قولهم لو كانت زوجة لثبت لها النفقة إلى آخره، قلنا نمنع الملازمة لصدق الزوجيّة مع عدم لزوم هذه الأحكام فإنّ النفقة تسقط مع النشوز، والميراث يسقط مع الرقّ والقتل والكفر، والإحصان لا يثبت قبل الدّخول بالزوجة، والقسم لا يجب دائما ويسقط في السفر واللّعان لا يقع بين الحرّ والأمة عند كثير منهم، فقد انتفت هذه الأمور مع صدق الزوجيّة فكما خصّت تلك العمومات بوجود الدلالة فكذا هنا.
وعن الثاني أمّا الرّواية عن عليّ عليه السّلام فباطلة لأنّا نعلم بالضرورة من مذهبه ومذهب أولاده خلافها فمحال أن يروي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله ما يخالفه، على أنّ خبر ابن سبرة دلّ على أنّ الاذن في حجّة الوداع، وخبر عليّ عليه السّلام في يوم خيبر وحجة الوداع متأخّرة عن خيبر فلو كان النهي الّذي نسب إلى علي عليه السّلام على التحريم لزم نسخها مرّتين ولا قائل بذلك، وأيضا خبر ابن سبرة يرفع النهي الّذي تضمنه خبر عليّ عليه السّلام فسقط الاحتجاج به.
وأمّا خبر ابن سبرة فبالطعن في سنده أوّلا (1) وباختلاف ألفاظه الدالّ على
__________
(1) إذ الراوي في كل الروايات الربيع بن سبرة عن أبيه، وسبرة وان كان صحابيا إلا انا لا نرى في المعاجم وما ألف في تراجم الصحابة ما يوجب وثوقنا به، وليس للبخاري عن سبرة بل ولا عن ابنه الربيع ولا عن ابني الربيع عبد الملك وعبد العزيز رواية، انظر كتاب الجمع بين رجال الصحيحين الأرقام 520، 783، 1185، ترى المذكورين فيه من أفراد مسلم.
وعلى كل فمجرد كون الرجل صحابيا لا يكفي في كونه مأمونا عدلا ما لم نتعاهد حاله، ويثبت لنا وثاقته كيف وقد قال الله العزيز الحكيم {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرََابِ مُنََافِقُونَ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفََاقِ لََا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى ََ عَذََابٍ عَظِيمٍ}، الآية 101سورة التوبة، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللََّهِ قِيلًا}؟ أنشدكم بالله من المنافقون هل كانوا الا صحابيين؟
وقال الرّسول العزيز وقد شهد له الرب الجليل بأنه صلّى الله عليه وآله ما ينطق عن الهوى: أنا فرطكم على الحوض وليرفعن رجال منكم ثم ليختلجن دوني فأقول يا رب أصحابي فيقال: انك لا تدري ما أحدثوا بعدك، انظر الروايات من الرقم 1475الى 1487من كتاب اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق فيه الشيخان، مجموع محمد فؤاد عبد الباقي ج 3ص 129123والروايات بهذا المضمون عن النبي صلّى الله عليه وآله وأنه يحال بينهم وبين رسول الله، عند ورود الحوض وينادى بهم الى النار مستفيضة.
بل اعترف بتواترها القسطلاني في إرشاد الساري في شرح البخاري كما في ج 9 ص 320، حيث أخرج مضمونه البخاري في باب الحوض من سبعة من الصحابة وكذا مسلم وأحمد وابن ماجة والطبراني مسندا عن اثنى عشر من الصحابة.
وقد تضافرت الاخبار عن أمير المؤمنين عليه السّلام في التظلم من قريش والعرب الذين هم من وجوه الصحابة، ليس لإنكارها سبيل، وهو عليه السّلام أجل قدرا من أن يقول غير الحق وقد شهد الله العزيز بطهارته وإذهاب الرجس عنه، ومن أصدق من الله قيلا؟.
وكفاك بخطبته المشهورة بالشقشقية تظلما وتألما وشكوى، وقد ذكر ابن ابى الحديد عن مصدق بن شبيب أنه سأل عن شيخه ابن الخشاب: أتقول انها منحولة؟ فقال:
لا والله وانى لا علم انها له عليه السّلام، راجع ج 1ص 205 (الطبعة الأخيرة).
فهبني قلت ان الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء
قالوا: سوء الظن بالصحابة من الرفض، قلت فعليه فالفاروق الأعظم عمر بن الخطاب أرفض الناس، بل امام الروافض، ألم يأمر بضرب أعناق أهل الشورى ان أخروا فصل حال الأمة؟ (الكامل ج 3ص 43).
ألم يقل على جمع حاشد من المسلمين انما كانت بيعة ابى بكر فلتة ولكن وقى الله شرها؟ (البخاري باب رجم الحبلى ص 1009من طبع كراچى وج 4ص 180من طبع دار احياء الكتب العربية).
ألم ينتصب لسماع الدعوى واقامة الشهود على المغيرة بن شعبة حيث ادعى عليه بالزنا وأقبل يقول: يا مغيرة ذهب ربعك يا مغيرة ذهب نصفك، يا مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك حتى اضطرب الرابع فجلد الثلاثة واثنان منهم صحابيان: أبو بكرة وهو من فضلاء أصحابه وحملة الآثار النبوية، ونافع بن الحارث أخوه؟ (وفيات الأعيان ترجمة يزيد بن زياد الحميري ج 2طبع إيران ص 455).
فهلا أنكر عمر ذلك، ولم لم يقل هذا محال وباطل، هذا صحابي لا يجوز عليه الزنا وهلا قال المغيرة لعمر: كيف تسمع قول هؤلاء وأنا من الصحابة؟
بل كيف درأ الحد عن المغيرة بن شعبة مع أنه جلد صحابين آخرين حد القذف؟
ثم قال للشهود: توبوا الى الله فتاب اثنان وامتنع أبو بكرة أن يتوب.
وهلا درأ الحد عن قدامة بن مظعون لما شرب الخمر ولم يقل إنه صحابي؟ بل قال له لما قرأ عليه الآية {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ جُنََاحٌ فِيمََا طَعِمُوا} أخطأت التأويل، أنت إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله، (الإصابة الرقم 7090ج 3ص 220 ترجمة قدامة).
بل الصديق الأكبر أبو بكر أيضا رافضي: ألم يقل في مرض موته للصحابة فلما استخلفت عليكم خيركم في نفسي يعني عمر فكلكم ورم أنفه، يريد أن يكون الأمر له، لما رأيتم الدنيا، والله لتتخذن الديباج والصنائد (السياسة والإمامة ج 1ص 28).
بل عثمان ذو النورين أيضا رافضي حيث فتق بطن عمار وكسر ضلع ابن مسعود (الإمامة والسياسة ج 1ص 31).
وعائشة أم المؤمنين أيضا رافضية حيث خرجت بقميص رسول الله صلّى الله عليه وآله تقول: لم يبل قميص رسول الله وهذا عثمان قد أبلى سننه، اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا (تاريخ ابى الفداء، الإمامة والسياسة، النهاية لابن الأثير كلمة نعثل). بل في شرح النهج لابن ابى الحديد ج 20ص 22: انها لم ترض بذلك حتى قالت: أشهد أن عثمان جيفة على الصراط.
بل الصحابة كلهم رافضيون، ألم يخذلوا عثمان حين حصر، بل كان من حاصر به أيضا الصحابة وهو من وجوه الصحابة، ثم من أشرافهم، وهو مع ذلك امام المسلمين والمختار منهم للخلافة، وللإمام حق على رعيته.
ونقل ابن ابى الحديد في ج 20ص 3412في شرح كلام أمير المؤمنين على عليه السّلام من الحكم 413لعمار في شأن المغيرة: دعه يا عمار إلخ كلاما من ابى جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري في جواب أبي المعالي الجويني في شأن الصحابة يحق لأهل الفضل والانصاف المراجعة اليه، والمداقة في مضامينه.
وقد صدع أمير المؤمنين بالحق من ذلك في الخطبة 203ج 11ص 38من شرح ابن ابى الحديد الطبعة الأخيرة وبين أن الصحبة غير كافية في قبول الخبر، حيث قال في جواب السائل عن اختلاف الناس في الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس. ورجل منافق الى أن قال: لكنهم قالوا صاحب رسول الله رآه وسمع منه، الى آخر الخطبة.
وملخص الكلام انه ليست الصحابة في الموضع الذي وضعتها أهل السنة والخطأ جائز على آحاد الصحابة كما يجوز على آحاد غيرهم، فليس ينبغي أن نكتفي بكون راوي الحديث صحابيا ما لم نتعاهد حاله، ولم نر في كتب تراجم الصحابة ما يوجب لنا الاطمئنان بكون سبرة عادلا مأمونا.
سلمنا وأعرضنا عن التكلم في الصحابي، فالراوي عن سبرة انما هو ابنه الربيع ولم يكن صحابيا، ولم نر في كتب الرجال ما يوجب لنا الاطمئنان بأحاديثه، الا انه ابن الصحابي، كما نرى ان ابن حجر يدافع عن عمر بن سعد ويقول: لا نرى سره الا كونه ابن الصحابي (التقريب ع م ر).
ثم الراوي عن الربيع ابناه عبد العزيز وعبد الملك، قال الذهبي في ترجمة عبد الملك ج 2ص 654، الرقم 5205ضعفه يحيى بن معين فقط وقال ابن خيثمة سئل ابن معين عن أحاديثه عن أبيه عن جده فقال ضعاف، وقال ابن القطان وان كان مسلم أخرج لعبد الملك فغير محتج به. وفي الجرح والتعديل القسم الثاني من المجلد الثاني ص 350 الرقم 1653سئل يحيى بن معين عن أحاديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده فقال: ضعاف.
ومن رواة الحديث عن الربيع عبد العزيز بن عمر، فان كان المراد عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز كما صرح به في ص 183ج 2من أحكام القرآن للجصاص فذكره في ميزان الاعتدال ج 2ص 632الرقم 5118وقال: عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي وثقه جماعة وضعفه أبو مسهر وحده، وان كان المراد عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، فذكر في لسان الميزان ج 4ص 36الرقم 98، وقال قال ابن القطان مجهول الحال.
وممن صرح بضعف السند في أحاديث سبرة، ابن قيم الجوزية في زاد المعاد ج 2 ص 184قال:
فان قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق، الأيام على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله حتى نهى عمر في شأن عمرو بن حريث، وفيما ثبت عن عمر أنه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وأنا أنهى عنهما: متعة النساء ومتعة الحج.
قيل: الناس في هذا طائفتان: طائفة تقول: ان عمر هو الذي حرمها ونهى عنها وقد أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله باتباع ما سنه الخلفاء الراشدون، ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح فإنه من رواته عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده، وقد تكلم فيه ابن معين، ولم ير البخاري إخراج حديثه في صحيحه مع شدة الحاجة اليه، وكونه أصلا من أصول الإسلام، ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به.
قالوا: ولو صح حديث سبرة، لم يخف على ابن مسعود حتى يروى أنهم فعلوها ويحتج بالاية، وأيضا لو صح لم يقل عمر انها كانت على عهد رسول الله وانما أنهى عنها وأعاقب عليها، بل كان يقول: انه صلّى الله عليه وآله حرمها ونهى عنها، قالوا: ولو صح لم تفعل على عهد الصديق وهو عهد خلافة النبوة حقا.
والطائفة الثانية رأيت صحة حديث سبرة، ولو لم يصح فقد صح حديث على ان رسول الله صلّى الله عليه وآله حرم متعة النساء، فوجب حمل حديث جابر على أن الذي أخبر بفعلها لم يبلغه التحريم ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمن عمر فلما وقع فيه النزاع ظهر تحريمها واشتهر قال: وبهذا تألف الأحاديث الواردة فيها. انتهى ما في زاد المعاد.
قلت: قد عرفت الكلام على حديث على عليه السّلام وكان مقصودنا من نقل هذا الكلام بطوله أن ضعف احاديث سبرة مسلم عند أهل السنة أيضا.(2/166)
اضطراب روايته ثانيا (1) وبمعارضته بأخبار أهل البيت عليهم السّلام عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالإباحة ثالثا، وبأنّه خبر واحد فيما يعم به البلوى رابعا، وأمّا قول عمر فلا حجّة فيه
__________
(1) فان راويها عنه شخص واحد وهو ابنه الربيع بن سبرة، وهي متحدة في أكثر الخصوصيات مثل خروجه مع رجل، وعرضهما أنفسهما على المرأة، ورفيقه دميم أكبر منه سنة، وهو جميل شاب، وتردد المرأة بينهما لذلك. واختيارها الشاب، وكونها من بنى عامر، وكونها مثل البركة العنطنطنة أو العيطاء التي هي بمعناها، فهي حكاية لواقعة واحدة مع شخص واحد. ثم نرى أنها مختلفة في تاريخ الإباحة والنسخ، ففي بعضها من روايات مسلم وابن حنبل أنهما كانا يوم الفتح، وفي بعضها من روايات ابن حنبل وابن ماجة أنها كانا في حجة الوداع، وفي بعضها من روايتيهما لم يعين الوقت.
ثم نرى ان مفاد بعضها ان سبرة كان جميلا وبرده خلق وصاحبه من قومه كان قريبا من الدمامة وبرده جيد، وان الذي تمتع بها هو سبرة دون صاحبه وبعضها ان القريب من الدمامة هو سبرة وبرده جديد غض وبرد ابن عمه خلق وان الذي تمتع بها هو ابن عمه لا هو، ثم في بعضها ان الاذن كان بعد خمسة عشر يوما من دخول مكة، وفي بعضها أن الترخيص كان حين دخول مكة.
ثم في بعضها ان سبرة خرج مع رجل من قومه ابن عم له، وفي بعضها خرج مع صاحب له من بنى سليم وسبرة من جهينة ولا يتوهم متوهم عالم بالأنساب ان بنى سليم من جهينة، فإن جميع العرب يرجعون الى عدنان وقحطان وقضاعة وجهينة أبو بطن من قضاعة، وسليم ان كان سليم بن منصور فهو بطن من مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وان كان سليم بن فهم فهو أبو بطن من دوس، ودوس فرقة من غسان بطن من قحطان وان كان سليم بن نمرة فهو أيضا من قحطان انظر ص 261و 379و 408و 444من جمهرة أنساب العرب لابن حزم وسائر كتب الأنساب يتضح لك ما بيناه.
وما ذكرناه من كون قضاعة جذما مستقلا مثل جذم قحطان وعدنان هو قول أكثر النسابين ولو فرض اختيار القولين الآخرين أحدهما أن يكون ابن معد بن عدنان والثاني ان يكون ابن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان فمع ضعفهما أيضا لا يمكن كون الجهني سليميا، ولا يصح تعبير الجهني عن السليمى بابن العم الا بضرب من التأويل البعيد، من جهة الاتصال بعدنان أو قحطان، وعليه فيمكن التعبير عن كل احد بابن العم باعتبار اتصال النسب بآدم، وهو بعيد في استعمال العرف غاية البعد.
ثم ان في بعض روايات سبرة انه تمتع بامرأة من بنى عامر ببرد واحد وفي بعضها ببردين أحمرين فكل الروايات يكذب بعضها بعضها بل في بعض الروايات ما يكذب نفسها فان فيها ان النبي صلّى الله عليه وآله أعلن التحريم خطيبا بين الركن والمقام، أو بين الباب والمقام، وكيف يمكن هذا بجمع حاشد من المسلمين لا يسمعه ولا يرويه غير سبرة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا يلتقطون كل شاردة وواردة، من أقوال النبي صلّى الله عليه وآله وأفعاله، ويهتمون بحفظ إشارات يد النبي صلّى الله عليه وآله وعينه، ثم يحتاج عمر إلى اسناد التحريم الى نفسه، ولا يكون معه دليل على كونه من إعلان النبي صلّى الله عليه وآله.(2/171)
فإنّه رجوع إلى قول صحابيّ وهو معارض بقول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما.
وعن الثالث بالمنع من تحقّق الإجماع مع مخالفة الشيعة بأجمعها وفيهم فضلاء أهل البيت وساداتهم عليهم السّلام.(2/172)
السادسة
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا انْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنََاتِ الْمُؤْمِنََاتِ
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنََاتِ الْمُؤْمِنََاتِ فَمِنْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ مِنْ فَتَيََاتِكُمُ الْمُؤْمِنََاتِ وَاللََّهُ أَعْلَمُ بِإِيمََانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنََاتٍ غَيْرَ مُسََافِحََاتٍ وَلََا مُتَّخِذََاتِ أَخْدََانٍ فَإِذََا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفََاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مََا عَلَى الْمُحْصَنََاتِ مِنَ الْعَذََابِ ذََلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللََّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1).
{«مَنْ»} شرطية و {«يَسْتَطِعْ»} مجزوم بلم لفظا وبمن محلّا، ولم يعكس لقرب «لم» والقريب أولى باللّفظ من البعيد و «من» في {«مِنْكُمْ»} للتبعيض وتركيب «طولا» كيف استعمل، للزيادة لكن مع استعماله في المقادير فمصدره الطّول بضمّ الطاء، والصّفة طويل وفي غير المقادير مصدره الطّول بفتحها والصفة طائل ومراده من لم يكن له زيادة مال لنكاح الحرائر فلينكح الإماء بعقد عليهنّ لأنّهنّ أخف مئونة من الحرائر. والفتيات المملوكات، لقول العرب للأمة فتاة وللعبد فتى، والمراد بالمحصنات هنا العفيفات أي أحصنّ أنفسهنّ بعقلهنّ التامّ وكذا المراد بقوله {«مُحْصَنََاتٍ غَيْرَ مُسََافِحََاتٍ»} والأخدان الأصدقاء أي آخذات أصدقاء تنكحوهنّ سرّا، والفرق بينهنّ وبين مسافحات فرق ما بين العامّ والخاصّ، فانّ المسافحات يكنّ جهرا وسرّا، ومتّخذات الأخدان يكنّ سرّا وقوله {«فَإِذََا أُحْصِنَّ»} أي تزوّجن وصرن محصنات بالأزواج.
وفسّر الزّمخشري {«الْمُحْصَنََاتِ»} في أوّل الآية بالحرائر لأنّه أثبت عند تعذّر نكاحهنّ نكاح الإماء، فلا بدّ أن يكون المراد منهن كالضدّ، وسمين محصنات
__________
(1) النساء: 25.(2/173)
لاحصانهنّ عن أحوال الإماء من الابتذال والامتهان وفيه نظر لأنّه عدول عن ظاهر اللّفظ، وجعل الموصوف محذوفا أي الحرائر المحصنات أولى.
إذا تقرّر هذا فهنا أحكام:
1 - ظاهر الآية أنّ إباحة نكاح الإماء بالعقد مشروطة بعدم الطّول وخشية العنت واحتجّ به الشافعيّ على تحريم نكاحهنّ بدون الشرطين، وخالف أبو حنيفة وجعل ذلك على الأفضل لا أنّه يكون محرّما بدونهما وجوّز نكاحهنّ للغنيّ، وبالأوّل قال بعض أصحابنا محتجّا بالشرطيّة المذكورة، ويقول الباقر عليه السّلام وقد سئل عن الرّجل يتزوّج المملوكة قال: إذا اضطرّ إليها فلا بأس (1) والحقّ الثاني لعموم قوله {«وَأَنْكِحُوا الْأَيََامى ََ مِنْكُمْ وَالصََّالِحِينَ مِنْ عِبََادِكُمْ وَإِمََائِكُمْ»} (2) وقوله تعالى {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} (3).
والجواب عن الآية بالمنع من دلالتها على التحريم بل هي دالّة على جواز نكاحهنّ عند عدم الاستطاعة، وليس لها تعرض لعدم الجواز إلّا بدليل الخطاب، وليس بحجّة عندنا، وعلى تقدير حجّيّته ليس دلالتها على التحريم بأولى من دلالتها على الكراهية، ويؤيّد الكراهية قوله {«وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ»} وكذا الجواب عن الرواية.
فههنا فروع: ألف على القول بالتحريم، يجوز نكاح الواحدة قطعا، وتحرم الثانية لانتفاء أحد الشرطين وعلى القول بالكراهية تباح الثانية.
ب يقبل قول الزّوج في عدم الطّول، وخوف العنت، ولو كان في يده مال وادّعى أنّه ليس له أو عليه دين بقدره ولا يملك غيره قبل.
__________
(1) الكافي ج 5ص 359باب الحر يتزوج الأمة الرقم: 1.
(2) النور: 32.
(3) البقرة: 221.(2/174)
ج لو تجدّد عدم الشرطين بعد النكاح لا ترتفع الإباحة، ولو كان السابق العقد خاصّة.
د قال بعض المحرّمين: إنّ التحريم راجع إلى الوطي والعقد يتبعه، وقال بعضهم بل يرجع إلى العقد أيضا بالذات لكن لا يحرم.
هـ لو تزوّج أمتين دفعة على القول بالتحريم قيل يتخيّر واحدة والحقّ البطلان لأنّ العقد نسبة إليهما على السواء فلا يصح في إحداهما دون الأخرى وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح.
2 - اختلف في تفسير الطّول فقيل الزيادة في المال، وقيل ليس له حدّ معيّن بل الإنسان أعرف بنفسه وما يكفيه له ولعياله، فان عرف العجز عن ذلك، جاز له نكاح الأمة، وقال محقّقوا أصحابنا هو مهر الحرّة ونفقتها ووجودها، وإمكان وطيها قبلا، فعلى هذه الأقوال يكون قوله «أن ينكح» إما مفعول فعل محذوف وهو صفة طولا أي يبلغ به أن ينكح أو يكون مجرورا بلام جرّ مقدّرة، قبل «أن» لأنّها تحذف كثيرا قبلها تقديره ومن لم يستطع منكم طولا لأن ينكح.
وقال أبو حنيفة: الطول القوّة والفضل، وجعل قوله «أن ينكح» «أن يطأ» وجعله بدلا عن «طولا» بدل الكلّ لأنّ النكاح قوّة وفضل، فيكون معنى الآية على قوله من لا يملك وطي الحرّة وفراشها، فلينكح أمة، فإذا كان الشخص غنيّا ولا يكون في فراشه حرّة جاز له أن ينكح أمة.
3 - قيل: الآية ظاهرة في تحريم نكاح غير المؤمنات من الكتابيات وغيرهنّ من الحرائر والإماء لتكرار الوصف فيهما وبه قال أهل الحجاز وقال أهل العراق الأفضل نكاح المؤمنات وترك نكاح الكتابيّات، والحقّ عندنا الأوّل وسيأتي تحقيقه.
4 - قوله {«وَاللََّهُ أَعْلَمُ بِإِيمََانِكُمْ»} فيه إشارة إلى الاكتفاء بظاهر الايمان وأنه لا يجب أن يكون على التحقيق فيجوز نكاح المنافق حينئذ وفيه دلالة على أنّ
الكفاءة يكفي فيه التساوي في الايمان بين الغنيّ والفقير والحرّ والرقّ، ولذلك عقّبه بقوله {«بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ»} أي الجميع منكم ومن أقاربكم، من نسل آدم عليه السّلام لا مزيّة لأحدكم على رقيقه.(2/175)
4 - قوله {«وَاللََّهُ أَعْلَمُ بِإِيمََانِكُمْ»} فيه إشارة إلى الاكتفاء بظاهر الايمان وأنه لا يجب أن يكون على التحقيق فيجوز نكاح المنافق حينئذ وفيه دلالة على أنّ
الكفاءة يكفي فيه التساوي في الايمان بين الغنيّ والفقير والحرّ والرقّ، ولذلك عقّبه بقوله {«بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ»} أي الجميع منكم ومن أقاربكم، من نسل آدم عليه السّلام لا مزيّة لأحدكم على رقيقه.
5 - قوله {«فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ»} فيه دلالة على عدم استقلال الأمة بالعقد على نفسها بل لا بدّ من إذن السيّد، لأنّها مملوكة عينها ومنافعها للسيّد، ومن جملتها منفعة البضع، فلا يصحّ التصرّف فيها إلّا بإذنه أو برضاه بعده العقد على خلاف في صحّة عقد الفضوليّ، وليس فيه دلالة على قول أبي حنيفة بجواز مباشرتهنّ العقد حتّى يحتجّ له به.
واعلم أنّه لا فرق بين العبد والأمة في ذلك، وكذا لا فرق بين كون السيّد رجلا أو امرأة، ولا بين كون النكاح دائما أو منقطعا.
6 - قوله {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهنّ، وسمّى المهر أجرا، لأنّ الأجر يقال في عوض والبضع منفعة قوله {«بِالْمَعْرُوفِ»} أي بسهولة وطيب نفس من غير مطل ولا سوء خلق.
وهنا سؤال وهو أنّ المهر ملك السيّد، فهلّا قال: فآتوا مواليهنّ أجورهنّ.
جواب قيل الأداء إليهنّ أداء إلى السادات لأنّهن وما في أيديهنّ ملك السادات أو أنّ المضاف محذوف، أي فآتوا مواليهنّ وفيهما نظر، أمّا الأوّل فلأنّ كونهنّ ملكا لهم مسلّم لكن كون التسليم إليهنّ تسليما إلى الموالي ممنوع، وأمّا الثاني فلأنّ المضاف لا يحذف مع الاشتباه والاشتباه موجود هنا.
والأولى في الجواب أنّه كان من عوائدهم مهور الأزواج، فيكون الاذن في النكاح مستلزما للإذن في قبض المهر.
7 - في ذكر الإحصان بمعنى العفّة ونفي السّفاح، دلالة على المنع من نكاح الزانية إمّا تحريمها على قول من يحرّمه أو كراهة على الأقوى، وسيأتي تحقيقه، وقوله {«مُحْصَنََاتٍ غَيْرَ مُسََافِحََاتٍ»} محال منهنّ أي فانكحوهنّ حال إحصانهنّ وعدم سفاحهنّ.
8 {«فَإِذََا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفََاحِشَةٍ»} أي فإذا تزوّجن ثمّ أتين بالزنا فعليهنّ
نصف حدّ الحرائر «والعذاب» هو الحد بدليل قوله {«وَلْيَشْهَدْ عَذََابَهُمََا طََائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»} وغير ذلك، والمراد به الجلد خاصّة لا الرّجم للإجماع ولأنّه إهلاك أموال وهنّ أموال لمواليهنّ فلا يجوز إضرارهم بذنب غيره ولأنّ الرجم لا ينتصف كما ينتصف الجلد.(2/176)
8 {«فَإِذََا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفََاحِشَةٍ»} أي فإذا تزوّجن ثمّ أتين بالزنا فعليهنّ
نصف حدّ الحرائر «والعذاب» هو الحد بدليل قوله {«وَلْيَشْهَدْ عَذََابَهُمََا طََائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»} وغير ذلك، والمراد به الجلد خاصّة لا الرّجم للإجماع ولأنّه إهلاك أموال وهنّ أموال لمواليهنّ فلا يجوز إضرارهم بذنب غيره ولأنّ الرجم لا ينتصف كما ينتصف الجلد.
إن قيل فما الفائدة في قوله {«فَإِذََا أُحْصِنَّ»} لأنّ الجلد واجب عليهنّ مطلقا إذا زنين وإن لم يحصن قلت: ذهب قوم إلى عدم وجوب الجلد عليهنّ إلّا مع الإحصان لهذه الشبهة، والأكثر على خلافه لأنّه لا دلالة له على عدم الحدّ إلّا بدليل الخطاب وليس بحجّة على أنّه لا يلزم من عدم دلالة الآية على وجوب الحدّ عليهنّ عدم الوجوب لأنهنّ يدخلن في آية {«الزََّانِيَةُ وَالزََّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وََاحِدٍ مِنْهُمََا مِائَةَ جَلْدَةٍ»} (1) فتكون هذه الآية مخصّصة لتلك بالأحرار والحرائر واعلم أنّ الإجماع انعقد على أنّه لا فرق بين العبد والأمة في تنصيف الحدّ.
9 - قوله {«ذََلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ»} ذلك إشارة إلى نكاح الإماء، فظهر به أنّه مشروط بشرطين واختلف في تفسير «العنت» قيل الوقوع في الزنا لأنّه في الأصل انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكلّ مشقّة وضرر ولا ضرر أعظم من الوقوع في الإثم بأفحش القبائح وقيل الحد.
10 - قوله {«وَأَنْ تَصْبِرُوا»} أي عن نكاح الإماء {«خَيْرٌ لَكُمْ»} وإنّما كان خيرا قيل لئلّا يجيء الولد رقا كما هو مذهب الشافعيّ وليس بشيء لأنّ الولد يتبع أشرف الطرفين. والحريّة أشرف ولقوله صلّى الله عليه وآله: «لا يرقّ ولد حرّ» (2) وقيل لئلّا يتبع سادتها وأهلها ولئلّا يفرق السيّد بينهما بوجه، والأولى أنّه خير لئلّا يعيّر الولد بأنّه ولد أمة الغير، ولذلك قال صلّى الله عليه وآله «الحرائر صلاح البيت والإماء
__________
(1) النور: 2.
(2) لم نظفر بلفظ الحديث، نعم في الكافي ج 5ص 492، أحاديث متعددة عن أهل البيت عليهم السلام في ذلك فراجع.(2/177)
هلاكه» قوله {«وَاللََّهُ غَفُورٌ»} عمّا سلف من خلاف هذه الأحكام {«رَحِيمٌ»} بالرّخصة في نكاح الإماء.
النوع الثاني في أسباب التحريم (1)
وفيه آيات:
الاولى {وَلََا تَنْكِحُوا مََا نَكَحَ آبََاؤُكُمْ مِنَ النِّسََاءِ إِلََّا مََا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كََانَ فََاحِشَةً وَمَقْتاً وَسََاءَ سَبِيلًا} (2).
قال الطبري: مراده ولا تنكحوا نكاح آبائكم أي مثله من الأنكحة الفاسدة ويكون «ما» مصدريّة والأولى خلاف ذلك، بل مراده ولا تنكحوا منكوحات آبائكم ويكون «ما» موصولة وضمير المفعول محذوف تخفيفا لأنّه هو المتبادر إلى الفهم والاستثناء هنا قيل منقطع تقديره لكن ما قد سلف، فإنّه لا مؤاخذة فيه وليس ببعيد وقيل متّصل والاستثناء من اللفظ تقديره إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فلا يحلّ لكم غيره، وذلك غير ممكن والغرض المبالغة في التحريم وسدّ الطريق إلى إباحته كما تعلّق بالمحال للتأبيد في قولهم حتّى يبيضّ القادر.
والأجود: أنه استثناء من محذوف أي لا تنكحوا ما نكح آباؤكم، فإنّه قبيح حرام معاقب عليه، إلّا ما قد سلف في الجاهليّة، فإنّكم معذورون فيه، ونفّر عن فعله زيادة على النهي بتوصيفه بثلاثة أوصاف:
الأوّل كونه {«فََاحِشَةً»} مبالغة في قبحه فإنّه مناف لما يجب من تعظيم الآباء بالتهجّم على فراشهم، وأتى بكان إيذانا بأنّه لم يكن حلال في ملّة سالفة.
الثاني كونه {«مَقْتاً»} أي موجبا لمقت اللََّه أو ممقوتا فانّ ذوي المروءات منهم
__________
(1) في المحرمات. خ ل.
(2) النساء: 22.(2/178)
كانوا يمقتون فاعل ذلك أي يبغضونه، ويسمّون الولد الحاصل منه بالمقتيّ.
الثالث كونه {«سََاءَ سَبِيلًا»} أي بئس طريقا فعلى هذا، الضمير راجع إلى نكاح منكوحات الآباء، وإن لم يجر له ذكر، لكون الكلام دالا عليه، وعلى قول الطبريّ: الضمير راجع إلى نكاح الجاهليّة المشبّه به، والأجود ما قلناه فهنا أحكام:
1 - إن جعلنا النكاح حقيقة في العقد كما هو المشهور، فيكون النهي صريحا في المعقود عليها سواء دخل بها أو لا، ولا تدخل من وطئت لا بعقد إلّا بدليل خارجيّ وإن جعلناه حقيقة في الوطي دخل كل موطوءة بعقد وغيره، وكذا إن قلنا أنّه مشترك، والعمل بهذا أحوط، وإن كان الأوّل أقوى، لما تقرّر في الأصول من وجوب حمل اللّفظ على الحقيقة الشرعيّة.
2 - الأجود دخول الموطوءة بالشبهة لما تقرّر عند الأكثر أنّ حكم الشبهة كالصحيح في أغلب الأحكام فهنا كذلك.
3 - قيل لا تدخل المزنيّ بها في الآية إمّا لأنّ النكاح حقيقة في العقد، وهذه ليست معقودا عليها، أو لأنّ الزنا لا حرمة له، ولهذا تنكح وهي حامل بعد مضيّ أربعة أشهر وعشر، وتنقضي عدّتها بالأشهر أو الإظهار من غير اعتبار بوضع حملها، فلا تكون محرّمة بالنّسبة إلى ولد الزاني، والحقّ التحريم إلّا مع سبق عقد الابن فإنّه لا يحرم.
4 - تحرم منكوحة الجدّ، وإن علا لقوله {«آبََاؤُكُمْ»} والجد أب هنا، وكذا تحرم موطوءة الجدّ للامّ ومن عقد عليها.
5 - كل من قال بتحريم المعقود عليها على ابن العاقد، قال بتحريم الموطوءة بالملك، فهي إجماعيّة من سائر الفقهاء، وكذا عندنا من عقد عليها متعة أو وطئها بالتحليل.(2/179)
الثانية
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ امَّهََاتُكُمْ وَبَنََاتُكُمْ
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهََاتُكُمْ وَبَنََاتُكُمْ وَأَخَوََاتُكُمْ وَعَمََّاتُكُمْ وَخََالََاتُكُمْ وَبَنََاتُ الْأَخِ وَبَنََاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهََاتُكُمُ اللََّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوََاتُكُمْ مِنَ الرَّضََاعَةِ وَأُمَّهََاتُ نِسََائِكُمْ وَرَبََائِبُكُمُ اللََّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسََائِكُمُ اللََّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلََائِلُ أَبْنََائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلََابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلََّا مََا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللََّهَ كََانَ غَفُوراً رَحِيماً} (1).
المضاف هنا مقدّر أي نكاح أمّهاتكم، فحذف لقرينة استحالة تحريم الذّوات لكونها غير مقدورة فلا بدّ من تقدير فقدّر ما يراد منهنّ وهو النكاح كما قدّر في {«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ»} أي أكله لأنّ المراد من اللّحم الأكل وكذا نظائره، وذهب قوم وهم بعض الأصوليين إلى أنّ الآية مجملة وليس بشيء لسبق المراد إلى الفهم كما قلناه والمجمل لا يسبق إلى فهم الإنسان شيء من معانيه.
وقد ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية محرّمات تنقسم أقساما ثلاثة:
القسم الأول ما يحرم بالنسب
وهو سبعة:
1 - الأم وإن علت، أي امّه وأم أبيه وأم جدّه وأمّ امّه وأم أبيها سواء كان النسب صحيحا أو فاسدا.
2 - البنت وإن نزلت أي بنته، وبنت بنته، وبنت ابنه، سواء كان الولادة
__________
(1) النساء: 23.(2/180)
عن نكاح صحيح أو شبهة أو زنا، ولا خلاف في الأوّلين ووافق أبو حنيفة أصحابنا في تحريم بنت الزنا لصدق البنت لغة فيتبعه التحريم، وقال الشافعيّ لا تحرم البنت المخلوقة من الزنا لعدم لحوق نسبها شرعا.
3 - الأخت لأب كانت أو لامّ أولهما.
4 - العمّة وهي أخت الأب، وكذا إذا علت أي أخت الجدّ لأب كان أو لامّ وليس المراد بعلوّها كونها عمّة العمّة لأنّ عمة العمّة قد لا تحرم فانّ أخت زيد لامّه عمّة لابنه وعمّتها لا تحرم على ابن زيد.
5 - الخالة وهي أخت الأمّ، وكذا إذا علت أي أخت الجدّة لأب كانت أو لام، وكذا ليس المراد بعلوّها كونها خالة الخالة لأنّها قد لا تحرم.
6 - بنت الأخ وإن نزلت أي بنت ابنه وبنت بنته وهكذا.
7 - بنت الأخت وإن نزلت أي بنت بنتها وبنت ابنها.
إن قلت: ولد الولد غير ولد حقيقة لصدق النفي إذ يقال ليس ولدي لكنّه ولد ولدي، وإذا كان كذلك لا يتناوله النص إذ اللّفظ يحمل على حقيقته دون مجازه.
قلت: الإجماع دلّ على اعتبار المجاز هنا، على أنّا نقول المراد مطلق التولّد أعم من أن يكون بالذات أو بالواسطة وكذا البحث في جانب العلو على أنّ إيراد ذلك بصيغة الجمع يشعر باعتبار المرتبتين.(2/181)
القسم الثاني ما يحرم بالرضاع
وهو اثنان:
1 - الامّ.
2 - الأخت. للنصّ عليهما، وأمّا تحريم البنت فبالتنبيه بالأدنى على الأعلى لأنّ الأخت إذا حرمت فالبنت أولى وأما العمّة والخالة فبالسنّة كما يجيء وأمّا الجدّة فأمّ تدخل في إطلاق النصّ فهنا فوائد:
1 - قال النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله «يحرم من الرّضاع ما يحرم من النسب (1)» فعلى هذا كل ما تقدّم ذكره من المحرّمات نسبا يحرم مثله من الرّضاع، فهو نسب ثان.
2 - الرضاع كما يحرّم سابقا كذا يحرم لاحقا، فلو زوّج رضيعا بامرأة ثمّ ارتضع من أمّها حرمت عليه زوجته، وانفسخ النكاح وكذا في سائر الفروض.
3 - قال الزمخشريّ: قالوا تحريم الرّضاع كتحريم النسب إلّا في مسئلتين إحداهما أنّه لا يجوز للرّجل أن يتزوّج أخت ابنه من النسب، والعلّة وطي أمّها (2) وهذا المعنى غير موجود في الرّضاع، وثانيتهما لا يجوز للرجل أن يتزوّج أمّ أخته من النسب ويجوز من الرّضاع لأنّ المانع في النسب وطي الأب إيّاها وهذا المعنى غير موجود في الرضاع.
وكذا استثني مسئلتان أخريان إحداهما أمّ الحفدة، وثانيتهما جدّة الولد فإنّهما محرّمتان من النسب دون الرضاع، أمّا أم الحفدة، فلأنّها بنتك أو زوجة
__________
(1) أخرجه في المستدرك ج 2ص 572عن غوالي اللئالي بعين لفظه ولفظ أبى داود: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، راجع سننه ج 1ص 474.
(2) في بعض النسخ: إحداهما: أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب ويجوز في الرضاع لان المانع في النسب وطى الأب لامها إلخ.(2/182)
ابنك، ولو أرضعت أجنبيّة ولد ولدك لم تحرم، وأمّا جدّه الولد فإنّها أمّك أو أم زوجتك ولو أرضعت أجنبيّة ولدك كانت أمّها جدّة ولدك، ولم تحرم عليك.
وفي استثناء هذه الصور نظر، لأنّ النصّ إنّما دلّ على أنّ جهة الحرمة في النسب جهة الحرمة في الرّضاع، والجهات الّتي في هذه الصور ليست جهات الحرمة في النسب فإنّ جهة أختيّة الابن مثلا لم تعتبر من جهات الحرمة بل المعتبر فيها إمّا كونها ربيبة، وإمّا كونها بنتا، وأيّة جهة من هاتين الجهتين لو وجدت في الرّضاع كانت محرّمة.
وتوضيحه أنّ أخت الابن إذا كانت بنتا تكون لها جهتان جهة الأختيّة للابن وجهة البنتيّة لك، ولا شكّ في تغايرهما والنصّ دلّ على الحرمة من جهة البنتيّة لا من جهة الأختيّة للابن، وكذا إذا كانت ربيبة كان لها جهتان: جهة الأختيّة للابن، وكونها ربيبة، وجهة الحرمة منهما ليست إلّا كونها ربيبة.
على أنّ جهة الحرمة بحسب المصاهرة لا بحسب النسب فلا يصحّ الاستثناء من جهة حرمة النسب.
4 - الرّضاع له شرائط بمعرفتها يتقيّد إطلاق الآية، وهي إمّا بحسب المقدار فعند الأكثر منّا خمسة عشر رضعة، أو ما أنبت اللّحم وشدّ العظم أو رضاع يوم وليلة، لأصالة الحلّ، وما ذكرناه مجمع على تحريمه النكاح ولتضافر روايات أهل البيت عليهم السّلام.
واكتفى الشافعيّ وأحمد بخمس لا أقلّ ومن الصحابة من قال بثلاث، واكتفى مالك وأبو حنيفة بالرّضعة الواحدة.
وأمّا بحسب الزمان فهو أن يكون في الحولين لقوله صلّى اللََّه عليه وآله «لا رضاع بعد فصال (1)» فلو وقع بعضه في الحولين وبعضه خارجا عنهما لم ينشر حرمة، وبه قال الشافعي وهو أحد قولي مالك، والآخر خمسة وعشرون شهرا وقال أبو حنيفة
__________
(1) الكافي ج 5ص 443ولفظه: لا رضاع بعد فطام.(2/183)
ثلاثون شهرا، وقال زفر ثلاث سنين.
وأمّا بحسب كيفيّة الرّضعة فهو أن يلتقم [من] ثدي المرأة الحيّة المنكوحة ويشرب منه لبنا خالصا حتى يروّي ويتركه باختياره، فلو وجر أو سعط به أو حقن لم ينشر، وقال الفقهاء ينشر، وفي الرّضاع مسائل كثيرة تذكر في كتب الفقه.
القسم الثالث ما يحرم بالمصاهرة
وقد ذكر أربعا والمصاهرة أن يطأ الرّجل امرأة أو يعقد عليها فيحرم عليه نكاح امرءة أخرى أو يحرم نكاحها على غيره فهنا مسائل:
1 - أمّ الزّوجة وإن علت تحرم على الزّوج تحريما مؤبدا ويدلّ على تحريم الأمّ العالية صيغة الجمع في الأمّهات وهذه تحرم بمجرّد العقد على بنتها لما يجيء.
2 - بنت الزوجة وإن نزلت أي بنتها، وبنت بنتها، وبنت ابنها، وهكذا وإليهنّ أشار بالرّبائب جمع ربيبة لأنّ الرجل في الأغلب يكون يربّي ابنة زوجته في حجره.
3 - حلائل الأبناء جمع حليلة إمّا من الحلّ ضدّ الحرمة، لأنّه يحل له وطيها. أو من الحلول، لأنّها تحل معه في فراشه. أو من الحلّ ضدّ العقد، لأنّه يحلّ إزارها عند الجماع، ففعيل، على الثاني فاعل، وعلى الثالث مفعول، وقيّد بكون الابن للصّلب احترازا من الولد المتبنّى ولذلك قيل نزلت ردّا على المنافقين لمّا تزوّج رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله بزينب بنت جحش زوجة زيد، والأبناء هنا أيضا شامل لولد الولد، لأنه ولد [ك] لكن بواسطة.
4 - الجمع بين الأختين في النكاح والتحريم هنا ليس تحريم عين، فلو فارق
إحداهما بفسخ أو طلاق أو موت حلّت الأخرى، ولذلك قيّد التحريم بالجمع وهنا فوائد:(2/184)
4 - الجمع بين الأختين في النكاح والتحريم هنا ليس تحريم عين، فلو فارق
إحداهما بفسخ أو طلاق أو موت حلّت الأخرى، ولذلك قيّد التحريم بالجمع وهنا فوائد:
1 - المملوكة الموطوءة تحرم أمّها وإن علت لأنّها أيضا من نسائه فتحرم أمّها وكذا بنتها وإن سفلت.
2 - الدخول المشار إليه كناية عن الجماع لا أنه يدخل معها الستر أو الحجلة وعند أبي حنيفة أنّ اللّمس ونحوه ملحق بالجماع ونقل عن عمر أنه خلا بجاريته فجردها فاستوهبها ابنه فقال لا يحل لك وطيها.
وعن عطا: إذا نظر الرجل إلى فرج امرأة فلا ينكح أمّها ولا بنتها والحق ما ذكرناه أوّلا وبه قال ابن عباس وعلماء أهل البيت عليهم السّلام إلّا من شد كابن الجنيد ومن تابعه لأصالة الحلّ الخالي عن موجب التحريم بغير الجماع ولقوله {«فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ»} واللّامس والناظر غير داخلين.
3 - بنت الزّوجة تحرم سواء كانت في حجره أو لا، وسواء ولدتها بعد مفارقته أو قبل نكاحه، والتقييد للأغلبية كما قلنا. وقال داود الظاهريّ: إنّ التحريم يختص بمن ولدتها بعد مفارقته والإجماع على خلافه.
4 - قوله {«اللََّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ»} يحتمل أن يكون بيانا «لأمّهات نسائكم» في الجملة الاولى، وأن يكون بيانا ل {«نِسََائِكُمْ»} في الثانية وأن يكون بيانا لهما معا، ولذلك اختلف الصّحابة فيه:
فقال ابن عبّاس وزيد وابن عمر وابن الزبير بالأوّل حتّى أنهم قرأوا «أمّهات نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ» وهي قراءة شاذة وقال عمر وعمران بن حصين بالثاني، وهو قول أكثر علماء أهل البيت عليهم السلام ولذلك حرم عندهم الام بمجرّد العقد على بنتها، وهو الحقّ وروايات أهل البيت عليهم السّلام متضافرة به وروى الجمهور عن النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله في رجل تزوّج امرأة ثمّ طلقها قبل أن يدخل بها أنّه قال «لا بأس أن يتزوّج بنتها ولا يحل له أن يتزوّج أمّها (1)» ويؤيّده اعتبار
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وآله كما في الدر المنثور ج 2ص 135(2/185)
القرب في الصّفة الّتي يأتي بعد الجمل المتعدّدة.
لا يقال الربائب غنية عن البيان لأنهنّ لا يكنّ في حجره إلّا بعد الدخول بالأمّ فيكون قوله {«مِنْ نِسََائِكُمُ اللََّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ»} تأكيدا والتأكيد مرجوح بالنسبة إلى التأسيس لأنّا نقول نمنع الأوّل فإنّ التقييد خرج مخرج الأغلبيّة.
وأمّا الثّالث وهو كونه بيانا لهما فضعيف لأنّ «من» إذا تعلّقت بالربائب كانت ابتدائيّة، وإذا تعلّقت بالأمّهات كانت بيانيّة، والكلمة الواحدة لا تحمل على معنيين عند جمهور الأدباء مع أنّ هذا قال به بعض علمائنا.
واستدلّ بحديثين عن الصادق عليه السّلام قال الشيخ إنهما محمولان على التقيّة لأنّهما مخالفان للكتاب [والسنّة] لأنه تعالى عمّم تحريم {«أُمَّهََاتُ نِسََائِكُمْ»} وقيّد تحريم الربائب بالدخول بامّهاتهنّ، فيكون الأوّل على عمومه، ويؤيّده ما رواه إسحاق بن عمّار عن الباقر والصادق عليهما السّلام أنّ عليّا عليه السّلام كان يقول في الآية: أبهموا ما أبهم الله (1) وتردّد العلّامة في مختلفة في الاحتمالين، وبعض المتأخّرين حكم بكراهة أمّ غير المدخول بها والأجود التحريم للاحتياط إذ الفروج مبنيّة على الاحتياط التامّ.
5 - حليلة الابن من الرضاع محرّمة إجماعا ولا دلالة في الآية على المنع بقوله {«مِنْ أَصْلََابِكُمْ»} لما قلنا أنّه لإخراج ولد التبني، وهل حكم الملموسة والمنظورة بالشهوة حكم الجماع في التحريم؟ قال أبو حنيفة: نعم، وهو قول أكثر أصحابه كما حكيناه، وبه قال بعض أصحابنا أيضا لما رواه محمّد بن إسماعيل عن أبي الحسن عليه السّلام وقد سأله عن الرّجل يكون له الجارية فيقبّلها هل تحلّ لولده فقال بشهوة؟ قلت: نعم، قال ما ترك شيئا إذا قبّلها بشهوة، ثمّ قال ابتدءا منه: إذا نظر إلى فرجها وجسدها بشهوة حرمت على أبيه وابنه قلت إذا نظر إلى جسدها؟ قال
__________
(1) الوسائل ب 20من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح 2.(2/186)
إذا نظر إلى فرجها وجسدها حرمت عليه (1) وبه قال العلّامة في مختلفة.
6 - الجمع بين الأختين المعقود عليهما حرام إجماعا وهل يحرم الجمع بين الموطوءتين بالملك؟ الحقّ ذلك لظاهر الآية، وعن عليّ عليه السّلام وعثمان أحلّتهما آية وهي قوله {«أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ»} وحرّمتهما آية وهي هذه، ورجّح عليّ عليه السّلام التحريم وعثمان التحليل، وقول عليّ عليه السّلام أحقّ أن يتّبع لأنّ الحقّ يدور معه كيف ما دار، ويؤيّده أيضا أنّ آية التحليل مخصوصة بلا خلاف فلا يكون قاطعة في الاستدلال، هذا وقد قال صلّى الله عليه وآله «ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال (2)».
7 - لا خلاف في أنّ النسب الحاصل من وطي الشبهة صحيح موجب لحرمة النكاح، وكذا لا خلاف في أنّ الزنا لا يحصل به التحاق النسب، ولقوله صلّى الله عليه وآله «الولد للفراش وللعاهر الحجر (3)» وهل يحرم النكاح فلا يجوز نكاح بنته ولا أخته من الزنا أم لا؟ تقدّم الخلاف فيه.
8 - أكثر أصحابنا والشافعيّة على أن الوطي بالشبهة ينشر حرمة المصاهرة لحصول النسب به، ولأنّه أحوط وأمّا الزنا فهل ينشر حرمة المصاهرة فلا يجوز نكاح بنت المزنيّ بها ولا أمّها وتحرم على ابنه وأبيه أم لا؟ فيه خلاف.
قال بعض أصحابنا لا ينشر لعموم قوله تعالى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مََا وَرََاءَ ذََلِكُمْ}
وقوله {فَانْكِحُوا مََا طََابَ لَكُمْ مِنَ النِّسََاءِ} ولرواية هشام بن المثنّى عن الصّادق عليه السّلام قال كنت عنده فقال له رجل: رجل فجر بامرأة أتحل له بنتها أم لا؟ قال نعم إنّ
__________
(1) المصدر ب 3من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح 1وفيه: ثم قال ابتداء منه: ان جردها ونظر إليها بشهوة حرمت على أبيه وابنه قلت: إذا نظر الى جسدها، فقال: إذا نظر الى فرجها وجسدها حرمت عليه.
(2) أخرجه العلامة المجلسي في البحار (الطبعة الحديثة ج 2ص 172) عن غوالي اللئالي.
(3) صحيح البخاري ج 4ص 177.(2/187)
الحرام لا يفسد الحلال (1) وقال الأكثر بالتحريم إن كان سابقا لروايات كثيرة عن العيص بن القاسم عن الصادق عليه السّلام وكذا عن منصور بن حازم عنه عليه السّلام ومحمّد ابن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام (2) ولأنّه أحوط ولأنّه تصدق على المزنيّ بها اسم نسائه إذ الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة ككوكب الخرقاء وهذا أجود للاحتياط في الفروج.
والجواب عن الآيتين أمّا الأولى فلأنّها مخصوصة فلا يكون حجّة قاطعة وأمّا الثانية فلأنّ المراد بما طاب ما حلّ، وعن الرواية أنّ الفجور أعمّ من الزنا واللّمس وغيره، مع أنّ في قوله «إنّ الحرام لا يفسد الحلال» إشارة إلى ما قلناه.
9 - الوطي بالملك حكمه حكم العقد سواء، في نشر الحرمة بالمصاهرة، وكذا الوطي بالعقد المنقطع عندنا.
10 - لو زنا بعمّته أو بخالته حرمت عليه بناتهما عندنا تحريما مؤبدا، ولو تزوّج امرأة حرمت عليه بنت أختها وبنت أخيها مع عدم رضاها إجماعا ومع إذنها قال أصحابنا يحلّ عليه إحداهما خلافا لباقي الفقهاء ولو جمع بين الامّ وبنتها في عقد فسد العقد، وجاز نكاح البنت خاصّة فيما بعد، ولو جمع بين الأختين في العقد فسد وجاز له استينافه على إحداهما.
وههنا فائدة حسنة جليلة غفل عن التنبيه عليها كثير وهي أنّ الاجتماع مطلوب لله سبحانه وتعالى، ولذلك ندب الناس إلى الاجتماع في العبادات ليحصل لهم مع عبادة الله الكمال الممكن لهم، وهو خروج ما بالقوّة إلى الفعل، فكان بقاء الأشخاص ملزوما لذلك الاجتماع، وحيث كان بقاء النوع ببقاء أشخاصه كان نوع الإنسان لا يحصل بقاؤه إلّا ببقاء أشخاصه وذلك لا يحصل إلّا بالتناكح،
و__________
(1) رواه في التهذيب ج 2ص 207. الاستبصار ج 3ص 165.
(2) راجع الكافي ج 5ص 415باب الرجل يفجر بالمرءة الرقم 1و 2و 5.(2/188)
التناكح لا يحصل إلّا بالمحبّة بين الزوجين، ولذلك جعل سبحانه وتعالى المودّة بينهما من الآيات حيث قال {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (1) والمحبّة لا تحصل إلّا بالإنس والاجتماع، فكان الانس والاجتماع مطلوبين له.
ولمّا كان النسب موجبا للمودّة والمحبّة، لم يكن الاجتماع فيه مطلوبا لحصوله، فلذلك لم يشرع نكاح الأقارب لحصول المودّة والاجتماع بينهم بدون النكاح، وأمّا الأجانب فحيث فاتهم اجتماع النسب ندب إلى اجتماع السبب النكاحيّ لهم، ولو ندب الأنساب إلى ذلك لكان ضائعا لا فائدة فيه لحصوله مع حرمان الأجانب [عن] ذلك، فيفوت الاجتماع المطلوب لله من الناس.
ولذلك إذا ضعف الاجتماع النسبي كبنات العمّ والخال، وبنات العمّة والخالة، جبر الضعف بالإذن في نكاحهنّ، ولمّا كان الرضاع موجبا لانفعال المزاج عن لبن المرضعة ولذلك قال النبيّ صلّى الله عليه وآله «الرضاع يغيّر الطباع» (2) كان فيه اجتماع أيضا مشابه لاجتماع النسب فكان حكمه حكمه في تحريم النكاح.
ولمّا كانت الطباع تنفر عن المشاركة في الخيرات وتحبّ الاختصاص بها كانت المشاركة ملزومة للتباغض المنافي للمحبّة، ولذلك حرّم الجمع بين الأختين
__________
(1) الروم: 21.
(2) أخرجه الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2ص 296الرقم 3809في ترجمة صالح بن عبد الجبار، وقال أتى بخبر منكر جدا ثم ساق الحديث وهكذا أخرجه في لسان الميزان ج 3ص 172الرقم 698، وأخرجه السيوطي في الجامع الصغير كما في فيض القدير ج 4ص 55الرقم 4525، والسراج المنير ج 2ص 296، نقله عن القضاعي عن ابن عباس وجعل عليه رمز الضعف، وقال المناوى في شرحه قال شارح الشهاب حديث حسن، وقال العزيزي في شرح الحديث يعنى أن الرضاع بغير الصبي عن لحوقه بطبع والدية للطف مزاجه، فينبغي للوالدين طلب مرضعة طيبة الأصل حسنة الأخلاق.
وأخرجه في الوسائل ب 87من أبواب أحكام الأولاد ح 5عن على عليه السّلام: انه كان يقول: تخيروا للرضاع كما تخيرون للنكاح فان الرضاع بغير الطباع.(2/189)
لئلّا يقع التباغض بينهما، وتنغص العيش على الرجل.
الثالثة {وَالْمُحْصَنََاتُ مِنَ النِّسََاءِ إِلََّا مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ كِتََابَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ} (1).
{«الْمُحْصَنََاتُ»} مرفوع عطفا على قوله {«أُمَّهََاتُكُمْ»} أي وحرّمت المحصنات أى المزوّجات ما دمن في نكاح أزواجهنّ فهنّ على غيره حرام وكذلك ما حكمه حكم النكاح كالمعتدّات وقرئ بفتح الصّاد كما قلناه، وبكسرها على أنّه اسم الفاعل لأنهنّ أحصنّ فروجهنّ بالتزوج، قوله {«إِلََّا مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ»} استثناء من الإماء المزوّجات، ثمّ يحدث لهنّ استرقاق إمّا باشتراء أو اتّهاب أو ميراث أو سبي أو غير ذلك، فانّ المالك الجديد له فسخ النكاح والوطي بعد العدّة، ويدخل فيه أيضا الأمة المزوّجة بمملوك السيّد، فانّ له فسخ نكاحها، فيجوز له وطيها بعد العدّة.
وقال أبو حنيفة: إنّ السبي لا يرفع النكاح، ولا يحلّ بذلك للسابي، وإطلاق الآية حجّة عليه، وكذا خبر أبي سعيد الخدري يدل على ذلك، وهو أنّ المسلمين أصابوا في غزاة أوطاس سبايا، ولهنّ أزواج في دار الحرب، فنادى منادي رسول الله صلّى الله عليه وآله: ألا لا توطأ الحبالى حتّى يضعن، ولا غير الحبالى حتّى يستبرئن بحيضة (2) وقد أشار الفرزدق (3) في شعره إلى ذلك بقوله:
__________
(1) النساء: 24.
(2) مجمع البيان ج 3ص 30سنن أبى داود ج 1ص 497.
(3) هو همام بن غالب بن صعصعة، ينتهي نسبه الى تميم باثنتي عشرة واسطة، وتميم أبو قبيلة معروفة ينتهى نسبه الى الياس بن مضر.
وكنيته أبو فراس شهير بالفرزدق شاعر من النبلاء من أهل البصرة عظيم الأثر في اللغة، وكان يقال: لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب، وترى ترجمته من ص 497 الى 500باب الفاء روضات الجنات، وص 68ج 9من كتاب الاعلام، ومن ص 169 204ج 2من كتاب الهجاء والهجاؤن، والخزانة للبغدادى من ص 154150في شرح الشاهد الثلاثين والدرجات الرفيعة ص 556541.
ولقد اثنى عليه السيد المرتضى في المجلس الخامس من الأمالي من ص 4943 وقال والفرزدق مع تقدمه في الشعر وبلاغته في الذروة العليا والغاية القصوى، شريف الإباء، كريم البيت، له ولابائه مآثر لا تدفع ولا تجحد.
والفرزدق هو الذي قال القصيدة الغراء المعروفة بين الفريقين في مدح سيدنا المظلوم الامام زين العابدين عليه وعلى آبائه آلاف التحية والسلام، أنشدها الكشي أيضا في رجاله انظر ص 121118 (طبع النجف) ومطلعها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
وفيه: فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق، فحبس بعسفان بين مكة والمدينة: فبلغ ذلك على بن الحسين عليه السّلام فبعث إليه باثني عشر ألف درهم، وقال: أعذرنا يا أبا فراس فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك، فردها وقال: يا ابن رسول الله ما قلت الذي قلت إلا غضبا لله ورسوله، وما كنت لازرء عليه شيئا، فردها عليه وقال: بحقي عليك لما قبلتها فقد رأى الله مكانك وعلم نيتك فقبلها.
وفي رواية ابن خلكان قال. مدحته لله لا للعطاء، فقال: انا أهل بيت إذا وهبنا شيئا لا نستعيد، فقبلها.
فجعل الفرزدق يهجو هشاما وهو في الحبس فبعث إليه فأخرجه.
قال العلامة البهبهاني في حواشيه الرجالية على منهج المقال ص 259قال جدي رحمه الله تعالى: وذكر عبد الرحمن الجامى في سلسلة الذهب هذه القصيدة منظومة بالفارسية وذكر أن كوفية رأت في النوم الفرزدق وقالت له: ما فعل الله بك. قال: غفر الله لي بقصيدة على بن الحسين، قال الجامى وبالحرى ان يغفر الله للعالمين بهذه القصيدة. مع اشتهاره بالنصب والعداوة.
وقد صدع العلامة السيد عليخان المدني الشيرازي في الدرجات الرفيعة بالرد على من زعم أن القصيدة للحزين الليثي قالها في قثم بن العباس، وان الفرزدق أنشدها في على بن الحسين عليه السّلام قال قدس سره: اما كون القصيدة بتمامها في قثم بن العباس فأمر يشهد بعض أبيات القصيدة باستحالته، كما تراه، وأما إنشاد الفرزدق لها في على بن الحسين عليه السّلام فقد ذكره كثير من الرواة والمؤرخين.
وفي الخزانة: قال صاحب العباب قال الليث: الفرزدق: الرغيف الذي يسقط في التنور، ويقال أيضا الفرزدقة قال: وقال بعضهم: هو فتات الخبز، وقال غيره: الفرزدق القطعة من العجين، وأصلها بالفارسية برازده، وقال ابن فارس: هذه كلمة منحوتة من كلمتين من «فرز» ومن «دق» لانه دقيق يعجن ثم افرزت منه قطعة فهي من الافراز والدقيق. انتهى. ثم قال البغدادي: فلقب بأحد هذه المعاني، وشرح شواهدها كلها فراجع.(2/190)
وذات حليل أنكحتها رماحنا ... حلال لمن يبني بها لم تطلّق (1)
__________
(1) أنشده البيضاوي عند تفسير الآية، وقال الشهاب في شرحه ج 3ص 123:
الحليل: الزوج، وإسناد الإنكاح الى الرماح مجاز، وحلال صفة ذات تجرى على إعرابه، وذكر لانه مصدر أو خبر مبتدأ محذوف، أي هي حلال ولمن يبنى بها اى يدخل عليها، متعلق بحلال، وهو من شواهد الكشاف أيضا عند تفسير الآية ج 1ص 391.
وقال الأفندي في شرحه على شواهد الكشاف ص 132: روى انه قيل للحسن وعنده الفرزدق: ما تقول فيمن يقول: لا والله وبلى والله؟ فقال: أما سمعت قولي ذلك، قال الحسن: ما قلت؟ قال: قلت:
فلست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم
فقال الحسن: أحسنت، (أقول قد مر هذا البيت فيما استشهد به المصنف قدس سره ص 121فراجع).
ثم قيل: ما تقول فيمن سبى امرءة ولها حليل؟ فقال: أما سمعت قولي وانشد:
وذات حليل إلخ، فقال الحسن: كنت أراك أشعر، فإذا أنت أشعر وأفقه أيضا.
وقال الصاوى في شرحه على ديوان الفرزدق ج 2ص 576: روى صاحب العمدة أن الفرزدق كان يجلس عند الحسن البصري فجاءه رجل فقال: يا أبا سعيد انا نكون في هذه البعوث والسرايا فنصيب المرأة من العدو، وهي ذات زوج، أفتحل لنا من قبل أن يطلقها زوجها؟ فقال الفرزدق: قلت أنا مثل هذا في شعري، وقال الحسن: وما قلت؟
فأنشده هذا البيت، وذات حليل إلخ. فقال الحسن: صدق فحكم بظاهر قوله. وقال صاحب العمدة: وما أظن الفرزدق إلا أراد مذهب الجاهلية في السبايا.
وأنشد البيت أيضا الشوكانى في نيل الأوطار ج 6ص 176فراجع.(2/192)
قوله {«كِتََابَ اللََّهِ»} مصدر مؤكّد أي كتب الله عليكم تحريم المذكورات كتابا.
فائدة: الإحصان يقال على معان الأوّل بمعنى العفّة كقوله تعالى {«أَحْصَنَتْ فَرْجَهََا} (1)» الثاني بمعنى الزواج كالمذكور في الآية، الثالث بمعنى الحرّيّة كقوله {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنََاتِ} (2) على قول تقدّم، الرابع: بمعنى الإسلام كقوله {فَإِذََا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفََاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مََا عَلَى الْمُحْصَنََاتِ} (3)
على أحد التفسيرين.
الرابعة
وَلََا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكََاتِ حَتََّى يُؤْمِنَّ
{وَلََا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكََاتِ حَتََّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلََا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتََّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولََئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النََّارِ} (4).
هل اسم المشرك مختصّ بمن ليس بكتابيّ من الكفّار أو هو شامل لكلّ كافر منكر لنبوّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله؟ قيل بالأوّل للعطف على أهل الكتاب في قوله {«لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ»} (5) والعطف يقتضي
__________
(1) الأنبياء: 91، التحريم: 12.
(2) النساء: 25.
(3) النساء: 25.
(4) البقرة: 221. وتمامه والله يدعو إلى الجنة والمغفرة باذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون، وقد يوجد في بعض النسخ.
(5) البينة: 1. وكذا في قوله تعالى {«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نََارِ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا أُولََئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ»} الآية: 7، البينة، وكذا في قوله تعالى:
{لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً}، الآية 195 آل عمران، وكذا في قوله تعالى {مََا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ}
الآية 155، البقرة، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا، الآية 96 البقرة وكذا قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا وَالصََّابِئِينَ وَالنَّصََارى ََ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}، الآية 17، الحج، وكذا قوله تعالى {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النََّاسِ عَدََاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قََالُوا إِنََّا نَصََارى ََ}
الآية 82، المائدة، وقد تقدم كلام لنا في التذييل على المجلد الأول ص 50فراجع.
ثم انه للعلامة الطباطبائي مد ظله بيان متين في كتابه الميزان في تفسير القرآن ج 2 ص 213211، حقيق بان ننقله لمزيد الفائدة: قال مد ظله العالي: والمشركات اسم فاعل من الإشراك بمعنى اتخاذ الشريك لله سبحانه، ومن المعلوم أنه ذو مراتب مختلفة بحسب الظهور والخفاء نظير الكفر والايمان، فالقول بتعدد الإله واتخاذ الأصنام والشفعاء شرك ظاهر، وأخفى منه ما عليه أهل الكتاب من الكفر بالنبوة وخاصة انهم قالوا {عُزَيْرٌ ابْنُ اللََّهِ} أو {الْمَسِيحُ ابْنُ اللََّهِ}، وقالوا {نَحْنُ أَبْنََاءُ اللََّهِ وَأَحِبََّاؤُهُ} وهو شرك، وأخفى منه القول باستقلال الأسباب والركون إليها وهو شرك، الى أن ينتهي الى ما لا ينجو منه الا المخلصون وهو الغفلة عن الله والالتفات الى غير الله عزت ساحته فكل ذلك من الشرك، غير أن إطلاق الفعل غير إطلاق الوصف والتسمية به، كما أن من ترك من المؤمنين شيئا من الفرائض فقد كفر به لكنه لا يسمى كافرا. قال تعالى:
{«وَلِلََّهِ عَلَى النََّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الى أن قال {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللََّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعََالَمِينَ»} آل عمران 97. وليس تارك الحج كافرا بل هو فاسق كفر بفريضة واحدة. ولو أطلق عليه الكافر قيل كافر بالحج، وكذا سائر الصفات المستعملة في القرآن كالصالحين والقانتين والشاكرين والمتطهرين، وكالفاسقين والظالمين الى غير ذلك لا تعادل الافعال المشاركة لها في مادتها، وهو ظاهر، فللتوصيف والتسمية حكم، ولإسناد الفعل حكم آخر.
على أن لفظ المشركين في القرآن غير ظاهر الإطلاق على أهل الكتاب بخلاف لفظ الكافرين بل إنما أطلق فيما يعلم مصداقه على غيرهم من الكفار كقوله تعالى {«لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتََّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ»} البينة 1وقوله تعالى {«إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلََا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرََامَ»} التوبة 29وقوله تعالى {«كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ»} التوبة 8وقوله تعالى {«وَقََاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً»} التوبة 37وقوله تعالى {«فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ»} التوبة 6.
الى غير ذلك من الموارد.
وأما قوله تعالى {«وَقََالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصََارى ََ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرََاهِيمَ حَنِيفاً وَمََا كََانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»} البقرة 135فليس المراد بالمشركين في الآية اليهود والنصارى ليكون تعريضا بهم بل الظاهر أنهم غيرهم بقرينة قوله تعالى {«مََا كََانَ إِبْرََاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلََا نَصْرََانِيًّا وَلََكِنْ كََانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمََا كََانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»} آل عمران 67.
ففي إثبات الحنف له عليه السّلام تعريض لأهل الكتاب، وتبرئة لساحة إبراهيم عن الميل عن حلق الوسط إلى مادية اليهود محضا والى معنوية النصارى محضا بل هو عليه السّلام غير يهودي ولا نصراني ومسلم لله غير متخذ له شريكا كالمشركين عبدة الأوثان.
وكذا قوله تعالى {«وَمََا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللََّهِ إِلََّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ»} يوسف 106 وقوله تعالى {«وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لََا يُؤْتُونَ الزَّكََاةَ»} فصلت 6وقوله تعالى {«إِنَّمََا سُلْطََانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ»} النحل 100. فان هذه الايات ليست في مقام التسمية بحيث يعد المورد الذي يصدق وصف الشرك عليه مشركا غير مؤمن، والشاهد على ذلك صدقه على بعض طبقات المؤمنين، بل على جميعهم غير النادر الشاذ منهم وهم الأولياء المقربون من صالحي عباد الله.
فقد ظهر من هذا البيان على طوله: أن ظاهر الآية أعنى قوله تعالى {وَلََا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكََاتِ} قصر التحريم على المشركات والمشركين من الوثنيين دون أهل الكتاب.
ومن هنا يظهر: فساد القول بأن الآية ناسخة لاية المائدة وهي قوله تعالى {«الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبََاتُ وَطَعََامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعََامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنََاتُ مِنَ الْمُؤْمِنََاتِ وَالْمُحْصَنََاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية» المائدة 6.
أو أن الآية أعنى قوله تعالى {وَلََا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكََاتِ}، وآية الممتحنة أعني قوله تعالى {«وَلََا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوََافِرِ»} الممتحنة 20ناسختان الآية المائدة، وكذا القول بأن آية المائدة ناسخة لآيتي البقرة والممتحنة.
وجه الفساد: أن هذه الآية أعنى آية البقرة بظاهرها لا تشمل أهل الكتاب وآية المائدة لا تشمل إلا الكتابية فلا نسبة بين الآيتين بالتنافي حتى تكون آية البقرة ناسخة لاية المائدة أو منسوخة بها، وكذا آية الممتحنة وان أخذ فيها عنوان والكوافر وهو أعم من المشركات ويشمل أهل الكتاب، فان الظاهر أن إطلاق الكافر يشمل الكتابي بحسب التسمية بحيث يوجب صدقه عليه انتفاء صدق المؤمن عليه كما يشهد به قوله تعالى:
{«مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِلََّهِ وَمَلََائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكََالَ فَإِنَّ اللََّهَ عَدُوٌّ لِلْكََافِرِينَ»} البقرة 98الا أن ظاهر الآية كما سيأتي إنشاء الله العزيز أن من آمن من الرجال وتحته زوجة كافرة يحرم عليه الإمساك بعصمتها أى إبقائها على الزوجية السابقة إلا أن تؤمن فتمسك بعصمتها، فلا دلالة لها على النكاح الابتدائي للكتابية.
ولو سلم دلالة الآيتين أعنى: آية البقرة وآية الممتحنة على تحريم نكاح الكتابية ابتداء لم تكونا بحسب السياق ناسختين لاية المائدة، وذلك لان آية المائدة واردة مورد الامتنان والتخفيف، على ما يعطيه التدبر في سياقها، فهي آبية عن المنسوخية بل التخفيف المفهوم منها هو الحاكم على التشديد المفهوم من آية البقرة، فلو بنى على النسخ كانت آية المائدة هي الناسخة.
على أن سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة، وسورة الممتحنة نزلت بالمدينة قبل فتح مكة، وسورة المائدة آخر سورة نزلت على رسول اللََّه ناسخة غير منسوخة ولا معنى لنسخ السابق اللاحق. انتهى(2/193)
المغايرة، وفيه نظر لأنّا نمنع كون العطف يقتضي المغايرة مطلقا بل إذا لم يدع إلى العطف فائدة أمّا معها فلا كقوله {«جِبْرِيلَ وَمِيكََالَ} (1)» و {«نَخْلٌ وَرُمََّانٌ} (2)» مع أنا نقول: إنّ العطف هنا للعامّ على الخاصّ، وهو موافق للقاعدة، وهو وجوب مغايرة المعطوف للمعطوف عليه، والحال هنا كذلك فانّ المشرك أعم من الكتابيّ.
وقيل بالثّاني لقوله {«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ََ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (3)» ولا شكّ في كراهة أهل الكتاب لنبوّته عليه السّلام ولقوله تعالى في حقّهم {«وَقََالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللََّهِ وَقََالَتِ النَّصََارى ََ الْمَسِيحُ ابْنُ اللََّهِ»}
إلى قوله {«سُبْحََانَهُ عَمََّا يُشْرِكُونَ»} (4) ولقول النصارى بالتثليث.
فعلى الأوّل الآية عامّة باقية الحكم، غير منسوخة اتّفاقا، فيحرم نكاح المشركة وإنكاح المشرك، وعلى الثاني قيل: هي أيضا عامّة ولا يحل نكاح الكتابيات أيضا ويؤيّده قوله {«وَلََا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوََافِرِ»} (5) فتكون ناسخة للاية
__________
(1) البقرة: 98 {مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِلََّهِ وَمَلََائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكََالَ}.
(2) الرحمن: 68 {فِيهِمََا فََاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمََّانٌ}.
(3) براءة: 33الصف: 9.
(4) براءة: 30.
(5) الممتحنة: 10.(2/196)
في المائدة وهي قوله {«وَطَعََامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعََامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [وَالْمُحْصَنََاتُ مِنَ الْمُؤْمِنََاتِ] وَالْمُحْصَنََاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذََا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (1) الآية.
وقيل بعدم نسخ آية المائدة لأنّ المائدة آخر ما نزل كما قيل، ولأنّ الأصل عدم النّسخ فعلى هذا يكون هذه مخصّصة بآية المائدة لما تقرّر في الأصول أن التخصيص خير من النسخ، فلذلك حكم بعض أصحابنا بتحريم الكتابيّات مطلقا على الأوّل من الثاني، وبعضهم حكم بحلّ الكتابيّات مطلقا على الثاني منه وهو قول شاذّ ينسب إلى ابن الجنيد.
والمتأخّرون من الأصحاب حكموا بحلّ الكتابيّات متعة لا غير لأنّ آية المائدة لا تدل على إباحة نكاح الدّوام بل نكاح المتعة لقوله تعالى {«إِذََا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ»} ولم يقل مهورهنّ، وعوض المتعة سمّي اجرا لقوله {«فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ»} (2)
وفي هذا القول نظر أمّا أوّلا فلأنّ آية المائدة منسوخة بقوله {«وَلََا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوََافِرِ»} كما رواه زرارة عن الباقر عليه السّلام ونمنع كون المائدة آخر القرآن نزولا لعدم الدلالة القاطعة عليه، وعلى تقديره جاز أن يكون أكثرها هو الأخير نزولا عن جملة السورة، ويكون هذه الآية ضمّت إليها بعد نسخها، وتكون من الّذي نسخ حكمه دون تلاوته كآية عدّة الوفاة بالحول وأمّا ثانيا فلأنّا نمنع دلالتها على المتعة فإنّ المهر مطلقا يسمّى أجرا كقوله {«عَلى ََ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمََانِيَ حِجَجٍ»} (3).
ويمكن أن يجاب أمّا عن الأوّل فلأنّها جزء من المائدة قطعا، وتأخّر المائدة مشهور (4) وقرائن أحكامها تدل عليه مع أصالة عدم النسخ وأمّا عن الثاني
__________
(1) المائدة: 5.
(2) النساء: 24.
(3) القصص: 27.
(4) بل مروي في كتب الشيعة وأهل السنة، فقد روى العياشي عن زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام قال قال على بن أبى طالب صلوات اللََّه عليه: نزلت المائدة قبل أن يقبض النبي صلّى اللََّه عليه وآله بشهرين أو ثلاثة، وفي رواية أخرى عن زرارة عن ابى جعفر عليه السّلام مثله.
وعن عيسى بن عبد اللََّه عن أبيه عن جده عن على عليه السّلام قال: كان القرآن ينسخ بعضه بعضا، وانما كان يؤخذ من أمر رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله بآخره، فكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة فنسخت ما قبلها، ولم ينسخها شيء. لقد نزلت عليه وهو على بغلته الشهباء، وثقل عليه الوحي، حتى وقفت وتدلى بطنها، حتى رأيت سرتها تكاد تمس الأرض، وأغمي على رسول اللََّه حتى وضع يده على ذؤابة شيبة بن وهب الجمحي، ثم رفع ذلك عن رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله فقرأ علينا سورة المائدة، فعمل رسول اللََّه وعلمنا.
(انظر العياشي ج 1ص 288، البحار ج 19ص 69، البرهان ج 1ص 430).
وروى الشيخ في التهذيب بإسناده عن الحسين بن سعيد عن حماد عن حريز عن زرارة قال: سمعته يقول: جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلّى اللََّه عليه وآله وفيهم على عليه السّلام فقال: ما تقولون في المسح على الخفين فقام المغيرة بن شعبة فقال: رأيت رسول اللََّه يمسح على الخفين فقال على: قبل المائدة أو بعدها؟ فقال: لا أدرى فقال على عليه السّلام: سبق الكتاب الخفين انما نزلت المائدة قبل ان يقبض النبي صلّى اللََّه عليه وآله بشهرين أو ثلاثة، انظر التهذيب ص 361ج 1، الرقم 1091وفي الرقم 1088و 1092من حديث أبى عبد اللََّه وابى جعفر عليهما السلام أيضا حكاية قول على عليه السلام «سبق الكتاب الخفين».
واما من طرق أهل السنة، فقد نقل الشوكانى في عدة روايات بطرق مختلفة تدل على كون المائدة آخر القرآن نزولا، وفي بعضها «لم تنسخ منها الا آية القلائد» وفي بعضها إلا آية القلائد، وقوله {«فَإِنْ جََاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ»}.
وقد نص المصنف أيضا رحمه اللََّه بكونها آخر القرآن نزولا في ص 8ج 1 من هذه الطبعة، وسبق منا كلام في ص 18و 19من ج 1فراجع.(2/197)
فلأنّ اشتراط إيتاء المهر في الحلّ دليل على إرادة المتعة لعدم اشتراط ذلك في صحّة الدائم نعم الأجود تحريم الكتابيّات اختيارا مطلقا لوجوه:
الأوّل أنّها مشركات ولا شيء من المشركات يحل نكاحهنّ والمقدّمتان تقدّم تقريرهما.
الثاني أنّ الكتابية لا تواد، وكلّ زوجة تواد، فلا شيء من الكتابيّة
بزوجة أمّا الصغرى فلقوله {«لََا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوََادُّونَ مَنْ حَادَّ اللََّهَ وَرَسُولَهُ} (1)» وهي محادّة وأمّا الكبرى فلقوله تعالى {«وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً»} (2).(2/198)
الثاني أنّ الكتابية لا تواد، وكلّ زوجة تواد، فلا شيء من الكتابيّة
بزوجة أمّا الصغرى فلقوله {«لََا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوََادُّونَ مَنْ حَادَّ اللََّهَ وَرَسُولَهُ} (1)» وهي محادّة وأمّا الكبرى فلقوله تعالى {«وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً»} (2).
الثالث أنّها كافرة ولا شيء من الكافرة بذات عصمة أمّا الصغرى فظاهرة، وأمّا الكبرى فلقوله {«وَلََا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوََافِرِ»} (3) والنكاح عصمة وهو ظاهر وأمّا حال الاضطرار وهو حصول المشقّة بالترك، وخوف الوقوع في العنت، فيجوز المتعة بهنّ وعليه يحمل آية المائدة فيكون مخصّصة لما تقدّم، وكذا تحمل الروايات الواردة بالإباحة.
واعلم أنّ ملك اليمين هنا كالمتعة في الجواز عند الصرورة وأمّا حال الاختيار فحكمه كالعقد في المنع وأطبق فقهاء العامّة على إباحة الكتابيّات مطلقا وهنا فوائد:
__________
(1) المجادلة: 22، ولا يخفى عليك أن الظاهر من الآية موادة المحاد من حيث المحادة لتعلقها على الوصف الظاهر في العلية، ولا يصح الحمل على اللوازم لجواز صلة المحاد لقوله تعالى {«وَصََاحِبْهُمََا فِي الدُّنْيََا مَعْرُوفاً»} وقوله صلّى اللََّه عليه وآله: لكل كبد حراء أجر، ولا ريب في تحريم الموادة من حيث المحادة، بل منافاتها للايمان.
فالظاهر أن الغرض من هذا الحكم نفى الايمان عن الذين كانوا يدعون الايمان ويضمرون الموادة للكفار المعلنين بالكفر وهم المنافقون الذين كان يعرفهم النبي صلّى اللََّه عليه وآله بلحن القول وإشارات الوحي، وترك التصريح لان الكناية أبلغ من التصريح وادعى الى الرجوع الى الحق، وأمنع من تظاهرهم بالأمر ولحوقهم بالكفار.
(2) الروم: 21. وفيه منع كون التزويج موادة، فإنه ربما كان للحاجة دون المودة والآية محمولة على الغالب لتحقق النشوز والشقاق المنافيين للمودة، مع ما قد عرفت بما لا مزيد عليه، أن المودة المنهي عنها انما هو موادة المحاد من حيث المحادة.
(3) الممتحنة: 10، ولا يخفى عليك ان المتبادر من الآية ولفظ الإمساك: النهي عن البقاء على نكاح الكوافر واستدامته، كما نص عليه المفسرون، وقد أجمع الفقهاء على بقاء النكاح إذا أسلم زوج الذمية دونها كما سيصرح به المصنف، فالاية مخصوصة بالكوافر غير الكتابيات، ولا يمكن أن تكون ناسخة لحل الكتابيات، ولا يجدى أولوية المنع عن الابتداء، بعد انتفاء حكم الأصل.(2/199)
1 - قال الراوندي: في الآية دلالة على جواز نكاح الأمة مطلقا من غير شرط عدم الطول وخشية العنت، وفيه نظر لأنّ المطلق يحمل على المقيّد مع المعارضة كما تقرّر في الأصول.
2 - في الآية إشارة إلى اشتراط الايمان في النكاح لوجهين أحدهما قوله {«وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ»}. {«وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ»} وثانيهما تعليله بأنّ {«أُولََئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النََّارِ»} ولا شبهة أنّ المخالف يدعو إلى النار فلا يجوز نكاحه وإنكاحه نعم لما كانت المرأة سريعة الانفعال ضعيفة العقل، جاز نكاح المؤمن المخالفة دون العكس، ولهذا قيل: المرأة تأخذ من دين بعلها.
3 - في تعليله بأنّ {«أُولََئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النََّارِ»} إشارة إلى كونه كبيرة وأيضا فإنّ النكاح يستلزم إرادة دوامه ولا صغيرة مع الإصرار.
4 - قيل: النهي في الآية لا شكّ في إفادته التحريم لكن نمنع إفادته الفساد لما تقرّر أنّ النهي في غير العبادات لا يفسده أجيب: قد تقرّر في الأصول أنّ النهي في المعاملة إن كان عن الشيء لذاته أو لجزئه أو للازمه، أفاد الفساد كبيع الحصاة والملاقيح والرّبا وحينئذ نقول: وإن كان النكاح حقيقة في العقد أو الوطي أو مشتركا فالنهي متوجّه إلى الشيء لذاته أو للازمه، فيكون مفيدا للفساد وهو المطلوب.
5 - أنه لا خلاف في أنّ الذميّ إذا أسلم فهو باق على نكاحه، فيكون مخصّصا لعموم {«وَلََا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكََاتِ»}. {«وَلََا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوََافِرِ»} بالإجماع والنّصّ الحديثيّ.
6 - لقائل أن يقول إنّ «خيرا» في قوله {«خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ»} و {«خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ»} أفعل التفضيل، المستلزم للمشاركة، فيفيد زيادة خيريّة نكاح المؤمنة وإنكاح المؤمن، فيكون في خلافهما خيريّة مّا، فلو كان فاسدا لما كان كذلك فيجاب بأنّ الخيرية في هذه ليست باعتبار صحّة النكاح وفساده، بل لمّا كان الجمال والحسب والمال بواعث على النكاح، وتلك خيرات دنيويّة، فهي مشاركة للخيرات الدينيّة الحاصلة في نكاح المؤمنين، في مطلق الخيريّة، لكن الخيارات الدّينيّة
أعظم لكونها أمورا حقيقية دائمة لا وهميّة زائلة، فلذلك ساغ إيراد صيغة التفضيل.(2/200)
6 - لقائل أن يقول إنّ «خيرا» في قوله {«خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ»} و {«خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ»} أفعل التفضيل، المستلزم للمشاركة، فيفيد زيادة خيريّة نكاح المؤمنة وإنكاح المؤمن، فيكون في خلافهما خيريّة مّا، فلو كان فاسدا لما كان كذلك فيجاب بأنّ الخيرية في هذه ليست باعتبار صحّة النكاح وفساده، بل لمّا كان الجمال والحسب والمال بواعث على النكاح، وتلك خيرات دنيويّة، فهي مشاركة للخيرات الدينيّة الحاصلة في نكاح المؤمنين، في مطلق الخيريّة، لكن الخيارات الدّينيّة
أعظم لكونها أمورا حقيقية دائمة لا وهميّة زائلة، فلذلك ساغ إيراد صيغة التفضيل.
7 - الواو في «ولو» للحال، و «لو» بمعنى «إن» وهو كثير، والإعجاب في الحسن والمال والجاه وفيه إشارة إلى كراهة قصد الجمال والمال في النكاح بل السنّة والدّين كما قال عليه السّلام «عليك بذات الدّين تربت يداك (1)» والمراد بدعائهم إلى النار أي إلى أسبابها فانّ بسبب المخالطة قد يكتسب الصاحب من صاحبه دينه، ولذلك قال صلّى اللََّه عليه وآله «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (2) وهنا محرّمات أخر تذكر في كتب الفقه، مستفادة من السنّة فلنقتصر على ما في الكتاب.
النوع الثالث في لوازم النكاح من المهر والنفقة وغير ذلك
وفيه آيات:
الاولى {وَآتُوا النِّسََاءَ صَدُقََاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} (3).
الصدقة اسم المهر، والنحلة (4) قيل من انتحل كذا إذا دان به أي آتوهنّ
__________
(1) الكافي ج 5ص 332.
(2) الكافي ج 2ص 642.
(3) النساء: 4.
(4) قال السيد الرضى قدس سره في ص 313من حقائق التأويل: وربما سألوا بعد ذلك فقالوا: كيف قال اللََّه تعالى {وَآتُوا النِّسََاءَ صَدُقََاتِهِنَّ نِحْلَةً}، والنحلة هبة والصداق واجب، فالجواب أنه سبحانه فرض الصداق للنساء، فكان هبة منه سبحانه لهن، لا هبة من أزواجهن، وقد كان الإباء يأخذون ذلك لنفوسهم ألا ترى الى قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هََاتَيْنِ عَلى ََ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمََانِيَ حِجَجٍ}» فاستخدمه بمهر ابنته، فجعل تعالى ذلك للنساء دون آبائهن، وذلك واضح بمشيئة اللََّه.(2/201)
ديانة فيكون مفعولا له، وقيل نحلة من اللََّه وتفضّلا منه عليهنّ، فيكون نصبا على الحال من الصدقات، وقيل النحلة بكسر النون العطيّة الّتي تكون عن طيب النفس من غير طلب وقيل هو من غير عوض والفعل منه نحل ينحل نحلا، فعلى هذا يكون نصبا على المصدر من غير لفظه، و «نفسا» نصب على التميز من الجملة، والهنيء والمريء صفتان لمحذوف أي أكلا هنيئا مريئا يقال هنوء الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا نقص فيه، وقيل الهنيء ما يلذه الآكل والمريء ما تحمد عاقبة، إذا عرفت هذا فهنا فوائد:
1 - أنّ الخطاب هنا للأزواج وهو الأصحّ لذكره عقيب الأمر بالنّكاح وقيل للأولياء لأنّهم كانوا يأخذون مهور بناتهم، فكان إذا ولد لأحدهم بنت يهنّئونه ويقولون هنيئا لك النافجة يعنون به أنّ أخذ مهرها ينفج به ماله أي يعظّمه.
2 - في قوله {«فَإِنْ طِبْنَ»} دلالة على عدم جواز غصبها أو خديعتها أو إكراها على عطيّته وكان قوم يتحرّجون من قبول شيء ممّا ساقه إلى زوجته فنزلت والضمير في «منه» راجع إلى المهر لسبق ذكر معناه.
3 - روى العياشيّ أنّ رجلا جاء إلى أمير المؤمنين فشكى إليه وجع بطنه فقال عليه السّلام ألك زوجة؟ قال: نعم، قال استوهب منها شيئا طيّبة به نفسها من مالها ثمّ اشتر به عسلا ثمّ اسكب عليه من ماء السماء، ثمّ اشربه فإنّي سمعت اللََّه تعالى يقول {«وَنَزَّلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً مُبََارَكاً»} وقال {«يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهََا شَرََابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوََانُهُ فِيهِ شِفََاءٌ لِلنََّاسِ»} وقال {«فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً»} فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهنيء والمريء شفيت إن شاء اللََّه تعالى قال ففعل ذلك فشفي (1).
الثانية
وَانْ ارَدْتُمُ اسْتِبْدََال زَوْج مَكََانَ زَوْجٍ
__________
(1) العياشي ج 1ص 218، تحت الحديث المرقم 15من هذه السورة.(2/202)
{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدََالَ زَوْجٍ مَكََانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدََاهُنَّ قِنْطََاراً فَلََا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتََاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى ََ بَعْضُكُمْ إِلى ََ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثََاقاً غَلِيظاً} (1).
القنطار المال الكثير، والبهتان هو أن ينسب الإنسان غيره إلى فعل أو قول يسوؤه إذا سمعه، وهو بريء منه، وانتصابه وانتصاب {«إِثْماً»} على المفعول له إلّا أنّ {«بُهْتََاناً»} سبب فاعليّ و «الإثم» سبب غائيّ بمعنى أنّ سبب أخذ المال بهتانه على زوجته، ويؤول أخذه إلى الإثم، فاللّام المقدّرة في «إثما» لام العاقبة لأنّ أخذ المال ليس لأجل الإثم، لا أنّهما حالان بمعنى باهتين وآثمين كما قال الزمخشري لأنّ الأخذ ليس في حال البهتان بل مسبوق به والاستفهام على سبيل الإنكار و «مبينا» أي مظهرا لخساسة أنفسكم ثمّ أعاد الإنكار بقوله و {«كَيْفَ»} والحال أنّه {«قَدْ أَفْضى ََ بَعْضُكُمْ إِلى ََ بَعْضٍ»} والإفضاء الوصول وهو هنا كناية عن الجماع، والميثاق الغليظ العهد الوثيق، وقيل هو عقد النكاح، وقيل هو حق الصّحبة والممازجة، وقد قيل صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف صحبة الزوجين، وقيل الميثاق هو ما أوثق اللََّه عليه في قوله {«فَإِمْسََاكٌ بِمَعْرُوفٍ»} وقول النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله «أخذتموهنّ بأمانة اللََّه واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللََّه (2) [عن الباقر عليه السّلام] إذا تقرّر هذا فهنا فوائد:
1 - في الآية دلالة على عدم تقدير المهر بقدر بل بحسب ما يتراضيان عليه ولذلك لمّا منع عمر عن المغالاة في الصّداق على المنبر قالت له امرأة: أتمنعنا ما جعله اللََّه لنا وتلت الآية، فقال كل أفقه من عمر حتّى النساء ورجع عن رأيه (3).
2 - فيها دلالة على استقرار المهر بالدخول لتعليل الإنكار بالإفضاء.
3 - روي أنّ الرّجل منهم كان إذا أراد أن يتزوّج جديدة بهت الّتي تحته بالفاحشة حتّى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليجعله مهرا للجديدة، فنهوا عن
__________
(1) النساء: 20.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة عن عكرمة ومجاهد كما في الدر المنثور ج 2ص 134.
وتراه في المعاني للصدوق ص 212.
(3) الدر المنثور ج 2ص 133.(2/203)
ذلك فالتقييد للنهي بحال الاستبدال لأجل السّبب وقد تقرّر في الأصول أنّ خصوص السبب لا يخصص.
4 - قيل الآية منسوخة بقوله {«فَإِنْ خِفْتُمْ أَلََّا يُقِيمََا حُدُودَ اللََّهِ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِمََا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (1)» وقيل: بل هي محكمة غير منسوخة، وهو قول الأكثر وهو الأصحّ لأنّ النهي فيها مقيّد بالبهتان، وهو نوع من الإكراه ولا كلام أنّ مع إكراه الزوجة على الافتداء، لا يقع الملك ولا يتم الخلع.
الثالثة
لََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ انْ طَلَّقْتُم النِّسََاءَ
{لََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ مََا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتََاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (2).
المراد بالمسّ الجماع والفرض التقدير، والمراد بالفريضة المهر المقدّر، ففعيل هنا بمعنى مفعول، والتاء لنقل اللّفظ إلى الاسميّة، والمتعة والإمتاع بمعنى النفع والفائدة وأوسع الرّجل إذا صار ذا سعة من المال، وأقتر إذا صار ذا إقتار، بمعنى الضيق ضدّ السّعة أو صار ذا قترة، وهي الغبار ومنه قوله تعالى {تَرْهَقُهََا قَتَرَةٌ} (3)
كأنه لفقره يتغيّر حليته فكأنّ عليه غبارا و «ما» هنا بمعنى المدّة أي مدّة لم تمسّوهنّ و {«مَتََاعاً»} اسم للمصدر بمعنى التمتيع كالسلام بمعنى التسليم وهو منصوب على المصدرية و {«حَقًّا»} صفة له إذا تقرّر هذا فهنا فوائد:
1 - أنّ «أو» في {«أَوْ تَفْرِضُوا»} يحتمل أن يكون بمعنى الواو، وأن يكون للترديد، وأن يكون بمعنى «إلّا أن» فعلى الأوّل يكون منطوق الآية أنّكم إن طلّقتم النّساء قبل مسّهنّ وقبل فرضكم لهنّ مهرا فلا جناح عليكم، قدّم جواب الشرط عليه.
__________
(1) البقرة: 229.
(2) البقرة: 236.
(3) عبس: 41.(2/204)
وإنّما نفى الجناح لأنّ في الطلاق مظنّة الجناح لكون النكاح مطلوبا لله فيكون تركه مظنّة الكراهة، خصوصا قبل الدّخول، وأمّا بعد الدّخول فقد حصل الامتثال فضعّفت الكراهية للترك، فلذلك خصّ النفي بما قبل المسّ، أو لأنّ الطلاق بعد الدّخول يفتقر إلى الاستبراء وقبله لا وقيل: المعنى لا تبعة على المطلق من مطالبة المهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة ولم يسمّ لها مهرا إذ لو كانت ممسوسة لكان عليه المسمّى أو مهر المثل، ولو كانت غير ممسوسة وقد سمّي لها مهرا كان لها نصفه، فمنطوق الآية ينفي الوجوب في الصورة الاولى، ومفهومها يقتضي الوجوب على الجملة في الأخيرتين.
وفيه نظر لأنّه لو كان ذلك هو المراد لما حسن نفي الجناح مطلقا، لأنّه وإن لم يجب عليه المهر كملا فإنّه يجب عليه المتعة فكان ينبغي فيه التقييد لكنّه لم يقيّد فلم يكن ذلك هو المراد.
وعلى الثاني يكون المنطوق نفي الجناح قبل المسّ مطلقا أي مع الفرض وعدمه وقبل الفرض مطلقا أي مع المسّ وعدمه، فيثبت المتعة على الأحوال الأربعة فتكون واجبة مع الطّلاق منضمّة إلى نصف المهر وإلى مهر المثل لكن ذلك لم يقل به أحد من أصحابنا لكنّه قول الشافعيّ كما يجيء.
وعلى الثالث يكون المنطوق نفي الجناح وثبوت المتعة مع عدم الفرض فيكون الحكم كالأوّل وهو الّذي عليه الفتوى.
2 {«وَمَتِّعُوهُنَّ»} أي حيث لا جناح عليكم في ذلك فمتّعوهنّ جبرا لا يحاش الطّلاق بشيء من أموالكم، وذلك الشيء يختلف باعتبار حال الزّوج فالغنيّ يجب عليه دابّة أو ثوب رفيع أو عشرة دنانير من الذّهب، والمتوسّط خمسة أو ثوب متوسّط، والفقير دينار أو خاتم، وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما السّلام وبه قال الشافعيّ وقال أبو حنيفة إن نقص مهر مثلها عن ذلك فلها نصف مهر المثل.
3 - لا متعة عندنا لغير هذه، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه
وفي القول الآخر ألحق بها الممسوسة المفروضة وغيرها قياسا، وهو مقدّم على المفهوم عنده.(2/205)
3 - لا متعة عندنا لغير هذه، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه
وفي القول الآخر ألحق بها الممسوسة المفروضة وغيرها قياسا، وهو مقدّم على المفهوم عنده.
4 - لو تراضيا على تقدير مهر بعد العقد، لزم، ولو طلّقها بعد ذلك لزم نصف المقدّر.
5 - في الآية دلالة صريحة على صحّة عقد الدوام من غير ذكر مهر مطلقا ويسمّى ذلك تفويض البضع، وقد يقال تفويض المهر، وهو أن يتزوّجها بمهر مجمل كأن يفوّض تقديره إلى أحدهما أو إلى أجنبيّ، فيلزم ما يقدّره، لكن إن كان هو الزّوج لزم كلّ ما يقدّره بما يتملّك، وإن كانت الزّوجة لزم ما لم يتجاوز مهر السنّة، وهو خمسمائة درهم أو خمسون دينارا، والأجنبيّ حكمه تابع لمن هو من قبله، فإذا طلّق مفوّضة البضع لزمته المتعة كما قلناه، ولو طلّق مفوّضة المهر لزم نصف ما يحكم به من إليه الحكم، ولو لم يكن حكم الزم الحكم، فيلزم نصفه.
6 - لو مات الزّوج قبل الدخول، ففي مفوّضة البضع لا شيء، وفي مفوّضة المهر، قيل لها المتعة للرواية عن الباقر عليه السّلام رواها محمد بن مسلم (1) وقيل لا شيء لعدم الموجب.
7 - في الآية دلالة على تملّك المهر المقدّر بالعقد لوصفه بالفريضة أي المفروضة فلو لم يجب كلّه لم يكن مفروضا مطلقا.
8 - قوله {«بِالْمَعْرُوفِ»} أي بما يعرفه أهل العقل والمروءة، من حال الزّوج كما قلنا، ووصف التمتّع بالحقّ دلالة على وجوبه، وسمّى الأزواج ب {«الْمُحْسِنِينَ»} أي إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال أو إلى جبر وحشة الطلاق للمسارعة ترغيبا وتحريصا.
الرابعة
وَانْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ انْ تَمَسُّوهُنَّ
__________
(1) الكافي باب نوادر المهر الرقم 2، راجع ج 5ص 279.(2/206)
{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مََا فَرَضْتُمْ إِلََّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكََاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ وَلََا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللََّهَ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1).
قوله {«فَنِصْفُ»} أي فالواجب نصف واللّام في النكاح للعهد الذهنيّ «و {يَعْفُونَ}» جمع معتل يستوي فيه المذكّر والمؤنّث لفظا وهو هنا للمؤنّث وهو مبني غير معرب إذا عرفت هذا فنقول دلّت هذه الآية على أحكام:
1 - تنصيف المهر بالطّلاق.
2 - أنّ النّساء إذا عفون لم يكن لهنّ على الزّوج شيء والمراد بالعفو هنا إمّا الهبة إن كان المهر عينا أو الإبراء إن كان دينا، وهل يقعان بلفظ العفو؟ التحقيق هنا أن نقول: المهر إن كان دينا في ذمّة الزّوج صحّ بلفظ العفو، ولفظ الهبة ولفظ الإبراء، ولفظ الاسقاط، وهل يشترط القبول؟ فيه خلاف الأصح عدمه وإن كان عينا فيصحّ بلفظ الهبة إجماعا ولا يصحّ بلفظ الإبراء إجماعا، وهل يصحّ بلفظ العفو؟ قيل نعم، لعموم اللّفظ في الآية، وقيل لا، لأنّه لا مجال له في الأعيان كلفظ الإبراء، فإنّه لا يقع على العين، وهو الأصح، ولا بدّ من القبول هنا قطعا وبالجملة حكمه في العين حكم الهبة، وتمام البحث في كتب الفقه.
3 - أنّه كما يجوز للمرأة العفو عن حقّها، كذا يجوز لوليّها وهو المشار إليه بقوله {«الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكََاحِ»} واختلف في الوليّ فقال أصحابنا هو الولي الإجباري أعني الأب والجد له، بالنسبة إلى الصّغيرة، وهو قول الشافعيّ في القديم، وألحق به بعض أصحابنا الوكيل الّذي تولّيه أمرها، وفيه نظر لأنّ الوكيل ليس بيده عقدة النكاح أصالة، بل بيدها، والإطلاق ينصرف إلى الأصالة نعم لو أذنت للوكيل في العفو جاز قطعا.
وقال الشافعيّ في الجديد وأحمد وأصحاب الرأي أنّ الّذي بيده عقدة النكاح هو الزّوج، لأنه مالك لعقده وحلّه، فعلى هذا القول يكون الطلاق قبل المسّ مخيّرا للزوج، بين دفعه كملا وبين تشطيره، فلا يكون الطّلاق مشطّرا بنفسه
__________
(1) البقرة: 237.(2/207)
والأوّل أصح لأنّه لمّا ذكر عفو النّساء عن نصيبهنّ اقتضى أن يكون {«الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكََاحِ»} وليّا لهنّ ليكون العفو في الجهتين واحدا ولأنّه بدأ بخطاب الأزواج على المواجهة بقوله {«وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ»} ثمّ قال {«يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي»} وهما خطاب لغير حاضر، فيتغايران.
ويتفرّع على قولنا فروع:
1 - أنّ الزوجة لها العفو عن كلّ حقّها، وأمّا وليّها فليس له العفو إلّا عن بعضه لا غير.
2 - حيث جاز للوليّ العفو عن بعض حقّها، فهل له إنكاحها ابتداء بدون مهر مثلها قيل لا، فلو زوّجها بدون مهر المثل صحّ النّكاح وفسد المسمّى، ويكون بمنزلة من لم يسمّ لها، لأنّ معاوضات المولّى عليه يشترط في فعلها مساواة العوض وإذا فسد المسمى ثبت لها مهر المثل بنفس العقد.
وقيل: له ذلك، لأنّه كما جاز له أن يعفو عن بعض ما وجب لها، جاز له في الابتداء قبل الوجوب، ولأنّه منصوب لنظر المصلحة، فجاز أن يرى في ذلك مصلحة ولأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله زوّج بنته بخمسمائة درهم (1) ومعلوم أنّ مهر بنته لا يكون هذا القدر.
وفي هذا نظر لأنّ نظر النّبوّة يقيني ولأنّه {«أَوْلى ََ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»}
ولأنّه جاز أن يكون باذنها، وأيضا فإنّه إذا فسد المسمّى ثبت مهر المثل، وهو لا يتجاوز مهر السنّة وهذا مهر السنّة، والأصحّ أنه إن تعلّق بذلك مصلحة عائدة إليها جاز وإلّا فلا.
3 - في الآية دلالة على ثبوت الولاية في النكاح على المرأة أصالة لقوله {«بِيَدِهِ»} أي في ملكه لأنّ اليد تدل على الملك عرفا، وهذا من المجملات الّتي بينها السنّة الشريفة فعند أصحابنا ناقلين عن أئمتهم عليهم السّلام أنّ الولاية أربعة أقسام:
__________
(1) الكافي ج 5ص 376باب السنة في المهور الرقم 6، والمراد سائر بناته لا فاطمة الزهراء، فإنها زوجت على درع حطمية يسوى ثلاثين درهما.(2/208)
الأوّل القرابة وهي منحصرة في الأب والجدّ للأب خاصّة، دون باقي الأقارب من العصبات، وغيرهم لكن ذلك على الصّغيرين، ومن عرض له الجنون حال الصّغر مستمرّا إلى البلوغ دون من تجدّد جنونه سواء كانت المرأة بكرا أو ثيّبا، واختلف في البكر البالغة الرشيدة فالأقوى والأقرب سقوط الولاية عنها لسقوط الولاية في المال، فتسقط في النكاح ولعموم {«حَتََّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ»} وللروايات المتضافرة عن الباقر والصادق عليهما السّلام ثمّ إنّ ولاية الأب والجدّ كلّ منهما مستبدّة وولاية إجباريّة ليس للمولّى عليه الاختيار (1).
الثّاني ولاية الحاكم وهي تختص بمن بلغ فاسد العقل، وليس له وليّ أو فسد عقله ورأيه بعد بلوغه ورشده، ويراعي في كلّ ذلك مصلحة المولّى عليه في النكاح.
الثالث ولاية الوصيّ عن الأب أو الجدّ له، لكنّها مختصّة بمن بلغ فاسد العقل دون غيره، ويراعي المصلحة أيضا.
الرابع ولاية الملك وهي ثابتة على الرقيقين ذكرا كان المالك أو أنثى وكذا المملوك بالغا كان أو غيره، عاقلا كان أو غيره، وهي أقوى الولايات فإنّها مقدّمة على ولاية القرابة والحكم، وقالت العامّة بما قلناه وزادوا ولاية العصوبة وهي باطلة عندنا، لإطباق علماء أهل البيت عليهم السّلام على ذلك وكفى به حجّة.
4 - قوله {«وَأَنْ تَعْفُوا»} خطاب للأزواج إجماعا لكن عند من فسّر {«الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكََاحِ»} بالزوج قال إنّه أعاد خطابهم تأكيدا وعندنا لمّا ذكر عفو المرأة ووليّها ذكر عفو الرّجل وجمعه مطابقة لجمع النّساء ولأنّه خطاب لكلّ زوج.
ونقل الطبرسيّ أنّه خطاب للزّوج والمرأة معا عن ابن عبّاس قال: وهو أقوى لعمومه وفيه نظر أما أوّلا فلأنّ اجتماع العفوين غير ممكن لو أراده لأنّه وصف العفو بكونه أقرب للتقوى، فيكون ترغيبا لهما، وأمّا ثانيا فلأنّ تعفو هنا خطاب للمذكّر حقيقة بحذف نونه، وجعله معربا بالناصب فلا يتناول المؤنّث.
__________
(1) الخيار، خ.(2/209)
إن قلت: التغليب جائز. قلت: هو خلاف الأصل.
إذا عرفت هذا فعفو الزّوج أنواع:
الأوّل أن يكون قد سلّم المهر إليها جملة، وهو موجود بيدها فيهبها الزائد عن النصف لو طلّقها، ويشترط قبولها.
الثاني أن يكون قد سلّمه وتصرّفت فيه ولم يبق عينه، فعفوه إبراء ولا يشترط القبول.
الثالث: أن يكون موجودا بيده فيدفعه إليها جملة بعد الطلاق، فيكون واهبا للزائد عن النصف فيشترط قبولها.
الرابع أن يكون في ذمّته دينا فعفوه إحضاره وتعيينه، وتمليكها الزائد فيشترط أيضا قبولها.
ففي النوع الثاني يصح بأيّ لفظ شاء من الأربعة المتقدّمة وفي البواقي لا يقع إلّا بألفاظ الهبة، وأمّا لفظ العفو فقد تقدّم الخلاف فيه، نعم لفظ العفو لو حصل لم يفد ملكا بل إباحة وروي عن جبير بن مطعم أنّه تزوّج امرأة وطلّقها قبل الدّخول فأكمل لها الصداق فقال: أنا أحقّ بالعفو (1).
وقوله {«أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ»} أي اتّقاء الظلم، فانّ الباذل لغيره حقّه فقد استبرأ لذمته واحتاط، أو لاتّقاء الكلام في عرضه، بأن يقال إنّه طلّقها وأدخل عليها ذلّ الخذلان وبخس المهر.
5 - نقل عن سعيد بن المسيب أنّ هذه الآية ناسخة لحكم المتعة في الآية السابقة وليس بشيء لأنّ النسخ إنّما يتصوّر مع المنافاة بين الحكمين، ولا منافاة هنا لأنّ محلّ المتعة الطلاق قبل الدخول مع عدم الفرض، وهنا ثبوت النصف مع الفرض، فلا منافاة نعم أقول: لو قلنا بثبوت المتعة لكلّ مطلّقة على الاحتمال الثاني في «أو» كما تقدّم يكون هذه الآية مخصّصة لذلك العموم، والتخصيص
__________
(1) أخرجه الشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه كما في الدر المنثور ج 1ص 293.(2/210)
خير من النسخ مع معارضتهما.
قوله {«وَلََا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ»} أي لا تتركوا الأخذ بالفضل بينكم والإحسان، ويمكن أن يستفاد من هذا استحباب الأخذ ناقصا والإعطاء راجحا في سائر المعاوضات.
الخامسة
الرِّجََالُ قَوََّامُونَ عَلَى النِّسََاءِ
{الرِّجََالُ قَوََّامُونَ عَلَى النِّسََاءِ بِمََا فَضَّلَ اللََّهُ بَعْضَهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ وَبِمََا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوََالِهِمْ فَالصََّالِحََاتُ قََانِتََاتٌ حََافِظََاتٌ لِلْغَيْبِ بِمََا حَفِظَ اللََّهُ وَاللََّاتِي تَخََافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضََاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلََا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلِيًّا كَبِيراً} (1).
القنوت لزوم الطاعة والمداومة عليها، والنشوز الارتفاع، والمراد هنا الارتفاع عن مطاوعة الأزواج فيما يجب لهم، وسبب نزول هذه الآية أنّ سعد بن الرّبيع وكان من الأنصار نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد فلطمها فانطلق بها أبوها إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله فقال أفرشته كريمتي فلطمها! فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله لتقتصّ من زوجها، فانصرفت لتقتصّ منه فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: ارجعوا هذا جبرئيل أتاني وأنزل هذه الآية فقال النبي صلّى الله عليه وآله أردنا أمرا وأراد اللََّه أمرا والّذي أراد اللََّه خير ورفع القصاص. ثمّ إنّ الآية فيها أحكام:
1 - أنّ {«الرِّجََالُ قَوََّامُونَ عَلَى النِّسََاءِ»} أي لهم عليهنّ قيام الولاية والسّياسة وعلّل ذلك بأمرين أحدهما موهبيّ من اللََّه وهو أنّ اللََّه فضّل الرّجال عليهنّ بأمور كثيرة من كمال العقل وحسن التّدبير ومزيد القوّة في الأعمال والطاعات، ولذلك خصّوا بالنبوّة والإمامة والولاية، وإقامة الشعائر والجهاد، وقبول شهادتهم في كلّ الأمور، ومزيد النصيب في الإرث وغير ذلك. وثانيهما كسبيّ وهو أنّهم ينفقون عليهنّ ويعطوهنّ المهور، مع أنّ فائدة النكاح مشتركة بينهما.
__________
(1) النساء: 34.(2/211)
والباء في قوله {«بِمََا فَضَّلَ اللََّهُ»} وفي قوله {«وَبِمََا أَنْفَقُوا»} للسببيّة، وما مصدريّة أي بسبب تفضيل اللََّه وبسبب إنفاقهم، وإنّما لم يقل بما فضّلهم عليهنّ؟ قال بعض الفضلاء لأنّه لم يفضّل كلّ واحد من الرّجال على كلّ واحدة من النساء لأنّه كم من امرأة أفضل من كثير من الرجال وإنّما جاء بضمير المذكّر تغليبا فيدخل الرّجل المفضّل والمرأة المفضّلة قال: ولا يلزم من تفضيل الصّنف على الصنف تفضيل الشخص على الشخص.
قلت: فحينئذ لا يكون في الآية دليل على تفضيل الصّنف الّذي هو عين المدّعى، لأنّه إذا كان بعض اشخاص الرجال أفضل من بعض أشخاص النساء وبالعكس فأيّ دليل على تفضيل الصنف على الصنف الآخر الّذي هو المراد فالسؤال باق على حاله.
2 - أنّه لمّا فضّل الرّجال، أراد جبر قلوب النساء فقال {«فَالصََّالِحََاتُ قََانِتََاتٌ»} أي مطيعات قائمات بما عليهنّ لأزواجهنّ {«حََافِظََاتٌ لِلْغَيْبِ»} أي حافظات لما يكون بينهنّ وبين أزواجهنّ في الخلوات من الأسرار، وقيل: حافظات لفروجهنّ ولأموال أزواجهنّ ولأولادهنّ كما جاء في الحديث.
وفيه نظر وإلّا لقال حافظات في الغيب لا للغيب على تقدير حذف المفعول به.
قوله {«بِمََا حَفِظَ اللََّهُ»} أي بما حفظهنّ اللََّه حين أوصى بهنّ الأزواج، وأوجب لهنّ عليهم المهر والنفقة، فالباء حينئذ للمقابلة والجزاء والمراد بسبب حفظ اللََّه لهنّ وتوفقه لهنّ أو بحفظه لهنّ بتعويضه للثواب على فعلهنّ.
3 - بيان حكم النشوز، وأصله الارتفاع كما قلنا ثمّ نقل شرعا إلى العصيان للزّوج، وأتى بالفاء في الخبر، لتضمّن المبتدأ معنى الشرط والجزاء، لكونه موصولا والوعظ التخويف باللََّه وبالعواقب، والهجر في المضاجع، قيل هو أن لا يجامعها، وقيل أن يولّيها ظهره في الفراش، وقيل أن لا يبيت معها في الفراش بل في فراش آخر {«وَاضْرِبُوهُنَّ»} أي ضربا غير جارح لحما ولا كاسر عظما، وهل تترتّب الثلاثة لترتّبهما في الذكر؟ الوجه نعم، لا من حيث اللّفظ فانّ الواو
لا يفيد الترتيب، بل من حيث المعنى لأنّه يترتّب الأخفّ فالثقيل فالأثقل، كما يجب في النهي عن المنكر.(2/212)
3 - بيان حكم النشوز، وأصله الارتفاع كما قلنا ثمّ نقل شرعا إلى العصيان للزّوج، وأتى بالفاء في الخبر، لتضمّن المبتدأ معنى الشرط والجزاء، لكونه موصولا والوعظ التخويف باللََّه وبالعواقب، والهجر في المضاجع، قيل هو أن لا يجامعها، وقيل أن يولّيها ظهره في الفراش، وقيل أن لا يبيت معها في الفراش بل في فراش آخر {«وَاضْرِبُوهُنَّ»} أي ضربا غير جارح لحما ولا كاسر عظما، وهل تترتّب الثلاثة لترتّبهما في الذكر؟ الوجه نعم، لا من حيث اللّفظ فانّ الواو
لا يفيد الترتيب، بل من حيث المعنى لأنّه يترتّب الأخفّ فالثقيل فالأثقل، كما يجب في النهي عن المنكر.
قيل قوله {«تَخََافُونَ»} بمعنى تعلمون وليس بشيء، وقيل: معناه إن ظهرت أمارة النشوز {«فَعِظُوهُنَّ»} وإن أظهرن النشوز {«وَاهْجُرُوهُنَّ»} وإن استمرّ نشوزهنّ {«وَاضْرِبُوهُنَّ»}. قوله {«فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ»} أي إن رجعن عن نشوزهنّ إلى الطاعة، فلا تتعرّضوا لهنّ بشيء من الأذى لزوال سببه، فانّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
قوله {«إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلِيًّا كَبِيراً»} أي إنّه مع علوّ شأنه في ذاته وصفاته تعصونه ويعفو عنكم إذا تبتم، فكذلك يجب عليكم أن تقبلوا توبتهنّ إذا تبن أو معناه أنّه يتعالى أن يظلم أحدا أو يبطل حقّه.
السادسة
فَانْ خِفْتُمْ شِقََاقَ بَيْنِهِمََا فَابْعَثُوا حَكَماً
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقََاقَ بَيْنِهِمََا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهََا إِنْ يُرِيدََا إِصْلََاحاً يُوَفِّقِ اللََّهُ بَيْنَهُمََا إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلِيماً خَبِيراً} (1).
يريد إن خفتم استمرار الشقاق، لأنّ الشقاق الماضي لا يخاف منه، والمستقبل لا يعلم، وكذا تقول في قوله {«وَاللََّاتِي تَخََافُونَ نُشُوزَهُنَّ»} فانّ الاستمرار هو المخوف، وأمّا إذا لم يستمرّ فلا يتعلّق به حكم لزواله، وحاصل الشقاق الاختلاف وعدم الاجتماع على رأي واحد، كأنّهما باختلافهما كلّ واحد في شقّ أي في جانب.
قوله {«فَابْعَثُوا»} هنا مسائل:
1 - قيل: الخطاب في قوله {«فَابْعَثُوا»} للزّوجين، وقيل أهل الزّوجين وقيل للحكّام المتداعي عندهم، وهو المنقول عن الباقر والصادق عليهما السّلام، وهو الأصح لأنّ أوّل الكلام في {«خِفْتُمْ»} يدل عليه.
__________
(1) النساء: 35.(2/213)
2 - هل يشترط رضي الزّوجين بهما بحيث يكون إلزاما لهما بما يحكمان به أم لا؟ قيل نعم، ومنهم من لا يشترط ذلك وهو مذهب مالك.
3 - هل بعثهما تحكيم أو توكيل، قال بعض أصحابنا بالثاني لأنّ البضع حقّ للزوج، والمال حقّ للمرأة، فليس لأحدهما التصرف فيهما إلّا بإذنهما وفيه نظر لأنّه استبعاد في ثبوت الولاية على الرّشيد حين امتناعه من أداء حقّ عليه كما يقضى دين المماطل بغير اختياره.
وقال أكثر أصحابنا بالأوّل محتجّين بأنه قد ورد أنّ لهما الإصلاح من غير استيذان، وليس لهما التفريق إلّا بإذنهما، ولو كان توكيلا لكان ذلك تابعا للوكالة ويدل عليه قوله {«فَابْعَثُوا»} فإنّه خاطب الحكّام، وسمّاهما حكمين، ولو كان توكيلا لخاطب الزّوجين، وقال «فابعثا» وأصل الخلاف مبنيّ على أنّه هل يشترط رضي الزّوجين أم لا؟ فمن شرط رضاهما، قال: هو توكيل، ومن لا يشترط قال هو تحكيم.
4 - هل يجوز البعث لحكمين من غير أهل الزّوجين؟ قيل لا، لأنّ الأهل أعرف بحال الزّوجين وكيفيّة صلاحهما ومحبّتهما وكراهتهما، ولأنّ الأهل يسكن إليه ويطمئنّ إلى حكمه، بخلاف الأجنبيّ، وللآية، وقيل يجوز لأنّ الغرض حصول الصّلاح وتقييد الآية للأغلبية، وهذا هو المشهور بين الأصحاب.
5 - هل للحكمين الجمع والتفريق بغير إذن الزوجين أم لا؟ قيل نعم بناء على اشتراط رضاهما وأنّهما وكيلان، وقيل لهما الجمع وليس لهما التفريق إلّا بعد استيذان المرأة في البذل، والرّجل في الطلاق إن كان خلعا وهذا هو المشهور بين الأصحاب وعليه الفتوى.
وقال بعض أصحابنا: إن جعل الحاكم الإصلاح والطلاق إليهما أنفذا ما رأياه صلاحا، وإن أطلق القول لم يجز التفريق إلّا بعد مراجعتهما وهو كلام حسن بناء على أنّ بعث الحاكم الحكمين بإذنهما واختيارهما، فإنّ الإذن أوّلا كالاذن أخيرا.
6 - لو اختلف الحكمان: بأن اختيار أحدهما الإصلاح، والآخر التفريق لم يمض حكمهما قطعا، وإلّا لزم الترجيح من غير مرجّح أو الجمع بين النقيضين.(2/214)
وقال بعض أصحابنا: إن جعل الحاكم الإصلاح والطلاق إليهما أنفذا ما رأياه صلاحا، وإن أطلق القول لم يجز التفريق إلّا بعد مراجعتهما وهو كلام حسن بناء على أنّ بعث الحاكم الحكمين بإذنهما واختيارهما، فإنّ الإذن أوّلا كالاذن أخيرا.
6 - لو اختلف الحكمان: بأن اختيار أحدهما الإصلاح، والآخر التفريق لم يمض حكمهما قطعا، وإلّا لزم الترجيح من غير مرجّح أو الجمع بين النقيضين.
7 - يشترط في الحكمين: العقل والبلوغ والعدالة والحرّية والذكورة ويلزم كل ما شرطاه من أمر سائغ وإلّا نقض ويلزم الحكم بالصلح، وإن كان أحد الزّوجين غائبا، وقيل لا يلزم، وهو ضعيف فانّ الحكم على الغائب جائز عندنا.
8 - اختلف في ضمير {«إِنْ يُرِيدََا»} وفي {«بَيْنِهِمََا»} قيل هما معا للحكمين أي إن قصدا الإصلاح يوفّق اللََّه بينهما ليتّفق كلمتهما، ويحصل المقصود وقيل للزّوجين فيهما أي إن أرادا الإصلاح وزوال الشقاق بينهما أوقع اللََّه الألفة والوفاق، وفيه تنبيه على أنّ من أصلح نيّته فيما يتحرّاه أصلح اللََّه مبتغاه.
وقيل: الأوّل للحكمين والثاني للزّوجين، ومعناه إن اتّفق الحكمان على الإصلاح يوقع اللََّه الوفاق بين الزّوجين، لأنّ الأمور بأسبابها، وأما إذا أرادا الفساد أو اختلفا، فلا يوفّق اللهب بينهما لعدم سبب الوفاق ولا يستبعد أن يكون إرادتهما للإصلاح سببا للاتّفاق، لأنّ الأعمال بالنيّات.
قوله {«عَلِيماً»} أي بالكلّيات {«خَبِيراً»} أي بالجزئيّات.
السابعة
وَلَنْ تَسْتَطيعُوا انْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسََاءِ
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسََاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلََا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهََا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ غَفُوراً رَحِيماً} (1).
أي لن تستطيعوا أن تعدلوا بين أزواجكم عدلا حقيقيّا بحيث يتساوين في المحبّة والتعهّد والنظر والميل القلبيّ {«وَلَوْ حَرَصْتُمْ»} أي بذلتم جهدكم في حصوله، ولذلك كان رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله يقسم بين نسائه ويقول «اللهم هذه قسمتي
__________
(1) النساء: 129.(2/215)
فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك (1).
قوله {«فَلََا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ»} أي حيث لا يمكن العدل الحقيقيّ، فلا يترك جملة، بحيث تميلوا كلّ الميل، فانّ ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه.
{«فَتَذَرُوهََا كَالْمُعَلَّقَةِ»} أي ليست ذات بعل ولا مطلّقة، دلّت هذه على وجوب القسمة بين النساء والتسوية بينهنّ فيها لكن على سبيل الاجمال، والسنّة الشريفة بيّنت ذلك فنقول: صاحب النكاح الدائم إمّا أن يكون له زوجة واحدة فلها ليلة واحدة من الأربع والثلاث له يضعها حيث يشاء، وإن كان له زوجتان فلهما ليلتان وله ليلتان، وإن كان له ثلاث فله واحدة وإن كان له أربع فلا يفضل له شيء ويجوز القسمة أكثر من ليلة أمّا أقلّ فلا، لما فيه من التنغيص.
قوله {«وَإِنْ تُصْلِحُوا»} يعني بين الأزواج وتسوّوا بينهنّ {وَتَتَّقُوا} الجور في ذلك {«فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ غَفُوراً»} لكم ما مضى {«رَحِيماً»} بكم.
روي عن الصّادق عليه السّلام أنّ النبي صلّى الله عليه وآله كان يقسم بين نسائه في مرضه فيطاف به عليهنّ وروي أنّ عليّا عليه السّلام كان له امرأتان فإذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الأخرى (2).
الثامنة
وَانِ امْرَأةٌ خََافت مِنْ بَعْلِهََا نُشُوزا
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خََافَتْ مِنْ بَعْلِهََا نُشُوزاً أَوْ إِعْرََاضاً فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِمََا أَنْ يُصْلِحََا بَيْنَهُمََا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (3).
كانت بنت محمّد بن مسلمة عند رافع بن خديج وقد دخلت في السنّ وكانت عنده امرأة شابّة سواها فطلّقها تطليقة حتّى إذا بقي من أجلها يسير قال لها: إن شئت
__________
(1) سنن ابى داود ج 1ص 492، ورواه الطبرسي في المجمع ج 3ص 121.
(2) رواه الطبرسي في المجمع ج 3ص 121.
(3) النساء: 128.(2/216)
راجعتك وصبرت على الأثرة، وإن شئت تركتك، فقالت: بل راجعني وأصبر على الأثرة، فراجعها بذلك الصلح روي ذلك عن الباقر عليه السّلام.
وقيل إنّ سودة بنت زمعة زوجة النبيّ صلّى الله عليه وآله خشيت أن يطلّقها رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالت: لا تطلّقني وأجلسني مع نسائك ولا تقسم لي واجعل يومي لعائشة، فنزلت الآية عن ابن عباس رضي الله عنه (1) وقد تقدّم معنى خوف النشوز والاعراض وفي الآية دلالة على جواز الصّلح عن ترك القسمة، وجعل عوض الصلح منفعة.
ثمّ قال {«وَالصُّلْحُ خَيْرٌ»} و «خير» يحتمل أن يكون هنا أفعل التفضيل، أي خير من الفرقة. ويحتمل أن تكون جملة معترضة أي خير عظيم أو خير من الخيرات كما أنّ الخصومة شرّ من الشرور.
قوله {«وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ»} جملة معترضة أيضا، ولذلك لم يجانس ما قبلها، والجملة الأولى مرغّبة في الصّلح، والثانية لتمهيد العذر في المماكسة ومعنى إحضار الأنفس الشحّ كونها مطبوعة عليه، فلا يكاد تسمح المرأة بالاعراض عنها والتقصير في حقّها، ولا الرّجل بالإمساك لها والإنفاق عليها مع كراهية لها وتمام الآية ظاهر.
التاسعة
اسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلََا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولََاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتََّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعََاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ََ} (2).
أي أسكنوهنّ مكانا من سكناكم قوله {«مِنْ وُجْدِكُمْ»} أي من وسعكم ممّا تطيقون ولا تضاروهنّ في السّكنى لتضيّقوا عليهنّ فتلجئوهنّ إلى الخروج،
و__________
(1) راجع الدر المنثور ج 2ص 232، مجمع البيان ج 3ص 120.
(2) الطلاق: 6.(2/217)
التعاسر التضايق، وهنا أحكام:
1 - وجوب [كون] السكنى للمطلّقات إجمالا من غير بيان كونه رجعيّا أو بائنا لكنّ السنّة الشريفة بيّنت ذلك فنقول: المطلقة الحائل إمّا رجعيّة وسيأتي بيان الرّجعي إن شاء الله، فهذه يستحقّ الإنفاق والإسكان كما كانت، مدّة العدّة، ويدل عليه إطلاق الآية، وإمّا بائنة فقال أبو حنيفة لها أيضا النفقة والسكنى، وهو مرويّ عن عمرو ابن مسعود وقال الشافعي إنّ لها السّكنى لا غير، وقال الحسن وأبو ثور إنّه لا سكنى لها ولا نفقة، وهو مذهب أصحابنا نقلا عن الأئمّة عليهم السّلام وأيضا نقل ذلك من طريق الجمهور عن الشعبيّ والزّهري في قضيّة فاطمة بنت قيس، فيكون إطلاق الآية مخصوصة بالمطلّقة الرجعيّة.
2 - أنّه يجب أن يكون المسكن ممّا يليق بها كافيا لينتفي المضارّة المنهيّ عنها بقوله {«وَلََا تُضآرُّوهُنَّ»}.
3 - المطلقة الحامل تستحقّ السكنى والنفقة إجماعا، بائنا كانت أو رجعيّة لإطلاق الآية من غير تقييد.
ثمّ اختلف الفقهاء في نفقة الحامل البائن، هل النفقة لها أو للحمل؟ فقيل:
النفقة للحمل إذ لولاه لما كان لها شيء، فقد دار الوجوب مع الحمل وجودا وعدما وهو الأقوى، وقيل: للحامل بشرط الحمل، ويظهر الفائدة في مسائل كثيرة منها عدم وجوب قضائها على الأوّل، ومنها وجوبها على الجدّ وغير ذلك.
4 - أنّ الحامل إذا وضعت وانقضت عدّتها لا يجب عليها إرضاع الولد وسقطت نفقتها بخروج العدّة، فإن تبرّعت بإرضاع الولد فلا بحث وإلّا يجب على الأب أجرة رضاعه لقوله تعالى {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وفيه دلالة على جواز الاستيجار على الرضاع قوله {«وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ»} أي ليأمر بعضكم بعضا بالجميل في إرضاع الولد بأن لا يقع بخس على الوالد: بأن يؤخذ منه أزيد من الأجر، ولا الوالدة بأن ينقص من أجرها، ولا الولد بأن يرضع أقلّ من المقدّر الشرعيّ.
5 - قوله {«وَإِنْ تَعََاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ََ»} فيه دلالة على جواز أخذ الولد من الام واستيجار مرضعة أخرى، وذلك ليس على إطلاقه بل إن تبرّعت فهي أحق، وكذا إن رضيت بما يرضى به الغير، وأمّا إذا لم يرض وهو المراد بالتعاسر، فيقدّم حق الزّوج، لأصالة البراءة ويسلمه إلى أخرى ترضعه، وهل يسقط ذلك حضانة الأمّ؟ فيه خلاف، قيل نعم، لحصول الحرج، وقيل لا، لتغاير الموضوعين.(2/218)
4 - أنّ الحامل إذا وضعت وانقضت عدّتها لا يجب عليها إرضاع الولد وسقطت نفقتها بخروج العدّة، فإن تبرّعت بإرضاع الولد فلا بحث وإلّا يجب على الأب أجرة رضاعه لقوله تعالى {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وفيه دلالة على جواز الاستيجار على الرضاع قوله {«وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ»} أي ليأمر بعضكم بعضا بالجميل في إرضاع الولد بأن لا يقع بخس على الوالد: بأن يؤخذ منه أزيد من الأجر، ولا الوالدة بأن ينقص من أجرها، ولا الولد بأن يرضع أقلّ من المقدّر الشرعيّ.
5 - قوله {«وَإِنْ تَعََاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ََ»} فيه دلالة على جواز أخذ الولد من الام واستيجار مرضعة أخرى، وذلك ليس على إطلاقه بل إن تبرّعت فهي أحق، وكذا إن رضيت بما يرضى به الغير، وأمّا إذا لم يرض وهو المراد بالتعاسر، فيقدّم حق الزّوج، لأصالة البراءة ويسلمه إلى أخرى ترضعه، وهل يسقط ذلك حضانة الأمّ؟ فيه خلاف، قيل نعم، لحصول الحرج، وقيل لا، لتغاير الموضوعين.
العاشرة
لِيُنْفِق ذو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمََّا آتََاهُ اللََّهُ لََا يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلََّا مََا آتََاهََا سَيَجْعَلُ اللََّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (1).
هنا فوائد:
1 - رجحان التوسعة على العيال لقوله {«مِنْ سَعَتِهِ»}.
2 - الأمر بالاقتصاد للمعسرين لقوله {«وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ»} أي ضيق عليه رزقه {«فَلْيُنْفِقْ مِمََّا آتََاهُ اللََّهُ»}.
3 - الإخبار بأنّ اللََّه «لا يكلّف نفسا {إِلََّا مََا آتََاهََا»} وفيه دلالة على سقوط النّفقة في الحال عن المعسر.
4 - الوعد باليسر بعد العسر، وفيه تطيب لنفس المنفق والمنفق عليه.
5 - قال المعاصر: في هذه والّتي قبلها دلالة على أنّ المعتبر في النفقة حال الزوج لا حال الزوجة، ولذلك أكّده بقوله {«لََا يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلََّا مََا آتََاهََا»} إذ لو كان المعتبر حال الزوجة، لأدّى ذلك في بعض الأوقات إلى تكليف ما لا يطاق، بأن تكون ذات شرف والزّوج معسر.
وعندي فيه نظر: أما أوّلا فلفتوى الأصحاب أنّه يجب القيام بما يحتاج إليه المرأة من إطعام أو كسوة وإدام وإسكان تبعا لعادة أمثالها. وأمّا ثانيا فللمنع من دلالة الآيتين على المدّعى أمّا الأولى فلأنّه نهى فيها عن المضارة لهنّ فلو
__________
(1) الطلاق: 7.(2/219)
اعتبرنا حال الزوج لزم مضارّتها في بعض الأحوال كما قال في الزّوج بأن يكون معسرا وهي شريفة وهو خلاف مدلول الآية وأمّا الثانية فلأنّ قوله {«لََا يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلََّا مََا آتََاهََا»} قابل للتقييد أي في الحال الّتي قدر فيها الرزق، وحينئذ جاز أن يكون الواجب عليه ما هو عادة أمثالها فيؤدّي ما قدر عليه الآن، ويبقى الباقي دينا عليه، ولذلك اتّبع الكلام بقوله {«سَيَجْعَلُ اللََّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً»}.
النوع الرابع في أشياء من توابع النكاح
وفيه آيات:
الاولى
قُلْ لِلْمُؤمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ ابْصََارِهِمْ
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصََارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذََلِكَ أَزْكى ََ لَهُمْ إِنَّ اللََّهَ خَبِيرٌ بِمََا يَصْنَعُونَ} (1).
غضّ البصر هو ترك النظر، والمراد هنا ترك النظر إلى الأجنبيّات ومقول القول محذوف أي قل لهم غضّوا يغضّوا، فيكون يغضّوا في الآية جوابا للأمر المحذوف وكذلك {«يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ»} تقديره قل لهم احفظوا فروجهم يحفظوا.
و «من» عند الأخفش زائدة، وهو ضعيف لضعف زيادتها في الإثبات إلّا شاذا وعند سيبويه هي للتبعيض وهو الحقّ فإنه لا يجب الغض عن جميع المحرّمات فإنّه قد يجوز النظر إلى ما عدا عورة المحارم وإلى ما يظهر في العادة من وجوه الأجنبيّات وأكفّهنّ حال الضّرورة، وكذا إلى وجوه الإماء المستعرضات للبيع وكذا الطبيب للعلاج، والشاهد لتحمّل الشهادة وإقامتها، والنظر إلى المخطوبة مع إمكان نكاحها شرعا وعرفا، ويقتصر على نظر الوجه، وكذا النظرة الاولى من
__________
(1) النور: 30.(2/220)
غير لذّة أو ريبة لقوله صلّى اللََّه عليه وآله (1) «لكم أوّل نظرة فلا تتبعوها بالثانية فتهلكوا».
وأمّا حفظ الفرج فهو أضيق من الغضّ لاختصاص التحريم بمن عدا الزّوجة وملك اليمين، فلذلك لم يقل: من فروجهم، ولمّا كان المستثنى من الفرج كالشاذّ النادر، أطلقه ولم يقيّده بخلاف الغضّ.
وقيل: إنّ المراد هنا بحفظ الفرج ستره، بحيث لا ينظر إليه أحد، وهو مرويّ عن الصادق عليه السّلام {«ذََلِكَ أَزْكى ََ لَهُمْ»} أي الغضّ والحفظ أطهر لهم من النجاسات النفسانيّة، لأنّ النظر يدعو إلى الجماع وتوابعه وكلّها من الأجنبيّات محرّم، قوله {«إِنَّ اللََّهَ خَبِيرٌ»} فيه نوع من التهديد.
الثانية
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنََاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ ابْصََارِهِنَّ
{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنََاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصََارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلََا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلََّا مََا ظَهَرَ مِنْهََا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى ََ جُيُوبِهِنَّ وَلََا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلََّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبََائِهِنَّ أَوْ آبََاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنََائِهِنَّ أَوْ أَبْنََاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوََانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوََانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوََاتِهِنَّ أَوْ نِسََائِهِنَّ أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُنَّ أَوِ التََّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجََالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى ََ عَوْرََاتِ النِّسََاءِ وَلََا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مََا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللََّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2).
هنا فوائد:
1 - أنّ حكم النساء حكم الرّجال في وجوب غضّ الطّرف وحفظ الفرج
__________
(1) لم نعثر على لفظ الحديث وانما وجدنا قوله صلّى اللََّه عليه وآله: يا على! لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الاولى وليست لك الآخرة كما في سنن ابى داود ج 1ص 496 ومثله في الوسائل ب 104من أبواب مقدمات النكاح.
(2) النور: 31.(2/221)
وقد تقدّم تفسير ذلك وعلّة الإتيان بمن في الأوّل دون الثاني.
روي عن أمّ سلمة أنّها قالت كنت أنا وميمونة عند رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله فدخل علينا ابن أمّ مكتوم بعد آية الحجاب، فقال النبي صلّى اللََّه عليه وآله لنا: احتجبا فقلنا: يا رسول اللََّه إنّه أعمى؟ فقال: أفعميا وان أنتما؟ ألستما تبصرانه (1) وإنّما قدّم غضّ الطرف على حفظ الفرج لكونه مقدّما عليه داعيا إلى الجماع.
2 - تحريم إبداء الزينة، فقيل المراد مواقعها على حذف المضاف لأنفس الزينة، لأنّ ذلك يحل النظر إليه كالحليّ والثياب والأصباغ، وقيل: المراد نفسها ويظهر لي أنّ المراد نفس الزينة، وإنّما حرم النظر إليها إذ لو أبيح لكان وسيلة إلى النظر إلى مواضعها، وأمّا ما ظهر منها فليس بمحرّم، للزوم الحرج المنفيّ في الدّين.
3 - قيل المراد بالظاهرة الثّياب فقط وهو الأصحّ عندي لإطباق الفقهاء على أنّ بدن المرأة كلّها عورة إلّا على الزّوج والمحارم، فعلى هذا المراد بالباطنة الخلخال والسوار والقرط، وجميع ما هو مباشر للبدن ويستلزم نظره نظر البدن.
وأمّا باقي الأقوال في ذلك، فهي أنّه الوجه والكفّان، أو الكحل والخضاب أو الخاتم، وأنّه إنّما تسومح فيها للحاجة إلى كشفها، فضعيفة لا تحقيق لها، فإنّه إن حصل ضرورة ولزم حرج فذلك هو المبيح لا الآية، وإلّا فلا وجه لذلك.
4 - الخمر جمع خمار وهي المقنعة، والمراد بضربها إسدالها على الصدر والعنق سترا لهما، وتغييرا لعادة الجاهليّة في لبس المخانق، مع كشف الصدر وما فوقه.
5 - أنّه لمّا نهى عن إظهار الزينة مطلقا عدا الظاهرة، أشار إلى تخصيص ذلك بإباحته للبعولة والمحارم المذكورين أمّا البعولة فلأنّ ذلك يدعو إلى المباشرة
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي وصححه والنسائي والبيهقي في سننه عن أم سلمة كما في الدر المنثور ج 5ص 42.(2/222)
المقصودة وأمّا المحارم فوجه اختصاصهم احتياجهم إلى مداخلتهم، وعدم خوف الفتنة من جهتهم، لما في الطباع من النفرة عن مماستهم، واحتياج المرأة إلى مصاحبتهم في الأسفار للركوب والنزول، ويدخل أجداد البعولة وأحفادهم لأنّهم أيضا آباء وأبناء وإنّما لم يذكر الأعمام والأخوال؟ قيل لئلّا يصفها العمّ والخال لا بينهما فيكون الوصف كالنظر، وقيل لأنّهم في معنى الاخوان.
6 - إنّه أباح إظهار الزينة لنسائهنّ أي النساء المسلمات دون الكافرات لأنهنّ لا يتحرّجن من وصفهنّ للرجال.
7 - اختلف في المراد بملك اليمين هنا، فقيل بعمومه الذكر والأنثى، وهو رأي عائشة، وبه قال الشافعيّة، وقال سعيد بن المسيّب أنّه الإماء خاصّة، ولا يباح نظر المذكّر سواء كان فحلا أو خصيّا وبه قال أبو حنيفة حتّى قال إنّه لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم وينبغي أن يحمل ذلك على بيعهم لأجل إدخالهم على النساء، لأنّ ما كان لأجل المحرّم فهو محرّم، كبيع العنب ليعمل خمرا، والفتوى على الثاني.
إن قلت: على تفسيركم هذا يكون تكرارا لأنّ الإماء يدخلن في نسائهنّ قلت: قد بيّنّا أنّ المراد المسلمات دون الكافرات، فعلى هذا يكون نظر الإماء مباحا وإن كنّ كافرات، فإنهنّ لدخولهنّ تحت القهر لا يحكين ما يرين.
8 - أنّه يباح النظر للتابعين (1) وهم الّذين يتبعون لأجل العافية والانتفاع والخدمة وقيل المراد الشيوخ الّذين سقطت شهوتهم، وليس لهم حاجة إلى النساء وهو المروي عن الكاظم عليه السّلام.
والإربة، قيل هي الحاجة وقيل هم البله الّذين لا يعرفون شيئا من أمور النساء، وهو مرويّ عن الصادق عليه السّلام وابن عباس، وعن الشافعيّ هو الخصيّ المجبوب، ولم يسبق إلى هذا القول، وعن أبي حنيفة هم العبيد الصغار، وقرئ
__________
(1) الى التابعين، خ ل.(2/223)
«غير» بالنصب على الحال، وبالجرّ صفة للتابعين.
قوله {«أَوِ الطِّفْلِ»} ذلك يصدق على الواحد والجمع كقوله تعالى {«ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا»} قوله {«لَمْ يَظْهَرُوا»} أي لم يطّلعوا على العورة، فيميّزون بينها وبين غيرها.
9 - كانت الجاهليّات يضربن بأرجلهنّ على الأرض ليسمع صوت خلخالهنّ فنهى المسلمات عن ذلك لأنّه في حكم النظر فإنّه قد يورث ميلا في الرجال فهو أبلغ في النهي عن إظهار الزينة، قوله {«وَتُوبُوا»} أي عن إبداء الزينة وغلّب التذكير في العبارة.
الثالثة
يََا ايُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لِيَسْتأذنْكُمُ الَّذينَ مَلَكَتْ ايْمََانُكُمْ
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلََاثَ مَرََّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلََاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيََابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلََاةِ الْعِشََاءِ ثَلََاثُ عَوْرََاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلََا عَلَيْهِمْ جُنََاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوََّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى ََ بَعْضٍ كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمُ الْآيََاتِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1).
هنا فوائد:
1 - أنّه خاطب المؤمنين أن يأمروا عبيدهم وأطفالهم المميّزين [بين] العورة وغيرها حيث أمرهم إليهم، بأن يستأذنوا في دخولهم عليهم في هذه الأوقات الثلاثة، فهو بالنسبة إلى البالغين تكليف، وبالنسبة إلى الأطفال تمرين، وكان قد تقدّم الأمر بالاستيذان العامّ وهذا استيذان خاصّ وهل الإماء أيضا مأمورات؟
قيل نعم وغلب المذكّرين بقوله «الّذين» وقيل: لا، وهو مرويّ عن الباقر والصادق عليهما السّلام.
2 - إنّما اختصّت هذه الأوقات الثلاثة لأنّها مظنّة كشف العورة أمّا قبل الفجر، فإنّه وقت القيام من المضجع، وتبديل لبس اللّيل بلبس النهار، وأمّا
__________
(1) النور: 58.(2/224)
وقت الظهيرة فإنّه وقت القيلولة ومظنّة ظهور العورة وأمّا وقت العشاء فإنّه وقت تبديل لبس النهار بلبس اللّيل.
3 - قوله {«لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلََا عَلَيْهِمْ جُنََاحٌ»} جواب سؤال [مقدّر] محذوف تقديره: وما حكم الأوقات الأخر وراء هذه الأوقات؟ أجاب بأنّه ليس عليكم ولا عليهم جناح في ترك الاستيذان، لزوال سبب الاستيذان وهو مظنّة كشف العورة والضمير في {«بَعْدَهُنَّ»} للأوقات الثلاث.
4 - قوله {«طَوََّافُونَ عَلَيْكُمْ»} هو تعليل في المعنى لعدم الاستيذان فيما عدا الأوقات الثلاثة، لاستلزام الاستئذان في ذلك الحرج، لأنّه لا بدّ من المخالطة بين هؤلاء وهؤلاء للخدمة والاستخدام، والاستيذان حينئذ مستلزم للحرج «و {طَوََّافُونَ»} خبر مبتدأ محذوف أي هم: طوّافون، وإنّما لم يكتف بهذا بل قال {«بَعْضُكُمْ عَلى ََ بَعْضٍ»} لأنّه ليس أحد الفريقين أولى بالطواف دون الآخر بل هو شامل لهما معا هؤلاء لطلب الخدمة، وهؤلاء لطلب الاستخدام، فانّ الخادم إذا غاب عن عين مخدومه واحتاج المخدوم إليه، لا بدّ أن يطوف ويطلبه وكذا حكم الأطفال للتربية فيكون {«بَعْضُكُمْ»} بدلا من {«طَوََّافُونَ»} والمبدل منه ساقط لا أنّه مرفوع بالابتداء وخبره على بعض، كما قيل، وقرأ أهل الكوفة غير حفص «ثلاث» بالرفع خبرا للمبتدإ المحذوف أي هذه، والباقون بالنصب بدلا «من ثلاث مرات» لاشتمال هذه الأوقات على ثلاث كشفات للعورة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الاعراب والجمع.
الرابعة
وَإذََا بَلَغَ الاطْفََالُ مِنْكُم الْحُلُمَ
{وَإِذََا بَلَغَ الْأَطْفََالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمْ آيََاتِهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1).
{«مِنْكُمُ»} في موضع النصب على الحال أي كائنين منكم، والخطاب للأحرار
__________
(1) النور: 59.(2/225)
لأن بلوغ الأحرار يوجب رفع الحكم المذكور في تخصيص الاستيذان بالأوقات الثلاثة وأما بلوغ الأرقّاء، فالحكم باق كما كان في التخصيص لأجل بقاء السبب المذكور.
قوله {«مِنْ قَبْلِهِمْ»} معناه كالّذين بلغوا من قبلهم وهم الأحرار البالغون لا الّذين ذكروا من قبلهم في قوله {«يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتََّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى ََ أَهْلِهََا} (1)» كما قال الزمخشريّ والطبرسيّ لعدم القرينة في هذه الإضمار، وأمّا قرينة البلوغ فموجودة وهي قوله {«وَإِذََا بَلَغَ الْأَطْفََالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ»}.
وظنّ قوم أنّ الآية منسوخة، وليست كذلك قال ابن جبير: يقولون: هي منسوخة، لا واللََّه ما هي منسوخة لكنّ النّاس تهاونوا بها، وقيل للشعبيّ: إنّ الناس لا يعملون بها، فقال: اللََّه المستعان.
الخامسة
وَالْقَوََاعِدُ مِنَ النِّسََاءِ
{وَالْقَوََاعِدُ مِنَ النِّسََاءِ اللََّاتِي لََا يَرْجُونَ نِكََاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنََاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيََابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجََاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللََّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2).
المراد به اللّاتي يئسن من المحيض والولد، ولا يطمعن في نكاح لكبر سنّهنّ فقد قعدن عن التزويج لعدم الرغبة فيهنّ، والمراد بالثياب ما يلبس فوق الخمار من الملاحف وغيرها، فإنّه رخّص لهنّ وضع هذه الثياب للأجانب لعدم رغبتهم فيهنّ وزوال التهمة والتبرّج: التبرّز، وهو من الأفعال اللّازمة.
قوله «غير» هو نصب على الحال من «أن يضعن» والمعنى أنّهنّ إذا خرجن
__________
(1) النور: 27.
(2) النور: 60.(2/226)
من بيوتهنّ بالزينة الّتي يجب سترها من الحليّ وثياب التجمل، لا يترخّص لهنّ وضع ثيابهنّ {«وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ»} أي العفاف بالستر خير لهنّ لأنّ وضع ثيابهنّ رخصة لهنّ فتركها خير، وفي ضمنه أنهنّ لو تبرّجن بغير زينة لا جناح عليهنّ إذا لم يضعن ثيابهنّ، والباء في «بزينة» ليس للتعدية، بل للمصاحبة وذلك لأنّ خروجهنّ بالزينة يدل على أنهنّ متبرّجات وداعيات للشوابّ إلى التبرّج لا طالبات لحاجاتهنّ.
السادسة
يََا ايُّهَا النََّاسُ انََّا خَلَقْنََاكُمْ مِنْ ذَكَر وَانْثى ََ
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنََّا خَلَقْنََاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ََ وَجَعَلْنََاكُمْ شُعُوباً وَقَبََائِلَ لِتَعََارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللََّهِ أَتْقََاكُمْ إِنَّ اللََّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (1).
قال المعاصر: في هذه دلالة على أنه إذا خطب المؤمن القادر على النفقة يجب إجابته وإن كان أخفض نسبا وكذا يجب على الوليّ إلّا مع العدول إلى الأفضل من الخاطبين، وعندي في دلالتها على ذلك نصّا أو ظاهرا نظر، أمّا النصّ فظاهر وأمّا الظاهر فلأنّ دلالتها ظاهرا ليس إلّا على تساوي الأشخاص من حيث المادّة والصورة النسبيّة، وأنّه لا فضل لأخذ على غيره إلّا بالتقوى، وذلك ليس بنفسه دالّا على وجوب الإجابة عند الخطبة بل مع انضمام دليل آخر إليه وهو قوله صلّى اللََّه عليه وآله في خطبته لمّا قال: يا أيّها الناس هذا جبرئيل يخبرني أنّ البنات كالثمر وأنّ الثمر إذا أدرك ولم يقطف فسد، كذلك البنات إذا بلغن ولم يزوّجن فسدن.
فقالوا لمن نزوّج يا رسول اللََّه؟ قال الأكفاء قالوا: وما الأكفاء؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه فزوّجوه، (2) فدلّ على أرجحية الأتقى على غيره في المنزلة وأنه إذا تعارض خاطبان متساويان في الدّين استحبّ إجابة الأتقى منهما لقوله {«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللََّهِ أَتْقََاكُمْ»}.
__________
(1) الحجرات: 13.
(2) الكافي ج 5ص 337.(2/227)
السابعة: قوله {وَثِيََابَكَ فَطَهِّرْ} (1).
قال المعاصر قيل: أريد بالثياب الزّوجات لقوله {«هُنَّ لِبََاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبََاسٌ لَهُنَّ»} فينبغي أن يتخيّر لنفسه من النساء العفيفة الكريمة الأصل، ويؤيّده قوله {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبََاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لََا يَخْرُجُ إِلََّا نَكِداً} (2).
قلت وعندي فيه نظر لمنع دلالتها على ذلك، فانّ الثياب حقيقة في الساتر للجسد، واستعمال اللّباس في النساء مجازا في موضع لا يستلزم استعماله في غيره لأنّ المجاز لا يطّرد كما تقرّر في الأصول وأيضا الطهارة حقيقة في استعمال الماء فاستعمالها في غير ذلك مجاز، والأصل عدمه، نعم يدلّ على المطلوب قوله صلّى اللََّه عليه وآله «تخيّروا لنطفكم» (3) وكذا قوله {الزََّانِي لََا يَنْكِحُ إِلََّا زََانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} (4) أي لا يرغب إلّا في نكاح الزانية، وفي ذلك دلالة على استحباب اختيار العفيفة، وكراهة اختيار غيرها، وكذلك قوله {الطَّيِّبََاتُ لِلطَّيِّبِينَ} (5) وهو خبر في معنى الأمر.
الثامنة
نِسََاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ
{نِسََاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنََّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللََّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلََاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (6).
قالوا: فيها دلالة على جواز الوطي في الدّبر، وتحرير القول هنا أن نقول:
أكثر المخالفين منعوا منه، وأجازه مالك قال: ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنّ وطي المرأة في دبرها حلال ثمّ قرأ الآية المذكورة.
وأمّا أصحابنا فلهم في ذلك روايتان إحداهما التحريم، وهو قول الصّادق
__________
(1) المدثر: 4.
(2) الأعراف: 58.
(3) الكافي ج 5ص 332باب اختيار الزوجة الرقم 2.
(4) النور: 3.
(5) النور: 26.
(6) البقرة: 223.(2/228)
عليه السّلام قال النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله «محاشّ النساء على أمّتي حرام» (1) وثانيتها الحلّ وهو رواية عبد اللََّه بن أبي يعفور في الصحيح عن الصادق عليه السّلام قال سألته عن الرّجل يأتي المرأة في دبرها قال لا بأس (2) وأفتى به أكثر علمائنا.
واحتجّوا لتأييد ذلك بآيات:
1 - هذه الآية {نِسََاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنََّى شِئْتُمْ} ولفظ «أنّى» للمكان كائن يقال اجلس أنّى شئت أي أيّ موضع شئت.
إن قيل: يحمل على القبل لكونه موضع الحرث، قلنا إنّما يصح ذلك أن لو كان الحرث اسما للقبل، وأمّا إذا كان اسما للنساء فلا، كيف ولو حمل على القبل فقطّ لزم تحريم التفخيذ أيضا ولا قائل به.
2 - قوله {هََؤُلََاءِ بَنََاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} (3) وجه الاستدلال أنّه علم رغبتهم في الدّبر فيكون الاذن مصروفا إلى تلك الرغبة.
3 - قوله {أَتَأْتُونَ الذُّكْرََانَ مِنَ الْعََالَمِينَ وَتَذَرُونَ مََا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوََاجِكُمْ} (4) وفي هذين نظر لجواز أن يكون أمرهم بالاستغناء بالنساء لأنّ قضاء الوطر يحصل بهنّ وإن لم يكن مماثلا كما يقال: استغن بالحلال عن الحرام، وأيضا فإنّه غير شرعنا فلا يكون حجّة في شرعنا.
4 - قوله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حََافِظُونَ إِلََّا عَلى ََ أَزْوََاجِهِمْ أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (5) وجه الاستدلال أنّه أمر بحفظ الفروج مطلقا ثمّ
__________
(1) الفقيه ج 2ص 152، التهذيب ج 2ص 230.
(2) التهذيب ج 2ص 230.
(3) هود: 78.
(4) الشعراء: 165.
(5) المؤمنون: 6.(2/229)
استثنى الأزواج فيسقط التحفّظ في الطرفين مطلقا ولأنّه منفعة تتوق النفس إليها عارية عن مانع عقلي أو شرعي، فتكون مباحة، أمّا الأولى فلأنّه الفرض، وأمّا الثانية فظاهر إذ لا مانع عقليّ وأمّا الشرعيّ فلما يأتي في جواب المانع.
احتجّوا بقوله {فَإِذََا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللََّهُ} (1) والمأمور به هو القبل، برواية أبي هريرة عنه صلّى اللََّه عليه وآله «لا ينظر اللََّه إلى رجل جامع امرأته في دبرها» (2) وبرواية خزيمة عنه صلّى اللََّه عليه وآله «أنّ اللََّه لا يستحيي من الحقّ» قالها ثلاثا «لا تأتوا النّساء في أدبارهنّ» (3).
والجواب عن الآية المنع من دلالتها على موضع النزاع، فانّ المراد بالأمر الإباحة، والمكروه مباح، فيكون التقدير من حيث أباحكم، إن قيل إنّ الأمر حقيقة في الوجوب قلنا فحينئذ يكون المأمور به القبل ولا يدلّ على المنع من إباحة الآخر على أنّا نقول إنّ ذلك متروك الظاهر بالإجماع، فإنّه لا يجب أن يطأ عقيب الطهارة، بل ولا يستحبّ بل يباح وأبو هريرة كذّاب ويروى أنّ عمر أدّبه على كذبه بالدّرّة، مع أنّه لا يلزم منه التحريم، لجواز عدم النظر، لكراهته وخبر خزيمة خبر واحد، مع أنّه معارض بأخبار كثيرة من طرق أهل البيت عليهم السّلام (4).
قوله: و {«قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ»} قيل: المراد التسمية عند الجماع، وقيل:
__________
(1) البقرة: 222.
(2) رواه في شرح السنة على ما في مشكاة المصابيح ص 276وقد روى مثله عن ابن عباس.
(3) أخرجه الشافعي في الأم وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وابن ماجة وابن المنذر والبيهقي في سننه من طرق راجع الدر المنثور ج 1ص 264.
(4) راجع الوسائل ب 73من أبواب مقدمات النكاح، وقد روى من طرق أهل السنة روايات كثيرة في الجواز كما في الدر المنثور ج 1ص 267265.(2/230)
الدّعاء عند الجماع، وقيل طلب الولد، فانّ اقتناء الولد الصالح تقديم لثواب عظيم «قال صلّى اللََّه عليه وآله إذا مات المؤمن انقطع عمله إلّا من ثلاث: ولد صالح يدعو له وصدقة جارية بعده، وعلم ينتفع به» (1) وباقي الآية ظاهر.
التاسعة
وَالْوََالِداتُ يُرْضِعْنَ اوْلََادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كََاملَيْنِ
{وَالْوََالِدََاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلََادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كََامِلَيْنِ لِمَنْ أَرََادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضََاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لََا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلََّا وُسْعَهََا لََا تُضَارَّ وََالِدَةٌ بِوَلَدِهََا وَلََا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوََارِثِ مِثْلُ ذََلِكَ فَإِنْ أَرََادََا فِصََالًا عَنْ تَرََاضٍ مِنْهُمََا وَتَشََاوُرٍ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِمََا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلََادَكُمْ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ إِذََا سَلَّمْتُمْ مََا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللََّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (2).
في هذه الآية أحكام:
1 - أنّ الوالدات ينبغي لهنّ أن يرضعن أولادهنّ لأنّ هذه الجملة خبر في معنى الأمر تقديره ليرضعن أولادهنّ إذ لا جائز أن يكون على الخبريّة، وإلا لزم الكذب، فإنّه قد يرضعن أزيد وأنقص، وليس الأمر للوجوب لأصالة البراءة بل لمطلق الرجحان، الشامل له وللندب، فقد يكون واجبا كما إذا لم يرتضع الصبيّ إلّا من امّه، أو لم يوجد ظئر، أو عجز الوالد عن الاستيجار أو إرضاع اللّباء وهو أوّل لبن يجيء بعد الولادة فإنّه يجب عليها إرضاعه إيّاه، قيل لأنّه لا يعيش بدونه، وقد يكون مندوبا كما إذا لم يحصل أحد الأسباب الموجبة فإنّه أفضل ما يرضع لبن امّه، ويستحب لها أن تفعل ذلك.
__________
(1) مجمع البيان ج 2ص 321.
(2) البقرة: 233.(2/231)
2 - أنّ مدّة الرّضاع حولان، وإنّما قيدهما بالكمال؟ قيل: للتأكيد لجواز إطلاق الحول على بعضه، وقيل: لأنّ الحول قسمان تام وهو الشمسي وناقص وهو القمري لنقصان بعض أشهره، لأنّ التأسيس لا يعدل عنه إلى التأكيد إلّا مع تعذّره، ولم يتعذّر هيهنا.
ويظهر لي أنّ الحول قد استعمل شرعا في أحد عشر شهرا ويوم من الثاني عشر كما في الزكاة، وقد استعمل مع تمام الثاني عشر كما في الدّين المؤجّل حولا فأزال الاحتمال الأوّل بقوله «كاملين».
3 - قوله {«لِمَنْ أَرََادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضََاعَةَ»} اللّام متعلّقة بيرضعن كما تقول:
أرضعت فلانة لفلان ولده، فانّ إرضاعهنّ لأجل أزواجهنّ، لأنّ نفقة الولد على والده، وكذلك يجب أن يتّخذ للولد ظئرا ترضعه إذا امتنعت الامّ من الرضاعة ويجوز فتح راء الرّضاعة وكسرها وقرئ بهما.
وفي ذلك دلالة على أنّ أقصى مدّة الرّضاع حولان وأنّه لا حكم له بعدهما في تحريم النكاح ولا استحقاق الأجرة لو أرضعت بعد استيجاره للرضاع الشرعيّ وأنّه يجوز أن ينقص عن ذلك.
ثمّ اختلف هل هذا التحديد لكلّ مولود أم لا؟ قال ابن عبّاس رضي اللََّه عنه:
ليس لكلّ مولود، ولكن لمن ولد لستّة أشهر وإن ولد لسبعة فثلاثة وعشرون شهرا، وإن ولد لتسعة فأحد وعشرون شهرا، وروى أصحابنا أنّ ما نقص عن أحد وعشرين فهو جور على الصبيّ، وقال الثوريّ وجماعة: هو لازم لكلّ مولود وأنّه إذا اختلف والداه، رجع إلى ذلك، وتفصيل ابن عبّاس حسن، لما فيه من الجمع بين الآيات في قوله {«وَحَمْلُهُ وَفِصََالُهُ ثَلََاثُونَ شَهْراً»} وقوله {«وَفِصََالُهُ فِي عََامَيْنِ»} وبين [مدد] الوقوع فإنّ مدّة الحمل تكون ستّة، وتكون سبعة، وتكون تسعة، وهو الغالب في الوقوع والولد يعيش في هذه المدد، وأمّا في الثمانية فقالوا إنّه لا يعيش.
وعلّل [ذلك بأنّ الحمل إذا كان له سبعة أشهر، طلب الخروج فيضطرب
اضطرابا شديدا، فإذا أفضت حركته إلى الخروج فذاك، وإلّا ضعف بدنه لذلك فان خرج في الثامن خرج ضعيفا فلا يعيش غالبا وإذا استمرّت تلك المدّة يعيش من ضعفه وقوي على البروز في التاسع فيخرج صحيحا (1)].(2/232)
وعلّل [ذلك بأنّ الحمل إذا كان له سبعة أشهر، طلب الخروج فيضطرب
اضطرابا شديدا، فإذا أفضت حركته إلى الخروج فذاك، وإلّا ضعف بدنه لذلك فان خرج في الثامن خرج ضعيفا فلا يعيش غالبا وإذا استمرّت تلك المدّة يعيش من ضعفه وقوي على البروز في التاسع فيخرج صحيحا (1)].
4 - أنّه يجب على الوالد اجرة الرضاع لقوله تعالى {«وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ»} و «على» تستعمل للوجوب كما يقال على فلان دين، وإنّما لم يقل على الزوج لأنّه قد يكون على غير الزّوج كالمطلّق، وفي قوله {«الْمَوْلُودِ لَهُ»} إشارة إلى أنّ الولد في الحقيقة للأب، ولهذا ينسب إليه، ويجب عليه نفقته ابتداء. قوله {«رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ»} أي كمال المؤنة لهنّ والرزق المأكول وقوله {«بِالْمَعْرُوفِ»} أي بما يعرفه أهل العرف من حقّها، وفيه إشارة إلى وجوب اجرة مثلها، وأنّه ليس لها إلّا قدرها، ولا ينقص أيضا عن قدرها ولذلك قال {«لََا تُضَارَّ وََالِدَةٌ بِوَلَدِهََا، وَلََا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ»} فيكون الباء حينئذ للسببيّة، وقيل فيه وجهان آخران:
الأوّل: أي لا توقع به الضرر، بأن تترك إرضاعه تعنّتا أو غيظا على أبيه فإنّها أشفق عليه من الأجنبيّة، ولا يوقع الأب أيضا الضرر بولده بأن ينزعه من امّه ويمنعها من إرضاعه، فتكون المضارّة على هذا بمعنى الإضرار، واتي بفعل المفاعلة الواقعة بين الاثنين مبالغة.
الثاني: أنّ المراد لا يضارّ الوالدة بأن يترك جماعها خوفا من الحمل، ولا هي تمتنع من الجماع خوفا من الحمل أيضا فتضر بالأب، عن الباقر والصادق عليهما السّلام (2).
وفي قوله {«وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ»} إلى آخره إشارة إلى جواز المعاوضة على الرّضاع من الزّوج وهل يجوز استيجارها للرضاع أم لا؟ قال
__________
(1) ما بين العلامتين يوجد في هامش النسخة المطبوعة، وهكذا في متن نسخة مخطوطة عتيقة أوعزنا إليها في مقدمة هذه الطبعة تحت الرقم 1، وأرينا صفحة منها بالفتوغرافية ص 19من المقدمة فراجع وأما سائر النسخ فخالية عن هذه الزيادة.
(2) تفسير العياشي ج 1ص 120تحت الرقم 381و 382من سورة البقرة.(2/233)
أصحابنا والشافعي بجوازه، ومنع أبو حنيفة ذلك ما دامت زوجته أو معتدّة عن نكاح، قال: لأنّ الزّوج يملك منافعها كالأجير الخاصّ. فلا يجوز أن يوقع عليها عقد إجارة، ونحن نمنع تملّكه لمنافعها، ولا يلزم من استحقاقه لمنفعة البضع ملكه لجميع منافعها.
وقيل: في قوله {«لََا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلََّا وُسْعَهََا»} إشارة إلى أنّ النّفقة تعتبر بحال الزّوج وقد تقدّم كلامنا فيه.
5 - أنّ اجرة المرضعة واجبة أيضا على الطفل إذا كان له مال وإليه الإشارة بقوله {«وَعَلَى الْوََارِثِ مِثْلُ ذََلِكَ»} أي وارث الأب وهو الصبي بأن يقوم الوصي أو الحاكم بمؤنتها عوضا عن إرضاعها عند موت الأب من مال يرثه من أبيه.
إن قلت: إن كان للولد مال حياة أبيه كانت المؤنة ثابتة في ماله، فأي فائدة في تقييده بالوارث؟ قلت: الأغلبيّة.
وقيل: الوارث هو الباقي من الأبوين يجب عليه مؤنة إرضاعه، فإنّ الوارث يعبّر به عن الباقي كما في قوله عليه السّلام «اللهمّ متّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منّا (1)» وهو صحيح عندنا لأنّ مع عدم الأب وآبائه يجب النفقة على الامّ، وهو موافق لمذهب الشافعيّ فإنّ عنده لا نفقة على غير الأبوين.
وقيل: إنّ المراد الوارث للصبيّ أو الوارث للأب يجب عليهما ما كان يجب على الأب، وهو بناء على وجوب النفقة على كلّ وارث وهو مذهب ابن أبي ليلي.
وعند أبي حنيفة يجب الإنفاق على الوارث المحرم، وقيل على العصبات وما ذكرناه اولى.
6 - وأنّه لمّا قرّر أنّ مدة الرضاع حولان، أشار إلى أنّه يجوز أيضا الاقتصار على أقلّ من ذلك بقوله {«فَإِنْ أَرََادََا فِصََالًا»} وإنّما قيّده بالتراضي
__________
(1) راجع سراج المنير ج 1ص 316.(2/234)
والتشاور منهما مراعاة لمصلحة الطفل، إذ لو اقتصر على رأي أحدهما جاز أن يقدم على ما يضربه الطفل لغرض مّا وحينئذ يكون للآخر منعه. والتشاور: المشاورة والمشورة والشورى، وهو استخراج الرأي من شرت العسل أي استخرجته.
7 - أنّه لمّا قرّر أنّ {«الْوََالِدََاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلََادَهُنَّ»} أوهم وجوب كونهنّ كذلك وأنّه لا يجوز استرضاع غيرهنّ مطلقا، فأزال ذلك بقوله: وإن أردتم أن تسترضعوا المراضع أولادكم يقال: أرضعت المرأة الطفل واسترضعتها إيّاه تعدّى إلى مفعولين: حذف الأوّل للاستغناء عنه، وإطلاقه يدل على أنّ للزوج أن يسترضع للولد ويمنع الزوجة من الإرضاع، لكن ذلك مناف لقوله {«لََا تُضَارَّ وََالِدَةٌ بِوَلَدِهََا»} فيكون هنا مقيّدا بقيد، وهو تعذّر استرضاع الامّ كانقطاع اللّبن أو غير ذلك.
قوله {«إِذََا سَلَّمْتُمْ»} أي أعطيتم المراضع ما أردتم إيتاءه للوالدات، وليس التسليم للأجرة شرطا في جواز الاسترضاع، بل الغرض التنبيه على أنّ المرضعة ينبغي أن يكون طيّبة النفس، لتقبل على الطفل بقلبها، وتراعي مصلحته حقّ المراعاة.
قوله {«وَاتَّقُوا اللََّهَ»} مبالغة في المحافظة على ما شرّع في أمر الأطفال والمراضع وقوله {«وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»} حثّ وتهديد.
فائدة: دلّ قوله {«وَحَمْلُهُ وَفِصََالُهُ ثَلََاثُونَ شَهْراً»} وقوله {«وَفِصََالُهُ فِي عََامَيْنِ»}
وقوله {«حَوْلَيْنِ كََامِلَيْنِ لِمَنْ أَرََادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضََاعَةَ»} على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر لأنّا إذا أسقطنا حولين، وهما أربعة وعشرون شهرا من ثلاثين شهرا بقي ستّة أشهر، وما أظن أحدا خالف في ذلك وأمّا أكثر الحمل فعندنا عشرة أشهر وعند أبي حنيفة ثلاثون شهرا، ويتأوّل الآية بأنّ كلّ واحد من حمله وفصاله ثلاثون شهرا وعند الشافعيّ أربع سنين، وعند أحمد ومالك ستّة سنين، والكلّ من أقوالهم مناف للوقوع.(2/235)
العاشرة
آية المهر
{وَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ فِيمََا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسََاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللََّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلََكِنْ لََا تُوََاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلََّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَلََا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكََاحِ حَتََّى يَبْلُغَ الْكِتََابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ مََا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (1).
قال أهل البلاغة: التعريض هو إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازا ويرادفه التلويح، كقول السائل: جئتك لا سلّم عليك، والكناية هي الدّلالة على الشيء بذكر لوازمه، كقولك فلان طويل النجاد، كثير الرّماد، إذا عرفت هذا فالآية تشتمل على جمل تتضمّن أحكاما:
1 - أنّه لا حرج في التعريض للمعتدّات بالخطبة، والمراد به هنا كلام يفهم منه الرّغبة في النساء من غير تصريح كقوله ربّ راغب فيك وإنّك لجميلة، وإنّ اللََّه لسائق إليك خيرا وأمثاله، ونفي الحرج في التعريض يستلزم ثبوته في التصريح لهنّ بالخطبة، وهذا فيه إجمال علم تفصيله وبيانه من السنّة الشريفة فنقول:
المعتدّة رجعيّة يحرم التعريض والتصريح لها من الأجنبيّ، وكذا يحرمان لكلّ محرّمة أبدا كالملاعنة والمطلقة تسعا للعدّة من الزوج أمّا من غيره فيجوز التعريض لا التصريح والمعتدّة بائنا يحرم التصريح لها في العدّة من غير الزّوج ويجوز التعريض، وأمّا منه فيجوز له التعريض مطلقا، وأمّا التصريح فيجوز للمختلعة والمفسوخة بعيب أو تدليس ولا يجوز للمطلّقة ثلاثا لا في العدّة ولا بعدها إلّا بعد أن تنكح، وحكم التعريض حكم الاكنان في النفس أي الستر والإضمار، يقال:
كنفته أي سترته.
2 - قوله {«عَلِمَ اللََّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ»} أي في القلب فاذكروهنّ لأنّ تركه غير مقدور، ثمّ إنّه نهى عن المواعدة سرّا أي جماعا ووطيا، لأنّه يسر أي يفعل
__________
(1) البقرة: 235.(2/236)
سرّا، لكونه كلاما فحشا ولا يجوز الخطبة به مطلقا، ثمّ استثنى من قوله {«لََا تُوََاعِدُوهُنَّ»} القول المعروف أي ما فيه تعريض أي لا تواعدوهنّ إلّا مواعدة معروفة أو بقول معروف، وقيل الاستثناء منقطع من قوله {«سِرًّا»} وهو ضعيف لأدائه إلى قولك لا تواعدوهنّ إلا التعريض وهو غير موعود.
3 {«وَلََا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكََاحِ»} هو نهي عن عقدة نكاح المعتدات بالنهي عن لازمه لأنّ الفعل الاختياريّ من لوازمه العزم عليه، والنهي عن اللّازم يستلزم النّهي عن ملزومه، وأصل العزم القطع فانّ العازم قاطع لا يجوّز نقيض مراده والكتاب المكتوب من العدّة، وأجله منتهاه وهنا مسائل:
1 - لا تحرم المخطوبة بتحريم الخطبة.
2 - لو عقد على المعتدّة عالما بالتحريم والعدّة حرمت أبدا مطلقا وإن كان جاهلا ودخل، فكذلك وإلّا فلا.
3 - خصّ الشافعيّة الآية بعدّة الوفاة واختلفوا في عدّة الفراق، وعندنا لا خلاف فيها.
النوع الخامس (في أشياء تتعلق بنكاح النبي صلّى اللََّه عليه وآله وأزواجه)
وفيه آيات:
الاولى
يََا أَيُّها النَّبِيُّ قُلْ لَازْوََاجِكَ انْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيوةَ الدُّنْيََا وَزينَتَهََا
{يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوََاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا وَزِينَتَهََا فَتَعََالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرََاحاً جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَالدََّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللََّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنََاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} (1).
__________
(1) الأحزاب: 28.(2/237)
ذكر لنزولها وجهان: أحدهما في تفسير ينسب إلى الصادق عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله لمّا حصل له الغنائم من خيبر قالت له نساؤه أعطنا من هذه الغنيمة قال قسمتها بين المسلمين بأمر اللََّه فغضبن وقلن لعلّك تظن إن طلّقتنا لا نجد زوجا من قومنا غيرك، فأمر اللََّه تعالى باعتزاله لهنّ والجلوس في مشربة أمّ إبراهيم حتّى حضن فطهرن ثمّ أنزل اللََّه هذه الآية (1).
وثانيهما، قال المفسّرون (2) أنّ أزواجه سألنه شيئا من عرض الدّنيا وطلبن زيادة في النفقة، وآذينه لغيرة بعضهنّ من بعض فآلى رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله منهنّ شهرا فنزلت آية التخيير. وهي هذه، وكنّ يومئذ تسعا: عائشة، وحفصة، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأمّ سلمة بنت أبي أميّة فهؤلاء من قريش، وصفيّة بنت حيّ الخيبريّة، وميمونة بنت الحارث الهلاليّة، وزينب بنت جحش الأسديّة، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة.
فلمّا نزلت طلبهنّ وخيّرهنّ في المفارقة والبقاء، فاخترنه عليه السّلام وأصل «تعال» أن يكون الآمر في مكان مرتفع والمأمور في مكان مستقل ثمّ كثروا ستعير للآمر بإقبال القلب وهو المراد هنا.
والسراح كالسّلام والكلام، بمعنى التسريح والتكليم (3) وهو كناية عن الطلاق ووصفه بالجميل أي يكون لا عن مشاجرة ومخاصمة بين الزّوجين، أو أن يكون من غير إضرار وبدعة، وهنا فوائد:
1 - أنّ التخيير لنسائه بين المقام والمفارقة على التقديرين المذكورين واجب عليه لقوله «قل» والأمر للوجوب، والتخيير هنا كناية عن الطلاق، فمن اختارت الدنيا انفسخ نكاحها وهو من خواصّه.
2 - قيل إنّ المتعة لا يكون إلّا للمطلّقة قبل الدّخول وقبل فرض المهر
__________
(1) تفسير القمي ص 529.
(2) مجمع البيان ج 8ص 353.
(3) كذا في جميع النسخ: والسياق يقتضي زيادة «والتسليم».(2/238)
كما تقدّم، وأزواج النبيّ صلّى الله عليه وآله لم يكنّ كذلك فما وجه هذه المتعة؟ قلنا يحتمل هنا وجوها:
الأوّل: أن لا يكون المراد تلك المتعة المعهودة، بل مطلق النّفع، بأن يزيدهنّ على المهور أو يعطيهنّ ما كان عندهنّ من أثاث وغيره.
الثاني: أنّه قد تقدّم أنّ المتعة لكلّ مطلقة عند قوم [وعند قوم] إلّا المختلعة والمباراة فعلى هذا يكون المراد المتعة المعهودة.
الثالث: جاز أن يكون من خواصّه صلّى اللََّه عليه وآله وجوب التمتّع كما وجب عليه التخيير. وهذا أولى في الجواب.
3 - اختلف العلماء في حكم التخيير على أقوال:
الأوّل: أنّ الرجل إذا خيّر امرأته فاختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فهي تطليقة واحدة وهو قول ابن مسعود وأبي حنيفة وأصحابه.
الثاني: أنّه إذا اختارت نفسها فهي ثلاث تطليقات وإن اختارت زوجها وقعت واحدة، وهو قول زيد ومذهب مالك.
الثالث: أنّه إن نوى بالتخيير الطلاق كان طلاقا وإلّا فلا، وهو مذهب الشافعيّ.
الرّابع: أنّه لا يقع بذلك طلاق وإنما كان ذلك من خواصّه عليه السّلام ولو اخترن أنفسهنّ لمّا خيّرهنّ لبنّ منه فأمّا غيره فلا يجوز له ذلك وهو المروي عن الصّادق عليه السّلام حيث قال «ما للناس والخيار؟ وإنّما هذا شيء خصّ اللََّه تعالى به رسوله» (1).
قال ابن الجنيد وابن أبي عقيل منّا بوقوعه طلاقا مع نيّته واختيارها نفسها على الفور، فلو تأخّر اختيارها لحظة لم يكن شيئا والأكثر منّا على خلاف قولهما لقول الصادق عليه السّلام إنّما الطلاق أن يقول لها: «أنت طالق» (2).
__________
(1) الكافي ج 6ص 237.
(2) الكافي ج 6ص 69.(2/239)
الثانية
يََا نِسََاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأتِ منْكُنَّ بفََاحِشَة مُبيِّنَة يُضََاعَفْ لَهَا الْعَذََابُ ضِعْفَيْنِ
{يََا نِسََاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفََاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضََاعَفْ لَهَا الْعَذََابُ ضِعْفَيْنِ وَكََانَ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلََّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صََالِحاً نُؤْتِهََا أَجْرَهََا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنََا لَهََا رِزْقاً كَرِيماً} (1).
هذه أيضا تدل على خاصّة أخرى له صلّى اللََّه عليه وآله وهو أضعاف العذاب لنسائه على السيّئات، وإيتاء الأجر مرّتين على الطاعات.
أمّا الأوّل فلأنّ العذاب على قدر قبح المعصية، وقبح المعصية على قدر العلم به ونساء النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله أشد صحبة له صلّى اللََّه عليه وآله ويشاهدن الوحي كأنّ علمهنّ بالأحكام كالضروريّ، فأضعف لهنّ العذاب لذلك.
وأمّا الثاني فظاهر لأنّه لمّا كان عقابهنّ مضاعفا اقتضى العدل كون ثوابهنّ كذلك، وعلم من ذلك كون الضعف مثلا واحدا والمراد بالفاحشة الخطيئة الكبيرة والمبيّنة الظاهرة الفحش، والقنوت هنا المداومة على الطاعة، وإن استعمل في غير ذلك كالدعاء في الصّلاة وطول العبادة.
الثالثة
وَمََا كََانَ لَكُمْ انْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللََّهِ
{وَمََا كََانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللََّهِ وَلََا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوََاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذََلِكُمْ كََانَ عِنْدَ اللََّهِ عَظِيماً} (2).
هذه أيضا تدل على خاصّة أخرى له صلّى اللََّه عليه وآله وهو عدم جواز نكاح نسائه بعد وفاته إجماعا فقيل لكونهنّ أمّهات لقوله {«وَأَزْوََاجُهُ أُمَّهََاتُهُمْ»} وهو باطل وإلّا لحرم بناتهنّ لأنّهنّ أخوات بل تسميتهنّ أمّهات لأجل تحريم نكاحهنّ، فالأولى كونه من خواصّه صلّى اللََّه عليه وآله وحذرا من غيرته لذلك، فيكون إيذاء له وسبب نزولها أنّه لمّا نزلت آية الحجاب قال طلحة بن عبد اللََّه أينهانا أن نتكلّم بنات عمّنا إلّا من وراء
__________
(1) الأحزاب: 30.
(2) الأحزاب: 53.(2/240)
الحجاب لئن مات لأتزوّجنّ فلانة (1).
وعندنا أنّ من فارقها بطلاق أو فسخ كذلك، سواء دخل بها أو لا، وللشافعيّة هنا ثلاثة أوجه الأوّل التحريم مطلقا لأنّهنّ أمّهات، الثاني الإباحة مطلقا وإلّا لم يكن للبينونة فائدة، الثالث الحلّ في الّتي لم يدخل بها لما روي أنّ أشعث بن قيس تزوّج المستعيذة في أيّام عمر، فهمّ برجمها فأخبر بأنّه صلّى اللََّه عليه وآله فارقها قبل أن يدخل بها، فترك (2) فيكون التحريم ثابتا في المدخول بها.
وكذا لهم هذه الوجوه في سراريه وعموم الآية يدفع هذه الاحتمالات.
الرابعة
يََا أَيُّها النَّبِيُّ انََّا احْلَلْنََا لَكَ ازْوََاجَكَ
{يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنََّا أَحْلَلْنََا لَكَ أَزْوََاجَكَ اللََّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمََا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمََّا أَفََاءَ اللََّهُ عَلَيْكَ وَبَنََاتِ عَمِّكَ وَبَنََاتِ عَمََّاتِكَ وَبَنََاتِ خََالِكَ وَبَنََاتِ خََالََاتِكَ اللََّاتِي هََاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهََا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرََادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهََا خََالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (3).
__________
(1) أخرجه ابن ابى حاتم عن السدى وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة. كما في الدر المنثور ج 5ص 214.
(2) أنوار التنزيل ج 2ص 279عند تفسير الآية.
(3) الأحزاب: 50. وفي الآية سؤال عن وجه افراد العم والخال، وجمع العمة والخالة، قال الشوكانى في فتح القدير ج 4ص 288:
ووجه افراد العم والخال، وجمع العمة والخالة، ما ذكره القرطبي: أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز، وليس كذلك العمة والخالة، قال: وهذا عرف لغوي، فجاء الكلام عليه بغاية البيان، وحكاه عن ابن العربي، وقال ابن كثير: انه وحد لفظ الذكر لشرفه وجمع الاثنى كقوله: عن اليمين وعن الشمائل، وقوله: يخرجهم من الظلمات الى النور، وجعل الظلمات والنور، وله نظائر كثيرة. انتهى.
وقال النيسابوري: وانما لم يجمع العم والخال اكتفاء بجنسيتهما مع أن لجمع البنات دلالة على ذلك لامتناع اجتماع أختين تحت واحد، ولم يحسن هذا الاختصار في العمة والخالة لا مكان سبق الوهم الى أن التاء فيهما للوحدة انتهى.
وكل وجه من هذه الوجوه يحتمل المناقشة بالنقض والمعارضة، وأحسنهما تعليلا تعليل جمع العمة والخالة بسبق الوهم الى أن التاء للوحدة، وليس في العم والخال ما يسبق الوهم إليه بأنه أريد به الوحدة إلا مجرد صيغة الافراد، وهي لا تقتضي ذلك بعد إضافتها، لما تقرر من عموم أسماء الأجناس المضافة، على أن هذا الوجه لا يخلو عن شوب المناقشة. انتهى ما في فتح القدير.(2/241)
هذه أيضا تشتمل على ذكر ما هو من خواصّه، وهو استباحة الوطي بالهبة والدّليل على كونه من خواصّه قوله {«خََالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ»} واختلف في أنّ ذلك هل وقع أم لا؟ قال ابن عبّاس لم يكن أحد عنده صلّى اللََّه عليه وآله بالهبة، وقال غيره بل وقع وعدوّا أربعا: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت حزام: أمّ المساكين الأنصاريّة، وخولة بنت حكيم.
قيل: إنّ هذه لمّا وهبت نفسها له صلّى اللََّه عليه وآله قالت عائشة: ما بال النساء يبذلن أنفسهنّ بلا مهر؟ فنزلت الآية، فقالت عائشة: ما أرى اللََّه إلّا أن يسارع في هواك فقال صلّى اللََّه عليه وآله فإنّك إن أطعت اللََّه سارع في هواك، والرابعة قيل أمّ شريك بنت جابر من بني أسد، عن عليّ بن الحسين وهنا فوائد:
1 - جوّز الكرخيّ وقوع النكاح بلفظ الإجارة لقوله {اللََّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} والأجر يختصّ بالإجارة، وليس بشيء لجواز أن يكون الأجر مستعارا للمهر وقال أبو بكر الرازيّ لا يجوز بالإجارة، لأنّ الإجارة عقد موقت وعقد النكاح مؤبّد فهما متنافيان.
2 - قيل يجوز وقوعه أيضا بلفظ الهبة لغير النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله وليس بشيء أيضا لقوله تعالى {خََالِصَةً لَكَ} وهو مذهب أصحابنا والشافعيّة.
3 - أيّ فائدة في القيود الثلاثة وهي {اللََّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} و {اللََّاتِي هََاجَرْنَ مَعَكَ} و {مِمََّا أَفََاءَ اللََّهُ عَلَيْكَ} فانّ الإحلال حاصل بدونها؟ قلت فائدتها أنّها
كانت حاصلة ولا يلزم من ذكرها عدم إحلال غيرها إلّا بدليل الخطاب وليس حجّة وقيل فائدتها أنّ اللََّه أحلّ له صلّى اللََّه عليه وآله ما هو الأفضل، وفيه نظر لأنّه يقتضي أن لا يحصل الإحلال للمذكورات إلّا بالقيود الثلاثة وليس كذلك وأيضا لو كان كذلك لكان ينبغي أن يأتي بعبارة تدلّ على إرادة الأفضل وقول القاضي يحتمل أن يكون من خواصّه، ويؤيّده قول أمّ هانئ بنت أبي طالب خطبني رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله فاعتذرت إليه فعذرني ثمّ أنزل اللََّه هذه الآية فلم أحلّ له، لأنّي لم أهاجر معه، وكنت من الطلقاء، ضعيف، لأنّه لم ينقل أنّه من خواصّه، وقولها فلم أحلّ له فهمته من دليل الخطاب وليس بحجّة، وقال الطبرسيّ كان ذلك قبل تحليل غير المهاجرات ثمّ نسخ شرط الهجرة في التحليل، وهو ضعيف لأنّ ذلك وإن تمّ في المهاجرات فلا يتمّ في القيدين الأخيرين فالأولى ما قلناه، فانّ الوصف كما يكون للتخصيص يكون للتوضيح.(2/242)
3 - أيّ فائدة في القيود الثلاثة وهي {اللََّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} و {اللََّاتِي هََاجَرْنَ مَعَكَ} و {مِمََّا أَفََاءَ اللََّهُ عَلَيْكَ} فانّ الإحلال حاصل بدونها؟ قلت فائدتها أنّها
كانت حاصلة ولا يلزم من ذكرها عدم إحلال غيرها إلّا بدليل الخطاب وليس حجّة وقيل فائدتها أنّ اللََّه أحلّ له صلّى اللََّه عليه وآله ما هو الأفضل، وفيه نظر لأنّه يقتضي أن لا يحصل الإحلال للمذكورات إلّا بالقيود الثلاثة وليس كذلك وأيضا لو كان كذلك لكان ينبغي أن يأتي بعبارة تدلّ على إرادة الأفضل وقول القاضي يحتمل أن يكون من خواصّه، ويؤيّده قول أمّ هانئ بنت أبي طالب خطبني رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله فاعتذرت إليه فعذرني ثمّ أنزل اللََّه هذه الآية فلم أحلّ له، لأنّي لم أهاجر معه، وكنت من الطلقاء، ضعيف، لأنّه لم ينقل أنّه من خواصّه، وقولها فلم أحلّ له فهمته من دليل الخطاب وليس بحجّة، وقال الطبرسيّ كان ذلك قبل تحليل غير المهاجرات ثمّ نسخ شرط الهجرة في التحليل، وهو ضعيف لأنّ ذلك وإن تمّ في المهاجرات فلا يتمّ في القيدين الأخيرين فالأولى ما قلناه، فانّ الوصف كما يكون للتخصيص يكون للتوضيح.
الخامسة
تُرْجى مَنْ تَشََاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوى الَيْكَ مَنْ تَشََاءُ
{تُرْجِي مَنْ تَشََاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشََاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْكَ ذََلِكَ أَدْنى ََ أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلََا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمََا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللََّهُ يَعْلَمُ مََا فِي قُلُوبِكُمْ وَكََانَ اللََّهُ عَلِيماً حَلِيماً} (1).
الإرجاء التأخير، يقال أرجأت بالهمزة، وأرجيت بغير همز لغتان، بمعنى واحد، وقرئ في الآية بالهمز وعدمه، والعبارة تحتمل وجوها:
1 - تطلّق من تشاء وتترك طلاق من تشاء.
2 - تدعو من تشاء إلى الفراش، وترجئ من تشاء، فلا تدعوها.
3 - ترجئ من تشاء فلا تقسم لهنّ، وتؤوي إليك من تشاء، فتقسم لهنّ فأرجأ سودة، وجويرية، وصفيّة، وميمونة، وأمّ حبيبة، وكان يقسم بينهنّ
__________
(1) الأحزاب: 51.(2/243)
ما شاء، وآوى عائشة، وحفصة، وأمّ سلمة، وزينب، فكان يقسم بينهنّ، فاستدلّ به من قال بعدم وجوب القسمة عليه، وأنّ ذلك من خواصّه وإنّما كان ما يفعله من القسمة تفضّلا منه، وطلبا للعدل، وأن لا ينسب إليه الجور، وهذا هو المشهور عند أصحابنا.
4 - أنّ ذلك راجع إلى الواهبات، أي ترجئ من تشاء من الواهبات وتؤوي إليك من تشاء منهنّ.
قوله {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} أي إنّ المعزولات لك أن تؤويهنّ وبعد ابتغائك إيّاهنّ وإيوائك لهنّ. لك أيضا أن ترجئ من تشاء منهنّ وتؤوي، ولا جناح عليك في ذلك كلّه.
قوله {ذََلِكَ أَدْنى ََ} إشارة إلى أنّ التخيير بين إيواء من تشاء، وتأخير من تشاء، أقرب إلى قرّة أعينهنّ، وعدم حزنهنّ ورضاهنّ، لأنّه حكم كلّهنّ يتساوين فيه، ثمّ إن سوّيت بينهنّ وجدن ذلك تفضّلا وإحسانا منك، وإن رجّحت بعضهنّ على بعض علمن أنّه بحكم اللََّه فتطمئنّ قلوبهنّ.
وقيل: إنّ ذلك إشارة إلى جواز ردّ المعزولات إليك، فإنّهنّ إذا علمن بذلك علمن أنّهنّ غير مطلّقات ورجون أنّك ترجعهنّ إليك وباقي الآية معلوم.
السادسة
لََا تَحِلُّ لَكَ النِّسََاءُ مِنْ بَعْدُ
{لََا يَحِلُّ لَكَ النِّسََاءُ مِنْ بَعْدُ وَلََا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوََاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلََّا مََا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكََانَ اللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً} (1).
قيل: إنّها منسوخة بقوله {إِنََّا أَحْلَلْنََا لَكَ} (2) الآية وهو فتوى أصحابنا وقيل بقوله {تُرْجِي مَنْ تَشََاءُ} على الوجه الأوّل، فإنّهما وإن تقدّمتا قراءة فمتأخّرتان نزولا كآية العدّة فإنّه أبيح له بعد ذلك تزويج ما شاء، وروي عن عائشة أنّها قالت: ما فارق رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله حتّى حلّل له ما أراد من النساء، وقيل بعدم ذلك
__________
(1) الأحزاب: 52.
(2) الأحزاب: 50.(2/244)
فإنّها باقية الحكم لأصالة عدم النسخ.
ثمّ اختلف في تأويلها بسبب قوله {«مِنْ بَعْدُ»} على وجوه الأوّل من بعد التّسع اللّاتي كنّ عنده ومات عنهنّ وقد تقدّم أسماؤهنّ وأنّ التّسع في حقّه كالأربع في حقّنا، الثاني من بعد النساء اللّاتي ذكرن في الآية المتقدّمة، وهي {إِنََّا أَحْلَلْنََا لَكَ} وهي ستّة أجناس غير المملوكات، فعلى هذا يباح له فوق التّسع، إذ الجمع من كلّ جنس أقلّه ثلاثة، الثالث روي عن الصادق عليه السّلام أنّ المراد بعد المحرّمات في سورة النساء (1) فعلى هذا لا يكون فيها شيء من خواصّه صلّى اللََّه عليه وآله وعلى الأوّل لا يجوز له طلاق واجدة منهنّ، ولا التبدّل بها لو ماتت، و «من» في قوله {مِنْ أَزْوََاجٍ} زائدة، للاستغراق.
قوله {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} أي ليس لك أن تطلّق بعضهنّ وتتزوّج بدلها وإن كان البدل أحسن {إِلََّا مََا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} فإنّه لا حصر فيهنّ، وقيل إنّه استثناء من النساء، لأنّه يتناول الأزواج والإماء، وعلى ما قلنا من رأي أصحابنا إنّها منسوخة، كلّ هذه الوجوه لا فائدة فيها إلّا الوقوف عليها والرواية المذكورة عن الصادق عليه السّلام ضعيفة لمخالفتها الحكم المجمع عليه من جواز تبديله لنسائه وجواز تبديل أمته بالطلاق والفسخ.
السابعة
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذي انْعَمَ اللََّهُ عَلَيْهِ
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللََّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللََّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللََّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النََّاسَ وَاللََّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشََاهُ فَلَمََّا قَضى ََ زَيْدٌ مِنْهََا وَطَراً زَوَّجْنََاكَهََا لِكَيْ لََا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوََاجِ أَدْعِيََائِهِمْ إِذََا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكََانَ أَمْرُ اللََّهِ مَفْعُولًا} (2).
__________
(1) الكافي باب ما أحل للنبي من كتاب النكاح تحت الرقم 41و 7. راجع ج 5ص 391387من الطبعة الحديثة.
(2) الأحزاب: 37.(2/245)
روي أنّ رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله خطب زينب بنت جحش الأسديّة وكانت أمّها أميمة بنت عبد المطّلب عمّة رسول اللََّه لزيد بن حارثة، وعندها أنّه يخطب لنفسه فلمّا علمت أنّه لزيد أبت وأنكرت ذلك لعلوّ نسبها، فنزلت {وَمََا كََانَ لِمُؤْمِنٍ وَلََا مُؤْمِنَةٍ إِذََا قَضَى اللََّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1) فقالت: رضيت يا رسول اللََّه فأنكحها لزيد، فدخل بها وساق إليها رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله عشرة دنانير وستّين درهما مهرا، وخمارا، وملحفة، ودرعا وإزارا، وخمسين مدّا من الطعام، وثلاثين صاعا من تمر.
وروى عليّ بن إبراهيم في تفسيره (2) أنّ رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله كان شديد الحبّ لزيد، وكان إذا أبطأ عليه زيد أتى إلى منزله فيسأل عنه، فأبطأ عليه يوما فأتى رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله منزله فإذا زينب جالسة في وسط حجرتها تسحق طيبا بفهر لها، فدفع رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله الباب فلمّا نظر إليها قال «سبحان اللََّه خالق النّور تبارك اللََّه أحسن الخالقين» ورجع، فجاء زيد فأخبرته زينب بما كان، فقال لها: ولعلّك وقعت في قلب رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله فهل لك أن أطلّقك حتّى يتزوّجك رسول اللََّه؟ فقالت أخشى أن تطلّقني ولا يتزوّجني، فجاء زيد إلى رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله فقال إنّ زينب تتكبّر عليّ وتؤذيني بلسانها، فأريد أن أطلّقها، فقال {«أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللََّهَ»} ثمّ طلّقها بعد ذلك. وروي أنّها لمّا اعتدّت قال لزيد ما أجد في نفسي أحدا أوثق منك اخطب لي زينب فقال فجئت إليها وهي تخمر عجينها فلمّا رأيتها عظمت في نفسي حتّى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أنّ رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله ذكرها، فولّيتها ظهري وقلت: يا زينب أبشري إنّ رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله يخطبك، ففرحت بذلك، وقالت:
ما أنا بصانعة شيئا حتّى أوامر ربّي، فقامت إلى مسجدها فنزلت الآية فتزوّجها رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله ودخل بها وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها: ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللّحم حتّى اشتدّ النهار.
__________
(1) الأحزاب: 36.
(2) تفسير القمي ص 514.(2/246)
إذا عرفت هذا فنقول قوله {اتَّقِ اللََّهَ} نهي تنزيه لا تحريم، لأنّ الطّلاق ليس بحرام، بل مبغوض للََّه، لأنّه ضدّ النكاح المندوب إليه، وقيل: معناه لا تذمّها بسبب تكبّرها وأذى زوجها.
ثمّ اختلف فيما أخفاه رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله على وجوه الأوّل أنّ اللََّه أعلمه أنّها من نسائه، وأنّ زيدا سيطلّقها، فلمّا جاء زيد وأراد أن يطلّقها قال له أمسك عليك زوجك فقال له سبحانه لم تقول له أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنّها تكون من أزواجك عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام وهذا مطابق للآية لأنّه تعالى أعلمه أنه يبدي ما أخفاه ولم يظهر غير التزويج فقال {زَوَّجْنََاكَهََا} ولو كان غير ذلك لأبداه، فعاتبه اللََّه على ذلك.
الثاني: أنّه الميل الطبيعيّ إليها وذلك لا يوصف بالإباحة والتحريم، لكونه بغير الاختبار لكنّه صلّى اللََّه عليه وآله كره إظهاره للناس لبشاعته وربّما كان المنافقون يقولون إنّه قد عشق وأذن اللََّه في تزويجه بما عشقه، وذلك مناف لما هو بصدده من تبليغ الرّسالة وهداية الخلق، ولم يعلموا أنّ ذلك أمر جبلّيّ غير مقدور.
الثّالث: أنّه أضمر أنّه إن طلّقها زيد يتزوّجها من حيث إنّها ابنة عمّه فأراد ضمّها إلى نفسه لئلّا يصيبها ضيعة، كما يفعل الرّجل بأقاربه، وليكون جبرا لقلبها حيث زوّجها مولاه أوّلا مع كراهتها مع أنّه قال {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}.
الرّابع: أنّه كان يريد نكاحها مع مفارقة زيد ليكون مبطلا لستّة الجاهليّة في تنزيل الأدعياء منزلة الأبناء، لكنّه عزم على عدم ذلك مخافة أن يطعنوا عليه بأنّه تزوّج امرأة ابنه فأنزل اللََّه الآية لكيلا يمتنع عن فعل المباح خشية الناس ولذلك عقّب الكلام بقوله {لِكَيْ لََا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوََاجِ أَدْعِيََائِهِمْ}.
قوله {وَتَخْشَى النََّاسَ وَاللََّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشََاهُ} أي تخشى مقالتهم واعتراضهم عليك بغير حقّ، واللََّه أحقّ أن تخشاه في إيقاع أوامره الحقّة، قوله {فَلَمََّا قَضى ََ زَيْدٌ} إلى آخره أي فرغ من إرادته لها وإعطاء شهوته منها مقتضاها.
قوله {وَكََانَ أَمْرُ اللََّهِ مَفْعُولًا} أي ما أراد اللََّه أن يكون من فعله لا بد أن
يقع، لوجود الداعي، وعدم الصارف، بخلاف ما أراد اللََّه من فعل غيره فإنّه قد وقد.(2/247)
قوله {وَكََانَ أَمْرُ اللََّهِ مَفْعُولًا} أي ما أراد اللََّه أن يكون من فعله لا بد أن
يقع، لوجود الداعي، وعدم الصارف، بخلاف ما أراد اللََّه من فعل غيره فإنّه قد وقد.
إذا تقرّر هذا فقد استفيد من هذه القصّة أحكام:
1 - أنّ التساوي في النسب غير شرط في النكاح فانّ زينب كانت أشرف من زيد ولهذا زوّج رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله ضباعة بنت الزّبير بن عبد المطلّب ابن عمّه بالمقداد ابن عمرو، وهو عاميّ النسب (1).
2 - وجوب الإنفاق على الزوجة وكيفيّة الكسوة، من الدّرع وهو القميص والخمار، وهو المقنعة، والملحفة وهو الإزار، ويمكن أن يعنى به السراويل وضمّ الأدم إلى القوت كضمّ التمر إلى الطعام، لأنّ ذلك وقع في بيان الواجب فيكون واجبا.
3 - وجوب مفارقة زوج المرأة لها إذا رغب فيها رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله.
4 - عدم جواز الخطبة في العدّة لأنّه لمّا انقضت عدّتها أمر زيدا بخطبتها ويدلّ عليه من الكتاب قوله {وَلََا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكََاحِ حَتََّى يَبْلُغَ الْكِتََابُ أَجَلَهُ} (2)
وقد تقدّم (3).
5 - كون النكاح يقع بلفظ التزويج، ووجوب كونه بصيغة الماضي.
6 - استحباب الوليمة عند الزفاف، ولذلك قال النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله «لا وليمة إلّا في خمس: عرس أو خرس أو ختان أو وكاز أو ركاز». والخرس: النفاس، والوكاز:
بناء الدار، والركاز: قدوم الحاجّ.
__________
(1) رواه في الكافي ج 5ص 344في حديثين.
(2) البقرة: 235.
(3) راجع ص 236.(2/248)
النوع السادس (في روافع النكاح)
وهي أقسام:
القسم الأول (الطلاق)
وفيه آيات:
الاولى
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساََءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهنَّ
{يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللََّهَ رَبَّكُمْ لََا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلََا يَخْرُجْنَ إِلََّا أَنْ يَأْتِينَ بِفََاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللََّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللََّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لََا تَدْرِي لَعَلَّ اللََّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذََلِكَ أَمْراً} (1).
الطلاق لغة اسم للتطليق أو الإطلاق بمعنى إزالة القيد، وشرعا إزالة قيد النكاح وهو إمّا من قبيل التخصيص أو النقل، والأوّل أولى لما تقرّر في الأصول ولا يقع عندنا إلّا بلفظه الصّريح الدالّ على الجملة بالمواطاة، لما تقدّم من قول الباقر عليه السّلام و «إنّما» (2) للحصر كقولك أنت أو هذه أو فلانة طالق، فخرج ما لا يكون منه كسائر الكنايات كخليّة وبريّة وغيرهما، وما يكون من لفظه،
و__________
(1) الطلاق: 1.
(2) اى قوله كما نقل فيما سبق ص 239انما الطلاق أن تقول لها: أنت طالق.(2/249)
لكن لا تدلّ بالمواطاة كقوله أنت طلاق أو الطلاق أو من المطلقات وغير ذلك من العبارات المختلفة، وللمخالفين هنا أقوال ليس هنا موضع ذكرها، إذا عرفت هذا فهنا أحكام يتبعها فوائد:
1 - قيل: خصّ الخطاب بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وعمّ الحكم، لأنّه إمام أمّته، فنداؤه كندائهم، وقيل لأنّ الحكم يعمّه، وهم تابعون له، وعن الجبائيّ تقديره: قل إذا طلّقتم، وهذا أحسن الوجوه، ولا يلزم خروجه صلّى الله عليه وآله عن الحكم على هذا الوجه لأنّه إنّما جعله صلّى الله عليه وآله آمرا تنزيها له عن فعل المكروه لغير داع يدعو إليه، فإنّ الطلاق من غير داع مكروه، لكونه خلاف النكاح المطلوب، ولما رواه الثعلبيّ في تفسيره عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال «تزوّجوا ولا تطلّقوا فانّ المطلق يهتزّ منه العرش» (1) وعن ثوبان يرفعه إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله «أيّما امرأة سألت من زوجها الطلاق من غير ما به بأس فحرام عليها رائحة الجنّة» (2) وعن أبي موسى الأشعريّ عنه صلّى الله عليه وآله «لا تطلّقوا النساء إلّا من ريبة إنّ الله لا يحبّ الذوّاقين والذوّاقات (3) وعن أنس عن النبيّ صلّى الله عليه وآله «ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلّا منافق (4).
2 - قوله {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي لوقت عدّتهنّ، فانّ اللام للتأقيت وفيه دلالة على وجوب إيقاع الطّلاق في طهر لأنّ الأقراء هي الأطهار لما يجيء، وهو مذهب أصحابنا والشافعيّ لكن عندنا لو فعل خلاف ذلك بطل، وعند الشافعيّ وباقي الفقهاء فعل حراما وصحّ طلاقه (5) أمّا الحرمة، فلأنّ الأمر بالشيء يستلزم
__________
(1) مجمع البيان ج 10ص 304، عن تفسير الثعلبي.
(2) سنن ابى داود ج 1ص 516باب في الخلع. ورواه أحمد والترمذي وابن ماجة والدارمي كما في مشكاة المصابيح ص 283.
(3) مجمع البيان ج 10ص 304، عن تفسير الثعلبي.
(4) مجمع البيان ج 10ص 304، عن تفسير الثعلبي.
(5) وقد أفصح الشيخ في الخلاف عن البحث في ذلك راجع ج 2ص 226ولابن القيم الجوزية أيضا بيان مبسوط في إثبات بطلان الطلاق في زاد المعاد ج 4ص 5143 فراجع.(2/250)
النهي عن ضدّه، وأمّا الصحّة فلأنّ النهي لا يستلزم الفساد، ونحن نمنع الثانية فإنّ النهي عن نفس الطلاق وقد تقدّم أنّ عند المحقّقين أنّ النهي عن الشيء نفسه أو جزئه أو لازمه يدلّ على الفساد وقال أبو حنيفة إنّ الأقراء هي الحيض، فتقدير الكلام عنده لمستقبل عدّتهنّ، وقبل عدّتهنّ.
ثمّ إنّ هذا العموم مخصوص بأمرين أحدهما غير المدخول بها، وثانيهما الغائب عنها زوجها غيبة يعلم انتقالها من طهر إلى آخر، أو خرج عنها في طهر لم يقربها فيه بجماع، فانّ هاتين يصحّ طلاقهما من غير تحريم، وعلى ذلك إجماع أصحابنا وتضافر أخبارهم، ويدلّ على الأوّل آية الأحزاب وسيأتي.
3 - قوله {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء، وقيل:
عدّوا أوقات الأقراء لتطلّقوا للعدّة، فعلى الأوّل فائدة الأمر بالإحصاء أنّها يتعلّق بها حقوق النّكاح أمّا للزّوجة، فالنفقة والسكنى، وأمّا للزّوج فالرّجوع إذا شاء مع بقائها لا مع خروجها، ولذلك له منعها من الأزواج، وأيضا إلحاق النسب لو أتت بولد يمكن إلحاقه به في العدّة وتحريم الخطبة فيها تصريحا إلى غير ذلك.
وعلى الثاني ففائدته العلم بزمان الحيض وزمان الطّهر، ومع الدم يعلم مع الضبط وقت الحيض، فلا يقع فيه طلاق، ووقت الاستحاضة فيقع فيه، إلى غير ذلك.
وأمر سبحانه وتعالى بالتقوى في ضبط العدّة، بحيث لا يخالف في ذلك أوامره ويحتمل تعلّقه بما بعده أي بقوله {لََا تُخْرِجُوهُنَّ}.
4 - أنّه لمّا ذكر سبحانه العدّة ذكر بعض أحكامها وهي أنّه لا يجوز إخراج المرأة المطلقة من البيت الّذي طلّقت فيه، والإضافة هنا للاختصاص كقولك: جلّ الفرس، وكذلك لا يجوز لها أيضا الخروج وإن لم يخرجها الزّوج لقوله {وَلََا يَخْرُجْنَ} كلّ ذلك في عدّة الطلاق الرّجعيّ، بخلاف البائن، فإنّه يجوز خروجها وإخراجها، واستثنى سبحانه من ذلك إتيانهنّ بالفاحشة فقيل: هي الزنا، فتخرج
لإقامة الحدّ عليها، وعن الباقر والصادق عليهما السّلام هي البذاءة على أهله وأذاهم وشتمهم، وعن ابن عبّاس رضي الله عنه روايتان إحداهما كقول السيّدين والأخرى أنّ كلّ معصية لله فهي فاحشة فيحتمل كون الاستثناء من الأوّل كما قلناه، ويحتمل أن يكون من الثاني أي قوله {لََا يَخْرُجْنَ} للمبالغة في النهي، أي أنّ خروجها فاحشة وفيه قوّة لولا النقل.(2/251)
4 - أنّه لمّا ذكر سبحانه العدّة ذكر بعض أحكامها وهي أنّه لا يجوز إخراج المرأة المطلقة من البيت الّذي طلّقت فيه، والإضافة هنا للاختصاص كقولك: جلّ الفرس، وكذلك لا يجوز لها أيضا الخروج وإن لم يخرجها الزّوج لقوله {وَلََا يَخْرُجْنَ} كلّ ذلك في عدّة الطلاق الرّجعيّ، بخلاف البائن، فإنّه يجوز خروجها وإخراجها، واستثنى سبحانه من ذلك إتيانهنّ بالفاحشة فقيل: هي الزنا، فتخرج
لإقامة الحدّ عليها، وعن الباقر والصادق عليهما السّلام هي البذاءة على أهله وأذاهم وشتمهم، وعن ابن عبّاس رضي الله عنه روايتان إحداهما كقول السيّدين والأخرى أنّ كلّ معصية لله فهي فاحشة فيحتمل كون الاستثناء من الأوّل كما قلناه، ويحتمل أن يكون من الثاني أي قوله {لََا يَخْرُجْنَ} للمبالغة في النهي، أي أنّ خروجها فاحشة وفيه قوّة لولا النقل.
5 - ثمّ إنّه تعالى بيّن أنّ الأحكام المذكورة أمور محدودة مقدّرة واجبة الوقوع وأنّ مخالفها يستحقّ الذمّ والعقاب، لقوله {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وذلك ملزوم لهما.
7 - قوله {لَعَلَّ اللََّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذََلِكَ أَمْراً} أي بعد الطلاق أمرا هو الرّغبة في المطلقة، والرّجوع عن عزمه الأوّل على المفارقة، وهو كالتعليل لعدم الإخراج والخروج من البيت، وفيه دلالة على كون المراد بذلك الطلاق الرجعيّ لا البائن.
8 - روى البخاريّ ومسلم عن قتيبة عن ليث بن سعد عن نافع عن عبد الله ابن عمر أنّه طلّق امرأته وهي حائض تطليقة واحدة فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يراجعها ثمّ يمسكها حتّى تطهر وتحيض عنده حيضة أخرى، ثمّ يمهلها حتّى تطهر من حيضها فإذا أراد أن يطلّقها فليطلّقها حين تطهر، من غير أن يجامعها، فتلك العدّة الّتي أمر الله أن يطلّق بها النساء (1).
وروى البخاري عن سليمان بن حرب وروى مسلم عن عبد الرّحمن بن بشير عن فهر وكلاهما عن شعبة عن أنس بن سيرين قال: سمعت أنّ ابن عمر طلّق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبيّ صلّى الله عليه وآله فقال: مره فليراجعها وإذا طهرت فليطلّقها إن شاء (2).
وفي هذه الرواية إشارة إلى أنّه يشترط الطهر في الطلاق وفي الأوّل إشارة
__________
(1) رواهما في مشكاة المصابيح ص 283وقال متفق عليه، راجع صحيح البخاري ج 3ص 268، سنن أبى داود ج 1ص 504.
(2) رواهما في مشكاة المصابيح ص 283وقال متفق عليه، راجع صحيح البخاري ج 3ص 268، سنن أبى داود ج 1ص 504.(2/252)
إلى أنه يشترط أن لا يقربها فيه بجماع.
واحتجّ الفقهاء من الجمهور على وقوع طلاق الحائض وإن كان حراما بهذين الحديثين من حيث قوله صلّى الله عليه وآله «مره فليراجعها» في الثاني وفي الأوّل «أمر أن يراجعها» فالمراجعة تدلّ على وقوع الطلاق.
وفيه نظر فإنّه لا دلالة في ذلك لأنّه كما يحتمل الأمر بالمراجعة وقوع الطلاق يحتمل أيضا أن يراد بالمراجعة التمسّك بمقتضى العقد، وبقاء الزوجيّة فانّ من طلّق طلاقا فاسدا وظنّ أنّه واقع فاعتزل زوجته صحّ أن يقال له راجعها فيكون المراد حينئذ المراجعة اللغويّة لا الاصطلاحيّة بمعنى بعد الطلاق.
الثانية
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَامْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوف
{فَإِذََا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فََارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهََادَةَ لِلََّهِ ذََلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كََانَ يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1).
المراد بالأجل هنا العدّة، ومراده ببلوغه مقاربته ومشارفة انقضائه، لا انقضاؤه، وإلّا لما كان للزّوج رجوع وهنا حكمان:
1 - جواز الرّجوع في العدّة وإليه أشار بقوله {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي بحسن عشرة وإنفاق مناسب وقوله {أَوْ فََارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} بأن تتركوهنّ حتّى يخرجن من العدّة فيبنّ منكم لا بغير معروف بأن يراجعها ثمّ يطلّقها تطويلا للعدّة وقصدا للمضارّة.
2 - قوله {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} قيل: هو راجع إلى الرّجعة قاله الشافعيّة، وذلك عندهم على الندب، ونقل عن الشافعيّ وجوبه، وقال أصحابنا:
هو راجع إلى الطّلاق، وذلك على الوجوب وهو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام لكون الكلام في الطلاق فيكون ذلك قرينة دالّة على رجوعه إليه.
__________
(1) الطلاق: 2.(2/253)
لا يقال: إنّه راجع إلى الإمساك المراد به المراجعة، لأنّه أقرب من الطّلاق لأنّا نقول الأقربيّة لو كانت مرجّحة لكان عوده إلى الفراق لكونه أقرب أولى.
إن قلت: إنّ الفراق هنا ترك الرّجعة، وترك الشيء لا يحتاج إلى الإشهاد لكونه أصلا بعد وقوع الطّلاق فلهذا الوجه لا يرجع إلى الفراق، قلت: إنّ ما ذكرتم من اعتبار القرينة هو عين مرادنا، إذ هو خروج عن دعوى كون القرب مرجّحا ورجوع إلى القرينة، وإذا كان الاعتبار بالقرينة فهي حاصلة في الطلاق لاحتياجه إلى الإشهاد غاية الاحتياج، لجواز وقوع النزاع في وقوعه وعدمه، فيحتاج إلى طريق في إثباته لو ادّعى وقوعه، وذلك بالإشهاد إذ ليس غيره إلّا اعتراف الزوجة، فيجوز عدمه، أو يمينها فيجوز أيضا عدم علمها، أو ردّ اليمين على الزّوج فيجوز موته، ويكون النزاع مع ورثته.
ولا يستبعد رجوعه إلى الطلاق وإن كان بعيدا مع وجود القرينة وعدم الفصل بكلام أجنبيّ، فإنّ القصّة واحدة، ونظيره في الكلام أن يقول الرّجل لوكيله «اشتر من فلان سلعة كذا، وبع على فلان سلعة كذا، واقبض الثمن، وسلّمه إلى البائع، وأهد السلعة إلى فلان، وأشهد عليه ذوي عدل» في أنّ الإشهاد يعود إلى ما يحتاج إلى الإشهاد هذا مع أنّه يمكن عود الأمر بالإشهاد إليهما معا.
إن قلت: عوده إليهما يستلزم تساوي الطّلاق والرّجعة في وجوب الإشهاد واستحبابه، وأنتم لا تقولون به، بل بالوجوب في الطلاق والاستحباب في الرّجعة.
قلنا فحينئذ يكون من المجملات الّتي بيّنها العترة الطاهرة بتفصيل أحكامها بأن يكون لمطلق الرجحان، فمع قيد عدم جواز الترك يكون في الطّلاق ومع قيد جوازه يكون في الرّجعة، ثمّ إنّه تعالى أمر بإقامة الشهادة لله لا لرغبة أو رهبة وأخبر بأنّ ذلك المنتفع بالأمر هو المؤمن بالله واليوم الآخر.
الثالثة
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِانْفُسِهِنَّ ثَلََثَةَ قُرُوء
{وَالْمُطَلَّقََاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلََاثَةَ قُرُوءٍ وَلََا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مََا خَلَقَ اللََّهُ فِي أَرْحََامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
بِرَدِّهِنَّ فِي ذََلِكَ إِنْ أَرََادُوا إِصْلََاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجََالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللََّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1).(2/254)
{وَالْمُطَلَّقََاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلََاثَةَ قُرُوءٍ وَلََا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مََا خَلَقَ اللََّهُ فِي أَرْحََامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
بِرَدِّهِنَّ فِي ذََلِكَ إِنْ أَرََادُوا إِصْلََاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجََالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللََّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1).
استفيد من هذه أحكام:
1 - أنّ عدّة مستقيمة الحيض ثلاثة أقراء، وهو ليس على عمومه بل مخصوص بالمدخول بهنّ، لما يأتي أنّ غير المدخول بها لا عدّة عليها، وكذا الآئسة والصّغيرة وكذا الحكم يختصّ بالحرّة، فانّ الأمة عدّتها قرءان، إذا كانت مستقيمة الحيض ولمّا كان القرء مشتركا بين الحيض والطّهر لإطلاقه عليهما أمّا على الحيض فلقوله صلّى الله عليه وآله: دعي الصّلاة أيّام أقرائك (2) وأمّا على الطهر فلقول الأعشى (3)
__________
(1) البقرة: 228.
(2) خطابه صلّى الله عليه وآله لفاطمة بنت أبى حبيش، راجع مشكاة المصابيح ص 57، الوسائل.
(3) الأعشى في اللغة من لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار، وعدة من هو أعشى من الشعراء سبعة عشر شاعرا سردهم الآمدي في المؤتلف والمختلف من ص 12110وأبو أحمد العسكري في كتاب شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف 436433.
وقائل البيتين هو أعشى قيس: ميمون بن قيس الوائلى المكنى بابى بصير، ذكر نسبه التبريزي في شرح القصائد العشر الى عدنان ص 288وترى ترجمته في الخزانة للعبدي ص 122120في شرح الشاهد الثالث والعشرين، وفي الإعلام للزركلى ص 300ج 8وبلوغ الارب ج 3ص 133129، والشعر والشعراء ص 8479.
كان شاعرا جاهليا أدرك الإسلام، ولما يسلم حتى سقط من بعيره فمات، كان من فحول شعراء الجاهلية، سلك في شعره كل مسلك، يفد على الملوك، وفي الخزانة: قال المفضل: من زعم أن أحدا أشعر من الأعشى فليس يعرف الشعر، وقال الآلوسي في بلوغ الارب عند ترجمة زهير ابن ابى سلمى ج 3ص 97هو أحد الأربعة الذين وقع عليهم الاتفاق على أنهم أشعر العرب، وهم امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، فاما الاختلاف في تفضيل بعضهم على بعض فقائم على ساق، وكان يقال أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب.(2/255)
وفي كلّ عام أنت جاشم غزوة ... تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
مورّثة مالا وفي الحيّ رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا (1)
اختلف هل المراد هنا الطهر أو الحيض؟ قال أصحابنا والشافعيّة إنّها الطّهر لوجوه الأوّل: قوله تعالى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} وقد تقدّم أنّ الطّلاق المشروع لا يكون في الحيض، الثاني قضيّة ابن عمر، وقد تقدّم ذكرها
__________
(1) أنشد البيتين كما في المتن أبو الفتوح الرازي عند تفسير الآية من سورة البقرة ج 2ص 225، والجصاص في أحكام القرآن ج 1ص 431، والكامل ص 238، وأنشد البيت الأخير كما في المتن ابن دريد في الجمهرة ج 2ص 276، العمود الثاني، وكذا البيضاوي.
وأنشدهما الطبري في ج 2ص 444. وضبط الشطر الثالث «وفي الذكر رفعة» وضبط في مجمع البيان ج 2ص 325والتبيان ج 1ص 241ط إيران «وفي الأرض رفعة» وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة ج 1ص 74 «وفي الأصل رفعة» كما في الصحاح ق رء وفيه البيت الأخير فقط وضبط الشطر الأول في حاشية الشهاب على البيضاوي ج 2ص 311 «جاشم رحلة» والشطر الثالث «وفي المجد رفعة».
وضبط البيتين في شرح شواهد الكشاف للافندى المطبوع في آخر الكشاف ص 138هكذا.
أفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لا قصاها عظيم عزاتكا
مؤثلة ما لا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
ثم قال في شرحه: الشاعر هو الأعشى يخاطب جارا له غازيا ويقول له: تجشم لتكلف نفسك كل عام غزوة، وتوثق عليها عزيمة الصبر، لتكثر فيها مال الغنيمة، وتريد الرفعة في الحي لما ضاع في تلك الأيام من عدة نسائك.
أراد أنه يخرج في كل سنة الى الغزو ولا يغشى نساءه فتضيع أقراؤهن. واللام في «لما» كما في قوله تعالى {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} وتوجيه الاستدلال أن المراد بالقروء: الاطهار، لأنها هي الضائعة على الزوج، إذ الزوجة في محل الاستمتاع بخلاف الحيض.(2/256)
دلّت على أنّه الطهر، الثالث أنّه قال {«ثَلََاثَةَ قُرُوءٍ»} وإلحاق التاء بالعدد يراد به المذكّر، والطهر مذكّر والحيض مؤنّثة.
الرابع روى أصحابنا عن زرارة قال سمعت ربيعة الرأي يقول إنّ من رأيي أنّ الأقراء هي الأطهار بين الحيضتين، وليس بالحيض فدخلت على الباقر عليه السّلام فحدّثته بما قال فقال عليه السّلام «كذب لم يقل برأيه وإنّما بلغه عن عليّ عليه السّلام» فقلت أصلحك الله أكان عليّ عليه السّلام يقول ذلك؟ قال نعم كان يقول إنّما القرء الطهر يقرء فيه الدّم فيجمعه فإذا جاء الحيض قذفته، قلت أصلحك الله رجل طلّق امرأته طاهرا من غير جماع بشهادة عدلين، قال إذا دخلت في الحيضة الثّالثة فقد انقضت عدّتها وحلّت للأزواج قال قلت إنّ أهل العراق يروون عنه عليه السّلام أنّه كان يقول:
هو أحقّ برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، قال كذبوا (1).
وقال أبو حنيفة إنّه الحيض لقوله صلّى الله عليه وآله طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان (2) وأجيب بأنّه غير معلوم الصحة.
2 - أنّه يرجع إلى قول المرأة في طهرها وحيضها لأنّه قال سبحانه {وَلََا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} فلو لم يكن القول قولها لما حرّم عليها كتمانه، فقيل: المراد الحيض وقيل الحمل، وقيل هما معا وهو أولى لعموم اللّفظ لهما ولقول الصادق عليه السّلام قد فوّض الله إلى النساء ثلاثة الحيض والطّهر والحمل (3)، وإنّما لم يحلّ لهنّ كتمان ذلك لأنّ فيه إبطالا لحقّ الزوج.
3 - أنّ الزّوج أحقّ بالرّجعة ما دامت في العدّة لقوله {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} لكن مع كون الطّلاق رجعيّا للآية الّتي تتلوها فالضّمير أخصّ من المرجوع إليه وهو المطلقات الّذي هو من صيغ العموم، ولا امتناع في ذلك كما لو كرّر الظّاهر ثمّ خصّصه، وهل يتخصّص العامّ بذلك؟ خلاف، وتحقيقه في
__________
(1) تفسير العياشي ج 1ص 114تحت الرقم 351من سورة البقرة.
(2) سنن ابى داود ج 1ص 506.
(3) راجع مجمع البيان ج 2ص 326.(2/257)
الأصول وقوله {إِنْ أَرََادُوا إِصْلََاحاً} ليس شرطا للرّجعة، بل حضّا للزّوج على إرادة الإصلاح للنّساء، وعدم المضارّة لهنّ.
4 - أنّ لكلّ واحد من الزّوجين حقّا على الآخر لقوله {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} والمماثلة في الوجوب لا الجنس، وأمّا حقّ المرأة فالمهر والنفقة والإسكان والكسوة، وعدم إضرارها، وأمّا حقّه عليها فالطاعة له وعدم التبرّم لحوائجه، وأن لا تدخل فراشه غيره، وأن تحفظ ماءه، ولا يحتال في إسقاطه.
روي أنّ امرأة معاذ قالت يا رسول الله ما حقّ الزّوجة على زوجها؟ قال أن لا يضرب وجهها، ولا يقبحها، وأن يطعمها ممّا يأكل ويلبسها ممّا يلبس ولا يهجرها (1)».
وعن الباقر عليه السّلام «قال جاءت امرأة فقالت يا رسول الله ما حقّ الزّوج على المرأة؟ فقال تطيعه ولا تعصيه، ولا تتصدّق بشيء من بيتها إلّا باذنه، ولا تصوم تطوّعا إلّا باذنه، ولا تمنعه نفسها، وإن كانت على ظهر قتب، ولا تخرج من بيتها إلّا بإذنه فإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السّماء وملائكة الأرض وملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتّى ترجع، قالت من أعظم الناس حقّا على المرأة؟ قال زوجها قالت فمالي من الحقّ مثل ماله عليّ؟ قال: لا ولا من كلّ مائة واحدة قالت والّذي بعثك بالحقّ لا يملك رقبتي رجل أبدا (2).
وقال صلّى الله عليه وآله لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها (3).
قوله {وَلِلرِّجََالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أي زيادة في الحقّ، وفضل فيه، لأنّهم يشاركونهنّ في غاية النكاح، ويختصّون بزيادة وجوب المهر والإنفاق والرعاية وغير ذلك.
5 - استفيد من ذكر الحقّ أنّه يجب على المرأة عقيب مراجعة الزّوج الانقياد
__________
(1) مجمع البيان ج 2ص 327.
(2) الكافي ج 5ص 511، عن أبى عبد الله عليه السّلام ورواه في الفقيه عن الباقر عليه السّلام.
(3) مشكاة المصابيح ص 283قال رواه أبو داود وأحمد.(2/258)
له والدخول في طاعته وذلك سبب ذكره هنا.
6 - إن قلنا باجتماع الحيض مع الحمل فالآية مخصوصة بمن عدا الحامل وإلّا فلا يكون الآية شاملة للحامل لانتفاء شرط حكمها وهو حصول القرء.
الرابعة
وَاللََّائي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحيضِ مِنْ نِسائِكُمْ
{وَاللََّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسََائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلََاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللََّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولََاتُ الْأَحْمََالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} (1).
روي أنّه لمّا نزلت الآية السابقة في عدّة ذوات الأقراء قيل فما عدّة اللّائي لم يحضن؟ فنزلت هذه الآية، واختلف في أيّ شيء وقعت الرّيبة؟ قيل في كون انقطاع حيضهنّ لكبر أم لعارض، وقيل في حكمهنّ فلا تدرون ما الحكم فيهنّ والأوّل موافق لمذهب أكثر الأصحاب من كون الآئسة لا عدّة لها لما رواه جماعة منهم عبد الرحمن بن الحجّاج «عن الصادق عليه السّلام ثلاث يتزوّجن على كلّ حال الّتي لم تحض ومثلها لا تحيض، قال قلت وما حدّها؟ قال إذا أتى لها أقلّ من تسع سنين، والّتي لم يدخل بها والّتي قد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض قال قلت وما حدّها؟ قال إذا كان لها خمسون سنة (2).
فعلى هذا تكون العدّة المذكورة أعني الأشهر الثلاثة لمن هي في سنّ من تحيض وانقطع منها الحيض لعارض، من مرض أو رضاع أو غير ذلك سواء كان ذلك الانقطاع مع الشكّ في سنّها أو لا معه؟ بل الشّكّ في سبب الانقطاع وهو المشار إليه بقوله {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أو لا للشكّ بل مع القطع بانقطاعه والجزم بسببه، وهو المشار إليه بقوله {وَاللََّائِي لَمْ يَحِضْنَ}.
فعلى هذا يكون المراد بقوله {وَاللََّائِي يَئِسْنَ} أي حصل لهنّ صفة الآئسات
__________
(1) الطلاق: 4.
(2) الكافي ج 6ص 85.(2/259)
وهو انقطاع الحيض إمّا مع الريبة أو مع القطع، فعدّتهنّ ثلاثة أشهر، ولا يكون حينئذ في الآية دليل على عدم العدّة في اليائسة والصّغيرة ولا على وجودها نعم الحقّ أن لا عدّة عليهما لأنّ الغاية والحكمة في شرعيّتها العلم باستبراء الرّحم وهو منتف فيهما.
والثاني هو قول أكثر المفسّرين وبه قال السيّد المرتضى رضي الله عنه:
أنّ الارتياب في وجوب العدّة لا في السّنّ، وأنّ المراد باللّائي لم يحضن أي لم يبلغن سنّ الحيض، عدّتهن ثلاثة أشهر حذف الخبر لدلالة ما تقدّم عليه واحتجّ بوجهين الأوّل سبب النّزول وهو أنّ أبيّ بن كعب قال يا رسول الله إنّ عددا من عدّة النساء لم تذكر في الكتاب الصّغار والكبار وأولات الأحمال فنزلت. الثاني أنّه لو أراد ما ذكره الأصحاب من الشكّ في ارتفاع الحيض لقال إن ارتبتنّ لأنّ المرجع في الحيض إليهنّ والجواب عن الأوّل أنّه لو كان المراد ما ذكره لقال إن جهلتم ولم يقل إن ارتبتم لأنّ سبب النزول كما ذكر يوجب ذلك لأنّ أبيّا لم يشكّ في عدّتهنّ بل جهل وعن الثّاني أنه أتى بالضّمير مذكّرا لكون الخطاب مع الرّجال لقوله {وَاللََّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسََائِكُمْ} ولأنّ النساء يرجعن في تعرّف أحكامهنّ إلى رجالهنّ وإلى العلماء، فكان الخطاب لهم لا للنساء، لأنّهنّ يأخذن الحكم منهم.
قوله {وَأُولََاتُ الْأَحْمََالِ أَجَلُهُنَّ} أي أجلهنّ مدّة وضع الحمل فإنّ «أن» مع الفعل في تقدير المصدر، وهذا لا خلاف فيه في الطلاق، وهل هو كذلك في الوفاة، بمعنى أنّه لو تقدّم الوضع على أربعة أشهر وعشر، يكون العدّة منقضية بذلك أم لا؟
قال أصحابنا لا بل عدّتها أبعد الأجلين وهو قول عليّ عليه السّلام وابن عبّاس وقال الفقهاء الأربعة والأوزاعي بالأوّل محتجّين بعموم الآية.
واحتجّ أصحابنا بدخولها في عموم قوله {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوََاجاً} فقد دخل تحت عامّين، ولا وجه للجمع بينهما إلّا بالقول بأبعد الأجلين
ولطريقة الاحتياط ولاختصاص آية الوضع بالمطلّقات، ولو سلّم عمومها فهي مخصوصة بإجماع الإماميّة لدخول المعصوم فيهم.(2/260)
واحتجّ أصحابنا بدخولها في عموم قوله {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوََاجاً} فقد دخل تحت عامّين، ولا وجه للجمع بينهما إلّا بالقول بأبعد الأجلين
ولطريقة الاحتياط ولاختصاص آية الوضع بالمطلّقات، ولو سلّم عمومها فهي مخصوصة بإجماع الإماميّة لدخول المعصوم فيهم.
وقال الجمهور: آية الوضع عمومها بالذات «وأزواجا» عمومها بالعرض وهو وقوعها تبعا للعامّ، وهو «الّذين» والمحافظة على العموم الأوّل أولى، ولأنّ الحكم معلّل بالوضع الموجب لنقاء الرّحم من ماء الميّت الّذي تعتدّ لأجله بخلاف آية {أَزْوََاجاً} ولأنّها متأخّرة نزولا فتقديمها تخصيص وتقديم تلك بناء للعامّ على الخاصّ والأوّل أرجح للاتّفاق عليه.
والجواب عن الأوّل بأنّه لا فرق بينهما عند الأصوليّين وعن الثاني بأنّ العلّة حاصلة على قولنا أيضا على أنّا نمنع أنّ الوضع علّة وعن الثّالث بأنّ التخصيص والبناء معا دليلان، فلا فرق بينهما.
وهنا فوائد تتضمّن أحكاما:
1 - أنّها تبين بالوضع بعد الطلاق ولو بلحظة.
2 - أنّه لا يشترط في الوضع التماميّة فلو وضعت علقة بانت بها.
3 - لو كانت حاملا باثنين فوضعت واحدا بانت لكن لا تنكح حتّى تضع الآخر إلّا أن يكون الناكح الزّوج بعقد جديد.
4 - أنّ الوضع للحمل يتساوى فيه الحرّة والأمة، وأمّا الأشهر فعدّة الأمة فيها النصف.
قوله {وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ} أي من النساء والرّجال في أحكام العدّة يسهّل عليه أموره.
الخامسة
يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنََاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمََا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهََا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرََاحاً جَمِيلًا} (1).
__________
(1) الأحزاب: 49.(2/261)
هنا فوائد:
1 - أنّ النكاح لم يجيء في القرآن إلّا بمعنى العقد وهو دليل على كونه حقيقة فيه شرعا، ولأنّه لو استعمل في الوطء لكان تصريحا بكونه حقيقة فيه لغة لا شرعا لأنّ من دأب القرآن التعبير عنه بالملامسة والمماسّة والمقاربة والتغشّي والإتيان والدخول والوطء والكلّ كناية وليس الصّريح فيه لغة إلّا النيك.
2 - أنّ المراد بقوله {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أي تنيكوهنّ، وليست الخلوة الخالية عن ذلك قائمة مقامه في إسقاط العدّة واستقرار المهر جملة خلافا لأبي حنيفة.
3 - في قوله {فَمََا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} تنبيه على أنّ العدّة حقّ للزّوج لكون الرجوع للزوج فيها لا بعدها والزّوجة وإن كان لها حقّ النفقة والإسكان لكن حقّه أقوى، لأنّ المنع من التزويج بغيره لأجله لا لها.
4 - قوله {تَعْتَدُّونَهََا} بمعنى تستوفون عددها، من عددت لهم الدّراهم فاعتدّها، كقولك كلته فاكتال ووزنته فاتّزن.
5 - أنّ الأمر بالتمتّع إمّا على الندب إذ لا متعة لغير المفروضة عند الأكثر أو المراد به نصف المهر أو الأمر مقيّد بعدم الفرض، وليس المراد بالسراح هنا الطلاق إجماعا بل المراد به الإخراج من المنزل، لعدم وجوب العدّة هنا فلا يجب الإسكان وكونه «جميلا» أى من غير إضرار ولا إخلال بحقّ.
والآية صريحة في عدم وجوب العدّة على غير المدخول بها.
السادسة
وَالَّذينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوََاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذََا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ فِيمََا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1).
{الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} مبتدأ {يَتَرَبَّصْنَ} خبر مبتدأ محذوف، تقديره أزواجهم
__________
(1) البقرة: 234.(2/262)
يتربّصن حذف لقرينة قوله تعالى {وَيَذَرُونَ أَزْوََاجاً} وتقدير الكلام والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا أزواجهم يتربّصن، والمبتدأ الثاني مع خبره خبر للمبتدإ الأوّل.
وقيل: إنّ التقدير أزواج الّذين يتوفّون، فحذف المضاف وأقيم المضاف» إليه مقامه، وفيه نظر لأنّه لو كان كذلك لم يحتج إلى قوله {وَيَذَرُونَ أَزْوََاجاً} لأنّ ذلك يعلم من تأنيث الضّمير. وتأنيث العشر باعتبار اللّيالي لأنّها غرر الشهور والأيّام ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله قطّ حتّى أنّهم يقولون صمت عشرا ويدلّ عليه قوله تعالى {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلََّا عَشْراً} (1) ثمّ قال {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلََّا يَوْماً}
إذا عرفت هذا ففي الآية أحكام:
1 - أنّها ناسخة للآية الّتي بعدها في الترتيب وهي قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوََاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوََاجِهِمْ مَتََاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرََاجٍ}
فإنّ ذلك كان في أوّل الإسلام أعني العدّة سنة والنفقة والإسكان، ثمّ نسخ، وهو قول أبي حنيفة وعند الشافعيّ الإسكان ثابت لم ينسخ، وقال أبو مسلم الأصفهانيّ إنّ حكمها باق في الحامل.
وقال شاذّ من فقهاء العامّة وهو أبو حذيفة أنّه إن أوصى للزّوجة بشيء وأنفق الورثة عليها فالحول، وإن لم يوص وامتنع الورثة من الإنفاق كان لها أن يتصرّف في نفسها كيف شاءت بعد أربعة أشهر وعشر، وهذان القولان انعقد الإجماع على بطلانهما، نعم تضمّنت الآية الوصيّة للزّوجة فعند فقهاء العامّة أنّها منسوخة أيضا بآية الإرث من الثمن والرّبع، ولقوله صلّى الله عليه وآله «لا وصيّة لوارث» وعندنا الوصيّة جائزة لها وإن كانت وارثة لما يأتي من جواز الوصيّة للوارث.
2 - أنّها عامّة في المدخول بها وغيرها، الصغيرة والكبيرة والحامل والحائل لكنّ الحامل بأبعد الأجلين كما تقدّم، وكذا حكمها ثابت في الدائم والمنقطع
__________
(1) طه: 103و 104.(2/263)
على الأقوى، وهل حكمها ثابت في الأمة، كما في الحرّة؟ للأصحاب قولان بعضهم أجرى في الأمة عمومها. وهو قول الشافعيّ والأصمّ وبعض جعل عدّتها النصف من ذلك وهو الأقوى أمّا أمّ الولد يموت سيّدها فحكم الأمة غير ثابت فيها قطعا (1)
لكونها حال الاعتداد حرّة.
3 - هذه العدّة ليس فيها إنفاق ولا إسكان، فلها أن تبيت حيث شاءت نعم يجب فيها الحداد وهو ترك الزينة لقوله صلّى الله عليه وآله «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت أكثر من ثلاثة أيّام إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا (2)
فهل ذلك واجب على الأمة؟ قيل: نعم، لعموم الحديث وقيل لا، لأصالة البراءة والحديث عن الباقر عليه السّلام كما رواه زرارة «الحرّة تحدّ والأمة لا تحد» (3) وعليه الفتوى.
4 - العدّة في الطلاق مبدأها وقوعه لأنّه السبب فلا يتأخّر مسبّبه أمّا هذه فمبدؤها للحاضر الموت، وللغائب بلوغ الخبر، ولو بخبر واحد فاسق لأنّه تكليف يكفي في ثبوته الظنّ لكن لا تنكح حتّى تثبت الموت بشاهدين عدلين أو بالشياع.
5 - علّل بعضهم التقدير بالأربعة أشهر وعشر بأنّ الجنين في الغالب يتحرّك بثلاثة أشهر إن كان ذكرا ولأربعة إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشر استظهارا إذ ربما يضعف حركته في المبادي فلا يحسّ بها.
6 - قوله {فَإِذََا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي انقضى أجلهنّ {فَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ فِيمََا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} من التعرّض للأزواج، وعدم الحداد وغير ذلك، إذا فعلن ذلك {بِالْمَعْرُوفِ} أي الوجه الّذي لا ينكره العقل ولا الشّرع. دلّ مفهومه على وجوب الإنكار عليهنّ لو فعلن خلاف المعروف.
__________
(1) فحكم الآية ثابت فيها قطعا خ.
(2) أخرجه في المستدرك ج 3ص 21عن غوالي اللئالي.
(3) الكافي ج 6ص 170.(2/264)
السابعة {الطَّلََاقُ مَرَّتََانِ فَإِمْسََاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسََانٍ} (1).
قالت الشافعيّة المراد التطليق الرّجعيّ اثنان لما روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله سئل أين الثالثة فقال عليه السّلام {«أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسََانٍ»} وقال أصحابنا والحنفيّة (2) المراد
__________
(1) البقرة: 229.
(2) الا ان الحنفية قائلون بأنه إذا طلقها في طهر واحد ثنتين أو ثلاثا دفعة واحدة أو متفرقة فعل محرما وعصى وأثم، الا أن ذلك واقع، وبه قال مالك أيضا والإمامية قائلون بعدم الوقوع كما سيصرح به المصنف رضوان الله عليه.
وعلى كل، فكفانا كتاب الله العزيز وقد قال: الطلاق مرتان الى آخر الآية إذ لا يفهم منه الا وقوع الطلاق مرة بعد مرة، وهذا يقتضي أن تكون تطليقتين متفرقتين لأنهما ان كانا مجتمعتين لم يكن مرتين، وتعريف الطلاق بالألف واللام أيضا لبيان أن الطلاق المشروع مرتان، فما جاء على هذا فليس بمشروع.
ثم قوله سبحانه في آخر الآية {فَإِنْ طَلَّقَهََا فَلََا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتََّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} كالصريح في أن الطلاق الذي يمنع عن الرجوع هو الثالث الواقع بعد المرتين اللتين كان الزوج فيهما مخيرا بين الإمساك والتسريح بإحسان، أي تركها وشأنها مع الإحسان إليها حتى في هذه المرحلة الأخيرة من حياتهما الزوجية.
قال الزمخشري في تفسير الآية ص 278ج 1من الكشاف: التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، ولم يرد بالمرتين التثنية، ولكن التكرير كقوله {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي كرة بعد كرة، لا كرتين اثنتين انتهى ما أردنا نقله.
أقول: ولأجل ذلك جعل النبي صلّى الله عليه وآله خلاف ذلك تلاعبا بكتاب الله ففي سنن النسائي ج 6ص 142:
أخبرنا سليمان بن داود عن ابن وهب قال: أخبرني مخرمة عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله عن رجل طلق امرءته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل وقال: يا رسول الله ألا أقتله؟.
قال السندي في شرحه «أيلعب بكتاب الله» يحتمل بناء الفاعل أو المفعول، أى يستهزء به، والمراد به قوله تعالى {الطَّلََاقُ مَرَّتََانِ} الى قوله {وَلََا تَتَّخِذُوا آيََاتِ اللََّهِ هُزُواً} فان معناه التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال مرة واحدة، ولم يرد بالمرتين التثنية ومثله قوله تعالى {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} اى كرة بعد كرة لا كرتين اثنتين.
ثم بين معنى الإمساك بمعروف، ثم قال: وقوله {لََا تَتَّخِذُوا آيََاتِ اللََّهِ هُزُواً} أى بالجمع بين الثلاث، والزيادة عليها، فكلاهما لعب واستهزاء، والحد والعزيمة ان يطلق واحدا، وان أراد الثلاث ينبغي أن يفرق.
ثم قال: «ألا أقتله؟» لان اللعب بكتاب الله كفر، ولم يرد ان المقصود الزجر والتوبيخ وليس المراد حقيقة الكلام.
ثم قال: ثم اختلفوا في الجمع بين الثلاث، فقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي والليث: هو بدعة، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: ليس بحرام لكن الاولى التفريق، وظاهر الحديث التحريم، والجمهور على أنه إذا جمع بين الثلاث يقع الثلاث ولا عبرة بخلاف ذلك عندهم أصلا انتهى ما أردنا نقله.
وعلى أى، فالقرآن الكريم ناطق بعدم وقوع الثلاث كما عرفت، وإلزام الزوج بما ألزم به نفسه على حد زعمهم اجتهاد في مقابلة النص.
وقد أجازه الرسول العزيز أيضا واحدة ففي بداية المجتهد ج 2ص 61: انه روى ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة زوجه ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول الله صلّى الله عليه وآله كيف طلقتها؟ قال طلقتها ثلاثا في مجلس واحد، قال: انما تلك طلقة واحدة فارتجعها.
ونقل قريبا منه في سبل السلام ج 3ص 174وقال: قد حققنا في ثمرات النظر في علم أهل الأثر، وفي إرشاد النقاد الى تيسير الاجتهاد عدم صحة القدح في محمد بن إسحاق بما يجرح روايته، ونقله الجصاص أيضا ج 1ص 459، ونقله أيضا في الدر المنثور ج 1 ص 279عن البيهقي عن ابن عباس وقال الشوكانى في نيل الأوطار ص 256ج 6: أنه أخرجه أحمد وأبو يعلى وصححه.
ونقل المرحوم العلامة آية الله السيد شرف الدين طاب ثراه في ص 146من كتابه النص والاجتهاد عن مجلة المنار (المجلد الرابع ص 210): ومن قضاء النبي بخلافه ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس قال: طلق ركانة زوجته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلّى الله عليه وآله كيف طلقتها؟ قال: ثلاثا، قال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، قال صلّى الله عليه وآله: فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت وذكر في ذيله انه ذكره ابن إسحاق في ص 191من الجزء الثاني من سيرته.
وفي الترمذي الرقم 1177وابن ماجه الرقم 2051وأبو داود الرقم 2206و 2208القصة بنحو آخر، واللفظ كما جمعه في تيسير الوصول ج 3ص 141: وعن عبد الله بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله انى طلقت امرأتي البتة فقال ما أردت بها؟ قلت واحدة، فقال: والله ما أردت بها إلا واحدة؟ قلت: والله ما أردت بها إلا واحدة، فقال: هو ما أردت فردها اليه، فطلقها الثانية في زمن عمر، والثالثة في زمن عثمان، أخرجه أبو داود والترمذي.
قلت: وليس في الترمذي وكذا في ابن ماجة قصة الطلاق الثاني والثالث.
واستدل به على أنه لو أراد الثلاث لوقعت، وأجيب بأن الثابت في رواية في أنه صلى الله عليه وآله قال له: ارجعها بعد أن قال له انه طلقها ثلاثا كما قد عرفت وعرفت تصحيحه بهذا الوجه.
وأما باللفظ الأخر ففي سنده الزبير بن سعيد الهاشمي وقد ضعفه غير واحد، ومع ذلك لا صراحة فيه على وقوع الثلاث عند ارادته.
والثابت عند المحدثين من أهل السنة ان النبي صلّى الله عليه وآله لم يجزه إلا واحدة ومضى على ذلك في عهد أبى بكر وثلاث سنين من خلافة عمر بن الخطاب، ثم الزم الناس عليه ثلاثا لما رأى تتابع الناس عليه، فقال: أجيزوه عليهم، فأقره عمر ثلاثا لان الناس قد التزموا به، عقوبة لهم بعد أن كان بإجماع المسلمين لا يقع إلا واحدة، في حياة الرسول صلّى الله عليه وآله وشطرا من الزمن بعده.
فعن ابن عباس من عدة طرق كلها صحيحة قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب ان الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج 10ص 70، والدر المنثور ج 1ص 279، ونقله العلامة آية الله السيد شرف الدين طاب ثراه في النص والاجتهاد ص 146عن الحاكم في مستدركة مصرحا بصحته بشرط الشيخين والذهبي في تلخيص المستدرك معترفا بصحته بشرطهما ص 196من الجزء الثاني كتاب الطلاق، وكذا عن المسند ص 314ج 1والبيهقي ص 336 من الجزء السابع من سننه والقرطبي ص 130ج 3من تفسيره.
قلت: ونقله أيضا في سبل السلام ج 3ص 173ثم قال (في سبل السلام) وقد استشكل أنه كيف يصح من عمر مخالفة ما كان في عصره صلّى الله عليه وآله ثم في عصر أبى بكر ثم في أول أيامه، وظاهر كلام ابن عباس أنه كان الإجماع على ذلك، ثم ذكر أجوبة ستة وضعفها كلها ثم قال: والأقرب ان هذا رأى من عمر ترجح له كما منع من متعة الحج وغيرها، وكل أحد يؤخذ ويترك غير رسول الله صلّى الله عليه وآله وكونه خالف ما كان على عهده صلّى الله عليه وآله فهو نظير متعة الحج بلا ريب والتكلفات في الأجوبة ليوافق ما ثبت في عصر النبوة لا يليق فقد ثبت عن عمر اجتهادات يعسر تطبيقها على ذلك نعم ان أمكن التطبيق على وجه صحيح فهو المراد.
وعن طاوس قال: ان أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم انما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله وأبى بكر وثلاثا من أمارة عمر؟ فقال ابن عباس نعم. انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج 10ص 71، والدر المنثور ج 1ص 279، وأحكام القرآن للجصاص ج 1ص 459، وأبا داود الرقم 2200، وسنن النسائي ج 6ص 145عند عنوانه باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة.
وذكر السندي في شرحه: أن هذا الحديث بظاهره يدل على عدم وقوع الثلاث دفعة بل تقع واحدة فأشار المصنف في الترجمة إلى تأويله بأن يحمل الثلاث في الحديث على الثلاث المتفرقة لغير المدخول بها.
ثم قال بعيد ذلك: وعلى هذا اندفع الاشكال عن الجمهور الى أن قال وهذا محمل دقيق لهذا الحديث الا أنه لا يوافق ما جاء في هذا الحديث أن عمر بعد ذلك أمضى الثلاث، إذ هو ما أمضى الثلاث المتفرقة لغير المدخول بها، بل أمضى الثلاث دفعة للمدخول بها وغير المدخول بها، فليتأمل، ثم قال: فالوجه في الجواب أنه منسوخ، وقد قررناه في حاشية مسلم وحاشية أبي داود.
قلت: ويضعف ما ذكره من النسخ ما ذكره في سبل السلام عند الكلام في الأجوبة الستة فقال في الجواب بالنسخ: أنه يضعفه قول عمر: ان الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة إلخ، فإنه واضح في انه رأى محض لا سنة فيه، ثم قال: وما في بعض ألفاظه عند مسلم انه قال ابن عباس لأبي الصهباء: لما تتابع الناس في الطلاق في عهد عمر فأجازه عليهم.
قلت: ولعله إشارة الى ما أخرجه مسلم في صحيحه بشرح النووي ج 10ص 72عن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم تكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وأبى بكر واحدة؟ فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق، فأجازه عليهم.
قال النووي في شرحه: كانت لهم فيه أناة: هو بفتح الهمزة أى مهملة وبقية استمتاع لانتظار المراجعة و «تتابع» هو بياء مثناة من تحت بين الالف والعين هذه رواية الجمهور وضبطه بعضهم بالموحدة، وهما بمعنى، ومعناه أكثروا منه وأسرعوا إليه، لكن بالمثناة إنما يستعمل في الشر، وبالموحدة يستعمل في الخير والشر. فالمثناة هنا أجود.
وقوله «هات من هناتك» هو بكسر التاء من هات والمراد بهناتك إخبارك وأمورك المستغربة.
والحاصل أن النص القرآنى الصريح والسنة الثابتة عند المحدثين عن النبي صلى الله عليه وآله وإجماع المسلمين المتحقق في زمانه وشطرا من الزمن بعد وفاته على أنه لا يتحقق إلا واحدة.
قال ابن القيم الجوزية في ص 4644ج 3من أعلام الموقعين: ان قوله تعالى:
{الطَّلََاقُ مَرَّتََانِ} لا يفهم منه الا وقوع الطلاق مرّة بعد مرة، وأيد ذلك بقوله تعالى {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} وبقول الرسول صلّى الله عليه وآله «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» فالعرف واللغة لا يفهمان من ذلك الا التعدد ووقوع الفعل مرة بعد اخرى، وبعد أن ذكر أن الآية لا تدل على البينونة بمجرد قول الزوج لزوجته: أنت طالق ثلاثا قال:
فهذا كتاب الله، وهذه سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وهذه لغة العرب، وهذا عرف التخاطب، وهذا خليفة رسول الله والصحابة كلهم في عصره، وهم يزيدون على الالف قطعا على هذا المذهب، ثم استعرض جماعة من التابعين وتابعي التابعين يفتون بوقوعه واحدة.
وقد أطال ابن القيم في إعلام الموقعين القول في المسئلة، والأحاديث فيها والدلائل وأوضح معنى قوله تعالى {الطَّلََاقُ مَرَّتََانِ} بالآيات والأحاديث وهو أن معناها أنه يكون مرة بعد مرة.
ثم قال: وما كان مرة لم يملك المكلف إيقاع مراته كلها جملة كاللعان، فإنه لو قال أشهد بالله أربع شهادات انى لمن الصادقين كان مرة واحدة، ولو حلف في القسامة وقال:
اقسم بالله خمسين يمينا أن هذا قالته كان ذلك يمينا واحدة، ولو قال المقر بالزنا: أنا أقر أربع مرات أنى زنيت، كان مرة واحدة، فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك إلا إقرارا واحدا، ثم ذكر آيات وأحاديث أخرى كالاستيذان ثلاث مرات.
ثم ذكر أن الصحابة كانوا مجمعين على أنه لا يقع الطلاق بالثلاث مجتمعة إلا واحدة من أول الإسلام إلى ثلاث سنين من خلافة عمر، وان هذا الإجماع لم ينقضه إجماع بعد.
ثم سمى بعض من أفتى من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وأن الفتوى بذلك تتابعت في كل عصر وكان من أتباع الأئمة من أفتى بذلك فبعد ما ذكر أتباع التابعين قال:
فأفتى به داود بن على وأكثر أصحابه وأفتى به بعض الحنفية، وأفتى به بعض أتباع أحمد.
ثم لما كان ظاهر قضاء عمر في ذلك تلاعبا بكتاب الله وسنة نبيه، بل وإجماع المسلمين فتأوله ابن القيم الجوزية فبين أن اجازة عمر الثلاث لما تتابع الناس في الطلاق تأديب لهم على مخالفة ما شرعه الله في الطلاق من كونه يوقع المرة بعد المرة، ليرجعوا إلى السنة ووجه ذلك بالنسبة الى ذلك الوقت وذكر روايات في تأييده.
ثم بين أن المصلحة الان تقتضي الرجوع إلى الكتاب، وما مضت به السنة في عهد النبي صلّى الله عليه وآله والخليفة الأول، فرارا من مفاسد التحليل التي هي من أكبر العار على المسلمين الى آخر ما قال.
ولابن القيم أيضا بيان مبسوط في المسئلة من ص 6351من كتابه زاد المعاد ج 4، من أراد فليراجعه، وفيه: وأمير المؤمنين عمر رضى الله عنه لم يقل لهم: ان هذا عن رسول الله وانما هو رأى رآه مصلحة للأمة يكفهم بها عن التسارع إلى إلقاء الثلاث ولهذا قال: فلو أنا أمضيناه عليهم، وفي رواية: فاجيزوهن عليهم، وساق الكلام الى أن قال: فهذا نظر أمير المؤمنين رضى الله عنه، ومن معه من الصحابة، لا انه رضى الله عنه غير أحكام الله وجعل حلالها حراما.
وللشوكانى في نيل الأوطار ج 6ص 248244تفصيل مقال من أراد فليراجعه وقال في فذلكة البحث. والحاصل ان القائلين بالتتابع قد استكثروا من الأجوبة على حديث ابن عباس، وكلها غير خارجة عن دائرة التعسف، والحق أحق بالاتباع، فان كانت تلك المحاماة لأجل مذهب الاسلاف فهي احقر وأقل من ان تؤثر على السنة المطهرة، وان كانت لأجل عمر بن الخطاب فأين يقع المسكين من رسول الله صلّى الله عليه وآله.
ثم اى مسلم من المسلمين يستحسن عقله وعلمه ترجيح قول صحابي على قول المصطفى.
انتهى.
ونقل في المنار ج 2ص 385أن له اى الشوكانى رسالة خاصة في تفنيد أدلة الجمهور واجوبتهم عن الحديث الصحيح، قال: ولشيخ الإسلام ابن تيمية مؤلف خاص فيها.
وقال في المنار أيضا ج 2ص 387عند ذكره ان أكثر القضاة مع اطلاعهم على النصوص في كتب الحديث لا يبالون بها لان العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وآله.
الا أن محاكم مصر الشرعية قد خالفت مذهب الحنفية بعد استقلال البلاد دون الدولة العثمانية في كثير من أحكام الزوجية ومنها هذه المسئلة.
ولقد أنصف الشيخ الفقيد الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر في المسئلة، ففي رسالة الإسلام العدد الأول من السنة الحادية عشر ص 108:
«لا إنسي أنى درست المقارنة بين المذاهب بكلية الشرق، فكنت أعرض إيراد المذاهب في المسئلة الواحدة، وأبرز من بينها مذهب الشيعة، وكثيرا ما كنت أرجح مذهبهم خضوعا لقوة الدليل، ولا إنسي أنى كنت أفتى في كثير من المسائل بمذهب الشيعة وأخص منها بالذكر ما تضمنه قانون الأحوال الشخصية الأخير، ومنه على سبيل المثال المسائل الاتية.
أولا: الطلاق الثلاث بلفظ واحد، فإنه يقع في المذاهب السنية ثلاثا، ولكنه في مذهب الشيعة يقع واحدة رجعية، وقد رأى القانون العمل به، وأصبحت الفتوى بمذهب أهل السنة لا يقام لها وزن في نظر القضاة الشرعي السنة؟؟؟؟.
ثانيا: رأى قانون الأحوال الشخصية في تنظيمه الأخير أن الطلاق المعلق منه ما يقع ومنه ما لا يقع، تبعا لقصد التطليق أو قصد التهديد، ولكن مذهب الشيعة يرى أن التعليق مطلقا قصد به التهديد أو التطليق لا يقع به الطلاق، وقد رجحت هذا الرأي وكثيرا ما أفتيت به، وكثيرا ما أذعته في أحاديثي المتعلقة بالطلاق وأجوبة السائلين عن إيقاع الطلاق.
والباحث المستوعب سيجد كثيرا في مذهب الشيعة ما يقوى دليله، ويلتئم مع أهداف الشريعة من إصلاح الأسرة والمجتمع ويدفعه إلى الأخذ به، والإرشاد إليه. انتهى.
وقال الشيخ شلتوت في كتابه الإسلام عقيدة وشريعة ص 186:
واذن فالطلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يقع إلا واحدة، وكما رسم الإسلام في الطلاق التفريق على هذا الوجه وجعل الجمع لغوا لا يقع به شيء كذلك رسم فيه أن يكون منجزا أى موقعا بالفعل ليس معلقا على شيء بفعل منه أو منها، كأن يقول: ان فعلت كذا فأنت طالق.
ثم قال: وكذلك رسم فيه أن لا يتخذه يمينا على شيء يفعله أولا يفعله، كأن يقول:
على الطلاق أن هذه السلعة بكذا، أو: امرأتي طالق إذا لم تكن السلعة من نوع كذا.
وهكذا من الايمان التي تجري بين الناس وهم في أسواقهم ومجتمعاتهم دون أن يكون لزوجاتهم شأن بها.
وكذلك رسم أن يكون الطلاق في طهر لم يمسها فيه، فان طلقها في طهر مسها فيه فإنه يكون لغوا ولا تأثير له على الحياة الزوجية، وكذلك إذا طلقها في غير طهر وهكذا وضع الإسلام للطلاق الذي مع قيودا بالنظر الى لفظه وبالنظر الى أهلية الزوج، وبالنظر الى حالة الزوجة؟؟؟؟؟ ضاقت الدائرة التي يقع فيها الطلاق ويكون له تأثير على الحياة الزوجية التي استقرت وأخذت حظها من الوجود.
وفي ص 310من كتاب الفتاوى له (للشيخ شلتوت) عند ذكره فتاوى المفتين للمقلدين وضررها:
هذه ناحية، أما الناحية الأخرى، وهي ناحية الفتوى بوقوع الطلاق أو الحكم بوقوعه فقد جرينا نحن المفتين والقضاة على الإفتاء أو الحكم بوقوع الطلاق على مذاهب معينة قد تشهد الحجة القوية لغيرها في عدم وقوعه والرأي أن لا نفتي ولا نحكم بوقوع طلاق إلا إذا كان مجمعا من الأئمة على وقوعه، فإن الحياة الزوجية ثابتة بيقين، وما يثبت لا يرفع الا بيقين مثله، ولا يقين في طلاق مختلف فيه.
وعلى هذا فلا نحكم بوقوع الطلاق إلا إذا كان مرة مرة، وكان منجزا مقصودا للتفريق في طهر لم يقع فيه طلاق ولا إفضاء وكان الزوج بحاله تكمل فيها مسئوليته. وبهذا لا نحكم بوقوع الثلاث دفعة واحدة إذا قالت: أنت طالق ثلاثا، ولا نحكم بوقوع الطلاق إذا كان معلقا كأن يقول: ان فعلت كذا فأنت طالق، وهو لا يحب الطلاق ولا يريده.
ولا بوقوعه في قول اللاعب الهازل مع زوجه أو غيرها أنت طالق أو هي طالق، ولا في قول البائع علىّ الطلاق أن هذه السلعة بكذا. أو امرأتي طالق إذا لم تكن السلعة من نوع كذا أو علىّ الطلاق لا بد أن تأكل أو تفعل كذا، ولا يقع والمرأة في حيض أو نفاس أو طهر اتصل بها فيه.
ولو أوقع عليها طلاقا في طهر لم يتصل بها فيه ثم أوقع عليها طلقة أخرى في الطهر نفسه لا تقع تلك الطلقة الثانية، وكذلك لا يقع طلاق وهو في حالة سكر أو غضب يملك عليه اختياره.
ثم قال: والذي يؤسف له انه على الرغم من أن قانون المحاكم الشرعية الحالي ألغى وقوع الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث وجعله واحدة رجعية، وألغى وقوع الطلاق المعلق إذا قصد به الحمل على شيء أو تركه، فان أكثر العلماء أو أكثر المتصدين لفتوى الناس لا يفتون الا بمذاهبهم الخاصة التي تعلموها ودانوا بها فضلا عن الحالات التي لم يأخذ بها القانون (وترى المذاهب الأخرى عدم الوقوع فيها تضييقا لدائرة الطلاق بقدر الإمكان).
وكانت النتيجة لموقف هؤلاء المفتين أن يأخذ المطلق الفتوى بالوقوع عن لسانهم ويذهب مؤمنا لها إلى المأذون فيحكي أنه طلق امرأته ثلاثا فيبادر إلى إخراج قيمة الطلاق وفيها: حضر فلان وأقر بأنه طلق زوجته ثلاثا مكملا للثلاث، وبهذه الورقة الرسمية تبين الزوجة من زوجها، ويقع الزوجان في ارتباك، وتتمثل أمامها مشاهد التشرد المولم للأبناء، وقد أدركهما سوء الحظ بالتزام الإفتاء على المذهب المعين، ثم ان هذه الورقة الرسمية قد لا يكون لها واقع صحيح.
وقال أيضا في ص 313من الفتاوى الفقهية:
شرع الإسلام الطلاق حينما تشتد الخصومة بين الزوجين وتسوء بينهما العشرة إلى حد لا تجدي فيه محاولة الإصلاح، وبه تسير الحياة الزوجية نارا تلتهم مزايا الزواج الاجتماعية من السكن والمودة والرحمة والتعاون على تكوين أسره يصان فيها الحقوق وتترعرع في احضانها الأطفال الذين يكونون بعد رجالا عالمين في الحياة.
ولهذا شرع الإسلام وقد عرف الناس الطلاق من قديم غير أنهم كانوا بأهوائهم وبطغيانهم على المرأة وأذلالها كثيرا ما يقصدون به إيذاءها واضرارها، فكان الرجل يطلق زوجتها ثم يراجعها قبل انقضاء العدة، ثم يطلقها الى غير حد: تطليق فمراجعة تطليق فمراجعة، وهكذا، لا تتركها تتزوج غيره فتستريح، ولا يثوب الى رشده فيحسن عشرتها فتستريح وانما يتخذها ألعوبة بيده يطلقها متى شاء على حسب ما يهوى ويشتهي.
فأنزل الله انقاذا للمرءة من هذا السوء قوله تعالى {الطَّلََاقُ مَرَّتََانِ فَإِمْسََاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسََانٍ} والمعنى أن الطلاق المشروع عند تحقق ما يبيح الطلاق أن يكون على مرتين مرة بعد مرة اى دفعة بعد دفعة.
فإذا ما طلق الرجل المرة الأولى أو الثانية كان عليه اما ردها الى عصمته مع إحسان عشرتها فتستمر الحياة بينهما طيبة سعيدة، وذلك هو الإمساك بالمعروف، واما تركها حتى تنقضي عدتها وتنقطع علاقتها به ويزول سلطانه عليها فتتزوج غيره ان شاءت وذلك هو التسريح بالإحسان.
فإن عاد الزوج بعد أن راجعها من الطلاق الثاني وطلقها ثالثة حرمت عليه، ولا يملك مراجعتها إلا إذا تزوجت بغيره زواجا صحيحا مقصودا به ما يقصد بالزواج وهو العشرة الدائمة بالسكن والمودة، لا يجدى في ذلك ما اخترعه بعض الناس من الزواج بغيره على قصد التحليل، فان هذا منكر واحتيال لا تحل به للاول، وقد لعن الرسول صلّى الله عليه وآله فاعله وسماه التيس المستعار.
وقد تضمن ذلك قوله تعالى بعد هذه الآية {«فَإِنْ طَلَّقَهََا فَلََا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتََّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ»} ومن هذا يتبين ان الطلاق الثلاث مرة واحدة ليس مشروعا، وأن الطلاق المشروع انما هي الطلقة الاولى والثانية، أما الطلقة الثالثة فإنه لا يملك مراجعتها ولا تحل له الا إذا تزوجت غيره زواجا غير مقصود منه التحليل ثم يطلقها ذلك الغير أو يموت عنها وتمضي عدتها منه وعندئذ فقط تحل لزوجها الأول بعقد جديد ومهر جديد، وهذا هو معنى الآية وما بعدها. انتهى.
والمقصود أن أعلام أهل السنة المتأخرين أيضا تنبهوا لما هو الحق في المسئلة وأن الطلاق بلفظ الثلاث لا يقع إلا واحدة.(2/265)
التطليق الشرعيّ تطليقة بعد تطليقة على التفريق كقوله تعالى {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (1) أي كرّة بعد كرّة ومثله لبّيك وسعديك، ولذلك قالوا: الجمع بين الطّلقتين أو الثلاث بدعة، واحتجّ أصحابنا بعد أخبارهم الّتي رووها عن أهل البيت عليهم السّلام بما روي في حديث ابن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال «إنّما السنّة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلّقها لكلّ قرء تطليقة» (2) وبأنّ هذا الكلام أعني «الطلاق
__________
(1) الملك: 5.
(2) أخرجه الشيخ في الخلاف ج 2ص 226المسئلة الثالثة من كتاب الطلاق قال: وروى ابن عمر قال: طلقت زوجتي وهي حائض فقال لي النبي صلّى الله عليه وآله ما هكذا أمرك ربك، إنما السنة ان تستقبل بها الطهر فتطلقها في كل قرء تطليقة، وكذلك لفظ الحديث في تفسير الإمام الرازي ج 3ص 30الطبعة الأخيرة، والكشاف ج 3ص 240.
وأما في المنتقى على ما في ص 241ج 6من نيل الأوطار فلفظ الحديث هكذا:
وعن الحسن قال حدثنا عبد الله بن عمر انه طلق امرأته تطليقة وهي حائض ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين آخرتين عند القرئين فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله تعالى: انك أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء.
وقال: فأمرني رسول الله صلّى الله عليه وآله فراجعتها، ثم قال: إذا هي طهرت فطلق عند ذلك، فقلت يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها قال:
لا كانت تبين منك وتكون معصية رواه الدارقطنى.
قلت ومثله في أحكام القرآن للجصاص ج 1ص 451.
قال في نيل الأوطار: وقد استدل القائلون بأن الثلاث تقع بأحاديث من جملتها هذا الحديث وأجاب عنه القائلون بأنها تقع واحدة فقط، بعدم صلاحيته للاحتجاج لما سلف على أن لفظ الثلاث محتمل (يعنى يحتمل بالتفاريق).
وقال الشيخ في الخلاف المسئلة الثانية من كتاب الطلاق (ج 2ص 226) فأما قول النبي حين سأله «لو طلقتها ثلاثا؟ قال: بانت امرأتك وعصيت ربك» ليس في ظاهره أنه قال: «لو طلقتها ثلاثا وهي حائض» بل لا يمتنع انه أراد لو طلقها ثلاثا للسنة بانت منه وعصى ربه إذا كان الطلاق مكروها بأن تكون الحال حال سلامة، وارتكاب المكروه يقال فيه أنه عصى ربه كما بين في غير موضع.(2/275)
مرّتان» ليس إخبارا وإلّا لزم الكذب، بل بمعنى الأمر أي ليكن الطّلاق مرّتين مثل قوله تعالى {وَمَنْ دَخَلَهُ كََانَ آمِناً} (1) أي يجب أن تؤمنوه.
ثمّ إنّ الأصحاب لمّا حكموا بتحريم الثلاث المرسلة، والثنتين المرسلتين، وأنّ ذلك بدعة اختلفوا في أنّه هل يقع واحدة بقوله «أنت طالق» وتلغو الضميمة والتفسير؟ أم لا يقع شيء؟ قال جماعة بالأوّل وهو الحق (2) لأنّ قصد الكلّ
__________
(1) آل عمران: 97.
(2) ولأن صيغة الطلاق بعد أن وقعت من الزوج، لا يكون الضميمة موجبة لبطلانها بل تكون مؤكدة لها، أو لغوا من القول، وقد وردت الروايات عن أهل البيت عليهم السلام بذلك، ففي صحيحة جميل بن دراج عن أحدهما أنه سئل عن الذي طلق في حال الطهر في مجلس واحد ثلاثا، قال عليه السّلام: هي واحدة، راجع الوافي الجزء الثاني عشر ص 159 ح 1و 2، وأخبار أخر تجدها فيه وفي الوسائل وغيرهما من كتب الاخبار.(2/276)
قصد لكلّ واحد من أجزائه، فالواحدة إذن مقصودة صادرة من أهلها في محلّها فيكون واقعة وهو المطلوب.
وقال جماعة بالثاني (1) للنهي عن الجملة فتكون فاسدة قلنا النهي عن الجملة ليس نهيا عن كلّ فرد، وقد حقّق في الأصول.
فائدة: قوله {الطَّلََاقُ مَرَّتََانِ} يدلّ على مشروعيّة الرجعة لأنّ طلاق المطلقة غير متصوّر عقلا لأنّه إزالة قيد النّكاح، ولا نكاح هنا، وهو مثل الأمر بالعتق المتوقّف على الملك، فهو من باب دلالة الاقتضاء، قوله {فَإِمْسََاكٌ بِمَعْرُوفٍ} أي على وجه سائغ، وهو كناية عن ردّها إلى النكاح إمّا بالرّجعة إن كانت العدّة باقية، أو باستيناف العقد إن انقضت.
واختلف في معنى التسريح بالإحسان، فقيل هي الطلقة الثالثة، لما تقدّم من قوله صلّى الله عليه وآله، وقال السّدى والضحّاك هو ترك المعتدّة حتّى تبين بانقضاء العدّة وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما السّلام وهو الأصحّ لأنّ الطّلاق لا يقع عندنا بالكناية بل بالتصريح.
الثامنة
فَانْ طَلَّقَها فَلََا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتََّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ
{فَإِنْ طَلَّقَهََا فَلََا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتََّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهََا فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِمََا أَنْ يَتَرََاجَعََا إِنْ ظَنََّا أَنْ يُقِيمََا حُدُودَ اللََّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللََّهِ يُبَيِّنُهََا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (2).
__________
(1) وهم السيد المرتضى قدس سره في المحكي عن انتصاره، قال في الجواهر ج 5ص 292 (ط حاج محمد حسن) وان كنا لم نتحققه، وابنا أبى عقيل وحمزة وسلار، ويحيى بن سعيد على ما في الجواهر.
أقول: قال السيد في الانتصار عند ما يبحث عن المسئلة في آخر كلام له: «فإن المطلقة ثلاثا بلفظ واحد يقع تطليقة واحدة على الصحيح من مذهبنا» فعده من القائلين بالوجه الثاني وهم.
(2) البقرة: 229.(2/277)
هذه إشارة إلى الطّلقة الثالثة، وبه قال الباقر والصادق عليهما السّلام والسدّى والضحّاك والنظّام وقال مجاهد: هو تفسير قوله {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسََانٍ} فإنّ ذلك عنده هو الثالثة، وبه قال الطبريّ والحقّ الأوّل إذا تقرّر هذا فهنا أحكام:
1 - مدلول الآية أنّه إذا طلّقها الزّوج عقيب الطّلقتين الأوليين، والإمساك بعدهما، طلقة ثالثة، حرمت عليه حتّى تنكح زوجا غير ذلك المطلق، وهذا الحكم عند أصحابنا مخصوص بما عدا طلاق العدّة، فإنّ ذلك تحرم في التاسعة أبدا وطلاق العدّة هو أن يطلّق المدخول بها على الشرائط ثمّ يراجعها في العدّة ويطأها ثمّ يطلّقها مرّة ثانية ويفعل كما فعل أوّلا ثمّ يطلّقها ثالثة فإذا فعل ذلك ثلاثة أدوار حرمت عليه عندهم أبدا.
2 - يشترط في الزّوج الثاني شروط:
الأوّل أن يطأها بالعقد الدّائم فلو وطئ بالمنقطع (1) أو بالملك أو بالتحليل لم يفد إباحة.
الثاني أنّ العقد بمجرّده غير كاف عن الوطء لقوله صلّى الله عليه وآله (2) لزوجة رفاعة (3)
__________
(1) وبه الروايات، انظر الوافي ص 47ج 12، الباب 44من أبواب بدو النكاح باب تحليل المطلقة لزوجها، واستدل الامام عليه السّلام بالاية، ففي الرواية الثالثة من الباب المذكور عن التهذيب عن الصيقل عن أبى عبد الله عليه السّلام قلت: رجل طلق امرأته طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، فتزوجها رجل متعة، أتحل للاول، قال: لا، لان الله تعالى يقول {فَإِنْ طَلَّقَهََا فَلََا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتََّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهََا} والمتعة ليس فيها طلاق.
(2) أخرج الحديث في المنتقى ج 6ص 268من نيل الأوطار عن عائشة، وفيه رواه الجماعة لكن لأبي داود معناه من غير تسمية الزوجين.
أقول: واللفظ في صحيح مسلم كما في ج 10ص 2بشرح النووي: «فتبسم رسول الله وقال: أتريدين» إلخ، قال النووي في شرحه: قال العلماء: ان التبسم للتعجب من جهرها وتصريحها بهذا الذي تستحي النساء منه في العادة، أو لرغبتها في زوجها الأول وكراهة الثاني.
(3) قيل اسمها تميمة وقيل سهيمة، وقيل أميمة، ورفاعة القرظي بضم القاف وفتح الراء والظاء المعجمة نسبة الى بني قريظة.(2/278)
لمّا حلّلها عبد الرّحمن بن الزّبير بفتح الزاء (1) فقالت إنّ له هدبة كهدبة الثوب (2)
فقال صلّى الله عليه وآله أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك (3)» والآية مطلقة قيّدتها السنّة الشريفة.
__________
(1) قال النووي في شرح صحيح مسلم ج 10ص 2: هو بفتح الزاء وكسر الباء بلا خلاف، ابن باطاء ويقال باطياء، وكان عبد الرحمن صحابيا والزبير قتل يهوديا في غزوة بني قريظة، وهذا الذي ذكرنا من أن عبد الرحمن بن الزبير بن باطاء القرظي هو الذي تزوج امرءة رفاعة القرظي هو الذي ذكر أبو عمر بن عبد البر والمحققون، وقال ابن مندة وأبو نعيم الأصبهاني في كتابيهما في معرفة الصحابة: انما هو عبد الرحمن بن الزبير بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف ابن مالك بن أوس، والصواب الأول. انتهى.
(2) في النسخة المطبوعة «كهدبة الثور» وهو تصحيف والصحيح ما في الصلب وفاقا للنسخ المخطوطة التي عندنا والهدبة بفتح الهاء وسكون المهملة بعدها باء موحدة مفتوحة، هي طرف الثوب الذي لم ينسج مأخوذ من هدب العين وهو شعر الجفن، هكذا في الفتح، وفي القاموس: الهدب بضم وبضمتين شعر أشعار العين، وخمل الثوب واحدتها بهاء، وكذا في مجمع البحار، نقلا عن النووي أنها بضم هاء وسكون دال وأرادت أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار.
واستدل به على أن وطء الزوجة الثاني لا يكون محللا ارتجاع الزوج الأول الا ان كان حال وطئه منتشرا، فلو لم يكن كذلك، أو كان عنينا أو طفلا لم يكف على الأصح من قولي أهل العلم انتهى ما في نيل الأوطار ج 6ص 269.
أقول: وقد وردت الرواية من أهل البيت على عدم كفاية غير البالغ كما ستعرف.
(3) قال في نيل الأوطار ج 6ص 270: العسيلة مصغرة في الموضعين، واختلف في توجيهه فقيل هو تصغير العسل، لان العسل مؤنث جزم بذلك القزاز؟ قال: وأحسب التذكير لغة، وقال الأزهري يذكر ويؤنث، وقيل لان العرب إذا حقرت الشيء أدخلت فيه هاء التأنيث، وقيل المراد قطعة من العسل والتصغير للتقليل إشارة الى أن القدر القليل كاف في تحصيل ذلك بأن يقع تغيب الحشفة في الفرج، وقيل معنى العسيلة النطفة، وهذا يوافق قول الحسن البصري.
وقال جمهور العلماء: ذوق العسيلة كناية عن الجماع، وهو تغيب حشفة الرجل في فرج المرأة، وحديث عائشة المذكور في الباب يدل على ذلك، وزاد الحسن البصري حصول الانزال، قال ابن بطال: شذ الحسن في هذا، وخالف سائر الفقهاء، وقالوا:
يكفى ما يوجب الحد ويحصن الشخص ويوجب كمال الصداق، ويفسد الحج والصوم وقال أبو عبيدة: العسيلة: لذة الجماع، والعرب تسمى كل شيء تستلذه عسلا.(2/279)
واقتصر ابن المسيّب على مجرّد العقد عملا بإطلاقها، والإجماع على خلافه ويمكن تفسير النّكاح هنا بالإصابة، ويكون العقد مستفادا من لفظ الزّوج.
الثالث: أن يطأها وهو بالغ مسلم (1) فلو وطئ صبيّا أو حال ارتداده لم تحلّل.
الرّابع: الوطي في القبل وهو مستفاد من ذوق العسيلة (2) نعم لا يشترط الإنزال إذ المراد بالعسيلة اللّذة، وهي تحصل من دونه.
فرعان:
ألف لو وطئ حراما بعد عقد صحيح كالوطي صائما أو مع الحيض هل يحلّل أم لا؟ إشكال من أنّه منهيّ عنه فلا يكون مأمورا به، ومن صدق الوطي بعقد صحيح
__________
(1) أما البلوغ فاشتراطه مروي، انظر الباب 8من أبواب أقسام الطلاق من الوسائل واما الإسلام، فصرح الشيخ في الخلاف ج 2ص 250بعدم الاشتراط، وهو الحق لعدم دليل صالح عليه، ولا طلاق {حَتََّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} مثال المسئلة ذمية مطلقة تزوجت بذمي فطلقها فتحل للاول عند من أجاز العقد عليهن، وقد قدمنا أنه الأصح.
(2) واستدل بعض بإطلاق الذوق لهما على اشتراط علم الزوجين به حتى لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم يكف ذلك وان انزل هو، قلت: ليس في اخبار الشيعة قيد ذوقها عسيلته، وانما هي قيد ذوق عسيلتها، انظر الوسائل الباب 7من أبواب أقسام الطلاق الحديث 31، وفي الاخبار تصريح بعدم كفاية غير البالغ والخصى، الباب 108 ولعل السر عدم ذوقه عسيلتها مع الخصاء أو عدم البلوغ، ولذلك قال الشيخ في الخلاف ج 2ص 249بكفاية تزويج المراهق الذي ينتشر عليه ويعرف لذة الجماع مستدلا بقوله «حتى يذوق عسيلتها» وهذا قد ذاق، قال: ولا يلزم عليه غير المراهق لانه لا يعرف العسيلة.(2/280)
وبه قال أكثر أهل العلم، وقال مالك إنّ الوطي في الحيض لا يحلّل وإن أوجب العدّة وكلّ المهر.
ب النكاح المعقود بشرط التحليل أي بشرط أن ينكحها ثمّ يطلّقها لتحلّ على الزّوج الأوّل قال الأكثر إنّه فاسد، وجوّزه أبو حنيفة مع الكراهية، وعنه أيضا إن أضمرا التحليل ولم يصرّحا به فلا كراهية.
3 - قوله {فَإِنْ طَلَّقَهََا} أي الزّوج الثّاني {فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِمََا} أي على الزوجة والزّوج الأوّل {أَنْ يَتَرََاجَعََا} أي بعقد جديد ومهر لأنّه نسبة إليهما فكان مشترطا برضاهما فيكون عقدا إذ الرّجعة لا يشترط فيها رضاها.
قوله {إِنْ ظَنََّا} أي إن ترجّح عندهما بقرائن الأحوال وما يظهر من أخلاقهما أنّهما يقيمان حدود الله في حقوق الزوجيّة، وذلك ليس بشرط في صحّة العقد لجواز الغفلة عن الطّرفين، والظنّ هنا على حقيقته وهو الاعتقاد الراجح لا أنّه بمعنى العلم إذ العواقب غير معلومة إلّا لله. واعلم أنّه يستفاد من قوله {فَإِنْ طَلَّقَهََا} اشتراط كون عقد المحلّل دائما لا منقطعا ولا بشبهة، لعدم دخول الطلاق فيهما.
تتمة: هذا الحكم وهو التحريم في الثّالثة إلّا مع التحليل يختصّ بالحرّة أمّا الأمة فيكفي في تحريمها طلقتان، فيفتقر إلى المحلّل سواء كان زوجها حرّا أو عبدا، للعلم بذلك من السنّة الشريفة وبيان أهل البيت عليهم السّلام.
التاسعة
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
{وَإِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلََا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرََاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (1).
بلوغ الشيء هو الوصول إليه، وقد يقال للدّنوّ منه وهو على الاتّساع، وهو المراد هنا، والأجل يقال للمدّة كلّها، ولمنتهاها وغايتها، والمعنى حينئذ في
__________
(1) البقرة: 231.(2/281)
الآية إذا قاربن انتهاء العدّة لأنّ بعد انتهائها لا إمساك {فَأَمْسِكُوهُنَّ} أي أرجعوهنّ إلى النّكاح {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ} أي أبقوهنّ على حكم العدّة، ويكون الأمران بالمعروف: أي على وجه لا ضرر فيه، ولا مخالفة لأوامر الله، وهذا الحكم قد تقدّم لكنّه أعاده للاهتمام به.
قوله {وَلََا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرََاراً} أي لا تراجعوهنّ إرادة الإضرار بهنّ كالتقصير في النفقة أو المسكن أو لتطويل المدّة في حبالكم، ويكون ذلك مكروها لها. قوله {لِتَعْتَدُوا} أي لتظلموهنّ بالتطويل عندكم أو بالإلجاء إلى الافتداء بالمهر، واللّام متعلّقة بالضرار إذ المراد تقييده {وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ} أي الإمساك للضرار {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} بإيقاعها في الإثم واستحقاق العقاب.
العاشرة
وَإِذا طَلَّقتُمُ النِّساََءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
{وَإِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلََا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوََاجَهُنَّ إِذََا تَرََاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذََلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كََانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذََلِكُمْ أَزْكى ََ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللََّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ} (1).
البلوغ هنا هو الوصول إلى الشيء تامّا، والأجل هو المدّة كلّها، فقد دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين، والعضل بالضاد المعجمة الحبس والتضييق ومنه عضلت الدجاجة إذا نشبت بيضها فلم تخرج، قيل نزلت هذه في الأولياء لما روي أنّ معقل بن يسار عضل أخته أن ترجع إلى زوجها بعد طلاقه لها فنزلت، وقال السدىّ نزلت في جابر بن عبد الله عضل بنت عمّة له، واستدلّ الشافعيّة بذلك على ثبوت الولاية على المرأة، وأنّها لا تزوّج نفسها إذ لو تمكّنت لم يكن لعضل الوليّ معنى وارتضاه المعاصر وقال الراوندي إنّ الخطاب للأزواج لقوله {وَإِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ} ولأنّه لا ولاية عندنا على البالغة الرشيدة، ولإسناد النكاح إليها في قوله {أَنْ يَنْكِحْنَ} فعلى هذا يكون المعنى ولا تعضلوهنّ بأن تراجعوهنّ عند قرب انقضاء
__________
(1) البقرة: 232.(2/282)
الأجل لا للرغبة فيهنّ بل للإضرار ومنعهنّ من التزويج هذا آخر كلامه.
وفيه نظر من وجوه الأوّل أنّ هذا المعنى على قوله قد تقدّم، فيكون إعادته تأكيدا والتأسيس أولى، الثّاني أنّ بلوغ الشيء هو إدراكه بتمامه والأجل حقيقة في المدّة فحمل البلوغ على المقاربة عدول عن الظاهر من غير ضرورة، ولا يرد حملنا البلوغ في السابقة على المقاربة لأنّ ذلك لدليل وهو الأمر بالإمساك، الثالث أنّ النكاح في العدّة باطل والخطبة فيها حرام، وعلى قوله يلزم وقوع النكاح أو الخطبة في العدّة، فلا يجوز توجّه النهي إلى المنع من الحرام والباطل [و] لأنّ العضل على ما ذكر يستلزم إضمار المراجعة [في العدّة] والأصل عدمه، ولا ضرورة إليه.
فإذن الأولى أن يكون الخطاب للمطلّقين، ويكون العضل للنساء لا بالمراجعة في العدّة بل تعدّيا وظلما ويكون ذلك بعد انقضاء العدّة وتسمية الخطّاب أزواجا تسمية الشيء بما يؤل إليه على جهة المجاز.
ثمّ قال الراونديّ: ويجوز أن يحمل العضل في الآية على الجبر والحيلولة بينهنّ وبين التزويج دون ما يتعلّق بالولاية لأنّ العضل هو الحبس والمنع والضيق وهذا الوجه حقّ.
قلت: ولا يكون الخطاب حينئذ للأولياء ولا للأزواج، لإطلاق كلامه لكن ما قلناه لقوله {إِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ} أولى.
قوله {ذََلِكَ} أي الخطاب المذكور يوعظ به المؤمنون لأنّهم هم المنتفعون به دون غيرهم، كقوله {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} وقوله {ذََلِكُمْ} أي عملكم بمقتضى ما ذكر {أَزْكى ََ لَكُمْ} أي أنفع {وَأَطْهَرُ} لنفوسكم من دنس الآثام.(2/283)
القسم الثاني (الخلع والمباراة)
وفيه آية واحدة:
وهي قوله
وَلََا يَحِلُّ لَكُمْ انْ تَاْخُذُوا مِمََّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً
{وَلََا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمََّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلََّا أَنْ يَخََافََا أَلََّا يُقِيمََا حُدُودَ اللََّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلََّا يُقِيمََا حُدُودَ اللََّهِ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِمََا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللََّهِ فَلََا تَعْتَدُوهََا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللََّهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ} (1).
الخطاب للأزواج جملة ثمّ ثنّاه بالنسبة إلى كلّ زوجين، والمراد بما آتيتموهنّ المهور، والضمير في {فَإِنْ خِفْتُمْ} للحكّام لأنّهم الآمرون بذلك، روي أنّ جميلة بنت عبد الله بن أبيّ كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وكانت تبغضه وهو يحبّها فأتت رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالت يا رسول الله لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ورأسه شيء [واحد] والله ما أعيب عليه في دين ولا خلق ولكنّني أكره الكفر في الإسلام ما أطيقه بغضا إنّي رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة فإذا هو أشدّهم سوادا وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها فنزلت الآية، وكان قد أصدقها حديقة فقال ثابت يا رسول الله مرها فلتردّ عليّ الحديقة، فقال صلّى الله عليه وآله ما تقولين؟ قالت نعم وأزيده قال لا حديقته فقطّ فقال صلّى الله عليه وآله لثابت خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلها، فاختلعت منه بها وهو أوّل خلع كان في الإسلام.
إذا عرفت هذا فهنا فوائد:
1 - دلّت الآية الكريمة على عدم جواز أخذ شيء ممّا أمهر به النساء إلّا في
__________
(1) البقرة: 229.(2/284)
صورة الافتداء، وهو أن تكره المرأة الرجل، فتبذل له صداقها أو غيره أو الصداق مع غيره ليخلعها ويطلّقها بذلك فيجيب الزّوج على الفور إلى مطلوبها ويسمّى خلعا أيضا لأنّ المرأة كاللّباس لقوله {هُنَّ لِبََاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبََاسٌ لَهُنَّ} (1) فمفارقتها كخلع اللّباس.
2 - إذا كانت الكراهة من الزوجة يسمّى خلعا وإن كانت منهما معا يسمّى مباراة ويختلف حكمهما بوجوه:
الأوّل: ما ذكر من اختصاص الكراهية بالزوجة في الخلع كما دلّ عليه حديث ثابت بن قيس والمبارأة الكراهة منهما كما دلّ عليه ظاهر الآية.
الثّاني: أنّ المبارأة لا بدّ فيها من الاتباع بلفظ الطلاق، وأمّا الخلع ففيه خلاف أجود القولين الاتباع احتياطا.
الثالث: لا يجوز في المبارأة أخذ الزائد عمّا دفع، بخلاف الخلع فإنّ أكثر الفقهاء على جواز الزائد فيه وكرّهه أبو حنيفة وابن المسيّب قال لا يجوز إلّا البعض لا الكلّ ولا الزائد وكأنّه نظر إلى قوله {مِمََّا آتَيْتُمُوهُنَّ} ومن هنا يحتمل التبعيض وقوله صلّى الله عليه وآله في حديث ثابت «لا حديقته فقط» لا يمنع الزائد لأنّه حكاية حال مطلوب زوجها فإنّه لم يطلب سوى الحديقة.
3 - الطلاق يقع بالفدية ويفيد فائدة الخلع والمبارأة وحكمه حكمهما في أخذ الزائد وعدمه.
4 - يشترط فيهما شرائط الطلاق كلّها من غير فرق.
5 - قيل يجب الخلع إذا قال لأدخلنّ عليك من تكرهه أو لأوطئنّ فراشك من تكرهه والحقّ عدمه، بل يستحبّ ذلك استحبابا مؤكّدا لمكان الحميّة والنخوة وقبح الصّبر على المعاشرة مع ذلك الخطاب.
6 - الفرقة في هذا الباب فرقة بينونة لا يصحّ للزّوج الرّجوع بعدها إلّا أن ترجع الزّوجة في البذل والعدّة باقية، فللزوج حينئذ أن يرجع.
__________
(1) النساء: 19.(2/285)
7 - يرد على قوله تعالى {فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِمََا} سؤال وهو أنّ المرأة تعطي ما هو لها فأيّ جناح عليها في ذلك حتّى ينفى، وأجيب بوجوه:
الأوّل جواب الراونديّ وهو أنّه لو خصّ الرّجل بالذكر لأوهم أنّها عاصية وأن كانت الفدية له جائزة، فبيّن الاذن لهما لئلّا يوهم أنه كالربا المحرّم على الآخذ والمعطي.
الثاني: جواب الفرّاء أنّه كقوله تعالى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجََانُ} (1)
والإخراج إنّما هو من الملح دون العذب فجاز للاتّساع.
الثالث ما قاله الراونديّ أيضا الّذي يليق بمذهبنا أنّ المبيح للخلع هو ما لولاه، لكانت المرأة به عاصية، فهما مشتركان في أن لا يكون عليهما جناح إذا كانت تعطي ما نفى عن الزّوج فيه الإثم فاشتركت فيه لأنّها إذا أعطت ما يطرح الإثم احتاجت هي إلى مثل ذلك أي أنّها نفت عن نفسها الإثم بأن افتدت لأنّها لو أقامت على النشوز والإضرار لأثمت، وكان عليها جناح في النشوز فخرجت عنه بالافتداء.
الرّابع ما خطر لهذا الضعيف وهو أنّه لمّا كان النكاح مرغّبا فيه ومندوبا إليه، بل ربّما آل إلى الوجوب فالساعي في رفعه على حدّ الخطيئة والجناح فالمرأة لمّا بذلت الفدية ورغّبته في فراقها فقد شاركته في إزالة ذلك الفعل المرغّب فيه المندوب إليه، بل ربّما ألجأته إلى ذلك بإظهار كراهيتها له فنفى عنها الجناح لموضع الافتداء.
8 - لا يحلّ للزّوج أخذ الفدية لو كان هو سببا لكراهتها له، بأن يكرهها بالتقصير في حقوقها ليحملها على كراهيتها له فتبذل الفدية، واستفيد من قوله {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أنّه لا يقع ذلك من المتبرّع وأنّه لا بدّ فيه من المعلوميّة لاقتضاء عقود المعاوضات العلم بالعوضين وأنّه يكون مملوكا لها أيضا لعدم جواز التصرّف في ملك الغير.
__________
(1) الرحمن: 22.(2/286)
ولنتبع هذا الباب بهذه الآية وهي
يا ايُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لََا يَحِلُّ لَكُمْ انْ تَرِثُوا النِّساََءَ كَرْهاً
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسََاءَ كَرْهاً وَلََا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مََا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلََّا أَنْ يَأْتِينَ بِفََاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1).
اشتملت هذه الآية على أحكام ثلاثة:
1 - النهي عن إمساك الزّوجة مع عدم القيام بحقوقها على وجه المضارّة بها حتّى تموت فيرثها فعلى هذا يكون {كَرْهاً} منصوبا على الحال أي وهنّ كارهات لذلك، والمصدر بمعنى الحال وقيل: كان الرّجل إذا مات وله قريب من أب أو أخ أو حميم عن امرأة ألقى ثوبه عليها، وقال أنا أحقّ بها من كلّ أحد فقيل {لََا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسََاءَ كَرْهاً} أي تأخذوهنّ على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهنّ كارهات لذلك، على قراءة كرها بالفتح، أو مكرهات على قراءة كرها بالضمّ فعلى الأوّل الموروث نفسها وعلى الثاني مالها (2) وقيل الخطاب للأولياء والأقرباء، لأنّهم كانوا يمنعون المرأة القريبة من التزويج ليكون مالها لهم من غير مشارك.
2 - قوله {وَلََا تَعْضُلُوهُنَّ} أي تحبسوهنّ عندكم لا لرغبة فيهنّ بل مضارّة لتفتدي نفسها منه بالمهر كلّه أو بعضه وظاهرها يدلّ على قول ابن المسيّب.
3 - أنّها مع الإتيان بالفاحشة، يجوز عضلها، فقيل الفاحشة الزنا وقيل سوء العشرة، وشكاسة الخلق، وإيذاء الزّوج والأصحّ الأوّل فإذا ثبت ذلك فيها شرعا جاز حبسها ومضارّتها لتفتدي نفسها وقيل نسخ ذلك بوجوب الحدّ، وبه قال قتادة.
__________
(1) النساء: 24.
(2) بل بالعكس.(2/287)
القسم الثالث (الظهار)
وهو تشبيه الرّجل زوجته المنكوحة دائما أو منقطعا على قول بظهر امّه أو إحدى المحرّمات نسبا أو رضاعا. واشتقاقه من الظهر، وكان ذلك طلاقا في الجاهليّة فجاء الإسلام بتحريمه، لكن مع ترتّب الأحكام عليه كما يجيء ونزل فيه آيات أربع هي قوله في أوّل سورة المجادلة بكسر الدّال وفتحها:
{قَدْ سَمِعَ اللََّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجََادِلُكَ فِي زَوْجِهََا وَتَشْتَكِي إِلَى اللََّهِ وَاللََّهُ يَسْمَعُ تَحََاوُرَكُمََا إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. الَّذِينَ يُظََاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسََائِهِمْ مََا هُنَّ أُمَّهََاتِهِمْ إِنْ أُمَّهََاتُهُمْ إِلَّا اللََّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللََّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. وَالَّذِينَ يُظََاهِرُونَ مِنْ نِسََائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمََا قََالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسََّا ذََلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيََامُ شَهْرَيْنِ مُتَتََابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسََّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعََامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذََلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللََّهِ وَلِلْكََافِرِينَ عَذََابٌ أَلِيمٌ} (1).
روي أنّ خولة بنت ثعلبة زوجة أوس بن الصامت أخي عبادة جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالت إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابّة مرغوبة فلمّا علا سنّي ونثرت بطني أي كثر ولدي، جعلني [إليه] كأمّه وإنّ لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا
__________
(1) المجادلة: 41.(2/288)
وإن ضممتهم إليّ جاعوا فقال صلّى الله عليه وآله «ما عندي في أمرك شيء» وروي أنه قال لها «حرمت عليه» فقالت يا رسول الله ما ذكر طلاقا وإنّما هو أبو أولادي وأحبّ الناس إليّ فقال عليه السّلام حرمت عليه فقالت فأشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، وكلّما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله «حرمت عليه» هتفت وشكت إلى الله فنزلت الآيات فطلبه رسول الله صلّى الله عليه وآله وخيّره بين الطلاق والإمساك فاختار إمساكها (1).
إذا عرفت هذا فهنا فوائد تتبعها أحكام:
1 - لمّا أتت المرأة في خطاب رسول الله صلّى الله عليه وآله بالمقدّمات المشهورة [المسلّمة] الّتي ليست حجّة في نفس الأمر على الأحكام الشرعيّة سمّى كلامها مجادلة إذ القياس الجدليّ مركّب من المقدّمات المشهورة أو المسلّمة والتحاور التراجع في الكلام سؤالا وجوابا والإتيان بالجملة المضارعيّة أي {وَاللََّهُ يَسْمَعُ} بعد أن قال {قَدْ سَمِعَ اللََّهُ} كأنّه جواب لتوقّع الرسول صلّى الله عليه وآله أو المرأة سماع الله ذلك الخطاب ثمّ أكّد ذلك وعلّله بقوله {إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ} أي للأقوال {بَصِيرٌ} أي بالأحوال.
2 - المظاهرة كما قلنا عبارة عن قول الرّجل لزوجته: «أنت عليّ كظهر أمّي» ويشترط فيه شروط الطلاق كلّها من الطهارة من الحيض، وسماع العدلين وغير ذلك، وهل يقع لو شبّهها بغير الظهر كالبطن والفخذ وغير ذلك من الأعضاء؟
الأقوى عندنا عدم الوقوع وكذا لو شبّه عضوا من زوجته بظهر أمّه الأقرب عدم وقوعه أيضا اقتصارا على منطوق النصّ وجمودا في التحريم على ما اجمع عليه وقال الفقهاء إذا شبّهها بجزء يحرم النظر إليه كالبطن والفخذ وقع.
3 - في قوله {مََا هُنَّ أُمَّهََاتِهِمْ} إشارة إلى أنّه مع التشبيه المذكور لا تصير الزوجة امّا حقيقة وعلّله بقوله {إِنْ أُمَّهََاتُهُمْ إِلَّا اللََّائِي وَلَدْنَهُمْ} وقد يستفاد من هذا التعليل عدم الوقوع لو شبّهها بالأمّ من الرضاع، لعدم التوليد والأصحّ عدمه لقوله صلّى الله عليه وآله «يحرم من الرّضاع ما يحرم من النسب (2)» نعم لو شبّهها بغير الامّ
__________
(1) راجع مجمع البيان ج 9ص 346، الدر المنثور ج 6ص 180.
(2) راجع ص 182فيما سبق.(2/289)
من المحرّمات النسبيّة كالأخت وقع على الأصحّ، وفاقا من أبي حنيفة والنخعيّ والحسن والأوزاعيّ لكن عندنا إن أتى بصيغة الظهر وقع وإلّا فلا، خلافا للشافعيّ فإنّه قصّره على الامّ، وبه قال قتادة والشعبيّ ولو شبّهها بمحرّمات المصاهرة مؤبّدا أو غيره لم يقع عندنا خلافا للحنفيّة.
4 - الظهار المذكور حرام لوصفه بالمنكر، نعم لا عقاب فيه لتعقّبه بذكر المغفرة والرّحمة، فهو ملحق بالصغائر الّتي تقع مكفّرة، والزّور المحرّف من القول.
5 - إذا حصل الظهار بشرائطه فإن صبرت المرأة فلا كلام، وإن رفعت أمرها إلى الحاكم طلبه وخيّره بين الطلاق والإمساك، فإن اختار الطّلاق وطلّق وقع رجعيّا وإن اختار الإمساك أمره بالتكفير قبل العود، فإذا كفّر ساغ له العود إليها وإن امتنع من الأمرين معا أنظره ثلاثة أشهر ثمّ طلبه وأمره بما أمر به أوّلا فإن أصرّ ضيّق عليه في المطعم والمشرب وحبسه حتّى يختار أحدهما، ويجب كون الكفّارة قبل المسيس إجماعا، وصريح الآية يدلّ عليه، وأنّه يحرم الوطء قبلها فلو فعل وجب كفّارة أخرى عليه عندنا، وعند القوم يستغفر الله لا غير، وليس عليه سوى كفّارة الظهار.
6 - الآية صريحة في كون الكفّارة مرتّبة ومن حقّ المرتّبة أن لا ينتقل إلى الثانية إلّا بعد العجز عن الاولى، وقد تقدّم وصف الرّقبة والإطعام، ويشترط في الصيام المتابعة بين الشهرين، لوصفهما في الآية بذلك نعم لو صام يوما من الشهر الثاني ثمّ أفطر كفى في صدق المتابعة، لكن لا يباح حينئذ الوطء حتّى يتمّ الصّوم وكذا في أثناء الإطعام.
7 - قوله {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمََا قََالُوا} إلخ فيه وجوه:
الأوّل أنّ الّذين كانت عادتهم هذا القول في الجاهليّة ثمّ قطعوه بالإسلام ثمّ قالوه بعد الإسلام فكفّارته كذا.
الثّاني: يعودون إلى ما قالوه بالاستدراك لأنّ المتدارك للأمر عائد إليه
ومنه المثل عاد غيث على ما أفسده أي تداركه بالإصلاح، أي ينقض ما اقتضاه قوله «وذلك» عند الشافعيّ أن يمسكها زمانا يمكنه مفارقتها فيه وعند أبي حنيفة باستباحة استمتاعها ولو بنظره بشهوة وعند مالك بالعزم على الجماع، والمعنى أنّ تدارك هذا القول وتلافيه بالتكفير.(2/290)
الثّاني: يعودون إلى ما قالوه بالاستدراك لأنّ المتدارك للأمر عائد إليه
ومنه المثل عاد غيث على ما أفسده أي تداركه بالإصلاح، أي ينقض ما اقتضاه قوله «وذلك» عند الشافعيّ أن يمسكها زمانا يمكنه مفارقتها فيه وعند أبي حنيفة باستباحة استمتاعها ولو بنظره بشهوة وعند مالك بالعزم على الجماع، والمعنى أنّ تدارك هذا القول وتلافيه بالتكفير.
الثّالث أن يراد بما قالوا ما حرّموه على أنفسهم بلفظ الظهار، تنزيلا للقول منزلة المقول فيه، نحو قوله تعالى {وَنَرِثُهُ مََا يَقُولُ} (1) والمعنى؟؟؟؟ يريدون العود للتماسّ، والمماسّة كناية عن الجماع، وهذا القول أجود لأنّه الموافق لقول أصحابنا من تفسير العود بإرادة الوطي، وإضمار الإرادة هنا كاضمارها في قوله {فَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ} (2).
الرابع قول الظاهريّة وهو تكرار الظّهار وليس ببعيد لأنّ عندنا يتكرّر الكفّارة بتكرّر الصيغة، لكن يلزمه بدليل الخطاب أن لا تجب الكفّارة إلّا مع تكرار الصّيغة، ولا تجب بدونه، وليس كذلك.
الخامس قول أبي مسلم يعني أن يحلف على ما قال.
السّادس أن يعود إلى المقول فيها، بإمساكها أو استباحة استمتاعها.
8 - إنّما ذكر كون العتق والصّيام قبل المسيس، ولم يقيّده في الإطعام لكونه بدلا عنهما فالقيد فيهما قيد فيه.
9 - روي أنّه صلّى الله عليه وآله لمّا طلب الأوس واختار الإمساك فقال له صلّى الله عليه وآله «كفّر بعتق رقبة» فقال ما لي غيرها، وأشار إلى رقبته، فقال «صم شهرين متتابعين» فقال لا طاقة لي بذلك، فقال «أطعم ستّين مسكينا» فقال ما بين لابتيها أشدّ مسكنة منّي فأمر له النبيّ صلّى الله عليه وآله بشيء من مال الصدقة وأمره أن يطعمه عن كفّارته فشكى خصاصة حاله وأنه أشدّ فاقة وضرورة ممّن أمر بدفعه إليهم فضحك النبيّ صلّى الله عليه وآله وأمره بالاستغفار، وأباح له العود إليها (3) وفيها دلالة على أنّه مع العجز عن
__________
(1) مريم: 80.
(2) النحل: 98.
(3) رواه على ابن إبراهيم في تفسير السورة ونقله في الكافي ج 6ص 155.(2/291)
الكفّارة يستغفر الله ويعود ويؤيّده رواية عمّار موثّقا عن الصادق عليه السّلام أنّ الظهار إذا عجز صاحبه عن الكفّارة فليستغفر ربّه ولينو أن لا يعود، فحسبه بذلك كفّارة.
وبعض أصحابنا قال إذا لم يطق إطعام ستّين مسكينا صام ثمانية عشر يوما.
ومنهم من قدّم الصوم الثمانية عشر على الإطعام، واجتزأ بها عن الإطعام والأولى أنّه مع العجز عن الخصال المنصوصة في الكتاب ينتقل إلى الاستغفار.
القسم الرابع الإيلاء
وهو الحلف بالله على ترك الوطء للزوجة المنكوحة بالعقد مضارّة لها إمّا مطلقا أو مؤبّدا أو مقيّدا بمدّة يزيد على أربعة أشهر أو مضافا إلى فعل لا يقع إلّا بعد انقضاء مدّة التربّص قطعا أو ظنّا وفيه آيتان هما:
قوله تعالى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسََائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فََاؤُ فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلََاقَ فَإِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1).
هنا مسائل:
1 - إذا وقع الإيلاء على الوجه المذكور إن صبرت المرأة فلا كلام وإن رفعت أمرها إلى الحاكم أمره بالكفّارة والعود، فان أبى أنظره أربعة أشهر ثمّ ألزمه إمّا الطّلاق أو الفئة والتكفير، فان امتنع منهما معا حبسه وضيّق عليه في المطعم والمشرب حتّى يختار أحدهما ولا يأمره الحاكم بذلك إلّا مع مرافعتها (2)
وكذا في الظّهار، والجارّ والمجرور في قوله «للّذين» خبر والمبتدأ «التربّص» وهو الانتظار و «من» متعلّق بتربّص لأنّه يتضمّن معنى التعدّي فعدّي «بمن»
__________
(1) البقرة: 226.
(2) في المطبوعة: مواقعتها(2/292)
وإن كان في الأصل يعدّى بعلى، ويجوز أن يراد: لهم من نسائهم تربّص أربعة أشهر كقولك: لي منك نصر ومعونة.
2 - المراد بالفئة هو الجماع إن كان قادرا عليه ولا مانع منه شرعا ولا عرفا فلو عجز أو حصل المانع الشرعيّ أو العرفيّ ففئته إظهار العزم على ذلك، وتعقيب ذلك بالغفران والرحمة، لما في ذلك من الإثم بقصد إضرار الزّوجة.
3 - استفيد من تقدير المدّة بأربعة أشهر أنّه لا يجوز ترك وطئ الزوجة أكثر من أربعة أشهر، وإلّا لما جاز لها المرافعة والمطالبة.
4 - دلّ قوله {«وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلََاقَ»} على عدم وقوعه بالمستمتع بها إذ لا طلاق في نكاحها ومنهم من يقول بوقوعه بها ويقدّر في الكلام إضمارا أي وإن عزموا الطّلاق فيمن يقع بها فانّ الله سميع عليم، وهو ضعيف لأصالة عدم التقدير وانتفاء الضرورة، ولفظ «نسائهم» وإن كان جمعا مضافا وهو من صيغ العموم فقد خصّ بأخبار أهل البيت عليهم السّلام وفي قوله {«فَإِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»} تهديد، والعزم تصميم الإرادة على أن يفعل الشيء.
القسم الخامس اللعان
وهو لغة الطرد والإبعاد وشرعا مباهلة بين الزّوجين سببها قذف الرّجل امرأته بالزنا مع دعوى المشاهدة وعدم البينة أو نفي ولد ولد على فراشه مع شرائط إلحاقه به، وفيه آيات أربع هي قوله:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوََاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدََاءُ إِلََّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهََادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهََادََاتٍ بِاللََّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصََّادِقِينَ. وَالْخََامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللََّهِ عَلَيْهِ إِنْ كََانَ مِنَ الْكََاذِبِينَ. وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذََابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهََادََاتٍ بِاللََّهِ إِنَّهُ
لَمِنَ الْكََاذِبِينَ. وَالْخََامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللََّهِ عَلَيْهََا إِنْ كََانَ مِنَ الصََّادِقِينَ} (1).(2/293)
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوََاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدََاءُ إِلََّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهََادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهََادََاتٍ بِاللََّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصََّادِقِينَ. وَالْخََامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللََّهِ عَلَيْهِ إِنْ كََانَ مِنَ الْكََاذِبِينَ. وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذََابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهََادََاتٍ بِاللََّهِ إِنَّهُ
لَمِنَ الْكََاذِبِينَ. وَالْخََامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللََّهِ عَلَيْهََا إِنْ كََانَ مِنَ الصََّادِقِينَ} (1).
روى الواحدي بإسناده عن عكرمة عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال لمّا نزلت والّذين يرمون المحصنات الآية قال سعد بن عبادة يا رسول الله إنّي لأعلم أنّها حقّ من عند الله تعالى لكن تعجّبت أن لو وجدت لكاع يفخذها لم يكن لي أن أهيجه ولا أحرّكه حتّى آتي بأربعة شهداء، فو الله إنّي لا آتي بهم حتّى يقضي حاجته؟
فما لبثوا حتّى جاء هلال بن أميّة فقال يا رسول الله إنّي جئت أهلي عشاء فوجدت عليها رجلا يقال له شريك بن السّحماء فرأيت بعينيّ وسمعت باذنيّ فكره النبيّ صلى الله عليه وآله ذلك فقال سعد: الآن يضرب النبيّ صلّى الله عليه وآله هلال بن أميّة ويبطل شهادته في المسلمين فقال هلال لرسول الله: والله إنّي لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا فبينا هم كذلك إذ نزلت {«وَالَّذِينَ يَرْمُونَ»} الآيات فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا.
وروي أنّ المعترض هو عاصم ابن عدي الأنصاري فقال جعلني الله فداك إن وجد رجل مع امرأته رجلا فأخبر جلد ثمانين جلدة وردّت شهادته أبدا وإن ضربه بالسّيف قتل به، وإن سكت سكت على غيظ وإلى أن يجيء بأربعة شهداء فقد قضى حاجته ومضى، اللهم افتح وخرج، فاستقبله هلال بن أميّة فأتيا النبيّ صلّى الله عليه وآله فأخبر عاصم رسول الله صلّى الله عليه وآله وكلّم خولة زوجة هلال فقالت لا أدري الغيرة أدركته أم بخلا بالطعام، وكان الرّجل نزيلهم، فقال هلال لقد رأيته على بطنها فنزلت الآية فلاعن رسول الله صلّى الله عليه وآله بينهما وقال لها إن كنت ألممت بذنب فاعترفي به فالرّجم عليك أهون من غضب الله فانّ غضبه هو النار ثمّ قال إن جاءت به اصيهب اثيبج يضرب إلى السواد فهو لشريك، وإن جاءت به أورق جعدا جماليّا خدلّج السّاقين فهو لغير الّذي رميت به قال ابن عبّاس رضي الله عنه جاءت بأشبه خلق الله بشريك فقال صلّى الله عليه وآله لولا الأيمان لكان لي ولها شأن وروي أيضا أنّ عويمر العجلانيّ
__________
(1) النور: 6.(2/294)
رمى زوجته فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله البيّنة وإلّا حد في ظهرك، فنزلت (1)
إذا عرفت هذا فهنا فوائد:
1 - الكلام المذكور ليس على ظاهره، وذلك لأنّ فيه مشاكلة وحذفا أمّا المشاكلة فلأنّ المراد بالشهادة هنا القسم سمّي بها لقيامها مقام شهادة الشهداء كما هو في باقي القضايا الشرعيّة، ولتطابق قوله {«وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدََاءُ»} وأمّا الحذف فلأنّ تقديره وإن لم يكن لهم شهداء فشهادة أحدهم أي يمينه يقوم مقام الشهداء وقرئ «أربع» بالرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف أي هنّ أربع وقرئ بالنّصب على أنّ فعله محذوف أي يشهد أربع، ومن عرف عادة القرآن في الحذف والاكتفاء بسياق الكلام لا ينكر ذلك وقيل الرفع على أنّه خبر «شهادة» أي فواجب شهادة أحدهم والنصب على المصدر وهو ضعيف أمّا الأوّل فلا قرينة تدل عليه والثاني لا نظير له في كلامهم فانّ المصدر لا ينصب بالمصدر.
2 - صورة اللّعان أن يبدء الرّجل فيقول أشهد بالله إنّي لمن الصّادقين فيما رميتها به، ويكرّر ذلك أربع مرات مع الاولى ثمّ يقول إنّ لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به، ثمّ تقول المرأة أربع مرّات: أشهد بالله إنّه لمن الكاذبين فيما رماني به، وتقول في الخامسة إنّ غضب الله عليّ إن كان من الصادقين فيما رماني به. عملا بصورة النصّ، ويجب إيقاعه بهذه الألفاظ من غير تغيير ولا تبديل مراعيا للاعراب والترتيب والموالاة، فلو غيّر كلمة أو حرفا بدلا عن المذكور لم يكن لعانا صحيحا ويجب كونه بالعربيّة، وعند الحاكم، وتعيين المرأة بالإشارة أو التسمية الصريحة.
3 - إذا تمّ اللّعان وقعت الفرقة بينهما تحريما مؤبّدا ولا يفتقر إلى طلاق الحاكم ولا حكمه بالفرقة عندنا وبه قال الشافعيّ ولقوله صلّى الله عليه وآله المتلاعنان لا يجتمعان
__________
(1) الروايات في شأن نزول الآية مروية في تفسير الدر المنثور ج 5ص 21 مجمع البيان ج 7ص 138وهكذا في سنن ابى داود ج 1ص 525520.(2/295)
أبدا (1) وقال أبو حنيفة تقع الفرقة بحكم الحاكم فرقة طلاق بائن ولا يتأبّد التحريم فلو أكذب نفسه جاز له أن يتزوّجها عنده.
4 - اشترط أكثر الأصحاب كونها مدخولا بها وعقدها دائم، فلو لم يدخل. أو كان النكاح منقطعا فعليه الحد للقذف ولا لعان، واستدلّوا بالأحاديث، وقال جماعة بعدم ذلك عملا بعموم اللّفظ فإنّ «أزواجهم» جمع مضاف وهو للعموم، والتحقيق أن نقول إن صحّ تخصيص الكتاب بخبر الواحد، فالقول هو الأوّل وإن لم يصحّ فالقول هو الثاني هذا في القذف بالزنا، أما نفي الولد فلا بدّ من الدّخول. ليحصل شرط الإلحاق.
5 - يشترط كونها زوجة أو في حكمها حال القذف، فلو قذف أجنبيّة أو مطلّقة بائنة فالحدّ ولا لعان أما المرمي به (2) فهل يشترط كونه حال الزوجيّة أم يكفي ولو كان سابقا على النكاح قولان منشؤهما من عموم {«وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوََاجَهُمْ»} وهو أعم من السابق وغيره، ولأنّه يصدق أنه قذف زوجته فيدخل في الآية، ومن. عموم {«وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنََاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدََاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمََانِينَ جَلْدَةً»} (3)
والأقوى الأوّل فلو قذف زوجته ثمّ أبانها كان له اللّعان.
6 - دلّ قوله {«وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدََاءُ إِلََّا أَنْفُسُهُمْ»} على اشتراط عدم حصول الشهداء إذ الجملة حاليّة أي والحال أنّه لم يكن لهم شهداء إلّا أنفسهم، فلا لعان مع. وجود الشهداء، فلو عدل عن الشّهادة هل له أن يلاعن؟ قيل نعم والحقّ عدمه أمّا. أوّلا فللآية، والمشروط عدم عند عدم شرطه إذ المبتدأ هنا فيه معنى الشرط، وأمّا أوّلا فللآية، والمشروط عدم عند عدم شرطه إذا المبتدأ هنا فيه معنى الشرط، وأمّا. ثانيا فلأنّ اللّعان على خلاف الأصل فإنّ شهادة الإنسان لنفسه أو يمينه لنفسه غير مقبولين فاقتصر على مورد النصّ.
7 - لمّا قذف وجب عليه حدّ القذف فلمّا لاعن سقط عنه ووجب عليها حد
__________
(1) أخرجه الشيخ الطوسي في الخلاف ج 2ص 287عن ابن عباس.
(2) أما المزني بها، خ.
(3) النور: 5.(2/296)
الزنا لأنّ أيمانه شهادات فلمّا لاعنت سقط عنها لقوله {«وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذََابَ»} وهو الحد هنا فلو أكذب نفسه لم يزل حكم اللّعان، نعم هل يحدّ للقذف؟ قيل لا لسقوطه بلعانه، وقيل: نعم، لزيادة الهتك وتكرار القذف، وهو قويّ ولو أكذبت نفسها فإشكال: من قوله {«وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذََابَ»} ولا موجب للعود، ومن عموم «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز (1)» فإذا أقرّت أربعا وجب الحد.
8 - لمّا ثبت في الأصول أنّ خصوص السّبب لا يخصّص وثبت قوله صلّى الله عليه وآله «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» (2) كان حكم آية اللّعان عامّا باقيا وكذا الكلام في الظّهار.
القسم السادس من روافع النكاح الارتداد
وهو قطع الإسلام بقول كإنكار ما علم من الدّين ضرورة أو عمل كالسجود للصنم وإلقاء المصحف في القاذورات وغير ذلك ممّا علم من الدّين ضرورة وجوب تعظيمه ويستدلّ على قطعه النكاح بآيات تحريم المشركين والمشركات، وبقوله {«وَلََا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوََافِرِ} (3)» وقد تقدّم بيان ذلك ثمّ الارتداد له أحكام مذكورة في كتب الفقه فلتطلب هناك ولنقتصر من كتاب النّكاح على هذا.
__________
(1) أخرجه في المستدرك ج 3ص 48عن غوالي اللئالى من كلام رسول الله صلّى الله عليه وآله.
(2) أخرجه في البحار (الطبعة الحديثة) ج 2ص 271، عن غوالي اللئالي.
(3) الممتحنة: 10(2/297)
كتاب المطاعم والمشارب
والآيات هنا أقسام.
القسم الأول ما يدل على أصالة إباحة كل ما ينتفع به خاليا عن مفسدة
وهو آيات:
الاولى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} (1).
امتنّ على عباده بأنّه خلق جميع ما في الأرض لهم، والمراد به ما ينتفع به لأنّ ما فيه إضرار أو خلا عن نفع لا يقع به امتنان ثمّ إنّ ذلك المنتفع به، لو لم يكن محلّلا لما حسن أيضا الامتنان إذ لا يمتنّ أحد على أحد بشيء حال بينه وبينه لقبحه في نظر العقل، فيكون الأشياء كلّها على أصالة الإباحة وهو المطلوب، وإن خالف هنا قوم فقولهم باطل، وقد تبين ذلك في الأصول.
الثانية {يََا أَيُّهَا النََّاسُ كُلُوا مِمََّا فِي الْأَرْضِ حَلََالًا طَيِّباً} (2).
قيل: نزلت في قوم حرّموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس والأمر هنا للإباحة وأمّا {«حَلََالًا»} فيحتمل نصبه على مفعوليّة {«كُلُوا»} والأجود أنّه صفة مصدر محذوف والأجود منه أنّه حال {«مِمََّا فِي الْأَرْضِ»} والطيّب يقال لمعان الأوّل:
ما هو مستلذ الثاني: ما حلّله الشارع، الثّالث: ما كان طاهرا، الرّابع: ما خلا عن الأذى في النفس والبدن، وهو حقيقة في الأوّل لتبادره إلى الذهن وهو المراد هنا
__________
(1) البقرة: 29.
(2) البقرة: 168.(2/298)
لئلّا يلزم التكرار لو أريد الثاني أي كلوا ما جمع وصفي الحلّ واللّذّة ثمّ الخبيث يقال في مقابلة الطيّب في معانيه وهنا فوائد:
1 - ظاهر الآية إباحة الانتفاع بالأشياء المحلّلة المستلذّة لكنّه على الاجمال فبيانه إمّا بالكتاب أو السنة.
2 - يحتمل أن يراد بالطيب هنا المعنى الرابع، فيدلّ على تحريم ما فيه أذى في البدن إمّا مرض أو هلاك أو في النفس إما إذهاب عقل أو شيء من الإدراكات فعلى هذا لو كان قليله لا يؤذي في البدن بل كثيره حرم القدر المؤذي لا غير أمّا ما يذهب العقل كثيره دون قليله فيحرم كلّه لاقتضاء الحكمة المحافظة على العقل ولأنّه لو أبيح القليل لأدّى إلى الاشتمال، وعدم المبالاة لغلبة الشهوة على النفس بخلاف الأذى البدني فانّ الحيوان بطبعه يحاذر على بدنه، ويمتنع من المؤذي له، فلم يحتج إلى تأكيد تحريم ما يؤذيه.
3 {«مِمََّا فِي الْأَرْضِ»} «من» للتبعيض و «ما» للعموم، فيشمل النبات والحيوان والمعدن وقد خصّ ذلك العموم الكتاب والسنّة بتحريم أشياء يأتي بعضها هنا.
4 - قيل إنّ الله تعالى حافظ كلّ شريعة بحفظ خمسة أشياء الأوّل النفوس بشرع القصاص، الثّاني: الدين بعقاب المرتدّ، الثّالث: النسب بتحريم الزّنا ووجوب الحدّ عليه، الرّابع الأموال بتضمين الغاصب والسّارق وتعزير الأوّل وقطع الثّاني الخامس: العقول بتحريم المسكرات وإيجاب الحدّ في تناولها.
الثالثة {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبََاتِ مََا رَزَقْنََاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلََّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ} (1).
__________
(1) البقرة: 172.(2/299)
المعنى هنا قريب ممّا تقدّم، وذكر الأمر بالشكر دليل على كون الطيّب هنا منتفعا به حسنا وإلّا لما وجب الشكر في مقابله، لأنّ الشكر إنّما يجب في مقابلة النعمة، وفيه إشارة إلى كون العبادة قد يقع شكرا.
القسم الثاني ما فيه إشارة إلى تحريم أشياء على التعيين
وفيه آيات:
الاولى
حُرِّمَتْ عَلَيْكُم الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمََا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللََّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمََا أَكَلَ السَّبُعُ إِلََّا مََا ذَكَّيْتُمْ وَمََا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلََامِ ذََلِكُمْ فِسْقٌ} (1).
قد تقدّم البحث في صدر هذه الآية في كتاب الصّلاة فلا وجه لإعادته فلنذكر المهمّ منها فنقول أشار في هذه الآية إلى تحريم أشياء كانت الجاهليّة لا تحرّمها:
1 - الميتة وهي ما فاتت حياته لا على وجه التذكية الشرعيّة، واستثنى النبيّ صلّى الله عليه وآله من ذلك السّمك والجراد بقوله «أحلّ لكم ميتتان ودمان» (2).
2 - الدّم وكانوا يأكلونه أنواعا من الأكل منها العلهز، كما قال عليّ عليه السّلام في بعض كلامه تقريعا للعرب، وبيانا لنعمة الله عليهم بتحريم الخبائث بقوله «تأكلون العلهز» وهو أن يجعل الدّم في المصارين والمباعر ويشوونها ويأكلونها ثمّ إنّ الدّم استثنى منه الطحال على قول، والأولى تحريمه نعم الدّم المستخلف في تضاعيف اللّحم حلال طاهر لإجماع الفقهاء عليه، وقيل التحريم في موضع آخر بكونه مسفوحا أي سائلا وذلك إنّما يكون ممّا في العروق، ويلزم من ذلك أنّ
__________
(1) المائدة: 3.
(2) أخرجه في مشكاة المصابيح ص 361والدمان: الكبد والطحال، والميتتان:
الجراد والحوت.(2/300)
ما لم يكن في العروق، أو بقي فيها وتخلّف في اللحم أن لا يكون محرّما وكأنّه تقييد للمطلق.
3 - لحم الخنزير، خصّ اللّحم وإن كان شحمه وكلّ أجزائه محرّما لأنّه المقصود بالأكل وغيره تابع له.
4 {«مََا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللََّهِ بِهِ»} أي ما ذبح على اسم الصّنم ولم يذكر عليه اسم الله، والإهلال لغة رفع الصوت، فيدخل في ذلك كلّ ذبيحة لم يذكر عليها اسم الحقّ تعالى سواء كان من كافر أو مسلم غير محقّ كالمجسّمة صريحا والمشبّهة.
5 {«الْمُنْخَنِقَةُ»} أي الّتي ماتت بالخنق، سواء كان بخنق من غيرها أو اختنفت من نفسها لعارض.
6 {«الْمَوْقُوذَةُ»} وهي المضروبة بخشب أو حجر ونحو ذلك من المثقل حتّى يموت، من قولك وقذته: إذا ضربته.
7 {«الْمُتَرَدِّيَةُ»} أي تردّت من علو إلى بئر فماتت.
8 {«النَّطِيحَةُ»} أي التي تنطحها اخرى فتموت، ففعيل هنا بمعنى المفعول والتاء فيها للنّقل من الوصفيّة إلى الاسميّة.
9 {«مََا أَكَلَ السَّبُعُ»} أي ما أكل منه السبع وبقي منه بقيّة فيها حياة غير مستقرّة فإن كانت مستقرّة جاز أكله بعد التذكية، وهو المراد بالاستثناء والتذكية هي قطع الأعضاء الأربعة، وهي الحلقوم، والمري والودجان، بحديد أو ما في حكمه، هذا في غير الإبل أمّا في الإبل فذكاتها النحر، وهو الطعن في لبّة الثغرة وهي الوهدة المنخفضة، وقيل الاستثناء راجع إلى جميع ما تقدّم ممّا يقبل التّذكية وهي الستّة المتأخّرة، وهو قول عليّ عليه السّلام وابن عباس وإدراك الذّكاة على هذا قيل أن يدرك وذنبه يتحرّك أو رجله أو يطرف عينيه، وهو المرويّ عن الباقر والصادق عليهما السّلام وقيل هو أن يمكن أن يعيش اليوم أو الأيّام، وقيل الاستثناء هنا منقطع ليس فيه إخراج والكل حسن.
قوله {«وَمََا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ»} أي وحرّم عليكم ما ذبح على النصب قيل هو
مفرد مثل عنق وجمعه أنصاب كأعناق وهي حجارة منصوبة حول البيت كانوا يذبحون عليها ويشرحون اللّحم عليها، يعظّمونها بذلك ويتقرّبون به إليها وقيل هي الأصنام و «على» إمّا بمعنى اللّام وإمّا على أصلها، فتقديره وما ذبح مسمّى على الأصنام والاستقسام طلب معرفة ما قسّم له ممّا لم يقسّم «والأزلام» تقدّم معناها.(2/301)
قوله {«وَمََا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ»} أي وحرّم عليكم ما ذبح على النصب قيل هو
مفرد مثل عنق وجمعه أنصاب كأعناق وهي حجارة منصوبة حول البيت كانوا يذبحون عليها ويشرحون اللّحم عليها، يعظّمونها بذلك ويتقرّبون به إليها وقيل هي الأصنام و «على» إمّا بمعنى اللّام وإمّا على أصلها، فتقديره وما ذبح مسمّى على الأصنام والاستقسام طلب معرفة ما قسّم له ممّا لم يقسّم «والأزلام» تقدّم معناها.
وهنا فوائد:
1 - أنّ الأشياء الّتي ذكرها من المنخنقة والموقوذة إلى آخرها إمّا أن يكون ميتة، أولا؟ فإن كان الأوّل فذكر الميتة أغنى عن ذكرها، وإن كان الثاني لزم وجود واسطة بين الميّت والحيّ وهو باطل، والجواب: إنما ذكرها لأنّهم ما كانوا يعدّونها ميتة بل من قسم المذبوحات، ويخصّون الميتة بما يموت حتف أنفه فعرّفهم أنّ حكم الجميع واحد.
2 - لهذه الآية نظير وهي قوله في البقرة {إِنَّمََا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمََا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللََّهِ»} (1) وهنا وفي الأنعام والنحل قال {«لِغَيْرِ اللََّهِ بِهِ»} فهل بينهما فرق أم لا؟ قيل الأصل هو الأوّل لأنّ الباء المعدّية للفعل بمنزلة جزء منه، فيكون أحقّ بالتقديم، بخلاف ما يتعدّى باللّام، فإنّه ليس كالجزء ثمّ لمّا كان الإهلال بالمذبوح لا يستنكر إلّا إذا كان لغير الله، فيكون ذلك المستنكر ممّا يتعلّق الاهتمام به قدّم في الموضعين الآخرين.
فالحاصل أنّ في البقرة قدّم الباء لأنّه الأصل ولأنّه كالجزء وفي الآخرين قدّم {«لِغَيْرِ اللََّهِ»} لشدّة الاهتمام كما يقدّم بعض المفعولات على فاعله.
3 - لمّا كان الحكم اللّاحق بالجملة لمعنى يوجد في شيء من أجزائها ألحق.
بالميتة ما أبين من حيّ، لوجود معنى التحريم، وهو الموت وفقد الحياة.
الثانية
قُلْ لََا أَجِدُ فيمََا اوحِىَ الَىَّ مُحَرَّماً عَلى ََ طََاعِمٍ يَطْعَمُهُ
__________
(1) البقرة: 173، الانعام: 145، النحل: 115.(2/302)
{قُلْ لََا أَجِدُ فِي مََا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى ََ طََاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلََّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللََّهِ بِهِ} (1)
تقدّم ما يغني عن تفسير هذه، و {«فِسْقاً»} منصوب، عطفا على {«مَيْتَةً»} وقوله {«أُهِلَّ لِغَيْرِ اللََّهِ»} محلّه النصب صفة لفسقا.
وهنا سؤال: وهو أنّه قد وجد كثير من المحرّمات، وهو غير مذكور في الآية فكيف يقول لا أجد إلّا كذا الدالّ على الحصر، وكذا في قوله {«إِنَّمََا حَرَّمَ»}
وإنّما للحصر.
والجواب أنّ اوحي فعل ماض «وأجد» للحال فمنطوقها لا أجد فيما اوحي إلىّ في الماضي غير هذه الأربعة، وليست هذه الآية آخر ما نزل عليه صلّى الله عليه وآله فجاز أن يكون جاءه تحريم أشياء بعد نزولها، وكذا الكلام في «إنّما» فانّ الحصر فيها للحكم الحاليّ.
قوله {«فَإِنَّهُ رِجْسٌ»} الضّمير للحم الخنزير، وهو نص في نجاسته وهي معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه.
فائدة: روي أنّ ابن عبّاس وعائشة استدلا بهذه الآية على حلّ لحم الحمار وهو قريب وكذا تدلّ على حلّ لحم الخيل والبغال لأنّ منطوقها أنّ ما عدا المذكور حلال، فمن ادّعى التحريم المتجدّد فعليه الدّلالة، وقال بعض فقهاء العامّة يدلّ على تحريم الثلاثة قوله {«وَالْخَيْلَ وَالْبِغََالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهََا وَزِينَةً»} (2)
ووجه الدلالة أنّه علّل خلقها بالرّكوب والزينة، فلا يكون لها فائدة غيرهما.
وهو غلط فإنّه لا يلزم من تعليل الشيء بما يقصد منه غالبا أن لا يقصد منه غير ذلك أصلا، هذا وكونها زينة ومركوبة لا ينافي حلّها كما في الإبل فإنّ الأمرين حاصلان فيها مع حلّ لحمها.
__________
(1) الانعام: 145.
(2) النحل: 8.(2/303)
الثالثة {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنََافِعُ لِلنََّاسِ وَإِثْمُهُمََا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمََا} (1).
الخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره سمّي به عصير العنب والتمر إذا غلا واشتدّ لأنّه يخمر العقل أي يستره كما سمّي مسكرا لأنّه يسكره أي يحجزه وهو حرام إجماعا مطلقا وكذا كلّ ما أسكر في الجملة وإن لم يسكر قليله عندنا وقال أبو حنيفة نقيع الزّبيب والتمر إذا طبخ حتّى ذهب ثلثاه حلّ شربه إلّا ما ورث السكر والحقّ خلافه لما تقدّم.
ثمّ اعلم أنّ مذهب الإماميّة أنّ الخمر محرّمة في جميع الشرائع وما أبيحت في شريعة قط وكذا كل مسكر، وأوردوا في ذلك أخبارا عن أئمتهم عليهم السّلام وأمّا المفسّرون فقالوا نزل في الخمر أربع آيات نزل بمكّة {«وَمِنْ ثَمَرََاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنََابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} (2)» وكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال، ثمّ إنّ عمرو معاذا ونفرا من الصّحابة قالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنّها مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فنزلت {«فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنََافِعُ لِلنََّاسِ»} فشربها قوم، وتركها آخرون، ثمّ دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فأمّ بعضهم فقرأ «قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون» فنزلت {«لََا تَقْرَبُوا الصَّلََاةَ وَأَنْتُمْ سُكََارى ََ} (3)» فقلّ من يشربها ثمّ دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقّاص، فلمّا شربوا وسكروا افتخروا وتناشدوا حتّى أنشد سعد شعرا فيها هجاء الأنصار، فضربه أنصاريّ بلحى بعير فشجّه موضحة فشكا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال عمر: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت {«إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصََابُ وَالْأَزْلََامُ رِجْسٌ»}
__________
(1) البقرة: 219.
(2) النحل: 67.
(3) النساء: 43.(2/304)
إلى قوله {«فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ»} (1) فقال عمر انتهينا يا ربّ.
وعن علي عليه السّلام لو وقعت قطرة في بئر فبنيت منارة مكانها لم أؤذّن عليها ولو وقعت في بحر ثمّ جفّ ونبتت فيه الكلا لم أرعه.
قال المحقّقون ويمكن الاستدلال على تحريمها جزما بكلّ واحدة من هذه الآيات أما الأولى فلأنّه قال {«تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً»} فوصف الرزق الّذي هو قسيم للسكر بالحسن من أدلّ الدّلائل على أنّ المسكر ليس بحلال، وإلّا لم يختصّ الوصف بالرزق إن قلت إنّ الآية وردت في معرض الامتنان، وهو سبحانه لا يمتن بالمحرّم قلت الامتنان بخلق أصولها من الثمرات، وكونها صالحة للانتفاع بها على وجوه متعدّدة.
وأما الثانية فلأنّه أخبر أنّ فيها إثما كبيرا، والإثم هو الكبيرة بدليل قوله {«وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً»} (2).
وأمّا الثالثة فلأنّه بيّن منافاة السكر للصّلاة، والصلاة واجبة، ووجوب أحد المتنافيين يستلزم تحريم الآخر، لأنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه كما قرّر في الأصول.
وأمّا الرابعة فلما تقدّم في المكاسب.
ثمّ إنّ السيّد المرتضى رضي الله عنه وجماعة استدلّوا على تحريم الخمر وكلّ مسكر بآية خامسة وهي قوله في الأعراف {قُلْ إِنَّمََا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوََاحِشَ مََا ظَهَرَ مِنْهََا وَمََا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ»} (3) والإثم هنا الخمر (4) لقول الشاعر
__________
(1) المائدة: 90.
(2) النساء: 112.
(3) الأعراف: 33.
(4) ففي الكافي: أبو على الأشعري عن بعض أصحابنا وعلى بن إبراهيم عن أبيه جميعا عن على بن أبي حمزة عن أبيه عن على بن يقطين قال: سئل المهدي أبا الحسن عليه السّلام عن الخمر، هل هي محرمة في كتاب الله، فان الناس انما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم لها، فقال له أبو الحسن عليه السّلام: بل هي محرمة في كتاب الله، فقال: في أي موضع محرمة في كتاب الله جل اسمه يا أبا الحسن؟ فقال: قول الله عز وجل {إِنَّمََا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوََاحِشَ مََا ظَهَرَ مِنْهََا وَمََا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}.
فأما قوله {«مََا ظَهَرَ مِنْهََا»} يعنى الزناء المعلن ونصب الرايات التي كانت تعرف بها الفواحش في الجاهلية، وأما قوله {«وَمََا بَطَنَ»} يعنى ما نكح آباؤكم لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي صلّى الله عليه وآله إذا كان للرجل زوجة وماتت منها تزوج بها ابنه من بعده إذا لم تكن أمة، فحرم الله عز وجل ذلك.
واما الإثم فإنها الخمر بعينها، وقد قال الله عز وجل في موضع آخر {«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنََافِعُ لِلنََّاسِ»} فأما الإثم في كتاب الله هي الخمر والميسر {«وَإِثْمُهُمََا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمََا»} كما قال الله تعالى. قال فقال المهدي يا على بن يقطين هذه فتوى هاشمية، قال: قلت له: صدقت والله يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت، قال فو الله ما صبر المهدي الى أن قال لي صدقت يا رافضي.
قال العلامة المجلسي قدس سره في مرآت العقول ج 4ص 93: المراد بالإثم ما يوجبه، وحاصل الاستدلال أنه تعالى حكم في تلك الآية بكون ما يوجب الإثم محرما وحكم في الآية الأخرى بكون الخمر والميسر مما يوجب الإثم، فثبت بمقتضاهما تحريمهما فنقول: الخمر مما يوجب الإثم. وكلما يوجب الإثم فهو محرم: فالخمر محرم.
وبمضمونها في الكافي حديث آخر عن بعض أصحابنا، والحديث مبسوط، وفيه:
ثم قال في الآية الرابعة {«قُلْ إِنَّمََا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوََاحِشَ مََا ظَهَرَ مِنْهََا وَمََا بَطَنَ وَالْإِثْمَ»} فخبر عز وجل أن الإثم في الخمر وغيرها وأنه حرام.(2/305)
شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي ... كذاك الإثم يفعل بالعقول (1)
والمراد بما ظهر زنا وذوات الأعلام، وما بطن زنا المستترات واللّواط، هذا وقوله {«وَالْمَيْسِرِ»} هو مصدر كالموعد سمّي به القمار لأنّه أخذ من مال الغير بيسر
__________
(1) أنشده في مقاييس اللغة ج 1ص 61والضبط كما في الكتاب الا أن في المقابيس تفعل بصيغة التأنيث، وأنشده في التبيان ج 1ص 703ط تهران وتفسير أبى الفتوح ج 5ص 149والضبط فيهما «كذلك الإثم يصنع بالرجال» وأنشده في المجمع ج 4 ص 414والخازن ج 2ص 84وأحكام القرآن لابن العربي ص 774والضبط «يذهب بالعقول» وكذا في الصحاح واللسان اث م الا أن الضبط فيهما «تذهب» بصيغة التأنيث، وكذا في الفتح القريب للشوكانى ج 2ص 191.
وفي تفسير الخازن: وأما الإثم فقد قيل انه اسم من أسماء الخمر، وهو قول الحسن وعطاء، قال الجوهري: وقد تسمى الخمر اثما واستدل عليه بقول الشاعر شربت إلخ، وقال ابن سيده صاحب المحكم: وعندي أن تسمية الخمر بالإثم صحيح لان شربها اثم، وبهذا المعنى يظهر الفرق بين اللفظين، وأنكر أبو بكر بن الأنباري تسمية الخمر بالإثم، قال لان العرب ما سمته اثما في جاهلية ولا في الإسلام ولكن قد يكون الخمر داخلا تحت الإثم لقوله تعالى {«قُلْ فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ»}. لكن الشيخ قدس سره نقل في التبيان إنشاد ابن الأنباري للبيت في ان الإثم هو الخمر.(2/306)
أو سلب يساره، والمعنى يسألونك عن تعاطيهما قل فيهما إثم كبير وقرئ «كثير» ضد القليل، وعلى القراءتين هي محرّمة جدّا، والمنافع قيل ما هي يربحون فيهما من التجارة في الخمر وكسب المال في القمار، وقيل هي المال والطرب والاستلذاذ ومصادقة الفتيان، وفي الخمر خصوصا تشجيع الجبان، وتوفير المروّة وتقوية الطبيعة.
قوله {«وَإِثْمُهُمََا»} أي الخطاء والقبح والمفاسد الّتي ينشأ منهما أعظم من المنافع المتوقّعة، منهما ولذلك قلنا إنّ هذه الآية محرّمة لهما فإنّ المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضيت تحريم الفعل.
وأمّا ما ذكره المفسرون والفقهاء من كونها كانت قبل حلالا فباطل بإجماعنا والنقل الصحيح عن أئمّتنا عليهم السّلام وقوله صلّى الله عليه وآله «كلّ مسكر حرام» وأنّه صلّى الله عليه وآله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها، وقال صلّى الله عليه وآله «شارب الخمر كعابد الوثن» وغير ذلك من الأخبار.(2/307)
القسم الثالث في أشياء من المباحات
وفيه آيات:
الاولى
يَسْألُونَكَ مََاذََا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيِّبََاتُ
{يَسْئَلُونَكَ مََا ذََا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبََاتُ وَمََا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوََارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمََّا عَلَّمَكُمُ اللََّهُ فَكُلُوا مِمََّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللََّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ سَرِيعُ الْحِسََابِ} (1).
لمّا حرّم عليهم الأشياء المتقدّمة من الميتة والدّم ولحم الخنزير والمنخنقة وغير ذلك، سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله أي شيء أحلّ. لهم ولم يقل أحلّ لنا على سبيل الحكاية لأنّ يسألونك للغيبة فوافق بينهما مع أنّ كلا الوجهين سائغ وفي الآية فوائد:
1 - قوله {«أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبََاتُ»} أي المستلذّات وقد تقدّم أقسام الطيّب ويمكن حمل الطيّبات على كلّ واحدة منها لكنّ هذا العامّ مخصوص عندنا بتحريم أشياء وردت به السنّة الشريفة النبويّة والإماميّة، واستدلّ الشافعيّ بهذه المفهوم على تحريم ما استخبثته العرب والمفهوم عندنا غير حجّة.
2 {«وَمََا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوََارِحِ مُكَلِّبِينَ»} والمراد بها المكاسب والكواسب من سباع الطير والبهائم، و «ما» هنا يحتمل كونها موصولة والواو عاطفة فتقدير الكلام حينئذ «وصيد ما علّمتم» أي أحلّ لكم صيد ما علّمتم ويحتمل كونها شرطيّة فيكون الواو ابتدائيّة وجواب الشرط قوله {«فَكُلُوا»} ويستفاد هذا أحكام:
1 - أنّه لا يباح أكل صيد غير المعلّم.
2 - إباحة تعليم الجوارح كلّها والصيد بها.
__________
(1) المائدة: 4.(2/308)
3 - أنّه لا بدّ في إباحة الصيد من العقر والجرح لمدلول «الجوارح» هذا ومعنى مكلّبين قيل مؤدّبين، وفيه نظر لأنّه لا يصحّ «وما علّمتم مؤدّبين» لأنّ التعليم سر التأديب والأولى أنّ معناه حاذقين في التعليم وهو نصب على الحال، وفيه إيماء إلى أنّه لا يكون التعليم إلّا للكلب، لأنّ المكلّب صاحب الكلب، والكلب وإن أطلق على كلّ سبع لقوله صلّى الله عليه وآله «سلّط عليه كلبا من كلابك» (1) لكنّه حقيقة في هذا المعهود، فيكون الاشتقاق منه فيكون مقيّدا مخصّصا لما سبق ولذلك قسم أصحابنا صيد الجوارح إلى قسمين ما أدرك ذكاته فلا يحل إلّا بالتذكية مطلقا وما لم يدرك ذكاته إن كان مقتول الكلب فهو حلال وإلّا فهو حرام، صيد أيّ الجوارح كان وهو المنقول عن الصادق والباقر عليهم السّلام.
فائدة: قيل نزل جبرئيل إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله فوقف بالباب فاستأذن فأذن له فلم يدخل فخرج النبيّ صلّى الله عليه وآله وقال قد أذنّا لك فقال عليه السّلام إنّا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم كلب فقال صلّى الله عليه وآله لا أدع كلبا بالمدينة إلّا قتلته فهربت الكلاب حتّى بلغت العوالي فلمّا نزلت الآية قالوا: يا رسول الله كيف نصيد بها وقد أمرت بقتلها؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه وآله فجاءه الوحي بالإذن في اقتناء الكلاب الّتي ينتفع بها فاستثنى رسول الله صلّى الله عليه وآله كلاب الصيد وكلاب الماشية وكلاب الحرث، وأذن في اتّخاذها (2)
4 {«تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمََّا عَلَّمَكُمُ اللََّهُ»} فيه دلالة على كون التعليم أمرا مستفادا كيفيّته من الشارع فقال أصحابنا نقلا عن أئمّتهم عليهم السّلام أنّ التعليم يحصل بأمور الأوّل: الاسترسال إذا أخرى. الثاني: الانزجار إذا زجر الثالث: أن لا يعتاد أكل
__________
(1) قاله صلّى الله عليه وآله في عتبة بن أبى لهب: بعد ما نزل والنجم إذا هوى جاء الى رسول الله وطلق ابنته وقال: كفرت بالنجم وبرب النجم فدعا عليه صلّى الله عليه وآله وقال اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فخرج عتبة الى الشام فافترسه أسد في بعض الطريق ليلا راجع مناقب آل أبى طالب ج 1ص 71، مجمع البيان ج 9ص 172.
(2) راجع الدر المنثور ج 2ص 259، مجمع البيان ج 3ص 160.(2/309)
صيده الرابع: الاستمرار على ذلك غالبا ولا اعتبار بالندرة نفيا أو إثباتا.
4 {«فَكُلُوا مِمََّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ»} فيه دلالة على أنّه لا يباح ما أكل منه الكلب ولذلك قال صلّى الله عليه وآله لعديّ بن حاتم «وإن أكل منه فلا تأكله لأنّه أمسك على نفسه» (1)
وهو قول أصحابنا وأكثر الفقهاء وقال بعضهم يعتبر ذلك في سباع البهائم لا الطير لتعذّر تأديبها إلى هذا الحدّ، وقال قوم منهم مالك وسعد بن أبي وقّاص لا يعتبر ذلك مطلقا وإن أكل ثلثه، والحقّ ما ذكرناه وفيها دلالة على أنّه لا يباح أكل ما غاب عن النظر لأنّه إذا غاب لم يكن قد أمسكه على صاحبه بل على نفسه، وهو الإنماء قال صلّى الله عليه وآله «كل ما أصميت ودع ما أنميت» (2) سواء وجد به أثر الكلب من جرح أو غض أو لا.
و «من» في قوله «ممّا» الأصحّ أنّها للتبعيض إذ لا يباح كلّما يمسكه الكلب بل بعضه.
[وهو] أمّا من نفس الحيوان المباح فإنّه يحرم الدم والفرث والغدد والطحال والمشيمة والعلباء وذات الأشاجع والفرج والقضيب والأنثيان والمرارة والنخاع والحدقة وخرزة الدّماغ.
وأمّا من غيره فإنّه يحرم عندنا الأرنب والثعلب والضبّ واليربوع وغيرها من المصيدات ممّا ورد النصّ بتحريمه وقيل هي زائدة وهو باطل لشذوذ زيادتها في الإثبات وإنما قال: «عليكم» وعدّاه بعلى لأنّ فيه معنى التفضيل أي ممّا تفضّلن عليكم بإمساكه وفيه دلالة على تحريم ما اصطاده للكافر (3) لقوله «عليكم» بالخطاب للمسلمين.
5 - قوله {«وَاذْكُرُوا اسْمَ اللََّهِ عَلَيْهِ»} الضمير راجع إلى {«مََا عَلَّمْتُمْ»} والمعنى سموا عليه عند إرساله أو إلى ما أمسكن بمعنى سمّوا عليه إذا أدركتم ذكاته
و__________
(1) سنن أبي داود ج 2ص 97و 98.
(2) السراج المنير ج 3ص 99.
(3) ما صاده الكافر خ.(2/310)
الكلّ محتمل لكنّ الأوّل أوفق للمذهب، ثمّ يستفاد من ظاهرها أحكام:
1 - وجوب التسمية لأنّ الأمر للوجوب.
2 - أنّه لو تركها نسيانا فلا جناح.
3 - لا يباح صيد الكافر لأنّه لا يعرف الله حتّى يذكر اسمه، سواء كان معلّم الكلب مسلما أو كافرا كما أنه مع تسمية المسلم لا اعتبار بمعلّم الكلب وإن كان كافرا، نعم يكره الصيد بما علّمه مجوسيّ ثمّ اعلم أنّه يجوز أكل ما صاده الصبيّ المميز من الأولاد المسلمين إلحاقا بالأبوين.
قوله {«وَاتَّقُوا اللََّهَ»} أي اجتنبوا أكل ما نهيتم عن أكله فإنّ الله يحاسبكم عليه.
الثانية {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبََاتُ وَطَعََامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعََامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (1).
حمل فقهاء الجمهور قوله و {«طَعََامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ»} على عمومه بحيث يدخل فيه الذبائح وغيرها ممّا يصيدونه (2) قالوا واستثنى عليّ عليه السّلام منهم نصارى بني تغلب، وقال: ليسوا على النصرانيّة ولم يأخذوا منها إلّا شرب الخمر، وكذا قالوا لا يلحق بهم المجوس وإن الحقوا في تقرير الجزية لقوله صلّى الله عليه وآله «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب غيرنا كحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم» (3) وأمّا أصحابنا فحملوا الطعام هيهنا على الحبوب وشبهها من الجامدات أمّا أو لا فلحكمهم بنجاستهم المانعة من أكل ما يباشرونه وأما ثانيا فلقوله {«وَلََا تَأْكُلُوا مِمََّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللََّهِ عَلَيْهِ} (4)» وذبائحهم لم يذكر اسم الله عليها لكونهم غير عارفين به لوصفهم بالشرك في قوله:
__________
(1) المائدة: 5.
(2) نص: يصنعونه.
(3) أخرجه في المستدرك ج 2ص 262عن العياشي.
(4) الانعام: 121.(2/311)
{«وَقََالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللََّهِ»} إلى قوله {سُبْحََانَهُ عَمََّا يُشْرِكُونَ} (1) ولأنّهم إذا ذكروا اسم الله اعتقدوا أنّه أبّد شرع موسى عليه السّلام وأنّه والد عيسى عليه السّلام وأنّه لم يرسل محمدا صلّى الله عليه وآله.
إن قلت قوله {«وَطَعََامُ الَّذِينَ»} إلى آخره عامّ وقوله {«وَلََا تَأْكُلُوا»} عام أيضا فليس تخصيص عامّنا بعامّكم أولى من العكس، قلت: تخصيص عامّكم لا محذور فيه وأمّا تخصيص عامّنا ففيه محذور، وهو أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وأيضا قد دللنا على وجوب التّسمية عند إرسال آلة الصيد (2) وعند الذبيحة وأنّ من تركها عمدا لا يحل ذبيحته، وكلّ من قال بذلك قال بتحريم ذبائح أهل الكتاب وأنّ قوله {«وَطَعََامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ»} مخصوص، فلو قلنا بالأوّل ولم نقل بالثاني كان خرقا للإجماع.
هذا تقرير ما ذكره الفريقان، غير أنّ عندي في كلام الأصحاب إشكالا تقريره أنّ الحبوب وغيرها من الجامدات داخلة في الطيّبات في قوله {«الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبََاتُ»} وعطف الخاصّ على العامّ نصّ أهل البلاغة أنّه لا يجوز إلّا لنكتة أو فضيلة كعطف جبرئيل وميكائيل على الملائكة، فأيّ نكتة هنا اقتضت الإخراج والعطف على قولكم، نعم النكتة متوجّهة على قول الخصم. وذلك أنّه لمّا ذكر أنه حرّم ما لم يذكر اسم الله عليه، وأنّ أهل الكتاب مشركون وأنّهم يكفّرون أهل السلام وأنّهم من أهل الخبائث أمكن أن يقال إنّ طعامهم مطلقا ليس من الطيّبات فناسب ذلك إخراجه وعطفه بيانا للرّخصة، وأمّا على قولكم فانّ ذلك عزيمة وللرخصة مزية في بيان الأحكام، خصوصا فيما ورد في معرض الامتنان، وهو هذه الآية، وأرجو من الله أن يفتح عليّ الجواب عن هذا الاشكال بكرمه ومنه.
الثالثة {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا} (3)
__________
(1) التوبة: 30.
(2) عند إرسال الكلب الى الصيد خ.
(3) النحل: 14.(2/312)
وفي آية أخرى:
{وَمََا يَسْتَوِي الْبَحْرََانِ هََذََا عَذْبٌ فُرََاتٌ سََائِغٌ شَرََابُهُ وَهََذََا مِلْحٌ أُجََاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا} (1).
دلّت الآيتان الكريمتان على إباحة أكل ما يصاد من السّمك، وتقييده بالطريّ ليس مخصّصا له بالتحليل، للإجماع على إباحة غيره، وإنّما قيّده بالطراوة لأنّ طيبته في طراوته، فإذا لبث تغير طراوته، وذهب طيبه. والآية الكريمة خرجت مخرج الامتنان، فلا يليق إلّا بما هو لذيذ، ثمّ اللام في الآية الأولى يجوز أن يكون للتعليل بمعنى أنّ السبب الغائيّ بخلق البحر انتفاع الإنسان به، ويجوز أن يكون للعاقبة، بأن يكون خلقه لسبب آخر لكن آل الأمر إلى انتفاعنا به.
واعلم أنّه استدلّ بعض الفقهاء بالآية على أنّ السمك لحم، وأنه إذا حلف أحد لا يأكل لحما يحنث بالسمك وليس بشيء لأنّه لحم لغة لا عرفا، والأيمان مبنيّة على الحقيقة العرفيّة لا اللّغويّة لما تقرّر في الأصول من تقديم العرف على اللّغة لكونه طارئا ناسخا لحكمها.
الرابعة {وَجَعَلْنََا مِنَ الْمََاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (2).
وأمثالها من الآيات الدالة على الامتنان بخلق الماء، وإنزاله من السماء فإنّ الجميع دالّ على إباحته وحلّه، إذ لا امتنان بالممنوع من الانتفاع به شرعا.
__________
(1) فاطر: 13.
(2) الأنبياء: 30.(2/313)
الخامسة
آية الوحي إلى النحل
{وَأَوْحى ََ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبََالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمََّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهََا شَرََابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوََانُهُ فِيهِ شِفََاءٌ لِلنََّاسِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1).
دلّت الآيتان على أمور:
1 - إباحة العسل وهو المعني بالشراب.
2 - كونه شفاء من الأمراض لأنّه يقال في مقابلة المرض كقوله {«وَإِذََا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ»} (2) ويؤيّده قوله صلّى الله عليه وآله «شفاء أمّتي في ثلاثة: آية من كتاب الله، ومشراط حجّام، ولعقة من عسل (3)» وفي توجيه الحديث فائدة وهو أنّه صلّى الله عليه وآله أخبر أنّ شفاء أمّته في هذه الثلاثة أمّا الآية فعلى وجه الخاصية فإنّ لكلامه تعالى خواصّ لا ينكرها من له بصيرة، فإنّ كلامه تعالى فعل من أفعاله فلا ينكر اشتماله على خاصيّة ليست لغيره كما في باقي أفعاله فإنّ جذب المغناطيس للحديد لا ينكره عاقل، وأمّا المشراط فعند هيجان الدّم، وأمّا العسل فإنّه مع الأدوية الحارّة شفاء من البلغم، وقد يكفي فيه وحده، ومع الحموضات شفاء من الصفراء ومع الأدهان شفاء من السوداء.
قال بعضهم قلّ معجون يركّبه الأطبّاء يخلو من العسل، وروي أنّ رجلا قال لرسول الله إنّ أخي يشتكي بطنه قال اسقه العسل فذهب ثمّ جاء فقال سقيته فما نفع فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله اسقه عسلا فقد صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه فبرأ (4).
واعلم أن العسل وإن لم يكن شفاء من كلّ داء لكنّه شفاء من كثير منها، والحديث المذكور في البطن لا يدلّ على أنّه شفاء من كلّ داء، لجواز أن يكون قد
__________
(1) النحل: 68و 69.
(2) الشعراء: 80.
(3) راجع الدر المنثور ج 4ص 122.
(4) المصدر نفسه.(2/314)
عرف صلّى الله عليه وآله من جهة الوحي أنّ داء أخيه ممّا ينفعه العسل، فالتنكير في «شفاء» إمّا للتبعيض أو للتكثير مبالغة فيدل على الأكثريّة الكليّة.
3 - في الآية إيماء إلى جواز العلاج من الأمراض فإنّ إباحة الخاصّ لعلّة تستلزم إباحة خاصّ آخر توجد فيه تلك العلّة إلّا ما ورد فيه النهي كقوله صلّى الله عليه وآله:
لا شفاء في محرّم. وهنا فوائد:
1 - الوحي هنا بمعنى الإلهام وقد يقال بمعنى الإشارة كقوله {«فَأَوْحى ََ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً} (1)» وبمعنى الاسرار كقوله {«يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى ََ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً»} (2) والوحي الحقيقيّ وحي النبوّة، والجامع لهذه المعاني كلّها إلقاء شيء إلى الغير على وجه السرّ.
2 «من» في {«مِنَ الْجِبََالِ»} للتبعيض أي بعض الجبال، وبعض الشجر، وبعض ما يعرشون: أي يسقّفون وسمّى ما تبنيه بيتا تشبيها له ببيت الإنسان، لما فيه من حسن الصنعة وصحّة القسمة الّتي لا يقوى عليها حذّاق المهندسين، والثمرات:
الأزهار والأنوار، فإنّ الثمرة اسم لكلّ فائدة يحصل من الشجرة للإنسان أو غيره وقد يستدلّ بذلك على جواز المساقاة شرعا على ما لا فائدة له إلّا الورق والزهر والنّور، لصدق الثمرة عليه، وقوله {«فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا»} أي طرقا موصلة لمأكولك إلى صورة العسل وفيه دلالة على كونه تعالى يفعل بالسبب أو طرقا توصلك إلى الأزهار و {«ذُلُلًا»} جمع ذلول أي الموطّأة للسلوك، وقال قتادة إنّها صفة للنحل أو حال عن الضمير في «اسلكي» أي وأنت ذلل منقادة لما أمرت به.
3 {«يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهََا»} فيه التفات عن خطاب النحل إلى خطاب الناس لأنه في محلّ الانعام عليهم، قوله {«شَرََابٌ»} احتجّ به من قال أنّ النحل تأكل الأزهار والأوراق العطرة، فيستحيل في باطنها عسلا ثمّ تقيئه ادّخارا للشتاء ومنهم من زعم أنّها تلتقط بأفواهها أجزاء طيّبة حلوة صغيرة متفرّقة على الأوراق
__________
(1) مريم: 11.
(2) الانعام: 112.(2/315)
والأزهار وتضعها في بيوتها ادّخارا للشتاء فإذا اجتمع في بيوتها شيء كثير منها كان العسل، وكأنّ هذا القائل فسّر البطون بالأفواه، وجعل في الكلام إضمارا أي أفواه بطونها أو فسّر البطون بالأفواه مجازا قوله {«إِنَّ فِي ذََلِكَ»} أي في ذلك التدبير من أقدارها على بناء البيوت المحكمة، وتصيير غذائها المختلف في المرارة والحموضة عسلا حلوا مختلفا ألوانه متّحدا في صورته وطبعه {«لَآيَةً»} ودلالات على صانع مختار حكيم عالم بالجزئيات والكلّيّات {«لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»} في أنّه لو كان صادرا عن موجب لما اختلف آثاره، بل كانت كلّها على نهج واحد.
السادسة
لَيْسَ عَلَى الَّذينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصالِحََاتِ جُنََاح
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ جُنََاحٌ فِيمََا طَعِمُوا إِذََا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللََّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1).
أي ليس عليهم جناح فيما تناولوه من المباحات إذا ما اتّقوا المحرّم، وثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحة ثمّ هنا فوائد:
1 - قيل سبب نزولها أنّه لمّا نزلت آيات تحريم الخمر قالت الصحابة يا رسول الله كيف بإخواننا الّذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون من الميسر فنزلت والأصح أنّها نزلت في القوم الّذين تعاهدوا على ترك الطيّبات كعثمان بن مظعون وأصحابه بمعنى أنّه ليس عليهم جناح في تناول الطيّبات والمستلذّات إذا ما داوموا على الإيمان وعمل الصّالحات واتّقاء المحرّمات.
2 - في التكرار المذكور وجوه:
الأوّل: على قول من يقول بقبول الإيمان للزيادة والنقص، والمراد بالتكرار تزيد الإيمان، وتفاوت مراتبه.
الثاني: أنّه كرّره ثلاثا باعتبار الأوقات الثلاثة الماضي والحال والاستقبال.
__________
(1) المائدة: 93.(2/316)
الثالث: أنّه باعتبار الأحوال الثلاث: الاولى باعتبار حاله مع نفسه، والثانية: باعتبار حاله مع الناس، والثالثة: باعتبار حاله مع الله، ولذلك بدّل الايمان بالإحسان، إشارة إلى قوله صلّى الله عليه وآله في تفسير الإحسان «أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك».
الرابع: باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والمنتهى والوسط.
الخامس: أنّه باعتبار ما يتّقى فإنّه يتّقى ترك المحرّمات حذرا من العقاب وترك الشبهات تحرّزا من الوقوع في الحرام وهي مرتبة الورع وترك بعض المباحات وهي ما يفيد تحفّظا للنفس عن الخسّة، وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة.
السادس: أنّ المراد تجديد الإيمان والعزم على التقوى، لتقوى الداعية للمكلّف ويصير الايمان والتقوى ملكتين راسختين في النفس ليس للشبهات عليه فيهما مجال، بخلاف ما إذا لم يكونا ملكتين، فإنّ للشبهة والجناح عليه مجالا.
3 - في الآية دلالة على أنّ الأشياء على الإباحة ما لم يعلم فيها وجه من وجوه القبح، قوله {«وَاللََّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»} فيه دلالة على أنّ من فعل ذلك صار محسنا ومن صار محسنا صار محبوبا للََّه.
4 - روي أنّ قدامة بن مظعون شرب الخمر على عهد عمر، فأراد أن يحدّه فقال له قدامة: إنّه لا يجب عليّ الحدّ وتلا الآية، فدرأ عنه الحدّ فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السّلام فأتى المسجد وفيه عمر فقال له: لم تركت إقامة الحدّ على قدامة فقال تلا عليّ آية وذكرها عمر، فقال عليه السّلام ليس قدامة من أهل هذه الآية ولا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرّم اللََّه، إنّ الّذين آمنوا لا يستحلّون حراما فاردد قدامة فاستتبه ممّا قال: فإن تاب فأقم عليه الحدّ وإن لم يتب فاقتله فإنّه قد خرج عن الملّة، فعرف قدامة الخبر فأظهر التوبة (1).
__________
(1) راجع مجمع البيان ج 3ص 242، وذكرت القصة في ترجمته كما في أسد الغابة ج 4ص 199.(2/317)
السابعة
يََا ايُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لََا تُحَرِّمُوا طَيِّبََاتِ مََا أحَلَّ اللََّهَ لَكُمْ
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُحَرِّمُوا طَيِّبََاتِ مََا أَحَلَّ اللََّهُ لَكُمْ وَلََا تَعْتَدُوا إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (1).
روي أنّ النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله جلس للناس ووصف لهم يوم القيامة، ولم يزدهم على التخويف، فرقّ الناس وبكوا، واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون واتّفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا اللّيل، ولا يناموا على الفراش، ولا يأكلوا اللحم، ولا الودك، ولا يقربوا النساء ولا الطيب، ويلبسوا المسوح ويرفضّوا الدّنيا ويسبحوا في الأرض ويترهّبوا ويحبّوا المذاكير.
فبلغ ذلك النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله فأتى منزل عثمان فلم يجده فقال لامرأته: أحقّ ما بلغني؟ فكرهت أن تكذّب رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله وأن تبدي على زوجها فقالت يا رسول اللََّه إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله فأخبرت عثمان بذلك فأتى هو وأصحابه إلى النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله فقال لهم ألم أنبّأ أنّكم اتّفقتم على كذا وكذا؟
فقالوا: ما أردنا إلّا الخير فقال إنّي لم أومر بذلك ثمّ قال إنّ لأنفسكم عليكم حقّا فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا فانّي أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي.
ثمّ جمع الناس وخطبهم وقال: ما بال أقوام حرّموا النساء والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما إنّي لست آمركم أن تكونوا قسّيسين ورهبانا إنّه ليس في ديني ترك اللّحم والنساء ولا اتّخاذ الصوامع إن سياحة أمّتي الصوم، ورهبانيّتها الجهاد اعبدوا اللََّه ولا تشركوا به شيئا وحجّوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا شهر رمضان واستقيموا يستقيم لكم فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدّد اللََّه عليهم فأولئك بقاياهم في الديرات والصوامع، فأنزل اللََّه الآية (2) إذا عرفت هذا فاعلم أنّ في الآية والقصّة دلالة على أمور:
__________
(1) المائدة: 77.
(2) الدر المنثور ج 2ص 308مجمع البيان ج 3ص 236.(2/318)
1 - أنّه لا يجوز تحريم ما أحلّه اللََّه من الطيّبات، ولا تحليل ما حرّم اللََّه من الخبائث.
2 - أنّ الترهّب والتقشّف ليس من سنن هذه الشريعة الشريفة، بل من سننها تناول الطيّبات والمستلذّات المحلّلة.
3 - أنّه لا ينعقد العهد واليمين على ترك المندوب، ولا على ترك مباح الاولى فعله
الثامنة
كُلُّ الطَّعََامِ كََانَ حِلا لِبَني اسْرََائيلَ الََّا مََا حَرَّمَ اسْرََائيلُ عَلى ََ نَفْسِهِ
{كُلُّ الطَّعََامِ كََانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرََائِيلَ إِلََّا مََا حَرَّمَ إِسْرََائِيلُ عَلى ََ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرََاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرََاةِ فَاتْلُوهََا إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (1).
قيل لنزولها أسباب:
1 - أنّه لمّا منع اليهود مشروعيّة النسخ نزلت تكذيبا لهم وبيانا لوقوعه.
2 - لمّا نزل قوله تعالى {«فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هََادُوا حَرَّمْنََا عَلَيْهِمْ طَيِّبََاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ»} وقوله و {«عَلَى الَّذِينَ هََادُوا حَرَّمْنََا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ»} (2) قالوا لسنا بأوّل من حرّمت عليه هذه الأشياء، وما هو إلّا تحريم قديم كانت محرّمة على نوح وإبراهيم ومن بعده، وهلم جرّا إلى أن انتهى التحريم إلينا، وغرضهم تكذيب شهادة اللََّه عليهم بالظلم والبغي وأكل الرّبا فقال تعالى {«فَأْتُوا بِالتَّوْرََاةِ فَاتْلُوهََا إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ»}.
3 - أنّهم طعنوا على رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله في تحليل لحوم (3) الإبل وألبانها ودعواه موافقة إبراهيم عليه السّلام فنزلت إذا عرفت هذا فهنا فوائد:
1 - الحل مصدر حلّ الشيء يحلّ حلّا ولذلك استوى فيه المذكّر والمؤنّث والواحد والمثنّى والمجموع قال اللََّه تعالى {«لََا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلََا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ»} (4)
__________
(1) آل عمران: 93.
(2) النساء، 160، الانعام: 146.
(3) شحوم خ، وهكذا فيما يأتي.
(4) الممتحنة: 10.(2/319)
والمراد كلّ المطاعم لم تزل حلالا لهم قبل إنزال التوراة وتحريم ما حرّم اللََّه عليهم منها لظلمهم وبغيهم، ولم يحرّم منها إلّا ما حرمه إسرائيل وهو يعقوب عليه السّلام.
2 - المراد بما حرّمه إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها. وسبب تحريمه قيل كان به عرق النساء فنذر إن شفي لم يأكل أحبّ الطعام إليه وكان ذلك أحبّه إليه وقيل فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطبّاء.
3 - احتج من جوّز الاجتهاد على الأنبياء بقوله {«إِلََّا مََا حَرَّمَ إِسْرََائِيلُ عَلى ََ نَفْسِهِ»} حيث أسند التحريم إليه، ولمانع أن يقول: ذلك بإذن من اللََّه سبحانه فهو كتحريمه ابتداء.
التاسعة
وَعَلَى الَّذينَ هََادُوا حَرَّمْنََا كُلَّ ذي ظُفْرٍ
{وَعَلَى الَّذِينَ هََادُوا حَرَّمْنََا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنََا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمََا إِلََّا مََا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمََا أَوِ الْحَوََايََا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذََلِكَ جَزَيْنََاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنََّا لَصََادِقُونَ} (1).
هنا فوائد:
المراد بذي الظفر هو كلّ ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل والنعام والبطّ والإوز، وقيل كلّ ذي مخلب وحافر، وسمّى الحافر ظفرا مجازا، أخبر سبحانه أنّه حرّم عليهم كلّ ذي ظفر بجميع أجزائه وأمّا البقر والغنم فحرّم منهما الشحوم واستثنى من الشحوم ثلاثة أنواع الأوّل ما على الظهر، الثاني ما على الحوايا وهي الأمعاء، الثالث: ما اختلط بعظم، وهو شحم الجنب والألية، لأنّها مركّبة (2) على العصعص وقيل في «الحوايا» أنّها عطف على الشحوم، و «أو» بمعنى الواو، فتكون محرّمة والأجود ما قلناه، وهو عطفها على الظهور فتكون مرفوعة وتكون داخلة في المستثنى لقربه.
__________
(1) النساء: 160.
(2) مرتبة خ.(2/320)
2 - في الآية دلالة على حلّ هذه الأشياء في هذه الشريعة، وإلّا لما كان لتخصيص اليهود بالتحريم فائدة.
3 - في الآية دلالة على جواز النسخ وكونه تابعا للمصلحة واللطفيّة (1).
4 - في قوله {«ذََلِكَ جَزَيْنََاهُمْ بِبَغْيِهِمْ»} دلالة على جواز ضم العقاب الدنيويّ إلى العقاب الأخرويّ، بل وعلى جواز العقاب على الذّنب في الدنيا لا غير، على قول من يقول بانقطاع عقاب المعاصي كما هو مذهب الحق، وفيه دلالة على كون التضييق والمشاقّ ألطافا، وعلى جواز كون منع المنافع لأجل العصيان كما قال صلّى اللََّه عليه وآله «إنّ الإنسان ليحرم الرّزق بذنب يصيبه (2).
5 - في قوله {«وَإِنََّا لَصََادِقُونَ»} من المبالغة والتأكيد في الردّ عليهم ما لا يخفى، لإتيانه بالجملة الاسميّة، والتصدير بانّ المؤكّدة للإسناد، واتباعها باللّام في خبرها: [لصادقون]
العاشرة
وَمََا لَكُمْ الََّا تَأْكُلُوا مِما ذُكِرَ اسْمُ اللََّهِ عَلَيْهِ
{وَمََا لَكُمْ أَلََّا تَأْكُلُوا مِمََّا ذُكِرَ اسْمُ اللََّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مََا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلََّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوََائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} (3).
أي أيّ سبب حصل لكم فيه؟ أي لا سبب لكم في ترك أكل ما ذكر اسم اللََّه عليه، والواو في {«وَقَدْ فَصَّلَ»} للحال أي لأيّ سبب تركتم أكله، والحال أنّ اللََّه قد فصّل لكم الحلال من الحرام، وليس هذا من جملته، وهو إشارة إلى قوله {«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} (4)» الآية {«إِلََّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ»} من الحرام فهو حلال
__________
(1) والغبطة، خ.
(2) الكافي ج 2ص 268باب الذنوب.
(3) الانعام: 119.
(4) المائدة: 3.(2/321)
لكم على وجه الرخصة، وإنّ كثيرا من الناس ليضلّون فيحرّمون ما أحلّه اللََّه بمجرّد أهوائهم لا مستندين إلى علم {«إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ»} أي المتجاوزين الحقّ إلى الباطل، والحلال إلى الحرام، وهنا فوائد:
1 - دلّت الآية الكريمة على إباحة ما ذكر اسم اللََّه عليه، وتحريم ما لم يذكر اسم اللََّه عليه، ودلّ على الثاني قوله تعالى فيما بعد {«وَلََا تَأْكُلُوا مِمََّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللََّهِ عَلَيْهِ»} وهو نصّ في تحريم متروك التسمية عمدا أو نسيانا وإليه ذهب داود وأحمد وقال مالك والشافعي بخلافه لقوله صلّى اللََّه عليه وآله «ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم اللََّه عليه» (1) وقال أصحابنا وأبو حنيفة بتحريم ما تركت التسمية فيه عمدا لا نسيانا لقوله صلّى اللََّه عليه وآله «رفع عن أمّتي الخطاء والنسيان» (2) والحديث محمول على النسيان هذا إن صحّ سنده وأما الآية فأوّلها الحنفيّة بالميتة، وجعلوا التسمية اسما للمذكّى أو أنّها محمولة على ما أحلّ لغير اللََّه به، لقوله {«وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ»} فإنّ الفسق عبّر به عن ذلك كما تقدّم، والأولى حملها على إضمار العمد أو التخصيص به، لما تقرّر في الأصول أنّها خير من النقل.
2 - الواجب في التسمية ذكر اللََّه تعالى مع التعظيم مثل بسم اللََّه أو اللََّه أكبر أو سبحان اللََّه أو الحمد للََّه أو لا إله إلّا اللََّه ولو اقتصر على لفظة «اللََّه» لم يجز على الأقرب ويجب كونها بالعربيّة مع الاختيار، وصادرة عن الذابح فلو سمّى غيره لم يحلّ.
3 - المراد بالاضطرار المستثنى في الآية ما يخاف معه التلف أو المرض أو الضّعف عن متابعة الرفقة مع الضرورة إلى المرافقة، أو عن الركوب مع الضرورة إليه ولا يشترط الاشراف على الموت، بل يباح إذا خيف ذلك وإذا أبيح له وجب ذلك لوجوب حفظ النفس ثمّ يتناول قدر ما يزول معه الضرر من غير زيادة عملا بالعلّة.
4 - هذا العام وهو قوله {«إِلََّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ»} مخصوص بالنسبة إلى الفاعل
__________
(1) أخرجه عبد بن حميد عن راشد بن سعد كما في الدر المنثور ج 3ص 42.
(2) راجع السراج المنير ج 2ص 317.(2/322)
وإلى المستباح: أمّا الأوّل بأن لا يكون باغيا ولا عاديا لقوله {«فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بََاغٍ وَلََا عََادٍ فَلََا إِثْمَ عَلَيْهِ»} والباغي هو الخارج على الإمام أو الّذي يبغي الميتة أي الراغب في أكلها والعادي هو قاطع الطريق أو الّذي يعدو شبعه، ونقل الطبرسي أنّه باغي اللّذّة والعادي سدّ الجوعة، أو عاد بالمعصية أو باغ في الإفراط في التقصير، وعلى التفسير بالمعصية لا يباح للعاصي بسفره كطالب الصيد لهوا وطربا، وتابع الجائر والآبق، ولو اكره على الأكل فهو كخائف التلف وأمّا الثاني فهو كلّ ما لا يؤدّي إلى قتل معصوم الدّم كمسلم أو ذمّي أو معاهد لا ما أباح الشارع دمه كاللّائط والزاني المحصن والحربيّ والمرتدّ عن فطرة أمّا الخمر فيحرم التداوي بها إجماعا بسيطا ومركّبا وأمّا دفع التلف فقيل بالمنع أيضا والحق عدمه بل يباح دفعا للتلف وكذا باقي المسكرات، نعم لو وجد الخمر وباقي المسكرات أخّر الخمر، هذا كلّه مع عدم قيام غير الخمر مقامه وأما مع القيام فلا يجوز مطلقا.
كتاب المواريث
وفيه آيات:
الاولى
وَلِكُلِّ جَعَلْنََا مَواليَ مِما تَرَكَ الْوََالِدََان وَالاقْرَبُونَ
{وَلِكُلٍّ جَعَلْنََا مَوََالِيَ مِمََّا تَرَكَ الْوََالِدََانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمََانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} (1).
الموالي هنا الورّاث فالتقدير حينئذ: جعلنا لكلّ إنسان موالي يرثونه ممّا ترك، ومن للتعدية، والضمير في «ترك» للإنسان الميّت أي يرثونه ممّا تركه و «الوالدان» خبر مبتدأ محذوف أي هم الوالدان والأقربون ويترتّبون (2) الأقرب فالأقرب، لقرينة معنى القرب، وقال الزمخشري: تقديره ولكلّ شيء [جعلنا] ممّا
__________
(1) النساء: 33.
(2) يرثون، خ.(2/323)
ترك الوالدان والأقربون موالي يرثونه ويحوزونه أو تقديره ولكلّ قوم جعلناهم موالي نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون وفيهما نظر (1) أمّا الأوّل فلأنّه يفهم منه حينئذ أنّ لكلّ صنف من أصناف التركة وارثا وهو فاسد، لأنّ الورّاث مشتركون في كلّ جزء من كلّ صنف من التركة وأمّا الثاني فلأنّ الوالدين والأقربين هم الورّاث لا الموتى، بدليل أنّه عطف عليهم {«وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمََانُكُمْ»} وهم الورّاث لأنّه قال {«فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ»} وقرئ عقدت وعاقدت، والمعنى واحد والأيمان هنا جمع يمين اليد لأنّهم كانوا عند العهد يمسحون اليمنى باليمنى، فيقول العاقد: دمك دمي، وثأرك ثاري، وحربك حربي، وسلمك سلمي: ترثني وأرثك، وتطلب بي واطلب بك وتعقل عنّي وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث حليفه وهذا من باب إسناد الفعل إلى آلته، وقيل جمع يمين الحلف فيكون من باب إسناد الفعل إلى سببه إذا عرفت هذا فهنا فوائد:
1 - كانوا في الجاهليّة يتوارثون بهذا العقد دون الأقارب، فأقرّهم اللََّه عليه في مبدء الإسلام ثمّ نسخ ذلك فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة فروي أنّ النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله آخى بين المهاجرين والأنصار لمّا قدم المدينة فكان المهاجري يرث الأنصاري وبالعكس ولم يرث القريب ممّن لم يهاجر ونزل في ذلك {«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهََاجَرُوا وَجََاهَدُوا بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولََئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيََاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهََاجِرُوا مََا لَكُمْ مِنْ وَلََايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتََّى يُهََاجِرُوا} (2)» ثم نسخ ذلك بالقرابة والرحم والأنساب والأسباب لقوله {«وَأُولُوا الْأَرْحََامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى ََ بِبَعْضٍ فِي كِتََابِ اللََّهِ} (3)».
2 - هذا الحكم أعني الميراث بالمعاهدة والمعاقدة، وهو المسمّى بضمان الجريرة
__________
(1) كذا في جميع النسخ المخطوطة وفي المطبوعة «وكلاهما ضعيفان».
(2) الأنفال: 72.
(3) الأنفال: 75.(2/324)
منسوخ عند الشافعيّ مطلقا لا إرث له، وعند أصحابنا ليس كذلك، بل هو ثابت عندنا عند عدم الوارث النسبيّ والسّببيّ لما روي عن النبي صلّى اللََّه عليه وآله أنّه خطب يوم الفتح فقال ما كان من حلف في الجاهليّة فتمسّكوا به فإنه لم يزده الإسلام إلّا شدّة ولا تحدثوا حلفا في الإسلام (1)» وعند أبي حنيفة إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صحّ.
3 - على ما قلناه من بقاء حكم الإرث بالتعاهد، يكون الآية غير منسوخة جملة بل تكون محكمة لكنّ الإرث فيها مجمل يفتقر إلى شرائط ومخصّصات تعلم من موضع آخر من الكتاب أو من السنّة الشّريفة.
وقال بعضهم: المعاقدة هنا هي المصاهرة، فيكون إشارة إلى إرث الزّوجين واحتاره المعاصر، وفيه بعد لأنّه عدول عن الظاهر، وعن قول الأكثر.
الثانية
وَأُولُوا الارْحََامِ بَعْضُهُمْ اوْلى ََ بِبَعْضٍ في كتََابِ اللََّهِ
{وَأُولُوا الْأَرْحََامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى ََ بِبَعْضٍ فِي كِتََابِ اللََّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهََاجِرِينَ إِلََّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى ََ أَوْلِيََائِكُمْ مَعْرُوفاً} (2).
قد ذكرنا أنّ رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله كان يورّثهم بالهجرة لا بالقرابة تأليفا لقلوبهم كإسهام الكفّار من الصّدقة وأنّه نسخ ذلك بهذه الآية، وبآيات الإرث، والمعنى أنّ اولي الأرحام بعضهم أولى بميراث بعضهم من المهاجرين وغيرهم، ثمّ استثنى الوصيّة للأولياء بقوله {«إِلََّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى ََ أَوْلِيََائِكُمْ مَعْرُوفاً»} أي أصدقائكم من المؤمنين والمعروف الوصيّة وعدّى الفعل بإلى لتضمّنه معنى الاسداء، وقال بعضهم في الآية دلالة على أنّه لا وصيّة لوارث وليس بشيء.
الثالثة
للرِّجََالِ نَصيبٌ مِمََّا تَرَكَ الْوََالدََانِ والاقْرَبُونَ
{لِلرِّجََالِ نَصِيبٌ مِمََّا تَرَكَ الْوََالِدََانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسََاءِ نَصِيبٌ مِمََّا تَرَكَ الْوََالِدََانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمََّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} (3).
__________
(1) أخرجه الطبرسي في مجمع البيان ج 3ص 42.
(2) الأحزاب: 6.
(3) النساء: 7.(2/325)
كان الجاهليّة لا يورّثون إلّا من ذاد عن الحريم بالصفاح، وطاعن عنهم بالرماح وقيل كانوا يورّثون الرجال دون النساء، فنزلت هذه الآية وأمثالها ردّا عليهم، وسبب نزولها أنّ الأوس بن ثابت الأنصاريّ مات وترك زوجة مسمّاة بأمّ كحّة وثلاث بنات، فقام ابنا عمّه سويد وعرفجة، وهما وصيّاه وأخذا ماله ولم يعطيا زوجته وبناته شيئا وكانوا كما قلنا عنهم لا يورّثون النساء، ولا الصغار.
فجاءت أمّ كحّة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله في مسجد الفضيخ وحكت القصّة، واشتكت من حاجتهنّ إلى النفقة، فدعاهما رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالا يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا ينكأ عدوّا فنزلت، وأثبت لهنّ الميراث في الجملة، ولم يتبيّن كيفيّة التوارث، فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وآله لا تحدثا في مال أوس شيئا حتّى انظر ما ينزّل الله فانّ الله جعل لهنّ ميراثا ولم يبين كم هو؟ فنزل {«يُوصِيكُمُ اللََّهُ فِي أَوْلََادِكُمْ»} الآية.
وفي الآية دلالة على بطلان التعصيب لأنّه فرض الإرث لصنفي الرجال والنساء فلو جاز أن يقال للنساء لا يرثن في موضع لجاز أن يقال للرجال لا يرثون واللّازم باطل وكذا الملزوم، وبيان الملازمة بنصّ الآية، وقوله {«مِمََّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً»} يؤكّد ذلك، أي النصيب ثابت في كلّ جزء ممّا ترك.
إن قلت: هذا وارد عليكم لأنكم تقولون إنّ الأخ لا يرث مع البنت، قلنا إنّما قلنا ذلك لبعد الدرجة والآية يراد بها توارثهما مع التساوي في الدرجة لا مطلقا.
الرابعة
يُوصيكُمُ اللََّهُ في اوْلََادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانْثَيَيْنِ
{يُوصِيكُمُ اللََّهُ فِي أَوْلََادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسََاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثََا مََا تَرَكَ وَإِنْ كََانَتْ وََاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وََاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمََّا تَرَكَ إِنْ كََانَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوََاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كََانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهََا أَوْ دَيْنٍ
آبََاؤُكُمْ وَأَبْنََاؤُكُمْ لََا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلِيماً حَكِيماً} (1).(2/326)
{يُوصِيكُمُ اللََّهُ فِي أَوْلََادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسََاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثََا مََا تَرَكَ وَإِنْ كََانَتْ وََاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وََاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمََّا تَرَكَ إِنْ كََانَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوََاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كََانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهََا أَوْ دَيْنٍ
آبََاؤُكُمْ وَأَبْنََاؤُكُمْ لََا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلِيماً حَكِيماً} (1).
هنا أبحاث:
1 - في تفسير الآية وكلماتها:
{«يُوصِيكُمُ»} أي يأمركم ويعهد إليكم في ميراث أولادكم وإنّما لم يقل للذكر من أولادكم لأنّ الحكم المبهم إذا أبهم ثمّ فسير كان أوقع في النفس وأحفظ لجواز فوات المقصود لو وقع مفسّرا ابتداء وتقديره للذكر منهم، فحذفت لدلالة الكلام عليه كما حذف في قولهم «البرّ الكرّ بستّين» وقدّم الذّكر لشرفه ولذلك ضوعف حظّه كما ضوعف عقله ودينه والضمير في {«كُنَّ نِسََاءً»} للورثة وتأنيثه بتأنيث الخبر كما في قولهم من كانت أمّك وإنما قال {«كََانَتْ وََاحِدَةً»} ولم يقل بنتاكما قال «نساء» لأن الغرض هنا الامتياز في العدد، وهناك الامتياز في الصنف، والضمير في «أبويه» للميّت يفسّره سياق الكلام. و {«لِكُلِّ وََاحِدٍ مِنْهُمَا»} بدل منه بدل البعض عن الكلّ وباقي الفوائد تأتي في محلّها.
2 - دلّت الآية الكريمة على اجتماع الأولاد والأبوين في الميراث فيكون النوعان في مرتبة واحدة، يرث كل واحد من النوعين مع صاحبه، ولو انفرد أحد النوعين عن الآخر حاز الإرث، ثمّ إنّه تعالى ذكر أحوال الذكور مع الإناث وأحوال الإناث منفردات وحال الأبوين منفردين وحال الأبوين مع الأولاد، ولم يذكر حال الذكور منفردين، فيرد سؤال عن علّته والجواب أنه لمّا ذكر الإناث منفردات، وفصل بين الواحدة والأكثر، علم أنّ الذكور يتساوون وإلّا لفصّلهم كما فصّل الإناث وحينئذ لم يحتج إلى ذكرهم.
3 - أنّه ذكر أنّ الواحدة من الإناث لها النصف، وأنّ النساء فوق اثنتين
__________
(1) النساء: 2.(2/327)
لهنّ الثلثان، ولم يذكر الاثنين فما وجهه، والجواب أنّهم اختلفوا فيهما فقال ابن عبّاس لهما النصف لظاهر الآية وهو قوله {«فَإِنْ كُنَّ نِسََاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ»} وقال الباقون وهو الحق أنّ حكمهما حكم ما زاد وهو أنّه لهما الثلثان لوجوه الأوّل النص عن أهل البيت عليهم السّلام وإجماع الطائفة بل إجماع الأمّة الثاني: أنّه لو كان لهما النصف لكان التقييد بالواحدة ضائعا الثالث أنّ البنت الواحدة لهما مع أخيها الثلث إذا انفردت فبالأولى أن يكون لها مع أختها الثلث فيكمل لهما الثلثان الرّابع أنّه أوجب للأختين الثلثين، والبنات أقرب وأمسّ رحما من الأختين فيكون لهما أيضا الثلثان على وجه الأولى.
4 - ولد الولد يقوم مقام أبيه، ويرث ميراثه، قيل لأنّه ولد، ولهذا حرمت بنت البنت وبنت الابن لدخولهما في حكم {«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهََاتُكُمْ وَبَنََاتُكُمْ} (1)» ولأنّه تحرم زوجته على جدّه وكذا تحرم عليه منكوحة الجدّ، ولدخوله في في الوقف الآن لو وقف على بني هاشم وبني عليّ وإلّا لبطل الوقف ولا قائل به، وكذا نقول في الوصيّة.
كذا قال الراونديّ والمعاصر وليس بشيء أمّا أوّلا فلأنّه لو كان ولدا حقيقة لشارك الولد في الميراث، واللّازم باطل إجماعا فكذا الملزوم وأمّا ثانيا فلصدق النّفي عليه وهو ينافي الحقيقة، وأمّا ثالثا فلضعف متمسّكهم فانّ التحريم فيما ذكروه مستفاد من خارج وكذا الدخول في الوقف مستفاد من القرينة.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يرث كلّ منهم نصيب من يتقرّب به، فلبنت الابن الثلثان، ولابن البنت الثلث لو اجتمعا، وقال المرتضى بالعكس والأكثر على ما قلناه لتضافر الروايات بذلك، وانعقاد الإجماع بعده على ما قلناه.
5 - أنّه جعل للأبوين لكلّ واحد منهما مجتمعا أو منفردا السدس مع وجود الولد، سواء كان ذكرا أو أنثى. لإطلاق لفظه، ثمّ الولد إن كان ذكرا حاز الباقي إجماعا وإن كان أنثى واحدة، فلها نصف الأصل، يبقى السدس يردّ عندنا
__________
(1) النساء: 12.(2/328)
على الأبوين والبنت، أخماسا إلّا مع الاخوة، فيرد أرباعا على البنت والأب، وقال الفقهاء إن كان الأب موجودا كان الباقي له، لأنّه عصبة، وإلّا فإنّه يكون للعصبة من الاخوة والأخوات والأعمام وأولادهم الذكور إلّا أولاد الأخت فإنّهم ليسوا عصبة وسيأتي دليلهم على التعصيب، وأمّا مع الاثنتين فصاعدا فلا فاضل في التركة إلا مع فقد أحدهما فيكون الزائد عندهم للعصبة.
واعلم أنّ ولد الولد يقوم أيضا مقام أبيه في مقاسمة الأبوين خلافا لبعض أصحابنا فإنّهم خصّوا الإرث بالأبوين والإجماع على خلافه.
6 - مع عدم الولد وإن نزل الأمّ الثلث كما نصّت الآية الكريمة عليه إلا أن يكون هناك إخوة أقلّهم ذكران أو أربع إناث، أو أربع خناثى، أو ذكر وأنثيان فيكون لها السدس من الأصل فيهما والباقي بعد السدس والثلث في الصورتين يكون للأب لإجماع أصحابنا، ولما يأتي من بطلان التعصيب.
هذا لو وجد الأبوان أمّا مع فقد أحدهما فإن كان الموجود الأب فالمال له إجماعا وإن كان الام فلها الثلث والباقي يردّ عليها عندنا، وقال الفقهاء إنّ الزائد على الثلث يكون للاخوة بناء على قولهم بالتعصيب، فعندهم أنّ الاخوة يحجبون الأمّ لأنفسهم إذا عرفت هذا فهنا فوائد:
1 - يشترط عندنا لحجب الاخوة شروط: الأوّل: وجود الأب، الثاني:
العدد المذكور، الثالث أن لا يكونوا كفرة ولا قتلة ولا رقّا الرابع: إن يكونوا كلّهم منفصلين لا حملا، الخامس: كونهم للأبوين أو للأب.
2 - إنّما حجبوا الامّ توفيرا لنصيب الأب لكونه ذا عيلة بوجودهم، فاقتضت الحكمة التوفير عليه لمكان نفقتهم.
3 - يرد هنا سؤال، وهو أنّكم قلتم إنّ الأخوين يحجبان، وهو مناف اللفظ الجمع الّذي هو منطوق الآية وأجيب بأنّه لمّا حصل الإجماع على ذلك وجب التأويل بأنّه لو أتى بلفظ التثنية لم يتناول الجمع لا حقيقة ولا مجازا بخلاف لفظ الجمع فإنّه يغلب على المثنّى كما يغلب المذكّر على المؤنّث، والمخاطب على الغائب،
وفي الجملة الأشرف على الأخسّ والجمع أشرف لأنّ فيه معنى الزيادة، ولذلك شرط في جمع السلامة ما لا يشترط في المثنّى من العقل وغيره، لا أنّ المثنى جمع لغة كما قال الزمخشري لأنّ العرف طار على اللّغة، وقد ثبت في الأصول تقدم الحقيقة العرفيّة، ولذلك إذا قال زيد: «فلانة طالق» حمل على إزالة قيد النكاح لا غير، من إزالة الرقّ والحبس وغير ذلك، هذا ونقل عن ابن عبّاس أنّه لم يحجب إلّا بثلاثة فما زاد، والإجماع على خلافة.(2/329)
3 - يرد هنا سؤال، وهو أنّكم قلتم إنّ الأخوين يحجبان، وهو مناف اللفظ الجمع الّذي هو منطوق الآية وأجيب بأنّه لمّا حصل الإجماع على ذلك وجب التأويل بأنّه لو أتى بلفظ التثنية لم يتناول الجمع لا حقيقة ولا مجازا بخلاف لفظ الجمع فإنّه يغلب على المثنّى كما يغلب المذكّر على المؤنّث، والمخاطب على الغائب،
وفي الجملة الأشرف على الأخسّ والجمع أشرف لأنّ فيه معنى الزيادة، ولذلك شرط في جمع السلامة ما لا يشترط في المثنّى من العقل وغيره، لا أنّ المثنى جمع لغة كما قال الزمخشري لأنّ العرف طار على اللّغة، وقد ثبت في الأصول تقدم الحقيقة العرفيّة، ولذلك إذا قال زيد: «فلانة طالق» حمل على إزالة قيد النكاح لا غير، من إزالة الرقّ والحبس وغير ذلك، هذا ونقل عن ابن عبّاس أنّه لم يحجب إلّا بثلاثة فما زاد، والإجماع على خلافة.
4 - قوله {«لََا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً»} الحق أنّه أراد النفع الأخرويّ بأن يشفع بعضهم في بعض، فان كان الوالد أرفع درجة شفع أن يرفع ولده إليه، وإن كان الولد أرفع سأل الله بأن يرفع أباه إليه، وقيل النفع الدنيوي وقيل المراد وجوب النفقة من الطرفين إذا كان أحدهما محتاجا دون الآخر أعني الأب والابن وقيل لا تدرون أيّكم يموت قبل صاحبه فينتفع الآخر بما له.
الخامسة
وَلَكُمْ نِصْفُ مََا تَرَكَ ازْوََاجُكُمْ
{وَلَكُمْ نِصْفُ مََا تَرَكَ أَزْوََاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ، فَإِنْ كََانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمََّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهََا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمََّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كََانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمََّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهََا أَوْ دَيْنٍ} (1).
لمّا فرغ من ميراث الوالدين والأولاد، شرع في بيان إرث الأزواج والكلالات، وقدّم الأزواج لأنّهم ورّاث مع جميع الطبقات، والزوج يطلق لغة على الرّجل والمرأة بالإضافة إلى الآخر، وفي العرف يخصّ بالرّجل وتتميّز الأنثى بالتاء، فيقال زوج وزوجة، وإنما جعل للزوج النصف وللمرأة الربع للعلّة المتقدّمة، وأجاب الأئمّة عليهم السّلام بوجوه:
__________
(1) النساء: 12.(2/330)
الأوّل جواب الصادق عليه السّلام لمّا سأله ابن أبي العوجاء: أنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا عقل إنما ذلك على الرّجال.
الثّاني جواب الرّضا عليه السّلام أنّ المرأة إذا تزوّجت أخذت يعني المهر والرجل يعطي فلذلك وفّر على الرّجل ولأنّ الأنثى في عيال الذكر إن احتاجت وعليه أن يعولها وعليه نفقتها وليس على المرأة أن تعول الرجل ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفّر على الرّجال لذلك وذلك قوله تعالى {«الرِّجََالُ قَوََّامُونَ عَلَى النِّسََاءِ»} الآية (1).
الثالث جواب الصادق عليه السّلام لمّا سأله عبد الله بن سنان عن ذلك فقال عليه السّلام لما جعل لها من الصّداق (2).
الرابع جواب العسكريّ عليه السّلام لمّا سأله الفهفكيّ على ما رواه أبو هاشم الجعفري ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهما ويأخذ الرّجل القوي سهمين؟
فأجاب عليه السّلام لأنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة وإنما ذلك على الرّجال قال السائل فقلت في نفسي قد كان قيل لي أنّ ابن أبي العوجاء سأل الصادق عليه السّلام فأجابه بمثل هذا الجواب، فأقبل عليه السّلام عليّ فقال: نعم هذه مسئلة ابن أبي العوجاء والجواب منّا واحد إذا كان معنى المسئلة واحدا (3) إذا عرفت هذا فهنا فوائد:
1 - المراد بالولد في قوله {«إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ»} أعم من أن يكون الولد من الزّوج الوارث أو من غيره من الأزواج وكذلك الولد من الزّوج أعم من أن يكون من المرأة الوارثة أو من غيرها من الزوجات أو الإماء، وكذلك أعمّ من كونه ذكرا أو أنثى وكذا ولد الولد يقوم مقام أبيه.
2 - يشترط في الولد هنا أن يكون وارثا فلو كان كافرا أو قاتلا أو رقّا لم يكن لوجوده تأثير.
3 - نصيب الزوجة إن كانت واحدة فهو لها، وإن كنّ أزيد اشتركن فيه ربعا كان أو ثمنا، لظاهر الآية والإجماع.
__________
(1) علل الشرائع ج 2ص 257الطبعة الحروفية بقم.
(2) علل الشرائع ج 2ص 257الطبعة الحروفية بقم.
(3) الكافي ج 7ص 85.(2/331)
4 - استحقاق الزّوجة عندنا مخصوص بالزّوجية الدائمة فلا ترث بالمنقطع على الأصح.
5 - إن كانت الزوجة ذات ولد من الميّت ورثت من جميع تركته وإن لم يكن لها ولد منه ورثت ممّا عدا العقار عينا وأمّا العقار فلا ترث من رقبة الأرض شيئا لا عينا ولا قيمة، وأمّا الأبنية والأخشاب والأشجار فيعطى منها القيمة ربعا أو ثمنا على القول الأصحّ لأصحابنا، وهذا تخصيص انفردت به الإماميّة لما دلت عليه رواياتهم عن أئمتهم عليهم السّلام.
6 - إرث الزوجة عندنا غير مشروط ببقاء الزوجيّة إلى الموت فإنّها قد ترث وإن ارتفعت الزوجيّة كما في المريض يطلّق في مرضه فانّ زوجته المطلقة ترث ما لم تخرج السنة أو يبرء من مرضه أو تتزوج، على ذلك إجماع الإمامية.
السادسة
وَانْ كََانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلََالَة أَوِ امْرَاةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ اخْتٌ
{وَإِنْ كََانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلََالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وََاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كََانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذََلِكَ فَهُمْ شُرَكََاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى ََ بِهََا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللََّهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} (1).
الكلالة القرابة، واشتقاقها إمّا من الكلال وهو نقصان القوّة الجسمانيّة أو من الاكليل الّذي يحيط بالرأس والوسط خال، ويطلق على الوارث والموروث من جهة أنّ كلّا منهما منتسب إلى الآخر، وانتصابها هنا قيل خبرا لكان و «رجل» اسمها و «يورث» صفة الرّجل، وقيل على أنّه مفعول له، مثل قعدت عن الحرب جنبا، والأجود أنّه على التميز لأنّ «يورث» يحتمل وجوها رفع إبهامه بقوله «كلالة».
ثمّ إطلاقها على الموروث بمعنى أنّه لم يخلّف والدا ولا ولدا، وعلى الوارث فقيل من ليس بوالد ولا ولد، والأصح أنّه القرابة من جهة العرض لا لطول كالاخوة
__________
(1) النساء: 12.(2/332)
والأخوات والأعمام والعمّات والأخوال والخالات وأولاد الجميع، والمراد هنا هم الاخوة ممّن يتقرّب بالأمّ خاصّة أمّا أولا فلقراءة أبيّ وسعيد بن مالك «وله أخ أو أخت من الامّ» وأمّا ثانيا فلأنّه تعالى جعل للكلالة في آخر السّورة كما يجيء للأختين الثلثين، وللإخوة الكلّ، وهنا جعل للواحد السدس وللأكثر الثلث فعلم أنّ الاخوة هنا غير الاخوة هناك، وحيث إنّ المقدّر هنا نصيب الامّ كما تقدّم ناسب أن يكون المراد هنا الإخوة من قبلها، وأمّا ثالثا فلروايات أصحابنا المتضافرة وأمّا رابعا فلأنّه إجماعيّ وهنا فوائد:
1 - أنّ الزائد عن المذكور من السدس والثلث يرد على الوارث منهم إذا لم يكن سواه عندنا وعند الفقهاء لأقرب عصبته كما يجيء.
2 - هذه المرتبة أعني مرتبة الاخوة هي المرتبة الثانية، بعد مرتبة الأبوين والأولاد، لا ينتقل الإرث إليها إلّا بعد عدم المرتبة الأولى بكلّيّتهم، وكذا لا ينتقل عن هذه إلى الثالثة إلّا بعد عدمها بكلّيّتها.
3 - قد تكرّر ذكر الوصيّة وأنّها مقدّمة على الميراث تأكيدا لحالها وقوله {«غَيْرَ مُضَارٍّ»} حال من يوصي بها و «المضارّة في الوصيّة» هو أن يوصي بأكثر من ثلث ماله أو يقرّ بدين ليس بحقّ عليه، قصدا لمضارّة الوارث ودفعه عن الإرث.
4 - قوله {«وَصِيَّةً مِنَ اللََّهِ»} نصب على المصدريّة» أي يوصيكم الله وصيّة كقوله فيما تقدّم {«فَرِيضَةً مِنَ اللََّهِ»}. {«وَاللََّهُ عَلِيمٌ»} بنيّاتكم أي يعلم قصدكم في الوصيّة أنّها لوجه الله أو لأجل المضارّة {«حَلِيمٌ»} أي يتجاوز عن قصدكم المضارّة ولا يستعجل بعقوبتكم.
السابعة
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللََّهُ يُفْتيكُمْ فِي الْكَلالَة
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللََّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلََالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهََا نِصْفُ مََا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهََا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهََا وَلَدٌ، فَإِنْ كََانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثََانِ مِمََّا تَرَكَ وَإِنْ كََانُوا إِخْوَةً رِجََالًا وَنِسََاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1).(2/333)
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللََّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلََالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهََا نِصْفُ مََا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهََا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهََا وَلَدٌ، فَإِنْ كََانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثََانِ مِمََّا تَرَكَ وَإِنْ كََانُوا إِخْوَةً رِجََالًا وَنِسََاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1).
الكلالة قد عرفت أنّها قد تصدق على الإخوة من الأبوين وعلى الاخوة من أحدهما، وقد تقدّم ذكر كلالة الأم، والمراد هنا على الاخوة من الأبوين أو من الأب فنقول إذا اجتمع الكلالات كلّهم كان لمن تقرّب بالأمّ السدس إن كان واحدا والثلث إن كانوا أكثر، والباقي للمتقرّب بالأبوين ويسقط المتقرّب بالأب، لكنّه يقوم مقام المتقرّب بالأبوين عند عدمهم، ويرث نصيبهم وإن عدم المتقرّب بالأمّ كان المال للمتقرّب بالأبوين، ومع عدمهم للمتقرّب بالأب كما قلناه.
وقد قلنا فيما مضى أنّه إذا لم يكن سوى المتقرّب بالأمّ أخذ ما سمّي له من الثلث أو السدس فرضا والباقي بالردّ عليه عند أصحابنا، وعند الفقهاء للعصبة، وكذا نحن نقول أيضا في الأخت الواحدة من الأبوين، أو الأختين فصاعدا لها أو لهنّ النصف أو الثلثان والباقي يرد عليها أو عليهنّ، وعندهم للعصبة.
وهنا فوائد:
1 - في قوله {«وَهُوَ يَرِثُهََا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهََا وَلَدٌ»} دلالة على بطلان قول العامّة بارث الأخ النصف مع البنت لأنّه شرط في إرثه انتفاء الولد، والبنت ولد بدليل قوله {«يُوصِيكُمُ اللََّهُ فِي أَوْلََادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ»} فلا يكون الأخ وارثا مطلقا حينئذ لأنّ المشروط عدم عند عدم شرطه، فلو ورث النصف لزم مخالفة الكتاب.
2 - في قوله {«وَهُوَ يَرِثُهََا»} دلالة على أنّ الأخ يرث بالفرض للنصّ على أنّه مع عدم الولد يكون إرثها كلّه له، فيكون من أصحاب الفروض.
3 - أولاد الاخوة والأخوات عندنا يقومون مقام آبائهم، ويرث كلّ نصيب من يتقرّب به.
4 - الأجداد عندنا في مرتبة الاخوة، فإذا اجتمعوا معهم كان الجدّ للأب
__________
(1) النساء: 176.(2/334)
كالأخ له، والجدّة له كالأخت له، والجد للأمّ كالأخ منها، وكذا الجدّة.
5 - المرتبة الثالثة من مراتب الإرث الإمام والأخوال عندنا وعند بعض فقهاء العامة، ليس في الكتاب دلالة صريحة على إرثهم، نعم يمكن الاستدلال على ذلك بآية اولي الأرحام فإنّها عامّة في كلّ ذي رحم، وهؤلاء ذوو أرحام، وكذا هذه الآية دليل على الردّ على أرباب الفروض، ولإجماع الكلّ على أنّها إذا دلّت على الإرث وجب مراعاة الأقرب فالأقرب، ولا أقرب من أرباب الفروض، وإلّا لقدّمه الله عليهم هذا خلف وأمّا دلالتها على الإرث فقد تقدّم، هذا مع إجماع الطائفة المحقّة الّذين دخل فيهم المعصوم على ذلك ودلالة المتواتر من الأحاديث عن الأئمّة عليهم السلام أيضا على ذلك، وأمّا تفاصيل إرثهم فعلم من السنّة الشريفة، ومن بيان الأئمة عليهم السلام.
الثامنة
وَانّى خِفْتُ الْمَوََالي منْ وَرََائي وَكََانَتِ امْرَاتى عََاقِراً
{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوََالِيَ مِنْ وَرََائِي وَكََانَتِ امْرَأَتِي عََاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (1).
مساواة التركة للسهام ممّا لا بحث فيه كأبوين وابنتين، وأمثالهما وإنّما البحث فيما إذا زادت التركة عن السهام أو نقصت.
والأول مسئلة التعصيب، وهو الرد على العصبة دون أرباب الفرض، كما قاله المخالفون، واستدلّوا عليه بهذه الآية، ووجه الدلالة أنّ زكريّا عليه السّلام سأل وليّا ولولا التعصيب لم يخصّ السؤال به، بل قال وليا أو وليّه فلمّا خصّصه به دلّ على أنّ بني عمّه يرثونه مع الوليّه، فلذلك لم يطلبها، واستدلّوا أيضا بما رووه عن طاوس عن ابن عبّاس عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال «ألحقوا بالأموال الفرائض فما أبقت الفريضة فلأولى عصبة ذكر (2)».
__________
(1) مريم: 5.
(2) راجع مشكاة المصابيح ص 263وقال: متفق عليه، ولفظه فلأولى رجل ذكر كما في سنن أبى داود ج 2ص 110، وبلفظه رواه الشيخ في الخلاف المسئلة 80من كتاب الفرائض.(2/335)
والجواب عن الآية أن تخصيص السؤال لفوائد الاولى أنّ الذّكر أحبّ إلى طباع البشر من الأنثى، الثانية أنّه طلبه للإرث، والقيام بأعباء النبوّة معا، ولا شك أنّ ذلك غير متصوّر في النساء لأنّهنّ ناقصات عقل وحظّ ودين، الثالثة: أنّه أراد الجنس الشامل للذّكر والأنثى، وعن الخبر بأنّه مطعون على سنده، وقد أنكره ابن عبّاس كما رواه قاربة بن مضرب، قال قلت لابن عباس روى أهل العراق عنك وعن طاوس أنّ ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر؟ قال من أهل العراق أنت؟ قلت: نعم؟ قال أبلغ أنّي أقول أنّ قول الله عزّ وجلّ {«آبََاؤُكُمْ وَأَبْنََاؤُكُمْ لََا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللََّهِ»} وقوله {«وَأُولُوا الْأَرْحََامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى ََ بِبَعْضٍ فِي كِتََابِ اللََّهِ»} وهل هما إلّا فريضتان وهل أبقتا شيئا؟ ما قلت بهذا ولا طاوس يرويه، قال قاربة: فلقيت طاووسا فقال: لا والله ما رويت هذا وإنّما الشيطان إلقاء على ألسنتهم (1) وهذه الرواية لم ترو إلّا عن طاوس.
والثاني مسئلة العول كأبوين وبنتين وزوج أو زوجة وأمثاله فإنّ أصل الفريضة من ستّة فأصحابنا يعطون الأبوين السدسين والزوج الرّبع، ولا ربع صحيح هنا فيصير من أربعة وعشرين للأبوين ثمانية، وللزّوج ستّة إن كان وللزوجة ثلاثة إن كانت والباقي وهو عشرة أو ثلاثة عشر للبنتين فيدخل النقص عليهما وأمّا المخالف فيعيل الفريضة على تقدير الزوج إلى ثلاثين فيعطي البنتين ستّة عشر والأبوين ثمانية، والزّوج ستّة، وعلى تقدير الزّوجة إلى سبعة وعشرين للأبوين ما تقدّم، وللزّوجة ثلاثة، فيصير ثمنها تسعا ويستدلّون على ذلك بالقياس على تركة لا تفي بالدّيون، فإنّه يدخل النقص على الجميع، وبما رواه سماك ابن حرب عن عبيدة السّلمانيّ قال كان عليّ عليه السّلام على المنبر فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين رجل مات عن ابنتيه وأبويه وزوجة فقال علىّ عليه السّلام «صار ثمن المرأة تسعا» وبأنّ عمر حكم بالعول ولم ينكر عليه أحد فصار إجماعا.
__________
(1) نقله الشيخ في الخلاف في المسألة 80من كتاب الفرائض عن أبى طالب الأنباري.(2/336)
واستدلّ أصحابنا بوجوه الأوّل أنّه لا بد من مخالفة ظاهر آيات الإرث وكلّما كانت المخالفة أقلّ كان أولى، وهو قولنا. الثاني: إجماع الطائفة المحقّة وهو حجة عندنا الثالث: تواتر الأحاديث عن الباقر والصّادق عليهما السلام وأنّ ذلك في كتاب الفرائض بإملاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وخطّ علي عليه السّلام وأنّ فيه أنّ السهام لا تعول. الرابع: أنّ كل واحد من الأبوين والزّوجين له سهمان أعلى وأدنى، وليس للبنت والبنتين والأختين كما قلنا إلّا سهم واحد، فإذا دخل النقص عليهما استوى ذوو السهام في ذلك.
وأجابوا عن حجّة الخصم أمّا عن القياس فببطلانه عندنا وعلى تقدير تسليمه نقول إنّما دخل النقص في الديون لأمر غير حاصل هنا وهو الترجيح من غير مرجّح وأمّا هنا فالمرجّح موجود، وهو ما ذكرناه من أنّ البنتين ليس لهما النصيب الأدنى بخلاف الزّوجين والأبوين، وأمّا عن الخبر فانّ عليا عليه السّلام أجاب على جهة الإنكار على القائلين بالعول، لإجماع أهل بيته عليهم السّلام على أنّه لم يكن قائلا بالعول بل منكرا له، وأمّا حكاية عمر فبمنع الإجماع، وبأنّ السكوت لا يدل على الموافقة ولا ظهار ابن عبّاس المخالفة بعد عمر، وقال هبته وكان رجلا مهيبا.
التاسعة {وَإِذََا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى ََ وَالْيَتََامى ََ وَالْمَسََاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً} (1).
قيل: هذه الآية منسوخة بآية الإرث بالنسب وقيل بل هي محكمة وإنّه يستحب للورثة حين اقتسامهم الرّضخ لمن لا سهم له من الأقارب والجيران والمساكين واليتامى وعن سعيد بن جبير أنّ أناسا يقولون نسخت، والله ما نسخت ولكنّه ممّا يتهاون به الناس، وقيل: إنّ ذلك مختصّ بالعين أمّا الأرضون والرقيق فلا، بل يقولون حينئذ القول المعروف هو الاعتذار، وقيل العذر عن مال الطفل لو كان فيهم صغير يعتذر وليه بأنّه لو كان لي لأعطيتكم، وقيل الخطاب للمريض إذا حضرته أمارات
__________
(1) النساء: 8.(2/337)
الموت وأراد قسمة أمواله والإيصاء بها أن يفعل ذلك، والأوّل أشهر وقرينة الخطاب تدلّ عليه.
واعلم أنه وقع الإجماع، ودلّت السنّة الشريفة، وبيان الأئمّة الصادقين على شرائط الإرث وعلى موانع له كالكفر والرقّ والقتل، فيكون فوات الشرط ووجود المانع كالمخصّص لعموم الآيات المذكورة، فتكون من العمومات المخصّصة وهو المطلوب.
كتاب الحدود
الحدّ يقال لغة الحاجز بين الشيئين، ويقال أيضا للمنع ومنه قيل للبوّاب حدّاد، ويقال لمنتهى الشيء، ومنه يقال حددت الدار أحدّها حدّا أي بيّنت منتهاها، وشرعا هو إيقاع عقوبة قدّرها الشارع للمكلّف على ارتكاب معصية، ويمكن أخذه من المعنى الأوّل لكونه حاجزا بين أكثر العقلاء وبين ارتكاب المعصية ومن الثاني لأنّ فيه معنى المنع، وعن الثالث لأنّه عقوبة لها قدر وغاية لا يجوز التجاوز عنه وهو أقسام:
القسم الأول حد الزناء
وفيه آيات:
الاولى
وَاللََّاتي يَأْتينَ الْفاحِشَةَ منْ نِسائِكُمْ
{وَاللََّاتِي يَأْتِينَ الْفََاحِشَةَ مِنْ نِسََائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتََّى يَتَوَفََّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللََّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (1).
__________
(1) النساء: 15.(2/338)
هنا فوائد تتبعها أحكام:
1 - قيل المراد بالفاحشة المساحقة، والأكثر أنّ المراد الزنا، فعلى هذا قيل المراد المحصنة وهي المراد بالثّيب (1) لأنّه أضافهنّ إضافة زوجيّة إذ لو أراد غير الزوجات لقال من النساء.
2 {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} فيه دلالة على نصاب الشهادة، واشتراط الإسلام والذكورة على تفصيل يأتي.
3 {«فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ»} قيل المراد صيانتهنّ عن مثل فعلهنّ والإمساك كناية عنه، والأكثر أنّه على وجه الحدّ على الزنا، وكان ذلك في أوّل الإسلام ثمّ نسخ بآية الجلد، وقوله {«حَتََّى يَتَوَفََّاهُنَّ الْمَوْتُ»} أي ملك الموت، حذف المضاف (2) للعلم به، بقرينة استحالة استناد التوفّي إلى الموت لكونهما بمعنى واحد.
4 {«أَوْ يَجْعَلَ اللََّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا»} قيل السبيل النكاح المغني من السّفاح، وهذا لا يتم على تقدير إرادة المحصنات وقيل السبيل الحكم الناسخ، ولهذا لما نزلت آية الجلد قال النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله «قد جعل اللََّه لهنَّ سبيلا» واحتمال كونه التوبة لا دليل عليه لكنّه محتمل والجعل حينئذ كناية عن التوفيق.
الثانية {وَالَّذََانِ يَأْتِيََانِهََا مِنْكُمْ فَآذُوهُمََا فَإِنْ تََابََا وَأَصْلَحََا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمََا إِنَّ اللََّهَ كََانَ تَوََّاباً رَحِيماً} (3).
هنا فوائد:
1 - قال أبو مسلم: المراد اللّواط، لإتيانه بلفظ التذكير، وأكثر المفسّرين على إرادة إتيان الزّنا والتثنية للفاعل والمرأة وغلب التذكير في العبارة.
__________
(1) كذا في جميع النسخ المخطوطة، وفي المطبوعة «وهي المراد بالنساء».
(2) في المطبوعة «والمضاف محذوف».
(3) النساء: 16.(2/339)
2 - قيل المراد بالأذى التوبيخ والاستخفاف فعلى هذا لا يكون منسوخا لأنّه حكم ثابت مطلقا بل المنسوخ الاقتصار عليه، وعلى قول أبي مسلم يمكن حمله على القتل لأنّه حدّ اللواط، وإطلاق الأذى ينصرف إلى أبلغ مراتبه، وهو القتل وقال الفرّاء إن هذه ناسخة للآية السّابقة، وقيل بل بالعكس، وأمر بوضعها في التلاوة بعدها وإن كانت قبلها نزولا، وقيل: المراد به حد البكر، وهو الجلد والتغريب، كما أنّ حدّ الثيّب الجلد والرّجم.
3 {«فَإِنْ تََابََا وَأَصْلَحََا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمََا»} فيه دلالة على أنّ الزاني إذا تاب قبل الرّفع إلى الحاكم لا يحدّ وأمّا بعد الرفع والحضور، فان ثبت بالإقرار تخيّر الامام، وإن ثبت بالبينة تحتّم الحد، والمراد بالإصلاح الاستمرار على التوبة قوله {«إِنَّ اللََّهَ كََانَ تَوََّاباً»} أي كثير القبول للتوبة وهو تعليل للإعراض، وإردافه بالرّحمة، فيه إشارة إلى أنّ قبول التوبة تفضّل، وقيل المراد باللّذان الشاهدان بالزنا قبل كمال نصاب الشهادة، والمراد بالأذى حدهما حدّ الفرية وهو ضعيف.
الثالثة
الزََّانِيَةُ وَالزََّاني فَاجْلِدُوا كُلَّ وََاحِدٍ مِنْهُمََا مِأَةَ جَلْدَة
{الزََّانِيَةُ وَالزََّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وََاحِدٍ مِنْهُمََا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلََا تَأْخُذْكُمْ بِهِمََا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذََابَهُمََا طََائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1).
الاسمان مرفوعان بالابتداء، وخبرهما محذوف عند الخليل وسيبويه، أي مما فرض اللََّه حكم الزانية والزاني، وقوله {«فَاجْلِدُوا»} جملة أخرى معطوفة على الاولى وعند المبرّد أنّهما جملة واحدة، إلّا أنّ المبتدأ لمّا تضمّن معنى الشرط والمبتدأ موصول بفعل أتى بالفاء أي الّتي زنت والّذي زنى فاجلدوا.
وإذا تقرّر هذا فقد اشتملت على أحكام ثلاثة:
1 - الأمر بالجلد مائة، والجلد ضرب الجلد بحيث لا يتجاوز ألمه إلى اللّحم
__________
(1) النور: 2.(2/340)
وهذا الحكم مخصوص بالسنّة والكتاب أمّا السنّة فبالزيادة تارة كما في حقّ البكر الذكر، فإنّه يزداد التغريب سنة لقوله عليه السّلام «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام (1)» ومنعه أبو حنيفة والخبر يبطل قوله، وكذا عمل الصّحابة، وقوله إنّ الآية ناسخة للخبر ضعيف لأنّ عدم ذكر التغريب ليس ذكرا لعدمه، لتكون ناسخة له وفعل الصحابة متأخّر عن الآية فكيف يكون التغريب منسوخا بها، وبالإبدال تارة كما في حقّ المحصن والمحصنة، فانّ حدّهما الرّجم هذا إن قلنا بعدم ضمّ الجلد إلى الرّجم، وإلّا فهو أيضا زيادة، نعم قيل الضمّ في حقّ الشيخين خاصّة وقيل عامّ وهو الحق لأنّ عليا عليه السّلام جلد سراجة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال جلدتها بكتاب اللََّه ورجمتها بسنّة رسول اللََّه (2) وكانت سراجة شابّة وفعله عليه السّلام حجّة.
والمراد بالمحصن من له فرج مملوك بالعقد الدائم أو ملك اليمين تغدو عليه وتروح، وبالمحصنة من لها زوج بالعقد الدائم يغدو عليها ويروح والبكر قيل هو ما عدا المحصن، وقيل من أملك ولم يدخل، والطلاق رجعيّا لا ينافي الإحصان مع بقاء العدّة بخلاف البائن، وإن بقيت، وعندنا لا جزّ على المرأة ولا تغريب وأمّا الكتاب فينصّف الجلد في حقّ الأمة لقوله {«فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مََا عَلَى الْمُحْصَنََاتِ مِنَ الْعَذََابِ} (3) واختلف في العبد فقيل كالحرّ وقيل كالأمة، وهو الأقوى.
2 - قوله {«وَلََا تَأْخُذْكُمْ بِهِمََا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللََّهِ»} والرأفة الرحمة وفيها لغتان فعالة وفعلة نحو كأبة وكآبة وشأمة وشآمة والخطاب هنا وفي قوله {«فَاجْلِدُوا»} للأئمّة والحكّام، قوله {«فِي دِينِ اللََّهِ»} أي في حفظه، وقوله {«إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ»} معناه أنّ حفظ دين اللََّه من لوازم الإيمان، فمن أتى بالملزوم يلزمه الإتيان بلازمه، وإلّا لم يكن مؤمنا فإنّ عدم اللّازم ملزوم لعدم ملزومه، وهذا على سبيل المبالغة في الحكم
__________
(1) سنن ابى داود ج 2ص 455من حديث عبادة بن الصامت.
(2) المستدرك ج 3ص 222.
(3) النساء: 25.(2/341)
وتشديدا لأمر الزنا، وحسما لمادته ليتحفّظ النسب، ويجري الأحكام الشرعيّة المترتبة عليه على أصولها، ولذلك «قال صلّى اللََّه عليه وآله يا معشر الناس اتّقوا الزنا فإنّ فيه ستّ خصال ثلاث في الدّنيا وثلاث في الآخرة أمّا اللاتي في الدنيا فإنّه يذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأمّا اللاتي في الآخرة فإنّه يوجب السخط، وسوء الحساب، والخلود في النار (1) وفي الآية دلالة على أنّه يضرب أشدّ الضرب وأنّه لا ينقص من الحدّ شيء، وأنّه لا يجوز الشفاعة في إسقاطه، وفي الحديث عن النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله أنّه قال: «يؤتى بوال نقص من الحدّ سوطا فيقول رحمة لعبادك فيقول له: أنت أرحم بهم منّي؟ فيؤمر به إلى النار ويؤتى بمن زاد سوطا فيقول:
لينتهوا عن معاصيك فيؤمر به إلى النار (2).
3 {«وَلْيَشْهَدْ عَذََابَهُمََا طََائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»} أي ليحضر لأجل التشهير ليرتدع الناس عن مثل فعلهما، وقيّد الطائفة بالمؤمنين لئلّا يكون إقامة الحدّ مانعة للكفّار عن الإسلام، ولذلك كره إقامته في أرض العدوّ واختلف في الطائفة فعن الباقر عليه السّلام أقلّها واحد، وبه قال مجاهد وإبراهيم، وقال عكرمة اثنان وقتادة والزهريّ ثلاثة وابن عباس أربعة لأنّ بهذا العدد يثبت هذا الحد وهو قريب لكن قول الباقر عليه السّلام أقوى ويؤيّده أنّ الفرقة جمع وأقلّه ثلاثة، والطائفة بعضها فيكون واحدا.
الرابعة
يََا ايُّهَا الرَّسُولُ لََا يَحزُنْكَ الَّذينَ يُسََارِعُونَ فِي الْكُفْرِ
{يََا أَيُّهَا الرَّسُولُ لََا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسََارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قََالُوا آمَنََّا بِأَفْوََاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هََادُوا سَمََّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمََّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوََاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هََذََا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} (3).
__________
(1) المستدرك ج 2ص 566، والكافي ج 5ص 541.
(2) المستدرك ج 3ص 221.
(3) المائدة: 41.(2/342)
أي لا يحزنك صنع الّذين يسارعون في الكفر أي يقعون فيه سريعا وقسمهم إلى المنافقين وهم الّذين قالوا آمنّا إلى آخره، وإلى اليهود المتّبعين للكذب، وهو ما حرّفوه من أحكام التوراة وهم أيضا مطيعون لقوم آخرين لم يحضروا مجلسك بغضا لك، وقوله {«يُحَرِّفُونَ»} صفة أخرى لهم، قيل نزلت هذه في يهود خيبر حيث أرسلوا إلى النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله يسألونه عن محصن زنى، وقالوا لرسلهم: إن أفتاكم محمّد بالجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوه، وذلك لأنّهم حرّفوا حكم التوراة برجم المحصن إلى أنّه يجلد أربعين سوطا ويسوّد وجهه ويشهر على حمار.
وعن الباقر عليه السّلام إنّ خيبريّة من أشرافهم زنت فكرهوا رجمها فأرسلوا إلى النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله يستفتونه طمعا في رخصة تكون في دينه، فقال صلّى اللََّه عليه وآله: أترضون بحكمي؟ فقالوا: نعم، فأفتاهم بالرّجم، فأبوا أن يقبلوا فقال جبرئيل عليه السّلام للنبيّ صلّى اللََّه عليه وآله: سلهم عن ابن صوريا واجعله بينك وبينهم حكما فقال لهم: أتعرفون ابن صوريا؟ قالوا نعم، وأثنوا عليه وعظّموه، فأرسل إليه فأتى فقال له النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله:
أنشدك اللََّه هل تجدون في كتابكم الّذي جاء به موسى عليه السّلام الرّجم على المحصن فقال نعم، ولولا مخافتي من ربّ التوراة إن كتمت لما اعترفت، فنزلت {«يََا أَهْلَ الْكِتََابِ قَدْ جََاءَكُمْ رَسُولُنََا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمََّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتََابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} (1)
فقام ابن صوريا وسأله أن يذكر الكثير الّذي أمر بالعفو عنه، فأعرض عن ذلك، واسم ابن صوريا عبد اللََّه وكان شابّا أمرد أعور، وكان أعلم يهوديّ في زمانه.
ونقل الزمخشري أنّهم أرسلوا الزانيين مع رهط منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول اللََّه عن أمرهم، وقالوا: إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا، فأمرهم بالرّجم فأبوا عنه، فجعل ابن صوريا حكما بينه وبينهم فقال له: أنشدك اللََّه الّذي لا إله إلّا هو الّذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والّذي أنزل عليكم كتابا وبيّن حلاله وحرامه
__________
(1) المائدة: 15، راجع مجمع البيان ج 3ص 193.(2/343)
هل تجد فيه الرّجم على من أحصن؟ فقال: نعم، فوثبوا عليه، فقال: خفت إن كذّبته أن ينزل علينا العذاب فأمر رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله بالزانيين فرجما عند باب المسجد ولنتبع هذا البحث بفوائد:
1 - قد نقلنا أنّ حدّ اللواط يدلّ عليه الآية الثانية على قول، وحد المساحقة يدل عليه الاولى، فيكونان أيضا ثابتين بالكتاب لكنّ المراد باللّواط الموجب للقتل هو الّذي فيه إيقاب لا غيره وفي المساحقة الجلد مائة (1) وروى محمّد بن حمزة عن الصادق عليه السلام أنه دخل عليه نسوة فسألته امرأة عنهنّ عن السّحق، فقال: حده حد الزنا فقالت المرأة ما ذكر اللََّه ذلك في كتابه؟ فقال: بلى، قالت: وأين؟ قال: هنّ أصحاب الرسّ (2).
2 - روي أنّ المتوكّل بعث إلى أبي الحسن عليّ بن محمّد العسكريّ عليهما السّلام من سأله عن نصراني فجر بامرءة مسلمة، فلمّا أخذ ليقام عليه الحدّ أسلم؟ فأجاب عليه السّلام إنّ الحكم فيه أن يضرب حتّى يموت لأنّ اللََّه تعالى يقول {«فَلَمََّا رَأَوْا بَأْسَنََا قََالُوا آمَنََّا بِاللََّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنََا بِمََا كُنََّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمََانُهُمْ لَمََّا رَأَوْا بَأْسَنََا سُنَّتَ اللََّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبََادِهِ وَخَسِرَ هُنََالِكَ الْكََافِرُونَ»} وفي هذه دلالة على أنّ الكافر إذا زنى بمسلمة فحده القتل (3).
3 - روي أنّ امرأة أتت عمر فقالت: إنّي فجرت فأقم عليّ حدّ اللََّه، فأمر برجمها وكان عليّ عليه السّلام حاضرا فقال له: سلها كيف فجرت؟ فقالت كنت في فلاة من الأرض أصابني عطش شديد فرفعت لي خيمة فأتيتها فأصبت فيها أعرابيا فسألته الماء فأبى عليّ أن يسقيني إلّا أن أمكّنه من نفسي، فوليت منها هاربة، فاشتدّ بي العطش
__________
(1) كذا في نص وهكذا المطبوعة، وفي بعض النسخ المخطوطة: «بل فيه الجلد مائة».
(2) الكافي ج 7ص 202.
(3) رواه ابن شهرآشوب في المناقب ج 4ص 405وأخرجه في المستدرك ج 3 ص 227، والآية في سورة المؤمن 84و 85.(2/344)
حتّى غارت عيناي فلمّا بلغ منّي أتيته فسقاني ووقع عليّ فقال عليّ عليه السّلام هذه الّتي قال اللََّه تعالى {«فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بََاغٍ وَلََا عََادٍ فَلََا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1)» غير باغية ولا عادية فخلّ سبيلها، وفيه دلالة على أنّ المكره لا حدّ عليه.
4 - لو كان من يجب عليه الحد مريضا يخشى تلفه تخير الحاكم بين الصبر حتى يبرأ وبين الضرب بالضغث المشتمل على العدد، لأنّه روي أنّ النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله اتي بمستسق قد زنا بامرأة فأمر صلّى اللََّه عليه وآله بعرجون فيه مائة شمراخ فضرب به ضربة واحدة ثمّ خلّى سبيله (2) وهذا يمكن أن يكون مأخوذا من قوله {«وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلََا تَحْنَثْ} (3)».
القسم الثاني حد القذف
وفيه آيتان:
الاولى
وَالَّذينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنََاتِ ثُمَّ لَمْ يَاْتُوا بِارْبَعَةِ شُهَدََاءَ
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنََاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدََاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمََانِينَ جَلْدَةً وَلََا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهََادَةً أَبَداً وَأُولََئِكَ هُمُ الْفََاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تََابُوا مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4).
قال سعيد بن جبير: إنّها نزلت في قصّة عائشة وقال الضحّاك بل في سائر نساء المؤمنين وهو أولى لأنّه أعمّ فائدة، ولو سلّمنا فهي أيضا عامّة لما عرفت أن خصوص السبب لا يخصّص وقد دلّت على أحكام:
1 - أنّ القذف هو الرمي بالزنا، لما تقدم أنّه يثبت بأربعة شهداء فقال
__________
(1) البقرة: 173، والحديث في تفسير العياشي ج 1ص 74.
(2) مجمع البيان ج 8ص 478عن العياشي.
(3) ص: 44.
(4) النور: 4.(2/345)
هنا {«ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدََاءَ»} فعلم أنّ المراد الرّمي بالزنا والإجماع على ذلك.
2 - يشترط في الحدّ عفّة المقذوفة وإليه أشار بقوله {«الْمُحْصَنََاتِ»} ولم يرده بالمعنى السابق في الزناء للإجماع على ثبوت الحدّ بالقذف لغير الزوجة، أمّا غير العفيفة فإنّه يجب التعزير إلّا أن يبلغ حالها إلى الاشتهار بالزّناء بحيث لا يستنكف من المخاطبة به فحينئذ لا حدّ ولا تعزير.
3 - أنّه إنّما يجب الحد إذا ثبت عند الحاكم وثبوته إمّا بالإقرار أربعا أو بأربعة شهود في مجلس واحد غير متفرّقين بل متّفقين على الفعل الواحد بالوصف الواحد مع اتّحاد الزّمان وإمكان، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي: لا يشترط اتّحاد مجلس الشهود وقال أصحابنا يثبت أيضا بثلاثة رجال وامرأتين أو رجلين وأربع نسوة على تفصيل يذكر في كتب الفقه.
4 - أنّ القاذف يجلد ثمانين جلدة، حرّا كان أو عبدا، رجلا كان أو امرأة لعموم اللّفظ والتصنيف في العبد إنّما جاء في الزنا.
5 - أنّه لا تقبل شهادته، والمراد به ما دام فاسقا.
6 - أنّه محكوم بفسقه وهو دليل على كونه كبيرة.
7 - أنّه إذا تاب قبلت شهادته عندنا وعند الشافعيّ بناء على أنّ الاستثناء من قوله {«وَلََا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهََادَةً أَبَداً»} والواو للعطف على جزاء الشرط، فيكون من جملة الجزاء، وهو قول أكثر التابعين وروي عن عمر أنّه قال لأبي بكرة في شهادته على المغيرة أن تبت قبلت شهادتك فأبى أن يكذّب نفسه وقال أبو حنيفة لا يقبل شهادته أبدا إلّا أن يشهد قبل إقامة الحدّ عليه أو قبل تمامه، بناء على أنّ الواو في قوله {«وَأُولََئِكَ هُمُ الْفََاسِقُونَ»} للاستيناف، والاستثناء عن «الفاسقين» وهو قول ابن جريج وابن المسيّب والحسن والمراد بالإصلاح المعطوف على التوبة هو الاستمرار عليها، وقيل لا بدّ من عمل وإن قلّ ثمّ هنا فوائد:
1 - لا فرق في كون المقذوف ذكرا أو أنثى، ولفظ التأنيث في الآية لخصوص الواقعة، وقد عرفت أنّه غير مخصّص.
2 - القذف باللّواط كالقذف بالزنا، من غير فرق، وكذا السحق أمّا القذف بالكفر أو الشرب وغير ذلك من المعاصي فيوجب تعزيرا.(2/346)
1 - لا فرق في كون المقذوف ذكرا أو أنثى، ولفظ التأنيث في الآية لخصوص الواقعة، وقد عرفت أنّه غير مخصّص.
2 - القذف باللّواط كالقذف بالزنا، من غير فرق، وكذا السحق أمّا القذف بالكفر أو الشرب وغير ذلك من المعاصي فيوجب تعزيرا.
3 - أنّه يجلد بثيابه بخلاف حدّ الزنا فإنّه يجلد عريانا وقيل في الزنا يجلد كما وجد، والضرب في القذف متوسّط، وقال الباقر عليه السّلام «يجلد الرّجل قائما والمرأة قاعدة (1)».
4 - يشترط في المقذوف الحرّيّة والبلوغ والإسلام، ولو كان بخلاف ذلك عزّر قاذفه.
5 - حد القذف حق الآدميّ يتوقف إقامته على المطالبة، ولا يسقطه التوبة مطلقا إلّا مع العفو من المقذوف قبل الثبوت لا بعده، ورضاه جزء من التوبة وحدّها إكذاب نفسه إن كان كاذبا والتخطئة إن كان صادقا فلا يقبل شهادته بدون ذلك.
6 - قال بعضهم أشدّ الضرب يكون في التعزير، ثمّ بعده في الزنا، ثمّ بعده في الشرب، ثمّ بعده في القذف، لأنّ القاذف قد يكون صادقا فيما قاله، وإنّما عوقب صيانة للأعراض، وقد حافظ الشارع على صيانتها بقوله {«وَلََا تَجَسَّسُوا»}
وبقوله {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفََاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ} (2).
الثانية {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنََاتِ الْغََافِلََاتِ الْمُؤْمِنََاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (3).
{«الْمُحْصَنََاتِ»} العفائف {«الْغََافِلََاتِ»} السّليمات القلوب من الخبائث النفسانيّة وإنّما جمع وإن كان السّبب واحدا وهي عائشة ليعلم عموم الحكم في كلّ محصنة قذفت بالزّنا وقد شدّد اللََّه أمر القذف ما لم يشدّد في غيره حيث جعل القاذفين ملعونين
__________
(1) الكافي ج 7ص 183.
(2) الحجرات 12، والنور: 19.
(3) النور: 23.(2/347)
في الدّنيا والآخرة، وتوعّدهم بالعذاب الأليم وأوجب عليهم الحدّ في الدّنيا.
فائدة قد تقدّم حديث قدامة لمّا شرب الخمر وقول عليّ عليه السّلام لعمر: إن تاب أقم عليه الحدّ فلمّا أظهر لتوبة لم يدر عمر كيف يحدّه، فقال لأمير المؤمنين عليه السّلام أشر عليّ في حدّه فقال: حدّه ثمانين لأنّ شارب الخمر إذا شربها سكر وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنََاتِ} إلى آخرها فدلّ ذلك على أنّ حدّ المسكر ثمانون، وهذا ليس قياسا منه عليه السّلام لأنّ مذهبه تحريم القياس، بل بيانا للعلّة كما سمعه عن النبي صلّى الله عليه وآله ولذلك لمّا سكر الوليد فأراد عثمان بن عفان حدّه وكان رأيه في الحدّ أربعين فأشار إلى علىّ عليه السّلام بضربه فضربه بدرّة لها رأسان أربعين جلدة فكانت ثمانين.
القسم الثالث (حد السرقة)
وفيه آيتان:
الاولى {وَالسََّارِقُ وَالسََّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمََا جَزََاءً بِمََا كَسَبََا نَكََالًا مِنَ اللََّهِ وَاللََّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1).
إعراب السارق والسارقة كما تقدّم في الزاني والزانية من المذهبين «وجزاء» و «نكالا» منصوبان على المفعول له والنكال العذاب ولا شكّ أن الآية مشتملة على أحكام كلّها مجملة تفتقر إلى بيان من النبيّ صلّى الله عليه وآله لقوله تعالى {لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) وعندنا أنّ الأئمّة عليهم السّلام كذلك لما ثبت من كونهم حفظة للشرع بعده صلّى الله عليه وآله.
1 {«السََّارِقُ وَالسََّارِقَةُ»} سواء قلنا إنّ اسم الجنس المعرّف باللّام للعموم
__________
(1) المائدة: 38.
(2) النحل: 44.(2/348)
أو لم نقل، فإنّه مجمل يحتمل عموم كلّ سارق وبعضه، لكنّ البيان النبويّ والإماميّ عليهم السّلام أخرج الأب إذا سرق مال ولده، والعبد [إذا سرق] مال سيّده والغانم من الغنيمة، والشريك من المشترك ما يظنّه حقّه، وكلّ ذي شبهة محتملة.
2 - قوله {«فَاقْطَعُوا»} القطع قد يراد به الشق من غير إبانة نحو برئت القلم فقطعت السكّين يدي، وقد يراد مع الإبانة فهو حينئذ محتمل للقسمين لكنّ البيان الشرعيّ حكم بإرادة الثاني.
3 - وقع الإجماع على أنّه لا يقطع إلّا يد واحدة، وهي محتملة لإرادة اليمين واليسار، لصدق اليد على كلّ واحد منهما، لكنّ البيان المذكور خصّ اليمين وإنّما قال {«أَيْدِيَهُمََا»} ولم يقل يديهما لعدم الاشتباه، نحو قوله تعالى {«فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمََا} (1)».
4 - اليد أطلقت لغة وعرفا على الجارحة المخصوصة من الكتف إلى رؤس الأصابع، وشرعا من المرفق إلى الرؤس كما في آية الوضوء، ومن الزّند إلى الرؤس كما في التيمّم عندنا وعلى الأصابع لا غير كما في قوله {«فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتََابَ بِأَيْدِيهِمْ} (2)» ولم يبيّن في الآية المراد وحينئذ ليس أحد الاحتمالات أولى من الآخر فيكون اللفظ مجملا وقيل إنّه غير مجمل لأنّ اليد حقيقة في الأوّل، مجاز في الباقي، ولذلك يصح أن يقال لما دون المنكب بعض اليد فيكون اللّفظ ظاهرا في جملة اليد، ولذلك قال به الخوارج فلا يكون مجملا.
والحق الأوّل لأنّ القطع من المنكب غير مراد إجماعا، لأنّ قول الخوارج باطل لكفرهم بانكارهم ما علم من الدين ضرورة فلا يكون الحقيقة حينئذ مرادة فيحمل على بعض اليد من الأقسام المذكورة، وليس بعضها أولى من بعض بالنسبة إلى اللّفظ فيثبت الاجمال وهو المطلوب.
إذا عرفت هذا فالمشهور عند الفقهاء القطع من مفصل الكفّ عن الساعد،
و__________
(1) التحريم: 4.
(2) البقرة: 79.(2/349)
عند أصحابنا هو قطع الأصابع الأربع من اليد اليمنى، ويترك له الراحة والإبهام فإن عاد ثانيا مع الشرائط والقطع أوّلا قطعت رجله اليسرى، ويترك له العقب فان عاد ثالثا بعد قطع الرّجل خلّد في السجن حتى يموت فان سرق في السجن قتل.
واعتمدوا في ذلك على نقلهم المتواتر عن أئمّتهم عليهم السّلام وعلى أنه يصدق على ذلك اسم اليد كما قلناه وعلى أصالة عدم التهجّم على أكثر من ذلك إلّا بدليل ولم يثبت.
إذا تقرّر هذا فهنا فوائد:
1 - النصاب الّذي يجب القطع بأخذه عندنا ربع دينار ذهبا خالصا مسكوكا أو ما قيمته ذلك وبه قال مالك والشافعيّ وبه حكم الخلفاء الأربعة، وقال أبو حنيفة عشرة دراهم وقال الحسن البصريّ درهم، وقال الطبري لا حدّ له بل أيّ شيء كان من قليل أو كثير.
2 - يشترط مع ما تقدّم الأخذ خفية لا مشاهدة، والإخراج بنفسه لا بغيره ولا مع غيره إلّا أن يبلغ حصّته نصابا.
3 - يشترط أيضا الإخراج من حرز، وحدّه أصحابنا بأنّه ما ليس لغير المالك الدخول إليه وقال الجبائي هو أن يكون في بيت أو دار يغلق عليه وله من يراعيه والأولى أن يرجع فيه إلى العرف فلكلّ شيء حرز يخصّه.
4 - يثبت هذا الحدّ بالإقرار مرّتين أو شهادة عدلين فلو أقرّ مرّة لا غير ثبت المال لا غير، وكذا لو شهد واحد وحلف المدّعي.
الثانية {فَمَنْ تََابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللََّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1).
المراد هنا بظلمه سرقته و «الإصلاح» الاستمرار على التوبة، ولا كلام في سقوط العقاب الأخرويّ بذلك وأمّا الحد فهل يسقط بها أو لا؟ قال أبو حنيفة لا يسقط وهو أحد قولي الشافعيّ، وقال أصحابنا بسقوطه بالتوبة قبل الثبوت عند الحاكم أمّا بعده فإن ثبت بالبيّنة فلا سقوط، وبالإقرار قيل يتحتّم الحد كما في البيّنة
__________
(1) المائدة: 39.(2/350)
وقيل يتخيّر الامام لفعل علىّ عليه السّلام لمّا وهب يد السارق المقرّ بسرقته ثمّ تاب فقال عليه السّلام له: هل تحفظ شيئا من القرآن فقال نعم سورة البقرة قال: وهبت يدك بسورة البقرة فقال له الأشعث أتعطّل حدّا من حدود اللََّه؟ فقال له وما يدريك إذا قامت البيّنة فليس للإمام أن يعفو، قال اللََّه تعالى {«الْحََافِظُونَ لِحُدُودِ اللََّهِ»} وإذا أقرّ الرجل على نفسه بسرقة فذاك إلى الامام، إن شاء عفى، وإن شاء عاقب (1)
هذا وأمّا حقّ المالك فلا يسقط بالتوبة مطلقا إلّا مع تصريحه بالإبراء، وكذا لا يسقط المال بالقطع بل يجب ردّه بعينه أو قيمته وقال أبو حنيفة لا يجب عليه القطع والغرامة معا بل إن قطعت سقطت عنه وإن غرم سقط القطع وهو فرق ضعيف ومع ثبوت التوبة الحقيقية تقبل شهادته لقوله تعالى {«إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»}.
القسم الرابع حد المحارب
وفيه آيتان:
الأولى
إِنَّمََا جَزََاءُ الَّذينَ يُحََارِبُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ
{إِنَّمََا جَزََاءُ الَّذِينَ يُحََارِبُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسََاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلََافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذََلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيََا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (2).
محاربة اللََّه ورسوله محاربة المسلمين، جعل محاربتهم محاربة اللََّه ورسوله تعظيما للفعل، وأصل الحرب السلب، ومنه حرب الرّجل ماله أي سلبه فهو محروب وحريب وعند الفقهاء كلّ من جرّد السلاح لإخافة الناس في برّ أو بحر، ليلا أو نهارا، ضعيفا كان أو قويّا، من أهل الريبة كان أو لم يكن، ذكرا كان أو أنثى فهو محارب، ويدخل
__________
(1) راجع تفسير العياشي ج 2ص 114، والآية في براءة 112.
(2) المائدة: 33.(2/351)
في ذلك قاطع الطريق والمكابر على المال أو البضع و «فسادا» منصوب صفة لمصدر محذوف أي سعيا فسادا أو على الحال أي مفسدين أو على أنّه مفعول له.
واختلف في حدّه فقيل على التخيير لظاهر الآية إذ المجاز والإضمار على خلاف الأصل فيتخيّر الامام بين الأقسام الأربعة على أيّ فعل صدر منه من قتل أو أخذ مال أو جرح أو إخافة فعلى هذا يصلب حيّا قطعا، وقيل بالترتيب والتفصيل وهو أقسام الأوّل: يقتل إن قتل خاصّة، فلو عفى الولي قتل حدّا ولا معه قصاصا الثاني إن أخذ المال وقتل، استرجع المال، وقطع مخالفا ثمّ قتل وصلب، الثالث إن أخذ المال خاصّة قطع مخالفا ونفي، الرابع: إن جرح ولم يأخذ شيئا اقتصّ منه ونفي، الخامس: إن أشهر السلاح وأخاف خاصّة نفي لا غير.
ومن العجيب قول الراوندي إنّ هذا التفصيل يدلّ عليه الآية وليت شعري من أيّ طريق ندل الآية و «أو» صريحة في التخيير بين الأقسام الأربعة اللهمّ إلا مع إضمار، وقد قلنا إنّ الأصل عدمه، فان دلّ دليل على تقديره فيكون الدّلالة مستفادة من ذلك الدليل، لا من الآية فإذا ألحق القول بالتخيير وهنا فوائد:
1 - الصّلب على القول الأوّل يكون وهو حيّ قطعا وعلى الثاني قيل يقتل ثمّ يصلب، وقيل بل يصلب حيّا ويترك حتّى يموت، وقيل يصلب وينجع حتى يموت.
2 - القطع مخالفا وهو أن يقطع يمناه أوّلا حيّا ثمّ يقطع رجله اليسرى وقد تقدّم كيفيّة القطع.
3 - فسّر أبو حنيفة النفي بالحبس وقال الشافعيّ وأصحابنا هو النفي من بلده وأيّ بلد يستقر فيه أو يقصده يكتب إليهم أنّه محارب فلا يبايع ولا يعامل ولا يعاشر، وقيل بل يقتصر على نفيه من بلده لا غير.
الثانية {إِلَّا الَّذِينَ تََابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1)
__________
(1) المائدة: 34.(2/352)
عندنا وعند الشافعيّ أنّ هذا الاستثناء من حقوقه تعالى، أمّا حق الآدميّ من القتل والجرح والمال، فلا يسقطه إلّا القصاص والأداء، سواء كان المال موجودا بعينه أو تلف فيلزمه حينئذ قيمته، وقال بعضهم الاستثناء من كلّ حقّ، إلّا أن يوجد عين المال فيؤخذ منه، وتقييد التوبة بكونها قبل القدرة يدلّ على أنّها لو حصلت بعد القدرة لم يسقط الحد وإن سقط العقاب الأخرويّ.
كتاب الجنايات
وفيه آيات:
الاولى
منْ اجْلِ ذََلِكَ كَتَبْنََا عَلى ََ بَنى اسْرََائيل انَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْر نَفْسٍ
{مِنْ أَجْلِ ذََلِكَ كَتَبْنََا عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسََادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمََا قَتَلَ النََّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيََاهََا فَكَأَنَّمََا أَحْيَا النََّاسَ جَمِيعاً} (1).
يقال من أجل ذلك فعلت، بفتح الهمزة وكسرها أي بسببه، سواء كان السبب فاعليّا أو غائيا و «من» لابتداء الغاية فإنّ الشيء يبتدئ من سببه وقد يبدل «من» باللّام فيقال لأجل ذلك وهو إشارة إلى ما تقدّم من قتل قابيل وهابيل، وقوله {«بِغَيْرِ نَفْسٍ»} إلى آخره أي لا على وجه القصاص، ولا على فساد يصدر منها موجب لقتلها.
واختلف في التشبيه الأوّل على أقوال الأوّل أنّ التشبيه معناه أنّه بمنزلة من قتل الناس جميعا في أنّهم خصومة في قتل ذلك الإنسان الثاني: أنّ معناه في تعظيم الوزر والإثم، والثالث أنّه كأنّما قتل الناس جميعا عند المقتول الرابع أنّه يجب عليه من القتل والقود، مثل ما يجب عليه لو قتل الناس جميعا.
وكذا في التشبيه الثاني أقوال الأوّل أنّه كمن أحيا الناس جميعا عند المستنقذ
__________
(1) المائدة: 32.(2/353)
الثاني أنّه من نجّاها من غرق أو حرق فأجره كأجر من أحيا الناس جميعا الثالث أنّه من عفى قتلها وقد وجب عليها القود (1) الرّابع أنّه من زجر عن قتلها ونهى عنه، بما فيه حياتها، أو حال بين من يريد قتلها وبينها (2).
وإنّما قال {«أَحْيََاهََا»} على جهة المجاز من إطلاق السبب على المسبّب والتحقيق هنا في الموضعين أنّه تشبيه على سبيل المبالغة تعظيما لشأن القتل، وتهويلا لأمره، وكذلك في طرف الاحياء، وإلّا فالتشبيه الحقيقي هنا لا وجه له، لمنافاته الحسّ والعقل والعدل.
الثانية
يََا ايُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُم الْقِصََاصُ فِي الْقَتْلى
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصََاصُ فِي الْقَتْلى ََ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى ََ بِالْأُنْثى ََ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبََاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدََاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسََانٍ ذََلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى ََ بَعْدَ ذََلِكَ فَلَهُ عَذََابٌ أَلِيمٌ} (3).
هنا فوائد:
1 - أنّه كان بين حيّين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما على الآخر طول فأقسموا ليقتلنّ الحرّ بالعبد، والذكر بالأنثى، والرّجلين بالرّجل، فلمّا جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله فنزلت فأمرهم أن يتساووا أي يتكافؤا، والقصاص من قصّ الأثر وهو الاتّباع، فإنّ الوليّ في القصاص يتبع أثر الجاني، ويفعل كفعله، وحينئذ لا يرد سؤال أنّ الوليّ له الخيار في العفو وأخذ الدية والقصاص، فلم قال كتب ومعناه وجب كما تقدم لأنّ المراد بيان ما هو
__________
(1) اى كان كمن عفى عن جميع الناس.
(2) اى كان كمن فعل ذلك بالجميع.
(3) البقرة: 178.(2/354)
واجب في الأصل ونفس الأمر، وأمّا العفو وأخذ الدّية ففرعان على الاستحقاق ولذلك لا يجب على الجاني قبول أداء الدّية عندنا وهو مذهب أبي حنيفة، وقال الشافعيّ للوليّ الخيار بين الدية والقصاص، وإن لم يرض الجاني إذ المراد بالوجوب عدم جواز التعدي إلى غير المكافي كما حكيناه من حكاية الحيين.
2 - قوله تعالى {«الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى ََ بِالْأُنْثى ََ»} قيل هذا منسوخ بقوله {«النَّفْسَ بِالنَّفْسِ»} وليس بشيء أمّا أوّلا فلأنّه حكاية ما في التورية فلا ينسخ القرآن وأمّا ثانيا فلأصالة عدم النسخ إذ لا منافاة بينهما وأمّا ثالثا فلأنّ قوله {«النَّفْسَ بِالنَّفْسِ»} عام وهذا خاص، وقد تقرّر في الأصول بناء العامّ على الخاصّ مع التنافي.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يجوز قتل العبد بالحرّ والأنثى بالذكر إجماعا، ولعدم دلالة الآية على منعه، ولأنّه إذا جاز قتل القاتل بمثله فبالأشرف أولى، وهل يجوز قتل الحرّ بالعبد والذّكر بالأنثى أم لا؟ جوّزه أبو حنيفة عملا بعموم {«النَّفْسَ بِالنَّفْسِ»} ومنعه مالك والشافعي لا لمفهوم {«الْحُرُّ بِالْحُرِّ»} إلى آخره لأنّ المفهوم إنّما يكون حجّة حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم، وقد بيّنا الغرض وهو دفع حكم الحيّين بل منعناه لما رواه عليّ عليه السّلام أنّ رجلا قتل عبده فجلده رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله ونفاه سنة ولم يقد منه (1) ولما روي أنّه صلّى اللََّه عليه وآله قال «لا يقتل مسلم بذي عهد ولا حرّ بعبد (2)» ولفعل الصحابة من غير نكير وهو مذهب أصحابنا لعدم العمل بالمفهوم مطلقا ولدلالة الأحاديث من أئمتهم عليهم السّلام.
بقي هنا كلام وهو أنّه إنّما يقتل الحر بالحرّ مع التكافي وهو التساوي في الإسلام والعقل وأن لا يكون القاتل أبا للمقتول خلافا لمالك في الأخير، وهل حكم الامّ حكم الأب؟ عندنا ليس كذلك، بل تقتل بالولد وعند الفقهاء حكمها حكم الأب، أمّا قتل الولد بأبيه فجائز إجماعا وكذا الإجماع على قتل الجماعة بالواحد
__________
(1) سنن ابى داود ج 2ص 488، المستدرك ج 3ص 257.
(2) أخرجه العلامة النوري عن غوالي اللئالى في مستدركة راجع ج 3ص 258.(2/355)
ولقوله صلّى اللََّه عليه وآله «لو اجتمعت ربيعة ومضر على قتل مسلم قيدوا به (1)» نعم عندنا يرد عليهم فاضل الدية.
3 - قوله تعالى {«فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ»} إلى آخره، قيل عفي بمعنى ترك وشيء مفعول به، وهو ضعيف إذ لم ينقل عفى الشيء بمعنى تركه، بل أعفاه وقال الزمخشريّ تقديره فمن عفي له من أخيه شيء أي شيء من العفو لأنّ عفي لازم لا يتعدّى بنفسه، وفائدته الإشعار بأنّ بعض العفو كالعفو التامّ في إسقاط القصاص فعلى الأوّل يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذّنب، قال اللََّه تعالى {«عَفَا اللََّهُ عَنْكَ»}
و {«عَفَا اللََّهُ عَنْهََا»} (2) فإذا عدّي إليهما عدّي باللّام إلى الجاني وعليه الآية كأنّه قال فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه يعني وليّ الدّم وذكره بلفظ الاخوّة الثابتة بينهما من الجنسيّة والإسلام ليرقّ له ويعطف عليه.
ثمّ العفو تارة يكون مطلقا بأن يعفو ولا يشترط شيئا وحينئذ لا يلزم الجاني شيء، وتارة يكون مع اشتراط الدية وإلى الأخير أشار بقوله {«فَاتِّبََاعٌ بِالْمَعْرُوفِ»} أي فالأمر اتّباع أو فليكن اتّباع، وهو وصيّة للعافي بأن يطلب الدية بالمعروف ولا يطلبه بالزيادة ولا يعنّفه ووصيّة للجاني بأن يؤدّيها بإحسان، وهو أن لا يماطل ولا يبخس بل يشكره على عفوه وأكثر العلماء من الصّحابة والتابعين على أنّ أخذ الدية مشروط برضا القاتل وقيل غير مشروط به، وقيل الوصيّة للجاني لا غير، أي فعليه اتّباع إلى آخره وعلى الأوّل يمكن أن يكون فيه دلالة على تأجيل الدية سنة، وقيل في الآية دليل على أنّ الدية أحد مقتضي العمد وإلّا لما رتّب الأمر بأدائها على مطلق العفو، بل كان ينبغي أن يقيّده بالعفو عن الخطاء وليس بشيء.
4 - قوله {«ذََلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ»} أي ذلك الحكم بترك القصاص وأخذ الدية تخفيف من اللََّه لهذه الأمّة وذلك لأنّ حكم التوراة القصاص لا غير وحكم الإنجيل العفو مطلقا من غير دية وخيّر هذه الأمّة بين الثلاثة تيسيرا عليهم.
__________
(1) راجع المستدرك ج 3ص 250.
(2) براءة: 43، المائدة: 101.(2/356)
5 - قوله {«فَمَنِ اعْتَدى ََ بَعْدَ ذََلِكَ»} أي بعد العفو أو الدية، بأن يقتل الجاني {«فَلَهُ عَذََابٌ أَلِيمٌ»} في الآخرة وقيل في الدّنيا بأن يقتل بجنايته لسقوط حقّه بالعفو أو الصلح على الدية.
الثالثة {وَلَكُمْ فِي الْقِصََاصِ حَيََاةٌ يََا أُولِي الْأَلْبََابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1).
ظاهر هذا الكلام أنّه كالمتناقض لأنّ القصاص هو القتل فكيف يكون القتل حياة؟ وفي التحقيق تحته من الحكمة البالغة ما يعجز عن مثله كلام الآدميين، فإنّه أوجز الكلام وأفصحه.
أما أنّه أوجز فإنّه نتيجة مقدّمات، فانّ القصاص ردع عن القتل، وفي الرّدع ارتفاع عنه، وفي الارتفاع عنه عدم القتل، وعدم القتل حياة، ينتج:
القصاص حياة.
وأمّا أنّه أفصح فلأنّ من كلام العرب القتل أنفى للقتل، وقد رجح أهل البلاغة كلامه تعالى على كلامهم بوجوه متعدّدة لكونه أقلّ حروفا ودلالته على الحياة بالمطابقة وتنكيرها الدالّ على التعظيم، وعدم التكرار، وغير ذلك ممّا ذكرناه في كتابنا المسمّى بتجويد البراعة.
وكانوا يقتلون الجماعة بالواحد، فتثور الفتنة بينهم، فلمّا جاء شرع القصاص وقرّرت قواعده ارتفعت تلك الفتن.
وقيل: المراد بالحياة هي الأخرويّة فإنّ القاتل إذا اقتصّ منه في الدّنيا لم يؤاخذ به في الآخرة وليس بشيء أمّا أوّلا فلأنّه خلاف المتبادر إلى الفهم، وثانيا فلأنّ القصاص حقّ للوارث للحيلولة بينه وبين مورثه، وحقّ للميّت بإدخال الألم عليه [فان] لم يؤخذ ما يقابله فكيف يكون ساقطا بالقصاص وليس كذلك المال وإنّما القتل من الآلام الداخلة على الإنسان الّتي أعواضها مختصّة به غير منتقلة عنه، نعم يمكن أن يكون مع التوبة النصوح والإتيان بالكفّارة يتفضّل اللََّه على
__________
(1) البقرة: 179.(2/357)
الجاني بأعواض مكافئة لفعله، ثمّ ينقلها إلى المقتول.
قوله {«يََا أُولِي الْأَلْبََابِ»} أي أولى العقول الكاملة، ناداهم بصفة العقل للتأمّل في حكم القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس {«لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»} في المخافة على القصاص فيكفّوا عن القتل.
الرابعة
وَلََا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتي حَرَّمَ اللََّهُ الا بِالْحَقِّ
{وَلََا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللََّهُ إِلََّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنََا لِوَلِيِّهِ سُلْطََاناً فَلََا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كََانَ مَنْصُوراً} (1).
هنا فوائد:
1 - المفعول في قوله {«حَرَّمَ اللََّهُ»} محذوف أي قتلها، قوله {«إِلََّا بِالْحَقِّ»} أي بإحدى ثلاث إمّا زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل المؤمن عمدا كلما، والمظلوم من قتل بغير استحقاق.
2 {«فَقَدْ جَعَلْنََا لِوَلِيِّهِ سُلْطََاناً»} إلى آخر، المراد بالوليّ من يلي أمره وهو الوارث ومن قام مقامه والسلطان يراد به هنا الحكم والتسلّط على الجاني أو العاقلة أمّا بالعفو أو أخذ الدّية أو القصاص في موضعه.
3 {«فَلََا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ»} قيل: الضّمير للقاتل بأن يقتل من لا يجوز قتله فانّ العاقل لا يفعل ما فيه هلاكه وقيل الضمير للوليّ أي فلا يسرف الولي بأن يقتل غير القاتل، أو يقتل الجماعة بالواحد، أو الرّجل بالمرأة من غير ردّ للزائد عن حقّه، فإنّ دية المرأة على النصف من دية الرجل (2) فإذا قتلها الرّجل فللوليّ قتله
__________
(1) الاسراء: 33.
(2) هذا الحكم حكم انتصاف دية المرأة من الرجل متفق عليه في النفس، وأما في الشجاج والأطراف فمذهب الإمامية على انها تعاقل الرجل الى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجع الى النصف، ونقل الشيخ في الخلاف الإجماع عليه.
ونقل عن الشيخ في النهاية والعلامة في الإرشاد وابن إدريس في السرائر، اشتراط التجاوز عن الثلث للتنصيف وانى راجعت عبائرهم في تلك الكتب فلم أتحقق النقل فإنها وان كانت توهم ذلك، الا انها غير واضحة الدلالة في ذلك كالروايات التي يستشم منها اشتراط التجاوز عن الثلث.
ففي صحيح الحلبي: الرجال والنساء في القصاص سواء: السن بالسن والشجة بالشجة والإصبع بالإصبع سواء حتى تبلغ الجراحات ثلث الدية، فإذا جازت الثلث صيرت دية الرجال في الجراحات ثلثي الدية، ودية النساء ثلث الدية (ح 6ب 1من أبواب قصاص الطرف من الوسائل، الوافي الجزء التاسع ب 91ص 89عن الكافي والتهذيب).
والخبر عن رجل قطع إصبع امرءته؟ قال: تقطع إصبعه حتى ينتهي إلى ثلث المرأة فإذا جاز الثلث أضعف الرجل. (ح 4ب 1من أبواب قصاص الطرف من الوسائل، والوافي الجزء التاسع ب 91ص 89عن الكافي والتهذيب).
إذ ليست دلالتها الا من حيث مفهوم اشتراط الجواز في الذيل، وهو معارض بمفهوم الغاية في الصدر، والجمع بينهما كما يمكن بصرف مفهوم الغاية إلى الشرط، كذا يمكن العكس فتصير الرواية مجملة الدلالة، ولا يمكن الاستدلال بها، فتصير الأخبار الدالة على كفاية بلوغ الثلث بلا معارض. ففي الصحيحين عن المرأة بينها وبين الرجل قصاص؟ قال:
نعم في الجراحات حتى تبلغ الثلث سواء، فإذا بلغت الثلث سواء، ارتفع الرجل وسفلت المرأة (الوسائل ح 3ب 1من أبواب قصاص الطرف والوافي الجزء التاسع ب 91 ص 89عن التهذيب والكافي والفقيه عن جميل ومحمد بن حمران).
وفي الصحيح عن أبان بن تغلب قال قلت لأبي عبد اللََّه عليه السّلام ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة كم فيها؟ قال عشر من الإبل، قلت: قطع اثنين؟ قال: عشرون قلت: قطع ثلاثا؟ قال: ثلاثون، قلت: قطع أربعا؟ قال: عشرون، قلت سبحان اللََّه يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون؟ ان هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرء ممن قاله ونقول: «ان الذي جاء به شيطان؟» فقال: مهلا يا أبان! هذا حكم رسول اللََّه، ان المرأة تعاقل الرجل الى ثلث الدية فإذا بلغت الثلث رجعت الى النصف يا أبان! إنك أخذتني بالقياس والسنة إذا قيست محق الدين. (الوسائل ح 1ب 45 من أبواب ديات الأعضاء، والوافي الجزء التاسع ب 91ص 89عن الكافي والتهذيب والفقيه).
وأورد هذا الحديث الأستاذ أبو زهرة في كتابه الامام الصادق نقلا عن الصدوق ص 516واستغربه وادعى انه مكذوب على الامام عليه السّلام زعما منه أنه مخالف مخالفة مطلقة لحكم العقل، ونحن ننقله بعين عبارته، قال:
«واننا نرى ان هذا الخبر غريب في نسبته الى الصادق رضى الله عنه بلا نسبته إلى النبي صلّى الله عليه وآله وذلك لانه مخالف مخالفة مطلقة للعقل، ولا يمكن أن يكون التكليف فيه تعبديا وقد قصد به الجريمة، لأن الدية في حقيقتها قصاص في المعنى والله تعالى يقول {«وَلَكُمْ فِي الْقِصََاصِ حَيََاةٌ»}.
وقد نقلنا من قبل من مصادرهم المعتبرة أن كل الشريعة متفقة مع العقل وأنه إذا كان الحكم تعبديا قصد به الاختبار، فان العقل يقر هذا الاختبار. وفي الجملة كل ما جاء به الشارع فهو مصلحة في ذات الأمر موضع التكليف أو في التكليف، وذلك الأخير يكون في الأمور التعبدية، ولا يمكن أن يكون التعبد في أمور العباد، لأن أمور العباد تقوم على الإصلاح، انما التعبدات تكون في العبادات ولا تكون العبادات إلا أمورا تعبدية لاختبار أصل الطاعة للََّه تعالى والقيام بحق شكره.
لذلك نرى نسبة هذا الحكم الى الصادق أمرا غريبا، وان الأوضح في هذا أن يكون قطع الأصابع الأربع يزيد إلى أربعين بدل أن ينزل الى عشرين» انتهى.
أقول: هذا الاستغراب من الأستاذ أبي زهرة مستغرب، والذي يسهل الخطب ويهون الأمر أن نظن أن الأستاذ المذكور لم يتفحص اخبار أهل السنة ولم يستقرء أقوال علمائهم، ولم يستقص ما في المسئلة فزعم ان الحكم من متفردات الإمامية، والرواية به من متفردات مروياتهم، وليس كذلك فان هذا الحكم مما اتفق عليه الصحابة كما ستعرف من نقل ابن قدامة في المغني وعليه مالك، ونقله أيضا عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب، وبه قال الشافعي في القديم وأحمد في أظهر روايتيه، ولذلك اختار الخرقي أيضا ذلك كما ستعرف، وهو قول فقهاء المدينة.
قال ابن قدامة في المغني ص 797ج 7.
مسئلة: وتساوى جراح المرأة جراح الرجل الى الثلث الدية، فإن جاوز الثلث فعلى النصف (الى هنا عبارة الخرقي ثم بعده شرح ابن قدامة) وروى هذا عن عمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير والزهري وقتادة والأعرج وربيعة ومالك قال ابن عبد البر: وهو قول فقهاء المدينة السبعة، وجمهور أهل المدينة وحكى عن الشافعي في القديم وقال الحسن: يستويان الى النصف.
وروى عن على رضى اللََّه عنه أنها على النصف فيما قل وكثر، وروى ذلك عن ابن سيرين وبه قال الثوري والليث وابن أبى ليلى وابن شبرمة وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور في الظاهر من مذهبه، واختاره ابن المنذر لأنهما شخصان تختلف ديتهما فاختلف أرش أطرافهما كالمسلم والكافر، ولأنها جناية لها أرش مقدر فكان من المرأة على النصف من الرجل كاليد.
وروى عن ابن مسعود انه قال: تعاقل المرأة الرجل الى نصف عشر الدية، فإذا زاد على ذلك فهو على النصف، لأنها تساويه في الموضحة.
ولنا ما روى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله: عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها، أخرجه النسائي (راجع ج 8ص 44) وهو نص يقدم على ما سواه.
وقال ربيعة لسعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة قال: عشر، قلت ففي إصبعين قال: عشرون، قلت: ففي ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون. قلت: ففي أربع قال: عشرون قال: قلت: لما عظمت مصيبتها قل عقلها؟ قال: هكذا السنة يا ابن أخي، وهذا مقتضى سنة رسول اللََّه. رواه سعيد بن منصور (راجع الموطإ ص 673طبع نور محمد كراجى شرح الزرقانى ج 4ص 187، تنوير الحوالك ج 2ص 186).
ولأنه إجماع الصحابة رضى اللََّه عنهم إذ لم ينقل خلاف ذلك الا عن على، ولا نعلم ثبوت ذلك عنه، ولان ما دون الثلث يستوي فيه الذكر والأنثى بدليل الجنين فإنه يستوي فيه الذكر والأنثى.
ثم قال: فاما الثلث نفسه، فهل يستويان فيه؟ على روايتين: أحدهما يستويان فيه لانه لم يعتبر حد القلة، ولهذا صحت الوصية به، وروى أنها يختلفان، وهو الصحيح لقوله «حتى يبلغ الثلث» وحتى للغاية فيجب أن تكون مخالفة لما قبلها، لقول اللََّه {«حَتََّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ»} ولان الثلث في حد الكثرة لقوله صلّى اللََّه عليه وآله: «الثلث والثلث كثير» انتهى ما في المغني.
ونظيره في نقل الأقوال بأدنى تفاوت ما في بداية المجتهد ج 2ص 417، ورحمة الأمة بهامش ميزان الشعراني ص 115، وسبل السلام ج 3ص 252، ونيل الأوطار ج 7ص 71، وفي الأخير بعد نقل تساوى الجراح في القليل والكثير عن على عليه السّلام: وهو من رواية إبراهيم النخعي عنه، وفيه انقطاع، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه، وأخرجه أيضا من وجه آخر عنه وعن عمر قوله «عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من دية الرجل» فيه دليل على ان أرش المرأة يساوى أرش الرجل في الجراحات التي لا يبلغ أرشها إلى ثلث دية الرجل، وفيما بلغ أرشه إلى مقدار الثلث من الجراحات كنصف أرش الرجل الى آخر ما قال.
والمقصود ان الحكم الذي استغربه الأستاذ أبو زهرة، هو الذي كان عليه إجماع الصحابة من غير مخالف، إذ قد عرفت في كلماتهم ان الحديث على ان عليا عليه السّلام قال بالنصف في القليل والكثير مما لم يثبت، بل ثبت خلافه، ولم ينقل عن احد من الصحابة غير الحكم بالتساوي إلى ثلث الدية.
والسنة الثابتة النبوية أيضا على ذلك إذ قد عرفت في كلام ابن قدامة ما أخرجه النسائي ونقله عنه أيضا في بلوغ المرام كما تراه في ج 3ص 251من سبل السلام وانه صححه ابن خزيمة قال في سبل السلام عند شرحه، لكنه قال ابن كثير انه من رواية إسماعيل ابن عياش وهو إذا روى من غير الشاميين لا يحتج به عند جمهور الأئمة وهذا منه.
ثم قال (في سبل السلام) تعنتوا في إسماعيل بن عياش إذا روى عن غير الشاميين وقبوله في الشاميين والذي يرجح عند الظن قبوله مطلقا لثقته وضبطه، وكأنه لذلك صحح ابن خزيمة هذه الرواية، وهي عن إسماعيل عن ابن جريح وابن جريح ليس بشامى.
قلت تسلمهم صحة رواياته عن الشاميين يدل على كونه صدوقا عندهم (انظر التاريخ الكبير للبخاري ج 1، القسم الأول ص 369الرقم 1169والجرح والتعديل القسم الأول ص 191، الرقم 650، وميزان الاعتدال للذهبى ج 1ص 240، وتذكرة الحفاظ ص 253الرقم 240) فالفرق بين روايته عن الشامي وغير الشامي انما هو من الخلط والاشتباه، وقد صرح غير واحد بحفظه، ففي الجرح والتعديل:
حدثنا عبد الرحمن الى قوله سمعت يزيد بن هارون يقول: ما رأيت شاميا ولا عراقيا احفظ من إسماعيل بن عياش وفيه أيضا. سئل يحيى بن معين عن إسماعيل بن عياش قال: لا بأس به وفي ميزان الاعتدال: وقال أبو داود سمعت ابن معين يقول: إسماعيل بن عياش ثقة، بل في أول ترجمته في الميزان: إسماعيل بن عياش أبو عتبة العنسي الحمصي عالم أهل الشام مات ولم يخلف مثله. فما في سبيل السلام من قبول روايته من غير فرق بين كونها عن الشامي وغير الشامي أمتن.
وفي زاد المعاد لابن القيم الجوزية ص 205ج 3وقضى صلّى اللََّه عليه وآله أن عقل المرأة مثل عقل الرجل الى الثلث من ديتها، ذكره النسائي، فتصير على النصف من ديته، وفي كشف الغطاء الحواشي على موطإ مالك ص 670طبع نور محمد كراچى وأخرج البيهقي قال: جراحات الرجال والنساء سواء الى الثلث فما زاد فعلى النصف.
فالثابت إذا بإجماع الصحابة، والسنة النبوية: تساوى الرجل والمرأة الى ثلث الدية وتنصيفها للمرءة بعد بلوغ الثلث، فلا أدرى كيف اجترأ الأستاذ أبو زهرة على نسبته إلى الصحابة الكبار أنهم حكموا بحكم مخالف مخالفة مطلقة لحكم العقل وكيف ظن أن عقله فاق عقل الفاروق الأعظم، وقد ثبت الحكم بذلك عنه، صرح به غير واحد من فقهائهم وقد عرفت، وكيف أنكره لمجرد مخالفته لعقول القياسيين الذين يبنون الاحكام على استنباط العلل والاجتهاد في تخريج المصالح وموجبات الاحكام، ولذلك قد وقعوا في المخالفات الكثيرة التي لا تتفق مع منطق التشريع.
سامح اللََّه أبا زهرة، كيف اجترأ أن ينسب إلى النبي صلّى اللََّه عليه وآله أنه حكم بحكم يخالف العقل مخالفة مطلقة وقد قال اللََّه العزيز الكريم ومن أصدق من اللََّه قيلا:
{«وَمََا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ََ»}.(2/358)
ويرد عليه نصف الدية (1) وكذا يرد على الزائد عن الواحد لو قتل بالواحد جماعة فانّ للوليّ قتلهم كلّهم، ويردّ عليهم الفاضل، أو يقتل بعضهم ويردّ الباقون قدر جنايتهم ويتمّ الوليّ ما بقي، أمّا لو قتلت المرأة رجلا فليس للوليّ إلّا قتلها لقوله
__________
(1) هذا الحكم متفق عليه عند الإمامية في النفس وفي الطرف إذا بلغ ثلث الدية وما لم يبلغ فلا رد.
ونقل الشيخ قدس سره في الخلاف ج 2ص 341عن جميع الفقهاء غير الإمامية أنه يقتل بها ولا يرد أولياؤها شيئا، ونقل في البحر الزاخر ج 5ص 217عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعكرمة وعطاء ومالك وأحد قولي الشافعي انه لا يقتل الرجل بالمرءة وانما تجب الدية.
والثابت عن أبي حنيفة وأتباعه أنه يقول لا قصاص في الطرف بين مختلفي البدل، فلا يقطع الكامل بالناقص ولا الناقص بالكامل، ولا الرجل بالمرءة ولا المرأة بالرجل. انظر المغني لابن قدامة ج 7ص 679وسائر الكتب المرتبطة، ولذلك قال قاضى زاده افندى في تكملة فتح القدير ج 8ص 307في مسئلة تساوى الرجل والمرأة الى ثلث الدية الذي أنكره اتباع أبي حنيفة:
ثم ان صاحب العناية قال في تعليل قوله فكذا في أطرافها وأجزائها اعتبارا بها وبالثلث وما فوق لئلا يلزم مخالفة التبع للأصل وتبعه العيني، أقول: لا مانع ان يمنع بطلان اللازم، إذ لا محذور في مخالفة التبع الذي هو الأطراف للأصل الذي هو النفس في بعض الأحكام، الا يرى ان القصاص يجرى بين الرجل والمرأة، ولا يجرى فيما دون النفس عندنا كما مر في كتاب الجنايات فلم لا يجوز المخالفة بين النفس وما دونها في حكم الدية أيضا انتهى.
وفي نيل الأوطار ج 7ص 18: وأخرج البيهقي عن أبى الزناد أنه قال: كان من أدركته من فقهائنا الذين ينتهي إلى قولهم منهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم ابن محمد وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد اللََّه بن عبد اللََّه بن عتبة وسليمان بن يسار في مشيخة جلة من سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل: ان المرأة تقاد من الرجل عينا بعين وأذنا بإذن وكل شيء من الجراح على ذلك وان قتلها قتل بها، ورويناه عن الزهري وغيره وعن النخعي والشعبي وعمر بن عبد العزيز. قال البيهقي، وروينا عن الشعبي وإبراهيم خلافه فيما دون النفس واختلف الجمهور هل يتوفى ورثة الرجل من ورثة المرأة أم لا؟ فذهب الهادي والقاسم والناصر وأبو العباس وأبو طالب إلى أنهم يتوفون نصف دية الرجل، وحكاه البيهقي عن عثمان البتي وحكاه أيضا السعد في حاشية الكشاف عن مالك، وذهبت الشافعية والحنفية وزيد بن على والمؤيد باللََّه والامام يحيى إلى أنه يقتل الرجل ولا توفية انتهى ما في نيل الأوطار.(2/364)
صلّى اللََّه عليه وآله «لا يجني الجاني على أكثر من نفسه» (1).
وكذا لو قتل الواحد جماعة ليس لأوليائهم إلّا قتله، وكذا لو قتل العبد حرّا ليس لوليّه إلّا قتل العبد ولا سبيل له على مولاه وقرأ ابن عامر وحمزة «فلا تسرف» بالتاء جريا على أنّه خطاب إمّا للقاتل أو للوليّ، وقيل الخطاب للنبيّ صلّى اللََّه عليه وآله وفيه ضعف.
4 {«إِنَّهُ كََانَ مَنْصُوراً»} الضمير للوليّ بمعنى أنّ اللََّه نصره بشرع القصاص وقيل للمقتول بمعنى أنّ اللََّه نصره في الدّنيا بالقصاص وفي الآخرة بالثواب العظيم وقيل للمقتول إسرافا بمعنى أنّ اللََّه ينصره بإيجاب القصاص، فيما تعدّى به الوليّ وثبوت الوزر على المسرف.
الخامسة
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمَ
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزََاؤُهُ جَهَنَّمُ خََالِداً فِيهََا وَغَضِبَ اللََّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذََاباً عَظِيماً} (2)
__________
(1) الكافي ج 7ص 299.
(2) النساء: 96.(2/365)
عظّم اللََّه شأن قتل المؤمن وبالغ في التوعّد عليه حتى أنّه ذكر هنا خمس توعّدات كلّ واحد منها كاف في عظم الجرم إذا تقرّر هذا فهنا مسائل:
1 - اختلف في قتل العمد ما هو؟ فقال أبو حنيفة وأصحابه هو ما كان بحديد لا بغيره، وهو أحد قولي الشافعيّ وقال في الآخر وأصحابنا إنّ كلّ من قصد قتل غيره بما يقتل مثله غالبا سواء كان بحديد حادّ أو مثقّل أو خنق أو سمّ أو إحراق أو تغريق أو ضرب بعصا أو بحجر أو غير ذلك فإنّه عامد، وكذا لو قصد القتل بما لا يقتل غالبا فاتّفق الموت فإنّه عمد أيضا على الأصحّ.
أمّا ما لا قصد فيه أصلا، لا القتل ولا غيره فيتّفق الموت فذلك هو الخطاء، وما كان فيه قصد لا للقتل بل لتأديب أو لغيره فيتّفق الموت فذاك شبه عمد ولازم الأوّل القصاص كما تقدّم والثاني الدية على العاقلة كما يجيء والثالث الدّية في مال الجاني خاصّة وكذا دية العمد لو عفي عنها، فإنّها أيضا على الجاني، ولو هرب العامد حتّى يموت ولم يقدر عليه فانّ الدية يلزم من تركته على الأصحّ لقوله صلّى اللََّه عليه وآله «لا يبطل دم امرء مسلم» (1).
2 - ثبت في علم الكلام بطلان الإحباط، وثبت أنّ عصاه المؤمنين عقابهم غير دائم، وظاهر الآية ينافي ذلك وأجيب بوجوه:
الأوّل ما روي عن الصّادق عليه السّلام أنه قتله على دينه ولإيمانه ولا شكّ أنّ ذلك كفر من القاتل موجب لتخليده.
الثاني أنّه مخصوص بغير التائب وليس بشيء لأنّه محلّ النزاع لأنّه مع التوبة لا عقاب أصلا.
الثالث أنه قتله مستحلّا لقتله قاله عكرمة ويؤيّده أنّه نزل في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار ولم يظهر قاتله فأمرهم رسول اللََّه أن يدفعوا إليه ديته ثمّ حمل على مسلم وقتله، ورجع إلى مكّة مرتدّا.
__________
(1) المستدرك ج 3ص 260.(2/366)
الرّابع أن يراد بالخلود المكث الطويل جمعا بين الدليلين.
3 - توبة القاتل عمدا الندم الخالص والكفّارة الجامعة للخصال الثلاث وهو عتق رقبة، وصيام شهرين متتابعين، وإطعام ستّين مسكينا، والانقياد للورثة إمّا يقتلونه أو يرضون بالدّية أو يعفون.
السادسة
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ انْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلّا خَطَأً
{وَمََا كََانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلََّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى ََ أَهْلِهِ إِلََّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كََانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كََانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثََاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى ََ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيََامُ شَهْرَيْنِ مُتَتََابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللََّهِ وَكََانَ اللََّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (1).
أي ما جاز لمؤمن أو ما ثبت في حكم اللََّه لمؤمن، والاستثناء منقطع ونصب «خطاء» على أنّه صفة لمصدر محذوف أي إلّا قتلا خطاء لا أنّه مفعول له، ولا حال كما قال الزمخشريّ لأنّ الخطاء ليس بسبب فاعليّ ولا غائيّ عند التأمّل [فلا يكون مفعولا له] ولا هو صفة للفاعل ولا للمفعول، والحال يجب أن يكون صفة لأحدهما.
قوله {«فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ»} أي فيجب عليه، و «توبة» منصوب على التميز عن الجملة إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الآية مشتملة على أحكام:
1 - أنّ القاتل خطاء يجب عليه كفّارة [و] هي تحرير رقبة ولا خلاف في اشتراط إيمانها، وهذه واجبة في مال القاتل، بلا خلاف، ووجه هذا أنّ القاتل لمّا أخرج المقتول عن قيد الحياة لزمه أن يخرج نفسا من قيد العبوديّة فإنّه كالأحياء إذ العبد كالميّت في أنّه لا حكم في نفسه وتصرّفاته.
2 - تسليم الدية إلى أهل المقتول أعني ورثته، وهم كلّ من يرث المال إلّا الإخوة والأخوات من قبل الامّ لروايات متضافرة، وقيل والأخوات أيضا من الأب
__________
(1) النساء: 95.(2/367)
وقيل بل يرثها وارث المال لعموم آية الإرث، والأقرب منع قرابة الأمّ مطلقا إخوة وغيرهم.
ثمّ هذه الدية ليست لازمة للجاني في ماله بل لعاقلته، وهم الأب والأولاد ومن يتقرّب بالأبوين أو بالأب خاصّة من الذكور، دون الامّ ومن يتقرّب بها ويقسمها الامام عليهم على حسب ما يراه الأقرب فالأقرب، فإن قصرت الأقارب واتّسعت الدية، دخل فيهم مولى النعمة، ثمّ ضامن الجريرة، ثمّ الامام على ترتيب الإرث.
والدية في الأقسام الثلاثة إمّا ألف مثقال من الذهب المسكوك الخالص أو عشرة آلاف درهم أو ألف شاة أو مائتا حلّة من برود اليمن كلّ حلّة ثوبان أو مائتا بقرة أو مائة من الإبل، لكن يقع الفرق في أمرين الأوّل أنّه في العمد يستأدى في سنة وفي شبهه في سنتين، وفي الخطاء المحض في ثلاث سنين الثاني في أسنان الإبل، فإنّها في العمد من المسانّ أي من الكبار، وفي الشبيه ثلاثة وثلاثون بنت لبون، ومثلها من الحقائق وأربع وثلاثون ثنيّة طروقة الفحل، وفي الخطاء عشرون بنت مخاض ومثلها من أبناء اللّبون وثلاثون حقّة، ومثلها من بنات اللّبون.
قوله {«إِلََّا أَنْ يَصَّدَّقُوا»} أي الورثة إذا أبرؤا ذمّة العاقلة برئت، جعل الإبراء صدقة كما تقدّم في آية الدّين تحريصا على الفعل.
واعلم أنّ الدية حكمها حكم أموال الميّت يقضى منها ديونه، وينفذ وصاياه من أيّ الأقسام كانت، نعم دية العمد لا يجب على الورثة أخذها وصرفها في الدّيون والوصايا، بل لهم القصاص وإن لم يضمنوا الدّين على الأصحّ، فإن اصطلحوا على أخذها كانت من التركة، ودلّ على ذلك البيان النبويّ صلّى اللََّه عليه وآله والتبليغ الإماميّ كما تضافرت به الروايات.
3 - أنّ المقتول خطاء إذا كان من قوم أهل حرب لكنّه هو مؤمن فإنّه يجب الكفّارة لا غير لأجل إيمانه، ولا يجب الدّية لكونهم كفرة لا يستحقّون في دية (1) المسلم شيئا.
__________
(1) ذمة المسلم. خ.(2/368)
4 - أنّ المقتول خطأ إذا كان بين قوم معاهدين أمّا أهل كتاب لهم ذمّة أو قوم كفّار لهم عهد فاختلف في هذا المقتول، قيل هو كافر إلّا أنّ ديته تلزم لمكان العهد مع قومه فديته عندنا على هذا التقدير ثمان مائة درهم وعليه إجماع أصحابنا واختلف الفقهاء منهم، فقال أبو حنيفة كدية المسلم لظاهر الآية وإطلاق لفظ الدية وقيل النصف، وقال الشافعيّ الثلث، وقيل أربعة آلاف درهم ولا خلاف عندهم أنّ دية المجوسيّ ثمانمائة درهم وقيل هو مؤمن وهو المرويّ في أخبارنا ويؤيّده وجوب الكفّارة بقتله لأنّه لا كفّارة بقتل الكافر وأيضا سياق الآية يدلّ عليه لعطفه على قوله {«وَهُوَ مُؤْمِنٌ»} في الجملة المتقدّمة، لكنّ الدّية هنا إنّما تعطى لورثته من المسلمين خاصّة وحينئذ يكون ظاهر الآية مخصوصا بالمسلمين إذ الكافر لا يرث المسلم لقوله صلّى اللََّه عليه وآله «لا توارث بين أهل ملّتين (1)».
5 - قوله {«فَمَنْ لَمْ يَجِدْ»} يشير إلى أنّ الكفّارة هنا مرتّبة لإتيانه بالفاء الموجبة للتعقيب، والمراد بعدم الوجدان هو أن لا يملك الرقبة ولا ثمنها، فاضلا عن قوت يومه ودست ثوبه ودار سكناه، وكذا يحكم بعدم وجدانه لو كان مريضا يفتقر إلى الخدمة أو من أهل الإخدام وإن لم يكن مريضا مع حاجته إلى الخدمة، أمّا من جرت عادته بخدمة نفسه فإنّه يعتق عليه إلّا مع المرض، والمراد بتتابع الشهرين أن يصوم شهرا ومن الثاني ولو يوما لوقوع التتابع صفة للشهرين لا للأيّام، فلو أفطر في الأوّل لعذر بنى عند زواله هذا، وقيل عدم الوجدان راجع إلى عدم وجدان الدّية، وقيل إلى عدم وجدان الدّية والرقبة معا وكلاهما شاذّان لأنّ الدية على العاقلة، لا الجاني حتّى يوصف بعدم الوجدان.
واعلم أنّه مع عدم القدرة على الصوم ينتقل إلى إطعام ستّين مسكينا كما تقدّم مثله ثمّ اعلم أنّ الكفّارة واجبة على الفور أمّا أوّلا فلأنّها كالتوبة الواجبة على الفور، وأمّا ثانيا فلإتيانه بالفاء عقيب قوله {«وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ»} إلى آخره.
__________
(1) سنن أبى داود ج 2ص 113.(2/369)
قوله {تَوْبَةً مِنَ اللََّهِ} أي شرع هذا الحكم كلّه أو الانتقال إلى الصوم رحمة من الله لكم لكونه {عَلِيماً} بحالكم {حَكِيماً} واضعا لكلّ شيء في موضعه.
السابعة
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فيها انَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
{وَكَتَبْنََا عَلَيْهِمْ فِيهََا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصََاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفََّارَةٌ لَهُ} (1).
{وَكَتَبْنََا} عدّاه بعلى لتضمّنه معنى الحكم أي حكمنا عليهم بذلك والباء للبدليّة كقولك هذا بهذا أي هذا كائن بدل هذا وتقدير الكلام حكمنا على بني إسرائيل في التوراة أنّ النفس تكون بدل النفس المعصومة إذا قتلت، وكذا البواقي وهنا فوائد:
1 - لا يقال حكم هذه الآية معمول به في هذه الشريعة مع الإجماع على كون التوراة منسوخة بهذه فكيف يعمل بما هو منسوخ؟ وأيضا أكثر الأصوليّين على أنّه صلّى الله عليه وآله غير متعبّد بشرع من قبله فكيف نعبّد بهذا الحكم مع كونه شريعة لموسى لأنّا نقول لا شكّ أنّ الشريعة السابقة منسوخة بالشريعة المسبوقة بمعنى أنّ مجموع أحكام المسبوقة من حيث المجموع لا من حيث كلّ واحد واحد [من الأحكام] ناسخ لمجموع أحكام السابقة من حيث المجموع، ولا يلزم من ذلك أن يكون كلّ واحد واحد من الأحكام ناسخا ومنسوخا لأنّ النسخ هو الرّفع، ورفع المجموع من حيث المجموع لا يستلزم رفع كلّ واحد بل واحد منها لا بعينه، والتعيين إلى الشارع ثمّ إنّ كلّ واحد من أحكام المسبوقة إمّا أن يكون منافيا لحكم من أحكام السابقة أو لا فان كان الأوّل كان ناسخا له وإن كان الثاني فإمّا أن يكون موافقا له أو لا فان كان الأوّل كان ذلك من جملة الاتّفاقات في الأحكام وإن كان الثاني وهو أن لا يكون منافيا ولا موافقا لم يجز التعبّد به إلّا بدليل خارجيّ وعلى التقادير الثلاثة
__________
(1) المائدة: 45.(2/370)
لا يكون النبيّ صلّى الله عليه وآله متعبّدا بأحكام الشريعة السابقة ولذلك قال سبحانه {لِكُلٍّ جَعَلْنََا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهََاجاً} (1).
2 - لا شكّ أنّ ما تضمّنه الآية وإن كان معمولا به في شرعنا، لكنّه من العمومات المخصوصة لاشتراط القصاص نفسا وطرفا بالتساوي في الإسلام والحرّيّة وقد حكينا ما في ذلك من الخلاف وكذلك يشترط في الأطراف التساوي في المحلّ والصفات، فلا تفقأ العين اليمنى باليسرى ولا تصمّ الاذن اليمنى باليسرى ولا يقلع السّنّ بغير مقابله، ولا يجدع الأنف الصّحيح بالأشلّ، ولا تؤخذ العين الصّحيحة بالعمياء ولا السنّ الصّحيح بالأسود، ولا الاذن الصحيحة بالشلّاء إلى غير ذلك من التفاصيل المذكورة في الفقه المستفادة من البيان النبويّ صلّى الله عليه وآله والتبليغ الإماميّ.
3 - قرئ بنصب «الجروح» وكذا السوابق عليها نحو «والعين والأنف» إلى آخرها وقرئ بالرفع فيها كلّها أمّا النصب فبالعطف على لفظ اسم «أنّ» وأمّا الرّفع فبالعطف على محلّ اسمها. قوله {وَالْجُرُوحَ قِصََاصٌ} أي ذات قصاص وهو أيضا من المخصوصات فانّ الجرح إذا كان مشتملا على غرر وخطر لا قصاص فيه بل ينتقل إلى الدّية كالهاشمة والمنقّلة والمأمومة والجائفة بخلاف ما لا غرر ولا خطر فيه فانّ حكم القصاص فيه ثابت كالحارصة والدامية والمتلاحمة والسمحاقة ويراعى في ذلك أيضا التساوي في المحلّ والقدر طولا وعرضا لا نزولا، بل يكفي صدق الاسم فيه، ويشترط أيضا ما تقدّم من التساوي في الإسلام والحرّية.
4 - قوله {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} أي بالقصاص {فَهُوَ} أي التصدّق {«كَفََّارَةٌ لَهُ»} أي لذنبه، والضمير للمتصدّق لأنّه المالك للقصاص، ولعود الضمير إلى «من» الّذي هو المذكور، وقيل يرجع إلى المتصدّق عليه لأنّ العفو قائم مقام أخذ الحقّ منه وليس بشيء أمّا أوّلا فلأنه خلاف الظاهر، وأمّا ثانيا فلأنّه نوع تأكيد والتأسيس خير منه، وأما ثالثا فلأنّه لو كان كذلك لما وجبت الكفّارة على القاتل بالعفو واللّازم باطل فكذا الملزوم والملازمة ظاهرة هذا.
__________
(1) المائدة: 48.(2/371)
واعلم أنّ مذهبنا بطلان الإحباط والتكفير لقيام الدّليل على ذلك كما هو مقرر في علم الكلام وحينئذ يجب حمل ما ورد من تكفير السيّئات بالحسنات كما ذكر هنا وكقوله صلّى الله عليه وآله «الصلوات الخمس كفّارة لما بينهنّ من الذّنوب (1)» وقول عليّ عليه السّلام «الحجّ والعمرة يد حضان الذّنب (2)» إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث على أنّ الله تعالى يتفضّل على فاعل الحسنات بإسقاط عقاب سيّئاته لعظم محلّ تلك الحسنة، وكذا نقول في قوله {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبََائِرَ مََا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئََاتِكُمْ} (3) أنّ الله يتفضّل على مجتنب الكبيرة بالعفو عن صغائره لعظم محلّه باجتناب الكبائر.
الثامنة {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولََئِكَ مََا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} (4).
فيها دلالة على أنّه من أوقع به ظلم في نفس أو طرف أو شجاج أو مال فانتصر بعد ظلمه أي استوفي حقّه فليس عليه سبيل من المعاقبة واللّوم، «ومن» زائدة لكونها بعد النفي وفيها أيضا دلالة على أنّه يجوز الاقتصاص من غير حكم حاكم في طرف أو جرح أو مال ممّن يماطل، بعد أن يراعى في ذلك عدم التجاوز إلى غير حقّه.
التاسعة {وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا فَمَنْ عَفََا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللََّهِ إِنَّهُ لََا يُحِبُّ الظََّالِمِينَ} (5).
هذه تدلّ على أمور ثلاثة:
1 - ما دلّت عليه السابقة وسمّي الجزاء مع كونه حسنا «سيّئة» إمّا على
__________
(1) السراج المنير ج 2ص 405.
(2) لم نعثر عليه بلفظه، وبمضمونه أحاديث كثيرة، راجع الكافي باب فضل الحج والعمرة ج 4ص 264252.
(3) النساء: 31.
(4) الشورى: 41.
(5) الشورى: 40.(2/372)
المجاز تسمية الشيء باسم مقابله أو لأنّها تسوء من توقع به.
2 - تدل على حسن العفو عن السيّئة وأنّه يستحق في مقابله أجر عظيم لا يدرى كهنة، لإبهامه وعدم تعيينه.
3 - أنّه يجب في الاقتصاص الاقتصار على المثل، وعدم التجاوز عنه لقوله تعالى {«إِنَّهُ لََا يُحِبُّ الظََّالِمِينَ»} ومثل هذه الآية في الدلالة قوله {وَإِنْ عََاقَبْتُمْ فَعََاقِبُوا بِمِثْلِ مََا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصََّابِرِينَ} (1) وقيل نزلت هذه لما قتل حمزة عليه السّلام ونظر رسول الله صلّى الله عليه وآله إليه وقد شقّ بطنه وجدع أنفه وأذناه فقال لولا أن يكون سنّة بعدي لتركته حتّى يبعثه الله من بطون السّباع والطير ولأقتلنّ مكانه سبعين رجلا ثمّ دعا ببردة فغطّى بها وجهه فخرجت رجلاه فجعل على رجليه شيئا من الإذخر، ثمّ قدّمه فكبّر عليه سبعين تكبيرة فنزلت الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: بل نصبر يا ربّ.
العاشرة
وَلَقَدْ خَلَقْنا الإِنْسانَ مِنْ سُلََالَة مِنْ طين
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ سُلََالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنََاهُ نُطْفَةً فِي قَرََارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظََاماً فَكَسَوْنَا الْعِظََامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنََاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ} (2).
لنذكر شرحها أوّلا ثمّ نذكر غرض الفقهاء منها فنقول: الخلق التقدير إمّا لأجزاء المخلوق أو لهيئة تركيبها لأوقاته، ومنه {«خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيََاةَ»} (3) والمراد بالإنسان الهيكل المحسوس والفعالة موضوعة لمقدار ما يفصل عن شيء سواء كان من شأنه أن يرمى به كالقلامة والنجارة أو يتمسّك به ويتحفّظ كالخلاصة والسلالة، و «من» في الموضعين لابتداء الغاية فإنّ آدم عليه السّلام خلق من سلالة مخلوقة
__________
(1) النحل: 126.
(2) المؤمنون: 1513.
(3) الملك: 2.(2/373)
من الطين لا أنّ الثانية للبيان، كما قال الزمخشري لأنّ كونها لابتداء الغاية يغني عن البيان {«ثُمَّ جَعَلْنََاهُ نُطْفَةً»} أي أولاده من نطفة فانتصابها بنزع الخافض والقرار المكين أي محكم وهو ظهر الأقرب والجارّ والمجرور صفة لنطفة لا أنّ المقرّ بطن الامّ كما قال، وإلّا لكان يجب أن يقول {«ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً»} لأنّ مبدء خلقة العلقة لا يتراخى في بطن الامّ عن النطفة بل عن كونها نطفة في ظهر الأب {«ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً»} أي بعد انتقالها من ظهر الأب إلى الرّحم، ولذلك قال «ثمّ» لأنّ النطفة موجودة قبل انتقالها وحال الانتقال إلى أن يستقرّ في الرّحم {«فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ»} أتي بالفاء نظرا إلى استعداد كونها مضغة فإنّه يتعقّب العلقة ولا يتراخى زمانا وكذلك الانتقالات بعده {«ثُمَّ أَنْشَأْنََاهُ خَلْقاً آخَرَ»} أي نفخنا فيه الرّوح فصار إنسانا بمعنى آخر، بعد أن كان بدنا له، وأتى بثمّ لأنّ في العادة أنّ تركيب شيء من شيئين محتاج إلى توسط زمان بينهما، وهو قول ابن عبّاس ومجاهد وقيل هو إنبات الشعر والأسنان وقيل كونه ذكرا أو أنثى والعلقة قطعة دم ثخين والمضغة قطعة لحم واحتجّ أبو حنيفة على مذهبه أنّه لو غصب أحد بيضا فصار عنده فرخا أو حبّا فصار دقيقا أنّه يملكه، وليس عليه غير البيض والحبّ بقوله {ثُمَّ أَنْشَأْنََاهُ خَلْقاً آخَرَ»} وهو غير مصيب في قوله، لأنّ الصورة تتبع المادّة، والمادّة لغيره، وهب أنه ملك الصورة فكيف يملك المادّة نعم يصح في خمر غصبه مسلم من مسلم فصار خلا في يد الثاني أنه له لأنّه ملكه باليد لعدم تملّك الأوّل له.
إذا عرفت هذا فنقول استدلّ معظم الفقهاء بالآية على توزيع الدّية على هذه الحالات فأوجبوا في النطفة بعد استقرارها في الرّحم عشرين دينارا لأنّ فيها عشرة قبل وقوعها فيه، بدليل أنّه لو أفزع مجامعا فعزل ضمن المفزع عشرة وكذا لو عزل الزّوج من حرّة بعقد الدوام كان عليه عشرة دنانير فيستفيد بالوقوع في الرّحم حالة أخرى زائدة، فلها دية. وأوجبوا في العلقة أربعين وفي المضغة ستّين وفي العظم ثمانين وإذا اكتسى اللّحم ولم تلجه الرّوح مائة، وإذا ولجته الرّوح الدية الكاملة للذكر ونصفها للأنثى فان لم يعلم فنصف الدّيتين، وقيل بالقرعة.
إذا عرفت هذا فهنا فوائد:(2/374)
إذا عرفت هذا فنقول استدلّ معظم الفقهاء بالآية على توزيع الدّية على هذه الحالات فأوجبوا في النطفة بعد استقرارها في الرّحم عشرين دينارا لأنّ فيها عشرة قبل وقوعها فيه، بدليل أنّه لو أفزع مجامعا فعزل ضمن المفزع عشرة وكذا لو عزل الزّوج من حرّة بعقد الدوام كان عليه عشرة دنانير فيستفيد بالوقوع في الرّحم حالة أخرى زائدة، فلها دية. وأوجبوا في العلقة أربعين وفي المضغة ستّين وفي العظم ثمانين وإذا اكتسى اللّحم ولم تلجه الرّوح مائة، وإذا ولجته الرّوح الدية الكاملة للذكر ونصفها للأنثى فان لم يعلم فنصف الدّيتين، وقيل بالقرعة.
إذا عرفت هذا فهنا فوائد:
1 - قيل بين كلّ حالة سابقه وما بعدها عشرون يوما، ولا ينافي ذلك الإتيان بالفاء لما قلناه من التعقيب الاستعداديّ فيكون لكلّ يوم دينار، فإذا لبثت النطفة عشرين يوما كان فيها عشرون دينارا وفي أحد وعشرين يوما أحد وعشرون دينارا وفي ثلاثين يوما ثلاثون دينارا وعلى هذا، وهو مشهور، لكن لا يعلم مستنده، نعم روى الشيخ في التهذيب عن يونس الشيبانيّ قال قلت للصادق عليه السّلام فإذا خرج من النطفة قطرة دم، قال القطرة غير النطفة، فيها اثنان وعشرون دينارا، قال قلت فان قطرت قطرتين؟ قال: أربعة وعشرون دينارا، قلت: فان قطرت ثلاثا قال ستّة وعشرون قلت فأربع قال ثمانية وعشرون دينارا وفي خمس ثلاثون دينارا وما زاد على النصف فعلى حساب ذلك حتى يصير علقة، فإذا صار علقة ففيها أربعون وفي طريقها صالح بن عقبة وهو كذّاب غال له مناكير.
2 - قال بعض فقهائنا في الجنين قبل أن تلجه الرّوح غرّة عبد أو أمة، وقدّر ابن الجنيد قيمة الغرّة بنصف عشر الدّية.
3 - روي أنّ الصحابة اختلفوا في الموؤدة ما هي؟ وهل الاعتزال وأد؟ وهل إسقاط المرأة جنينها عمدا وأد؟ فقال عليّ عليه السّلام إنّها لا تكون موؤده حتى يأتي عليه التارات السّبع، فقال له عمر صدقت أطال الله بقاءك، وأراد عليه السّلام طبقات الخلق السبع المبنيّة في الآية المذكورة فأشار عليه السّلام إلى أنّه إذا استهلّ بعد الولادة ثمّ دفن فهو وأد فلا يكون الحامل المسقط قد وأدت.(2/375)
كتاب القضاء والشهادات
(1)
وفيه آيات:
الاولى {يََا دََاوُدُ إِنََّا جَعَلْنََاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النََّاسِ بِالْحَقِّ وَلََا تَتَّبِعِ الْهَوى ََ} (2).
الخليفة يراد بها عرفا لمعنيين إمّا كونه خلقا لمن كان قبله من الرسل أو كونه مدبّرا للأمور من قبل غيره وقد دلّت الآية على أمور:
1 - مشروعيّة القضاء والحكم وقد تقدّم أقسام الولاية في باب المكاسب.
2 - وجوب الحكم بالحقّ أي بما هو مطابق لما في نفس الأمر بحسب ما يقود إليه الدليل أو الأمارة.
3 - أنه لا ينبغي اتّباع الهوى أي الميل بمجرّد الحظّ النفساني، ويدخل في ذلك وجوب الانصاف والإنصات والتسوية بين الخصوم في السلام والكلام وأنواع الإكرام أمّا الميل القلبيّ إلى أحدهما مع الحكم بالحقّ فذاك مكروه.
الثانية {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ وَلََا تَتَّبِعْ أَهْوََاءَهُمْ} (3).
دلّت هذه على ما دلّت عليه السابقة.
الثالثة
فَلََا وَرَبِّكَ لََا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فيمََا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
{فَلََا وَرَبِّكَ لََا يُؤْمِنُونَ حَتََّى يُحَكِّمُوكَ فِيمََا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لََا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمََّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (4).
__________
(1) في نص: كتاب أدب القضاء.
(2) ص: 26.
(3) المائدة: 49.
(4) النساء: 65.(2/376)
كما وجب على الحاكم الحكم بالحقّ، كذلك يجب على المحكوم عليه الانقياد والإذعان وأكّد ذلك بالقسم المتبوع بعدم أيمانهم، إن لم يحكّموا وينقادوا للحقّ ظاهرا وباطنا، قوله {«فِيمََا شَجَرَ بَيْنَهُمْ»} أي اختلف، يقال تشاجر القوم إذا اختلفوا والحرج الضيق، وقيل الشك لأنّ الشاكّ في ضيق من أمره والتسليم الانقياد.
الرابعة
وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمََا انْزَلَ اللهُ فَأُولِئكَ هُمُ الْكََافِرُونَ
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْكََافِرُونَ}. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ}. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْفََاسِقُونَ} (1).
قيل هذه الثلاث حيث وردت في حكاية ما أنزل الله على أهل الكتاب فهي مختصّة بهم، وليس بشيء، بل هو عامّ في كلّ ملة لأنّ خصوص السّبب لا يخصّص ثمّ الحاكم بغير ما أنزل الله إن كان مع اعتقاده لذلك الحكم فهو كافر، وإن كان لا مع اعتقاده فهو ظالم أو فاسق.
الخامسة {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا وَإِذََا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النََّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (2).
تقدم ذكر صدرها وأمّا عجزها فيدل على وجوب العدل في الحكم بين الناس صريحا.
السادسة {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ بِمََا أَرََاكَ اللََّهُ وَلََا تَكُنْ لِلْخََائِنِينَ خَصِيماً} (3).
__________
(1) المائدة: 44و 45و 47.
(2) النساء: 58.
(3) النساء: 105.(2/377)
الانزال هو نقل الشيء من مكان عال أو رتبة عالية إلى ما دونهما، والكتاب القرآن، وبالحقّ أي بالسبب الحقّ أو متلبّسا بالحقّ وقد دلّت على أمرين:
1 - خطابه صلّى الله عليه وآله بأن يحكم بما أراده الله أي أعلمه بالوحي، وليس من الرؤية بمعنى العلم، وإلّا لاستدعى ثلاثة مفاعيل، وفيه دلالة على أنّه لا يجوز الحكم بغير علم.
2 - خطابه صلّى الله عليه وآله بأن لا يجادل أي لا يخاصم لأجل الخائنين، بحيث يذبّ عنهم خصومهم البريئين، وفيه دلالة على عدم جواز المجادلة عن أحد الخصمين، وعدم جواز تلقينه ما يستظهر به على خصمه.
السابعة {فَإِنْ جََاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (1).
دلّت على أنّه إذا تحاكم أهل الذمة إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله أو إلى من يقوم مقامه من الأئمّة عليهم السّلام أو الفقهاء تخيّر الحاكم بين أن يحكم بينهم بمذهب الإسلام وبين أن يردّهم إلى حكّامهم، قيل: إنّ هذا التخيير منسوخ بقوله {«أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ»} وهو مرويّ عن مجاهد وابن عبّاس، وقال ما نسخ من المائدة سوى هذه وسوى قوله {«لََا تُحِلُّوا شَعََائِرَ اللََّهِ»} نسخها قوله {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ»}.
وقيل: ليس بمنسوخ بل الأمر بالعكس، والتخيير باق، وهو مذهب أصحابنا لكنّه ليس على إطلاقه بل إذا كان الخصمان من ملّة واحدة، أمّا إذا كان أحدهما مسلما فلا يجوز للحاكم رد الحكم فيه إلى أهل الذمّة قطعا ولو كانا متغايرين في الملّة كاليهوديّ والنصرانيّ يحتمل الرد إلى الناسخ والأقوى تحتّم الحكم بينهما بمذهب الإسلام، لأنّ ردّهما إلى أحد الملّتين موجب لإثارة الفتنة.
الثامنة
وَدََاوُدَ وَسُلَيْمََانَ اذْ يَحْكُمََانِ فِي الْحَرْثِ
__________
(1) المائدة: 42.(2/378)
{وَدََاوُدَ وَسُلَيْمََانَ إِذْ يَحْكُمََانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنََّا لِحُكْمِهِمْ شََاهِدِينَ. فَفَهَّمْنََاهََا سُلَيْمََانَ وَكُلًّا آتَيْنََا حُكْماً وَعِلْماً} (1).
قيل الحرث الزّرع وقيل الكرم وقد تدلّت عما قيده، والنفش الرعي ليلا والهمل يكون ليلا ونهارا، حكم داود عليه السّلام بأن يسلّم الغنم إلى صاحب الحرث عوضا عمّا أفسدته، ونظيره حكم أبي حنيفة في العبد الجاني يسلّم إلى المجنيّ عليه فقال سليمان عليه السّلام وهو ابن أحد عشر سنة: يا نبيّ الله غير هذا أوفق لهما فعزم داود عليه ليحكمنّ بينهما فقال أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث لينتفع بألبانها وأولادها وأصوافها، والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم بإصلاحه حتّى يعود كما كان ثمّ يترادّان، فقال: القضاء ما قضيت، ونظيره قول الشافعيّ يغرم الأجرة للحيلولة للعبد المغصوب، وحكم الحرث المذكور في شرعنا ضمان صاحب الغنم قيمة التالف إن فرّط في حفظها، وإلّا فلا، وقال الشافعيّ يجب ضمان ما تلف ليلا إذ المعتاد وجوب ضبط الدّوابّ ليلا ولذلك قضى النبيّ صلّى الله عليه وآله لمّا دخلت ناقة البراءة حائطا فأفسدت، فقال على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل الماشية حفظها باللّيل (2)
وهو قول جماعة من أصحابنا وعند أبي حنيفة لا ضمان إلّا أن يكون معها حافظ لقوله صلّى الله عليه وآله: جرح العجماء جبار (3) وهنا سؤالات:
1 - هل كان حكمهما بوحي أو اجتهاد؟ الجواب الحقّ عندنا أنّه بوحي والثاني ناسخ [للإذن الأوّل] وهو قول الجبّائي قيل عليه: الوقت كان واحدا فيكون بداء وهو غير جائز، ومن جوّز على الأنبياء الاجتهاد قال كان الحكمان باجتهاد وبعض فضلائنا جوّز الاجتهاد للنبيّ إذا حضرت الواقعة وفقد الوحي، وكان
__________
(1) الأنبياء: 78.
(2) الدر المنثور: ج 4ص 325في تفسير الآية. وهكذا في سنن ابى داود ج 2 ص 267.
(3) سنن ابى داود ج 2ص 502.(2/379)
تأخير الحكم ضررا، ولا يلزم العمل بالظنّ مع إمكان العلم إذ الفرض عدمه، قلت إنّ الحكم حينئذ ليس بالاجتهاد لدلالة الوحي على نفي الضّرر، فيكون حكما بالنصّ النوعيّ.
2 - ظاهر الكلام أنّ الحكمين صوابان لقوله تعالى {«وَكُلًّا آتَيْنََا حُكْماً وَعِلْماً»} مع أنّ بينهما منافاة، والصواب لا يكون في المتنافيين والجواب المنع من المنافاة، لجواز أن يكون قيمة الغنم بقدر ما فات من الحرث، ولذلك حكم بتسليم الغنم إذ لا يجب عليه الصّبر، فيكون حكمه صوابا. لكن حكم سليمان كان أصوب لأنّه راعى مصلحة الجانبين والصبر وإن لم يكن واجبا لكنّه ندب من قسم التفضّل، فلا منافاة كما لا منافاة بين المصلحة والأصلح والفصيح والأفصح.
قلت فعلى هذا لا يكون الثاني ناسخا للأوّل إذ لا منافاة بين الأوّل والثاني والنسخ شرطه المنافاة بل يكون بيان شرع زائدة وقد تقرّر في الأصول أنّ الزيادة على النصّ ليس نسخا على الأصحّ، وعلى هذا يخرج الجواب عن السؤال الأوّل وعن القول بلزوم البداء.
3 - على قول من قال إنّ حكمهما كان بالاجتهاد، يرد سؤال، إنّه لا يجوز للمجتهد أن يرجع عن اجتهاده لأجل اجتهاد غيره الجواب أنّه رجع لاجتهاد ثان له، وهو جائز اتّفاقا.
واعلم أنّ قوله {«فَفَهَّمْنََاهََا سُلَيْمََانَ»} أي الفتوى أو الحكومة، فيه دلالة على أنّه لم يكن باجتهاد بل بوحي فبطل قول من استدلّ بها على تصويب قول كلّ مجتهد لأنّه مخالف لمدلولها قوله {«لِحُكْمِهِمْ»} أضاف الحكم إلى الحاكمين والمتحاكمين.
التاسعة
وَلََا تَاْكُلُوا امْوََالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبََاطِلِ
{وَلََا تَأْكُلُوا أَمْوََالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبََاطِلِ وَتُدْلُوا بِهََا إِلَى الْحُكََّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوََالِ النََّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1).
دلّت هذا الآية على النّهي عن جملتين:
__________
(1) البقرة: 188.(2/380)
1 - النهي عن أكل أموال الناس بالسبب الباطل. إن قلت إنّه أضاف الأموال إلى المخاطبين، فكيف يكون باطلا، فانّ مال الرّجل حلال له ولا شيء من الحلال بباطل قلت هذا مجاز من باب إطلاق الكلّ على البعض، والمراد لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل كالنهب والسرقة والتزوير وغير ذلك.
2 {«تُدْلُوا بِهََا»} أي لا تدلوا حذف «لا» اعتمادا على العطف، ومعناه لا تعطوا الحكّام أموالكم ليحكموا لكم، وهو مستعار من قولهم أدلى دلوه إذا أرسلها والرشوة ترسل إلى الحكّام. قوله {«لِتَأْكُلُوا»} علّة غائيّة للادلاء قوله {«فَرِيقاً»} أي طائفة {«مِنْ أَمْوََالِ النََّاسِ بِالْإِثْمِ»} أي بالظلم الّذي هو سبب الإثم، {«وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»} الواو للحال أي والحال أنّكم تعلمون أنّها باطلة، وإنّما قيّد الحكم بالعلم، لأنّ التكليف مشروط بالعلم.
روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال لخصمين اختصما عنده: إنّما أنا بشر مثلكم فلعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حقّ أخيه فإنّما أقضي له قطعة من النار (1).
العاشرة
الَمْ تَرَ الَى الَّذينَ يَزْعمونَ انَّهُمْ آمَنُوا بِمََا انْزِلَ الَيْكَ
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمََا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحََاكَمُوا إِلَى الطََّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطََانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلََالًا بَعِيداً} (2).
قيل نزلت في شأن رجل منافق ورجل يهودي كان بينهما خصومة، فطلب المنافق المحاكمة إلى كعب بن الأشرف وطلب اليهودي المحاكمة إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله فنزلت «والطاغوت» هنا من يحكم بالباطل، وسمّي به لفرط طغيانه وقال عليّ عليه السّلام كلّ حاكم يحكم بغير قولنا أهل البيت فهو طاغوت وقرء الآية» (3) وعن أبي بصير
__________
(1) سنن ابى داود ج 2ص 171.
(2) النساء: 60.
(3) المستدرك ج 3ص 171.(2/381)
عن الصادق عليه السّلام أنّه قال يا أبا محمّد إنّه لو كان لك على رجل حق فتدعوه إلى حاكم أهل العدل فيأبى عليك إلّا أن يحاكمك ويرافعك إلى حاكم الجور فإنّه ممّن حاكم إلى الطاغوت، وهو قول الله عزّ وجلّ {«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ»} الآية، وقال وإيّاكم وأن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضائنا فاجعلوه بينكم قاضيا، فانّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه وقال عليه السّلام لما ولّى عليّ عليه السّلام شريحا اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتّى يعرضه عليه، وورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة (1).
الحادية عشرة {وَشَدَدْنََا مُلْكَهُ وَآتَيْنََاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطََابِ} (2).
{«وَشَدَدْنََا مُلْكَهُ»} أي عقدناه عقدا لا يقدر أحد على حلّه، قيل كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم يحرسونه وقيل ألقى الله هيبته في قلوب الناس بسبب أنّ رجلا ادّعى على رجل بدعوى ولم يكن له بها بيّنة فرأى داود عليه السّلام في منامه أن اقتل المدّعى عليه فقال في نفسه إنّه منام، ولم يقتله حتّى أوحى الله إليه في اليقظة وأعلمه داود عليه السّلام فاعترف الرّجل أنّه قتل أبا المدّعي وهو سبب هيبته، فاشتدّ ملكه بذلك وإذا أراد الله أمرا هيّا سببه، ولعليّ عليه السّلام أحكام كثيرة تضاهي أحكام داود عليه السّلام بل أعظم، وصورها في المطوّلات من كتب الأحاديث، وفي أحكام داود وعليّ عليهما السّلام دلالة على جواز حكم الحاكم بعلمه وإن لم يقم بيّنة.
قوله {«وَآتَيْنََاهُ الْحِكْمَةَ»} هي الزبور، وقيل كلّ كلام وافق الحقّ، وامّا {«فَصْلَ الْخِطََابِ»} فقيل هو الكلام الفاصل بين الحقّ والباطل، والصحيح والفاسد في الحكومات وغيرها، وقيل هو الفصل في الكلام في موضعه والوصل في موضعه ونقل الزمخشريّ عن عليّ عليه السّلام هو قوله عليه السّلام البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى
__________
(1) ترى روايات الباب في الكافي ج 7ص 406و 412وهكذا تفسير العياشي ج 1ص 254.
(2) ص: 10.(2/382)
عليه وذلك لأنّه فاصل بين المدّعيين، وأوّل من اوتي هذا الحكم داود عليه السّلام.
وقد ذكر المعاصر والراوندي في هذه القصّة أشياء لا تعلّق لها بالفقه، أعرضنا عنها، نعم ذكرنا في كتابنا المسمّى باللّوامع في علم الكلام قصّة داود عليه السّلام على وجه مستوفى فليطالع ثمّة، ومن جملة ما فيها أنّ موضع الخطيئة منه عليه السلام قيل هو قوله {«لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤََالِ نَعْجَتِكَ إِلى ََ نِعََاجِهِ»} فإنّه وصفه بالظلم قبل التفحّص عن حاله فعوتب عليه، وعلى هذا ينبغي للحاكم التثبّت في الحكم، وأن لا يسارع إلى التخطئة والتصويب، إلّا بعد الاستكشاف.
الثانية عشرة
وَإِذََا دُعُوا الَى اللََّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ
{وَإِذََا دُعُوا إِلَى اللََّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذََا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} (1).
قيل نزلت في بشر المنافق واليهودي اللّذين تقدّم ذكرهما وقيل كانت المنازعة بين عليّ عليه السّلام والمغيرة بن وائل في أرض وبناء وأبى المغيرة المحاكمة عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وقال إنّه يبغضني وأخاف أن يحيف عليّ وقال البلخي أنّ المنازعة كانت بين عليّ عليه السّلام وعثمان في أرض اشتراها عثمان منه فخرج فيها أحجار وأراد عثمان ردّها بالعيب وأبى علي عليه السّلام وقال بيني وبينك رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال الحكم بن أبي العاص: إن حاكمته إلى ابن عمّه حكم له، فلا تحاكمه فنزلت.
قوله {«وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ»} ومعناه أنّ هؤلاء المنافقين إذا دعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وعلموا أنّ الحقّ معهم، ينقادون إلى المجيء، وإن علموا أنّهم مبطلون لا يأتونه، لعلمهم أنّه لا يحكم إلّا بالحقّ، وفي الآية توبيخ ونعي على من لا يجيب إلى الحكم بالحقّ، ويأبى عنه، وأما قصّة الأرض والحجارة فانّ الحقّ كان مع عليّ عليه السّلام لأنّ الحجارة إذا كانت مخلوقة ولا ضرر على المشتري فلا خيار له.
__________
(1) النور: 48.(2/383)
الثالثة عشرة
يََا ايهَا الَّذينَ آمَنُوا انْ جََائَكُمْ فََاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جََاءَكُمْ فََاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهََالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ََ مََا فَعَلْتُمْ نََادِمِينَ} (1).
قرئ «فتبيّنوا» أي تفحصوا وقرئ فتثبّتوا أي تثبّتوا إلى أن يتبيّن لكم الحال والفسق لغة الخروج عن الشيء وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من بيتها واصطلاحا الخروج عن طاعة اللََّه تعالى مع الايمان به والنّبإ الخبر، فان كان الإخبار عن الغير، فهو شهادة وإلّا فهو إقرار.
قوله {«أَنْ تُصِيبُوا»} أي كراهة أن تصيبوا {«قَوْماً بِجَهََالَةٍ»} أي جاهلين بحالهم إذا عرفت هذا فهنا فوائد:
1 - في الآية دلالة على اشتراط العدالة لأنّها ملزومة لعدم الفسق، وقد عرّفها الفقهاء بأنّها ملكة تبعث على ملازمة التقوى والمروّة، وتزول بمواقعة كبيرة أو إصرار على صغيرة، إذ بواحد من ذينك يدخل في حيّز الفسق، ووجه الدّلالة أنّه تعالى أمر بالتثبّت عند إخبار الفاسق ويلزم منه أن لا يجب التثبّت عند إخبار العدل، أمّا أوّلا فللإجماع، وأمّا ثانيا فلأنّ المشروط عدم عند عدم شرطه وحينئذ نقول إمّا أن تقبل شهادة الفاسق أو لا؟ فان كان الأوّل لزم أن يكون أعظم مرتبة من العدل، وهو باطل وإن كان الثاني فهو المطلوب.
2 - الكبيرة المشار إليها هنا وفي قوله تعالى {«إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبََائِرَ مََا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئََاتِكُمْ»} (2) قيل كلّ ذنب رتّب الشارع عليه حدّ أو صرّح بالوعيد فيه، وقيل ما علم حرمته بدليل قاطع وعن النبيّ صلّى اللََّه عليه وآله إنّها سبع: الإشراك باللََّه، وقتل النفس الّتي حرّم اللََّه، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والربا، والفرار من الزّحف، وعقوق الوالدين (3)، وعن ابن عبّاس هي إلى سبعمائة أقرب منها
__________
(1) الحجرات: 6.
(2) النساء: 31.
(3) الكافي ج 2ص 276، باب الكبائر.(2/384)
إلى سبع، وقال بعض أصحابنا الذنوب كلّها كبائر، وإنّما صغر الذنب وكبره بالإضافة إلى ما فوقه وما تحته، فأكبر الكبائر الشرك باللََّه، وأصغر الصّغائر حديث النفس وبينهما وسائط يصدق عليها الأمران، فالقبلة بالنسبة إلى الزّنا صغيرة وبالنسبة إلى النظر كبيرة، فمعنى التكفير في الآية أنّ المكلّف متى عن له أمران منها ودعته نفسه إليهما بحيث لا يتمالك إلّا أن يكفها عن الأكبر منهما يكفّر عنه ما ارتكب لا للاحباط بل بما استحقّ من الثواب على اجتناب الأكبر.
3 - الإصرار على الصّغيرة إمّا فعلي وهو المداومة على نوع واحد منها بلا توبة، أو الإكثار من جنس الصّغائر بلا توبة، وإمّا حكميّ وهو العزم على فعل تلك الصّغيرة بعد الفراغ منها أمّا من فعل صغيرة ولم يخطر بباله بعدها توبة ولا عزم على فعلها فالظاهر أنه غير مصرّ، ولعلّه مما يكفّره الأعمال الصالحة كما تقدّم توجيهه.
4 - المروّة المشار إليها فيما تقدّم هي تنزيه النفس عن الدناءة الّتي لا يليق بأمثاله كالسخرية والمزاح الكثير، وكشف العورة الّتي يتأكّد استحباب سترها في الصّلاة والأكل في الأسواق غالبا، ولبس الفقيه لباس الجنديّ بحيث يسخر منه وبالعكس، وبالجملة المباحات الّتي يستخفّ بفاعلها، وليس من ذلك الصنائع الدّنيّة كالكنس والحجامة والحياكة وإن استغنى عنها.
الرابعة عشرة
يََا ايُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوََّامينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ للََّهِ وَلَوْ عَلى ََ انْفُسِكُمْ
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوََّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدََاءَ لِلََّهِ وَلَوْ عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوََالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللََّهُ أَوْلى ََ بِهِمََا فَلََا تَتَّبِعُوا الْهَوى ََ أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (1).
يريد كونوا مواظبين على العدل مجتهدين في إقامته {«شُهَدََاءَ لِلََّهِ»} أي تقيمون الشهادة لوجه اللََّه وهو خبر كان أو حال {«وَلَوْ عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ»} أي ولو كان ذلك بإقراركم
__________
(1) النساء: 135.(2/385)
على أنفسكم (1) لأنّ الشهادة بيان الحقّ سواء كان عليه أو على غيره وسواء كان المشهود له أو عليه غنيّا أو فقيرا فلا تمتنعوا من الشهادة أو لا تجوروا فيها ميلا إلى الغنيّ أو ترحّما على الفقير، فانّ الله هو المتولّي لهما، والعارف بمصالحهما، وتثنية الضّمير في {«بِهِمََا»} لرجوعه إلى ما دلّ عليه المذكور، وهو جنسا الفقير والغنىّ، لا إليه وإلا لوحّد، ويدلّ عليه أنّه قرئ شاذّا {«فَاللََّهُ أَوْلى ََ بِهِمََا»}.
قوله {«أَنْ تَعْدِلُوا»} أي لأن تعدلوا عن الحقّ، أو كراهة أن تعدلوا، قوله {«وَإِنْ تَلْوُوا»} ألسنتكم عن شهادة الحقّ أو حكومة العدل {«أَوْ تُعْرِضُوا»} عن أدائها {«فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيراً»} فيجازيكم عليه وفيه نوع تهديد ومبالغة.
إذا عرفت هذا فقد دلّت الآية على أمور:
1 - وجوب إقامة العدل في الحكومات مطلقا على نفسه أو على غيره.
2 - وجوب إقرار الإنسان على نفسه بحقّ يكون ثابتا في ذمّته.
3 - وجوب إقامة الشّهادة على الوالدين، وهو مذهب المرتضى (2) وابن
__________
(1) وذلك لان الدعوة والشهادة والإقرار يشترك جميعها في الاخبار عن حق لأحد على أحد، غير أن الدعوى اخبار عن حق لنفسه على الغير والإقرار للغير على نفسه، والشهادة للغير على الغير.
(2) نسبه اليه ابن إدريس في السرائر، ولكن تردد صاحب الجواهر وغيره في صحة النسبة، قالوا لان عبارته في الانتصار غير ظاهرة في ذلك، ونقل عنه في الموصليات انه ادعى الإجماع على عدم القبول وعبارته في الانتصار كذلك:
«ومما انفردت به الإمامية القول بجواز شهادة ذوي الأرحام والقرابات بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا من غير استثناء لأحد، إلا ما يذهب اليه بعض أصحابنا معتمدا على خبر يروونه من أنه لا يجوز شهادة الولد على الوالد، وان جازت شهادته له».
قلت عبارته كما سمعتها وان لم تكن صريحة الا أنها ظاهرة فيما نسبه ابن إدريس وغيره اليه ثم انها تشعر بكونه مختار عدة من الأصحاب أيضا فتوهن الإجماعات المنقولة على عدم القبول.(2/386)
الجنيد (1) ويدل عليه أيضا رواية داود بن الحصين (2) وغيره (3) وقال الشيخ وأكثر الأصحاب (4) لا يقبل شهادة الولد على والده، لاستلزام ذلك تكذيب والده، وهو
__________
(1) نسبته الى ابن الجنيد مشهورة لكن في المسالك: وكثير من المتقدمين كابن الجنيد وابن ابى عقيل لم يتعرضوا للحكم بنفي ولا إثبات، وفي المختلف ص 68كتاب القضاء: ولم أقف لابن الجنيد ولا لابن ابى عقيل على شيء من ذلك بالنصوصية.
وعلى كل فلو ترددوا في النسبة إلى السيد والإسكافي، فلا ترديد في عبارة الدروس وانه اختار القبول كعدة ممن تأخر عنه كالكفاية والمفاتيح وشرحه والمسالك وشرح الإرشاد وعدة ممن تقدم عليه أيضا كما هو ظاهر التحرير حيث نسب القول بالمنع إلى الأشهر.
بل قد عرفت من ظاهر كلام السيد انه اختيار عدة من الأصحاب أيضا، وعلى اى فعبارة الدروس على ما حكاه في الجواهر هكذا:
عاشرها انتفاء توهم العقوق فلو شهد الولد على والده ردت عند الأكثر، ونقل الشيخ الإجماع والآية وخبر داود بن الحصين وعلى بن سويد يعطى القبول واختاره المرتضى وهو قوى، والإجماع حجة على من عرفه، وفي حكمه الجد وان علا على الأقرب.
(2) راجع الوافي الجزء التاسع ص 152، الباب 139من كتاب القضاء.
(3) كرواية على بن سويد السائي نسبة الى ساية من قرى المدينة ومثلها رواية إسماعيل بن مهران كما في الوافي نقلا عن الكافي والتهذيب والفقيه، راجع الكافي ج 7 ص 381.
(4) ونقل في الجواهر عن موصليات المرتضى والخلاف والغنية والسرائر الإجماع عليه، وقد عرفت حال الإجماع قبيل ذلك وليس هناك رواية تدل على عدم القبول، سوى ما في الفقيه ص 396ط طهران وفي خبر آخر انه «لا تقبل شهادة الولد على والده» ومثله في النهاية.
وفي الخلاف ج 2ص 623 «دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم فإنهم لا يختلفون فيه» وقد سمعت من عبارة السيد في الانتصار «الا ما يذهب اليه بعض أصحابنا معتمدا على خبر يروونه» ولا يخفى عليك ما في التمسك بالخبر المرسل بهذا الحد من الإرسال وتخصيص الكتاب بمثل ذلك الخبر.(2/387)
عقوق (1) يمنع قبول الشهادة، ووجوب الإقامة الّذي هو مدلول الآية لا يستلزم القبول (2) لأنّ الإقامة صدوع بالحقّ وهو أعمّ من القبول وعدمه، وهل حكم الجدّ للأب (3) حكمه؟ الأقرب ذلك أمّا الأم (4) فيقبل شهادة الولد عليها ولها وكذا للأب
__________
(1) هذا الاستدلال للعلامة في المختلف ج 2ص 168، واستدل أيضا بقوله تعالى {«وَصََاحِبْهُمََا فِي الدُّنْيََا مَعْرُوفاً»} قال وليس من المعروف الشهادة عليه والرد لقوله وإظهار تكذيبه فيكون ارتكاب ذلك عقوقا مانعا عن الشهادة.
قال في المسالك ولا يخفى عليك ضعف هذه الحجة، فإن قول الحق ورده عن الباطل وتخليص ذمته من الحق عين المعروف كما ينبه عليه قوله «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» فقيل يا رسول اللََّه كيف نصره ظالما؟ قال: رده عن ظلمه فذلك نصرك إياه، ولأن إطلاق النهي عن عصيان الوالد يستلزم وجوب طاعته عند أمره بارتكاب الفواحش وترك الواجبات وهو معلوم البطلان وأضاف في قلائد الدرر ج 3ص 444ط النجف قوله لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وعموم لزوم إنكار المنكر.
وعندي أنه ينتقض أيضا بالشهادة على الأم فإنها مقبولة كما سيصرح المصنف به عن قريب.
(2) واستشكل في المسالك على هذا التقرير بلزوم العبث في إقامتها، وبأنه معطوف على المقبول وهو الشهادة على نفسه، ومعطوف عليه المقبول وهو الشهادة على الأقربين فلو كان غير مقبول لزم عدم انتظام الكلام.
وقال في المستند ج 2ص 655لزوم العبث ممنوع لانه يمكن أن يصير جزءا لعدد الاستفاضة العلمية، أو قرينة لإفادة العلم فيما إذا حصلت أمور أخر، وقال في جواب عدم انتظام الكلام انه لا يلزم تطابق المعطوف والمعطوف عليه في جميع الأحوال والأوصاف الا ترى انه يقبل الشهادة على النفس مطلقا، ولا كذلك الشهادة على الوالدين والأقربين فيشترط فيهما العدالة وضم عدل آخر أو اليمين.
(3) وهو المتراءى من عبارة الدروس التي نقلناها قبيل ذلك، وفي الكفاية:
والأقرب انه لا يستحب حكم المنع فيمن علا من الإباء، ونزل من الأبناء.
(4) قد عرفت أن المستند لرد الشهادة على الأب لو كان هو العقوق لشمل الشهادة على الأم أيضا.(2/388)
ويقبل أيضا شهادة الأب للولد وعليه، لعموم أدلّة وجوب الإقامة (1) ووجوب القبول من غير معارض.
4 - وجوب الإقامة على الأقارب كلّهم وكذا لهم، من غير فرق بينهم، وخالف الفقهاء في ذلك (2) لما فيه من التهمة المانعة من القبول، ولأنّ الولد بعض الوالد
__________
(1) اتفقت الإمامية على قبول شهادة الوالد لولده وعليه، ومن الولد لوالده والأخ لأخيه بل الزوج لامرءته والزوجة لزوجها وقيد الشيخ في النهاية وكذا ابن البراج وابن حمزة على ما في المختلف ص 168كتاب القضاء بما إذا كان معه غيره من أهل الشهادة وقال ابن إدريس والمفيد وأبو الصلاح بالإطلاق وكذا الشيخ في الخلاف والمبسوط.
وعلى اى فالدليل على الحكم العمومات وخصوص المستفيضة كالصحاح للحلبي وعمار بن مروان والموثقين لسماعة ورواية السكوني، ففي الوافي الجزء 9ص 147عن الكافي والتهذيب عن الحلبي عن ابى عبد اللََّه عليه السلام قال: تجوز شهادة الرجل لامرءته والمرأة لزوجها إذا كان معها غيرها وتجوز شهادة الولد لوالده والوالد لولده والأخ لأخيه.
وعن الكافي والتهذيب والفقيه عن عمار بن مروان قال: سألت أبا عبد اللََّه عليه السّلام أو قال سأله بعض أصحابنا عن الرجل يشهد لامرءته؟ قال: إذا كان خيرا جازت شهادته، وعن الرجل يشهد لأبيه أو الأب يشهد لابنه أو الأخ لأخيه قال: لا بأس بذلك إذا كان خيرا جازت شهادته لأبيه، والأب لابنه والأخ لأخيه.
وعن الكافي والتهذيب عن سماعة عن ابى بصير قال سألت أبا عبد اللََّه عليه السّلام عن شهادة الوالد لولده، والولد لوالده والأخ لأخيه فقال: تجوز.
وعن التهذيب عن سماعة قال سألته عن شهادة الوالد لولده، والولد لوالده والأخ لأخيه قال: نعم، وعن شهادة الرجل لامرءته قال: نعم، والمرأة لزوجها قال: لا، الا أن يكون معها غيرها.
وعن التهذيب عن السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام ان شهادة الأخ لأخيه تجوز إذا كان مرضيا ومعه شاهد آخر.
(2) وخلاصة الكلام ملخصا من الخلاف ج 2ص 623، والانتصار المطبوع مع الجوامع الفقهية وبداية المجتهد ج 2ص 452و 453والمغني لابن قدامة ج 9 ص 194191ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة المطبوع بحاشية الميزان للشعراني ج 2ص 214، ونيل الأوطار ج 8ص 303، والبحر الزاخر ج 5ص 35و 36، والام للشافعي ج 7ص 46والمحلى لابن حزم ج 9ص 510506، والاحكام في أصول الأحكام له أيضا ص 755واعلام الموقعين لابن القيم الحوزية ج 1ص 118111، وأحكام القرآن لابن العربي ص 255و 508505، وأحكام القرآن للجصاص ج 1ص 607605، وشرح فتح القدير لابن الهمام الحنفي ج 6ص 3331.
ان هنا مسائل أربع الأولى شهادة الوالد لولده والولد لوالده فأجازه عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وابن حزم، بل جميع الظاهرية وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وإياس بن معاوية وعثمان البتي والمزني وأبو سليمان وأبو ثور على رواية والأوزاعي على رواية وإسحاق بن راهويه وعن الشافعي روايتان والمشهور منه المنع وهو المذكور في الأم ج 7ص 46.
وعن أحمد أربع روايات أحدها المنع والثانية تقبل شهادة الأب له، لان مال الابن في حكم مال الأب، وروى ذلك عن الحسن والشعبي وابن ابى ليلى وسفيان الثوري أيضا والثالثة تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه ما لم تجر اليه نفعا وهي إحدى الروايتين عن الحسن والشعبي والرابعة لا تقبل من الأب للابن، ولا من الابن للأب، ولكن تقبل من الجد وله، ونسب هذا القول إلى الأوزاعي والثوري وابى عبيد وعن شريح روايتان أشهرهما الجواز.
ومنعه أبو حنيفة ومالك وقالا: لا تقبل شهادة الوالدين للولدين ولا شهادة الولدين للوالدين، الذكور والإناث، بعدوا أو قربوا، ونسب هذا القول الى الحسن والشعبي أيضا والى شريح والثوري وابى ثور وإسحاق وابى عبيد وزيد بن على والامام يحيى وروى عن الزهري انه قال: لم يكن يتهم سلف المسلمين الصالح شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده ولا الأخ لأخيه، ولا الزوج لامرءته، ثم دخل الناس بعد ذلك فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم فتركت شهادة من يتهم إذا كان من قرابة وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة لم يتهم هؤلاء إلا في آخر الزمان.
وهذه الرواية كما ترى شهادة من الزهري بإجماع الصحابة على الجواز.
المسئلة الثانية: شهادة الأخ لأخيه فأجمع أهل العلم الا مالكا على جوازها، وقال مالك لا تجوز شهادة الأخ لأخيه في النسب، وتجوز في الحقوق، ونقل عنه أنه قال لا تجوز شهادة الأخ لأخيه إذا كان منقطعا إليه في صلته وبره، لانه متهم في حقه وحكى عن ابن المنذر عن الثوري انه قال: لا تقبل شهادة كل ذي رحم محرم، وحكاه في بداية المجتهد، والبحر الزاخر عن الأوزاعي أيضا.
المسئلة الثالثة: شهادة أحد الزوجين للآخر فمنعها مالك وأشهر الروايتين عن أحمد وعنه رواية بالجواز، وأجازها الشافعي وأبو ثور والحسن وعن الشافعي أيضا رواية على عدم الجواز والمشهور منه الأول وهو الموجود في الأم.
وقال ابن ابى ليلى: تقبل شهادة الزوج لزوجته، ولا تقبل شهادتها له، وبه قال النخعي، وحكاه ابن حزم عن سفيان الثوري، قالوا: لان لها حقا في ماله لوجوب نفقته وتقبل شهادة الزوج لعدم التهمة.
المسئلة الرابعة شهادة أحد الصديقين للآخر، إذا كان بينهما مهاداة، وأنها تقبل في قول عامة أهل العلم الا مالكا فقال: لا تقبل شهادة الصديق الملاطف لانه يجر الى نفسه بها نفعا فهو متهم.
وعلى اى حال فعمدة مستندهم للمنع في المسائل الأربع حصول التهمة وهذه التهمة انما أعملها الشرع في الفاسق ومنع إعمالها في العادل، ولا تجتمع العدالة مع التهمة، ولذلك ترى في أحاديث الشيعة عند سرد الامام «الظنين والخصم والمتهم» في من يرد شهادته يسأله الراوي عن الفاسق والخائن فيجيبه الإمام بأن كل هذا يدخل في الظنين راجع الوافي الباب 134ج 9ص 147.
وقد روى في الموطإ عن عمر: لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين، انظر الرقم 1464 في ج 3ص 388من شرح الزرقانى على الموطإ، وقد عرفت ان عمر بن الخطاب كان يرى قبول شهادة الأقرباء، فليس ذلك إلا لأن شهادة القريب مع عدالته ليس من شهادة الظنين عنده.
ولهم حديث آخر تراه في الترمذي ج 2ص 53طبع دهلي عن قتيبة عن مروان بن معاوية الغزاري عن يزيد بن زياد الدمشقي عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا مجلودة ولا ذي غمر على أخيه ولا مجرب شهادة ولا القانع أهل البيت لهم، ولا ظنين في ولاء ولا قرابة.
قال الفزاري: القانع: التابع، وتراه في عدة من الكتب الفقهية لهم بألفاظ مختلفة قريبة المضمون، كلها عن يزيد بن ابى زياد عن الزهري.
قال السيد قدس سره في الانتصار: ان الساجي قد قال في هذا الخبر انه رواية غير ثابتة عند أهل النقل، وراوي هذا الخبر عن الزهري يزيد بن ابى زياد وحكى أن شعبة قال: ان يزيد كان رفاعا اى يرفع إلى النبي صلّى اللََّه عليه وآله ما لا أصل له، وضعف هذا الحديث من وجوه معروفة.
قلت وضعفه الترمذي نفسه أيضا عند إخراجه وبالغ ائمة الرجال في التشنيع على يزيد بن [ابى] زياد، راجع ميزان الاعتدال ج 4ص 425، الرقم 9696، والتاريخ الكبير للبخاري القسم الثاني من المجلد الرابع ص 334، الرقم 3221، والجرح والتعديل لابن ابى حاتم الرازي القسم الثاني من المجلد الرابع ص 262، الرقم 1109.
وذكر ابن حزم بعد ذكر ضعف الحديث أنه لو صح لكانوا أول مخالف لتفريقهم بين الأخ والأب وبين العم وابن الأخ وبين الأب والابن، وكلهم سواء، إذ هم متقاربون في التهمة بالقرابة.
وعلى اى فأكثرهم لا يعتمد على الرواية، ويستندون للحكم بحصول التهمة، وقد عرفت حاله، واستند الشافعي في الأم بحصول البعضية في الأب والابن، وجوابه مضافا الى ما سيذكره المصنف أن هذه البعضية لا توجب أن تكون كبعضه في الاحكام لا في أحكام الدنيا ولا في أحكام الثواب والعقاب، فلا يعاقب أحدهما بذنب الأخر، ولا يثاب بحسناته ولا يجب عليه الزكاة ولا الحج بغني الأخر والاملاك بينهما متميزة، والأيدي متحيزة: كل يد في حيز غير حيز الأخر.
وقد اجمع الناس على صحة بيعه منه وإجارته ومضاربته ومشاركته، فلو امتنعت شهادته له، لكونه جزءه فيكون شاهدا لنفسه كما ذكره الشافعي في الأم لانتفت هذه العقود إذ يكون عاقدا لنفسه.
واستدل من خص المنع بشهادة الأب للابن، بما ورد عن النبي صلّى اللََّه عليه وآله «أنت ومالك لأبيك» قال ابن حزم: فنحن كلنا للََّه وقد أمرنا بالشهادة للََّه، واللام في الحديث ليس للملك قطعا.
واستدل من رد شهادة الزوجين بارث أحدهما من الأخر، فكان جرا للنفع، قلت:
ويلزمهم رد شهادة العصبة، ولا يقولون به.(2/389)
لكونه مخلوقا من نطفته، والوالد مادّة للولد، فهو كالجزء منه، فيكون كل واحد منهما شاهدا لنفسه، وكذا الكلام في الأقارب والحقّ خلاف ذلك أمّا أولا فلنصّ الآية الكريمة، وأمّا ثانيا فلأنّ التهمة مدفوعة بالعدالة، فلا تكون معارضة للأدلة العامّة، وأمّا ثالثا فلأنّ البعضيّة ليست حقيقة بل مجازا، ولكلّ واحد منهما حكم نفسه، ولذلك قد يكون أحدهما حرّا وإن كان الآخر رقّا.(2/390)
الخامسة عشرة
يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوََّامينَ لِلََّهِ شُهَدََاءَ بِالْقِسْطِ ولََا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنآنُ قَوْمٍ عَلى ََ انْ لََا تَعْدِلُوا
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوََّامِينَ لِلََّهِ شُهَدََاءَ بِالْقِسْطِ وَلََا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ََ أَلََّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ} (1).
أمر سبحانه وتعالى بجعل الحركات وكالأفعال كلّها له أي لوجهه، بحيث لا يكون فعل من الأفعال إلّا ويوقع إخلاصا للََّه، وأمر أيضا بإيقاع الشهادة بالعدل إذ به قوام الدّنيا والآخرة، قوله {«وَلََا يَجْرِمَنَّكُمْ»} أي لا يحملنكم بغض قوم على
__________
(1) المائدة: 12.(2/393)
ترك العدل فيهم، وذلك مستلزم للعدل، لكن لمّا كانت دلالة المطابقة أقوى من دلالة الالتزام، أمر بالعدل ثانيا، وقوله {«هُوَ»} أي العدل {«أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ»} أي إليها، وفي ذلك مبالغة عظيمة في العدل حيث جعله أقرب إلى حصول مفهومها.
هذا وفي الآية أيضا تأكيد للأمر بإقامة الشهادة، رعاية لمصالح عباده كما قال وليّ اللََّه أمير المؤمنين عليه السّلام «فرض اللََّه الشهادات استظهارا على المجاحدات» (1)
وقال عليه السّلام إذا كان الغدر طباعا فالثقة إلى كلّ أحد عجز.
ولنقطع الكلام حامدين للََّه على جميل إحسانه شاكرين له على توفيقه وامتنانه
__________
(1) هذه من جملة ما في الرقم 249من باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة، وشرحه ابن ابى الحديد ج 19ص 9086الطبعة الأخيرة ونحن نختم الكلام بذكر تمام بيان الامام، ليكون المسك له الختام قال عليه السّلام:
فرض اللََّه الايمان تطهيرا من الشرك، والصلاة تنزيها عن الكبر، والزكاة تسبيبا للرزق، والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق، والحج تقوية للدين، والجهاد عزا للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للعوام، والنهي عن المنكر ردعا للسفهاء، وصلة الرحم منماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، واقامة الحدود إعظاما للمحارم، وترك شرب الخمر تحصينا للنسب، وترك اللواط تكثيرا للنسل، والشهادات استظهارا على المجاحدات وترك الكذب تشريفا للصدق، والسلام أمانا من المخاوف، والامانة نظاما للأمة، والطاعة تعظيما للإمامة.
هكذا لفظ المختار من الحكم في ص 86ج 19من شرح النهج ط 1383نشر دار احياء الكتب العربية ومثله ص 350ج 4من الطبعة القديمة بمصر لم نغير اللفظ رعاية لحفظ الأمانة في النّقل والّا فالصّحيح من اللّفظ (والإمامة نظاما للأمّة) كما تراه هكذا في ص 568شرح ملّا فتح اللََّه وص 1187شرح الفيض وص 79ج 2شرح ملّا صالح ط 1321وص 610شرح ابن ميثم ط 1286 بل هو مطابق لما شرحه ابن ابى الحديد في ص 90من المجلد المنقول عنه حيث قال:
«وفرضت الإمامة نظاما للأمّة وذلك لانّ الخلق لا ترتفع الهرج والعسف والظلم» «والسرقة عنهم الّا بوازع قوىّ وليس يكفي في امتناعهم قبح القبيح ولا وعيد الآخرة، بل» «لا بدّ لهم من سلطان قاهر ينظم مصالحهم فيردع ظالمهم ويأخذ على أيدي سفهائهم» وهذا الشرح مطابق لكون الجملة (والإمامة نظاما للأمّة).
بل يناسب هذا اللّفظ الجملة بعده «والطّاعة تعظيما للإمامة» فإنّها مناسبتة لكون الجملة قبلها والإمامة نظاما للأمة فحرّفوها في الكتب المطبوعة بمصر وبيروت.
كما انّ الضبط في ص 191من الجزء الرابع من شرح الشيخ محمّد عبده نشر مؤسسة الاعلمى: (والأمانات نظاما للأمة) يقول العبد ابن محمد محمد باقر المدعو بشريف زاده گلپايگانى: قد وقع الفراغ في الرابع عشر من شهر جمادى الأولى سنة 1385هجرية، وانى واللََّه معترف بقصر الباع، وكثرة الزلل، ولكن فضل اللََّه وكرمه لا يعلل بشيء من العلل فأسأله من فضله أن يجعلها في حيز القبول، فإنه كريم يعطى خير مأمول.
والمرجو ممن اطلع عليها ان يدعو لقليل البضاعة بالخير والمباعدة عن كل شر وضير وأن يقيل العثرات ويعفو عن التساهلات. وما توفيقنا الا باللََّه، عليه توكلنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.(2/394)
قائلين ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربّنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الّذين من قبلنا، ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنّا، واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد للََّه ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على أكرم المرسلين وأشرف الأوّلين والآخرين محمّد خاتم النبيين وآله الطيّبين الطاهرين.(2/395)