقل ان رجلا من اهل منبج بفتح الميم وإسكان النون وكسر الباء وبعدها جيم قال: «جاورنا الحكم بن المطلب بغير مال فأغنانا كلنا. فقيل: كيف كان ذلك قال: علمنا مكارم الاخلاق فعاد غنينا على فقيرنا فاستغنوا كلهم». ونقل فى الامالى نحو هذه الحكاية (ج 3ص 216) ولهترجة أخرى مطولة فى تاريخ ابن عساكر (ج 4ص 404400) وفيه القصة التى نقلها المؤلف هنا
(3) رسم فى الاصل «فتغدا» بالالف(1/128)
إليك (1) رحما ومنزلا، وهاهنا مال للغارمين أنت أولى الناس به، ليس عليك فيه منّة إلّا لله تعالى، يقضى به دينك. ثم دعا بكيس فيه ثلاثة آلاف (2)
دينار، فدفعه اليه، وقال: قد قرّب الله عليك الخطوة، فانصرف الى أهلك مصاحبا (3) محفوظا. فقام الرجل من عنده وهو يدعو (4) ويشكر، ولم يكن له همّة إلّا الرجوع إلى أهله، وانطلق الحكم معه ليشيّعه، فسار معه، ثم قال:
لكأنّي بزوجتك قد قالت لك: أين طرائف العراق؟ أما كان لنا معك نصيب؟! ثم أخرج صرّة فيها خمس مائة دينار، وقال: أقسم عليك إلّا جعلت لها هذه عوضا عن هدايا العراق. وودّعه وانصرف.
قال مصعب (5): كان الحكم بن المطّلب من أبرّ الناس بأبيه، وكان أبوه المطّلب بن عبد الله يحبّ ابنا له يقال له «الحارث» حبّا شديدا مفرطا، وكانت بالمدينة جارية مشهورة بالجمال والفراهة، فاشتراها الحكم من أهلها بمال عظيم، فقال له أهلها وكانت مولّدة عندهم: دعها عندنا حتى نصلح من شأنها، ثم نزفّها إليك بما تستأهل الجارية منّا، فإنّما هي لنا ولد.
فتركها عندهم حتى أصلحوا حالها، ثم نقلوها كما تزفّ العروس الى زوجها، وتهيّأ الحكم بأجمل ثيابه وتطيّب. ثم انطلق، ثم بدأ بأبيه ليراه في تلك
__________
(1) فى الأصل «اليه» وهو خطأ
(2) فى الأصل «الف»
(3) بفتح الحاء، وضبط فى الأصل بكسرها، وهو خطأ، والصحابة بكسر الصاد مصدر من قولك «صاحبك الله وأحسن صحابتك»، ونقول للرجل عند التوديع، «معانا مصاحبا» أو «معان مصاحب» بالنصب أو بالرفع، وانظر لسان العرب
(4) رسم فى الاصل «يدعوا» بألف بعد الواو
(5) هذه الحكاية عند ابن عساكر أيضا(1/129)
الهيئة ويدعو له تبرّكا بدعائه حتّى دخل عليه وعنده الحارث بن المطلب أخوه. فلمّا رآه أبوه في تلك الهيئة أقبل عليه فقال: إنّ لي حاجة. قال:
ما تقول يا أبه؟! إنّما أنا عبدك، فمرني بما أحببت. قال: تهب جاريتك هذه للحارث أخيك، وتعطيه ثيابك هذه الّتي عليك، وتطيّبه من طيبك، وتدعه حتّى يدخل على هذه الجارية، فإني لا أشكّ أنّ نفسه قد تاقت إليها! فقال له الحارث: لم تكدّر على أخي وتفسد عليه قلبه؟! وذهب يريد يحلف. فبدره (1) الحكم، فقال: هي حرّة إن لم تفعل ما أمرك به أبي، فإن قرّة عينى أسرّ إليّ (2) من هذه الجارية. وخلع ثيابه فألبسه إيّاها، وطيّبه، ودفع إليه الجارية!! قال: وكان الحكم بعد حاله هذه قد تخلّى (3) من الدنيا، ولزم الثغور، حتّى مات بالشّأم بمنبج (4). وأمّه السّيّدة بنت جابر بن الأسود بن عوف الزّهريّة.
وفي الحكم يقول ابن هرمة (5):
ماذا بمنبج لو تنبش مقابرها ... من المقدّم (6) بالمعروف والكرم؟
__________
(1) أى بادره، وفى الأصل «فندره» بالنون، وهو خطأ، لان كلمة «ندر» لا تصلح فى هذا المعنى
(2) فى الاصل «إليه» وهو خطأ ظاهر
(3) رسم فى الاصل «تخلا» بالالف وبدون نقط.
(4) بفتح الميم وإسكان النون وكسر الباء الموحدة وآخرها جيم: بلدة قديمة بينها وبين الفرات ثلاثة فراسخ وبينها وبين حلب عشرة فراسخ، ومنها البحترى الشاعر المشهور وله فيها أملاك. كما قال ياقوت.
(5) هرمة: بفتح الهاء وإسكان الراء. وابن هرمة اسمه «ابراهيم بن على بن سلمة بن هرمة» وهو شاعر مشهور، له ترجمة فى الاغانى (ج 4ص 114101) وفي تاريخ بغداد (ج 6ص 131127)
(6) فى الأصل «من التهدم» وصححناه من ابن عساكر (ج 4ص 403) وفيه أيضا «لو تنشر قبورهم» فى اخر الشطر الاول.
سالوا عن المجد والمعروف: «ما فعلا؟» ... فقلت: «إنّهما ما تامع الحكم» (1).(1/130)
__________
(6) فى الأصل «من التهدم» وصححناه من ابن عساكر (ج 4ص 403) وفيه أيضا «لو تنشر قبورهم» فى اخر الشطر الاول.
سالوا عن المجد والمعروف: «ما فعلا؟» ... فقلت: «إنّهما ما تامع الحكم» (1).
قال مصعب الزّبيري: وحدثني عبد الله بن مصعب قال: خرج عبيد الله بن عبّاس رحمهما الله يريد معاوية، فأصابته السّماء وهو في أرض قفر ليلا، فرفعت له نار، فقال لغلامه مقسم (2): اقصد بنا النار، فأتاها، فاذا شيخ معه أهله، وكان عبيد الله من أجمل الناس، فلمّا رآه الشيخ أعظمه، وقال لامرأته: إن كان هذا قرشيّا فهو من بني هاشم، وإن كان يمانيّا فهو من بني آكل المرار (3)، فهيّئي لنا غنزك أقضي بها ذمامه، فقالت له امرأته: اذا تموت ابنتي من الجوع، قال الشيخ: الموت خير من اللّؤم (4)، فأخذ الشّفرة وقام الى العنز وهو يقول:
قرينتا (5) لا توقظي بنيّه (6) ... إن توقظيها تنتحب عليّه
وتنزع الشّفرة من يديّه ... أبغض بهذا وبذا إليه
فذبحها، وحدّث عبيد الله حتى نضجت، فأكل عبيد الله منها وبات ليلته، فلما قرب الرحيل قال لمقسم: كم معك من نفقتنا؟ قال: خمس مائة دينار، قال: ألقها الى الشيخ، قال مقسم: سبحان الله! إنما كان يكفيه أن
(1) فى ابن عساكر:
سالوا عن الجود والمعروف أين هما ... فقيل: إنهما مانا مع الحكم
و «سالوا» اصلها «سألوا» وسهلت الهمزة
(2) مقسم: بكسر الميم وإسكان القاف وفتح السين، وضبط فى الأصل مرارا بكسر السين، وفي بعض المرات بكسر ها مع ضم الميم، وهو خطأ.
(3) المرار بضم الميم شجر مر، وبنو آكل المرار قوم من العرب، وآكل المرار هو الجد الأعلى لامرى القيس. وفى الأصل «آكلى المرار» بلفظ الجمع، وهو خطأ.
(4) فى الأصل «اللوم» وضبط بفتح اللام، وهو خطأ.
(5) اي «يا قرينتى» بحذف حرف النداء. وفي الأصل «يا فريتا» وهو خطأ، صححناه من (رسالة الكرماء) للعسكرى، واسمها الصحيح (فضل العطاء على العسر (ولكن فيها «قرينة» بغير ألف
(6) فى الأصل «أبيه» وهو خطأ(1/131)
تضعف (1) له ثمن عنزه، والله ما يعرفك، ولا يدري من أنت!! قال:
لكنّي أعرف نفسي، وأدرى من أنا! هذا لم يكن له من الدّنيا غير هذه العنز، فجاد لنا بها وهو لا يعرفنا، فخرج من دنياه، وأعطيناه بعض دنيانا، فهو أجود منّا (2)! وسار عبيد الله حتى قدم على معاوية، وقضى حوائجه، فلما انصرف قال: يا مقسم، مرّ بنا على الشيخ ننظر كيف حاله (3) فاذا إبل عظيمة، وأنشده الشيخ شعرا قال فيه:
توسّمته لمّا رأيت مهابة ... عليه وقلت: المرء من آل هاشم
وإلا فمن آل المرار فإنّهم ... ملوك ملوك من ملوك خضارم (4)
فقمت إلى عنز بقيّة أعنز ... فأذبحها فعل امرىء غير عاتم (5)
فعوّضني منها غناي ولم تكن ... تساوي عناقي غير خمس دراهم (6)
فقلت لعرسيّ في الخلا وصبيّتي: ... أألحقّ هذا أو هو أضغاث حالم (7)؟!
فقالوا جميعا: لا، بل الحقّ هذه ... يخبّ بها الرّكبان وسط المواسم
بخمس مئين (8) من دنانير عوّضت ... من العنز، ما جادت بها كفّ حاتم
__________
(1) فى الاصل «يضعف» وضبط بفتح الياء وكسر العين، وهو خطأ
(2) نقل فى العقد الفريد (ج 1ص 116طبعة بولاق) حكاية صغيرة نحو هذه عن يزيد بن المهلب، وأن ابنه أنكر عليه إعطاء أعرابية ثمانمائة درهم فى عنز، وقال له: «إنها لا تعرفك، ويرضيها اليسير!» فقال يزيد:
«إن كانت لا تعرفنى فانا أعرف نفسى، وإن كان يرضيها اليسير فانا لا أرضى إلا بالكثير»
(3) ضبط فى الأصل «حاله» بالنصب، وهو لحن
(4) فى رسالة الكرماء: «ملوك وأبناء الملوك الأكارم»
(5) أى غير مبطىء، يقال «عتم عن الشىء وأعتم وعتم بالتضعيف أى أبطأ»
(6) هكذا وضم فى الاصل من غير نقط، ولم نجد البيت فى شيء مما بين أيدينا من المصادر
(7) تسهيل همزة «أضغاث» لضرورة الشعر» وإن لم يكن ما قبلها ساكنا. وانظر كتاب «الضرائر» للعلامة الآلوسي طبعة المطبعة السلفية سنة 1341 (ص 137)
(8) رسمت فى الاصل «مايين»(1/132)
[فلمّا (1)] ارتحل عبيد الله سار الشيخ في العرب بالذي صنع عبيد الله، [زبلغ (2)] ذلك معاوية، فقال: لله عبيد الله! من أيّ بيضة خرج، ومن أي عشّ درج! وهذا لعمري من فعلاته!! أذكرني قول مقسم مولى (3) عبيد الله بن عباس رضي الله عنهما:
شيئا جرى لي، وإن لم يكن من باب الكرم. قلت يوما لمؤدّبي الشيخ العالم أبي عبد الله محمد بن يوسف المعروف بابن المنيّرة (4): يا شيخ أبا عبد الله، لو ركبت حصانا، ولبست كزاغندا (5) واعتقلت رمحا، ووقفت في طريق مسجد القاضي وكان الإفرنج يدخلون من هناك لقتالنا لكنت تردّهم وتمنعهم؟! قال: لا والله، وإلّا كانوا يجوزون كلّهم! قلت: كانوا يبصرون هيكلك وما يعرفونك فيخافون منك! قال: سبحان الله! إن لم يعرفوني أنا ما أرف نفسي؟!! (6)
قال الهيثم بن عديّ: حدثني أبو جهضم شيخ من بني العنبر عن أبيه قال: أقبل عبيد الله بن أبي بكرة رحمه الله مرّة من العراق، فمرّ بنا في منازلنا، ونحن بالجبّانة، فإذا شابّ من الحيّ قد كان يختلف إليه، فلما
__________
(1) الكلمتان ضاعتا فى التصوير الفتوغرافي للاصل، وزدناهما لتوقف المعنى عليهما
(2) الكلمتان ضاعتا فى التصوير الفتوغرافي للاصل، وزدناهما لتوقف المعنى عليهما
(3) فى الأصل «قولى» وهو خطأ.
(4) هو من أهل كفر طاب ثم نزل حصن شيزر حصن أسرة المؤلف وله ترجمة فى معجم الادباء (ج 7ص 144) ولكن ذكر فيها أنه توفى سنة 453، وهو خطا لان المؤلف أسامة ولد سنة 488، والصواب أن هذا الشيخ نوفى سنة 503كما فى بغية الوعاة (ص 124) وكشف الظنون (ج 1ص 186وج 2ص 158و 612طبعة الاستانة سنة 1311)
(5) كلمة فارسية معربة، وهي سترة سميكة تقوم مقام الدرع فى القتال. فسرها بذلك الاستاذ (فليب حتى) فى تعليقه على كتاب (الاعتبار) للمؤلف (ص 46). وفى الاصل هنا «ولبست كزا غندا ورمحا» وزيادة كلمة «ورمحا» خطأ
(6) هذه الحكاية رواها المؤلف ايضا فى كتاب (الاعتبار) (ص 85طبعة جامعة برنستون سنة 1930)(1/133)
رآه قال: أبا حاتم، فداك أبي وأمّي، طعام حاضر، فلو نزلت (1) له؟! فنزل، قال: وأمّه تخبز، فقام إلى داجنة له فذبحها، وقال لأخيه: اكشط جلدها، ودخل عبيد الله منزله، فجاءه ببساط، وما جعل تحته فراش ولا مصلّى، إلّا أنّه أتاه بمرفقة (2) فاتكأ (3) عليها، وجلس أصحابه، وسلخت الشاة، وجعلت في التّنّور، وأخرج الخبز حارّا ففتّه، ثم كدر (4) عليه السّمن، ثم علاه بالسمن على الشاة، ثم جاء بالجفنة يحملها حتى وضعها بين يديه، فقال عبيد الله:
ما أكلت قطّ طعاما أطيب من هذا، ثم دعا بتمر برنيّ (5) وزبد، فأكل، ثم توضأ (6) وركب. فقلت: ويحك! ما صنعت! أمثل عبيد الله يدخل منزلك ثم أجلسته على بساط؟! فقال: قد علم أنى لم آله تكرمة، وإني أتيته بما عندى، وقد ذبحت له فلانة الداجنة، قال: فأقمنا يومين، ثم جاء رسوله فدعاه، فقال له: والله ما زلت معجبا بك! ثم سرّنى إلقاؤك (7) الحشمة فيما بيني وبينك، وقد رأيت أمرا غمّني، خذ هذه الخمسة آلاف (8) درهم فابتع بها سوارا لابنتك، وهذه الثلاثون ألف درهم فأقم بها وجهك، وهذه الخمسة آلاف (9)
درهم فابن بها دارك، وهذه خمسون جريبا (10) قد أمرت لك بها. قال أبو جهضم:
فحدثني أبي قال: فرأيته بعد ذلك وإنّه لمن رجال بني تميم يسارا وفضلا وهيبة.
__________
(1) ضبط فى الاصل بضم التاء، وهو خطأ واضح
(2) بكسر الميم، وهى المتكاء والمخدة.
وضبطت فى الأصل بفتح الميم وكسر القاف وجعل آخره هاء، وهو خطأ.
(3) رسم في الأصل «فايكى» وهو خطأ.
(4) كذا فى الأصل، والمراد مفهوم، والكلمة تحتاج إلى بحث.
(5) بفتح الباء وإسكان الراء، وهو ضرب من التمر أحمر مشرب بصفرة كثير اللحاء عذب الحلاوة، وهو أجود التمر. قاله في اللسان.
(6) رسم فى الاصل. «توضى» بالياء.
(7) كتب فى الأصل «إلقاك»
(8) في الأصل «الف» فى الموضعين
(9) في الأصل «الف» فى الموضعين
(10) كذا فى الأصل ولكنه فيه بدون إعجام.(1/134)
عن الهيثم عن صالح بن حسّان قال: قدم عبد الرحمن بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان رحمه الله، وكان رجلا فقيها فاضلا موسرا كثير الغزو والحجّ، أعطى حتّى بلغت عطاياه قواعد المسجد، قال: فبينا هو يوما يتغدّى (1) حيث فرغ من غدائه: إذ استأذن عليه رجل مكفوف من بني فهر، تقوده أمة سوداء، فقال: يا غلام، طعامك، فأقبل يأكل معه كأنه لم يأكل شيئا، ثم قال: حاجتك، قال: حفظك الله، شيخ من بني فهر، لي أربع بنات، ليس لي ولا لهنّ إلّا الأمة السوداء، فإن خدمتني أضرّ ذلك بهنّ، وإن خدمتهنّ أضرّ ذلك بي، والله ما أصبحت أملك شيئا، فانظر في حاجتي وصلك الله، فأقبل يعتذر إليه: ويذكر مسيره ومن يأتيه من قومه وما يتكلف، فقلنا: يعطيه خمسة دنانير، فإن أعطاه عشرة فذلك كثير! فقال:
يا غلام، أعطه أربع مائة دينار، وأخدم كلّ ابنة له خادما، وأعطه قائدا، وأجر عليه من مالنا بالسّقيا كذا وكذا وسقا من تمر. فلما نهض الشيخ قيل له: يرحمك الله! اعتذرت إليه فقلنا: يعطيه خمس دنانير فان زاده أعطاه عشرة دنانير! فقال: إي والله! لأن يكون فعلي أحسن من قولي أحبّ إليّ من أن يكون قولي أحسن من فعلي!! وعن صالح بن حسان قال: لما قدم سليمان بن عبد الملك المدينة أهدى له خارجة بن زيد بن ثابت رحمه الله ألف عرق موز، وألف قرعة عسل أبيض، وألف شاة، ومائة أوزّة، وألف دجاجة، ومائة جزور، فقال له سليمان:
__________
(1) فى الأصل «يوم يتغدا»(1/135)
يا خارجة، أجحفت بنفسك، وما كنت تصنع بهذا في مثل هذا الموضع؟! فقال: يا أمير المؤمنين، قدمت بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت في بني مالك بن النّجّار، فأنت ضيف، وإنما هذا قرى. قال: يغفر الله لك! هذا أجحف ببني مخزوم، وصلك الله. قال صالح: فقال سليمان: هذا وأبيكم السّؤدد! رجل أهدى إليّ فسمّى كلّ ما (1) أهدى له، حتى أتى على آخره ثم سأل: ما عليه من الدّين؟ فقال: خمسة وعشرون ألف دينار، قال: أقضوها عنه، وأمر له بعشرة آلاف (2) دينار، وهلك خارجة في تلك السنة، حين صدر سليمان عن الحج، سنة تسع وتسعين.
عن عكرمة بن الأغرّ عن أبيه قال: كان الأشعث بن قيس لا يقدم من سفر فيصلّي الفجر إلّا كسا (3) أهل المسجد ووصلهم، قال: وكانت لي على رجل من كندة ألف وخمس مائة درهم، فأتيته أتقاضاه، فقال: ما عندي شيء، ولكن الأشعث قد قدم اليوم، وما قدم من سفر قطّ فصلّى الفجر في المسجد: إلّا كسا (4) ووصل، فاحضرنا بالغداة فصلّ معنا، فإنّي لأرجو أن تأخذ مالك. قال: فصلّيت معهم الفجر، فلما سلّم الإمام قام رجل فقال:
أيّها القوم، أقيموا فى صفوفكم. ثم أعطى كلّ رجل حلّة وخمس مائة دره فقال: فجاءني الرجل فأعطانى الخمس مائة درهم التي دفعت إليه، وأعطيت أنا خمس مائة أخرى لنفسي. فانصرفت بألف درهم.
__________
(1) كتب فى الأصل «فسما كلما»
(2) فى الأصل «ألف»
(3) رسم فى الأصل «كسى» بالياء.
(4) رسم فى الأصل «كسى» بالياء.(1/136)
وعن أبى المجالد الجهني قال: كان زيد بن وهب (1) اذا خرج عطاؤه لم يدع أحدا من كبار أهل ربيعة إلّا كساه ثوبا، ويهب لمن كان صغيرا درهما، فلا والله ما رأيت ألفي درهم أعظم بركة من ألفي درهم زيد بن وهب.
وذلك: أنّ القبيلة يظلّون فرحين من ثياب وطعام ودراهم: الصغير والكبير.
وقدم على مخلد (2) بن يزيد بن المهلّب رجل قد كان زاره فأجازه وقضى حوائجه، فلما عاد قال له مخلد: ألم تكن أتيتنا فأجزناك؟ قال: نعم.
قال: فما ردّك؟ قال: قول الكميت فيك:
فأعطى ثمّ أعطى ثمّ عدنا ... فأعطى (3) ثمّ عدت له فعادا
مرارا ما أعود إليه إلّا ... تبسّم ضاحكا وثنى الوسادا
فأضعف له مخلد ما كان أعطاه.
عن إسماعيل بن عبد الله قال: قدم الرّاعي الشاعر على خالد بن عبد الله القسريّ ومعه ابنه جندل، فكان يغشاه مع أبيه، ثم فقده، فقال له: ما فعل ابنك؟ فقال: توفّي أصلح الله الأمير بعد أن زوّجته وأصدقته. فأمر له خالد بدية ابنه وصداقه. فقال الراعي:
وديت ابن راعي الإبل إذ حان يومه ... وشقّ له قبرا بأرضك لاحد
وقد كان مات الجود حتّى نعشته (4) ... وذكّيت نار الجود والجود خامد
__________
(1) زيد بن وهب هو الجهنى التابعى، أسلم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم ورحل إليه، فقبض لنبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق. وله ترجمة فى التهذيب (ج 3ص 427) والاصابة (ج 3ص 4746) وتاريخ بغداد للخطيب (ج 8ص 442440) وأما أبو المجالد الجهنى فانى لم اعرفه، واظن انه جراد بن عمرو المذكور فى اسانيد الطبري في التاريخ مرارا.
(2) بفتح الميم وإسكان الخاء، وبذلك ضبط فى عيون الأخبار طبعة دار الكتب المصرية (ج 3ص 150) وضبط فيه ايضا (ج 1ص 229) بتشديد اللام المفتوحة، وهو خطأ.
(3) ثلاثة المواضع فى الأصل «اعطا» بالالف.
(4) يقال: «نعشه ينعشه بفتح العين فيهما نعشا باسكانها: اي تداركه من هلكة» ويقال:
«الربيع ينعش الناس: يعيشهم ويخصبهم»(1/137)
فلا حملت أنثى ولا آب غائب (1) ... ولا ولدت أنثى إذا مات خالد
قال المدائني: خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضوان الله عليهم حجّاجا، ففاتتهم أثقالهم، فجاعوا وعطشوا، فمرّوا بعجوز في خبآء لها، فقالوا: هل من شراب؟ قالت: نعم. فأناخوا إليها، وليس لها إلّا شويهة، فقالت: احتلبوها وامتذقوا لبنها (2)، ففعلوا. وقالوا: هل من طعام؟ قالت: لا، إلّا هي، فليذبحها أحدكم حتى أصنعها لكم، فذبحها أحدهم، فشوت وأكلوا، وقالوا عندها حتى أبردوا (3). ثم قالوا: نحن نفر من قريش، نريد هذا الوجه، فاذا انصرفنا سالمين فألمّي بنا، فانّا صانعون بك خيرا. ثم رحلوا وأقبل زوجها، فقالت: سمعت؟! فقال: لم أسمع! وخبّرته الخبر، فأحال عليها ضربا (4) فشجّها، ثم قال: تذبحين عنزي لأعبد لا تدرين من هم، ثم يقولون: نفر من قريش؟! ثم ضرب الدّهر ضربانه، واضطرّته الحاجة إلى أن دخلت هي وزوجها المدينة، فمرّت العجوز يوما تسوق حمارا لها تنقل عليه البعر (5) تبيعه: إذ أبصرها الحسن بن عليّ رضوان الله عليهما فعرفها، فأمر من أتاه بها، فقال: أتعرفيني؟ قالت:
لا، فذكر لها العنز، فقالت: بأبي وأمّي، إنّك لأنت هو؟! قال: نعم، قال: أفما لقيت صاحبيك؟ قالت: لا، فأمر من اشترى لها من شآء
__________
(1) ضبط في الأصل «أب» بفتح الهمزة وضم الباء، و «غائب» بالجر، وهو خطأ فيهما.
(2) مذق اللبن بالذال المعجمة مزجه بالماء.
(3) قالوا: من القيلولة، وهى النوم فى الظهيرة، ومضارعه: بقيل، بفتح اوله. وأبردوا: اي دخلوا في آخر النهار.
(4) احال بالحاء المهملة: بمعنى أقبل، قال فى اللسان: «وأحال عليه بالسوط بضربه: اي أقبل، وأحلت عليه بالكلام: أقبلت عليه»
(5) باسكان العين وبفتحها(1/138)
الصّدقة ألف شاة وأعطاها ألف دينار، وبعث بها مع رسول إلى الحسين رضي الله عنه، فسأل عمّا فعل الحسن؟ فأعطاها مثل ذلك، ثم بعث بها إلى عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، فسأل عما أعطياها؟ فأضعفه لها، وقال: لو بدأت بي لأتعبتهما. فانصرفت إلى زوجها بأربعة آلاف دينار، وأربعة آلاف شاة.
قال أبو الحسن المدائني: كان عبيد الله بن قيس الرّقيّات (1) منقطعا إلى عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، فكان يصله ويقضي دينه، فجاءت صلة عبد الله بن جعفر في بعض ما كانت تجيء، وعبيد الله بن قيس الرّقيّات (2)
غائب، وكان معاوية رحمه الله يصل عبد الله بن جعفر في كل سنة بمائة ألف، فأمر عبد الله بديحا (3) غلامه فخبأ لعبيد الله بن قيس (4) صلته، فلما قدم أخذها، وقال:
إذا زرت عبد الله نفسي فداؤه ... رجعت بفضل من يداه (5) ونائل
وإن غبت عنه كان للودّ حافظا ... ولم يك عنّي بالمغيب بغافل
تداركني عبد الإله وقد بدت ... لذي الحقد والشّنآن (6) منّي مقاتلي
حباني لمّا جئته بعطيّة ... وجارية حسناء ذات خلاخل
__________
(1) عبيد الله، بالتصغير، وفي الأصل «عبد الله» بالتكبير، وهو خلاف الصحيح كما نص عليه الفيروزبادى فى القاموس. وقيس الرقيات سمي هكذا لانه تزوج عدة نسوة وافق اسماؤهن كلهن «رقية» فنسب إليهن، هذا قول الاصمعى، وقيل: إنه كان يشبب بعدة نساء بهذا الاسم، وقيل:
كانت له عدة جدات أسماؤهن كذلك، ولعبيد الله هذا ترجمة حافلة فى الاغانى (ج 4ص 166154)
(2) عبيد الله، بالتصغير، وفي الأصل «عبد الله» بالتكبير، وهو خلاف الصحيح كما نص عليه الفيروزبادى فى القاموس. وقيس الرقيات سمي هكذا لانه تزوج عدة نسوة وافق اسماؤهن كلهن «رقية» فنسب إليهن، هذا قول الاصمعى، وقيل: إنه كان يشبب بعدة نساء بهذا الاسم، وقيل:
كانت له عدة جدات أسماؤهن كذلك، ولعبيد الله هذا ترجمة حافلة فى الاغانى (ج 4ص 166154)
(3) بديح بالدال والحاء المهملتين بوزن زبير وكان يقال له «بديح المليح» وهو مولى عبد الله بن جعفر، وله ترجمة فى الاغاني (ج 14ص 109)
(4) عبيد الله، بالتصغير، وفي الأصل «عبد الله» بالتكبير، وهو خلاف الصحيح كما نص عليه الفيروزبادى فى القاموس. وقيس الرقيات سمي هكذا لانه تزوج عدة نسوة وافق اسماؤهن كلهن «رقية» فنسب إليهن، هذا قول الاصمعى، وقيل: إنه كان يشبب بعدة نساء بهذا الاسم، وقيل:
كانت له عدة جدات أسماؤهن كذلك، ولعبيد الله هذا ترجمة حافلة فى الاغانى (ج 4ص 166154)
(5) هكذا فى الأصل، وهو جائز على لغة من يلزم المثنى الالف
(6) لشنآن: البغض، ويجوز فتح النون الاولى وإسكانها، وقريء بهما قوله تعالى: {وَلََا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ}(1/139)
قال محمد بن سلّام: قيل لعبد العزيز بن مروان: المتوكّل الليثيّ (1)
شاعر مصر بالباب، فأذن له. فلما قام بين يديه أرتج عليه، وكان عبد العزيز مهيبا، فقال المتوكل: أصلح الله الأمير، عظمت في عيني وملأت صدري، فاختلس منّي ما كنت قلت. فنكس عبد العزيز ينكت بقضيبه الأرض.
فقال المتوكل: أصلح الله الأمير، حضرني بيتان، قال: هاتهما، فقال:
في كفّه خيزران نشره عبق (2) ... من كفّ أروع في في عرنينه شمم (3)
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلّا حين يبتسم
فأمر له بمنديل فبسطه، ثم دعا بأربعة آلاف (4) درهم فألقاها فيه، ودعا بعبدين، وقال: اختر أيّهما شئت، فقال: هذا وسيم جسيم وبه عوار (5)، وهذا أحبّ إلينا منه، قال: فعلينا تردّ العوار؟! خذهما جميعا والمنديل بما فيه.
قلت: سمعت في هذين البيتين، وأنهما من جملة أبيات للفرزدق بن غالب (6).
__________
(1) هو المتوكل بن عبد الله بن نهشل، ويكنى «أبا جهمة» وهو من شعراء الاسلام من أهل الكوفة، كان فى عصر معاوية وابنه يزيد ومدحهما، وله ترجمة في الاغانى (ج 11ص 4137)
(2) النشر باسكان الشين: الريح الطيبة. والعبق بكسر الباء اللاصق. وفي رواية لسان العرب (ج 5ص 320) ريحه عبق» وكذلك رواية الاغانى (ج 14ص 74) وفي رواية عيون الاخبار (ج 1ص 294) «ريخها عبق» وكذلك رواية الاغانى (ج 14ص 75)
(3) الاروع: الرجل الكريم ذو الجسم والجهارة والفضل والسؤدد، وقيل: هو الجميل الذى يروعك حسنه ويعجبك اذا رأيته. والعرنين: الانف.
(4) في الاصل «ألف»
(5) العوار بفتح العين: العيب
(6) البيت الاول نسبه في اللسان (ج 5ص 320) للفرزدق في مدح زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام، وكذلك اشتهر هذان البيتان عند الادباء ضمن قصيدة الفرزدق. وقد ذكرهما ابن قتيبة في عيون الاخبار (ج 1ص 294) ولم ينسبهما لاحد. وقد ذكر في الاغانى (ج 14ص 7674) مثل هذه القصة التى هنا بين الحزين الكنانى الشاعر وبين عبد الله بن عبد الملك بن مروان، ونسب فيها البيتين للحزين، ثم قال: «والناس يروون هذين البيتين للفرزدق في ابياته التى يمدح بها علي بن الحسين بن [علي بن] أبي طالب عليه السلام التي أولها:
هذا الذى تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
وهو غلط ممن رواه، وليس هذا البيتان مما يمدح به مثل على بن الحسين عليهما السلام، وله من الفضل المتعالم ما ليس لاحد».(1/140)
قال أبو الحسن المدائنى: قام رجل إلى أسد بن عبد الله فسأله، فأعرض عنه، فقال: أما والله إني لأسألك من غير حاجة، قال: فما يدعوك إلى مسئلتي إذا؟! قال: رأيتك تحبّ من أعطيته، فأحببت أن تحبّني، فأعطاه عشرة آلاف (1) درهم (2).
كان أسماء بن خارجة (3) يقول: إنما يسئلنى رجلان: كريم احتاج، فأنا أحقّ من سدّ خلّته، وستر ما هو فيه، وأعانه على خصاصته. وإمّا لئيم اشتريت منه عرضي.
ومرض قيس بن سعد بن عبادة رحمه الله فاستبطأ إخوانه عن عيادته.
فسأل عنهم؟ فقيل: إنهم يستحيون ممّا لك عليهم من الدّين. فقال: أخزى (4) الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة. ثم أمر مناديا فنادى: من كان لقيس عليه دين فهو في حلّ منه. فكسرت درجته بالعشيّ لكثرة من عاده (5)
عن حسين الخادم قال: حدثني ليث الطّويل (6) قال: كنت في موكب
__________
(1) كتب فى الاصل «ألف»
(2) نقل فى العقد الفريد نحو هذه الحكاية عن خالد القسرى (ج 1ص 95)، وخالد هو أخو أسد بن عبد الله القسرى.
(3) أسماء بن خارجة هو الفزارى، وهو أحد أجواد العرب المعروفين. وانظر الامالى (ج 3ص 20) ونسبه مذكور فى ترجمة ابنه مالك بن اسماء فى الاغانى (ج 16ص 40) والكلمة التى نقلت عنه هنا نقل نحوها فى العقد الفريد (ج 1ص 8685) ولكن فيه «وقالت أسماء بنت خارجة» وهو خطأ من المصحح، ظن أن «أسماء» امرأة، وهذا الاسم مما سمت به العرب الرجال والنساء.
(4) رسمت في الاصل «اخزا» بالالف
(5) انظر تاريخ بغداد للخطيب (ج 1ص 179178) و (س 92) من هذا الكتاب.
(6) حسين الخادم: هو خادم الرشيد، وليث الطويل: هو مولى المهدى ولهما ذكر فى مواضع من تاريخ الطبرى. انظر الفهارس(1/141)
يزيد بن مزيد (1) الشّيباني وهو يدور في برّيّة الرّقّة على شاطىء الفرات، إذ طلع عليه أعرابيّ كلبيّ على ناقة له، فلما صار غير بعيد عقل ناقته، ثم أقبل يوجف (2) حتى وقف بين يدي يزيد، فقال: السلام عليك أيّها الأمير ورحمة الله وبركاته، قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ما خطبك أيها الأعرابيّ؟
قال: أصلح الله الأمير، لم تسألني عن الخطب من قبل أن تسألني عن الاسم والنسّب والسّبب والبلد؟! قال: يا أعرابيّ، إذا سألتك عن ذلك ثم عرفتك، فقد صارت المعرفة شافعة لك في حاجتك، وايم الله ما يحضرني شفيع هو أعزّ عليّ من ماء وجهك، فما خطبك يا أعرابيّ؟ قال: أصلح الله الأمير، دين فادح. وفقر فاضح. قال: يا أعرابيّ، وما بلغ ... من دينك الفادح وفقرك
الفاضح؟ قال: أصلح الله الأمير، الدّين الفادح: خمس مائة دينار، أخذتها في سنين سغبة، فوصلت بها الأرحام، وأطعمت بها الطّعام، ابتغاء الأجر، واكتساب الشّكر، حتى أجلتني عن البلد الرّحب، وحملتني على المسلك الصّعب، وأمّا الفقر الفاضح: فاغتراب وانفراد، ووحدانية وعيال كثيرة من بنين وبنات وأخوات وأمّهات مصونات، طالما صنتهنّ من الحرّ والقرّ، فهدّمهنّ الدّهر، وكشفهنّ الفقر، بعد عزّ وامتناع، وخدم وأتباع، وظلف
__________
(1) مزيد: بفتح الميم وإسكان الزاي، كما ضبطه الذهبى فى المشتبه، وضبط فى عيون الاخبار (ج 1 ص 318) بكسر الميم، وهو خطأ، ويزيد هذا مشهور فى كتب الادب والتاريخ، وقيلت فيه مرثية جيدة أولها:
أحق إنه أودى بزيد ... تبين أيها الناعي المشيد
وهى في الاغاني (ج 18ص 117116) وقد نسبها لابي موسى التيمي، ونسبها القالي في الامالي (ج 2ص 8584) لمسلم بن الوليد، وحكى قولا آخر أنها للتيمى، وهي موجودة في ديوان مسلم ابن الوليد (ص 2120طبعة مصر)
(2) الوجف باسكان الجيم: سرعة السير، وأوجف دابته: اذا حثها على الاسراع(1/142)
وكراع، (1) أفناه الضّيف والسّيف، فأقبلت أجرّهنّ من الصّحصحان (2)
حفاة عراة جياعا، كلّما عثرت إحداهنّ هتفت باسمك: «يا يزيد» حتى نزلت بهنّ في هذا الشّعب وأومى (3) بيده الى الجبل ثم أتيتك، أيّها الأمير، ولي فيهنّ بنية صغيرة، وقد قالت في الأمير أبياتا، وحمّلتنيها إليه، وأقسمت عليّ بحقّه أن أنشده إياها، فقال يزيد: ما قالت الصّبيّة؟ قال: هي التي تقول:
ليس ينفي حوادث الدّهر عنّا ... وخطوب الزّمان إلّا يزيد
سيّد أجمعت عليه معدّ ... فله في أمورها الإقليد
ملك يرتجى نداه ويخشى ... بأسه في الوغى، قريب بعيد
لا يجير الملوك منه طريدا ... وإذا ما أجار عزّ الطّريد
فدع الصّحصحان واقصد يزيدا ... فلنا في جواره ما نريد
قال: فقال يزيد: أي والله يا أعرابيّ، إنّ لك ولها في جوارنا ما تريد، هل يقضي دينك ويسدّ فقرك عشرة آلاف (4) درهم؟ قال: لا والله أصلح الله الأمير ولا مثلها (5)، قال: هي لك عندي، وللجارية مثلها، ثم صرفه معه إلى داره، وأمر له بثمانين ألف درهم.
وعن حسين الخادم، قال: بينا أنا ذات يوم في مسجد الرّحبة (6) في يوم
__________
(1) الظلف: ظفر الحيوان المجتر، نحو البقرة والشاة والظبي، ويطلق الظلف على ذات الظلف نفسها مجازا، وقد ورد ذلك في الحديث، قاله فى اللسان، وهو المراد هنا. والكراع يراد به هنا الابل
(2) الصحصحان: الارض الجرداء المستوبة، ليس بها شيء ولا شجر ولا قرار للماء.
(3) أومى: لغة فى «أومأ» بالهمز، وتسهيل الهمزات كثير عند العرب، قال فى اللسان: «وقد جاءت فى الحديث غير مهموزة على لغة من قال فى قرأت: قريت» (ج 20ص 297)
(4) كتبت فى الاصل «الف»
(5) كذا فى الاصل، ولعل الصواب «ولا مثلاها» او «ولا مثلها معها» ليصح الكلام ويستقيم.
(6) الرحبة باسكان الحاء المهملة: هي رحبة مالك بن طوق بن عتاب التغلبي. كذلك نسبها الفيروزبادي في القاموس والسمعاني في الانساب وياقوت في معجم البلدان (ج 4ص 136) وسيأتى أن القصة مع اميرها طوق بن مالك، فاما إن يكون ابنه، وإما ان يكون الاسم خطأ، وتكون الرحبة منسوبة لطوق بن مالك، وقد نسبها اليه الطبرى فى التاريخ (ج 2ص 102) وهذه الرحبة على شاطيء الفرات في اطراف الجزيرة من جهة الشام، ولم اجد لمالك بن طوق ترجمة، وانا ارجح انها نسبت اليه، ولعل طوقا الذى ذكر هنا يكون ابنا لمالك، فتنسب الرحبة إليه كما تنسب الى ابيه. والله أعلم.(1/143)
جمعة، والناس بين راكع وساجد من بعد صلاة الظّهر، إذ مثل بين يديّ غلام أعرابيّ حسن الوجه حدث السّنّ في أطمار خلقة، كالقضيب الذّابل، يقلّب في فكّيه لسانا أبين من الصّبح، وأحلى من الشّهد، فكان في بعض ما سمعته منه:
«أيّها الناس، إنّ الفقر أقامني لديكم مقام المذنب اليكم، وقد انغلق عليّ فيه باب الشّكر، فافتحوا لي باب العذر، رحمكم الله، فلقد أحسن الذي يقول:
كأنّ فقيرا حين يغدو (1) لحاجة ... إلى كلّ من يلقى من النّاس مذنب
والله إني لأنفر من منن اللّئام نفور الوحش من زئير الأسد، وإنما قصدت هذا الملك السّيّد، الذي زيّنته أفعاله، وشرّفته أحواله، فنفّرني بوّابه وتنكّرلي حجّابه، فخرجت في يومي هذا الى عامّتكم ملتمسا منكم رجلا عربيّا تقيّا نقيّا هبرزيّا (2) يكون سببا لي إليه».
قال حسين الخادم: وكان إلى جانبي يزيد بن حلوان القناني (3)، فقال:
يا أبا خالد ما أرى هذا الأعرابيّ قصد غيرك، ولا أراد سواك، فصدّق ظنّه،
__________
(1) رسمت في الأصل «يغدوا» بألف بعد الواو.
(2) المبرزى بكسر الهاء والراء والزاى وبعد الهاء باء ساكنة: المقدام، وقيل: «رجل هبرزي»: أي جميل وسيم، وقيل: نافذ.
وضطت الكلمة في الاصل بفتح الهاء، وهو خطأ.
(3) هكذا رسم فى الاصل بالقاف وبنونين فان صح الرسم فتحت القاف كما ضطه الذهبي في المشتبه، ولكن لم أجد هذا الرجل ولم أجزم بنسبته هذه.(1/144)
وابلغ به أمنيته. فقلت: نعم يأبا عبد الله، انهض بنا، فنهض ونهضت والأعرابيّ ثالثنا، حتى دخلنا على الأمير طوق بن مالك، فسلّمنا عليه، وأنشده الأعرابيّ:
يا طوق، إنّ الزّمان حار بني ... وكنت في إخوة وأخوال
وفي رجال مثل البدور وفي ... قوم إلى ثروة وأموال
فلم تزل بي صروفه وبهم ... تنقل * من حالة إلى حال
فاستلب المال من يدي وعدا ... على رجالي عدو ربيال (1)
حتى دعيت «الغريب في ال ... أرض والمسكين» بعد كثرة المال
فقلت: من لي وللزّمان؟ ومن ... يصدق ظنّي به وآمالي؟
فقيل: طوق بن مالك ملك النّاس ومأوى الطّريد والجالي (2)
طوق إذا عاذ واستعاذ به الملهوف أضحى بموضع الوالي فجئت يا طوق عائذا بك من ... شرّ الزمان وسوء أعمالي
قال: فضحك طوق، وقال: يا أعرابيّ، أمّا شرّ زمانك فقد بدا لنا من قبيح حالتك، فما سوء أعمالك؟ قال: أصلح الله الأمير، والعزبة (3) والغربة، فقال طوق: نكد وشؤم، ثم أمر له بجائزة وجارية وخلع ودابّة، وانصرف إلى أهله على أحسن حال.
__________
(1) الرئبال والريبال بالهمز وبترك الهمز: من اسماء الأسد والذئب.
(2) الجالى: النازح عن وطنه، ومنه قيل لاهل الذمة «الجالية» لان عمر رضي الله عنه أجلاهم عن جزيرة العرب «فسموا، جالية» ولزمهم هذا الاسم أين حلوا، ثم لزم كل من لزمته الجزية من أهل الكتاب بكل بلد وإن لم يجلو عن أوطانهم. قاله فى اللسان.
(3) العزبة هى العزوبة(1/145)
قال عبد الله بن المعتزّ:
لا صاحبتني يد لم تغن ألف يد ... ولم تردّ (1) القنا حمر الخياشيم
بادر بجودك بادر قبل عائقة ... فإنّ وعد الفتى عندي من اللّوم (2)
لما احتضر محمد بن أسامة بن زيد بن حارثة رحمهما الله حضره الهاشميّون، وأطاف (3) به غرماؤه، فقال لهم حسن بن حسن رحمهما الله: أنا أضمن ما عليه، قالوا: لا نريد، دع ما لنا يكون مكانه. فقال له عليّ بن الحسين رحمهما الله: أتحبّ أن أضمنه لهم؟ قال: نعم، قال: أفتحبّ أن أقضيه وأنت حيّ؟ قال: وددت. قال: فانصرف إلى مال كان عنده، أودعه إياه مروان بن الحكم، فقال: ما يمنعني أن أحوّل هذا المال وأضمنه؟! فقضاهم، فلما أسرع فيه أتاه كتاب عبد الملك بن مروان: إنّ مروان قد توفي، وأوصى:
أنه قد أودعك مالا وأنه قد سوّغك إباه.
دخل طرمّاح بن حكيم الطائيّ (4) على خالد بن عبد الله القسريّ، فقال له: أنشدني بعض شعرك، فأنشده (5):
وشيّبني ما لا أزال (6) مناهضا ... بغير غنى أسموبه وأبوع (7)
__________
(1) في الأصل «ولا ترد» وصححناه من ديوان ابن المعتز طبعة بيروت سنة 1232، والبيتان من قصيدة هناك (ص 247246)
(2) بريد «اللؤم» وسهل الهمزة مراعاة للروى
(3) طاف وأطاف بالشيء: استدار وجاء من نواحيه.
(4) الطرماح بكسر الطاء والراء وتشديد الميم شاعر كبير، انظر ترجمته فى طبقات الشعراء لابن قتيبة طبعة ليدن (ص 374371) وانظر فيه أيضا المودة بينه وبين الكميت بن يزيد (ص 369)، والطرماح فى اللغة: الطويل أو المرتفع، وللشاعر أيضا ترجمة فى الاغاني (ج 10ص 153148) وهذه القصة هناك (ج 10ص 152) ولكن ذكر أنه دخل على «عبد الله القسري» وأنا أظن أن ماهنا أصح
(5) هذه الابيات من قصيدة طويلة للطرماح، فى ديوانه المطبوع باوروبا سنة 1927 (رقم 34 ص 155150).
(6) هكذا في الديوان والاغاني، وفى الاصل «أن لا ازال» وهو يوافق رواية الجاحظ فى البيان والتبيين طبعة المكتبة التجارية بمصر سنة 1351 (ج 3ص 130)
(7) باع بماله يبوع: بسط به باعه. وهذا الشطر نقل شارح الديوان أنه يروى: «بغير ثرى أنزو به وأبوع، وانه يروى ايضا: «بغير قوى أنزو به وأبوع» ثم قال: «ولعل الاخير تصحيف للاول» وهذا الاخير هو الموافق لرواية الجاحظ فى البيان. والبيت كله فى رواية لسان العرب (ج 9ص 469):
لقد خفت أن ألقى المنايا ولم أنل ... من المال ما أسمو به وأبوع
وجعل شارح الديوان هذا النص رواية أخرى فى البيت الثالث لا الاول ولكنا نرى أنه أصح فى أن يكون رواية أخرى للبيت الاول. وكلمة «أسمو» رسمت فى الاصل بالف بعد الواو(1/146)
وإنّ رجال المال أضحوا ومالهم ... لهم عند أبواب الملوك شفيع
أمخترمي ريب المنون ولم أنل ... من المال (1) ما أعصي به وأطيع؟!
فأمر له بخمسين ألف درهم، وقال له: اعص الآن وأطع (2).
كان عليّ بن عيسى ضامن أعمال الخراج والضّياع فبقيت عليه بقية مبلغها أربعون ألف دينار، فألحّ المأمون في اقتضائه إيّاها ومطالبته بها، إلى أن قال لعليّ بن صالح حاجبه: طالب عليّ بن عيسى بما بقي عليه، وأنظره ثلاثا فإن أحضر المال قبل انقضائها، وإلّا اضربه بالسّياط حتى يؤدّيها أو يتلف. فانصرف عليّ بن عيسى من دار المأمون آيسا من نفسه، إذ كان لا يعرف وجها يخلّصه من المال. فقال له كاتبه: لو عرّجت على غسّان بن عبّاد (3) وخبّرته خبرك لرجوت لك أن يعينك على أمرك. فقال له: على
__________
(1) فى الأصل: «من الامر» وصححناه من الديوان والاغاني والبيان، لان هذا المعنى أعلى وأدق وأنسب للكلام
(2) فى الاغانى: «فامر له بعشرين الف درهم، وقال: امض الآن فاعص وأطع،
(3) غسان بن عباد بن أبي الفرج هذا كان يتولى خراسان للمأمون، وكذلك ولى له السند، انظر تاريخ الطبرى (ج 10ص 231و 240و 282279) والاغاني (ج 14ص 3735) و «غسان» يجوز صرفه ويجوز منعه من الصرف كما نص عليه الزبيدى فى شرح القاموس مادة (غ س س) ومادة (غ س ن) لانه إن كان من المادة الاولى كانت الألف والنون زائدتان، فيمنع، وإن كان من الثانية كانتا غير زائدتين، فيصرف. قال فى اللسان (ج 8ص 34) «إن كان فعلان فهو من هذا الباب» وإن كان فعلا فهو من باب النون» ثم ذكره أيضا فى باب النون. وأما ابن دريد فانه جعله فى الاشتقاق (ص 259) من مادة (غ س ن) فاعتبر النون أصلية، ولم يذكر قولا آخر.
وقال النووى فى شرح صحيح مسلم (ج 10ص 86) «الاشهر ترك صرف غسان، وقيل:
بصرف». ويرجح المنع من الصرف الروايات الصحيحة المنقولة بالدقة والاتقان فى كتب السنة، فقد جاء ذكر (غسان) فى حديث عمر رضي الله عنه في قصة إبلاء النبى صلى الله عليه وسلم من نسائه رواه البخارى فى صحيحه، وضبطه (غسان) بالمنع من الصرف فى كل موضع من رواياته.
انظر صحيح البخارى، الطبعة السلطانية ببولاق سنة 1311، وهي التى صححت على النسخة اليونينية (ج 3ص 134وج 6ص 157وج 7ص 29و 152) وكذلك ضبط فى نسخة مخطوطة منه عندى، وهي مقروءة على أحد الحفاظ بشيراز وتاريخ كتابتها سنة 834فى (ص 324)(1/147)
ما بيني وبينه؟! فقال: نعم، فإن الرجل أريحيّ كريم. فحملته الحال التي هو عليها على قبول ذلك من كاتبه. فدخلا إلى غسّان، فقام إليه وتلقّاه بالجميل ووفّاه حقّه. فقال له: الذي بيني وبينك لا يوجب ما أسديته من تكرمة. فقال:
ذاك بحيث تقع المنافسة عليه والمضايقة فيه، والذي بيني وبينك نحن عليه بحالته، ولدخولك داري حرمة توجب لك بلوغ ما رجوته عندي، فاذكر إن كانت لك حاجة. فقصّ عليه كاتبه القصّة. فقال: أرجو (1) أن يكفيكه الله.
ولم يزده شيئأ. فنهض عليّ بن عيسى، وخرج من عنده آيسا من خيره، نادما على قصده له. وقال لكاتبه: ما أفدتني بقصد غسّان ودخولي عليه إلّا تعجيل الشّماتة والهوان، وعساه يجد بذلك السبيل إلى التّشفّي بي. فلم يصل عليّ بن عيسى إلى داره حتى حضر إليه كاتب غسّان ومعه المال على البغال، وبلغه سلامه. وقال: قد حضر [المال] (2) فتقدّم بتسليمه، وبكّر إلى دار أمير المؤمنين من غد. فبكّر عليّ بن عيسى فوجد غسانا قد سبقه إلى الدار، ودخل على المأمون ومثل (3) بين الصّفّين وقال: يا أمير المؤمنين، إنّ لعليّ بن عيسى بحضرتك حرمة وخدمة وسالف أصل، ولأمير المؤمنين عليه إحسان وهو وليّ ربّه وحفظه، وقد لحقه من الخسران والجائحة (4) في ضمانه ما قد تعارفه
__________
(1) رسمت في الأصل «أرجوا» بألف بعد الواو
(2) زيادة ضرورية للكلام، سقطت من الاصل خطأ
(3) مثل بفتح الثاء وبضمها يمثل بالضم فقط مئولا: قام منتصبا
(4) الجائحة: الشدة التى تحتاج المال.(1/148)
الناس، وخرج أمر أمير المؤمنين بالشّدّ عليه في المطالبة، وتوعّده من ضرب السّياط بما يتلف نفسه: ما أطار عقله، وأذهل لبّه، وأدهشه عن الاضطراب فى الخلاص (1)، والاحتيال فيما عليه، مع قدرته على ذلك. فان رأى أمير المؤمنين أن يشفّعني فيه ببعض ما عليه، فهي صنيعة يجددها عندي ويحرس بها قديم إحسانه، ويضاعف وجوب الشّكر بها، والاعتداد بسبوغ النّعمة فيها (2). ولم يزل يتلطّف إلى حطّه النّصف مما عليه، واقتصر منه على عشرين ألف دينار. فقال غسّان: على أن يجدّد أمير المؤمنين عليه الضمان، ويشرّفه بخلع تقوّي (3) نفسه، وترهف عزمه، ويعرف بها مكان الرّضى عنه. فأجابه المأمون إلى ذلك. فقال: فيأذن لي أمير المؤمنين في حمل الدواة الى حضرته، ليوقع بما رآه من هذا الإنعام، فيبقى شرف حملها عليّ وعلى عقبي من بعدي؟ فقال: افعل. فحمل الدواة إلى بين يديه، فوقّع له المأمون بما التمس، وخرج عليّ بن عيسى بالخلع والتوقيع بيده. فلما حصل في داره حمل من المال عشرين ألف دينار، وأعاد ما بقي على غسان، وشكره على جميله. فقال غسّان، لكاتب عليّ بن عيسى: كأنّنى شفعت الى أمير المؤمنين ليعيد إليّ المال؟! لم استحطّه (4) ذلك إلّا ليتوفّر عليه وينتفع به، وليس يعود إلى منزلي منه شيء أبدا. وأعاد المال عليه. فكان ذلك سبب صلاح ما بينهما، وعرف عليّ بن عيسى قدر ما فعله معه غسّان، ولم يزل يحدّث به إلى آخر عمره.
__________
(1) الاضطراب: الحركة.
(2) سبغت النعمة: اتسعت، وبابه «دخل»
(3) فى الاصل «يقوى»
(4) ضبطت فى الاصل بضم الطاء.(1/149)
روي: أن عبد الله بن عباس أتى الحسن والحسين رضوان الله عليهم فقال: إنّ أخي وأخاكما (1) قد أسرع في ماله إسراعا قد خفت على نفاده، وله صبية قد خفت أن يدعهم عالة، وقد عاتبته في ذلك مرارا، ولا أراه يقلع ولا ينزع، وأرجو أن يكون لكما مطيعا، وإنّ قولكما عنده مقبول، فلو عاتبتماه؟ فقالا: نفعل، فصارا إليه، فلمّا دخلا وجداه يطعم الناس، وإذا جزر تنحر. فقال أحدهما لصاحبه: هذا بعض ما شكاه عبد الله. ثم صارا إليه، فاستقبلهما وأسهل لهما عن فراشه (2)، ولقيهما بالإجلال والإعظام.
وقالا: أتيناك فى حاجة. فقال: الحوائج بعد الغداء، قالا: فهاته، قال: ما كنت لأغدّيكما بنحيرة (3) لغيركما. فاحتبسهما حتى نحر لهما، فلما طعما وفرغا سألهما عن حاجتهما؟ فقالا: إنّ أخانا وأخاك عبد الله أتانا فسألنا معاتبتك على إسرافك في مالك، وقد رأينا بعض ما شكا، ولك بنون، ولسنا نأمن عليهم الضّيعة بعدك. فقال: ما لقولكما عندى مردّ، ولا لي عمّا تأمراني به مدفع، لكنّي أخبركما بقصّتي، وأردّ الأمر إليكما، فما أمرتماني به أتيته، وما نهيتماني عنه وقفت عنده. فقالا: هات. فقال: إنّ الله تبارك وتعالى عوّدني عادة جميلة، فعوّدتها عباده، ولست آمن إن قطعت عادتي عن عباده أن يقطع عادته عنّي.
فقالا: لا نأمرك في هذا بشيء. وقاما فانصرفا حامدين لأمره (4).
__________
(1) يريد به عبيد الله بن عباس
(2) أسهل الرجل: إذا نزل من الجبل إلى السهل، فكأنه استعاره هنا للنزول عن الفراش.
(3) الناقة المنحورة يقال لها «نحيرة»
(4) فى العقد الفريد (ج 1ص 83) مختصر لهذه القصة. وانظر قصة أخرى نحوها فى المحاسن والمساوى (ج 1ص 146145) طبعة مصر.(1/150)
قدم عيينة بن مرداس المعروف بابن فسوة (1) على ابن عامر (2) البصرة وهو واليها فأغفل الغلمان أمره، فقال (3):
كأنّي ونضوي عند باب ابن عامر ... من الصّرّ ذئبا قفرة غرثان (4)
فبتّ وصنّبر (5) الشّتاء يلفّنى ... وقد مسّ برد ساعدي وبناني
فما أوقدوا نارا ولا أحضروا (6) قرى ... ولا اعتذروا من عسرة (7) بلسان
فلمّا بلغ شعره ابن عامر أقسم: «لا يغلق له باب» فكانت أبوابه تبيت مفتوحة.
قال الحكيم: الجود خلقة أثرت (8) عذوبة لذّة الثناء على لذّة المال، وهو من أمّهات المحاسن، ومن الكرم بسبيل خاصّة، وبمكان رفيع من القلوب.
__________
(1) عيينة: بالعين المهملة وياءين ونون، وفي الأصل «قتيبة» وهو خطأ. وابن فسوة: بفتح الفاء وإسكان السين، وهو لقب لهذا الشاعر، وليس لقبا لأبيه. وابن فسوة هذا شاعر قديم مقل، غير معدود في الفحول، مخضرم أدرك الجاهلية والاسلام، هجاء خبيث اللسان بذيء. كما وصفه صاحب الأغاني، وله ترجمة عنده (ج 19ص 146143)
(2) ابن عامر هو: عبد الله بن عامر بن كريز، الجواد المشهور، ولابن فسوة معه قصة أخرى في الاغاني
(3) هذه الابيات الثلاثة نقلها ابن الشجرى في الحماسة (ص 121طبع الهند) ونسبها لأعرابي لم يسمه يهجو عبد الله بن عامر بن كريز. ونقلت أيضا فى كتاب مجموعة المعاني المجهول مؤلفه المطبوع في الجوانب (ص 34)
(4) النضو بكسر النون وإسكان الضاد المعجمة الدابة التى أهزلتها الأسفار وأذهبت لحمها.
والصر بكسر الصاد المهمله شدة البرد. والغرث: الجائع. وفي الأصل «دينا» بالدال المهملة والياء والنون، وهو تصحيف، والصواب «ذئبا» مثنى «ذئب». والشطر الاخير من البيت رواه ابن الشجرى: «من الجوع ذئبا قفرة هلعان»
(5) الصنبر: البرد، وقيل الريح البارد فى غيم، وهذا أنسب هنا. وفي ابن الشجري: «وقفت» بدل «فبت»
(6) في ابن الشجرى «ولا عرضوا».
(7) في الاصل «عن عسرة» وصححناه من ابن الشجري ومجموعة المعاني
(8) يعنى: آثرت وفضلت واختارت. يقال «أثر أن يفعل كذا» بفتح الهمزة من غير مد مع فتح الثاء أو كسرها، و «آثر» بالمد مع فتح الثاء فقط: بمضى فضل وقدم.(1/151)
وقال حاتم بن عبد الله الطائيّ: (1)
يابنة (2)، عبد الله وابنة (3) مالك ... ويابنة (4) ذي البردين (5) والفرس النّهد (6)
إذا ما صنعت (7) الزّاد فالتمسي له ... أكيلا، فإني لست آكله (8) وحدي
__________
(1) هذه الابيات ذكرها الجاحظ في البيان والتبيين (ج 3ص 187) وزاد عليها ثلاثة أخرى، وذكرها أبو تمام في الحماسة (ج 2ص 271طبعة المطبعة الجمالية سنة 1334) وجعلها أربعة أبيات، وانظر شرح التبريزي (ج 4ص 100طبع بولاق). وذكرها ابن قتيبة في عيون الاخبار (ج 3 ص 263) وجعلها خمسة أبيات. وذكرها الآلوسي في بلوغ الأرب (ج 1ص 75) كالحماسة، ولعله نقلها عنها. وفي رواياتهم اختلاف. ولم نذكر فى ديوان حاتم المطبوع فى لندن سنة 1872وفى المطبعة الوهبية بمصر سنة 1293ولم ينسبها أحد من هؤلاء لحاتم، إلا التبريزي فى شرح الحماسة، ظنه هو الذي نسبها له. ثم قلده فى ذلك الالوسى والاستاذ احمد زكي العدوي في تصحيح عيون الاخبار، والاستاذ حسن السندوبي في تصحيح البيان والتبيين. والتحقيق أنها من قول قيس بن عاصم المنقري الصحابي سيد أهل الوبر. نسبها له المبرد فى الكامل (ج 1ص 345طبعة مصر سنة 1308) والاغاني (ج 12ص 144) وانظر شرح المرصفي على الكامل (ج 5ص 145144)
(2) رسم فى الاصل فى الموضعين «يا بنت»
(3) رسم فى الاصل «وابنت»
(4) رسم فى الاصل فى الموضعين «يا بنت»
(5) البردان: ثوبان. وذو البردين: هو عامر بن أحيمر بن بهدلة، كما ذكره التبريزي في شرح الحماسة (ج 4ص 100) وابن فضل الله المحبى في حتى الجنتين (ص 156) قال التبريزي: «هذه الأبيات لحاتم الطائي، يخاطب امرأته ماوية بنت عبد الله، وعنى بذي البردين عامر بن أحيمر بالتصغير بن بهدلة، وكان من حديث البردين، الخ، ثم ذكر سبب تلقيبه بذلك. ولكن لم يذكر الصلة بين ماوية امرأة حاتم وبين عامر، وهذا خطأ من التبريزي، فانما يخاطب قيس بن عاصم امرأته منفوسة بنت زيد الفوارس الضبى، ونسبها لعمها وجدها الأكبرين «عبد الله ومالك» ثم نسبها لجدها لأمها «ذي البردين» وهو «عامر بن أحيمر»، كما قال أستاذنا المرصفي في شرح الكامل. وقد وقع في الأصل «ذى الحدين» بالحاء المهملة بدل «ذي البردين» وهو تصحيف، وصوابه «ذى الجدين» بالجيم، وكذلك رواه التبريزى في شرح الحماسة (ج 2ص 7) ولم ينسبه لحاتم ولا لغيره، وهو خطأ ثان منه، فان ذا الجدين لقب لشخصين آخرين كما في كتاب المحبى.
والرواية الصحيحة «ذى البردين» كما بينا آنفا.
(6) الفرس النهد: الجسيم المشرف القوى. وفي جميع الروايات الأخرى التى أشرنا إليها: «الفرس الورد» بفتح الواو، وهو ما كان لونه أحمر يضرب إلى صفرة. ويوصف الأسد بذلك أيضا.
(7) في البيان وفي عيون الأخبار «عملت» وما هنا موافق للحماسة.
(8) بضم الكاف واللام، فعل مضارع. أو بكسر الكاف وفتح اللام، اسم فاعل. وفي عيون الأخبار «غير آكله».
بعيدا قصيّا أو قريبا (1)، فإنّني ... أخاف مذمّات الأحاديث من بعدي
وقال الشّريف الرّضيّ رضي الله عنه في ترك المال للوارث:(1/152)
__________
(8) بضم الكاف واللام، فعل مضارع. أو بكسر الكاف وفتح اللام، اسم فاعل. وفي عيون الأخبار «غير آكله».
بعيدا قصيّا أو قريبا (1)، فإنّني ... أخاف مذمّات الأحاديث من بعدي
وقال الشّريف الرّضيّ رضي الله عنه في ترك المال للوارث:
يا آمن الأقدار بادر صرفها ... واعلم بأنّ الطّالبين حثاث (2)
خذ من تراثك ما استطعت فإنما ... شركاؤك الأيّام والورّاث (3)
ألمال مال المرء: ما قضيت (4) به الشّهوات أو دفعت به الأحداث ما كان منه فاضلا عن قوته ... فليتعلمنّ بأنّه ميراث (5)
وقال أعرابيّ من بني أسد:
يقولون: «ثمّر ما استطعت» وإنّما ... لوارثه ما ثمّر المال كاسبه
فكله وأطعمه وخالسه وارثا ... شحيحا ودهرا تعتريه نوائبه (6)
ينظر إليه قول المسعوديّ (7):
(1) ماهنا موافق لرواية عيون الأخبار. وفي البيان «كريما قصيا»، وفى الحماسة «أخا طارقا أو جار بيت»
(2) بكسر الحاء للهملة وبالمثلثتين، جمع حثيث: أى سريع. وهو الذي في ديوان الشريف (ص 178) وفى الأصل «خباث» بالخاء المعجمة والباء الموحدة جمع خبيث، وهو تصحيف، والمعنى عليه غير جيد.
(3) فى الأصل «الأحداث والوارث» وصححناه من الديوان. وبعد هذا البيت آخران هناك
(4) فى الديوان «ما بلغت»
(5) القصيدة في الديوان 13بيتا
(6) لم اجد نسبة هذين البيتين. ولكن وجد أخي السيد محمود محمد شاكر بيتين آخرين لهما بهذين شبه، نقلهما الراغب الأصبهاني في محاضرات الادباء (ج 1ص 252) ونسبهما لابى الشيص محمد بن عبد الله بن رزين وقيل: محمد بن رزين، وهما:
يقول الفتى ثمرت مالي وإنما ... لوارثه ما تمر المال كاسبه
يحاسب فيه نفسه بحيانه ... ويتركه نهبا لمن لا يحاسبه
وأبو الشيص له ترجمة في الشعراء لابن قتيبة (ص 539535) وتاريخ بغداد (ج 5ص 401) والاغاني (ج 15ص 108104)
(7) المسعودي: هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، توفي سنة 99، وكان شاعرا مجيدا، وقد قيل له في ذلك فقال: «أرأيتم المصدور إذا لم ينفث أليس يموت؟!». انظر طبقات ابن سعد (ج 5ص 185) والبيان والتبيين (ج 1ص 279وج 2ص 77) والبيتان اللذان هنا فيه أيضا (ج 3ص 126).
وللمسعودي ترجمة جيدة في الاغاني (ج 8ص 9588)(1/153)
إنّ الكرام مناهبو ... ك المجد كلّهم فناهب
أخلف وأتلف، كلّ شي ... ء زعزعته الرّيح ذاهب
كان يقال: إنما نلقى ما أسلفنا، ولا نلقى ما خلّفنا.
روي: أنّ هشام بن عبد الملك بن مروان لما ثقل في مرضه الذي مات فيه: بكى عليه ولده. فقال لهم: جاد لكم هشام بالدنيا، وجدتم عليه بالبكا، وترك لكم ما كسب، وتركتم عليه ما اكتسب، فما أسوأ حال هشام إن لم يغفر الله له.
فأخذ هذا المعنى محمود الورّاق فقال:
تمتّع بمالك قبل الممات ... وإلّا فلا مال إن أنت متّا
شقيت به ثمّ خلّفته ... لغيرك، بعدا وسحقا ومقتا
فجادوا عليك بزور البكا ... وجدت عليهم بما قد جمعتا
و (1) أوهبتهم كلّ (2) ما في يديك ... وخلّوك رهنا بما قد كسبتا
يقال: مال الميّت يعزّي ورثته عنه.
فأخذ هذا المعنى ابن الرّوميّ فقال (3):
بقّيت مالك ميراثا لوارثه ... فليت شعري: ما بقّى لك المال؟!
__________
(1) فى اللسان «أوهب لك الشيء بالنصب: أعده وأوهب الشيء بالرفع إذا كان معدا عند الرجل» فهو يأتي لازما ومتعديا لمفعول واحد، وهنا جعله متعديا لمفعولين، ولم أجد نقلا فى ذلك وإن كان فيما أرى غير ممتنع.
(2) رسم فى الاصل «كلما»
(3) فى محاضرات الادباء (ج 1ص 252) الابيات الثلاثة الاولى، ولم ينسبها لشاعر معين. ونقلها فى العقد الفريد (ج 1ص 391) ونسبها لأبي العتاهية، وهي في ديوانه (ص 217طبعة بيروت سنة 1886). وأما البيت الرابع فلم أجده.
ألقوم بعدك في حال تسرّهم (1) ... فكيف بعدهم حالت (2) بك الحال؟
ملّوا البكاء فما يبكيك من أحد ... واستحكم القيل (3) في الميراث والقال
ولّتهم عنك دنيا أقبلت لهم ... وأدبرت عنك، والأيّام أحوال
عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه أنه قال: إنما تخلّف مالك لأحد رجلين: رجل عمل فيه بطاعة الله تعالى، فسعد بما شقيت فيه، أو رجل عمل فيه بمعصية الله تعالى، فشقي بما جمعت له.(1/154)
__________
(3) فى محاضرات الادباء (ج 1ص 252) الابيات الثلاثة الاولى، ولم ينسبها لشاعر معين. ونقلها فى العقد الفريد (ج 1ص 391) ونسبها لأبي العتاهية، وهي في ديوانه (ص 217طبعة بيروت سنة 1886). وأما البيت الرابع فلم أجده.
ألقوم بعدك في حال تسرّهم (1) ... فكيف بعدهم حالت (2) بك الحال؟
ملّوا البكاء فما يبكيك من أحد ... واستحكم القيل (3) في الميراث والقال
ولّتهم عنك دنيا أقبلت لهم ... وأدبرت عنك، والأيّام أحوال
عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه أنه قال: إنما تخلّف مالك لأحد رجلين: رجل عمل فيه بطاعة الله تعالى، فسعد بما شقيت فيه، أو رجل عمل فيه بمعصية الله تعالى، فشقي بما جمعت له.
وقيل لابن عمر رضوان الله عليه: توفّي زيد بن خارجة وترك مائة ألف درهم. قال: لكنّها لا تتركه.
بعث معاوية بن أبي سفيان رحمه الله إلى عبيد بن شريّة (4) الجرهميّ وكان من المعمّرين (5) فقال له: ما أدركت؟ فقال: أدركت يوما شبيها
(1) في العقد «تسوؤهم» وهو خطأ.
(2) في العقد والديوان «دارت»
(3) في الاصل «القول» وهو خطأ، لان استعمال العرب هكذا، يقولون: «كثر القيل والقال»
(4) شرية: بالشين المعجمة: بوزن عطية، كما ضبطه الحافظ ابن حجر في الاصابة (ج 5ص 102) وفي الاصل لم تعجم الشين كاكثر الكتابة القديمة.
(5) عبيد بن شرية: زعموا أنه عاش ثلاثمائة سنة وأدرك الاسلام وأسلم وقدم على معاوية وعاش إلى خلافة عبد الملك بن مروان. ذكره ابن الاثير في أسد الغابة (ج 3ص 351) ونقل قطعة من هذه القصة، وذكره ابن حجر في الاصابة في القسم الثالث أي الذين أدركوا النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يروه وذكره أبو حاتم السجستاني المتوفى سنة 235في كتاب (المعمرين) ونقل هذه القصة مطولة (ص 4139طبعة الخانجي سنة 1323) وكذلك نقل ابن قتيبة في عيون الاخبار هذه القصة (ج 2ص 305). والحريرى في درة الغواص (ص 33طبعة الجوائب). وفي رواياتهم اختلاف وزيادة ونقص في الابيات الآتية. وقد نقل الابيات فى الامالي (ج 2ص 182181) ولم ينسبها لشاعر معين. ونقلها صاحب لسان العرب (ج 5ص 380). ونقل أيضا البيت الثالث وحده (ج 9ص 234) وفي كتاب الفهرست لمحمد بن اسحق النديم (ص 132طبعة مصر سنة 1348) كلام بشأن عبيد بن شرية ونسب له كتبا مؤلفة.
وبيدنا كتاب اسمه (أخبار عبيد بن شربة فى أخبار اليمن وأشعارها) كله قصة واحدة: أن معاوية أحضره من اليمن وسأله عن أخبار الماضين؟ فجاء بأقوال مخترعة لا أصل لها. وقد طبع هذا الكتاب في حيدر آباد سنة 1347ذيلا لكتاب (التيجان في ملوك حمير) المنسوب كذبا لوهب بن منبه، وأنا أجزم أن هذه الحكايات المنسوبة لعبيد بن شربة أخبار موضوعة مكذوبة، فانها لم تأت باسناد من الاسانيد التي يثق بها رجال الحديث، ولعلها من أفاعيل هشام بن محمد بن السائب الكلبى الكذاب الوضاع. بل يغلب على ظنى أن عبيدا نفسه شخص خيالي لم يوجد قط. وإنما جاء ذكره على ألسنة القصاص والوضاعين.(1/155)
بيوم قبله، وليلة شبيهة بأختها، ومولودا يولد، وحيّا يموت. قال: أخبرني بأعجب ما رأيت. قال: حضرت جنازة فذكرت الموت والبلى، فخنقتني العبرة فقلت متمثّلا:
يا قلب إنّك في أسماء مغرور ... فاذكر، وهل ينفعنك اليوم تذكير؟
فاستقدر (1) الله خيرا وارضينّ به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبطا (2) ... إذ صار في القبر تعفوه الاعاصير (3)
حتّى كأن لم يكن إلّا تذكّره ... والدّهر أيّتما حال دهارير (4)
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحيّ مسرور
فقال لي رجل من أهل الجنازة: أتدري لمن هذا الشّعر؟ قلت: لا.
قال: هو لهذا المدفون، وأنت غريب تبكي عليه، وقراباته الذين يرثونه مسرورون! وقيل: هذا الشعر لجبلة بن الحارث. وقيل: الميّت عثمان بن لبيد العذريّ (5).
__________
(1) في الأصل «استقدر» بحذف الفاء، وفى جميع الروايات باثباتها، ما عدا أسد الغابة فان فيه «استرزق» وبحذف الفاء
(2) بفتح الباء وبكسرها كما نص عليه في اللسان، ولكنه نقل عن الجوهرى أن الرواية فى هذا البيت بكسر الباء. ثم إن صاحب اللسان روى هذه الكلمة في الموضعين «مغتبط» بالرفع وكذلك فى درة الغواص. وفى سائر الروايات بالنصب.
(3) رواية صاحب اللسان في الموضيعين «إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير» ورواية المعمر بن وعيون الأخبار والأمالي «إذ صار فى الرمس»
(4) الدهارير: أول الدهر فى الزمان الماضى، ولا واحد له. وقيل: مفرده دهر، وقيل: دهور. وقولهم: «دهر دهارير» أى شديد، كقولهم: «ليلة ليلاء، وقال الزمخشرى: «الدهارير تصاريف الدهور ونوائبه، ومشتق من لفظ الدهر، ليس له واحد من لفظه»
(5) هكذا فى الأصل. والذى في (المعمرين) أن الجنازة لرجل من عذرة اسمه «حريث بن جبلة». وقال في اللسان (ج 5ص 380): «أنشد أبو عمرو بن العلاء لرجل من أهل نجد، وقال ابن برى: هو لعثير بكسر العين المهملة وإسكان الثاء المثلثة وفتح الياء المثناة التحتية ثم راء بن لبيد العذرى، قال: وقيل: وهو لحريث بن جبلة العذرى». ثم حكى نحو هذا في (ج 9ص 234) ولكنه قال «عش» بضم الغين المهملة وتشديد الشين المعجمة «بن لبيد العذرى». وقال الحريري: «عثير بن لبيد، وقيل عثمان بن لبيد، وفى كتاب المعمرين ان الميت حريث بنى جبلة»(1/156)
ما أحسن ما اعتذر حاتم بن عبد الله الطّائيّ عن كرمه من قصيدة له!: (1)
أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما (2) وضاق بها الصّدر
أماويّ إن يصبح صداي (3) بقفرة ... من الأرض لا ماء لديّ ولا خمر
أرى أنّ ما أنفقت لم يك ضائري (4) ... وأنّ يدي ممّا بخلت به صفر
ومثله قول الآخر:
أرأيت إن صرخت بليل هامتي ... وخرجت منها باليا أثوابي
هل تخمشن إبلي عليّ وجوهها؟ ... أم هل تشدّ رؤوسها بسلاب؟
أأصرّها وبنىّ عمّي ساغب؟! * لكفاك من إبة عليّ وعاب (5)
سأل رجل الحسن بن عليّ رضوان الله عليهما حاجة، فقال له:
يا هذا، حقّ سؤالك إيّاي يعظم لديّ، ومعرفتي ما يجب لك تكبر عليّ، ويدي تعجز عن نيلك (6) ما أنت أهله، والكثير في ذات الله تعالى قليل،
__________
(1) هذه الابيات من قصيدة له في ديوانه (ص 39طبعة لندن و 118طبعة مصر) وماوية هي زوج حاتم، وانظر الامالي (ج 3ص 152) والاغاني (ج 16ص 10299) والعقد الفريد (ج 1 ص 109)
(2) في الديوان: «إذا حشرجت نفس» وما هنا موافق للاغاني والعقد
(3) المراد بالصدى هنا البدن والجثة، كما فى اللسان
(4) رواية الديوان: «ترى أن ما أهلكت لم يك ضرني» ورواية الاغاني والعقد: «ترى أن ما أنفقت لم يك ضرنى»
(5) هذه الابيات لضمرة بن ضمرة النهشلي، ورواها عنه ابو زيد الانصارى فى كتاب النوادر وشرحها (ص 2طبعة بيروت) وهي عنده أربعة ابيات. ورواها عنه القالي في الامالى وشرحها ايضا (ج 2ص 280279) وهي عنده خمسة
(6) نال: يتعدى لمفعول واحد بنفسه، ويتعدى لمفعولين أيضا بنفسه فيكون بمعنى «أنال» كما فى اللسان.(1/157)
وما في ملكتى وفاء لشكرك، فإن قبلت الميسور، ورفعت عنّي مؤونة الاحتيال والاهتمام لما أتكلّف من واجبك: فعلت. فقال: يابن رسول الله، أقبل القليل، وأشكر العطيّة، وأعذر على المنع. فدعا الحسن رضوان الله عليه وكيله، وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها ثم قال: هات الفاضل من الثلاثمائة ألف درهم، فأحضر خمسين ألفا. قال: فما فعلت الخمس مائة دينار؟
قال: هي عندي، قال: أحضرها، فأحضرت، فدفع الدراهم والدنانير إلى الرجل. وقال: هات من يحملها، فأتاه بحمّالين، فدفع إليهم الحسن رضوان الله عليه ركاءه لكري الحمل، فقال له مواليه: والله ما بقي عندنا درهم، فقال: لكنّي أرجو (1) أن يكون لي عند الله تعالى أجر عظيم.
عن محمد بن المنكدر عن أمّ ذرّة (2) وكانت تخدم عائشة رضوان الله عليها قالت: بعث ابن الزّبير رحمه الله إلى خالته أمّ المؤمنين عائشة رضوان الله عليها: في غرارتين ثمانين ومائة ألف درهم (3)، فدعت بطبق فجعلت تقسمه بين الناس، حتى فرغ، فلما أمست قالت: يا جارية، هاتي فطوري (4)، فجاءت بخبز وزيت، فقالت لها أمّ ذرّة: ما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحما نفطر عليه؟! فقالت: لو كنت ذكّرتيني (5) لفعلت!!
__________
(1) رسمت فى الاصل «ارجوا» بألف بعد الواو.
(2) بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء، كما ضبطه الذهبي فى المشتبه، وضبط فى الاصل بضم الدال المهملة، وهو تصحيف. وأم ذرة: هى مولاة عائشة، ولها ترجمة فى طبقات ابن سعد (ج 8ص 357) وفى التهذيب (ج 12ص 467). وهذا الاثر رواه ابن سعد فى الطبقات (ج 8ص 246) باسناد صحيح. ونقله اليهقي فى المحاسن (ج 1ص 144)
(3) مقدار المال هنا مثل ما فى كتاب المحاسن. والذي عند ابن سعد «بمال في غرارتين يكون مائة ألف»
(4) لانها كانت سائمة، كما هو واضح، وكما صرح بذلك فى الطبقات والمحاسن
(5) باثبات الياء بعد التاء، وكذلك هو في ابن سعد «اذكرتينى» باثباتها أيضا، وهي لغة جائزة. قال الرضي فى شرح الكافية (ج 2ص 10طبعة الأستانة سنة 1275): قال أبو على: وقد نلحق الياء تاء المؤنث مع الهاء. قال:
رميتيه فأقصدت ... وما أخطأت الرّميه
ونقل البغدادى فى الخزانة أن أبا على الفارسي وابن جنى استشهدا به على أن الياء قد تلحق تاء المؤنث مع الهاء، ثم قال: «وهذه الياء متولدة من إشباع حركة التاء، وليست ضميرا».(1/158)
يروى: أنه كان لعثمان بن عفّان على طلحة بن عبيد الله رضوان الله عليهما خمسون ألف درهم، فخرج عثمان يوما إلى المسجد، فقال له طلحة: قد تهيّأ مالك فاقبضه، فقال له عثمان رضى الله عنه: هو لك يأبا محمد معونة على مروءتك.
خرج عبد الله بن عامر بن كريز رحمه الله من المسجد يريد منزله، وهو وحده، فقام إليه غلام من ثقيف فمشى إلى جانبه، فقال له عبد الله: ألك حاجة يا غلام؟ قال: سلامتك وفلاحك، رأيتك تمشي وحدك فقلت: «أقيك بنفسى وأعوذ بالله إن طار بجناحك مكروه» فأخذ عبد الله بيده، ومشى معه إلى منزله، ثم دعا بألف دينار فدفعها إلى الغلام، وقال: استنفق هذه، فنعم ما أدّبك أهلك.
قيل: اشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيط (1)
داره التي في السوق (2) بسبعين ألف درهم، فلما كان الليل سمع بكاء آل خالد، فقال لأهله: ما لهؤلاء؟ قال: يبكون من أجل دراهم. قال: يا غلام، إئتهم (3) فأعلمهم أنّ المال والدار لهم جميعا.
__________
(1) عبد الله بن عامر بن كريز هو ابن خال خالد بن عقبة، وخالد أخو عثمان بن عفان لأمه، أمهما «أروى بنت كريز بن ربيعة». انظر طبقات ابن سعد (ج 3ق 1ص 36) والاغانى (ج 1 ص 10) وسماها فى الاغانى «اروى بنت عامر بن كريز» وهو خطأ، وقد ذكرها مرة اخرى، على على الصواب (ج 1ص 148). وانظر التهذيب (ج 5ص 272). وخالد هذا أسلم يوم فتح مكة
(2) هذه الدار بالمدينة، وقد ذكرت فى موطأ مالك (ج 3ص 151طبع الحلبى بمصر سنة 1343) وانظر شرح الزرقانى على الموطأ (ج 4ص 241طبع الخيرية سنة 1310) وموطأ محمد بن الحسن (ص 399طبع الهند)
(3) رسم فى الاصل «اتهم» بحذف الهمزة الثانية.(1/159)
عن الحسن بن خضر قال: لمّا أفضت الخلافة إلى بني العباس اختفت رجال من بني أميّة، وكان فيمن اختفى إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك، حتّى أخذ له داود بن العباس أمانا، وكان إبراهيم رجلا عالما حدثا (1)، فخصّ بأبي العبّاس، فقال له يوما: حدثنى عن ما مرّ بك في اختفائك؟ قال: كنت يا أمير المؤمنين مختفيا بالحيرة، في منزل شارع عن الصحراء (2)، فبينا أنا على ظهر بيت اذ نظرت إلى أعلام سود قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة، فوقع في روعى (3) أنها تريدني، فخرجت من الدار متنكّرا، حتّى أتيت الكوفة، ولا أعرف بها أحدا أختفي عنده، فبقيت متلدّدا (4)، فإذا بباب كبير ورحبة واسعة، فدخلت فيها، فإذا رجل وسيم الهيئة على فرس قد دخل الرحبة، ومعه جماعة من غلمانه وأتباعه، فقال: من أنت؟ وما حاجتك؟ فقلت: رجل مختف يخاف على دمه، استجار بمنزلك. فأدخلى منزله، ثم صيّرني في حجرة تلي حرمه (5)، وكنت عنده فيما أحبّ من مطعم ومشرب وملبس، ولا يسألني عن شيء من حالي، إلّا أنّه يركب في كلّ يوم ركبة. فقلت له يوما:
أراك تدمن الرّكوب، ففيم ذلك؟ فقال: إنّ إبراهيم بن سليمان قتل أبي صبرا، وقد بلغني أنّه مختف، وأنا أطلبه لادرك منه ثأري! فكثر والله تعجّبني، إذ ساقني القدر إلى حتفي، في منزل من طلب دمي! وكرهت الحياة. فسألت الرجل عن اسمه واسم أبيه؟ فخبّرني. فعرفت أنّ
__________
(1) بفتح الحاء وكسر الدال أو ضمها، ويجوز كسر الحاء مع إسكان الدال، وكلها بمعنى واحد: أي كثير الحديث حسن السياقة له. كما فى اللسان
(2) كذا فى الاصل، والصواب أن يقول «شارع إلى الصحراء» اي مفض إليها.
(3) بضم الراء.
(4) التلدد: أن يختار فيلتفت يمينا وشمالا.
(5) حرم الرجل بضم الحاء وفتح الراء: عياله ونساؤه وما يحمى. كما فى اللسان.(1/160)
الخبر صحيح، وأنا قتلت أباه صبرا. فقلت: يا هذا، قد وجب عليّ حقّك، ومن حقّك عليّ أن أدلّك على خصمك، وأقرّب عليك الخطوة. قال: وما ذاك؟
قلت: أنا ابراهيم بن سليمان قاتل أبيك، فخذ بثأرك! فقال: إنّي أحسبك رجلا قد مضّه (1) الاختفاء، فأحبّ الموت. فقلت: بل الحقّ ما قلت لك، أنا قتلته يوم كذا وكذا، بسبب كذا وكذا. فلمّا عرف صدقي أربدّ (2) وجهه واحمرّت عيناه، وأطرق مليّا، ثم قال: أمّا أنت فستلقى أبي فيأخذ بثأره منك، وأمّا أنا فغير مخفر ذمّتي، فاخرج عنّي، فلست آمن نفسي عليك! وأعطاني ألف دينار. فأخذتها وخرجت من عنده. فهذا أكرم رجل رأيته بعد أمير المؤمنين.
قال القاضي أبو عليّ المحسّن بن أبي القاسم عليّ بن محمد التّنوخيّ (3)
__________
(1) يقال «مضه» و «أمضه»: أي أحرقه وشق عليه
(2) يقال «اريد وجهه» بالباء، و «ارمد» بالميم: أى تغير وتلون
(3) في الأصل «قال القاضي أبو القاسم علي بن عبد المحسن ابن علي التنوخي» وهو خطأ من وجهين: فأولا ذكر «عبد المحسن» غير صحيح، بل هو «المحسن» بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة. وثانيا إن «أبا القاسم علي بن المحسن» ليس المقصود هنا والمنقول عنه، وإنما المنقول عنه أبوه «أبو على المحسن بن علي» صاحب كتاب «الفرج بعد الشدة» المطبوع بمطبعة الهلال بمصر سنة 1903، وسيأتي بعد أوراق خطأ آخر للمؤلف في كنية هذا الرجل فيقول عنه «أبو الحسين» «والقصة الآتية موجودة فيه (ج 2ص 43)، والمحسن هذا هو الذي يروي عن أبي الفرج الأصبهاني صاحب الأغاني، وأما ابنه «أبو القاسم على بن المحسن» فانه لم يدرك أبا الفرج، لأنه ولد سنة 365، وأبو الفرج مات سنة 356. وانظر ترجمة «المحسن» فى يتيمة الدهر (ج 2ص 116115) وفى ابن خلكان (ج 1ص 565563) وفى ياقوت (ج 6 ص 267251) وانظر ترجمة أبيه «أبي القاسم علي بن محمد» في اليتيمة (ج 2ص 115105) وفى ابن خلكار (ج 1ص 447445) وفى ياقوت (ج 5ص 347332)، وانظر أيضا ترجمة حفيده «أبى القاسم على بن المحسن» وهو ابن مؤلف (الفرج بعد الشدة) فى ياقوت (ج 5 ص 309301). وقد راجعنا القصة الآتية على كتاب (الفرج بعد الشدة) فوجدنا بينهما بعض الخلاف، فما وجدناه زائدا عما هنا زدناه بين قوسين، ولم نشر إلى اختلاف الروايتين إلا فى المواضع الهامة، ونشير إليها بالرواية الأخرى(1/161)
رحمه الله: حدثني أبو الفرج [المعروف ب] الإصبهاني [إملاء] من حفظه [وأنا أسمع]، قال: قرأت في بعض أخبار الأوائل: أنّ الإسكندر لمّا انتهى إلى [بلد] الصّين، ونازل ملكها (1): أتاه حاجبه، وقد مضى من الليل شطره، فقال له: رسول ملك الصّين بالباب يستأذن عليك. فقال: أئذن له. فلما دخل وقف بين يديه وسلّم، وقال: إن رأى الملك أن يخليني فليفعل.
فأمر الإسكندر من بحضرته بالانصراف، وبقي حاجبه (2)، فقال له الرسول:
إنّ الذي جئت له لا يحتمل أن يسمعه غيرك، فأمر بتفتيشه، ففتّش، فلم يوجد معه شيء من السّلاح. فوضع الإسكندر بين يديه سيفا مجرّدا، وقال له:
قف مكانك، وقل ما شئت. ثم أخرج كلّ من كان عنده. فلما خلا المكان قال له الرسول: إني أنا ملك الصّين، لا رسوله، وقد حضرت أسألك عمّا تريده؟ فإن كان ممّا يمكن الانقياد إليسه [ولو] على أصعب الوجوه:
أجبت إليه، وغنيت أنا وأنت عن الحرب. فقال له الإسكندر: وما أمّنك منّي؟! فقال: لعلمي بأنّك رجل عاقل، وأنّه ليس بيننا عداوة متقدّمة، ولا مطالبة بذحل (3)، وأنّك تعلم أنّ أهل الصين متى قتلتني لا يسلمون إليك ملكهم، ولم يمنعهم عدمهم إيّاي أن ينصبوا لأنفسهم ملكا غيري، ثمّ تنسب أنت إلى غير الحميد وضدّ الحزم. فأطرق الإسكندر مفكّرا في مقالته، وعلم أنه رجل عاقل. ثم قال له: الذي أريد منك ارتفاع ملكك (4) ثلاث
__________
(1) فى الرواية الأخرى «ونزل على ملكها» وهي أنسب لباقى القصة
(2) فى الرواية الأخرى «فأمر الاسكندر من بحضرته أن ينصرفوا فانصرفوا وبقي خاصته» وأنا أرجح أن كلمة «خاصته» مصحفة عن «حاجبه»
(3) الذحل بالذال المعجمة والحاء المهملة الثأر
(4) يعنى ريع الزرع.(1/162)
سنين عاجلا، ونصف ارتفاعه في كل سنة. قال: هل غير ذلك! قال: لا.
قال: قد أجبتك. قل: فكيف تكون (1) حالك حينئذ؟ قال: أكون قتيل أوّل محارب، وأكلة (2) أوّل مفترس. قال: فان قنعت منك بارتفاع سنتين، كيف يكون حالك؟ قال: أصلح إذا لزمت مما تقدّم ذكره (3). قال: فان قنعت منك بارتفاع سنة واحدة؟ قال: يكون ذلك [مضرّا بي و] مذهبا لجميع لذّاتي. قال: فان اقتصرت منك على السدس [مضرّا بى و] مذهبا لجميع لذّاتي. قال: فان اقتصرت منك على السدس؟ قال: يكون السّدس موفّرا، والباقي لجيشي وأسباب الملك (4). قال: قد اقتصرت على هذا. فشكره وانصرف. فلما أصبح وطلعت الشمس أقبل جيش الصين، حتى طبّق الأرض واحتاط بجيش الإسكندر، حتى خافوا الهلكة، وتواثب أصحابه فركبوا [الخيل] واستعدّوا للحرب. فبيناهم كذلك إذ ظهر ملك الصين عليه التّاج. فلمّا رأى الإسكندر ترجّل. فقال له الإسكندر: أغدرت؟! قال: لا والله. قال: فما هذا الجيش؟ قال: أردت أن أعلمك أني لم أطعك من قلّة، ولا من ضعف ولين (5)، [وأنت] ترى [هذا] الجيش، وما غاب عنك أكثر، لكني رأيت العالم الأثير (6) مقبلا عليك، ممكّنا لك، فعلمت أنه من حارب العالم الأثير (7) غلب، فأردت طاعته بطاعتك، والذّلّة لأمره بالذّلة لك (8) فقال الإسكندر: ليس مثلك من يؤخذ منه شيء، فما رأيت بيني
__________
(1) فى الاصل «يكون» وما اخترناه اصح.
(2) بضم الهمزة وبفتحها.
(3) فى الرواية.
الاخرى: «قال: يكون أصلح مما كانت وأفسخ فى المدة».
(4) فى الرواية الأخرى: «قال:
فان قنعت منك بارتفاع الثلث كيف يكون حالك؟ قال: يكون الثلث موفرا، والباقى لجيشي ولأسباب الملك».
(5) في الرواية الأخرى «ولا ضعف ولا عجز».
(6) كذا فى الأصل في الموضعين وفى الرواية الأخرى «العالم الاكبر».
(7) كذا فى الأصل في الموضعين وفى الرواية الأخرى «العالم الاكبر».
(8) فى الرواية الأخرى «والتذلل له بالتذلل لك»(1/163)
وبينك أحدا يستحقّ التّفضيل والوصف بالعقل غيرك، رقد أعفيتك من جميع ما أردته منك، وأنا منصرف عنك. فقال ملك الصين: أمّا إذ فعلت ذاك فلست تخسر. فلما انصرف الإسكندر أتبعه ملك الصين من الهدايا والألطاف بضعف ما كان قرّر معه (1).
قلت: قد جرى في مدّتي ما يشاكل حديث الإسكندر، وأنا مورده.
وذلك: أنّ الإفرنج خذلهم الله لما خرجوا في سنة تسعين وأربع مائة، وفتحوا أنطاكية (2)، وقهروا أهل الشأم: تداخلهم الطّمع، وحدّثتهم نفوسهم بملك بغداد وبلاد الشّرق، فحشدوا وجمعوا وساروا يريدون البلاد، وصاحب الموصل في ذلك الوقت حكرمش (3)، فجمع أمراء التّركمان الأرتقية ومن قدر عليه، ولقيهم على الخابور فكسرهم، وأسر من يقدمهم (4): الملك بغدوين البرونس (5) وجوسلين (6)، وسيّرهم إلى قلعة جعبر، (7) إلى عند الأمير شهاب الدين مالك بن سالم، (8) أودعهم عنده، وعاد من بقي من الإفرنج
__________
(1) فى الرواية الاخرى «من الهدايا والتحف بأضعاف ما كان» فرده عليه الاسكندر».
(2) أنطاكية: بتخفيف الياء المفتوحة. وأخذها الافرنج من المسلمين في سنة 491بخلاف ما يوهمه كلام المؤلف. وهو بدء الحروب الصليبية المعروفة. انظر معجم البلدان (ج 1ص 358) وتاريخ ابن خلدون (ج 5ص 2019) وابن الأثير (ج 10ص 112وما بعدها طبعة المطبعة الأزهرية سنة 1301) وتاريخ الحروب الصليبية لسيد على الحريرى (ص 18طبعة سنة 1312)
(3) هو من الامراء السلجوقية وهذا الاسم فى الأصل كما ترى، بالحاء المهملة وفى آخره الشين المعجمة، وقد ذكر مرارا فى ابن خلدون بالحيم وآخره سين مهملة (ج 5ص 4129و 151و 154و 164وغير ذلك) وذكر بالجيم والشين المعجمة فى أبي الفداء (ج 2ص 221) وابن الأثير (ج 10ص 143142) وتاريخ ابن الوردى (ج 2ص 18).
(4) أى يتقدمهم.
(5) فى الاصل «الرويس» وصححناه من كتاب الاعتبار للمؤلف (ص 118 119) وأشار الاستاذ فليب حتى فى تعليقاته (ص 81) إلى أن «بغدوين» تعريب وفى (ص 119) إلى أن «البرونس» تعريب واسم «بغدوين» ذكر فى ابن خلدون مرارا «بقدوين» بالقاف (ج 5ص 152وغيرها)
(6) أشار الاستاذ فليب (ص 90) إلى أنه تعريب
(7) هي قلعة على الفرات، انظر معجم البلدان
(8) هو مالك بن سالم بن مالك، وهو صديق لوالد المؤلف. انظر الاعتبار (ص 120)(1/164)
إلى بلادهم، ومقدمهم ميمون (1) صاحب أنطاكية، فركب في البحر وسار إلى بلاده، يستنجد بالإفرنج ويحشد ويرجع، فمات قبل ذلك، ومات حكرمش صاحب الموصل، وأقطع السلطان الموصل جاولي سقاوي (2)، فعزم على الغزاة، وتوجّه إلى الشأم، فوصل قلعة جعبر، وطلب أسارى الإفرنج الذين عند صاحبها، فقال: هم بحكمك، قال: اقطع عليهم ما لا يشترون به أنفسهم، فتحدّث معهم شهاب الدين، وقرّر عليهم مائة ألف دينار، وعرّف جاولي بذلك، فقال:
أنفذ لي جوسلين، فلما حضر عنده قال: قطعتم على أنفسكم مائة ألف دينار؟
قال: نعم، قال: تشتهي أهب لك عشرة آلاف (3) دينار؟ قال: ما ينكر لمثلك أن يوهب (4) عشرة آلاف (5) دينار! قال: تشتهي أن أوهب (6) لك عشرين ألف دينار؟ قال: ما يصلح لملك مثلك أن يتلاهى بمثلي! قال: والله ما تلاهيت بك، ولو أردت أن آخذ منك المال ما أبصرتك ولا تحدّثت معك، وأنا أطلقكم وأخلّي لكم المال كلّه، بلى، لي حاجة، نقضوها لي؟ قال:
ما هي؟ قال: صاحب أنطاكية وصاحب حلب أعدائي، أريدكم تعينوني على
__________
(1) أشار الأستاذ فليب (ص 65) الى أنه تعريب
(2) هو من الأمراء الأتراك. واسمه قد ورد فى كتب التاريخ بألفاظ مختلفة، فورد هنا كما ترى، وجاء في ابن الاثير (ج 10ص 132) وابن الوردي (ج 2ص 18) «جا ولى سقاوو» بقاف ووابن. وجاء في بي الفداء (ج 2ص 221) «جاولى سقاؤه» وهذا تحريف عن الذي قبله فيما أرى. وجاء في ابن خلدون (ج 5ص 33) «جاولى» فقط ووصفه بأنه غلام تركى. وجاء فيه (ج 5ص 164) «جاولى من سكاوو» وأظن أن زيادة «من» خطأ مطبعى، لأنه جاء بعد ذلك بأسطر في نفس الصحيفة «جاولى سكاوو»
(3) فى الأصل «ألف» فى الموضعين
(4) كذا فى الأصل فى الموضعين، وهو تعبير عامي، صحته فيهما: «يهب» «أهب» وفى القصة كثير من تعبير العامة.
(5) فى الأصل «ألف» فى الموضعين
(6) كذا فى الأصل فى الموضعين، وهو تعبير عامي، صحته فيهما: «يهب» «أهب» وفى القصة كثير من تعبير العامة.(1/165)
قتالهم. وكان صاحب أنطاكية: دنكري (1)، وصاحب حلب: الملك رضوان (2)، فقال جوسلين: نمضي ونجتمع فارسنا وراجلنا ونصلك نقاتل معك كلّ من قاتلك، فأطلقهم، فمضوا، حشدوا وجمعوا، ووصلوا إلى خدمته، وسار هو وهم إلى لقاء عسكر حلب وعسكر أنطاكية، حتى التقوا، فحدّثني من حضر حربهم قال: كان وقع السّيوف بينهم يعني الإفرنج كوقع الفؤس في الحطب، فكسرهم صاحب أنطاكية، فأمّا المسلمين (3) فطار من سلم منهم، وأمّا الإفرنج فأسر من فرسانهم جماعة كبيرة، فجاؤوا إلى عند دنكري صاحب أنطاكية ثاني يوم أسرهم، وقالوا له: أيّ شيء تريد تعمل بنا؟ قال: أحملكم إلى أنطاكية، أحبسكم، قالوا: والله ما فينا من يتبعك ولا يجيء معك، نحن عراة، ما معنا ثياب ولا نفقة ولا فرش ننام فيها، ولا معنا غلمان يخدمونا، قال: وأيّ شيء تعملون؟ قالوا: تخلّينا نمضي إلى بيوتنا نعمل شغلنا ونجيء إلى الحبس، قال: امضوا، فمضوا، أحضروا غلمانهم ونفقاتهم وفرشهم، ووصلوا إلى عنده إلى أنطاكية، فحبسهم إلى حين تسهّل خلاصهم.
روى أبو الفرج الإصبهاني (4) عن أبي بكر الهذلي قال: لمّا أطلق أمير المؤمنين (5) عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحطيئة الشاعر (6) من حبسه قال
__________
(1) أشار الأستاذ فليب (ص 65) الى أنه تعريب
(2) هو الملك رضوان ابن تاج الدولة نتش بتامين مضمومتين ثم شين معجمة انظر الاعتبار (ص 53)
(3) كذا فى الأصل، وهو لحن، صحته «فاما المسلمون»
(4) هذه القطعة فى الأغاني (ج 15ص 5655) وسنشير الى اختلاف الروايتين، وما نزيده بين قوسين فهو من هناك.
(5) ليس في الاغاني قوله «أمير المؤمنين»
(6) ليس في الاغاني كلمة «الشاعر». والحطيئة:
لقب، واسمه «جرول بن أوس بن مالك» وهو من فحول الشعراء ومتقدميهم وفصحائهم، متصرف في جميع فنون الشعر، كما قال صاحب الأغاني، وله عنده ترجمة حافلة (ج 2ص 5941) وله ترجمة في طبقات الشعراء لابن قتيبة (ص 187180)(1/166)
له: يا أمير المؤمنين، اكتب لي إلى علقمة بن علاثة (1) كتابا لأقصده به، فقد منعتني التّكسّب بشعري. قال: لا أفعل. فقيل له: يا أمير المؤمنين، وما عليك من ذلك؟! [إنّ] علقمة ليس بعاملك فتخشى أن تأثم، وإنما هو رجل من المسلمين، فتشفع (2) له إليه. فكتب له بما أراد، فمضى الحطيئة بالكتاب، فصادف علقمة قد مات والناس ينصرفون (3) عن قبره. فوقف عليه ثم أنشد [قوله] (4):
لعمري لنعم المرء من آل جعفر ... بحوران أمسى أعلقته الحبائل
فإن تحي لا أملل (5) حياتي، وإن تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل
وما كان (6) بيني لو لقيتك سالما * وبين الغنى إلّا ليال قلائل فقال له ابنه: كم ظننت أنّ علقمة يعطيك؟ قال: مائة ناقة، [قال: فلك مائة ناقة] (7) تتبعها مائة من أولادها. فأعطاه إيّاها.
وعن القحذميّ (8) قال: لزم يزيد بن مفرّغ (9) غرماؤه بدين لهم. فقال
__________
(1) هو علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب العامري. وله ترجمة في الاصابة (ج 4ص 266264) وذكر بعض القصة التي هنا.
(2) في الأغاني «تشفع»
(3) فى الأغاني «منصرفون»
(4) هذه الأبيات من قصيدة طويلة فى ديوان الحطيئة (ص 10098طبعة التقدم بمصر سنة 1323) وفى الابيات تقديم وتاخير عما فى الديوان.
(5) بابه «تعب» وفى الأصل والديوان «أملك» بالكاف، وما هنا موافق للأغاني، وهو الصواب
(6) فى الديوان «فما كان»
(7) هذه الزيادة سقطت من الأصل، وإثباتها هو الصحيح، وهى ثابتة أيضا فى الاصابة
(8) اسمه «الوليد بن هشام بن قحذم» نسب الى جده.
(9) هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ.
ومفرغ بكسر الراء لقب به جده لأنه راهن أن يشرب عسا من لبن، فشربه حتى فرغه! فلقب بذلك. انظر الأغاني (ج 7ص 2) في ترجمة حفيده السيد الحميري، وليزيد هذا ترجمة في الشعراء لابن قتيبة (ص 213209) والأغاني (ج 17ص 7351). وهذه القصة هناك (ص 7372) وما وضعناه بين قوسين فهو زيادة منه.(1/167)
لهم: انطلقوا نجلس على باب الأمير، عسى أن يخرج الأشراف [من عنده] فيروني فيقضوا عني. فانطلقوا به، فكان أوّل من خرج إمّا عمر (1) بن عبيد الله ابن معمر، وإما طلحة الطّلحات. فلما رآه قال: أبا عثمان، ما أقعدك هاهنا؟! قال (2): غرمائي هؤلاء، لزموني بدين لهم عليّ، قال: وكم هو؟ قال: سبعون ألفا، قال: عليّ منها عشرة آلاف (3) درهم. ثم خرج الآخر على الأثر، فسأله عما سأله عنه صاحبه (4)؟ فقال: هل خرج أحد قبلي؟ قالوا: نعم، فلان، قال:
فما صنع؟ قالوا: ضمن عشرة آلاف (5) درهم، قال: فعليّ مثلها. وجعل الناس يخرجون، فمنهم من يضمن الألف إلى أكثر من ذلك، حتى ضمنوا أربعين ألفا. وكان يأمل عبيد الله بن أبى بكرة رحمه الله، فلم يخرج حتى غربت الشمس، فخرج مبادرا، فلم يره (6)، حتى كاد يبلغ بيته. فقيل له: إنك مررت بابن مفرّغ ملزوما، وقد مرّ به الأشراف فضمنوا عنه، فقال:
واسوأتاه (7)! إنّي لخائف أن يظنّ بى أنى تغافلت عنه. وكرّ راجعا فوجده قاعدا، فقال: أبا عثمان، ما أجلسك (8) هاهنا؟ قال: غرمائى (9) هؤلاء، يلزمونني، قال: وكم عليك؟ قلل: سبعون ألفا، قال: وكم ضمن عنك؟ قال: أربعون ألفا، قال: فاستمتع بها وعليّ دينك أجمع. فقال فيه:
__________
(1) في الاصل «عمرو» وهو خطأ. وعمر هذا من الأجواد المشهورين، مدحه العجاج بارجوزة طويلة، انظرها في مجموع أشعار العرب (ج 2ص 2115طبعة برلين سنة 1903)، وكان زوجا لعالشة بنت طلحة أجمل أهل زمانها. أنظر ابن سعد (ج 8ص 432) والاغاني (ج 10ص 6051)
(2) زاد الناسخ هنا بحاشية الاصل كلمة تقرأ «يا عمار» أو «يا عثمان» وهى زيادة خطأ لا معنى لها.
(3) كتب فى الاصل «الف»
(4) في الاغاني «فساله كما سال صاحبه»
(5) كتب فى الاصل «الف»
(6) في الاغاني «فلم يره يخرج» وزيادة «يخرج» ليس لها معنى هنا.
(7) كتب في الاصل «واسوتاه»
(8) في الاغاني «ما يجلسك»
(9) في الاصل «غرماى»(1/168)
لو شئت أن تغني (1) ولم تنصبي ... عشت بأسباب أبي حاتم
عشت بأسباب الجواد الّذي ... لا يختم الأموال بالخاتم
من كفّ بهلول (2) له غرّة (3) ... ما إن لمن عاداه من عاصم
المطعم النّاس إذا حاردت ... نكباؤها (4) في الزّمن العارم (5)
والفاصل الخطّة يوم اللّحا (6) ... للأمر عند الكربة اللّازم
جاورته حينا فأحمدته ... أثني، وما الحامد كاللّائم
كم من عدوّ كاشح شامت ... أخزيته (7) يوما ومن ظالم
أذقته الموت على غرّة ... بأبيض ذي (8) رونق صارم
روى أبو الفرج الأصبهاني عن مسلم بن الوليد المعروف بصريع الغواني (9)
قال: كنت يوما جالسا في دكّان خياط بإزاء منزلي، إذ رأيت طارقا ببابي، فقمت إليه، فاذا هو صديق لي من أهل الكوفة، قد قدم من قمّ (10)، فسررت به.
__________
(1) بالغين والنون، من الغنى بمعنى اليسار، وفي الأصل بالعين المهملة. وفي الاغاني «لم تعنى» وهو خطا، ومعناه غير صحيح. والنصب: التعب
(2) البهلول من الرجال: الضحاك، وقيل: العزيز الجامع لكل خير
(3) فى الأصل «عده» غير مضبوط، وصححناه من الأغاني
(4) حاردت بتقديم الراء على الدال يقال: حاردت السنة إذا قل ماؤها ومطرها». والنكباء كل ريح انحرفت ووقعت بين ريحين وهي تهلك المال وتحبس القطر. قاله فى اللسان
(5) العارم بالعين والراء الشديد
(6) اللحا بكسر اللام أصله «اللحاء» بالمد، أى الملاحاة، يقال:
لاحى الرجل ملاحاة ولحاء: شاتمة، وحذف الهمزة من أجل الوزن. وفى الأغاتي «اللجا» بالجيم، وهو تصحيف لا معنى له هنا.
(7) بالخاء والزاى المعجمتين، وفى الأصل «أحربته» بالحاء والراء للمهملتين.
(8) فى الأصل «ذو» وهو لحن.
(9) ترجمة مسلم بن الوليد فى الأغانى، وقد سقطت من النسخ المطبوعة، ولكنها وجدت فى أوروبا فى جزء خامس مخطوط منه، وطبعت فى آخر ديوانه المطبوع بليدن سنة 1875 (ص 262228) وهذه القصة هناك (ص 235233) ومن الغريب أنه أشير إلى هذه الترجمة فى فهارس الأغاني طبعة الساسي وذكرت أرقام صحفها فى الديوان، فى حين أن الترجمة لم تطبع فى الكتاب!!
(10) بضم القاف وتشديد الميم، بلدة معروفة. وفى الأصل «قمر» بزيادة الراء فى آخره، وهو خطأ.(1/169)
وكأنّ إنسانا لطم وجهي، لم يكن عندي درهم واحد أنفقه عليه! فقمت فسلّمت عليه، وأدخلته منزلى. وأخذت خفّين كانا لي أتجمّل بهما، فدفعتهما إلى جاريتي، وكتبت معها رقعة إلى بعض معارفي في السّوق، وأسأله أن يبيعهما ويشتري [لي] لحما وخبزا بشيء سمّيته له. فمضت الجارية، وعادت إليّ، وقد اشترى كلّ ما (1) ذكرته له، وقد باع الخفّ بتسعة دراهم، وكأنّها إنما جاءتني بخفّين جديدين. فقعدت أنا وضيفي نطبخ، فسألت جارا لي أن يسقينا قارورة نبيذ، فوجّه بها اليّ، وأمرت الجارية أن تغلق باب الدار، [مخافة طارق يجيء فيشركنا فيما نحن فيه، ليبقى لي وله ما نأكله إلى أن ينصرف]. فإنّا لجالسان نطبخ إذ طرق طارق الباب، فقلت للجارية: انظري من هذا؟ فنظرت في شقّ الباب (2) فاذا رجل عليه سواد وشاشيّة ومنطقة، ومعه شاكريّ، (3)
فخبّرتني بموضعه، فأنكرت أمري، ثم رجعت إلى نفسي، فقلت: لست بصاحب دعارة (4)، ولا للسّلطان عليّ سبيل. ففتحت الباب وخرجت إليه، فنزل عن دابّته، وقال: أنت مسلم بن الوليد؟ قلت: نعم. قال: كيف لي بمعرفتك؟! قلت:
الذي دلّك على منزلي يصحّح لك معرفتي! فقال لغلامه: امض إلى الخيّاط فسله عنه. فمضى فسأله عنّي، فقال: نعم، هو مسلم بن الوليد. فأخرج اليّ كتابا من خفّه، قال: هذا كتاب الأمير يزيد بن مزيد إليّ [يأمرنى] ألّا أفضّه إلّا عند لقائك. فاذا فيه: «اذا لقيت مسلم بن الوليد فادفع اليه هذه العشرة
__________
(1) فى الأصل «كلما»
(2) فى الأغانى «من شق الباب»
(3) الشاكري: الأجير، معرب
(4) بالدال المهملة المتوجة، ويجوز كسرها، وهى: الفساد والشر والفجور. وفي الاصل «ذعارة» بالدال المعجمة، وهي نسخة فى الأغانى نقلت بحاشيته. وقد ضبطت الكلمة فى الأصل بفتح الذال وكسر العين، وهو خطأ غريب.(1/170)
آلاف (1) درهم التي أنفذتها، تكون له فى منزله، وادفع إليه ثلاثة آلاف (2)
درهم لنفقته، ليتحمّل بها إلينا» فأخذت الثلاثة والعشرة، ودخلت إلى منزلي والرجل معى، فأكلنا ذلك الطعام، وازددت فيه وفي الشراب، واشتريت فاكهة، واتّسعت، ووهبت لضيفي من الدراهم ما يهدي به هديّة لعياله، وأخذت في الجهاز، ثم ما زلت معه حتّى صرنا إلى الرّقّة إلى باب بزيد [بن مزيد]، فدخل الرجل فاذا هو أحد حجّابه، فوجده فى الحمّام، فخرج إليّ فجلس معي قليلا، ثم خبّر الحاجب بأنه [قد] خرج من الحمّام، فأدخلني اليه، فاذا هو على كرسيّ جالس، وعلى رأسه وصيفة بيدها غلاف مرآة، وبيده [هو] مرآة ومشط (3) يسرّح [به] لحيته، فقال لي: يا مسلم، ما الذي أبطأ بك عنّا؟
فقلت: أبها الأمير، قلة ذات اليد، قال: فأنشدنى، فأنشدته قصيدتي التي جئته بها (4):
أجررت حبل خليع في الصّبا غزل (5) ... وشمّرت همم العذّال في العذل (6)
هاج البكاء على (7) العين الطّموح هوى ... مفرّق بين توديع ومرتحل (8)
أما كفى البين أن أرمى بأسهمه ... حتّى رماني بلحاظ الأعين النّجل
__________
(1) فى الأصل «ألف»
(2) فى الأصل «ألف»
(3) يجوز فى الميم الحركات الثلاثة.
(4) فى الأغانى «قصيدتي التى مدحته بها، وهى:» ثم إن الأغانى لم يذكر الأبيات كما هنا، بل قال: «أجررت حبل خليع، البيت، فلما صرت فيها إلى قولى: لا يعبق الطيب، البيت»، وهذه القصيدة 79بيتا فى ديوان مسلم (ص 202طبع ليدن و 6258طبع مصر) وفى مهذب الأغانى (ج 8ص 95) وذكر صاحب الأغاني بعضها في موضع آخر (ج 11ص 109)
(5) «الصبا»: رسم فى الأصل بالياء، و «غزل» ضبط فيه بالضم، وكل خطأ.
(6) فى الأصل «عن عذلى» وهو موافق للأغاتى (ج 11ص 9) وصححناه من الديوان
(7) فى الأصل «رد البكاء عن العين» وصححناه من الديوان والأغانى
(8) فى الديوان والأغانى والمهذب «ومحتمل» بفتح الميم الثانية وما هنا موافق لرواية أشير إليها فى حاشية الديوان طبع ليدن.
ممّا جنت (1) لي وإن كانت منى (2) صدقت ... صبابة خلس التّسليم بالقبل (3)
فلمّا صرت [فيها] إلى قولي:(1/171)
__________
(8) فى الديوان والأغانى والمهذب «ومحتمل» بفتح الميم الثانية وما هنا موافق لرواية أشير إليها فى حاشية الديوان طبع ليدن.
ممّا جنت (1) لي وإن كانت منى (2) صدقت ... صبابة خلس التّسليم بالقبل (3)
فلمّا صرت [فيها] إلى قولي:
موف على مهج في يوم ذي رهج (4) ... كأنّه أجل يسعى إلى أمل
تراه في الأمن في درع مضاعفة (5) ... لا يأمن الدّهر أن يدعى (6) على عجل
لا يعبق الطّيب خدّيه ومفرقه ... ولا يمسّح عينيه من الكحل
: وضع المرآة في غلافها، وقال للجارية: انصرفي، فقد حرّم مسلم علينا الطّيب، فلما فرغت من القصيدة، قال لي: يا مسلم، أتدري ما الّذي حدانى على أن وجّهت إليك؟ فقلت: لا والله، ما أدري. فقال: كنت عند الرشيد منذ ليال أغمز رجليه إذ قال لي: يا يزيد، من القائل فيك (7):
سلّ الخليفة سيفا من بني مطر ... يمضي فيخترم الأجساد (8) والهاما
كالدّهر لا ينثني عمّا يهمّ به ... قد أوسع النّاس إنعاما وإرغاما
فقلت له: لا والله، ما أدري! فقال الرشيد: يا سبحان الله! [إنك لمقيم على أعرابيتك، يقال فيك مثل هذا الشعر] ولا تدري من قائله؟! [فسألت
(1) فى الديوان والمهذب، مما جنى لي» وما هنا موافق لرواية بحاشية الديوان
(2) «متى» بالنون، وفي الأصل «متى» بالتاء وهو تصحيف قبيح
(3) فى الديوان والمهذب «بالمقل» جمع «مقالة» والمعنى على الروايتين مستقيم.
(4) الرهج: الغبار. ورواية الديوان والمهذب «واليوم ذو رهج». وما هنا موافق للأغاني (ج 11ص 9) والشعراء لابن قتيبة (ص 530)
(5) مضاعفة: ضبطت في الأصل بالنصب، وهو لحن.
(6) رسمت فى الأصل «يدعا» بالألف.
وفى ابن قتيبة بدلها «يؤتى»
(7) البيتان الآتيان من قصيدة في الديوان 37بيتا (ص 51 58ليدن و 8078مصر) ولم يذكرا في الأغانى مع القصة.
(8) في الأصل «الأجياد»، وصححناه من الديوان. وقوله «فيخترم» هي رواية أشير إليها بحاشيته، والاصل فيه «فيخترق»(1/172)
عن قائله] فأخبرت أنّك أنت هو، فقم حتى أدخلك على الرشيد (1). فما علمت حتى خرج عليّ الإذن، [فأذن لى]. فدخلت على الرشيد، وأنشدته مالي فيه من الشعر، فأمر لي بمائتي (2) ألف درهم. فلما انصرفت إلى يزيد أمرلى بمائة ألف وتسعين ألف درهم، وقال: لا يجوز [لى] أن أعطيك مثل ما أعطاك أمير المؤمنين. وأقطعني إقطاعات تبلغ غلّتها مائتي ألف درهم.
قال مسلم: ثم أفضت بي الأمور بعد ذلك إلى أن أغضبني، فهجوته، فشكاني إلى الرشيد، فدعاني، فقال: أتبيعني عرض يزيد؟ قلت: نعم، يا أمير المؤمنين. فقال [لي] (3): بكم؟ فقلت: برغيف! فغضب حتى خفته على نفسي، وقال: قد كنت أرى أن أشتريه منك بمال جسيم، فلست أفعل ولا كرامة، فقد علمت إحسانه إليك، أنا نفيّ (4) عن أبي، ولله ثم والله (5)
لئن بلغني أنك هجوته لأنزعنّ لسانك من بين فكّيك. فأمسكت عنه بعد ذلك، وما ذكرته بخير ولا بشرّ.
روى أبو الفرج الأصبهاني عن عمرو بن بانة (6) قال: ركبت يوما الى دار صالح بن الرشيد، فاجتزت بمحمد بن جعفر بن موسى الهادي، وكان معاقرا للصّبوح، فألفيته في ذلك اليوم خاليا منه، فسألته عن السبب (7) في تعطيله إياه؟
__________
(1) في الاغانى «على أمير المؤمنين»
(2) فى الأصل «بمأتين ألف» وهو لحن.
(3) كل ما سبق بين قوسين فى هذه القصة فهو من رواية الاغانى المذكورة فى آخر ديوان مسلم.
(4) نفى الشىء: جحده، وهو نفي منه، فعيل بمعنى مفعول. وفى الاغانى «وأنا نفي» بزيادة حرف العطف.
(5) فى الاصل «ثم والله والله» وهو غير جيد، وما هنا عن الاغاني
(6) هو عمرو بن محمد بن سليمان بن راشد مولى ثقيف، ونسب إلى أمه «بانة القحطبية» وهو أحد المغنين الشعراء. له ترجمة فى الاغانى (ج 14ص 5350) والقصة الآتية في الاغاني (ج 18ص 1110)
(7) فى الأصل «فى السبب» وصححناه من الاغانى.(1/173)
فقال: نيران عليّ غضبى (1) يعني جارية كانت (2) لبعض النخاسين ببغداد، وكانت إحدى المحسنات، وكانت بارعة الجمال، ظريفة اللسان، وكان قد أفرط في حبّها، حتى عرف بها (3): فقلت له: ما تحبّ؟ قال: تجعل طريقك على مولاها، فانه سيخرجها (4) إليك، فاذا فعل دفعت رقعتي هذه إليها، ودفع لي رقعة فيها (5):
«ضيّعت عهد فتى لعهدك حافظ ... في حفظه عجب وفي تضييعك
ونأيت عنه فما له من حيلة ... إلّا الوقوف إلى أوان رجوعك
متخشّعا يذري عليك دموعه ... أسفا ويعجب من جمود (6) دموعك
إن تقتليه (7) وتذهبي بفؤاده ... فبحسن وجهك لا بحسن صنيعك»
فقلت له: [نعم] أنا أتحمّل هذه الرسالة، وكرامة، على ما فيها، حفظا لروحك عليك فإني لا آمن أن يتمادّى بك هذا الأمر. فأخذت الرقعة، وجعلت طريقي على منزل النّخّاس، فبعث للجارية (8): اخرجي، فخرجت، فدفعت إليها الرقعة، وأخبرتها بخبري، فضحكت، ورجعت (9) الى الموضع الذي خرجت منه، فجلست جلسة خفيفة، ثم إذا بها قد وافتني ومعها رقعة فيها:
__________
(1) رسم فى الأصل «غضبا» بالالف.
(2) كلمة «كانت» ليست فى الأغاني
(3) فى الأغانى «حتى عرف به»
(4) في الأغاني «فانه يستخرجها» وما هنا أحسن
(5) هذه الأبيات ذكرها بهذه الرواية فى الاغانى قبل القصة، ونسبها لابى عيينة بن محمد بن أبى عيينة المهلبي يتغزل فى فاطمة بنت عمر بن حفص، ثم نقل القصة وذكر فيها البيت الاول والرابع فقط، والرابع ذكره باختلاف فى أولا عما هنا كما سيأتى.
(6) فى الاصل «جماد» وصححناه من الاغابى.
(7) هكذا هو هنا وفى الاغاني، ورأى أخي السيد محمود محمد شاكر أن الوجه أن يكون الصواب «إن تفتنيه» من الفتنة ليكون القول متسقا مع باقى البيت، وهو رأى جيد. وذكر الاغانى الشطر الاول فى أثناء القصة بلفظ «إن سمته أن تذهبى بفؤاده»
(8) فى الاغانى «فبعثت إلى الجارية» وما هنا أصح.
(9) ضبط فى الاصل بكسر الجيم، وهو خطأ(1/174)
«وما زلت تقصيني (1) ونغري بي الرّدى ... وتهجرني حتّى مرنت على الهجر (2)
وتقطع أسبابي وتنسى مودّتى ... فكيف ترى يا مالكي في الهوى صبري؟!
فأصبحت لا أدري: أيأسا تصبّري ... على الهجر؟ أم حدّ التّصبّر (3)؟ لا أدري!»
قال: فأخذت الرقعة منها، وأوصلتها اليه، وصرت الى منزل لي (4)، فصنعت في شعر (5) محمد بن جعفر لحنا، وفي شعرها (6) لحنا. ثم سرت إلى الأمير صالح بن الرشيد، فعرّفته ما كان من خبري، وغنيته الصّوتين. فأمر بإسراج دوابّه، فأسرجت، وركب وركبت معه الى النّخاس مولى نيران فما برحنا حتى اشتراها بثلاثة آلاف (7) دينار، وحملها إلى دار محمد بن جعفر، فوهبها له. فأقمنا يومنا عنده.
قال القاضي أبو عليّ المحسّن بن أبي القاسم عليّ (8) التّنوخيّ: خرج رجلان من المدينة، يريدان عبد الله بن عامر بن كربز، للوفادة عليه: أحدهما من ولد جابر بن عبد الله الأنصاري، والآخر من ثقيف. وكان عبد الله عاملا بالعراق لعثمان بن عفّان رضي الله عنه. فأقبلا يسيران، حتى إذا كانا بناحية
__________
(1) فى الاغانى «تعصينى» بالعين، وهو تصحيف
(2) فى الاغانى «من الهجر» وهو خطأ.
(3) فى الاغانى «أم جد البصيرة»
(4) فى الاغاني «إلى منزلى» وهو أحسن.
(5) في الاغانى «فى بيتى» وهو مطابق لروايته القصة، إذ روى فيها بيتين فقط.
(6) فى الاغانى «فى أبياتها»
(7) فى الاصل «ألف»
(8) فى الاصل «أبو الحسين على بن عبد المحسن التنوخي» وهو خطأ. انظر (ص 129من هذا الكتاب). والقصة الآتية لم أجدها فى كتاب (الفرج بعد الشدة) ولعلها من كتاب آخر للتنوخي.(1/175)
البصرة قال الأنصاريّ للثقفي: هل لك في رأي رأيته؟ قال: اعرضه، قال:
ننيخ رواحلنا ونتوضّى (1) ونصلّي ركعتين، نحمد الله عزّ وجلّ فيهما على ما قضى من سفرنا. قال له: نعم، هذا الرّأي الذي لا يردّ. قال: ففعلا. ثم التفت الأنصاريّ إلى الثقفي. فقال له: يأخا ثقيف، ما رأيك؟ قال: وأيّ موضع رأي هذا؟! قضيت سفري، وأنضيت بدني (2)، وأتعبت راحلتي، ولا مؤمّل دون ابن عامر، فهل لك من رأي غير هذا؟! قال: نعم، إنني لما صليت فكّرت، فاستحييت من ربّي أن يرانى طالب رزق من عند غيره.
ثم قال: أللهمّ رازق ابن عامر ارزقني من فضلك. ثمّ ولّى راجعا إلى المدينة.
ودخل الثقفيّ الى البصرة، فمكث (3) على باب ابن عامر أيّاما، فلما أذن له دخل عليه، وكان قد كتب إليه من المدينة بخبرهما، فلما رآه رحّب به، وقال:
ألم أخبر أنّ ابن جابر خرج معك؟ فأخبره ما كان منهما. فبكى ابن عامر، وقال: والله ما قالها أشرا ولا بطرا، ولكن رأى مجرى الرّزق ومخرج النّعمة، فعلم أنّ الله عزّ وجلّ هو الذي فعل ذلك، فسأله من فضله. ثم أمر للثقفيّ بأربعة آلاف (4) وكسوة (5) وطرف، وأضعف ذلك للأنصاريّ، فخرج الثقفيّ وهو يقول:
أمامة ما سعي الحريص بزائد ... فتيلا، ولا عجز الضّعيف بضائر
خرجنا جميعا من مساقط روسنا ... على ثقة منّا بجود ابن عامر
فلمّا أنخنا النّاعجات (6) ببابه ... تأخّر عنّي اليثربىّ ابن جابر
__________
(1) أصلها «نتوضأ» وسهلت الهمزة.
(2) أى أهزلت جسمى، مجاز من الانضاء فى الابل.
(3) بفتح الكاف أو بضمها.
(4) فى الاصل «ألف».
(5) بضم الكاف أو بكسرها.
(6) الناعجات: الابل الخفاف السريعة. وقيل: الحسان الااوان.
وقال: «ستكفيني عطيّة قادر ... على ما يشاء اليوم للخلق قاهر
فإنّ الّذي أعطى العراق ابن عامر ... لربّي الّذي أرجو (1) لسدّ مفاقري»
فلمّا رآني قال: «أين ابن جابر؟» ... وحنّ كما حنّت عراب الأباعر
فأضعف عبد الله إذ غاب حطّه (2) ... على حظّ لهفان من الحرص فاغر (3)
قال الشافعيّ رحمه الله: لا أزال أحبّ حمّاد بن أبي سليمان (4)، لشيء بلغني عنه: أنه كان يوما راكبا حمارا له، فحرّكه، فانقطع زرّ (5) له، فمرّ على خيّاط، فأراد أن ينزل، فسوّى زرّه، فأخرج له صرّة فيها عشرة دنانير، فسلمها إلى الخياط، واعتذر إليه من قلّتها.(1/176)
__________
(6) الناعجات: الابل الخفاف السريعة. وقيل: الحسان الااوان.
وقال: «ستكفيني عطيّة قادر ... على ما يشاء اليوم للخلق قاهر
فإنّ الّذي أعطى العراق ابن عامر ... لربّي الّذي أرجو (1) لسدّ مفاقري»
فلمّا رآني قال: «أين ابن جابر؟» ... وحنّ كما حنّت عراب الأباعر
فأضعف عبد الله إذ غاب حطّه (2) ... على حظّ لهفان من الحرص فاغر (3)
قال الشافعيّ رحمه الله: لا أزال أحبّ حمّاد بن أبي سليمان (4)، لشيء بلغني عنه: أنه كان يوما راكبا حمارا له، فحرّكه، فانقطع زرّ (5) له، فمرّ على خيّاط، فأراد أن ينزل، فسوّى زرّه، فأخرج له صرّة فيها عشرة دنانير، فسلمها إلى الخياط، واعتذر إليه من قلّتها.
قال الحميديّ: قدم الشافعيّ رحمه الله من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف (6)
دينار، فضرب خباءه في موضع خارج عن مكة، ونثر الدنانير على ثوب، ثم أقبل على كلّ من دخل عليه، يقبض قبضة ويعطيه، حتى صلى الظهر، ونفض الثوب وليس عليه شىء (7).
عن الأصمعيّ (8) قال: قدم وفد على [أمير المؤمنين] هشام بن عبد الملك،
(1) فى الاصل «أرجوا» بالف بعد الواو
(2) ضبط فى الأصل بالرفع، وهو لحن.
(3) أى فاتح فمه، مبالغة فى الوصف بشدة الطمع
(4) هو الفقيه الكوفى، له ترجمة فى التهذيب (ج 2ص 1816) وابن سعد (ج 6ص 232231)
(5) فى الأصل «زرا» بالنصب، وهو لحن.
(6) في الأصل «الف»
(7) انظر تهذيب الأسماء للنووي (ج 1ص 57الطبعة المنيرية) وترجمة الشافعي للحافظ ابن حجر المسماة (توالي التأسيس) طبع بولاق سنة 1301 (ص 68)
(8) هذه القصة في الأمالي للقالي (ج 1ص 147) والزيادات التي هنا بين قوسين نقلناها منه.(1/177)
وفيهم رجل من قريش، يقال له: اسمعيل بن [أبي] الجهم (1) وكان أكبرهم سنّا، وأفضلهم رأيا وحلمّا، فقام متوكئا على عصا (2)، فقال:
يا أمير المؤمنين، إنّ خطباء قريش قد قالت [فيك] فأطنبت، وأثنت عليك فأحسنت، ووالله ما بلغ قائلهم قدرك، ولا أحصى مثنيهم فضلك، أفتأذن لي في الكلام؟ قال: فتكلّم قال: فأوجز أم أطنب؟ قال: بل أوجز.
قال: تولّاك الله يا أمير المؤمنين بالحسنى، وزيّنك بالتّقوى (3)، وجمع لك خير الآخرة والأولى، إنّ لي حوائج فأذكرها (4)؟ قال: نعم، قال:
كبرت سنّي، وضعفت قواي، واشتدّت حاجتي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسري وينفي فقري: فعل (5). فقال: يابن [أبي] الجهم، وما يجبر كسرك وينفي فقرك؟ قال: ألف دينار وألف دينار وألف دينار، قال: هيهات يابن [أبي] الجهم! بيت المال لا يحتمل هذا. قال: كأنّك آليت يا أمير المؤمنين أن لا تقضي لي حاجة مقامي هذا؟! قال: فألف دينار لماذا؟
قال: أقضي بها دينا قد فدحني حمله (6)، وأرهقني أهله (7). قال: نعم المسلك أسلكتها، دينا قضيت، وأمانة أدّيت، وألف دينار لماذا؟ قال: أزوّج بها من أدرك من ولدي، فأشدّ بهم عضدي، ويكثر بهم عددي. قال: ولا بأس،
__________
(1) في الأصل «اسمعيل بن الجهم» ولم نجد لهذا الرجل ذكرا في غير هذا الموضع
(2) كتب في الأصل «عصى»
(3) في الأمالي «بالتقى».
(4) في الأمالى «أفأذكرها»
(5) كلمة «فعل» ليست في الأمالى
(6) فدحه الأمر أو الحمل: أثقله
(7) أرهقه الرجل: أي أدركه أو أعجله(1/178)
غصضت (1) طرفا، وحصّنت فرجا، وأكثرت نسلا (2)، وألف دينار لماذا؟
قال: أشتري بها أرضا أعود بها (3) على ولدي، ويفضل فضلها على ذوي قراباتي.
قال: ولا بأس، أردت ذخرا، ورجوت أجرا، ووصلت رحما، قد أمرنا لك بها. قال: المحمود الله على ذلك، وجزاك الله يا أمير المؤمنين والرّحم خيرا. فقال هشام: تالله ما رأيت رجلا ألطف في سؤال، ولا أرفق في مقال:
منه (4)، هكذا فليكن القرشيّ.
__________
(1) في الأمالى «أغضضت» بزيادة الهمزة.
(2) في الأمالى «وامرت» بفتح الميم المشددة.
وهي بمعنى «أكثرت» انظر اللسان ومفردات الراغب.
(3) في الأمالى «أعود بفضلها».
(4) في الأمالى «في مقال من هذا»(1/179)
4 - باب الشجاعة (1)
مما ورد فى الكتاب العزيز
قال الله عز وجل في سورة البقرة: {وَقََاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ الَّذِينَ يُقََاتِلُونَكُمْ وَلََا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [190] وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ. وَلََا تُقََاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ حَتََّى يُقََاتِلُوكُمْ} [2] فِيهِ، فَإِنْ قََاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ. كَذََلِكَ جَزََاءُ الْكََافِرِينَ [191] فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [192] وَقََاتِلُوهُمْ حَتََّى لََا تَكُونَ فِتْنَةٌ (3) وَيَكُونَ الدِّينُ لِلََّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلََا عُدْوََانَ إِلََّا عَلَى الظََّالِمِينَ [193].
ومنها: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتََالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، وَعَسى ََ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى ََ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللََّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ [216]}.
ومنها: {فَلَمََّا فَصَلَ طََالُوتُ بِالْجُنُودِ قََالَ: إِنَّ اللََّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلََّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ. فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلََّا قَلِيلًا مِنْهُمْ. فَلَمََّا جََاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [4] مَعَهُ
__________
(1) بعد إتمام (باب الكرم) وجدت نسخة أخرى من الكتاب فى دار الكتاب المصرية، وهي جديدة، وسأصفها فى المقدمة إن شاء الله. وبدأت المقابلة عليها من أول (باب الشجاعة).
وأشير إلى النسخة الأصلية التى طبعنا عنها بكلمة «الأصل» كما مضى، وأشير إلى النسخة الجديدة بحرف (ح) وإليهما معا بقولى «الأصلين».
(2) فى الأصلين «يقاتلونكم» وهو خطأ من الناسخ
(3) ضبط فى الأصل بالنصب، وهو خطأ
(4) فى الأصل لم يذكر كلمة «آمنوا» وهو سهو من الناسخ(1/180)
{قََالُوا: لََا طََاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجََالُوتَ وَجُنُودِهِ. قََالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا اللََّهِ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللََّهِ. وَاللََّهُ مَعَ الصََّابِرِينَ [249] وَلَمََّا بَرَزُوا لِجََالُوتَ وَجُنُودِهِ قََالُوا: رَبَّنََا أَفْرِغْ عَلَيْنََا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدََامَنََا وَانْصُرْنََا عَلَى الْقَوْمِ الْكََافِرِينَ [250] فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللََّهِ وَقَتَلَ دََاوُدُ جََالُوتَ، وَآتََاهُ اللََّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمََّا يَشََاءُ. وَلَوْلََا دَفْعُ اللََّهِ النََّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلََكِنَّ اللََّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعََالَمِينَ [251]}.
ومن سورة آل عمران: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقََالُوا لِإِخْوََانِهِمْ إِذََا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كََانُوا غُزًّى} [1]: لَوْ كََانُوا عِنْدَنََا مََا مََاتُوا وَمََا قُتِلُوا، لِيَجْعَلَ اللََّهُ ذََلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ. وَاللََّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ. وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [156] وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللََّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمََّا يَجْمَعُونَ [157] وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى (2)
اللََّهِ تُحْشَرُونَ [158].
ومنها: {وَلََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتاً. بَلْ أَحْيََاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [169] فَرِحِينَ بِمََا آتََاهُمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلََّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ [170] يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللََّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللََّهَ لََا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [3] [171].
ومن سورة النساء: {فَلْيُقََاتِلْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيََاةَ}
__________
(1) رسمت فى الأصلين بالألف، وهو مخالف لرسم المصحف.
(2) كتب فى الأصلين «لا إلى» وهو خطأ
(3) فى الأصلين «المحسنين» وهو خلاف التلاوة.(1/181)
{الدُّنْيََا بِالْآخِرَةِ. وَمَنْ يُقََاتِلْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [74] وَمََا لَكُمْ لََا تُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجََالِ وَالنِّسََاءِ وَالْوِلْدََانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنََا أَخْرِجْنََا مِنْ هََذِهِ الْقَرْيَةِ الظََّالِمِ أَهْلُهََا وَاجْعَلْ لَنََا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنََا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً [75]. الَّذِينَ آمَنُوا يُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطََّاغُوتِ. فَقََاتِلُوا أَوْلِيََاءَ الشَّيْطََانِ} [1]، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطََانِ كََانَ ضَعِيفاً [76] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ وَآتُوا الزَّكََاةَ، فَلَمََّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتََالُ إِذََا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النََّاسَ كَخَشْيَةِ اللََّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً. وَقََالُوا: رَبَّنََا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتََالَ؟ لَوْلََا أَخَّرْتَنََا إِلى ََ أَجَلٍ قَرِيبٍ! قُلْ مَتََاعُ الدُّنْيََا قَلِيلٌ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى ََ وَلََا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [77] أَيْنَمََا (2) تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ (3) الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا: هََذِهِ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هََذِهِ مِنْ عِنْدِكَ. قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ. فَمََا لِهََؤُلََاءِ (4) الْقَوْمِ لََا يَكََادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً! [78].
ومنها: {وَلََا تَهِنُوا فِي ابْتِغََاءِ الْقَوْمِ، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمََا تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللََّهِ مََا لََا يَرْجُونَ. وَكََانَ اللََّهُ عَلِيماً حَكِيماً [104]}.
__________
(1) فى الأصلين «الشياطين» وهو خلاف التلاوة
(2) كتب في الأصلين «أين ما» وهو خلاف رسم المصحف
(3) كتب فى الأصلين «يدركم» بادغام الكاف الأولى فى الثانية فى الكتابة، وهو خطأ ومخالف لرسم المصحف
(4) كتب فى الأصلين «فما لهؤلاء» وهو خلاف رسم المصحف.(1/182)
ومن سورة الأنفال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجََابَ لَكُمْ: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلََائِكَةِ مُرْدِفِينَ [9] وَمََا جَعَلَهُ اللََّهُ إِلََّا بُشْرى ََ} [1]
وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ. وَمَا النَّصْرُ إِلََّا مِنْ عِنْدِ اللََّهِ، إِنَّ اللََّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [10].
ومنها: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلََا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبََارَ [15] وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلََّا مُتَحَرِّفاً لِقِتََالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى ََ فِئَةٍ فَقَدْ بََاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللََّهِ، وَمَأْوََاهُ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [16]}.
ومنها: {وَقََاتِلُوهُمْ حَتََّى لََا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلََّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللََّهَ بِمََا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [39] وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ مَوْلََاكُمْ. نِعْمَ الْمَوْلى ََ وَنِعْمَ النَّصِيرُ [40]}.
ومنها: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللََّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [45] وَأَطِيعُوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ} [2]، وَلََا تَنََازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللََّهَ مَعَ الصََّابِرِينَ [46].
ومنها: {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتََالِ. إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صََابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ. وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ} [3] لََا يَفْقَهُونَ [65] الْآنَ خَفَّفَ اللََّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً. فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صََابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللََّهِ. وَاللََّهُ مَعَ الصََّابِرِينَ [66].
__________
(1) زاد الكاتبان فى الأصلين «لكم» وهو خطأ.
(2) فى الأصلين «والرسول».
وهو خلاف التلاوة
(3) فى الأصلين «أنهم قوما» وهو خطأ غريب(1/183)
ومن سورة التوبة: {أَلََا تُقََاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمََانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرََاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ! أَتَخْشَوْنَهُمْ؟! فَاللََّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [13] قََاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللََّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [14] وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [1]، وَيَتُوبُ اللََّهُ عَلى ََ مَنْ يَشََاءُ، وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [15].
ومنها: {قََاتِلُوا الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَلََا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلََا يُحَرِّمُونَ مََا حَرَّمَ اللََّهُ وَرَسُولُهُ وَلََا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ حَتََّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صََاغِرُونَ [29]}.
ومنها: {إِلََّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللََّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثََانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمََا فِي الْغََارِ إِذْ يَقُولُ لِصََاحِبِهِ: لََا تَحْزَنْ إِنَّ اللََّهَ مَعَنََا. فَأَنْزَلَ اللََّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهََا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى ََ. وَكَلِمَةُ اللََّهِ هِيَ الْعُلْيََا. وَاللََّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [40] انْفِرُوا خِفََافاً وَثِقََالًا وَجََاهِدُوا بِأَمْوََالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ. ذََلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [41]}.
ومنها: {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ جََاهِدِ الْكُفََّارَ وَالْمُنََافِقِينَ} [2] وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ. وَمَأْوََاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [73].
ومنها: {إِنَّ اللََّهَ اشْتَرى ََ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوََالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ: يُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ. وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي}
__________
(1) فى الأصلين «قلوبكم» وهو خلاف التلاوة.
(2) نسي الناسخان فى الأصلين ان يكتابا كلمة «والمنافقين»(1/184)
{التَّوْرََاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ. وَمَنْ أَوْفى ََ بِعَهْدِهِ مِنَ اللََّهِ. فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بََايَعْتُمْ بِهِ} [1] وَذََلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [111] التََّائِبُونَ الْعََابِدُونَ الْحََامِدُونَ السََّائِحُونَ الرََّاكِعُونَ السََّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنََّاهُونَ (2)
عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحََافِظُونَ لِحُدُودِ اللََّهِ. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [112].
ومنها: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قََاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفََّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [123]}.
ومن سورة الحج: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقََاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا. وَإِنَّ اللََّهَ عَلى ََ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [39] الَّذِينَ} [3] أُخْرِجُوا مِنْ دِيََارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلََّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللََّهُ. وَلَوْلََا دَفْعُ اللََّهِ النََّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوََامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوََاتٌ وَمَسََاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللََّهِ كَثِيراً. وَلَيَنْصُرَنَّ اللََّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ. إِنَّ اللََّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [40] الَّذِينَ إِنْ مَكَّنََّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقََامُوا الصَّلََاةَ وَآتَوُا الزَّكََاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ. وَلِلََّهِ (4) عََاقِبَةُ الْأُمُورِ [41].
ومنها: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [77] وَجََاهِدُوا فِي اللََّهِ حَقَّ جِهََادِهِ. هُوَ اجْتَبََاكُمْ وَمََا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرََاهِيمَ، هُوَ سَمََّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هََذََا، لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدََاءَ عَلَى النََّاسِ. فَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ وَآتُوا الزَّكََاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللََّهِ هُوَ مَوْلََاكُمْ، فَنِعْمَ الْمَوْلى ََ وَنِعْمَ النَّصِيرُ [78]}.
__________
(1) نسبا أيضا كلمة «به».
(2) ونسبا أيضا وأو العطف.
(3) فى الاصلين «الذين» وهو خطأ.
(4) فى الأصلين «والى الله» وهو خلاف التلاوة(1/185)
ومن سورة محمد (1): {فَإِذََا} [2] لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقََابِ، حَتََّى إِذََا أَثْخَنْتُمُوهُمْ (3) فَشُدُّوا الْوَثََاقَ، فَإِمََّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمََّا فِدََاءً حَتََّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزََارَهََا. ذََلِكَ وَلَوْ يَشََاءُ اللََّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ، وَلََكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ (4) بِبَعْضٍ. وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمََالَهُمْ [4] سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بََالَهُمْ [5] وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهََا لَهُمْ [6] يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللََّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدََامَكُمْ [7].
ومن سورة الفتح: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرََابِ: سَتُدْعَوْنَ إِلى ََ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقََاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ، فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللََّهُ أَجْراً حَسَناً، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمََا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذََاباً أَلِيماً [16]}.
ومن سورة الحجرات: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتََابُوا وَجََاهَدُوا بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ. أُولََئِكَ هُمُ الصََّادِقُونَ [15]}.
ومن سورة الصّفّ: {إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيََانٌ مَرْصُوصٌ [4]}.
ومنها: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى ََ تِجََارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذََابٍ أَلِيمٍ؟ [10] تُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجََاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ بِأَمْوََالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ. ذََلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [11] يَغْفِرْ لَكُمْ}
__________
(1) تسمى أيضا «سورة القتال».
(2) في الأصل «واذا» وهو مخالف للتلاوة.
(3) فى الأصل «أثخنتوهم» وهو خطأ.
(4) فى الأصل «بعضهم» وهو خلاف التلاوة.
وفى (ح) لم يذكر إلا الآية (رقم 7).(1/186)
{ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ وَمَسََاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنََّاتِ عَدْنٍ. ذََلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [12] وَأُخْرى ََ تُحِبُّونَهََا: نَصْرٌ مِنَ اللََّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [13]} [1] يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصََارَ اللََّهِ كَمََا قََالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوََارِيِّينَ: مَنْ أَنْصََارِي إِلَى اللََّهِ؟ قََالَ الْحَوََارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصََارُ اللََّهِ. فَآمَنَتْ طََائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ وَكَفَرَتْ طََائِفَةٌ، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى ََ عَدُوِّهِمْ. فَأَصْبَحُوا ظََاهِرِينَ [14].
ومن سورة المتحرّم (2): {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ جََاهِدِ الْكُفََّارَ وَالْمُنََافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوََاهُمْ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [9]}.
ومن الأحاديث
عن هشام عن الحسن رحمه الله أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لغدوة أو روحة * 39 في سبيل الله تعالى أفضل من الأرض وما عليها. ولموقف رجل في الصّفّ أفضل من عبادة ستّين سنة (3)».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث ابن رواحة * 40
__________
(1) نسي الكاتبان فى الأصلين الآية رقم [13]
(2) تسمى أيضا «سورة التحريم»
(3) هذا الحديث فى الحقيقة حديثان، ولعل الحسن رحمه الله سمعهما من بعض الصحابة ثم رواهما جملة واحدة. أما الأول فقد رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه من حديث أنس، ورواه البخاري ومسلم والترمذى والنسائى من حديث سهل بن سعد، ورواه مسلم وابن ماجه من حديث أبى هريرة، ورواه الترمذى من حديث ابن عباس. بلفظ «غدوة فى سبيل الله أوروحة خير من الدنيا وما فيها» وفى بعض ألفاظهم «لغدوة» بزيادة اللام. انظر الجامع الصغير (رقم 5759و 7286) والترغيب والترهيب (ج 2ص 149و 164و 165). وأما الحديث الثانى فقد رواه الحاكم في المستدرك (ج 2ص 68) من حديث هشام بن حسان عن الحسن عن عمران بن حصين. وصححه على شرط البخاري ووافقه الذهبى. ونسبه فى جمع الفوائد (ج 2ص 4) للطبرانى فى الكبير والأوسط. ورواه أيضا الحاكم (ج 2ص 68) من حديث أبى هريرة وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبى.(1/187)
رحمه الله في سريّة (1)، فوافق ذلك يوم الجمعة، فقال: أصلّي مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم ثمّ ألحق بأصحابي، وقد غدا أصحابه، فلمّا رآه النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: مالك لم تغد مع أصحابك؟ قال: أحببت أن أصلّي معك الجمعة ثمّ ألحق بأصحابي. فقال صلّى الله عليه وسلم: لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت فضل غدوتهم (2)».
41* وعن أبي هريرة رحمه الله عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال (3): عرض عليّ أوّل ثلاثة يدخلون الجنّة من بني آدم، وأوّل ثلاثة يدخلون النار. فأمّا أوّل الثلاثة الذين يدخلون الجنة: فالشهيد، وعبد مملوك لم يشغله رقّ الدّنيا عن طاعة الله تعالى (4)، وفقير متعفّف ذو عيال (5). وأما الثلاثة نفر الذين يدخلون النار: فأمير مسلّط، وذو مال لا يؤدّي منه حقّ الله تعالى (6)، وفقير فخور (7)».
__________
(1) هو عبد الله بن رواحة الأنصارى الخزرجي، أحد النقباء ليلة العقبة، وهو هذه السرية هي غزوة مؤتة بالهمزة وقد قتل ابن رواحة فيها شهيدا، رحمه الله.
(2) رواه الترمذى (ج 1ص 105) بهذا اللفظ وقال: «حديث غريب» ورواه أحمد فى المسند مختصرا (ج 1ص 256برقم 2317)
(3) هذا الحديث رواه ابن خزيمة مطولا، ورواه ابن حبان مفرقا فى موضعين كما نقل ذلك المنذري في الترغيب (ج 1ص 268) ثم نقل النصف الأول منه (ج 3ص 59) ونسبه للترمذى وابن حبان، ونقل النصف الثانى (ج 4ص 18) ونسبه لابن حبان وابن خزيمة. والنصف الأول عند الترمذى (ج 1ص 309) وقال: «حديث حسن» ونقله السيوطي في الدر المنثور مطولا (ج 2ص 9897) ونسبه لابن أبي شيبة والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان. ولم أجده في ابن ماجه، ولا النصف الثانى في الترمذى ثم إن فى بعض ألفاظه هنا خلافا لما عندهم.
(4) في الترمذى «أحسن عبادة ربه ونصح لمواليه» وفى الترغيب والدر «ونصح لسيده»
(5) في الروايات الأخرى «وعفيف متعفف»
(6) فى الترغيب والدر «وذو ثروة من حال لا يؤدي حق الله فى ماله»
(7) فى الأصلين «فجور» بالجيم، وهو وإن كان صحيحا لغة إلا أنه مخالف للرواية، وصوابه «فحور» بالخاء من الفخر، كما فى كل الروايات، ويؤيده أن المنذرى جاء به فى الترهيب من الكبر والافتخار.(1/188)
وعن أنس بن مالك رحمه الله أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم (1) قال: «ما من عبد يموت * 42 وله عند الله خير يتمنّى الرجوع إلى الدّنيا، وإن كان له الدّنيا، لما يخاف من هول الموت: إلّا الشهيد، لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يتمنّى (2)
أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرّة أخرى».
وعن سعيد بن جبير رحمه الله في قول الله تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلََّا مَنْ شََاءَ اللََّهُ [39: 68]} قال: هم الشّهداء، متقلّدو (3)
السّيوف حول العرش (4).
وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده لوددت أني أقاتل في * 43 سبيل الله فأقتل، ثمّ أحيا فأقتل ثمّ أحيا فأقتل (5)».
وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله * 44 والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلّا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب (6) دما:
اللون لون الدّم والرّيح ريح المسك».
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم (7): «أنه لمّا كان يوم أحد قال: من يأتيني بخبر * 45
__________
(1) رواه البخارى (ج 4ص 17و 22) ومسلم (ج 2ص 96) والترمذى (ج 1ص 309) والنسائى (ج 2ص 62) بألفاظ مختلفة
(2) كتب في الأصل بالألف.
(3) رسم في الأصلين بألف بعد الواو
(4) رواه الطبرى في التفسير (ج 24ص 20) ونقله فى الدر المنثور (ج 5ص 336)
(5) رواه أحمد في المسند من حديث أبى هريرة مطولا ومختصرا (ج 2ص 231و 384و 424و 496و 502) ورواه مالك فى الموطأ (ج 2 ص 1716) والبخارى (ج 4ص 17) ومسلم (ج 2ص 9695)
(6) يكلم: أى يجرح، ويثعب بفتح العين المهملة أى يجرى متفجرا كثيرا. والحديث رواه بهذا اللفظ مالك فى الموطأ (ج 2ص 17) ورواه أيضا البخارى (ج 4ص 1918) ومسلم (ج 2ص 9695) بألفاظ مختلفة من حديث أبى هريرة.
(7) رواه مالك في الموطأ (ج 2ص 21) وابن سعد فى الطبقات من طريق مالك (ح 3ق 2 ص 7877) عن يحيى بن سعيد. وهو حديث مرسل ولم يأت موصولا من طريق أخرى.(1/189)
سعد بن الرّبيع الأنصاريّ؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله. فذهب الرّجل [يطوف] (1) بين القتلى، فقال له سعد بن الرّبيع: ما شأنك؟ فقال الرجل:
بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليك لآتيه بخبرك. فقال: فاذهب إليه فأقره (2) منّي السّلام، وأخبره أنّي قد طعنت اثنتى عشرة (3) طعنة، وأنّي قد أنفذت مقاتلي. وأخبر قومنا (4) أنّه لا عذر لكم (5) إن قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وواحد منكم (6) حيّ».
46* وروي عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «وقوف ساعة في الصفّ في سبيل الله تعالى أفضل من قيام ليلة القدر تحت الحجر الأسود (7)».
47* وروي عنه صلّى الله عليه وسلم: «أنه سمع رجلا يقول: اللهمّ إني أسألك خير ما تسأل، فأعطني أفضل ما تعطي. فقال: إن استجيب لك أهريق دمك في سبيل الله تعالى (8)».
48* وعن عسعس بن سلامة قال: «أتى رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجبل يتعبّد ففقد وطلب، فجيء به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما الذى حملك على ذلك؟ فقال: يا رسول الله، أردت أن أعتزل فأتعبّد. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا تفعل، فإنّ صبر أحدكم ساعة
__________
(1) الزيادة من الموطأ وابن سعد.
(2) أصلها «فأقرئه» وحذفت الهمزة تسهيلا.
(3) فى الأصل «باثنتى عشر» وفى (ح) «أثنى عشر» وصححناه من ابن سعد.
(4) فى الموطأ وابن سعد: «قومك»
(5) فيهما: «لهم»
(6) فيهما: «منهم»
(7) نقله المنذرى فى الترغيب (ج 2ص 152) بمعناه من حديث أبى هريرة، ونسبه للبيهقي وصحيح ابن حبان.
(8) لم أجد هذا الحديث بعد طول البحث.(1/190)
من النّهار في بعض مرابط الإسلام خير من عبادة رجل خال أربعين سنة (1)».
وعن أنس بن مالك رحمه الله قال: لما طعن خالي حرام بن ملحان رحمه الله يوم بئر معونة قال بالدم هكذا: فنضحه على وجهه ورأسه، ثم قال: فزت وربّ الكعبة (2)».
وعن عبد الله بن عمرو (3) رضوان الله عليهما قال: سمعت رسول الله * 49 صلّى الله عليه وسلم يقول: «أول ثلاثة يدخلون الجنة: الفقراء المهاجرون الذين تتّقى بهم المكاره، وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا، وإذا كان للرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض (4) له حتى يموت وهي في صدره. وإن الله عزّ وجلّ ليدعو (5) يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها، فيقول تعالى: أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلى فقتلوا، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي، ادخلوا الجنة. فيدخلونها بغير حساب. وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: ربّنا نحن نسبّح بحمدك اللّيل والنهار ونقدّس لك، من هؤلاء الذين آثرتهم
__________
(1) رواه الطيالسي في مسنده (رقم 1209)، ونقله ابن الأثير في أسد الغابة (ج 3ص 408) ونقل المنذري في الترغيب نحو هذه القصة مطولة (ج 2ص 174) ومن حديث أبي هريرة ونسبها للترمذي والحاكم، ومن حديث أبي أمامة ونسبها لمسند أحمد.
(2) يوم بئر معونة هو الذي قتل فيه القراء السبعون الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم الى بني عامر فغدروا بهم. وانظره في البخاري (ج 4ص 18) ومسلم (ج 2ص 102) وطبقات ابن سعد (ج 3ق 2ص 7271) وتفسير الطبري (ج 4ص 115) وليس في هذه الروايات ذكر لنضح الدم على الوجه والرأس، ولكني وجدته في أسد الغابة (ج 1ص 395) بدون إسناد.
(3) في الأصلين «عبد الله بن عمر» وهو خطأ، والحديث رواه أحمد في المسند (رقم 6570و 6571ج 2ص 168) والحاكم في المستدرك (ج 2ص 7271) وصححه هو والذهبي ونقله في الدر المنثور (ج 4ص 5857) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص
(4) في الأصلين «لن تقضى» وهو لحن، والتصحيح من أحمد والحاكم.
(5) كتبت فى الأصل «ليدعوا» بألف بعد الواو.(1/191)
علينا؟ فيقول الرّبّ عزّ وجلّ: هؤلاء عبادي الذين قتلوا في سبيلي وأوذوا فى سبيلي. فتدخل عليهم الملائكة من كلّ باب: {(سَلََامٌ عَلَيْكُمْ بِمََا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدََّارِ [13: 24]}».
50* وعن أبى بكر بن عبد الله بن قيس (1) رحمه الله قال: سمعت أبي وهو بحضرة العدوّ يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ أبواب الجنّة تحت ظلال السّيوف». فقام رجل ربّ الهيئة فقال: يأبا موسى، أنت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال: نعم. قال: فرجع إلى أصحابه، فقال: أقرأ عليكم السلام. ثم كسر جفن سيفه فألقاه، ثم مشى إلى العدوّ بسيفه، فضرب به حتّى قتل رحمه الله (2).
51* وعن النّعمان بن بشير رحمه الله قال (3): قد كنت عند منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي ألّا أعمل عملا بعد الإسلام إلّا أن أسقي الحاجّ. وقال آخر: ما أبالي ألّا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل ممّا قلتم. فزجرهم (4)
عمر رضي الله عنه، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صلّيت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عزّ وجلّ: {أَجَعَلْتُمْ سِقََايَةَ الْحََاجِّ وَعِمََارَةَ}
__________
(1) عبد الله بن قيس: هو أبو موسى الأشعري.
(2) رواه مسلم (ج 2ص 101) والحاكم (ج 2ص 70)
(3) الحديث رواه مسلم (ج 2ص 97) والطبري في التفسير (ج 10 ص 6867) ونقله في الدر المنثور (ج 3ص 218)
(4) فى الأصلين «فزجره» والتصحيح من مسلم والطبري والدر.(1/192)
{الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجََاهَدَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ} الآية (1).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ الشّهيد لا يجد مسّ القتل * 52 إلّا كما يجد أحدكم الفرصة يقرصها (2)».
وعن أبي عبس رحمه الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ما اغبرّت قدما عبد * 53 في سبيل الله فتمسّهما النّار (3)».
أورد الإمام أبو اللّيث السّمرقنديّ رحمه الله في كتاب (تنبيه الغافلين) (4): * 54 «أنّ رجلا [حشيا] أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إني كما ترى: دميم الخلقة (5)، منتن الرّيح، غير زاكي الحسب (6)، فأين أنا إن قاتلت حتّى أقتل؟ قال: أنت في الجنّة. [فأسلم الرجل، ف] قال: عندي غنم فكيف أصنع بها؟ قال: وجّهها إلى المدينة ثم صح بها، فإنّها ترجع (7) إلى أهلها.
__________
(1) باقى الآية: {لََا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللََّهِ، وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ}.
وفي الأصلين «وجاهد في سبيله» وهو خطأ.
(2) رواه بمعناه الترمذى (ج 1ص 313) وصححه، والنسائي (ج 2ص 62) وابن ماجه (ج 2ص 96) ونسبه في الدر المنثور (ج 2 ص 99) لابن حبان أيضا.
(3) أبو غبس هو: عبد الرحمن بن جبر الأنصاري، وحديثه هذا رواه بمعناه أحمد في المسند (ج 3ص 479) والبخارى (ج 4ص 2120) والترمذى (ج 1 ص 307) والنسائي (ج 2ص 56).
(4) نقل ذلك في (ص 187) طبعا الخيرية سنة 1303) بدون إسناد. والزيادات التى بين قوسين من هناك، وبين ما هنا وما هناك اختلاف، ويظهر أن المؤلف رواه من حفظه أو من نسخة تخالف ما بين أيدينا. وروى الحاكم في المستدرك (ج 2 ص 9493) من حديث أنس قصة نحو هذه، إلا أنها مختصرة. وصححها على شرط مسلم ووافقه الذهبى، ونقلها عنه السيوطي في الدر المنثور (ج 2ص 99)
(5) فى التنبيه «دميم الوجه».
(6) في الأصلين «الجسد».
(7) فى التنبيه «سترجع».(1/193)
ففعل (1) ذلك. ثم التحم القتال (2) فاقتتلوا، فلما افترق (3) القوم قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: تفقدّوا إخوانكم. [ففعلوا]، فقالوا: يا رسول الله، ذلك الرجل قتل (4) في وادي كذا. فقام (5) النبيّ صلّى الله عليه وسلم معهم، فلما أشرف عليه قال:
اليوم حسّن الله وجهك، وطيّب ريحك، وزكّ حسبك (6). ثم أعرض عنه (7). فقالوا: رأيناك أعرضت عنه؟ قال: والذي نفسي بيده، لقد رأيت أزواجه من الحور العين ابتدرن حتّى بدت خلا خلهنّ (8)».
55* وأورد الامام أبو الحسن يحيى بن نجاح رحمه الله في كتاب (سبل الخيرات) (9) قال: يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أخبركم بخير النّاس منزلة؟ رجل أخذ بعنان فرسه يجاهد في سبيل الله تعالى (10)» 56* وأورد أبو الليث السمرقنديّ رحمه الله عن الحسن رضي الله عنه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «من سأل الله تعالى الشّهادة فمات كان له أجر شهيد (11)».
__________
(1) فى الأصل «وفعل».
(2) فيه «ثم اقتحم القتال»
(3) فيه «فلما تحاجز».
(4) فيه «ذلك الحبشي قتيل».
(5) فى الأصل «وقام».
(6) فى الأصلين «جسدك».
(7) فى التنبيه «فبكى فأعرض عنه».
(8) فى التنبيه «خلاخيلهن» بزيادة الياء، وكلاهما جائز، يجمع «خلخال» على «خلاخل» و «خلاخيل» وقيل إن الأول جمع «خلخل» بفتح الخاءين وبضمهما.
(9) فى كشف الظنون: «سبل الخيرات في المواعظ والرقائق.
لأبي الحسين يحيى بن نجاح بن الفلاس الأموي القرطبي المتوفى سنة 422.
(10) رواه مالك بمعناه في الموطأ (ج 2ص 4) من حديث عطاء بن يسار مرسلا. ورواه الترمذي (ج 1ص 311) من حديث عطاء عن ابن عباس، وقال: «حديث حسن غريب». ونسبه فى الترغيب (ج 2ص 174) للنسائي وصحيح ابن حبان. وروى الحاكم حديثا آخر عن ابن عباس فيه معنى هذا الحديث، وكذلك روى عن أبي هريرة نحوه وصححهما ورافقه الذهبى (ج 2 ص 67).
(11) فى التنبيه (ص 187) «الههيد». ومعنى هذا الحديث نسبه في الترغيب (ج 2ص 169) لمسلم وأصحاب السنن من حديث سهل بن حنيف، ولمسلم والحاكم من حديث أنس، ولابن حبان والحاكم من حديث معاذ، وفي بعض ألفاظهم «أعطاء الله أجر شهيد وإن مات على فراشه».(1/194)
وعن ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى: {وَلََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتاً، بَلْ أَحْيََاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [3: 169]} قال:
أرواحهم كطيور خضر تسرح في الجنة، ثم تأوي إلى قناد بل خضر معلّقة تحت العرش (1).
وأورد الامام الحافظ أبو القسم إسمعيل بن محمد بن الفضل الإصبهاني * 57 رحمه الله في كتاب (الترغيب والترهيب) (2) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الشّهداء ثلاثة رجال: رجل خرج بماله ونفسه محتسبا في سبيل الله تعالى، لا يريد أن يقتل ولا يقتل (3)، لتكثير سواد المسلمين: فإن مات أو قتل غفرت [له] ذنوبه كلّها، وأجير من عذاب القبر، وأومن من الفزع الأكبر، وزوّج من الحور العين [وحلّت عليه الكرامة] ووضع على رأسه تاج الوقار [والخلد]. والثاني: رجل جاهد بنفسه (4) وماله محتسبا، يريد أن يقتل ولا يقتل: فإن مات أو قتل كانت (5) ركبته مع ركبة إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام بين يدي الله عز وجل في مقعد صدق عند مليك مقتدر. والثالث: رجل خرج في نفسه (6)
وماله [محتسبا]، يريد أن يقتل ويقتل: فان مات أو قتل جاء يوم القيامة شاهرا سيفه واضعه على عنقه (7)، والناس جاثون على الرّكب، يقول: ألا
__________
(1) هذا موقوف على ابن عباس، وسيأتي معناه بعد ثلاثة أحاديث.
(2) نقله السيوطي في الدر المنثور (ج 2ص 98) عن الأصبهانى، ومازدناه بين قوسين فهو منه. ونسبه السيوطي أيضا للبزار والبيهقى، وذكر أنه حديث ضعيف، وكذلك نسبه في جمع الفوائد (ج 2ص 5) للبزار، وضعفه.
(3) فى الدر «يريد أن لا يقتل ولا يقتل ولا يقاتل».
(4) فى الدر «خرج بنفسه».
(5) فى الأصلين «كان» وصححناه من الدر.
(6) فى الدر، خرج بنفسه،
(7) فى الدر «على عاتقه»(1/195)
فافسحوا لنا [مرّتين]، فإنّا قد بذلنا دماءنا وأموالنا لله عزّ وجلّ» قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لو قال ذلك لإبرهيم خليل الرحمن أو لنبيّ من الأنبياء لتنحّى لهم عن الطريق، لما يرى من واجب حقّهم. حتّى يأتوا منابر من نور عن يمين العرش، فيجلسون ينظرون كيف يقضى بين النّاس، لا يجدون غمّ الموت، ولا يغتمّون في البرزخ، ولا تفزعهم الصّيحة، ولا يهمّهم الحساب ولا الميزان ولا الصّراط، ينظرون كيف يقضى بين الناس، ولا يسألون شيئا إلّا أعطوا، ولا يشفعون في واحد (1) إلّا شفّعوا فيه، ويعطى من الجنة ما أحبّ، وينزل من الجنّة حيث أحبّ (2)».
58* وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «الغازي في سبيل الله، والحاجّ إلى بيت الله، والمعتمر: وفد الله عزّ وجلّ، سألوا فأعطاهم، ودعوا فأجابهم (3)».
59* وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أنّه سئل: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، وبرّ الوالدين، والجهاد في سبيل الله تعالى (4)».
60* وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لما أصيب إخوانكم يأخذ جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنّة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش. فلمّا
__________
(1) فى الدر «فى شىء».
(2) فى الدر «ويعطون من الجنة ما أحبوا وينزلون من الجنة حيث احبوا».
(3) رواه بمعناه ابن ماجه (ج 2ص 109) من حديث ابن عمر، واسناده حسن.
ونسبه المنذرى أيضا (ج 2ص 165) لصحيح ابن حبان. وروى نحوه ابن ماجه (ج 2ص 109) والنسائى (ج 2ص 56) من حديث أبى هريرة، واسناد ابن ماجه ضعيف، واسناد النسائي صحيح، ونسبه المنذرى أيضا لصحيح ابن خزيمة.
(4) رواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى بمعناه عن ابن مسعود، ورواه أحمد باسناد صحيح عن رجل من الصحابة. وانظر الترغيب (ج 1 ص 147و 148).(1/196)
وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومبيتهم (1) قالوا: من يبلغ إخواننا عنّا أنّا أحياء في الجنّة نرزق، لئلّا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب؟
فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم. فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَلََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتاً، بَلْ أَحْيََاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [3: 169]}
إلى آخر الآية (2).
ومما ورد في أسماء الشجاعة
قال أبو زيد: يقال: رجل «شجاع» (3) من قوم «شجعة» (4).
ويقال: «شجاع» و «شجيع» بمعنى واحد. و «الشّجاع» (5): ضرب من الحيّات.
وقال صاحب (المنضّد (6)): «الشّجع في الإبل: سرعة نقل القوائم، يقول العرب: بعير شجع، وناقة شجعة».
قال أبو بكر بن دريد: «رجل شجاع: أي جريء، والأشجع من الرجال بيّن الشّجاعة، وهو الذي كأنّ به جنونا».
وقال صاحب (كتاب العين): «الشجاع (7) يجمع: شجعان (8)، والشّجاع (9) الحيّة الذّكر».
__________
(1) فى أبى داود «ومقيلهم»
(2) لفظ الحديث هنا موافق لسنن أبى داود (ج 2ص 322) وفي نسخة فيه «إلى آخر الآيات» وهي أحسن، لأنها ثلاث آيات. والحديث رواه أيضا الطبرى فى التفسير (ج 4ص 113) والحاكم في المستدرك (ج 2ص 88) وصححه هو والذهبى. وانظر الدر المنثور (ج 2ص 95).
(3) الشين في الكلمتين يجوز فيها الحركات الثلاث.
(4) الشين في الكلمتين يجوز فيها الحركات الثلاث.
(5) بضم الشين أو كسرها.
(6) المنضد: كتاب في اللغة ألفه على بن الحسن الهنائى بضم الهاء المعروف بكراع النمل «كراع: بضم الكاف» وهو نحوى لغوى قديم من أهل مصر، وكان على مذهب الكوفيين، ألف كتابه هذا سنة 307، ولم يذكره صاحب كشف الظنون. وانظر الفهرست لابن النديم (ص 124) ومعجم الأدباء (ج 5ص 112) وبغية الوعاة (ص 333)
(7) الشين يجوز فيها الضم والكسر في الكلمات الثلاث.
(8) الشين يجوز فيها الضم والكسر في الكلمات الثلاث.
(9) الشين يجوز فيها الضم والكسر في الكلمات الثلاث.(1/197)
وقال اللّحياني: ويقال للحية أيضا: «أشجع».
و «الزّميع» الشّجاع الذي يزمع بالأمر ثم لا ينثني، وهم «الزّمعاء» والمصدر «الزّماع».
ويقال: «شجاع باسل» وهو: عبوس في غضب. و «استبسل فلان للموت» أي: وطّن نفسه عليه واستسلم للقتل، قال الله تعالى: {أُبْسِلُوا [6: 70]} أي: أسلموا بذنوبهم. وكلّ من خذل وأسلم فقد «أبسل».
ثم رجل «بطل» وهو: الرجل الذي يبطل الأشياء (1) والدّماء، ولا يدرك عنده ثأر.
ثم رجل «بهمة» (2) وهو الذي لا يدرى من أين يؤتى لشدّة بأسه وتيقّظه.
ثم رجل «حلبس» (3) قال الكسائي: «هو الذي يلازم قرنه فلا يفارقه».
وقال الهنائي: «الحلبس» و «الحبلبس» (4) هو: الحريص الملازم.
ورجل «أليس» قال الهنائي: «الأليس» الشّجاع، وجمعه «ليس» (5)
و «الأليس»: الذي لا يبرح متهلّلا (6).
__________
(1) كذا في الأصلين، وقد يكون له وجه من الصواب، وعبارة اللسان: «قيل: سمى بطلا لأن الأشداء يبطلون عنده، وقيل: هو الذي تبطل عنده دماء الأقران فلا يدرك عنده ثأر، وقال أيضا:
«وقيل: إنما سمى بطلا لأنه يبطل العظائم بسيفه»
(2) باسكان الهاء، قال ابن جنى: «البهمة فى الأصل مصدر وصف به.
(3) بوزن «عسكر» ويجوز فيها أيضا ضم الحاء مع فتح اللام وكسر الباء بوزن «علبط». انظر المخصص (ج 3ص 58) ومعيار اللغة.
(4) بزيادة باء قبل اللام، بوزن «سفرجل» قال الجوهرى: قد جاء في الشعر، وأظنه أراد الحلبس، فزاد فيه باء،
(5) بكسر اللام، بوزن «أبيض» و «بيض»
(6) لم أجد هذا النص.
وإنما قالوا: «الأليس: الذى لا يبرح بينه» وقالوا أيضا: «أليس. حسن الخلق» والاول ذم، والثانى مدح.(1/198)
ثم رجل «غشمشم» و «الغشمشم»: الذي يركب رأسه، ولا يثنيه شيء عما يريد.
وناقة «غشمشمة»: عزيزة النّفس، و «الغشم» الظّلم.
ورجل «أيهم» قال الليث: «الأيهم» (1) و «الأهيم» الذي لا ينحاش لشيء (2).
وقال الهنائي: «الأيهم» (3) البطيء الرّجوع إلى الحقّ، الذي لا يقبل الحجّة إذا وقعت عليه، ولا يرى إلّا رأيه. و «الأيهم» الجبل الطّويل الذي لا نبات (4) فيه.
ثم رجل «صمّة» قال الهنائي: هو الرجل الشجاع المصمّم. والجمع «صمم» (5).
ثم رجل «بهمة» وقد تقدّم ذكره «البهمة» جماعة الفرسان، والجمع «بهم» (6) يقال: باب «مبهم» (7) وحلقة «مبهمة» لا يعرف بابها.
ثم رجل «ذمر» (8) من قوم «أذمار» و «ذمير» وهو: الشجاع المنكر.
ثم رجل «نهيك» قال الليث: هو الرجل الشجاع الجريء، و «النهيك» المبالغ في كلّ شيء، وهو من الإبل: القويّ.
ثم رجل «محرب» (9) وهو المقدم (10) على الحرب، العالم الخبير بها، المجرّب لها، الحسن التّصرّف بها.
__________
(1) فى ح «الأهيم» وهو خطأ واضح.
(2) أى: لا يكترث له.
(3) فى الأصل «الأهيم» وهو خطأ، صححناه من ح ومن كتب اللغة
(4) نبات بالنون. وفي الاصلين «ثبات» بالثاء المثلثة، وهو تصحيف.
(5) بكسر الصاد، وضبط في الأصلين بفتحها، وهو خطأ، لأنه بوزن «علة» وجمعه «علل» بالكسر.
(6) بوزن «غرفة» و «غرف».
(7) اى مغلق، من قولهم «أبهم الباب» بمعنى أغلقه.
(8) بكسر الذال المعجمة وإسكان الميم، ويجوز فيه أيضا فتح الذال مع كسر الميم، ويجوز كسر الذال والميم مع تشديد الراء.
(9) بالحاء المهملة. وفي الأصلين بالجيم، وهو تصحيف.
(10) ضبط في الأصل بتشديد الدال، وهو خطأ.(1/199)
ثم رجل «مرير» قال الثعالبي: إذا كان الرجل شديد (1) القلب رابط الجأش: فهو «مرير». قال الهنائي (2): «المرّة» القوّة.
ثم رجل «غلث» قال الأصمعيّ: هو الشديد القتال، اللّزوم لمن بارزه يطلبه.
وقال الهنائي: «الغلث» (3) بالغين المعجمة والثاء المعجمة بثلاث: هو الرجل الشديد القتال، اللّزوم لمن طلب.
ويقال: «إنّه لعلب شرّ» بعين غير معجمة وباء معجمة من تحتها واحدة:
إذا كان قويا على الشرّ والحرب.
ثم رجل «مخشّ» (4) قال أبو عمرو: هو الرجل الجريء على الليل.
و «المحشّ» (5) الذي كلما رقّ جانب من الحرب قوّاه، وكلما بردت الحرب أوقدها، وكلما تخاذل الناس حرّضهم وشجّعهم.
وقال الهنائى: «حشّ (6) الإبل يحشّها حشّا» إذا ساقها سوقا شديدا.
ثم رجل «باسل» و «باسر» إذا كان فيه عبوس الشجاعة والغضب.
قال الهنائى: أي عبوس.
ثم رجل «مغامز» إذا كان شجاعا مقداما، يرمي بنفسه في غمار الحرب، ويتهجّم على اللّقاء.
قيل (7): أوّل من أوتي فضيلة الشجاعة والإقدام: هود النبيّ صلّى الله عليه وسلم (8).
__________
(1) فى الاصل «الشديد» وهو خطأ صححناه من ح
(2) ضبط في الأصل هنا وفيما سيأتي بتشديد النون، وهو خطأ.
(3) فى الاصل «الغلس» بالسين، وهو خطأ غريب! فان المؤلف نص على أنه بالثاء المثلثة، وقد جاء في ح على الصواب.
(4) بكسر الميم وفتح الخاء المعجمة.
(5) بكسر الميم وفتح الحاء المهملة
(6) بالحاء المهملة أيضا
(7) فى ح «وقيل».
(8) فى ح «هوذ على نبينا وعليه الصلاة والسلام».(1/200)
وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام.
وقال بعض النّسّابين: إن هودا هو: عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام (1).
أرسله الله سبحانه إلى عاد. وكانت مساكنهم الشّحر، من أرض اليمن الى بلاد حضر موت الى عمان، يأمرهم أن يوحّدوا الله، ويكفّوا عن الظّلم لا غير، فأبوا عليه وكذّبوه، وقالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنََّا قُوَّةً؟ [41: 15]} فكان هود عليه السّلام يلبس لأمته (2) يقول: {فَكِيدُونِي} [3] جَمِيعاً ثُمَّ لََا تُنْظِرُونِ [11: 55]، فلا يقدمون عليه ولا ينابذونه (4). فدعا عليهم، فأرسل الله تعالى عليهم الريح العقيم، وهي التي لا تلقح الشّجر (5)، ولا ينمي عليها النّبات.
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: كان طول عاد مائة ذراع، وأقصرهم سبعين ذراعا.
وقبر هود عليه السلام بتلك الناحية.
ولما نزل موسى بن عمران صلى الله عليه (6) ببني إسرائيل أرض كنعان، من أرض الشّأم، وكان بلعام (7) بن باعورا ببالعة، قرية من قرى البلقاء، وهو الذي قال الله فيه {آتَيْنََاهُ آيََاتِنََا فَانْسَلَخَ مِنْهََا [7: 175]}: أتى
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد (ج 1ق 1ص 27) وتاريخ الطبرى (ج 1ص 110) وتاريخ ابن كثير (ج 1ص 120) وقصص الانبياء (ص 267266)
(2) اللأمة: الدرع.
(3) التلاوة «فكيدونى» بالفاء.
(4) فى الأصلين «يقدموا» «ينابذوه» بحذف النون فيهما، وهو لحن.
(5) فى ح «الشجرة»
(6) فى ح «على نبينا وعليه الصلاة والسلام» وانظر هذه القصة برواياتها فى تاريخ الطبرى (ج 1ص 227226) وتفسير الطبرى (ج 9ص 8882) وتفسير ابن كثير (ج 3 ص 598590) وتاريخ ابن كثير (ج 1ص 322) والدر المنثور (ج 3ص 147145)
(7) فى بعض الروايات «بلعم» واسم أبيه فى بعض الروايات «باعور» وفى بعضها «أبر»(1/201)
قوم بلعام إليه وقالوا: ادع عليهم، فقال: كيف أدعو على نبيّ الله؟! ولكن زيّنوا أجمل نسائكم وابعثوهنّ الى العسكر، فان واقعوا إحداهنّ نزل عليهم العذاب، ففعلوا، وبعثوا بالنساء الى عسكر موسى عليه السلام، فمرّت امرأة منهنّ برجل من عظماء بني إسرائيل، فأخذ بيدها، ثم أقبل بها حتّى وقف على النبيّ موسى [عليه السّلام] (1)، فقال: أظنّك تقول: هذه حرام عليك؟
قال: أجل، هي حرام عليك، لا تقربها، قال: والله لا أطيعك في هذا، ثم دخل قبّته فوقع عليها، وأرسل الله تعالى الطاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى عليه السّلام: رجلا قد أعطي بسطة في الخلق وقوّة في البطش (2)، وكان غائبا، فجاء والطاعون يحوس (3) في بني إسرائيل، فأخذ حربته وكانت كلّها حديدا ثم دخل عليهما القبّة وهما مضطجعان فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أسندها إلى ذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وجعل يقول:
اللهمّ هكذا نفعل بمن يعصيك، فرفع الله سبحانه عنهم الطاعون، فحسب من هلك بالطاعون من بني إسرائيل من (4) بين ما أصاب ذلك الرجل من المرأة الى أن قتلهما فنحاص: فوجد قد هلك منهم سبعون ألفا، والمقلّل يقول:
عشرون ألفا [والله تعالى أعلم] (5).
__________
(1) الزيادة من ح
(2) في الأصلين «فى النفس» وصححناه من تاريخ الطبرى وتفسيره.
(3) بالسين المهملة، أى يتخللهم وينتشر فهم. وفى الأصلين «يحوش» بالشين المعجمة، وهو تصحيف
(4) في الأصلين «هن» بالهاء، وهو لا معنى له.
(5) الزيادة من ح(1/202)
من اشتهر بالفتك فى الجاهليّة
عبيد بن نشبة بن مرّة بن غيظ بن مرّة بن سعد بن ذبيان. والحارث بن ظالم المرّيّ. والبرّاض بن قيس الكنانيّ. وتأبّط شرّا، وهو: ثابت بن جابر بن سفيان الفهمي. وحنظلة بن قايد (1): أحد بني عمرو بن أسد بن خزيمة.
ومن شهر (2) بالفتك فى الاسلام
أبو حردبة. [و] مالك بن الرّيب المازنىّ (3). وعبيد الله بن الحرّ الجعفيّ. وعقبة بن هبيرة الأسديّ. وعبد الله بن سبرة الحرشيّ (4).
وعبد الله بن خازم (5) السّلمي. والقتّال الكلابيّ (6). وقرّان بن بشّار الفقعسيّ (7).
وعبد الله بن حجّاج الثّعلبيّ (8). وعبيد الله بن زياد بن ظبيان، أحد بني تيم الله بن ثعلبة بن عكابة (9).
__________
(1) كذا فى الأصلين، ولم نتحقق من هذا الاسم، ولم نجده فيما بين أيدينا من المراجع.
(2) فى ح «اشتهر»
(3) فى الأصلين «أبو حردبة مالك» الخ، فجعلهما شخصا واحدا، وهو خطأ، بل هما اثنان من لصوص العرب من بنى مازن، فأبو حردبة أحد بنى أثاثة بن مازن، ومالك بن الريب أحد بنى حرقوص بن مازن. انظر الأغانى (ج 19ص 164163و 167 168)
(4) الحرشي: بفتح الحاء المهملة والراء وبالشين المعجمة، وفى الأصلين بالجيم، وهو نصحيف. نسب الى جده الحريش بفتح الحاء بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، كما فى الانساب للسمعانى (ورقة 163) والاشتقاق لابن دريد (ص 181) وشرح الحماسة للمرصفى (ج 1ص 55) وزعم التبريزى فى شرح الحماسة (ج 2ص 19) أنه منسوب الى «حرش» موضع باليمن، وهو خطأ، ولا يوجد موضع بهذا الاسم فى كتب البلدان.
(5) خازم: بالخاء المعجمة، وفى الأصلين بالمهملة، وهو تصحيف. انظر عيون الأخبار (ج 1ص 168و 174و 175) والبيان والتبيين (ج 2ص 88و 225)
(6) اسمه «عبيد بن المضرحي» بفتح الميم واسكان الضاد وفتح الراء وكسر الحاء، وقيل «عبيد بن مجيب بن المضرحي» وقيل «عبد الله»، انظر الأمالى (ج 2ص 225وت ص 26) والاغانى (ج 20ص 166158)
(7) فى ح «القسعي» وهو خطأ.
(8) لثعلبى بالثاء المثلثة والعين المهملة وفى الأصلين «التغلبى» بالمثناة والغين المعجمة، وهو تصحيف. والثعلبى نسبه إلى جده «ثعلبة بن سعد بن ذبيان» انظر الأغانى (ج 12ص 3224)
(9) انظر البيان والتبين (ج 1ص 260258)(1/203)
61* قال عمران بن الحصين رحمه الله (1): «أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بطرف عمامتي من ورائي، فقال: يا عمران، إنّ الله يحبّ الإنفاق ويبغض الإقتار، فأنفق وأطعم ولا تصرّ صرّا فيعسر عليك الطّلب. واعلم أنّ الله يحبّ النّظر النّافذ عند مجيء الشّبهات، والعقل الكامل عند نزول الشّهوات، ويحبّ السّماحة ولو على تمرات، ويحبّ الشّجاعة ولو على قتل حيّة (2)».
50* وعن أبي بكر بن عبد الله بن قيس [رحمه الله] (3) قال: سمعت أبي وهو بحضرة العدوّ (4) يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ أبواب الجنة تحت ظلال (5) السيوف» فقام إليه رجل رثّ الهيئة فقال: يا أبا موسى، أنت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال: نعم قال: فرجع إلى أصحابه قال: أقرأ عليكم السّلام، ثم كسر جفن سيفه فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدوّ، فضرب به حتّى قتل رحمه الله (6)، ولم يذكر اسمه.
وأمّا من كان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورحمة الله عليهم أجمعين (7) من الشّجعان وكلّهم كان مقداما في الحرب حريص (8) على الشهادة: ولأمير
__________
(1) فى ح «رضي الله عنه»
(2) هذا الحديث لم أجده، وما أظنه صحيحا، وقد روى ابن عدي عن الزبير نحو هذا المعنى مختصرا مرفوعا، ونقله السيوطي في اللآلى، المصنوعة (ج 2 ص 48) وفى اسناده «عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة» قال ابن حبان: «يروى الموضوعات عن الثقات» وقال أبو حاتم الرازى: «متروك الحديث» فهو حديث ليس له أصل.
(3) الزيادة من ح
(4) قوله «وهو بحضرة العدو» سقط من ح
(5) فى الأصل «أذيال السيوف» وهو خطأ.
(6) فى ح «رضى الله عنه». وهذا الحديث سبق فى صحيفة (160)
(7) في ح «ورضي الله عنهم أجمعين»
(8) هكذا رسم فى الأصلين من غير ألف وهو منصوب، وهذا الرسم جائز على لغة ربيعة، إذ يقفون على المنصوب بصورة المرفوع، وقد جاءت كلمات بهذا الرسم في كتب صحيحة، كما فى المحلى لابن حزم (ج 6ص 112) والبخارى الطبعة السلطانية (ج 3ص 3و 33)(1/204)
المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه التّقدمة في الإقدام، والصّيت الشائع في الشجاعة.
فانه شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقعة بدر، وهي أوّل وقعة كانت في الإسلام، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم، والمشركون تسع مائة رجل، فنصر الله سبحانه [وتعالى] (1) رسوله صلّى الله عليه [وسلم] (2)، وقتل من المشركين سبعون رجلا، وأسر سبعون رجلا، فكان من قتله منهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أربعة وعشرين (3) رجلا، سوى من شارك في قتله (4). وقد ذكرت شيئا من حروبه ووقعاته (5) في كتابي المترجم بكتاب (فضائل الخلفاء الراشدين) رضي الله عنهم أجمعين، فغنيت عن إعادته هنا.
ومن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم بل من أهله ابن عمّته الزبير بن العوّام رضي الله عنه، المشهور بالإقدام والبأس.
روى المدائني عن مصعب بن عبد الله الزّبيريّ قال: أجمع أهل الإسلام أنّه لم يكن في الناس راجل أشجع من عليّ بن أبي طالب (6)، ولا فارس أشجع من الزّبير بن العوّام رضي الله عنهما.
وروى أحمد بن يوسف بن إبراهيم: أنّ أمر إفريقيّة اضطرب بتنازع
__________
(1) الزيادتان من ح
(2) الزيادتان من ح
(3) فى الأصلين «أربعة وعشرون» وهو لحن.
(4) فى هذا القول شيء من المبالغة، وقد أحصيت الذين ذكرهم ابن هشام في السيرة من قتلى بدر (ص 507 512) والذين ذكرهم ابن أبى الحديد في شرح نهج البلاغة (ج 3ص 358357) فكان من قتلهم علي بن أبي طالب ومن اشترك في قتلهم مع غيره، على اختلاف الروايات: تسعة وعشرين رجلا، فى كثير منهم خلاف: هل قتله علي أو غيره؟ قال ابن أبي الحديد: «جميع من قتل ببدر فى رواية الواقدي من المشركين فى الحرب وصبرا: اثنان وخمسون رجلا، قتل علي عليه السلام منهم مع الذين شرك في قتلهم: أربعة وعشرين رجلا، ولكن ابن ابى الحديد ترك رجالا ذكرهم ابن هشام، وذكر آخرين ليسوا عند ابن هشام.
(5) فى ح «ووقالعه»
(6) هنا فى ح زيادة «رضى الله عنه».(1/205)
أعيانها الرّياسة فيها، فكتب عمرو بن العاص من مصر وهو يومئذ عليها إلى عمر بن الخطّاب (1) رضي الله [تعالى] (2) عنه: يخبره بذلك، وأنه قد عزم أن يسيّر إليها جيشا، واستدعى من عمر [رضي الله عنه] (3) نجدة. فكتب اليه عمر يستصوب رأيه، ويذكر له: أنه ينفذ اليه على إثر كتابه ألف فارس، فتشوّف عمرو إليهم، فوافاه الزّبير بن العوّام [رضي الله عنه] (4) وحده، ومعه كتاب عمر رضي الله عنه: «قد أنفذت إليك الزبير بن العوّام، وهو عندي يعدل ألف فارس إن شاء الله» وسيّر عمرو الجيش إلى إفريقيّة. فلمّا انتهوا إلى مفرق (5) طريقين خافوا أن يسلكوا في أحد الطريقين فتقع بهم مكيدة في الأخرى، فقال لهم الزبير [رضي الله عنه] (6): أفردوني في إحدى الطريقين (7)، فاني أكفيكموها. فسار وحده في أحد (8) الطريقين، وسلك الجيش في الطريق الأخرى، واتّفق أن كانت طريق الزبير قريبة جدا، فلم تزل الشمس حتى وافى حصن إفريقيّة، فنزل عن دابّته واحتشّ لها بقلا يشغلها به، وقام يصلّي، وأشرف كفرة إفريقيّة من حصنها، فرأوا رجلا واحدا من المسلمين حسن الطّمأنينة، غير قلق في موضعه، ولا مستوحش من محلّه، فقالوا لرجل من شجعانهم: اخرج إليه واكفنا مؤونته، فخرج اليه، وركب الزبير [رضي الله عنه] (9) فرسه وجاوله فقتله، وخرج اليه فارسان، فطعن أحدهما فقتله وهرب الآخر منه، وصار إلى أصحابه، فقال: لو خرجتم
__________
(1) فى ح «إلى السيد عمر بن الخطاب» وهذا تعبير غير معروف عند المتقدمين، ولعل كلمة «السيد» زيادة من الناسخ.
(2) الزيادتان من ح
(3) الزيادتان من ح
(4) الزيادة من ح
(5) الراء يجوز فتحها وكسرها.
(6) الزيادة من ح
(7) الطريق: يذكر في لغة نجد، ويؤنث فى لغة الحجاز.
(8) فى ح «إحدى»
(9) الزيادة من ح(1/206)
بأجمعكم إلى هذا الرجل لقتلكم، فريعوا منه ووجّهوا إليه أسقفهم، فقالوا:
يا هذا، ما تلتمس؟ وهل جئتنا وحدك أو في جماعة؟ فقال: أنا واحد من جمع كثير قد توجهوا معي اليكم، والذي ألتمسه أن تسلموا أو تؤدّوا إلينا الجزية، قال: فنحن نجيب إلى أحدهما، فماسحوه (1) وفتحوا له الباب، ووافى (2) الجيش وقد فتح الزبير [رضي الله عنه] (3) إفريقيّة وحدة (4).
ومن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم معاذ بن عمرو بن الجموح رحمه الله (5)، شهد بدرا، قال: «سمعت القوم يعني المشركين وأبو جهل في مثل الحرجة (6) يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه. فلما سمعتها جعلته من شأني، فصمدت (7) نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطنّت قدمه من نصف ساقه، فو الله ما شهّتها حين طاحت إلّا بالنّواة تطيح (8) من تحت مرضخة (9) النّوى حين يضرب بها، قال: فضربني ابنه عكرمة على
__________
(1) المماسحة الملاينة فى القول والمعاشرة» والقلوب غير صافية. قاله فى اللسان.
(2) رسمت فى الأصلين «ووافا» بالألف
(3) الزيادة من ح
(4) هذه الحكاية غير صحيحة، ولا أصل لها، لأن إفريقية إنما فتحت سنة 27أو سنة 28فى عهد عثمان بن عفان بعد مقتل عمر بن الخطاب بسنين. والذى فتحها عبد الله بن سعد بن أبى سرح، والى مصر من قبل عثمان بعد عزل عمرو بن العاص عنها. انظر تاريخ الطبرى (ج 5ص 48وما بعدها) وفتوح البلدان للبلاذري (ص 234) وغير ذلك من كتب التاريخ. وإنما المعروف فى التاريخ أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر فى فتح مصر يستمده فأمده بأربعة آلاف رجل، على كل ألف رجل منهم رجل مقام الألف، والزبير أحد هؤلاء الأربعة، وأنهم فى أثناء الحرب كان عبادة بن الصامت يصلي فخرج إليه الروم، فسلم وركب فرسه وحمل عليهم فهربوا منه، وأن الزبير وضع سلما إلى جانب الحصن ودخله وحده، ثم تبعه بعض المسلمين ففتحوه للجيوش، واقتحمه المسلمون. انظر النجوم الزاهرة (ج 1ص 108)
(5) فى ح «رضي الله عنه»
(6) الحرجة: الشجر الملتف.
(7) فى ح «فعمدت.
بالعين، وما هنا هو الموافق لسيرة ابن هشام (ص 450طبع أوربا)
(8) فى الأصلين:
«إلا من نواة بطبخ» وضبط بتشديد للطاء المكسورة، وهو خطأ غريب، والصواب عن ابن هشام وكتب السيرة.
(9) المرضخة: حجر يرضخ به النوى، أى: يكسر.(1/207)
عاتقي فطرح يدي، فتعلّقت بجلدة من جنبي (1)، وأجهضني القتال (2) عنها، فلقد قاتلت عامّة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطّيت بها [عليها] (3) حتى طرحتها».
قال ابن اسحاق: ثم عاش رحمه الله (4) بعد ذلك حتى كان زمن (5) عثمان بن عفّان رضي الله عنه.
62* ومن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أبو دجانة سماك بن خرشة بن لوذان بن عبد ودّ بن يزيد بن ثعلبة (6) بن الخزرج، رضي الله عنه، شهد حروب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلّها. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أحد قبل القتال: «من يأخذ هذا السيف بحقّه؟» فقام اليه رجال فأمسكه عنهم، منهم الزّبير بن العوّام رحمه الله (7)، حتى قام أبو دجانة سماك بن خرشة [رضي الله عنه] (8)، فقال: ما حقّه يا رسول الله؟ قال: «تضرب (9) به في العدوّ حتى ينحني» قال: أنا آخذه يا رسول الله بحقّه. فأعطاه إياه. وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكان إذا أعلم بعصابة حمراء علم الناس أنه سيقاتل. فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخرج عصابته (10) تلك فعصّب بها رأسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين رأى أبا دجانة يتبختر: «إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا
__________
(1) فى الأصلين «جنتى» وصححناه من ابن هشام، ومن تاريخ ابن كثير (ج 3ص 287) وفى السيرة الحلبية (ج 2ص 226) «جسمي»
(2) أى: أعجلنى وشغلنى.
(3) الزيادة من ابن هشام.
(4) فى ح «رضي الله عنه»
(5) هذا هو الموافق لابن هشام وابن كثير، وفى ح «زمان»
(6) بالثاء المثلثة والعين المهملة، وفى الأصلين «تغلبة» بالمثناة والغين المعجمة، وهو تصحيف.
(7) فى ح «رضي الله عنه»
(8) الزيادة من ح
(9) فى الأصلين «يضرب» وصححناه من ابن هشام (ص 561) والحلبية (ج 2ص 292)
(10) بكسر العين، وضبط فى الأصل مرارا بضمها، وهو خطأ.(1/208)
الموضع» قال الزبير بن العوّام رحمه الله (1): فوجدت في نفسي، حين سألت رسول الله صلّى الله عليه [وسلم] (2) السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، وقلت:
أنا ابن صفيّة عمّته، ومن قريش، وقد قمت اليه فسألته (3) إيّاه قبله، فأعطاه إياه وتركني! والله لأنظرنّ ما يصنع. فاتّبعته، وأخرج عصابة فعصّب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وكذا كانت تقول إذا تعصّب بها، فخرج وهو يقول:
أنا الّذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسّفح لدى النّخيل
أن لا أقوم الدّهر في الكيّول ... أضرب بسيف الله والرّسول (4)
الكيّول: آخر الصفوف، وقيل: وراء القوم. قال الزبير: فجعل لا يلقى (5)
أحدا إلّا قتله، وكان في المشركين رجل (6) لا يدع جريحا إلّا دفّف (7) عليه، فجعل كلّ واحد منهما يدنو (8) من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا، فاختلفا ضربتين: فضرب المشرك أبا دجانة فاتّقاها (9) بدرقته، فعضّت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عزل بالسيف عنها، وقال: أكرمت سيف رسول الله
__________
(1) فى ح «رضى الله عنه»
(2) زيادة فى ح
(3) فى ح «اسأله»
(4) أضرب: بفتح الهمزة، قال فى اللسان (ج 14ص 127): «سكن الباء فى أضرب لكثرة الحركات». وضبط فى طبقات ابن سعد (ج 3ق 2ص 102) بكسر الهمزة، كأنه فعل أمر، وهو خطأ. وبين الرواية هنا وروايتى الطبقات واللسان خلاف في بعض الألفاظ.
(5) كتب فى الأصلين «يلقا» بالألف
(6) فى ح «رجلا» بالنصب، وهو لحن.
(7) دفف على الجريح بالدال المهملة وذفف بالمعجمة: أجهز عليه.
(8) كتب فى الأصلين «يدنوا» بألف بعد الواو
(9) فى الأصلين «فلقاه» وهو خطأ، ولعل صوابه «فتلقاه» وما ذكرناه أصح، نقلناه من السيرة الحلبية (ج 2ص 296)(1/209)
صلى الله عليه [وسلم] (1) أن أضرب به امرأة. فقال الزبير: فقلت: الله ورسوله أعلم (2).
ومن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: البراء بن مالك [رضي الله عنه] (3)، حضر القتال يوم مسيلمة الكذّاب (4) وقد قتل أكثر أصحاب مسيلمة، والتجأ منهم نحو من سبعة آلاف (5) إلى حديقة الموت وإنما سمّيت «حديقة الموت» لكثرة من قتل بها، وكان اسمها قبل ذلك «أباض (6)» فامتنعوا فيها، فقال البراء بن مالك رحمه الله (7): احملوني على الجدار حتى تطرحوني عليهم، فقالوا: لا نفعل يا براء (8)، قال: والله لتفعلنّ (9)، فحملوه على الجدار، فرأى كثرتهم، فقال: أنزلوني، فأنزلوه، ثم قال: احملوني على الجدار، فحملوه، فقال: أفّ لهذا جشعا! (10) ثم اقتحم عليهم الحديقة، فقاتلهم على الباب حتّى فتحه للمسلمين، ودخلوا عليهم فقتلوهم أجمعين، وكانوا في سبعة آلاف (11) رجل، وقتل من بني حنيفة في الفضاء سبعة آلاف (12) وفي الطّلب مثلها، وقتل من المسلمين نحو من تسع مائة رجل (13). رضي الله عنهم.
وعن اسمعيل بن عمر رضي الله عنه قال: لما فرض عمر رضوان الله عليه (14)
__________
(1) الزيادة من ح
(2) أنظر رواية أخرى مختصرة لهذه القصة فى شرح نهج البلاغة (ج 3 ص 374)
(3) الزيادة من ح 5والبراء هو ابن مالك بن النضر، أخو أنس بن مالك لأبيه وأمه على الصحيح.
(4) أنظر تاريخ الطبرى (ج 3ص 248و 251) وأسد الغابة (ج 1ص 172) والاصابة (ج 1ص 148)
(5) كتب فى الأصلين «ألف»
(6) بضم الهمزة وتخفيف الباء، وفى الأصلين «أراض» بالراء، وهو خطأ. وأباض: قرية باليمامة، عندها كانت وقعة خالد بن الوليد مع مسيلمة. انظر معجم البلدان.
(7) فى ح «رضي الله عنه»
(8) قوله «يا براء» سقط من ح
(9) فى الأصل «ليفعلن» بالياء
(10) الجشع بفتحتين:
الجزع أو كراهة الموت.
(11) فى الأصلين فى الموضعين «ألف»
(12) فى الأصلين فى الموضعين «ألف»
(13) الذى في الطبرى (ج 3ص 252): أن قتلى المسلمين ستمائة أو يزيدون.
(14) فى ح «رضى الله عنه»(1/210)
الدواوين جاء طلحة بن عبيد الله رحمه الله (1) بنفر من بني تميم يستفرض لهم، وجاء رجل من الأنصار بغلام مصفرّ سقيم، فقال: من هذا الغلام؟ قال: هذا ابن أخيك البراء بن النّضر، فقال عمر [رضي الله عنه] (2): مرحبا وأهلا، وضمّه اليه، وفرض له في أربعة آلاف (3)، فقال طلحة: يا أمير المؤمنين، انظر في أصحابي هؤلاء، قال: نعم، ففرض لهم في ستمائة ستمائة، فقال طلحة:
ما رأيت كاليوم شيئا أبعد من شيء! أيّ شيء (4) هذا؟! فقال عمر رحمة الله عليه (5): أنت يا طلحة تظنّ أنّني منزل هؤلاء بمنزلة هذا؟! إني رأيت أبا هذا جاء يوم أحد وأنا وأبو بكر قد تحدّثنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قتل، فقال: يأبابكر، ويا عمر، مالي أراكما جالسين؟! إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قتل فانّ الله حي لا يموت، ثم ولّى بسيفه، فضرب عشرين ضربة، أعدّها في وجهه وصدره، ثم قتل رحمه الله (6)، وهؤلاء قتل آباؤهم على تكذيب رسول الله صلّى الله عليه [وسلم] (7) وإطفاء نور الله تعالى، فمعاذ الله أن أجعلهم بمنزلته.
وأمدّ أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضوان الله [تعالى] (8) عليه سعد بن أبي وقّاص رحمه الله (9) في حرب القادسيّة: بجيش عليه هاشم بن عتبة المرقال (10)، فوصلهم والعسكران متواقفان: المسلمون ورستم، فوقف [هاشم بن] (11) عتبة مقابل موكب منهم، ثم أخذ سهما فوضعه في قوسه ورماهم، فوقع
__________
(1) فى ح «رضي الله عنه»
(2) زيادة من ح
(3) فى الأصلين «ألف»
(4) قوله «أي شيء» سقط من ح
(5) فى ح «رضي الله عنه» فى الموضعين.
(6) فى ح «رضي الله عنه» فى الموضعين.
(7) زيادة من ح فى الموضعين
(8) زيادة من ح فى الموضعين
(9) فى ح «رضى الله عنه»
(10) هو هاشم بن عتبة بن أبى وقاص الزهرى، ابن أخي سعد بن أبى وقاص، لقب «المرقال» لأنه كان يرقل أى يسرع فى الحرب.
(11) زيادة ضرورية، سقطت من الأصلين خطأ.(1/211)
سهمه في أذن فرسه فخلّها (1)، فضحك، وقال واسوأتاه! من رمية رجل كلّ من ترى ينتظره!! أين ترون كان سهمي بالغا لو لم يصب أذن الفرس؟ قالوا:
العتيق وهو نهر خلف ذلك الموكب فنزل عن فرسه، ثم سار يضربهم بسيفه، حتى أوصلهم العتيق، ثم رجع إلى موقفه (2).
ووقفت الأعاجم كتيبة فيها فيل، فقال: عمرو بن معدي كرب رحمه الله:
أنا (3) حامل على الفيل ومن معه، فلا تدعوني أكثر من جزر جزور، فإن تأخّرتم عنّي فقدتم أبا ثور، وأين لكم (4) مثل أبي ثور؟! فقذف نفسه في وسطهم، فاستلحموه (5)، وشجروه بالرّماح طويلا، ثم أفضى إلى السيف، ثم سقط عن فرسه، فتعطّفت عليه رجالهم، ونادى المسلمون: أبو ثور، الله الله، فانه إن هلك لم تجدوا منه عوضا! وحملوا عليهم فأفرجوهم عنه، واذا هو قد طعن من كل ناحية، وإذا هو جاث على ركبتيه قد أزبد، يضرب بسيفه يمينا وشمالا، وإذا سواعد الرجال وأسوقهم حوله كأنها أكاريع (6) الغنم، فلمّا انفرج عنه الأعاجم أخذ برجل فرس منهم، فحرّكه الفارس فلم يستطع براحا، فنزل عنه الفارس، وانهزم إلى أصحابه، وركبه عمرو، فقال له رجل: فداك أبي وأمّي يأباثور، كيف تجدك؟ قال: أجدني صالحا، قال: فاذا إهابه قد خرّق، فعصّب بالعمائم، وعاد إلى القتال كأنّه لم يصنع شيئا (7).
__________
(1) بالخاء المعجمة، أى ثقبها
(2) الذى فى تاريخ الطبري (ج 4ص 126125) أنه بلغ العتيق ورجع راكبا فرسه.
(3) في ح «إنى» وهو الموافق للطبرى (ج 4ص 127)
(4) فى الطبرى «وأنى لكم»
(5) أي أحاطوا به وأرهقوه فى القتال
(6) الجمع المنصوص عليه فى كتب اللغة: «أكارع» بدون الياء.
(7) شهد عمرو القادسية وقد جاوز المائة، وانظر أخباره فى الأغانى (ج 14ص 4024) وفى الاصابة (ج 5ص 2118) وفى سرح العيون (ص 343238) وفى الشعراء لابن قتيبة (ص 223219)(1/212)
روي أنّ عمرو بن معدي كرب الزّبيديّ رحمه الله (1) قال: لو طفت بظعينة أحياء العرب ما خفت عليها، ما لم ألق عبديها وحرّيها يعني بالعبدين: عنترة بن شدّاد والسّليك بن السّلكة، والحرّين: دريد بن الصّمّة وربيعة بن مكدّم (2) قال: وكلّا قد لقيت، وأعطاني الله النّصر عليه، قيل له: فما تقول في عامر بن الطفيل؟ قال: أقول فيه ما قاله (3):
إذا مات عمر وقلت للخيل: «أوطئي ... زبيدا، فقد أودى بنجدته عمرو
فأمّا وعمرو في زبيد فلا أرى ... لكم غزوهم، فارضوا بما حكم الدّهر!
فليت زبيدا زيد فيها كضعفها ... وليت أبا ثور يجيش به البحر!!»
وكان لعمرو بن معدي كرب أخ أكبر منه، يقال له: عبد الله، وكانت له التّقدمة والرئاسة دون عمرو، وكان له أخت يقال لها: ريحانة (4)، ولها يعني عمرو بقوله في قصيدة له:
أمن ريحانة الدّاعي السّميع ... يؤرّقني وأصحابي هجوع
يقول في هذه القصيدة، وهو بيت حكمة:
إذا لم تستطع أمرا (5) فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
__________
(1) فى ح «رضى الله عنه»، وقد كثر الفرق بين الأصلين فى هذه العبارة، ولذلك سنترك الاشارة إليها بعد الآن. والحكاية الآتية مذكورة فى الغانى (ج 14ص 27) وفى ديوان عامر بن الطفيل (ص 9190طبعة أوربا مع ديوان عبيد بن الابرص) وبين هاتين الروايتين وبين الرواية التى هنا خلاف.
(2) رواية الأغاني وديوان عامر: أن الحرين هما: عامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب
(3) رواية الأغانى: «قالوا: فما تقول فى العباس بن مرداس؟
قال: أقول فيه ما قال في» ثم ذكر البيت الأول فقط مع خلاف يسير.
(4) هي أم دريد بن الصمة كما فى الشعراء (ص 219و 470) والأغانى (ج 9ص 2)
(5) فى بعض الروايات «شيئا» كما فى الشعراء والأغانى، وكذلك فى الأغانى (ج 14ص 31)(1/213)
فقتل عبد الله، وبذل قاتلوه الدّية لعمرو، فجنح إلى ذلك، فقالت أخته تحرّضه على الطّلب بدم أخيه (1):
أرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلى قومه: لا تعقلوا لهم دمي (2)
ولا نقبلوا منهم إفالا وأبكرا ... وأترك في بيت بصعدة مظلم (3)
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم ... فمشّوا بآذان النّعام المصلّم (4)
ولا تشربوا إلّا فضول نسائكم ... إذا ارتملت أعقابهنّ من الدّم (5)
ودع عنك عمرا إنّ عمرا مسالم ... وهل بطن عمر وغير شبر لمطعم؟!
فحرّك هذا الشعر عمرا، وطلب بثأر أخيه، وتقدّم في الحروب والشجاعة، حتى كان منه ما كان.
والسّليك بن السّلكة (6) القائل:
قرّب النّحّام منّي يا غلام ... واطرح السّرج عليه واللّجام (7)
أعلم الفتيان: أني خائض ... غمرة الموت، فمن شاء أقام
__________
(1) هكذا نسب المؤلف الأبيات لريحانة أخت عمرو، والصحيح أنها من قول أخته الأخرى «كبشة» كما فى الشعراء (ص 221) والأغاني (ج 14ص 3433) والأمالى (ج 3ص 190) وحماسة أبى تمام (ج 1ص 6362) وحماسة البحترى (ص 28) ومعجم البلدان لياقوت (ج 5 ص 358) ولسان العرب (ج 13ص 487)
(2) «أرسل» كذا فى الحماسة لأبى تمام، وفى الأغانى «أأرسل» وفى البحترى والأمالى «وأرسل» وكذا فى لسان العرب (ج 13ص 487).
و «تعقلوا» أي: تتركوا القود وتأخذوا العقل وهو الدية.
(3) «الافل»: صغار الابل، و «الأبكر» جمع «بكر» بفتح الباء، وقد تضم وقد تكسر، وهو الفتىّ من الابل. و «صعدة» موضع باليمن.
(4) قوله «فمشوا» بضم الميم أى: امسحوا، ويروى بفتحها، أى: امشوا.
و «المصلم» من «الصلم» وهو: القطع المستأصل.
(5) يقال «ترمل» و «ارتمل» إذا تلطخ بالدم.
(6) هو السليك بن عمرو ويقال عمير بن يثربى، ونسب إلى أمه «السلكة» وكانت أمة سوداء، وله ترجمة فى الشعراء (217213) والأغانى (ج 18ص 138133)
(7) النحام:
حصانه، كذا فى هامش الأصلين.(1/214)
وفي السّليك تقول السّلكة أمّه (1)، وقد قتل (2):
طاف يبغي نجوة ... من هلاك فهلك (3)
ليت شعري ضلّة! * أيّ شىء قتلك؟
أمريض (4) لم تعد ... أم عدوّ ختلك؟
كلّ شىء قاتل ... حين تلقى أجلك
والمنايا رصد ... للفتى حيث سلك
أيّ شىء حسن ... لفتى لم يك لك؟
وعنترة بن شدّاد القائل من قصيدة (5):
وسلي لكيما تخبري بفعالنا ... عند الوغى (6) ومواقف الأبطال
والخيل تعثر بالقنا في جاحم (7) ... تهفو به ويجلن كلّ مجال
وأنا المجرّب في المواطن كلّها ... من آل عبس منصبي وفعالي (8)
منهم أبي حقّا فهم لي والد (9) ... والأمّ من حام فهم أخوالي
وأنا المنيّة حين تشتجر القنا ... والطّعن منّي سابق الآجال
ولربّ قرن قد تركت مجدّلا ... بلبانه كنواضح الجريال (10)
__________
(1) فى ح «أمه السلكة»
(2) فى الأصل «وقد قيل» وصححناه من ح
(3) هذه الابيات يقال أيضا: إنها قالتها أم تأبط شرا، ترتي ابنها، كما نقله التبريزى فى شرح الحماسة (ج 2 ص 192191) ونقله أحد اليسوعيين فى ملاحق ديوان الخنساء (ص 121) ورجح التبريزى أنها لأم السليك. والأبيات هناك أكثر مما هنا.
(4) فى الاصلين «أمريضا» وصححناه من الحماسة
(5) هذه الابيات من قصيدة نقلها شيخو اليسوعى فى شعراء الجاهلية (ص 858) ما عدا البيت الاخير، فانه ليس مذكورا هناك، وبين الروايتين بعض خلاف. والبيتأن الثالث والرابع رواهما ابن قتيبة فى الشعراء (ص 134) بلفظ مخالف لما هنا.
(6) كتب فى الأصلين «الوغا» بالألف.
(7) الجاحم: الحرب الشديدة المشتعلة.
(8) المنصب: الأصل والمحتد.
(9) ما هنا يوافق رواية ابن قتيبة، وفى شعراء الجاهلية «منهم أبى شدّاد أكرم والد»
(10) اللبان بفتح اللام: الصدر، أو ما بين الندبين. والجريال: صبغ أحمر، وقيل: الخمر وقيل: لون الخمر.
تنتابه طلس الذّئاب مغادرا ... في قفرة متمزّق السّربال (1)
أوجرته لدن المهزّة ذابلا ... مرنت عليه أشاجعي وخصالي (2)
قول عنترة: «مرنت عليه أشاجعي وخصالي» مثل قول قيس بن الخطيم:(1/215)
__________
(10) اللبان بفتح اللام: الصدر، أو ما بين الندبين. والجريال: صبغ أحمر، وقيل: الخمر وقيل: لون الخمر.
تنتابه طلس الذّئاب مغادرا ... في قفرة متمزّق السّربال (1)
أوجرته لدن المهزّة ذابلا ... مرنت عليه أشاجعي وخصالي (2)
قول عنترة: «مرنت عليه أشاجعي وخصالي» مثل قول قيس بن الخطيم:
ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها ... ترى قائما (3) من دونها ما وراءها
وتحت هذا القول معنى لا يعرف حقيقته إلّا من باشر الحرب، ولم يزل فيها طاعنا ومطعونا (4)، وقد يتهجّم الإنسان على السّريّة والموكب فيطعن فيه مخاطرا بنفسه، خائفا من الموت، فتسترخي يده على الرمح حتى يسبح الرمح في كفّه: فلا يكون للطّعنة كبير تأثير. فعنترة وقيس يشيران إلى أنّهما ما أصابهما ذلك، ولا استرخت يدهما من الرّوع.
وقال مؤلّف الكتاب (5):
إن يحسدوا في السّلم من ... زلتي من العزّ المنيف
فبما أهين النّفس في ... يوم الوغى يوم الصّفوف
فلطالما أقدمت إقدا ... م الحتوف على الحتوف
بعزيمة أمضى على ... حدّ السّيوف من السّيوف
(1) الذئب الأطلس: هو الذى فى لونه غبرة إلى السواد.
(2) الأشاجع: مفاصل الأصابع.
والخصيلة بفتح الخاء: كل عصبة فيها لحم، ولكن جمعها «خصيل» بفتح الخاء بدون تاء، و «خصائل» ولم أجد ما يدل على أن جمعها «خصال». ثم إن هذا البيت لم أجده فى كتاب آخر.
(3) هذا هو الموافق لرواية الديوان (ص 3). وفى الأصل «يرى قائم» وهو موافق لرواية أخرى ذكرت فى التعليقات عليه
(4) فى ح بحذف حرف العطف
(5) فى ح «وقال الأمير أسامة مؤلف الكتاب، ولعل الزيادة من الناسخ(1/216)
وفي ربيعة بن مكدّم الفراسيّ يقول بعض العرب، وقد اجتاز بقبره، يعتذر إذ لم ينحر عليه ناقته (1):
لا يبعدنّ (2) ربيعة بن مكدّم ... وسقى الغوادي قبره بذنوب
نفرت قلوصي من حجارة حرّة ... بنيت على سمح اليدين وهوب
لا تنفري يا ناق منه فإنّه ... شرّيب خمر مسعر لحروب
لولا السّفار وطول خرق مهمه ... لتركتها تحبو على العرقوب (3)
وسيأتى شيء من أخباره.
وعامر بن الطّفيل القائل (4):
إنّي وإن كنت ابن سيّد عامر ... وفارسها المشهور في كلّ موكب
لما سوّدتني عامر عن كلالة ... أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب
ولكنّني أحمي حماها وأتّقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكبي
ودريد بن الصّمّة الجشميّ القائل في أخيه عبد الله (5):
تنادوا فقالوا: أردت الخيل فارسا ... فقلت: أعبد الله ذلكم الرّدي؟
فجئت إليه والرّماح تنوشه ... كوقع الصّياصي في النّسيج الممدّد
__________
(1) هذه الأبيات في الأغاني (ج 14ص 125و 126) مع اختلاف يسير، وتقديم وتأخير. وقد رجح محمد بن سلام أنها من قول عمرو بن شقيق أحد بنى فهر بن مالك.
(2) فى الأصلين «لا تبعدن» وصححناه من الحماسة (ج 1ص 328)
(3) الخرق بفتح الخاء: الفلاة الواسعة، وكذلك المهمه
(4) هذه الأبيات فى ديوان عامر (ص 9392) بلفظ مقارب لما هنا. وفى حماسة ابن الشجري (ص 7) وفى الكامل للمبرد (ج 1ص 95) وفى الأمالى للقالى (ج 3ص 118) بألفاظ مختلفة.
(5) هذه الأبيات فى شرح التبريزى على حماسة أبي تمام (ج 2ص 159156) ضمن أبيات أخرى، ولكن البيت الرابع الذى هنا ليس في الحماسة.
فطاعنت عنه الخيل حتّى تبدّدوا (1) ... وحتّى علاني حالك اللّون أسودي (2)
فما رمت حتّى خرّقتني رماحهم ... وغودرت أكبو في القنا المتقصّد
فعال امرىء آسى (3) أخاه بنفسه ... ويعلم أنّ المرء غير مخلد
وهو القائل في إخوته وقد قتلوا (4):(1/217)
__________
(5) هذه الأبيات فى شرح التبريزى على حماسة أبي تمام (ج 2ص 159156) ضمن أبيات أخرى، ولكن البيت الرابع الذى هنا ليس في الحماسة.
فطاعنت عنه الخيل حتّى تبدّدوا (1) ... وحتّى علاني حالك اللّون أسودي (2)
فما رمت حتّى خرّقتني رماحهم ... وغودرت أكبو في القنا المتقصّد
فعال امرىء آسى (3) أخاه بنفسه ... ويعلم أنّ المرء غير مخلد
وهو القائل في إخوته وقد قتلوا (4):
تقول: ألا تبكي أخاك؟ وقد أرى ... مكان البكا لكن بنيت على الصّبر
فقلت: أعبد الله أبكي؟ أم الّذي ... على الجدث (5) الأعلى (6) قتيل أبي بكر
وعبد يغوث أم نديمي مالكا (7)؟ ... وعزّ المصاب حثو قبر على قبر
أبي القتل إلّا آل صمّة إنّهم ... أبوا غيره، والقدر يجري على قدر (8)
قال مصعب بن عبد الله الزّبيري: قلت لأبي: ما بلغ من شجاعة هؤلاء الثلاثة، حيث يقول عبد الله بن الزّبير: يا له فتحا! لو كان له رجال مثل مصعب ومصعب ومختار (9)؟! قال: إنهم بيتّوا ليلة مسلحة (10) للحجّاج، فقتلوا مائة رجل بأيديهم.
وقالت جمرة امرأة عمران بن حطّان لعمران: ألم تزعم أنك لم تكذب في شعرك قطّ؟ قال: نعم. قالت: فقولك:
وكذاك (11) مجزأة بن ثور ... كان أشجع من أسامه
(1) فى الحماسة «حتى تنفست»
(2) قال التبريزي: «ويروى أسود يعنى بالرفع على الاقواء، وأسودى يريد: أسوديّ، كما قيل فى الأحمر: أحمري وفى الدوار: دواري، ثم خففت ياء النسب بحذف إحداهما». وفى الأصلين «حالك لون أسودي»
(3) فى الحماسة «قتال امرى آسى، ورسم فى الأصلين «آسا» بالألف.
(4) هذه الأبيات ضمن قطعة فى شرح التبريزى (ج 2ص 159)
(5) فى الحماسة «له الجدث»
(6) رسم فى الأصلين «الأعلا»
(7) في الحماسة «وعبد يغوث تحجل الطير حوله»
(8) فى الحماسة «الى القدر» وفي ح «على القدر»
(9) لم أتحقق من أعيان هؤلاء الثلاثة.
(10) المسلحة: القوم الذين يحفظون الثغور من العدو.
(11) فى الأصلين «ذاك» وهو خطأ، وصححناه من الاغانى (ج 16ص 152)(1/218)
هل رأيت رجلا أشجع من الأسد؟! قال: فهل رأيت أنت أسدا فتح مدينة وحده؟! قالت: لا. قال: فمجزأة بن ثور فتح مدينة تستر (1) وحده.
قال عبد الله بن الزّبير: لما اصطفنا (2) يوم الجمل خرج علينا صائح يصيح من قبل عليّ رضوان الله عليه: يا معشر فتيان قريش، أحذّركم الرّجلين العابدين: جندب بن زهير والأشتر مالك [رضي الله عنهما] (3)، فلا تقوموا لأسنّتهما، أمّا جندب بن زهير فرجل ربعة يجرّ درعه حتى يعفو أثره، وأما الأشتر فلا نيابه قعقعة في الحرب.
والأشتر مالك بن الحارث [رضي الله عنه] (4) القائل (5):
بقيت وفري وانحرفت عن العلى ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشنّ على ابن حرب (6) غارة ... لم تخل يوما من نهاب نفوس
خيلا كأمثال السّعالي شزّبا (7) ... تغدو ببيض في الكريهة شوس (8)
حمي الحديد عليهم فكأنّهم ... لمعات (9) برق أو شعاع شموس
وإنما سمّي مالك بن الحارث [«الأشتر»] (10) بضربة أصابته في قتال
__________
(1) فى الأصلين «دستر» بالدال، ولعلها لغة فى هذا الاسم الأعجمي، لتقارب مخرج الحرفين، إلا أنا لم نجده بالدال فى شىء من الكتب. ولم يكن مجزأة هو الذى فتح نستر وحده، انظر معجم البلدان (ج 2 ص 388387)
(2) هكذا هو فى الأصلين بفاء واحدة، وكذلك فى الاصابة (ج 1 ص 260259) ولعل أصله «اصطففنا» وحذفت إحدى الفاءين تخفيفا.
(3) الزيادة من ح فى الموضعين
(4) الزيادة من ح فى الموضعين
(5) هذه الأبيات في الأمالى (ج 1ص 85) وفى شرح التبريزى على الحماسة (ج 1ص 7775)
(6) هكذا فى الحماسة، وفى الأمالى «على ابن هند» وكذلك فى الاصابة (ج 6ص 162)
(7) جمع «شازب» وهو: الضامر اليابس.
(8) جمع «أشوس» بوزن «أسود وسود» والأشوس هو: الذى يعرف فى نظره الغضب أو الحقد.
(9) هذا يوافق رواية الأمالى، وفى الحماسة «ومضان» والمعنى واحد.
(10) الزيادة من ح وقد سقطت من الأصل خطأ.(1/219)
بني حنيفة حين ارتدّوا. وذلك: أنه حين تواقف الفئتان دعا أبا مسيكة (1)
الإيادي، فخرج اليه، فقال له: ويحك يأبا مسيكة! بعد الإسلام والتوحيد ارتددت (2) ورجعت إلى الكفر؟! فقال: يا مالك، إيّاك عنّي، إنّهم يحرّمون الخمر ولا صبر عنها! قال: فهل لك في المبارزة؟ قال: نعم. فالتقيا، فتطاعنا بالرماح، ثم رمياها وصارا إلى السيوف، فضربه أبو مسيكة فشقّ رأسه حتى شتر عينه، فعاد معتنقا رقبة فرسه، فاجتمع حوله أصحابه يبكون، فقال لأحدهم:
أدخل (3) إصبعك في فمي، فعضّها مالك، فالتوى الرجل من شدة العضّة! فقال: لا بأس على صاحبكم، إذا سلمت الأضراس سلم الرّاس، ثم قال:
احشوها سويقا ثم شدّوها بعمامة، ثم قال: هاتوا فرسي! قالوا: إلى أين؟ قال إلى أبي مسيكة! فركب، ودعا أبا مسيكة، فخرج اليهم مثل السهم، فتجاولا، فضربه مالك فقطعه إلى السّرج، وعاد، فبقي مغمى عليه عدّة أيام [رضي الله عنه] (4). فهذه الضربة سمّي «الأشتر» (5).
وقال حضين (6) بن المنذر صاحب راية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: ابتذال النفس في الحرب أبقى لها إذا تأخّرت الآجال.
قال أبجر بن جابر (7) العجليّ لبنيه: إن سرّكم طول البقاء، وحسن
__________
(1) فى ح «أبو مسيكة»
(2) فى الأصل «ارتدت» بدال واحدة، وفى ح «ارتديت» بالياء بدل الدال الثانية.
(3) في الأصل «داخل»
(4) الزيادة من ح
(5) هكذا نقل المؤلف سبب تسمية «الأشتر»، والذي نقله ابن حجر فى الاصابة (ج 6ص 162161) عن سبب ذلك «أنه ضربه رجل يوم اليرموك على رأسه، فسالت الجراحة قيحا الى عينه فشترتها».
(6) حضين: بالضّاد المعجمة وفى الأصلين بالصاد المهملة، وهو تصحيف.
(7) أبجر بالجيم انظر فهارس تاريخ الطبرى والأمالى والأغانى. وفى ح «قال ابن جابر» ولم يذكر اسمه.(1/220)
الثناء، والنكاية في الأعداء: فلا تمنحوا عدوّكم أكتافكم، فانّ أمثل القوم بقيّة الصّابر (1).
وقيل لعبّاد بن الحصين الحبطيّ (2): في أيّ جنّة تحبّ أن تلقى عدوّك؟
قال: في أجل مستأخر.
وقال خالد بن الوليد رحمه الله: ما ليلة أقرّ لعيني من ليلة يهدى إليّ فيها عروس، اللهمّ إلّا ليلة أغد وفيها لقتال العدوّ (3).
عن المدائني قال: كانت قريش تقول: ما استوسق (4) أمر الجاهليّة والإسلام لأحد غير خالد بن الوليد، فانّه لم يهزم قطّ [رضي الله عنه] (5).
وعن المدائني قال: كان سعيد بن الأوس بن أبي البختريّ من أجمل الناس وأشجعهم (6)، وكان يختال فى مشيئته. فنظر إليه عبد الله بن الزبير رحمه الله يوما وهو يتبختر بين الصّفّين، فقال: كنت أظنّ أن مشيته تخلّق فاذا هي سجيّة.
وقاتل يوم الحرّة فأبلى وأحسن، وكانوا قد بنوا على المصافّ جدارات لئلّا (7) يفرّ بعضهم من بعض، فقال رجل من أهل المدينة من موالي قريش:
بصرت به وهو راجع وقد انهزم الناس وهو يمشي على رسله، فقلت: بأبي
__________
(1) كذا فى الأصل، ولم أجد هذه الكلمة فى موضع آخر، وفى ح «فان أمتن القوم الصابر» وما أظنها صحيحة.
(2) انظر نسبه فى تاريخ الطبرى (ج 7ص 27)، وانظر هذه الجملة فى عيون الأخبار (ج 1ص 128)
(3) انظر الاصابة (ج 2ص 99)
(4) فى ح «استوثق» بثاء مثلثة بدل السين الثانية، وهو خطأ، والصواب «استوسق» بالسين كما فى الأصل.
(5) الزيادة من ح
(6) سعيد بن الأوس هذا لم أعرفه، ولم أجده فى شىء من الكتب التى بين يدي.
(7) رسم فى الأصلين «لأن لا».(1/221)
أنت وأمّي، إنى أخاف عليك الطّلب، فجعل ينظر إليّ ويتبسّم، وأنا أكرّر عليه القول، ولا يزيدني عن النظر والتبسّم شيئا!! فجعلت أعجب من ذلك؟
فالتفتّ فاذا أنا بفارس، فصحت: بأبي وأمى، خلفك، فانكفأ إلى الفارس فقنطرة. فقلت: اركب جعلت فداك فرسه وانج، فاني أخاف عليك حثيث الطّلب، فجعل ينظر إليّ ويتبسّم. قال: فتعلّقت ببعض الجدارات، وسعيت، فانتهيت إلى صور من أصوار الحرّة (1)، فأقمت فيه إلى الليل. فلما ضربني البرد التمست (2) وتحرّكت وقد غلبتني عيني فاذا أنا عريان! فعلمت أن تبسّمه كان من عريي وتحذيري.
قلت (3): كان بيننا وبين الإسماعيلية قتال في قلعة «شيزر» في سنة سبع وعشرين وخمس مائة، لعملة عملوها علينا، ملكوا بها حصن «شيزر»، وجماعتنا في ظاهر البلد ركاب، والشيخ العالم أبو عبد الله محمد بن يوسف بن المنيّرة (4) رحمه الله في دار والدي، يعلّم إخوتي رحمهم الله، فلما وقع الصّياح في الحصن تراكضنا وصعدنا في الحبال، والشيخ أبو عبد الله قد مضى إلى داره
__________
(1) الصور بفتح الصاد واسكان الواو: جماعة النخل الصغار، وكذلك «الصير» بكسر الصاد، والجمع «صيران» بكسرها أيضا، والجمع الذي هنا قياسى، كثوب وأثواب. وفى ح «أسوار» بالسين وهو خطأ.
(2) كذا فى الأصلين.
(3) فى ح «والمؤلف يقول:
قلت»
(4) سبق فى (ص 101) أن حققنا أن هذا الشيخ توفى سنة 503، والمؤلف يحكى عنه هنا حكاية وقعت سنة 527، فاما أن يكون ابن المنيرة الذى ذكر هنا وفيما مضى غير ابن المنيرة المؤلف المعروف، وهو بعيد، وإما أن يكون أسامة مؤلف هذا الكتاب نسي تاريخ الحادثة حين ألف كتابه هذا، وأنها وقعت قبل وفاة شيخه ابن المنيرة، وله عذر فى نسيانه، فانه ألف كتابه بعد أن تجاوز التسعين، أى بعد سنة 578، كما سيذكر ذلك فيما يأتى فى آخر (باب الشجاعة) وهذا هو الراجح عندى، ويؤيده أن وقعة استيلاء الاسماعيلية على حصن شيزر غدرا كانت فى سنة 502في عيد الفصح للنصارى وهو يوافق أوائل سنة 1109ميلادية، وقد ذكر الحادث تفصيلا ابن الأثير فى تاريخه (ج 10ص 199)(1/222)
الى الجامع، وكانت داره في الجامع، فوصل عمّي «فخر الدّين أبو كامل شافع بن عليّ رحمه الله» الى تحت الجامع، والشيخ أبو عبد الله مشرف عليه، فقال له صاحب لعمّي: يا شيخ أبا عبد الله (1)، دلّي (2) لنا حبلا، قال: ما عندي حبل، قال: فدلّ عمامتك! فأبطأ عليه، فتجاوزه وطلع من مكان آخر. فقيل للشيخ أبي عبد الله: كنت عريان وعلى رأسك عمامة؟! قال: لا، ما كان عليّ عمامة! ثم أفكر فقال: بلى والله، قد قال لي وهب بن التّنوخي وهو مع الأمير فخر الدين أبي كامل شافع: دلّي (3) لنا حبلا، قلت: ما عندي حبل، فقال: دلّ لنا عمامتك: ولو لم يكن قد رأى عليّ عمامة ما قال ذلك!! فكان رحمه الله عريان وعليه عمامة، ولا يدري بالحال التي هو عليها، لرعبه وضعف قلبه!! عن مصعب الزبيري قال: حدثني مصعب بن عثمان قال قال عليّ بن يزيد بن ركانة (4): ما نفعتني قوّتي قطّ كما نفعتني مرّة بأرض الرّوم: كنت غازيا، فمررت وأصحابي في يوم شديد الحرّ، وإذا أنا بنهر جار على رضراض (5) لم أر مثل صفائه وشدّة برده، فقلت لأصحابي: تمهّلوا في سيركم حتى أدخل في هذا النهر فأغتسل ثم ألحقكم. ومضى أصحابي، ونزلت عن دابّتي، ووضعت سلاحي، فلما دخلت النهر رفعت رأسي، إذا أنا بعلجين على رأسي قد أخذا سلاحي ودابتي، وقالا: اخرج، فقلت: ها أناذا (6) لديكما، وأريتهما أنني قد
__________
(1) فى ح «يا شيخ أبى عبد الله».
(2) فى ح «دلّ» فى الموضعين وهو أحسن
(3) فى ح «دلّ» فى الموضعين وهو أحسن
(4) في الأصلين «على بن زيد بن ركانة» وهو خطأ، وعليّ هذا أحد رواة الحديث، وأبوه وجده صحابيان. وجده ركانة كان من أشد الناس. انظر الاصابة (ج 2ص 213212) و (ج 6ص 340)
(5) الرضراض: الحصى الذى يجرى عليه الماء.
(6) فى الأصلين «ها أنا إذا» وهو غير صواب.(1/223)
خفّت منهما، وثفارقت (1) لهما، ثم رفعت يدي إلى الواحد ويدي الأخرى إلى الآخر، فلما أخذاني جذبتهما جذبة واحدة فألقيتهما في الماء، فما زلت أغطّ هذا مرة وهذا مرّة حتى قتلتهما. فخرجت ولبست سلاحي وركبت دابتي ولحقت أصحابي.
قلت: جرى مثل هذا بعسقلان، لرجل من تباة (2) البلد، يقال له «ابن الجلّنار» كان مشغوفا بالصيد بالبواشق (3)، وكان مشهورا بالقوّة. فركب وخرج من عسقلان وعلى يده باشق يتصيّد به في شجر الجمّيز، فخرج عليه فارسان من العرب، وقالا: انزل، فنزل عن فرسه، وقال لهما: لكما في هذا الطير حاجة؟ قالا: لا. فشدّ الباشق على غصن شجرة، ثم اختلفا على مهاميز حلي في رجليه، فقال لهما: أنتما اثنان، يأخذ كلّ واحد منكما فردة مهماز، ومدّ رجليه لهما، فجلسا يقلعان المهاميز من رجليه، فمسك (4) رقبة ذا، ورقبة ذا، وضرب رأسيهما بعضهما (5) ببعض، ولا يقدران على الخلاص من يده حتى قتلهما، وأخذ خيلهما وسلاحهما وباشقه ودخل المدينة! وقد كان عندنا بشيزر رجل يقال له «محمد [بن] (6) البشيبش (7)» كان يخدم جدّي «سديد الملك أبو الحسن (8) علي بن نصر بن منقذ (9) الكناني
__________
(1) بتقديم الفاء على القاف، أى تظاهر بالفرق وهو الخوف.
(2) رسمت الكلمة فى الأصل «ساه» بدون نقط، ولعلها «تباة» جمع «تاب» بوزن «غاز وغزاة» من قولهم «نبا إذا غزا وغنم وسبى» وهذا الفعل من باب «دعا». وفى ح «من أعيان البلد»
(3) فى الاصلين «بالبواشيق» بزيادة الياء، والصواب بحذفها بوزن «عساكر» كما فى معيار اللغة، ومفرذة «باشق» بفتح الشين، وهو طائر من أصغر الجوارح يصاد به، والكلمة معربة عن «باشه»
(4) يقال:
«مسك بالشىء وأمسك ومسك بتشديد السين» كلها يتعدى بالحرف ولا يتعدى بنفسه.
(5) فى الأصل «بعضها» وهو خطأ
(6) الزيادة من ح
(7) لم نجد ضبطه، وفى ح «البشيش» بحذف الباء قبل الشين الأخيرة.
(8) كذا فى الأصلين.
(9) هو: على بن مقلد بتشديد اللام المفتوحة بن نصر بن منقذ، انظر الاعتبار للمؤلف (ص 54و 184)(1/224)
رحمه الله» وكيلا على ضيعة ببلد «كفر طاب» (1) يقال لها «أرجة» (2)
أدركته أنا وهو شيخ كبير، وكان أيّدا (3) شجاعا. قال: جئت يوما في الحرّ إلى ركيّة أرجة لأشرب، فرأيت رجلا عليه معرقة (4) امرأة، وعلى كتفه كارة (5) ثياب، فتداخلني الطمع فيه، فقلت: حطّ الكارة، فأظهر لي خوفا! وقال: هايا مولاي! وحطّها عن كتفه، فتقدّمت إليها لأخذها، فمدّ يده، فقبض على ركبتي ورفعتي من الأرض، ثم ضرب بي الأرض، وبرك عليّ، وأخرج من وسطه سكّينا كشعلة النار ليقتلني، فقلت: الصّنيعة! فنهض عني وخلاني، وقال: لا تحتقر الرّجال، ثم فتح الكارة فأخرج منها قميصا دفعه إليّ، فقلت له: بالله من أين أقبلت؟ قال من المعرّة، فتحت البارحة دكّان الصّبغ فأخذت كلّ ما (6) كان فيها، ثم أخذ كارته ومشى.
قال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد [رضي الله عنهما] (7) يوم صفّين لمعاوية:
ما رأيت أعجب منك يا أمير المؤمنين! إن كنت لتتقدّم حتّى أقول: أحبّ الموت، ثم تستأخر حتى أقول: أراد الهرب!! قال: يا عبد الرحمن: إني والله ما أتقدم لأقتل، ولا أتأخّر لأهرب، ولكن أتقدم إذا كان التقدّم غنما وأتأخر إذا كان التأخر حزما. كما قال الكنانيّ:
شجاعا (8) إذا ما أمكنتني فرصة ... فإن لم تكنّ لي فرصة فجبان
__________
(1) بلد بين المعرة وحلب
(2) ضبطت فى الأصل بفتح الجيم، ولم أجد ذكرا لها فى غير هذا الموضع
(3) بتشديد الياء، أى: قوىّ.
(4) كذا فى الأصلين، وأظنه نوعا من اللباس.
(5) الكارة: ما يجمع ويشد ويحمل على الظهر من الثياب، جمعها كارات.
وسميت بذلك لأنها تكور فى ثوب واحد وتحمل.
(6) فى الأصلين «كلما»
(7) الزيادة من ح وعبد الرحمن هذا له ترجمة فى الاصابة (ج 5ص 6968)
(8) كذا فى الأصلين، ولعله منصوب بكلام سابق فى بيت قبله، وقد تمثل بالبيت معاوية مرة أخرى لعمرو بن العاص حين قال له «لقد أعيانى أن أعلم أحبان أنت أم شجاع؟» انظر عيون الأخبار (ج 1ص 163) ولكن الرواية هناك «شجاع» بالرفع.(1/225)
قلت: هذا كلام خبير بالحرب. وهو الذريعة إلى الظّفر أو السلامة، إلّا مع الاضطرار. فانّ المضطرّ لا يليق به إلّا الإقدام، فان كان في الأجل فسحة فهو ينجو مشكورا، وإن انتهت المدة فموت المقدم (1) أكرم من موت المولّي.
قال الحجاج بن يوسف لوازع بن ذوالة الكلبي: كيف قتلت همّام بن قبيصة النمري (2)؟ قال: مرّ بي والناس منهزمون، ولو شاء أن يذهب لذهب، فلما رآني قصد لي، فضربته وضربني، وسقط، فحاول القيام فلم يقدر، فقال وهو في الموت:
تعست ابن (3) ذات النّوف (4) أجهز على امرىء ... يرى الموت خيرا من فرار وأكرما
ولا تتركنّي بالحشاشة (5) إنّني ... صبور إذا ما النّكس (6) مثلك أحجما
فدنوت منه، فقال: أجهز عليّ قبّحك الله! فقد كنت أحبّ أن يلي هذا منّي من هو أربط جأشا منك! فاحتززت رأسه فأتيت به مروان بن الحكم.
وعن رجل من تميم، قال: جاء رجل من كلب يوم المرج (7) برأس ابن عمرو العقيلي إلى مروان بن الحكم، فقال له مروان: من قتل هذا؟ قال: أنا.
قال: كذبت. قال: المكذّب أكذب! أنا والله قتلته، مرّ وهو تعدو به فرسه وهو يقول:
__________
(1) ضبط في الأصل بتشديد الدال، وهو خطأ.
(2) فى الأصلين «النميرى» وصححناه من تاريخ الطبرى (ج 6ص 172)
(3) كتب فى الأصلين «بن» بدون ألف.
(4) النوف: الفرج، انظر لسان العرب (ج 11ص 258)
(5) الحشاشة بضم الحاء المهملة: روح القلب ورمق الحياة، وفى رواية لسان العرب «كالخشاشة» بالكاف وبالخاء المعجمة، ويظهر أنه تصحيف.
(6) النكس بكسر النون: الرجل الضعيف
(7) هو يوم مرج راهط، انظر تاريخ الطبري (ج 7ص 6437)(1/226)
قد طاب ورد الموت مروان فرد ... لا تحسبنّ العيش أدنى للرّشد (1)
لا خير في طول الحياة فى كبد (2)
قال: فطعنته فسقط، فنزلت إليه وهو مثبت (3)، وهو يقول:
بعدا وسحقا لامرئ عاش في ... ذلّ وفي كفّيه عضب صقيل
وقال مؤلف الكتاب (4):
سل بى كماة الوغى فى كلّ معترك ... يضيق بالنّفس فيه صدر ذي الياس
ينبّئووك بأنّي في مضايقها ... ثبت إذا الخوف هزّ الشّاهق الرّاسي
أخوضها كشهاب القذف يصحبني ... عضب كبرق سرى أو ضوء مقباس
إذا ضربت به قرنا أنازله ... أو جاه (5) عن عائد يغشاه أو آسي
وقال أفلاطون: الشجاعة من أقوى فضائل العالم، لأنّها تبرز ما حاوله من القول أو الفعل.
والشجاعة تكون في الضعيف البدن، الخلو من العمل بشيء من السّلاح، فيسمّى صاحبها شجاعا، ألا ترى أن سقراط كان يعدّ في الشجعان، وما بارز عدوّا، ولا حمل شيئا من السّلاح! ولكنّه قدّمت اليه شربة السّمّ وهو يتكلّم في النّفس مع ملأ عنده، فما تغيّر حتى انقضى كلامه، ثم شربها فمات!.
وعن يوسف بن ابراهيم: أن أبا دلف القاسم بن عيسى رحمه الله كان يشكو نقصان حاسيّة الشمّ والذوق، فسألته عن الوقت الذي بدأ به هذا؟ فقال:
__________
(1) فى الأصلين «الرشد» بدون اللام، وهو خطأ.
(2) الكبد بفتح الباء:
الشدة والعناء والمشقة. وفى ح «كمد» بالميم. وما هنا أحسن.
(3) يقال: «أثبتته جراحة» أى أثقلته فلم يتحرك
(4) في ح «وقال الأمير أسامة مؤلف الكتاب»
(5) أوجاه بالحيم:
أي زجره ونحاه ورده.(1/227)
وجدته فى شبيبتي، وله خبر عجيب!: كانت والدتي ترخّم اسمي استصغارا لمحلي، فتقول: فعل «قاس»، وابعثوا إلى «قاس» فيكرثني (1) ذلك، فاني لجالس في بعض الليالي بين جواريّ وهنّ يغنّين وقد ابتدأت الشّرب (2):
إذ دخلت عليّ جارية لها مكينة عندها فقالت: إنّ سيدتي تقول (3): أنا كنت أعرف بك ممّن يلومني فيك! أنسيغ النّبيذ وقد قتل أخاك ابن عمك؟! وانصرفت. فتسرّعت إلى رمحي، وركبت فرسي وحدي، لا أنتظر غلاما، ولا أتلبّث على صاحب. فاستقبلني وهو يزئر (4) زئير الأسد، وفي يده عمود حديد، فلمّا رأيته حملت عليه برمحي، فطعنته وأثبتّه، فسبح في طعنته، وما احتمل من ألم السّباحة فيها حتّى ضربني بذلك العمود في رأسي، وكانت تحت عمامتي زرديّة، فوقتني حدّ ضربته، ولو تمكّن منّي لأبارني بعموده. فنقص من ذلك الوقت حسّ شمّي وذوقي، وخرّ لوجهه، فاحترزت رأسه، ودخلت به إلى أمّي وهي تصلي، فوضعته بين يديها، فلما فرغت من صلاتها، قالت:
أحسن قاسم! ثم دعت بطيب فضمّخته، وبعثت به الى أمّه، وقالت لرسولها:
قل لها: عزيز عليّ أن نتقاطع أرحامنا، ونتشاغل بسفك دمائنا عن دماء أعدائنا! قد وجّهت إليك بمن جرّعني كأس الثّكل (5)، ولم يعلم أن قاتل ولدي مقتول، فخذي بحظّك من الفجيعة عليه، ووقدة الثّكل فيه!! وقال يزيد بن سلمة الوشّاء (6): سرنا في رفقة صغيرة كانت فيها قبة
__________
(1) كرثة الأمر بالثاء المثلثة: ساءه واشتد عليه وبلغ منه المشقة.
(2) في ح «للشرب»
(3) فى الأصلين «فقالت نقول إن سيدتى» وهو تقديم وتأخير» وهو خطأ.
(4) فى ح «يزرأ» وكل صحيح، لأن الفعل من بابى «ضرب ونفع»
(5) بضم الثاء مع إسكان الكاف، أو بفتحهما معا
(6) سيأتى اسم أبيه فى أثناء القصة «مسلمة» بزيادة الميم، ويحتاج إلى تحقيق.(1/228)
مستّرة حولها خدم وعجائز، فتوهّمتها قبة جارية لبعض الطّاهريّة. وكان في رفقتنا شاب كثير المزاح حلو النّادرة، فقرب مني في المسايرة، فكان مما جرى بيني وبينه أن سألته عن القبة: لمن هي من حرم الطاهرية؟ فقال لي:
فيها شاب مؤنّث من أبنائهم غير متماسك. فجعلته بالي، فكنت ربما رأيته يتطلّع من فروج الأغشية، ثم رأيته بعد ذلك وقد رفع له بعض السّجوف.
واتّفق أن أفضينا في المسير الى كرمان، فاعترض القافلة أسد في خلقة هائلة، فتخوّف أهل الرّفقة منه، وقيل لهم: إنه لا يقلع عن الرفقة إلّا بافتراس بعضهم، فاجتمع من في الرفقة وماجوا، وارتفع لغطهم، وكنت قريبا من قبة المؤنث، فسمعته يقول: يادادا! ما للناس؟ قالت: خير يا سيدي، وبرزت لنا عجوز في عنقها سبحة، فقالت: يا هؤلاء، قد وجب حقّ صحبتنا عليكم، وإن علم هذا الفتى بخبر الأسد ثكلناه، فاسكتوا، فقال لها المزّاح: نحن في شغل بأنفسنا.
وأعاد المؤنّث القول: يادادا! ما للناس؟ فصاح المزّاح: الأسد قد وقف لنا يريد أن يفترس منا واحدا. فخرج من القبة ومعه سيف مشهور ودرقة، ووثب الى الأرض، وأجال بصره حتى تأمّل الأسد، ثم قصده ولم يواجهه، فما شكّ أحد منّا أنه يفترسه، فانفتل انفتالة وضرب الأسد فحلّ كتفه، وضربه أخرى ففرّغ حشوته (1)، وهو يروغ روغانا لم يتمكّن الأسد منه معه، ثم احتزّ رأسه وحمله في درقته والناس ينظرون، ورجع فألقى ما في يده، وقال:
يادادا! عييت والله! فلم يبق منا رئيس حتى غمّر يديه ورجليه. قال يزيد بن مسلمة (2): فقلت له: لم راوغته يا سيدي وأنت قادر على قتله بالمكافحة؟
__________
(1) الحشوة بكسر الحاء وبضمها الأمعاء.
(2) مضى اسمه فى أول القصة «سلمة» بدون الميم(1/229)
فقال: أردت أن يسلم وجهه من ضربتي وتكون ضرباتي ضربات من كرّ عليه وهو منهزم! فكان المزّاح بعد ذلك يقول: إذا كان التخنيث فليكن مثل تخنيث الطاهري! وما زلنا به آمنين حتى دخلنا بغداد.
الشيء يذكر بالشىء (1): كان عندنا بشيزر مخنّث يحضر الأعراس والجنائز، اسمه «سبيكة» اذا وقع القتال لبس درعا وأخذ سيفه وترسه، وقال: بطل التخنيث! وخرج يضرب بالسيف.
ومن العار على السّيوف أن يحملها ويضرب بها المخانيث (2).
وروى أحمد بن أبي يعقوب قال: أحضر داود بن علي بن عبد الله بن العباس جماعة من بني أميّة يضرب أعناقهم، وشرع السّيّاف فيهم، فبرقت برقة، فهمس غلام منهم بهذين البيتين:
تألّق البرق نجديّا فقلت له: ... يا أيّها البرق إنّي عنك مشغول
يكفيك منّي عدوّ ثائر حنق ... في كفّه كحباب (3) الماء مصقول
فقال داوود بن علي: ما تقول؟ قال: بيتين قلتهما في هذه الساعة، وأنشده إياهما. فقال: وما كان لك في وقوع السيف فيكم وزاع؟! ثم قال للسيّاف:
ما ينبغي أن تستبقي لنا عدوّا من شجاعته أن يعمل الشعر الجيد والسيف على ودجه (4)، فضرب عنقه.
وأعجب من هذا ما جرى لهدبة بن خشرم العذريّ، وقد أخرج من
__________
(1) فى ح «الشىء بالشىء يذكر»
(2) هذا الجمع غير معروف.
(3) حباب الماء بفتح الحاء المهملة طرائقه، وضبط فى الأصل بضم الحاء، وهو خطأ.
(4) الودج: عرق معروف فى العنق(1/230)
السّجن إلى القتل، وحوله أهله وإخوانه يشجعونه ويصبّرونه، فقال: لا تظنّوا أن الموت عندي صعب، ودليل سهولته عليّ أني إذا ضربت رقبتي مددت رجلي وقبضتها ثلاث مرات! فلما ضربت رقبته فعل ذلك (1)!!
حكاية
(2)
وشاهدت رجلا من أجنادنا من الأكراد ينعت بزهر الدّولة بختيار «القبرصي» (3)، سمّي بذلك لصغر (4) خلقته، وكان رحمه الله من خيار المسلمين في الشجاعة والدّين، وقد ظهر عندنا أسد، فحمل عليه، فاستقبله الأسد فحاص (5)
به الحصان فرماه، فجاءه الأسد، فرفع رجله لقّمها الأسد، وبادرناه فقتلنا الأسد، فقلنا له: يا زهر الدولة، ما معنى رفع رجلك إلى الأسد؟ قال رأيتها أكسى (6)
ما فيّ، في الرّان والساق موزا والخفّ (7)، فقلت إن أمسك أضلاعي كسرها، وإن مسك رأسي فجشه (8)، يشتغل برجلي إلى أن يفرّج الله! فعجبنا من حضور فكره في ذلك الوقت (9).
__________
(1) انظر قصته مفصلة فى الكامل للمبرد (ج 2ص 305303) والشعراء لابن قتيبة (ص 438434) والأغانى (ج 21ص 177169)
(2) هذه الحكاية حكاها المؤلف فى الاعتبار بسياق مقارب لما هنا (ص 8786)
(3) ذكر الاستاذ فليب حتى أن فى طبعة در نبورغ «القرصى» بدون الباء، وأن الباء منقوطة فى الأصل. وكذلك الباء منقوطة فى الأصلين هنا. ولعله بلفظ النسبة الى جزيرة «قبرس» ولكن اسمها وارد فى كتب العرب بالسين لا بالصاد.
(4) ضبط فى الأصل بضم الصاد، وهو خطأ.
(5) بالحاء والصاد المهملتين، وفى الأصلين «فحاض» بالمعجمتين، وهو خطأ
(6) فى ح «أخشن» وهو خطأ.
وما هنا موافق للاعتبار.
(7) فى الاعتبار «فيها الرانات والخف والساق موزا، وهذه الجملة سقطت من ح
(8) فجشه بالجيم وفدشه بالدال: بمعنى: شدخه، وفى الأصلين «فحشه» بالخاء، وهو خطأ
(9) فى الاعتبار: «فهذا حضره العقل فى موضع تزول فيه العقول فالانسان أحوج الى العقل من كل ما سواه، وهو محمود عند العاقل والجاهل»(1/231)
حكاية
وعن أبي يعقوب قال: كنت قائما بين يدي الرّشيد وقد قدّم إليه جماعة من الملحدين، فدعا بالسيّاف لقتلهم، فلما رآه شيخ منهم اضطرب وجزع، فقال له شابّ منهم: يا شيخ، ترتاع من سيف هذا وفي بدنك أربعة أسياف لا بدّ من أن (1) يقتلك أحدها (2)؟! وهي: الدّم والبلغم والصّفراء والسوداء؟! فتماسك الشيخ. فأمر الرشيد بأن يقدّم قتل الشابّ، وقال: هذا الغلام فتنة من فتنهم.
قال (3) عامر بن الطّفيل:
سل الخيل عنّي: هل علاها إذا عدت ... إلى الرّوع بالأبطال من فارس مثلي؟ (4)
وهل كرّها كرّي إذا هي أقبلت ... تواخط بالأبطال في الحلق الجدل؟ (5)
إذا حال منها عارض دون عارض ... كثيف وأبدت حدّ أنيابها العصل (6)
__________
(1) فى ح «لابد أن»
(2) فى ح «أحدهما» وهو خطأ
(3) فى ح «وقال».
وأبيات عامر الآتية صححها وشرحها أخي السيد محمود محمد شاكر.
(4) هذه الأبيات لم نجد لها أصلا في ديوان عامر بن الطفيل المطبوع فى أوربا ولا فى غيره من الكتب، وقد اجتهدنا فى ضبطها وتصحيحها ورد تصحيفها إلى صواب الرأى، ولذلك عمدنا إلى شرح كثير من ألفاظها: فى الأصل «غدت» بالمعجمة وفي «ح» «عدت» بالمهملة وهو الصواب
(5) فى الأصلين، «تواحط» بالحاء المهملة، ولعل الصواب ما أثبتناه، ونص اللّغة: يقال فى السير وخط يخط إذا أسرع. «والحلق» بفتحتين جمع حلقة وهي ما ينسج منها الدرع. وفى الأصلين «الجزل» بالزاى وهو خطا. يقال درع جدلاء ومجدولة وجدل محكمة النسج. وهذا البيت خير فى الاستشهاد من بيت أبى ذؤيب الذى استشهد به أصحاب اللغة لهذا المعنى وهو قوله فهنّ كعقبان الشريح جوانح ... وهم فوقها مستلئمو حلق الجدل
(6) فى «ح» «العضل» بالمعجمة وهو خطا. العارض: هنا. اسد الأفق من الخيل لكثرته، شبيهه بعارض السحاب والجراد، والضمير فى قوله «ابدت» يعنى الحرب. شبهها بالوحش، ولذلك جعل لها أنيابا عصلا. والأعصل من الأنياب الملتوى المعوج وهو أشد الأنياب وأوثقها(1/232)
كشفت قناع الموت بيني وبينها ... وأشليتها حتّى تقوم على رجل (1)
وأبسست إبساسا بها وامتريتها ... فدرّت غزارا بالتّليل وبالنّبل (2)
وكان الّذي يلقى الرّدى من لقيته ... وما أشبه الآجال من فارس قبلي
ألست بفيف الرّيح أوّل مقدم ... على رحبي موت مراجلها تغلي؟! (3)
هتكت بنصل السّيف أقراب مسهر ... ولا شيء أسنى بالكرام من القتل (4)
قال الشيخ أبو العلاء (5) بن سليمان المعرّي:
من السّعد في دنياك أن يهلك الفتى ... بهيجاء يغشى أهلها الطّعن والضّربا
فإنّ قبيحا بالمسوّد أن يرى (6) ... على فرشه يشكو إلى البقر (7) الكربا!
__________
(1) يقال: «أشلى الشاة والكلب وغيرهما» دعاها باسمائها لتاتيه. واعلم أن سياق اللفظ فى هذا الشعر من أحسن السياق
(2) هذا البيت ساقط من «ح». والابساس أن يقول للناقة: «بس بس» بالضم والتشديد، وهو الصويت الذى تسكن به الناقة عند الحلب، ويقال ذلك لغير الابل أيضا. ومرى الناقة وامتراها مسح ضرعها لتدر من لبنها. والتليل: هكذا بالأصلين ونص اللغة رمح «متل» قوى منتصب شديد يتل به أى يصرع، والتليل الصريع، فلعله سمى الرمح بما يكون منه
(3) فى الأصلين «ثقيف الريح». وفيف الريح موضع بالدهناء، أغار فيه على بنى عامر بن صعصعة قوم عامر بن الطفيل بنو الحارث بن كعب من مذحج وقبائل من مراد وجعفى وزبيد وخثعم، واقتتلوا.
وفى ذلك اليوم أصيبت عين عامر بن الطفيل وفيها يقول لعمرى وما عمرى علىّ بهيّن ... لقد شان حرّ الوجه طعنة مسهر
فبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا ... جبانا فما عذرى لدى كلّ محضر
وقوله «رحيي» مثنى رحاء ورحا الموت معظمه، وأنا أشك فى هذه اللفظة.
(4) الأقراب: جمع «قرب» بضم فسكون، وهو الخاصرة من لدن الشاكلة إلى مراق البطن.
ومسهر: هو مسهر بن يزيد الحارثي الذي أصاب عين عامر يوم فيفت الريح كما ذكرنا. وفى الأصلين «أسنا»
(5) رسم فى ح «أبو العلى» وهذان البيتان من قطعة فى (لزوم ما لا يلزم) (ج 1ص 80)
(6) فى اللزوم «بالمسود ضجعة»
(7) فى اللزوم «إلى النفر» وهو تصحيف ظاهر.(1/233)
وقال علويّ البصرة (1): [نقلها ابن خلكان للأمير قرواش رحمه الله تعالى] (2)
من كان يحمد أو يذمّ مورّثا ... للمال من آبائه وجدوده
فأنا امرؤ لله أحمد وحده ... حمدا كفيلا لي بحسن مزيده
ولأبيض كالملح ما جرّدته ... إلّا وبان الموت في تجريده
ولأسمر لدن الكعوب كأنّما ... ماء المنيّة كامن في عوده
بهما حويت المال (3) إلّا أنّني ... سلّطت جود يدي على تبديده
وقال مؤلف الكتاب:
سأنفق مالي في اكتساب مكارم ... أعيش بها بعد الممات مخلّدا
وأسعى إلى الهيجاء لا أرهب الرّدى (4) ... ولا أتخشّى عاملا ومهنّدا
بكلّ فتى يلقى المنيّة باسما ... كأنّ له في الموت عيشا مجدّدا
__________
(1) هذه الأبيات نقلها الباخرزى فى (دمية القصر ص 14) ونسبها للأمير أبى المنيع قرواش بكسر القاف وإسكان الراء بن المقلد بن المسيب بن رافع، صاحب الموصل، ونقلها ابن خلكان عن الدمية (ج 2ص 152) ونسبها لقراوش أيضا فى ترجمة والده الأمير حسام الدولة المقلد بفتح اللام المشدودة ونص رواية الدمية بعد البيت الأول:
إنّي امرؤ لله أشكر وحده ... شكرا كثيرا جالبا لمزيده
لي أشقر سمح العنان مغاور ... يعطيك ما يرضيك من مجهوده
ومهنّد عضب إذا جرّدته ... خلت البروق تموج فى تجريده
ومثقّف لدن السّنان كأنّما ... أمّ المنايا ركّبت في عوده
ورواية ابن خلكان تخالف الدمية فى بعض الألفاظ.
(2) هذه الجملة مزيدة فى الأصل بخط آخر، فاثبتناها كما هي
(3) فى الدمية وابن خلكان «وبذا حويت المال»
(4) فى ح «العدا» وكتب بجوارها «الردا» بالألف، وعليها علامة أنها نسخة أخرى.(1/234)
خإن نلت ما أرجو فللمجد ثمّ لي ... وإن متّ خلّفت الثّناء المؤبّدا
وقال مؤلف الكتاب أيضا:
قلبي وصبري إلفان مذ خلقا ... تقاسما صادقين لا افترقا
أمشي الهوينا والخطب في طلبي ... يوضع طورا وتارة عنقا (1)
أحنو ضلوعي في كلّ حادثة ... على فؤاد لا يعرف القلقا
لا يزدهيه خوف الحمام ولا ... عهدته في ملمّة خفقا
وقال مالك بن حريم الهمداني (2) لعمرو بن معدي [كرب] (3):
يا عمرو لو أبصرتني ... لرفوتني في الخيل رفوا (4)
للقيت منّي عربدا ... يقطو إلى الفرسان قطوا (5)
لمّا رأيت نساءنا ... يدخلن تحت البيت حبوا
وسمعت زجر الخيل في ... جوّ الظّلام هبي وهبوا (6)
في فيلق ملمومة ... تعطو على النّجدات عطوا (7)
__________
(1) العنق بفتح العين والنون: السير المنبسط، وضبط في الأصل بضم العين، وهو خطأ.
(2) حريم: بفتح الحاء المهملة وكسر الراء، والهمداني: باسكان الميم وبالدال المهملة، وفى الأصل بالذال المعجمة، وهو خطأ. ومالك هذا من لصوص العرب.
(3) الزيادة من ح. وهذه الأبيات لم أجدها في شىء مما بين يدي من المصادر، وقد صححها أخي السيد محمود محمد شاكر.
(4) هكذا بالأصل وأظنها «رتوتنى بالخيل رتوا» يريد شد من أمره وقواه وأعانه
(5) العربد: الحية الخفيفة والضئيلة، وهى أخبث الحيات عضة. والقطو: تقارب الخطو من النشاط والخفة
(6) فى الأصلين «هبا» والصواب ما أثبتناه، وهو زجر للفرس، أى توسعى وتباعدى. ولم نجد «هبوا» ولعلها من هذا المعنى فى زجر الخيل.
(7) الفيلق: الكتيبة العظيمة. وفى الأصلين «ملهومة» بالهاء، وهو خطا، والملمومة والململمة المجتمعة الكثيفة. والنجدات: الشدائد جمع نجدة. وقوله «أعطو على النجدات عطوا» لم نفهمه، ولعله «أغطو على النجدات غطوا» بالغين المعجمة: من قولهم فى نص اللغة: وكل شىء ارتفع وطال على شيء فقد غطا عليه، ومنه غطا عليهم البلاء، أى: أصابهم وشملهم فغلبهم.
أقبلت أفلي بالحسا ... م معا رؤوس القوم فلو (1)
والبيض تلمع بيننا ... تعصو بها الفرسان عصوا (2)
وقال عمرو بن معدي (3):(1/235)
__________
(7) الفيلق: الكتيبة العظيمة. وفى الأصلين «ملهومة» بالهاء، وهو خطا، والملمومة والململمة المجتمعة الكثيفة. والنجدات: الشدائد جمع نجدة. وقوله «أعطو على النجدات عطوا» لم نفهمه، ولعله «أغطو على النجدات غطوا» بالغين المعجمة: من قولهم فى نص اللغة: وكل شىء ارتفع وطال على شيء فقد غطا عليه، ومنه غطا عليهم البلاء، أى: أصابهم وشملهم فغلبهم.
أقبلت أفلي بالحسا ... م معا رؤوس القوم فلو (1)
والبيض تلمع بيننا ... تعصو بها الفرسان عصوا (2)
وقال عمرو بن معدي (3):
أعددت للهيجاء سا ... بغة وعدّاء علندى (4)
نهدا وذا شطب يقدّ البيض والأبدان قدّا (5)
لمّا رأيت نساءنا ... يفحصن بالمعزاء شدّا (6)
وبدت لميس كأنّها ... وجه النّهار (7) إذا تبدّى
نازلت كبشهم ولم ... أرمن نزال الكبش بدّا
هم ينذرون دمي وأن ... ذر إن لقيت بأن أشدّا (8)
قال قيس بن أبي حازم (9): حضر عمرو بن معدي كرب رحمه الله الناس يوم القادسيّة وهم يتقاتلون، فرماه رجل من العجم (10) بنشّابة فوقعت في كتفه، وكانت عليه درع حصينة، فلم تنفذ، وحمل عمرو على العلج فعانقه، وسقطا (11) إلى الأرض فقتله عمرو وسلبه، [ورجع بسلبه] (12) وهو يقول:
أنا أبو ثور وسيفي ذو النّون ... أضربهم ضرب غلام مجنون
يال زبيد (13) إنّهم يموتون
(1) فلى الرأس بالسيف فليا، وفلا فلوا: ضربه وقطعه
(2) عصا بسيفه يعصو: أخذه أخذ العصا فضرب به رؤوس القوم وعاث فيهم عيثا
(3) هذه الأبيات من قطعة فى الحماسة (ج 1 ص 4645) وشرح التبريزى (ج 1ص 9390)
(4) العلندى: الضخم الشديد من الخيل والابل
(5) النهد: الفرس الضخم الطويل، وذو الشطب: السيف، وشطبه: طرائقه
(6) المعزاء: الأرض الصلبة
(7) فى الحماسة: «كانها ... بدر السماء»
(8) «نذر» من بابى «ضرب» و «نصر»
(9) هذه الرواية فى الأغانى (ج 14ص 28) وانظر تاريخ الطبري (ج 4ص 117وص 140)
(10) فى الأغانى «من العرب» وهو خطا واضح
(11) فى ح «وسقط»
(12) الزيادة من الأغانى
(13) فى ح «يا آل زبيد» وهو يخل بالوزن.(1/236)
وشهد عمرو بن معدي القادسيّة وهو ابن مائة وستّ سنين، وقيل: ابن مائة وعشر سنين (1). ولما قتل العلج عبر جسر (2) القادسية هو وقيس بن مكشوح (3) ومالك بن الحارث الأشتر النّخعي رحمهم الله، وكان عمرو آخرهم، وكانت فرسه ضعيفة، فطلب غيرها، فأتي بفرس فأخذ بعكوة (4)
ذنبه وجلد (5) به الأرض، فأقعى الفرس، فردّه، وأتي بآخر ففعل به مثل ذلك، فتحلحل ولم يقع، فقال: هذا على كل حال أقوى من تلك. وقال لأصحابه: إني حامل وعابر الجسر، فان أسرعتم بمقدار جزر جزور وجدتموني وسيفي بيدي أقاتل به تلقاء وجهي، وإن أبطأتم وجدتموني قتيلا وقد قتلت وجزرت (6)! ثم انغمس فحمل في القوم، فقال بعضهم: يا بني زبيد، علام تدعون صاحبكم؟ فو الله ما أرى أن تدركوه حيّا. فحملوا، فانتهوا اليه وقد صرع عن فرسه، وهو آخذ برجل فرس رجل من العجم فأمسكها، وإن الفارس ليضرب الفرس فما يقدر أن يتحرك من يده. فلمّا غشيه أصحابه رمى العجميّ بنفسه وخلّى فرسه، فركبه عمرو، وقال: أنا أبو ثور! كدتم والله تفقدوني! قالوا: فأين فرسك؟ قال: ضربته نشّابة فشبّ فصرعني وعار (7).
نقلت من خط النّجيرمي (8) قال: كان الفند من الفرسان الشجعان القدماء،
__________
(1) هذه القصة فى الأغانى (ج 14ص 28)
(2) فى الأصل «حبر» وهو خطأ، وفى الأغانى «نهر»
(3) مكشوح: بالشين المعجمة، وفى الأغانى بالمهملة، وهو تصحيف. وقيس هذا هو ابن أخت عمرو بن معدى كرب، وكانا متباغضين، وله ترجمة فى أسد الغابة (ج 4 ص 227) والاصابة (ج 5ص 281280)
(4) العكوة: أصل الذنب حيث خلا من الشعر.
وهي بفتح العين، وقيل: يجوز ضمها.
(5) فى الأغانى «وأجلد» وهو خطأ.
(6) فى الأغانى «وجردت» وهو خطأ ولا معنى له.
(7) عار الفرس: انفلت وذهب ههنا وههنا. وفى ح «وعاده» وهو خطأ غريب.
(8) هو أبو اسحق ابراهيم بن عبد الله، له ترجمة فى معجم الأدباء (ج 1ص 279277) ومن مؤلفاته كتاب (أيمان العرب فى الجاهلية) طبع بالمطبعة السلفية بمصر سنة 3431(1/237)
وهو: شهل (1) بن شيبان (2) بن ربيعة بن زمّان (3)، وإنما سمّي «الفند» لأنّه شبّه بالقطعة من الجبل، وكان عظيما. وأمدّت بنو حنيفة يوم قضة (4)
بكر بن وائل بالفند، وقالوا: قد أمددناكم بألف رجل، وكان شيخا كبيرا يومئذ، فطعن مالك بن عوف بن الحارث بن زهير بن جشم وخلفه رديف له يقال له الثريار (5) بن مازن بن جشم بن عوف بن وائل بن الأوس:
فانتظمهما برمحه وقال (6):
أيا طعنة ما شيخ ... كبير يفن بال (7)
كجيب الدّفنس الورها ... ءريعت بعد إجفال (8)
تفتّيت بها إذ ك ... ره الشّكّة أمثالي (9)
وشهد الفند الزمّانيّ حرب بكر وتغلب وقد قارب المائة سنة، فأبلى بلاء حسنا، وكان يوم التّحالق الذي يقول فيه طرفة بن العبد (10):
__________
(1) شهل: بالشين المعجمة.
(2) فى الأصلين «سنان» وهو خطأ.
(3) فى الأصلين «زمام» وهو خطأ، و «زمان» بكسر الزاى وتشديد الميم وآخره نون. انظر الاشتقاق لابن دريد (ص 207) والمبهج لابن جني (ص 14) والتبريزي (ج 1ص 11)
(4) بكسر القاف وفتح الضاد المعجمة المخففة، وهى عقبة بعارض اليمامة، كانت بها وقعة بكر وتغلب العظمى، وهي حرب البسوس المشهورة. وضبطت فى الأصل بتشديد الصاد المهملة، وهو خطأ. ويوم قضة هو يوم التحالق الذى سيأتى ذكره. وانظر أخبار حرب البسوس فى الأغانى (ج 4ص 150139) والعقد الفريد (ج 3ص 9793) وانظر أيضا الأغانى (ج 20ص 144143).
(5) هكذا جاء هذا الاسم فى الأصل، وفى ح «الثريا» وفى شعراء الجاهلية (ص 241) «البزباز» ويحتاج الى تحقيق صحته.
(6) من هنا الى آخر الأبيات الثلاثة لا يوجد فى ح 5وهذه الأبيات من قطعة للفند فى الحماسة (ج 1ص 179) وشرح التبريزى (ج 2ص 5351) وشعراء الجاهلية (ص 243241)
(7) اليفن بفتح الفاء الشيخ الهرم.
(8) الدفنس:
الحمقاء، والورهاء: المتساقطة العقل.
(9) تفتيت: أى تخلقت باخلاق الفتيان. وفي الأصل «تغنيت» وهو تصحيف. والشكة: ما يلبس من السلاح.
(10) البيتان من قصدة فى ديوان طرفة بشرح الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطى (ص 6156) وفى شعراء الجاهلية (ص 314 315) وهما أيضا فى الأغانى (ج 4ص 143وج 20ص 143) والعقد (ج 3ص 97).(1/238)
سائلوا عنّا الّذي يعرفنا ... بقوانا (1) يوم تحلاق اللّمم
يوم تبدي البيض عن أسوقها ... وتلفّ (2) الخيل أعراج النّعم (3)
أنشد المبرّد لبعضهم:
ألم تعلمي يا عصم كيف حفيظتي ... إذا الشرّ خاضت جانبيه المجادح (4)
أفرّ حذار الشّرّ والشّرّ تاركي ... وأطعن في أنيابه وهو كالح
وأنشد المبرّد:
لعمرك ما دهري بزقّ وقينة ... وطرف وأثواب جياد ومطعم
ولكنّما دهري رواق يحفّه ... ثمانون ألفا من فصيح وأعجم
يقودون قبّ الخيل أرسانها القنا ... إذا غضبت جادت سماؤك بالدّم
وقال الزّبير بن عبد المطّلب:
ويذهب (5) نخوة المختال عنّي ... رقيق الحدّ ضربته صموت
بكفّي ماجد (6) لا عيب فيه ... إذا لقي الكريهة (7) يستميت
قال شبيل الفزاريّ:
قد علم المستأخرون في الوهل ... إذا السّيوف عريت من الخلل (8)
أنّ الفرار لا يزيد في الأجل
__________
(1) فى الأصلين «بعوانا» بالعين، وهو خطأ.
(2) فى الأصلين «وتكف» بالكاف، وهو خطأ
(3) أعراج: جمع «عرج» باسكان الراء مع فتح العين أو كسرها، وهو: من الابل ما بين السبعين إلى الثمانين، وقيل غير ذلك.
(4) عصمة: اسم امرأة، ورخم للنداء. والمجادح:
جمع «مجدح» بكسر الميم، وهو: ما يجدح به، أى يخلط، وهو خشبة طرفها ذو جوانب. وانظر هذا البيت فى لسان العرب (ج 3ص 244وج 15ص 302)
(5) فى حماسة ابن الشجرى (ص 51) «ويدفع» وما هنا موافق لرواية لسان العرب عن ثعلب (ج 2ص 360)
(6) فى ابن الشجرى «بكف مجرب»
(7) فى ابن الشجرى «إذا لاقى الكتيبة» ثم إن عيون الأخبار فيه بيت آخر من هذه القصيدة (ج 1ص 38)
(8) الخلل بكسر الخاء المعجمة:
جفون السيوف، واحدها «خله» بكسر الخاء وفتح اللام المشدودة.(1/239)
وقال قيس بن الخطيم من قصيدة (1):
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب
صدود الخدود والقنا متشاجر ... ولا تبرح (2) الأقدام عند التّضارب
أجالدهم يوم الحديقة حاسرا ... كأنّ يدي بالسّيف مخراق لاعب
قال الفضيل بن خديج (3): شهدت من مصعب بن الزّبير مشهدا، ورأيت منه شيئا ما علمته لأحد: إني لمعه في الوقعة التي قتل فيها، وقد أسلمه من أسلمه، وقتل وجوه من بقي معه: وهو لا يكرثه ذلك، وسمعته ينشد:
ونحن أناس لا نرى القتل سبّة ... على أحد يحمي الذّمار ويمنع
بنو الحرب أرضعنا به، غير فحّش، ... ولا نحن ممّا جرّت الحرب نفزع
جلاد على ريب الحوادث لا ترى ... على هالك عين لنا الدّهر تدمع
وأنشد مسلمة بن عبد الملك بعد قتل يزيد بن المهلّب قول ثابت قطنة (4):
يا ليت أسرتك الّذين تغيّبوا ... كانوا لنصرك يا يزيد شهودا (5)
فقال مسلمة: وأنا والله وددت ذلك: أنّهم كانوا يومئذ شهودا فسقيتهم بكأسه.
__________
(1) هي فى ديوانه (ص 1510) وهى 38بيتا.
(2) فى الأصلين «ولن تبرح» وصححناه من الديوان ومن حماسة البحترى (ص 4342)
(3) من أول هنا إلى آخر البيت «أغبردوني» سقط من ح. والفضيل بضم الفاء وخديج بفتح الخاء المعجمة، وفى الأصل «المفضل بن حديج» وهو خطا، صححناه من المشتبه للذهبى (ص 151) ولسان الميزان (ج 4ص 453)، والفضيل هذا له روايات كثيرة فى تاريخ الطبرى منثورة فيه من أوائل الجزء السادس إلى أوائل الثامن.
(4) هو أبو العلاء ثابت بن كعب، وقيل: ابن عبد الرحمن بن كعب، وهو شاعر فارس شجاع من شعراء الدولة الاموية، وكان في صحبة يزيد بن المهلب، وكان يوليه بعض أعماله، ولقب «قطنة» لأن عينه ذهبت بسهم أصابها، فكان يجعل عليها قطنة، انظر الشعراء لابن قتيبة (ص 401400) والأغانى (ج 13ص 5447) وهذه الحكاية فى الأغانى (ص 5352)
(5) في الأغانى: «كانوا ليومك با يزيد شهودا» وفى رواية أخرى فيه: «كانوا ليومك بالعراق شهودا».(1/240)
ومثله قول الآخر:
فوا أسفي أن لا أكون شهدته ... فطاحت شمالي عنده ويميني
وكنت لقيت الموت أحمر دونه ... كما كان يلقى الدّهر أغبردوني
قال أبو الحسن العسكري (1): لحق أبو دلف (2) أكراد قطعوا الطريق في عمله (3)، وقد أردف منهم فارس (4) رفيقا له خلفه، فطعنهما جميعا فأنفذ فيهما الرّمح، فتحدّث الناس: أنه أنفذ بطعنة واحدة فارسين. فلمّا قدم من وجهه (5)
دخل اليه بكر بن النّطّاح فأنشده (6):
قالوا: وينظم فارسين بطعنة ... يوم اللّقاء ولا يراه جليلا
لا تعجبوا لو أنّ طول قناته ... مبل (7) إذا نظم الفوارس ميلا
فأمر له أبو دلف بعشرة آلاف (8) درهم.
روي (9): أن دريد بن الصّمّة خرج في فوارس من بني جشم، حتى إذا كان بواد لبني كنانة، يقال له «الأخرم» (10)، وهو يريد الغارة على بني كنانة: رفع له رجل من ناحية الوادي، معه ظعينة، فلما نظر اليه قال لفارس من أصحابه: صح به أن خلّ الظعينة (11) وانج بنفسك وهو لا يعرفه
__________
(1) هذه القصة فى الأغاني (ج 17ص 155)، ونقلها بلفظ يخالف ماهنا ابن خلكان (ج 1 ص 536535).
(2) بفتح اللام، وضبط فى الأصل بضمها، وهو خطأ.
(3) فى الأصل «عملة» وهو خطأ.
(4) فى الأصلين «فارسا» وهو لحن.
(5) قوله «من وجهه» سقط من ح.
(6) البيتان فى الأمالى (ج 1ص 247) وقبلهما بيتان آخران.
(7) فى الأصلين «ميلا» وهو لحن.
(8) كتب فى الأصلين «ألف».
(9) هذه القصة فى الأغانى (ج 14ص 131129).
(10) بالخاء المعجمة، وفى ح بالمهملة.
(11) فى الأغانى «خل عن الظعينة».(1/241)
فانتهى اليه الرجل فصاح به وألحّ عليه، فلما أبى إلّا الإلحاح عليه ألقى زمام الناقة إلى الظعينة وقال:
سيري على رسلك سير الآمن ... سير رداح ذات جأش ساكن (1)
إنّ انثنائي دون قرني شائني ... فابلي بلائي واخبري وعايني
ثم حمل على الفارس فقتله، وعاد إلى زمام ظعينته نأخذه، فبعث دريد فارسا آخر لينظر ما صنع صاحبه، فرآه صريعا، فصاح به، فتصامم عليه (2)، فظنّ (3) أنه لم يسمع، فغشيه، فألقى الزمام الى الظعينة، ثم حمل على الفارس فصرعه، وهو يقول:
خلّ سبيل الحرّة المنيعه ... إنّك لاق دونها ربيعه
في كفّه خطّيّة مطيعه (4) ... أولا، فخذها طعنة سريعه
فالطّعن منّي في الوغى شريعه
فلما أبطأ (5) على دريد بعث في أثرهما نارسا آخر (6) لينظر ما صنع صاحباه، فانتهى اليهما [فرآهما] (7) صريعين، ونظر الفارس يقود ظعينته [ويجر رمحه] (8)، فقال له [الفارس] (9): خلّ عن الظعينة، فألقى اليها الزمام، وقال لها: اقصدي قصد البيوت، ثم أقبل عليه فقال:
ماذا تريد من شتيم عابس؟! (10) ... أما ترى (11) الفارس بعد الفارس؟!
أرداهما (12) عامل رمح يابس (13)
__________
(1) رداح: بفتح الراء، وضبط فى الأصل بكسرها، وهو خطأ. والرداح: المرأة العجزاء الثقيلة الأوراك، ولذلك يكون سيرها بطيئا.
(2) فى الأغانى «فتصامم عنه».
(3) فى الأصلين «ليظن» وصححناه من الأغانى.
(4) فى الأغانى «منيعه»
(5) فى الأصل «أبطى»
(6) كلمة «آخر» سقطت من ح
(7) الزيادة من الأغاني فى الثلاثة المواضع.
(8) الزيادة من الأغاني فى الثلاثة المواضع.
(9) الزيادة من الأغاني فى الثلاثة المواضع.
(10) الشتيم: الكرية الوجه القبيح.
(11) فى الأغانى «ألم تر».
(12) فى الأصل «أردهما» وهو خطأ
(13) كذا فى الأغاني، وفى الأصلين «نايس» بالنون والياء المثناة، وهو خطأ.(1/242)
ثم طعنه فصرعه، وانكسر رمحه، فارتاب دريد وظنّ أنهم قد أخذوا الظعينة وقتلوا الرجل (1)، فلحق بهم، فوجد ربيعة لا رمح معه، وقد دنا من الحيّ، ووجد القوم قد قتلوا. فقال له دريد: أيها الفارس، إني أضنّ (2) بمثلك على القتل، وإن الخيل ثائرة بأصحابها، ولا أرى معك رمحا، [وأراك حديث السنّ] فدونك [هذا] (3) الرّمح، فاني راجع إلى أصحابي، ومثبّطهم عنك. فأتى دريد أصحابه فقال: إن فارس الظعينة قد حماها، وقتل فوارسنا (4)، وانتزع رمحي، ولا طمع لكم فيه، فانصرف القوم، فقال دريد:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... حامي الظّعينة فارسا لم يقتل
أردى فوارس لم يكونوا نهزة (5) ... ثمّ استمر كأنّه لم يفعل
متهلّلا (6) تبدو أسرّة وجهه ... مثل الحسام جلته كفّ الصّيقل (7)
يزجي ظعينته ويسحب رمحه ... متوجّها يمناه نحو المنزل
وترى الفوارس من مخافة رمحه ... مثل البغاث خشين وقع الأجدل
يا ليت شعري من أبوه وأمّه؟! * يا صاح من يك مثله لم يجهل وقال ربيعة بن مكدّم في ذلك:
إن كان ينفعك السّؤال (8) فسائلي ... عنّي الظّعينة يوم وادي الأخرم
__________
(1) فى ح بتقديم القتل على الأخذ.
(2) فى الأصل «أظن» بالظاء، وهو خطأ، صححناه من ح
(3) الزيادة فى الموضعين من الأغاني.
(4) فى الأغانى «فوارسكم»
(5) النهزة: الشيء المعرض لكل أحد كالغنيمة.
(6) في الأغاني «متهلل»
(7) فيه «أيدي الصيقل»
(8) فى الأغاني «اليقين».
إذهي لأوّل من أتاها نهبة (1) ... لولا طعان ربيعة بن مكدّم
إذ قال لي أدنى الفوارس ميتة: ... خلّ الظّعينة طائعا لم تندم (2)
فصرفت راحلة الظّعينة نحوه ... عمدا ليعلم بعض ما لم يعلم
وهتكت بالرّمح الطّويل إهابه ... فهوى صريعا لليدين وللفم
ومنحت آخر بعده جيّاشة ... نجلاء فاغرة كشدق الاعلم (3)
ولقد شفعتهما بآخر ثالث ... وأبى الفرار لي الغداة تكرّمي
ولم يلبث بنو كنانة رهط ربيعة بن مكدّم أن أغاروا على بني جشم رهط دريد بن الصّمّة فقتلوا منهم [وأسروا وغنموا] (4) وأسروا دريد بن الصّمّة، فأخفى نفسه (5)، فبينا هو عندهم محبوس إذ جاء نسوة يتهادين اليه، فصرخت امرأة منهنّ، فقالت: هلكتم وأهلكتم! ماذا جرّ علينا قومنا؟! هذا والله الذي أعطى ربيعة رمحه يوم الظعينة! ثم ألقت ثوبها عليه، وقالت:(1/243)
__________
(8) فى الأغاني «اليقين».
إذهي لأوّل من أتاها نهبة (1) ... لولا طعان ربيعة بن مكدّم
إذ قال لي أدنى الفوارس ميتة: ... خلّ الظّعينة طائعا لم تندم (2)
فصرفت راحلة الظّعينة نحوه ... عمدا ليعلم بعض ما لم يعلم
وهتكت بالرّمح الطّويل إهابه ... فهوى صريعا لليدين وللفم
ومنحت آخر بعده جيّاشة ... نجلاء فاغرة كشدق الاعلم (3)
ولقد شفعتهما بآخر ثالث ... وأبى الفرار لي الغداة تكرّمي
ولم يلبث بنو كنانة رهط ربيعة بن مكدّم أن أغاروا على بني جشم رهط دريد بن الصّمّة فقتلوا منهم [وأسروا وغنموا] (4) وأسروا دريد بن الصّمّة، فأخفى نفسه (5)، فبينا هو عندهم محبوس إذ جاء نسوة يتهادين اليه، فصرخت امرأة منهنّ، فقالت: هلكتم وأهلكتم! ماذا جرّ علينا قومنا؟! هذا والله الذي أعطى ربيعة رمحه يوم الظعينة! ثم ألقت ثوبها عليه، وقالت:
يا آل فراس! أنا جارة له منكم، هذا صاحبنا يوم الوادي. فسألوه: من هو؟
فقال: دريد بن الصّمّة، فمن صاحبي؟ قالت: ربيعة بن مكدّم، قال:
فما فعل؟ قالت: قتلته بنو سليم، قال: فمن الظعينة التي كانت معه؟ قالت:
ريطة بنت جذل الطّعان (6)، وأنا هي، وأنا امرأته. فحبسه القوم، [وآمروا أنفسهم] (7) وقالوا: لا ينبغي أن نكفر نعمة دريد [عندنا] (8). وقال بعضهم: والله لا يخرج من أيدينا إلّا برضا المخارق الذي أسره. فانبعثت المرأة في الليل فقالت:
(1) فى الأغانى «نهزة».
(2) فى الأغانى «لا تندم».
(3) فى الأغانى «الأضخم»
(4) الزيادة من الأغانى
(5) فى الأغانى «نسبه»
(6) جذل: بكسر الجيم واسكان الذال المعجمة، وفى الأصلين «جذل العنان» وصححناه من الأغانى والقاموس مادة (جذل) وجذل الطعان هذا اسمه «علقمة بن فراس».
(7) الزيادة فى الموضعين من الأغانى
(8) الزيادة فى الموضعين من الأغانى(1/244)
سنجزي دريدا عن ربيعة نعمة ... وكلّ امريء (1) يجزى بما كان قدّما
فإن كان خيرا كان خيرا جزاؤه ... وإن كان شرّا كان شرّا مذمّما
سنجزيه نعمى (2) لم تكن بصغيرة ... بإعطائه الرّمح السّديد المقوّما
فقد أدركت كفّاه فينا جزاءه ... وأهل بأن يجزى الّذي كان أنعما
فلا تكفروه حقّ نعماه فيكم ... ولا تركبوا تلك الّتي تملأ الفما
فلو كان حيّا لم يضق بثوابه ... ذراعا غنيّا كان أو كان معدما
ففكّموا دريدا من إسار مخارق ... ولا تجعلوا البؤسى إلى الشّرّ سلّما
فأصبح القوم وقد أجمع ملؤهم، إلى أن سلّموا دريدا إلى ريطة، فجهّزته وزوّدته، ولحق بقومه، ولم يزل كافّا عن غزو بني فراس حتى هلك.
روي: أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضوان الله عليه قال لعمرو بن معدي كرب الزّبيدي رحمه الله (3): أخبرني عن أشجع من رأيت. قال:
والله يا أمير المؤمنين لأخبرنّك عن أجبن الناس وعن أحيل الناس وعن أشجع الناس. فقال له عمر رحمه الله: هات. فقال:
ارتبعت الضّبابيّة يعني فرسه فخرجت كأحسن ما رأيت، وكانت شقّاء مقّاء طويلة الأنقاء (4)، فركبتها، ثم آليت لا لقيت أحدا إلّا قتلته! فخرجت وهي تنقزبي (5)، فاذا أنا بفتى، فقلت: خذ حذرك فاني قاتلك! فقال:
__________
(1) فى الأغانى «وكل فتى»
(2) كتب فى الأصلين «نعما» بالألف.
(3) هذه القصة فى الأغانى (ج 14ص 132131) وبين الروايتين خلاف فى الألفاظ، والزيادات التى بين قوسين زدناها من هناك.
(4) ارتبعت: أى أكلت الربيع، وشقاء ومقاء: بمعنى طويلة، والأنقاء:
جمع «نقو» أو «نقى» بكسر النون وإسكان القاف فيهما، وهو: كل عظم من قصب اليدين والرجلين.
(5) أي: تقفز وتثب. وفى الأصلين «تنقذنى» وهو خطأ.(1/245)
ألّا تنصفني يأباثور؟ أنا كما ترى أعزل [أميل] عوّارة (1)، أمهلني حتى آخذ نبلي! قلت: وما غناؤها عنك (2)؟ قال: أمتنع بها منك، قلت:
خذها، قال: لا، أو تعطيني من العهود ما يثلجني (3) أنّك لا تروعني (4)
أو آخذها، فأثلجته، فقال: وإله قريش لا آخذها أبدا! فسلم والله منّي وذهب. فهذا أحيل الناس!! فمضيت حتى اشتمل عليّ اللّيل، فو الله إنّي لأسير في قمر زاهر (5) إذا بفتى على فرس يقود ظعينة وهو يقول:
يا لبينا يا لبينا (6) ... ليته (7) يعدى علينا
ثمّ يبلى ما لدينا
ثم يخرج حنظلة من مخلاته فيرمي بها الى السماء، فلا تبلغ الأرض حتى
__________
(1) فى الأغانى «أعزل أميل عوارة والعوارة التى لا ترى معه» وفى هذا الشرح تحريف وتبديل، ولعل الصواب «والعوارة الذى لا ترس معه» وبذلك يستقيم الكلام. والعوارة من الألفاظ التى لم يثبتها أصحاب المعاجم التى بين أيدينا، وذكروا «العوار» بضم العين وتشديد الواو، قالوا: وهو الضعيف الجبان السريع الفرار، وجمعه «عواوير» واستشهدوا ببيت الأعشى:
(غير ميل ولا عواوير في الهيجا ولا عزّل ولا أكفال) ونحن نرى أن تفسير صاحب الأغانى احرى بالاثبات فى معاجم اللغة مما ذهبوا إليه. وذلك ان «الأميل» الذى لا سيف معه فيما ذهب إليه ابن السكيت، و «الأعزال» الذى لا سلاح معه، وخص به بعضهم من لا رمح معه، فتمام هذين أن يذكر الذى لا ترس معه وهو «الأكشف» كما فى كتب اللغة، «والعوارة» كما ذهب إليه صاحب الأغانى. ولعل التاء التى فى قوله «عوارة» للمبالغة، كما قالوا: علامة ونسابة، فان صيغة (فعال) بضم الفاء وتشديد العين من صيغ المبالغة التى يقاس عليها، يقال: رجل حسان ووضاء وكرام وطوال، اى: حسن ووضيء وكريم وطويل (كتبه محمود محمد شاكر)
(2) الغناء بفتح الغين ممدود: الاجزاء والكفاية.
(3) يقال: «ثلجت نفسى بالأمر» اذا اطمأنت اليه وسكنت وثبت فيها ووثقت منه.
(4) الأغانى «تريعنى»
(5) فى الأغانى «فى قمر باهر، كالنور الظاهر».
(6) لبينى: تصغير «لبنى» وفى الأغانى «لدينا» بالدال، وانا ارجح انه خطأ
(7) فى الأغاني «ليتنا»(1/246)
ينتظمها بمشقص (1) من نبله! فقلت له: خذ حذرك ثكلتك أمّك فاني قاتلك! فمال عن فرسه فاذا هو في الأرض مضطجعا، فقلت: إن هذا إلّا استخفاف (2)، فصحت به: ويلك ما أجهلك! فلم يتحلحل (3)، فدنوت منه حتى شككت بالرمح إهابه (4)، فاذا به كأنّه قد مات منذ سنة!! [فمضيت وتركته]، فهذا أجبن الناس! ومضيت فأصبحت بين دكادك (5) ورمال، فنظرت إلى أبيات فعدلت اليها، فاذا فيهنّ جوار [ثلاثة] كأنهنّ نجوم الثّريّا، فبكين حين رأينني، فقلت: ما يبكيكنّ؟ قلن: لما ابتلينا به منك، ومن ورائنا أخت لنا هي أجمل منّا! فأشرفت من فدفد (6)، فاذا من لم أر قطّ أحسن منه ومن وجهه، فاذا بغلام يخصف نعله وعليه ذؤابة يسحبها، فلما نظرني وثب إلى الفرس مبادرا، فسبقني إلى البيوت، فوجد النساء قد ارتعن، فسمعته يقول:
مهلا نسيّاتي إذا لا ترتعن (7) ... إن يمنع اليوم نساء تمنعن (8)
أرخين أذيال المروط واربعن (9)
__________
(1) المشقص: نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض
(2) فى ح والأغاني «إن هذا الاستخفاف وما هنا أحسن.
(3) بالحاءين المهملتين، وفى الأغانى «فما تخلخل بالمعجمتين ولا زال» والصواب بالمهملتين.
(4) فى الأغانى «فى إبهامه»
(5) الدكادك: جمع «دكدك» بفتح الدالين المهملتين أو كسرهما وبينهما كاف ساكنة، وهو: الرمل الذى تكبس واستوى.
(6) الفدفد: الموضع الذى فيه غلظ وارتفاع. وفى الأغانى «مرقد» وهو خطأ، لأن المرقد بضم الميم وإسكان الراء وكسر القاف مع تشديد الدال أو تخفيفها: هو الطريق الواضح، فلا يناسبه قوله «أشرفت» لأن الأشراف إنما يكون من موضع عال.
(7) فى الأصلين: «مهلا نسياتي لا ترعن» وصواب إنشاده ما أثبتناه عن الأغانى
(8) فى الأصلين «يمنعن» وصححناه من الأغانى.
(9) فى الأصلين والأغاني «وارتعن» وصححناه من كتاب تصحيح الأغاني للعلامة الشيخ محمد محمود الشنقيطى.(1/247)
فلما دنوت منه قال: أتطردني أو أطردك؟ قلت: بل أطردك، وركضت في أثره، حتى إذا مكّنت السّنان من كتفيه (1) اتّكأت عليه (2) فاذا هو لبب (3)
فرسه، ثم استوى في سرجه، فقلت: أقلني! قال: اطرد، فطردته، حتى ظننت أن السنان في ما ضغيه (4) فاعتمدت عليه فاذا هو قائم في الأرض والسنان ماض، واستوى على فرسه، فقلت: أقلني! قال: قد أقلتك فاطرد، فطردته، حتى [إذا] أمكنت السنان من متنه (5) اتّكيت (6) عليه وأنا أظنّ أن قد فرغ منه جال في سرجه (7) حتى نظرت الى يده (8) في الأرض، ومضى السنان زالجا، ثم استوى، وقال: أبعد ثلاث تريد ماذا؟! اطردني ثكلتك أمك! فولّيت وأنا مرعوب منه، فلما غشيني التفتّ فاذا هو يطردني بالرمح بلا سنان، فكفّ عني واستنزلني، فنزلت ونزل، فجزّ ناصيتي ثم قال: انطلق فإنّي أنفس (9) بك عن القتل! فكان ذلك عندي [والله] يا أمير المؤمنين أشدّ من القتل، فذاك يا أمير المؤمنين أشجع من لقيت، وسألت عنه؟ فقيل لي: ربيعة بن مكدّم الفراسيّ من بني كنانة.
63* روى أبو الفرج الإصبهاني (10) قال: أنشد رسول الله صلّى الله عليه وسلم قول عنترة بن شدّاد:
__________
(1) فى ح «من كتفه» وفى الأغانى «من لفتته واللفتة أسفل الكتف».
(2) فى الأصلين «عليها» وصححناه من الأغانى.
(3) اللبب: ما يشد على صدر الدابة، وفى الأغانى «فاذا هو والله مع لبب فرسه».
(4) فى الأغانى «بين ناصيته» وهو خطأ فى استعمال الظرف، وخطأ أيضا لأن الطاعن بالرمح لا يقصد الناصية.
(5) بالتاء المثناة، وفى الأصلين بالثاء المثلثة، وهو تصحيف.
(6) فى الأغاني «انكأت» وهو الأصل، وما هنا تسهيل للهمزة.
(7) فى الأغانى «أنى قد فرغت منه فمال في سرجه»
(8) فى الأغانى «بدنه»
(9) نفس بالشىء من باب فرح ضن وبخل به لنفاسته.
(10) في ح «الأصفهانى» وهو خطأ.(1/248)
ولقد أبيت على الطّوى وأظلّه ... حتّى أنال به كريم المأكل
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما وصف لي أعرابىّ (1) قطّ فأحببت أن أراه إلّا عنترة» (2).
وهذا البيت من قطعة شعر لعنترة، كان سببها فيما رواه أبو عمر والشّيباني (3): أن بني عبس أغارت على بني تميم، وعليهم قيس بن زهير، فانهزمت بنو عبس، وطلبتهم بنو تميم، ووقف لهم عنترة، ولحقتهم كتيبة (4)
من الخيل، فحامى عنترة عن بني عبس، فلم يصب منهم مدبر (5)، فساء ذلك قيس بن زهير، وشقّ عليه صنيع عنترة. فقال حين رجع: والله ما حمى الناس إلّا ابن السّوداء، فبلغ ذلك عنترة، وكان قيس أكولا، فقال عنترة يعرّض به ويجيبه عن ذكر أمّه (6):
بكرت تخوّفني الحتوف كأنّني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل (7)
فأجبتها: إنّ المنية منهل ... لا بدّ أن أسقى بكأس المنهل
فاقني حياءك لا أبالك واعلمي ... أنّي أمرؤ سأموت إن لم أقتل (8)
إنّ المنيّة لو تمثّل مثّلت ... مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
وأنا امرؤ من خير عبس منصبا ... شطري، وأحمي سائري بالمنصل (9)
__________
(1) فى الاصل «عربى» وصححناه من ج والأغاني (ج 7ص 144)
(2) رواه صاحب الأغانى باسناد غير قائم، وما رأيناه فى شىء من كتب الحديث.
(3) القصة فى الأغانى (ج 7ص 143)
(4) فى الأغاني «كبكبة».
(5) فى الأغاني «فلم يصب مدبرا» وما هنا أصح.
(6) الأبيات من قصيدة لعنترة فى ديوانه (ص 10199) وشعراء الجاهلية (797795) مع اختلاف في التقديم التأخير
(7) فى ح والأغاني «عرض» بالعين المهملة، وهو خطأ.
(8) اقنى حياءك: يعنى احفظيه ولا تضيعيه.
(9) فى الأغاني والديوان والشعراء «إني امرؤ» والمنصل: السيف.
وإذا الكتيبة أحجمت وتلاحظت ... ألفيت خيرا من معمّ مخول (1)
والخيل تعلم والفوارس أنّني ... فرّقت جمعهم بطعنة فيصل (2)
إذ لا أدبار في المضيق فوارسي ... أولا أوكّلّ بالرّعيل الأوّل (3)
إن يلحقوا أكرر، وإن يستلحموا ... أشدد، وإن يلفوا بضنك أنزل
حين النّزول يكون غاية مثلنا ... ويفرّ كلّ مضلّل مستوهل
والخيل ساهمة الوجوه كأنّما ... تسقى فوارسها نقيع الحنظل
ولقد أبيت على الطّوى وأظلّه ... حتّى أنال به كريم المأكل
وخرج زيد الخيل (4) يطلب نعما له في بني بدر، وأغار عامر بن الطّفيل على بني فزارة، فأخذ امرأة يقال لها «هند» واستاق نعما [لهم]، فقالت فزارة لزيد: ما كنّا قطّ إليك (5) أحوج منّا اليوم! فتبع عامر بن الطفيل، وعامر يقول: ما ظنّك يا هند بالقوم؟! قالت: ظنّي أنهم سيطلبونكم، وليسوا نياما عنك، فحطأ عجزها (6) ثم قال: لا يقول استها شيئا!! فذهبت مثلا. وأدركه زيد، فنظره عامر، فأنكره لعظمه وجماله، وغشيه زيد، فبرز له عامر، فقال: يا عامر، خلّ سبيل الظعينة والنّعم، فقال [عامر]:(1/249)
__________
(9) فى الأغاني والديوان والشعراء «إني امرؤ» والمنصل: السيف.
وإذا الكتيبة أحجمت وتلاحظت ... ألفيت خيرا من معمّ مخول (1)
والخيل تعلم والفوارس أنّني ... فرّقت جمعهم بطعنة فيصل (2)
إذ لا أدبار في المضيق فوارسي ... أولا أوكّلّ بالرّعيل الأوّل (3)
إن يلحقوا أكرر، وإن يستلحموا ... أشدد، وإن يلفوا بضنك أنزل
حين النّزول يكون غاية مثلنا ... ويفرّ كلّ مضلّل مستوهل
والخيل ساهمة الوجوه كأنّما ... تسقى فوارسها نقيع الحنظل
ولقد أبيت على الطّوى وأظلّه ... حتّى أنال به كريم المأكل
وخرج زيد الخيل (4) يطلب نعما له في بني بدر، وأغار عامر بن الطّفيل على بني فزارة، فأخذ امرأة يقال لها «هند» واستاق نعما [لهم]، فقالت فزارة لزيد: ما كنّا قطّ إليك (5) أحوج منّا اليوم! فتبع عامر بن الطفيل، وعامر يقول: ما ظنّك يا هند بالقوم؟! قالت: ظنّي أنهم سيطلبونكم، وليسوا نياما عنك، فحطأ عجزها (6) ثم قال: لا يقول استها شيئا!! فذهبت مثلا. وأدركه زيد، فنظره عامر، فأنكره لعظمه وجماله، وغشيه زيد، فبرز له عامر، فقال: يا عامر، خلّ سبيل الظعينة والنّعم، فقال [عامر]:
من أنت؟ قال: فزاريّ [أنا]، قال: ما أنت من القلح (7) أفواها! فقال
(1) أى: كريم الأعمام والأخوال.
(2) في الأغاني «بضربة فيصل».
(3) فى الأغاني والديوان والشعراء «ولا أوكل».
(4) هو زيد بن مهلهل بن يزيد، شاعر فارس مغوار بعيد الصيت في الجاهلية، وسمي «زيد الخيل، لكثرة خيله» وأدرك الاسلام وأسلم وسماه النبى صلى الله عليه وسلم «زيد الخير». له ترجمة فى الأغاني (ج 16ص 5646) وفى الاصابة وغير ذلك. وهذه القصة فى الأغاني (ج 16ص 54) والزيادات منه.
(5) في الأغاني «إلى نعمك» وما هنا أصح.
(6) في الأصلين «فخطأ» بالخاء المعجمة، وهو خطأ، بل هو بالمهملة، يقال «حطأه بيده حطأ» أى ضربه.
(7) الفلح: جمع «أقلح»، والقلح بفتح القاف واللام صفرة فى الأسنان ووسخ يركبها من طول ترك السواك.(1/250)
[زيد: خل] سبيلها، قال: لا والله أو تخبرني من أنت؟ قال: من بني أسد، قال: لا والله، ما أنت من المتكورين على (1) ظهور الخيل! قال: خل سبيلها، قال:
لا والله أو تخبرني من أنت (2)؟ قال: أنا زيد الخيل، قال صدقت، فما تريد من قتالي؟ فو الله لئن قتلتني ليطلبنّك بنو عامر ولتذهبنّ فزارة بالذّكر! [فقال له زيد: خلّ عنها، قال تخلّي عنّي وأدعك والظعينة والنّعم؟ قال: فاستأسر! قال: أفعل]، فأسره زيد الخيل وجزّ ناصيته وأخذ رمحه ومنّ عليه وردّ الابل وهندا إلى بني فزارة ثم بني بدر، وقال زيد في ذلك:
إنّا لنكثر في قيس وقائعنا ... وفي تميم وهذا الحيّ من أسد
وعامر بن طفيل قد نحوت (3) له ... صدر القناة بماضي الحدّ مطّرد
لمّا تحسّب أنّ الورد مدركه (4) ... وصارما وربيط الجأش ذالبد
نادى إليّ بسلم بعد ما أخذت ... منه المنيّة بالحيزوم واللّغد (5)
ولو تصبّر لي حتّى أخالطه ... أشعرته طعنة تكتنّ بالزّبد (6)
فانطلق عامر بن الطفيل الى قومه مجزوزا، وأخبرهم الخبر، فغضبوا لذلك،
__________
(1) فى الأصلين «المكرزين فى» وهو فيما نرى خطأ وتصحيف، وصوابه ما أثبتناه من رواية الأغاني.
يقال «كور العمامة تكويرا» لفها وجمعها. وكان من عادة فرسانهم، أن يميزوا أنفسهم في الحرب بشىء، فكان حمزة رضي الله عنه يوم بدر معلما بريشة لعامة حمراء، والزبير معلما بعصابة صفراء، وكان لا يفعل ذلك إلا خاصة الفرسان، ولذلك قال عامر: «ما أنت من المتكورين على ظهور الخيل» فلما علم أنه زيد الخيل سيد الفرسان فى الجاهلية ثم من خيرهم فى الاسلام خنع له حتى جز ناصيته، وهو من أكبر العار عندهم؟ كتبه محمود محمد شاكر
(2) فى الأغاني «أو تخبرني، فاصدقنى»
(3) في الأصل «نجرت له» وصححناه من ح والأغانى.
(4) فى الأغاني «لما أحس بأن الورد مدركه».
(5) الحيزوم: وسط الصدر وما يضم عليه الحزام. واللغد بضم فسكون:
لحمة عند اللهاة أو ما بين الحنك وصفحة العنق. وحركه الشاعر بضمتين إنباعا
(6) رواية الأغانى «كالنار بالزند» ولا معنى لها، وفى الأغاني والأصلين «أسعرته» بالسين المهملة، وهى بالشين أوفق، يريد طعنته، يقال «أشعره سنانآ» خالطه به، وقوله «تكتن» لعله يريد أن الدم حين يفور ويخرج زبده من حر الطعنة يصير مشيجا يسترها. من قولهم «كنه، أى ستره؟ كتبه محمود محمد شاكر(1/251)
وقالوا: لا يرأسنا (1) أبدا، وتجهزّوا لغز وظنيّء (2)، ورأسّوا عليهم علقمة بن علاثة، فخرجوا ومعهم الحطيئة وكعب بن زهير، فبعث عامر بن الطفيل الى زيد الخيل دسيسا ينذره، فجمع زيد قومه ولقيهم (3) بالمضيق، فهزمهم، وأسر الحطيئة وكعب بن زهير وقوما منهم، فحبسهم، فلما طال عليهم الأسر قالوا:
يا زيد (4) فادنا، قال: الأمر الى عامر بن الطفيل، فأبوا ذلك عليه، فوهب الأسرى لعامر إلّا الحطيئة وكعب بن زهير، فأما كعب بن زهير فأعطاه فرسه الكميت وأطلقه، وأما الحطيئة فشكا إليه الحاجة فمنّ عليه وأطلقه، وقال زيد:
أقول لعبدي جرول إذ أسرته: ... أثبني ولا يغررك أنّك شاعر
أنا الفارس الحامي الحقيقة والّذي ... له المكرمات واللها والمآثر (5)
وقومي رؤوس النّاس والرّأس قائد ... إذا الحرب شنّتها الأكفّ المساعر
ولست إذا ما الموت حوذر ورده ... وأترع حوضاه وحمّج ناظر (6)
بوقّافة يخشى الحتوف تهيّبا ... يباعدني عنها من القبّ ضامر (7)
ولكنّني أغشى الحتوف بصعدتي ... مجاهرة، إنّ الكريم مجاهر (8)
__________
(1) كتب فى الأصلين «يرؤسنآ» وفى الأغانى «ترأسنا» على النهي
(2) فى الأغاني «ليغيروا على طي.»
(3) فى الأغاني «فلقيهم».
(4) فى ح «يا زيد الخيل».
(5) اللها:
العطايا، جمع «لهوة» بضم اللام واسكان الهاء.
(6) فى الأصلين «وقمح ناظر» وهو خطأ، صححناه من الأغانى، «و «حمج» من التحميج وهو: فتح العين وتحديد النظر بخوف كأنه مبهوت.
(7) القب: جميع «أقب» وهو الضامر. وهذا البيت سقط من ح.
(8) الصعدة: القناة المستوية.
وفى الأغاني «إن الكريم يجاهر».
وأروي سناني من دماء عزيزة ... على أهلها إذ لا يرجّي الأناصر (1)
وقال الحطيئة لزيد الخيل:(1/252)
__________
وفى الأغاني «إن الكريم يجاهر».
وأروي سناني من دماء عزيزة ... على أهلها إذ لا يرجّي الأناصر (1)
وقال الحطيئة لزيد الخيل:
ألا أبلغا عنّي الثّناء فإنّه (2) ... سيأتي ثنائي زيدا بن مهلهل
فما نلتنا غدرا ولكن صحبتنا (3) ... غداة التقينا في المضيق بأخيل (4)
تفادى جياد الخيل من وقع رمحه (5) ... تفادي بغاث الطّير من وقع أجدل (6)
وقال الحطيئة أيضا:
وقعت بعبس ثمّ أنعمت عنهم (7) ... ومن آل بدر قد أصبت الأخيرا (8)
فإن يشكروا فالشّكر أدنى إلى التّقى ... وإن يكفروا لا ألف يا زيد كافرا (9)
[فرضي عنه زيد ومنّ عليه لما قال هذا فيه، وعد ذلك ثوابا من الحطيئة وقبله]، فلما رجع الحطيئة إلى قومه قام فيهم حامدا لزيد الخيل شاكرا لنعمته،
(1) فى الأصلين «الأباصر» بالباء الموحدة وفي الأغانى «الاياصر» بالياء المثناة وكلاهما لا معنى له، ولعل الصواب ما أثبتناه، بالنون، على أن هذا اللفظ لم يرد فى كتب اللغة، والراى عندنا فيه أنه جمع الجمع من قولهم رجل ناصر من قوم نصر ثم أنصار ثم أناصر كما قالوا قوم واقوام وأقاوم، وبجبر وأبجار وأباجر، ورذل وارذال واراذل،؟ كتبه محمود محمد شاكر
(2) رواية ديوان الحطيئة (ص 8382) «وإلّا يكن مالي بآت فإنّه» ورواية الأغاني «إن لم يكن» وليس فى اوله واو.
(3) فى الديوان «ولكن لقيتنا».
(4) الأخيل بفتح الياء: هو الشقراق بكسر الشين أو بفتحها وبكسر القاف وتشديد الراء المفتوحة وهو طائر تتشاءم به العرب، وقد تكلم عليه باسهاب العلامة الدكتور معلوف باشا فى معجم الحيوان (ص 212210). وقد روى السكرى فى شرح ديوان الحطيئة أن كلمة، «اخيل» بضم الياء وقال: «اراد جماعة خيول» ثم نقل فتح الياء رواية عن أبي عمرو، ولم اجد نصا يؤيد ان «اخيل» بضم الياء جمع «خيل» بل جمعه «خيول واخيال».
(5) هذا البيت فى الأمالى (ج 1 ص 27) بلفظ «تفادى كماة الخيل» وفى الديوان والاغاني «تفادى حماة القوم».
(6) فى الديوان والامالى «خشاش الطير» بفتح الخاء المعجمة، أى: صغارها وضعافها، ورواية الاغانى «ضعاف الطير».
والأجدل: الصقر.
(7) فى الديوان والاغانى «انعمت فيهم».
(8) فى الديوان «اصبت الأكابر».
(9) بعدهما فى الديوان والأغاني بيتان آخران.(1/253)
[حتى أسرت طيء بني بدر] فطلبت فزارة وأفناء قيس إلى شعراء العرب أن يهجوا زيد الخيل وبني لأم (1)، فتحامتهم الشّعراء وامتنعوا، (2) فصاروا إلى الحطيئة، فسألوه في ذلك، ووعدوه جزيل العطاء، فأبى عليهم، وقال: قد حقن دمي وأطلقني بغير فداء، فلست بكافر نعمته أبدا، وقال في ذلك:
كيف الهجاء ولا تنفكّ صالحة (3) ... من آل لأم (4) بظهر الغيب تأتينا
المنعمين أقام العزّ وسطهم ... بيض الوجوه وفي الهيجا مطاعينا
قال (5): بينا مالك بن الرّيب ذات ليلة [في بعض هناته وهو] نائم في البرّية وكان لا ينام إلّا متوشّحا بالسيف إذا هو بشيء قد جثم عليه، لا يدري ما هو؟! فانتفض مالك من تحته فسقط عنه، ثم انتحى له بالسيف فقدّه نصفين، ثم نظر (6) اليه فاذا هو رجل أسود كان يغتل الناس في تلك الناحية.
قيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: أتقتل أهل الشأم بالغداة وتظهر بالعشيّ في إزار ورداء؟! فقال: أبالموت تخوّفوني؟! فو الله ما أبلي أسقطت على الموت أو سقط الموت عليّ.
وقال لابنه الحسن عليهما السلام: لا تدعونّ أحدا إلى المبارزة، فان دعيت اليها فأجب، فان الداعي اليها باغ، والباغي مصروع.
__________
(1) هو لأم بن عمرو بن طريف، ابو بطن من طيء. انظر الاشتقاق لابن دريد (ص 229) وشرح القاموس (ج 9ص 54).
(2) فى الأغاني «وامتتعت من هجائهم»
(3) فى الديوان (ص 83) والأغاني «وما تنفك»
(4) فى الأصلين «أذى كريم» ولم نتبينها. ورواية الأغاني ما اثبتناه، وليست فى ديوانه، والذى ورد فى ديوانه ص 83 «من آل لأي بظهر الغيب تأنينى» والقافية مكسورة، وليس فيها البيت الثانى، ولعل البيت الثانى من شعر غيره ودخل على صاحب الأغاني في روايته. وآل لأم هم بنو لأم بن عمرو بن طريف. اما لأى خطأ؟
كتبه محمود محمد شاكر
(5) نقلها فى الأغانى (ج 19ص 165) والزيادة منه.
(6) فى الأصل «فنظر» وما هنا موافق للأغانى وح.(1/254)
وقيل للمهلّب بن أبي صفرة رحمه الله: ما أعجب ما رأيت في حرب الأزارقة؟ قال: فتى كان يخرج إلينا منهم في كل غداة فيقف ويقول:
وسائلة بالغيب عنّي ولو رأت ... مقارعتي الأبطال طال نحيبها
إذا ما التقينا كنت أوّل فارس ... يجود بنفس أثقلتها ذنوبها
ثم يحمل فلا يقوم له شيء إلّا أقعده، فاذا كان من الغد عاد لمثل ذلك! وعن أبي حاتم الرازيّ قال: سمعت عبدة بن سليمان المروزيّ يقول: كنا في سريّة مع عبد الله بن المبارك [رضي الله عنه] في بلاد الروم، فصادفنا العدوّ، فلما التقى الصّفّان خرج رجل من العدوّ فدعا إلى البراز فخرج اليه رجل فقتله، ثم خرج آخر منهم فقتله، ثم آخر فقتله، ثم خرج اليه آخر فطارده فعطنه فقتله، فازدحم اليه الناس، فاذا هو يلثم (1) وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته فاذا (2) هو عبد الله بن المبارك. فقال: وأنت يأبا عمرو (3) ممّن يشنّع علينا؟! وأنشد الرّياشيّ لبعض العرب:
وأشعرته طعنة ثرّة (4) ... يظلّ على النّحر منها صبيب
فإن قتلته فلم آله ... وإن ينج منها فجرح رغيب (5)
وإن يلقني بعدها يلقني ... عليه من الذّلّ ثوب قشيب
وقال عمرو بن الإطنابة: (6)
أبت لي عفّتي وأبى بلائي (7) ... وأخذي الحمد بالثمن الرّبيح
__________
(1) لثم من بابى «سمع وضرب» والتثم وتلثم: بمعنى واحد.
(2) كذا فى ح، وفى الأصل «وإذا»
(3) أبو عمرو: كنية عبدة بن سليمان.
(4) طعنة ثرة: أى واسعة، أو:
كثيرة الدم، على التشبيه بالعين
(5) فى الأصلين «رعيب» بالعين المهملة. والرغيب بالمعجمة: الواسع
(6) هذه الأبيات فى حماسة البحترى (ص 9) والأمالى (ج 1ص 258) أربعة أبيات، وفى عيون الأخبار (ج 1ص 126) خمسة أبيات، وفى الكامل للمبرد (ج 2ص 293) ثلاثة أبيات.
(7) فى الهحترى «وأبى إبائي».
وإقدامي على المكروه نفسي (1) ... وضربي هامة البطل المشيح (2)
وقولي كلّما جشأت وجاشت (3): ... مكانك تحمدي أو تستريحي
[وأدفع عن مكارم صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح] (4)
وقال قطريّ بن الفجاءة: (5)
قول لها وقد طارت شعاعا (6) ... من الأبطال: ويحكم لن تراعي
فإنّك لو سألت حياة يوم ... سوى الأجل الّذي لك لم تطاعي
فصبرا في مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستطاع
وما ثوب البقاء بثوب عزّ ... فيطوى عن أخي الخنع اليراع (7)
سبيل الموت منهج كلّ حيّ ... وداعيه لأهل الأرض داعي
ومن لا يعتبط يسأم ويهرم ... ويفض به الزّمان إلى انقطاع (8)
وقال قطريّ أيضا:(1/255)
__________
(7) فى الهحترى «وأبى إبائي».
وإقدامي على المكروه نفسي (1) ... وضربي هامة البطل المشيح (2)
وقولي كلّما جشأت وجاشت (3): ... مكانك تحمدي أو تستريحي
[وأدفع عن مكارم صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح] (4)
وقال قطريّ بن الفجاءة: (5)
قول لها وقد طارت شعاعا (6) ... من الأبطال: ويحكم لن تراعي
فإنّك لو سألت حياة يوم ... سوى الأجل الّذي لك لم تطاعي
فصبرا في مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستطاع
وما ثوب البقاء بثوب عزّ ... فيطوى عن أخي الخنع اليراع (7)
سبيل الموت منهج كلّ حيّ ... وداعيه لأهل الأرض داعي
ومن لا يعتبط يسأم ويهرم ... ويفض به الزّمان إلى انقطاع (8)
وقال قطريّ أيضا:
إلى كم تعاديني السّيوف ولا أرى ... مضاربها تهدي (9) إليّ حماميا
(1) هذه الشطرة رويت بألفاظ مختلفة، وما هنا موافق لعيون الأخبار ولسان العرب (ج 3ص 331)
(2) المشيح: المقبل اليك والمانع لما وراء ظهره.
(3) جشأت: أى تطلعت ونهضت جزعا وكراهة. وجاشت: أى أصابها الغشيان من الفزع. وهذه الشطرة توافق رواية الكامل والأمالى والبحتري، وفى لسان العرب (ج 1ص 40) وعيون الأخبار «كلما جشأت لنفسى».
(4) الزيادة من البحترى، وفى عيون الاخبار «لأدفع عن مآثر صالحات»
(5) البيتان الأولان فى حماسة البحترى (ص 10) وعيون الأخبار (ج 1ص 126وج 2ص 193) مع اختلاف فى الألفاظ.
(6) بفتح الشين، يقال: «ذهبت نفسه شعاعا» اذا انتشر رأيها فلم تتجه لأمر جزم.
(7) الخنع: الخضوع والذال، واليراع: الجبان الذى لا عقل له ولا رأي، وأصل اليراع: القصب، ثم سمى به الجبان
(8) يعتبط: أى يموت شابا. قال أمية بن أبي الصلت من لم يمت عبطة يمت هرما ... للموت كأس والمرء ذائقها
(9) في الأصلين «يهدى»، ورواية الشريف المرتضى فى اماليه: (ج 3ص 90) إلى كم تغازيني السّيوف ولا أرى ... مغازاتها تدعو إليّ حماميا(1/256)
أقارع عن دار الخلود ولا أرى ... بقاء على حال لمن ليس باقيا
ولو قرّب الموت القراع لقد أنى ... لموتي أن يدنو لطول قراعيا
أغادي جلّاد المعلمين كأنّني ... على العسل الماذي أصحت غاديا (1)
وأدعو الكماة للنّزال إذا القنا (2) ... تحطّم فيما بيننا من طعانيا
ولست أرى نفسا تموت إذا دنت ... من الموت حتّى يبعث الله داعيا
إذا استلب الخوف الرّجال قلوبهم ... حبسنا على الموت النّفوس الغواليا
حذار الأحاديث الّتي (3) لوم غبّها ... عقدن بأعناق الرّجل المخازيا
وقال قطريّ أيضا (4):
يا ربّ ظلّ عقاب قد وقيت بها (5) ... مهري من الشّمس والأبطال تجتلد
وربّ واد حمّى أرعيت عقوته (6) ... خيلي اقتسارا وأطراف القنا قصد (7)
مشهر موقفي والحرب كاشفة ... عنها القناع وبحر الموت يطّرد (8)
وقال مؤلف الكتاب:
تجهّل في الإقدام رأيي معاشر (9) ... أراهم إذا فرّوا من الموت أجهلا
أيرجو الفتى عند انقضاء حياته * وإن فرّعن ورد المنيّة مزحلا (10)
__________
(1) المعلمين: جمع «معلم» بكسر اللام، يقال «اعلم الفارس»: جعل لنفسه علامة الشجعان فهو «المعلم». وللعسل الماذى: الأبيض اللين.
(2) فى ح «وأدعوكماة».
(3) فى ح «لذى»،
(4) تجد ذكر هذه الأبيات وقصتها فى أمالى الغالى (ج 1ص 265) والشريف (ج 3ص 90)
(5) العقاب: العلم الضخم الذى يعقد المولاة، وشبه بالعقاب الطائر، والكلمة مؤنثة،
(6) العلقوة: الساحة.
(7) القصد: جمع قصدة بكسر فسكون وهي الكسرة من الرمح.
(8) فى الأصلين «يضطرد» والصواب ما أثبتناه و «اطرد الماء»: نتابع ودفع بعضه بعضا.
(9) فى الأصل «رأي معاشر» بالاضافة، وهو خطأ.
(10) المزحل بالزاى:
الموضع الذى تزحل إليه، وقد يكون مصدرا، يقال: إن لى عندك مزحلا، أي منتدحا، قاله فى اللسان.(1/257)
إذا أناهبت الموت في حرمة الوغى ... فلا وجدت نفسي من الموت موئلا
وإنّي إذا نازلت كبش كتيبة ... فلست أبالي أيّنا مات أوّلا
قلت وبالله التوفيق: قد أوردت في كتابي المترجم بكتاب (بالاعتبار) عجائب ما باشرته وحضرته وشهدته من الحروب والمصافّات والوقائع، منذ كنت ابن خمسة عشر سنة إلى أن تجاوزت التّسعين، وما نالني فيها من الجراح والمكاره، وأنا القائل:
ألوم الرّدى كم خضته متعرّضا ... له، وهو عنّي معرض متجنّب؟!
وكم أخذت منّي السّيوف مآخذال ... حمام ولكنّ القضاء مغيّب؟!
إلى أن تجاوزت الثّمانين وانقضت ... بلهنية العيش الّذي فيه يرغب (1)
فمكروه ما تخشى النّفوس من الرّدى ... ألذّ وأحلى من حياتي وأطيب
وذكرت ما شاهدته من إقدام الرجال، وعجائب تصرّف الآجال، فغنيت بما أوردته هناك عن الإطالة هاهنا، واقتصرت على ما أوردته.
__________
(1) بلهنية العيش بضم الباء وفتح اللام: سعة العيش ورخاؤه ونعمته وغفلته.(1/258)
5 - باب الآداب
يشتمل هذا الباب على خمسة عشر فصلا، وهي:
فصل في الأدب وفصل في كتمان السرّ وفصل في أداء الأمانة وفصل في التواضع وترك الكبر وفصل في حسن الجوار (1) وفصل في حفظ اللسان وفصل في القناعة وفصل في الصّبر وفصل في الحياء وفصل في ترك الرّياء وفصل في الإصلاح بين الناس وفصل في التّعنّف عن السؤال وفصل في التحذير من الظّلم وفصل في الإحسان وفعل الخير وفصل في مداراة الناس والصبر على الأذى
فصل فى الأدب
قال الله عز وجل في سورة البقرة: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلََائِكَةِ فَقََالَ: أَنْبِئُونِي بِأَسْمََاءِ هََؤُلََاءِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ [31]}
فمن لا شريعة له لا إيمان له ولا توحيد. والشريعة موجبة للأدب، فمن لا أدب له لا شريعة له ولا إيمان ولا توحيد (2).
وقال ابن عطاء (3) رحمه الله: الأدب الوقوف مع المستحسنات. فقيل:
وما معناه؟ قال: أن تعامل الله تعالى بالأدب سرّا وإعلانا، فاذا كنت كذلك كنت أديبا [وإن كنت أعجميّا].
__________
(1) فى ح «حفظ الجوار»
(2) هذه الجملة غير واضحة المعنى لاختصارها، وأصلها فى اللمع لأبى نصر الطوسي السراج (ص 143طبعة ليدن) نقلا عن الجلاحلي البصري قال: «التوحيد موجب يوجب الإيمان، فمن لا إيمان له لا توحيد له، والإيمان موجب يوجب الشريعة، فمن لا شريعة له لا إيمان له ولا توحيد له، والشريعة موجب يوجب الأدب، فمن لا أدب له لا شريعة له ولا إيمان ولا توحيد».
(3) هو أبن العباس بن عطاء. وكلمته هذه فى اللمع (ص 143) وأتممناها منه.(1/259)
وعن الجريريّ رحمه الله قال: منذ عشرين سنة ما مددت رجلي وقت جلوسي للخلوة، فإن حسن الأدب مع الله تعالى أولى.
وروي عن ابن سيرين رحمه الله: أنه سئل: أيّ الآداب أقرب إلى الله؟
فقال: معرفة ربوبيّته، وعمل بطاعته، والحمد لله على السّرّاء، والصّبر على الضّرّاء.
وقال رجل من قيس لرجل من قريش: اطلب الأدب فانه زيادة في العقل، ودليل على المروءة، وصلة (1) في المجلس، ثم قال:
تعلّم فليس المرء يخلق عالما ... وليس أخو علم كمن هو جاهل
فإنّ كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا صمّت عليه المحافل
ولا ترض من عيش بدون ولا يكن ... نصيبك إرث قدّمته الأوائل
وكان يقال: من حسن الأدب أن لا تنازع من فوقك، ولا تقول مالا تعلم، ولا تتعاطى مالا تنال، ولا يخالف لسانك ما في قلبك، ولا قولك فعلك، ولا تدع الأمر (2) إذا أقبل وتطلبه إذا أدبر.
ويقال: من أدّب صغيرا قرّت عينه كبيرا، ومن أدّب ابنه أرغم أنف عدوّه.
وكان يقال: ثلاثة ليس معهن غربة: مجانبة الرّيب (3)، وكفّ الأذى، وحسن الأدب.
وقال عبد الملك بن مروان: ما الناس إلى شىء من الأدب أحوج منهم إلى إقامة ألسنتهم التي بها يتعاودون الكلام، ويتعاطون البيان، ويتهادون
__________
(1) كذا فى الأصلين، ولعله «وحلية»
(2) فى ح «أمرا»
(3) بكسر الراء وفتح الياء، جمع «ريبة»، وضبط فى الأصل بفتح الراء وهو خطأ.(1/260)
الحكمة، ويستخرجون غوامض العلم من مخابئها، ويجمعون ما تفرّق منها، فإن الكلام قاض يحكم بين الخصوم، وضياء يجلو الظّلم، حاجة الناس إلى موادّه حاجتهم الى موادّ الأغذية.
وذكرت امرأة عند هند بنت المهلّب بجمال، فقالت هند: ما تحلّين النساء (1) بحلية أحسن من لبّ طاهر تحته أدب كامن.
وقال بزرجمهر: ما ورّثت الآباء الأبناء شيئا أفضل من الأدب: إنها إذا ورّثتها الآداب كسبت بالآداب الأموال والجاه والإخوان والدّين والدنيا والآخرة، [و] إذا ورّثتها الأموال تلفت الأموال وقعدت (2) عدما من الأموال والآداب.
وكان يقال: من قعد به حسبه نهض به أدبه.
وقال أبو السّمراء: قال لنا أبي: يا بنيّ، تزيّنوا بزيّ الكتّاب، فإنّ فيهم أدب الملوك وتواضع السّوقة.
وكان يقال: أربعة يسود بها العبد: العلم والأدب والفقه والأمانة.
وكان يقال: عزّ الشّريف أدبه، وعزّ المؤمن استغناؤه عن الناس.
ويقال: من الأدب إذا دخلت مع الرجل منزله أن تدخل بعده، وإذا خرجت خرجت قبله.
وقال المنذر بن الجارود لابن له يوصيه: أعمل النّظر في الأدب ليلا، فان القلب بالنهار طائر، وهو بالليل ساكن، فكلما أوعيت فيه (3) شيئا عقله.
__________
(1) هذا على لغة البراغيث!
(2) فى ح «وغدت»
(3) فى ح «أوعيت منه»، وكل صحيح، يقال «وعى الشيء وأوعاه» حفظه وفسمه، ويقال «وهى الشيء فى الوعاء وأوعاه يوعيه إيعاء» جمعه فيه.(1/261)
وكما يقال: الأدب خير ميراث، وحسن الخلق خير قرين، والتوفيق خير قائد، والاجتهاد أربح بضاعة ولا مال أعود من العقل، ولا مصيبة أعظم من الجهل، ولا ظهير أوثق من المشورة، ولا وحدة أوحش من العجب.
وقال عبد الملك بن مروان لمؤدّب ولده وكان رجلا من بني زهرة:
علّمهم الصّدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وروّهم الشّعر يشجعوا وينجدوا، وجالس بهم أشراف الناس وأهل العلم منهم، فانهم أحسن الناس رعة (1) وأحسنهم أدبا، وجنّبهم السّفلة والخدم، فانهم أسوأ الناس رعة وأسوؤهم أدبا، ومرهم فليستاكوا عرضا، وليمصّوا الماء مصّا ولا يعبّوه عبّا، ووقّرهم في العلانية، وذلّلهم في السّرّ، واضربهم على الكذب، إن الكذب يدعو إلى الفجور، والفجور، والفجور يدعو إلى النار، وجنّبهم شتم أعراض الرجال، فان الحرّ لا يجد من عرضه عوضا، وإذا ولو أمرا فامنعهم من ضرب الأبشار (2)، فانه عار باق ووتر مطلوب (3)، واحملهم على صلة الأرحام، واعلم أنّ الأدب أولى بالغلام من النّسب.
قيل للحسن البصري رحمه الله (4): قد أكثر الناس في علم الآداب (5)، فما أنفعها عاجلا وأفضلها (6) آجلا؟. فقال التّفقّه في الدين، [فانه يصرف إليه قلوب المتعلمين]، والزهد في الدنيا، [فانه يقرّبك من ربّ العالمين]، والمعرفة بما لله تعالى عليك [يحويها كمال الإيمان].
__________
(1) الرعة بوزن عدة: الورع.
(2) فى ح «من ضرب الناس».
(3) الوتر بكسر الواو وبفتحها الذحل والثأر
(4) هذه الكلمة نقلها أبو نصر السراج فى اللمع (ص 142)، والزيادة هنا منه
(5) فى اللمع: «قد أكثر الناس لعلم الآداب».
(6) فيه «وأوصلها».(1/262)
وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: من تأدّب بأدب الله صار من أهل محبّة الله.
وروي عن ابن المبارك رحمه الله أنه قال: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منّا إلى الكثير (1) من العلم.
وعن أبي نصر الطّوسي السّرّاج رحمه الله قال: (2) [الأدب سند للفقراء، وزين للأغنياء، و] الناس في الأدب (3) [متفاوتون، وهم] على ثلاث طبقات:
[أهل الدنيا، وأهل الدين، وأهل الخصوصية من أهل الدين، ف] أمّا أهل الدنيا فان أكثر (4) آدابهم في الفصاحة والبلاغة وحفظ العلوم وأسمار (5) الملوك وأشعار العرب، [ومعرفة الصنائع]، وأما أهل الدين فان أكثر (6) آدابهم في رياضة النفوس (7) وتأديب الجوارح [وطهارة الأسرار] وحفظ الحدود وترك الشّهوات [واجتناب الشبهات وتجريد الطاعات والمسارعة إلى الخيرات]، وأما أهل الخصوصيّة فان أكثر (8) آدابهم في طهارة القلوب ومراعاة الأسرار والوفاء بالعقود (9) [بعد العهود] وحفظ الوقت وقلة الالتفات إلى الخواطر [والعوارض والبوادي والطوارق، واستواء السرّ مع الإعلان] وحسن الأدب في مواقف الطلب وأوقات الحضور [والقربة والدنّو والوصلة] ومقامات القرب (10)
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: قد أكثر الناس في الأدب، ونحن نقول: هو معرفة النفس.
وقال الجنيد رحمه الله: إذا صحّت المحبّة سقطت شروط الأدب.
__________
(1) فى اللمع (ص 142) «إلى كثير».
(2) فى اللمع (ص 143142). والزيادة منه
(3) فى الأصل «الآداب».
(4) فى الأصلين «فأكثر»
(5) فى ح «وأسماء» وهو خطأ.
(6) فى الأصلين «فأكثر»
(7) فى الأصلين «النفس»
(8) فى الأصلين «فأكثر»
(9) فى الأصلين «بالعهود».
(10) «ومقامات القرب» مقدمة فى اللمع عن «أوقات الحضور» الخ(1/263)
وأنشدوا:
فيّ انقباض وحشمة فإذا ... لقيت أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سحيّتها ... وقلت ما قلت غير محتشم
وقال أبو عثمان رحمه الله: إذا صحّت المحبة تأكدت على المحبّ ملازمة الأدب.
وقال الثوري رحمه الله: من لم يتأدّب للوقت، فوقته مقت.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نََادى ََ رَبَّهُ: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرََّاحِمِينَ [21: 83]} لم يقل «ارحمني» لأنه حفظ أدب الخطاب.
وكذلك عيسى عليه السلام، إذ قال له الباري سبحانه وتعالى: {يََا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [1]، أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنََّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلََهَيْنِ مِنْ دُونِ اللََّهِ؟ قََالَ: سُبْحََانَكَ مََا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مََا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [5: 116] ولم يقل «لم أقل» رعاية للأدب.
وقال الحكماء: لا أدب إلّا بعقل، ولا عقل إلّا بأدب: هما كالنّفس والبدن، فالبدن بغير نفس جثّة لا حراك بها، والنفس بغير بدن قوة لا ظهور لفعلها (2)، فاذا اجتمعا وتركّبا نهضا وفعلا.
وقالوا: ليس العاقل وإن كان تامّا بمستغن عن الأدب والعلم، اللّذين هما زينته وجماله، لأن الله تعالى جعل لكثير من خلقه زينة، فزينة السماء بكواكبها، والأرض بزهرتها، والقمر بنوره، والشمس بضيائها. والأدب
__________
(1) اخطأ الناسخان فى الأصلين فلم يذكرا «ابن مريم».
(2) فى الأصلين «بفعلها» ولعل الصواب ما أثبتناه.(1/264)
للعقول كالجلاء للسيوف، فان السيوف إذا تعوهدت بالصّقل عملت ونفعت، وإذا لم تجل (1) صدئت وبطلت.
وقيل لبقراط: ما الفرق بين من له أدب ومن لا أدب له؟ قال: كالفرق بين الحيوان الناطق والحيوان غير الناطق.
وقالوا: من كثر أدبه شرف وإن كان وضيعا، وساد وإن كان غريبا، وكثرت الحاجة إليه وإن كان فقيرا.
وقالوا: الأدب اللازم خير من الحسب المضاف.
وقال الشاعر:
وما الحسب الموروث لا درّدرّه ... بمحتسب إلّا بآخر مكتسب
إذا العود لم يثمر وإن كان شعبة (2) ... من المثمرات اعتدّه النّاس فى الحطب
وللمجد قوم ساوروه بأنفس ... كرام ولم يعبوا بأمّ ولا بأب (3)
دخل كعب الأحبار على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على فراش، وعن يمينه ويساره وسادتان، فقال له عمر [رضي الله عنه] (4): اجلس يأبا اسحق، وأشار بيده إلى الوسادة، فثناها كعب وجلس على البساط. فقال له عمر [رضي الله عنه] (5): ما يمنعك من أن تجلس على الوسادة؟ قال: فيما أوصى سليمان بن داوود عليهما السلام: لا تغش (6) السلطان حتى يملّك، ولا تنقطع عنه حتى ينساك، وإذا دخلت عليه فاجعل بينك وبينه مجلس رجل أو رجلين، فعسى أن يأتي من
__________
(1) في الأصلين «تجلا» بالألف.
(2) فى الأصل «شعبه».
(3) هذا البيت محذوف من ح
(4) الزيادة فى الموضعين من ح
(5) الزيادة فى الموضعين من ح
(6) في الأصلين «لا تغشى».(1/265)
هو أولى منك بذلك المجلس. فاستلقى عمر رضي الله عنه وقال: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى ََ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [7: 159]}.
وقال الحكيم: الأدب يحرز الحظّ، ويؤنس الوحشة، وينفي الفاقة، ويعرّف النّكرة، ويثمّر المكسبة، ويكمد (1) العدوّ ويكسب الصديق.
وقال بعض السّلف: ناهيك من شرف الأدب أنّ أهله متبوعون والناس تحت راياتهم (2)، فيعطف ربّك تعالى عليهم قلوبا لا تعطفها الأرحام، وتجتمع بهم كلمة لا تأتلف بالغلبة، وتبذل دونهم مهج النفوس.
وقال بعض الفلاسفة: الأدب زيادة في العقول، ولقاحها وغذاؤها الذي لا يحييها غيره ولا تنمي على شيء بعده.
وقال آخر: الأدب حياة القلوب، ولا مصيبة أعظم من الجهل.
وقال بعض الحكماء: أحسن الحلية الأدب، ولا حسب لمن لا مروءة له، ولا مروءة لمن لا أدب له. ومن تأدب من غير أهل الحسب ألحقه الأدب بهم.
وقال آخر: يتشعّب من الأدب التشرّف وإن كان صاحبه دنيّا، والعز وإن كان صاحبه مهينا، والقرب وإن كان صاحبه قصيّا، والغنى وإن كان فقيرا، والنبل وإن كان حقيرا، والمهابة وإن كان وضيعا، والسلامة وإن كان سفيها.
وسمع بعض الحكماء رجلا يقول: أنا غريب، فقال: الغريب من لا أدب له.
__________
(1) فى ح «ويكيد».
(2) فى ح «رايتهم»(1/266)
ومن منثور الآداب
قال جالينوس: كما أنه يعرض للبدن المرض والقيح فالمرض مثل الصّرع والشّوصة، (1) والقيح مثل الجرب وتساقط شعر الرأس وقرعه: فكذلك بعرض للنفس مرض وقيح، فمرضها كالغضب، وقيحها كالجهل.
وقال أرسطا طاليس: العلم دليل العقل، والعقل قائد الخير.
وقال: العالم يعرف الجاهل، لأنه قد كان جاهلا. والجاهل لا يعرف العالم، لأنه لم يكن عالما.
وقال: من اتخذ الحكمة لجاما اتخذه الناس إماما.
ومرّ أرسطا طاليس برجل قد قطعت يده، فقال: أخذ ما ليس له، فأخذ ماله.
وقال: كفى بالتّجارب تأدّبا، وبتقلّب الأيام عظة (2).
وقيل لأرسطاطاليس: ما يزين المرء بين إخوانه أيها الحكيم؟ فقال: الأدب يزين غنى الغنيّ، ويشتر فقر الفقير. فقيل له: وما البلاغة؟ فقال: إقلال في إنجاز، وصواب مع سرعة جواب.
وقال أرسطا طاليس: كما أنه ليس من المروءة أن تقتصر من الأموال والعقد (3)
على ما فيه الحاجة وتدعو إليه الضرورة: بل أن تتخذ الأشياء الشريفة التي للبهاء والتجمل: فكذلك العلوم: ليس من المروءة أن تقتصر منها على ما تحتاج لضرب من التّفقه دون أن تكتسب تشريف السّناء بها.
__________
(1) الشوصة بفتح الشين: ريح تأخذ الانسان فى لحمه، تجول مرة ههنا ومرة ههنا ومرة فى الجنب ومرة فى الظهر ومرة فى الحواقن. وقال جالينوس: هو ورم فى حجاب الأضلاع من داخل، قاله فى لسان العرب.
(2) ستأتى هذه الكلمة مرة أخرى (ص 238)
(3) العقد: جمع عقدة، وهي: الضيعة والعقار الذى اعتقده صاحبه ملكا.(1/267)
قال سقراط الحكيم: العقول مواهب، والآداب مكاسب.
وقال: العالم طبيب الدّين، والمال داء الدّين، فاذا رأيت الطبيب يجرّ الداء إلى نفسه فكيف يداوي غيره؟! وقال: من لم يعرف الخير من الشرّ فألحقه بالبهائم.
وقال: الدنيا غنيمة الأكياس وحسرة الحمقى (1).
وقال: لا خير في الحياة إلّا لأحد رجلين: ناطق عالم، أو صموت واع.
وقال: إنما يعرف الخطأ بسوء (2) عاقبته، فلست تتّقيه حتى تعرفه، ولا تعرفه حتى تخطي، فلذلك كان بين الإنسان وبين الصواب خطأ كثير.
وقال: من يجرّب يزدد علما، ومن يوقن يزدد يقينا، ومن يستيقن يعمل جاهدا، ومن يحرص على العمل يزدد قوة، ومن يتردّد يزدد شكّا، ومن يكسل يزدد فترة.
وقال: الذنوب الفاضحة، تذهب بالحجج الواضحة.
وقال: لا يكون الحكيم حكيما (3) حتى يغلب جميع شهوات الجسد.
وقال بطليموس: العاقل من عقل لسانه إلّا عن ذكر الله، والجاهل من جهل قدر نفسه.
وقال: متواضع العلماء أكثرهم علما، كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء.
وقال: لست تعرّض المسيء لمقت الله بمثل الإحسان إليه مع الإساءة منه إليك.
__________
(1) كتب فى الأصلين «الحمقا» بالألف.
(2) فى ح «لسوء» باللام.
(3) هكذا فى ح، وفى الأصل «لا يكون الحليم حليما»(1/268)
وقال: من أحبّ البقاء فليعدّ للمصائب قلبا صبورا.
وقال: ما تزاحمت الظنون على أمر مستور إلّا كشفته.
وقال: من لم يتّعظ بالناس وعظ الله عز وجل به الناس.
وقالوا: كلما قربت أجلا فازدد عملا.
وقالوا: الحازم من لم يشعله البطر بالنعمة عن النظر في العاقبة، ولا الهمّ بالحادثة عن الحيلة فيها.
وقال افلاطون: للعادة على كل شيء سلطان.
وقال: إذا أقبلت الدنيا خدمت الشهوات العقول، وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات.
وقال: لا تقصروا أولادكم على آدابكم، فانهم مخلوقون لزمان غير زمانكم.
وقال: ليس يكمل عقل الرجل حتى يكون صديق المتعاديين.
وقال: ما أدرى ما الهوى؟! غير أنى أعلم أنه جنون إلهيّ لا محمود ولا مذموم.
وقال أبنوس بن أبينوس (1): موت الرؤساء أفضل [من] (2) رئاسة السّفل.
وقال: إذا بخل الملوك بالمال كثير الإرجاف بهم.
وقال سولون الحكيم: لا يضبط الكثير من لا يضبط نفسه الواحدة.
وقال: الجزع أتعب من الصّبر.
__________
(1) هكذا كتب الاسمان فى ح، وكذلك في الأصل ولكن الياء لم تنقط. ولم أعرف صاحب الاسم ولا صحته، وإنما يوجد فى كتاب (تاريخ الفلاسفة) الذي ترجمه عن اللغة الفرنساوية عبد الله بن حسين المصرى، المطبوع بنولأق سنة 1252 (ص 108102) ثم طبع فى الجوائب سنة 1302 (ص 9389) فيلسوف اسمه «انتيثينوس» واسم أبيه كذلك، فلعله الذى نقل عنه هنا.
(2) الزيادة من ح(1/269)
وقال: إذا ضاقت حالك فلا تستشيرنّ الإفلاس، فانه لا يشير عليك بحيرا وقال بقراط: النفس المنفردة بطلب الرغائب وحدها تهلك.
وقال: من صحب السلطان فلا يجزع من قسوته، كما لا يجزع الغوّاص من ملوحة البحر.
وقال: من أحبّ لنفسه الحياة أماتها.
وقال أرسطاطاليس: كما لا ينبت المطر الشديد الصّخر كذا لا ينتفع البليد بكثرة التعليم.
وقال: كفى بالتجارب تأدّبا، وبتقلّب الأيام عظة (1).
وقال: الجاهل عدوّ لنفسه، فكيف يكون صديقا لغيره؟!
كتمان السرّ (2)
قال الله عز وجل في سورة يوسف: {إِذْ قََالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يََا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سََاجِدِينَ [4] قََالَ: يََا بُنَيَّ لََا تَقْصُصْ رُؤْيََاكَ عَلى ََ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً، إِنَّ الشَّيْطََانَ لِلْإِنْسََانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [5]}.
64* وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «استعينوا على الحاجات بالكتمان، فكلّ ذي نعمة محسود (3)».
__________
(1) هذه الكلمة سبقت فى (ص 235).
(2) فى ح «فصل فى كتمان السر».
(3) هذا الحديث ضعيف، نسبه السيوطي في الجامع الصغير والعجلوني فى كشف الخفا (ج 1ص 123) إلى الطبراني وأبي نعيم والبيهقى عن معاذ بن جبل، وإلى غيرهم أيضا بأسانيد أخرى. ولفظ السيوطى:
«استعينوا على إنجاح الحوائج» ولفظ العجلونى «على إنجاح حوائجكم». وانظر لسان الميزان (ج 3 ص 3231) ورواه الحافظ ابن حبان فى روضة العقلاء (ص 165164) من حديث أبى هريرة وقال «إسناد حسن وطريق غريب» ثم أشار إليه أنه حديث ضعيف.(1/270)
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه أنه قال: سرك أسيرك، فاذا تكلمت به صرت أسيره (1).
وقال بعض الأدباء: من كتم سرّه كان الخيار إليه، ومن أفشى سرّه كان الخيار عليه.
وقال بعض البلغاء: ما أسرّك، ما كتمت سرّك! وقال آخر: ما لم (2) تغيّبه الأضالع، فهو مكشوف ضائع (3).
وقيل لعديّ بن حاتم رحمه الله: أيّ شيء أوضع للرجال؟ قال: كثرة الكلام، وإضاعة السرّ، والثقة بكل أحد (4).
وقال المهلّب بن أبي صفرة رحمه الله: لم أر صدور الرجال تضيق عن شيء ما تضيق عن حمل سرهم.
وخرج عمر (5) بن الضّبيعة الرّقاشي مع ابن الأشعث، فقتل فيمن قتل، وأتي الحجاج برأسه، فوضع بين يديه، فقال الحجاج: ربّ سرّ قد وضعت في هذا الرأس فلم يخرج منه حتى وضع بين يديّ.
وقال أنو شروان: من حصّن سرّه فله بتحصينه خصلتان: الظفر بحاجته، والسلامة من السّطوات. وإظهار الرجل سرّ غيره أقبح من إظهار سرّ نفسه، لأنه يبوء باحدى وصمتين: إما بالخيانة إن كان (6) مؤتمنا، أو النميمة متبرّعا (7).
__________
(1) هذه الكلمة نقلها صاحب (المستطرف) (ج 1ص 282)
(2) في ح «من لم» وهو غير جيد.
(3) من أول الحديث إلى هنا نقله المؤلف عن أدب الدنيا والدين للماوردى (ص 123)
(4) ستأتى هذه الكلمة مرة اخرى فى اواخر الفصل.
(5) فى الأصلين «عمرو» وصححناه من تاريخ الطبرى (ج 8ص 36).
(6) فى ح «وإن كان».
(7) كذا فى الأصلين، وفى أدب الدنيا والدين «أو النميمة إن كان مستودعا».(1/271)
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: القلوب أوعية السرائر، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كل امرئ مفتاح سرّه (1).
وقال الشاعر (2):
ألم تر أنّ وشاة الرّجا ... ل لا يتركون أديما صحيحا
فلا تفش سرّك إلّا إليك ... فإنّ لكلّ نصيح نصيحا
وقال الآخر (3):
إذا المرء أفشى سرّه بلسانه ... ولام عليه غيره فهو أحمق
إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه ... فصدر الّذي يستودع السّرّ أصيق
وقال صالح بن عبد القدّوس (4):
لا تذع سرّا إلى طالبه ... منك إنّ الطّالب السّرّ مذيع
وقال آخر (5):
وسرّك ما كان عند امرئ ... وعند الثّلاثة غير الخفي
وقال جميل بن معمر (6):
أجود بمضنون التّلاد وإنّني ... بسرّك عمّن سالني لضنين
إذا جاوز الإثنين سرّ فإنّه ... بنثّ وتكثير الوشاة قمين
__________
(1) هذه الكلمة عند الماوردى (ص 124)
(2) البيتان عند الماوردى (ص 123) مع اختلاف قليل، والبيت الثانى فى محاضرة الأدباء للراغب (ج 1ص 59).
(3) البيتان بهذا اللفظ عند الماوردى (ص 123) والمستطرف (ج 1ص 284)، والبيت الثاني عند الراغب (ج 1 ص 59). وروى الحافظ ابن حبان فى روضة العقلاء (ص 165) بيتين بمعناهما عن عبد العزيز بن سليمان
(4) البيت رواه الماوردى (ص 124) بلفظ مقارب لما هنا، ونقله المستطرف (ج 1 ص 284) نثرا
(5) البيت عند الماوردى (ص 124)
(6) هكذا نسب الشعر لجميل هنا، وهو خطأ، وقد مضى فى (ص 23) من هذا الكتاب أنهما لقيس بن الخطيم، وهو الصواب انظر الأمالى (ج 2ص 177و 202) وديوان قيس (ص 28) والمستطرف (ج 1ص 284).(1/272)
وقال آخر: (1)
ولا تنطق بسرّك كلّ سرّ ... إذا ما جاوز الإثنين فاشي
وروي: أن عبد الله بن طاهر تذاكر الناس في مجلسه حفظ السرّ فقال (2):
وما السّرّ في صدري كميت بقبره ... لأنّي رأيت الميت ينتظر النّشرا
ولكنّني أخفيه حتّى كأنّني ... بما كان منه لم أحط ساعة خبرا
وقال آخر: (3)
ولو قدرت على نسيان ما اشتملت ... منّي الضّلوع من الأسرار والخبر
لكنت أوّل من ينسى سرائره ... إذ كنت من نشرها يوما على خطر
وأحسن القائل:
لو أنّ امرأ أخفى الهوى عن ضميره ... لمتّ ولم يعلم بذاك ضمير
وإنّي سألقى الله يا ليل لم أبح ... بسرّك، والمستخبرون كثير
قالت الحكماء: كتمان السرّ كرم في النفس، وسموّ في الهمة، ودليل على المروءة، وسبب للمحبة، ومبلغ إلى جليل الرتبة.
وقالوا: من كتم سرّه كان موضعا لودائع القلوب.
وقالوا: سرّك من دمك، فانظر عند من تجعله (4).
وقالوا: صدرك أوسع لسرك.
__________
(1) نقله الماوردى أيضا (ص 124).
(2) الحكاية نقلها الماوردى (ص 124) ونسب الشعر لابن عبد الله بن طاهر، وهو عنده ثلاثة ابيات مع بعض اختلاف فى اللفظ
(3) البيتان عند الماوردى (ص 124) مع بعض خلاف يظهر أنه من خطأ الناسخ او الطابع. وما هنا أصح وأجود.
(4) نقل الماوردى (ص 123) عن بعض الحكماء «سرك من دمك» فاذا تكلمت به فقد أرقته.»(1/273)
وقالوا: الصبر على كتمان السر أيسر من الندامة على إفشائه.
وقالوا: لا تفش سرّك إلّا عند من يضرّه نشره كما يضرك، وينفعه ستره كما ينفعك.
وقالوا: كلّ سرّ تكتمه عدوّك فلا تطلع عليه صديقك.
وقالوا: أصبر الناس من صبر على كتمان سرّه، فلم يبده (1) لصديقه خوفا من أن يصير عدوّا فيذيعه (2).
وقال الشاعر:
كن من صديقك حاذرا فلربّما ... خان الصّديق فصار غير صديق
واحذر صديقك لا عدوّك إنّما ... حركات سرّك عند كلّ صديق
وقال آخر (3):
سأكتمه سرّي وأكتم سرّه ... ولا غرّني أنّي عليه كريم
حليم فينسى (4) أو جهول يذيعه ... وما النّاس إلّا جاهل وحليم
وقال آخر (5):
تبوح بسرّك ضيقا به ... وتبغي لسرّك من يكتم
وكتمانك السّرّ ممّن تخاف ... ومن لا تخوّفه أحزم
إذا ضاع سرّك من مخبر ... فأنت إذا لمته ألوم
__________
(1) فى ح «فلا يبده» وهو خطأ.
(2) قال الراغب فى المحاضرات (ج 1ص 59):
«قيل: أصبر الناس من صبر على كتمان سره فلم يبده لصديقه. الصبر على الهاب النار أهون من الصبر على كتمان السر».
(3) البيتان فى روضة العقلاء (ص 166).
(4) فى الروضة «حليم فيفشى» وأظنه تصحيفا.
(5) البيت الأول عند الراغب (ج 1ص 59). والأبيات الثلاثة فى الروضة (ص 165) مع اختلاف يسير.(1/274)
وقال آخر:
إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرّها ... فسرّك عند النّاس أفشى وأضيع (1)
وقال آخر:
لا تفش سرّك ما استطعت إلى امرىء ... يفشي إليك سرائرا يستودع
فكما تراه بسرّ غيرك صانعا ... فكذا بسرّك لا محالة يصنع
وقيل لعديّ بن حاتم رحمه الله: أيّ الأشياء أوضع للرجال؟ قال: كثرة الكلام، وإضاعة السرّ، والثقة بكل أحد (2).
وعن علي بن هشام (3) قال: سمعت المأمون يقول: الملوك تحتمل كلّ شيء إلّا ثلاثة أشياء: القدح في الملك، وإفشاء السرّ، والتعرض للحرم.
أنشد الزّبير لرجل من بني عبد شمس بن سعد (4):
إذا ما ضاق صدرك من حديث ... فأفشته الرّجال فمن تلوم؟
إذا عاتبت من أفشى (5) حديثي ... وسرّي عنده فأنا الظّلوم!
وإنّي يوم أسأم حمل سرّي * وقد ضمّنته صدري سؤوم وأطوي السّرّ دون النّاس، إنّي ... لما استودعت من سرّ كتوم
وقال آخر:
__________
(1) رسم فى الأصل «أفشا» بالألف. والشطر الثانى فى الروضة (ص 167) بلفظ: «فأنت إذا حملته الناس أضيع»
(2) هذه القطعة لا توجد فى ح، وهو أحسن، لأنها سبقت في (ص 239)
(3) فى ح «علي بن هاشم».
(4) الأبيات رواها ابن حبان فى الروضة (ص 167) قال:
«أنشدنى محمد بن سليمان بن سلام الجمحي لرجل من عبد شمس» ثم ذكرها خمسة أبيات، بزيادة يبت عما هنا، مع اختلاف يسير فى الألفاظ.
(5) فى الأصل «أفشا» بالألف.(1/275)
إنّ الكريم الّذي تبقى مودّته ... ويحفظ السّرّ إن صافى (1) وإن صرما
ليس الكريم الّذي إن زلّ صاحبه ... بثّ الّذي كان من أسراره علما
فصل فى أداء الأمانة
مما ورد فى الكتاب العزيز
قال الله تعالى في سورة البقرة: {يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ، وَإِيََّايَ فَارْهَبُونِ [40].}
ومنها: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثََاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مََا أَمَرَ اللََّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، أُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ [27]}.
ومن النساء (2): {وَيَقُولُونَ: طََاعَةٌ، فَإِذََا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طََائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ، وَاللََّهُ يَكْتُبُ مََا يُبَيِّتُونَ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ. وَكَفى ََ بِاللََّهِ وَكِيلًا [81]}.
ومن سورة آل عمران: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطََارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينََارٍ لََا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلََّا مََا دُمْتَ عَلَيْهِ قََائِماً. ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قََالُوا: لَيْسَ عَلَيْنََا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ. وَيَقُولُونَ عَلَى اللََّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [75] بَلى ََ، مَنْ أَوْفى ََ بِعَهْدِهِ وَاتَّقى ََ فَإِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [76] إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللََّهِ وَأَيْمََانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولََئِكَ لََا خَلََاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلََا يُكَلِّمُهُمُ اللََّهُ وَلََا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ}
__________
(1) فى الأصل «صافا» بالألف.
(2) كتب فى الأصل «ومنها» ثم صحح فوقه بخط آخر بقوله «ومن النساء». والآية في سورة النساء. ولم تذكر هذه أصلا فى ح، ولعله الصواب، لتقدمها هنا عن موضعها خلافا لما اتبعه المؤلف فى كتابه هذا.(1/276)
{الْقِيََامَةِ وَلََا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ [77]}.
ومن سورة النساء: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا وَإِذََا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النََّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. إِنَّ اللََّهَ نِعِمََّا يَعِظُكُمْ بِهِ. إِنَّ اللََّهَ كََانَ سَمِيعاً بَصِيراً [58]}.
ومن سورة الأنفال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللََّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ [55] الَّذِينَ عََاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لََا يَتَّقُونَ [56] فَإِمََّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [57]} (1).
ومن سورة التوبة: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجََارَكَ فَأَجِرْهُ حَتََّى يَسْمَعَ كَلََامَ اللََّهِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ. ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَعْلَمُونَ [6]}.
ومنها: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمََانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقََاتِلُوا} [2] أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لََا أَيْمََانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ [12] أَلََا تُقََاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمََانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرََاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ (3)
أَوَّلَ مَرَّةٍ. أَتَخْشَوْنَهُمْ؟! فَاللََّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [13].
ومن سورة الأنعام: {وَلََا تَقْرَبُوا مََالَ الْيَتِيمِ إِلََّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتََّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزََانَ بِالْقِسْطِ. لََا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا. وَإِذََا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كََانَ ذََا قُرْبى ََ. وَبِعَهْدِ اللََّهِ أَوْفُوا. ذََلِكُمْ وَصََّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [152]}.
__________
(1) الآية 57لم تذكر فى ح.
(2) كتب فى الأصلين «فى دينهم فاقتلوا» وهو خطأ وجهل من الكاتبين.
(3) رسمت فى الأصلين «بداوكم».(1/277)
ومن سورة الرعد: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللََّهِ وَلََا يَنْقُضُونَ الْمِيثََاقَ [20] وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مََا أَمَرَ اللََّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخََافُونَ سُوءَ الْحِسََابِ [21]}.
ومنها: {(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثََاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مََا أَمَرَ اللََّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولََئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدََّارِ [25]}.
أحاديث
(1).
65* عن عبد الله بن عمر رضوان الله عليهما: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول: «أسألك العفّة والأمانة وحسن الخلق ورضى بالقدر (2)».
66* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بينا النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يحدّث القوم حديثا، فقام أعرابيّ فقال: يا رسول الله، ومتى السّاعة؟ قال: فمضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحدّث، قال: فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتّى إذا قضى حديثه قال صلّى الله عليه وسلم: أين السّائل عن السّاعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله. قال: إذا ضيّعت الأمانة فانتظر السّاعة. قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر السّاعة (3)».
__________
(1) فى ح «الأحديث»
(2) رواه الخرائطي فى مكارم الأخلاق (ص 27) باسناد صحيح أو حسن، وكذلك البخارى فى الأدب المفرد (ص 62)
(3) رواه البخارى (ج 1ص 21 وج 8ص 104) وأحمد فى المسند برقم 8714 (ج 2ص 261)(1/278)
وعن عبد الله بن عمرو (1) رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا * 67 رأيت النّاس قد مرجت عهودهم (2)، وخفّت أماناتهم، وصاروا هكذا وشبّك بين أصابعه: فالزم بيتك، وعليك بخاصّه نفسك، وذر عنك أمر العامّة، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر (3)».
وعن أبي هريرة رحمه الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أدّ الأمانة إلى * 68 من أئتمنك، ولا تخن من خانك (4)».
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث من * 69 يكن فيه واحدة منهنّ فلا يعبأ (5) بشىء من عمله: من لم يكن له ورع يحجزه عن معاصي الله، أو حلم يكفّ به السّفيه، أو خلق يعيش به في النّاس. وثلاث من كان فيه واحدة منهنّ زوّج من الحور العين: رجل ائتمن على أمانة خفيّة شهيّة فأدّاها من مخافة الله عزّ وجلّ، ورجل عفا (6)
عن قاتله، ورجل قرأ (قل هو الله أحد) في دبر كلّ صلاة. وثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن أكن خصمه أخصمه: رجل استأجر أجيرا
__________
(1) فى الأصلين «عبد الله بن عمر» وهو خطأ، وكذلك وقع هذا الخطأ فى النهاية لابن الأثير فى مادة (مرج).
(2) مرجت عهودهم: أى اختلطت.
(3) الحديث رواه أحمد فى المسند من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص برقم 6987 (ج 2ص 212) ونسبه فى الجامع الصغير (رقم 626) للحاكم.
(4) رواه الحاكم (ج 2ص 46) من حديث أبي هريرة ومن حديث أنس والخرائطى (ص 28) من حديث أبي هريرة. ونسبه السيوطي فى الجامع الصغير (رقم 308) للبخارى فى التاريخ وأبى داود والترمذى من حديث أبى هريرة، وللدار قطنى والضياء من حديث أنس. وانظر الدر المنثور (ج 2ص 175)
(5) كتب فى الأصلين «يعبو» بالواو.
(6) كتب فى ح «عفى» بالياء.(1/279)
فظلمه ولم يوفه أجره، ورجل حلف بالله فغدر، ورجل باع حرّا فأكل ثمنه (1)».
70* وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أداء الحقوق وحفظ الأمانات ديني ودين النّبيّين من قبلي. وقد أعطيت ما لم يعطه أحد من قبلي من الأمم: أن جعل الله تعالى قربانكم الاستغفار، وجعل صلاتكم الخمس بالأذان والإقامة، ولم تصلّها أمّة قبلكم، فحافظوا على صلواتكم، وأىّ عبد صلّى الفريضة واستغفر الله عزّ وجلّ عشر مرّات لم يقم من مقامه حتّى يغفر الله تعالى له ذنوبه، ولو كانت مثل رمل عالج وجبال تهامة لغفرها (2)».
71* وعن ثوبان رحمه الله: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ثلاث معلّقات بالعرش:
الرّحم تقول: اللهمّ إني بك فلا أقطع، والأمانة تقول: اللهمّ إني بك فلا أخان، والنّعمة تقول: اللهمّ إني بك فلا أكفر (3)».
72* وعن أبي الدّرداء رحمه الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «خمس من جاء بهنّ [يوم القيامة] مع إيمان دخل الجنّة: من حافظ على الصّلوات الخمس، على [وضوئهنّ و] ركوعهنّ وسجودهنّ ومواقيتهنّ، وأعطى الزّكاة من
__________
(1) لم أجد هذا الحديث بهذا النص، ولكن روى البخارى (ج 3ص 8382وص 90) من حديث أبي هريرة عن النبى صلّى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بى ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره، ورواه ابن ماجه (ج 2ص 4544) ولم يجعله حديثا قدسيا. وأما القسم الأول من الحديث فقد ذكر فى الجامع الصغير معناه مختصرا (رقم 2424) من حديث ابن عباس، ونسبه لابن عساكر، وأشار إلى انه حديث ضعيف.
(2) لم أجد هذا الحديث.
(3) نقله المنذرى فى الترغيب (ج 4ص 43) ونسبه إلى البزار، والسيوطى فى الجامع الصغير (رقم 3470) ونسبه إلى البيهقى فى الشعب، وأشار إلى أنه حديث ضعيف.(1/280)
ما له طيّب النّفس بها وكان يقول: وايم الله لا يفعل ذلك إلّا مؤمن وصام شهر رمضان، وحجّ البيت إن استطاع إليه سبيلا، وأدّى الأمانة».
قالوا: يأبا الدرداء، ما أداء الأمانة؟ قال: الغسل من الجنابة، فانّ الله تعالى لم يأتمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها (1).
وعن ميمون بن مهران (2) قال: ثلاثة تؤدّى إلى البرّ والفاجر: الرّحم، توصل، برّة كانت أو فاجرة، والأمانة، تؤدّى الى البرّ والفاجر، والعهد، يوفى (3) به للبرّ والفاجر.
وقال السريّ بن المغلّس (4) رحمه الله: أربع من أعطيهنّ فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وعفاف الطّعمة، وحسن الخليقة.
وقال بعض الحكماء: من كان وفاؤه سجية، وطباعه كريمة، ورأى المكافأة بالإحسان تقصيرا حتى يتفضّل، ولم يقصّر عن معروف يمكنه وإن لم يشكر، ويبذل جهده لمن امتحن ودّه: فذلك الكامل.
وقال الحكيم: أربع يسوّدن العبد: الأدب، والصدق، وأداء الأمانة، والمروءة.
__________
(1) الحديث رواه الطبرى فى التفسير (ج 22ص 39) والزيادات هنا منه، ونقله عنه ابن كثير فى التفسير (ج 6ص 622) ونسبه أيضا لأبى داود. وفى الطبرى وابن كثير: «فان الله لم يأمن ابن آدم على شىء من دينه غيره».
(2) فى الأصلين «ميمون بن بهرام» وهو خطأ، صححناه من كتب الرجال ومن الدر المنثور (ج 2ص 175) وقد روى هذا الأثر وذكر أن البيهقى رواه، وكذلك رواه الخرائطي (ص 28)
(3) رسم فى الأصلين «يوفا» بالألف.
(4) هو السري السقطي أحد العباد المشهورين، له ترجمة فى تاريخ بغداد (ج 9ص 192187) والأثر المروى عنه هنا جاء بمعناه حديث مرفوع من حديث عبد الله بن عمرو، نقله فى الدر المنثور (ج 2ص 175) ونسبه للبيهقى فى الشعب، ورواه الخرائطي فى مكارم الأخلاق (ص 27) والبخارى فى الأدب المفرد (ص 58).(1/281)
وقال الآخر: من عرف بالوفاء حافظ عليه أهل مودّته، وتاقت أنفس الكرام إلى نصرته.
قال الشاعر:
وإذا امرؤ أدّى إليك أمانة ... يعتدّ عندك أنّه أخفاها (1)
فاحفظ أمانته ولا تعلم بها (2) ... فتكون أوّل واحد أفشاها
وقال آخر:
وإنّ أمانتي لا يحتويها ... خليل في زيال واجتماع
سأرعاها وإن هو غاب عنها ... لكلّ أمانة بالغيب راع
وقال العرجيّ:
وما حمّل الإنسان مثل أمانة ... أشقّ عليه حين يحملها حملا
فإن أنت حمّلت الأمانة فاصطبر ... عليها فقد حمّلت من أمرها ثقلا
ولا تقبلن فيمن رضيت نميمة ... وقل للّذي يأتيك يحملها: مهلا
وقال آخر:
سأرعى كلّ ما (3) استودعت جهدي ... وقد يرعى أمانته الأمين
وذو الخير المؤثّل ذو وفاء ... كريم لا يملّ ولا يخون
وقال آخر:
ثقي منّي وتقنعك اليمين ... بأنّي لا أملّ ولا أخون
__________
(1) فى الأصل «وإن امرءا» والبيت بها لا يستقيم وصححناه من ح.
(2) يريد بقوله «لا تعلم بها» أى: انسها ولا تذكرها. ومن ذلك: أن رجلا استكتم صاحبه سرا فلما أفضى به إليه قال له: هل فهمت؟ قال: قد نسيت وذلك مبالغة فى كتمان السر. وقد مضى بيتان لعبد الله ابن طاهر فى هذا المعنى (ص 241)
(3) كتبت فى الأصلين «كلما».
وأنّي حافظ للعهد راع ... وفيّ العقد مؤتمن أمين
فلا تخشي خيانة ذي وفاء ... سيأتى الغدر لي كرم ودين
وقال حاتم الطائيّ:(1/282)
__________
(3) كتبت فى الأصلين «كلما».
وأنّي حافظ للعهد راع ... وفيّ العقد مؤتمن أمين
فلا تخشي خيانة ذي وفاء ... سيأتى الغدر لي كرم ودين
وقال حاتم الطائيّ:
فأقسمت لا أمشي إلى سرّ جارة ... يد الدّهر مادام الحمام يغرّد (1)
ولا أشتري مالا بغدر علمته ... ألا كلّ مال خالط الغدر أنكد
فصل فى فضل التواضع
مما ورد فى الكتاب العزيز
قال الله عز وجل في سورة آل عمران {فَبِمََا رَحْمَةٍ مِنَ اللََّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشََاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذََا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ. إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [159]}.
ومن سورة الأعراف: {وَلَقَدْ خَلَقْنََاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنََاكُمْ ثُمَّ قُلْنََا لِلْمَلََائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلََّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السََّاجِدِينَ [11] قََالَ: مََا مَنَعَكَ أَلََّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟ قََالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نََارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [12] قََالَ: فَاهْبِطْ} [2] مِنْهََا فَمََا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهََا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصََّاغِرِينَ [13].
(1) فى الديوان ص 18 (أوربا) والرواية هناك: «مدى الدهر»، وهو موافق لما فى ح ولكن رسمت فها «مدا» بالألف، وقوله «بد الدهر» اى ابدا، يقال «لا آتيه بد الدهر» أى: لا آتيه الدهر كله.
(2) كتب فى الأصلين «فاخرج منها» وهو خطأ.(1/283)
أحاديث
73* عن طلحة بن عبيد الله (1) رضي الله عنه قال: «تمشّى معنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكّة وهو صائم، فأجهده الصّوم، فحلبنا له ناقة في قعب (2)
وصببنا عليه عسلا، نكرم به رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند فطره، فلمّا غربت الشّمس ناولناه القعب، فلمّا ذاقه قال بيده: كأنّه يقول: ما هذا؟ قلنا:
لبن وعسل أردنا أن نكرمك به، أحسب (3) أنّه قال: أكرمك الله بما أو كما أكرمتني، أو دعوة هذا معناها، ثم قال صلّى الله عليه وسلم: من اقتصد أغناه الله، ومن بذّر أفقره الله، ومن تواضع رفعه [الله] (4)، ومن تجبّر قصمه الله (5)».
74* وعن الحسن رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إليّ: أن تواضعوا حتّى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد (6) على أحد، وكونوا عباد الله إخوانا (7)».
وعن الأسود بن يزيد رحمه الله عن عائشة رضوان الله عليها قالت: إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة: التواضع (8).
__________
(1) فى الأصلين «طلحة بن عبد الله» وهو خطأ.
(2) القعب: القدح الضخم الغليظ الجافى.
(3) بفتح السين وكسرها، وفى الصحاح أن الكسر شاذ، وفى اللسان أنه أجود اللغتين.
(4) لم يذكر لفظ الجلالة فى الأصل.
(5) لم اجد الحديث كله، ولكن ذكر السيوطي فى الجامع الصغير (رقم 8501) القسم الأخير منه من أول «من اقتصد» ونسبه إلى البزار، وأشار إلى ضعفه.
(6) فى الأصلين «احدكم» وليس ذلك فى شىء من روايات الحديث.
(7) الحديث رواه مسلم (ج 2ص 357) وأبو داود (ج 4ص 425) من حديث عياض بن حمار بالراء فى آخره بلفظ الدابة المعروفة وليس عندهما قوله «وكونوا» الخ وهو وارد فى أحاديث اخر. وروى ابن ماجه منه الأمر بالتواضع فقط (ج 7ص 283).
(8) لم اجد هذا الأثر.(1/284)
قولها «تغفلون» أي: تتركون.
وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «طوبى (1) لمن تواضع من غير منقصة، * 75 وذلّ في نفسه من غير مسكنة، وأنفق مالا جمعه من غير معصية، ورحم أهل الذّلّ والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة. طوبى لمن ذلّ في نفسه، وطاب كسبه، وصلحت سريرته، وكرمت علانيته، وعزل عن النّاس شرّه. طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله (2)».
وعن أنس بن مالك رحمه الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ العفو لا يزيد * 76 العبد إلّا عزّا، فاعفوا يعزّكم الله وإنّ التّواضع لا يزيد العبد إلّا رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله. وإنّ الصّدقة لا تزيد المال إلّا نماء، فتصدّقوا يرحمكم الله (3)».
وعن عبد الله بن عمرو (4) رحمه الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يحشر المتكبّرون * 77 يوم القيامة أمثال الذّرّ، في صور النّاس، يعلوهم كلّ شىء من الصّغار،
__________
(1) كتب فى الأصل «طوبا» بالألف.
(2) الحديث رواه ابن الأثير فى أسد الغابة باسناده (ج 2ص 189188) ونقله المنذرى فى الترغيب (ج 4ص 1514) ونسبه للطبرانى، وذكره السيوطى فى الجامع الصغير (رقم 5299) ونسبه للبخارى فى التاريخ والبغوى والبارودى وابن قانع والطبراني والبيهقى، وأشار إلى أنه حديث حسن. وتبع فى ذلك ابن عبد البر فى الاستيعاب (ص 189) فى ترجمة الصحابى المروى عنه، وهو «ركب المصرى». قال ابن منده «غير منسوب وهو مجهول لا تعرف له صحبة». وقال ابن حجر فى الاصابة (ج 2ص 213): «إسناد حديثه ضعيف، ومراد ابن عبد البر بانه حسن حسن لفظه» ثم نقل عن ابن حبان قوله في ركب هذا: «يقال إن له صحبة إلا أن إسناده لا يعتمد عليه».
(3) لم أجده بهذا اللفظ من حديث أنس، ولكن جاء معناه من حديث أبى هريرة، رواه مسلم والترمذى كما في الترغيب (ج 4ص 14). وانظر أيضا الجامع الصغير (رقم 3449و 3450)
(4) فى الأصلين «عبد الله بن عمر» وهو خطأ.(1/285)
يقادون إلى سجن في النّار يقال له «بولس» (1) تعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال: عصارة أهل النّار (2)».
78* عن عبد الله بن حنظلة قال: مرّ عبد الله بن سلام في السّوق وعلى رأسه حزمة من حطب، فقال له ناس: ما يحملك على هذا وقد أغناك الله عنه؟
قال: أردت أن أدفع به الكبر، إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرّة من كبر (3)».
79* وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ثلاث هنّ أصل كلّ خطيئة، فاتقوهنّ واحذروهنّ، وثلاث إذا ذكرن فأمسكوا:
إيّاكم والكبر، فإنّ إبليس إنّما منعه الكبر أن يسجد لآدم عليه السّلام. وإيّاكم والحرص، فإنّ آدم إنّما حمله الحرص على أن أكل من الشّجرة. وإيّاكم والحسد، فإنّ ابني (4) آدم إنّما قتل أحدهما صاحبه حسدا. فهنّ أصل كلّ خطيئة، فاتّقوهنّ واحذروهنّ. والثّلاث:
إذا ذكر القدر فأمسكوا. وإذا ذكر النّجوم فأمسكوا. وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا (5)».
__________
(1) بضم الباء وفتح اللام، كما ضبطه المنذرى فى الترغيب (ج 4ص 18).
(2) رواه أحمد فى المسند (رقم 6677ج 2ص 179) والبخارى فى الأدب المفرد (ص 110) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أى عبد الله بن عمرو، ونسبه المنذرى للترمذى والنسائى.
(3) نقله المنذرى (ج 4 ص 18) ونسبه للطبراني باسناد حسن وللاصبهاني.
(4) فى الأصل «فانما بنى آدم» وفى ح «فان بنى آدم» والصواب ما ذكرنا هنا.
(5) لم اجد الحديث بهذه السياقة، ولكن في الجامع الصغير (برقم 2926) القسم الأول منه، من أول قوله «إياكم والكبر» إلى قوله «فهن أصل كل خطيئة» مع اختلاف قليل فى اللفظ. ونسبه لرواية ابن عساكر عن ابن مسعود، وفيه (برقم 615) القسم الأخير منه، من أول قوله «إذا ذكر القدر» ونسبه للطبراني وابن عدى عن ابن مسعود.(1/286)
وعن فتح بن شخرف (1) قال: رأيت عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه في النّوم، فسمعته يقول: التّواضع ترفّع (2) الفقير على الغنيّ. وأحسن من ذلك تواضع الغنيّ للفقير.
وعن أبي الحسن المهلّبي قال: قال ذو النّون المصريّ رضي الله عنه: علامة السعادة ثلاث: متى ما زيد في عمره نقص من حرصه، ومتى زيد في ماله زيد في سخائه، ومتى زيد في قدره زيد في تواضعه. وعلامة الشقاء ثلاث: متى مازيد في عمره زيد في حرصه، ومتى ما زيد في ماله زيد في يخله، ومتى ما زيد في قدره زيد في تجبّره وقهره وتكبّره.
وعن يزيد بن ميسرة رحمه الله قال: قال عيسى ابن مريم صلّى الله عليه (3):
بحقّ أقول لكم: كما تواضعون كذلك ترفعون، وكما ترحمون كذلك ترحمون، وكما تقضون حوائج النّاس كذلك يقضي الله تعالى من حوائجكم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا استقبله * 80 الرّجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتّى يكون الرّجل ينزع، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتّى يكون الرّجل هو يصرفه، ولا يرى مقدّما ركبتيه بين يدي جليس له (4)».
__________
(1) فى الأصلين «شخرب» بالباء، وهو خطأ، صححناه من اللمع (ص 228) ومن تاريخ بغداد للخطيب، فان للفتح هذا ترجمة مطولة فيه (ج 12ص 388384) وكان أحد العباد السائحين، توفى ببغداد ليلة الثلاثاء للنصف من شعبان سنة 273. والكلمة المنقولة عنه هنا مروية عند الخطيب بلفظين مختلفين (ص 387386)
(2) هكذا في الأصل وهو الموافق لما عند الخطيب، وفى ح «يرفع»
(3) فى ح «على نبينا وعليه اشرف الصلاة والسلام».
(4) رواه ابن سعد فى الطبقات (ج 1ق 2ص 99) وابن ماجه (ج 2ص 209) باسناد ضعيف، ونسبه ابن حجّر فى التهذيب (ج 8ص 133) للترمذى.(1/287)
81* وعن عقبة بن عامر الجهنّي أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يموت [حين يموت] وفي قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر تحلّ له (1) الجنّة أن يريح ريحها (2) ولا يراها. فقال رجل [من قريش] يقال له أبو ريحانة (3): [والله] يا رسول الله، إنّي لأحبّ الجمال [وأشتهيه] حتّى إنّي لأحبّه في علاقة سوطي وفي شراك نعلي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
ليس ذلك الكبر (4)، إنّ الله [عزّ وجلّ] جميل يحبّ الجمال، ولكنّ الكبر من سفه الحقّ وغمص النّاس [بعينيه] (5)».
«سفه الحقّ»: أنكره. «وغمص الناس» (6): احتقرهم ولم يبال بهم وقالت الحكماء: التواضع أحد (7) مصايد الشّرف، والشرف مع التواضع.
والكبر يضع. وهو حمى من المبغضة (8)، وحرز من المقت.
وقال الشاعر:
ولا تمش فوق الأرض إلّا تواضعا ... فكم تحتها قوم هم منك أرفع
فإن كنت في عزّ وحرز ومنعة (9) ... فكم طاح من قوم هم منك أمنع
وكتب أرسطاطاليس إلى الاسكندر: إنّ الذي يتعجب منه الناس فيك:
الجزالة وكبر الهمّة، والذي يحبّونك عليه: التواضع ولين الجانب. فاجمع
__________
(1) فى حد «تحل لها» وهو خطأ.
(2) يقال: «راح يريح وأراح يريح» إذا وجد رائحة الشىء.
(3) فى الأصلين «ابو دجانة» وهو خطأ.
(4) فى الأصلين: «ليس ذلك كبر» وهو خطأ.
(5) الحديث رواه أحمد فى المسند (ج 4ص 151) والزيادات هنا منه. وفى إسناد الحديث رجل مجهول، فهو إسناد ضعيف، ولكن الحديث ورد بأسانيد أخرى، أنظر الأدب المفرد (ص 110) وأبا داود (ج 4ص 102) والترمذى (ج 1ص 360) والحاكم (ج 4ص 181).
(6) من بابي «سمع وضرب».
(7) ستأتي الكلمة بلفظ «اصل» وما هنا أحسن.
(8) في ح «من مبغضة».
(9) فى ح فى حز وعز، وهو خطأ(1/288)
الأمرين يجتمع لك محبّة الناس لك وتعجّبهم منك.
وقال أوميروس: لن تنل، واحلم تنبل، ولا تكن معجبا فتمتهن.
وقالت الحكماء: ثلثة من أحسن (1) الأشياء: جود لغير ثواب، ونصب لغير دنيا، وتواضع لغير ذلّة.
وقال مصعب بن الزبير رضي الله عنهما: التواضع أصل (2) مصائد الشرف.
قال العربيّ:
قوم إذا نزل الغريب بأرضهم ... تركوه ربّ صواهل وقيان
وإذا دعوتهم ليوم كريهة ... سدّوا شعاع الشّمس بالخرصان (3)
متصعلكين على كثافة ملكهم ... متواضعين على عظيم الشّأن
لا ينكتون الأرض عند سؤالهم ... لتطلّب العلّات بالعيدان
بل يبسطون وجوههم فترى لها ... عند السّؤال كأحسن الألوان
وقال آخر:
زاد معروفك عندي عظما ... أنّه عندك مستور حقير
وتناساه (4) كأن لم تأته ... وهو عند النّاس مشهور كبير
__________
(1) فى ح «من احسان» وهو خطأ.
(2) مضت فى (ص 256) بلفظ «أحد»
(3) «الخرصان» بالكسر جمع «خرص» بضم فسكون، أو كسر فسكون: سنان الرمح، وقيل: هو الرمح نفسه
(4) اصلها «وتتناساه» فحذفت التاء الأولى، أو لعلها «تتناساه» بحذف الواو(1/289)
فصل فى حسن الجوار
مما ورد فى الكتاب العزيز
قال الله عزّ وجلّ: {وَاعْبُدُوا اللََّهَ وَلََا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَبِالْوََالِدَيْنِ إِحْسََاناً وَبِذِي الْقُرْبى ََ وَالْيَتََامى ََ وَالْمَسََاكِينِ وَالْجََارِ ذِي الْقُرْبى ََ وَالْجََارِ الْجُنُبِ وَالصََّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمََا مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ. إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ مَنْ كََانَ مُخْتََالًا فَخُوراً [4: 36]}
أحاديث
82* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيدي فقال:
يأبا هريرة، أتّق المحارم تكن أعبد النّاس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى النّاس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وحبّ للنّاس ما تحبّ لنفسك تكن مسلما، وإيّاك وكثرة الضّحك، فإنّ كثرة الضّحك تميت القلب (1)».
83* وعن مجاهد: أنّ عبد الله بن عمرو (2) رضي الله عنهما أمر بشاة فذبحت، فقال لقيّمه (3): هل أهديت لجارنا اليهوديّ شيئا؟ مرّتين (4) فاني سمعت
__________
(1) رواه الخرائطى فى مكارم الأخلاق (ص 42) من رواية الحسن عن أبى هريرة، ونسب المنذرى (ج 3ص 237) هذه الرواية للترمذى. ورواه الخرائطى أيضا (ص 39) من رواية واثلة بن الأسقع عن أبى هريرة، ونسبها المنذرى للبزار والبيهقى فى الزهد. وروى الخرائطى أيضا (ص 41) حديثا آخر بمعناه مختصرا عن أبي الدرداء.
(2) في الأصلين «عبد الله بن عمر» وهو خطأ.
(3) كلمة «لقيمه» محذوفة من ح.
(4) فى الأصلين «شيأ فاني مرتين سمعت» الخ، وهو خطأ ظاهر، صححناه من الترمذي والأدب المفرد للبخارى.(1/290)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما زال جبرئيل يوصيني بالجار، حتّى ظننت أنه سيورّثه (1)».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن * 84 بالله واليوم الآخر فليكرم جاره. قالوا: يا رسول الله، وما حقّ الجار على الجار؟ قال: إن سألك فأعطه، وإن استعانك فأعنه، وإن استقرضك فأقرضه، وإن دعاك فأجابه، وإن مرض فعده، وإن مات فشيّعه، وإن أصابته مصيبة فعزّه، ولا تؤذه بقتار قدرك (2) إلّا أن تعرف له منها، ولا ترفع عليه البناء لتسدّ عليه الرّيح إلّا بإذنه (3)».
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الجيران ثلثة: جار * 85 له حقّ واحد وهو أدنى الجيران حقّا وجار له حقّان، وجار له ثلثة حقوق وهو أفضل الجيران حقّا فأمّا الّذي له حقّ: فجار مشرك لا رحم له، له حقّ الجوار. وأمّا الّذي له حقّان: فجار مسلم لا رحم له، له حقّ الإسلام وحقّ الجوار. وأمّا الّذي له ثلثة حقوق: فجار مسلم ذو رحم، له حقّ الإسلام وحقّ الجوار وحقّ الرّحم. وأدنى حقّ الجار
__________
(1) الحديث رواه بهذا السياق تقريبا البخارى في الأدب المفرد (ص 24و 29) وأبو داود (ج 4ص 504) والترمذى (ج 1ص 353) وقال «حديث حسن غريب من هذا الوجه» والخرائطي فى مكارم الأخلاق (ص 36و 37) واحمد فى المسند (رقم 6496ج 2ص 160) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وجاء اللفظ النبوى من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب فى البخارى (ج 8ص 10) ومسلم (ج 2ص 293) ومسند أحمد (رقم 5577ج 2ص 85) وجاء أيضا من حديث عائشة وأبي هريرة وأنس وغيرهم.
(2) القتار بضما لقاف: ريح القدر والشواء ونحوهما.
(3) نقله المنذرى فى الترغيب (ج 2ص 236) عن ابى القاسم الأصبهانى، وأشار إلى طرقه ثم قال: «ولا يخفى أن كثرة هذه الطرق تكسبه قوة».(1/291)
أن لا تؤذي جارك بقتار قدرك إلّا أن تقدح له منها (1)».
«تقدح»: تغرف، يقال للمغرفة: المقدحة.
86* وعن أبي هريرة رضي الله [عنه] قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا سأل جاره أن يضع خشبة في جداره فلا يمنعه (2)».
87* وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والّذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه أو لجاره ما يحبّ لنفسه (3)».
88* وعن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: «أوصاني خليلي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بثلاث:
الصّلاة في وقتها، وإن (4) أمّر عليّ عبد حبشيّ مجدّع الأطراف أن أسمع له وأطيع. وقال: إذا طبخت لحما فأكثر (5) المرق ثمّ انظر إلى أهل بيت من جيرانك فأصبهم منه بمعروف (6)».
89* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى نبيّ الله صلّى الله عليه وسلم فقال: دلّني على عمل إذا عملت به دخلت الجنّة ولا تكثر عليّ؟ قال:
لا تغضب. قال: وأتاه آخر فقال: يا نبيّ الله، دلّني على عمل إذا عملت
__________
(1) نقله السيوطي في الجامع الصغير (رقم 3656) ما عدا آخره من أول قوله «وادنى حق الجار» ونسبه للبزار وابى الشيخ وأبى نعيم. وهذا الحديث والذى قبله روى الخرائطي حديثا بمعناهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (ص 4140).
(2) رواه البخارى بلفظ «لا يمنع جار جاره ان يغرز خشبة فى جداره» (ج 3ص 132) ومسلم (ج 1ص 473) والترمذى (ج 1ص 253) وغيرهم.
(3) رواه بمعناه مسلم (ج 1ص 28).
(4) فى الأصل «فان» وما هنا موافق لما فى ح وهو الصواب.
(5) فى الأصلين «كثر» بدون الفاء وهو خطأ.
(6) الحديث رواه البخارى فى الأدب المفرد بمعناه (ص 25) واحمد فى المسند (ج 5ص 161و 171) ورواه مسلم مفرقا فى ثلاث مواضع (ج 1ص 179وج 2ص 85و 293) وروى احمد القسم الأخير منه وحده (ج 5ص 149) وكذلك الخرائطي (ص 39)(1/292)
به دخلت الجنّة؟ فقال: كن محسنا. فقال: وكيف أعلم أنّي محسن؟
فقال: سل جيرانك، فإن قالوا: إنّك محسن فإنّك محسن، وإن قالوا: إنّك مسيء فأنت مسيء (1)».
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والّذي * 90 نفسي بيده، لا يسلم عبد حتّى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن عبد حتّى يأمن جاره بوائقه. قلنا: يا رسول الله، وما بوائقه؟ قال: غشّه وظلمه (2)».
وعن سعيد بن المسيّب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «حرمة الجار * 91 على الجار كحرمة أمّه (3)».
وعن أبي شريح الكعبيّ (4) رحمه الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من * 92 كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة (5)، والضّيافة ثلاثة
__________
(1) لم أجد الحديث كله من حديث أبى هريرة، ولكن القسم الأول منه فى النهي عن الغضب رواه البخارى مختصرا من حديث أبى هريرة (ج 8ص 28)، والقسم الثاني منه فى الأمر بالاحسان رواه الخرائطي بمعناه من حديث ابن مسعود (ص 42)، وكذلك احمد (رقم 3808ج 1ص 402).
(2) هو قطعة من حديث طويل رواه أحمد (رقم 3672ج 1ص 387) والحاكم (ج 4ص 165)، وجاء هذا المعنى من حديث أبي شريح عند البخاري (ج 8ص 10) ومن حديث أبى هريرة عند الحاكم (ج 1ص 10وج 4ص 165).
(3) هكذا نقله المؤلف مرسلا عن سعيد، ونقله السيوطى فى الجامع الصغير (رقم 3706) من حديث أبى هريرة ونسبه لأبى الشيخ، واشار إلى ضعفه، ولكن لفظه «كحرمة دمه».
(4) هو أبو شريح الخزاعى ثم الكعبى، ولذلك ينسب فى بعض الروايات خزاعيا وفى بعضها كعبيا.
(5) جائزته: بالرفع، وهى توافق رواية البخارى (ج 8 ص 32) وفى بعض الروايات عند البخارى وغيره «فليكرم ضيفه جائزته بالنصب قال: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يوم او ليلة»(1/293)
أيّام، وما كان بعد ذلك فهو صدقة (1)».
93* وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنّ رجلا جاء إليه يشكو جاره، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: كفّ أذاك عنه واصبر على أذاه، وكفى بالموت فراقا (2)».
وعن الحسن البصري رضي الله عنه: ليس حسن الجوار كفّ الأذى عن الجار، ولكن حسن الجوار الصّبر على الأذى من الجار.
94* وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الجار ليتعلّق بجاره يوم القيامة فيقول: يا ربّ، أوسعت على أخي هذا وقتّرت عليّ، أمسي جائعا ويمسي هذا شبعان، فسله: لم أغلق بابه دوني وحرمني ما قد وسّعت عليه؟ (3)».
95* وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليس بمؤمن الّذي يبيت شبعان ويبيت جاره إلى جنبه جائعا (4)».
96* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تعوّذوا بالله من ثلاث فواقر: تعوّذوا بالله من مجاورة جار السّوء، إن رأى خيرا دفنه،
__________
(1) الحديث رواه البخارى فى الصحيح (ج 8ص 11و 32) وفي الأدب المفرد (ص 149148) ومسلم (ج 1ص 29) والترمذى (ج 1ص 356) وابن ماجه (ج 2ص 204و 205) والحاكم (ج 4ص 164) والخرائطى (ص 38) وجاء معنى الحديث أيضا من حديث أبى هريرة عند البخارى وغيره.
(2) رواه ابن السنى فى عمل اليوم والليلة (رقم 554) مطولا وفيه أنه قال: الصبر على أذاه وكف أذاك عنه، فما لبث إلا يسيرا ثم جاء فقال: يا رسول الله، جارى ذاك مات، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: كفى بالدهر واعظا والموت مفرقا»، وفى إسناده ضعف.
ونسبه أيضا فى كشف الخفا (ج 2ص 112) وفى أسباب ورود الحديث (ج 2ص 139) للعسكرى.
(3) لم أجده بهذا اللفظ من حديث أنس، ونقل المنذري في الترغيب (ج 3ص 237) حديثا مختصرا بمعناه عن ابن عمر، ونسبه للأصبهاني وأشار إلى ضعفه.
(4) رواه الحاكم (ج 4ص 167) وصححه هو والذهبى، ونسبه المنذرى (ج 3ص 227) للطبرانى وأبى يعلى وقال «رواته ثقات».(1/294)
وإن رأى شرّا أذاعه. وتعوّذوا بالله من زوجة السّوء، إن دخلت عليها لسنتك (1)، وإن غبت عنها خانتك. وتعوّذوا بالله من إمام السّوء، إن أحسنت لم يقبل منك، وإن أسأت لم يغفر لك (2)».
عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ما تقولون * 97 في السّرقة؟ قلنا: حرام حرّمها الله تعالى. فقال: لأن يسرق الرّجل من عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره. قال: فما تقولون في الزّنا؟ قلنا: حرام حرّمه الله تعالى ورسوله. قال: لأن يزني الرّجل بعشرة نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره (3)».
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من ميّت * 98 يموت فيشهد له رجلان من جيرانه الأذنين فيقولان: لا نعلم إلّا خيرا:
إلّا قال الله تعالى لملائكته: أشهدكم أنّي قد قبلت شهادتهما وغفرت له ما لا يعلمان (4)».
وقال بعض الحكماء: عجبا من المسيء الجوار، المؤذي لجاره، وهو مطلع
__________
(1) قال فى النهاية: «أي اخذتك بلسانها، يصفها بالسلاطة وكثرة الكلام والبذاء».
(2) نقله السيوطى فى الجامع الصغير (رقم 3334) ونسبه للبيهقي فى الشعب واشار إلى ضعفه.
ونقل ايضا معناه من حديث فضالة بن عبيد (رقم 3444) ونسبه للطبراني واشار إلى حسنه، وكذلك نقل المنذرى حديث فضالة (ج 3ص 236) وقال «باسناد لا بأس به».
(3) رواه بنحوه احمد فى المسند (ج 6ص 8) والبخارى فى الأدب المفرد (ص 2423) ورواته ثقات كما قال المنذرى (ج 3ص 233) ونسبه أيضا للطبرانى فى الكبير والأوسط.
(4) نقله صاحب الأحاديث القدسية، من حديث انس ونسبه للخطيب (برقم 719) بنحو هذا اللفظ، ورواه احمد فى المسند (رقم 13575ج 3ص 242) بلفظ «فيشهد له أربعة أهل ابيات من جيرانه الأدنين»، وإسناده صحيح جدا. وروى أحمد ايضا مثله من حديث أبي هريرة بلفظ «ثلاثة ابيات من جيرانه» (رقم 8977و 9284ج 2ص 284و 409408) وفى اسنادهما مجهول.(1/295)
على أخباره، وعالم بأسراره، يجعله عدوّا، إن علم خيرا أخفاه، وإن توهّم شرا أفشاه، فهو قذاة في عينه، لا يطرف عنها، وشجى في حلقه، ما يتسوّغ معه، فليته إذ لم يكرم مثواه، كفّ عنه أذاه، فإنّما دار المرء دنياه. أو لم يسمع قول الشاعر؟:
ونكرم جارنا حتّى ترانا ... كأنّ لجارنا فضلا علينا
عن الوليد بن هشام قال: وفد زياد الأعجم على حبيب بن المهلّب، وهو بخراسان، فبينا هو وحبيب ذات عشيّة يشربان، إذ سمع زياد حمامة تغنّي على شجرة كانت في دار حبيب بن المهلب، فقال:
تغنّي أنت في ذممي وجاري ... بأن لا يذعروك ولن تضاري (1)
إذا غنّيتني وطربت يوما ... ذكرت أحبّتي وذكرت داري
فإمّا يقتلوك طلبت ثأرا ... بقتلهم لأنّك في جواري
فأخذ حبيب سهما فرماها فأنفذها. فقال زياد: يا حبيب، قتلت جاري، بيني وبينك المهلّب. فاختصما الى المهلّب، فقال المهلّب: زياد لا يروّع جاره، قد لزمتك الدّية، ألف دينار! فقال حبيب: إنما كنت ألعب، فقال المهلّب:
أبو أمامة لا يروّع جاره، ادفعها اليه!! فدفع اليه ألف دينار. فقال زياد:
فلله عينا من رأى كقضيّة ... قضى لي بها شيخ العراق المهلّب
قضى ألف دينارا لجار أجرته ... من الطّير حضّان على البيض ينعب
رماه حبيب بن المهلّب رمية ... فأنفذه بالسّهم والشّمس تغرب
__________
(1) روى هذه القصة صاحب الأغانى (ج 14ص 100) بما فيها من الشعر مع خلاف كثير فى الرواية.
لم نر للاطالة بذكره فائدة.
فألزمه عقل القتيل ابن حرّة ... فقال حبيب: «إنّما كنت ألعب»
فقال: «زياد لا يروّع جاره، ... بلى! جاره جاري ومل جار أقرب» (1)
قال: فبلغت القضية الحجّاج، فقال: ما أخطأت العرب حيث جعلت المهلّب رجلها.(1/296)
__________
لم نر للاطالة بذكره فائدة.
فألزمه عقل القتيل ابن حرّة ... فقال حبيب: «إنّما كنت ألعب»
فقال: «زياد لا يروّع جاره، ... بلى! جاره جاري ومل جار أقرب» (1)
قال: فبلغت القضية الحجّاج، فقال: ما أخطأت العرب حيث جعلت المهلّب رجلها.
وقال مسكين الدّارمي:
ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي ينزل القدر (2)
ما ضرّ جارا لي أجاوره ... ألّا يكون لبابه ستر
أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتّى يجاري جارتي الخدر
وقال مروان بن أبي حفصة:
بنو مطر يوم اللّقاء كأنّهم ... أسود لها في بطن خفّان أشبل
هم يمنعون الجار حتّى كأنّما ... لجارهم بين السّماكين منزل
لها ميم في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأوّلهم في الجاهليّة أوّل
وقال حاتم الطّائي وجاور في بني بدر زمن احتربت جديلة وسعد، وكان ذلك في زمان الفساد:
إن كنت لا ترضين عيشتنا ... هاتي فحلّي في بني بدر (3)
جاورتهم زمن الفساد فنع ... م الحيّ في العوصاء واليسر (4)
(1) هكذا بالأصل، اصلها «ومن الجار». ورواية الأغاني لهذا الشطر: «وجارة جارى مثل جارى وأقرب» وهي أوفق.
(2) روى هذه الأبيات الحرائطى فى مكارم الأخلاق (ص 42) ونسبها لحاتم وليس يصح، وروى القصيدة الشريف فى اماليه (ج 2ص 123122) وروى الأبيات ابن قتيبة فى الشعر والشعراء (ص 348) (أوربا)
(3) هذه الأبيات فى ديوان حاتم (أوربا) (ص 36) وفى امالى القالى (ج 2ص 169) مع اختلاف يسير فى الرواية
(4) زمن الفساد حرب كانت لهم و «العوصاء» الشدة.
فسقيت بالماء النّمير ولم ... أترك ألاطم حمأة الجفر (1)
ودعيت في أولى النّديّ ولم ... ينظر إليّ بأعين خزر
الخالطين نحيتهم بنضارهم ... وذوي الغنى منهم بذي الفقر (2)
وقال مسكين الدارمي وجاور في بني حمّان:(1/297)
__________
(4) زمن الفساد حرب كانت لهم و «العوصاء» الشدة.
فسقيت بالماء النّمير ولم ... أترك ألاطم حمأة الجفر (1)
ودعيت في أولى النّديّ ولم ... ينظر إليّ بأعين خزر
الخالطين نحيتهم بنضارهم ... وذوي الغنى منهم بذي الفقر (2)
وقال مسكين الدارمي وجاور في بني حمّان:
إذا كنت في حمّان في عقر دارهم ... فلست أبالي من أبرّ ومن فجر (3)
إذا بات جار القوم عند مضيعة ... فجار بني حمّان بات مع القمر
تبيت رماح الخطّ حول بيوتهم ... كأنّ الوعول ثمّ بتن مع البقر
إذا فزعوا جاءوا بها غير عزّل ... فلا أجل واق وكلّ دم هدر
وإن قتلوا طابوا وطابت قبورهم ... وإن ظفروا فالجد عادته الظّفر
وقال حاتم الطائي:
وإنّي لأقري الضّيف قبل سؤاله ... وأطعن قدما والأسنّة ترعف (4)
وإنّي لأخزى أن ترى بي بطنة ... وجارات بيتي طاويات وعجّف (5)
وقالت الخنساء في أخيها:
(1) رواية الديوان (اواطس) ورواية الأمالى عن ابى حاتم (الاطس) ومعناهما: الاطم. والجفر:
البئر التى لم تبن ولم يتم طيها
(2) قبل هذا البيت:
الضّاربين لدى أعنّتهم ... والطّاعنين وخيلهم تجري
«والخالطين الخ» و «النحيت»: الحامل الذكر» و «النضار» الرفيع. وقال ابو على القالى:
«إن الاشتقاق يوجب ان يكون النحيث الذى ينال ماله وعرضه كل أحد» لأنه لا دفاع عنده فكانه منحوت»
(3) حمان: قبيلة
(4) الشعر فى ديوانه (ص 41) وقوله «قدما» اصلها بضمتين، يقال فى الحرب «مشى قدما» إذا مضى وتقدم وطاعن، «ترعف» تقطر دما
(5) رواية الديوان «ونحف». وقوله «عجف» لم تنص عليه كتب اللغة التى بيدنا، وهو من قولهم «عجفاء» اي مهزولة وجمعها «عجاف» وأما «عجف» فكأنه جمع «عاجف» كراكع وركع، ورواية الديوان التى فيها «نحف» لم ترد فى كتب اللغة. ولعلها جمع «نحيفه» كقولهم «خريدة وخرد» على غير قياس.(1/298)
مثل الرّدينيّ لم تنفد شبيبته ... كأنّه تحت طيّ البرد أسوار (1)
لم تره (2) جارة يمشي بساحتها ... لريبة حين يخلي بيته الجار
وقال رجل من بني عمرو بن حمزة الأسلمي:
إذا افتقرت نفسي رددت افتقارها ... عليها فلا يبدو لها أبدا عسر
وأغضي إذا ما أبرز الخدر جارتي ... لحاجتها حتّى يواريها الخدر.
وقال الفرزدق:
إنّ النّدى في بني ذبيان قد علموا ... والمجد في آل منظور بن سيّار
الماطرين بأيديهم ندى ودما ... وكلّ غيث من الوسميّ جرّار
نزور جاراتهم وهنا هديّتهم ... وما فتاهم لها وهنا بزوّار
ترضى قريش بهم صهرا لأنفسهم ... وهم رضى لبني أخت وأصهار
وقال آخر:
إنّي حمدت بني شيبان إذ خمدت ... نيران قومي فشبّت فيهم النّار
ومن تكرّمهم في المحل أنّهم ... لا يعلم الجار فيهم أنّه جار
حتى يكون عزيزا في نفوسهم ... أو أن يبين حميدا وهو مختار
وقال الحطيئة (3):
لعمرك ما زيدت لبوني ولا قلت (4) ... مساكنها من نهشل إذ تولّت
لها ما استحبّت من مساكن نهشل ... وتسرح في حافاتها حيث حلّت
__________
(1) ديوان الخنساء (ص 82). «الأسوار» من حلى المراة، وتريد انه نحيف ضامر، وذلك مما كانوا يتمدحون به.
(2) فى ح «لم تلقه» وما هنا هو الموافق للديوان.
(3) لم أجد الأبيات فى ديوان الحطيئة من رواية السكرى.
(4) بفتح القاف واللام. وضبطت فى الأصل بتشديد اللام، وهو خطأ.(1/299)
ويمنعها من أن تضام فوارس ... كرام إذا الأخرى من الرّوع شلّت
ولو بلغت فوق السّماك قبيلة ... لزادت عليها نهشل وتعلّت
وقال مربع بن وعوعة (1) الكلابي، وجاور كليب بن يربوع:
جزى الله خيرا والجزاء بكفّه * كليب بن يربوع وزادهم حمدا هم خلطونا بالنّفوس وألجموا ... إلى نصر مولاهم مسوّمة جردا
على حين خلّتنا سليم وعامر ... بجرداء زادتنا على جهدنا جهدا
وقال عبيد بن حصين الراعي، وجاور بني عديّ بن جندب فأحمدهم:
إذا كنت مجتازا تميما لذمّة ... فمسّك بحبل من عدىّ بن جندب
هم كاهل الدّهر الّذي تتّقي به ... ومنكبه المرجوّ أكرم منكب
إذا منعوا لم يرجع شيء وراءهم ... وإن ركبت حرب بهم كلّ مركب
وقال أيضا فيهم:
إذا انسلخ الشّهر الحرام فودّعي ... بلاد تميم وانصري أرض عامر (2)
وأثني على الحيّين عمرو ومالك ... ثناء يوافيهم بنجد وغائر
كرام إذا تلقاهم عن جنابة ... أعفّاء عن بيت الغريب المجاور (3)
وقال آخر (4):
جزى الله عنّا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلّت
__________
(1) لم أجد الشاعر فيما بين يدى من الكتب.
(2) هكذا ورد، ولعل صواب الرواية «وانظرى» بالظاء المعجمة، يعنى التوجه والقصد بعد النظر
(3) «الجنابة» ضد القرابة، يريد عن بعد وغربة، وفى الأصلين «جناية» بالياء المثناة، وهو تصحيف.
(4) الشعر لطفيل الغنوى (ديوانه ص 57) وكتاب الأم للشافعى (ج 1ص 144).
هم خلطونا بالنّفوس وأرفؤا ... إلى حجرات أدفأت وأكنّت (1)
أبوا أن يملّونا ولو أنّ أمّنا ... تلاقي الّذي يلقون منّا لملّت (2)(1/300)
__________
(4) الشعر لطفيل الغنوى (ديوانه ص 57) وكتاب الأم للشافعى (ج 1ص 144).
هم خلطونا بالنّفوس وأرفؤا ... إلى حجرات أدفأت وأكنّت (1)
أبوا أن يملّونا ولو أنّ أمّنا ... تلاقي الّذي يلقون منّا لملّت (2)
فصل فى الصّمت وحفظ اللسان
مما ورد فى الكتاب العزيز
قال الله تبارك وتعالى في سورة النساء: {لََا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوََاهُمْ إِلََّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلََاحٍ بَيْنَ النََّاسِ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ ابْتِغََاءَ مَرْضََاتِ اللََّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [114]}.
ومنها: {لََا يُحِبُّ اللََّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلََّا مَنْ ظُلِمَ. وَكََانَ اللََّهُ سَمِيعاً عَلِيماً [148]}.
ومن سورة ق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ وَنَعْلَمُ مََا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [16] إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيََانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمََالِ قَعِيدٌ [17] مََا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلََّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [18]}.
ومنها: {إِنََّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ [43] يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرََاعاً ذََلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنََا يَسِيرٌ [44] نَحْنُ أَعْلَمُ بِمََا يَقُولُونَ وَمََا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبََّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخََافُ وَعِيدِ [45]}.
ومن سورة المجادلة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ََ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمََا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنََاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوََانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، وَإِذََا جََاؤُكَ حَيَّوْكَ بِمََا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللََّهُ، وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: لَوْلََا يُعَذِّبُنَا اللََّهُ بِمََا نَقُولُ.}
(1) الروآية المشهورة «وألجؤا» ومعنى قوله «ارفؤا» من رفأه يرفؤه»: سكنه وهدأه.
(2) الأشعار فى هذا الفصلين والفصل قبله: صححها وشرحها أخي السيد محمود محمد شاكر.(1/301)
{حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهََا فَبِئْسَ} [1] الْمَصِيرُ [8] يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا تَنََاجَيْتُمْ فَلََا تَتَنََاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوََانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، وَتَنََاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى ََ، وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [9] إِنَّمَا النَّجْوى ََ مِنَ الشَّيْطََانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضََارِّهِمْ شَيْئاً إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ. وَعَلَى اللََّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [10].
أحاديث
99* روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «رحم الله امرءا قال فغنم، أو سكت فسلم». (2)
100* وقال صلّى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «يا معاذ، أنت سالم ما سكتّ، فإذا تكلّمت فعليك أولئك» (3)
101* وقال صلّى الله عليه وسلم: «لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد الكلام رجع إلى قلبه، فإن كان له تكلّم، وإن كان عليه سكت». (4)
102* وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه قال لعمّه العباس رضوان الله عليه: يعجبني جمالك. قال: وما جمال الرّجل؟ قال: لسانه». (5)
103* وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أكثر النّاس ذنوبا أكثرهم كلاما فيما لا يعنيهم». (6)
__________
(1) فى الأصلين «وبئس» وهو خطأ مخالف للتلاوة.
(2) نقله فى الجامع الصغير بمعناه من حديث أبي أمامة (رقم 4426) ومن حديث الحسن (4425) ومن حديث خالد بن أبى عمران (4427) وكلها بأسانيد ضعاف.
(3) لم أجد هذا الحديث.
(4) لم أجد هذا أيضا، وقد وجدت كلمة بمعناه لابن حبان فى روضة العقلاء (ص 33).
(5) ولم اجد هذا أيضا.
(6) نقله فى الجامع الصغير (رقم 1386) من حديث أبي هريرة وعبد الله بن أبى اوفى، وأشار إلى انه حديث حسن.(1/302)
وقال أمير المؤمنين علي رضوان الله عليه: اللسان معيار العقل: أطيشه الجهل، وأرجحه العقل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان يؤمن * 104 بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، وليكرم ضيفه، وليقل خيرا أو ليسكت». (1)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من حسن * 105 إسلام المرء تركه مالا يعنيه». (2)
وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى * 106 على خطيئته» (3)
وعن أبي ذرّ الغفاريّ رضي الله عنه: «أنه قال: يا رسول الله، ما كان * 107 في صحف إبرهيم عليه السّلام؟ قال: كان فيها: ينبغي للعاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله: أن يكون (4) حافظا للسانه، عارفا بزمانه، مقبلا على شانه، فإنّه من حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلّا فيما يعنيه». (5)
وروي في حديث طويل عن أبي ذرّ الغفاريّ رحمه الله أنه قال في حديث
__________
(1) هذا مختصر من حديث أبي هريرة، وقد رواه احمد والبخارى ومسلم والنسائي وابن ماجه، وتقدمت الاشارة إليه عند حديث أبي شريح الكعبى (ص 262261)
(2) رواه الترمذى وابن ماجه وغيرهما، وانظر تفصيل الكلام عليه فى الترغيب (ج 4ص 1110) وجامع العلوم والحكم (ص 8479)
(3) فى الأصلين «خطيته» بتسهيل الهمزة، وهو جائز. والحديث نقله المنذرى فى الترغيب عن ثوبان، ونسبه إلى الطبرانى فى الأوسط والصغير وحسن إسناده (ج 4ص 3) ونسبه السيوطى فى الجامع الصغير إلى أبى نعيم فى الحلية (رقم 5308).
(4) فى ح «يكن» وهو خطأ
(5) هذا جزء من حديث طويل نقل المنذرى بعضه فى الترغيب (ج 3ص 148147) ونسبه لابن حبان والحاكم فى صحيحيهما.(1/303)
طويل (1): واجعل كلامك كلمتين: كلمة نافعة في أمر دنياك، وكلمة باقية في أمر آخرتك، والثالثة تضرّ ولا تنفع.
وروي عن [سيدنا عيسى] المسيح (2) على نبينا وعليه الصلاة والسلام أنه قال: كلّ كلام ليس بذكر الله تعالى فهو لغو، وكلّ سكوت ليس بتفكّر فهو غفلة، وكلّ نظرة ليست بعثرة فهي لهو. فطوبى لمن كان تكلّمه ذكرا، وسكوته افتكارا، ونظره اعتبارا.
وعن لقمان أنه قال لابنه: يا بنيّ، من يصحب صاحب السّوء لا يسلم، ومن يدخل مدخل السّوء يتّهم (3)، ومن لا يملك لسانه يندم.
108* وعن عبد الله بن عمرو (4) رحمه الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من صمت نجا» (5).
109* وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من سرّه أن يسلم فليلزم الصّمت». (6)
110* وعن عقبة بن عامر رحمه الله قال: «قلت: يا رسول الله، ما النّجاة؟
قال: املك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك». (7)
111* وعن سفيان بن عبد الله الثّقفيّ رحمه الله قال: «قلت: يا رسول الله، حدّثني بأمر أعتصم به. قال: قل: ربّي الله، ثمّ استقم. قال: قلت: يا رسول الله،
__________
(1) كذا فى الأصلين تكرار هذه الجملة.
(2) الزيادة من ح
(3) فى ح «فيتهم» وهو خطأ.
(4) فى ح «عبد الله بن عمر» وهو خطأ.
(5) رواه أحمد فى المسند (رقم 6481و 6654ج 2ص 159و 177) ونسبه المنذرى فى الترغيب (ج 4ص 90) للترمذى والطبراني.
(6) نسبه المنذري (ج 4ص 9) لابن أبي الدنيا وأبى الشيخ، ونسبه السيوطى (رقم 8746) للبيهقى.
(7) فى الأصلين «خطيتك» بالتسهيل. والحديث نقله المنذرى (ج 4ص 3) ونسبه لأبى داود والترمذى وغيرهما.(1/304)
ما أخوف ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسانه، ثمّ قال: هذا». (1)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يستكمل * 112 أحدكم حقيقة الإيمان حتّى يخزن من لسانه». (2)
وقال صلّى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم من الرّجل المؤمن زهدا في الدّنيا وقلّة * 113 منطق فاقتربوا منه، فإنّه يلقّى الحكمة». (3)
وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا * 114 أصبح ابن آدم فإنّ الأعضاء كلّها تكفّر للّسان (4)، تقول: اتّق الله فينا، فإنّما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا». (5)
التّكفير: الخضوع والانقياد هاهنا.
وعن شقيق رحمه الله: أنّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان على * 115 الصّفا يلبّي ويقول: يا لساني قل خيرا تغنم، واصمت تسلم من قبل أن تندم. فقيل له: يأبا عبد الرّحمن، هذا شيء تقوله أو سمعته؟ قال: لا، بل سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنّ أكثر خطايا ابن آدم في لسانه». (6)
__________
(1) نقله المنذرى (ج 4ص 54) ونسبه للترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم.
(2) لم أجد هذا الحديث.
(3) رواه ابن ماجه (ج 2ص 271) من حديث أبي خلاد، ونقله السيوطى (رقم 635) ونسبه أيضا لأبي نعيم والبيهقي من حديث أبي خلاد ومن حديث أبي هريرة.
(4) تكفر للسان بلام الجر اى تذل وتقر له بالطاعة وتخضع لأمره، والتكفير: هو أن ينحنى الانسان ويطأطئ رأسه قريبا من الركوع كما يفعل من يريد تعظيم صاحبه. قاله فى لسان العرب. ووقع فى النهاية وفى كثير من كتب الحديث المطبوعة «تكفر اللسان» بحذف اللام وبنصب «اللسان» على انه مفعول، وهو خطأ.
(5) نقله المنذرى. (ج 4ص 8) ونسبه للترمذى وابن ابى الدنيا، ونقله السيوطي (رقم 454) ونسبه لابن خزيمة والبيهقي.
(6) لم أجد هذا أيضا.(1/305)
وعن صدقة بن عبد ربّه رحمه الله قال: لما كبر آدم عليه السلام جعل بنو بنيه يعبثون به، فيقول له آباؤهم: ألا تنهاهم؟! فيقول: يا بنيّ، إني رأيت ما لم تروا وسمعت ما لم تسمعوا، رأيت الجنّة وسمعت كلام ربي تبارك وتعالى، وقال لي حين أخرجني منها: إن حفظت لسانك أعدتك إليها.
116* وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله عند لسان (1) كلّ قائل، فليتّق الله عبد ولينظر ما يقول». (2)
قال أبو حاتم رحمه الله: طلب رجلان العلم، فلما علما صمت أحدهما وتكلّم الآخر، فكتب المتكلم إلى الصّامت:
وما شىء أردت به اكتسابا ... بأجمع في المعيشة من لسان
فكتب إليه الصامت:
وما شىء أردت به كمالا ... أحقّ بطول سجن من لسان
وقال سفيان بن عيينة رحمه الله (3):
خلّ جنبيك لرام ... وامض عنه بسلام (4)
مت بداء الصّمت خير ... لك من داء الكلام
إنّما السّالم من أل ... جم فاه بلجام
قالوا: أكثر ما تعرض الآفات للحيوان إنّما تعرض لعدمها الكلام، وتعرض للإنسان من قبل الكلام.
__________
(1) كلمة «لسان» سقطت من ح خطأ.
(2) نقله السيوطى (رقم 1750) ونسبه لأبى نعيم فى الحلية عن ابن عمر، وللحكيم الترمذى عن ابن عباس.
(3) هكذا نسب المؤلف الأبيات لسفيان. وسيأتى فى (ص 276) بيتان منها ونسبهما هناك لأبي نواس، وهو الصواب، والأبيات من قصيدة له في ديوانه (ص 195194)
(4) هذا البيت غير موجود فى ح.(1/306)
وقالوا: ربّ كلمة تقول: دعني، وربّ كلمة سلبت نعمة.
وقال الشاعر:
واحذر لسانك لا تقول فتبتلى ... إنّ البلاء موكّل بالمنطق
وقال إبرهيم بن هرمة (1):
أرى النّاس في أمر سحيل فلا تزل ... على حذر حتّى ترى الأمر مبرما (2)
فإنّك لا تستطيع ردّ الّذي مضى ... إذا القول عن زلّاته فارق الفما
فكائن ترى من وافر العرض صامتا ... وآخر أردى نفسه إن تكلّما
وقال آخر:
إن كنت تبغي الّذي أصبحت تظهره ... فاحفظ لسانك واخش القال والقيلا
ما بال عبد سهام الموت ترشقه ... يكون عن ربّه بالنّاس مشغولا
كان بكر بن عبد الله المزنيّ رحمه الله يطيل الصمت وينشد:
لسان الفتى سبع، عليه شذاته ... فإلّا يزع من غربه فهو آكله (3)
وما الغيّ إلّا منطق متترّع ... سواء عليه حقّ أمر وباطله (4)
وقال آخر:
سامح النّاس ودع عر ... ضك وقفا للسّبيل
__________
(1) ابوه هرمة بفتح الهاء وسكون الراء وهو من مخضرمى شعراء الدولتين. ويقول اصحاب اللغة إنه آخر الشعراء الذين يحتج بشعرهم فى العربية. وهذه الأبيات قالها حين انصرف عن المدينة، حين خرج محمد بن عبد الله بن حسن يوصى بها أحد اصحابه من بنى مخزوم. أمالى الزجاجى (ص 5)
(2) «الحبل السحل والسحيل» الذى يفتل على قوة واحدة، وهذا حبل ضعيف. «والمبرم» هو الحبل الذى جمع بين مفتولين ففتلا حبلا واحدا.
(3) يقال «إنى لأخشى شذاة فلان» أى شره وشدته وجرأته، وأصله القوة والحدة. وقوله: «يزع» من قولهم «وزع الرجل عن هواه» كفه، والغرب: الحدة يقال: «فى لسانه غرب» اى حدة وسفه.
(4) فى الأصل «متبرع» بالباء الموحدة، والصواب ما أثبتناه.
يقال: «تترع إلى الشىء» تسرع، وتترع إلى الناس بالشر، والمتترع: الشرير المتسرع إلى ما لا ينبغي له.
وأعر سمعك وقرا ... عند إكثار العذول
والزم الصّمت إذا خف ... ت غيّات الفضول (1)
فلزوم الصّمت خير ... لك من قال وقيل
وقال أبو نواس (2):(1/307)
__________
يقال: «تترع إلى الشىء» تسرع، وتترع إلى الناس بالشر، والمتترع: الشرير المتسرع إلى ما لا ينبغي له.
وأعر سمعك وقرا ... عند إكثار العذول
والزم الصّمت إذا خف ... ت غيّات الفضول (1)
فلزوم الصّمت خير ... لك من قال وقيل
وقال أبو نواس (2):
خلّ جنبيك لرام ... وامض عنه بسلام
مت بداء الصّمت خير ... لك من داء الكلام
وقال أبو العتاهية، وتروى لابنه محمّد:
قد أفلح السّاكت الصّموت ... كلام راعي الكلام قوت
ما كلّ نطق له جواب ... جواب ما تكره السّكوت
وقال آخر:
إنطق مصيبا بخير لا تكن هذرا ... عيّابة ناطقا بالفحش والرّيب (3)
وكن رزينا طويل الصّمت ذا فكر ... فإن نطقت فلا تكثر من الخطب
ولا تجب سائلا من غير تروية ... وبالّذي عنه لم تسأل فلا تجب (4)
وقال أبو العتاهية: (5)
(1) هكذا بالأصل ولعلها «مغبات» جمع مغبة وهى عاقبة الشيء. وفى ح «بنيات» ولعلها بالضم ثم الفتح ثم الياء المشددة المفتوحة، واصلها الطرق المتشعبة عن الجادة: يقال «ذهبوا فى بنيات الطريق» يريدون الضلال.
(2) البيتان مضيا فى (ص 274) ولم يذكرا فى ح
(3) فى الأصلين «هيابة» بالهاء فيأوله، ولا معنى له، وما أثبتناه هو سياق الكلام.
(4) يقال: «رويت في الأمر وروات فيه» يهمز ولا يهمز: نظرت فيه وتعقبته وتفكرت فيه متريثا. والمصدر منها «تروية وتروئة» ومن هذا «الروية»
(5) هي فى ديوانه (ص 282) وقد نسبها البحترى فى حماسته لصالح بن عبد القدوس وهو عندنا أوثق. (الحماسة ص 229مطبوعة اليسوعيين). ورواية البيت الأول فيها:
لا تكثرن حشو الكلا ... م إذا اهتديت إلى عيونه(1/308)
لا خير في حشو الكلا ... م إذا اهتديت إلى عيونه
والصّمت أجمل بالفتى ... من منطق في غير حينه
وقال أحيحة بن الجلاح:
والصّمت أجمل بالفتى ... ما لم يكن عيّ يشينه
والقول ذو خطل إذا ... ما لم يكن لبّ يعينه
وقال آخر:
تعهّد لسانك إنّ اللّسان ... سريع إلى المرء في قتله
وهذا اللّسان بريد الفؤاد ... يدلّ الرّجال على عقله
وقال آخر:
استر العيّ ما استطعت بصمت ... إنّ في الصّمت راحة للصّموت
واجعل الصّمت إن عييت جوابا ... ربّ قول جوابه في السّكوت
وقال آخر:
متى تطبق على شفتيك تسلم ... وإن تفتحهما فقل الصّوابا
فما أحد يطيل الصّمت إلّا ... سيأمن أن يذمّ وأن يعابا
فقل خيرا أو اسكت عن كثير ... من القول المحلّ بك العقابا
وقال عبد الله بن معاوية بن جعفر رحمهم الله:
أيّها المرء لا تقولنّ قولا ... لست تدري ماذا يعيبك منه (1)
والزم الصّمت إنّ في الصّمت حكما ... وإذا أنت قلت قولا فزنه
وإذا القوم الغطوا في كلام ... ليس تعنى بشأنه فاله عنه
__________
(1) فى الأصل «ما يعيبك» وهو خطأ، والصواب ما اثبتناه من رواية ح.(1/309)
وقال آخر:
إن السّكوت سلامة ولربّما ... زرع الكلام عداوة وضرارا
فلئن ندمت على سكوتك مرّة ... فلتندمنّ على الكلام مرارا
فصل فى القناعة
قال الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صََالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ََ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيََاةً طَيِّبَةً [16: 97]}.
قال كثير من أهل التفسير: الحياة الطيبة في الدنيا القناعة.
وقالوا في معنى قوله عز وجل: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللََّهُ رِزْقاً حَسَناً [22: 58]}
يعني القناعة.
وقيل في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرََارَ لَفِي نَعِيمٍ [82: 13]}.
هو القناعة في الدنيا {وَإِنَّ الْفُجََّارَ لَفِي جَحِيمٍ [82: 14]}: هو الحرص في الدنيا.
وقيل فى قوله عز وجل {فَكُّ رَقَبَةٍ [90: 13]}: أي: فكّها من ذلّ الطمع.
وقيل في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}: يعني البخل والطمع {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [33: 33]}: بالسّخاء والإيثار.
وقيل في قوله عزّ وجل {وَهَبْ لِي} [1] مُلْكاً لََا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [38: 35]: أي مقاما في القناعة أتفرّد به من أشكالي وأكون راضيا فيه بقضائك.
__________
(1) فى الأصلين «هبنى» وهو خطأ.(1/310)
[وقال الشاعر]: (1)
فعش بالقوت يوما بعد يوم ... كمصّ الطّفل فيقات الصّروع (2)
ولا ترغب إلى أحد بحرص ... رفيع في الأمور ولا وضيع
فإنّ الحرص في الرّغبات داء ... يحلّى مقلتيك عن الهجوع (3)
فصل فى الحياء
مما ورد فى الكتاب العزيز
قال الله عز وجل في سورة القصص في قصة موسى عليه السلام: (ولمّا ورد ماء مدين وجد عليه أمّة من النّاس يسقون، ووجد من دونهم (4)
امرأتين تذودان، قال: ما خطبكما؟ قالتا: لا نسقي حتّى يصدر الرّعاء وأبونا شيخ كبير [28: 23] فسقى لهما ثمّ تولّى إلى الظّلّ، فقال:
ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير [24] فجاءته إحداهما تمشي على استحياء).
قيل: إنما استحيت أنها كانت تدعوه إلى الضيافة، فاستحيت أن لا يجيب موسى عليه السلام، فصفة المضيف الاستحياء، وذلك استحياء الكرم.
وقيل في بعض الأقوال في قوله عز وجل في قصّة يوسف عليه السلام وامرأة العزيز: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهََا لَوْلََا أَنْ رَأى ََ بُرْهََانَ رَبِّهِ [12: 24]}
: البرهان أنها ألقت ثوبا على وجه صنم في زاوية البيت، فقال يوسف عليه السلام:
__________
(1) الزيادة من ح.
(2) فى ح «فتقات» وهو خطأ. و «الفيقة» بكسر اوله: اسم اللبن الذى يجتمع فى الضرع بين الحلبتين.
(3) فى الأصل «يحلى» غير منقوطة، وفى ح «يخلى» والصواب ما ذكرناه، يقال «حلأ» القوم عن الماء بتشديد اللام: منعهم عن وروده وأ طردهم عنه.
(4) فى الأصلين «دونهما» وهو خطأ.(1/311)
ماذا تفعلين؟ فقالت: أستحيي منه! فقال يوسف عليه السلام: أنا أولى أن أستحيي من الله تبارك وتعالى.
وأورد الامام عبد الكريم بن هوازن رضي الله عنه في رسالته قال: في بعض الكتب: يقول الله تعالى: «ما أنصفني عبدي، يدعوني فأستحيي أن أردّه، ويعصيني ولا يستحيي منّي».
أحاديث
117* عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «مرّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم برجل يعظ أخاه في الحياء، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الحياء من الإيمان.» (1)
118* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستّون شعبة أفضلها لا إله إلّا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطّريق، والحياء شعبة من الإيمان». (2)
119* وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يأتي الحياء إلّا بخير». فقال بشير بن كعب: إنّا لنجد في الحكمة مكتوبا: إن من الحياء وقارا، وإنّ من الحياء حكمة. فقال عمران بن حصين رضي الله عنه:
أحدّثك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتحدثني عن صحفك؟! (3)
120* وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان يعظ أصحابه،
__________
(1) رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجة، كما فى الترغيب (ج 3ص 253).
(2) رواه الستة المذكورون، كما فى الترغيب (ج 3ص 254) ورواه البخارى في الأدب المفرد (ص 118).
(3) رواه البخارى (ج 8ص 29) ومسلم (ج 1ص 27) والبخارى في الأدب المفرد (ص 236) وعندهم: «إن من الحياء وقارا وإن من الحياء سكينة» ورواه الخرائطى (ص 50) وعنده «إن منه ضعفا ومنه وقارا».(1/312)
فإذا ثلاثة نفر يمرّون، فجاء أحدهم فجلس إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم، ومشى الثّاني قليلا وجلس، وأمّا الثّالث فإنّه مضى. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: ألا أنبّئكم عن هذه الثّلاثة؟ أمّا هذا الّذي جلس إلينا فتاب فتاب الله عليه، وأمّا الّذي مشى فجلس فإنّه استحيا فاستحيا الله منه، وأمّا الّذي مرّ على وجهه فإنّه استغنى فاستغنى الله عنه، والله غنيّ حميد». (1)
وعن سهل بن سعد السّاعديّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم * 121 يقول: «اللهمّ لا يدركني زمان ولا أدركه: لا يتبع فيه العليم، ولا يستحيا فيه من الحليم، قوم قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب». (2)
عن زيد بن حارثة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الحياء شعبة من * 122 الإيمان، ولا إيمان لمن لا حياء له». (3)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من لم * 123 يكن له حياء فلا دين له، ومن لم يكن له حياء في الدّنيا لم يدخل الجنّة». (4)
وعن أبي بكرة رحمه الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الحياء من * 124 الإيمان، والإيمان في الجنّة. والبذاء من الجفاء، والجفاء في النّار». (5)
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك (ج 4ص 255) وصححه هو والذهبى، ولكن ليس فيه قوله «والله غنى حميد»
(2) رواه أحمد فى المسند (ج 5ص 340) ولكن فيه «اللهم لا يدركنى زمان ولا تدركوا زمانا» الخ. واشار السيوطي (رقم 1543) إلى ان الحاكم رواه من حديث ابى هريرة.
(3) نسبه المنذرى (ج 3ص 255) لأبي الشيخ واشار إلى ضعفه.
(4) لم اجد هذا الحديث.
(5) رواه للبخارى فى الأدب المفرد (ص 236) ونسبه السيوطى (رقم 3865) لابن ماجه والبيهقي والحاكم من حديث ابي بكرة، وللترمذي والحاكم والبيهقى من حديث ابى هريرة. ونسبه المنذرى (ج 3ص 254) لأحمد وابن حبان من حديث ابى هريرة.(1/313)
125* عن سعيد بن زيد رحمه الله: «أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: أوصني، قال:
استحي من الله كما تستحيي رجلا صالحا من قومك». (1)
126* عن عقبة (2) عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ ممّا أدرك النّاس من كلام النّبوّة: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت». (3)
127* وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «استحيوا من الله حقّ الحياء. قالوا: إنّا نستحيي والحمد لله. قال: ليس كذلك، ولكن من استحيا من الله حقّ الحياء فليحفظ الرّأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدّنيا، ومن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقّ الحياء». (4)
128* وعن عطاء رحمه الله قال: «مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم برجل يغتسل، فقال:
يا أيّها النّاس، إنّ الله حييّ (5) عليم، يستر ويحبّ الحياء، فإذا اغتسل أحدكم فليتوار (6) عن أعين النّاس». (7)
129* وعن ابن عمر رضي الله عنه: «أنّه دخل على النّبي صلّى الله عليه وسلم فوجده يبكي. فقال: يا رسول الله، ما يبكيك؟ قال: أخبرني جبرئيل عليه
__________
(1) رواه الخرائطى (ص 50) ونقل السيوطى نحوه (رقم 971) من حديث ابي امامة ونسبه لابن عدى.
(2) هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة ابو مسعود البدرى.
(3) رواه البخارى فى الصحيح (ج 8ص 29) وفى الأدب المفرد (ص 118و 226) ونسبه السيوطى (رقم 2496) لأحمد وأبى داود وابن ماجه، وذكر فيه أن راويه «ابن مسعود» وهو خطأ مطبعي.
(4) رواه احمد فى المسند (رقم 3671ج 1ص 387) والحاكم فى المستدرك (ج 4ص 323).
ورواه الخرائطى بمعناه عن عائشة (ص 51).
(5) فى الأصلين «حي» بباء واحدة، وهو خطأ
(6) كتب فى الأصلين «فليتوارا» بالألف وهو خطأ.
(7) رواه احمد مختصرا (ج 4ص 224) عن عطاء عن يعلى بن أمية، ونسبه السيوطى (رقم 1729) لأبي داود والنسائى. وعندهم «إن الله حبي ستير».(1/314)
السلام: أنّ الله يستحيي من عبد يشيب في الإسلام أن يعذّبه. أفلا يستحيي الشّيخ من الله أن يذنب وقد شاب في الإسلام؟!». (1)
وعن محمد بن عبد الملك قال: سمعت ذا النّون المصريّ رحمه الله يقول:
الحياء وجود الهيبة في القلب مع وحشة ما سبق منك إلى ربك.
وقال ذو النون رحمه الله: الحبّ ينطق، والحياء يسكت، والخوف يقلق.
وقال أحمد بن أبي الحواريّ (2): سمعت (3) أبا سليمان الدّارانيّ رحمه الله يقول:
يقول الله تعالى: «عبدي، إنّك ما استحييت منّي أنسيت النّاس عيوبك، وأنسيت بقاع الأرض عيوبك، ومحيت (4) من أمّ الكتاب زلّاتك، ولا أناقشك في الحساب يوم القيامة».
قيل: الحياء على وجوه: حياء الخيانة، كآدم عليه السلام، قيل له:
أفرارا منّا؟ قال: لا، بل حياء منك. وحياء التقصير، كالملائكة، يقولون:
ما عبدناك حقّ عبادتك. وحياء الإجلال، كإسرافيل عليه السلام، تسربل بجناحه حياء من الله تعالى. وحياء الكرم، كالنبي صلّى الله عليه وسلم، استحيا (5) من أمّته أن يقول: اخرجوا، فقال الله سبحانه: {وَلََا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ}
__________
(1) لم أجد هذا الحديث.
(2) بالحاء والراء المهملتين، وفى الأصلين، الجوازى، بالمعجمتين وهو تصحيف، وابن ابى الحوارى هو أحمد بن عبد الله بن ميمون الزاهد، ولد سنة 164ومات سنة 246، وله ترجمة فى التهذيب، وكان تلميذا لأبي سليمان الدارانى، ونقل عنه بعض أقواله، انظر اللمع (ص 53و 187و 271و 282).
(3) فى الأصلين «قال سمعت» وتكرار «قال» لا معنى له.
(4) كذا فى الأصلين بالباء، والفعل واوى، ولكنه فى لغة طىء يأئي، قال فى اللسان: «طىء تقول: محيته محيا» وقال أيضا: «محا لوحه يمحوه محوا ويمحيه محيا».
(5) كتبت فى الأصلين «استحي» وكتابتها بالألف أصح.(1/315)
[33: 53]). وحياء خشية، كعليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه حين سأل المقداد حتّى سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلم عن حكم المذي، لمكان فاطمة رضي الله عنها منه. وحياء الاستحقار، كموسى عليه السلام، إذ قال: إنّه لتعرض على قلبي الحاجة فأستحيي أن أسألكها يا ربّ، فقال الله عز وجل: سلني حتّى ملح عجينك وعلف شاتك. وحياء الإنعام، وهو حياء الربّ تبارك وتعالى، يدفع إلى العبد كتابا مختوما بعد ما عبر على الصراط، فاذا فيه: «فعلت ما فعلت، ولقد استحييت أن أظهر عليك، فاذهب فأني قد غفرت لك».
قالت الحكماء. الحياء هرب النفس من الملامة.
وقالوا: خوف المستحي من تقصير يقع به عند من هو أفضل منه، وليس يوجد إلّا فيمن (1) كانت نفسه بصيرة بالجميل عن عيبه عنه (2).
وقالوا: كفى بالحياء على الخير دليلا، وعن السلامة مخبرا، ومن الذّمّ مجيرا.
وقالوا: الحياء تمام الكرم، وموطن الرّضى، وممهّد الثّناء، وموفّر العقل، ومعظّم القدر، وداع إلى الرغبة.
قال الشاعر:
إذا لم تخش عاقبة اللّيالي ... ولم تستحي فاصنع ما تشاء (3)
يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي اللّحاء (4)
__________
(1) رسمت فى الأصلين «فى من».
(2) كذا فى الأصلين.
(3) يرد هذا البيت والبيت الثالث منها فى ص (287286) برواية اخرى.
(4) اللحاء بكسر أوله ما يكون على أعواد الشجر واصولها من غطاء، وهو قشرتها والذى فيه لبها.
وما في أن يعيش المرء خير ... إذا ما الوجه فارقه الحياء
وقال أميّة بن أبي الصّلت يمدح ابن جدعان بالحياء (1):(1/316)
__________
(4) اللحاء بكسر أوله ما يكون على أعواد الشجر واصولها من غطاء، وهو قشرتها والذى فيه لبها.
وما في أن يعيش المرء خير ... إذا ما الوجه فارقه الحياء
وقال أميّة بن أبي الصّلت يمدح ابن جدعان بالحياء (1):
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك؟ إنّ شيمتك الحياء
وعلمك بالأمور وأنت قرم ... لك الحسب المؤثّل والثّناء
وقالت ليلى الأخيليّة تصف توبة بن الحميّر:
فإن تكن القتلى بواء فإنّكم (2) ... فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر
فتى كان أحيا من فتاة حييّة (3) ... وأشجع من ليث بخفّان خادر (4)
وقال الفضل بن عبّاس بن عتبة:
إنّا أناس من سجيّتنا ... صدق الحديث ووأينا حتم (5)
لبسوا الحياء فإن نظرت حسبتهم ... سقموا ولم يمسسهم سقم
وقال الشّمّاخ:
أجامل أقواما حياء وقد أرى ... صدورهم تغلي عليّ مراضها
وقال آخر: (6)
حياءك فاحفظه عليك فإنّما ... يدلّ على فضل الكريم حياؤه
إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه ... ولا خير في وجه إذا قلّ ماؤه
(1) فى الأصل «جذعان» بالذال وفى ح كما اثبتناه، وهو عبد الله بن جدعان أحد أجواد العرب المشهورين.
(2) يقال «دم فلان بواء لدم فلان» إذا كان كفأ له. ورشمت فى الأصلين «بواا».
(3) فى ح «خبية»
(4) خفان: موضع قرب الكوفة، وهو مأسدة، كما قال ياقوت. والأسد الخادر: المقيم فى عرينه وهو خدره.
(5) فى ح «ووعدنا» ومعناهما واحد.
(6) هذان البيتان لصالح بن عبد القدوس وقد ذكر المؤلّف البيت الثانى وأبياتا من القصيدة فى (ص 27) وتهذيب تاريخ ابن عساكر (ج 6ص 276) وهي أبيات مشهورة.(1/317)
وقال آخر:
وربّ قبيحه ما حال بيني ... وبين ركوبها إلّا الحياء
إذا رزق الفتى وحها وقاحا ... نقلب في الأمور كما يشاء
وقال محمد بن حازم: (1)
وإنّي ليثنيني عن الجهل والخنا ... وشتم ذوي القربى خلائق أربع:
حياء وإسلام وتقوى وأنّني ... كريم، ومثلي قد يضرّ وينفع
وقال آخر: (2)
إيّاك أن تزدري الرّجال فما ... تعلم ماذا بجنّه الصّدف
نفس الجواد الكريم باقية ... فيه وإن كان مسّه عجف (3)
والحرّ حرّ وإن ألمّ به ال ... ضّرّ وفيه الحياء والأنف (4)
وقال آخر:
كريم يغضّ الطّرف فضل حيائه ... ويدنو وأطراف الرّماح دواني (5)
وكالسّيف إن لا ينته لان متنه ... وحدّاه إن خاشنته خشنان
وقال آخر: (6)
إذا لم تخش عاقبة اللّيالي ... ولم تستحي فاصنع ما تشاء
__________
(1) البيتان من أبيات ثلاثة لأبي الأسود الدؤلى ذكرها صاحب الأغاني (ج 1ص 63) وفيه اختلاف يسير فى الرواية.
(2) الأبيات فى عيون الأخبار (ج 1ص 297) غير منسوبة، وهناك اختلاف قليل فى الرواية.
(3) العجف بالتحريك: ذهاب السمن، وبقاء الهزال من الجوع، ويريد هنا أن الهزال يدركه من الجوع تعففا عن السؤال.
(4) الأنف بالتحريك كالأنفة، وهما: الحمية والاباء.
(5) فى الأصلين «يدنوا»
(6) مضيا فى (ص 284) مع خلاف فى الرواية، ولم يردا فى ح.
فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدّنيا إذا ذهب الحياء
وقال آخر:(1/318)
__________
(6) مضيا فى (ص 284) مع خلاف فى الرواية، ولم يردا فى ح.
فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدّنيا إذا ذهب الحياء
وقال آخر:
أعاذلتيّ قد جرّبت حسبي ... وتمّ العقل وانكشف الغطاء (1)
فما في أن يعيش المرء خير ... إذا ما المرء زايله الحياء
يعيش المرء مالستحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي اللّحاء
وقال العرجيّ:
إذا حرم المرء الحياء فإنّه ... بكلّ قبيح كان منه جدير
له قحة في كلّ شيء، وسرّه ... مباح، وخذناه خنا وغرور
يرى الشّتم مدحا والدّناءة رفعة ... وللسّمع منه في العظات نفور (2)
ووجه الحياء ملبس جلد رقّة ... بغيض إليه ما يشين كثير
له رغبة في أمره وتجرّد ... حليم لدى جهل الجهول وقور (3)
فرجّ الفتى ما دام بحيا فإنّه ... إلى خير حالات المنيب يصير
فصل فى الصبر
مما ورد فى الكتاب العزيز
قال الله عز وجل في سورة البقرة: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلََاةِ، وَإِنَّهََا لَكَبِيرَةٌ إِلََّا عَلَى الْخََاشِعِينَ [45] الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رََاجِعُونَ [46].}
(1) فى الأصل «حربت» بالحاء المهملة، ولم نهتد الى مكان هذا البيت، أما البيتان الآخران فقد مرا فى (ص 285284) مع بعض اختلاف. ووردا فى ديوان ابى تمام (ص 175) وشرح حماسته (ج 3ص 93) ومجموعة المعاني (ص 28) ولم ترد فى «ح».
(2) فى الأصلين «العظاة»
(3) الأبيات الثلاثة الأخيرة ليست فى ح. وفى الأصل «رعة» ولعل الصواب ما كتبناه.(1/319)
ومنها: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ} [1] آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلََاةِ إِنَّ اللََّهَ مَعَ الصََّابِرِينَ [153].
ومنها (2): {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوََالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرََاتِ. وَبَشِّرِ الصََّابِرِينَ [155] الَّذِينَ إِذََا أَصََابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قََالُوا: إِنََّا لِلََّهِ وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ [156] أُولََئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوََاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [157]}.
ومن سورة آل عمران: {الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنََا إِنَّنََا} [3] آمَنََّا فَاغْفِرْ لَنََا ذُنُوبَنََا وَقِنََا عَذََابَ النََّارِ [16] الصََّابِرِينَ وَالصََّادِقِينَ وَالْقََانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحََارِ [17].
ومنها (4): {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوََالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذََلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [186]}.
ومنها: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصََابِرُوا وَرََابِطُوا وَاتَّقُوا اللََّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [200]}.
ومن سورة الأنعام: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ََ مََا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتََّى أَتََاهُمْ نَصْرُنََا. وَلََا مُبَدِّلَ لِكَلِمََاتِ اللََّهِ. وَلَقَدْ جََاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [34]}.
ومن سورة الأعراف: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كََانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشََارِقَ}
__________
(1) كتب فى الأصل «اللذين» وهو خطأ.
(2) كلمة «ومنها» سقطت من ح.
(3) فى الأصلين بحذف «إننا» وهو خطأ.
(4) من هنا الى آخر الآيات فى هذا الفصل محذوف من ح.(1/320)
{الْأَرْضِ وَمَغََارِبَهَا الَّتِي بََارَكْنََا فِيهََا، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى ََ عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ بِمََا صَبَرُوا، وَدَمَّرْنََا مََا كََانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمََا كََانُوا يَعْرِشُونَ [137]}.
ومن سورة هود: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أُولََئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [11]}.
ومنها: {وَأَقِمِ الصَّلََاةَ طَرَفَيِ النَّهََارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ. إِنَّ الْحَسَنََاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئََاتِ. ذََلِكَ ذِكْرى ََ لِلذََّاكِرِينَ [114] وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللََّهَ لََا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [115]}.
ومن سورة النّحل: {وَالَّذِينَ هََاجَرُوا فِي اللََّهِ مِنْ بَعْدِ مََا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيََا حَسَنَةً، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ [41] الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [42]}.
ومنها: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هََاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مََا فُتِنُوا ثُمَّ جََاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهََا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [110]}.
ومن سورة الحج: {فَإِلََهُكُمْ} [1] إِلََهٌ وََاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ [34] الَّذِينَ إِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصََّابِرِينَ عَلى ََ مََا أَصََابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلََاةِ (2) وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ [35].
ومن سورة العنكبوت: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا نِعْمَ أَجْرُ الْعََامِلِينَ}
__________
(1) فى الأصل «والهكم» بالواو، وهو خطأ.
(2) قوله «والمقيمى الصلاة» لم يذكر فى الأصل.(1/321)
{[58] الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [59]}.
ومن سورة الروم (1): {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ} [2] بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلََّا مُبْطِلُونَ [58] كَذََلِكَ يَطْبَعُ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِ الَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ [59] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ، وَلََا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لََا يُوقِنُونَ (3) [60].
ومن سورة تنزيل السّجدة: {وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى} [4] الْكِتََابَ فَلََا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقََائِهِ، وَجَعَلْنََاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرََائِيلَ [23] وَجَعَلْنََا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنََا لَمََّا صَبَرُوا، وَكََانُوا بِآيََاتِنََا يُوقِنُونَ [24] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ فِيمََا كََانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [25].
ومن سورة الصّافّات: {فَبَشَّرْنََاهُ بِغُلََامٍ حَلِيمٍ [101] فَلَمََّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قََالَ: يََا بُنَيَّ إِنِّي أَرى ََ فِي الْمَنََامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مََا ذََا تَرى ََ؟ قََالَ: يََا أَبَتِ افْعَلْ مََا تُؤْمَرُ، سَتَجِدُنِي إِنْ شََاءَ اللََّهُ مِنَ الصََّابِرِينَ [102]}.
ومن سورة ص: {وَاذْكُرْ عَبْدَنََا أَيُّوبَ إِذْ نََادى ََ رَبَّهُ: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطََانُ بِنُصْبٍ وَعَذََابٍ [41] ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، هََذََا مُغْتَسَلٌ بََارِدٌ وَشَرََابٌ [42] وَوَهَبْنََا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنََّا وَذِكْرى ََ لِأُولِي الْأَلْبََابِ [43] وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلََا تَحْنَثْ. إِنََّا وَجَدْنََاهُ صََابِراً. نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوََّابٌ [44]}.
ومن سورة حم المؤمن: {وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْهُدى ََ وَأَوْرَثْنََا بَنِي إِسْرََائِيلَ الْكِتََابَ} (5) [53] هدى وذكرى لأولي الألباب [54]
__________
(1) في الأصل «ومنها» وهو خطأ.
(2) فى الأصل «جئم» وهو خطأ.
(3) فى الأصل «يعلمون» وهو خطأ.
(4) فى الأصل «ولقد آتينا بنى إسرائيل» وهو خطا.
(5) كلمة «الكتاب» لم نذكر فى الأصل، وهو خطأ.(1/322)
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكََارِ [55]}.
ومنها: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ. فَإِمََّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنََا يُرْجَعُونَ [77]}.
ومن سورة الأحقاف: {فَاصْبِرْ كَمََا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلََا تَسْتَعْجِلْ. لَهُمْ. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مََا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلََّا سََاعَةً مِنْ نَهََارٍ. بَلََاغٌ. فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفََاسِقُونَ [35]}.
ومن سورة ق: {فَاصْبِرْ عَلى ََ مََا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [39] وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبََارَ السُّجُودِ [40]}.
ومن سورة القلم: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلََا تَكُنْ كَصََاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نََادى ََ وَهُوَ مَكْظُومٌ [48] لَوْلََا أَنْ تَدََارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرََاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ [49] فَاجْتَبََاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصََّالِحِينَ [50]}.
ومن سورة المدّثّر: {وَثِيََابَكَ فَطَهِّرْ [4] وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [5] وَلََا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [6] وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [7]}.
ومن سورة الإنسان: {فَوَقََاهُمُ اللََّهُ شَرَّ ذََلِكَ الْيَوْمِ وَلَقََّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [11] وَجَزََاهُمْ بِمََا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً [12] مُتَّكِئِينَ فِيهََا عَلَى الْأَرََائِكِ، لََا يَرَوْنَ فِيهََا شَمْساً وَلََا زَمْهَرِيراً [13]}.
ومن سورة البلد: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [11] وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْعَقَبَةُ؟ [12] فَكُّ رَقَبَةٍ [13] أَوْ إِطْعََامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [14] يَتِيماً ذََا مَقْرَبَةٍ [15]
أَوْ مِسْكِيناً ذََا مَتْرَبَةٍ [16] ثُمَّ كََانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوََاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوََاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [17] أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ [18]}.(1/323)
ومن سورة البلد: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [11] وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْعَقَبَةُ؟ [12] فَكُّ رَقَبَةٍ [13] أَوْ إِطْعََامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [14] يَتِيماً ذََا مَقْرَبَةٍ [15]
أَوْ مِسْكِيناً ذََا مَتْرَبَةٍ [16] ثُمَّ كََانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوََاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوََاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [17] أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ [18]}.
أحاديث
130* عن أبي هريرة رضي الله عنه: «قيل: يا رسول الله، هل من رجل يدخل الجنّة بغير حساب؟ قال: نعم، كلّ رحيم صبور (1)».
131* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لو كان الصّبر رجلا كان كريما». (2)
روي عن سليمان بن داود عليهما السلام أنه قال: إنّا وجدنا خير عيشنا الصبر.
وكان عيسى ابن مريم عليه السلام (3) يقول: يا معشر الحواريين، لا تدركون ما تأملون إلّا بالصبر على ما تكرهون. ولا تبلغون ما تريدون إلّا بترك ما تشتهون.
132* وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الصّبر نصف الإيمان. واليقين الإيمان كلّه». (4)
133* وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الإيمان؟ فقال: الصّبر والسّماح». (5)
عن الحسن رضي الله عنه قيل له: ما الصبر والسماح؟ قال: السماح بفرائض الله تعالى، والصبر عن محارم الله عز وجل.
__________
(1) لم أجد هذا الحديث.
(2) نسبه السيوطى (رقم 7461) لأبى نعيم فى الحلية، وأشار الى ضعفه.
(3) فى ح «على نبينا وعليه الصلاة والسلام».
(4) نسبه السيوطى (رقم 5130) لأبى نعيم والبيهقى، وأشار إلى ضعفه.
(5) لم أجد هذا أيضا.(1/324)
وعن عبد العزيز رحمه الله قال: أوحى الله عز وجل إلى داود عليه السلام:
«يا داود، اصبر على المؤونة، تأتك المعونة».
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه أنه قال: يأيها الناس، احفظوا عني خمسا: اثنتين واثنتين وواحدة: ألا لا يخافنّ أحد منكم إلّا ذنبه، ولا يرجونّ إلّا ربّه. ولا يستحي أحد منكم إذا لم يعلم أن يتعلّم، ولا يستحي أحد منكم إذا سئل وهو لا يعلم أن يقول: لا أعلم. واعلموا أنّ الصبر من الأمور بمنزلة الرأس من الجسد، فاذا فارق الرأس الجسد فسد الجسد، وإذا فارق الصبر الأمور فسدت الأمور. ثم قال: ألا أدلّكم على الفقيه كلّ الفقيه؟
قالوا: بلى، يا أمير المؤمنين. قال: من لم يوئس النّاس من روح الله، ولم يقنّط الناس من رحمة الله، ولم يؤمن الناس من مكر الله، ولم يزيّن للناس المعاصي، ولا ينزل العارفين الموحّدين الجنة، ولا ينزل العاصين الموحّدين النار، حتّى يكون الربّ عز وجل هو الذي يقضي بينهم. لا يأمننّ خير هذه الأمة من عذاب الله تعالى، والله عز وجل يقول: {فَلََا} [1] يَأْمَنُ مَكْرَ اللََّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخََاسِرُونَ [7: 99] ولا ييأس شرّ هذه الأمة من روح الله تعالى، فالله سبحانه يقول: {إِنَّهُ لََا يَيْأَسُ} [2] مِنْ رَوْحِ اللََّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكََافِرُونَ [12: 87].
وعن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الصّبر ستر من الكروب، وعون في * 134 الخطوب» (3).
__________
(1) فى الأصلين «ولا» وهو خطأ.
(2) رسمت فى الأصلين فى الموضعين «يئس».
(3) لم أجد هذا الحديث.(1/325)
وقال بعض الحكماء: أعدّ للمكروه عدّتين: الصّبر على ما لا يدفع مثله إلّا بالصّبر، والصّبر عمّا لا يجدي الجزع فيه.
وقال الحكيم: الصبر يفني كلّ شيء.
وقال آخر: بالصبر على مواقع المكروه تدرك الحظوظ.
وقال عبيد بن الأبرص:
صبّر النّفس عند كلّ ملمّ ... إنّ في الصّبر حيلة المحتال
لا تضيقنّ بالأمور فقد ... تكشف غمّاؤها بغير احتيال
ربّما تجزع النّفوس من الأم ... ر له (1) فرجة كحلّ العقال
قلت وبالله التوفيق: قد أوردت في كتابي المترجم بكتاب (التّأسّي والتّسلّي) من ذكر الصبر ما ورد فيه في الكتاب العزيز، والأحاديث المرفوعة، وشيئا من أقوال الحكماء، ومن الأشعار والأخبار. فغنيت عن الإطالة فيه في كتابي هذا، فأوردت فيه هذا الفصل مختصرا، وإن كان الصبر الأدب الذي يبدأ به العاقل، وإليه يضطر الجاهل، وهو كمال في الدنيا، أجر في الآخرة، حجاب عن الشمات، عون في النائبات، ولو لم يكن من فضله إلا أن الله سبحانه أوصى به رسوله صلّى الله عليه وسلم [وعلى آله وصحبه رضوان الله أجمعين]. (2)
فصل فى النهى عن الرياء
مما ورد فى الكتاب العزيز
قال الله عز وجل في سورة البقرة: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُبْطِلُوا صَدَقََاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ََ كَالَّذِي يُنْفِقُ مََالَهُ رِئََاءَ النََّاسِ وَلََا يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}،
__________
(1) فى الأصلين «لها» والصواب ما أثبتناه
(2) الزيادة من.(1/326)
{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوََانٍ عَلَيْهِ تُرََابٌ فَأَصََابَهُ وََابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً، لََا يَقْدِرُونَ عَلى ََ شَيْءٍ مِمََّا كَسَبُوا. وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكََافِرِينَ [264]}.
ومن سورة النساء: {وَأَعْتَدْنََا لِلْكََافِرِينَ عَذََاباً مُهِيناً [37] وَالَّذِينَ} [1]
يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمْ رِئََاءَ النََّاسِ وَلََا يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَلََا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطََانُ لَهُ قَرِيناً فَسََاءَ قَرِيناً [38] وَمََا ذََا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمََّا رَزَقَهُمُ اللََّهُ. وَكََانَ اللََّهُ بِهِمْ عَلِيماً [39].
ومنها: {إِنَّ الْمُنََافِقِينَ يُخََادِعُونَ اللََّهَ وَهُوَ خََادِعُهُمْ، وَإِذََا قََامُوا إِلَى الصَّلََاةِ قََامُوا كُسََالى ََ يُرََاؤُنَ النََّاسَ وَلََا يَذْكُرُونَ اللََّهَ إِلََّا قَلِيلًا [142] مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذََلِكَ، لََا إِلى ََ هََؤُلََاءِ} [2] وَلََا إِلى ََ هََؤُلََاءِ (3). وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [143].
ومن سورة الأنفال: {وَلََا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيََارِهِمْ بَطَراً} [4] وَرِئََاءَ النََّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ. وَاللََّهُ بِمََا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [47].
أحاديث
(5)
عن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أخوف ما أخاف * 135 عليكم الشّرك الأصغر. قالوا: وما الشّرك الأصغر يا رسول الله؟ قال:
الرياء، قال: يقول الله تعالى يوم يجازي العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤونهم في الدّنيا فانظروا هل تجدون عندهم خيرا؟!». (6)
__________
(1) فى الأصلين «الذين» بحذف الواو، وهو خطأ.
(2) رسمت فى الأصلين «هاولا».
(3) رسمت فى الأصلين «هاولا».
(4) فى الأصلين «نظرا» وهو تصحيف غريب!!
(5) فى ح «الأحاديث»
(6) رواه احمد فى المسند (ج 5ص 428) وعنده «هل تجدون عندهم جزاء» وهو أصح، وكذلك نقله المنذرى (ج 1ص 34) ونسبه لابن أبي الدنيا والبيهقى فى الزهد، وقال إن إسناد احمد جيد، «ومحمود بن لبيد رأى النبى صلّى الله عليه وسلم ولم يصح له منه سماع فيما أرى».(1/327)
136* وعن أبي هريرة رحمه الله قال: يقول الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشّركاء (1) عن الشّرك، فمن عمل عملا لغير وجهي فأنا منه بريء» (2).
وعن مجاهد رحمه الله قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنّي أتصدّق بالصّدقة وألتمس بها وجه الله تعالى وأحبّ أن يقال لي خيرا (3).
فنزلت هذه الآية: {فَمَنْ كََانَ يَرْجُوا لِقََاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صََالِحاً وَلََا يُشْرِكْ بِعِبََادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [4] [18: 110].
137* وروى أبو هريرة رحمه الله عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يخرج في آخر الزّمان أقوام يختلفون (5) الدّنيا بالدّين، فيلبسون [للناس] جلود الضّأن من اللّين، وألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذّئاب. يقول الله تعالى: أبي يغترّون؟ أم عليّ يجترئون؟ فبي حلفت لأبعثنّ على أولئك فتنة تدع الحليم حيران». (6)
138* وعن حبيب عن أبي صالح (7) رحمه الله قال: «جاء رجل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنّي أعمل العمل فأسرّه فيطلع عليه فيعجبني، ألي فيه
__________
(1) فى الأصلّى «الشركة» وهو خطأ، إذ ليس هذا الوزن من جموع «شريك».
(2) نقله المنذرى (ج 1ص 35) ونسبه لابن ماجه وابن خزيمة والبيهقى، ونسبه السيوطى (رقم 6031) بمعناه لصحيح مسلم.
(3) كذا فى الأصلين بالنصب، وهو موافق لما فى الدر المنثور وهو جائزه
(4) نقله فى الدر المنثور (ج 4ص 255) ونسبه لهناد فى الزهد، وروى الحاكم نحوه بمعناه عن طاوس (ج 4ص 329) ونقله فى الدر أيضا، وفى بعض الروايات «عن طاوس عن ابن عباس».
(5) فى الأصلين «يحتلبون» وصححناه من المنذري.
(6) نقله المنذري (ج 1ص 32) ونسبه للترمذى والزيادة منه. وفى الأصلين «حيرانا».
(7) فى الأصلين «وعن حبيب بن ابي صالح» وهو خطأ، بل هو «حبيب بن أبي ثابت» وشيخه «أبو صالح». والحديث رواه الطيالسى (رقم 2430) ورواه الترمذى من طريق الطيالسى (ج 2ص 62) وكذلك الذهبى في تذكرة الحفاظ (ج 4ص 168). كلهم عن حبيب عن أبي صالح عن أبي هريرة. وأشار الترمذى إلى أن بعض الرواة رووه عن أبي صالح مرسلا لم يذكروا فيه أبا هريرة.(1/328)
أجر؟ قال: لك أجران: أحر السرّ وأجر العلانية».
معناه: أنه يطّلع عليه فيقتدى به، فله أجر العمل وأجر الاقتداء.
عن عقبة بن مسلم (1): أنّ شفيّا (2) الأصبحيّ حدثه قال: دخلت * 139 المدينة فاذا أنا برجل قد اجتمع عليه الناس، فقلت: من هذا؟ قالوا: أبو هريرة، فدنوت منه. فلمّا سكت وخلا قلت له: أنشدك الله تعالى، حدّثني حديثا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحفظته وعلمته. فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدّثنّك بحديث حدّثنيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما معناه أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة (3) أي شهق شهقة فخرّ مغشيّا عليه، فمكث قليلا، ثمّ أفاق فقال: لأحدثنّك حديثا حدّثنيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم نشغ نشغة أخرى فمكث طويلا ثم أفاق ومسح وجهه وقال: لأحدثنّك حديثا حدثنيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم نشغ نشغة واشتدّ طويلا، ثم أفاق، وقال: حدثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى إذا كان يوم القيامة يقضي بين خلقه وكلّ أمّة جاثية: فأوّل من يدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله ورجل كثير المال. فيقول الله تعالى للقارىء: ماذا عملت فيما علمت؟
فيقول: كنت أقوم به آناء اللّيل والنّهار. فيقول الله تعالى: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، [ويقول الله تعالى]: بل أردت أن يقال: فلان
__________
(1) فى الأصلين «مسلم بن عقبة» وهو خطأ، فانه: عقبة بن مسلم التجيبي المصري إمام المسجد العتيق بمصر، وهو تابعى ثقة، مات قريبا من سنة 120.
(2) «شفى» بضم الشين المعجمة وفتح الفاء. وهو: شفي بن ماتع بالتاء المثناة الأصبحى المصرى، تابعى ثقة، وذكره بعضهم فى الصحابة، مات سنة 105. وفى الأصلين «شقى» بالقاف وهو تصحيف قبيح.
(3) نشغ بالنون والغين المعجمة، وفى الأصلين فى كل المواضع «قشع قشعة» وهو تصحيف.(1/329)
قاريء، فقد قيل ذلك. ويقال لصاحب المال: ماذا عملت فيما آتيتك؟
فيقول: كنت أصل الرّحم وأتصدّق به. فيقول الله تعالى: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، [ويقول الله تعالى]: بل أردت أن يقال: فلان جواد.
فقد قيل ذلك. ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول له: لماذا قاتلت (1)؟ فيقول: قاتلت في سبيلك حتّى قتلت. فيقول الله تعالى: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، [ويقول الله تعالى]: بل أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيده على ركبتي فقال:
يا أبا هريرة، أولئك الثّلاثة أوّل خلق الله تسعّر بهم النّار يوم القيامة». (2)
140* وعن عديّ بن حاتم الطائيّ (3) رحمه الله عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يؤمر بناس من النّاس يوم القيامة إلى الجنّة، حتّى إذا دنوا واستنشقوا رائحتا ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعدّ الله تعالى لأهلها: نودوا: أن أصرفوهم لا تدخلوهم فيها. فيرجعون بحسرة وندامة ما رجع الأوّلون والآخرون بمثلها. فيقولون: يا ربّنا، لو أدخلتنا النّار قبل أن ترينا ما أريتنا (4)
من ثواب ما أعددت لأوليائك (5)؟ فيقول الله تعالى: ذلك أردت بكم، كنتم إذ خلوتم بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم النّاس لقيتموهم (6)
__________
(1) فى ح «ماذا» وهو خطأ. وفى رواية الترغيب «فيماذا قتلت» وهى أحسن.
(2) الحديث نقله فى الترغيب (ج 1ص 3029) بأطول مما هنا، والزيادات منه، ولسبه لصحيح ابن خزيمة ورواه الترمذى مطولا (ج 2ص 6261) وقال: «حديث حسن غريب».
ورواه الحاكم فى المستدرك (ج 1ص 419418) وصححه هو والذهبى. ورواه مسلم مختصرا من طريق أخرى (ج 2ص 103102) وكذلك الحاكم (ج 1ص 107وج 4ص 110و 111).
(3) كلمة «الطائى» ليست فى ح.
(4) فى الأصلين «أوريتنا» وهو لحن عامى.
(5) فى ح «لأولئك» وهو خطأ.
(6) فى ح «لقيتهم» وهو خطأ.(1/330)
مخبتين، وتراؤون النّاس بأعمالكم خلاف ما تطعوني بقلوبكم، هبتم النّاس ولم تهابوني، أجللتم النّاس ولم تجلّوني، وتزكّيتم للناس ولم تزكّوا لي، فاليوم أذيقكم عذابي مع ما (1) حرمتم من ثوابي» (2).
وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان مع الناس، ويزيد في العملى إذا أثني عليه، وينقص إذا ذمّ.
وعن جبلة اليحصبيّ (3) قال: كنّا فى غزاة مع عبد الملك بن مروان، * 141 فصحبنا رجل مسهّر لا ينام بالليل إلّا أقلّه، فمكثنا أياما لا نعرفه، ثم عرفناه، فإذا هو رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكان مما حدثنا به:
«إنّ قائلا من المسلمين قال: يا رسول الله، فيم (4) النّجاة غدا؟ قال: لا تخادع الله. قال: وكيف يخادع الله تعالى؟ قال: أن تعمل ما أمرك الله تريد به غير وجه الله تعالى، واتّقوا الرّياء، فإنّه الشّرك بالله، وإنّ المرائي ينادى يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا مخامر، (5) ضلّ عملك، وبطل أجرك، فلا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له يا مخادع». قال: قلت له: بالله الّذي لا إله إلا هو، أنت سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: والله الذي لا إله إلا هو، إني قد
__________
(1) كتب في الأصلين «معما».
(2) نقله المنذرى فى الترغيب (ج 1ص 3736) ونسبه للطبرانى فى الكبير والبيهقى.
(3) اليحصبى بتثليث الصاد المهملة، كما ضبطه صاحب القاموس، وهو نسبة إلى «يحصب» بضم الصاد، حي من اليمن وجبلة هذا لم أجده فى شىء من المراجع التى عندى.
(4) فى الأصل «فيما».
(5) كذا فى الأصلين، ولا معنى لهذا الحرف هنا، ولعله محرف عن «مخاتر» بالتاء بدل الميم، أى مخادع.(1/331)
سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا أن يكون (1) قد أخطأت شيئا لم أتعمده. ثم قرأ:
{إِنَّ الْمُنََافِقِينَ يُخََادِعُونَ اللََّهَ وَهُوَ خََادِعُهُمْ [4: 142]}. (2)
142* وعن شدّاد بن أوس رضي الله عنه أنه قال: أخوف ما أتخوّف عليكم أيّها الناس ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول فى الشهوة الخفيّة والشّرك.
فقال عبادة بن الصامت وأبو الدّرداء رضي الله عنهما: ما هذا الشّرك الذي تخوّفنا به يا شدّاد؟ فقال شدّاد: أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلّي لرجل ويصوم له أو يتصدق له: أترون أنه قد أشرك؟ قالوا: نعم والله، من صلّى لرجل وصام له أو تصدق له فقد أشرك.
فقال شدّاد: فاني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من صلّى يرائي فقد أشرك. ومن صام يرائي فقد أشرك».
فقال عوف بن مالك رحمه الله: أفلا يعمد الله تعالى إلى ما ابتغي به وجهه من ذلك العمل كلّه فيقبل منه ما خلص له ويدع ما أشرك به؟ فقال شداد عند ذلك: إنى (3) سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله تعالى يقول: أنا خير قسيم، فمن أشرك بي شيئا فإنّ جسده وعمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك، وأنا غنيّ عنه (4)».
143* وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة جاءت الملائكة بصحف مختّمة، فيقول الله عزّ وجلّ: القوا هذا، واقبلوا هذا. فتقول الملائكة: وعزّتك، ما كتبنا إلا ما كان. فيقول
__________
(1) كذا فى الأصلين.
(2) لم أجد هذا الحديث أصلا، والله أعلم.
(3) فى ح بحذف «إنى»
(4) رواه مطولا أحمد فى المسند (ج 4ص 126125) وأبو نعيم فى الحلية (ج 1ص 268 270) بأسانيد متعددة، ورواه أحمد أيضا مختصرا باسناد آخر (ج 1ص 124123) والحاكم (ج 4ص 330). وانظر الكلام على أسانيده فى الترغيب (ج 1ص 3635)(1/332)
تبارك وتعالى: «إنّ هذا كان لغيري، ولا أقبل اليوم إلا ما كان لي». (1)
فصل فى الاصلاح (2) بين الناس
مما ورد فى الكتاب العزيز
قال الله عز وجل فى سورة النساء: {وَإِنْ} [3] خِفْتُمْ شِقََاقَ بَيْنِهِمََا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهََا، إِنْ يُرِيدََا إِصْلََاحاً يُوَفِّقِ اللََّهُ بَيْنَهُمََا. إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلِيماً خَبِيراً [35].
ومنها: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خََافَتْ مِنْ بَعْلِهََا نُشُوزاً أَوْ إِعْرََاضاً فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِمََا أَنْ يُصْلِحََا} [4] بَيْنَهُمََا صُلْحاً (5). وَالصُّلْحُ خَيْرٌ. وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ. وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيراً [128] وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسََاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ، فَلََا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهََا كَالْمُعَلَّقَةِ، وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ غَفُوراً رَحِيماً [129].
ومن سورة الأنفال: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفََالِ؟ قُلِ: الْأَنْفََالُ لِلََّهِ وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللََّهَ وَأَصْلِحُوا ذََاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [1]}.
ومن سورة الحجرات: {وَإِنْ طََائِفَتََانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمََا، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدََاهُمََا عَلَى الْأُخْرى ََ فَقََاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتََّى تَفِيءَ إِلى ََ أَمْرِ اللََّهِ، فَإِنْ فََاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمََا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا، إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [9] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللََّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [10]}.
__________
(1) نقل المنذرى (ج 1ص 37) نحوه بمعناه، ونسبه للبيهقى والبزار والطبراني باسنادين أحدهما صحيح. ونقله أيضا السيوطى فى الدر (ج 4ص 256) ونسبه للبزار والبيهقى.
(2) فى ح «إصلاح».
(3) فى الأصلين «فان» وهو خطأ
(4) بتشديد الصاد، أصلها «يتصالحا»، فأدغمت التاء فى الصاد. وهي قراءة العشرة ما عدا عاصم وحمزة والكسائي، فانهم قرؤا «يصلحا». انظر التيسير (ص 97) والنشر (ج 2ص 244).
(5) كلمة «صلحا» لم تذكر فى الأصلين خطأ.(1/333)
أحاديث
144* عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا مررت بأقوام قد نزغ (1) الشيطان بينهم فأمر بإصلاح يصلح الله لك دينك، ويكتب أثرك في الصّالحين» (2).
145* وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ما عمل شىء أفضل من مشي إلى صلاة وصلح ذات البين صلحا جائزا بين المسلمين» (3).
146* وعن أبي أيّوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يأبا أيّوب، ألا أدلّك على صدقة يرضى الله عزّ وجلّ موضعها؟ قلت:
بلى يا رسول الله. قال: تسعى في إصلاح ذات البين إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا» (4).
147* وعن أبي أمامة رضي الله عنه: أنه سمع النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «امش ميلا عد مريضا. وامش ميلين أصلح بين اثنين. وامش ثلاثة أميال زر أخا في الله تعالى» (5).
__________
(1) نزغ: بالغين المعجمة، اى: افسد وأغرى، وفى الأصلين «نزع» بالعين المهملة، وهو تصحيف
(2) لم أجد هذا الحديث
(3) نقله المنذرى فى الترغيب (ج 3ص 292) ونسبه للاصبهانى، وأشار إلى ضعفه. وفى لفظه هناك تحريف من الناسخ أو الطابع. ونقل السيوطى نحوه مختصرا برقم (7948) ونسبه للبخارى فى التاريخ وللبيهقى.
(4) رواه الطيالسي برقم (598)، ونقله المنذرى (ج 3ص 293292) ونسبه للطبراني والأصبهاني، ونقل نحوه من حديث أنس، ونسبه للبزار والطبراني.
(5) نقله السيوطى (رقم 1647) ونسبه لابن أبى الدنيا فى كتاب الاخوان عن مكحول مرسلا. وفى ح «ثلاث أميال» وهو لحن.(1/334)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أصلح * 148 بين اثنين أصلح الله أمره، وأعطاه بكلّ كلمة تكلّم بينهما عتق رقبة، ورجع مغفورا له ما تقدّم من ذنبه» (1).
وعن أم كلثوم رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس الكاذب * 149 من أصلح بين اثنين فقال خيرا أو نمى خيرا» (2).
وعن أبى إدريس الخولانيّ أنه سمع أبا الدرداء رضي الله عنهما يقول: ألا أخبركم بخير لكم من الصدقة والصيام؟: إصلاح ذات البين. وإياكم والبغضة، فإنها الحالقة.
وعن سعيد بن المسيّب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم * 150 بحير لكم من كثير من الصلاة والضّيافة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال:
إصلاح ذات البين» (3).
فصل فى التّعفّف
مما ورد فى الكتاب العزيز
قال الله عز وجل في سورة البقرة: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدََاهُمْ وَلََكِنَّ اللََّهَ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ. وَمََا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ، وَمََا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغََاءَ وَجْهِ اللََّهِ}.
__________
(1) نقله المنذرى فى الترغيب (ج 3ص 293) ونسبه للاصبهانى، وقال «هو حديث غريب جدا»
(2) فى الأصلين «ونمى» وهو خطأ. والحديث رواه أحمد (ج 6ص 403) والبخارى (ج 3ص 183) ومسلم (ج 2ص 288) وغيرهم، وأم كلثوم هى بنت عاقبة بن أبى معيط، وهى من المهاجرات الأول، وهى أخت عثمان بن عفان لأمه.
(3) هذا الحديث والذى قبله هما حديث واحد رواه أحمد فى المسند (ج 6ص 445444) من روآية أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هى الحالقة، ورواه أيضا أبو داود (ج 4ص 433432) ونقله المنذرى (ج 3ص 292) ونقل عن الترمذى أنه قال: «حديث صحيح. ويروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: هي الحالقة، لا اقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين».(1/335)
{وَمََا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لََا تُظْلَمُونَ [272] لِلْفُقَرََاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ لََا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ، يَحْسَبُهُمُ الْجََاهِلُ أَغْنِيََاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، تَعْرِفُهُمْ بِسِيمََاهُمْ، لََا يَسْئَلُونَ النََّاسَ إِلْحََافاً. وَمََا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللََّهَ بِهِ عَلِيمٌ [273]}.
ومن سورة النساء: {وَابْتَلُوا الْيَتََامى ََ حَتََّى إِذََا بَلَغُوا النِّكََاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوََالَهُمْ، وَلََا تَأْكُلُوهََا إِسْرََافاً وَبِدََاراً أَنْ يَكْبَرُوا. وَمَنْ كََانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كََانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. فَإِذََا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوََالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ. وَكَفى ََ بِاللََّهِ حَسِيباً [6]}.
أحاديث
151* عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله يحبّ عبده [المؤمن] المتعفّف الفقير أبا العيال» (1).
152* وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «أقبلت لأسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فوجدته يقول: من يتصبّر يصبّره الله، ومن يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله. قلت: فما أنا بسائلك اليوم» (2).
153* وعن الزّبير بن العوّام رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لأن (3)
يأخذ أحدكم حبلا فيذهب فيأتي يحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكفّ بها وجهه: خير له من أن يسأل النّاس، أعطوه أو منعوه» (4).
__________
(1) رواه ابن ماجه (ج 2ص 274) والزيادة، منه. وفى إسناده ضعف.
(2) جاء هذا الحديث بألفاظ مختلفة، رواه احمد فى المسند (ج 3ص 44)، وفى مواضع أخرى، ورواه مالك والبخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى. أنظر الترغيب (ج 2ص 1110).
(3) كتب فى الأصلين «لئن»
(4) نقله المنذرى (ج 2ص 13) ونسبه للبخارى وابن ماجه.
ونقل آخر بمعناه عن أبى هريرة، ونسبه لمالك والبخارى ومسلم والترمذى والنسائى.(1/336)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يأبا بكر، * 154 ما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلّا زاده الله بها قلّة» (1).
وعن إسماعيل الأنصاري عن أبيه عن جده رضي الله عنهم: «أنّ رجلا * 155 أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أوصني وأوجز. فقال: عليك باليأس ممّا في أيدي النّاس، فإنّه الغنى، وإيّاك والطّمع، فإنّه الفقر الحاضر، وصلّ صلاتك وأنت مودّع، وإيّاك وما يعتذر منه» (2).
أورد الامام أبو الحسن يحيى بن نجاح رحمه الله في كتاب (سبل الخيرات):
أنّ عثمان بن عفان رضوان الله عليه أرسل إلى أبي ذرّ الغفّاريّ رضي الله عنه بصرّة فيها نفقة على يد عبد له، وقال: إن قبلها فأنت حرّ. فأتاه بها، فلم يقبلها. فقال: اقبلها يرحمك الله فإنّ فيها عتقي. فقال: إن كان فيها عتقك ففيها رقّي. وأبى أن يقبلها.
وروى أبو جعفر الطبري رضي الله عنه في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه * 156 واسم أبي ذرّ جندب بن جنادة قال: «أوصاني خليلى صلّى الله عليه وسلم بسبع (3):
__________
(1) رواه أحمد في المسند مطولا باسناد صحيح (رقم 9622ج 2ص 436). ورواه أيضا مختصرا ليس فيه ذكر أبى بكر، باسناد صحيح كذلك (رقم 9411ج 2ص 418). ونقل السيوطي نحوه (رقم 7950) ونسبه للبيهقى وأشار إلى أنه حديث حسن، ويظهر أنه لم ير الاسنادين اللذين فى مسند احمد. وجاء هذا المعنى من حديث ابن عوف وابن عباس وأبى كبشة. انظر الترغيب (ج 2 ص 8و 20و 23).
(2) اسماعيل الأنصارى: هو اسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، ووصفه بالأنصارى خطأ، فانه قرشى من بنى زهرة. والحديث رواه الحاكم فى المستدرك (ج 4ص 326) وصححه هو والذهبى، وفى هذا نظر لأن راويه عن اسماعيل هو محمد بن أبي حميد الأنصارى، وفيه ضعف. ونسبه المنذرى أيضا (ج 2ص 12) للبيهقى فى الزهد. ونقل نحوه مختصرا من حديث جابر، ونسبه للطبرانى فى الأوسط. وفى المستدرك والترغيب «عليك بالاياس» بدل «عليك باليأس».
(3) فى الأصلين «بتسع»، وهو تصحيف(1/337)
أوصاني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي. وأوصاني بحبّ المساكين، والدّنوّ منهم. وأوصاني أن لا أسأل أحدا شيئا. فكان يقع منه السّوط فينزل فيأخذه وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت.
وأوصاني أن أقول الحقّ وإن كان مرّا. وأوصاني أن أقول: لا حول ولا قوّة إلّا بالله. وأوصاني أن لا أخاف في الله لومة لائم» (1).
قال الشاعر:
لا تحسبنّ الموت موت البلى ... وإنّما الموت سؤال الرّجال
كلاهما موت، ولكنّ ذا ... أشدّ من ذاك لذلّ السّؤال
وقال آخر:
قست السّؤال فكان أعظم قيمة ... من كلّ عارفة أتت بسؤال
كن بالسّؤال أعزّ عقد عزيمة ... ممّن يضنّ عليك بالأموال
وقال محمود الورّاق:
ليس يعتاض باذل الوجه فى ال ... حاجة من بذل وجهه عوضا
كيف يعتاض من أتاك وقد ... صيّر للذّلّ وجهه غرضا
وقال آخر:
ومنتظر سؤالك بالعطايا ... وأفضل من عطاياه السّؤال
إذا لم يأتك المعروف عفوا ... فدعه ففي التّنزه عنه مال
وكيف بلذّ ذو أدب نوالا ... ومنه لوجهه فيه ابتذال
إذا كان النّوال ببذل وجه ... وإلحاح فلا كان النّوال
__________
(1) أحديث رواه أحمد فى المسند باسناد جيد (ج 5ص 159)، ونقله المنذرى (ج 2ص 7) ونسبه أيضا للطبرانى.(1/338)
وقال آخر:
بخلت وليس البخل من سحيّة ... ولكن رأيت الفقر شرّ سبيل
لموت الفتى خير من الموت للفتى ... وللموت خير من سؤال بخيل
لعمرك ما شيء لوجهك قيمة ... فلا تلق مخلوقا بوجه ذليل
ولا تسألن من كان يسأل مرّة ... فللفقر خير من سؤال سؤول
وقال آخر:
أقسم بالله لرضخ النّوى ... وشرب ماء القلب المالحه
أعزّ للإنسان من حرصه ... ومن سؤال الأوجه الكالحه
فاستشعر الصّبر تعش ذاغنى ... مغتبطا بالصّفقة الرّابحة
وقال آخر:
لا أستعين بإخواني على الزّمن ... ولا أرى حسنا ما ليس بالحسن
لا أبتدي بسؤال باخلا أبذا ... لو شاء قبل سؤاليه لا كرمتي
ذلّ السّؤال وبذل الوجه ما اجتمعا ... إلّا أضرّا بماء الوجه والبدن
وأيّ ذلّ لحرّ في مروءته ... أذلّ من غضّ عينيه على المنن
وقال آخر:
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... نيلا، ولو نال الغنى بسؤال
وإذا السّؤال مع النّوال وزنته ... رجح السّؤال وحقّ كلّ نوال
وإذا افتقرت لبذل وجهك سائلا ... فابذله للمتكرّم المفضال
إنّ الكريم إذا حباك بنيله ... أعطاكه سلسا بغير مطال
وقال آخر: (1)
وفتى خلا من ماله ... ومن المروءة غير خال
أعطاك قبل سؤاله ... فكفاك مكروه السّؤال
وقال آخر:(1/339)
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... نيلا، ولو نال الغنى بسؤال
وإذا السّؤال مع النّوال وزنته ... رجح السّؤال وحقّ كلّ نوال
وإذا افتقرت لبذل وجهك سائلا ... فابذله للمتكرّم المفضال
إنّ الكريم إذا حباك بنيله ... أعطاكه سلسا بغير مطال
وقال آخر: (1)
وفتى خلا من ماله ... ومن المروءة غير خال
أعطاك قبل سؤاله ... فكفاك مكروه السّؤال
وقال آخر:
ومسئلة اللّئيم عليك عار ... وذلّ حين تسأله عناء (2)
وذو الحسب الكريم تراه سهلا ... طليق الوجه ليس له التواء
وقال آخر:
صن بعزّ اليأس عنهم أبدا ... ماء ديباجك عن بذل النّوال
ليس شيء من نوال تبتغي ... قيمة للوجه من ذلّ السّؤال
فصل فى التحذير من الظّلم
مما ورد فى الكتاب العزيز
قال الله عزّ وجلّ في سورة النساء: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتََاناً وَإِثْماً مُبِيناً [112]} (3).
ومن سورة النساء: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هََادُوا حَرَّمْنََا عَلَيْهِمْ طَيِّبََاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ كَثِيراً [160] وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا} [4] وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوََالَ النََّاسِ بِالْبََاطِلِ. وَأَعْتَدْنََا لِلْكََافِرِينَ مِنْهُمْ عَذََاباً أَلِيماً [161].
ومن سورة المائدة: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثََاقَهُ الَّذِي وََاثَقَكُمْ}
__________
(1) هذان البيتان فى ح فى آخر الفصل.
(2) فى الأصلين «غناء» بالغين المعجمة، وهو تصحيف.
(3) هذه الآية لم تذكر فى ح.
(4) كتبت فى الأصل «الربا» وما هنا هو الموافق لرسم المصحف.(1/340)
{بِهِ إِذْ قُلْتُمْ: سَمِعْنََا وَأَطَعْنََا، وَاتَّقُوا اللََّهَ. إِنَّ اللََّهَ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ [7] يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوََّامِينَ لِلََّهِ شُهَدََاءَ بِالْقِسْطِ، وَلََا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ََ أَلََّا تَعْدِلُوا. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ، وَاتَّقُوا اللََّهَ. إِنَّ اللََّهَ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ [8]}.
ومن سورة يونس: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهََا جََاءَتْهََا رِيحٌ عََاصِفٌ وَجََاءَهُمُ الْمَوْجُ} [1] مِنْ كُلِّ مَكََانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ (2)
دَعَوُا اللََّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ: لَئِنْ أَنْجَيْتَنََا مِنْ هََذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشََّاكِرِينَ [22] فَلَمََّا أَنْجََاهُمْ إِذََا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنَّمََا بَغْيُكُمْ عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ، مَتََاعَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا، ثُمَّ إِلَيْنََا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [23].
ومنها: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتََاكُمْ عَذََابُهُ بَيََاتاً أَوْ نَهََاراً مََا ذََا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ؟ [50] أَثُمَّ إِذََا مََا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ. آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟! [51] ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا: ذُوقُوا عَذََابَ الْخُلْدِ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلََّا بِمََا كُنْتُمْ} [3] تَكْسِبُونَ؟ [52].
ومن سورة هود: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً. أُولََئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى ََ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهََادُ هََؤُلََاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى ََ رَبِّهِمْ. أَلََا لَعْنَةُ اللََّهِ عَلَى الظََّالِمِينَ [18]}.
__________
(1) فى الأصلين «وجاءهم الموت» وهو خطأ غريب!
(2) في الأصلين «فظنوا أن قد أحيط بهم «وهو خطأ أغرب!!
(3) فى الأصلين «إلا ما كنتم» وهو خطأ.(1/341)
ومنها: {وَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا نَجَّيْنََا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنََّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيََارِهِمْ جََاثِمِينَ [94] كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهََا. أَلََا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمََا بَعِدَتْ ثَمُودُ [95]} [1].
ومنها: {وَلََا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النََّارُ وَمََا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ مِنْ أَوْلِيََاءَ ثُمَّ لََا تُنْصَرُونَ [113]}.
ومنها: {فَلَوْلََا كََانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسََادِ فِي الْأَرْضِ إِلََّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنََا مِنْهُمْ. وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مََا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكََانُوا مُجْرِمِينَ [116]}.
أحاديث
157* عن عبد الله بن عمرو (2) رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إيّاكم والظّلم، فإنّ الظّلم ظلمات يوم القيامة. وإيّاكم والفحش، فإنّ الله تعالى لا يحبّ الفحش ولا المتفحّش (3). وإيّاكم والشّحّ، فإنما أهلك من كان قبلكم (4) الشّحّ: أمرهم بالكذب فكذبوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالظّلم فظلموا. قال: فقام رجل فقال: يا رسول الله، أيّ الإسلام أفضل؟ فقال: أن يسلم المسلمون من لسانك ويدك. قال:
فأىّ الجهاد أفضل؟، قال: أن يهراق دمك ويعقر جوادك. قال: فأيّ الهجرة أفضل؟ قال: تهجر ما كره ربّك». (5)
__________
(1) هاتان الآيتان لم نذكرا فى ح
(2) فى الأصلين «عبد الله بن عمر» وهو خطأ.
(3) كذا فى الأصلين، وفى سائر الروايات التى رأيتها فى الحديث «ولا التفحش».
(4) فى ح «من قبلكم، بحذف «كان»، وإثباتها أصح.
(5) الحديث رواه أحمد فى المسند (رقم 6487و 6792و 6837ج 2ص 160159و 191و 195) ورواه الطيالسي (رقم 2272) ورواه ابو داود مختصرا (ج 2ص 61) والحاكم مختصرا أيضا (ج 9ص 415).(1/342)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دعوتان ليس بينهما وبين الله حجاب: دعوة المظلوم، ودعوة المرء لأخيه بظهر العيب (1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من كانت * 158 عنده مظلمة لأخيه في مال أو عرض فليأته فليتحلّل منها، فإنّه ليس ثمّ دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيّئات صاحبه فطرحت عليه» (2).
قلت: هذا فصل يتعيّن اتّساع القول فيه لحاجة الناس إلى الكفّ عن الظلم، غير أنّني قد أوردت في كتابي المترجم بكتاب (ردع الظّالم وردّ المظالم) منه ما غنيت به عن الإطالة في إيراده في كتابي هذا.
فصل فى الاحسان وفعل الخير
مما ورد فى الكتاب العزيز
قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَلََا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا. إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [195]}.
ومنها: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطََايََاكُمْ. وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [58]} (3).
ومن سورة آل عمران: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرََّاءِ وَالضَّرََّاءِ وَالْكََاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعََافِينَ عَنِ النََّاسِ. وَاللََّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [134]}.
ومنها: {فَآتََاهُمُ اللََّهُ ثَوََابَ الدُّنْيََا وَحُسْنَ ثَوََابِ الْآخِرَةِ. وَاللََّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [148]}.
__________
(1) هكذا نقله المؤلف موقوفا على ابن عباس، وهو حديث مرفوع من كلام النبي صلّى الله عليه وسلم، نقله السيوطى فى الجامع (رقم 4207) والمنذرى فى الترغيب (ج 3ص 146) من حديث ابن عباس، ونسباه للطبراني، وقال المنذرى: «وله شواهد كثيرة»
(2) رواه البخاري بمعناه (ج 3 ص 130129) وكذلك أحمد فى المسند (رقم 1058210580ج 2ص 506) ونسبه المنذرى أيضا (ج 3ص 145) للترمذى.
(3) هذه الآية لم تذكر في ح.(1/343)
ومن سورة المائدة: {فَأَثََابَهُمُ اللََّهُ بِمََا قََالُوا جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا} [1]. وَذََلِكَ جَزََاءُ الْمُحْسِنِينَ [85].
ومنها: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ، آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ جُنََاحٌ فِيمََا طَعِمُوا إِذََا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا. وَاللََّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [93]}.
ومن سورة الأنعام: {مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثََالِهََا، وَمَنْ جََاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلََا يُجْزى ََ إِلََّا مِثْلَهََا، وَهُمْ لََا يُظْلَمُونَ [160]}.
ومن سورة الأعراف: {وَلََا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلََاحِهََا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً. إِنَّ رَحْمَتَ اللََّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [56]}.
ومنها (2): {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هََذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهََا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبََابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ} خطاياكم (3).
و {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [161]}.
ومن سورة التوبة: {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ لََا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلََا نَصَبٌ وَلََا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَلََا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفََّارَ وَلََا يَنََالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلََّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صََالِحٌ. إِنَّ اللََّهَ لََا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [120]}.
ومن سورة هود: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللََّهَ لََا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [115]}.
__________
(1) لم يذكر فى الأصلين قوله «خالدين فيها»، وهو خطأ من الناسخين.
(2) من هنا إلى آخر آية النجم لم يذكر فى ح.
(3) هذه قراءة أبي عمرو، وقراءة حفص «خطيئاتكم»(1/344)
ومن سورة يوسف: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللََّهَ لََا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [90]}.
ومن سورة القصص: {وَلَمََّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى ََ آتَيْنََاهُ حُكْماً وَعِلْماً. وَكَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [14]}.
ومنها: {وَابْتَغِ فِيمََا آتََاكَ اللََّهُ الدََّارَ الْآخِرَةَ، وَلََا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيََا وَأَحْسِنْ كَمََا أَحْسَنَ اللََّهُ إِلَيْكَ، وَلََا تَبْغِ الْفَسََادَ فِي الْأَرْضِ. إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [77]}.
ومن سورة النجم: {وَلِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسََاؤُا بِمََا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [31]}.
ومن المرسلات: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلََالٍ وَعُيُونٍ [41] وَفَوََاكِهَ مِمََّا يَشْتَهُونَ [42] كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [43] إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [44]}.
احاديث
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنّ رجلا جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم * 159 فقال: يا رسول الله، أيّ الناس أحبّ إلى الله عز وجل؟ وأيّ الأعمال أحبّ إلى الله تعالى؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: أحبّ الناس إلى الله تعالى أنفعهم للنّاس، وأحبّ الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على قلب مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد (1) عنه جوعا. ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة
__________
(1) فى ح «او يطرد» وما هنا اصح.(1/345)
أحب إليّ من أن اعتكف في هذا المسجد يعني مسجد المدينة شهرا.
ومن كظم غيظه ستر الله عورته (1). ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه: ملأ الله قلبه يوم القيامة رضى. ومن مشى مع أخيه في حاجة حتّى يقضيها له ثبّت الله قدمه يوم تزول (2) الأقدام» (3).
160* وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من موجبات المغفرة إدخال السّرور على أخيك المسلم: إشباع جوعته وتنفيس كربته» (4).
161* وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلوات الله عليه وسلامه: «لا يزال الله تعالى في حاجة العبد ما لم يزل في حاجة أخيه» (5).
162* وعن كثير بن عبد الله بن عمر (6) عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال:
__________
(1) قوله «ومن كظم غيظه ستر الله عورته» لم يذكر فى الترغيب، وذكر بدله فى كشف الخفا «ومن كف غضبه ستر الله عورته».
(2) فى ح «تزل» وموافق لكشف الخفاء وما هنا موافق للترغيب.
(3) نقله المنذرى في الترغيب (ج 3ص 253) ونسبه للاصبهاني عن ابن عمر ولابن أبي الدنيا عن صحابي غير مسمى، ونقله العجلوني فى كشف الخفا (رقم 126) ونسبه للطبرانى وابن أبى الدنيا عن ابن عمر. وهو حديث أشار المنذري إلى تضعيفه.
(4) نقله السيوطى فى الجامع (رقم 8261) مختصرا بلفظ «من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان» ونسبه للحاكم عن جابر، ونقله المنذرى (ج 3ص 252) مطولا بمعناه عن عمر، ونسبه للطبرانى فى الأوسط، وعن ابن عمر، ونسبه لأبى الشيخ.
(5) لم أجده من حديث أنس، ونقله المنذرى (ج 3 ص 251) من حديث زيد بن ثابت بلفظ: «لا يزال الله فى حاجة العبد ما دام فى حاجة أخيه» ونسبه للطبرانى وقال «رواته ثقات». وقد ورد معناه أيضا فى حديث طويل لأبى هريرة بلفظ «والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه» رواه مسلم وابو داود والترمذى وغيرهم. انظر الترغيب (ج 3ص 250).
(6) كذا فى الأصلين، وليس فى أولاد عبد الله بن عمر بن الخطاب من اسمه «كثير» انظر طبقات ابن سعد (ج 4ق 1ص 105)، وليس فى الرواية من يسمى بهذا، واغلب الظن أن المراد به «كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني». وله ترجمة فى التهذيب، وجده عمرو بن عوف صحابى معروف.(1/346)
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنّ لله عبيدا استخصّهم لنفسه (1) لقضى (2)
حوائج النّاس، ثمّ آلى على نفسه أن لا يعذّبهم، فإذا كان يوم القيامة جلسوا على منابر من نور يحدّثون الله تعالى والنّاس في الحساب (3)».
وعن عبد الله بن عمرو (4) رحمه الله قال: قال رسول صلّى الله عليه وسلم: «خلقان * 163 يحبّهما الله عزّ وجل، وخلقان يبغضهما الله عزّ وجل: فأمّا اللّذان يحبّهما فالشّجاعة (5) والسّماحة، وأمّا اللّذان يبغضهما الله عز وجل فسوء الخلق والبخل. وإذا أراد الله بعبد خيرا استعمله على قضاء (6) حوائج النّاس».
وعن أنس بن مالك رحمه الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قصى * 164 لأخيه [المؤمن] حاجة كان بمنزلة من خدم الله تعالى عمره (7)».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أحسن الصّدقة * 165
__________
(1) اى: اصطفاهم واختارهم، كما في معيار اللغة.
(2) اصلها «لقضاء» فحذفت الهمزة تسهيلا فصارت على صورة المقصور فكتبت بالياء.
(3) لم أجد الحديث بهذا السياق، وإنما نقل السيوطى في الجامع (رقم 2350) حديثا عن ابن عمر بلفظ: «إنّ لله عبادا اختصهم بحوائج الناس يفزع الناس اليهم فى حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله،. ونسبه للطبرانى، وكذلك نقل المنذري (ج 3ص 250) نحوه من حديث ابن عمر ونسبه للطبراني ثم قال: «ورواه أبو الشيخ بن حبان فى كتاب الثواب من حديث الجهم بن عثمان، ولا يعرف، عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده، ورواه ابن أبى الدنيا فى كتاب اصطناع المعروف عن الحسن مرسلا».
(4) فى ح «عبد الله بن عمر» وهو خطأ. والحديث نقله السيوطى فى الجامع (رقم 3924) ونسبه للبيهقى فى الشعب.
(5) فى الجامع «فالسخاء» بدل «فالشجاعة» وهو أنسب، لمقابلته فى الشق الآخر بالبخل.
(6) فى الأصل «قضى» بالياء، وله وجه كما مضى.
(7) رواه الخرائطى (ص 17) ورواه الخطيب فى تاريخ بغداد (ج 3ص 114) والزيادة منهما. ونقله السيوطي فى الجامع (رقم 8961) ونسبه لأبى نعيم فى الحلية. وهو حديث ضعيف.(1/347)
جاز على الصّراط مدلّا (1). ومن قضى حاجة أرملة (2) خلفه الله تعالى في تركته». (3)
166* وعن أبي هريرة رحمه الله عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من نفّس عن أخيه المسلم كربة نفّس الله عنه كربة من كرب الآخرة» (4).
167* وعن أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما من رجل طلب حاجة لأخيه المسلم فقضاها له وفرّح بها قلبه إلّا قال الله عز وجلّ لبعض ملائكته: بشّر عبدي هذا بالجنّة. ثمّ يجعل لكلّ عضو من أعضائه ومفصل (5) من مفاصله لسانا، يحمدون الله عزّ وجل ويمجّدونه ثم يقدّسونه تلك الألسن كلّها، ويكتب ذلك (6) في ملكوت السّماوات» (7).
168* وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن لله قوما يختصّهم بالنّعم لمنافع العباد، ويقرّهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحوّلها إلى غيرهم» (8).
169* وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ
__________
(1) اي منبسطا لا خوف عليه، وهو من الادلال. قاله فى اللسان.
(2) الأرملة بفتح الميم الفقير المحتاج، يطلق على المذكر والمؤنث والجمع. قال فى لسان العرب: «كل جماعة من رجال ونساء أو رجال دون نساء أو نساء دون رجال: أرملة، بعد أن يكونوا محتاجين، ويقال للفقير الذى لا يقدر على شىء من رجل أو امرأة: أرملة».
(3) لم أجد هذا الحديث.
(4) هو جزء من حديث نقله المنذرى (ج 3ص 250) بلفظ «من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» الخ ونسبه لمسلم وأبي داود والترمذى والنسائي وابن ماجه والحاكم.
(5) فى ح «أو مفصلا» وهو لحن.
(6) فى الأصل «ويكتب لك ذلك، وهو خطأ، صححناه من ح.
(7) لم أجد هذا الحديث.
(8) نقله المنذرى (ج 3ص 250) والسيوطى (رقم 2352) ونسباه إلى ابن أبى الدنيا والطبرانى، ونسبه السيوطى إلى الحلية.(1/348)
أحبّ عباد الله إلى الله عزّ وجلّ من حبّب إليه المعروف وحبّب إليه فعاله (1)».
عن معاوية رحمه الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اشفعوا إليّ تؤجروا». * 170
وإنّ الرّجل ليسألني فأردّه كي (2) تشفّعوا إليّ فتؤجروا (3)».
وعن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال: قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: * 171 «من كان وصلة لأخيه (4) إلى سلطان في مبلغ برّ أو مدفع مكروه رفعه الله تعالى في الدّرجات [العلى من الجنّة] (5)».
وقال حكيم بن حزام رحمه الله: ما أصبحت يوما وبابي طالب حاجة إلّا علمت أنّها من منن الله عزّ وجل عليّ. ولا أصبحت وليس ببابي طالب حاجة إلّا علمت أنها من المصائب التي أسأل الله الأجر عليها.
وعن فيض بن اسحق قال: كنت عند الفضيل بن عياض رضي الله عنه إذ جاءه رجل فسأله حاجة فألحّ بالسؤال عليه، فقلت له: لا تؤذ الشيخ.
فقال لي الفضيل: اسكت يا فيض، أما علمت أنّ حوائج الناس إليكم نعمة (6)
من الله عليكم، فاحذروا أن تملّوا النّعم فتتحوّل. ألا تحمد ربّك أن جعلك موضعا تسأل، ولم يجعلك موضعا تسأل؟!
__________
(1) نقله السيوطى (رقم 2172) ونسبه لابن أبى الدنيا وابى الشيخ، وأشار إلى أنه حديث ضعيف.
(2) فى ح «كيف» وهو خطأ.
(3) قوله «اشفعوا إلىّ تؤجروا» هو الذى من كلام النبى صلّى الله عليه وسلم، والباقي من كلام معاوية، خلافا لما يوهمه السياق هنا وفى مكارم الأخلاق للخرائطى (ص 7675) والنسائي (ج 1ص 356) وقد أوضحت ذلك رواية أبى داود (ج 4ص 497). وقد جاء اللفظ النبوى أيضا من حديث أبى موسى الأشعرى عند أبى داود والنسائى فى الموضعين السابقين، وعند البخارى (ج 2ص 113وج 8ص 12وج 9ص 140139) ومسلم (ج 2ص 293).
(4) فى ح «إلى أخيه» وهو خطأ.
(5) نقله المنذرى (ج 3ص 252) ونسبه للطبرانى فى الكبير والأوسط، والزيادة منه، ولكن فيه «أو إدخال سرور» بدل قوله «أو مدفع مكروه» وورد هذا المعنى من حديث عائشة أيضا، نقله المنذري ونسبه الطبراني في الصغير والأوسط وابن حبان فى صحيحه، ورواه الخرائطى (ص 15).
(6) ضبطت فى الأصل بالنصب، وهو لحن.(1/349)
فصل فى الصبر على الأذى ومداراة الناس
مما ورد فى الكتاب العزيز
قال الله تبارك وتعالى في سورة آل عمران: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوََالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذََلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [186]}.
ومنها: {فَاسْتَجََابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لََا أُضِيعُ عَمَلَ عََامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ََ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَالَّذِينَ هََاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيََارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقََاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئََاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ، ثَوََاباً مِنْ عِنْدِ اللََّهِ. وَاللََّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوََابِ [195]}.
ومن الأنعام: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ، فَإِنَّهُمْ لََا يُكَذِّبُونَكَ وَلََكِنَّ الظََّالِمِينَ بِآيََاتِ اللََّهِ يَجْحَدُونَ [33] وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ََ مََا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتََّى أَتََاهُمْ نَصْرُنََا. وَلََا مُبَدِّلَ لِكَلِمََاتِ اللََّهِ. وَلَقَدْ جََاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [34]}.
ومن سورة الأعراف: {وَقََالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ: أَتَذَرُ مُوسى ََ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟ قََالَ: سَنُقَتِّلُ أَبْنََاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسََاءَهُمْ وَإِنََّا فَوْقَهُمْ قََاهِرُونَ [127] قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللََّهِ وَاصْبِرُوا، إِنَّ الْأَرْضَ لِلََّهِ يُورِثُهََا مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ، وَالْعََاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [128] قََالُوا: أُوذِينََا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنََا وَمِنْ بَعْدِ مََا جِئْتَنََا قََالَ: عَسى ََ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [129]}.
ومنها: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كََانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشََارِقَ الْأَرْضِ وَمَغََارِبَهَا الَّتِي بََارَكْنََا فِيهََا، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى ََ عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ بِمََا صَبَرُوا، وَدَمَّرْنََا مََا كََانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمََا كََانُوا يَعْرِشُونَ [137]} (1).(1/350)
ومن سورة الأعراف: {وَقََالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ: أَتَذَرُ مُوسى ََ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟ قََالَ: سَنُقَتِّلُ أَبْنََاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسََاءَهُمْ وَإِنََّا فَوْقَهُمْ قََاهِرُونَ [127] قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللََّهِ وَاصْبِرُوا، إِنَّ الْأَرْضَ لِلََّهِ يُورِثُهََا مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ، وَالْعََاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [128] قََالُوا: أُوذِينََا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنََا وَمِنْ بَعْدِ مََا جِئْتَنََا قََالَ: عَسى ََ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [129]}.
ومنها: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كََانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشََارِقَ الْأَرْضِ وَمَغََارِبَهَا الَّتِي بََارَكْنََا فِيهََا، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى ََ عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ بِمََا صَبَرُوا، وَدَمَّرْنََا مََا كََانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمََا كََانُوا يَعْرِشُونَ [137]} (1).
ومن سورة إبراهيم: {قََالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ: إِنْ نَحْنُ إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَلََكِنَّ اللََّهَ يَمُنُّ عَلى ََ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ، وَمََا كََانَ لَنََا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطََانٍ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ. وَعَلَى اللََّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [11] وَمََا لَنََا أَلََّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللََّهِ وَقَدْ هَدََانََا سُبُلَنََا. وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ََ مََا آذَيْتُمُونََا وَعَلَى اللََّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [12]}.
وعن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذََا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرََاماً [25: 72]} قال: إذا أوذوا صفحوا.
ومن سورة آل عمران: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلََّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ. وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ وَالْأُمِّيِّينَ: أَأَسْلَمْتُمْ؟ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمََا عَلَيْكَ الْبَلََاغُ. وَاللََّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبََادِ [20]}.
ومن سورة العنكبوت: {وَلََا تُجََادِلُوا أَهْلَ الْكِتََابِ إِلََّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وَقُولُوا: آمَنََّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنََا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلََهُنََا وَإِلََهُكُمْ وََاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [46]} (2).
ومن سورة الممتحنة: {عَسَى اللََّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عََادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، وَاللََّهُ قَدِيرٌ. وَاللََّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [7]}.
__________
(1) من أول قوله «ومن الأنعام» إلى هنا لم يذكر فى ح.
(2) هذه الآية والتى قبلها لم تذكرا فى ح.(1/351)
أحاديث
172* عن جابر بن عبد الله [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مداراة النّاس صدقة». (1)
173* وعن سعيد بن المسيّب رحمه الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «رأس العقل بعد الإيمان مداراة النّاس» (2).
174* وعن النّزّال بن سبرة يرفعه قال: «ثلاث من كن فيه كان بدنه في راحة: علم يردّ به جهل الجاهل، وعقل يداري به الناس، وورع يحجزه عن معاصي الله عزّ وجل» (3).
175* وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المسلم الّذي يخالط النّاس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم». (4)
وعن عبد الوهاب بن الواسطى رحمه الله قال: جاء رجل إلى وهب بن منبّه رحمه الله فقال: إنّي قد حدّثت نفسي أن لا أخالط الناس، فما ترى؟ قال:
لا تفعل، إنّه لا بدّ للناس منك، ولا بدّ لك منهم، لهم إليك حوائج، ولك إليهم حوائج، ولكن كن فيهم أصمّ سميعا، أعمى بصيرا، سكوتا نطوقا.
__________
(1) نقله السيوطي فى الجامع (رقم 8170) ونسبه لابن حبان والطبرانى والبيهقى، وأشار إلى صحته، ورواه ابن حبان فى روضة العقلاء (ص 55) ونسبه فى كشف الخفا (رقم 2277) لأبي نعيم وابن السنى.
(2) نقله السيوطى أيضا (رقم 4370) ونسبه لابن أبي الدنيا، وأشار إلى ضعفه، لأنه حديث مرسل غير متصل.
(3) لم أجده بهذا اللفظ، ونقل السيوطى نحوه عن أنس (رقم 3423) ونسبه للبزار، ولفظه: «ثلاث من كن فيه استوجب الثواب واستكمل الايمان:
خلق يعيش به فى الناس، وورع يحجزه عن محارم الله تعالى، وحلم يرده عن جهل الجاهل». وقوله «وحلم» الخ أصح من الرواية التى هنا في قوله «وعلم» لأنه ليس المراد بالجهل هنا نقيض العلم، بل المراد به السفه والحمق.
(4) رواه بمعناه أحمد فى المسند (رقم 5022ج 2ص 43) والبخارى فى الأدب المفرد (ص 58) وابن ماجه (ج 2ص 256) ونسبه السيوطى (رقم 9154) أيضا للترمذى.(1/352)
وقال حاتم الطائي: (1)
تحلّم عن الأدنين واستبق ودّهم ... ولن تستطيع الحلم حتّى تحلّما
* * * وعوراء قد أعرضت عنها فلم تضر ... وذي أود قوّمته فتقوّما
وأغفر عوراء الكريم اصطناعه ... واعرض عن ذات اللّئيم تكرّما (2)
وقال آخر: (3)
وإنّي على أشياء منك تريبني ... قديما لذو صفح على ذاك مجمل
إذا سؤتني يوما صفحت إلى غد ... ليعقب يوما (4) منك آخر مقبل
وقال آخر:
سأترك ما بيني وبينك واقفا ... على حاله (5) بين المودّة والهجر
وانتحل الصّبر الجميل تجلّدا ... وإن كنت محروما نصيبي من الأجر
وقال آخر:
إذا ما أخي يوما تولّى بودّه ... وأنكرت منه بعض ما كنت أعرف
عطفت عليه. بالمودّة إنّني ... على مدبر الإخوان بالودّ أعطف
وإغضاؤك العينين عن عيب صاحب ... لعمرك أبقى للوداد وأشرف (6)
__________
(1) هذه أبيات من قصيدة جليلة فى ديوانه (ص 24) ونوادر أبي زيد الأنصارى (ص 111109).
(2) رواية الديوان «وأصفح من شتم اللئيم تكرما» ورواية أبى زيد «وأصفح عن شتم»
(3) هو معن بن أوس، والبيتان من قصيدة له مشهورة فى ديوانه (ص 36) وشرح الحماسة للتبريزي (ج 3ص 8078) والبيت الثانى قبل البيت الأول بأبيات فى الروايتين.
(4) فى الأصل «يوم» بالرفع كرواية الديوان، وفى الحماسة على النصب.
(5) فى ح «حالة».
(6) لم أعثر علي الأبيات على معرفتى بها. وفى الأصل «لغيرك» والذى أحفظه هو ما أثبته، وبه يستقيم الكلام، وهذه الأبيات مؤخرة فى ح بعد الأبيات التي آخرها «وأجعل ظني به كاذبا».(1/353)
وقال آخر:
وهجر عدوّ كاشح قد سمعته ... فكنت كمن أغضى بعين على قذى
تصاممت عنه واغتفرت مكانه ... فلم يتعلق بالجسم من قيله أذى
وقال آخر:
ألم تر أنّي إذا ما زوى ... صديقي مودّته جانبا
وقد كنت أرعى له حقّه ... وأطلب مرضاته دائبا
وإن قال هزلا تحمّلته ... وإن جدّ أنزلته لاعبا
صفحت وأعرضت حتّى يؤ ... ب ما كان من حلمه عازبا
وحتّى يعود لإحسانه ... ويسعى لمرضاتنا (1) طالبا
والتمس العذر جهدي له ... وأجعل ظنّي به كاذبا
وقال آخر:
لقد أسمع القول الّذي كاد كلّما ... تذكّرنيه النّفس قلبي يصدّع
فأبدي لمن أبداه منّي بشاشة ... كأنّي مسرور بما منه أسمع
وما ذاك من عجب به غير أنّني ... أرى أنّ ترك الشّرّ للشّرّ أقطع (2)
وقال آخر: (3)
وعوراء جاءت من أخ فرددتها ... مسالمة للمرء طالبة عذرا (4)
__________
(1) في ح «لمرضاته» وهو خطأ.
(2) رواها أبو حيان فى كتاب الصداقة والصديق (ص 66)، وفى الأصل «من عي» والصواب ما أثبتناه. «والعجب» بضم فسكون: السرور والزهو.
(3) هذان من أبيات رواها القالى (ج 3ص 62) بسنده عن أبى البلاد التغلبى لحاتم طي، وليست فى ديوانه، والصحيح أنها من أبيات للأعور الشتى، ورواها البحترى فى حماسته (ص 171).
(4) اتفقت الرواية على أنها: «بسالمة العينين».
ولو أنّه إذ قال قلت بمثلها ... ولم أعف عنها أورثت بيننا غمرا
وقال آخر:(1/354)
__________
(4) اتفقت الرواية على أنها: «بسالمة العينين».
ولو أنّه إذ قال قلت بمثلها ... ولم أعف عنها أورثت بيننا غمرا
وقال آخر:
وعوراء جاءت من أخ فنبذتها ... ورائي وعندي لو أشاء نكير
صبرت لها والصّبر منّي سجيّة ... وإنّي على ما نابني لصبور
وما أنا ممّن يقسم الهمّ أمره ... ويسأل من يلقاه كيف يسير (1)
ولكنّني كالدّهر أشفي وأشتفي ... وأقضي ولا يقضي عليّ أمير
وقال سعيد بن حميد:
وكم من قائل قد قال: دعه ... فلم يك ودّه لك بالسّليم
فقلت: إذا جزيت الغدر غدرا ... فما فضل الكريم على اللّئيم!؟
وأين الإلف يعطفني عليه ... وأين رعاية الحقّ القديم؟! (2)
وقال الزّياديّ:
لخليلي عليّ منّي ثلاث ... واجبات أتيحها إخواني:
حفظه بالمغيب إن غاب عنّي ... ولقاء بالبشر إن لاقاني
ثمّ بذلي لما حوته يميني ... مسعدا في الخطوب أنّي دعاني (3)
هذه حالة الصّديق، فإن ... حال فعندي عوائد الإحسان
وقال سعيد بن حميد:
أشكو إلى الله جفاء امرىء ... ما كان بالجافي ولا بالملول
كان وصولا دائما عهده ... خير الأخلّاء الكريم الوصول
(1) فى الأصلين «تلقاه» بالتاء المثناة المكسورة، وهو تصحيف خطأ.
(2) فى الأصلين «وإن رعاية» الخ، وهو خطأ.
(3) رسمت «أنى» فى الأصلين بالألف.
ثمّ ثناه الدّهر عن رأيه ... فحال والدّهر بقوم يحول
فإن يعد أشكر له ودّه ... وإن يطل هجرا فصبر جميل (1)
وقال حاتم الطائي:(1/355)
__________
(3) رسمت «أنى» فى الأصلين بالألف.
ثمّ ثناه الدّهر عن رأيه ... فحال والدّهر بقوم يحول
فإن يعد أشكر له ودّه ... وإن يطل هجرا فصبر جميل (1)
وقال حاتم الطائي:
وما من شيمتي شتم ابن عمّي ... وما أنا مخلف من يرتجيني
وكلمة حاسد من غير جرم ... سمعت فقلت: مرّي فانفذيني
غبيت بها كأن قيلت لغيري ... ولم يعرق مخافتها جبيني (2)
وقال أبو الجارود:
وعوراء من عند أمريء ذي قرابة ... تصاممت عنها أو طويت لها كشحي
وداويت منه الضّغن حتّى رددته ... دواء الشّموس بالتّذلّل والمسح
وقال آخر:
لن يدرك المجد أقوام وإن كرموا ... حتّى يذلّوا وإن عزّوا لأقوام (3)
ويشتموا فترى الألوان مسفرة ... لا صفح ذلّ ولكن صفح (4) أحلام
وقال عبيد بن غاضرة العنبريّ:
إنّا وإن كنّا أسنّة قومنا ... وكان لنا فيهم مقام مقدّم
لنصفح عن أشياء منهم تريبنا ... ونصدف عن ذي الجهل منهم ونحلم
ونمنح منهم معشرا يحسدوننا ... هنيّ عطاء ليس فيه تندّم
(1) فى الأصل «فصبرا» بالنصب، وهو خطأ.
(2) البيت فى ديوانه ص (23):
وعابوها عليّ فلم تعبني ... ولم يعرق لها يوما جبيني
وفى الأصل غبت» غير منقوطة، والذي أثبتنأه أقرب ما وقع لنا، وإن لم ترد فى رواية نعرفها» يقال: «غبى عن الأمر» إذا خفي عليه والمراد هنا «تغابى عنها وتغافل».
(3) البيتان فى الأمالى (ج 2ص 41) وعيون الأخبار (ج 1ص 287) على اختلاف يسير فى الرواية.
(4) يجوز فيه النصب والرفع، انظر تفسير البحر لأبي حيان (ج 7ص 236)(1/356)
ونكلؤهم بالغيب منّا حفيظة ... وأكبادنا وجدا عليهم تضرّم
فليس بمحمود لدى النّاس من جزى ... بسيّء ما يأتى المسيء الملوّم (1)
سأحمل عن قومي جميع كلومهم ... وأدفع عنهم كلّ غرم وأغرم
فصل فى حفظ التجارب وغلبة العادة من أقوال الحكماء
قالت الحكماء: التجارب عقل ثان، ودليل هاد، وأدب للدهر. فافهم عن الأيّام أخبارها، فقد أوضحت لك آثارها، واتّعظ بما وعظك منها، وتأمّل ما ورد عليك من أحوالها تأمّل ذي فكرة منها فان الفكرة تدرأ عنك عمى الغفلة، وتكشف لك عن مستخفيات الأمور.
وقالوا: الدهر أفصح المؤدّبين وكفاك من كل يوم خبر يورده عليك. وإنما الأيام مراقي الأدب، ودرجات إلى العلم الأكبر، فمن فهم عنها أورث زيادة، وسطع نور علمه، ولم يفتقر إلى غير نفسه، ولو صحب ذو الغفلة أيام الدنيا بعجائب ما تصرّفت به على القرون لم يزل جذعا في الغرّة، ومتدّلها فيما يحدث، لأن الغفلة ظلمة راكدة، والمعرفة مصباح الخلقة.
وقد قيل: إذا رأيت ذا العمر الطويل والسنّ القديم يكثر التعجّب مما يرى ويسمع: فذلك لقلة حفظة التجارب، ولسهوه عمّا مرّت به عليه الليالي.
وقالوا: الفهم خزانة العقل ونور يبصر به ما أمامه. وإنما نكص على عقبيه من خانه فهمه، وخذله عقله، وضيّع ما استودعته الأيّام، فكأنّه ابن يومه،
__________
(1) فى الأصلين «ما بات» والصواب ما أثبتناه. والأبيات فى هذا الفصل صححها وشرحها أخى السيد محمود محمد شاكر.(1/357)
أو نتيج ساعته. وحسبك مؤدّبا لخصالك، ومثقّفا لعقلك: ما رأيته من غيرك: من حسن (1) تغبط به، أو قبيح تذمّ (2) عليه.
وقالوا: إن التّجارب (3) عقل مستفاد، وأحر لكن يستعمل (4) حمل النفس على العادة الفاضلة والأخلاق الكريمة، فقد رأينا كثيرا من الناس يعلم أن مذاهبه رديئة، وطرائفه غير مرضيّة، ولا تخفى عنه الطريقة المحمودة:
ويعسر عليه النزوع إليها، لتمكن العادة القديمة منهم، وإذا حملوا أنفسهم على تلك الحالات المحمودة تصنّعا أو حياء من الناس فى الظاهر لم يعدموا أن يرجعوا إلى المذاهب الأولى المتمكنة فيهم للعادة.
وقد قيل:: نفسك تقتضيك ما عوّدتها من خير أو شرّ.
وقيل: لسانك يقتضيك ما عوّدته.
وأنشد:
عوّد لسانك قول الخير تحظ به ... إن اللّسان لما عوّدت معتاد
وقال الآخر (5):
ومن تحلّى بغير طبع ... يردّ قسرا إلى الطّبيعه
وقال آخر:
مت بداء الصّمت خي ... ر لك من داء الكلام (6)
__________
(1) ضبطت فى الأصل بضم الحاء وإسكان السين، وهو خطأ.
(2) ضبطت في الأصل بالبناء للمجهول، وهو خطأ.
(3) فى ح «للتجارب» وهو خطأ.
(4) كذا فى الأصل، وهو كلام غير مفهوم، وفى ح «ان للتجارب عقل مستفاد أخر لن يستعمل» الخ، وهو غير مفهوم أيضا. ولم أجد هذه الجملة على الصواب فى كتاب غير هذا. ويحتمل أن نقرأ «إن التجارب عقل مستفاد آخر، لمن يستعمل، الخ
(5) فى ح «وقال آخر»
(6) هذا البيت زيادة فى ح.
وقد مضى فى (ص 276) من هذا الكتاب.(1/358)
قال المتنبي:
ليت الحوادث باعتني الّذى أخذت ... منّي بحلمي الّذى أعطت وتجريبي
فما الحداثة من حلم بمانعة ... قد يوجد الحلم في الشّبّان والشّعيب
وقال الوزير الكامل أبو القاسم بن المعرّي:
يا من غدا جبل (1) الجودىّ يحجبه ... ليس التّذكّر عن قلبي بمحجوب
علّمتني الحزم لكن بعد مرجعه ... إنّ المصائب أثمان التجاريب
__________
(1) فى الأصل، حبك» ولعل الصواب ما توهمناه. كتبه محمود محمد شاكر.(1/359)
6 - باب البلاغة
قلت وبالله التوفيق: كلام المخلوقين تتميّز فيه البلاغة من العيّ، والفصاحة من اللّكن. وأما كلام الخالق تبارك وتعالى فعقول البلغاء تعجز عن تدبّر بلاغته، وتحار في اطّراد فصاحته، فماذا يورد المورد منه؟! وبماذا يترجم عنه؟! وقد تحدّى الله سبحانه به خلقه أجمعين، فقال وهو أصدق القائلين في سورة يونس: {وَمََا كََانَ هََذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى ََ مِنْ دُونِ اللََّهِ وَلََكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتََابِ لََا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ [37] أَمْ يَقُولُونَ: افْتَرََاهُ قُلْ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ [38]}.
وقال تبارك وتعالى في سورة هود: {فَلَعَلَّكَ تََارِكٌ بَعْضَ مََا يُوحى ََ إِلَيْكَ وَضََائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا} [1]: لَوْلََا أُنْزِلَ عَلَيْهِ (2) كَنْزٌ أَوْ جََاءَ مَعَهُ مَلَكٌ. إِنَّمََا أَنْتَ نَذِيرٌ. وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [12] أَمْ يَقُولُونَ: افْتَرََاهُ، قُلْ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ (3) مِثْلِهِ مُفْتَرَيََاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ [13].
وقال تبارك وتعالى في سورة بني اسرائيل: {قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى ََ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لََا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كََانَ بَعْضُهُمْ} [4]
__________
(1) فى الأصلين «أم يقولوا» وهو خطأ من الناسخين.
(2) في الأصلين «معه» وهو خطأ أيضا.
(3) فى الأصل «بعشر سورة» وهو خطأ وجهل.
(4) فى الأصلين «ولو كان بعض» وهو خطأ.(1/360)
{لِبَعْضٍ ظَهِيراً [88] وَلَقَدْ صَرَّفْنََا لِلنََّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى ََ أَكْثَرُ النََّاسِ إِلََّا كُفُوراً [89]}.
وقال عز وجل في سورة الطور: {أَمْ يَقُولُونَ: تَقَوَّلَهُ؟ بَلْ لََا يُؤْمِنُونَ [33] فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كََانُوا صََادِقِينَ [34]} (1).
وما يعجز الإنّس والجنّ عن أن يأتوا بمثله فماذا ينتزع منه وماذا ينتخب؟ (2).
وقد روي عن الأصمعي (3) رضي الله عنه قال: اجتزت ببعض أحياء العرب، فرأيت صبيّة معها قربة فيها ماء وقد انحلّ وكاء فمها. فقالت: يا عمّ، أدرك فاها، غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها. فأعنتها، وقلت: يا جارية، ما أفصحك! فقالت يا عمّ، وهل ترك القرآن لأحد فصاحة؟ وفيه آية فيها خبران وأمران ونهيان وبشارتان! قلت: وما هي؟ قالت: قوله تبارك وتعالى:
{وَأَوْحَيْنََا إِلى ََ أُمِّ مُوسى ََ: أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذََا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلََا تَخََافِي وَلََا تَحْزَنِي، إِنََّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجََاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [28: 7]} قال:
فرجعت بفائدة، وكأنّ تلك الآية ما مرّت بمسامعى!!
__________
(1) هذه الآية لم تذكر فى ح.
(2) هذه الجملة لم تذكر فى ح.
(3) ح «وقد روى الأصمعى»(1/361)
ألفاظ من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم
كلام النبوّة دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين، فيه جوامع الكلام، ومعجزات البلاغة والفصاحة.
176* فمن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم: «المرء مخبوء تحت لسانه». (1)
177* وقوله صلّى الله عليه وسلم: «كفى بالصّحّة داء» (2).
178* وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يلسع المؤمن من جحر مرّتين» (3).
179* وقوله صلّى الله عليه وسلم: «الشّديد من غلب نفسه» (4).
180* وقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس الخبر كالمعاينة» (5).
181* وقوله صلّى الله عليه وسلم: «المجالس بالأمانة» (6).
182* وقوله صلّى الله عليه وسلم: «الغنى غنى النّفس» (7).
__________
(1) لم أجد هذا الحديث.
(2) لم أجده بهذا اللفظ، ونقل السيوطى (رقم 6234) حديث ابن عباس «كفى بالسلامة داء» ونسبه للديلمي في مسند الفردوس، وأشار إلى أنه حديث ضعيف.
(3) اللفظ المحفوظ «لا يلدغ» الخ، رواه أحمد والبخارى ومسلم وابو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة
(4) رواه أحمد والبخارى ومسلم بلفظ «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب» والصرعة بضم الصاد وفتح الراء: المبالغ فى الصراع الذى لا يغلب، فنقله إلى الذى يغلب نفسه عند الغضب ويقهرها، فانه إذا ملكها كان قد قهر أقوى أعدائه وشر خصومه. وهو من فصيح الكلام، لأنه لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ وقد ثارت عليه شهوة الغضب فقهرها بحلمه وصرعها بثباته كان كالصرعة الذى يصرع الرجال ولا يصرعونه.
قاله فى النهاية.
(5) رواه أحمد في المسند مطولا من حديث ابن عباس (رقم 2447ج 1 ص 271) ونسبه السيوطى (رقم 7575) للطبرانى فى الأوسط والحاكم.
(6) هذا الحديث ليس فى ح. وقد رواه أحمد من حديث جابر مطولا (رقم 14746ج 3ص 342) ورواه أبو داود (ج 4ص 419) وإسنادهما حسن. ورواه أيضا الخطيب مختصرا من حديث على، نقله السيوطى (رقم 9173) وأشار إلى ضعفه.
(7) رواه أحمد والبخارى ومسلم والترمذى وابن ماجه من حديث ابي هريرة، بلفظ «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس».(1/362)
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «الأعمال بالنيّات» (1). * 183
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «سيّد القوم خادمهم» (2). * 184
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «حبّك الشّيء يعمي ويصمّ» (3). * 185
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «المرء كثير بأخيه» (4). * 186
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «هل يتوقّع أحدكم إلّا غنىّ مطغيا، أو فقرا منسيا، * 187 أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا (5)، أو الدجّال، فهو شرّ غائب ينتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمرّ» (6).
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس» (7). * 188
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «الحرب خدعة» (8). * 189
__________
(1) هو حديث معروف، رواه البخارى ومسلم وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب بألفاظ كثيرة، أشهرها لفظ «إنما الأعمال بالنيات».
(2) هو حديث ضعيف جدا، جاء من رواية أبى قتادة وابن عباس وأنس وسهل بن سعد، بأسانيد ضعاف. وانظر الجامع الصغير (رقم 4751 و 4752و 4753) وكشف الخفا (رقم 1515).
(3) نسبه السيوطى (رقم 3674) لأحمد والبخارى فى التاريخ وأبي داود من حديث أبي الدرداء، وأشار إلى أنه حديث حسن.
(4) نسبه السيوطى (رقم 9189) لابن أبي الدنيا فى الاخوان من حديث سهل بن سعد، وأشار إلى أنه حديث ضعيف.
(5) قال فى النهاية «الفند أى بفتح الفاء والنون فى الأصل الكذب، وأفند تكلم بالفند، ثم قالوا للشيخ الهرم: قد أفند، لأنه يتكلم بالمخرف من الكلام عن سنن الصحة، وأفنده الكبر إذا أوقعه فى الفند».
(6) نقله السيوطى فى الدر المنثور (ج 6ص 137) ونسبه لابن المبارك فى الزهد والترمذى وحسنه والحاكم وصححه وابن مردويه من حديث أبى هريرة، وأوله «بادروا بالأعمال سبعا، ما ينتظر أحدكم» الخ وزاد فيه بعد الهرم المفند «أو موتا مجهزا».
(7) سبق الكلام عليه فى (ص 320) من هذا الكتاب.
(8) خدعة: قال فى النهاية: «بروى بفتح الخاء وضمها مع سكون الدال، وبضمها مع فتح الدال.
فالأول معناه: إن الحرب ينقضى أمرها بخدعة واحدة من الخداع، أي إن المقاتل إذا خدع مرة واحدة لم تكن لها إقالة، وهى أفصح الروايات وأصحها. ومعنى الثانى: هو الاسم من الخداع.
ومعنى الثالث: أن الحرب تخدع الرجال وتمنيهم ولا تفي لهم، كما يقال: فلان رجل لعبة وضحكة بضم أوله وفتح ثانيه فيهما أى كثير اللعب والضحك». ونقل ابن حجر فى الفتح (ج 6ص 110) عن النووى قال: «اتفقوا على أن الأولى الأفصح، حتى قال ثعلب: بلغنا أنها لغة النبي صلّى الله عليه وسلم».
وهذا الحديث رواه أحمد عن جابر وأنس، ورواه البخارى ومسلم عن جابر وأبي هريرة، ورواه كثيرون غيرهم. أنظر الجامع الصغير (رقم 3812).(1/363)
190* وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ ممّا ينبت الرّبيع لما يقتل حبطا أو يلمّ» (1).
191* وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تجني على المرء إلّا يده» (2).
192* وقوله صلّى الله عليه وسلم: «البلاء موكّل بالمنطق» (3).
193* وقوله صلّى الله عليه وسلم: «الناس كأسنان المشط» (4).
194* وقوله صلّى الله عليه وسلم: «أيّ داء أدوى من البخل» (5).
__________
(1) الحبط بفتح الحاء والباء: الهلاك، وقوله «يلم» أي يقارب الهلاك، وهذا مثل للمفرط الذي يأخذ الدنيا بغير حقها، مثله مثل الماشية التى تستكثر من أكل البقول لاستطابتها إياها حتى تنتفخ بطونها فتنشق أمعاؤها من ذلك فتهلك أو تقارب الهلاك. وهذا الحديث من حديث طويل رواه أحمد فى المسند (رقم 11049و 1174ج 3ص 7و 21) والبخاري (ج 4ص 2726وج 8ص 91) ومسلم (ج 1ص 287286) كلهم من حديث أبي سعيد الخدرى. وشرحه ابن الأثير فى النهاية شرحا جيدا (ج 1ص 299) وابن حجر فى الفتح (ج 11ص 212208)
(2) لم أجد هذا الحديث.
(3) نقله السيوطى (رقم 2219) ونسبه للقضاعي عن حذيفة ولابن السمعاني عن علي، وأشار إلى حسنه، و (رقم 3270) ونسبه للخطيب عن ابن مسعود، وأشار إلى ضعفه.
ونقله أيضا بلفظ «البلاء موكل بالقول» (رقم 3217و 3218) وأشار إلى ضعفه.
(4) المشط: يجوز فى الميم الحركات الثلاث. وهذا الحديث لم أجده.
(5) مضى فى حاشية (ص 83) من هذا الكتاب حديث «شر ما فى الرجل شح هالع»، وهو فى هذا المعنى، وأما الحديث الذى هنا فقد نقله السيوطى فى الجامع (رقم 9612) بلفظ «وأى داء أدوأ من البخل» هكذا «أدوأ» بالهمزة، وهو خلاف الرواية، والرواية «أدوى» بالألف المقصورة بدون همز، قال القاضى عياض: «هكذا برويه المحدثون غير مهموز، والصواب أدوأ بالهمز، لأنه من الداء، والفعل منه: داء يداء، مثل نام ينام». وكذا قال فى النهاية أن الصواب بالهمزة ولكن الرواية بدونها، ثم قال: «إلا أن يجعل من باب دوى يدوى دوى فهو دو: إذا هلك بمرض باطن» ولا أرى حاجة لهذا التكلف، فان تسهيل الهمزة كثير فى الكلام الفصيح، وشواهده متوافرة والحمد لله. والحديث نسبه السيوطى لأحمد والبخارى ومسلم من حديث جابر، وهو خطأ. لأن المفهوم من هذا أنهم رووه من حديث جابر عن النبى صلّى الله عليه وسلم، وليس كذلك بل روى أحمد (رقم 14351 ج 3ص 308307) والبخارى (ج 4ص 9190وج 5ص 172) قصة لجابر مع أبى بكر الصديق، جاء يسأله مالا وعده به النبى صلّى الله عليه وسلم، فلم يعطه أبو بكر، فقال له جابر: إما أن تعطيني وإما أن تبخل عني» فقال أبو بكر: «أقلت: تبخل عنى؟! وأي دواء أدوى من البخل؟!» فهو من كلام أبى بكر كما ترى عند أحمد والبخارى، وأما مسلم فانه روى القصة ولم يرو هذه الكلمة (ج 2 ص 213212). وإنما جاء هذا الحديث من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«من سيدكم يا بنى سلمة؟ قالوا: الجد بن قيس إلا أن فيه بخلا. قال: وأي داء أدوى من البخل؟! بل سيدكم بشر بن البراء بن معرور» رواه الحاكم فى المستدرك (ج 3ص 219) وصححه هو والذهبى على شرط مسلم. وجاءت هذه القصة أيضا من حديث جابر، وفى بعض الروايات عنه «بل سيدكم عمرو بن الجموح» وانظر الاصابة (ج 1ص 155وج 4ص 291290) وطبقات ابن سعد (ج 3ق 2ص 112).(1/364)
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «ترك الشّرّ صدقة» (1). * 195
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «الحياء خير كلّه» (2). * 196
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «اليمين الفاجرة تدع الدّيار بلاقع» (3) * 197 وقوله صلّى الله عليه وسلم: «أعجل الأشياء عقوبة البغي» (4). * 198
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ من الشّعر لحكما، وإنّ من البيان لسحرا» (5) * 199 وقوله صلّى الله عليه وسلم: «استعينوا على الحاجات بالكتمان» (6). * 200
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «النّدم توبه» (7). * 201
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «المستشار مؤتمن» (8). * 202
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «الولد مبخلة مجبنة» (9). * 203
__________
(1) لم أجده بهذا اللفظ، ولكن فى البخارى (ج 8ص 11) من حديث أبي موسى مرفوعا فى ضمن حديث قال: «يمسك عن الشر فانه له صدقة»، وانظر فتح الباري (ج 3ص 243 وج 10ص 274).
(2) نسبه السيوطي (رقم 3863) لمسلم وأبي داود من حديث عمران ابن حصين.
(3) البلاقع: جمع «بلقع وبلقعة» وهى الأرض القفر التى لا شيء بها. والحديث نسبه المنذرى (ج 3ص 47) للبيهقي من حديث أبى هريرة، وأشار إلى أنه حديث ضعيف.
(4) جاء هذا المعنى فى حديثين ضعيفين: الأول: فى حديث أبي هريرة نقله المنذرى (ج 3ص 47) ونسبه للبيهقى، والثاني: حديث جابر نقله أيضا (ج 3ص 99) ونسبه للطبراني فى الأوسط.
(5) الحكم: العلم والفقه والقضاء والعدل، وهو مصدر «حكم يحكم» والمعنى: إن من الشعر كلاما نافعا يمنع من الجهل والسفه. ويروى «الحكمة» وهى بمعنى الحكم. قاله فى النهاية. والحديث رواه أحمد فى المسند (رقم 2424ج 1ص 269) وفى مواضع أخرى، ورواه أبو داود أيضا (ج 4 ص 461). وجاء أيضا عن غيره من الصحابة.
(6) سبق الكلام عليه فى (ص 238) من هذا الكتاب.
(7) نسبه السيوطى (رقم 9415) لأحمد والحاكم وغيرهما عن ابن مسعود، وللحاكم والبيهقى عن أنس.
(8) رواه البخارى فى الأدب المفرد (ص 40) وأبو داود (ج 4 ص 495) والترمذي (ج 2ص 5958) وابن ماجه (ج 2ص 713) والحاكم (ج 4 ص 131) كلهم من حديث أبى هريرة، وصححه الترمذى والحاكم والذهبى.
(9) رواه ابن ماجه (ج 2 ص 204) من حديث يعلى بن مرة الثقفى العامري، ونقل السند عن الزوائد أن إسناده صحيح، وكذلك رواه أحمد فى المسند (ج 4ص 172). ورواه الحاكم فى المستدرك (ج 3ص 296) من حديث الأسود بن خلف. وانظر كشف الخفا (رقم 2916ج 2ص 239).(1/365)
204* وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لن يهلك امرؤ بعد مشورة» (1).
205* وقوله صلّى الله عليه وسلم: «مالك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو اعطيت فأمضيت» (2).
206* وقوله صلّى الله عليه وسلم: «الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم» (3).
207* وقوله صلّى الله عليه وسلم: «الصّدقة تطفىء غضب الربّ عز وجل، وصنائع المعروف تقي مصارع السّوء، وصلة الرّحم تزيد في العمر» (4).
قلت: حصر البليغ من كلام النبوّة، ممتنع معجز، لأنه كلّه بليغ فصيح (5).
__________
(1) لم أجد هذا الحديث.
(2) نقله المنذري من حديث لعبد الله بن الشخير مرفوعا.
ونسبه لمسلم والترمذي والنسائى (ج 4ص 101)
(3) ليس هذا حديثا، بل هو من كلام عمر بن الخطاب أو من كلام على بن أبي طالب، كما ذكره العجلونى فى كشف الخفا (رقم 2788 ج 2ص 311).
(4) هذا المعنى وارد فى أحاديث كثيرة. والفاظ الذي هنا جزء من حديث نقله السيوطي (رقم 5041) ونسبه للطبرانى فى الأوسط عن أم سلمة، وأشار إلى صحته.
(5) نعم، فانه صلّى الله عليه وسلم أفصح العرب قولا، وأبينهم كلاما، وأعلاهم بلاغة. وقد وصف الجاحظ فى البيان والتبيين (ج 2ص 1514) كلام النبى صلّى الله عليه وسلم فقال:
«هو الكلام الذي قلّ عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجلّ عن الصنعة، ونزّه عن التكلف. استعمل المبسوط فى موضع البسط، والمقصور فى موضع القصر، وهجر الغريب الوحشيّ، ورغب عن الهجين السّوقيّ. فلم ينطق إلّا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلّا بكلام قد حفّ بالعصمة، وشدّ بالتأييد، ويسّر بالتوفيق. وهذا الكلام الذي ألقى الله المحبة عليه، وغشّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام.
وهو مع استغنائه عن إعادته، وقلة الحاجة الى معاودته: لم تسقط له كلمة، ولا زلّت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب. بل يبذّ الخطب الطّوال بالكلام القصير. ولا يلتمس إسكات الخصم إلّا بما يعرفه الخصم. ولا يحتجّ إلّا بالصدق، ولا يطلب الفلج إلّا بالحق. ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطىء ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر: ثم لم يسمع الناس بكلام قطّ أعمّ نفعا، ولا أصدق لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين عن فحواه: من كلامه صلّى الله عليه وسلم»(1/366)
الفاظ من كلام الصحابة وغيرهم
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: القاضي لا يصانع ولا يضارع، ولا يتبع المطامع.
وقال رضوان الله عليه: حسب المؤمن دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله (1).
وقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه: المعروف أفضل الكنوز، وأحصن الحصون. ولا يزهدنّك فيه كفر من كفرك، فقد يشكرك عليه من لم يستمتع منه بشيء، وقد يشكر الشاكر ما يضيّع الجحود.
وقال رضوان الله عليه: إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه.
__________
(1) حسب: بفتح السين وضبط فى الأصل باسكانها، وهو خطأ وهذه الكلمة لعمر نقلها فى لسان العرب (ج 1ص 301) وفي كشف الخفا (رقم 1924ج 1ص 109) بلفظ «حسب المرء» الخ. وروى أحمد فى المسند (رقم 8759ج 2ص 365) والحاكم فى المستدرك (ج 1ص 123 124) من حديث أبى هريرة مرفوعا: «كرم المؤمن دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه». ولفظ المسند «كرم المرء» الخ.(1/367)
وقوله رضوان الله عليه: القلوب قاسية عن حظّها، لاهية عن رشدها، سالكة غير مضمارها، كأنّ المعنىّ سواها.
كتب أبو بكر الصديق رضوان الله عليه الى عكرمة بن أبي جهل رحمه الله، وهو عامله على عمان (1): «إيّاك أن توعد في معصية بأكثر من عقوبتها:
فانّك إن فعلت أثمت، وإن تركت كذبت».
وقال معاوية رحمه الله لعمرو بن العاص: من أبلغ الناس؟ قال: من قلّل من الإكثار، واقتصر على الإيجاز. قال: فمن أصبر الناس؟ قال: من ترك دنياه في إصلاح دينه. قال: فمن أشجع الناس؟ قال: من ردّ جهله بحلمه (2).
قال العتّابي: البلاغة سدّ الكلام بمعانيه وإن قصر، وحسن التأليف وإن طال.
وقف محمد بن الحنفيّة رضي الله عنه على قبر أخيه الحسن بن علي رضوان الله عليهما حين دفن، فاغر ورقت عيناه، وقال: رحمك الله أبا محمد، فلئن عزّت حياتك لقد هدّت وفاتك (3)، ولنعم الرّوح روح تضمنّه بدنك، ولنعم البدن بدن تضمّنه كفنك، وكيف لا يكون هذا وأنت سليل الهدى،
__________
(1) بضم العين وتخفيف الميم، وهى كورة عربية على ساحل بحر اليمن والهند، وهى التى ذهب إليها عكرمة من قبل أبي بكر. أنظر تاريخ الطبرى (ج 3ص 243و 256) وأما «عمان» بفتح العين وتشديد الميم فهى من أطراف الشأم.
(2) سيأتى كلام معاوية هذا بعد بضع صفحات مرة أخرى.
(3) يقال: «هدته المصيبة» إذا أوهنت ركنه وكسرته وبلغت منه.(1/368)
وحليف أهل التقوى، وخامس أصحاب الكساء (1)، غذتك أكفّ الحقّ، وربيت في حجر الإسلام (2)، ورضعت ثدي الايمان، فطبت حيّا وميّتا، وإن كانت أنفسنا غير طيّبة بفراقك، ولا شاكّة في الخير لك (3).
كتب إبراهيم بن المهديّ الى صديق له: «لو كانت التّحفة لك على حسب ما يوجبه حقّك لأجحف بنا أدنى حقّ من حقوقك، ولكنّها على قدر ما يخرج من حدّ الوجشة، ويوجب الأنس (4)، وقد بعثت إليك بكذا وكذا».
ودخل أعرابيّ على هشام بن عبد الملك يشكو عاملا لهم، فقال:
يأمير المؤمنين، إنه والله ما أدركنا أحدا قعد مقعدك أعدل منك، وإنّ أهل الشكر لعدلك، هم عيونك على مكارمك، يجب عليهم أن يرفعوا اليك كلّ مكرمة غبت عنها، حفظا لغيبك، وتأدية لحقّك وحقّ إمامتك، وفلان بن فلان رفعت خسيسته، وأثبتّ ركنه، وأعليت ذكره، وأمرته بنشر محاسنك فطواها، وإظهار مكارمك فأخفاها، وقد أخرب البلاد (5)، وأظهر الفساد، وأجاع الأكباد، وأخرج الناس من سعة العدل الى ضيق الجور (6)، حتى باعوا الطّارف والتّالد. قال: يأعرابي، إن كان ما تقوله حقّا عزلناه وجعلناه نكالا لمن سار بسيره (7).
__________
(1) يشير إلى حديث أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما نزل عليه قوله تعالى: {إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً 33: 33}
اخذ فى كسائه ابنته فاطمة وزوجها علي بن أبي طالب وابنيهما الحسن والحسين ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتى وخاصتى فأذهب الرحبس عنهم وطهرهم تطهيرا» أنظر الدر المنثور (ج 5 ص 198)
(2) حجر: بفتح الحاء وبكسرها.
(3) أنظر جمهرة خطب العرب (ج 2 ص 2625)
(4) بفتح الهمزة والنون، ويجوز أيضا ضم الهمزة مع إسكان النون.
(5) اخرب إخرابا: للتعدية بالهمزة، وخرب بتشديد الراء تخريبا: للمبالغة.
(6) فى ح «الجوار» وهو خطأ.
(7) فى ح «بسيرته».(1/369)
وتكلم عمرو بن سعيد (1) في بيعة يزيد بن معاوية فقال: إن يزيد غياث تأملونه، وأجل تأمنونه، طويل الباع، رحب الذراع، واسع الصّدر، كريم النجر، قارح (2) سوبق فسبق، وموجد فمجد، وقورع فقرع، وخوصم فخصم، إن صرتم إلى حلمه وسعكم، أو إلى ماله أغناكم، خلف من أمير المؤمنين، ولا خلف منه (3).
لمّا هزم المهلّب بن أبي صفرة عبد ربّه الحروريّ (4) قال: هل من رجل حازم أبعث به إلى الحجّاج مع رؤوس هؤلاء القوم؟ فدلّ على بشير بن مالك الخرشيّ، فوجّهه إلى الحجّاج. فلمّا دخل عليه قال له الحجّاج: ما اسمك؟
قال: بشير بن مالك. فقال الحجاج: بشارة وملك، كيف تركت المهلّب؟
قال: تركته أصلح الله الأمير قد أدرك ما طلب، وأمن ما خاف.
قال: الحمد لله على ذلك، فكيف تركت العدوّ؟ قال: كانت له الدّولة ولنا العاقبة. فقال الحجاج: العاقبة للمتّقين. فكيف تركت الجند؟ قال: أرضاهم الحقّ، وأغناهم النّفل (5)، وإنه مع ذلك ليسوسهم سياسة الملوك، ويقاتل عنهم قتال الصّعلوك. قال: فكيف أبناء المهلّب؟ قال. أعباء البيات (6) حتى يأمنوه، وأصحاب السّرح حتى يروّحوه. قال: فأيّهم أفضل؟ قال: ذاك
__________
(1) هو عمرو بن سعيد الأشدق.
(2) أى: شديد مجرب، وهو فى الأصل وصف للفرس
(3) انظر هذه الخطبة في جمهرة خطب العرب (ج 2ص 228) وهناك باقى للخطب التى قيلت فى بيعة يزيد.
(4) هو عبد ربه الصغير الخارجى. وانظر هذه القصة فى شرح ابن ابي الحديد على نهج البلاغة (ج 1ص 406405) والأغانى (ج 13ص 5554) ولكن الرسول فى هاتين الروايتين كعب بن معدان الأشقري ومعه رجل آخر.
(5) النفل بفتح الفاء:
الغنيمة.
(6) البيات: الغارة فى الليل. والمراد أنهم يحملون أعياء البيات فيحرسون من معهم حتى يأمنوا.(1/370)
إلى أبيهم. قال: وأنت فقل، فإنّي أراك عاقلا؟ قال: مهم كالحلقة (1) المفرغة لا يدرى أين طرفها. فقال الحجاج: أكنت أعددت ما سمعت؟ فقال: لا يعلم الغيب إلا الله. فالتفت الحجاج إلى جلسائه فقال: هذا والله الكلام الخالص، لا الكلام المصنوع.
قال صالح بن جناح: لسان الأحمق مطبق، فلا يحسن أن ينطق، ولا يقدر أن يسكت.
وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: طلب الخير شديد، وترك الشرّ أشدّ منه:
لأن ليس كلّ الخير يلزمك عمله، والشرّ كلّه يلزمك تركه.
روي: أن حامد بن العبّاس سأل عليّ بن عيسى الوزير في ديوان وزارته عن دواء الخمار (2) وقد علق به؟ فأعرض عن كلامه، وقال: ما أنا وهذه المسألة! فخجل حامد، ثم التفت إلى قاضي القضاة أبي عمر (3) فسأله عن ذلك؟
فتنحنح القاضي لإصلاح صوته، ثم قال: قال الله تبارك وتعالى: {وَمََا آتََاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمََا نَهََاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59: 7]}. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
__________
(1) الحلقة: كل شىء استدار، ويجوز في اللام الفتح والسكون، كما فى لسان العرب، وإن كانت رواية المثل فى كل الروايات التي رأيتها بالفتح فقط.
(2) الخمار بضم الخاء ما يخالط الشارب من السكر.
(3) القاضى أبو عمر هذا هو: محمد بن يوسف بن يعقوب بن اسماعيل بن حماد بن زيد بن درّهم، ولد سنة 243ومات سنة 320، وكان قاضيا ثقة فاضلا، وصفه ابراهيم بن محمد بن عرفة بأنه «فى الحكام لا نظير له عقلا وحلما وذكاء، وتمكنا واستيفاء للمعاني الكثيرة باللفظ اليسير، مع معرفته بأقدار الناس ومواضعهم، وحسن التأني فى الأحكام، والحفظ لما يجرى على يده». وله ترجمة جيدة فى تاريخ بغداد (ج 3ص 405401) ولست أثق بصحة الحكاية المنقولة عنه هنا، فلن يستبيح مسلم لنفسه وإن كان فاجرا فضلا عن ثقة مثل هذا أن يدعو إلى شرب الخمور ويحتج لها بالكتاب والسنة، وحاش لله من ذلك. وأما علي بن عيسى بن داود بن الجراح فهو وزير المقتدر والقاهر، وله ترجمة فى تاريخ بغداد (ج 12ص 1614)(1/371)
208* «استعينوا على كلّ صنعة بصالح أهلتها» (1) والأعشى هو المشهور بهذه الصناعة في الجاهلية، وقد قال:
وكأس شربت على لذّة ... وأخرى تداويت منها بها
وقد تلاه أبو نواس، وهو القائل:
دع عنك لومي فإنّ اللّوم إغراء ... وداوني بالّتي كانت هي الدّاء
فأسفر حينئذ (2) وجه حامد، وقال لعليّ بن عيسى: يا بارد! ما ضرّك أن تجيب بما أجاب به قاضي القضاة، وقد استظهر في جواب (3) المسألة بقول الله تعالى، ثم بقول الرسول صلّى الله عليه وسلم ثانيا، وبيّن الفتيا وأدّى المعنى، وتنصّل من العهدة؟! فكان خجل عليّ بن عيسى من حامد بن العباس بهذا الكلام أكثر من خجل حامد منه لمّا ابتدأه بالمسألة.
من دعاء الفضيل بن عياض رضي الله عنه: اللهمّ إني أسألك الغنى في الدّنيا، وأعوذ بك من الرغبة فيها، وأسألك الزّهد في الدنيا، وأعوذ بك من الفقر فيها.
كتب العتّابيّ إلى صديق له: «قد عرضت قبلك حاجة، فان نجحت بك فالفاني منها حظي، والباقي حظّك. وإن تعذّرت فالخير مظنون بك، والعذر مقدّم لك».
روي: أنّ عبد الحميد لقي ابن المقفّع، فقال له: بلغني عنك شيء أكرهه. فقال: لا أبالي. قال: ولم؟ قال: لأنه إن كان باطلا لم تقبله، وإن كان حقّا عفوت عنه.
__________
(1) لا أصل له بهذا اللفظ فيما أرى. ونقله العجلونى فى كشف الخفا (رقم 340) وقال «يستأنس له بقوله صلّى الله عليه وسلم: ما كان من أمر دنياكم فاليكم». وهذا صحيح، لأن المعنى ورد فى احاديث اخرى، ولكن لفظ الحديث الذى هنا لا أصل له.
(2) كلمة «حينئذ» سقطت من ح.
(3) فى ح «بجواب».(1/372)
قال خالد بن صفوان (1) لأميّة بن عبد الله بن خالد بن أسيد حين أتى البصرة منهزما من أبي فديك الخارجي (2): الحمد لله الذي خار لنا عليك، ولم يخر لك علينا، فقد كنت حريصا على الشهادة، لكنّ الله أبى ذلك (3)، ليزيّن بك مصرنا، ويؤنس وحشتنا، ويكشف بك غمّتنا (4).
قيل للأحنف بن قيس (5): من السّيّد؟ قال: الذليل في عرضه، الأحمق في ماله، المطّرح لحقده، المعين لعشيرته.
قال أبو جعفر المنصور لأبي الهيذام عامر بن عمارة بن خريم النّاعم المرّي (6): مالك لا تسألني حاجة؟ فقال: والله ما أخاف بخلك، ولا أستقصر عمرك.
وروي عن كاتب لطاهر بن حسين قال: ولّى طاهر بعض النواحي رجلا، فقال لي: اكتب عهده، واترك في أسفل القرطاس فضلا. ففعلت، فأخذ العهد وكتب في أسفله:
__________
(1) هو أبو صفوان التميمى المنقري، أحد فصحاء العرب وخطبائهم، له ترجمة فى معجم الأدباء (ج 4ص 165160)
(2) أبو فديك الخارجى: هو عبد الله بن ثور من بنى ثعلبة بن قيس، كما فى تاريخ الطبري (ج 7ص 57) وهزيمته لأمية (ج 7ص 195194) واعتذار أمية عن الهزيمة (ج 7ص 209).
(3) فى ح «ذاك».
(4) نقل ابن قتيبة فى عيون الأخبار نحو هذا الكلام (ج 1ص 197) ونسبه لعبد الله بن الأهتم.
(5) معنى هذه الكلمة فى عيون الأخبار (ج 1ص 225) عن عدي بن حاتم.
(6) ابو الهيذام: بالذال المعجمة، وفى ح بالدال المهملة، وفى عيون الأخبار (ج 7ص 197) «أبو الهندام» بالنون والدال المهملة، وكل ذلك تصحيف. والمرى: بضم الميم وتشديد الراء، نسبة لبني مرة، وفى الأصلين «المدنى» وكل ذلك تصحيف. والمرى: بضم الميم وتشديد الراء، نسبة لبني مرة، وفى الأصلين «المدنى» وهو خطأ. قال ابن قتيبة فى كتاب الشعراء (ص 542): «خريم الناعم وهو خريم بن عمرو من بنى مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، وكان لخريم ابن يقال له عمارة، ولعمارة ابنان يقال لهما عثمان وابو الهيذام ابنا عمارة». وقال الطبرى فى التاريخ (ج 8ص 219) فى شأن عمارة بن خريم: «وعمارة هو جد ابي الهيذام صاحب العصبية بالشام». والذى أراه أن الطبرى أخطأ فى هذا، وأن عمارة هو والد أبى الهيذام، كما يدل عليه نسبه هنا وكما حققه ابن قتيبة.(1/373)
اعمل صوابا تنل بالحزم ماثرة (1) ... فلن يذمّ مع التّقدير تدبير
فإن هلكت مصيبا أو ظفرت به ... فأنت عند أولي الالباب معذور
وإن هلكت على جهل وفزت به ... قالوا: جهول أعانته المقادير (2)
أنكد بدنيا ينال المخطئون بها ... حظّ المصيبين والمغرور مغرور
دخل الخيار بن أوفى النّهديّ (3) وكان كبير السنّ إلى معاوية بن أبي سفيان، فقال له: لقد غيّرك الدّهر؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين، ضعضع قناتي، وشيّب سوادي، وأفنى لداتي (4)، وجرّأ عليّ أعدائي، ولقد غنيت زمانا أزور الكعاب، وأسئل الثّياب، وأحسن الضّراب، وآلف الأحباب، فنأى الشّباب عنّي، ودنا الموت منّي.
وحذّر رجل من الحكماء صديقا له صحبه آخر، فقال: يا فلان، احذر فلانا، فانه كثير المسألة، حسن البحث، لطيف الاستدراج، يحفظ أوّل كلامك على آخره، ويعتبر ما أخّرت بما قدّمت، فلا تظهرنّ له المخافة، فيرى أنك قد تحرّزت وتحفّظت. واعلم أنّ من يقظة الفطنة إظهار الغفلة مع شدة الحذر، فباتّه مباتّة (5) الآمن، وتحفّظ منه تحفّظ الخائف، فان البحث يظهر الخفيّ، ويبدي المستتر الكامن.
__________
(1) بفتح الثاء المثلثة، ويجوز ضمها أيضا
(2) كذا فى الأصلين «وإن هلكت على جهل» الخ، والمعنى عليه غير مستقيم، وأظن أن الأقرب أن يكون «وإن نجوت علي جهل» الخ أو ما هذا معناه.
(3) فى الأصل: «الخيار المهرى»، وفى ح «المهدي»، والصواب ما أثبتناه، وله ترجمة فى الاصابة (ج 2ص 153) ومختصر ابن عساكر (ج 5ص 183) وهذه القصة فى الأمالي (ج 2 ص 92اطول).
(4) اللدات بكسر اللام وبالدال المهملة: الأتراب والأقران، جمع «لدة» وفى الاصلين «لذاتي» بالذال المعجمة، وهو تصحيف، وصححناه من الأمالى، وفيه «وأثكلنى لداتى».
(5) مفاعلة من «البت» بمعنى القطع.(1/374)
قال اسحق: قلت لزهراء (1): ما رأيت من نساء العرب أفصح منك ولا أبلغ، يا زهراء، ما خبر أمير المؤمنين؟ قالت: جال بالناس جولة (2)
وحطّ بهم حطّة (3) حرّكت السّاكن، وأيقظت النائم، وأخافت الآمن، وأتت على نفس المريب. قلت: فما خبر ابن أبي داود (4)؟ قالت: قعقع له (5) بالشّنان يمنة ويسرة، حتّى لقد أحيط به. قلت: فما خبر ابن عبد الملك؟ قالت: يسره أرضه بحج بطين بصهر الى هذه الذخائر فيفطن لها ثم يتمم عليها (6). قلت: فما خبر الناس؟ قالت: تنتقض أنفاشهم فاذا فرغوا هدؤا.
قلت لها: فأين منزلك؟ قالت: مالي منزل، إنما أشتمل باللّيل إذا عسعس، وأظهر في النهار إذا تنفّس. ثم اتّخذت منزلا. فقلت لها: كم بيننا وبين منزلك؟ قالت: أمّا على كسلان وإن فساعة، وأمّا على ذي حاجة فقريب.
كتب ابن السّمّاك (7) الى عمرو بن بانة (8): «إنّ الدهر قد كلح (9)
فجرح، وجمح فطمح، وأفسد ما أصلح (10)، فان لم تعن عليه فضح».
__________
(1) اسحق: هو الموصلي، وزهراء: امرأة من بنى كلاب كانت تحدثه وتناشده، وكانت تميل إليه وتكنى عنه فى شعرها «بجمل»، ولها خبر معه فى الأغانى (ج 5ص 76و 77).
(2) فى الاصل «حال بالناس حولة» وهو خطأ، صححناه من ح.
(3) كلمة «حطة» سقطت من ح.
(4) فى ح «ابن أبى داود».
(5) فى ح «قعقع لنا»
(6) كذا فى الأصل، وهو كلام غير واضح ولا مفهوم، ولم نجده فى كتاب آخر، وفى ح «قالت: يسره أرضه بحج رطين يظهر» الخ وهو كما ترى!
(7) ابن السماك ذكره الجاحظ فى البيان والتبيين (ج 1ص 99) في البلغاء الذين كثر كلامهم. وكان فى عصر الرشيد.
(8) هو عمرو بن محمد بن سليمان بن راشد مولى ثقيف، وكان أبوه صاحب ديوان، ووجها من وجوه الكتاب، ونسب إلى أمه «بانة القحطبية» وكان مغنيا محسنا، وشاعرا صالح الشعر. قاله فى الاغانى (ج 14ص 50). وفى الاصلين «إلى أبى عمر بن بانة» وهو خطأ.
(9) كلح: من الكلوح، وهو تكثر فى عبوس، قاله فى اللسان.
(10) كذا فى الاصل ولو كان «صلح» بدون الهمزة لكان أنسب للمعنى، وأقرب لتجانس الكلمات. وقوله «ما أصلح» سقط من ح.(1/375)
قال المدائني: دخل عمرو بن أميّة الضّمريّ (1) على النجاشيّ، فكلمه بكلام كثير، فكان ممّا حفظ من كلامه: إنّا وجدناك كأنك من الرّقّة علينا منّا، وكأنّا في الثقة بك منك، لم نرجك لأمر قطّ إلّا نلناه، ولم نخفك عليه إلّا أمنّاه.
وعن العتبي قال: قال عثمان بن عتبة بن أبي سفيان: أرسلني أبي إلى عمّي (2) أخطب إليه ابنته، فأقعدني إلى جانبه، ثم قال: مرحبا بابن لم الده، أقرب قريب، خطب إليّ أحبّ حبيب، ولا أستطيع له ردّا، ولا أجد من تشفيعه (3) بدّا، وقد زوّجتكما، وأنت أكرم عليّ منها، وهي ألوط بقلبي منك (4)، فأكرمها يعذب على لساني ذكرك، ولا تمتهنها فيضع عندي قدرك، وقد قرّبتك مع قربك، فلا تباعد قلبي من قلبك.
قال أبو الحسن المدائني: وقع ميراث بين أبي سفيان وبين مروان، فتشاجرا فيه وتضايقا (5). فلمّا قاما أقبل عمرو بن عتبة (6) على ولده، فقال:
__________
(1) من أفاضل الصحابة، أسلم حين انصرف المشركون عن أحد، قال ابن سعد (ج 4ق 1 ص 183): «كان رجلا شجاعا له إقدام» وقال ابن الاثير فى اسد الغابة (ج 4ص 86): «كان من انجاد العرب ورجالها نجدة وجراءة» أرسله النبى صلّى الله عليه وسلم إلى النجاشى سنة 6وسنة 8 بكتابين: ليزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان وليحمل إليه من بقى عنده من الصحابة، فأسلم النجاشى وأجاب إلي ما طلب منه. وانظر تاريخ الطبرى (ج 3ص 89و 104103)
(2) أما عتبة بن أبي سفيان فهو مصروف، وسيأتي ذكره بعد قليل. وأما ابنه عثمان فانى لم أجده فى شىء من الكتب.
وعمه أظنه معاوية بن ابى سفيان. وهذه القصة لم توجد فى ح.
(3) اى: من قبول شفاعته، يقال: تشفعت بفلان الى فلان فشفعنى فيه.
(4) ألوط بقلبى: أى ألصق واحب، ويقال فيه أيضا «أليط» بالياء، كلاهما بوزن «افضل»
(5) هذه القصة ليست فى ح. وقدرواها صاحب الأمالى (ج 2ص 234) وفيه ان الميراث كان بين بنى هاشم وبنى امية، وهو الصواب.
(6) هو عمرو بن عتبة بن أبي سفيان.(1/376)
إن لقريش درجا تزلّ عنها أقدام الرجال، وأفعالا تخشع لها رقاب الأموال، وألسنا تكلّ (1) عنها الشّفار المشحوذة، وغايات تقصر (2) عنها الجياد المنسوبة (3)، ثم إنّ ناسا منهم تخلّقوا بأخلاق العوامّ، فصار لهم رفق في اللّؤم (4)، وخرق (5)
في الحرص، لو أمكنهم قاسموا الطّير أرزاقها، إن خافوا مكروها تعجّلوا له الفقر، وإن عجّلت لهم نعمة (6) أخّروا عليها الشكر، أولئك أنضاء فكر العقل (7)، وعجزة حملة الشّكر.
كتب معاوية بن أبي سفيان الى أخيه عتبة (8)، وهو على مصر، في أقوام يعاقبهم ولا يراجعه فيهم. فكتب اليه عتبة: «يا أمير المؤمنين، على أداء حقك أستعين الله، وبه على جميع أمري أتوكّل (9)، وأنا مقيّد بكتابك، وصائر الى أمرك، ومتّخذه إماما إذا أمّ الحزم، فاذا خالفه فعندها لم تغب عمّا شهدت، ولم يدخل عليك ضرر ما فعلت، ولقد علم الناس قبلي أنّ زنادني ذكيّة الشّعل (10) لمن عاداك، وأن جناي أحلى من العسل لمن والاك، فثق بذلك لهم
__________
(1) فى الأصل «يكل».
(2) فى الأصل «يقصر».
(3) فى الأمالى «الجياد المسومة» وهو أحسن.
(4) فى الأصل «اللوم» بفتح اللام وبدون همز، وهو خطأ.
(5) الخرق بوزن قفل وسبب: ضد الرفق، وأن لا يحسن التصرف فى الأمور، وفى الأمالى «وتخرق».
(6) ضبط فى الأصل منصوبا، وهو لحن.
(7) فى الأمالى «أولئك أنضاه الفكر» وهو احسن والأنضاء: جمع نضو كحمل وهو المهزول. وانظر جمهرة خطب العرب (ج 2ص 417416).
(8) هو عتبة بن أبي سفيان أخو معاوية لأبيه وأمه. ولاه معاوية مصر فقدمها فى ذى القعدة سنة 43، ومات مرابطا فى الاسكندرية فى ذى الحجة سنة 44. أنظر ولاة مصر للكندى (ص 3634)، وفى الأصل «الى ابن اخيه عتبة»، وهو خطأ واضح. وهذه القصة ليست فى ح.
(9) كذا فى الأصل، والأولى أن يقول: «وعليه فى جميع أمرى أتوكل» كما هو ظاهر. وقد يكون لما هنا وجه مع التكلف.
(10) الزنادة: هى الزناد او الزند، والشعل: بضم الشين، وضبطت فى الأصل بالفتح، وهو خطأ.(1/377)
وعليهم، وإياك أستكفي لك من كفاني بك.
وقال عمرو بن العاص لابنه: يا بنيّ إمام عادل خير من مطر وابل، وأسد حطوم خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم خير من فتنة تدوم (1).
قال المدائني: قدم محمد بن عبد الله بن عطارد الدارميّ في سبعين راكبا على الحجّاج وافدا، فاستزارهم عمرو بن عتبة (2)، فقال له محمد بن عبد الله:
يأباسفيان، ما بال العرب تطيل كلامها وتقصّرونه معشر قريش؟ فقال: الجندل يرمي بالجندل، إنّ كلامنا يقلّ لفظه ويكثر معناه، يشفي بأولاه ويحيي (3)
بأخراه، تحدّر الزّلال على الكبد الحرّى، ولقد نقصنا كما نقص الناس، بعد أقوام أدركتهم كأنهم خلقوا لتحسين ما قبّحت الدنيا، سهلت لهم ألفاظهم كما سهلت لهم أنفاسهم، ويبذلون أموالهم، ويصونون أعراضهم، فما يجد المادح لهم مزيدا، ولا الطاعن فيهم مطعنا، لله درّ مادحهم حيث يقول:
وضع الدّهر بينهم (4) شفرتيه ... فانثنى سالما وأضحوا شعوبا
شفرتا والله مالا (5) على من قبلهم (6)، فأذهبت أبدانهم، وأبقت أخبارهم، فصاروا حديثا حسنا، ثوابه في الآخرة أحسن، وحديثا سيّئا عقابه في الآخرة أسوأ، فكم موعوظ بمن قبله (7) موعوظ به من هو آت بعده. قال:
فظننّا أنه إذا (8) أراد أن يطيل أطال.
وصف معاوية الوليد بن عتبة (9) فقال: إنه لبعيد الغور، ساكن الفور،
__________
(1) وهذه أيضا ليست فى ح.
(2) فى الأصلين «عمر بن عتبة» وهو خطأ.
(3) رسم في الأصلين بالألف.
(4) فى ح «بيننا» وهو خطأ.
(5) فى الأصلين «أمالا» وهمزة التعدية هنا خطأ، لأن الفعل لازم.
(6) فى ح «قتلهم» وهو خطأ
(7) في ح «فكم موعظ بمن قتله» وهو خطأ.
(8) كلمة «إذا» سقطت من ح.
(9) هو الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.(1/378)
وإنّ العود لمن نجاره (1) والولد من آبائه، وإنّه والله نبت أصل لا يخلف، وسليل فحل لا يقرف (2).
قال المدائني: أتى أعرابيّ أبا جعفر محمد بن عليّ بن الحسين رضي الله عنهم، فقال له: هل رأيت الله حين عبدته؟ قال: ما كنت لأعبد شيئا لم أره. قال: فكيف رأيته؟ قال: لم تره الأبصار مشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يدرك بالحواسّ، ولا يقاس بالناس، معروف بالآيات، منعوت بالعلامات، لا يجور في قضيّته، هو الله الذي لا إله إلّا هو.
فقال الأعرابى: الله أعلم حيث يجعل رسالاته (3) [6: 124].
قال محمد بن سلّام (4): لمّا قتل مصعب بن الزّبير رحمه الله بلغ أخاه عبد الله [رضي الله عنه] (5) وهو بمكة، فصعد المنبر فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممّن يشاء، ويعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء. ألا وإنّه لم يذلل الله (6) من الحقّ معه، وإن كان فردا، ولم يعزز الله من أولياء الشّيطان وحزبه، وإن كان الأنام معه طرّا. إنّه
__________
(1) النجار بضم النون وكسرها: الأصل والحسب.
(2) المقرف من الخيل بكسر الراء: الهجين، أقرف الرجل وغيره: دنا من الهجنة، والمقرف أيضا: النذل. قاله فى اللسان.
وهذه القطعة ليست فى ح.
(3) قراءة ابن كثير وحفص «رسالته» بالأفراد، وقراءة باقى السبعة «رسالاته» بالجمع. وفى ح «الله يعلم» فيكون مراد القائل المعنى، ولا يريد التلاوة. وفى الأصل بعد كلمة «رسالاته» كتبت كلمة «الشرف» ثم ضبب عليها الكاتب أى وضع عليها علامة الالغاء فى اصطلاح المتقدمين، وهى صاد صغيرة ممدودة هكذا (ص)، أنظر شرحنا على ألفية السيوطي (ص 155)
(4) هذه الخطبة نقلها المسعودى فى مروج الذهب (ج 2ص 97طبعة بولاق وص 123طبعة مصر) وعيون الأخبار (ج 2ص 240) والطبرى فى التاريخ (ج 7ص 190) والأغاني (ج 17ص 166) وابن أبي الحديد (ج 1ص 320وج 4ص 492) والعقد الفريد (ج 2ص 182و 323طبعة بولاق) وفي رواياتهم اختلاف كثير، والمعنى مقارب. وانظر جمهرة خطب العرب (ج 2ص 167165).
(5) الزيادة من ح
(6) لفظ الجلالة لم يذكر فى ح.(1/379)
أتانا خبر من العراق أجزعنا وأفرحنا: قتل مصعب رحمة الله عليه، فأما الذي أجزعنا من ذلك فإنّ (1) لفراق الحميم لذعة (2) يجدها حميمه (3) عند المصيبة، ثم يرعوي من بعدها ذوو الرأي (4) إلى جميل الصبر وكريم العزاء، وأما الذي أفرحنا فقد علمنا أن قتله له شهادة، وأنّ القتل له على ذلك خيرة. ألا إنّ أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقلّ ما كانوا يأخذونه منه. أما والله ما نموت حبجا (5) وما نموت إلّا قصعا (6) بالرماح، وموتا تحت ظلال السيوف، ليس كما تموت بنو مروان: ما قتل منهم أحد في الجاهلية ولا في الاسلام. وإنّما الدّنيا عارية من الملك الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد، فان تقبل الدنيا عليّ لا آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر عنّي لا أبك عليها بكاء الخرف المهترّ (7). ثم نزل.
قال معاوية لعمرو بن العاص: من أبلغ الناس؟ قال: من ترك الفضول واقتصر على الايجاز. قال: فمن أصبر الناس؟ قال: من ترك دنياه في إصلاح دينه. قال: فمن أشجع الناس؟ قال: من ردّ جهله بحلمه (8).
__________
(1) فى ح «فانه» وهو خطأ.
(2) فى الأصل «لدغة» وهو تصحيف.
(3) فى الأصل «حميمة» وهو خطأ.
(4) فى أكثر الروايات «ذو الرأى» بالافراد، وما هنا موافق لعيون الأخبار والعقد.
(5) الحبج بفتح الحاء المهملة والباء، أو باسكان الباء وآخره جيم: أكل البعير لحاء العرفج فيسمن عليه وربما بشم منه فقتله. قال ابن الأثير:
«يعرض ببنى مروان لكثرة أكلهم وإسرافهم فى ملاذ الدنيا وأنهم يموتون بالتخمة». وفى الأصل «جيحا» وهو تصحيف.
(6) قصعه من باب (قطع) قتله مكانه.
(7) الخرف:
الذى فسد عقله من الكبر، والمهتر: من ذهب عقله لكبر او مرض أو حزن.
(8) هذه القطعة لم تذكر فى ح، وهو الأصح، لأنها مضت في (ص 336) وكتب عليها فى الأصل فوق كلمة «معاوية» بخط كاتب آخر «مكرر لأنه ذكر أولا».(1/380)
وقلل خالد بن صفوان: أحسن الكلام ما شرفت مبانيه، وظرفت معانيه، والتذّه سمع سامعيه.
كان العتّابيّ (1) يقول: ليس البلاغة بالاكثار والإقلال، لكن (2)
البلاغة سدّ الكلام بمعانيه وإن قصر، وحسن التأليف وإن طال.
قيل للقاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه: كيف كان مصعب؟ قال:
كان نفيسا رئيسا يبيسا.
حمل عمرو بن معدي كرب حمالة (3)، فأتى مجاشع بن مسعود (4)
فسأله فيها وقال: أسألك حملان (5) مثلي وسلاح مثلي. فأمر له بعشرين ألف درهم وفرس عتيق جواد وسيف صارم وجارية نفيسة. فمرّ ببني حنظلة، فقالوا له: يأبا ثور، كيف رأيت صاحبك؟ فقال: لله بنو مجاشع (6)! ما أشدّ في الحرب لقاءها! وأجزل في اللّزبات (7) عطاءها! وأحسن في المكرمات
__________
(1) العتابى: هو أبو عمرو وكلثوم بن عمرو، قال الجاحظ «وهو من ولد عمرو بن كلثوم» وهو «من الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخطابة والشعر الجيد والرسائل الفاخرة مع البيان الحسن».
البيان والتبيين (ج 1ص 59) وله كلمة عنده فى وصف البلاغة والعى (ج 1ص 107106)
(2) فى ح «ولكن».
(3) الحمالة بفتح الحاء: ما يتحمله الانسان عن غيره من دية أو غرامة. وهذه الفصة نقلها صاحب الأغاني (ج 14ص 30) كما هنا، ونقلها صاحب الأمالى (ج 2 ص 114) وصاحب العقد (ج 1ص 144) بسياق آخر.
(4) مجاشع بن مسعود السلمي صحابي، له ترجمة فى الاصابة (ج 6ص 42) وأشار الى هذه القصة أيضا.
(5) الحملان بضم الحاء وإسكان الميم: ما يحمل عليه من الدواب فى الهبة خاصة.
(6) كذا هنا مثل الأغاني، والذي في الأمالى «لله درّ بنى سليم» وهو أصح، لأن مجاشع بن مسعود ليس فى أجداده من يسمى مجاشعا، وإنما هو من بنى سليم، كما فى نسبه فى الاصابة وغيرها.
(7) اللزبات:
جمع «لزبة» باسكان الزاى فيهما، وهى: الشدة، قال فى اللسان «والأزمة والأزبة واللزبة كلها بمعنى واحد».(1/381)
ثناءها (1)! لقد قاتلتها فما فللتها (2)، ومألتها فما أبخلتها (3)، وهاجيتها فما أفحمتها.
قدم وفد أهل (4) العراق على معاوية رحمه الله، فلما دخلوا عليه قال: [مرحبا بكم] (5) يا أهل العراق، قدمتم أرض الله المقدّسة، منها المنشر، وإليها المحشر، قدمتم على خير أمير: يبرّ كبيركم، ويرحم صغيركم، ولو أن الناس كلّهم ولد أبي سفيان لكانوا حلماء عقلاء! فأشار الناس إلى صعصعة بن صوحان (6) فقام فحمد الله (7) وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قال: أمّا قولك يا معاوية: «إنا قدمنا الأرض المقدّسة» فلعمري ما الأرض تقدّس الناس، ولا يقدّس الناس إلّا أعمالهم. وأمّا قولك: «إن منها المنشر وإليها المحشر» فلعمري ما ينفع قربها كافرا، ولا يضرّ بعدها مؤمنا. وأما قولك: «لو أنّ الناس كلّهم ولد أبي سفيان لكانوا حلماء عقلاء» فقد ولدهم من هو خير
__________
(1) فى الأمالى «وأثبت في المكرمات بناءها»
(2) أى: ما هزمتها، يقال «فل الرجل القوم يفلم فلا» هزمهم. وفى الأغاني «فما أفللتها» بالهمزة، وهو خطأ لأن الفعل متعد بنفسه. وفي الأمالى «والله لقد قاتلتها فما أجبنتها» وكذلك فى رواية لسان العرب (ج 16ص 235) يقال «أجبنه» إذا وجده جبانا أو حسبه إياه. قال فى اللسان: «يقال جبنت الرجل وبخلته وجهلته أي بالتضعيف فيهن: إذا نسبته إلى الجبن والبخل والجهل، وأجبنته وأبخلته وأجهلته أي بالتضعيف فيهن: إذا وجدته بخيلا جبانا جاهلا»
(3) فى الأصلين «بخلها، بحذف الهمزة» وصححناه من الأغاني والأمالي واللسان، ويعلم صوابه مما سبق.
(4) كلمة «أهل» ليست فى ح. وهذه القصة نقلها صاحب العقد (ج 2ص 68بولاق و 56مصر) ونقلها عنه صاحب جمهرة الخطب (ج 2ص 352350) فى ضمن قصة طويلة.
(5) الزيادة من العقد.
(6) صوحان: بضم الصاد، وصعصعة هذا كان مسلما فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره، وله ترجمة فى الاصابة (ج 3ص 265259) وقال فى شأنه: «كان خطيبا فصيحا، وله مع معاوية مواقف، وقال الشعبى: كنت أنعلم منه الخطب» ثم نقل أن المغيرة نفاه بأمر معاوية من الكوفة. ووصفه عبد الملك بن مروان فى نفس هذه القصة فى العقد الفريد بأنه «أحضر الناس جوابا».
(7) في الأصلين «حمد الله» بدون الفاء، وصححناه من العقد.(1/382)
من أبي سفيان: آدم صلّى الله عليه، فمنهم الحليم والسفيه، والجاهل والعالم.
وقالت الحكماء: خير الكلام ما أغنى قليله عن كثيره.
وقالوا: خير الكلام ما لم تحتج بعده إلى كلام.
وقالوا: أبلغ الكلام ما سبق معناه لفظه.
وقالوا: البلاغة ما فهمته العامّة، ورضيته الخاصّة (1).
وقيل لبعض الحكماء: ما أحسن الكلام؟ قال: ما استحسنه سامعه.
قيل: ثم ماذا؟
قال: ثم ما حصلت منافعه. قيل: ثم ماذا؟ قال: ما لم تذمّ عواقبه. قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم لا ثمّ.
وقيل لبعضهم: من البليغ؟ قال: من أخذ معاني (2) كثيرة فأدّاها بألفاظ قليلة، أو أخذ معاني (3) قليلة فولّد منها ألفاظا كثيرة.
قلت: كأنّه عنى بهذا القول قول عيد الله بن المعتزّ في صفة الآذريون (4)
وآذريون أتاك في طبقه ... كالمسك في نشره وفي عبقه
قد نفض العاشقون ما صنع ال ... هجر بألوانهم على ورقه
فالبيت كلّه أنّه أصفر.
وقال بعض الأدباء: إن أمكنك أن تبلغ من بيان وصفك، وبلاغة
__________
(1) فى ح بدلا من هذه الجملة والتى قبلها جملة مركبة منهما، وهي: «وقالوا: أبلغ الكلام ما فهمته العامة، ورضيته الخاصة».
(2) فى الأصلين فى الموضعين «معانيا» وهو لحن.
(3) فى الأصلين فى الموضعين «معانيا» وهو لحن.
(4) بالمد وفتح الذال المعجمة وإسكان الراء وضم الياء، كما ضبطه المرتضى فى شرح القاموس، وهو: زهر أصفر فى وسطه خمل أسود، والفرس تعظمه وتنثره فى المنزل، وليس بطيب الرائحة.
قاله فى القاموس. وقال في تذكرة داود: «آذريون: معرب عن اللطينية عن كاف أعجمية. وهو بخور مريم عندنا، ثم ذكر أسماءه بالفارسية وغيرها. وقال المسيو شير الكلداني في كتاب الألفاظ الفارسية المعربة إنه: «تعريب آذركون وأصل معناه شبه النار، وآذربون لغة فيه بالفارسية» وأنا أظن أن الصواب ما قاله داود فى التذكرة. والبيتان لم نجدهما فى ديوان ابن المعتز ولا في شىء من المراجع الأخرى(1/383)
منطقك، واقتدارك على فصاحتك: أن تفهم العامّة معاني الخاصّة، وتكسوها الألفاظ المبسوطة التي لا تلطف عن الدّهماء ولا تجلّ عن الأكفاء: فأنت البليغ الكامل.
وسئل أرسطاطاليس عن البلاغة؟ فقال: إقلال في إنجاز، وصواب مع سرعة جواب. وسئل عن العيّ؟ فقال: كثرة القول المقصّر عن بلوغ المعنى.
وتكلم ابن السّمّاك يوما وجارية له تسمع، فلما دخل قال لها: كيف سمعت كلامي؟ قال: ما أحسنه لولا أنك تكثر ترداده! قال: إنما أردّده ليفهمه من لم يفهمه. قالت (1): إلى أن يفهمه من لم يفهمه قد ملّه من قد فهمه! (2)
قحطت البادية في أيام هشام بن عبد الملك، فقدمت العرب من أحياء القبائل، فجلس هشام لرؤسائهم، فدخلوا عليه، وفيهم درواس بن حبيب (3)،
__________
(1) فى الأصل «قال» وهو خطأ صححناه من ح.
(2) نقلها الجاحظ فى البيان (ج 1 ص 99) وابن قتيبة فى عيون الأخبار (ج 2ص 178).
(3) درواس: بكسر الدال وإسكان الراء، وأصله فى اللغة: الغليظ العنق من الناس والكلاب، أو الأسد الغليظ، أو الكلب الكبير الرأس، وقيل غير ذلك، ومرجع معانى الكلمة كلها إلى الغلظ والضخامة، والدرباس بوزن الدرواس، ويدل الواو باه موحدة: الكلب العقور، وقيل الأسد، كالدرناس بالنون والدرداس بدال بدل النون وهذه القصة نقل نحوها ابن الأثير فى أسد الغابة (ج 4ص 259) من طريق الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن عاصم بن الحدثان «أن البادية قحطت» الخ وسماه «درواس بن حبيب بن درواس بن لاحق بن معد بن ذهل» ولكن عنده «درواش» بالشين المعجمة، وهو خطأ مطبعي فيما أعتقد. ولم يذكر القصة كلها بل اختصرها، وكذلك نقلها ابن حجر في الاصابة المختصرة (ج 6ص 32) ثم قال:» وفى السند مجاهيل، وأورده ابن عساكر فى كتاب مناقب الشبان من طريق محمد بن أحمد بن رجاء حدثنى يزيد بن عبد الله حدثنا الأصمعي بن بطوله، لكنه قال: درياس، ورأيته بخط شيخ شيخنا الحافظ العلائى بباء موحدة من تحت». ونقلها الحافظ ابن عساكر فى تاريخ دمشق (ج 5ص 222من مختصره المطبوع بالشأم) وفيه «درباس بالباء الموحدة. ولكن فيه خطأ مطبعى فى اسم جده الأعلى، فسماه «معبد بن ذهل» والصواب «معد بن ذهل» كما فى الاصابة وأسد الغابة. ونقلها أيضا الراغب فى محاضرات الأدباء (ج 1 ص 259258) وسماه «درواس بن حبيب العجلى». ونقلها أيضا فى عيون الأخبار (ج 2 ص 338) والعقد الفريد (ج 2ص 99بولاق) ولكنهما اختصراها ولم يسميا درواسا، بل وصفاه بأنه أعرابى.(1/384)
وله أربع عشرة سنة (1)، عليه شملتان وله ذؤابة. فأحجم القوم وهابوا هشاما، ووقعت عين هشام على درواس فاستصغره، فقال لحاجبه: ما يشاء أحد أن يصل إليّ إلّا وصل! حتى الصبيان؟! فعلم درواس أنه يريده، فقال: يا أمير المؤمنين، إن دخولى لم يخلّ بك شيئا، ولقد شرّفني، وإن هؤلاء القوم قدموا لأمر أحجموا دونه، وإنّ الكلام نشر، والسّكوت طيّ، ولا يعرف الكلام إلّا بنشره.
فقال له هشام: فانشر لا أبالك!! وأعجبه كلامه. فقال: أصابتنا سنون ثلاثة (2): فسنة أذابت الشّحم، وسنة أكلت اللّحم، وسنة أنقت العظم، وفي أيديكم فضول أموال: إن كانت لله ففرّقوها على عباده المستحقين لها، [وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم؟] (3)، وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم، فان الله يجزي المتصدقين (4)، ولا يضيع أجر المحسنين (5)، واعلم، يا أمير المؤمنين، أنّ الوالي من الرعيّة كالرّوح من الجسد، لا حياة للجسد إلّا به (6). فقال هشام: ما ترك الغلام في واحدة من الثلاث عذرا. وأمر أن يقسم في باديته مائة ألف درهم (7)، وأمر لدرواس بمائة ألف درهم. فقال: يا أمير المؤمنين،
__________
(1) فى الأصل «أربعة عشرة» وفى ح «أربعة عشر» وكلاهما خطأ.
(2) في الأصلين «ثلاث» وصححناه من مختصر ابن عساكر.
(3) الزيادة من ابن عساكر، ونحوها فى سائر الروايات، وقد سقطت من الأصلين.
(4) فى ح «يجزى المحسنين المتصدقين».
(5) هنا فى ابن عساكر زيادة أن درواس روى عن ابيه عن جده عن جده الأعلى «لاحق» مرفوعا حديث «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته». وكذلك فى الاصابة وغيرها.
(6) فى ابن عساكر «بها» و «الروح» مما يذكر ويؤنث.
(7) فى ابن عساكر «ثلاثمائة ألف» وفي المحاضرات «مائة ألف دينار».(1/385)
ارددها إلى جائزة العرب، فاني أكره أن يعجز ما أمر لهم به أمير المؤمنين عن كفايتهم. قال: فما لك من حاجة تذكرها لنفسك؟ قال: مالي من (1)
حاجة دون عامّة المسلمين (2)!! قال أبو العتاهية: قدم عليّ أعرابيّ من هجر، فخاطبني بأحسن مخاطبة، وكلمني بأفصح كلام، ثم قال: ما رأيت أحسن ممّا كما يقال عنك إلّا ما شهدته منك. ثم وعدته بأشياء قدم لها وتضمنّت له القيام بها، فقال لي: والله ما استقلّ قليلك، لأنه أكثر من كثير غيرك، ولا أستكثر كثيرك، لأنه دون همّتك.
وقال خالد بن صفوان: لا تصنع المعروف الى ثلاثة: الفاحش واللئيم والأحمق.
فأمّا الفاحش فيقول: إنما صنع هذا بي أتّقاء (3) لفحشى، وأما الأحمق فلا يعرف المعروف فيشكره، وأمّا اللئيم فكالأرض السّبخة لا تثمر ولا تنمي. فاذا (4)
رأيت السّريّ فدع المعروف (5) عنده واستحصد الشّكر، وأنا لك الضّامن.
309* قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنّ من الشّعر لحكما، وإنّ من البيان لسحرا» هذا كلام قاله صلّى الله عليه وسلم لوفد بني تميم، لما سأل عمرو بن الأهتم (6) عن قيس
__________
(1) فى ح وابن عساكر «مالى حاجة».
(2) فى ابن عساكر زيادة: «وفى رواية: أن درباسا لما وصل الى منزله بعث اليه هشام بمائة ألف درهم ففرقها فى تسعة أبطن من العرب، لكل بطن عشرة آلاف، وأخذ هو عشرة آلاف، فقال هشام: إن الصنيعة عند درباس لتضعف على سائر الصنائع». ونحو ذلك فى المحاضرات.
(3) فى ح «ابقاء» وهو تصحيف.
(4) فى ح «وإذا».
(5) كذا فى الأصلين، ولو كان «فازرع المعروف، لكان أجود وأفصح.
(6) الأهتم: بالتاء المثناة الفوقية، وهو لقب أبيه، واسمه:
«سنان بن سمى بن سنان بن خالد بن منقر» ولقب سنان بهذا لأن ثنيته هتمت يوم الكلاب، كما في شرح القاموس مادة (هـ ت م). وفى الأصل «الأهيم» وكذلك فى فتح الباري (ج 10 ص 202) وهو تصحيف من الناسخ والطابع.(1/386)
بن عاصم (1)؟ فمدحه عمرو، فقال قيس: والله يا رسول الله، لقد علم أني خير مما وصف، ولكنّه حسدني! فذمّه عمرو بن الأهتم، وقال: يا رسول الله، لقد صدقت في الأولى وما كذبت في الثانية! ولكنّي رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أسوأ ما عرفت! فعند ذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنّ من البيان لسحرا».
وأنا ذاكر شيئا من محاسن الشعر مختصرا.
من ذلك
محاسن الشعر
فى الأدب
قال سويد بن أبي كاهل (2):
__________
(1) هذه رواية شاذة، بل خطأ، والصواب «الزبرقان بن بدر» واما قيس بن عاصم المنقري فانه كان معهما فى الوفد، واللفظ النبوي الشريف «إن من الشعر» الخ سبق أن ذكرنا بعض من رواه فى (ص 333) من هذا الكتاب. وقد روى القسم الأول منه أيضا الترمذي (ج 2ص 138) وابن ماجه (ج 2ص 214) وأحمد (ج 5 ص 125) والبخارى (ج 8ص 34) وفتح البارى (ج 10ص 446). وأما سبب الحديث فقد روى للبخاري (ج 7ص 128) عن ابن عمر: «أنه قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحرا» أنظر فتح الباري (ج 10ص 202)، وهذا لا ينافى السبب الذى هنا، فلعله قال ذلك مرتين فى واقعتين مختلفين.
والسبب الذي نقله المؤلف رواه الحاكم فى المستدرك (ج 3ص 613) من حديث ابن عباس ومن حديث أبى بكرة، ونسبه فى الفتح للبيهقى فى الدلائل عن ابن عباس، وللطبراني عن أبي بكرة.
وانظر طبقات ابن سعد (ج 7ق 1ص 25) وأسد الغابة (ج 2ص 613) من حديث ابن عباس ومن حديث أبى بكرة، ونسبه فى الفتح للبيهقى فى الدلائل عن ابن عباس، وللطبراني عن ابي بكرة.
وانظر طبقات ابن سعد (ج 7ق 1ص 25) وأسد الغابة (ج 2ص 194) والاصابة (ج 3 ص 43) وتاريخ ابن كثير (ج 5ص 4544) وجمهرة الأمثال لأبى هلال العسكرى (ص 44طبع بمبى) ومجمع الأمثال للميدانى (ج 1ص 6). وفى كل الروايات أن المسؤول عنه هو الزبرقان بن بدر، وهو الصواب.
(2) هذا الشعر لسويد بن الصامت الأنصارى كما نسبه له فى عيون الأخبار. وسويد كان يقال له «الكامل» فى الجاهلية، وكان الرجل عند العرب إذا كان شاعرا شجاعا كاتبا سابحا راميا سموه «الكامل». وكانت عنده مجلة لقمان، وله حديث مع الرسول صلّى الله عليه وسلم فى الطبرى (ج 3ص 233). وله ترجمة فى الاصابة (ج 3 ص 189) وأسد الغابة (ج 2ص 378). وأما سويد بن أبي كاهل فهو اليشكرى، شاعر فحل مخضرم، له ترجمة فى الاصابة (ج 3ص 173172) وفى الأغانى (ج 11ص 167165).(1/387)
إنّي إذا ما الأمر بيّن شكّه ... وبدت بصائره لمن يتأمّل (1)
أدع الّتي هي أرفق الحالات بي ... عند الحفيظة للّتى هي أجمل
وقال أحيحة بن الجلاح:
استغن عن كلّ ذي قربى وذي رحم ... إنّ الغنيّ من استغنى عن النّاس
والبس عدوك في رفق وفي دعة ... لباس ذي إربة للنّاس لبّاس (2)
وقال خفاف بن مالك بن عبد يغوث المازني (3):
__________
(1) فى الأصل «نضائره» وفى ح «نظائره» والصواب ما أثبتناه من رواية ابن قتيبة فى عيون الأخبار (ج 1ص 289). والضبط الصحيح لقوله «بين» بالبناء للفاعل، لا للمجهول كما فعل مصحح عيون الأخبار، وقوله «بين شكه» مما يشكل على كثير من الأدباء، والشك ههنا «الظلع» من قولهم «شك البعير» إذا ظلع يقول: إذا ظهر ظلعه وبدا ميله. والبصائر: جمع بصيرة، وهى العبرة.
(2) روى هذا البيت البحترى فى حماسته (ص 14) «أطوار ذى إربة» وبعده:
ولا تغرّنك أضغان مزمّلة ... قد يركب الدّبر الدّامي بأحلاس
والإربة بكسر الهمزة وفتحها. الدهاء والبصر بالأمور. وهذان البيتان ليسا فى ح.
(3) هذه الأبيات لم تذكر فى ح. والمازني: بالزاي والنون، وفى الأصل «المارتى» وهو تصحيف بنقل نقطة الزاي الى النون. وخفاف هذا له ترجمة فى الاصابة (ج 2ص 150) قال: «خفاف بن مالك بن عبد يغوث بن علي بن ربيعة المازنى، مازن نهم، قال الآمدي: شاعر فارس أدرك الجاهلية والاسلام، وهو القائل:
ولا غيرنا يعدي على ظلم غيرنا ... وليس علينا للظّلامة مذهب»
وهذا البيت كأنه من هذه القصيدة التى رواها المؤلف، ويظهر أنها تنقص أبياتا أخرى يتصل بها معنى البيت، ولو وضع هنا بعد البيت الثانى لكان المعنى جيدا أيضا» ولم نجد ترجمة للشاعر غير ما نقلنا، وكذلك قصيدته هذه لم نجد شيئا منها فى المصادر التى بين أيدينا. وقبيلة «مازن» التى من نهم لم أعثر بذكرها فى كتب الأنساب و «نهم» بكسر النون وإسكان الهاء ذكره السويدى فى سبائك الذهب (ص 76طبع بغداد وص 78طبع الهند) وقال «بطن من بكيل من همدان» وذكره شارح القاموس فقال: «نهم بن عمرو بن ربيعة بن مالك بن معاوية بن صعب بن دومان بن بكيل بن همدان». وانظر أبيانا من هذه القصيدة فى كتاب (فضل العطاء على العسر) لأبى علال العسكرى (ص 3635) ومنه يتبين صحة ظننا أن البيت الذي فى الاصابة هو من القصيدة.(1/388)
نريح فضول الحلم وسط بيوتنا ... إذا الحلماء عنهم الحلم أغربوا (1)
ونرأب ما شئنا، وليس لما وهت ... جرائر أيدينا من النّاس مرأب (2)
ونعفو، ولو شئنا أخذنا، ونكتفي ... بأدنى بغانا حين نبغي ونطلب
وندفع عنّا الشّرّ ما كان دفعه ... سناء، ونصلي ناره حين تلهب
ونركب ظهر الموت والموت يتّقى ... إذا لم يكن إلّا على الموت مركب
وإنّي على ريب الزّمان وصرفه: ... لتغرر كفّي بالنّدى حين تحلب (3)
وأكفي ابن عمّي غيبه بشهادتي ... ويطعن دون الجار نصري ويضرب
ولا ألطم ابن العمّ إن كان إخوتي ... شهودا وإخوان ابن عمّي غيّب
وقال آخر:
إنّي لأعرض عن أشياء أسمعها ... حتّى يظنّ أناس أنّ بي حمقا
أخشى مقال سفيه لا حياء له ... وأن يظنّ أناس أنّه صدقا
وقال آخر: (4)
لا أدفع ابن العمّ يمشي على شفا ... وإن بلغتني من أذاه الجنادع (5)
ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه ... لترجعه يوما إليّ الرّواجع
وحسبك من ذلّ وسوء صنيعة ... مناواة ذي القربى وإن قيل: قاطع
وقال آخر:
__________
(1) هذا هو الصواب، وفى الأصل «نزبح فصول» و «نريح» من قولهم «أراح إبله من المرعى»: إذا ردها، و «أغرب إبله»: إذا أبعد بها وبيتها فى المرعى ولم يردها، وتدبر معنى البيت فهو حسن المعنى جيد العبارة.
(2) رأب الشىء: إذا أصلحه.
(3) أغزر المعروف: إذا جعله غزيرا، يتعدى بنفسه، وهنا استعمله متعديا بالحرف.
(4) هذه الأبيات سقطت من ح. وهى فى الأمالى (ج 2ص 233)، ولم ينسبها لشاعر معين.
(5) الجنادع: الآفات والبلايا.(1/389)
فلا يحزننك الشّرّ قبل وقوعه ... ولا يفرحنك الخير والخير غائب (1)
فإنّك لا تدري وإن كنت حازما * إلى أيّ أمر ما تؤول العواقب وقال الرّبيع بن أبي الحقيق: (2)
إنّا إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السّامع للقائل
واصطرع القوم بألبابهم ... بمنطق القاصد والمائل
لا نجعل الباطل حقّا ولا ... نلطّ دون الحقّ بالباطل (3)
نخاف أن تسفه أحلامنا ... فنخمل الدّهر مع الخامل
إنّ طلاب المرء ما قد خلا ... داء كمثل السّقم الدّاخل
وقال النابغة الذّبياني، واسمه زياد: (4)
لا خير في عزم بغير رويّة ... والشّكّ وهن إن أردت سراحا
فاستبق ودّك للصدّيق ولا تكن ... قتبا يعضّ بغارب ملحاحا (5)
صفنا يدخّل (6) تحته أحلاسه ... شدّ البطان فما يريد براحا
والرّفق يمن والأناة سعادة ... فاستأن في رفق تلاق نجاحا
واليأس ممّا فات يعقب راحة ... ولربّ مطعمة تكون ذباحا (7)
__________
(1) فى الأصل: «لا يحزننك» بحذف الفاء.
(2) فى الأصلين «بن الحقيق» وهو خطأ.
والربيع هذا يهودي من شعراء بنى قريظة، له ترجمة في الأغاني (ج 21ص 6261).
(3) قال فى اللسان: «لط الغريم بالحق دون الباطل وألط، والأولى أجود: دافع ومنع الحق».
(4) فى ديوانه (ص 9897) من هذه الأبيات البيتان الثانى والخامس فقط ضمن خمسة أبيات وفى شعراء الجاهلية (ص 721) الثاني والرابع والخامس ضمن ستة أبيات. والثانى فى حماسة البحترى (ص 72) وكذلك الخامس (ص 165)
(5) القتب: رحل صغير على قدر السنام، وفى أساس البلاغة: «من المجاز قولهم للملح: هو قتب يعض بالغارب «وقتب ملحاح» ثم ساق هذا البيت شاهدا لذلك.
(6) فى الأصل «ضغنا» ولم نجد ما يصحح رواية البيت، فأصلحناه كما ترى، ولعل الصواب غيره.
(7) الذباح بضم الذال: نبات من السم، وفى سائر الروايات التى ذكرنا للبيت «تعود ذباحا» وما هنا موافق لما في لسان العرب (ج 3ص 265).(1/390)
وقال رجل من هذيل:
فبعض الأمر أصلحه ببعض ... فإنّ الغثّ يحمله السّمين
ولا تعجل بظنّك قبل خبر ... فعند الخبر تنقطع الظّنون
ترى بين الرّجال العين فضلا (1) ... وفيما أضمروا الفضل المبين
كلون الماء مشتبها وليست ... تخبّر عن مذاقته العيون
وقال ضرار بن عتيبة العبشميّ (2):
أحبّ الشّيء ثمّ أصدّ عنه ... مخافة أن يكون به مقال
أحاذر أن يقال لنا فنخزى ... ونعلم ما تسبّ به الرّجال
وقال آخر:
ما ذاق روح الغنى من لا قنوع له ... ولن ترى قانعا ما عاش مفتقرا
العرف من يأته يعرف عواقبه ... ما ضاع عرف ولو أوليته حجرا
وقال حضرميّ بن عامر الأسديّ (3):
لقد جعل الرّكّ الضّعيف يسيلني ... لديك ويشريك القليل فتغلق (4)
وقد جعلت تبدو العداوة بيننا ... حديثا وأسباب المودّة تخلق (5)
__________
(1) فى ح «العير» بدل «العين» وهو خطأ.
(2) لم أجد ذكرا لهذا الشاعر ولا لهذين البيتين فى شىء من الكتب. وهما أيضا لم يذكرا فى ح.
(3) هذه الأبيات لم تذكر فى ح. وحضرمى له شعر وأخبار في البيان والأمالى وحماسة البحترى.
(4) الرك: المطر الضعيف، وكذلك كتب بحاشية الأصل. وهو بكسر الراء. قال فى لسان العرب (ج 12ص 166) فى شرح هذا البيت: «يقول: إذا أتاك عنى شىء قليل غضبت، وأنا كذلك، فمتى تتفق؟ قال أبو منصور: معنى قوله: يسيلنى اليك: أى يغضبنى فيغرينى بك، ويشريك أى يغضبك فتغلق، أى تغضب وتحتد علي». وفى الأصل «يشيلنى» بالشين المعجمة، وهو تصحيف، صوابه بالمهملة كما فى اللسان.
(5) أي: تبلى، وبابه: كرم وفرح ولصر
لعلّك يوما أن تودّ لو انّني ... قريب ودوني من ملا الأرض مخفق (1)
وتنظر في أسرار كفّك هل ترى ... لنا خلفا ممّا تفيد وتنفق (2)
وقال أفنون، واسمه صريم بن معشر التّغلبي (3):(1/391)
__________
(5) أي: تبلى، وبابه: كرم وفرح ولصر
لعلّك يوما أن تودّ لو انّني ... قريب ودوني من ملا الأرض مخفق (1)
وتنظر في أسرار كفّك هل ترى ... لنا خلفا ممّا تفيد وتنفق (2)
وقال أفنون، واسمه صريم بن معشر التّغلبي (3):
ولا خير فيما يكذب المرء نفسه (4) ... وتقواله للشّيء: ياليت ذاليا!
لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتّقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا
وقال آخر:
مقالة السّوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر السّائل
ومن دعا النّاس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل
فلا تهج إن كنت ذا إربة * حرب أخي التّجربة العاقل إنّ أخا العقل إذا هجته ... هجت به ذا خبل خابل (5)
تبصر في عاجل شدّاته (6) ... عليك غبّ الضّرر الآجل (7)
وقال آخر (8):
صديقك حين تستغني كثير ... ومالك عند فقرك من صديق
(1) المخفق: الأرض التى تستوى فيكون فيها السراب مضطربا. قاله فى اللسان عن الأصمعي.
فالمراد الفلاة الواسعة التي يخفق فيها السراب. والملا بالقصر: ما اتسع من الأرض. وفى الأصل «ملأ» بالهمز، وهو خطأ.
(2) أسرار الكف: خطوط باطنه، جمع «سر» بضم السين وكسرها. وفى الأصل «كفيك» بالتثنية، وهو خطأ يختل به الوزن.
(3) له ترجمة فى الشعراء لابن قتيبة (ص 249248) وذكر البيت الثاني ضمن أبيات أربعة. والبيتان مذكوران فى شعراء الجاهلية (ص 193192) ضمن أبيات سبعة. وكذلك فى حماسة البحترى (ص 164163). وهذان البيتان لم يذكرا فى ح
(4) فى الأصل «لا خير مما يكذب» وهو خطا.
(5) الخبل: بفتح الباء، ويجوز إسكانها، ولكن هنا الوزن يقضى بالفتح. وقالوا: خبل خابل: يذهبون الى المبالغة. كما فى اللسان.
(6) فى اللسان: «شد فلان على العدو شدة واحدة، وشد شدات كثيرة»
(7) فى الأصلين «غب الضر والآجل» وهو خطأ واضح.
(8) هذان البيتان لم يذكرا فى ح.
فلا تغضب على أحد إذا ما ... طوى عنك الزّيارة عند ضيق
وقال آخر: (1)
ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدر وأبعدها إذا لم تقدر
فسل اللّبيب تكن لبيبا مثله ... من يسع في علم بلبّ يمهر (2)
وتدبّر الأمر الّذي تعنى به ... لاخير في عمل بغير تدبّر
ولقد يجدّ المرء وهو مقصّر ... ويخيب جدّ المرء غير مقصّر
أنشد أبو حاتم: (3)
إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق بما به الصّدر الرّحيب
وأو ظنت المكاره واطمأنّت ... وأرست في مكامنها الخطوب
ولم تر لا نكشاف الضّرّوجها ... ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث ... يمنّ به القريب المستجيب (4)
وكلّ الحادثات وإن تناهت ... فمقرون بها فرج قريب (5)
وقال حضرميّ بن عامر الأسديّ: (6)(1/392)
__________
(8) هذان البيتان لم يذكرا فى ح.
فلا تغضب على أحد إذا ما ... طوى عنك الزّيارة عند ضيق
وقال آخر: (1)
ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدر وأبعدها إذا لم تقدر
فسل اللّبيب تكن لبيبا مثله ... من يسع في علم بلبّ يمهر (2)
وتدبّر الأمر الّذي تعنى به ... لاخير في عمل بغير تدبّر
ولقد يجدّ المرء وهو مقصّر ... ويخيب جدّ المرء غير مقصّر
أنشد أبو حاتم: (3)
إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق بما به الصّدر الرّحيب
وأو ظنت المكاره واطمأنّت ... وأرست في مكامنها الخطوب
ولم تر لا نكشاف الضّرّوجها ... ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث ... يمنّ به القريب المستجيب (4)
وكلّ الحادثات وإن تناهت ... فمقرون بها فرج قريب (5)
وقال حضرميّ بن عامر الأسديّ: (6)
(1) هذه الأبيات لم تذكر فى ح.
(2) مهر: من باب نفع.
(3) هذه الأبيات فى الأمالي (ج 2ص 304303)
(4) فى الأصلين «تمن» وهو خطأ. وفى الأمالى «اللطيف» بدل «القريب»
(5) فى الأمالى «الفرج القريب».
(6) هذا البيتان.
لم يذكرا فى ح. وقد رواهما البحتري فى الحماسة (ص 249) بلفظ:
ولقد لبستكم على شحنائكم ... وعرفت ما فيكم من الأوصاب
كيما أعدّكم لأبعد منكم ... إنّي ينازعني ذوو الأحساب
والرواية التى هنا توافق رواية لسان العرب (ج 1ص 372) والبيت الأول فيه أيضا (ج 13 ص 69).(1/393)
ولقد طويتكم على بللاتكم ... وعرفت ما فيكم من الأذراب (1)
كيما أعدّكم لا بعد منكم ... ولقد يجاء إلى ذوي الأحساب (2)
قرأت على حائط مسجد بديار بكر سنة خمس وستين وخمس مائة:
صن النّفس وابذل كلّ شيء ملكته ... فإنّ ابتذال المال للعرض أصون
ولا تطلقن منك اللّسان بسوءة ... ففي النّاس سوءات وللنّاس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايبا ... لقوم فقل: يا عين للنّاس أعين
ونفسك إن هانت عليك فإنّها ... على كلّ من تلقى أذلّ وأهون
وقال أبو فراس بن حمدان (3):
ما كنت مذ كنت إلّا طوع خلّاني ... ليست مؤاخذة الخلّان من شاني (4)
يجني الصّديق فأستحلي جنايته ... حتّى أدلّ على عفوي وإحساني (5)
ويتبع الذّنب ذنبا حين يعرفني ... عمدا فاتبع غفرانا بغفران
يجني عليّ فأحنوا صافحا أبدا ... لا شيء أحسن من حان على جان
__________
(1) «بللاتكم» بضم الباء واللام، ويجوز أيضا فتح الباء مع فتح اللام أو ضمها، وفى الأصل «مللائكم» بالميم، وهو خطأ. قال فى اللسان (ج 1ص 373): «وقوله: ولقد طويتكم على بللاتكم: أي طويتكم على ما فيكم من أذى وعداوة، ويللات بضم اللام: جمع بللة بضم اللام أيضا. قال: ومنهم من برويه: على بللاتكم بفتح اللام، الواحدة بللة أيضا بفتح اللام. وقيل فى قوله: على بللاتكم: إنه يضرب مثلا لا بقاء المودة وإخفاء ما أظهروه من جفائهم، فيكون مثل قولهم: اطو الثوب على غره بفتح الغين وكسر الراء لينضم بعضه إلى بعض ولا يتباين، ومنه قولهم أيضا: اطو السقاء على بلله، لأنه إذا طوي وهو جاف تكسر، وإذا طوى على بلله لم يتكسر ولم يتباين». وقوله «الأذراب» جمع «ذرب» بفتح الذال والراء، وهو فساد اللسان وبذاؤه، وفى لسانه ذرب: أي فحش.
(2) فى رواية اللسان «إلى ذوي الألباب».
(3) ديوانه (ص 126 طبعة بيروت سنة 1910)
(4) كذا في الديوان والأصلين «مؤاخذة» ولو قرئت «مواجدة» بمعنى مغاضبة لكان أبلغ واعلى.
(5) فى الديوان «يجنى الخليل».(1/394)
ومن محاسن المديح (1)
قال امرؤ القيس بن حجر:
وتعرف فيه من أبيه شمائلا ... ومن خاله ومن يزيد ومن حجر
سماحة ذا وبرّ ذا ووفاء ذا ... ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر (2)
وقال زهير بن أبي سلمى:
أبي لابن سلمى خلّتان اصطفاهما: ... قتال إذا يلقى العدوّ ونائل
تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنّك تعطيه الّذي أنت سائل (3)
وقال أيضا (4):
إذا جرفت مالي الجوارف مرّة ... تضمّن رسلا حاجتي ابن سنان
وحاجة غيري، إنّه ذو موارد ... وذو مصدر من نائل وبيان
يسنّ لقومي من عطائي سنّة ... فإن قومي اعتلّوا عليّ كفاني (5)
وقال الحطيئة (6):
أتت آل شمّاس بن لأي وإنّما ... أتاهم بها الأحلام والحسب العدّ (7)
فإنّ الشّقيّ من تعادي صدورهم ... وذو الجدّ من لانوا إليه ومن ودّوا
يسوسون أحلاما بعيدا أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والحقد (8)
__________
(1) العنوان سقط من ح وكذا البيتان بعده.
(2) صحا: رسمت فى الأصل «صحى» بالياء.
والبيتان من قصيدة طويلة فى ديوانه (ص 6057) بشرح السندوبى طبعة المكتبة التجارية سنة 1349).
(3) البيت الأول ليس في ديوان زهير، والثانى فى ديوانه (ص 31بشرح الأعلم طبعة الخانجى سنة 1323) من قصيدة طويلة (ص 3324) ولكن فى آخره هاء ساكنة بعد اللام: «أنت سائله» وهو المعروف المحفوظ.
(4) من هنا إلى آخر قوله «حتى حسبتهم أهلى» فى (ص 366) سقط من ح.
(5) هذه الأبيات ليست في ديوان زهير.
(6) من قصيدة فى ديوانه (ص 2119)
(7) العد: الكثير أو القديم.
(8) في الديوان «الحفيظة والجد» وما هنا أصح.(1/395)
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم * من اللّوم، أو سدّوا المكان الّذي سدّوا أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى (1) ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا
وإن كانت النّعماء فيهم جزوا بها (2) ... وإن أنعموا لا كدّروها ولا كدّوا
وإن قال مولاهم على جلّ حادث ... من الأمر: ردّوا بعض أحلامكم، ردّوا (3)
مغاوير أبطال مطاعيم في الدّجى (4) ... بنى لهم آباؤهم وبنى الجدّ (5)
وقال خلف بن خليفة (6):
عدلت إلى فخر العشيرة والهوى ... إليهم، وفي تعداد مجدهم شغل
إلى هضبة من آل شيبان أشرفت ... لها الذّروة العلياء والكاهل العبل (7)
إلى النّفر البيض الّذين كأنّهم (8) ... صفائح يوم الرّوع أخلصها الصّقل
إلى معدن العزّ المؤيّد والنّدى ... هناك هناك الفضل والخلق الجزل
أحبّ بقاء القوم للنّاس إنّهم ... متى يظعنوا عن مصرهم ساعة يخلو (9)
عذاب على الأفواه ما لم يذقهم ... عدوّ، وبالأفواه أسماؤهم تحلو
__________
(1) بكسر الباء. مصدر «بنى»، وأصله «بناء» بالمد، وقصر المدود جائز كثير، ويجوز أن يكون جمع «بنية» بوزن «كسرة وكسر» ويجوز أيضا ضم الباء، جمع «بنية» بالضم، بوزن «ظلمة وظلم».
(2) جزوا: كتبت فى الأصل «جزو» بدون ألف
(3) فى الديوان «من الدهر ردوا فضل أحلامكم ردوا».
(4) في الديوان «مطاعين فى الهيجا مكاشيف للدحي».
(5) بنى: رسمت فى الأصل فى الموضعين «بنا» بالألف.
(6) فى الأصل «خليفة بن خلف» وهو خطأ، وكتب تصويبه بهامش الأصل. وخلف هذا هو مولى قيس بن ثعلبة، وهو شاعر إسلامى مجيد مقل، عاصر جريرا والفرزدق، ويعرف بالأقطع، لأنه قطعت يده فى سرقة اتهم بها. وله ترجمة فى الشعراء لابن قتيبة (ص 449448). وهذه القصيدة فى حماسة ابي تمام (ج 2ص 313311) شرح التبريزي (ج 4ص 140138).
(7) العبل: الضخم.
(8) فى الحماسة «الألاء» بدل «الذين».
(9) فى الحماسة «من مصرهم».
عليهم وقار الحلم حتّى كأنّما ... وليدهم من أجل هيبته كهل
إذا استجهلوا لم يعزب الحلم عنهم ... وإن آثروا أن يجهلوا عظم الجهل
هم الجبل الأعلى إذا ما تناكرت ... ملوك الرّجال أو تخاطرت البزل (1)
ألم تر أنّ القتل غال إذا رضوا ... وإن غضبوا في موطن رخص القتل
لنا منهم حصن حصين ومعقل ... إذا حرّك النّاس المخاوف والأزل (2)
لعمري لنعم الحيّ يدعو صريخهم ... إذا الجار والمأكول أرهقه الأكل
سعاة على أفناء بكر بن وائل ... وتبل أقاصي قومهم عندهم تبل (3)
إذا طلبوا ذحلا فلا الذّحل فائت ... وإن ظلموا أكفاءهم بطل الذّحل
مواعيدهم فعل إذا ما تكلّموا ... بتلك الّتي إن سمّيت وجب الفعل (4)
بحور تلاقيها بحور غزيرة ... إذا زخرت قيس وإخوتها ذهل
وقال آخر: (5)
بنو مطر يوم اللّقاء كأنّهم ... أسود لها في غيل خفّان أشبل (6)
بها ليل في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأوّلهم في الجاهليّة أوّل (7)
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
وهم يمنعون الجار حتّى كأنّما ... لجارهم بين السّماكين منزل
وقال كعب بن جعيل: (8)(1/396)
__________
(9) فى الحماسة «من مصرهم».
عليهم وقار الحلم حتّى كأنّما ... وليدهم من أجل هيبته كهل
إذا استجهلوا لم يعزب الحلم عنهم ... وإن آثروا أن يجهلوا عظم الجهل
هم الجبل الأعلى إذا ما تناكرت ... ملوك الرّجال أو تخاطرت البزل (1)
ألم تر أنّ القتل غال إذا رضوا ... وإن غضبوا في موطن رخص القتل
لنا منهم حصن حصين ومعقل ... إذا حرّك النّاس المخاوف والأزل (2)
لعمري لنعم الحيّ يدعو صريخهم ... إذا الجار والمأكول أرهقه الأكل
سعاة على أفناء بكر بن وائل ... وتبل أقاصي قومهم عندهم تبل (3)
إذا طلبوا ذحلا فلا الذّحل فائت ... وإن ظلموا أكفاءهم بطل الذّحل
مواعيدهم فعل إذا ما تكلّموا ... بتلك الّتي إن سمّيت وجب الفعل (4)
بحور تلاقيها بحور غزيرة ... إذا زخرت قيس وإخوتها ذهل
وقال آخر: (5)
بنو مطر يوم اللّقاء كأنّهم ... أسود لها في غيل خفّان أشبل (6)
بها ليل في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأوّلهم في الجاهليّة أوّل (7)
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
وهم يمنعون الجار حتّى كأنّما ... لجارهم بين السّماكين منزل
وقال كعب بن جعيل: (8)
(1) البزل: جمع بازل، وهو البعير الذى بلغ التاسعة من عمره.
(2) فى الحماسة «لنافيهم».
والازل: الضيق والشدة.
(3) النبل: الذحل والثأر. وفى الحماسة «لهم» بدل «عندهم».
(4) فى الاصل «بتلك الذي» وهو غلط. وقوله «بتلك» يريد به كلمة «تعم»، التى يعدون بها
(5) الابيات مضى منها ثلاثة فى (ص 265).
(6) فيما مضى «في بطن خفان».
(7) فيما مضى «لهاميم» بدل «بهاليل».
(8) الأبيات مضت فى (ص 257) مع بيت خامس، ولم ينسبها لشاعر معين.(1/397)
قوم إذا نزل الغريب بدارهم ... جعلوه ربّ صواهل وقيان
وإذا دعوتهم ليوم كريهة ... سدّوا شعاع الشّمس بالخرصان
لا ينكتون الأرض عند سؤالهم ... لتطلّب العلّات بالعيدان
بل يبسطون وجوههم فترى لها ... عند السّؤال كأحسن الألوان
وقال الحطيئة: (1)
جاورت آل مقلّد فحمدتهم ... إذ ليس كلّ أخي جوار يحمد (2)
أزمان من يرد الصّنيعة يصطنع ... فينا ومن يرد الزّهادة يزهد (3)
وقال طفيل الغنويّ: (4)
جزى الله عنّا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلّت
أبوا أن يملّونا ولو أنّ أمّنا ... تلاقي الّذي يلقون منّا لملّت
هم خلطونا بالنّفوس وأرفؤا ... إلى حجرات أدفأت وأكنّت
وقالوا: هلمّ الدّار حتّى تبيّنوا (5) ... وتنجلي الغمّاء عمّا تجلّت (6)
ومن بعد ما كنّا بسلمى وأهلها ... عبيدا وملّتنا البلاد وملّت (7)
وقال آخر:
نزلت على آل المهلّب شاتيا ... بعيدا عن الأوطان في زمن المحل
وما زال بي إكرامهم وافتقادهم (8) ... وبرّهم حتّى حسبتهم أهلي
__________
(1) فى الديوان (ص 79).
(2) في الاصل «إذ ليس كل أخ جواد» وهو خطأ.
(3) فى الديوان «أيام» بدل «أزمان».
(4) الأبيات الثلاثة الأولى مضت فى (ص 268 269) والثلاثة مع الرابع فى ديوانه (ص 5857) والخامس ليس فيه.
(5) في الديوان «وقالت: هلموا الدار».
(6) فى الديوان «العمياء» بدل «الغماء».
(7) فى الأصل «وملت» بفتح الميم، وهو خطأ.
(8) في الأصل «واقتفاؤهم» وهو خطأ.(1/398)
وقال آخر:
قوم إذا اقتحم العجاج حسبته (1) ... ليلا وخلت وجوههم أقمار
وإذا زناد الحرب أخمد نارها ... قدحوا بأطراف الأسنّة نارا
لا يسئلون أخاهم لعظيمة ... عدل الزّمان عليهم أو جارا
وقال آخر: (2)
لا يعدمنك المسلمون فإنّهم ... في ظلّ ملكك أدركوا ما أمّلوا
حصّنت بيضتهم وصنت حريمهم ... وحملت من أعبائهم ما استثقلوا
وقال آخر: (3)
نجوم سماء كلّما غاب كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى اللّيل حتّى نظّم الجزع ثاقبه
وأحسن الشيخ أبو عبد الله بن الخيّاط الدمشقي في ذكر الكواكب، في قصيدة مدح بها جدّي سديد الملك أبا الحسن عليّ بن مقلّد بن نصر بن منقذ الكنانيّ رحمه الله، فقال فيها:
سأصحب آمالي إلى ابن مقلّد ... بنجح وما ألوى الزّمان بصاحب
فما اشتطّت الآمال إلّا أباحها ... سماح عليّ حكمها في المذاهب
إذا كنت يوما آملا أملا له ... فكن واهبا كلّ المنى كلّ طالب
وإنّ امرءا أفضى إليك رجاؤه ... ولم ترجه الآمال إحدى العجائب
من القوم لو أنّ اللّيالي تزيّنت ... بأحسابهم لم تحتفل بالكواكب
__________
(1) فى الأصلين «حسبتهم» وهو خطأ ظاهر.
(2) البيتان لم يذكرا فى ح.
(3) كلمة «آخر» سقطت من ح. والبيتان ذكرهما الشريف المرتضى فى أماليه (ج 1ص 186) ضمن أربعة أبيات، ونسبها لأبى الطمحان القينى.(1/399)
وذكر الشيخ أبو محمد بن سنان الخفاجيّ رحمه الله (1) النّجوم في قصيدة له يرثي بها جدّي أبا المتوّج رحمه الله، يقول فيها:
برغمي نزلت بدار تقي ... م رهن ثراها وأحجارها
وكنت بعلياء مطروقة ... يضيم النّجوم سنا نارها
إذا نزلت بك فيها الرّكاب ... فقد أمنت شرّ أكوارها
ولو نزلت بك فيها العصاة ... طمّت صحائف أوزارها
210* وقد ورد من كلام النبوة في المدح ما يعجز عنه البلغاء قول النبى صلّى الله عليه وسلم للأنصار رضي الله عنهم: «أما إنّكم لتقلّون عند الطّمع، وتكثرون عند الفزع» (2).
211* وقوله عليه السّلام: «لو ولد أبو طالب النّاس كلّهم كانوا شجعانا» (3).
ومن بليغ التشبيه
قول امرىء القيس بن حجر:
(4)
وقلت لفتيان كرام: ألا انزلوا ... فعالوا علينا فضل ثوب مطنّب (5)
__________
(1) الخفاجي هذا هو مؤلف كتاب (سر الفصاحة)، وهذه الأبيات من قصيدة له اختار بعضها محمود سامى البارودي باشا فى مختاراته (ج 3ص 419418) وقال: «يرثي مخلص الدولة أبا المتوج مقلد بن نصر بن منقذ وتوفى فى سنة 450» ولم يذكر ما هنا، فكلاهما يكمل الآخر.
(2) لم أجده في شىء من كتب الحديث. وقد نقله المبرد فى أول للكامل وشرحه، ونقله أيضا الزمخشري في الفائق وجعله فى بنى عبد الأشهل، وهم من الأنصار. وفى معناه حديث آخر:
أن النبى صلّى الله عليه وسلم قال لأبي طلحة الأنصارى: «اقرا قومك السلام، فانهم أعفة صبر».
رواه الطيالتي فى مسنده (رقم 2049) وأحمد فى المسند (12548ج 3ص 150) والترمذى (ج 2ص 324) وقال «حديث حسن غريب» وفي بعض النسخ «حديث حسن صحيح».
(3) لم أجده أيضا، وأكاد أجزم أنه لا أصل له، وأنه ليس من كلام النبوة.
(4) من قصيدة فى ديوانه (ص 20).
(5) عالوا: بالعين المهملة، أي رفعوا. ومطنب مشدود بالحبال.
وأوتاده مازيّة وعماده ... ردينيّة فيها أسنّة قعضب (1)
وأطنابه أشطان خوص نجائب ... وصهوته من أتحميّ مشرعب (2)
كأنّ عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الّذي لم يثقّب (3)
نمشّ بأعراف الجياد أكفّنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مهضّب (4)
وقول امرئ القيس أيضا: (5)
كأنّي بفتخاء الجناحين لقوة ... صيود من العقبان طأطأت شملالي
كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالي
وقول عنترة بن شدّاد العبسي: (6)
وخلا الذّباب بها فليس ببارح ... غردا كفعل الشّارب المترنّم
هزجا يحكّ ذراعه بذراعه ... قدح المكبّ على الزّناد الأجذم
وقول عنترة أيضا (7):(1/400)
__________
(5) عالوا: بالعين المهملة، أي رفعوا. ومطنب مشدود بالحبال.
وأوتاده مازيّة وعماده ... ردينيّة فيها أسنّة قعضب (1)
وأطنابه أشطان خوص نجائب ... وصهوته من أتحميّ مشرعب (2)
كأنّ عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الّذي لم يثقّب (3)
نمشّ بأعراف الجياد أكفّنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مهضّب (4)
وقول امرئ القيس أيضا: (5)
كأنّي بفتخاء الجناحين لقوة ... صيود من العقبان طأطأت شملالي
كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالي
وقول عنترة بن شدّاد العبسي: (6)
وخلا الذّباب بها فليس ببارح ... غردا كفعل الشّارب المترنّم
هزجا يحكّ ذراعه بذراعه ... قدح المكبّ على الزّناد الأجذم
وقول عنترة أيضا (7):
يدعون: عنتر، والرّماح كأنّها ... أشطان بئر في لبان الأدهم (8)
ما زلت أرميهم بغرّة وجهه (9) ... ولبانه حتّى تسربل بالدّم
(1) مازية: بالزاي، وهى الدروع البيض، وفي الأصل بالدال المهملة بدل الزاي، وفى ح بالذال المعجمة، وكلاهما تصحيف. وقعضب: اسم رجل تنسب اليه الأسنة، كان يصنعها.
(2) الأطناب والأشطان: الحبال التى تشد الى الأوتاد. وخوص نجائب: أى نوق غوائر العيون.
والصهوة: الظهر. والأتحمى: المر. والمشرعب: المصنف.
(3) هذا البيت فى الديوان ليس من هذه القصيدة، بل من قصيدة أخرى (ص 27) لعلقمة الفحل، ويروى البيت لامرىء القيس كما قال الأستاذ السندوبى.
(4) نمش: أي نمسح، والمهضب الذي لم يبلغ حد النضج.
(5) فى ح «وقوله أيضا». وهذان فى الديوان من قصيدة طويلة (ص 112).
(6) فى الأصل «قول» بدون الواو. والبيتان من قصيدة فى ديوانه (ص 123طبعة المكتبة التجارية) بلفظ آخر.
(7) فى ح «وقال أيضا» والبيتان فى الديوان فى نفس القصيدة السابقة (ص 128).
(8) اللبان: بفتح اللام، وهو الصدر، أو ما جرى عليه اللبب من الفرس.
(9) فى الديوان «بثغرة نحره» والثغرة: بضم الثاء المثلثة، هو نقرة النحر.(1/401)
وقال الحطيئة واسمه جرول: (1)
كأنّ هويّ الرّيح بين فروجها ... تجاوب أظآر على ربع ردي (2)
ترى بين لحييها إذا ما تزغّمت ... لغاما كبيت العنكبوت الممدّد (3)
ووصف أبو العلاء بن سليمان المعرّي التنوخي اللّغام فقال: (4)
ولقد ذكرتك يا أمامة بعد ما ... نزل الدّليل إلى التّراب يسوفه (5)
والعيس تعلن بالحنين إليكم ... ولغامها كالبرس طار نديفه (6)
ومن بليغ ما وصف به مشى النساء
(7)
قول امرىء القيس: (8)
وإذ هي تمشي كمشي النّزيف ... يصرعه بالكثيب البهر (9)
برهرهة رخصة رودة ... كخرعوبة البانة المنفطر (10)
وقول الأعشى ميمون بن قيس: (11)
__________
(1) هما من قصيدة فى ديوانه (ص 23)
(2) قال أبو سعيد السكري فى شرح الديوان:
«شبه صوت الريح بين فروجها لسرعتها بحنين أينق يتجاوبن على ولد هالك».
(3) نزغمت: بالزاى والغين المعجمتين، وفى الأصل بالراء. والتزغم صوت ضعيف وحنين.
خفى، ولغام البعير بضم اللام: زبده، وهو منه بمنزلة البزاق أو اللعاب من الانسان.
(4) البيتان من قطعة له في سقط الزند (ص 95متن وج 2ص 38بشرح التنوير)
(5) ساف الدليل التراب يسوفه: اذا شمه ليعلم أعلى قصد هو أم على غير قصد، يستدل بروايح أبوال الابل وأبعارها على قارعة الطريق. قاله الشارح.
(6) العيس: الابل. والبرس بكسر الباء: القطن.
(7) من هنا الى آخر بيتى الشنفرى فى (ص 372) لم يذكر فى ح.
(8) من قصيدة فى الديوان (ص 53)
(9) النزيف: السكران المنزوف العقل. والبهر:
الكلال وانقطاع النفس.
(10) البرهرهة بفتح الباء: الرقيقة الجلد الملساء المترجرجة، وقيل: المرأة القاهرة لبعلها، والرخصة بفتح الراء: الناعمة. والرودة: بضم الراء: الشابة والخرعوبة. الغضة. والبانة: قضيب البان والمنفطر: الماشق.
(11) ديوانه (ص 42طبعة فينا).(1/402)
غرّاء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوجل
كأنّ مشيتها من بيت جارتها ... مرّ السّحابة: لا ريث ولا عجل (1)
وقول الآخر:
يمشين مشي قطا البطاح تأوّدا ... قبّ البطون رواجح الأطفال (2)
وكأّنّ إذا أردن زيارة ... بزل الجمال دلجن بالأحمال (3)
وقول الآخر:
مالك لا تطرق أو تزور ... بيضاء بين حاجبيها نور
تمشي كما يطّرد الغدير
ومن بليغ ما وصفوا به الخفر
قول امرىء القيس (4):
قطيع الكلام فتور القيام ... تفترّ عن ذي غروب خصر (5)
كأنّ المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر القطر (6)
يعلّ به برد أنيابها ... إذا غرّد الطّائر المستحر (7)
__________
(1) فى الأصل «مشى السحابة» والصواب «مر السحابة»
(2) التؤد: التئنى. قب البطون: ضامرتها.
(3) بزل الجمال: جمع بزول، وهو البير إذا استكمل السنة الثامنة وطعن فى التاسعة وانشق نابه. ودلج بحمله: أي نهض به متثاقلا. وفي حاشية الأصل «دلج بحمله:
إذا تأخر عليه». وهو معنى مقارب.
(4) من القصيدة السابقة فى ديوانه (ص 53).
والبيتان الأخيران فى حماسة ابن الشجرى (ص 192).
(5) قطيع الكلام: قليلته. وفتور القيام: متراخية، وذو الغروب، والثغر الحسن الأسنان، والخصر: العذب البارد. وقد ضبط فى الأصل «قطيع» و «فتور» بالجر، وهو خطأ لا وجه له.
(6) القطر: ربح العود الذى يتبخر به.
(7) فى الديوان «طرب» بدل «غرد» وما هنا موافق لابن الشجرى. والمستحر:
الذي يغرد فى السحر.(1/403)
وقول الشّنفرى (1).
ويعجبني أن لا سقوط خمارها ... إذا ما مشت ولا بذات تلفّت (2)
كأنّ لها في الأرض نسيا تقصّه ... إذا ما مشت وإن تكلّمك تبلت (3)
وقول عبد الله بن الدّمينة (4):
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب (5)
ولم يعتذر عذر البريء ولم يزل ... به سكتة حتّى يقال: مريب
وقول كثيّر بن عبد الرحمن في ذكر النار (6):
__________
(1) البيتان من قصيدة جيدة له، رواها المفضل الضبى فى المفضليات (ج 1ص 4341طبعة التقدم سنة 1324) وهي فى شرح الأنبارى (ص 207194) وروى بعضها صاحب الأغانى (ج 21 ص 9190).
(2) الشطر الأول من البيت فى رواية الضبى: «لقد أعجبتني لا سقوطا قناعها». وفي رواية الأغاني: «فقد أعجبتني لا سقوط» قال الأنباري:
«يقول: لا تسرع المشى فيسقط قناعها، ولا تكثر التلفت، فانه من فعل أهل الريبة، أى ليست كذلك. ويقال: لا يسقط قناعها لشدة خفرها وحيائها».
(3) فى هذا البيت روايات كثيرة، وما هنا موافق لرواية الأغانى، إلا أنه قال «تحدثك» بدل «تكلمك». وقال: «النسي الذي يسقط من الانسان وهو لا يدري أين هو، يصفها بالحياء وانها لا تلتفت يمينا ولا شمالا تبر جاء ويروى:
«نقصّه على أمّها وإن تكلّمك». وهذه إشارة إلى رواية الضبي، وهى بهذا اللفظ. وقال الأنباري في شرحه: «البليت يعنى بفتح الباء وكسر اللام: الذى إذا تكلم بكلام فصل وأوجز» يقول: كأنها من شدة حيائها إذا مشت تطلب شيئا ضاع منها: لا ترفع رأسها ولا تلتفت. وتبلت بفتح اللام.: تنقطع فى كلامها لا تطيله. وأمها: قصدها الذي تبرده. ويروى: تخاطبك.
وتبلت يعنى بكسر اللام: تفصل». وروايتا لسان العرب نحو رواية الضبى (ج 2ص 315 وج 25ص 196) إلا أنه ضبط فى الأولى «أمها» بضم الهمزة، وهو خطأ مطبعى، والصواب فتحها. وقال فى شرح «تبلت»: قال ابن برى: بلت بالفتح: إذا قطع، وبلت بالكسر:
إذا سكن».
(4) البيتان فى ديوانه (ص 12) من قصيدة طويلة (ص 147).
(5) «عرضوا» ضبط فى الأصل بتشديد الراء وهو خطأ
(6) هو كثير عزة. والبيتان من قصيدة فى ديوانه (ج 1ص 95) والأول فى الأمالى (ج 2ص 205).(1/404)
لعزّة نار ما تبوخ كأنّها ... إذا ما رمقناها من البعد كوكب (1)
تعجّب أصحابي لها ولضوئها ... وللمصطليها آخر اللّيل أعجب
ثم عكس هذا التشبيه فقال (2):
وكيف سلوّي عن هواها وكلّما ... تألّق نجم قلت: هاتيك نارها!
ومن بليغ ما قيل فى الشيب
قول الشاعر:
ياللّيالي، قد فعلن بلمّتي ... عجبا! ومن أفعالها يتعجّب
كتبت بأبيض في سواد وإنّما ... عهدي بأسود في بياض يكتب (3)
وقال الآخر (4):
عرض المشيب بعارضيّ فأعرضوا ... وتقوّضت خيم الشّباب فقوّضوا
فكأنّ في اللّيل البهيم تبسّطوا ... خفرا وفي الصّبح المنير تقبّضوا
ولقد رأيت فهل سمعت بمثله ... بينا غراب البين فيه أبيض؟!
وقال الأفوه الأوديّ (5):
__________
(1) تبوخ: أى تخمد وتسكن.
(2) لم أجد هذا البيت فى ديوانه ولا في غيره.
(3) فى «سواد» بدون تنوين رعاية للوزن، وضبط فى الأصل بالتنوين وبه ينكسر البيت. وقوله «بأسود فى بياض» هكذا فى الأصل، وهو الصواب، وفى ح «بأبيض فى سواد» وهو خطأ ظاهر البطلان»
(4) فى ح «وقول الآخر».
(5) اسمه صلاة بن عمرو. وله ترجمة فى الشعراء لابن قتيبة (ص 111110) والأغاني (ج 11ص 4341) ونقل عن الكلبى قال: «كان الأفوه من كبار الشعراء القدماء فى الجاهلية، وكان سيد قومه وقائدهم فى حروبهم، وكانوا يصدرون عن رأيه. والعرب تعده من حكمائها». والأبيات الآتية من قصيدة وصفها ابن قتيبة بأنها «من جيد شعر العرب» ولم أجدها كلها، ووجدت عند ابن قتيبة بينا زائداهما هنا فزدته، وفى حماسة البحتري (ص 152151) بيتين آخرين زدتهما أيضا، كما ترى. وانظر بعض هذه الأبيات وأبياتا أخرى من القصيدة فى لسان العرب (ج 11ص 127) وتهذيب الألفاظ لابن السكيت (ص 275) ومعاهد التنصيص (ص 541540) ونهاية الأرب (ج 3ص 64) ورسالة الغفران (ص 71) وزهر الآداب (ج 4ص 136). ولم تذكر الأبيات فى ح.(1/405)
إن تري رأسي فيه نزع ... وشواتي خلّة فيها دوار (1)
أصبحت من بعد لون واحد ... وهي لونان وفي ذاك اعتبار (2)
وصروف الدّهر في أطباقه ... خلفة فيها ارتفاع وانحدار (3)
[بينما النّاس على عليائها ... إذ هو وافي هوّة منها فغاروا] (4)
[ولياليه إلال للفتى ... دانيات تختليه وشفار] (5)
إنّما نعمة قوم متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار
[حتم الدّهر علينا أنّه ... ظلف ما نال منّا وجبار] (6)
وقال الآخر: (7)
يا من لشيخ قد تخدّد لحمه ... أبلى ثلاث عمائم ألوانا: (8)
__________
(1) في الأصل «إن يرى».
والنزع: انحسار مقدم شعر الرأس عن جانبي الجبهة. والشواة: جلدة الرأس، وفي الشعراء «وشواي» وما هنا أصح. و «خلة» بفتح الخاء: أى مهزولة قليلة اللحم، والدوار: ما يصيب رأس الانسان من الدوران.
(2) البيت لم يذكر فى الشعراء ولا فى الحماسة.
(3) فى الأصل «خلة» بدل «خلفة» وهو خطأ، صحخناه من الحماسة. والخلفة: اختلاف الليل والنهار، أي هذا خلف من هذا، يجيء هذا ويذهب هذا. وكل شىء يجيء بعد شىء فهو خلفة.
(4) هذا البيت والذي بعده زيادة من حماسة البحتري، ولكن وضع بينهما هناك قوله: «إنما نعمة قوم» البيت.
(5) إلال: جمع ألّ بفتح الهمزة وتشديد اللام وهي الحربة العظيمة النصل. وتختليه: أي تقطعه، وأصله قطع الخلا وهو الرطب من الحشيش. ومنه الحديث «لا يختلى خلاها» ثم قيل «إذا اختليت فى الحرب هام الأكابر» أى قطعت رؤسهم.
(6) هذا البيت زيادة من الشعراء لابن قتيبة. والظلف بفتح اللام: الباطل والهدر. وكذلك الجبار بمعناه.
(7) فى ح «وقول الآخر». والأبيات الثلاثة رواها البحترى فى الحماسة (ص 207) مع اختلاف فى بعض الألفاظ، ونسبها للنابغة الجعدى، ورواها العسكرى فى ديوان المعاني (ج 2ص 159) وزادها بيتا رابعا، ولم يسم قائلها. وانظر شرح المرصفي على كامل المبرد (ج 2ص 264) وعيون الأخبار (ج 2ص 325) وكتاب المعمرين (ص 82).
(8) تخدد بالخاء المعجمة أى اضطرب من الهزال، والمتخدد المهزول. وفي الأصلين «تجدد» بالجيم، وهو تصحيف.
سوداء حالكة وسحق مفوّف ... وأجدّ لونا بعد ذاك هجانا (1)
[قصر اللّيالي خطوه فتدانى ... وحنون قائم ظهره فتحانى] (2)
والموت يأتي بعد ذلك كلّه ... وكأنّ ما قد كان لم يك كانا (3)
وقال والدي مجد الدّين أبو سلامة مرشد بن عليّ بن مقلّد بن نصر بن منقذ رحمه الله:(1/406)
__________
(8) تخدد بالخاء المعجمة أى اضطرب من الهزال، والمتخدد المهزول. وفي الأصلين «تجدد» بالجيم، وهو تصحيف.
سوداء حالكة وسحق مفوّف ... وأجدّ لونا بعد ذاك هجانا (1)
[قصر اللّيالي خطوه فتدانى ... وحنون قائم ظهره فتحانى] (2)
والموت يأتي بعد ذلك كلّه ... وكأنّ ما قد كان لم يك كانا (3)
وقال والدي مجد الدّين أبو سلامة مرشد بن عليّ بن مقلّد بن نصر بن منقذ رحمه الله:
إنّ اللّيالي أنذرت بفراق من ... أهوى ووالت رسلهنّ حثاثا
ألبسنني من كلّ لون صبغة ... قسمت حياتي بينها أثلاثا:
لونا غدافيّا ولونا أشهبا ... أضحت حبال العيش منه رثاثا
وأتت بلون بعد ذلك ناصع ... عادت قواي لنقضه أنكاثا
إنّي لأحسد بعد طول تلهّف ... وتأسّف من يسكن الأجداثا
وعمرت فردا في الأنام فلا أرى ... إلّا امرءا عن هفوتي بحّاثا
وللشيخ أبي العلاء بن سليمان التّقدّم في هذا المعنى بقوله (4):
واها لرأسك زال أدهمه ... عنه وأشهبه وأرقطه
وأعاده مثل اللّجين مدى ... قد كان قبل به ينقّطه
بل ليت شعري حين يرتحل ال ... جون المودّع أين مسقطه؟!
(1) «وسحق مفوف»: السحق: الثوب الخلق البالى والمفوف: الذى فيه خطوط بيض.
يريد به اختلاط بياض الشيب بسواد الشعر. وفى الأصل «وحق مفوق» وصححناه من ح ومن الحماسة وديوان المعانى والهجان: الأبيض الخالص اللون.
(2) الزيادة من ديوان المعانى.
(3) الشطر الثاني في رواية البحترى والعسكري «وكأنّما يعنى بذاك سوانا».
قال العسكرى: «لا أعرف فى وصف الشيب من أول ما يبتدىء إلى أن ينتهى أحسن من هذا.
وقوله: «وكأنما يعنى بذاك سوانا، من أبلغ ما يكون من الموعظة».
(4) لم أجد هذا الشعر فى دواوين أبي العلاء المعري الثلاثة: اللزوميات وسقط الزند وضوء السقط.(1/407)
وقال عبد الله بن المعتز رحمه الله (1):
رقد الخليّ لأنّه خلو ... عمّن يؤرّق عينه الشّجو
وإذا المشيب رمى بوهنته ... وهت القوى وتقارب الخطو (2)
وإذا استحال بأهله زمن ... كثر القذى وتكدّر الصّفو
سبحان من يعصى بأنعمه ... فيكون منه السّتر والعفو
أنشدنا الهذيل وزير جوش بك أون به (3) صاحب الموصل بحصن شيزر سنة تسع وخمس مائة في دار والدي رحمه الله لبعض شعراء خراسان:
أقول ونوّار المشيب بعارضي ... قد افترّ لي عن لون أسود سالخ:
أشيبا وحاجات النّفوس كأنّما ... يجيش بها في الصّدر مرجل طابخ؟
وما كلّ همّي للمشيب وإن هوى ... بي المشّيب عن طود من العزّ باذخ
ولكن لقول النّاس: شيخ، وليس لي ... على نائبات الدّهر صبر المشايخ
وقال أبو هلال الأسديّ (4):
نزل المشيب فحلّ غير مدافع ... وعفا المشيب من الشّباب ديارا
وتجاورت خصل السّواد ومثلها ... لمع البياض على القرون جوارا
__________
(1) لم أجد هذا الشعر فى ديوان ابن المعتز.
(2) فى ح «هوت» بدل «وهت». وفى الأصلين «الهوى» بالهاء بدل «القوى» بالقاف. وهو خطأ واضح.
(3) هكذا ورد اسمه هنا فى الأصلين، وجاء فى تاريخ ابن خلدون (ج 5ص 5149) «حيوس بك» بالحاء المهملة ثم الياء المثناة ثم الواو وآخره سين مهملة، وجاء فى تاريخ ابن الأثير فى مواضع متعددة منها (ج 10 ص 227و 250و 257) وتاريخ أبى الفدأ (ج 2ص 232و 236) «جيوش بك» بالجيم وآخره شين معجمة، ويحتاج هذا إلى تحقيق.
(4) لم أجد ذكرا لشاعر يدعي «أبا هلال الأسدى» وإنما فى الأغاني شاعر اسمه «هلال بن عمرو الأسدى» (ج 21ص 157) فلا أدرى هل هو هذا أو غيره؟
وإذا هما اجتمعا هنالك حقبة ... ظعن السّواد عن البياض فسارا
قلت: ما رأيت أن أخلّي هذا الباب من شعر فى ذكر الشيب، فذكرت هذه الأبيات مختصرا، فإنني أفردت لذكر الشيب والكبر والشباب أيضا كتابا ترجمته بكتاب: (الشّيب والشباب) (1) اشتمل على كثير مما يتطلّع إليه من هذا النوع، فغنيت به عن الإطالة هاهنا. فمن وقف عليه (2) من الفضلاء عرف ما بينه وبين كتاب (الشهاب (3) فى ذكر الشيب والشباب) تأليف المرتضى رضي الله عنه، وعلم أن الفضل للمقدّم في البيان، لا في التّقدّم في الزمان(1/408)
__________
(4) لم أجد ذكرا لشاعر يدعي «أبا هلال الأسدى» وإنما فى الأغاني شاعر اسمه «هلال بن عمرو الأسدى» (ج 21ص 157) فلا أدرى هل هو هذا أو غيره؟
وإذا هما اجتمعا هنالك حقبة ... ظعن السّواد عن البياض فسارا
قلت: ما رأيت أن أخلّي هذا الباب من شعر فى ذكر الشيب، فذكرت هذه الأبيات مختصرا، فإنني أفردت لذكر الشيب والكبر والشباب أيضا كتابا ترجمته بكتاب: (الشّيب والشباب) (1) اشتمل على كثير مما يتطلّع إليه من هذا النوع، فغنيت به عن الإطالة هاهنا. فمن وقف عليه (2) من الفضلاء عرف ما بينه وبين كتاب (الشهاب (3) فى ذكر الشيب والشباب) تأليف المرتضى رضي الله عنه، وعلم أن الفضل للمقدّم في البيان، لا في التّقدّم في الزمان
ومن بليغ الاعتذار
روي: أن المازنى قال يوما لأصحابه: ما أحسن ما قيل فى الاعتذار؟
فأنشدوه ما حضرهم (4)، فقال: أحسن ما قيل في الاعتذار قول النابغة الذبياني:
سيري إليه فإمّا رحلة نفعت ... أو راحة القلب من همّ وتعذيب
فإن عفوت فعفو غير مؤتنف ... وإن قتلت فوتر غير مطلوب (5)
نسب المازنيّ هذين البيتين الى النابغة، وقد وقفت على عدة نسخ من شعر النابغة، فما رأيت هذين البيتين فيما دوّن من شعره (6).
وقال النابغة يعتذر الى النعمان (7):
(1) هذا الكتاب ذكره ياقوت فى معجم الأدباء (ج 2ص 182) وأن أسامة ألفه لأبيه.
(2) كلمة «عليه» سقطت من ح
(3) فى الأصلين «الشبهات» وهو خطأ. وهذا الكتاب طبع فى الجوائب سنة 1302، وأكثر ما فيه من الشعر لأبي تمام والبخترى وللشريفين الأخوين الرضى والمرتضى.
(4) فى الأصل «فانشدوه فاحضرهم» وهو خطأ ظاهر.
(5) الوتر: بكسر الواو وبفتحها لغتان، وهو الذحل والثأر.
(6) وكذلك ليسا فى ديوانه المطبوع.
(7) من قصيدة له طويلة فى ديوانه (ص 4237) وفى شعراء الجاهلية (ص 694688) مع اختلاف في الرواية وفي ترتيب الأبيات.(1/409)
وعيد أبي قابوس في غير كنهه ... أتاني ودوني راكس فالفوارع (1)
فبتّ كأنّي ساورتني ضئيلة ... من الرّقش في أنيابها السّمّ ناقع
وأخبرت خير النّاس أنّك لمتني ... وتلك الّتي تستكّ منها المسامع (2)
أتوعد عبدا لم يخنك أمانة ... وتترك عبدا ظالما وهو ظالع؟! (3)
حملت عليّ ذنبه وتركته ... كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع (4)
أتاك بقول لهله النّسج كاذب ... ولم يأتك الحقّ الّذي هو ساطع (5)
فإن كنت لا ذا الضّغن عنّي مكذّبا ... ولا حلفي على البراءة نافع (6)
ولا أنا مأمون بشىء أقوله ... وأنت بأمر لا محالة واقع
فإنّك كاللّيل الّذي هو مدركي ... وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع
وأنت ربيع ينعش النّاس سيبه ... وسيف أعيرته المنيّة قاطع (7)
أبى الله إلّا عدله ووفاءه ... فلا النّكر معروف ولا العرف ضائع
__________
(1) فى الشعراء والديوان «فالضواجع» وهى: مصاب الأودية، جمع «ضاجعة» والفوارع جمع فارعة وهي: أعلى الوادى. و «راكس» اسم واد.
(2) فى الديوان والشعراء «أتانى أبيت اللعن أنك لمتنى» الخ.
(3) فيهما أيضا «ويترك عبد ظالم» بالبناء للمفعول. والظالع: الجائر عن الحق. وفى رواية «ضالع» بالضاد كما فى الديوان، وهو الجائر المذنب.
(4) فى الديوان «تكلّفتنى ذنب امرىء وتركته» وكذلك نحوه فى الشعراء.
(5) قال فى اللسان (ج 17ص 435): «اللهله بالفتح: الثوب الردىء النسج يقال: لهله النساج الثوب أي هلهله، وهو مقلوب منه، وذكر البيت فى (ج 14ص 230) بلفظ «هلهل النسج» كما فى الشعراء والديوان ثم قال: «ويروى لهله». وفى الأصلين «التهج» بدل «النسج» وهو خلاف الرواية. وفى الديوان والشعراء: «ولم يأت بالحق الذى هو ناصع».
(6) هذا البيت سقط من ح. والشطر الأول فى الديوان والشعراء «فإن كنت لا ذو الضّغن عنّى مكذّب» وما هنا رواية أخرى، كما فى التعليقات على شعراء الجاهلية.
(7) السبب: العطاء.(1/410)
وقال أيضا يعتذر (1):
فداء لامرىء سارت إليه ... بعذرة ربّها عمّي وخالي (2)
فإن كنت امرءا قد سؤت ظنّا ... بعبدك والخطوب إلى تبال
فأرسل في بني ذبيان فاسأل ... ولا تعجل إليّ عن السّؤال
فلا عمر الّذي أثني عليه ... وما رفع الحجيج إلى إلال (3)
لما أغفلت شكرك فانتصحني ... وكيف ومن عطائك جلّ مالي؟
ولو كفيّ اليمين بغتك خونا ... لأفردت اليمين من الشّمال
وقال [أيضا] يعتذر الى النعمان (4):
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلّغت عنّي خيانة ... لمبلغك الواشي أغشّ وأكذب
ولكنّني كنت امرءا لي جانب ... من الأرض فيه مستراد ومطلب (5)
ملوك وإخوان إذا ما أتيتهم ... أحكّم في أموالهم وأقرّب
كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم ... فلم ترهم في مثل ذلك أذنبوا (6)
فلا تتركني بالوعيد كأنّني ... لدى النّاس مطليّ به القار أجرب (7)
أتاني أبيت اللّعن أنّك لمتني ... وتلك الّتي أهتمّ منها وأنصب
__________
(1) هذه الأبيات لم تذكر فى ح. وهي من قصيدة فى الديوان (ص 9291) وشعراء الجاهلية (ص 696695)
(2) فى الأصل «فداء لأمر» وهو خطأ. والعذارة بكسر العين وسكون الذال المعذرة.
(3) إلال بكسر الهمزة وتخفيف اللام الأولى: جبل عن يمين الامام بعرفة، قاله فى اللسان. وقوله «عمر» كتبت فى الأصل بواو بعد الراء، وهو خطأ
(4) الزيادة من ح.
وهذه الأبيات من قصيدة فى الديوان (ص 5756) وشعراء الجاهلية (ص 656655).
(5) فيهما: «مستراد ومذهب».
(6) فيهما: «فى شكر ذلك أذنبوا».
(7) فى الأصلين «مطليا» بالنصب، وهو لحن.
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث، أيّ الرّجال المهذّب؟!
فإن أك مظلوما فعبد ظلمته ... وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب (1)
وقول عليّ بن الجهم:(1/411)
__________
(7) فى الأصلين «مطليا» بالنصب، وهو لحن.
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث، أيّ الرّجال المهذّب؟!
فإن أك مظلوما فعبد ظلمته ... وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب (1)
وقول عليّ بن الجهم:
إنّ الّذين سعوا إليك بباطل ... أعداء نعمتك الّتي لا تجحد
شهدوا وغبنا عنهم فتحكّموا ... فينا، وليس كغائب من يشهد
لو يجمع الخصماء عندك مجلس ... يوما لبان لك الطّريق الأرشد
فالشّمس لولا أنّها محجوبة ... عن ناظريك لما أضاء الفرقد (2)
قال مؤلف الكتاب من قصيدة يعتذر فيها:
هبني أتيت بجهل ما قذفت به ... فأين فضلك والحلم الّذي عرفا؟
ولا ومن يعلم الأسرار حلفة من ... يبرّ فيما أتى إن قال أو حلفا
ما حدّثتني نفسي عند خلوتها ... بما تعنّفنى فيه إذا انكشفا
وقال أيضا في جواب عتاب (3) وصله من أخيه رحمه الله:
أبا حسن، وافى كتابك شاهرا ... صوارم عتب كلّ صفح لها حدّ
فقابلت بالعتبى مضيض عتابه ... ولم يتجهّمه الحجاج ولا الرّدّ (4)
وأعجبني عيّي لديه ولم أزل ... إذا لم تكن خصمي لي الحجج اللّدّ (5)
فياحبذّا ذنب إليّ نسبته ... وما خطأ منّي أتاه ولا عمد
(1) قال فى اللسان: «العتبى: الرضى، وأعتبه: أعطاه العتبى ورجع إلى مسرته». وضبط فى الأصل «يعتب» بفتح الياء وضم التاء، وهو خطأ.
(2) فى ح «والشمس».
(3) فى ح «عتب».
(4) المضيض: الحرقة، وقوله «ولم يتجهمه» أي لم يلقه بغلظة ووجه كريه، يقال «تجهمه وتحهم له». وفى الأصلين «يتهجمه» بتقديم الهاء على الجيم، وهو خطأ، ولا يصح معناه.
(5) فى ح «فأعجبني عبي إليه».
ولو كان ما بلّغته فظننته ... لكفّره حقّ الأخوّة والودّ
فأهلا بعتب تستريح ببثّه ... ويؤمنني أن يستمرّ بك الحقد
لقد راق في قلبي ولذّ سماعه ... بسمعي، فزدني من حديثك يا سعد(1/412)
__________
(5) فى ح «فأعجبني عبي إليه».
ولو كان ما بلّغته فظننته ... لكفّره حقّ الأخوّة والودّ
فأهلا بعتب تستريح ببثّه ... ويؤمنني أن يستمرّ بك الحقد
لقد راق في قلبي ولذّ سماعه ... بسمعي، فزدني من حديثك يا سعد
ومن بليغ العتاب
قول المقنّع الكنديّ (1):
يعاتبني في الدّين قومي، وإنّما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا (2)
أسدّ بها ما قد أخلّوا وضيّعوا ... ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدّا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس يسود القوم من يحمل الحقدا
لهم جلّ مالي إن نتابع لي غنى ... وإن قلّ مالي لم أكلّفهم رفدا
وإنّي لعبد الضّيف مادام ثاويا ... وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
وقال الأسيديّ (3):
إني ليمنعني من ظلم ذي رحم ... لبّ أصيل وحلم غير ذي وصم
إن لان لنت وإن دبّت عقاربه ... ملأت كفّيه من صفح ومن كرم
وقال عطيّة بن العيسر بن محزر: (4)
(1) هذه الأبيات من قصيدة ذكرت مطولة ومختصرة مع اختلاف فى الترتيب، منها فى الشعراء لابن قتيبة (ص 463) وروضة العقلاء لابن حبان (ص 151150) وعيون الأخبار (ج 1 ص 226) وحماسة أبى تمام (ج 2ص 3230متن وج 3ص 101100شرح) وحماسة البحترى (ص 240) والأمالى (ج 1ص 281280) والأغاني (ج 15ص 154150) والصداقة لأبى حيان (ص 117116).
(2) فى ح «الذنب» بدل «الدين» و «ذنوبى» بدل «ديونى» وهو تصحيف قبيح.
(3) البيتان ذكرهما أبو حيان فى الصداقة (ص 109) والاشبيلى فى الذخائر والاعلاق (ص 140) مع بعض خلاف ولم يسميا قائلهما
(4) هكذا ذكر اسم الشاعر فى الأصل، ولم أجده ولا وصلت إلى تحقيق صحته. وهذا الشعر لم يذكر فى ح.(1/413)
ومولى كداء السّوء لاخير عنده ... ولا شرّ إلّا ما أصاب الأدانيا
عديم من الأخلاق إلّا أدقّها ... وألأمها يزجي إليّ الدّواهيا
ألا قد أرى والله أن لست فاعلا ... كفعلي ولا تبلي كمثل بلائيا
ولست بأن ناوأت قوما بناصري ... عليهم، ولا إن قلّ مالي مواسيا
وقال المبرّد:
وإنّي للبّاس على المقت والأذى ... بني العمّ منهم كاشح وحسود
أذبّ وأرمي بالحصى من ورائهم ... وأبدأ بالحسنى لهم وأعود (1)
وقال ثابت قطنة: (2)
تعفّفت عن شتم العشيرة إنّني ... وجدت أبي قد عفّ عن شتمهم قبلي
حليم إذا ما الحلم كان مروءة ... وأجهل أحيانا إذا التمسوا جهلي
وقال عمرو بن لبيد الرّياحيّ: (3)
أبلغ إهابا كلّها وأهيبها ... وشرّ صديق المرء من لا يعاتبه
إهاب وأهيب: ابنا رياح، وهما حيّان.
فما تركت أحلامكم من صديقكم ... لكم من أخ إلّا قد ازورّ جانبه
وقال أبو الشّعر الضّبّيّ:
قل لمولاي الّذي لا شرّه ... كفّ بالأمس ولا الودّ بذل:
إنّ للدّهر خطوبا جمّة ... ذات إبرام ونقض لو عقل
__________
(1) بالحصا: رسم فى الأصل بالألف، وهو خطأ، لأنه يأتي.
(2) البيتان في الأغاني (ج 13ص 54) مع بعض اختلاف، وذكر سبب ذلك عن أبي عبيدة قال: «عتب ثابت قطنة على قومه من الأزد فى حال استنصروا به فيها فلم ينصرهم» كذا فى الأغاني، ولعل صحته: أنه استنصر بهم فلم ينصروه، حتى يصح عتبه عليهم.
(3) البيتان لم يذكرا في ح. وهذا الشاعر لم أجده. والبيت الثاني سيأتى (فى ص 385) فى قصيدة منسوبة لأبى العباس الأعمى.
ليس مولاك الّذي يأبى النّدى ... وإذا ما هزّ للنّصر خذل
إنّما مولاك من ترمي به ... من ترامي حين يشتدّ الوهل
والّذي إن خضت يوما غمرة ... خاضها إن ناكل عنك نكل
خذلوني أن ألمّت عثرة ... واتّقوني بمعاذير العلل (1)
وقال عبد الله بن المعتزّ (2):(1/414)
__________
(3) البيتان لم يذكرا في ح. وهذا الشاعر لم أجده. والبيت الثاني سيأتى (فى ص 385) فى قصيدة منسوبة لأبى العباس الأعمى.
ليس مولاك الّذي يأبى النّدى ... وإذا ما هزّ للنّصر خذل
إنّما مولاك من ترمي به ... من ترامي حين يشتدّ الوهل
والّذي إن خضت يوما غمرة ... خاضها إن ناكل عنك نكل
خذلوني أن ألمّت عثرة ... واتّقوني بمعاذير العلل (1)
وقال عبد الله بن المعتزّ (2):
يا نازحا أحرجت من ذكره ... قد ذاق قلبي منك ما خافا (3)
فابخل بإخوانك واستبقهم ... لا تنفق الإخوان إسرافا
وقال عمران بن عصام العنزيّ (4):
ولم أر مثل الحلم خير مغبّة ... ولا مثل عقبى الطّيش والجهل والظّلم
جهلتم فلم نحلم وكنّا وأنتم ... حقيقين أن نلقى العشيرة بالحلم (5)
فإذ لم يكن حلم وفالت عقولنا ... جميعا فما هذا التّهدّد بالهضم؟!
فكفّوا وداووا ما مضى بحلومكم ... فذلك أدنى للتّكرّم والحزم
وقال أبو العباس الأعمى، وهو السّائب بن فرّوخ مولى لبنى جذيمة (6):
(1) «عثرة» ضبط فى الأصل بالنصب، وهو لحن.
(2) لم أجد البيتين فى ديوان ابن المعتز.
(3) فى الأصل «أخرجت» بالخاء المعجمة، وهو تصحيف. وفى ح «ما ذاقا» بدل «ما خافا» وهو خطأ غريب.
(4) هذه الأبيات لم تذكر فى ح. وفى الأصل بدل «العنزى» «العنبرى» وهو خطأ، وفى البيان والتبيين (ج 1ص 56) «العرني» وهو خطأ أيضا لم يتنبه له مصححه.
والصواب «العنزي» كما نسب كذلك فى الأغانى (ج 16ص 58) وكذلك فى تاريخ الطبرى (ج 7 ص 25) قال: «عمران بن عصام العنزى أحد بنى هميم» وبنو هميم من قبيلة «عنزة» كما فى الاشتقاق لابن دريد (ص 196) والعقد الفريد (ج 2ص 64) وقد ذكرا أيضا هذا الشاعر عمران بن عصام فى بنى هميم.
(5) حلم من الحلم ضد السفه بابه «كرم»
(6) هذه القصيدة لم تذكر فى ح، و «جذيمة» بفتح الجيم وكسر الذال، وضبط فى الأصل بالتصغير وهو خطأ. وجذيمة هذا هو ابن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة، كما ذكره فى الأغانى (ج 15ص 57) فى ترجمة أبي العباس، وكذلك نحوه فى معجم الأدباه (ج 4ص 225). و «الديل» بكسر الدال المهملة. قال ابن دريد فى الاشتقاق (ص 197): «وفى العرب الديل والدول يعنى بضم الدال والدئل يعنى بضمها مع كسر الهمزة والدول فى حنيفة، والدئل من بكر ابن وائل، منهم أبو الأسود الدئلى، والديل هؤلاء، يعنى الذين منهم «بنو جذيمة». وأبو العباس الأعمى: كان من شعراء بنى أمية وهواه معهم، وهو من رواة الحديث في الكتب الستة، وكان ثقة عدلا. وهذه القصيدة اختلفت فيها الرواية عندى، فالبيتان الأولان رواهما البحترى فى الحماسة (ص 244) ونسبهما لأبى الأسود الدئلى وكذلك صاحب الأغانى (ج 11ص 112)، والببت الأخير مضى فى (ص 382) منسوبا لعمرو بن لبيد مع خلاف بسيط. وروى منها أبو حيان فى كتاب الصداقة والصديق (ص 150) الابيات الخمسة الأولى والبيت السابع والبيت الأخير وزاد قبلهن بيتين ولم ينسبها لشاعر معين، وروى أيضا أبياتا أخرى منها (ص 113) ولم يسم قائلها.(1/415)
لحى الله مولى السّوء لا أنت راغب ... إليه ولا رام به من تحاربه (1)
وما قرب مولى السّوء إلّا كبعده ... بل البعد خير من عدوّ تقاربه (2)
من النّاس من يدعى صديقا ولو ترى ... خبيّة جنبيه لساءك غائبه (3)
يمنّ ولا يعطي ويزعم أنّه ... كريم، ويأبى لؤمه وضرائبه
وإنّي وتأميلي جذيمة كالّذي ... يؤمّل ما لا يدرك الدّهر طالبه (4)
يمنّون ما يعطي العلاء بن طارق ... عليّ وما يشقى به من يحاربه
فأمّا إذا استغنيتم فعدوّكم ... وأدعى إذا ما غصّ بالماء شاربه (5)
__________
(1) «لحى» رسم فى الأصل وفى كثير من الكتب المطبوعة «لحا» بالالف، وهو خطأ. قال الكسائي: «لحيت الرجل من اللوم: بالياء لا غير، ولحيت العود ولحوت بالياء والواو» نقله شارح القاموس (ج 10ص 324). وقوله «مولى السوء» فى الاصل «مولى الشر» وصححناه من الحماسة والاغاني وأبي حيان.
(2) في الاغاني «تصاقبه»، وهو بمعنى «تقاربه».
(3) فى الصداقة «خبيئة» والهمزة تحقق وتسهل. وفيه أيضا «لساءك جانبه» وما هنا أجود.
(4) فى الأصل «وإني وما مثلى جذيمة» الخ، فقوله «وما مثلى» خطأ لا معنى له، وصححناه من أبى حيان.
(5) فى حماسة البحتري (ص 82) ومجموعة المعاني (ص 64) للحارث بن كلدة الثقفى:
أما إذا استغنيتم فعدوّكم ... وأدعى إذا ما الدهر نابت نوائبه
فإن يك خير فالبعيد يناله ... وإن يك شرّ فابن عمّك صاحبه
ثم روى البحتري البيت الثانى (ص 116) مع بيت آخر ونسبهما لأبى زبيد الطائى.(1/416)
فإن يك قومي أهل شاء وجامل ... ومال كثير لا تعدّ مساربه
فما لي في أموال قومي حاجة ... ولا عزّهم، ما عاجل الظّلّ آيبه
وكنتم كغيث الرّكّ من يرع دونه ... يقصّر، ومن يطلب حيا فهو جادبه (1)
فما تركت أحلامكم من صديقكم ... لكم صاحب إلّا قد ازورّ جانبه
وقال الشريف الرّضي (2):
ولي صاحب كالرّمح زاغت كعوبه ... أبى بعد طول الغمز أن يتقوّما (3)
تقبّلت منه ظاهرا متبلّجا ... وأصمر دوني باطنا متجهّما (4)
فأبدى كنور الرّوض رفّت فروعه ... وأضمر كاللّيل الخداريّ مظلما (5)
ولو أنّني كشّفته عن ضميره ... أقمت على ما بيننا اليوم مأتما (6)
حملتك حمل العين لجّ بها القذى ... فلا تنجلي يوما ولا تبلغ العمى (7)
فلا باسطا بالسّوء إن ساءني يدا ... ولا فاغرا بالذّمّ إن رابني فما (8)
هي الكفّ مضّ حملها بعد دائها ... وإن قطمت شانت ذراعا ومعصما (9)
__________
(1) الحيا بالحاء المهملة الخصب، و «جادبه»: عائبه.
(2) فى ديوانه (ص 770769) مع اختلاف فى بعض الألفاظ وفى ترتيب الأبيات.
(3) فى الديوان «وكم صاحب». و «زاغت» أى مالت. و «الغمز» العصر باليد والتلبين، كأنه يحاول بذلك تقويم الرمح.
(4) فى الديوان «وأدمج دوني» وهو بمعنى «أضمر». والمتجهم: الكالح.
(5) فى الديوان «فابدى كروض الحزن» والحزن بفتح الحاء وإسكان الزاى: ما غلظ من الأرض، قال فى الأساس: «الروض فى الحزونة أحسن منه فى السهولة». وقوله «رفت» بالفاء، أى اهتزت وتنعمت وتلألأت. وفى الديوان «رقت» بالقاف، وهو تصحيف فيما أرى.
و «الخدارى» الليل المظلم.
(6) قوله «كشفته» قال فى اللسان: «كشفه عن الأمر:
أكرهه على إظهاره». رفى الأصل «فتشته»، وصححناه من الديوان.
(7) هذا البيت فى الديوان مؤخر بعد أبيات، وهو أجود.
(8) كتب هذا البيت فى الأصلين هكذا:
فلا ناشطا بالبطش إن رابنى يدا ... ولا فاغرا بالسوء إن ساءنى فما
وهو خطأ، صححناه من الديوان.
(9) المض: الحرقة والألم. وفي الديوان «مض تركها» والمعنى واحده(1/417)
لوالدي مجد الدين أبى سلامة مرشد بن علي بن مقلّد بن نصر بن منقذ رحمه الله أبيات من قصيدة تقارب هذا المعنى وهي (1):
فيالي من ريب الزّمان وصرفه ... ومالي من همّ أفاعيه لن ترقى (2)
وإن أظهر الشّكوى أجد غير راحم ... يسرّ شماتا بي وإن أحسن الملقى (3)
فيبدي نهارا مشرقا من وداده ... ويضمر من غلّ دجوجنه قلقا (4)
تجاهلت عمّا ساء من كلّ صاحب ... كأنّي جماد لا أحسّ بما ألقى
وقال نهشل بن حرّيّ (5):
ومولى عصاني واستبدّ برأيه ... كما لم يطع بالبقّتين قصير (6)
فلمّا رأى أن غبّ أمري وأمره ... وولّت بأعجاز الأمور صدور (7)
ممنّى أخيرا أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور
وقال الزّبير بن عبد الله بن الزّبير (8):
ومولى كداء البطن أو فوق دائه ... يزيد موالي الصّدق خيرا وينقص
__________
(1) كلمة «وهي» سقطت من ح
(2) رسمت فى الأصل «ترقا» بالألف
(3) فى ح «حسن» بتشديد السين.
(4) كذا فى الأصلين، ويحتاج إلى تحرير وتحقيق.
(5) بفتح الحاء المهملة وكسر الراء المشددة. وآخره ياء مشددة أيضا. ولنهشل ترجمة فى الشعراء لابن قتيبة (ص 405404). والأبيات رواها البحتري فى الحماسة (ص 173172) ولكن جعل عجز البيت الثالث مع صدر البيت الثانى وعجز الثانى مع صدر الثالث. وهذا الشعر لم يذكر فى ح.
(6) البقتان: مثنى «بقة» وهو: موضع بالعراق قريب من الحيرة، كان به جذيمة الأبرش، كما فى لسان العرب. ويريد الشاعر الاشارة إلى قصة جذيمة وقصير مع الزباء، وهى مفصلة فى تاريخ الطبرى (ج 2ص 3728). والكلمة رسمت فى الأصل «بالبقيتين» وهو خطأ.
(7) غب الأمر من باب مد: صار إلى آخره، ومنه «غب الأمر ومغبته» أى عاقبته.
ورسمت كلمة «غب» فى الأصل «غيب» وهو خطأ، لا يوافق المعنى ولا الوزن، وصححناه من البحترى.
(8) هو الزبير بن عبد الله بن الزبير بن الأشيم، وهو بفتح الزاي وكسر الباء فى اسمه واسم جده. ولأبيه عبد الله ترجمة فى الأغانى (ج 13ص 4731). والبيتان ذكرا هناك (ص 46).
تربّصت أرجو أن يثوب ويرعوي ... إلى الحلم حتّى استيأس المتربّص (1)
وقال آخر، ويروى للزّبرقان بن بدر (2):(1/418)
__________
(8) هو الزبير بن عبد الله بن الزبير بن الأشيم، وهو بفتح الزاي وكسر الباء فى اسمه واسم جده. ولأبيه عبد الله ترجمة فى الأغانى (ج 13ص 4731). والبيتان ذكرا هناك (ص 46).
تربّصت أرجو أن يثوب ويرعوي ... إلى الحلم حتّى استيأس المتربّص (1)
وقال آخر، ويروى للزّبرقان بن بدر (2):
ولي ابن عمّ لا يزا ... ل يعيبني ويعين عائب
وأعينه في النّائبا ... ت ولا يعين على النّوائب
[تسري عقاربه إليّ ولا تناوله عقارب (3)] لاه ابن عمّك لا تخا ... ف المخزيات من العواقب (4)
دعني أعنك على الزّما ... ن وأغن عنك بكلّ جانب
إنّي كسيفك في يمين ... ك لا ألين لمن تحارب
وقال آخر (5):
عذرت السّابقين إلى لسع ال ... عقارب غيركم عمرو بن كعب
ألم أبذل لكم ودّي ونصحي ... وأصرف عنكم ذربي ولغبي (6)
وأجعل كلّ مضطهد أتاني ... يريد النّصر بين حشى وخلب (7)
(1) روايته في الأغاني:
تلوّمت أرجو أن يثوب فيرعوى ... به الحم حتى استيأس المتربص
(2) قوله «وقال آخر» سقط من ح. وهذه الأبيات للزبرقان بن بدر، وهي فى حماسة البحتري (ص 239) والأغانى (ج 2ص 51) ما غدا البيتين الأخيرين، والبيت الثالث الزائد زدناه منهما
(3) هذه رواية البحتري، ورواية الأغانى: «ولا تدبّ له عقارب»
(4) فى الأغاني: «لا يخاف المحزنات» ولعله تصحيف، وما هنا أصح. وفى الحماسة: «ما يخاف الجازيات»
(5) هذه الأبيات لم تذكر فى ح.
(6) «ذربى» رسمت فى الأصل «درإي» وهو خطأ لا معنى له. والذرب بفتح الراء: فساد اللسان وحدته. واللغب بسكون الغين:
الرديء من الكلام. والبيت رواه صاحب اللسان فى المادتين بلفظ: «ألم أك بادلا ودي ونصري» الخ ونسبه فى مادة «لغب» للزبرقان بن بدر. وضبط «أصرف» هناك بالرفع، وهو لحن، لأنه معطوف على المجزوم.
(7) الخلب بكسر الخاء: حجاب القلب، وقيل: الكبد.(1/419)
واحفظ ما شهدت إذا أضعتم ... وينسح عنكم الأقصين كلبي؟!
إذا قرم سما بغيا عليكم ... تنكّب عن شديد الرّكن صلب
رآني معنقا أمشي إليه ... فولّى يتّقي غضبي وعضبي (1)
وقال كثير بن عبد الرحمن الحزاعيّ (2):
أودّ لكم خيرا وتطّرحونني ... أكعب بن عمرو لاختلاف الصّنائع (3)
وكيف لكم صدري سلم وأنتم ... على حسك الشّحناء حنو الأضالع (4)
أحاذر أن تلقوا ردى ومطيّكم ... خواضع تبغيني حمام المصارغ (5)
على كلّ حال قد بلوتم خليقتي ... على الفقر منّي والغنى المتتابع
وإنّي لمستأن ومنتظر بكم ... على هفوات فيكم وتتايع (6)
وبعض الموالي تتّقى درءآته ... كما تتّقى روس الأفاعى الأضالع (7)
__________
(1) معنقا بالقاف: أي مسرعا. وفى الأصل «معنفا» بالفاء، وهو تصحيف.
(2) من قصيدة فى ديوانه (ج 2ص 129) وهى 12بيتا، ولكن البيت الرابع هنا لم يذكر هناك. وروى البحترى فى الحماسة (ص 242) الأبيات التى هنا ما عدا الرابع أيضا. ولم تذكر هذه الأبيات فى ح.
(3) فى الأصل: «وقد تطرحوننى»، وهو خطأ. وفى الديوان والحماسة «أحار بن كعب» بدل «أكعب بن عمرو» يريد بنى الحارث بن كعب، فرخم الاسم.
(4) فى الحماسة والديوان «قلبى» بدل «صدرى».
(5) هذا البيت فى الحماسة فى التصحيحات فى آخرها (ص 317) ولكن آخره «المصادع» بضم الميم وبالدال المكسورة، وهو خطأ.
(6) فى الأصل والديوان والحماسة «وتتابع» بالباء الموحدة، وقد صححناها بالياء المثناة التحنية، لأن التتايع هو الوقوع فى الشر من غير فكرة ولا روية. ولا يقال إلا فى الشر فقط.
(7) الدرءات باسكان الراء جمع «درأة» وهي الدفعة، من قولهم «تدارأ القوم» أى تدافعوا في الخصومة وشاغبوا بعضهم. وفتح الراء الساكنة فى مثل هذا جائز مسموع. و «تتقي» كتبت فى الأصل فى الموضعين «يتقى» بالياء. و «الأضالع» جمع «أضلع» وهو الشديد القوي الأضلاع، وفي الحماسة والديوان «القواطع» وهو ظاهر.(1/420)
قال أبو الحسن المدائني (1): لمّا ادّعى معاوية بن أبي سفيان رحمه الله زياد بن عبيد، وقدم بذلك عمرو بن العاص المدينة: جزعت بنو أميّة من ذلك جزعا شديدا، فقدموا الشأم بأجمعهم، ونزلوا فى مكان واحد، ووجدوا مروان بن الحكم قد كتب له معاوية بن أبي سفيان عهدا بولاية المدينة، فأتوه فقالوا (2) له: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد ترى ما ركبنا (3) به معاوية من أمر ليس لنا عليه صبر ولا قرار، ولا ينام على مثله الأحرار، ويعذر بعض الإعذار (4): إدخاله من ليس منّا، يريد أن يدخله على حرمنا ونسائنا، وإيثاره علينا من هو دوننا، وقد أجمع رأينا على أن نعاتبه في ذلك، فان قبل قبلنا، وإن أبى اعتزلنا. فقال مروان: قد والله كلمته فى ذلك ثلاث مرات، ليس فيها مرة إلّا وهو يظهر التعتّب والتغضّب، ويزعم أنّي في هذا الأمر أوحد. فقال سعيد بن العاص: لا والله، ولكنك تحامي على عهدك، وتبقي على ولايتك. فقال مروان: والله لصلاحكم فى فساد عهدي أحبّ إليّ من فسادكم فى صلاح عهدى، فادخلوا على الرجل فكلموه بملء أفواهكم، فانه
__________
(1) القصة الآتية لم أجدها فى شىء من الكتب التى عندي، وأنا لا أشك فى أنها من الأكاذيب التى وضعها القصاص فكاهة للناس. وفى ألفاظها وسياقها كثير مما لم يستعمل فى الصدر الأول، ولا هو من كلامهم.
وحكاية إلصاق معاوية نسب زياد بن عبيد بأبيه أبي سفيان كانت فى سنة 44وتجدها مفصلة فى شرح ابن أبى الحديد على نهج البلاغة (ج 4ص 7666) والاستيعاب لابن عبد البر (ج 1ص 204201) وتاريخ ابن الأثير (ج 3ص 225223) وتجد كلام عبد الرحمن بن الحكم بن أبى العاص أخى مروان بن الحكم فى ذلك في الأغانى (ج 12ص 72) وكذلك أشعار ابن مفرغ فى (ج 17 ص 7351).
(2) فى ح «وقالوا».
(3) فى الأصلين «زكينا» بالزاى، وضبط فى الأصل بتشديد الكاف المفتوحة، ولا معنى للكلمة هنا، ونرجح أنها تصحيف عما رسمناه، إذ هو أقرب للمعنى.
(4) كذا فى الأصلين، ولعله من قولهم «أعذر» بمعنى تصر ولم يبالغ، او من قولهم «أعذر من نفسه» إذا أمكن منها.(1/421)
حليم أديب أريب. فانطلق القوم بجماعتهم، وتخلّف عنهم مروان. فذهبوا حتى استأذنوا على معاوية، فلما أخبره الآذن بمكانهم قال له: أحبسهم بين البابين، وأرسل إلى قوّاد أهل الشأم ورؤسائهم، فجمعهم عنده، وأفام الرجال بين يديه بالأعمدة والسيوف، ثم أذن لهم، فلما دخلوا عليه سلّموا، فأحسن الردّ عليهم، ثم قال: قرّب الله الديار، وأدنى المزار، ما لذي أقدمكم؟ أزيارة فتحظى؟
أم سخط فيرضى؟ أم حاجة فتقضى؟ قالوا: لكلّ جئنا يا أمير المؤمنين. قال:
تكلموا، فسكت القوم، ومثل عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين، أتتك عصبة من فصيلتك، وآخرون من أسرتك وعشيرتك، كلهم عارف بفضلك، راع لحقك، ناشر لشكرك: في أمر قبره خير من نشره، وإماتته خير من ذكره، جئناك لأمر عجزت عن حمله الجنوب، وضاقت الصدور والقلوب، وكرهنا أن لا نذكره لك فينبت في صدورنا، ولا يحصد لزمانه، ولا يصيره لإبّانه (1)، وهي المصيبة الخطرة (2)، واللّأواء المبيرة (3)، واعلم أنّا لم نأتك تجرّما ولا تعيّثا (4) ولا بطرا، فإن تأذن تكلّمنا، وإن تأب سكتنا. قال: هات، لله أنت! قال: يا أمير المؤمنين، إنّ أميّة بن عبد شمس ولد عشرة ذكور: حربا وأبا حرب، وسفيان وأبا سفيان والعاص وأبا العاص، والعيص وأبا العيص (5)، ولم يلد عبيد عبد ثقيف ولا
__________
(1) كذا فى الأصلين، ويحتاج إلى تحرير صحة كلمة «يصير» فى هذا الموضع، ولم نصل فيها إلى ما يطمئن اليه القلب.
(2) فى ح «الخطيرة».
(3) اللأواء: المشقة والشدة، والمبيرة: المهلكة.
(4) من العيث: وهو الفساد.
(5) المذكور هنا ثمانية فقط، وقد ذكرهم صاحب الأغاني (ج 1ص 8ساسى 14دار الكتب) فقال: «وكان لأمية من الولد أحد عشر ذكرا، كل واحد منهم يكنى باسم صاحبه، وهم: العاصى وأبو العاصى، والعيص وأبو العيص، وعمرو وأبو عمرو، وحرب وأبو حرب، وسفيان وابو سفيان «والعويص لا كنى له». ولعله اقتصر هنا علي عشرة لاخراج أبي عمرو منهم، واسمه «ذكوان» وكان عبدا لأمية فاستلحقه وادعاه، وهو جد عقبة بن أبى معيط، كما فى الأغانى (ج 1ص 76).(1/422)
العاص بن وائل، وإنك قد جعلت عمروا وزيادا شعارك دون دثارك، ونفسك التي بين جنبيك، ثم لم ترض لابن عبيد حتى نسبته إلى أبيك، عضيهة لأبيك (1)، وإزراء ببنيك، مع ما في ذلك من السّخط لربّك، والمخالفة لنبيك صلّى الله عليه وسلم، إذ قضى: أنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر، فقضيت الولد للعاهر وللفراش الحجر، فرفعت أمرا كان حقيرا، وشهرت أمرا كان خاملا صغيرا، تريد أن تدخله على حرمك ونسائك، ثم أنشأ يقول:
أترضى يا معاوية بن حرب ... بأن تعطي حراثمك العبيدا
كأنّي والّذي أصبحت عبدا ... له بالقوم قد شكروا يزيدا
فإن ترجع فقد لقّيت رشدا ... وإن تجمع فلم تطع الرّشيد (2)
فأما عمرو بن العاص فقد الزمت نفسك الحاجة إليه، وألزم نفسه الغناء عنك، وايم الله لنحن أنصح جيوبا وأوجب حقّا وأمسّ رحما، وما من أمر يبلغه عمرو فنعجز عنه لتقصير بنا ولا وهن منا، لكنك رفعت المرء فوق قدره، حتى طمح بفخره، وزخر ببحره، فصار كأنّه شيء وليس بشيء، وإنّ مثلنا ومثلك كما قال الأوّل (3):
من النّاس من يصل الأبعدين ... ويشقى به الأقرب الأقرب
قال: ثم إنّ مروان أدركه تذمّم (4) من تخلّفه عن القوم، فلحق بهم عند انقضاء
__________
(1) العضيهة: الافك والبهتان.
(2) فى الأصلين «فلن تطع» وهو خطأ.
(3) هذا البيت رواه البحتري في الحماسة (ص 116) ونسبه لصالح بن عبد القدوس، فان صح هذا كان دليلا آخر على ما قلناه من كذب هذه القصة، لأن صالحا متأخر جدا، قتله المهدي على الزندقة، وانظر ترجمته فى تاريخ بغداد (ج 9 ص 305303) وابن عساكر (ج 6ص 376371) ومعجم الأدباء (ج 4ص 269268) وخبر قتله فى الأغانى (ج 13ص 14)، وقد وهم أبو الفرج فى روايته أن الرشيد هو الذي قتل صالحا على الزندقة، وأجمعت رواية الرواة على أن الذي قتله هو المهدى. انظر أمالى الشريف المرتضى (ج 1ص 100).
(4) التذمم: الاستنكاف.(1/423)
كلام أخيه، فلما رآه معاوية قال: إيه يا مروان! عن رأيك صدر القوم حتى أسمعوني ما سمعت؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنّ لنا ولك مثلا. قال: هات خطّط كخطط أخيك. قال: يا أمير المؤمنين، إنّ عديّ بن زيد العباديّ لمّا حبسه النعمان بن المنذر فى السجن قال (1):
أبا منذر جازيت بالودّ سخطة ... فماذا جزاء المبغض المتبغّض (2)
فجازيته في ذا المثال كرامة ... ولست لشيء بعد بالمتعرّض (3)
فإنّا والله يا أمير المؤمنين غير عائدين لشيء من معاتبتك فى هذا الأمر، فان تراجع قبلنا، وإن تأب أمسكنا، مع أنك لو قدرت تتكثّر بالزّنج على آل (4) أبي العاص لفعلت، تكرّها لجلد فيهم، وتبرما بمدّتهم، وايم الله ما هذا جزاؤهم منك، لقد آثروك وواسوك، فما جازيت ولا كافأت. فقام معاوية مغضبا (5)، وقال للحرس: شدّوا أيديكم بالقوم. ثم دخل، وأجلسوا (6) طويلا حتى ساء ظنّهم، ثم خرج مقطّبا بين عينيه، فجلس على سريره، وأقبل بوجهه، وتمثل بأبيات (7):
__________
(1) عدي بن زيد ترجمته وأخباره فى الشعراء لابن قتيبة (ص 117111) والأغانى (ج 2 ص 4017) وبلوغ الأرب (ج 2ص 265262) وشعراء الجاهلية (ص 474439).
وهذان البيتان هناك (ص 468).
(2) فى شعراء الجاهلية «أيا منذرا» وهو خطأ. وفى الأصلين «فهذا» يدل «فماذا» وهو خطأ أيضا.
(3) فى الأصلين «فجازاته» وهو خطأ.
ورواية البيت فى شعراء الجاهلية هكذا:
فإنّ جزاء يرجى منك كرامة ... ولست لنصح فيك بالتعرّض
(4) كلمة «آل» سقطت من ح.
(5) ضبط فى الأصل بكسر الضاد.
(6) فى ح «وجلسوا»
(7) هذه الأبيات للمتلمس، واسمه: جرير بن عبد المسيح وترجمته فى الشعراء لابن قتيبة (ص 8885) والأغاني (ج 21ص 137120) وهذه الأبيات من قصيدة فيهما بعضها. وكذلك فى الأصمعيات (ج 1ص 64) وشعراء الجاهلية (ص 338) ومحاضرات الراغب (ج 1ص 175) والصداقة لأبي حيان (ص 108) وغير ذلك.(1/424)
لدي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصاء ... وما علم الإنسان إلّا ليعلما
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما (1)
وما كنت إلّا مثل قاطع كفّه ... بكفّ له أخرى فأصبح أجذما
يداه أصابت هذه حتف هذه ... فلم تجد الأخرى عليها مقدّما (2)
فلمّا استقاد الكفّ بالكفّ لم يجد ... له دركا في أن تبينا فأحجما (3)
فأطرق إطراق الشّجاع ولو يرى ... مساغا لنابيه الشّجاع لصمّما (4)
ثم قال: هذا الذي حجزني عنكم، وايم الله، لقد قطعتم من زياد رحما قريبة واشجة، وقلتم عليه البهتان بغير تثبّت ولا بيان، ولقد وضع الله ما كان في الجاهلية من سفك الدماء، والشرك بربّ السماء، فذلك أعظم ممّا كان فيه أبو سفيان، وايم الله، ما الله راقبتم، ولا لي نظرتم، بل أدرككم الحسد في القديم (5) لبني حرب، ولئن عدتم لشيء مما أرى، أو أتاني (6) عنكم من ورا ورا: لأنهلنّكم صبرا، ولأعلّنّكم (7) علقما، حتّى تعلموا فى طول حلمي أن قد منيتم بمن إن حزّ قطع، وإن همز أوجع، وإن هم فجع، ثم لا تقال (8) لكم العثرات، ويستصعب عليكم منّي ما كان وطيّا (9).
__________
(1) فى الأصلين «ولو غير أقوام» وصححناه من سائر الروايات التى أشرنا إليها، وكذلك من الكامل للمبرد (ج 1ص 164).
(2) في الأصلين «عليه» بدل «عليها» وصححناه من سائر المصادر، وفى الأغانى «عليها تقدما».
(3) فى الأصلين «يمينا» بدل «تبينا» وهو خطأ لا معنى له، وصححناه من الأصمعيات والأغانى وابن قتيبة، وفى شعراء الجاهلية «تبين» بالإفراد، وما هنا أصح وأجود فى المعنى.
(4) فى الأصلين «وأطرق» وصححناه من سائر المصادر. ورواه البخترى فى الحماسة (ص 18) «واطرق» ولكنه أتى به مفردا من غير أن يروى ما قبله.
(5) فى ح «الحسد القديم».
(6) فى ح «وأتاني».
(7) النهل: الشربة الاولى، والعلل: الشربة الثانية.
يقال: «علل بعد نهل» وكلاهما بفتح أوله وثانيه. و «أنهل» متعد بالهمزة، و «عل» يستعمل لازما ويستعمل متعديا بنفسه، ويتعدى بالهمزة أيضا.
(8) فى الاصلين «يقال».
(9) الوطيء بالهمز من كل شىء: ما سهل ولان، وقد سهلت الهمزة هنا، وهو جائز.(1/425)
ويتوغّر عليكم ما كان سهلا، فأمّا قولكم: إنّي أصبت السلطان بسببكم:
فقد علمتم يا آل العاص أنّ عثمان قتل وأنا غائب وأنتم حضور، فما كان فيكم من مدّ ذراعا، ولا أشال (1) باعا، أسلمتموه (2) للحتوف، وغمدتم بعده السيوف، فما نصرتموه ولا منعتموه بأكثر من الكلام، وكان سبب ما ألب عليه الناس (3) وأجلبوا ما كان من إيثاره إيّاكم بالفيء والقسم، وفي ذلك قطعت أوداجه، وسفك دمه على أثباجه (4)، واستحلّت حرمته، ونكثت بيعته، فما شببتم نارا، ولا طلبتم ثأرا، حتى كنت أنا المطالب بالثأر، والمثكّل للأمّهات، ولقد منيت في الطلب بدمه بحرب امرىء لا يغيض بحره، ولا يذلّ نحره، من إن قرعته لم يفزع (5)، وإن أطمعته لم يطمع: من لا تخور قناته، ولا تصدع صفاته (6): من لا يطعن فى قرابته وفهمه وعلمه وسابقته ومبين بلائه (7). وإنّي كالحيّة الصّماء لا يبلّ سليمها (8)، ولا ينام كليمها، وإنّي للمرء إن همزت كسرت، وإن كويت أنضجت، فمن شاء فليشاور، ومن شاء فليؤامر، مع أنهم لو عاينوا من يوم الهرير (9) ما عاينت، أو ولوا
__________
(1) فى الأصلين «أشاك» ولعل الصواب ما أثبتناه من قولهم «شال السائل يديه» إذا رفعهما، و «أشال الحجر» إذا رفعه. كتبه محمود شاكر.
(2) فى الأصل «أستلمتوه» وصححناه من ح.
(3) «ألب» بفتح اللام المخففة، يقال «ألب القوم»: أتوا من كل جانب، ويتعدى أيضا بنفسه يقال: «ألبت الجيش» بتخفيف اللام أيضا: إذا جمعته. وإذا قلت «ألب» بتشديد اللام: كان متعديا، وقد ضبط بذلك في الاصل، فيكون «الناس» منصوبا.
(4) جمع «ثبج» وهو: الوسط وما بين الكاهل إلى الظهرة.
(5) في ح «لم يقرع»
(6) الصفاة: الحجر العريض الاملس، وصدعها: شقها.
(7) هنا فى ح زيادة كلمة «منيت» وهي لا موقع لها فى الكلام، وهي سهو من الناسخ.
(8) «بل» من مرضه من باب ضرب و «أبل» برأ وصح. والسليم: اللدبغ.
(9) يوم الهرير أو ليلة الهرير: من ليالي صفين بين على ومعاوية.
وانظر تفصيل ذلك فى تاريخ الطبرى (ج 6ص 23وما بعدها) وشرح نهج البلاغة (ج 1ص 183 207و 506479). وفى الجاهلية يوم آخر يسمى «يوم الهرير» كان بين بكر بن وائل وبين بنى تميم.(1/426)
منه ما وليت، إذ شدّ علينا أبو حسن في كتائبه، وعن يمينه وشماله أهل البصائر، وكرام العشائر، فهناك شخصت الأبصار، وارتفع الشرار وقارعت الأمّهات عن ثكلها، وذهلت عن حملها، واحمرّت الحدق، واغبرّ الأفق، وألجم العرق، وسال العلق، وثار القتام، وصبر الكرام، وحام اللئام، وحضر الفراق، وأزبدت الاشداق، وقامت الحرب على ساق، وتضاربت الرجال بنصالها، بعد يأس من مآلها، وتقصّف من رماحها، فلا نسمع إلّا التّغمغم من الرجال، والتّحمحم من الخيول (1)، ووقع السيوف كأنّه دقّ غاسل خشبته على منصبته، فكان ذلك دأبنا يومنا حتى رهقنا (2) الليل بغسقه، ثم انبلج الصبح بفلقه، فلم يبق من القتال إلّا الهرير والزّئير (3). فقال عمرو ابن العاص: أما والله لو شهدتم ذلك اليوم لعلمتم أنّي أحسن بلاء، وأصبر في اللّأواء (4)، وإني وإياكم لكما قال الأوّل:
وأعرض عن أشياء لو شئت قلتها ... ولو قلتها لم أبق للصلح موضعا
فان كان أمير المؤمنين صيّرني شعاره دون دثاره فقد أوليته ذلك من نفسي، وقد عجمني وسبرني فوجدني وفيّا شكورا، إذ لم تشكروه ولا أنتم معه، وقد طلبنا بدم أمير المؤمنين المقتول ظلما إذا لم تطلبوه، وصبرنا لقراع الكتائب وظبات القواضب (5)، وأنا أسألك يا أمير المؤمنين أن تغفر
__________
(1) الغمغمة: أصوات الأبطال عند القتال، والحمحمة: اصوات الخيل.
(2) رهقه من باب طرب: غشيه، يتعدى بنفسه، وأرهقه بالهمزة: يتعدى لمفعولين.
(3) الهرير:
صوت الكلب دون النباح، والزئير: صوت الاسد، وهذا وصف لاصوات المقاتلين حين البأس.
(4) رسمت فى «الّاواء».
(5) ظبات: جمع «ظبة» بضم الظاء وفتح الباء، وهي: حد السيف. وكتبت فى الأصلين «ظباة» وهو خطأ.(1/427)
للقوم ما قالوا، وتتغمّد لهم ما نالوا (1)، فانهم غير عائدين إلى أمر تكرهه.
فقال معاوية: قد فعلت إن هم فعلوا. ثم نهض ونهض القوم، فلم يكن بينهم في هذا الأمر معاودة.
ومن بليغ العتاب فى الشعر
قول يزيد بن الحكم لأخيه عبد ربّه بن الحكم (2):
__________
(1) يقال: «تغمدت فلانا»: سترت ما كان منه وغطيته.
(2) هو يزيد بن الحكم بن أبي العاص بن بشر الثقفى الطائفى، وزعم بعضهم أنه «يزيد بن الحكم بن عثمان بن أبي العاص» وهو خطأ، لأن الحكم أخو عثمان، وكلاهما ابن أبي العاص، وهما صحابيان. ولهما ترجمتان في طبقات ابن سعد (ج 5ص 373372وج 7ق 1ص 2726) وفى الاصابة، وقال ابن سعد فى ترجمة الحكم: «وأولاده أشراف» منهم: يزيد بن الحكم بن أبى العاص الشاعر»، ويزيد له ترجمة فى الأغانى (ج 11ص 10196) وفى خزانة الأدب للبغدادي (ج 1ص 114111طبعة السلفية) وذكر له شعرا آخر فى عتاب أخيه عبد ربه بن الحكم وابن عمه عبد الرحمن بن عثمان بن أبي العاص. والقصيدة التى رواها له المؤلف هنا من جيد الشعر الحكيم، وهذه الرواية أطول رواية رأيتها، فقد رواها المؤلف 22بيتا، وزدتها أنا بيتين سأذكر مصدر روايتهما. ولم أجد بعد طول التتبع والاستقصاء أكثر من ذلك. وقد روى منها القالى فى الأمالى (ج 1ص 68) 17بينا مع خلاف فى الألفاظ والترتيب، وأرقامها هنا على ترتيبه هناك هى: (1و 2و 7و 12و 64و 13و 2416). وروى صاحب الأغاني 14بيتا وأرقامها: (1و 2و 74و 12و 13و 16و 17و 19و 21و 23و 24) وروى ابن الشجرى فى أماليه منها 11بيتا، وشرحها شرحا جيدا فى مجلسين (ج 1ص 168157 طبعة مصر وج 1ص 186176طبعة الهند) وأرقامها: (1و 2و 5و 12و 13و 1816 و 20و 21و 7). وروى ابن قتيبة فى عيون الأخبار (ج 3ص 8382) الأبيات: (1و 2 و 12و 5و 6و 12). وروى أبو هلال العسكري في ديوان المعاني (ج 2ص 199) الأبيات:
(1و 2و 5و 12و 13و 17و 24). وروي البحترى فى الحماسة (ص 77) البيتين (3و 4) و (ص 148) البيتين (7و 8). وروى الراغب فى المحاضرات (ج 2ص 9) البيت الثاني و (ج 1 ص 176) البيتين (16و 17). وروى الماوردي فى أدب الدنيا والدين (ص 64طبعة الحلبى سنة 1318) الأبيات (1و 2و 7). وروى أبو حيان فى الصداقة (ص 136135) البيتين الاولين وروي المبرد فى الكامل (ج 8ص 48بشرح المرصفى) البيت الثالث عشر. وروى لسان العرب (ج 18ص 305) الشطر الثانى من البيت الأول و (ج 14ص 359) البيت (13) و (ج 14 ص 149) البيت (14) و (ج 18ص 276) البيت (23) و (ج 18ص 306) البيت (24) وأما الابيات (9و 10و 11و 15) فانى لم أجدها فى غير هذا الكتاب. وفى كل هذه الروايات اختلاف فى اللفظ سأشير إلى المهم منه فقط.(1/428)
تكاشرني كرها كأنّك ناصح ... وعينك تبدي أنّ صدرك لي دوي (1)
لسانك لي أري وغيبك علقم ... وشرك مبسوط وخيرك ملتوي (2)
تقارب من أطوي طوى الكشح دونه ... ومن دون من صافيته أنت منطوي
تصافح من لاقيت لي ذا عداوة ... صفاحا وغيي بين عينيك منزوي (3)
أراك إذا لم أهو أمرا هويته ... ولست لما أهوى من الأمر بالهوي
أراك اجتويت الخير منّي وأجتوي ... أذاك، فكلّ يجتوي قرب مجتوي (4)
فليت كفافا كان خيرك كلّه ... وشرّك عنّي ما ارتوى الماء مرتوي
[تودّ عدوّا ثمّ تزعم أنّني ... صديقك! ليس الفعل منك بمستوي] (5)
لعلّك أن تنأى بأرضك نيّة ... وإلّا فإنّي غير أرضك منتوي (6)
تبدّل خليلا بي كشكلك شكله ... فإنّي خليلا صالحا بك مقتوي (7)
فلم يغوني ربّي، فكيف أصطحابنا ... ورأسك في الأغوى من الغيّ منغوي؟
عدوّك يخشى صولتي إن لقيته ... وأنت عدوّي، ليس ذك بمستوي
__________
(1) كاشره: ضحك فى وجهه وباسطه. و «دوى» به داء.
(2) هذه الرواية توافق ابن الشجرى، وفى الاصلين «وعينك علقم» وهو تصحيف. وفى بعض الروايات «لسانك ماذي وقلبك علقم» وفى بعضها «لسانك لى شهد». والأري والماذي والشهد: العسل.
(3) الغى: الفساد، وفى الأصلين «وعنى» كما فى البحترى وصححناه من الامالى
(4) اجتوى: أى كره.
(5) هذا البيت زيادة من البحترى، ولعل صوابه «تود عدوى» الخ، إذ هو الانسب لسياق القول.
(6) نوى المنزل وانتواه: قصده.
(7) مقتوى: اى مستخلص ومستبدل.
وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلّة النّيق منهوي (13)
نداك عن المولى ونصرك عاتم ... وأنت له بالظّلم والغمّ مجذوي (14)
تودّ له لو ناله ناب حيّة ... ربيب صفاة بين لهبين منحوي (15)
إذا ما ابتنى المجد ابن عمّك لم تعن ... وقلت: ألا يا ليت بنيانه خوي (16)
كأنّك إن قيل: ابن عمّك غانم ... شج أو عميد أو أخو مغلة لوي (17)
تملّأت من غيظ عليّ فلم يزل ... بك الغيظ حتّى كدت بالغيظ تنشوي
وما برحت نفس حسود حبستها ... تذيبك حتّى قيل: هل أنت مكتوي؟ (18)
وقال النّطاسيّون: إنّك مسعر ... سلالا، ألا بل أنت من حسد جوي (19)
جمعت وفحشا غيبة ونميمة! * ثلاث خلال لست عنها بمرعوي(1/429)
__________
(7) مقتوى: اى مستخلص ومستبدل.
وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلّة النّيق منهوي (13)
نداك عن المولى ونصرك عاتم ... وأنت له بالظّلم والغمّ مجذوي (14)
تودّ له لو ناله ناب حيّة ... ربيب صفاة بين لهبين منحوي (15)
إذا ما ابتنى المجد ابن عمّك لم تعن ... وقلت: ألا يا ليت بنيانه خوي (16)
كأنّك إن قيل: ابن عمّك غانم ... شج أو عميد أو أخو مغلة لوي (17)
تملّأت من غيظ عليّ فلم يزل ... بك الغيظ حتّى كدت بالغيظ تنشوي
وما برحت نفس حسود حبستها ... تذيبك حتّى قيل: هل أنت مكتوي؟ (18)
وقال النّطاسيّون: إنّك مسعر ... سلالا، ألا بل أنت من حسد جوي (19)
جمعت وفحشا غيبة ونميمة! * ثلاث خلال لست عنها بمرعوي
(13) قال ابن الشجرى: «بأجرامه: أي بذنوبه، جمع جرم، ويروى: باجرامه، مصدر أجرم، يقال: جرم وأجرم لغتان. وأجرم لغة القرآن». وفى لسان العرب أن «أجرام» فى البيت جمع «جرم» بكسر الجيم، وهو الجسد. والنيق: أرفع الجبل. وقلته: ما استدق من رأسه.
(14) عاتم: أى مبطىء، وعتم عن الشىء أبطأ، ويقال: قرى عاتم، أى بطئ. و «مجذوي» بالذال المعجمة، وفى ح بالمهملة، وهو تصحيف. يقال «جذا الشيء يجذو»: أى ثبت قائما. قال ابن برى: «يقال جذا مثل جثا واجذوى مثل ارعوى فهو مجذو». قال ابن جنى: «ليست الثاء بدلا من الذال، بل هما لغتان». نقلهما فى لسان العرب.
(15) اللهب بكسر اللام: الشعب الصغير فى الجبل، أو الفرجة والهواء بين الجبلين. و «منحوي» من «حوى الحية» أى انطواؤها.
(16) قال ابن الشجرى: «خوي المنزل يخوي» مثل: رمى يرمى. وخوى يخوى، مثل: رضى يرضى: لغتان، الأولى منهما أشهر.
(17) المغلة: وجع البطن من أكل التراب. و «لوى» أى: وجع الجوف. وفى الأصلين «دوى» وصححناه من الأمالى والأغانى وابن الشجري.
(18) قوله «حبستها» هو الصواب، وفى الأمالى «حسبتها» بتقديم السين على الباء، وهو تصحيف.
وقوله «تذببك» في الأغاني «بذنبك» وهو تصحيف أيضا.
(19) السلال بضم السين:
هو مرض السل. و «مسعر» في الأصلين بالسين المهملة، ووضع عليها فى الأصل العتيق علامة الاهمال، وله وجه بأن يكون من «أسعر النار» أى: ألهبها وأوقدها. وفى الأمالى وابن الشجرى «مشعر» بالشين المعجمة، وقال ابن الشجرى: «أى ملبس شعارا من سلال، والشعار: ما ولي الجسد من الثياب». و «جوى» من الجوى: وهو داء القلب.(1/430)
[أفحشا وجبنا واختتاء عن النّدى؟ ... كأنّك أفعى كدية فرّ محجوي! (22)]
ويدحو بك الدّاحي إلى كلّ سوءة ... فياشرّ من يدحو بأطيش مدحوي (23)
بدا منك غشّ طالما قد كتمته ... كما كتمت داء ابنها أمّ مدّوي (24)
قيل: كانت امرأة خطبت على ابنها، فجاءت أمّ الجارية التي خطبتها لتنظر إلى ابنها وتكلمه، فجاء الغلام إلى أمّه، وفي البيت لبن عليه دواية، وهي: قشرة رقيقه تعلو اللّبن فقال: يا أمّه، أدّوي؟! أي: العق تلك القشرة. فكرهت أمّه أن تسمع ذاك أمّ الجارية التي خطبتها فتستصغره، فقالت: اللّجام معلّق بباب البيت. تريها انّه إنما طلب اللجام. فيقول الشاعر: كتمت أنت هذا الغشّ كما كتمت تلك أمر ابنها (1).
وقال معن بن أوس لأخيه حبيب (2):
لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل ... على أينا تغدو المنيّة أوّل (3)
__________
(22) هذا البيت زيادة من الأمالى. والاختتاء بتاءين: الخوف والفرق بانقماع وذل. والكدية:
الأرض الغليظة الصلبة. ومحجوى: أى مستتر، يقال: حجا سره يحجوه: إذا كتمه.
(23) «يدحو» وما اشتق منها فى البيت: كله بالحاء المهملة. وفى الأصلين «فيا شر من بدحو ويا شر مدحوى» وصححناه من لسان العرب والأمالى. ودحاه: اى رمى به ودفعه. والبيت فى الأغانى محرف جدا.
(24) فى الأصل «امها» بدل «ابنها» وهو خطأ واضح.
(1) هذه الحكاية أيضا فى الأمالى (ج 1ص 69) ولسان العرب (ج 18ص 306) والمزهر للسيوطى (ج 1ص 272طبعة بولاق).
(2) هكذا نقل المؤلف، وما أظنه صحيحا.
فانى لم اجد ذكرا لأخ لمعن بن اوس. ولقد حكى التبريزي فى شرح الحماسة ان معنا «كان له صديق» وكان معن متزوجا بأخته، فاتفق انه طلقها وتزوج غيرها، فآلى صديقه ان لا يكلمه ابدا، فانشأ معن يقول يستعطف قلبه عليه ويسترقه له». وهذه القصيدة فى ديوانه (ص 3736طبعة اوروبا و 6057طبعة مصر) وفى حماسة ابي تمام (ج 2ص 42متن وج 3ص 8078شرح) مع اختلاف فيهما فى الألفاظ وترتيب الأبيات. ونقل ابو حيان فى الصداقة بعضها (ص 134) ولم ينسبها. ونقل البحترى فى الحماسة ابياتا منها (ص 27و 63و 68). وترجمة معن فى الأغانى (ج 10ص 160156).
(3) في الأصلين «لعمرى» وهو خطأ ومخالف لجميع الروايات.
و «تغدو» بالغين المعجمة فى الأصلين وفى الروايات كلها. وحكى التبريزى ان فى رواية «تعدو» بالعين المهملة،
كأنّك تنفي منك داء إساءتي ... وسخطي، وما في ذاك ما يتعجّل (1)
لحى الله من ساوى أخاه بعرسه ... وخدّعه، حاشاك إن كنت تفعل (2)
وإتي على أشياء منك تريبني ... قديما لذ وصفح على ذاك مجمل (3)
وإني أخوك الدّائم العهد لم أحل ... إن ابزاك خصم أو نبا بك منزل (4)
أحارب من حاربت من ذي قرابة ... وأحبس مالي إن غرمت فأعقل (5)
فإن سؤتني يوما صفحت إلى غد ... ليعقب يوما منك آخر مقبل (6)
ستقطع في الدّنيا إذا ما قطعتني ... يمينك، فانظر أيّ كفّ تبدّل
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حدّ السّيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السّيف مزحل (7)
وكنت إذا ما صاحب ملّ صحبتي ... وبدّل سوءا بالّذي كنت أفعل (8)
قلبت له ظهر المجنّ ولم أدم ... على العهد إلّا ريث ما أتحوّل (9)
إذا انصرفت نفسي عن الشّيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدّهر تقبل (10)
وفي النّاس إن رثّت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحوّل (11)(1/431)
__________
و «تغدو» بالغين المعجمة فى الأصلين وفى الروايات كلها. وحكى التبريزى ان فى رواية «تعدو» بالعين المهملة،
كأنّك تنفي منك داء إساءتي ... وسخطي، وما في ذاك ما يتعجّل (1)
لحى الله من ساوى أخاه بعرسه ... وخدّعه، حاشاك إن كنت تفعل (2)
وإتي على أشياء منك تريبني ... قديما لذ وصفح على ذاك مجمل (3)
وإني أخوك الدّائم العهد لم أحل ... إن ابزاك خصم أو نبا بك منزل (4)
أحارب من حاربت من ذي قرابة ... وأحبس مالي إن غرمت فأعقل (5)
فإن سؤتني يوما صفحت إلى غد ... ليعقب يوما منك آخر مقبل (6)
ستقطع في الدّنيا إذا ما قطعتني ... يمينك، فانظر أيّ كفّ تبدّل
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حدّ السّيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السّيف مزحل (7)
وكنت إذا ما صاحب ملّ صحبتي ... وبدّل سوءا بالّذي كنت أفعل (8)
قلبت له ظهر المجنّ ولم أدم ... على العهد إلّا ريث ما أتحوّل (9)
إذا انصرفت نفسي عن الشّيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدّهر تقبل (10)
وفي النّاس إن رثّت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحوّل (11)
(1) لفظه في الديوان وابى تمام والصداقة: «مساءتى ... وسخطى وما فى ريبتي ما تعجّل».
ورواية البحترى تخالف هذه وتلك.
(2) هذا البيت لم يذكر فى ح «ولا يوجد فى الديوان ولا فى غيره من المصادر التى بين يدي. وقوله «خدعه» كتب فى الأصل بدون نقط، ورجحنا انه بالخاء المعجمة، ومعنى «خدعه». بتشديد الدال: كمعنى «خدعه» بتخفيفها.
(3) البيت مضى فى (ص 321).
(4) «لم احل»: لم أتغير. ورواية ابي تمام «لم اخن». و «ايزاك» اى: غلبك وقهرك.
(5) رواية الديوان والحماسة والصداقة «من ذي عداوة»، ورواية البحترى «من ذى قرابة» كما هنا.
(6) البيت مضى فى (ص 321). ورواية الديوان: «ليعقب يوم» بالرفع وكلاهما جائز.
(7) «مزحل»: مبعد ومهرب.
(8) فى الحماسة والديوان «رام ضنتى.
بدل «مل صحبتى». وفى البحتري «رام هجرة».
(9) فى كل الروايات «على ذاك» بدل «على العهد»
(10) فى ح «على الشىء» وهو خطأ.
(11) «رثت حبالك». اى: خلقت اسباب وصلك. ومتحول:
موضع يتحول إليه.(1/432)
وقال معن بن أوس أيضا (1):
وذي رحم قلّمت أظفار ضغنه ... بحلمي عنه وهو ليس له حلم
يحاول رغمي لا يحاول غيره ... وكالموت عندي أن يحلّ به الرّغم (2)
إذا سمته وصل القرابة سامني ... قطيعتها، تلك السّفاهة والإثم (3)
ويسعى إذا أبني ليهدم صالحي ... وليس الّذي يبني كمن شأنه الهدم
فإن أعف عنه أغض عينا على القذى ... وليس له بالصّفح عن ذنبه علم (4)
وإن أستقد منه أكن مثل رائش ... سهام عدوّ يستهاض بها العظم (5)
فدارأته بالحلم، والمرء قادر ... على سهمه ما دام في كفّه السّهم (6)
فما زلت في رفق به وتعطّف ... عليه كما تحنو على الولد الأمّ (7)
__________
(1) من قصيدة فى ديوانه (ص 92أروبا وص 121مصر) والأمالى (ج 2ص 102 103) وحماسة البحترى (ص 242241) ومنها أبيات فى الصداقة لأبى حيان (ص 131) ولم يسم قائلها. ونقل فى الأغانى (ج 10ص 159158) عن عبد الملك بن هشام قال: «قال عبد الملك بن مروان يوما وعنده عدة من أهل بيته وولده: ليقل كل واحد منكم أحسن شعر سمع به، فذكروا لامرىء القيس والأعشى وطرفة فأكثروا، حتى أتوا على محاسن ما قالوا، فقال عبد الملك: أشعرهم والله الذي يقول: ثم ذكر أبيانا من هذه القصيدة.
(2) «أن يحل به» هكذا أكثر الروايات ومنها أمالى القالى. وفى الديوان «أن يعربه» وهو من رواية القالى أيضا، وشرحها بقوله: «يعربه»: أى يصيبه، ومنه قولهم: عره بشر».
(3) فى البحترى والصداقة «السفاهة والظلم».
(4) فى كثير من الروايات «على قذى».
(5) فى كثير منها أيضا «وإن أنتصر منه».
(6) «دارأنه» كذا فى الأصل بالهمزة، وهو جائز، قال فى اللسان: «وأما المدارأة في حسن الخلق والمعاشرة فان ابن الأحمر يقول فيه: إنه يهمز ولا يهمز، يقال: دارأته مدارأة وداريته: إذا اتقيته ولا ينته». وفي ح «فداريته» على الجادة. وفى الديوان والأمالى «وبادرت منه النّأي والمرء قادر»، وفى البحترى «الثأي» بالثاء المثلثة بدل «النأى» بالنون، وهما سواء، معناهما جميعا: الافساد.
(7) فى الديوان والأمالى «فى لبنى له وتعطفى» ونقل فى الأمالي رواية أخرى كما هنا.
وخفض له منّي الجناح تألّفا ... لتدنيه منّي القرابة والرّحم
وقولي إذا أخشى عليه ملمّة: ... ألا اسلم فداك الخال ذو العقد والعمّ (1)
وصبري على أشياء منه تريبني ... وكظمي على غيظي، وقد ينفع الكظم
ودارأته حتّى أرفأنّ نفاره ... فعدنا كأنّا لم يكن بيننا صرم (2)
وأطفأت نار الحرب بيني وبينه ... فأصبح بعد الحرب وهو لنا سلم (3)
وقال قعنب بن أمّ صاحب من بني عبد الله بن غطفان: (4)
ما بال قوم صديق ثمّ ليس لهم ... عهد وليس لهم دين إذا ائتمنوا؟! (5)
إن يحلفوا لك تسمع قولهم وترى ... أجسام قوم فإنّا بعدهم أفنوا (6)(1/433)
__________
(7) فى الديوان والأمالى «فى لبنى له وتعطفى» ونقل فى الأمالي رواية أخرى كما هنا.
وخفض له منّي الجناح تألّفا ... لتدنيه منّي القرابة والرّحم
وقولي إذا أخشى عليه ملمّة: ... ألا اسلم فداك الخال ذو العقد والعمّ (1)
وصبري على أشياء منه تريبني ... وكظمي على غيظي، وقد ينفع الكظم
ودارأته حتّى أرفأنّ نفاره ... فعدنا كأنّا لم يكن بيننا صرم (2)
وأطفأت نار الحرب بيني وبينه ... فأصبح بعد الحرب وهو لنا سلم (3)
وقال قعنب بن أمّ صاحب من بني عبد الله بن غطفان: (4)
ما بال قوم صديق ثمّ ليس لهم ... عهد وليس لهم دين إذا ائتمنوا؟! (5)
إن يحلفوا لك تسمع قولهم وترى ... أجسام قوم فإنّا بعدهم أفنوا (6)
(1) «ذو العقد» اى: ذو العهد والجوار، وهذه توافق رواية الأمالى وفى الديوان «الخال والعقد» وفى البحترى «الخال والأب» ولكل وجه، وفى ح «ذو الفقد» وهو تصحيف.
(2) هذا البيت لا يوجد فى الديوان ولا فى غيره من المصادر إلا فى الأمالى، ولكن فيه «فداويته حتى ارفأن» الخ. و «ارفأن» أي:
سكن ما كان به، والمرفئن: الساكن. والصرم بفتح الصاد وبضمها: القطع.
(3) فى الديوان «فأطفأت» وفى الأمالى «وأطفأ».
(4) هو قعنب بن ضمرة، وأم صاحب: أمه، فنسب اليها، وهو أحد بنى عبد الله بن غطفان، وكان فى أيام الوليد بن عبد الملك، ولم أجد شيئا من أخباره الا هذا الذي ذكره التبريزي فى شرح الحماسة (ج 4ص 12). وهذه الأبيات من قصيدة طويلة، روى ابن الشجرى بعضها فى المختارات (ص 97) فى الطبعة الحجرية وص 86من القسم الأول فى طبعة الأستاذ الشيخ محمود زناتي»، فذكر أولا ثلاثة عشر بيتا ثم ذكر من الأبيات التى هنا سعة أبيات، وهى (1و 118و 14و 17) مع اختلاف فى الترتيب، وذكر بيتين آخرين.
ووجدت منها بيتا آخر فى لسان العرب (ج 17ص 234) لم يذكر هنا ولا عند ابن الشجرى، وروى أبو حيان فى الصداقة عشرة أبيات (ص 116115)، وروى أبو تمام فى الحماسة ثلاثة أبيات (ج 2ص 167)، وروى فى عيون الأخبار ثلاثة أيضا (ج 3ص 84)، وروى فى لسان العرب سبعة أبيات مما هنا فى مواضع مختلفة، وهى (ج 12ص 63) وج 16ص 148وج 17ص 59و 161و 238).
(5) «صديق» مما يقال للمفرد والجمع وللمذكر والمؤنث بصيغة واحدة.
(6) هكذا بالأصلين ولم نجد البيت، ولعل صواب انشاده: «فإمّا تعدهم أفنوا» ويريد أنك حين تخاطبهم تجدهم أولى صدق وعقل وأجسام تغر، فاذا عدوتهم وتجاوزتهم عادوا إلى الأفن، وهو الحمق وضعف العقل. كتبه محمود شاكر(1/434)
إذا تواريت أدلوا فيّ ألسنهم ... ولا يبالون لي بالله ما متنوا (1)
قوم بهم عرّة تدمى جوانبها ... إذا أشاء بدالي منهم ضغن (2)
طرّوا على جرب أغفلته فهم ... ربد الجلود على السّوءات قد عدنوا (3)
لا يرفعون إلى السّلطان وجههم ... ولا العدوّ، فأمّا لي فقد طبنوا (4)
فطانة فطنوها لو تكون لهم ... مروءة أو تقى لله ما فطنوا
شبه العصافير أحلاما ومقدرة ... لو يوزنون بزفّ الرّيش ما وزنوا (5)
جهلا علينا وجبنا عن عدوّهم ... لبئست الخلّتان: الجهل والجبن (6)
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا (7)
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا ... منّي، وما سمعوا من صالح دفنوا (8)
وقد رجوا أن أرى أعراضهم حرما ... ويستحلّون عرضي، ما لهم؟ لعنوا!
إذا بطنت أرجّي ودّهم ظهروا ... وإن ظهرت لبقيا فيهم بطنوا (9)
__________
(1) بحاشية الأصل ما نصه «متنوا: حلفوا» وهذا معنى لم نجد ما يؤيده فى كتب اللغة.
ولعل صواب إنشاده: «ولا يبالون بي، لله ما متنوا». من قولهم «متنه» أي ضرب متنه وهو ظهره، ويريد قعنب: ما آذوه به بعد ما ولاهم ظهره. فجعل كلامهم واغتيابهم ضربا يصيب متنه. ولم نجد البيت فى كتاب مما بين أيدينا. كتبه محمود شاكر
(2) العرة:
الجرب. والضغن بفتح الضاد والغين: لغة فى الضغن بكسر الضاد وإسكان الغين.
(3) «ربد» جمع «أربد» وهو المغير اللون. و «عدن»: أقام. وكلمة «السوءات» رسمت فى الأصلين «السواة» وهو خطأ.
(4) «طبنوا» من بابي فرح وضرب: فطنوا، والطبن بفتح الباء الفطنة.
(5) فى ابن الشجرى «مثل العصافير وكذلك في اللسان (ج 17ص 338) ثم قال: «قال ابن بري: الذي فى شعره: شبه العصافير». و «زف الريش» بكسر الزاي وتشديد الفاء: صغاره.
(6) فى الصداقة «عن عدوكم» وكذلك فى البحترى (ص 248) وما هنا موافق للحماسة وابن الشجرى ولسان العرب. وكلمة «لبئست» رسمت فى الأصل «لبيسه». وهذا البيت لم يذكر فى ح.
(7) «أذنوا»: استمعوا. وهذا البيت مؤخر فى اللسان عن الذى بعده.
(8) فى عيون الأخبار «إن يسمعوا سيأ طاروا به فرحا» وما هنا موافق للحماسة وابن الشجرى والصداقة ولسان العرب.
(9) «بطن» من باب قعد: أى خفى فهو باطن. وفى الصداقة: «وان بطنت أؤاخى ودهم وان ظهرت للقيا كيدهم».(1/435)
وقد علمت على أنّي أعايشهم * لم يبرح الدّهر فيما بيننا إحن (1)
كلّ يداجي على البغضاء صاحبه ... فلم أعالنهم إلّا كما علنوا (2)
لا تطمئنّ إليّ الدّهر أنفسهم ... من العداوة والضّغن الّذي اضطغنوا
ولن يراجع قلبي ودّهم أبدا ... زكنت منهم على مثل الّذي زكنوا (3)
وقال أبو الأسود الدّئليّ (4):
من مبلغ عنّي خليلي مالكا ... رسولا إليه حيث كان من الأرض:
فما لك مسهوما إذا ما لقيتني ... تقطّع عنّي طرف عينك كالمغضي (5)
ومالي إذا ما أخلق الودّ بيننا ... أمرّ القوى منه وتعمل في النّقض؟ (6)
ألم تر أنّي لا ألوّن سيمتي ... تلوّن غول اللّيل بالبلد المفضي؟ (7)
فسل بي، ولا تستحي منّي، فإنّه ... كذلك بعض النّاس يسأل عن بعض
وقال أيضا:
أعود على المولى وإن زلّ حلمه * بحلمي، وكان العود أبقى وأحمد (8)
وكنت إذا المولى بدا لي غشّه ... تجاوزت عنه وانتظرت به غدا
__________
(1) البيت لم يذكر فى ح. وفي ابن الشجرى والصداقة «لا تبرح الدهر».
(2) فى الصداقة ولسان العرب (ج 17ص 161): «وان أعالنهم».
(3) «زكنت من فلان كذا»: أي علمته. وهذه الرواية توافق رواية اللسان (ج 17ص 59) وفى الصداقة: «زكنت من بغضهم مثل الذي زكنوا»، وفى تهذيب الألفاظ لابن السكيت (ص 547) «ز كنت من أمرهم».
(4) هذه الأبيات ليست فى ح.
(5) المسهوم: المتغير اللون.
(6) أمر القوى:
أى أفتل قوى الحبل، وهى طاقاته، والمربرة: الحبل الشديد الفتل.
(7) البيت رواه البحتري في الحماسة (ص 67) لأبى الأسود. وفيه «فى البلد المفضى»، وفيه أيضا «شيمتى» بالشين المعجمة، وما هنا بالسين المهملة: أجود، لأن السيمة هى العلامة، كالسيما والسيماء والسيمياء، ووصفها بالتلون أنسب.
(8) زل: بالزاى المعجمة كما فى ح، وفى الأصل «دل» بالدال، وهو تصحيف.
لتحكمه الأيّام أو لتردّه ... عليّ، ولم أبسط لسانا ولا يدا (1)
وإنّي لذو حلم كثير، وإنّني ... مرارا لأشفي داء من كان أصيدا (2)(1/436)
__________
(8) زل: بالزاى المعجمة كما فى ح، وفى الأصل «دل» بالدال، وهو تصحيف.
لتحكمه الأيّام أو لتردّه ... عليّ، ولم أبسط لسانا ولا يدا (1)
وإنّي لذو حلم كثير، وإنّني ... مرارا لأشفي داء من كان أصيدا (2)
ومن بليغ المراثى
كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كثيرا ما ينشد هذا الشعر:
ألا قد أرى والله أن لست منكم ... ولا أنتم منّي، وإن كنتم أهلي
وأنّي ثويّ قد أحمّ انطلاقه ... يحيّيه من حيّاه وهو على رحل (3)
ومنطلق منكم بغير صحابة ... وتابع إخواني الذين مضوا قبلي (4)
ألم أك قد صاحبت عمرا ومالكا ... وأدهم يغدو في فوارس أو رجل
وصاحبت شيبانا وصاحبت ضابيا ... وصاحبني الشّمّ الطّوال بنو شبل
أولئك إخواني مضوا لسبيلهم ... يكاد ينسّيني تذكّرهم عقلي
يقول أناس أخلياء: تناسهم ... وليس بناس مثلهم أبدا مثلي (5)
ألاك أخلّائي إذا ما ذكرتهم ... بكيت بعين ماء عبرتها كحلي (6)
وكانوا إذا ما القرّ هبّت رياحه ... وضمّ سواد اللّيل رحلا إلى رحل (7)
يدرّون بالسّيف الوريدين والنّسا ... إذا لم يقم راعي أناس إلى رسل
إذا ما لقوا أقرانهم قتلوهم ... وإن قتلوا لم يقشعرّوا من القتل
(1) لتحكمه: بفتح التاء مع ضم الكاف، أو بضم التاء مع كسر الكاف، يقال «حكمه وأحكمه» ي: منعه مما يريد وأخذ على يده.
(2) الأصيد: الذي في رقبته أو رأسه علة تمنعه من لالتفات وبرفع معها رأسه، ومنه قيل للملك «أصيد» لأنه لا يلتفت. وقد كنى بهذا هنا عن الكبر والتعاظم.
(3) الثوي: الضيف أو الأسير.
(4) صحابة: بكسر الصاد وبفتحها، كلاهما جمع صاحب.
(5) فى الأصلين «أخلياء بناسهم» وهو تصحيف.
(6) كذا فى لأصلين ولم نصل إلى تحقيق هذا الحرف.
(7) فى الأصل «إلى رحلي» وصححناه من ح.
وكم من أسير قد فككتم قيوده ... وسجل دم أهرقتموه على سجل (1)
وقال هذيلة بن سماعة بن أشول: (2)
وعاذلة باتت باليل تلومني ... فبتّ كأنّ الهمّ قرن أجاذبه (3)
ذكرت بني سهل وبيني وبينهم ... شراج الحمى أركانه ومناكبه (4)
أجدّي لن ألقى زيادا ولا أرى ... قنانا يقود الخيل شعثا ذوائبه (5)
ولا مثل فتيان توالوا بمنع ... عجالى إذا ما الجوف أوضع راكبه (6)
رجالا لو أنّ الشّمّ من جانبي قنا ... هوى مثلهم منها لزلّت جوانبه (7)
وقال الحارث بن حلّزة، وقيل إنها منحولة: (8)
أرقا بتّ ما ألذّ رقادا ... تعتريني مبرّحات الأمور(1/437)
__________
(7) فى الأصل «إلى رحلي» وصححناه من ح.
وكم من أسير قد فككتم قيوده ... وسجل دم أهرقتموه على سجل (1)
وقال هذيلة بن سماعة بن أشول: (2)
وعاذلة باتت باليل تلومني ... فبتّ كأنّ الهمّ قرن أجاذبه (3)
ذكرت بني سهل وبيني وبينهم ... شراج الحمى أركانه ومناكبه (4)
أجدّي لن ألقى زيادا ولا أرى ... قنانا يقود الخيل شعثا ذوائبه (5)
ولا مثل فتيان توالوا بمنع ... عجالى إذا ما الجوف أوضع راكبه (6)
رجالا لو أنّ الشّمّ من جانبي قنا ... هوى مثلهم منها لزلّت جوانبه (7)
وقال الحارث بن حلّزة، وقيل إنها منحولة: (8)
أرقا بتّ ما ألذّ رقادا ... تعتريني مبرّحات الأمور
(1) «سجل» بالجيم فى الموضعين، وهو: الدلو. وفي ح بالحاء المهملة، وهو تصحيف.
(2) سماعة بن الأشول النعامي: شاعر معروف، ذكر فى لسان العرب (ج 13ص 401) وشرح القاموس (ج 7ص 401) نقلا عن ابن الأعرابى. وروى له ابن قتيبة فى عيون الأخبار قصيدة (ج 3ص 262261) وروى له صاحب الأغانى بيتين (ج 2ص 113)، وأما ابنه هذيلة فاني لم أجده أصلا، وقد روى ياقوت فى معجم البلدان (ج 7ص 163) البيت الخامس من الأبيات الآتية وسمى قائلها «مسلمة بن هذيلة»، فلعله ابن هذا. ولم أجد ما يرجح أحد النقلين على الآخر. وهذه الأبيات لم تذكر فى ح.
(3) فى الأصل «قرنا» بالنصب وهو لحن.
(4) الشراج: جمع «شرج» باسكان الراء، وهو مسيل الماء من الحرار إلى السهولة. وفى الأصل «سراج» بالسين المهملة، وهو تصحيف. والحمى لعله «حمى ضريّة» وهو أشهر الحمى كما قاله ياقوت. ولأن «منعجا» الذى سيأتى فى البيت الرابع هو جانب الحمى حمى ضرية، أنظر المادتين فى المعجم.
(5) «قنان» بفتح القاف: جبل فيه ماء يدعى العسيلة بالتصغير لبنى أسد.
(6) الجوف بالجيم اسم مكان. وفى الأصل «الخوف» بالخاء، وهو تصحيف. و «منعج» اسم موضع أيضا، والراجح فيه كسر العين، ويروى بفتحها. وانظر المعجم وشرح القاموس.
(7) «قنا» بفتح القاف مقصور: وهو اسم موضع أيضا. والبيت فى رواية ياقوت (ج 7ص 163):
رجالا لو انّ الصّمّ من جانبى قنا ... هوى مثلها منه لزلت جوانبه
(8) من أبيات فى ديوان الحارث، المطبوع ببيروت مع ديوان عمرو بن كلثوم (ص 25)(1/438)
واردات وصادرات إلى أن ... حسر المدلهمّ ضوء البشير (1)
قذفتك الأيّام بالحدث الأك ... بر منها وشاب كلّ صغير (2)
وتفانى بنو أبيك فأصبح ... ت عقيرا للدّهر أو كالعقير
ليس من حادث الزّمان إذا جا ... ر على أهل غبطة من مجير (3)
وقال يزيد بن ضبّة ابن مقسم (4):
لم ينس سلمى فؤادك السّدك ... فكيف تصبو وأنت محتنك (5)
لو كان ما واحدا هواك لقد ... أقصرت، لكن هواك مشترك (6)
تقول سلمى واستنكرت: عجبا! * ما بال أشياء منك تنتهك؟! (7)
فقلت من ترحة ومن أسف: ... أبناء عوف ومالك هلكوا
خلّوا فجاجا عليّ فانخرقت ... لم يستطع سدّهنّ من تركوا
وقال أبو العيص بن حزام (8):
__________
(1) فى الديوان «واردات وضاجرات»
(2) فى الديوان روايتان: إحداهما هذه، والأخرى «وشاب رأس الصغير»
(3) فى الديوان «إذا حل» بدل «إذا جار». وهذه الأبيات لم تذكر فى ح وكذلك التى بعدها.
(4) «ضبة» بالضاد المعجمة والباء الموحدة، وفى الأصل «ضمة» بالميم، وهو خطأ. وضبة هذه هى أم يزيد، وأبوه اسمه «مقسم» ولذلك يقرأ «ابن مقسم» هنا بالرفع. قال عبد العظيم بن عبد الله بن يزيد بن ضبة الثقفى: «كان جدى يزيد بن ضبة مولى لثقيف، واسم أبيه مقسم، وضبه أمه، غلبت على نسبه، لأن أباه مات وخلفه صغيرا، فكانت امه تحضن أولاد المغيرة بن شعبة، ثم أولاد ابنه عروة بن المغيرة، فكان جدى ينسب إليها لشهرتها» تقله فى الأغاني فى ترجمته (ج 6ص 141)، ولم أجد هذه الأبيات. وهي من نادر الشعر فى الرثاء المبدؤ بالغزل.
(5) السدك: المولع بالشىء، وهى لغة طئ، كما في اللسان. و «محنتك» بفتح النون، وهو الرجل العاقل المتناهي عقله وسنه. وفى الأصل «محتبك» بالباء، وهو تصحيف.
(6) «ما» في قوله «ما واحدا زائدة».
(7) وتنتهك، من قولهم «نهكه المرض» أى أجهده وأضناه ونقص لحمه، وانتهك: مبالغة فى ذلك.
(8) لم أجد هذا الشاعر، ولكن الشريف المرتضى ذكر الأبيات في أماليه (ج 4ص 129128) وسماه «أبا العيص بن خزام بالخاء المعجمة بن عبد الله بن قتادة المازنى»، ولم أجزم بترجيح قوله أو قول المؤلف، وقد يكون ما هناك خطأ من الطبع.(1/439)
وكم من صاحب قد ناء عنّي ... رميت بفقده وهو الحبيب (1)
فلم أبد الّذي تحنو ضلوعي ... عليه، وإنّني لأنا الكئيب
مخافة أن يراني مستكينا ... عدوّ أو يساء به قريب (2)
فيشمت كاشح ويظنّ أنّي ... جزوع عند نائبة تنوب
فبعدك مدّت الأعداء طرفا ... إليّ ورابني دهر مريب (3)
[وأنكرت الزّمان وكلّ أهلي ... وهرّتني لغيبتك الكليب] (4)
وكنت تقطّع الأنظار دوني ... وإن وغرت من الغيظ القلوب (5)
[ويمنعني من الأعداء أنّي ... وإن رغموا لمخشيّ مهيب] (6)
فلم أر مثل يومك كان يوما ... بدت فيه النّجوم فما تغيب (7)
وليل ما أنام به طويل ... كأنّي للنّجوم به رقيب
وما يك جائيا لا بدّ منه ... إليك فسوف تجلبه الجلوب (8)
وقال رقيع بن عبيد بن صيفيّ الأسديّ، ويرثي أخاه صيفيّا وابن أخيه معبدا (9):
لحى الله دهرا شرّه دون خيره ... وحدّا بصيفيّ نأى بعد معبد (10)
__________
(1) «ناء» بمعنى «نأى» على القلب وعند الشريف «بان».
(2) عند الشريف «عدو لا يشابهه قريب».
(3) عنده «شدت الأعداء طرفا»، وقال فى شرحه «أى نظرت الىّ نظرا شديدا فظهر الغضب من عيونها».
(4) الزيادة من الشريف.
وهو الكلب: اذا نبح وكشر عن نابه. و «الكليب» جمع كلب، بوزن: عبد وعبيد، وهو جمع عزيز، كما فى اللسان.
(5) فى ح «تقطع الأبصار» كما عند الشريف.
(6) الزيادة من الشريف.
(7) في الأصل «ولم أر» وما هنا هو الذي فى ح وأمالي الشريف.
(8) فى ح «ومن يك حانيا» وهو خطأ.
(9) لم أجد لهذا الشاعر ذكرا إلا قول المرتضى فى شرح القاموس (ج 5ص 360): «رقيع كزبير: شاعر والبي إسلامي أسدي فى زمن معاوية» وهذا الشعر لم يذكر فى ح.
(10) «لحى» رسمت فى الأصل بالألف.
بقيّة خلّاني أتى الدّهر دونهم ... فما جزعي؟ أم كيف عنهم تجلّدي؟ (1)
فلو أنّها إحدى يديّ رزئتها ... ولكن يدي بانت على إثرها يدي
فلست بباك بعده إثر هالك ... قدي الآن من وجد على هالك قدي
وقال دعبل الخزاعيّ يرثي قومه: (2)
كانت خزاعة ملء الأرض ما اتّسعت ... فقصّ مرّ اللّيالي من حواشيها
هذا أبو القسم الثّاوي ببلقعة ... تسفي الرّياح عليه من سوافيها (3)
هبّت وقد علمت أن لا هبوب به ... وقد تكون حسيرا إذ يباريها
[أضحى قرى للمنايا إذ نزلن به ... وكان في سالف الأيّام يقريها] (4)
وقال عبد الله بن المعتزّ (5):(1/440)
__________
(10) «لحى» رسمت فى الأصل بالألف.
بقيّة خلّاني أتى الدّهر دونهم ... فما جزعي؟ أم كيف عنهم تجلّدي؟ (1)
فلو أنّها إحدى يديّ رزئتها ... ولكن يدي بانت على إثرها يدي
فلست بباك بعده إثر هالك ... قدي الآن من وجد على هالك قدي
وقال دعبل الخزاعيّ يرثي قومه: (2)
كانت خزاعة ملء الأرض ما اتّسعت ... فقصّ مرّ اللّيالي من حواشيها
هذا أبو القسم الثّاوي ببلقعة ... تسفي الرّياح عليه من سوافيها (3)
هبّت وقد علمت أن لا هبوب به ... وقد تكون حسيرا إذ يباريها
[أضحى قرى للمنايا إذ نزلن به ... وكان في سالف الأيّام يقريها] (4)
وقال عبد الله بن المعتزّ (5):
لله أقوام فقدتهم ... سكنوا بطون الأرض والحفرا
مرد الزّمان عليّ بعدهم ... وعرفت طول الهمّ والسّهرا (6)
وقال أبان بن النعمان بن بشير يرثي أخاه (7):
(1) «اتى» كتبت فى الأصل «أبى» بالباء، وهو خطأ.
(2) هذه الأبيات لم تذكر فى ح.
ودعبل له: جمة فى الأغاني (ج 18ص 6029)، والأبيات هناك (ص 34)، وذكر أن دعبلا يرثى بذلك ابن عم له من؟؟؟؟ اليه، واسمه: ابو القاسم المطلب بن عبد الله بن مالك. ونقل عن محمد بن يزيد أنه قرظ هذه الأبيات بقوله: «ولقد أحسن فيها ما شاء».
(3) «سوا فيها» بالفاء، وفى الأصل بالقاف، وهو خطأ.
(4) الزيادة من الأغاني.
(5) البيتان ليسا فى ديوانه.
(6) فى الأصل «على ببعدهم»، وهو خطأ صححناه من ح
(7) النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصارى الخزرجي: صحابي شاعر معروف. وأما ابنه أبان فانى لم اجد ذكرا له إلا فى تاريخ الطبري (ج 7ص 158) فى قصة قتل أخته عمرة بنت النعمان، وهي وجة المختار بن أبي عبيد الثقفى الكذاب. وأما أخوه يزيد بن النعمان الذي رثاه بالبيتين فانه مترجم فى طبقات ابن سعد (ج 5ص 199) وقال إن أمه هى «نائلة بنت بشير بن عمارة، من بنى ماوية من كلب»، ومن البيتين هنا نعرف أنها أيضا ام أبان بن النعمان.
والبيتان لم يذكرا فى ح.(1/441)
وأنا ابن أمّك يا يزيد فمن يكن ... يسلو فقلبي موجع محزون
وإذا رأيت منازلا خلّفتها ... حسب المحدّث أنّني مجنون
قال الاصمعيّ: أرثى ما قالت العرب قول الشاعر (1):
ومن عجب أن بتّ مستشعر الثّرى ... وبتّ بما خوّلتني متمتّعا (2)
ولو أنّني أنصفتك الودّ لم أبت ... خلافك حتّى ننطوي في الثّرى معا
قلت: ما رأيت أن أخلي هذا الباب من ذكر شيء من المراثى، فذكرت هذه النبذة منها، وقد أوردت في كتابي المترجم بكتاب (التأسّي والتسلّي من المراثي والتعازي) ما غنيت به عن الإطالة هاهنا.
ومن بليغ مليح الغزل
قول الأقرع بن معاذ القشيريّ (3):
سلام على من لا يملّ كلامه ... وإن عاشرته النّفس عصرا إلى عصر
فما الشّمس وافت يوم دجن فأشرقت ... ولا البدر وافى أسعدا ليلة البدر
بأحسن منها، أو تزيد ملاحة ... على ذاك، أو راءى المحبّ؟ فما أدري!
وقول ابن الملوّح (4):
كأنّ على أنيابها الخمر شابها ... بماء النّدى من آخر اللّيل عابق (5)
__________
(1) وكذلك نقل العسكري فى ديوان المعاني (ج 2ص 175) ولكن البيت الأول هناك محرف.
ونقلهما المبرد فى الكامل (ج 1ص 151) ونسبهما لشاعر يرثي ابنه.
(2) فى الكامل وديوان المعانى «زودتنى» بدل «خولتنى».
(3) لم أجد هذه الأبيات، وله شعر آخر في حماسة ابي تمام (ج 2ص 294) والأمالى (ج 2ص 40و 274).
(4) الملوح: ضبط فى الأصل العتيق بكسر الواو، وابن الملوح هو قيس المعروف باسم «مجنون بنى عامر». وترجمته وأخباره فى الشعراء لابن قتيبة (ص 364355) والأغانى (ج 1ص 161ج 2ص 16 طبعة الساسى) و (ج 2ص 961طبعة دار الكتب).
(5) فى الأغاني «شجها» وهو بمعنى «شابها» أي مزجها. وفيه أيضا «عاتق»، وأنا أظن أن ما هنا أرجح.
وما ذقته إلّا بعيني تفرّسا ... كما شيم من أعلى السّحابة بارق (1)
يضمّ عليّ اللّيل أوصال حبّكم ... كما ضمّ أزرار القميص البنائق (2)
وماذا عسى الواشون أن يتحدّثوا ... سوى أن يقولوا: إنّني لك عاشق
أجل، صدق الواشون، أنت حبيبة ... إليّ وإن لم تصف منك الخلائق (3)
وقال مضرّس بن قرط بن حارث المزنيّ (4):(1/442)
__________
(5) فى الأغاني «شجها» وهو بمعنى «شابها» أي مزجها. وفيه أيضا «عاتق»، وأنا أظن أن ما هنا أرجح.
وما ذقته إلّا بعيني تفرّسا ... كما شيم من أعلى السّحابة بارق (1)
يضمّ عليّ اللّيل أوصال حبّكم ... كما ضمّ أزرار القميص البنائق (2)
وماذا عسى الواشون أن يتحدّثوا ... سوى أن يقولوا: إنّني لك عاشق
أجل، صدق الواشون، أنت حبيبة ... إليّ وإن لم تصف منك الخلائق (3)
وقال مضرّس بن قرط بن حارث المزنيّ (4):
تكذّبني بالودّ سعدى فليتها ... تحمّل منّي مثله فتذوق (5)
ولو تغلمين العلم أيقنت أنّني ... لكم والهدايا المشعرات صديق (6)
أذود سواد العين عنك وماله ... إلى أحد إلّا إليك طريق
أهمّ بصرم الحبل ثمّ يردّني ... إليك من النّفس الشّعاع فريق (7)
وكادت بلاد الله يا أمّ مالك ... بما رحبت يوما عليّ تضيق (8)
تتوق إليك النّفس ثمّ أردّها ... حياء، ومثلي بالحياء حقيق
(1) فى الأغانى «فى أعلى السحابة». وهذا البيت والذى قبله هناك (ج 1ص 172ساسي وج 2ص 32دار الكتب) وقال: «ومن الناس من يروى هذه الأبيات لنصيب».
(2) البيت واللذان بعده فى الأغانى (ج 2ص 2ساسى وج 2ص 61دار الكتب) ونسبها للمجنون، وكذلك فى لسان العرب (ج 11ص 309) ولكن سمى المجنون «قيس بن معاذ». وفى الأغانى «أطراف حبكم». و «البنائق» هنا: عرا القميص.
(3) فى الأغانى واللسان «نعم» بدل «أجل». وفى الأصل «يصف» بالياء.
(4) هذا هو الموافق لما فى الأمالى (ج 2ص 257) وبعض نسخ الأغانى (ج 5ص 19ساسى و 193دار الكتب) وفى الأصل «قرطة» وفي بعض نسخ الأغانى «قرظة». والأبيات من قصيدة طويلة فى الأمالى. ولم يرو منها صاحب الأغاني إلا البيت الثانى مع بيتين لم يذكرا هنا.
(5) كذا فى الأصلين «تكذبنى». وفى الأمالى «تعذبنى». وفيها أيضا «تحمل منا».
(6) ما هنا موافق للاغانى. وفى الأمالى: «أننى * ورب الهدايا المشعرات».
(7) فى ح «أهم بقطع الحبل». وما في الأصل موافق للأمالى.
ولمجموعة المعانى (ص 209208)
(8) فى الامالى «يا أم معمر». وما هنا موافق لما فى كتاب الزهرة لابي بكر بن داود الاصفهانى (ص 41)(1/443)
وقال أبو صخر الهذليّ (1):
أما والّذي أبكى وأضحك والّذي ... أمات وأحيا والّذي أمره الأمر (2)
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذّعر (3)
عجبت لسعي الدّهر بيني وبينها ... فلمّا انقضى ما بيننا سكن الدّهر
فيا حبّها زدني جوى كلّ ليلة ... ويا سلوة الأيّام موعدك الحشر
وإنّي لتعروني لذكراك روعة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر (4)
وإنّي لآتيها أريد عتابها ... وأوعدها بالهجر ما برق الفجر (5)
فما هو إلّا أن أراها فجاءة ... فأبهت لا عرف لديّ ولا نكر
وأنسى الّذي قد كنت فيه أتيتها ... كما قد تنسّي لبّ شاربها الخمر (6)
ويمنعني من بعض إنكار ظلمها * إذا ظلمت يوما وإن كان لي عذر:
مخافة أنّى قد علمت لئن بدا ... لي الهجر منها ما على هجرها صبر
وأنّي لا أدري إذا النّفس أشرفت ... على هجرها ما يصنعنّ بي الهجر (7)
__________
(1) ترجمة ابى صخر فى الأغانى (ج 21ص 10094) وفيها أبيات من القصيدة (ص 97) وكذلك فى الخزانة للبغدادى (ج 3ص 338330) وذكر القصيدة هناك. والقصيدة ايضا فى الأمالى (ج 1ص 150148) وانظر التنبيه (ص 5352) وبعضها فى شواهد المغنى للسيوطى (ص 62) ولسان العرب (ج 2ص 461) والحماسة بشرح التبريزي (ج 3ص 119) والزهرة (ص 35و 277) ومعجم البلدان (ج 2ص 342) والشعراء لابن قتيبة (ص 355) وذكر انها لابي صخر وأن بعض الرواة نسبها للمجنون. وفى كل هذه الروايات اختلاف فى الالفاظ وفى ترتيب الأبيات.
(2) «ابكى» رسمت فى الأصلين بالالف.
(3) فى الأمالى وبعض الروايات الأخرى «أغبط الوحش»
(4) الرواية المشهورة «لذكراك هزة». وانظر الخزانة.
(5) في اكثر الروايات:
لقد كنت آتيها وفى النّفس هجرها ... بتاتا لأخرى الدّهر ما ظلع الفجر
(6) فى الامالى وغيره «كنت فيه هجرتها».
(7) فى الامالى وغيره «ما يبلغن بى الهجر».(1/444)
وقال آخر: (1)
أمزمعة للبين ليلى ولم تمت؟ ... كأنّك عمّا قد أظلّك غافل!
ستعلم إن زالت بهم غربة النّوى ... وزالوا بليلى أنّ لبّك زائل
وأنّك مسلوب التّصبّر والأسى ... إذا بعدت ممّن تحبّ المنازل
وقال آخر: (2)
يقرّ بعيني أن أرى من بلادها ... ذرى عقدات الأجرع المتقاود (3)
وأن أرد الماء الّذي وردت به ... سليمى، وقد ملّ السرى كلّ واحد (4)
وألصق أحشائي ببرد حياضه ... ولو كان مخلوطا بسمّ الأساود (5)
وقال أبو نباته الكلابيّ (6):
__________
(1) البيتان الأولان في الأمالى (ج 1ص 164) ونسبهما للمجنون مع اختلاف فى اللفظ يسير. ونقل عن ابن المدبر أنه قال: «ما سمعت أغزل من هذه البيتين».
(2) الأبيات فى الأمالي (ج 1ص 63) ولم ينسبها، وفى الكامل (ج 1ص 32متن وج 1ص 170بشرح المرصفي) وسمى قائلها «نبهان بن عكّىّ العبشميّ» مع اختلاف فى الألفاظ.
(3) فى الأصلين «تقريعينى» وهو خطأ ورواها المبرد «يقرّ بعينى» وقال إنه سمعها هكذا، وقال تلميذه أبو الحسن الأخفش «يريد يقر عينى ثم أتى بالباء توكيدا» ثم ذهب إلى ان رواية «يقر» بفتح الياء والقاف:
أجود. وقوله «من بلادها» فى روايتى الكامل والأمالى «من مكانه»، وارى ان ماهنا أجود وأحسن معنى. والعقدات بكسر القاف جمع «عقدة» بالكسر أيضا، وهى: المتراكم من الرمل. والأجرع:
الأرض ذات الحزونة تشبه الرمل. وفي الكامل والأمالي «الأبرق» وهو: حجارة يخلطها رمل وطين. والمتقاود: المنقاد المستقيم.
(4) فيهما «شربت» بدل «وردت» و «واحد» بالحاء المهملة وهى رواية المبرد وفسر ذلك بانه: المنفرد فى السير المتوحد به وفى ح «واخد» بالخاء المعجمة وكذلك فى الأمالى، وذكر الأخفش أنها رواية أيضا من الوخد والوخدان، وهو السير الشديد، وذكر رواية أخرى «واجد» بالجيم أي: عاشق.
(5) فى الكامل والأمالى «ببرد ترابه» والأساود: الحيات.
(6) لم أجد هذا الشاعر أصلا. ونباتة: يحتمل فيه ضم النون، وهو الأكثر في الأسماء، ويحتمل الفتح، ولعله الأرجح هنا، لأن الزبيدي نقل فى شرح القاموس (ج 1ص 590) اسم «نباتة بن حنظلة» بالفتح وأنه من بنى بكر بن كلاب، وهذا الشاعر كلابى، فلعله يكون بالفتح أقرب.
وهذا الشعر والذى بعده لم يذكرا فى ح.(1/445)
أريتك إن نجدا ألظّ بأرضه ... وحرّته العليا الغيوث الرّواجس (1)
وعاد نبات الأرض رطبا كأنّه * إذا اطّردت فيه الرّياح الطّيالس؟
أمطّلع تلك البلاد فناظر ... إلى أهلها؟ أم أنت من ذاك آيس؟
وقال أيضا:
بدالي وللتّيميّ قلّة صامع ... على بعده مثل الحصان المجلل (2)
فقلت: أرى تلك البلاد الّتي بها ... أميمة، يا شوق الأسير المكبّل!
وقال آخر: (3)
سقى بلدا أمست سليمى تحلّه ... من المزن ما تروي به وتسيم
وإن لم أكن من ساكنيه فإنّه ... يحلّ به شخص عليّ كريم
وقال قيس بن الملوّح (4):
حججت ولم أحجج لذنب جنيته ... ولكن لتعدي لي على قاطع الحبل
دهبت بعقلي في هواها صغيرة ... وقد كبرت سنّي فردّ بها عقلي
وإلّا فساو الحبّ بيني وبينها ... فإنّك يا مولاي تحكم بالعدل
وقال أيضا: (5)
دعوت إلهي دعوة ما جهرتها ... وربّي بما تخفي الصّدور بصير
__________
(1) هذا البيت رسم في الأصل بدون نقط تقريبا و «نجدا» رسمت هكذا: «تحذا». وقد رجح أخى السيد محمود محمد شاكر أن يكون صواب قراءته كما كتب هنا، وشرحه هو على ما راى فقال: ألظ المطر: دام وألح وفى عالية نجد ثلاث حرار مشهورات: حرة سليم وحرة شوران وحرة ليلى، وهى التى يريدها هذا الكلابى، فقد نقل ياقوت عن السكري أن «حرة ليلى» معروفة فى بلاد بنى كلاب.
(2) «صامع» يظهر من سياق الكلام انه اسم جبل، ولم نجده فى شيء من كتب البلدان التى بين أيدينا، ولا فى أسماء الأماكن فى الكتب الاخرى التى لها فهارس منظمة، فهو فائدة تستفاد من هذا الكتاب الذى انفرد برواية البيتين.
(3) البيتان فى الأمالى (ج 1ص 37) مع غيرهما لشاب غير مسمى.
(4) هذه الأبيات لم تذكر فى ح، ولم أجدها فى مكان آخر.
(5) وهذه أيضا ليست فى ح ولم أجد منها إلا البيت الثالث فى ضمن قصيدة فى ديوانه (ص 45طبعة بولاق سنة 1294).
لئن كنت تهدي برد أنيابها العلى ... لأفقر منّي، إنّني لفقير (1)
فما أكثر الأخبار: أن قد تزوّجت ... فهل يأتينّي بالطّلاق بشير؟!
وقال ذو الرّمة (2):(1/446)
__________
(5) وهذه أيضا ليست فى ح ولم أجد منها إلا البيت الثالث فى ضمن قصيدة فى ديوانه (ص 45طبعة بولاق سنة 1294).
لئن كنت تهدي برد أنيابها العلى ... لأفقر منّي، إنّني لفقير (1)
فما أكثر الأخبار: أن قد تزوّجت ... فهل يأتينّي بالطّلاق بشير؟!
وقال ذو الرّمة (2):
أراني إذا هوّمت ياميّ زرتني ... فيا نعمتا لو أنّ رؤياي تصدق! (3)
لها جيد أمّ الخشف ريعت فأتلعت ... ووجه كقرن الشّمس ريّان مشرق
وعين كعين الرّئم فيها ملاحة ... هي السّحر أو أدهى التباسا وأعلق
وقال قيس بن الملوّح:
ألا تلك ليلى قد ألمّ لمامها ... وكيف مع القوم الأعادي كلامها؟
تعلّل بليلى، إنّما أنت هامة ... من الهام يدنو كلّ يوم حمامها (4)
وبادر بليلى أوبة الرّكب إنّهم ... متى يرجعوا يحرم عليك لمامها
وقال نصيب (5):
خليليّ من كعب ألمّا هديتما * بزينب لا تفقد كما أبدا كعب من اليوم زوراها، فإنّ ركابنا ... غداة غد عنها وعن أهلها نكب
وقال ذو الرّمة (6):
[خليليّ عدّا حاجتي من هواكما، ... ومن ذا يواسي النّفس إلّا خليلها؟]
(1) فى الأصل «إنه لفقير» وهو خطأ ظاهر.
(2) هذه الأبيات لم تذكر في ح. وهى فى ديوانه المطبوع ببيروت سنة 1352من قصيدة طويلة (ص 5958).
(3) الشطرة الاولى كتبت فى الاصل هكذا: «ارانى إذا هويت امي رزيتى». وهو تخليط غريب.
(4) يقال: «هذا هامة اليوم او غد»: اى يموت اليوم او غدا. قاله فى اللسان. وهذه الأبيات ليست فى ح.
(5) البيتان لم يذكرا في ح. وهما مع أربعة ابيات قبلهما في الأمالى (ج 2ص 197196).
(6) الأبيات فى أمالى الزجاجي (ص 104) وهي من قصيدة فى ديوان ذى الرمة (ص 7776) والزيادة منهما.
ألمّا بميّ قبل أن تطرح النّوى ... بنا مطرحا أو قبل بين يزيلها
وإن لم يكن إلّا تعلّل ساعة ... قليلا فإنّي نافع لي قليلها
وقالت امرأة من العرب (1):(1/447)
__________
(6) الأبيات فى أمالى الزجاجي (ص 104) وهي من قصيدة فى ديوان ذى الرمة (ص 7776) والزيادة منهما.
ألمّا بميّ قبل أن تطرح النّوى ... بنا مطرحا أو قبل بين يزيلها
وإن لم يكن إلّا تعلّل ساعة ... قليلا فإنّي نافع لي قليلها
وقالت امرأة من العرب (1):
أتربيّ من عليا هلال بن عامر ... أجدّا البكا، إنّ التّفرّق باكر
فما مكثنا دام الجميل عليكما * بثهلان إلّا أن تزمّ الأباعر (2)
وقال آخر:
فلا تعجلا يا صاحبيّ، تحيّة ... لليلى، وليلى للقلوب قتول
فألمم على ليلى فإنّ تحية ... لها قبل نصّ النّاعجات قليل (3)
فإنّك لا تدري إذا العيس شمّرت ... بنا: أتلاق أو عدى وشغول؟ (4)
وقال آخر:
وما بي إلّا أن تجودي بنائل ... لغيري ويبقى لي عليك الذّمائم (5)
فما بين تفريق النّوى بين من ترى ... بذى الميث إلّا أن تهبّ السّمائم (6)
(1) من هنا الى آخر قول عمارة: «واستراح الكاشح المترقب» لم يذكر فى ح.
(2) ثهلان: جبل بنجد لبنى نمير بن عامر بن صعصعة.
(3) الناعجات: الابل البيض الكريمة، والنص: السير الشديد والحث، وأصل النص أقصى الشىء وغايته، ثم سمى به ضرب من السير سريع، قاله فى اللسان.
(4) العدى بكسر العين: بمعنى العدة، يعنى الوعد
(5) الذمائم جمع «ذمامة» بكسر أوله، وهى الذمة والحرمة والعهد، وهذا الجمع من باب جمعهم كنانة على كنائن وغرارة على غرائر.
(6) فى الأصل «بذا الغيث» ولعل الصواب ما كتبناه و «الميث» بكسر أوله: جمع ميثاء، وهي: الأرض اللينة السهلة تمطر فتلين وتبرد، والسمائم:
جمع سموم وهى الريح الحارة تنشف الأحساء من الماء التى تغور تحت الرمل وتؤذى النبات والكلأ.
وهذان البيتان لم أجدهما فى شىء من المصادر التى عندي، وقد شرحهما أخي السيد محمود محمد شاكر بما رآه صوابا فيهما.(1/448)
وقال جميل بن معمر (1):
وإنّ صباباتي بكم لكثيرة * بثين، وصبري عنكم لقليل وإنّي وتردادي الزّيارة نحوكم ... لبين يدي هجر بثين، يطول
وقال آخر (2):
تعزّ بصبر لا وجدّك لا ترى ... بشام الحمى أخرى اللّيالي الغوابر (3)
كأنّ فؤادي من تذكّره الحمى ... وأهل الحمى يهفو به ريش طائر
وقال ابن ميّادة (4):
يمنونني منك اللّقاء، وإنّني ... لأعلم ما ألقاك من دون قابل
وما أنس مل أشياء لا أنس قولها ... وأدمعها يذرين حشو المكاحل:
تمتّع بذا اليوم القصير فإنّه ... رهين بأيّام الفراق الأطاول (5)
وقال آخر (6):
خليليّ من عليا هوازن لم أجد ... لنفسي من شحط النّوى من يجيرها
__________
(1) هما من أبيات فى الاغاني (ج 7ص 93) مع اختلاف قليل، وانظر مهذب الأغاني للخضري (ج 3ص 61).
(2) البيتان للصمة بن عبد الله القشيري، نقلهما فى الأغانى فى ضمن قصة (ج 5ص 126125)
(3) البشام بفتح الباء: شجر طيب الريح والطعم يستاك به، وفى جميع نسخ الأغانى وكذلك فى المهذب (ج 4ص 186) «سنام» وهو خطأ صححته دار الكتب فى طبعتها (ج 6ص 4) عن كتاب تجريد الأغانى، وهو تصحيح جيد موافق للأصل المخطوط القديم هنا.
(4) فى الأصل «ابن منادة» وهو خطأ. وابن ميادة هو: الرماح بن أبرد بن ثوبان، وميادة: أمه، أم ولد بربرية أو فارسية. وترجمته فى الأغاني (ج 2ص 85 116) والمهذب (ج 4ص 11297) وهذه الأبيات من قصيدة فرقها صاحب الاغانى فذكر البيت الأول مع أبيات أخرى (ص 93) وذكر الآخرين مع غيرهما (ص 9897) وذكرها الخضري فى المهذب (ص 102101). والبيتان الأخيران فى الحماسة بشرح التبريزى (ج 3ص 167).
(5) فى الأصل «بذا اليوم النضير، وهو غير مناسب للمعنى، فانه يقابل بين يوم اللقاء القصير وبين أيام الفراق الأطاول.
(6) هذه الأبيات لم تذكر فى ح، وكذلك التى بعدها.
غدا تمطر العينان من لوعة الهوى ... ويبدو من النّفس الكتوم ضميرها
أيصبر عند البين قلبك أم له ... غدا طيرة لا بدّ أن سيطيرها؟
وقال عمارة (1):(1/449)
__________
(6) هذه الأبيات لم تذكر فى ح، وكذلك التى بعدها.
غدا تمطر العينان من لوعة الهوى ... ويبدو من النّفس الكتوم ضميرها
أيصبر عند البين قلبك أم له ... غدا طيرة لا بدّ أن سيطيرها؟
وقال عمارة (1):
أميمة ودّعها فإنّ أميرها ... غداة غد بالبين جذلان معجب
إذا افترق الحيّان وانصاعت النّوى ... بهم واستراح الكاشح المترقّب (2)
وقال آخر:
أقول لمقلتي لمّا التقينا ... وقد شرقت مآقيها بماء:
خذي لي اليوم من نظر بحظّ ... فسوف توكّلين بالبكاء (3)
قلت: لي بيتان فى هذا المعنى، وهما:
يا عين في ساعة التّوديع يشغلك ال ... بكاء عن لذّة التّوديع والنّظر
خذي بحظّك منهم قبل بينهم ... ففي غد تفرغي للدّمع والسّهر (4)
وقال آخر:
ألا يا لقومي للهوى المتزايد ... وطول اشتياق النّازح المتباعد
ترحّلت كي أحظى إذا أبت قادما ... فأوردني التّرحال شرّ الموارد
كأنّي لديغ حار عن كنه دائه ... طبيب فداواه بسمّ الأساود!
فلم يقلع الدّاء القديم وزاده ... فيالك من داء طريف وتالد!
وقال آخر (5):
ولم أر مثل العامريّة قبلها ... ولا بعدها يوم التقينا مودّعا
(1) لم أعرف من عمارة هذا؟
(2) يقال: «انصاع القوم»: أى ذهبوا سراعا.
(3) في الأصلين «توكليني» وهو غير جيد.
(4) «فرغ» بابه: نفع ونصر وسمع.
(5) من هنا إلى آخر الباب لم يذكر فى ح.
شكونا إليها قبضة الحبّ بالحشي ... وخشية شمل الحيّ أن يتصدّعا
فما راجعتنا غير صمت وأنّة ... تكاد لها الأحشاء أن تتقطّعا
لقد خفت أن لا تقنع النّفس دونها ... بشيء من الدّنيا وإن كان مقنعا
وأعذل فيها النّفس إذ حيل دونها ... وتأبى إليها النّفس إلّا تطلّعا
وقال آخر:(1/450)
__________
(5) من هنا إلى آخر الباب لم يذكر فى ح.
شكونا إليها قبضة الحبّ بالحشي ... وخشية شمل الحيّ أن يتصدّعا
فما راجعتنا غير صمت وأنّة ... تكاد لها الأحشاء أن تتقطّعا
لقد خفت أن لا تقنع النّفس دونها ... بشيء من الدّنيا وإن كان مقنعا
وأعذل فيها النّفس إذ حيل دونها ... وتأبى إليها النّفس إلّا تطلّعا
وقال آخر:
فديتك يا زين البلاد إن العدى ... حموك فلم يوجد إليك سبيل
أراجعة عقلي عليّ فرائح ... مع الرّكب، أم ثاو لديك قتيل؟!
فلا تحملي وزري وأنت ضعيفة ... فحمل دمي يوم الحساب ثقيل
وقال آخر (1):
يودّ بأن يضحي سقيما لعلّه ... إذا سمعت شكواه ليلى تراسله
ويهتزّ للمعروف في طلب العلى ... لتحمد يوما عند ليلى شمائله
وقال آخر:
صحيح يودّ السّقم كيما تعوده ... وإن لم تعده عاد عنها رسولها
ليعلم: هل ترتاع عند شكاته ... كما قد يروع المشفقات خليلها
وقال ذو الرّمة (2):
ألا لا أرى مثل الهوى داء مسلم ... كريم، ولا مثل الهوى ليم صاحبه
(1) هما لكثير عزة من أبيات. أنظ الأمالى للقالى (ج 2ص 5) وزهر الآداب (ج 4ص 92)
(2) من قصيدة فى ديوانه (ص 1514) مع تقديم وتأخير. والبيتان الثالث والرابع فى الأمالي (ج 3ص 163) والأغانى (ج 16ص 125) والمهذب (ج 5ص 181). وديوان المعانى (ج 1ص 234).
والرابع وحده في الأمالى (ج 1ص 95) ولسان العرب (ج 1ص 250) وديوان المعاني (ج 1ص 233).
متى يعصه تبرح معاصاته به ... وإن يتّبع أسبابه فهو عائبه (1)
إذا نازعتك القول ميّة أو بدا ... لك الوجه منها أو نضا الدّرع سالبه (2)
فيالك من خدّ أسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلّل جادبه! (3)
وقال جميل:(1/451)
__________
والرابع وحده في الأمالى (ج 1ص 95) ولسان العرب (ج 1ص 250) وديوان المعاني (ج 1ص 233).
متى يعصه تبرح معاصاته به ... وإن يتّبع أسبابه فهو عائبه (1)
إذا نازعتك القول ميّة أو بدا ... لك الوجه منها أو نضا الدّرع سالبه (2)
فيالك من خدّ أسيل ومنطق ... رخيم ومن خلق تعلّل جادبه! (3)
وقال جميل:
بثينة ما فيها إذا ما تبصّرت ... معاب، ولا فيها إذا نسبت أشب (4)
لها النّظرة الأولى عليهم وبسطة ... وإن كرّت الأعقاب كان لها العقب (5)
7 - باب فى الحكمة
مما ورد فى الكتاب العزيز
قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: {يُؤْتِي} [6] الْحِكْمَةَ مَنْ يَشََاءُ، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. وَمََا يَذَّكَّرُ إِلََّا أُولُوا الْأَلْبََابِ [269].
ومن سورة آل عمران: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرََاةَ وَالْإِنْجِيلَ [48]}.
ومن سورة النساء (7): {أَمْ يَحْسُدُونَ النََّاسَ عَلى ََ مََا آتََاهُمُ اللََّهُ مِنْ}
(1) يقال «أبرح به» بالهمزة و «برح به» بتشديد الراء: أي آذاه بالالحاح. وفى الديوان «غالبه» بدل «عائبه» وكل منهما صحيح المعنى.
(2) فى الأمالى وديوان المعاني: «إذا راجعتك القول».
(3) فى الأغاني «فما شئت من خد» الخ. وفى الأمالى (3: 163):
«ومن وجه تعلل» الخ. و «جادبه» بالدال المهملة: أى عائبه. قال فى اللسان: «يقول: لا يجد فيه مقالا، ولا يجد فيه عيبا يعيبه به فيتعلل بالباطل وبالشيء يقوله وليس بعيب». وكذلك شرحه فى الأمالى على أنه بالدال المهملة، وقال «تعلل: من العلل، وهو الشرب مرة بعد مرة، أي نظر الناظر وأعاد نظره مرة بعد مرة فلم يجد عيبا». وفى الأصل والأغاني «جاذبه» بالذال المعجمة، وهو تصحيف.
(4) الأشب: العيب.
(5) البيت نقله فى الزهرة (ص 210) مع بيتين آخرين. وفى الأصل ضبط بنصب «النظرة» و «بسطة» وهو لحن.
(6) يؤتى: رسمت فى الأصلين «يؤت».
(7) من هنا إلى قوله «ومن سورة الجمعة» لم يذكر في ح.(1/452)
{فَضْلِهِ؟ فَقَدْ آتَيْنََا آلَ إِبْرََاهِيمَ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنََاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [54]}.
ومنها: {وَأَنْزَلَ اللََّهُ عَلَيْكَ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مََا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ. وَكََانَ فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [113]}.
ومن سورة المائدة: {إِذْ قََالَ اللََّهُ: يََا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى ََ وََالِدَتِكَ، إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ، تُكَلِّمُ النََّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا، وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرََاةَ وَالْإِنْجِيلَ [110]}.
ومن سورة النحل: {ادْعُ إِلى ََ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجََادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [125]}.
ومن سورة بني إسرائيل: {ذََلِكَ مِمََّا أَوْحى ََ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ. وَلََا تَجْعَلْ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ فَتُلْقى ََ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً [39]}.
ومن سورة الأحزاب: {وَاذْكُرْنَ مََا يُتْلى ََ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيََاتِ اللََّهِ وَالْحِكْمَةِ. إِنَّ اللََّهَ كََانَ لَطِيفاً خَبِيراً [34]}.
ومن سورة ص: {وَشَدَدْنََا مُلْكَهُ وَآتَيْنََاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطََابِ [20]}.
ومن سورة الزّخرف: {وَلَمََّا جََاءَ عِيسى ََ بِالْبَيِّنََاتِ قََالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَاتَّقُوا اللََّهَ وَأَطِيعُونِ [63]}.
ومن سورة اقتربت (1): {وَلَقَدْ جََاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبََاءِ مََا فِيهِ مُزْدَجَرٌ [4]}
__________
(1) وهى سورة القمر.(1/453)
{حِكْمَةٌ بََالِغَةٌ فَمََا تُغْنِ} [1] النُّذُرُ [5].
ومن سورة الجمعة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا} [2] مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيََاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ (3) الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كََانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلََالٍ مُبِينٍ [2].
أحاديث
212* قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الحكمة ضالّة المؤمن، حيث وجدها قيّدها واتّبع ضالّة أخرى (4)».
213* وقال صلّى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم من الرّجل المؤمن زهدا في الدّنيا وقلّة منطق فاقتربوا منه، فإنّه يلقّى الحكمة» (5).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [2: 269]}: قال: هي المعرفة بالقرآن (6).
وقال مجاهد رحمه الله فى قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنََا لُقْمََانَ الْحِكْمَةَ [31: 12]}: الفقه والعقل والإصابة فى القول (7).
وقال الحكم بن أبان (8): خير ما أوتي العبد في الدنيا الحكمة، وخير
__________
(1) تغن: رسمت فى الأصل «تغثى».
(2) رسولا: كتبت فى الأصلين «رسلا» وهو خطأ.
(3) كتب فى الأصلين: «وتزكيهم وتعلمهم» وهو خطأ ايضا.
(4) الحديث ضعيف في كل أسانيده على اختلاف رواياته. وانظر كشف الخفا (رقم 1159) وقوله هنا فى آخره «واتبع ضالة أخرى» لم أجده فى شىء من الروايات.
(5) سبق الكلام عليه فى (ص 273).
(6) أنظر تفسير الطبري (ج 3ص 60) والدر المنثور (ج 1ص 348).
(7) أنظر تفسير الطبرى (ج 21ص 43) وكذلك نحوه عن ابن عباس فى الدر المنثور (ج 5ص 161).
(8) هو من أهل عدن، وهو سيد أهل اليمن، فيما قال بلديه يوسف بن يعقوب، مات سنة 154 وهو ابن 84سنة. وله ترجمة فى التهذيب.(1/454)
ما أوتي العبد في الآخرة الجنة، وخير ما سئل الله تعالى في الدنيا العافية.
وقال الشاعر:
وكيف تريد أن تدعى حكيما ... وأنت لكلّ ما تهوى ركوب (1)
وتضحك دائبا ظهرا لبطن ... وترتكب الذّنوب ولا تتوب
وقال يحيى بن معاذ رحمه الله (2): من أحبّ الجنّة انقطع عن الشهوات، ومن خاف النار انصرف عن السيئات، ومن لزم الحرص عدم الغنى، ومن طلب الفضول وقع فى البلاء.
قيل: وجد على حجر بأنطاكية (3):
إنّ الزّمان وإن ألا ... ن لأهله لمخاشن
تخطو به المتحرّكا ... ت كأنّهنّ سواكن
وقال آخر:
لا تجزعنّ على ما فات مطلبه ... وإن جزعت فماذا ينفع الجزع؟!
إنّ السّعادة يأس إن ظفرت به ... فدونك اليأس، إنّ الشّقوة الطّمع
وقال عمرو بن معدي كرب (4):
إذا لم تستطع أمرا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
__________
(1) لكل ما: رسمت فى الأصلين «لكلما».
(2) هو يحيى بن معاذ الرازى الصوفى، ذكره الكلاباذي المتوفى سنة 380فى كتاب (التعرف لمذهب أهل التصوف ص 12) فيمن صنفوا فى المعاملات، وأنهم «سمعوا الحديث وجمعوا الفقه والكلام واللغة وعلم القرآن، تشهد بذلك كتبهم ومصنفاتهم». ونقل عنه بعض أقواله في مواضع مختلفة، وكذلك نقل السراج الطوسى كلمات كثيرة له فى كتاب (اللمع فى التصوف). وليحيى ترجمة فى الطبقات الكبرى للشعرانى (ج 1ص 108106) ونقل أنه مات سنة 258.
(3) من هنا إلى قوله «وقريء على مقبرة» لم يذكر في ح.
(4) مضى البيت فى (ص 181).(1/455)
وقريء على باب مقبرة:
ربّ قوم قد غنوا في نعمة ... برهة والدّهر ريّان غدق (1)
صمت الدّهر زمانا عنهم ... ثمّ أبكاهم دما حين نطق (2)
وقال آخر:
وساخط عيش قد تبدّل غيره ... وراض بعيش غيره يتبدّل
وبالغ أمر كان قد حيل دونه ... ومختلج من دون ما كان يأمل
وقال آخر: (3)
نرجو ونخشى والقضا ... ء له التّصعّد والحدور (4)
وإلى الّذي نرجوه أو ... نخشاه ما حدثت أمور
وقال لبيد (5):
واكذب النّفس إذا حدّثتها ... إنّ صدق النّفس يزري بالأمل
وقال البعيث (6):
فلا تكثرن في إثر شىء ندامة ... إذا نزعته من يديك النّوازع
قيل: سمع كعب الأحبار رحمه الله رجلا ينشد قول الحطيئة:
__________
(1) فى الأصلين «عنوا» بالعين المهملة، وهو خطأ. والغدق بفتح الدال المطر أو الماء الكثير، وبكسرها صفة منه. ورواية البيت في معجم الأدباء (ج 6ص 99). «رب قوم رتعوا فى نعمة».
وفى عيون الاخبار (ج 2ص 303):
ربّ قوم عبروا من عيشهم ... في نعيم وسرور وغدق
(2) فيهما: «سكت» بدل «صمت».
(3) هذا والذى بعده لم يذكرا فى ح.
(4) الحدور: مصدر «حدرت الشىء» اذا أنزلته من علو إلى سفل.
(5) من قصيدة طويلة فى ديوانه (ص 1711طبعة فينا سنة 1881).
(6) البعيث لقب لشاعرين، أحدهما اسمه: خداش بن بشر من بنى مجاشع، وكان يهاجي جريرا، وله أخبار كثيرة فى النقائض، وترجمته فى الشعراء لابن قتيبة (ص 313312). والآخر: البعيث الهاشمى، وله قصيدة فى الأمالى (ج 1ص 196) على قافية هذا البيت ووزنه، ولم أجد دليلا يؤيد نسبته لأحد الشاعرين.(1/456)
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والنّاس (1)
فقال: والذي نفسي بيده، إن هذا مكتوب في التوراة.
وقال [تميم] ابن أبيّ [بن] مقبل (2):
لا يحرز المرء أحجاء البلاد ولا ... تبنى له في السّماوات السّلاليم (3)
ما أطيب العيش لو أنّ الفتى حجر ... تنبو الحوادث عنه وهو ملموم (4)
وقال الهذليّ (5):
والنّفس طامعة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع (6)
قيل: جمع أبو بردة بن أبي موسى الأشعريّ الناس ليلة لسمره (7)، فلما أخذوا مجالسهم قال: أخبروني بسابق الشّعر والمصلّي والثالث والرابع؟ قالوا:
ليخبرنا الأمير أعزّه الله. قال سابق الشعر: قول المرقّش: (8)
فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره ... ومن يغلو لا يعدم على الغيّ لائما
والمصلّي: قول طرفة بن العبد (9):
ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
__________
(1) الجوازى: جمع جازية أو جاز أو جزاء. والبيت من قصيدة فى ديوانه (ص 5552).
(2) هذا لا يوجد فى ح. وفى الأصل «وقال ابن أبى مقبل» وهو خطأ. وتميم هذا له ترجمة فى الشعراء لابن قتيبة (ص 278276).
(3) البيت رواه صاحب اللسان (ج 15 ص 191وج 18ص 180). وصححناه منه. وفى الأصل «يحجز» بدل «يحرز». وأحجاء البلاد: نواحيها وأطرافها، جمع «حجا» بفتح الحاء. والسلاليم: جمع سلم.
(4) حجر ملموم وململم: أى مجموع إلى بعضه، وهو الصلب المستدير.
(5) هو أبو ذؤيب الهذلى والبيت من قصيدته المشهورة فى رثاء بنيه، وهى فى المفضليات للضبى (ج 2ص 107103).
(6) فى القصيدة «والنفس راغبة».
(7) فى ح «ليلة السمرة» وهو خطأ لا معنى له.
(8) هو المرقش بكسر القاف المشددة الأصغر، واختلف فى اسمه. وانظر الشعراء لابن قتيبة (ص 107105) والبيت هناك، وهو من قصيدة فى المفضليات (ج 2ص 2422).
(9) هو من معلقته المشهورة.(1/457)
والثالث: قول النابغة الذبيانيّ (1):
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث، أيّ الرّجال المهذّب؟!
والرابع: قول القطاميّ (2)
قد يدرك المتأنّي بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل (3)
وقال آخر:
أيّها القلب لا ترعك الظّنون ... فعسى ما تخافه لا يكون
وعسى ما استشدّ واستص ... عب السّاعة من بعد ساعة سيهون
إنّ ربّا كفاك بالأمس ما كا ... ن سيكفيك في غد ما يكون
أنصاف أبيات
(4)
وجرح اللّسان كجرح اليد
وكيف التّظنّي بالإخاء المغيّب
رضيت من الغنيمة بالإياب
وبالإشقين ما وقع العقاب
أخنى عليه الّذي أخنى على لبد
كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع
وليس وراء الله للمرء مذهب
__________
(1) مضى فى (ص 380).
(2) القطامى: بفتح القاف وبضمها، كما نص عليه ابن جنى فى كتاب المبهج (ص 28). واسمه «عمير بن شييم» بالتصغير فيهما وهو من بنى تغلب.
وترجمته فى الشعراء (ص 456453) والأغانى (ج 20ص 131118) ومهذب الأغانى (ج 4 ص 5541) والبيت من قصيدة فيهما يمدح بهما عمر بن عبد العزيز.
(3) فى الأصلين «بعد حاجته» وصححناه من الأغاني والمهذب.
(4) انصاف الأبيات لم تذكر فى ح.(1/458)
وربّ امرىء ساع لآخر قاعد
وفي طول عيش المرء برح [و] تعذيب (1)
فكيف بمن يدمي وليس برام
كصدع الزّجاجة لا يلتئم
فقلت: اطمئنّي أنضر الرّوض عازبه (2)
والحوض منتظر ورود الوارد
يدي عوّلت في النّائبات على يدي
وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع
لو لم يحرج اللّيث لم يخرج من الأجم
وفي بعض القلوب عيون
وزلّة الرّأي تنسي زلّة القدم
إذا الشّمس لم تعرف فلا طلع البدر
ومبلغ نفس عذرها مثل منجح
حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض
من قرّ عينا بعيشه نفعه
وقد يملأ القطر الإناء فيفعم
وقد تجمد العينان والقلب موجع
وقد يعثر السّاعي إذا كان مسرعا
__________
(1) واو العطف سقطت من الناسخ سهوا.
(2) العازب: البعيد المطلب.(1/459)
قد يوثق المرء امرؤ وهو يحقره
والقول تحقره وقد ينمي
فصل من كلام الحكماء في معان شتّى
قال بعض الحكماء لابنه: يا نبيّ، إنّ سرعة ائتلاف قلوب الأبرار حين يلتقون كائتلاف قطر المطر بماء الأنهار، وبعد قلوب الفجّار من الائتلاف وإن طال تعاشرهم كبعد البهائم من التعاطف وإن طال اعتلافها على آريّ واحد (1).
وقال بعض الحكماء: ما يمرّ يوم إلا وتضحك ثلثة من ثلثة: الأجل من الأمل، والتقدير من التدبير، والقسم من الحرص.
وروي: أن ذا الرياستين ركب ركبة لم يركب مثلها بخراسان، وبين يديه أربعة آلاف سائف وألفا حامل قوس، فلما صار بقرب الماخور برز اليه رجل كأنّ الأرض انشقّت عنه، فقال: أيها الأمير، اسمع تنتفع وتنفع.
قال: قل، قال: الأجل آفة الأمل (2)، والمعروف ذخيرة الأبرار، والبرّ غنيمة الحازم، والتفريط مصيبة أخي القدرة. فدعا الفضل كاتبه وهب بن سعيد بن سليمان بن الحسن (3)، فقال: اكتب هذه الكلمات الأربع، وأعطه أربعة آلاف درهم.
__________
(1) الآرى بالمد وكسر الراء مع تشديد الياء او بغير تشديد: هو محبس الدابة.
(2) فى ح «آفة العمل».
(3) هكذا نسبه فى الأصلين، ولكنه فى ترجمة ابنه الحسن فى معجم الادباء لياقوت (ج 3ص 223221) هكذا «وهب بن سعيد بن عمرو بن حصين بن فبس بن قيان بن متى» ووهب هذا هو الذى كان مع ذى الرياستين الفضل بن سهل.(1/460)
وقال الحكيم: رأس المداراة ترك المماراة.
من عرف الناس داراهم، ومن جهلهم ما راهم.
قيل لأفلاطون: ما بالكم معاشر الحكماء لا يحزنكم ما يحزنّا (1) إذا أصابكم، ولا يسرّكم ما يسرّنا إذا نالكم؟ قال: لأنّ الأشياء (2) جميعا إمّا تتركنا وإمّا نتركها، فلا وجه للتمسّك بزائل.
[والأمير أسامة رحمه الله يقول (3):] قلت: لي بيتان (4) فى هذا المعنى قبل أن أسمع هذا الكلام بعدّة سنين، وهما:
يهوّن الخطب أنّ الدّهر ذو غير ... وأنّ أيّامه بين الورى دول
وأنّ ما سرّ أو ما ساء منتقل ... عنّا، وإلّا فإنّا عنه ننتقل
وقال الحكيم: كفاك من عقلك ما أوضح لك سبيل ... غيّك من رشدك.
وقال الحكيم: إذا أراد الله سبحانه أن ينزع عن عبد نعمة كان أوّل ما ينزع عنه عقله.
وقال الحكيم: المخذول من كانت له إلى الناس حاجة.
وقال أبقراطيس الحكيم: ما أوجب عناد من عاند الحقّ (5).
وقال أرسطاطاليس الحكيم لصديق له وقد رآه ظالما: هبنا نقدر على
__________
(1) كذا فى الأصلين. وله وجه، إذ أصله «يجزننا» فأدغمت النون في النون.
(2) في الاصلين «الشيئين» وهو خطأ.
(3) هذه الزيادة من ح. وهى من زيادات النساخ، لان الأصل العتيق كتب فى حياة المؤلف.
(4) فى ح «بيتين» وهو لحن.
(5) ضبط فى الأصل برفع «أوجب» وخفض «عناد» وهو خطأ يفسد به معنى الكلام.(1/461)
محاباتك فى أن لا تقول «إنك ظالم»، هل تقدر أنت على أن لا تعلم أنك ظالم؟! وقليل الحقّ أجدى عليك من كثير الظّلم.
وسمع يقول: ليس أنفع العلم ما علمته فقط، بل ما استعملته أيضا (1).
وقال: كلّ قول حقّ واجب، وكلّ خلاف له باطل.
وقال: الشّغل بردّ مالا رجوع له جهل.
وقال: ما أكثر ما نعاتب غيرنا على الظّنون، ونترك عتاب أنفسنا على اليقين.
[وقال:] (2) ما أحرصنا على ستر أفعالنا الرديّة عن غيرنا وهي لنا منكشفة، فغيرنا أفضل عندنا من أنفسنا.
[وقال:] (3) الصادق هو القائل في الأشياء ما هي عليه (4).
[وقال:] (5) من استعمل الخوف من المكاره مع وقوع المحابّ سلم.
[وقال:] (6) من صيّر الأمور الحادثة قبله موعظته نجا.
[وقال:] (7) ما أكثر ما يلحق الفساد للخاصّ بفساد العامّ وإن طالت مدّته.
ما أقلّ البقاء مع فساد السياسة.
ما أشدّ فساد التعدّي فى المراتب.
[وقال:] (8) نعم المعين إظهار الغضب للدّين.
[وقال:] (9) ما أدلّ الحلم على العلم.
[وقال:] (10) ليس ينبغي أن تعمل الإساءة ابتداء ولا مكافأة ولا على كلّ حال.
__________
(1) كلمة «أيضا» ليست فى ح.
(2) الزيادة من ح.
(3) الزيادة من ح.
(4) فى ح «بما هى عليه».
(5) الزيادة من ح.
(6) الزيادة من ح.
(7) الزيادة من ح.
(8) الزيادة من ح.
(9) الزيادة من ح.
(10) الزيادة من ح.(1/462)
[وقال:] (1) من لم يحتمل السّفه صار سفيها ودخل فى أمر قد كرهه من غيره. أحق من حذر الأشرار (2).
سئل: ما الباطل؟ فقال: هو الذي للحذر من الوقوع فيه يبحث كلّ باحث.
[وقال:] (3) أبلغ الأمور في دفع المكاره الحزم قبل الوقوع فيها سرى استعمال الظنّ (4).
[وقال:] (5) من وضع الدّواء فى غير موضعه ضيّعه، ومن وضعه فى موضعه نفعه.
[وقال:] (6) من لم يكن معه من مطالب الأشياء غير تمنّيها فاتته.
[وقال:] (7) لا تتّكل فى أفعالك على الاستتار، فانه ليس على كل حال يتستّر.
مع إقامة العقوبات هدوء الرعيّة.
[وقال:] (8) ما أشدّ الحاجة إلى الحذر في أوقات الأمن.
[وقال:] (9) ما أشدّ مغبّة الاحتقار للمعاداة.
ما أجهل من لا يبالي أن يراه الناس مسيئا.
وقال: ما أستر السّكوت للجهل.
وقال: إذا بعثك الاقتدار على الظلم فاذكر قدرة الله عليك.
ويقال: أردى (10) ما في الكريم منع الخير، وأحسن ما في الشّرير كفّ الشّر.
__________
(1) الزيادة من ح.
(2) كذا فى الأصلين، ولم نجد هذه الجملة فى موضع آخر.
(3) الزيادة من ح.
(4) كلمة «سوى» ليست فى ح. والكلام على كلتى النسختين غير متلائم.
(5) الزيادة من ح.
(6) الزيادة من ح.
(7) الزيادة من ح.
(8) الزيادة من ح.
(9) الزيادة من ح.
(10) أى «أردأ» بتسهيل الهمزة.(1/463)
[وقال:] (1) ما أهدم الامتنان فى الصنائع.
أوجب الصيانات على الانسان صيانة نفسه.
[وقال:] (2) مع إقامة الحدود ترك الجنون.
[وقال:] (3) ليس بحكيم من اشتغل بعمل عمّا هو أهمّ منه.
[وقال:] (4) ما عجز الصدق عن إصلاحه فالكذب أعجز منه.
[وقال:] (5) ما أشدّ ما تظهر المشورة حدّ عقل الستشار.
[وقال:] (6) من فضيلة العقل أنّ كلّ إنسان يحبّ أن يرى بصورته، ومن رذيلة الجهل أن ليس أحد يحبّ أن ينظر إليه بصورته أو بسماته.
وقال: علّة وقوع الحزن فقد المقتنيات.
وقال: ما أبين فعل العدل في قوام العالم.
وقال: ما أقوى فى تكثير الأعداء الاستطالة على الأكفاء.
نظر بعض الملوك إلى سقراط في بعض الأعياد وعليه كساء صوف خلق (7)، فقال له: يا سقراط، لو تزيّنت فى مثل هذا اليوم؟! فقال: لا زينة أزين من العدل، فانه من أفضل قوى العقل.
وقال: القوة على الامتناع عن اتّباع الشهوات أحد أشفية (8) أسقام النفس.
نظر فوتاغورس ملكا قد مات، فقال: ما أكثر من أمات هذا الرجل لأن لا يموت، وقد مات.
وقال بعض الحكماء: ما أعجب من يطلب العفو ممّن هو فوقه، ويمنعه من هو دونه.
__________
(1) الزيادة من ح.
(2) الزيادة من ح.
(3) الزيادة من ح.
(4) الزيادة من ح.
(5) الزيادة من ح.
(6) الزيادة من ح.
(7) كلمة «خلق» لم تذكر فى ح.
(8) أشفية: جمع شفاء.(1/464)
وقال: ما أدفع النظر فى العواقب للمضارّ.
وقال أوجانس: أنا أغنى من الملك، لأني بقليل ما عندي أشدّ اكتفاء منه بكثير ما عنده.
وقال سقراط: أمّا على الكلام فكثيرا ما ندمت، وأمّا على السكوت فلا.
وقال أو جانس: كفاك موبّخا على الكذب علمك أنك كذّاب.
وقال: لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف (1).
وقال: الدنيا تنال بالمال، والآخرة بالأعمال.
ورأى ذو جانس (2) ابنه وهو يسمع هجاء إنسان، فقال له: (3) يا بنيّ، ليس الكلام بالمكروه بأردى من استماع المكروه.
وقال أفلاطون: الجور أحوجنا الى القضاة، والشّره أحوجنا إلى الأطباء، والغلبة أحوجتنا إلى الحرّاس.
وقال سقراط: كما نحتاج إلى أطباء الأبدان لأبداننا كذلك (4) نحتاج الى أطباء النفوس لأنفسنا، وأطباء الأديان لأدياننا، وهم الآخذون لنا بالناموس، أعني الشريعة.
وقال سقراط: التهوّر ضدّ الجبن، والاعتدال بينهما فضيلة، وهي النّجدة.
وقال: ما أصلح للرعية أن لا يكون المرتّب لدفع المظالم عنهم ظالما.
__________
(1) نقل ياقوت فى معجم الأدباء (ج 6ص 214213) عن جحظة فى أماليه قال: «قال العتابي هو كلثوم بن عمرو الشاعر: لو سكت من لا يعلم عما لا يعلم سقط الاختلاف».
(2) فى ح «دو جانس» بالدال المهملة
(3) كلمة «له» ليست فى ح.
(4) كلمة «كذلك» ليست فى ح.(1/465)
وقال: ما أضرّ فى السياسة تأخير أمر يوم لغد.
وقال لابنه: يا بنيّ، عليك بالعدل، فان في الزيادة والنقصان خروج عن العدل.
وقال: المحبة الصحيحة: هي (1) التي لا يصلحها نفع ولا يفسدها منع.
وقال: ابتداء الصنيعة أحسن من المكافأة عليها.
[وقال:] (2) من قبل مديحا ليس فيه فقد أحبّ الكذب واستهدف للسّخرية.
[وقال:] (3) الحريّة: أن لا يملكك الجهل، ولا تفعل ما لا يوجبه العقل.
وقال: الحرية هي الخروج عن استعباد الشهوات المذمومة في العقل.
وقال: يا بنيّ، عليك باصطناع المعروف، فمن يغرس كرما يشرب خمرا.
وقال: أول ما يعيش به الإنسان أدبه.
وقال ذيوجانس (4): باستواء الحال بين الناس تسوء (5) حالهم.
ورأى ذيو جانس (6) رجلا شديد الإقبال على مصلحة ماله، شديد التّواني عن تأديب ولده، فقال له: يا هذا، عملك عمل من يخلّف ولده على ماله، لا عمل من يخلّف ماله على ولده.
وقال: العمر القصير مع الفضيلة، خير من العمر الطويل مع الرذيلة.
وقال: ما أولى بنا القبول ممّن عمل بالسّنّة وأمر بها.
وقال: ليس كل لذيذ نافع، ولكن كل نافع لذيذ (7).
__________
(1) كلمة «هى» ليست في ح.
(2) الزيادة من ح.
(3) الزيادة من ح.
(4) فى الأصلين بالدال المهملة.
(5) فى الأصلين «تسىء حالهم».
(6) فى الأصل بالذال المعجمة، وفى ح بالمهملة.
(7) في الأصل «ولكن كل لذيذ نافع» وهو خطأ واضح، صححناه من ح.(1/466)
وقال لابنه: عليك باقتناء ما لا يمكنك استعارته ولا شراه (1)
وقال: ما أجلب المزح للسّخر (2).
وقال: ليس مع طاعة الله خوف، ولا مع عصيانه أمن.
وقال: ما أذهل المحسود عمّا فيه الحاسد.
[وقال:] (3) ليس بفاضل من عمل الفضائل وهو لا يعلم أنها فضائل.
وقال [الحكيم] (4) أجانس (5): التزيّن والتحسّن عمارة الذّهن، والحكمة جلاء العقل، وتمييزه بالأدب، وقمع الشهوات بالعفاف، وكظم الغضب بالحلم، وقطع الحرص بالقنوع، وإماتة الحسد بالزهد، وتدلل المرح بالسكون (6)، ورياضة النفس حتى تصير مطية قد ارتاضت فتنصرف حيث ما صرفها فارسها من طلب العلّيات وهجر الدّنيّات.
[وقال:] (7) من حرص على الدنيا هتكته.
[وقال:] (8) من قنع لم يخضع، القنوع خير من الخضوع.
[وقال:] (9) بئس القرين الطمع.
[وقال:] (10) من ترك الحلم لم يأمن الذّل.
من لم يحسن سياسة عبده ملكه.
[وقال:] (11) الحذق أجهد جهد.
[و] (12) قال أبو يوسف: خوف مالا دفع له من أخلاق من لا عقل له.
من حسن خلقه وجب حقّه.
__________
(1) الشرا: بالقصر، هو الشراء بالمد، لغتان جائزتان.
(2) السخر: بضم السين وإسكان الخاء، وبفتح السين مع فتح الخاء ومع إسكانها. وضبط فى الأصل بضم السين وفتح الخاء، وهو خطأ. وفى ح «للسخرية».
(3) الزيادة من ح.
(4) الزيادة من ح.
(5) فى الأصل «أحانس» بالحاء المهملة.
(6) كذا فى الأصلين، ويحتاج إلى تحرير وبحث.
(7) الزيادة من ح.
(8) الزيادة من ح.
(9) الزيادة من ح.
(10) الزيادة من ح.
(11) الزيادة من ح.
(12) الزيادة من ح.(1/467)
من عجل وجل.
صغر القدر يحمل على ادّعاء الفخر.
من لم يكن فخره بفعله فلا فخر له.
ما أبين فضيلة الصدق في السياسة.
من صدق لسانه كثر أعوانه.
السّرف معقب للفقر.
من غضب غلب، ومن حلم ظفر.
وقال بعض الفلاسفة: إنّ الشيء الذي يصلحني بفساد غلماني أحبّ إليّ من الشيء الذي يصلحهم بفسادي.
[وقال:] (1) ما أذهب الصمت والسكوت للغضب.
[وقال:] (2) لا قاهر أقهر للشيء من ضدّه، ولا شيء أضدّ (3) للغضب من الحلم.
[وقال:] (4) طلب الشرف يكسب حزنا (5).
بئس المركب العجلة.
من لم يبال (6) باطّلاع الناس على مساويه فهو أهل للاستخفاف.
__________
(1) الزيادة من ح.
(2) الزيادة من ح.
(3) «الضد» لا يشتق منه افعل التفضيل قياسا، ولم اجده منقولا سماعا، فقوله «أضد للغضب» لا يكون من هذا. وله وجه آخر بأن يكون مشتقا من فعل ثلاثى على القياس، وهو قولهم، «ضدّه في الخصومة ضدّا» بوزن «مدّ مدّا»:
اي غلبه، و «ضد فلانا عن الشىء»: أي منعه عنه برفق.
(4) الزيادة من ح.
(5) كسب: يستعمل لازما ومتعديا بنفسه ومتعديا بالهمزة، وتعديته بنفسه أعلى، كما نص عليه فى اللسان.
(6) فى ح «من لا يبال» وهو خطأ.(1/468)
وسئل: أيحسن بالشيخ التعلّم؟ فقال: إن كان الجهل يقبح به فالتعلّم يحسن به.
قال ارسطاطاليس: ليس بين الفضيلة والرذيلة مرتبة ثالثة، فمن تكن أقواله دون أعماله فضائل فلا شكّ أنها رذائل (1).
أوصى أبو الإسكندر للاسكندر بأرسطاطاليس، فقال له أرسطاطاليس:
أيها الملك، إن لم يكن لي عنده غير وصيّتك فلا شيء لي عنده.
قال رجل من الفلاسفة لابنه وقد أراد سفرا: يا بنيّ، أعط مع الاقبال، وأعف عند الاقتدار، واصدق فى الأخبار.
أوصى رجل من الفلاسفة ابنه فقال له: عليك بمضاددة (2) الجهال وتجنّب ما استحسنوه.
وقال (3) أفلاطون لبعض تلامذته: قل الحقّ لكل إنسان وفى كل مكان وإن قتلك، فإنّ قتل الحقّ خير من حياة الباطل.
وقال سقراط: طول الأمل ينسّي الأجل، واتّباع الهوى يصدّ عن التّقوى.
وسئل: ما الحزم؟ قال: العمل بما تؤمن عواقبه.
وقال ذيوجانس (4): ليكن قولك ما لا يحتاج إلى الاعتذار، وفعلك
__________
(1) هذه الجملة صححت من ح، إلا أن فيها «أقوله» بدون ألف. وفى الأصل: «فمن أعماله فضائل فلا شك أنها رذائل» وهو كلام متهافت لا معنى له.
(2) كذا فى الأصلين «بمضاددة» بفك الأدغام، وهو جائز فى بعض اللغات.
(3) فى ح «قال».
(4) بالذال المعجمة، كما فى أخبار الحكماء للقفطى (ص 184طبعة ليبسيك). وفى ح هنا وفى المواضع الآتية بالدال المهملة.(1/469)
ما لا تبالي (1) عليه الانتشار.
وقال: الخرس خير من قول يحوجك إلى اعتذار أو شفيع.
وقال: العمل بالفضائل ملذّة، والعمل بالرذائل مدلّة.
وقال: لا إخاء لملول، ولا صداقة (2) لقبول.
وقال: أشدّ من التّلف سوء الخلف.
وقال سقراط: أردى الكلام ما صرت به عبدا.
وقال أفلاطون: لا حيلة فى الاقبال والادبار حتى ينتهيا.
وقال ذيوجانس: ترك الكلام وإن كان فى غاية الصواب حيث لا ينبغي حكمة.
وقال بعض الحكماء: من الخذلان الدّولة على السلطان (3).
وقال سقراط في كتابه في (وضع النواميس): ما أقبح فعل الشرّ بمن هو موكّل يمنع مثله.
وقال: السعيد هو من علم وعمل بما علم.
وقال أفلاطون لتلميذ له: لا يكن أحسن أفعالك قولك.
سئل سقراط: ما الإقدام؟ فقال: استعمال إفراط القوّة الغضبيّة. فقيل له:
ما الحامل عليها؟ قال: ترك النفس النظر فى العواقب والتهيب لها، فانّ من تهيب شيئا توقّاه (4).
قلت: سقراط بالحكمة أعلم منه بالحرب، فانّ الرجل المقدام يعرض
__________
(1) فى ح «يبالى».
(2) كلمة «صداقة» سقطت من ح، والجملة غير مفهومة.
(3) هذه الجملة لم تذكر فى ح. والدالة بتشديد اللام: التدلل والانبساط والجراءة.
(4) فى الأصلين «فان من يهيب شيئا يوقاه» وهو بين التحريف فى النقط.(1/470)
له من طلب حسن الذكر والتقدم على النظراء والحنق على الأعداء ما ينسيه النظر فى العواقب، ويحدّث نفسه بما يحملها عليه فترتاع حتى تعرض الرّعدة من الزّمع (1) وتغيّر اللون (2)، فاذا باشر الحرب وخاض غمرتها سكن جأشه وذهب خوفه.
وقال ابن صفوان: لا ينبل من احتاج أحد من أهله إلى غيره وهو يمكنه سدّ خلّته.
وقال: إن من الحرص على إحياء الرعية استعمال القتل.
وقال أردشير (3): أخوف ما تكون العامّة آمن ما تكون الوزراء.
وقال: الحاسد هالك.
وقال: الرأي أحد أعوان العقل، وركوب الهوى ضد الحزم، والحاجة تفتق الحيلة.
السّرف فى الشهوات من أعظم الآفات.
لا قدر لمدّة الأعمار مع مرور الليل والنهار.
استدم ما تحبّ بحسن الصحبة له يطول (4) مكثه عليك فعل الشرّ من قلة الحيلة.
العادل فائز، والمعتسف على سبيل الهلكة.
من زرع فى أرض (5) مخصبة زكاريعه، ومن بذر الحكمة عند القابلين لها حسن آثارها (6).
__________
(1) الزمع بفتح الميم الرعدة والدهش والقلق
(2) فى الأصلين «وتغيير» وهو خطأ.
(3) بالراء. وفى ح «أزدشير» بالزاي بعد الهمزة، وهو خطأ.
(4) كذا في الأصلين. والصواب «يطل» بالجزم فى جواب الأمر.
(5) فى ح «من أرض» وهو خطأ.
(6) كذا فى الأصلين، ولعله صوابه «حسن أثرها».(1/471)
من وقّر قدره جلّ.
تجاوز القدر في التّبذّل يحمل المرء على التذلل.
من كلّ مفقود عوض إلّا العقل.
وقال عليّ بن عبيدة: ليس من إخوان السلامة من ظفر بغير استقامة.
وقال: استدم النعمة بربّها.
وقال: المسالم للناس عزيز الجانب.
من طلب إفساد كلّ ما (1) خالف الحقّ طلب ما لا نهاية له.
الإحسان عند الإمكان فرصة.
قيل لبعض الملوك: إن ذيوجانس يقول فيك قولا سمجا. فقال: لولا أنه أعلم بالفضائل منّي (2) لقتلته. فبعث إليه يسأله عما أنكره؟ فقال له: عقلك أعلم به منّي، فاسأله يصدقك، واستعمل طاعته.
قيل لارسطاطاليس (3): إن فلانا يقول إنك إنما تمسك عنه خوفا منه! فقال: أما خوفا منه فلا، ولكن خوفا أن أكون مثله! وسئل سقراط: من أقرب الناس من الله؟ فقال (4): أعلمهم بالحقائق وأعملهم بها.
وقال: إن العقل التامّ لا ينال بالقدرة الناقصة.
[وقال:] (5) من أحب أن يخطئه مراده فلا يرد (6) ما يشكّ في نيله.
[وقال:] (7) لا تغالب أمرا مقبلا فانه يغلبك.
__________
(1) كتبت فى الأصلين «كلما».
(2) فى ح «أعلم منى بالفضائل».
(3) فى ح «لأرسطس».
(4) فى ح «قال».
(5) الزيادة من ح.
(6) فى ح «فلا يريد».
(7) الزيادة من ح.(1/472)
من حسن (1) أن يتصوّر بكل صورة محبوبة ظفر بمحبة الكلّ له.
عند انتشار الأحوال تبين مقادير الفاعلين.
من أنصف ألزم نفسه الحقوق الواجبة.
ليكن ادّعاؤك للأمور أقلّ ممّا لك منها.
العامل بهواه المزدرى له كالعامل بهوى أعدائه فيه.
كلّ واضع ناموس فيحتاج إلى ترغيب وترهيب والوفاء بالوعد والوعيد، وإلّا لم يتمّ شيء منه، ولا يوثق منه بوعد ولا وعيد.
الحق والعدل أفضل ما خضع له (2).
ترك العقوبات لمن تجب عليه حامل (3) للعامّة على فعل ما تجب عليه العقوبات.
فضل الفعل على القول فى اليقظة كفضل (4) القول في اليقظة على القول في النوم.
سئل ذيوجانس: ما العشق؟ فقال: شغل قلب فارغ لا همّ له (5).
وقال: ليس ينبغي للرجل أن يشغل قلبه بما ذهب منه، ولكن يعنى بحفظ ما بقى عليه.
وسئل: أيّ شيء لا نفع (6) فى شركته؟ قال: الملك.
وقال مودون السّوفسطائي: شيخوخة البدن منتهى النفس (7).
وقال: أملك الناس جميعا لنفسه من استغنى عن الاعتذار عند سكون الغضب.
__________
(1) كذا فى الأصلين. ولعل صوابه «من أحسن».
(2) هذه الجملة والتى بعدها لم تذكرا فى ح.
(3) فى الأصلين «حامله».
(4) فى ح «كفعل» وهو خطأ
(5) كلمة «له» سقطت من ح.
(6) فى ح «لا يقع» وهو خطأ.
(7) هذه الجملة لم تذكر فى ح. و «مودون» هذا لم أجده فى الفلاسفة، ولعل اسمه محرف هنا.(1/473)
من تسخّط حظّه طال غيظه.
وسئل أيلول (1) الحكيم: ما الذنب الذي لا يخاف صاحبه؟ قال: ذنب صنع إلى كريم.
قلت وليس من المقصود إيراده: سمعت أن ابن المقفع لقي بعض الأكابر، فقال له: بلغني عنك ما كرهته. فقال ابن ألمقفع: لا أبالي! قال:
ولم؟ قال: لأنه إن كان حقّا غفرته، وإن كان باطلا كذّبته. وهذا من أحسن جواب.
وصف أيلول (2) الحكيم الكلام فقال: مغرسه القلب، وزارعه الفكر، وباذره الخواطر، ومسلكه اللسان، وجسمه الحركة، وروحه المعنى، وله أجزاء يقوم بها، وأركان يعتمد عليها، وفصول تتصل بالبيان، وصوت يؤدي إلى الأفهام، وحامل من الهواء إلى الأسماع. فاذا التحم المعنى بالأركان، وتألفت أجزاء اللفظ بالقوى: فهم استماع (3) ما نقل إليه الصوت. وإذا تأخر منه الجزء، وانخرم انتظام اللفظ، وسقط الحرف (4) من الفصل: شبّه على الواعي، وفسدت به المعاني.
ووصف الحرب فقال: جسمها الشجاعة، وقلبها التدبير، وعينها الحذر، وجناحاها (5) الطاعة، ولسانها المكيدة، وقائدها الرفق، وسائقها الصبر، وأولى الناس بها أبعدهم في الحيل، وأنفذهم فى المخاطرة (6)، فان همّة من شارفها
__________
(1) كذا فى الأصلين بياء مثناة بعد الألف وآخره لام. ولم أجده فى الفلاسفة، ولعله محرف عن «ابلن» بالهمزة ثم باء مشددة ثم نون فى آخره، وهو «أبلن الرومى الحكيم» له ترجمة فى أخبار الحكماء (ص 72).
(2) كذا فى الأصلين بياء مثناة بعد الألف وآخره لام. ولم أجده فى الفلاسفة، ولعله محرف عن «ابلن» بالهمزة ثم باء مشددة ثم نون فى آخره، وهو «أبلن الرومى الحكيم» له ترجمة فى أخبار الحكماء (ص 72).
(3) كذا فى الأصلين، ولعل صوابه «فهم السامع».
(4) فى ح «الحروف».
(5) فى ح «وجفاحها».
(6) فى ح «المحاضرة» وهو تحريف.(1/474)
نفسه، وهمة الناظر برأيه نفسه ونفس غيره. والحرب كالنار (1)، إن أطفأتها [من قرب] (2) آذتك وأحرقتك، وإن أطفأتها بالماء من بعد أمنتها وسلمت.
ولقي ذيوجانس رجلا أصلع سفيه معجب، فجعل يفتخر عليه ويسبّه. فقال له ذيوجانس: كما تتوهم أنك كذلك أكون أنا (3)، وكما أنت بالحقيقة أعدائي يكونون، ولكن طوبى لشعرك الذي فارق يافوخك العاجز الضعيف.
من نوادر فيثاغورس
حكي عنه أنه كان يقول: إنّ أكثر الآفات إنما تعرض للحيوانات لعدمها (4)
الكلام، وتعرض للانسان من قبل الكلام.
وكان يقول: من استطاع أن يمنع نفسه من أربعة أشياء فهو خليق أن لا ينزل به من (5) المكروه ما ينزل بغيره: العجلة، واللّجاجة، والعجب، والتواني. فثمرة العجلة الندامة، وثمرة اللجاجة الجنون، وثمرة العجب البغضاء، وثمرة التواني الذّلّة.
ومرّ يوما بقرويّ (6) عليه ثياب فاخرة وهو يتكلم فيلحن فى كلامه، فقال له:
[يا هذا،] (7) إمّا أن تتكلم كلاما يشبه لباسك، أو تلبس لباسا يشبه كلامك.
ومن نوادر سيخانس
(8)
قال: من احترام المرء نفسه أن لا يقول إلّا ما أحاط به علمه.
وقال: من سمعته يقول: إنه هو عالم فهو جاهل.
وقال: الصدق كله حسن، وأحسنه أن يقول العالم لما جهله: لا علم لي به.
__________
(1) فى ح «والحرب كالحرب» وهو خطأ واضح.
(2) الزيادة من عندنا، وهى واجبة لتصحيح الكلام، كما يتضح من المقابلة الآتية.
(3) كلمة «أنا» لم تذكر فى ح.
(4) في ح «من عدمها».
(5) كلمة «من» لم تذكر فى ح.
(6) فى ح «بانسان».
(7) الزيادة من ح.
(8) كذا فى الأصل بالخاء المعجمة، وفى ح «سيحانس» بالحاء المهملة، ولم أتحقق من صحته، وقريب من هذا الاسم «سوناخس» وهو طبيب ذكره ابن أبى أصيبعة (ج 1ص 22سطر 20) فلعله هذا وتحرف اسمه على المؤلف.(1/475)
ومن كلام سليمان بن داوود عليه السلام
قال: اللسان العجول قريب من الغضب. والقلب الفارغ موكّل بالشهوات والأماني.
الجاهل كلّ شيء ضدّ له.
القليل الحظّ من الدنيا ساكن القلب.
جار قريب أنفع لك من أخ بعيد.
لا تفتخر بما فعلت فى يومك، فانك لا تدري ما ينتج الغد.
ليمدحكم الغريب لا لسانك.
لا يتأدّب العبد بالكلام إذا وثق أنه لا يضرب.
سرّح خيرك على الماء تجده فى غابر الأيام.
ومن قول برسين الحكيم
اعجل إلى الاستماع، وترسّل في الجواب.
اجتنب الأشرار يجتنبوك.
أخرج ابنتك عن منزلك إلى رجل خائف لله تخرج عنك القالة وتأمن المعيرة (1).
كل شيء يألف جنسه، والانسان يألف شكله.
من منع نفسه فانما يجمع لغيره.
التمس الأنصار قبل الحرب، والطبيب قبل المرض.
__________
(1) كذلك رسمت في الأصلين، وتقرأ «المعايرة» بالألف بعد العين. على الرسم القديم.(1/476)
لا تعطينّ سلاحك لغيرك فيحاربك به.
لا تجعل للماء مساغا إليك فيغمرك، ولا للمرأة دالّة عليك فتركبك (1).
ثلاثة تعيبهنّ نفسي: الفقير المختال، والغنيّ الكذّاب، والشيخ الجهول.
وقال: بين الحجر والحجر يدخل الوتد (2)، وبين الشّرى والبيع يدخل الإثم.
إنفاقك المال فى حقّه خير من دفنك إياه تحت الجدران.
سوء العيش النّقلة من منزل إلى منزل.
مع الغربة الذّلة.
لا غنى يعدل صحة البدن، ولا سرور يعدل سعة الصدر.
الرزق الواسع لمن لا يتمتع (3) به بمنزلة طعام موضع على قبر.
المال للجاهل وبال عليه.
كدّ عبدك لئلّا يتمرّد عليك، فان البطالة تنتج ضروبا من الشّرور (4).
من ملك لسانه نجا من العطب.
ما كتمته عدوّك فلا تخبرنّ به صديقك.
طاعة المحبة أفضل من طاعة الهيبة.
وقال بعض الحكماء: البلاء رديف الرخاء، والأمن حليف الخوف، وبعد العسر اليسر، وليس صفو إلّا وله كدر (5).
وقال بعض الحكماء: الفاقة خير من غني البخيل، والمجهول عند السلطان
__________
(1) هذه الجملة ليست في ح.
(2) بكسر التاء فى لغة الحجاز، وفى غيرها بالفتح، وفي غيرهما بالسكون، وأهل نجد يسكنون التاء ويدغمونها فى الدال.
(3) فى ح «يستمتع».
(4) هذه الجملة متأخرة فى ح عن التى بعدها.
(5) هذه الجملة لم تذكر فى ح.(1/477)
الجائر خير من ذي الجاه المعروف عنده، والعقم خير من الولد الأحمق.
عضّ رجل سفيه رأس ذيوجانس، ثم انهزم، فعدا تلاميذه فى طلبه فأعجزهم، فانصرفوا مغضبين، فلما سكنوا قال لهم: ما دعاكم إلى طلب الهارب؟
قالوا: لنقتص لك منه (1)، قال: أرأيتم لو أن بغلا رمحني لكنتم (2) رامحيه؟! قالوا: لا (3)، قال: ولو أن كلبا عضّني لكنتم عاضّيه؟!! قالوا: لا، قال: فهذا بمنزلتهما، فدعوا أخلاق البهائم والتشبه بفعلها، واعمروا الحكمة بالوقار، وأطفئوا نار الغيظ بالكظم، واغلبوا الإساءة بالإحسان، واستبدلوا بطلب الثأر العفو: إن أردتم استكمال الحكمة بالقول والفعل.
وقال ثاليس (4): الأشراف الأغنياء الأنفس.
وقال ذنون (5) المشّاء: إنّ الجدّ لم يهب المال للأغنياء، بل أقرضهم إياها (6).
وقال أفلاطن الفيلسوف وسئل: أيّ حين لا تفسد الفلسفة؟! قال:
لا تترقّب ما لم يأت ولا تأس على ما فات (7).
وقال فيلس الأثيني (8): كما أن البحر يكون هادثا إذا لم تموّجه الرياح،
__________
(1) فى ح «لنقتص له منه» وهو خطأ واضح.
(2) كذا فى الأصلين، وهو استعمال صحيح.
(3) كلمة «لا» سقطت من ح.
(4) ثاليس: أوله ثاء مثلثة، كما فى أخبار الحكماء (ص 107) ومواضع أخرى. وفى الأصلين بالتاء المثناة، ولعله هو «طاليس» المترجم له فى أول (تاريخ الفلاسفة) ترجمة عبد الله بن حسين المصري المطبوع فى بولاق سنة 1252وفى الجوائب سنة 1302.
(5) كذا فى الأصل بالذال المعجمة، وفى ح «دنون» بالدال المهملة. ولعل صوابه «زينون» وقد ذكر فى طبقات الأطباء (ج 1ص 36) وتاريخ الفلاسفة (ص 152طبعة الجوائب).
(6) كذا فى الأصلين، والوجه أن يكون «إياه».
(7) هذه الجملة لم تذكر فى ح. وف الأصل «يأس» بدل «تأس».
(8) كذا فى الأصلين، إلا أن كلمة «الأثبنى» لم تذكر فى ح.(1/478)
فاذا موّجته الرياح اضطرب: كذلك إذا كان الجدّ سعيدا فدهر الانسان ساكن (1)، فاذا شقي تموّج دهره.
وقيل لسولن الحكيم: كيف تتّخذ الأصدقاء؟ فقال: أن يكرّموا إذا حضروا، ويحسن ذكرهم إذا غابوا.
وقيل لقيمونانس الحكيم (2): لم تبغض الناس كلّهم؟ قال: أما الأشرار فبحقّ أبغضهم، وأما الباقون فلأنهم لا يبغضون الأشرار.
وقالت تابوا الحكيمة (3) وسئلت: أيّ الألوان أحسن عندك؟
قالت: الحمرة، قيل لها: ولم؟ فقالت: لأنها توجد في وجوه المستحين.
وقال بعض الملوك وسئل: ما رأيت من نجدة أصحابك؟ فقال: لم أرهم قطّ سائلين عن عدد الأعداء، بل عن موضع الأعداء.
وقال الإسكندر لبعض أمراء جيوشه: احتل أن تحبّب إلى العدوّ الهرب.
قال: أفعل، فقال له: كيف تفعل ذلك؟ قال: إذا حاربتهم صبرت، وإذا هربوا أحجمت (4).
وقال ذيوجانس ورأى إنسانا يبكي لموته فى الغربة: أيّها الفاني، لماذا تبكي؟ في كل مكان الأرض التي كانت منزلك هي قبرك!
ألفاظ أفلاطون
قال: لا تصحبوا الأشرار، فانهم يمنّون عليكم بالسلامة منهم.
إعرف إدبار الدولة من تملّك الأحداث عليها.
__________
(1) كلمة «ساكن» ليست فى ح.
(2) كذا فى ح وفى الأصل «وقال قيمونالس الحكيم»، وهو خطأ ظاهر.
(3) كذا فى الأصلين.
(4) هذه الجملة لم تذكر فى ح. وقد مضت بلفظ آخر فى (ص 38).(1/479)
إذا أقبلت الدولة خدمت الشهوات العقول، وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات (1).
ما أعطى الاقبال أحدا شيئا إلّا سلبه من حسن الاستعداد أكثر منه (2)
وقال: لا تحقرنّ صغيرا يحتمل الزيادة.
الأشرار يتتبّعون مساويّ الناس، ويتركون محاسنهم، كما يتتبع الذباب المواضع الفاسدة من الجسد ويترك الصحيح منه.
وقال: إذا قوي (3) الوالي فى عمله حرّكه ما ملكه على حسب ما في طبعه من الخير والشر.
ليس تكمل حريّة الرجل حتى يكون صديقا لمتعاديين. (4)
من شقوة الحدث أن تتمّ له فضيلة فى رذيلة.
التامّ الحرية من احتمل جنايات المعروف. (5)
لا يحملك الحرص فى أمورك على التمقّت إلى الناس والإخافة لهم فتعطي من نفسك أكثر ما تأخذ لها، وكلّ إجابة عن غير رضى فهي مذمومة العاقبة.
إذا خبث الزمان كسدت الفضائل وضرّت، ونفقت الرذائل ونفعت، وكان خوف الموسر أشدّ من خوف المعسر.
اطلب فى الحياة العلم والمال تحز (6) الرئاسة على الناس، لأنهم بين خاصّ وعامّ: فالخاصة تفضّلك بما تحسن، والعامة تفضلك بما تملك.
__________
(1) هذه الجملة لم تذكر فى ح.
(2) لم تذكر أيضا فى ح.
(3) فى ح «اذا غلب».
(4) لم تذكر هذه الجملة فى ح.
(5) هذه الجملة والتى بعدها لم تذكرا فى ح.
(6) فى الأصلين «تحوز»، وهو لحن.(1/480)
وقال: موت الرؤساء أسهل من رئاسة السفل.
الوفاء من الرؤساء يجلب اليهم تعزيز الرعية بأنفسها وأموالها، وغدرهم يقبض عنهم الرعايا وأموالها، وحسد الملوك يخفي بهجة الملك (1).
لا يضبط الكثير من لم يضبط نفسه الواحدة.
إذا أحببت أن يدوم حبّك لأحد فأحسن اليه.
ينبغي للملك أن يبتديء بتقويم نفسه قبل أن يشرع في تقويم رعاياه، وإلّا كان بمنزلة من رام استقامة ظلّ معوجّ من قبل تقويم عوده الذي هو ظلّ له.
من قام من الملوك بالعدل والحقّ ملك سرائر رعاياه (2).
أنظر إلى المتنصّح اليك: فان دخل حيث مضارّ الناس فلا تقبل نصيحته وتحرّز منه، وإن دخل حيث العدل والصلاح فاقبلها واستشعره.
أعداء المرء في بعض الأوقات ربّما كانوا أنفع من إخوانه، لأنهم يهدون إليه عيوبه فيتجنبها (3)، ويخاف شماتتهم فيضبط نعمته ويتحرز من زوالها بمقدار جهده.
إذا بلغ المرء من الدنيا فوق مقداره تنكّرت أخلاقه للناس.
لا تصحب الشرير، فان طبعك يسرق من طبعه سرّا وأنت لا تعلم.
موت الصالح راحة لنفسه، وموت الطالح راحة للناس.
ينبغي للعاقل أن يتذكر عند حلاوة الغذاء (4) مرارة الداء.
__________
(1) هذه الجملة ليست فى ح.
(2) هذه أيضا ليست فى ح.
(3) فى ح «فبحسنها».
(4) فى ح «الغداء».(1/481)
إذا قامت حجتك على الكريم أكرمك ووقّرك، وإذا قامت على خسيس عاداك واضطغنها عليك.
السيىء الحال من خاف العدل عليه.
ليكن خوفك من تدبيرك على عدوّك أكثر من خوفك من تدبير عدوّك عليك.
ليس ينبغي للملك أن يطلب المحبّة من العامة، فانها لا تحبّ إلّا من يرحم، ومن يرحم فليس يصلح عندها للملك (1).
وقال الحكيم: أبين الغبن كدّك فيما نفعه لغيرك (2).
وقال: الذي لم يأت كالذي فات، كلّ زائل، والدنيا كحلم نائم.
وقال: لا تأنس بمن استوحش منه أهله بعد أنسهم به.
وقال: ليس تكاد الدنيا تسقي صفوا إلّا اعترض في صفائها (3)
قذى (4) باطن.
وقال: بقدر السموّ في الرفعة تكون وجبة الوقعة (5).
وقال: سرورك بقليل التّحف مع فراغك له أحسن موقعا عندك من أضعافه مع اشتغالك عنه، فكثرة أشغالك مذهلة عن وجود اللّذات بكنهها، وليس بحكيم من ترك التمييز.
وقال: الناس أشباه في الخلق، وإنما يتفاضلون فى الرخاء والشدّة.
قلت: لي بيتان فى هذا المعنى، وهما:
__________
(1) هذه ليست فى ح.
(2) فى ح «غيرك» بحذف اللام، وهو خطأ.
(3) فى ح «صفائه».
(4) رسمت في الأصلين «قذا».
(5) هذه ليست فى ح.(1/482)
النّاس أشباه، فإن خطب عرى ... حطّ الدّنيّ وشاد قدر الأفضل
كالعود مشتبه، فإن حرّقته ... كره الدّخان وطاب عرف المندل
اللسان أسد فى غابة، فإن أهيج افترس، وإن ترك خنس.
من غلب هواه عقله افتضح.
المنكر لما لا يعلم أعلم من المقرّ بما يعلم.
حفظ ما في يدك أيسر من طلب ما في أيدي الناس.
صديق كل امرىء عقله، وعدوّه جهله.
كتب أفلاطن إلى سقراط قبل أن يتعلم منه: «إنّي أسألك عن ثلاثة أشياء، إن أجبت عنها تتلمذت (1) لك» فكتب اليه: «سل (2) وبالله التوفيق» فكتب إليه: «أيّ الناس أحقّ بالرحمة؟ ومتى تضيع أمور الناس؟ وبما تتلقّى النعمة من الله عز وجل؟» فكتب إليه: «أحقّ الناس بالرحمة ثلاثة: البرّ يكون في سلطان الفاجر، فهو الدهر حزين لما يرى ويسمع. والعاقل في تدبير الجاهل، هو الدهر متعب مغموم. والكريم يحتاج إلى اللئيم، فهو الدهر خاضع ذليل. وتضيع أمور الناس إذا كان الرأي عند من لا يقبل منه. والسلاح عند من لا يستعمله. والمال عند من لا ينفقه. وتتلقّى (3) النعمة من الله تعالى بكثرة شكره، ولزوم طاعته، واجتناب معصيته». فأقبل إليه أفلاطن، وكان تلميذا له (4)
إلى أن مات.
وقال الحكيم: يجب أن تجرّب من قصدك بالحرسان والضّيم، فإن
__________
(1) في ح «تلمذت» بتاء واحدة فى أوله.
(2) كلمة «سل» لم تذكر فى ح.
(3) رسمت فى الأصل «ويتلقا». وفى ح «ويتلقى».
(4) فى ح «ودام تلميذا له».(1/483)
احتمل الحرمان وشكا الضيم ارتبطّته وأحسنت إليه، وإن احتمل الضيم وشكا الحرمان أقصيته.
[وقال:] (1) إن حسدك أحد من إخوانك على فضيلة ظهرت منك فسعى فى مكروهك أو تقوّل عليك ما لم تقل: فلا تقابله بمثل ما قابلك به، فيعذر نفسه في الاساءة، وتشرع له طريقا لما يحبّه (2) فيك، ولكن اجتهد في التّزيّد من تلك الفضيلة التي حسدك عليها، فإنك تسوؤه من غير أن توجّه عليك حجة.
[وقال:] (3) ينبغي للعاقل أن يتخيّر الناس لمعروفه، كما يتخير الأراضي الزكيّة لزرعه.
ينبغي أن نشفق على أولادنا من إشفاقنا عليهم (4).
نهاية جور الجائر أن يقصد من لا يلابسه ولا ينتفع به، وعندها ترجى الراحة منه.
إذا كشف رجل شديدة عن حرّ لم تزل نصب فكره وثابتة في خلده حتى يجزي عنها بأحسن منها.
اصبر على سلطانك، فلست بأكبر شغله، ولا بك (5) قوام أمره.
الظفر شافع للمذنبين عند الكرماء.
[وقال:] (6) من مدحك بما ليس فيك من الجميل وهو راض عنك:
ذمّك بما ليس فيك من القبيح (7) وهو ساخط عليك.
__________
(1) الزيادة من ح.
(2) فى ح «إلى ما يحبه».
(3) الزيادة من ح.
(4) هذه الجملة والتى بعدها ليستا فى ح.
(5) فى الأصلين «ولانك» وهو خطأ واضح.
(6) الزيادة من ح.
(7) قوله «من القبيح» ليس فى ح.(1/484)
المصغي الى القول (1) شريك لقائله.
[وقال:] (2) إذا طابق الكلام نيّة المتكلم حرّك نية السامع، وإن خالفها لم يحسن موقعه ممن أريد به.
وقال: لا تعادوا الدّول المقبلة وتشربوا قلوبكم استقلالها فتدبروا بإقبالها.
يستدل على إدبار القادر من قصده المخلصين له بالسوء، واستهانته بمشورات ذي الخبرة بأمره.
وقال: تبكيت الرجل بالذنب بعد العفو عنه إزراء بالصّنيعة، وإنما يكون (3)
قبل هبة الجرم له.
من أطاع الشهوة خذلته عند الإصحار به (4) في دفع المكاره، وجعلته خادما لمن كان ينبغي أن يتقدمه (5).
[وقال:] (6) الناس ثلاثة: خيّر وشرّير ومهين. فالخيّر هو الذي إذا أقصيته قبض نفسه عنك، ولسانه من سوء الذكر لك، وذكر حسنا إن كان تقدّم منك. والشّرير يقبض نفسه عنك، ويطلق لسانه فى ذكر معايبك، وربما تعدّى إلى الكذب عليك. والمهين لا يقبض نفسه عنك، ولا يزال متضرّعا لعفوك، ومودّة هذا مقرونة باستقامة حالك وصلاح أمورك، فان انتقلا انتقل عنك بمودّته.
[وقال:] (7) من خدم في حداثته الشهوة والغضب شقّ عليه في زمان الشيخوخة ما يلحقه من ضعف بدنه عن خدمة اللّذة ونفسه عن المخاصمة.
__________
(1) في ح «للقول».
(2) الزيادة من ح.
(3) فى الأصلين «تكون».
(4) من قولهم: «أصحر»: إذا برز إلى الصحراء لا يواريه شىء.
(5) هذه الجملة ليست فى ح. وفي الأصل «لما كان».
(6) الزيادة من ح.
(7) الزيادة من ح.(1/485)
[قال:] (1) من ضرر الكذب أنّ صاحبه ينسى الصورة المحسوسة الحقيقية، وتثبت عنده الصورة الوهميّة الكاذبة، فيبني عليها أمره، فيكون غشّه قد بدأ بنفسه.
[وقال:] (2) لا تعان (3) ما قوي فساده فيحيلك إلى الفساد قبل [أن] (4)
تحيله إلى الصلاح.
وقال الحكيم: إفهم كلّ ما (5) يصدر عنك عند غلبة الغضب، فانك تستقبحه عند انصرافه.
وقال: أحسن ما في الأنفة الترفّع عن معايب الناس، وترك الخضوع لما زاد على الكفاية (6).
اذا تسمّح فى دولة بالتجوّز في القضاة والأطبّاء فقد أدبرت وقرب انحلالها.
[قال:] (7) الأخيار يترفّعون عن ذكر معايب الناس، ويتّهمون المخبر بها، ويؤثرون الفضائل ويتعصّبون لأهلها، ويستصغرون فضائل الرؤساء، ويطالبون أنفسهم بالمكافأة عليها وحسن الرعاية لها (8).
أحسن ما في الأمانة المكافأة على الصنيعة.
اذا أردت أن تعرف طبقتك من الناس فانظر إلى من تحبّه لغير علة.
وقال: السخيف مثل الجسم الرّخو المتحلّل: يسخن سريعا، ويبرد
__________
(1) الزيادة من ح.
(2) الزيادة من ح.
(3) فى الأصل «لا تعاني»
(4) الزيادة من ح.
(5) في الأصلين «كلما».
(6) هذه الجملة والتى بعدها لم تذكرا فى ح.
(7) الزيادة من ح.
(8) من هنا إلى قوله «وقال الحكيم: البخيل يسخو من عرضه» فى (ص 456سطر 10) لا يوجد فى ح.(1/486)
سريعا. والحصيف (1) مثل الجسم الصّلب الكثيف: يسخن بطيئا، ويبرد من سخونته بأكثر من ذلك الزمان.
العلم صبغ النّفس، وليس يشرق صبغ الشىء حتى ينظّف من أنجاسه.
وقال: من إدبار الدّول التمسك بالفروع وتضييع الأصول وتصنيف الآمال و [اطّرا] ح (2) الأعمال وإهمال العمارة ومطل المقاتلة والنكث في [العهود] (3).
اذا ثقل على الرئيس الوعظ، ولجّ فى ترك الانقياد للناصح، وأكذب المحدّث بالممكن، وآثر التفويض، واحتقر المجدّ من الأعداء: فاطلب الخلاص منه.
وقال: ينبغي للملك أن لا يطلب المحبة من أصحابه إلّا بعد تمكّن هيبته من نفوسهم، فانه يجدها بأيسر كلفة، فاما ان (4) قبل منه بالغلظة ويعذره بنقصه فيما فرط منه ولا يعذر نفسه.
وقال: الدليل على ضعف الإنسان أنه ربما أتاه الحظّ من حيث لم يحتسب، والمكروه من حيث لم يرتقب.
وقال: اذا استشارك عدوّك فجرّده النصيحة (5)، لأنه بالاستشارة قد خرج من عداوتك الى حزب موالاتك.
__________
(1) الحصيف بالحاء المهملة: الجيد الرأي المحكم العقل. وفى الأصل «الخصيف» بالخاء المعجمة، وهو تصحيف.
(2) موضع الكلمة فى الأصل بال، فلم يظهر منها إلا الواو والحاء.
(3) وموضع هذه بال أيضا، فكتبناها على غالب الظن.
(4) هنا موضع بال فى الأصل أيضا فلم يمكن معرفة ما كتب فيه، ولذلك اضطرب معنى الكلام.
(5) كذا فى الأصل، وأصل التجريد القشر، وكل شىء قشرته عن شىء فقد جردته، والمراد به إظهار الشىء. ولكنه يتعدى لمفعول واحد، وهنا استعمله متعديا لمفعولين، ولم أجد ما يؤيده فى كتب اللغة. ولعل صواب العبارة «فجود النصيحة» أي اخترها جيدة، فاذا جعلتها «جوده النصيحة» فعديته لمفعولين حسن، حملا لهذا على الفعل المستعمل فى ذلك وهو «محضته النصيحة». كتبه محمود شاكر؟(1/487)
وقال: العدل في الشيء صورة واحدة، والجور صور كثيرة، ولهذا سهل ارتكاب الجور، وصعب تحرّي العدل، وهما يشبهان الإصابة فى الرّماية والخطأ فيها، فان الإصابة تحتاج إلى ارتياض وتعاهد، والخطأ لا يحتاج إلى شيء من ذلك.
وقال: الملك كالبحر تستمدّ منه الأنهار، فان كان عذبا عذبت، وإن كان ملحا ملحت.
وقال: ليس الملك من ملك العبيد والعامّة، بل من ملك الأحرار وذوي الفضائل. ولا الغنيّ من جمع المال، ولكن من دبّره وأحسن إمساكه وتصريفه.
من أخذ نفسه بالطمع الكاذب كذّبته العطية الصادقة.
أفضل الملوك (1) بالعدل ذكره، واستملى منه من أتى بعده.
[وقال الحكيم:] (2) البخيل يسخو من عرضه بمقدار ما يبخل به من ماله.
[وقال:] (3) الفرق بين الاقتصاد والبخل: أنّ الاقتصاد تمسّك الانسان بما يملكه، وخوفه (4) على حرّيته وجاهه من المسألة، فهو يضع الشيء فى موضعه، ويصبر عمّا لم تدع الضرورة إليه. والبخيل يصل صغير برّه بعظيم شرّه.
[وقال:] (5) البخيل يقبل الإحسان ولا يثيب عليه، ويمنع اليسير لمن يستحقّ الكثير، ويصبر لصغير ما يجب عليه على كثير من الذمّ له.
وقال الحكيم: رأي من ينصحك أمثل من رأيك لنفسك، لأنه خلو من هواك.
__________
(1) لم يمكن قراءة ما بقي من أثر هذا الموضع. وقال أخى محمود افندى شاكر: أحسبها فيما قرأت «أفضل الملوك من سار بالعدل ذكره».
(2) الزيادة من ح.
(3) الزيادة من ح.
(4) فى ح «خوفه» بدون واو العطف، وهو خطأ.
(5) الزيادة من ح.(1/488)
(1) من ملك من الملوك استوفى من رعاياه وشيعته أجرته، وهو التّملّك، وبقي عليه لهما الخدمة، وهي إقامة سنن الدّين، والعدل على الرعية، ومنع من قوي فيها عن من ضعف منها.
وقال: ينبغي للعاقل أن يربّي صداقة صديقه بجميل الفعل وحسن التعاهد، كما يربّي الطفل الذي ولد له، والشجرة التي يغرسها، فان ثمرتها ونضارتها بحسن الافتقاد والتعاهد.
لا تقبل الرئاسة على أهل مدينتك، فانهم لا يستقيمون لك إلّا بما تخرج به من شرط الرئيس الفاضل.
وقال: ينبغي للملك أن لا يؤنس رعاياه بلين العريكة والرفق، ولكنه يؤنسهم بالعدل.
فضل الملوك على قدر خدمتهم لشرائعهم، وإحيائهم سننها. ونقصهم على قدر إغفالها وتحفّظها (2). وذلك: أنّ خدمة الشريعة تحرّكهم للعمل، وإلى أن يعطوا من أنفسهم ما يجب عليها، كما يأخذون من خاصّتهم وعامّتهم ما يجب عليهم، والمغفل لخدمة الشريعة من الملوك يأخذ من الخاصّة والعامّة ولا يعطيها، فهو ناقص، إذ كان خارجا عن سلطان العدل.
من أطاع العدل شفى (3) ما في نفسه، وخلص على تجربته.
[وقال:] (4) خف الضعيف إذا كان تحت راية الإنصاف أكثر من
__________
(1) من هنا إلى قوله «وقال: خف الضعيف» الخ فى آخر هذه الصفحة لم يذكر فى ح.
(2) كذا فى الأصل. والتحفظ: التيقظ وقلة الغفلة فى الأمور. وهو غير مناسب لسياق الكلام هنا، فلعل الكلمة محرفة.
(3) رسمت فى الأصل «شفا» بالألف، والفعل يأتي.
(4) الزيادة من ح.(1/489)
خوفك القويّ إذا كان تحت راية الجور، فانّ النصر يأتيه من حيث لا يشعر.
(1) وقال: الإفراطات في الدّول مبادي الفساد.
وقال: المراتب تتفاضل في البقاء، فأرفعها مرتبة أقصرها مدة، وأهنؤها (2)
عشية أوبؤها (3) مغبة.
عند إدبار الدّول يغفل أمر بيوت العبادات، ويتجوّز في القضاء، ويتحامل الناس: الأقوياء على الضعفاء، والأغنياء على الفقراء.
أكثر اضطراب الملك على الملك من أهل الشجاعة: فانهم إذا تجاوز بهم مواضعهم ووثقوا بقوّتهم على غيرهم: غلبوا كثيرا هم أولى (4) منهم بالتقدم، واضطرب لذلك نظام المملكة، فينبغي للسائس الحازم أن يعطي ذوي القوى قساطها من مملكته، ويحرسها عن التّزيّد والنقص، كما يحرس الطبيب أخلاط الجسد فيردّها إلى اعتدال الصحة.
وقال: ينبغي للملك أن يتحصّن من جيوشه بالإنصاف، ومن شرار دولته بالإخافة. وعلى الملك أن يعمل بخصال ثلاث: تأخير العقوبة في سلطان الغضب، وتعجيل المكافأة للحسن، والعمل بالأناة فيما يحدث، فان له في تأخير العقوبة إمكان العفو.
قال: والنفس التي غلبت عليها الشهوات لا تؤثر حسن الذّكر، لأنها لا ترى الفضائل إلّا فيما التذّت به لذّة حسنة (5).
__________
(1) من هنا إلى قوله «وقال: يستدل على اقبال الملك» الخ (ص 459سطر 1) لم يذكر فى ح.
(2) رسمتا فى الأصل «أهناها وأوباها».
(3) رسمتا فى الأصل «أهناها وأوباها».
(4) رسمت فى الأصل «أولا» بالألف.
(5) كذا فى الأصل، وأخشى أن تكون الكلمة محرفة. ولعل صوابها «حسية».(1/490)
[وقال:] (1) يستدلّ على إقبال الملك وعلوّ زمانه من اختياره لوزرائه، ومشاورته المشايخ ذوي التجارب والمعرفة.
الكريم من الملوك من لم يقتصر على مكافأة من أسدى اليه الجميل، حتى يكون متكفلا بفضله ما وجب على الأحرار فى زمانه لمن أحسن اليهم (2).
إذا أنكرت من أحد شيئا فلا تطرحه، وأجل فكرك في جميع أخلاقه، فكلّ شخص موهبة من الله جلّ اسمه لا يخلو منها.
[وقال:] (3) الحسود ظالم ضعفت يده عن انتزاع ما حسدك عليه، فلمّا قصّرت عنك بعث إليك تأسّفه.
وقال: اللّجاج عسر انطباع المعقولات في النفس، وذلك: إمّا لفرط حدّة تكون في الإنسان، وإمّا لغلظ، فلا ينقاد للرأي.
أقرب رأييك من الصواب أبعدهما ممّا هويت في الأكثر (4).
وقال: الكريم الطبع من رفع نفسه عن سوء المجازاة، وتواضع في حسن المكافأة على الجميل (5).
[وقال:] (6) من تمام أمانة الرجل كتمانه للسّرّ ودفعه التّأوّل، وقبوله الجميل على ظاهره.
وقال: لا توغل فى عداوة من فسد ما بينك وبينه، واصرف أكثر وكدك إلى حسن الاحتراس منه (7).
__________
(1) الزيادة من ح.
(2) هذه القطعة والتى بعدها لم تذكرا فى ح.
(3) الزيادة من ح.
(4) هذه الجملة ليست فى ح.
(5) هذه الجملة وضعت فى ح قبل قوله «وقال: اللجاج عسر انطباع المعقولات فى النفس» الخ.
(6) الزيادة من ح.
(7) هذه الجملة لم تذكر فى ح. والوكد: المراد والهمّ.(1/491)
[وقال حكيم:] (1) أحسن الناس من رفع نفسه فوق حقّها عند التعدّي، ووضعها عن منزلتها (2) عند الرغبة اليه، واعتقاد المنن، وجميل المكافأة على السوالف المحمودة (3).
غلبة التّنعّم تعوّدك إيثار الراحة والمماطلة بالأمور، وتكرّه إليك ركوب المشقّة فى مصلحة عواقب أمرك. وهو يشبه الحكيم الحسن المنظر السّيّئ العبارة (4).
[وقال:] (5) الأماني أحلام المستيقظ. وليس تروّح عن قلوب المحرومين فى زمان إلّا أعقبتهم حسرة في أضعافهم (6).
ليس القناعة أن تترك كثير الرزق لقليل ما يتحصّل لك منه، وهذا بالعجز أشبه منه بالقناعة. وإنما القناعة إيثار القليل مع حريّة النفس وترك ركوبها الأخطار واحتمال الذّلّة.
[وقال:] (7) احذر مؤاخاة من يجعلك أكثر باله (8)، ويؤثر أن لا يخفى عليه شيء من أمرك، فانه يتعبك ويأسرك. ولكن صديقك بمنزلة الغضن من الشجرة: ينجذب معك وفي يدك، فاذا خلّيته رجع الى موضعه من الصّلة وحسن المحافظة، ولم يناقشك المودّة ويجعل ذلك سببا إلى القطيعة.
غيرة (9) الأصدقاء والغلمان أضرّ من غيرة النساء، لأنها مشوبة بفظاظة وغلظة، فاحترس من دباباتها (10)، وتنكّب من غلبت عليه.
__________
(1) الزيادة من ح.
(2) فى الأصلين «عن تركتها» وهو خطأ ليس له معنى.
(3) فى ح «الحمودة» وهو خطأ ظاهر. وهذه الجملة مؤخرة فى ح قبل قوله «وحكى عن بعض المتقدمين من الملوك (ص 461سطر 12).
(4) هذه الجملة ليست فى ح.
(5) الزيادة من ح.
(6) كذا فى الأصلين. ولعل الصواب «في أضعافه» أي: أضعاف الزمان.
(7) الزيادة من ح.
(8) ضبطت فى الأصل بالرفع وهو خطأ ولحن.
(9) ضبطت فى الأصل بكسر الغين وفتح الراء، وهو خطأ. وهذه الجملة لم تذكر فى ح.
(10) كذا فى الأصل، وهو غير مفهوم.(1/492)
من أراد أن يشجي (1) صاحبه أو محاسده (2) من غير حجة تلحقه فليتزيّد في الفضيلة التي حسده عليها.
وقال: أول مغبّة ظلم الظالم عند زوال قوّته. وأول ما يفارق الانسان ممّا (3) يملك ما أثّله ظلمه له، فخف المظلوم، فانه تحت راية الباري جلّ وعزّ، وزل معه حيث زال، فلولا أنه يظلم لعوجل ظالمه (4).
[وقال:] (5) الحرص على الدنيا رأس (6) كلّ خطيئة، والشحّ على ما فيها رأس كلّ بلية.
وقال [الحكيم] (7) أبى باغوس (8): الحرص يورث تعب الدنيا وشقاء الآخرة.
وقال سقراط: من أراد قلّة الغمّ فليقلّ القنية، فهي ينبوع الأحزان (9).
وحكي عن بعض المتقدمين من الملوك: أنه توفي له ولد حين أهّل للمملكة، وكان وحيد أبيه، فجزع عليه جزعا عظيما. فدخل عليه حكيم عصره فقال له: إن أنصفت عقلك أيّها الملك من نفسك فقد علمت أنّ التعزية كانت فى نفس التهنئة به، أما قيل لك: «طوّل الله عمره»؟
لعلمهم بقصره وإن طال! أما قيل لك: «جعله الله خلفا صالحا»؟ والخلف
__________
(1) أشجاه: أوقعه فى الشجو، وهو الحزن.
(2) كذا في الأصل، وفى ح «من أراد يشجي حاسده من غير حجة» وهو أجود.
(3) كتبت فى الأصل «من ما».
(4) هذه الجملة ليست فى ح.
(5) الزيادة من ح.
(6) كذا فى ح. وفى الأصل «أفضل كل خطيئة» ووصف الخطيئة بالفضل لا يحسن.
(7) الزيادة من ح.
(8) كذا فى الاصلين.
(9) هذه الجملة ليست فى ح، والقنية بكسر القاف وبضمها: ما يقتنى.(1/493)
لا يكون إلّا لتلف عن تالف. متى رأيت عيشا إلى دوام، وفرحا إلى تمام؟
أيّ غنى لم يخف معه العدم، وبناء لم ينله الهدم؟ وأيّ فرحة لم تمزج بترحة؟
متى رأيت مسرّة لم تتبعها (1) مضرّة؟ إنّ الدنيا نادت فأسمعت، وبيّنت فأوضحت، لأن سرورها بشرورها، مزحت وغرّت وخدعت (2)، وأرضعت ففطمت. متى رأيت شيئا من مليحها هذّبته عن قبيحها؟ هل دخلت قصرا إلّا كانت كنفه قبل غرفه؟ وبلدة إلّا تلقاك قبورها قبل دورها؟ متى رأيت ضاحكا لم يعد باكيا؟ وشاكرا لها لم يعد شاكيا؟ أفّ لعقل حجبته الشّهوات، وخدعته الشبهات.
[وقال الحكيم:] (3) العاقل من عقل لسانه، والجاهل من جهل قدره.
إذا تمّ العقل نقص الكلام.
[وقال الحكيم:] (4) العقل إذا فسد كالجوهر إذا انكسر.
للشيخ أبى العلاء المعري في هذا المعنى بيتان، وهما (5):
خف يا كريم على عرض تعرّضه ... لعائب، فلئيم لا يقاس بكا
إنّ الزّجاجة لمّا حطّمت سبكت ... وكم تحطّم من درّ فماسبكا (6)
[وقال الحكيم:] (7) كلّ عيب مضادد (8) لخلاص النفس.
لا ينبغي لك أن تهوى حياة صالحة فقط، بل وموتا صالحا.
__________
(1) فى الاصلين «لم يتبعها».
(2) فى الاصلين «مزجت» بالجيم، وهى بالحاء أصح، ولو كان الكلام: «مزحت فغرت وخدعت» لكان احسن.
(3) الزيادة من ح.
(4) الزيادة من ح.
(5) فى اللزوميات (ج 2ص 134).
(6) در: بالدال المهملة المضمومة كما في اللزوميات وح، وفي الاصل بالذال المعجمة، وهو خطأ.
(7) الزيادة من ح.
(8) كذا فى الاصلين بفك الادغام.(1/494)
تذكّر من أيّ شيء كنت، وإلى أين أنت صائر.
لا يعدّ من الأخيار من يؤذي أحدا بسبب الأمور الزائلة.
كن محبّا للناس، ولا تسرع الغضب فتسلّط عليك عادة الجهّال.
لا تؤخّره إناله المحتاج إلى غد، فانك لا تدري ما يعرض في غد.
أعن المبتلى إن لم يكن سوء عمله ابتلاه.
[قال:] (1) لا تحبّ الفتنة فتضطرّ إلى البعد (2) عن محبّة الله تعالى.
[وقال الحكيم:] (3) إن تعبت في أعمال البرّ فان التّعب يزول [عنك] (4)
والبرّ يبقى لك. وإن تلذّذت بالإثم (5) فان اللذة تزول، والإثم باق عليك.
اذكر يوما يهتف بك فيه فلا تسمع، وينكسر فيه اللسان الحديد فلا ينطق (6). واذكر أنك ذاهب إلى مكان لا تعرف فيه صديقا ولا عدوّا.
من نزّل نفسه منزلة العاقل أنزله الناس منزلة الجاهل.
لا تكره سخط من يرضيه الباطل.
التقرّب من الناس مجلبة لقرين السوء، فكن مع الناس بين المنقبض والمسترسل.
من أسرع كثر عثاره. والتؤدة تؤمن العثار.
ربّ مغبوط بمسرّة هي داؤه، ومرحوم من سقم هو شفاؤه.
وقال الحكيم: ما بقاء عمر تنقصه الساعات، وسلامة بدن معرّض للآفات؟! والعجب ممّن يكره الموت وهو سبيله! ولا أرى أحدا إلّا وهو من الموت آبق، وهو مدركه.
__________
(1) الزيادة من ح.
(2) فى ح «العبد» وهو خطأ.
(3) الزيادة من ح.
(4) الزيادة من ح.
(5) فى ح «فى الاثم»
(6) قوله «فلا ينطق» لم يذكر فى ح.(1/495)
كلّ راض غنيّ.
كتب سقرط إلى ملك زمانه وقد مات ولده: «أما بعد. فانّ الله تعالى جعل الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، وجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سببا، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ما يأخذه بما يعطي، ويبتلي إذا ابتلى ليجزي.
وقال ابن الملك يوما لسقراط: إني لمغموم بك. قال: ولم؟ قال: لما أرى من شدة فقرك. فقال له سقراط: لو علمت الفقر ما هو لشغلك غمّك بنفسك عن غمّك بي! الغنى والفقر بعد العرض على الله تعالى.
وقال: اعلم أن حفظك سرّك أولى من حفظ غيرك له.
وقال لبعض تلامذته: احذر الزمان فانه أخبث عدوّ تحذر منه (1).
[وقال:] (2) من تكلّف ما لا يعنيه فاته ما يعنيه.
[وقال:] (3) ليس للرجل أن يشغل قلبه بما ذهب منه، لكن ينبغي أن يحفظ ما بقي عليه (4).
[وقال:] (5) زهدك في من (6) يرغب فيك قصر همّة، ورغبتك فيمن (7)
يزهد فيك ذلّ نفس.
وقال رجل لأرسطاطاليس: بلغني أنك اغتبتني. فقال: ما بلغ قدرك عندي أن أدع لك خلّة من ثلاث. قال: وما الثلاث؟ قال: إمّا علم أعمل فكري فيه، وإما لذة أعلل فيها نفسي (8)، وإما إقبال على عمل صالح.
__________
(1) فى ح «تحذره».
(2) الزيادة من ح.
(3) الزيادة من ح.
(4) فى ح «لكنه يحفظ ما بقى عليه».
(5) الزيادة من ح.
(6) كذا رسمت فى الأصل فى الموضعين بالرسمين، وفى ح رسمت «فيمن» فى الموضعين.
(7) كذا رسمت فى الأصل فى الموضعين بالرسمين، وفى ح رسمت «فيمن» فى الموضعين.
(8) فى ح «أعلل نفسى فيها».(1/496)
وقال أيضا: ليس طلبي للعلم طمعا فى بلوغ قاصيه، والاستيلاء على غايته، ولكن التماسا علما لا يسع جهله، ولا يحسن بالعاقل خلافه.
وقال: الجاهل عدوّ لنفسه، فكيف يكون صديقا لغيره (1).
سئل الاسكندر: أيّ شيء نلته فى ملكك أنت به أشدّ سرورا؟ قال:
قوّتي على مكافأة من أحسن إليّ بأكثر من إحسانه.
وقال: محادثتك من لا يعقل بمنزلة من يضع الموائد لأهل القبور.
ومرّ الاسكندر بمدينة ملكها من الملوك سبعة بادوا، فقال: هل بقي من نسل الملوك الذين ملكوا هذه المدينة أحد؟ قالوا: نعم، واحد. قال: دلوني عليه. قيل له: قد سكن المقابر. فدعا به، فأتاه. فقال له: ما دعاك إلى ملازمة المقابر؟ قال: إني أردت أن أميّز عظام عبيدهم من عظام ملوكهم، فوجدت الجميع سواء! قال: فهل لك في (2) أن تتبعني فأحيي شرفك وشرف آبائك إن كانت لك همّة؟ قال: إنّ همتي لعظيمة. قال: وما هي؟ قال: حياة لا موت بعدها، وشباب لا هرم بعده، وغنى لا فقر معه، وسرور بغير مكروه، وصحة من غير سقم!! قال: هذا ما لا تجده عندي. قال: فانّني أطلبه ممّن هو عنده. فقال الاسكندر: ما رأيت أحكم من هذا. ثم خرج من عنده، فلم يزل فى المقابر حتى مات.
وقال الحكيم: أمر الدنيا أقصر من أن تطالع فيه الأحقاد (3).
وقال: لأن (4) أدع الحقّ جهلا به أحبّ إليّ من أن أدعه زهدا فيه.
رأى أفلاطون رجلا يكثر الكلام ويقلّ الاستماع. فقال له: يا هذا،
__________
(1) مضت الجملة فى (ص 238).
(2) كلمة «في» ليست في ح.
(3) هذه الجملة والتى بعدها لم تذكرا فى ح.
(4) رسمت فى الاصل «لئن».(1/497)
أنصف أذنيك من لسانك، فان الخالق جلّ ثناؤه إنما جعل لك أذنين ولسانا واحدا، لتسمع ضعف ما تتكلم.
وقال لتلامذته: من شكركم على غير معروف أو برّ فعاجلوه بهما، وإلّا انعكس الشكر فصار ذمّا.
وقال: من لم يراع الاخوان عند دولته خذلوه عند فاقته.
وقال: الملك السعيد من تمّت رياسة آبائه به، والشقيّ من انقطعت عنده.
قيل: أراد أفلاطون سفرا، فقال لسقراط: أوصني أيها الحكيم. فقال (1): كن سيّئ الظنّ بمن تعرف، وعلى حذر ممن لا تعرف، وإياك والوحدة، وكن كأحد أتباعك، وإياك والضجر وسوء الخلق. وإذا نزلت منزلا فلا تمش حافيا، ولا تذق نبتة لا تعرفها، ولا تغتنم مخاصرة الطرق (2)، وعليك بجوادّها وإن بعدت.
وكتب أفلاطون إلى روفسطائيس الملك: «قد أسمعك الداعي، وأعذر فيك الطالب، وانتهت الأمور فيك إلى الرجاع (3)، ولا أحد (4) أعظم رزية ممّن ضيّع اليقين وأخطأ بالأمل».
وقيل لأفلاطن: كيف تركت أهل بلدك؟ قال: بين مظلوم لا ينصف، وظالم لا يقلع.
وقال لديقوميس (5) الملك: اجعل ما طلبت من الدنيا فلم (6) نظفر به ولم تقدر عليه: بمنزلة ما لم (7) يخطر ببالك.
__________
(1) فى ح «قال».
(2) كذا فى الأصلين، والذى فى لسان العرب: «المخاصرة المخازمة» وهو أن يأخذ الرجل في طريق ويأخذ الآخر فى غيره حتى يلتقيان فى مكان. واختصار الطريق سلوك أقربه. ومختصرات الطرق التى تقرب فى وعورها وإذا سلك الطريق الأبعد كان أسهل، وهذا الأخير هو المراد هنا، فلعل صوابه «ولا تغتنم مختصرات الطرق».
(3) كذا فى الأصلين.
(4) بالحاء المهملة، وفى الأصلين ولا «أجد» بالجيم.
(5) فى ح «وقال الديقوميس» وهو خطأ فيما أرى.
(6) فى ح «ولم».
(7) في ح «مالا».(1/498)
وقال: ليس الفضيلة فى حسن العيش، بل فى تدبير حسن العيش.
وقال: البخل فى موضعه أفضل من الجود فى غير موضعه.
وسئل أفلاطن: أيّ شيء أهون عليكم معاشر الحكماء؟ فقال: لائمة الجاهل.
وقال: لقاء أهل الخير عمارة القلوب.
وقال: إذا قارفت (1) سبيئة فعجّل نحوها بالتوبة. ولا تؤخّر عمل اليوم لغد.
خاتمة المؤلف
قال مؤلف الكتاب غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين: ما للعلم غاية يدركها الراغب، ولا نهاية يقف عندها الطالب. هو أكثر من أن يحصر، وأوسع من أن يجمع. والأعمار [متلاشية] (2) منتقصة، وحوادث الزمان فيها معترضة.
ولولا أنّ النفس [إذا غولبت] (2) غلبت، وإذا زجرت لجّت وأبت:
لكان اشتغال [من بلغ] (2) من السنين إحدى وتسعين بأعمال البر والثواب أجد [ى عليه (2)] من الاشتغال بتأليف كتاب. بعد ما بالغ الزمان فى [وعظه، بتأثيره] (2) في قواه وسمعه وبصره، لا بلفظه. وأنذره تغيّر حاله [دنوّار] (2) تحاله.
فهو مقيم على وفاز (3)، ميّت في الحقيقة حيّ بالمجاز. مستكين لأسر ربّ العالمين.
واثق بما وعد به ابن التسعين، على لسان رسوله الأمين (4). صلى الله عليه وعلى
__________
(1) مفارقة الخطيئة بتقديم القاف على الفاء: مخالطتها وارتكابها. وفى ح «فارقت» بتقديم الفاء وتأخير القاف، وهو خطأ.
(2) الزيادات من ح لأن مواضعها في الأصل لم تظهر لما اعتور ورقه من البلى.
(3) الوفز والوفزة بفتح الواو والفاء فيهما: العجلة، والجمع: أوفاز. يقال: لقيته على أوفاز: أى على عجلة. قال فى اللسان: «ولا تقل على وفاز» وفى شرح القاموس ما يدل على أن بعضهم أجاز «وفاز» أيضا بكسر الواو، بوزن: جبل وجبال.
(4) يشير إلى حديث ورد فى الأعمار، أوله «ما من معمر يعمر فى الاسلام» الخ وفيه: «فاذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمى أسير الله فى أرضه، وشفع لأهل بيته».
رواه أحمد فى المسند (رقم 12312ج 3ص 218217) من حديث أنس بن مالك مرفوعا.
ورواه أيضا من قول أنس موقوفا (رقم 5626) ومن حديث ابن عمر مرفوعا (رقم 5627ج 2 ص 89) وفى أسانيده ضعف، وانظر الكلام عليه فى القول المسدد للحافظ ابن حجر (ص 7 9و 2522) وفى رسالة الخصال المكفرة للذنوب لابن حجر أيضا في مجموعة الرسائل المنيرية (ج 1ص 266264)، وفى مجمع الزوائد (ج 10ص 206204).(1/499)
آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه البررة المتقين، وأزواجه الطاهرات أمّهات المؤمنين، صلاة دائمة إلى يوم الدين.
خاتمة المصحح
وهذا آخر كتاب لباب الآداب [فرحم الله كر] (1) يما وقف عليه. وتصدّق على مؤلفه بدعوة صالحة [بهديها إليه] (1) يثيبه الله تعالى عنها، ويجزل حظّه منها. فهو سبحانه [من الدا] (2) عي قريب، يسمع ويجيب (3).
[وكان الف] (2) راغ منه في صفر سنة تسع وسبعين وخمس مائة [والحمد لله و (2)] حده وصلواته على سيدنا محمد نبيّه وصحبه وسلامه ناسخه الفقير إلى رحمة ربه
[غنا] ئم (3) الناسخ المعري غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
__________
(1) الزيادات من ح لأن مواضعها فى الأصل لم تظهر لما اعتور ورقه من البلى.
(2) الزيادات كتبناها على الظن الراجح. واسم كاتب الأصل ضاع اوله فلم نعرفه.
(3) ختم كاتب ح نسخته بقوله هنا ما نصه: «تغمّده الله برحمته وغفرانه، وأسكنه فسيح جنانه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وكان الفراغ منه يوم الجمعة المبارك ختام شهر ذى الحجة المبارك بتاريخ عام ست وستين وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
على يد الفقير الحقير رجب الحريرى غفر الله له وللمسلمين أجمعين».
وقد أتممت تصحيح الكتاب وتحقيقه والتعليق عليه عصر يوم السبت 18 ذى الحجة سنة 231353مارس سنة 1935والحمد لله على التوفيق.
كتبه أبو الاشبال احمد محمّد شاكر(1/500)