الإهداء
إلى
أستاذي
الدكتور نهاد الموسى
تقديرا وعرفانا.
خلود(1/1)
تصدير
بقلم أ. د. نهاد الموسى أستاذ العربية واللسانيات العربية في كلية الآداب من الجامعة الأردنية
(1) يحكي الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد أن أبا عبيدة قال: أرسل إليّ الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه سنة ثمان وثمانين ومائة، فقدمت عليه، وكنت أخبر عن تجبّره، فأذن لي فدخلت وهو في مجلس له طويل عريض فيه بساط واحد قد ملأه وفي صدره فرش عالية لا يرتقى إليها إلا على كرسيّ وهو جالس عليها، فسلّمت عليه بالوزارة، فردّ وضحك إليّ واستدناني حتى جلست معه على فرشه، ثم سألني وألطفني وباسطني. وقال: أنشدني، فأنشدته من عيون أشعار أحفظها جاهلية. فقال لي: قد عرفت أكثر هذه، وأريد من ملح الشعر فأنشدته فطرب وضحك وزاد نشاطه. ثم دخل رجل في زيّ الكتّاب له هيئة فأجلسه إلى جانبي، وقال له: أتعرف هذا؟ قال: لا. قال:
هذا أبو عبيدة علّامة أهل البصرة أقدمناه لنستفيد من علمه فدعا له الرجل وقرّظه لفعله هذا. وقال لي: إنّي كنت إليك مشتاقا، وقد كنت سئلت عن مسألة أفتأذن لي أن أعرّفك إياها؟ قلت: هات. قال: قال الله تعالى: {(طَلْعُهََا كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّيََاطِينِ)} وإنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عرف مثله وهذا لم يعرف. فقلت: إنّما كلّم الله العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قطّ، ولكنّه لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل. واعتقدت من ذلك اليوم أن أضع كتابا في القرآن لمثل هذا وأشباهه ولما يحتاج إليه من علمه فلمّا رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته المجاز
(2) قام مجاز القرآن لأبي عبيدة، إذن، على ملحظ منهجي مؤدّاه أن الخطاب القرآني نزل على سنن العرب في كلامها، وهكذا أصبح كلام العرب وسننهم فيه مدخلا إلى = قراءة = النصّ القرآني، وسبيل الناس إلى تلقّي الخطاب الذي أنزله ربّ الناس.(1/3)
(2) قام مجاز القرآن لأبي عبيدة، إذن، على ملحظ منهجي مؤدّاه أن الخطاب القرآني نزل على سنن العرب في كلامها، وهكذا أصبح كلام العرب وسننهم فيه مدخلا إلى = قراءة = النصّ القرآني، وسبيل الناس إلى تلقّي الخطاب الذي أنزله ربّ الناس.
ولم يكن منهج أبي عبيدة في مجاز القرآن بدعا فإنّه يجري فيه على نهج ابن عباس في إجاباته عن سؤالات نافع بن الأزرق.
ولعلّ إنكار الأصمعيّ لعمل أبي عبيدة في المجاز إذ اعتدّه تفسيرا بالرأي إنّما أملته المنافسة بينهما حسب ذلك أن الملحظ المنهجي الذي أقام أبو عبيدة عليه كتابه هو الذي يفسّر لنا كيف كانت العربية بنظمها ونظامها لسان الجاهلية كما كانت العربية نفسها بنظمها ونظامها وسنن العرب في كلامها لسان رسالة الإسلام.
(3) فإذا مضينا مع دلالات هذا الملحظ أيقنّا كيف تكون اللغة في إمكاناتها المركّبة في العقل الإنساني بالفطرة تنبئ عن طبيعة كونيّة إذ تستوعب الجاهلي والإسلاميّ، بل إنّ هذا الملحظ ينسجم وبعض تأويل علماء العربية لقوله تعالى: {(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا)}، حين ذهبوا إلى أنّ مؤدّى ذلك ما ركّب الله في الإنسان من الفطرة التي تمكّنه من إنشاء اللغة على هذا النحو المتجدّد الخلّاق كما انتهى إليه أصحاب النظرية المعرفية العقلية، وذلك شأن الإنسان في قدرته على = برمجة = كلّ لغة ينشأ في محيطها ذلك أن العقل الإنساني مزوّد بهذه القدرة الفطرية المركّبة فيه التي تمكّنه من اكتساب أيّة لغة. ويكون هذا كلّه دليلا على المشترك الإنساني بما تنبئ عنه هذه الفطرة اللغوية، ومسوّغا حاسما للانتقال من القول بكونيّة اللغة إلى القول بعالميّة الرسالة التي حملها الخطاب القرآني.
(4) وكان نزول القرآن بلسان عربيّ مبين هو الذي هيّأ للعربيّة أن تصبح لغة معتمدة، واستتبع ذلك وصفها وتقعيدها. ونشأت علوم العرب في ظلال القرآن أوّل الأمر لتكون
دليلا للعرب وغير العرب إلى تحقيق أدائه أداء سليما وتصحيح قراءته والدلالة على وجود إعجازه.(1/4)
(4) وكان نزول القرآن بلسان عربيّ مبين هو الذي هيّأ للعربيّة أن تصبح لغة معتمدة، واستتبع ذلك وصفها وتقعيدها. ونشأت علوم العرب في ظلال القرآن أوّل الأمر لتكون
دليلا للعرب وغير العرب إلى تحقيق أدائه أداء سليما وتصحيح قراءته والدلالة على وجود إعجازه.
ثم نجمت في ظلاله علوم شتى هي علوم القرآن عند الأوائل. ولم يظفر كتاب في تاريخ الثقافة الإنسانية بمثل ما استلهمه أهل النظر من تقليب البحث على وجوهه في استكناه أبعاد النصّ القرآنيّ. ولست أصادر هنا بشيء على ما جاءت به الدكتورة خلود في هذا السبيل، فقد عرضته عرضا مستفيضا.
(5) وإنما أتوقف هنا، لمحا، إلى ما كان من توقّف الأوائل إلى بيان أسباب النزول وبيان المكّي والمدنيّ إلخ ما أشبه ذلك. وإنما أتوقّف إلى مثل هذا لأنّني أراه يتجاوز لديهم ما يكون من تناول الخطاب القرآني في ذاته إلى ما اكتنف الخطاب من = شروط = خارجيّة.
وهو ملحظ يلتقي مع ما طوّرته مناهج لسانية حادثة في تحليل الخطاب اللساني وخاصّة ما طوّرته = الوظيفيّة = و = البراغماتية = ونظرية = السياق = و = اللسانيات الاجتماعية = من مقولات كليّة تقوم على أن هناك علاقة وثيقة بين الخطاب وشروطه الخارجية في المكان والزمان والإنسان على اختلافها. وهو اختلاف يمثّل إحدى آيات الله مصدر الخطاب القرآني.
وإذن فقد وقف علماء القرآن على ملحظ آخر يتمثّل في التفطّن إلى العلاقة بين الخطاب القرآني وشروط نزوله. ويفضي بنا تأويلنا الأوّل لتمثيل اللسان العربي الخاصّ للكوني اللساني المشترك إلى تأويل مسوّغ تماما لتمثيل ما بين الخطاب القرآني وشرطه العربي الأوّل في تعالقه المنسجم مع المناسبة المباشرة في أسباب النزول وتعالقه المنسجم مع تباين المكان ومنطوياته في المكّي والمدنيّ إلخ، وما بين الخطاب القرآني واستيعابه للشروط الإنسانية للعالمين والناس كافة في كلّ زمان ومكان.
(6) توسّل القدماء إلى قراءة النصّ القرآني بما تهيّأ لهم من أدوات النظر فأصابوا كثيرا من وجوه الكشف عمّا ينطوي عليه الخطاب القرآني. ثم نجم في هذا الزمان جيل من
الباحثين في العربية خاصّة شكّل تيارا عريضا يمثّل امتدادا لجهود الأوائل إذ يقوم منهجهم على المزاوجة بين النظر في الخطاب القرآني تديّنا وابتغاء البركة (أن يكونوا بسبب من النصّ المقدّس وسدانته) واسترفاد مناهج في النظر حادثة توافق بعض ما تفطّن إليه الأوائل وترفده بأنظار إضافية مبصرة. وإنما يستعير هذا الجيل تلك المناهج في مقولاتها الكلية لما يرون من فوائدها وما تنطوي عليه من بصائر تنأى عن التحيّز والأغراض المبيّتة إذ هي تنتسب إلى = العلمي = ذلك أن اللسانيات الحديثة بما فيها لسانيات النصّ ومناهج تحليل الخطاب والوظيفية التي جرّد = الآخر = مقولاتها المنهجية الكلية إنّما جاءت في سياق درس الظاهرة اللغوية والخطاب اللغوي درسا علميّا. وذلك شأن مختلف عمّا كان دعا به الآخر في سياق المدّ الاستعماري الأوروبي إلى كتابة العربية بالحرف اللاتيني واتخاذ العامية بديلا للفصحى وهو حديث آخر مختلف ذو شجون.(1/5)
(6) توسّل القدماء إلى قراءة النصّ القرآني بما تهيّأ لهم من أدوات النظر فأصابوا كثيرا من وجوه الكشف عمّا ينطوي عليه الخطاب القرآني. ثم نجم في هذا الزمان جيل من
الباحثين في العربية خاصّة شكّل تيارا عريضا يمثّل امتدادا لجهود الأوائل إذ يقوم منهجهم على المزاوجة بين النظر في الخطاب القرآني تديّنا وابتغاء البركة (أن يكونوا بسبب من النصّ المقدّس وسدانته) واسترفاد مناهج في النظر حادثة توافق بعض ما تفطّن إليه الأوائل وترفده بأنظار إضافية مبصرة. وإنما يستعير هذا الجيل تلك المناهج في مقولاتها الكلية لما يرون من فوائدها وما تنطوي عليه من بصائر تنأى عن التحيّز والأغراض المبيّتة إذ هي تنتسب إلى = العلمي = ذلك أن اللسانيات الحديثة بما فيها لسانيات النصّ ومناهج تحليل الخطاب والوظيفية التي جرّد = الآخر = مقولاتها المنهجية الكلية إنّما جاءت في سياق درس الظاهرة اللغوية والخطاب اللغوي درسا علميّا. وذلك شأن مختلف عمّا كان دعا به الآخر في سياق المدّ الاستعماري الأوروبي إلى كتابة العربية بالحرف اللاتيني واتخاذ العامية بديلا للفصحى وهو حديث آخر مختلف ذو شجون.
(7) وينطوي كتاب الدكتورة خلود أو ينفتح على عرض لمقولات تحليل الخطاب عند المحدثين، واستقراء مستفيض لقراءات الأوائل للخطاب القرآني، واستثمار مستنير لمقولات الفريقين في تفسير العلاقة بين الخطاب والسياق.
إنّه يتناول سورة البقرة نصّا محفوظا ثابتا، ويستأنف قراءتها بمنظور يزاوج بين أنظار الأوائل ومقولات تحليل الخطاب فيجمع إلى بركة النصّ المقدّس اجتهاد باحثة مخلصة تتحلّى بإشراق العبارة والنفس الطويل. إنه كتاب يمثّل إضافة قيّمة إلى قراءات الأوائل وينتسب إلى أصالتهم المستنيرة إذ يغذوها برافد إضافيّ من أنظار علماء تحليل الخطاب في جرأة حذرة = ترى ما تريد وتتشبث بالثوابت وتصدر عن التزام اعتقادي راسخ = وتتحلى في الوقت نفسه بعقل مستنير ينشد الحكمة ضالّة المؤمن.
وكأن الدكتورة خلود تدفع قالة من قال: لم يترك الأوّل للآخر شيئا وتذهب مع قول الآخر: كم ترك الأوّل للآخر.
نهاد الموسى(1/6)
مقدّمة
حظيت مصطلحات = النصّ = و = السّياق = و = الخطاب = بعناية خاصّة في الدراسات اللّغويّة المعاصرة، خاصّة مع نشوء ما يعرف ب = بعلم النصّ = و = لسانيّات الخطاب =، وحاولت دراسات مختلفة أن تجيب عن سؤال العلاقة بين النصّ والسياق في الخطابات اللّغويّة المختلفة، وأثر الإطار الاجتماعي المحيط بالموقف الكلامي في صياغة الرسالة اللّغوية بكافّة جوانبها. كما درست السياق اللّغوي للنصوص وعلاقته بالسياقات المقاميّة المشكّلة لها، وتجلّى ذلك في سلسلة كبيرة من البحوث أثراها علماء الدرس اللّغوي الحديث بدءا بسوسير ومرورا بفيرث ومالينوفسكي وسابيروفان ديك وغيرهم.
وفد وجدت في المباحث المختلفة التي تدرسها اللّسانيّات الاجتماعيّة ولسانيّات الخطاب ما يمكن أن يشكّل مدخلا مناسبا وجديدا لقراءة الخطاب القرآني. وأساس هذا الاختيار أنّ الخطاب القرآني كلّه يشكّل رسالة لغويّة ناجحة وملائمة في سياق تنزّلها، ممّا جعل منه نصّا يمتلك قدرات تواصليّة فائقة وجدنا آثارها تمتدّ في النفوس قديما وحديثا، ولعلّ حادثة إسلام عمر حين تليت عليه آيات من سورة (طه) يمكن أن تشكّل مثالا واحدا فقط على هذه الوظيفة التواصليّة للنصّ القرآني. = تنزيل = من الرحمن الرحيم. كتاب فصّلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون =. وأمّا لماذا سورة (البقرة)؟ فذلك لأنّ خطابها متعلّق بمرحلة هامّة من مراحل الدعوة الإسلاميّة، وهي مرحلة ما بعد الهجرة وما رافقها من إنشاء دولة الإسلام الأولى، وارتباطها بمعطيات اجتماعيّة وثقافيّة واضحة، صحبتها مجموعة متغيرات على أكثر من صعيد، نستطيع أن نلمح معالمها داخل النصّ القرآني نفسه.
وتقع هذه الدراسة في مقدّمة وثلاثة فصول وخاتمة وأمّا الفصل الأول وعنوانه = في الإطار النظري للدراسة: في حدّ المصطلح، في حدود النظريّة = فقد اشتمل على أربعة مباحث خصّص المبحث الأوّل منها لتحديد المصطلحات الثلاثة التي تقوم على تفاعلها
معا هذه الدراسة وهي: مصطلحات = النصّ = و = السّياق = و = الخطاب = من خلال الأنظار المختلفة قديما وحديثا، واستعرض المبحث الثاني وعنوانه = نظريّة العلاقة بين النصّ والسّياق في المساهمات الغربيّة = دور المساهمات الغربيّة في تشكيل نظرية العلاقة بين النصّ والسياق في ميادين الدرس اللغوي المختلفة، وخاصّة في ميدان علم النصّ، كما أوضحت الدراسة دور اللّسانيّات الاجتماعيّة ومشمولاتها في رفد هذه النظريّة وتشكيلها، وأبرزت المراحل المختلفة لتطوّر هذه النظريّة في ميادين: علم الدلالة، والتداوليّة، وفقه اللّغة، وميدان النقد والبلاغة الجديدة، والدراسات الأسلوبيّة. ثمّ أبانت الدراسة عن ملامح هذه النظريّة في منظور اللّسانيّات الوصفيّة، ومنظور علم الخطاب، ثمّ في جهود = فان ديك = مؤسّس علم النصّ. أمّا المبحث الثالث وعنوانه = نظريّة العلاقة بين النصّ والسّياق في المساهمات العربيّة = فقد استقريت فيه ملامح هذه النظريّة وجوانب اهتمامها وذلك في ميادين: اللّغة والنحو، والنقد والبلاغة، وفي ميدان علوم القرآن وأصول الفقه وعلوم التفسير. وأمّا المبحث الرابع وعنوانه = تجارب في المنهج = فقد عرضنا فيه لتجربتين في المنهج من الدكتور إدوارد سعيد في دراسته: = النص، والنقد، والعالم = والدكتور نصر حامد أبو زيد في دراساته المختلفة حول النص، وخاصّة دراستيه: = النص: السلطة الحقيقية = و = مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن =.(1/7)
وتقع هذه الدراسة في مقدّمة وثلاثة فصول وخاتمة وأمّا الفصل الأول وعنوانه = في الإطار النظري للدراسة: في حدّ المصطلح، في حدود النظريّة = فقد اشتمل على أربعة مباحث خصّص المبحث الأوّل منها لتحديد المصطلحات الثلاثة التي تقوم على تفاعلها
معا هذه الدراسة وهي: مصطلحات = النصّ = و = السّياق = و = الخطاب = من خلال الأنظار المختلفة قديما وحديثا، واستعرض المبحث الثاني وعنوانه = نظريّة العلاقة بين النصّ والسّياق في المساهمات الغربيّة = دور المساهمات الغربيّة في تشكيل نظرية العلاقة بين النصّ والسياق في ميادين الدرس اللغوي المختلفة، وخاصّة في ميدان علم النصّ، كما أوضحت الدراسة دور اللّسانيّات الاجتماعيّة ومشمولاتها في رفد هذه النظريّة وتشكيلها، وأبرزت المراحل المختلفة لتطوّر هذه النظريّة في ميادين: علم الدلالة، والتداوليّة، وفقه اللّغة، وميدان النقد والبلاغة الجديدة، والدراسات الأسلوبيّة. ثمّ أبانت الدراسة عن ملامح هذه النظريّة في منظور اللّسانيّات الوصفيّة، ومنظور علم الخطاب، ثمّ في جهود = فان ديك = مؤسّس علم النصّ. أمّا المبحث الثالث وعنوانه = نظريّة العلاقة بين النصّ والسّياق في المساهمات العربيّة = فقد استقريت فيه ملامح هذه النظريّة وجوانب اهتمامها وذلك في ميادين: اللّغة والنحو، والنقد والبلاغة، وفي ميدان علوم القرآن وأصول الفقه وعلوم التفسير. وأمّا المبحث الرابع وعنوانه = تجارب في المنهج = فقد عرضنا فيه لتجربتين في المنهج من الدكتور إدوارد سعيد في دراسته: = النص، والنقد، والعالم = والدكتور نصر حامد أبو زيد في دراساته المختلفة حول النص، وخاصّة دراستيه: = النص: السلطة الحقيقية = و = مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن =.
وأمّا الفصل الثاني وعنوانه = الخطاب القرآني في سورة البقرة: دراسة في العلاقة بين النصّ والسياق في قراءات الأوائل = ويقع في أربعة مباحث أيضا، فقد استفدت فيه من الأدوات المنهجيّة والنظرية التي خلصت إليها من خلال الإطار النظري للدراسة، وذلك في تشكيل صورة للخطاب القرآني في سورة البقرة في قراءات الأوائل. ويعرض المبحث الأوّل: قراءة في كتب علوم القرآن، ويعرض المبحث الثاني قراءة في كتب التفسير، والثالث قراءة في كتب أصول الفقه، وأمّا الرابع فيعرض قراءة في كتب إعراب القرآن.
وأمّا الفصل الثالث وعنوانه = الخطاب القرآني في سورة البقرة بين حدود النصّ وآفاق السياق = فيقدم محاولة قراءة جديدة لبعض مفردات نظرية العلاقة بين النصّ والسياق
في الخطاب القرآني في سورة البقرة، وهي: موضوع النص، وعنوان النص في ضوء نظرية السياق، والنصّ والمتلقي الأوّل، والنصّ والمخاطبون، وهي أمثلة فحسب، ولا تشكّل معالم الخطاب القرآني كلّه في سورة البقرة، وعرضت الخاتمة لنتائج الدراسة.(1/8)
وأمّا الفصل الثالث وعنوانه = الخطاب القرآني في سورة البقرة بين حدود النصّ وآفاق السياق = فيقدم محاولة قراءة جديدة لبعض مفردات نظرية العلاقة بين النصّ والسياق
في الخطاب القرآني في سورة البقرة، وهي: موضوع النص، وعنوان النص في ضوء نظرية السياق، والنصّ والمتلقي الأوّل، والنصّ والمخاطبون، وهي أمثلة فحسب، ولا تشكّل معالم الخطاب القرآني كلّه في سورة البقرة، وعرضت الخاتمة لنتائج الدراسة.
وقد اعتمدت هذه الدراسة على عدد وافر من المصادر القديمة والمراجع الحديثة العربيّة والأجنبيّة، وذلك في الميادين المتّصلة بهذه الدراسة. فمن المصادر العربيّة القديمة كتب النحو، خاصّة كتب إعراب القرآن، وكتب علوم اللّغة والمعاجم، وكتب النقد والبلاغة، وكتب أصول الفقه، وعلوم القرآن، وكتب تفسير القرآن خاصّة الكشّاف للزمخشري، وجامع البيان للطبري، والتفسير الكبير للفخر الرازي. ومن المراجع العربيّة الحديثة كتب النقد واللّغة، وتلك المؤلّفات المتّصلة بالنصّ اللّغوي وتحليله والمؤلّفات المتّصلة بقراءة الظواهر اللّغويّة في ضوء المناهج الحديثة، ومنها مؤلّفات الدكتور عبد السلام المسدّي، ود. صلاح فضل ود. نهاد الموسى، ود. محمد مفتاح ود. نصر حامد أبو زيد، ود. عبد الله الغذّامي ود. أحمد المتوكّل ود. تمّام حسّان ود. محمود السعران، ومحمد الخطّابي، وسعيد يقطين، والأزهر الزناد، وعبد القادر الفهري الفاسي وغيرهم.
وأما المراجع الأجنبية الحديثة، فقد استفادت الدراسة من المؤلفات المتصلة بعلم الدلالة وعلى رأسها مؤلفات جون لاينز، وعلم اللغة ومنها مؤلفات فيرث وبلومفيلد، وتلك البحوث المتصلة بالنص وتحليله، ولسانيات الخطاب وسوسيولوجيا النص، والدراسات الأسلوبية المختلفة. ومن هذه المؤلفات دراسات (ياكبسون) و (بارت) و (كريستيفا) و (إمبرتو إيكو) و (تودوروف) و (جيرار جينت) و (ديكرو) و (ريشتاردز) و (هدسن) و (غراهام هو) و (فان ديك) و (هاليداي ورقية حسن) و (براون ويول) و (بيوجراند ودرسلر) و (فاولر) و (نورثروب فراي) و (سابير) كما استفادت من معاجم علم اللغة النظري، ومعاجم اللسانيات، وكذلك من دراسة جاك بيرك (حينما كنت أعيد قراءة القرآن).(1/9)
إنّ مقاربة النصّ القرآني محاولة لا تخلو من صعوبة، أبرزها سعة دائرة المعارف والمعلومات والبحوث والدراسات المتّصلة بهذه المقاربة قديما وحديثا مما يجعل حجم العمل البحثي والاستقرائي كبيرا، كما إنّ تشكيل رؤية وقراءة جديدة للنصّ القرآني في ضوء مناهج النظر الحديثة يعدّ أمرا شائكا يحتاج إلى حرص بالغ وحذر شديد في الاستنتاجات والأحكام، كما إن مناقشة وجهات النظر المطروحة في التجارب المنهجية حول الموضوع كان يحتاج إلى نوع من اللباقة الأكاديمية إذا جاز التعبير خاصّة فيما يتعلق بمقاربتي نصر حامد أبو زيد، وإدوارد سعيد، وما يمكن أن تحدثه هذه الرؤى في معيار المنهج الإسلامي من ملابسات، قد رأينا بعض مظاهرها في الساحة الأكاديمية المصرية بعد صدور كتاب أبي زيد = مفهوم النص =. ومن جهة أخرى، فإن تناول المؤلّفات القديمة في مجال أصول الفقه والقراءات القرآنية، والناسخ والمنسوخ بما فيها من مصطلحات وآراء ووجوه كان يمثل صعوبة أخرى خلال البحث.
وقد حاولت هذه الدراسة أن تضيء بعض معالم التكيّف اللغوي أو (المناسبة) في مصطلح الأوائل في الخطاب القرآني مع معطيات السياق المختلفة مجتهدة أن تجمع بين البدء من النص وصولا إلى السياق، والبدء مع السياق المحيط بالنص وصولا إلى بنائه اللغوي، وضمن محورين متداخلين: محوّر آني يركز في تحليله للظواهر على جملة علاقاتها وأبنيتها المتراكبة، وانتظامها في نسق متّصل في لحظة سياقية محدّدة.
ومحور تعاقبي يعنى بتطوّر الظواهر وصيرورة أوضاعها في فترات زمنيّة متعاقبة فهي بذلك قد راوحت بين المنهجين: الوصفي والاجتماعي في استقراء العلاقة بين النصّ والسياق في الخطاب القرآني في سورة البقرة.
وإنّني أتأمّل أن أكون قد أضفت إلى الدراسات اللغوية التطبيقية جديدا، كما آمل أن يكون في هذه المقاربة للنص القرآني في ضوء بعض مناهج النظر الحديث خدمة
لكتاب الله عز وجل، وإبانة عن بعض معالم إعجازه في التعامل مع الإنسان والكون والحياة في الجانب اللغوي الاجتماعي، فهو منهج الحياة العظيم ودستورها القويم. وأتوجّه بخالص الشكر وجزيل العرفان لأستاذي الدكتور نهاد الموسى الذي كانت ملاحظاته خير عون لي في إنجاز هذا البحث، وأسأل الله عز وجل أن يبقيه ذخرا للعربيّة، بما جمعه من علم الأوائل وثاقب نظراتهم، ونظرات المحدثين واتّساع آفاقهم.(1/10)
وإنّني أتأمّل أن أكون قد أضفت إلى الدراسات اللغوية التطبيقية جديدا، كما آمل أن يكون في هذه المقاربة للنص القرآني في ضوء بعض مناهج النظر الحديث خدمة
لكتاب الله عز وجل، وإبانة عن بعض معالم إعجازه في التعامل مع الإنسان والكون والحياة في الجانب اللغوي الاجتماعي، فهو منهج الحياة العظيم ودستورها القويم. وأتوجّه بخالص الشكر وجزيل العرفان لأستاذي الدكتور نهاد الموسى الذي كانت ملاحظاته خير عون لي في إنجاز هذا البحث، وأسأل الله عز وجل أن يبقيه ذخرا للعربيّة، بما جمعه من علم الأوائل وثاقب نظراتهم، ونظرات المحدثين واتّساع آفاقهم.
والحمد لله رب العالمين
خلود العموش(1/11)
الفصل الأول في الإطار النظري للدراسة
المبحث الأول: في حدّ المصطلح.
تمهيد.
مصطلحات أوّليّة.
النصّ.
الخطاب.
السّياق.
المبحث الثاني: العلاقة بين النصّ والسّياق في المساهمات الغربيّة تطوّر العلاقة بين النصّ والسّياق.
العلاقة بين النصّ والسّياق من منظور اللسانيات الوصفيّة.
العلاقة بين النصّ والسّياق لدى فان ديك.
العلاقة بين النصّ والسّياق من منظور علم تحليل الخطاب.
المبحث الثالث: العلاقة بين النصّ والسّياق في المساهمات العربيّة.
في ميدان اللّغة والنحو.
في ميدان النقد والبلاغة.
في ميدان علوم القرآن، وأصول الفقه، وعلوم التفسير.
المبحث الرابع: تجارب في المنهج.
إدوارد سعيد في = العالم والنصّ والناقد =.
نصر حامد أبو زيد في = مفهوم النصّ = وكتب أخرى.(1/13)
المبحث الأول في حدّ المصطلح
تمهيد:
احتلّت مصطلحات (النصّ) و (السياق) و (الخطاب) موقعا مركزيّا في الأبحاث والدراسات التي تندرج في مجالات: (تحليل الخطاب) و (لسانيّات الخطاب) و (لسانيّات النصّ) و (نحو النصّ) وغيرها. حتى إنّنا لا نكاد نجد مؤلّفا ينتمي إلى هذه المجالات يخلو من هذه المفاهيم الثلاثة أو من المفاهيم المرتبطة بها كالترابط والتعالق والانسجام والاتّساق وغيرها. وستكون هذه المصطلحات الثلاثة وتفاعلها معا عماد هذه الدراسة، فالنصّ كما نتصوّره يتشكّل ضمن سياق أو سياقات معيّنة، ويحمل خطابا أو خطابات متنوّعة ذات أنساق لغويّة مختلفة. وإنّ تبيّن العلاقة بين النصّ والسياق في لغة الخطاب القرآني يبدو عسيرا ما لم نقف على التحديد الدقيق لهذه المصطلحات وما يتّصل بها، وما لم نقف على المناهج المختلفة التي تناولت هذه العلاقة بالدرس والتحليل وفيما يلي بيان ذلك.
مصطلحات أوّليّة:
تعرّف الكلمة بأنّها = أصغر وحدة ذات معنى = (1)، وأمّا الوحدة الكلاميّة فهي = إشارات لغويّة ترسل من المرسل إلى المتسلّم عبر قناة ملائمة (2). وقد تكون الوحدة الكلاميّة جملة أو عدّة جمل، وقد تكون قصيرة أو طويلة، وإذا أمكننا أن نحدّد للكلمة معنى معجميّا فإنّ تحديد معنى الوحدة الكلاميّة يتطلّب أن نأخذ بعين الاعتبار العوامل السياقيّة (3) لأنّ هذه الوحدات تشتمل على مكوّنات لا كلاميّة كالتنغيم، والإشارة وغيرها.
__________
(1) جون لاينز، اللّغة والمعنى والسياق، ص 41.
(2) نفسه، ص 28.
(3) نفسه، ص 29.(1/15)
ويفرّق الدارسون المحدثون بين نوعين من الجمل المكوّنة لهذه الوحدات هما:
1 - جمل النظام ويقصد بها تلك الجمل التي يتمّ توليدها بوساطة القواعد النحويّة لنظام لغوي معيّن.
2 - جمل النصّ، وتدلّ على المعنى المحسوس للجملة، وهو المعنى الذي تعدّ الجملة بموجبه جزءا من خطاب، وقد تظهر هذه الجمل على شكل أجزاء نصوص (1).
3 - مثال: لم أر دعاء. إنّ هذه الجملة جملة نظام، وإنّ نطقها في بعض السياقات قد يؤدّي إلى إنتاج جملة نصّ، كما في قولنا: = لم أرها = في السياق التالي:
هل رأيت دعاء؟ لم أرها. مالك لم يرها أيضا.
في هذا المثال، لا يمكننا تحديد محتوى القضيّة في جملة النصّ ما لم نكن قادرين على تحديد الجملة التي تمّ نطقها عند أداء العمل الكلامي الذي تكون (لم أرها) نتاجا له في هذا السياق ذلك أنّ جملة النص يمكن أن تحمل غموضا لا حصر له عند ما تكون خارج السياق فقولنا: (لم أرها) قد يعني: لم أر دعاء، أو لم أر باريس، أو لم أر أمّي؟
فالجملة النصّية هي المنجزة فعلا في مقام.
ويطلق وصف (الملفوظ) على الحديث أو الخطاب أحيانا فهو مظهر كلامي لغوي يتألّف من تقطيعات وجمل، وهو أكبر من الجملة دلالة، وهو جزء من كلام وليس كلاما كاملا كما يرى هاريس (2) (). كما أنّه يمثّل موقفا كلاميّا فيه متكلّم ومخاطب وسياق داخلي (لغوي) وخارجي (مقام)، ولا يمكن فهم هذا الملفوظ بمعزل عن هذين السياقين وهو عملية اتّصال وإبلاغ متنوّعة المظاهر. (3) وهذا يعني أن الملفوظ قد يكون مجرّد وحدة كلاميّة، أو قد يكون خطابا.
__________
(1) جون لاينز، اللغة والمعنى والسياق، ص 217.
(2) عدنان بن ذريل، اللّغة والدلالة، ص 16.
(3) صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، ص 6.(1/16)
النص:
تتعدّد المعاني اللّغويّة لمادّة (ن، ص، ص) فهي تدلّ على الرفع بنوعية الحسّي والمجرّد (1)، وتدلّ كذلك على أقصى الشيء وغايته، ومنه نصّ الناقة أي استخرج أقصى سيرها (2)، وعلى الاستقصاء أي الإحاطة، وهو متّصل بالمعنى السابق، ومنه (نصّ الرجل نصّا إذا سأله عن شيء حتّى يستقصي كلّ ما عنده) (3). ومن دلالاتها كذلك الإظهار (4)، ولعلّه الجامع الذي ينتظم هذه الدلالات المتنوّعة كلّها. واستخدمت لفظة (النصّ) في علم الحديث بمعنى الإسناد والتوقيف والتعيين (5). ويبدو أنّ الدلالة المركزيّة للكلمة وهي (الظهور والانكشاف) انتقلت إلى المعنى الاصطلاحي، وظلّت تتداول بهذه الدلالة في مجال العلوم الدينيّة كلّها تقريبا فقد استخدم فقهاؤنا وعلماؤنا الأوائل كلمة النصّ بمعنى الكلام الثابت الواضح الذي لا يحتاج إلى تأويل. (6) واستخدموه أحيانا بمعنى المادّة المكتوبة كما نجده عند مكيّ بن أبي طالب في كتابه (الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه) (7)، وفي وقت متأخّر استعملت الكلمة للدلالة على ما اقتبس من كلام الآخرين.
ويمثل مصطلح (النصّ) إشكاليّة معقّدة وكبيرة في النقد الحديث، وذلك بسبب تداخله مع عدد من المصطلحات الأخرى كالخطاب والأثر وغيرها. وقد حاول لسانيّان فرنسيّان هما = روبير لافون وفرانسواز مادري =.) (. أن يتتبّعا هذا المصطلح منذ نشأته، واستعمالاته في العصور المختلفة، فتوقفا عند سوسير،
__________
(1) لسان العرب، مادة نصص.
(2) نفسه.
(3) نفسه.
(4) نفسه.
(5) الشريف الجرجاني، التعريفات، مادة (نصّ).
(6) نفسه، مادة (نصّ).
(7) مكّي بن أبي طالب القيسي، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، ص 6.(1/17)
واستعرضا جهود سبتزر () وريفاتير ()، وكريستيفا (.)،
وبارت () وجاكبسون () خاصّة فيما يتعلق بحديثه عن علاقة النصّ بالتواصل، كما أوضحا تطوّر مفهوم هذا المصطلح لدى أولئك الدارسين (1).
وهي دراسة تكشف لا ريب أبعادا مختلفة لتطوّر هذا المصطلح وآفاق رؤيته. كما يقدّم المعجم الموسوعي للسيميائيّة مجموعة من التعريفات الخاصّة بهذا المصطلح، (2) ومنها تعريفات عامّة وشاملة، وبعضها الآخر تعريفات خاصّة بهذا الناقد أو ذاك، وكلّ هذه التعريفات في هذا المعجم أو في غيره من المؤلفات تظهر درجة التباين العالية في هذا المجال، ممّا يعكس توجّهات معرفيّة ونظريّة مختلفة.
وإذا ما حاولنا استخلاص المقوّمات الجوهريّة الأساسيّة لمصطلح النص لدى أولئك اللّسانيّين واللّغويّين عبر دراساتهم المختلفة، فإنّ المظهر الكتابي للنصّ يأتي أوّلا، فالنصّ هو = كلّ خطاب مثبّت بواسطة الكتابة = (3) كما يعبّر عنه بول ريكور (.). وقد حاول بعض اللّسانيين تجلية مفهوم النصّ من خلال مظهره الكتابي، وذلك حين يأخذ النصّ شكل متوالية خطيّة ذات علاقة مرئيّة على الورق () كما في دراسات شورت وليتش (4) .. ) (.،.
إنّ تجلّي النصّ في مظهر كتابي يضعنا وجها لوجه أمام السمة اللّغويّة للنصّ، باعتبار الكتابة جزءا من النظام اللغوي. وقد أفاض اللّساني = جون لوي هودبين = ( .. ) في شرح هذه السمة وعلاقتها بالكتابة في بحوثه المختلفة (5).
__________
(1) سعيد يقطين، انفتاح النصّ الروائي، ص 15.
(2)،، 2=، 6891،. 0801.
(3) صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النصّ، ص 297.
(4) سعيد يقطين، انفتاح النصّ الروائي، ص 12.
(5) عبد الرحمن أبو علي، عناصر أوّليّة لمقاربة سيميولوجية، مجلّة العرب والفكر العالمي، بيروت، العدد الأوّل، شتاء عام 1988، ص 74.(1/18)
وأمّا المقوّم الثاني للنصّ فهو ظهور المعنى، فيطلق مصطلح (النصّ) على = ما به يظهر المعنى (1). ولظهور هذا المعنى آليّات متعدّدة تختلف باختلاف الدارسين. ولا ينظر للحجم في تسمية الملفوظ نصّا فكلّ ملفوظ مهما كان حجمه يمكن أن يعدّ نصّا = إذا تركّب من سلسلة من الوحدات اللّغويّة ذات الوظيفة التواصليّة الواضحة = (2). ومن هنا قد يكون النصّ جملة أو عدّة جمل، أو سلسلة متوالية من الجمل تقصر وتطول بحسب تلبيتها للسياق ومن هذا المنطلق نفسه يعرّف هاليداي ورقيّة حسن (النصّ) بأنّه = وحدة لغويّة في طور الاستعمال = (3). فهو وحدة دلاليّة تحكمها وظيفة تواصليّة وليس وحدة نحويّة كالجملة مثلا.
والنصّ = سلسلة من العلامات المنتظمة في نسق من العلاقات تنتج معنى كليّا يحمل رسالة = (4) ودراسة تسلسل هذه العلامات وتناسقها يفضي بنا عادة إلى تحليل النصّ، كما أنّ طريقة توالي الجمل المترابطة يحدّد إيقاع القراءة وبذلك يدخل في تشكيل النصّ تقسيمه إلى فقرات وفصول وصفحات. وإنّ اختيار الكاتب لجنس أدبي ما أو لاتجاه فني هو اختيار للغة التبليغ التي ينوي الاتّصال بقارئه من خلالها. ويبدو مهمّا هنا جميع التفاصيل المتعلّقة بتوزيع هذه المتواليات وترتيبها وطولها، والروابط المعنويّة والشكليّة فيما بينها، وهيئة تركيبها، وهذا المقوّم يمكن أن نطلق عليه شكل النصّ. وقد تتبّع اللساني المغربي (محمد الماكري) أثر هذا الشكل في بناء النصّ وتحليله في دراسته (الشكل والخطاب) (5). والنصّ = شكل مغلق له بداية ونهاية = (6) فهو يعالج موضوعا كاملا ولكنّه
__________
(1) الأزهر الزناد، نسيج النصّ، ص 14.
(2) نفسه، ص 15.
(3) (،،) ..
، 9891،. 73.
(4)،،،،. 45.، 1985
(5) محمّد الماكري، الشكل والخطاب: مدخل لتحليل ظاهراتي، ط 1، 1991، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء.
(6) عبد الملك مرتاض، النصّ الأدبي من أين وإلى أين، ص 18.(1/19)
يمتدّ في رؤى القارئ والناقد شرحا أو تعليقا أو تأويلا. وتماسك النصّ وترابطه عنصر آخر من العناصر البارزة التي يقوم عليها مفهوم النصّ، ويقصد بهما توافر مجموعة من العلاقات التي تساعد على ربط أجزاء النصّ بعضها ببعض = لتحيل الجمل المتعدّدة إلى ما يشبه أن يكون جملة واحدة متّصلة الأقسام = (1). وتختلف اللّغات بشكل ملحوظ في درجة السماح لمستخدميها أو حملهم على ربط وحدات النصّ مع بعضها بعضا في سلسلة عن طريق الروابط النحويّة كالضمائر، وأدوات العطف، والروابط الزمنيّة، والدلاليّة كالترتيب المنطقي، والتكرار، والحذف.
ومن المقوّمات الأخرى الانسجام أو الاتّساق بين النص والسياقات التي يظهر فيها فالنصّ يتّسق مع سياق ثقافي عام يتّصل بالتاريخ والقانون والدين والأدب ولذلك تقترح كريستيفا دراسة الأشكال النصيّة ضمن منظومة الثقافة والتاريخ التي يتشكّل منها وفيها النص (2)، كما ينسجم مع سياق خاص يمكن أن نطلق عليه (المقام) يشتمل على مجموعة الظروف والملابسات التي اكتنفت كتابة النص. وتقاس درجة التماسك والترابط في ذلك النصّ بالنسبة إلى السياق الذي يظهر فيه. (3) وعنصر الانسجام من العناصر الرئيسة التي يشير إليها (فان ديك) () في دراسته للعلاقة بين النص والسياق (4). كما يفترض لاينز نوعا من الانسجام أسماه الانسجام الدلالي، ويقصد به أن تكون المكوّنات الدلاليّة والعناصر المعجميّة في النصّ مولّدة ضمن توافق نحوي معيّن (5). ويستعمل باحثون آخرون مصطلح التشاكل بدلا من مصطلح الانسجام، ويدرسون صورا مختلفة له، وقد استفاد د. محمد مفتاح (6) من مفهوم التشاكل لدى اللّغويين وحلّل في ضوئه قصيدة كاملة، توقف فيها عند التشاكل الصوتي والتركيبي والدلالي وربط ذلك كلّه بالقواعد التداوليّة.
__________
(1). .. ،) (
(2) جوليا كريستيفا، علم النصّ، ترجمة فريد الزاهي، 1997، ص: 29.
(3) جون لاينز، اللغة والمعنى والسياق، ص 221
(4).، .. ) 7791 (،،. 61.
(5) جون لاينز، علم الدلالة، ترجمة مجيد عبد الحليم الماشطة، ص 119.
(6) محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري، ص 20.(1/20)
ويلحّ الذين درسوا (نحو النصّ) على الفعل التواصلي للنصّ ومنهم (بيوجراند ودرسلر)، فالتواصل يربط بين خصائص النصّ المختلفة والقارئ (1)، بل إنّ آخرين يتجاوزون ذلك إلى القول إنّ = النصّ عمليّة يخلقها القارئ = (2). ويتحقّق هذا التواصل من خلال انسجام النصّ مع سياقه، وانسجام عناصره المختلفة. ويشرح (رولان بارت) آليّة هذا التواصل بقوله: = إنّ النصّ هو ذلك الشيء الذي يتحقّق لدى القارئ من تفاعله بالعلامات التي يتألّف منها المنطوق الإبداعي = (3) وبذا يصبح القارئ جزءا لا يتجزّأ من تعريف النصّ عند بارت. والباحثون في محاولتهم خلق نظريّة تطبيقية لعملية التوصيل، يتّجهون إلى منهج تحليلي للرسالة اللّغوية طبقا للعناصر الدلاليّة والجماليّة للغتها.
والأساس اللّغوي لهذا التحليل عن جاكبسون أنّ كلّ حدث لغوي يتضمّن رسالة وأربعة عناصر مرتبطة بها هي: المرسل، والمتلقّي، ومحتوى الرسالة، والكود أو الشيفرة المستعملة فيها (4)، ومن المألوف أن تعمل هذه العناصر متماسكة متآلفة، ويتمّ الاتّصال بين الناس من خلال نظام العلامات الذي يتّفق عليه بين أفراد البيئة اللّغوية المحدّدة. أمّا المقوّم الأخير الذي يشيرون إليه فهو (جامع النص)، وهو من مصطلحات الناقد جيرار جينت (5)
(.). ويفترض كثير من الدارسين وجود بنية نصيّة كبرى يغترف الكاتب منها، ويعود إليها، ويتصارع معها، ففي لا وعيه تتمثّل هذه البنية الكبرى (جامع النصّ) مزيجا من آلاف النصوص المتداخلة، ويوظّفها الكاتب في سعيه إلى إنتاج الدلالة وفقا لعلاقة معيّنة بين كاتب وقارئ في إطار ثقافي واجتماعي محدّد (6). ويطلق عيها بعض
__________
(1)،،،. 33.، 1984.
(2) سعيد يقطين، انفتاح النصّ الروائي، ص 17.
(3) رولان بارت، درس السيميولوجيا، ص 37.
(4) صلاح فضل، نظرية البنائيّة في النقد الأدبي، 1987، ص 383.
(5) جيرار جينت، مدخل لجامع النصّ، ترجمة عبد الرحمن أيوب، ص 92.
(6) اندريه جاك ديشين، استيعاب النصوص وتأليفها، ترجمة هيثم لمع، ص 15.(1/21)
الدارسين مصطلح (المتعاليات النصيّة) ويمكن من خلالها فهم ألوان عديدة من التناصّ (1).
وهذه البنية الكبرى تشابه طبيعة النصّ وهي زمنيّا سابقة عليه، وتتعاون مع البنية الثقافيّة والاجتماعيّة المزامنة له، والتي ينتج النصّ في إطارها.
ونخلص من هذه العناصر جميعا إلى أنّ النصّ هو كلّ كلام متّصل ذو وحدة جليّة تنطوي على بداية ونهاية، ويتّسم بالتماسك والترابط، ويتّسق مع سياق ثقافي عام أنتج فيه، وينسجم مع سياق خاصّ أو مقام يتعلّق بالعلاقات القائمة بين القارئ والواقع من خلال اللّغة، وبين بداية النصّ وخاتمته مراحل من النموّ القائم على التفاعل الداخلي، وهذا التفاعل يؤدّي بالنصّ إلى إحداث وظيفته التي تتمثّل في خلق التواصل بين منتج النصّ ومتلّقيه.
مصطلح الخطاب
الخطاب أحد مصدري فعل (خاطب) يخاطب مخاطبة وخطابا، وهو يدلّ على = توجيه الكلام لمن يفهم = (2). وفي اللّسان: الخطاب مراجعة الكلام (3)، وفي المعاجم الحديثة نجد الخطاب يأتي بمعنى الحديث والقول، وتذكر هذه المعاجم عددا من التعريفات منها:
= إيصال المعنى إلى السامع عن طريق الكلام (4)، ويضيف آخرون إلى هذه العبارة = بحيث تتسلسل الكلمات وتترتب = (5). ويضيف آخرون بأنّ الخطاب = قد يكون شفويّا أو تحريريّا ويعالج موضوعا بشيء من التفصيل = (6) ويحدّده آخر = بالكلام المنطوق عند ما يتجاوز الجملة الواحدة طولا = (7). وأشار الأصوليّون إلى تطوّر مصطلح (الخطاب) فهو في عرفهم = يدلّ
__________
(1) محمد مفتاح، استراتيجيّة التناصّ، ص 360.
(2) الشيخ محمد بخيت (مفتي الديار المصريّة)، سلّم الوصول لشرح نهاية السؤل، 1982، 1/ 48.
(3) لسان العرب، مادّة (خطب).
(4) محمد علي الخولي، معجم علم اللّغة النظري، ص 103.
(5) إبراهيم فتحي، معجم المصطلحات الأدبية، ص 172.
(6) رمزي البعلبكي، معجم المصطلحات اللغوية، (مادة خطاب)
(7) محمد التونجي، المعجم المفصل في علوم اللغة، ص 300، وبسّام بركة، معجم اللسانيّة، ص 61.(1/22)
على ما خوطب به وهو الكلام = (1). ويضيف الكفوي في (كلّياته) عنصرا جديدا إلى التعريف وهو الجانب النفسي فيقول: = إنّه الكلام اللفظي أو النفسي الموجّه نحو الغير للإفهام = (2). وهو تعريف موافق لتعريف الغزالي في المستصفى (3)، ولا ريب أنّ هذه إضافة نوعيّة للتعريف توحي بعنصر السياق الذي سيأتي. ويعدّ فيرث () عالم اللغة البريطاني من روّاد البحث في موضوع الخطاب في العصر الحديث، وقد درسه في إطاره اللّغوي، وتتبّعه دارسون آخرون اهتمّوا بتحليل الخطاب في إطاره غير اللّغوي ومنهم هاريس، وميشيل () ولابوف () وأوستن () (4).
والخطاب كما يظهر في الدراسات المختلفة عمليّة اتّصال تتمّ في إطارين: الإطار اللّغوي فقد يكون متوالية من الجمل المكتوبة أو المنطوقة، ينتجها مرسل واحد أو عدّة متخاطبين كما يحدث في الحوار أو غيره، وإطار غير لغوي يشمل العادات والأعراف والتقاليد والأخلاق، وهو ما أطلق عليه مصطلح (إثنوجرافيا الخطاب). والخطاب باعتباره حدثا كلاميّا يتألّف من عدّة عناصر هي: المرسل، والمستقبل أو الجمهور، والرسالة أو الموضوع، والهدف، ويؤثّر هذا الهدف تأثيرا جليّا في استراتيجيّة المرسل فيملي عليه اختيارات معيّنة من بين البدائل التي يتيحها له النظام اللّغوي، وقد يؤثّر في صورة الحديث وطريقة بنائه، وهو يفسّر الكثير من المتغيّرات الأسلوبيّة التي ترافق عمليّة التعبير اللّغوي فيما يراه هايمز (5). ويربط بعض علماء اللّغة هدف الخطاب بالأثر الذي تحدثه وسيلة الاتّصال بين المرسل والمتلقّي، وقد عبّروا عن هذه الوسيلة باستخدام كلمة قناة ()، والقنوات المتاحة لمنتج الخطاب كثيرة (6).
__________
(1) إدريس حمّادي، الخطاب الشرعي وطرق استثماره، ص 21.
(2) الكفوي: أبو البقاء، الكليّات (معجم في المصطلحات والفروق اللغوية)، ص 194.
(3) الغزالي، المستصفى في علم الأصول، 1/ 64.
(4) سعيد يقطين، انفتاح النصّ الروائي، ص 9.
(5) نفسه.
(6) محمد مفتاح، دينامية النصّ: تنظير وإنجاز، ص 167.(1/23)
ويتداخل مفهوما النصّ والخطاب تداخلا كيرا في الدرس النقدي الحديث لدرجة يصعب معها أحيانا التمييز بينهما، ممّا دفع بمحرّري المعجم الموسوعي للسيميائيّة إلى معالجة المفهومين في فقرة مشتركة (1). وفي مجال السرديّات يستخدم مصطلح (النصّ) غالبا مقابلا لمصطلح (الخطاب)، كما هو الحال في دراسات جنيت وتودوروف () وفاينريش (2) (.).
ونتّفق مع (فان ديك) الذي يقدّم تمييزا أكثر تحديدا فهو ينظر إلى النصّ بوصفه بنية عميقة بينما يمثّل الخطاب بنية سطحيّة، أو ينظر إليهما بوصفهما مظهرين: المظهر التجريدي والمظهر الحسّي، والنصّ مظهر تجريدي بينما الخطاب يجسّد وحدة لسانيّة تتجلّى في ملفوظ لغوي (3). فالنص وحدة مجرّدة لا تتجسّد إلا من خلال الخطاب كفعل تواصلي، وفي إطار هذه العلاقة يتمّ الربط بين النص وسياقه التداولي. وأمّا هاليداي ورقيّه حسن فإنّهما يبرزان الوحدة والانسجام وعلاقة النصّ بالسياق فروقا جوهريّة بين النصّ والخطاب فالنصّ يأخذ بعدا مختلفا عن الخطاب من خلال صلته بالقارئ والمقام الاجتماعي للتواصل، وبأبعاده غير اللسانيّة (4).
ومن خلال التطواف في البحوث المتّصلة بمصطلحي (الخطاب) و (تحليل الخطاب) نجد أنّ الخطاب كلمة تستخدم للدلالة على كلّ كلام متّصل اتّصالا يمكّنه من أن ينقل رسالة كلاميّة من المتكلّم أو الكاتب، وليس كلّ خطاب نصّا وإن كان كلّ نصّ بالضرورة خطابا فالكلام المتّصل خطاب، ولكنّه لا يكون نصّا إلّا إذا اكتمل ببداية ونهاية وعبّر عن موضوعه ببناء متماسك منسجم، وأمّا تحليل الخطاب فيعني تكوين الفروض التي تتعلّق بالمخاطب، والمخاطب، وروابط الخطاب، ودرجة اتّصاله، وتماسك الأبنية المكوّنة له، كما يتطلّب تجريدا للمعلومات المتّصلة باختيار الألفاظ والتراكيب والمعلومات المكوّنة للخطاب، وتحوّلات الزمن والدلالات فيه.
__________
(1). 8801 ..
(2) تودوروف وآخرون، في أصول الخطاب النقدي الجديد، ترجمة أحمد المدني، 1997، ص 105.
(3). 71.،،
(4). 91.، 6791،،،.(1/24)
مصطلح السياق:
السّياق في اللّغة لفظ ذو تشكّلات عديدة، وفي اللّسان يأتي بمعنى المتابعة، ومنه = ساق الإبل يسوقها سوقا وسياقا، وتساوقت الإبل أي تتابعت = (1). وفي أساس البلاغة أنّ من المجاز قولهم: = فلان يسوق الحديث أحسن سياق =، و = هذا الكلام مساقه إلى كذا = (2).
ومعناه هنا النمط الذي يتّخذه الحديث في تتابعه، وقريب من هذا ما ورد في المعجم الوسيط: ساق الحديث: سرده وسلسلة، وساوقه: تابعه وسايره وجاراه، وسياق الكلام: تتابعه وأسلوبه الذي يجري عليه (3). ولا ريب أنّ الكلمة قد مرّت بتطوّرات عديدة حتّى وصلت إلى معناها الذي نعرفه اليوم. وقد تكون كتب التفسير وكتب الأصول من أوائل الكتب التي تبلور فيها معنى السياق كمصطلح، كما نجد ذلك في (الرسالة) للإمام الشافعي (ت 204هـ) (4). وتطلق لفظة (السياق) في عرف المفسّرين على الكلام الذي خرج مخرجا واحدا، واشتمل على غرض واحد هو المقصود الأصلي للمتكلّم، وانتظمت أجزاؤه في نسق واحد، وقد تدلّ على السياق ألفاظ أخرى كالمقام، ومقتضى الحال والتأليف، وغيرها.
وفي المعاجم الحديثة يعرّف السياق بأنّه = بيئة الكلام ومحيطه وقرائنه = (5). ويعرّفه آخرون بأنّه = علاقة البناء الكلّي للنصّ بأيّ جزء من أجزائه = (6). وتشير هذه المعاجم إلى تضافر سياقات عديدة في النصّ تساهم في صياغة الرسالة اللّغويّة، وهي: السياقات النحويّة، والبلاغيّة، والصوتيّة. وانطلاقا منها يتداخل العديد من الاعتبارات النفسيّة
__________
(1) ابن منظور، لسان العرب، مادّة (سوق).
(2) الزمخشري، أساس البلاغة، مادّة (سوق).
(3) مجمع اللّغة العربية، المعجم الوسيط، مادة (سوق).
(4) الشافعي، الرسالة، ص 58.
(5) رمزي البعلبكي، معجم المصطلحات اللغوية، ص 119.
(6) محمد علي الخولي، معجم علم اللغة النظري، ص 57.(1/25)
والاجتماعيّة (1). وقد اهتمّ النّقاد والدلاليّون واللّسانيّون والأسلوبيّون بالسياق من وجهات مختلفة، فدرس (أوستن) استخراج السياق من خلال البنى المختلفة للرسالة اللّغوية (2).
واهتمّ علماء الدلالة بالمعنى السياقي، وقصدوا به المعنى الذي يستخرجه المخاطب من الكلام استنادا للسياق، كما في بحوث جون لاينز (3)، وفيرث (4). وأبرز الأسلوبيّون علاقة الأسلوب بمقتضيات السياق المقامي، وعلى رأسها الإطار النفسي للحديث، كما نرى ذلك في بحوث هايمز (5)، كما عدّ النقاد السياق دعامة رئيسة في تحليل النصّ الأدبي، ونجد ذلك ماثلا في بحوث باختين (6)، ونورثروب فراي (7)، وغيرهم.
ومع تعدّد هذه الميادين واختلاف الاتّجاهات النظريّة لأصحابها، فإنّها تتّفق في أن السياق يفسّر الكثير من العمليّات المصاحبة لأداء اللّغة في وظيفتها التواصليّة والإبلاغيّة، لدى كلّ من منتج الكلام والمتلقي، وأنّه ركن أساس في فهم الرسالة اللّغوية.
ويأتي السياق في نوعين: السياق اللغوي، والسياق الحالي، والأوّل منهما هو الذي يعطي الكلمة أو العبارة معناها الخاص في الحديث أو النصّ فهو يزيل اللبس عن الكلمة، بينما سياق الحال أو المقام يزيل اللبس عن الجمل والنصوص، والسياق بهذا المفهوم يتعدّى ما هو معروف من حيث إنّه تتابع للأصوات والألفاظ ليشمل فضلا عن ذلك الجوّ البيئي والنفسي المحيط بكلّ من المتكلّم والسامع. ودراسة النصّ اللّغوي وفهمه فهما عميقا يحتاج معرفة بالعوامل السياقيّة، وفي مقدّمتها الثقافة والبيئة والوسط الاجتماعي. ويعبّر غراهام هو () عن هذا المعنى بقوله: = إنّ قراءة القصيدة خارج سياقها لا تعدّ قراءة أبدا = (8).
__________
(1) إبراهيم فتحي، معجم المصطلحات الأدبية، مادة سياق. ومجدي وهبة، معجم مصطلحات الأدب، ص 8.
(2) عدنان بن ذريل، اللّغة والدلالة، ص 160.
(3) جون لاينز، علم الدلالة، ترجمة محمد عبد الحليم الماشطة وآخرون، ص 80.
(4) 4.،،.
(5). 029.، 21.،
(6) ميخائيل باختين، الخطاب الروائي، ص 50.
(7). 96.،،
(8) غراهام هو، الأسلوب والأسلوبية، ترجمة كاظم سعد الدين، ص 52.(1/26)
المبحث الثاني نظريّة العلاقة بين النصّ والسّياق في المساهمات الغربيّة
تطوّر نظرية العلاقة بين النصّ والسياق:
وقف الدرس اللّساني منذ القديم عند حدود الجملة، فبيّن مكوّناتها ومختلف القواعد التي تحكمها، لكنّ الجمل تنجز في مقامات، ويبدو (نحو الجملة) قاصرا عن الإحاطة بكثير من الملابسات التي تتوافر في هذه المقامات، والتي يقوم عليها الفهم والإفهام ولذا أصبحت الحاجة ماسّة لظهور علم النصّ. وقد ساهم في هذا الظهور جهود عديدة بدأت منذ دو سوسير (1)، كما اقتحم الشكلانيّون في حلقة براغ مجال النص (2)، وكان لفقه اللغة أثره الواضح في البحث عن قواعد لعلم النصّ وخاصّة عند هنري فايل (3)
()، وهارفنج (4) ()، وهايدولف (5) ()، وعلماء اللّسان مثل هاريس وجوناثان كيلر (.). وقد درس الأخير مقتطفات من رواية تشارلز ديكنز (الآمال العريضة)، وفي الحوار الذي اختاره حذف الكاتب أجزاء من الكلام، وأظهر أجزاء يمكن أن تحذف، ومع أنّ الكلام يظهر وكأنّه غير متّسق إلّا أنّ الشخصين يتفاهمان، وحاول كيلر تفسير هذا التواصل عبر علاقة النصّ بالسياق (6).
كما أدّى النقد دورا كبيرا في مساندة علم اللسان بالكشف عن آفاق العلاقة بين النصّ والسياق، وأدّى هذا الدور إلى ظهور ما يعرف ب (علم اللّغة الأدبي) وأبرز باحثيه
__________
(1) الأزهر الزناد، نسيج النص، ص 14.
(2) بيوغراند ودرسلر، ص (1918).
(3) نفسه، ص 20.
(4) نفسه.
(5) صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النصّ، ص 42.
(6) إبراهيم خليل، الأسلوبيّة ونظرية النصّ، ص 88.(1/27)
ويدسون (1) (). كما أسهمت البلاغة الجديدة في تطوير علم النصّ لأنّها نظرت للأدب على أنّه خطاب نصّي كلّي وليس وحدات مشتّتة، كما أنّ قدرا كبيرا من الدراسات الأسلوبيّة للخطاب قد أجري خارج نطاق اللّغة خاصّة في علوم مثل الأنثرولولوجيا والاجتماع، وكلّ هذا له علاقة بالسّياق المقامي العام المحيط بالنصوص.
ومهّدت هذه الدراسات الطريق لإغناء بحوث دارسي السرديّات مثل إمبرتو إيكو، الذي حاول أن يطبّق مفاهيم نظريّة (الظرف والسياق) على بعض الروايات (2).
ومع استفادة علم النصّ من كلّ هذه الجهود إلّا أنّ علم اللّغة بقي الميدان الأرحب لدراسة الخطاب، وقدّم علماء مثل بلومفيلد (3) ()، وفان ديك نظرات جديدة في هذا المجال. كما أفاد علم النصّ من التداوليّة () وهي من أحدث فروع العلوم اللّغوية، وتعنى بتحليل عمليّة الكلام والكتابة، ووصف وظائف الأقوال اللغوية وخصائصها خلال إجراءات التواصل بشكل عام (4). وبينما يهتمّ علم الدلالة بالشروط التي تجعل هذه الأقوال مفهومة أو قابلة للتفسير، فإنّ التداوليّة هي العلم الذي يعنى بالشروط اللازمة لكي تكون الأقوال اللّغويّة = مقبولة وناجحة وملائمة في الموقف التواصلي (5) = فهي معنيّة إذن بالشروط والقواعد اللازمة للملاءمة بين أفعال القول ومقتضيات الموقف الخاصة به أي للعلاقة بين النصّ والسياق. وفي هذا الإطار أيضا تعدّ اللسانيات الاجتماعية تطوّرا نوعيّا في نظرية العلاقة بين النصّ والسياق، وتدرس في إطارها جميع العلاقات الموجودة بين الظواهر اللّغويّة والاجتماعيّة، فاللّغة كما يعرّفها سوسير = إنتاج اجتماعي لقوى الكلام = (6)، وتظهر هذه اللّسانيّات العلاقات بين
__________
(1) صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النصّ، ص 38
(2) إمبرتو إيكو، القارئ في الحكاية: التعاضد التأويلي في النصوص الحكائيّة، ترجمة أنطوان أبو زيد، ص 18.
(3). 31.،،
(4) بيوغراند ودرسلر، ص 43.
(5). 79.،،
(6) دوسوسير، محاضرات في علم اللّغة العام، ص 23.(1/28)
لغة ما ومجتمع يتواصل بها، كما تظهر العلاقات الموجودة بين علم اللّسان وعلم الاجتماع والأنثربولوجيا والإثنولوجيا (1). وتأخذ اللّسانيّات الاجتماعيّة بعين الاعتبار حالة المتكلّم كمعطى اجتماعي، من حيث: أصله السلالي، ووضعه الاجتماعي، ومستواه المعيشي والثقافي، وربط هذه الحالة بنوع اللّغة التي يستعملها انطلاقا من مجموع القواعد التي نضبطها (2)، كما تعالج اللّسانيّات الاجتماعيّة التغيّرات اللّغويّة وأسبابها. ومن العناصر الرئيسة التي يلاحظها اللّساني الاجتماعي البيئة الاجتماعيّة وحالة المتكلّم ونوع الخطاب اللّغوي الذي يستعمله، ووظيفة الأفراد المخاطبين ومستوياتهم. ومن أبرز علماء اللّسانيات الاجتماعيّة هايمز (3) ()، وفيرث الذي أبرز طريقة اللّغة في التكيّف مع عدد من المواقف الاجتماعيّة المتنوعة (4)، ومالينوفسكي () الذي اهتمّ كثيرا بالمعطيات الاجتماعيّة في عملية التحليل اللّغوي، ودور التأثير الاجتماعي في اللّغة (5). كما شخّص سابير () عناصر الإطار الاجتماعي الذي تستعمل اللّغة ضمنه، وهي:
1 - العنصر البشري (المتكلّم والسامع) ويتأثّر أسلوبهما بعوامل تتعلّق بالبيئة الاجتماعيّة والثقافيّة، وعلاقة المتكلّم بالمستمع.
2 - عنصر الموضوع.
3 - عنصر الهدف (6).
__________
(1) المسدّي، اللّسانيّات من خلال النصوص، ص 171.
(2) مصطفى لطفي، اللّغة العربيّة في إطارها الاجتماعي، ص 41.
(3) نفسه.
(4) نفسه.
(5) نفسه.
(6) 24.،،(1/29)
وتنظر هذه اللّسانيّات كذلك إلى خصائص الشخوص في الموقف اللّغوي من خلال وجودهم أعضاء في الجماعة اللّغويّة (1). كما تهتم هذه اللّسانيّات بالموضوعات (الأشياء) المتّصلة بالموقف الكلامي، مثل: المكان، وحالة الجوّ، كما يدرس أثر النصّ الكلامي في المشاركين كالإقناع، أو الضحك، أو الألم. ويعدّ باحثو اللّسانيّات الاجتماعيّة اللّغة علامة فرديّة مميّزة للأفراد والجماعات فلغة النجّارين تختلف عن لغة الصيّادين، ولغة الكبير تختلف عن الصغير، ولغة الإناث تختلف عن لغة الذكور (2) وفي ضوء الربط بين التغيّرات اللّغويّة والمعطيات الاجتماعيّة يتمّ تحليل أنواع مختلفة من الخطاب الإنساني مثل لغة الانتخابات والثورات، وانعكاسات الحياة الاقتصاديّة في اللّغة، والحياة الدينيّة واللّغة، واللائق وغير اللائق في لغة الخطاب (3).
وفي علم الدلالة يبدو السّياق عالما متشابكا شديد الأهميّة فالدلالات تنشأ كما يقول علماء الدلالة = بطريقة سياقية تتحكّم فيها القرائن الحاليّة التي تصاحب عمليّة الكلام إلى جانب القرائن الخاصّة بنظام اللغة التي يدركها المتلقّي عبر معرفته بذلك النظام = (4). وفي هذا الإطار دعا (فيرث) إلى دراسة أبعاد الحديث الكلامي من جميع جوانبه، ويقوم منهجه في دراسة الخطابات المختلفة من خلال قراءتها في سياقها الحالي والمقامي والثقافي. ويشمل سياق الحال عند (فيرث) تجربة المتكلّم والسامع، وسياق الفعل والصوت، وأيّ عنصر آخر يقع في نصّ الخطاب، وكذلك عناصر أخرى مثل حركات اليدين والوجه وطريقة الجلوس وتقديم الكأس فالسياق يمثّل المفتاح الذي يفسّر في رأي (فيرث) الكثير من العمليّات المصاحبة لأداء اللّغة لدى كلّ من منتج الكلام
__________
(1). 24.،،
(2) مازن الوعر، الاتّجاهات اللّسانيّة المعاصرة ودورها في الدراسات الأسلوبيّة، مجلة عالم الفكر، ع (43) يونيو 1994، المجلد الثاني، ص (141140).
(3) نفسه، ص 142.
(4). 86.،،(1/30)
ومتلقّية ضمن الوظيفة التواصليّة للّغة. ولعلّ عبارته المشهورة تلخّص مجمل نظريّته حين يقول: = الافتراض الأساس أنّ كل نصّ يعتبر مكوّنا من مكوّنات سياق ظرف معيّن = (1). أمّا تحليل الخطاب بالعودة إلى هذا المنهج فيقتضي عمليّة ترتيب سياقي لكلمات الخطاب وتراكيبه، بحيث يوضع المعنى المعجمي لكلمات الخطاب في مستوي وسط بين المستويين:
المواقفي والنحوي، ثمّ وضع هذا الترتيب السياقي في موضعه المناسب داخل سياق الثقافة.
وأمّا المعنى المعجمي لديه فهو ذلك الجزء من معنى الكلمات الذي يتعلّق بميلها (أي الكلمات) إلى أن يقف بعضها جنبا إلى جنب في النصوص، فمثلا (اللّيل) يميل إلى الترتّب سياقيّا مع (أسود) (2).
وقد كانت بحوث (فيرث) حافزا لباحثين آخرين تابعوا هذا الدرس السياقي فأصدر هايمز وغيمبرز () عام (1964) كتابا عنوانه (إثنوجرافيا الاتّصال) وشرحا فيه رؤيتهما لعمليّة الاتّصال وأطرافها، وأهميّة دراسة العناصر غير اللّغوية المؤثّرة في دلالات الرسالة اللّغوية، وأثر وسيلة الاتّصال على الأسلوب الذي صيغ به الحدث الكلامي ضمن الإطار النفسي للحديث لأنّ الأسلوب يخضع لمقتضيات السياق المقامي (3). كما فصّل عالمان آخران هما كريستال ودافي) (في كتابهما () الذي صدر عام (1965) معالم النسق المقترح في دراسة الخطاب، وحدّداه بدراسة الخصائص الأسلوبيّة للمتكلّم، والفترة الزمنيّة (التاريخيّة) التي ينتسب إليها الخطاب، ودراسة وسيلة التوصيل، ونوعيّة الخطاب، ونوعيّة العلاقة بين المتكلّم والسامع، ودراسة نوع الموقف وهل هو جدل أم محاضرة أم شعر (4). ويقترب هدسون () في بحوثه من هذا النسق مع تركيزه على وسيلة التواصل (5).
__________
(1) جون لاينز، اللّغة والمعنى والسياق، ص 215.
(2) عدنان بن ذريل، اللّغة والدلالة، ص 166.
(3) مصطفى لطفي، اللّغة العربيّة في إطارها الاجتماعي، ص 51.
(4) هدسون، علم اللّغة الاجتماعي، ص 42.
(5) نفسه، ص 53.(1/31)
وقد طوّر دلاليّون آخرون هذه النظرات فوسّع أولمان () السياق ليشمل لا الكلمات والجمل الملاصقة للّفظ المعنيّ فحسب بل والقطعة كلّها، والكتاب كلّه وكل ما يحيط بالكلمة من ظروف وملابسات (1). ويشترك أولمان وكوهين () وكرايس () في توضيح علاقة السياق بالمجاز، وفصّل كرائس في هذا، ورأى أنّه لحدوث المجاز وتفسيره لا بدّ من خلفيّة ثقافيّة مشتركة بين المخاطب والمخاطب تضمن إدراك المخاطب للملاءمة السياقية للمجاز، وتضمن فهمه للقيود التي تفرضها بعض الاستخدامات اللّغوية في أطر سياقيّة معيّنة دون غيرها (2).
ويركّز (جون لاينز) في بحوثه على دور الإشارة والضمائر والتعريف والتنكير وعلاقتها بالسياق، فالإشارات تمثّل لديه نسق العلاقة القائمة وتربط الإشارة بين التعابير اللّغويّة وما تمثّله هذه التعابير في عوالم الحديث، كما أنّ الضمائر تعدّ جزءا من السياق التشخيصي على اعتبار أنّه تمّ تحديد هذه الضمائر بواسطة العلاقات المتبادلة بين الأفراد، وأنّ هذا التغيير قد يشير إلى تغيّر مزاج المتحدّث أو موقفه (3). ويصوغ لاينز فرضيّات أساسيّة في نظرية النصّ والسياق وهي:
1 - فرضيّة الجمل والوحدات الكلاميّة ومضمونها أنّ معنى الجملة يعتمد جزئيّا على معنى الكلمات التي تتكوّن منها تلك الجملة، وأنّ معنى الجملة يعتمد على تركيبها النحوي وعلى صيغ كلماتها.
2 - فرضيّة النصّ المتّسق فالنصّ المتّسق هو حيث تأخذ كلّ كلمة مكانها المناسب لتسهم في إسناد الكلمات الأخرى.
3 - موافقة السياق. ويقول (لاينز) في شرحها: = إنّ علينا أن لا نعدّ استقامة النحو مطابقا لقبول الجملة فالجمل جميعها سليمة التركيب نحويّا، والتركيب الدلالي السليم شرط في القبول، وكذلك موافقة الجملة للسياق شرط أساسي أيضا (4).
__________
(1) أولمان (ستيف)، دور الكلمة في اللّغة، ترجمة الدكتور كمال بشر، 1962، ص (9088).
(2) الولي محمد، الصورة الشعريّة في الخطاب البلاغي والنقدي، 1990، ص 239.
(3) نفسه، ص 193.
(4) جون لاينز، اللّغة والمعنى والسياق، ص 133.(1/32)
وأضاءت بحوث علماء مدرسة أكسفورد في التحليل اللّغوي جوانب في نظرية السياق، ويمكن أن نعدّ جهود (أوستن) ممثّلا لهذه المدرسة، وخلاصة نظريّته أنّ أفعال الكلام محدّدة ثقافيّا، أي أنّها تعتمد على التقاليد الشرعيّة أو الدينيّة أو الخلقيّة أو العرفية السائدة في المجتمعات، وحتّى تلك التعابير الجاهزة ذات الصيغ الثابتة مثل: (يا للسماء) و (هلمّ جرا) لا يمكن فهمها خارج سياقها. وقد تنطق جمل مختلفة ويكون نقش الكلام فيها غامضا نحويّا أو معجميّا فيكشف السياق عن القراءة الأمثل ويمثّل (أوستن) لذلك بالجملة التالية في الإنجليزيّة:
* (). وهذه الجملة تحتمل معنيين هما:
لقد مرّوا بالميناء عند منتصف اللّيل.
لقد ناولوا الخمر المعتّق عند منتصف اللّيل.
ويتضح من خلال السياق أيا من المعنيين هو المقصود (1). ويقترح لغويّو اكسفورد مجموعة من الوسائل التي يمكن استعمالها في التحليل اللغوي للسياق، ومنها: دراسة الصيغة، والتنغيم، والوقوف عند العبارات الظرفيّة مثل (حتما) و (على الأرجح) وأدوات الربط، ولواحق المنطوق كالإيماءة أو الغمز أو هزّ الكتفين أو العبوس أو التصفيق، ودراسة ظروف التلفّظ بالمنطوق. ومن آرائهم المعروفة = إنّ المنطوق الأدائي لا يكون عرضة للنقد في حدود الصدق والكذب، بل في حدود الملاءمة للسّياق = (2).
ويمضي النقد خطوة إضافية في مسيرة هذه النظريّة من خلال عناية النقّاد بما يعرف ب (سوسيولوجيا النصّ)، ومن أبرز النقّاد في هذا المجال بييرزيما ( .. )
الذي ينطلق في رصده للعلاقة بين النصّ والسياق من الفكرة القائلة بأنّ القيم الاجتماعيّة لا توجد مستقلّة عن اللّغة، وأنّ الوحدات المعجميّة والدلاليّة والتركيبيّة في النصّ لا
__________
(1) صلاح إسماعيل عبد الحق، التحليل اللّغوي عند مدرسة أكسفورد، ص 242.
(2) نفسه، ص 163.(1/33)
تنفصل عن المصالح الاجتماعيّة. ويقوم تحليله للنصّ على دراسة البنية اللّسانيّة والبنية الاجتماعيّة المكوّنة له (1). وفي دائرة النقد كذلك تظهر دراسات المهتميّن بتفسير النصّ وعلى رأسهم شلير ميشر () مؤسّس علم التفسير، الذي رفع شعار العودة إلى النصّ بحثا عن سياقه ومعناه (2). ويقع اختلاف الناقدين كلينث بروكس () وباتسون () حول نص ل (وردز ورث) في هذا المجال، وذلك بسبب قراءة النص في سياقين مختلفين حتّى قيل: = إنّنا لسنا أمام جدل حول النص، وإنّما الجدل حول السياق = (3).
ومن جانب آخر فقد أسهمت البلاغة الجديدة في قراءة الموضوعات التقليديّة المختلفة في البلاغة، كالتشبيه والاستعارة وغيرها قراءة جديدة، من خلال توجيه النظر إلى العلاقات الداخلية في النص وتفاعلها مع السياقات المختلفة، كما هو الحال في بحوث ريتشاردز (4) () البلاغي المعروف، ومورو () في كتابه (الصورة الأدبية) الذي صدر عام (1982)، ويبرز ماكس بلاك () آليّة هذا التفاعل بين السياقات المختلفة والذي ينتج عنه الاستعارة مثلا ففي قولنا (أنت ذئب)، إنّ كلمة البؤرة وهي (ذئب) لا تعمل على أساس معناها المعجمي العادي، وإنّما بفضل نظام التداعيات المشتركة أي وفقا للآراء والأحكام التي تنظّم رؤية المتحدّث للعالم وهذا هو السياق (5). وطوّر الأسلوبيّون فكرة السياق فدعوا إلى دراسة ما يسمّى بنسبيّة السياق، وهي مجموعة السمات السياقيّة التي تحيط بالنصّ لتمنحه أسلوبا ذا وظيفة (6). كما في دراسات سبيتزر وبالي) (وإينكفيست ().
__________
(1) جميل الحمداني، النقد الروائي والإيديولوجيا: من سوسيولوجيا الرواية إلى سوسيولوجيا النصّ الروائي، ص 72.
(2) محمد عبد المطّلب، قضايا الحداثة عند عبد القاهر الجرجاني، سلسلة أدبيّات، ص 151.
(3) د. عاطف جودة نصر، النصّ الشعري ومشكلات التفسير، ص 155.
(4) إ. إ. ريتشاردز، مبادئ النقد الأدبي، ترجمة مصطفى بدوي، ص 130.
(5) صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النصّ، ص 199.
(6) مازن الوعر، الاتّجاهات اللّسانية المعاصرة ودورها في الدراسات الأسلوبيّة، ص 154.(1/34)
نظرية العلاقة بين النصّ والسياق من منظور اللّسانيّات الوصفيّة
يجمع عدد من الدراسين على أنّ كتاب (م. أ. ي هاليداي ورقية حسن) المعنون ب (الاتّساق في اللّغة الانجليزيّة) الصادر عام (1976) يعدّ خير ممثّل للمنظور اللّساني الوصفي في مسألة العلاقة بين النصّ والسياق. ويأتي الحديث عن هذه العلاقة عندهما من خلال البحث في وظائف اللّغة، وهي عندهما ثلاث: الوظيفة التجريبية، والوظيفة التفاعليّة (وتتّصل بالبعد الاجتماعي)، والوظيفة التواصليّة وتتضمّن الأصول التي تتركّب منها اللّغة لإبداع النصّ باعتباره وحدة دلاليّة، ليصبح مشغلا من خلال موضوع، ومنسجما في علاقاته وفي سياق المقام الذي وظّف فيه (1). أمّا الاتّساق فيأتي ذكره لديهما من خلال الحديث عن ماهيّة النصّ وتميّزه عن (اللانصّ). والاتّساق هو الخصيصة الأبرز للنصّ، وهو الذي يجعل متتاليات الجمل مترابطة عن طريق علاقات قبليّة وبعديّة بين الجمل، وأمّا الروابط النحويّة فهي التي تؤدي إلى ما يعرف بالتماسك (2) ().
والسياق لديهما نوعان: لغوي مقالي، وحالي مقالي. وكلاهما يؤدّي إلى تماسك عناصر النصّ، وأدوات الاتّساق في النص عندهما هي:
1 - الإحالة وأدواتها كالضمائر وأسماء الإشارة وغيرها، وتنقسم الإحالة عندهما إلى نوعين: إحالة مقاميّة وإحالة نصيّة، وتساهم الإحالة المقاميّة في خلق النصّ كونها تربط اللّغة بالمقام، بينما تؤدّي الإحالة النصيّة إلى اتّساق النصّ بشكل مباشر (3).
2 - الاستبدال، ويعني تعويض عنصر في النص بعنصر آخر، وهي علاقة اتّساق معنويّة، وهي أنواع مختلفة: استبدال اسمي وفعلي وقولي.
__________
(1) هاليداي ورقيّة حسن، الاتّساق في اللّغة الانجليزيّة، ص 23.
(2) نفسه، ص 25.
(3) نفسه، ص 85.(1/35)
3 - الحذف، وهو علاقة داخل النصّ وعن طريق فهمه يتمكّن القارئ من ملء الفراغات في النصّ.
4 - الوصل وهو تحديد للطريقة التي يترابط بها اللاحق مع السابق بشكل منظّم حتّى تدرك متتاليات الجمل في النص كوحدة متماسكة، وهو أنواع: وصل إضافي، ووصل عكسي، ووصل سببي، ووصل زمني (1).
5 - الاتّساق المعجمي وهو نوعان: التكرير، والتضام، أي توارد زوج من الكلمات بالفعل أو بالقوة نظرا لارتباطها بحكم هذه العلاقة أو تلك، من مثل:
(المحاولة / النجاح)، (المرض / الطبيب) (2).
وهذه الوسائل التي يقترحها هاليداي ورقيّة حسن موجودة داخل النصّ، مما يترتّب عليه أن الباحثين لا يعتبران دور القارئ في صنع اتّساق النص ما دام هو متّسقا في ذاته، ولعلّ هذا هو المأخذ الذي يمكن أن يوجّه لهذه النظريّة.
نظرية العلاقة بين النصّ والسياق لدى (فان ديك)
يعدّ (فان ديك) ممثّلا لمنظور لسانيّات الخطاب، وقد طوّر في كتابه (النصّ والسياق) الذي صدر عام (1977) بعض الآراء التي سبقت صياغتها في مؤلّف سابق له هو: () الذي صدر عام (1972)، وقد درس (ديك) الجانب الدلالي في النصّ إضافة إلى الجانب التداولي، ووضع نظريّة تهدف إلى تحديد أنواع الأقوال المقبولة تواضعيّا، كما وضع مجموعة من الاقتراحات اللازمة لتطوير التعامل مع اللّغة وفق هذه النظريّة. ومن هذه الاقتراحات:
1 - أنّ النحو يجب أن يوسّع نظرته إلى البنى اللّغويّة المختلفة، بحيث تشمل إضافة إلى البنية الداخليّة والمعنى المسند إليها مستوى ثالثا هو مستوى الفعل المنجز، الذي
__________
(1) هاليداي ورقية حسن، الاتساق في اللغة الإنجليزية، ص 88.
(2) نفسه، ص 90.(1/36)
سيمكّن من إعادة بناء جزء من المقتضيات التي تجعل الأقوال مقبولة تداوليّا ومناسبة، بالنظر إلى السياق التواصلي الذي تنجز فيه.
2 - يدعو (ديك) إلى إعادة بناء الأقوال ليس على شكل جمل، وإنما علينا تجاوز الجملة إلى وحدة الخطاب كتجلّ عملي لوحدة مجردة هي النصّ لتحقيق غاية تفسير العلاقات النسقيّة بين النصّ وسياقه التداولي، ومن هنا سعى (ديك) إلى إقامة نحو للنصّ أو الخطاب المترابط، وهذا النحو يأخذ بعين الاعتبار كلّ الأبعاد البنيويّة والسياقيّة والثقافيّة (1).
وأمّا تحليل الخطاب وفقا ل (ديك) فيعني تحليل عنصر الانسجام، وهذا الانسجام بين النصّ والسياق له مظاهر هي: الترابط، وانسجام مكوّنات المقطع اللّغوي الواحد، ثمّ المقاطع جميعها عن طريق تطابق الذوات المؤلّفة لها، والعلاقات المختلفة، ومراعاة الحالة العاديّة المفترضة للعالم، كما يعدّ ترتيب الخطاب ووقائعه من أبرز مظاهر الانسجام عند (ديك)، كما أنّ الخطاب التام لديه هو حصيلة هذا الانسجام، ويميّز النقص في الخطاب عن طريق الاستدلال والتضمين. كما أنّ موضوع الخطاب أو بنيته الكليّة مظهر آخر يشي بعنصر الانسجام (2). وقد وضع (ديك) ما يعرف بنظام الأشكال النصيّة وهو النظام الذي يتناول النص الخاضع لعمليّات التحليل، ويعتمد هذا النظام على دراسة المستويات اللّغويّة في النصّ، ونمط العمليّات التي تجري داخل النصّ كالإضافة والحذف والقلب والاستبدال، وخواصّ هذه العمليّات من حيث مكانها في النصّ، ومعدّلات تكرارها وغير ذلك (3).
__________
(1). 14.،،
(2). 64.،
(3). 89.،(1/37)
نظرية العلاقة بين النصّ والسّياق في منظور علم تحليل الخطاب
ويمثّل هذا المنظور كتاب (تحليل الخطاب) لمؤلّفيه (براون ويول) الصادر عام (1983). ويقدمان مجموعة من الافتراضات التي تحكم اشتغال المتلقّي بالخطاب بهدف اكتشاف انسجامه أو عدمه، ومنها أن الخطاب لا يملك في ذاته مقومات انسجامه، وإنّما القارئ هو الذي تسند إليه هذه المقومات، وإنّ كلّ نصّ قابل للفهم والتأويل هو نصّ منسجم، والعكس صحيح (1).
وأمّا مبادئ هذا الانسجام فتؤخذ من السياق وخصائصه، ويتشكّل السياق لديهما من المتكلّم، والمستمع، والحضور (مستمعون آخرون يساهم وجودهم في تخصيص الحدث الكلامي)، والزمان، والمكان، والموضوع (مدار الحدث الكلامي)، وكذلك العلاقات الفيزيائيّة بين المتفاعلين كالإشارات، والإيماءات، وتعبيرات الوجه، والقناة الموصلة (كلام، كتابة، إشارة)، والنظام أي الأسلوب اللغوي المستعمل، وشكل الرسالة (دردشة، جدال، عظة، خرافة) والغرض (المقصد)، ومعرفة العالم الممكن (2). وهي نفسها العناصر التي اقترحها هايمز وليفيس) (في دراسات سابقة لهما.
ولكي يبيّن (بروان ويول) أهميّة السياق في التأويل يقدّمان أمثلة معزولة عن سياقاتها الأصليّة التي ظهرت فيها، وعلى القارئ محاولة توقّع مميّزات السياق الذي يمكن أن تكون قد وردت فيه، ومن هذه الأمثلة التي يقدّمانها:
() إنّ الكلمات التي يتشكّل منها هذا الخطاب معلومة معجميّا للقارئ، ولكن تجميعها على هذا النحو يوحي بالغرابة والغموض، ويزول هذا الغموض بمعرفة السّياق
__________
(1). 04.،،
(2). 94.،(1/38)
الذي ظهر فيه فمكان ظهور هذا الخطاب هو أحد جدران مدينة (جلاسكو) في إسكتلندا، وزمنه هو السبعينات التي اشتهرت بظهور خطابات مماثلة على جدران هذه المدينة، ومعنى هذا أن المتلقّي وهو ساكن مدينة (جلاسكو) له معرفة سابقة فيما يخصّ نوع الخطاب الذي يعبّر عن تفاعل بين عصابات ما، والمعرفة الموسوعيّة للعالم يمكن أن تخبرك أنّ الكاتب عضو من أعضاء عصابة ال () وأنّ المخاطبين هم أعضاء في عصابة () وأنّ الخطاب هو تحذير من عصابة إلى عصابة أخرى محذّرة إيّاها من التمادي في خرق قانون العصابة الأخرى (1). ويقترح (براول ويول) عددا من الخطوات يمكن عبرها تحليل هذا السياق ومنها: مبدأ التأويل المحلي الذي يعلّم المستمع أن لا ينشئ سياقا أكبر ممّا يحتاجه للوصول إلى تأويل ما، ومبدأ التشابه الذي يعوّده على فهم النص بناء على علاقات التشابه مع خطابات سابقة مماثلة (2)، والتغريض الذي يتعلّق بتنظيم الخطاب وترابطه، وترتّب أجزائه مع العنوان (3). والمعرفة الخلفيّة التي تعتمد على سحب المعلومات من الذاكرة وربطها مع الخطاب المواجه عبر سيناريوهات ترتبط بمعرفة المستمع للعناصر المشكّلة للمقام، والتي يسهل على القارئ ملؤها بمجرّد تنشيط سيناريو مرتبط بهذه الوضعيّة أو تلك فمثلا لو كان النصّ متعلّقا بالذهاب إلى المطعم فإنّ سيناريو المطعم الجاهز يتمثّل لدى القارئ بما فيه من مقاعد، وطعام، وعاملين وكلّ هذا مرتبط بعمليّة الاستدلال للرسالة اللّغوية (4).
وعلى الرغم من اتّساع مجالات نظريّة النصّ والسياق في الدراسات الغربيّة إلّا أنّه يمكننا الخروج برؤية منهجيّة كلّيّة تعين في تناول موضوع البحث، وهذه الرؤية تتمثّل في جانبين:
__________
(1). 94.،،
(2). 05.،
(3).
(4). 25 ..(1/39)
الأوّل ويرصد السياق بنوعيه: الحالي والمقالي، ويصف المعطيات الاجتماعيّة والثقافيّة، والشخوص (المخاطب والمخاطب) والهدف، والزمان، والمكان، وطبيعة الموضوع، وطبيعة العلاقات، والإشارات، والأثر، وقناة الاتّصال.
والثاني ويرصد التكيّف اللّغوي للنصّ مع معطيات السّياق السابقة، والذي يحدث ما يعرف بالاتّساق، ويدرس في هذا الجانب آليّة حدوث هذا التكيّف ومظاهره في المستويات اللّغويّة المشكّلة للنصّ (المستوى الصوتي، والصرفي) كما تدرس أدوات الاتّساق بين النصّ والسياق كالإحالة، والحذف، والتكرير، والاستبدال، والإضافة، والقلب، والوصل، وترتيب الخطاب، وعلاقة الموضوع بتسلسل متواليات الجمل، وعلاقة هذا التسلسل بالعالم الخارجي، والاتّساق المعجمي، والتضامّ، والروابط، والعلاقات، عبر مجموعة من مبادئ التأويل والاستدلال التي تؤدّي إلى تبيّن انسجام الرسالة اللّغويّة أو عدم انسجامها.(1/40)
المبحث الثالث العلاقة بين النصّ والسّياق في المساهمات العربيّة
نعرض في هذا المبحث المساهمات العربيّة في هذا المجال، وذلك في ميادين: النقد والبلاغة، واللّغة والنحو، وفي ميدان أصول الفقه والتفسير وعلوم القرآن، وقد اخترنا هذه الميادين لاهتمامها الواضح والظاهر بهذا الموضوع من جهة، ولصعوبة تتبّع هذا الموضوع في المساهمات العربيّة عموما وسيكون العرض انتقائيّا، وموجزا بقدر الإمكان، لأنّ الفصل الثاني سيكون حول العلاقة بين نصّ سورة البقرة وسياقها من خلال هذه المباحث. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ المساهمات العربيّة لا توجد على شكل نظريّة متكاملة في مؤلّفات متخصّصة، بل هي أجزاء من موضوعات أخرى متفرّقة في هذه الميادين، ولذلك فلا يتوقّع القارئ بحثا متصلا متدرّجا لنظريّة النصّ والسياق لدى العلماء العرب القدامى. وهذا ليس عيبا في دراساتهم. فقد تناولوا هذه المفردة ضمن موضوعات أخرى أكبركما سنلاحظ فيما سيأتي.
1 - نظرية العلاقة بين النص والسياق في ميدان اللّغة والنحو:
حين تصدّى النحاة لوصف الظواهر النحويّة ورسم حدود العربيّة، صدروا عن ملاحظة اطّراد الظواهر الذاتيّة للّغة في الأمثلة والشواهد، ومن ثمّ قعّدوا اللّغة في ميادين النحو والصرف والصوتيّات، وحاولوا تفسير هذه الظواهر عن طريق ملاحظة علاقة العناصر اللّغويّة باعتبار هيئاتها الشكليّة ومواقعها. كما أنّهم اعتدّوا المعنى ملحظا ضروريّا في استكمال التحليل وعمل المعربين، ولحظوا مستوى البنية الصرفيّة، ورصدوا علاقات التركيب بملاحظة ثابتة لطبيعة الصيغة في أبنية الكلم. وذلك أمر مذكور لأولئك النحاة.
ولكنّهم تجاوزوا فوق هذا في رسم معالم النظام اللّغوي حدود النصّ الذاتيّة. ومادّة العبارة الكلاميّة إلى محيط الحدث الكلامي أو السياق الخارجي، والمتغيّرات الخارجيّة التي تكتنف
مادّة الكلام واعتبروه أصلا في وصف الظاهرة اللغوية وتفسيرها (1). وقد تناول الدكتور نهاد الموسى في بحثه الموسوم ب (الأعراف أو نحو اللسانيّات الاجتماعيّة في العربيّة) هذه المسألة بالتفصيل مستقريا عشرات الأمثلة على صدور النحاة العرب عن هذا الأصل. مع الإشارة إلى أنّنا إذا كنّا سنجهد أنفسنا في تحليل بعض النصوص للتدليل على صدق هذه المقولة، فإنّنا في نصوص عديدة لا نحتاج لمثل هذا الجهد كون النحاة قد قرّروا فيه صراحة صدورهم عن هذا الأصل، فحين يعرّف أولئك النحاة مثلا الكلام يقولون: = هو ما تحصل به الفائدة سواء كان لفظا، أو خطّا، أو إشارة، أو ما نطق به لسان الحال = (2).(1/41)
ولكنّهم تجاوزوا فوق هذا في رسم معالم النظام اللّغوي حدود النصّ الذاتيّة. ومادّة العبارة الكلاميّة إلى محيط الحدث الكلامي أو السياق الخارجي، والمتغيّرات الخارجيّة التي تكتنف
مادّة الكلام واعتبروه أصلا في وصف الظاهرة اللغوية وتفسيرها (1). وقد تناول الدكتور نهاد الموسى في بحثه الموسوم ب (الأعراف أو نحو اللسانيّات الاجتماعيّة في العربيّة) هذه المسألة بالتفصيل مستقريا عشرات الأمثلة على صدور النحاة العرب عن هذا الأصل. مع الإشارة إلى أنّنا إذا كنّا سنجهد أنفسنا في تحليل بعض النصوص للتدليل على صدق هذه المقولة، فإنّنا في نصوص عديدة لا نحتاج لمثل هذا الجهد كون النحاة قد قرّروا فيه صراحة صدورهم عن هذا الأصل، فحين يعرّف أولئك النحاة مثلا الكلام يقولون: = هو ما تحصل به الفائدة سواء كان لفظا، أو خطّا، أو إشارة، أو ما نطق به لسان الحال = (2).
ومؤدّاه واضح فإنّ تجليّات الكلام لديهم أربعة: اثنان منها ينتسبان إلى المستوى اللّغوي الخالص وهما: اللفظ والخط، واثنان ينتسبان إلى المحيط الخارجي الذي يكتنف موقف الخطاب، وهما الإشارة ووقائع الحال التي تحيط بالخطاب (3). وسبق أن أشرنا إلى مفهوم الإشارة ومحلّه من بحوث جون لاينز وغيره من علماء الدلالة المحدثين. وانتسابها إلى ما يعرف بالقوّة اللاكلاميّة في الحدث الكلامي.
وننقل هنا قولة ابن جنّي: = فلو كان استماع الأذن مغنيا عن مقابلة العين مجزئا عنه لما تكلّف القائل، ولا كلّف صاحبه الإقبال عليه، والإصغاء إليه، وعلى ذلك قالوا:
ربّ إشارة أبلغ من عبارة، وقال لي بعض مشايخنا رحمهم الله. أنا لا أحسن أن أكلّم إنسانا في الظلمة = (4). وفي هذا القول استحضار لما لتأثير عناصر الموقف الخارجي في استعمال اللّغة على مواقف الخطاب وما يصاحبها من حركة اليدين، أو إيماءات الوجه، أو دفقات المشاعر المتمثّلة في دمعة وابتسامة، أو غيرها.
__________
(1) د. نهاد الموسى: الأعراف أو نحو اللّسانيّات الاجتماعيّة في العربيّة، الملتقى الدولي الثالث في اللّسانيّات.
تونس. (2318) فيفيري 1985، العدد السادس 1986/ الجامعة التونسية. مركز الدراسات والأبحاث الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ص 147.
(2) ابن هشام، شذور الذهب، 2/ 29.
(3) نهاد الموسى، الأعراف، ص 10.
(4) ابن جني، الخصائص 1/ 247.(1/42)
وكثيرا ما يتجاوز معيار الصواب والخطأ الجانب الشكلي، فيصبح ما يرافق موقف الكلام من سياق خارجي هو الفيصل في هذا المعيار، وأمثلة ذلك عديدة، ومنه:
= أنّ حدّ الأسماء الظاهرة أن تخبر بها واحدا عن واحد غائب، والمخبر عنه غيرها فنقول:
قال زيد، فزيد غيرك وغير المخاطب، ولا نقول: قال زيد وأنت تعنيه، أعني المخاطب = (1). وهكذا يمتنع لديهم أن يقال قال زيد في موقف يكون المخاطب بهذه الجملة هو (زيد)، وعلى الرغم من أنّ هذه الجملة عند من يحتكم إلى قواعد الشكل وحده مستقيمة تماما (2).
وتتبدّى عناصر الخطاب متكاملة في ملاحظات النّحاة واللّغويّين القدامى، ويتبدّى عنصر الإبلاغ في الخطاب كملحظ أساسي في قبول الجمل أو عدم قبولها، فتصبح فائدة المخاطب أو السامع معيارا لصحّة الكلام، ويراعون حال هذا المخاطب في صياغة الجملة أو العبارة فقد لحظ النحاة ما يكون من تغيّر صفات الخطاب وعناصره وفقا لمنزلة المخاطب والأحوال التي تعتريه (3)، ويتمثّل هذا في قول المبرّد: = وكذلك لو قلت للخليفة، انظر في أمري، أنصفني، لقلت: سألته، ولم تقل أمرته، لأنك تأمر من هو دونك، وتطلب إلى من أنت دونه = (4). كما تتدخّل حال المخاطب في تحديد الاختيار النحوي، فإذا قال لك شيئا تنكره أجبته ب (كلّا)، ولم تجبه ب (لا) المعتادة في جواب السلب. ويتوقّف النحاة كذلك عند حقيقة المتكلّم وحاله، ويكشفون عن علاقتها بحقيقة الكلام وأحواله.
واستقصوا تواتر الأساليب الكلاميّة وفقا لجنس المتكلّم، كما في أسلوب الندبة، واستقصوا أعراضا لحال المتكلّم في مواقف الخطاب حتّى ما يعترضه في ذاكرته من توقّف،
__________
(1) المبرّد، (محمد بن يزيد) المقتضب، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، عالم الكتب / بيروت. بلا تاريخ، 4/ 274.
(2) نهاد الموسى، الأعراف، ص 14.
(3) نفسه، ص 16.
(4) المبرّد، المقتضب 2/ 132.(1/43)
ومن ذلك ما قرره الزمخشري تحت (حرف التذكّر) في مفصّلة وهو عنده أن يقول الرجل في نحو قال ويقول ومن العام: قالا فيمدّ فتحة اللام ويقولو ومن العاميّ إذا تذكّر ولم يرد أن يقطع كلامه = (1).
ويمثّل الاختيار الثقافي المشترك بين أهل اللّغة ملحظا إضافيّا في ضبط قواعدهم، فقد يغني عندهم عن مرجع الضمير وهو الاسم الظاهر المتقدّم في المعتاد من سنن العربيّة فإنّه إذا كان المرجع مفهوما بالعرف المتحصّل لدى أبناء اللّغة، استقام في مجرى العربيّة أن يستعمل الضمير ابتداء، وإن لم يتقدّم ذكر مرجعه، كما في قوله تعالى (إنّا أنزلناه) (أي القرآن) وقوله: (حتّى توارت بالحجاب) (أي الشمس)، وقولهم: ما عليها أعلم من فلان (أي الأرض) (2). ولعلّ توجيه ابن هشام لمسألة (الزائد) في القرآن وصدور هذا التوجيه عن معطيات غير نحويّة يعدّ مثالا واضحا للوجهة الاجتماعيّة لدى النحاة الأوائل يقول: = وينبغي أن يتجنّب المعرب أن يقول في حرف في كتاب الله تعالى: أنّه زائد، لأنّه يسبق إلى الأذهان أنّ الزائد هو الذي لا معنى له، وكلام الله سبحانه منزّه عن ذلك = (3).
وقريب من هذا ما قرّره سيبويه من أنّه لا يجوز لك أن تقول: الحمد لزيد، فإنّه = ليس كلّ شىء من الكلام يكون تعظيما لله عز وجل يكون تعظيما لغيره من المخلوقين = (4). وجدير بالذكر أنّ ملاحظات اللّسانيّين الاجتماعيّين حول تخصيص ألفاظ وتراكيب معلومة بمواقف دينيّة أو تقليديّة معلومة هي أشبه ما يكون بهذه الملاحظة (5).
وتمثّل الحال المشاهدة التي يقع فيها الحدث الكلامي كالعنصر من عناصر الكلام لديهم، وتشكّل مسوّغا ثابتا للحذف، والتعبير بالحال المشاهدة مصطلح صريح من
__________
(1) نهاد الموسى، الأعراف، ص 12.
(2) نفسه، ص 13.
(3) ابن هشام، الإعراب عن قواعد الأعراب، ص 108.
(4) الكتاب، 1/ 59.
(5) نفسه.(1/44)
مصطلحهم، واتّخاذه على الحذف خاصّة أصل متواتر في كتبهم، ومنه قولهم للمرتحل:
راشدا مهديّا، ومصاحبا معانا، بإضمار (اذهب). إنّ مقايسة الحقيقة اللّسانيّة بالحقيقة الكونيّة الخارجيّة هي الامتداد النهائي لهذا الأصل عند النحاة، وهي ملحظ قائم لديهم وقد صرّحوا به في غير موضع، كما احتفوا بالمواضع المتّفقة بين النظام اللّساني، ونظام الوجود الخارجي، فاعتبروا مثلا المؤنّث الحقيقي أقوى من المؤنث المجازي (1).
إنّ النّظام اللّغوي في الأصل يقتضي وجود أطراف يجمعها إسناد ظاهر أو مقدّر، لكنّ التطبيق اللّغوي قد يسقط أحدها اعتمادا على دلالة القرائن المقاليّة، أو الحاليّة، وقد يحرص هذا التطبيق على إبرازها لتدلّ في موضعها دلالة لا تتحقّق بغيابها، ويضع سيبويه إشارات دقيقة لأثر الحذف في الدلالة، واتّصال هذا الأثر بطبيعة المبدع أحيانا، واتّصاله بطبيعة المتلقّي أحيانا أخرى، بل إنّه أشار إلى وجود سياق بارز لهذا الحذف عند ذكر الديار حتّى أصبح من طبيعة كلام العرب، كقول ذي الرمّة:
ديار ميّة إذ ميّ مساعفة ... ولا يرى مثلها عجم ولا عرب
= كأنّه قال: اذكر ديار ميّة، لكنّه لا يذكر (اذكر) لكثرة ذلك في كلامهم.
واستعمالهم إياه، ولما كان فيه من ذكر الديار قبل ذلك = (2) ومن العرب من يرفع (الديار) كأنّه يقول: تلك ديار فلانة قال الشاعر:
اعتاد قلبك من سلمى عوائده ... وهاج أهواءك المكنونة الطلل
ربع قواء أذاع المعصرات به ... وكلّ جيران سار ماؤه خضل
ومثله لعمر بن أبي ربيعة
دار لمروة إذ أهلي وأهلهم ... بالكانسيّة نرعى اللهو والغزلا
__________
(1) نهاد الموسى، الأعراف ص 14.
(2) سيبويه (أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر [ت 180هـ]، الكتاب، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون / ط 1، دار الجيل / بيروت / 1966، 1/ 280.(1/45)
= فإذا رفعت فالذي في نفسك ما أظهرت، وإذا نصبت فالذي في نفسك غير ما أظهرت = (1). فغرض المتكلّم أو المبدع في حالتنا يحدّد سياقات الذكر والحذف. والملاحظ أنّ سياقات الحذف تمثّل على نحو من الأنحاء أثر النحو في خلق العلاقات داخل التركيب، مع الملاحظة أيضا أنّ هذه العلاقات لا تتعامل مع عناصر التركيب على أساس من أهميّة بعضها، وعدم أهميّة بعضها الآخر وإنّما السياق هو الذي يعطي لكلّ عنصر أهميّته، بحيث يكون إسقاطه مبرزا لهذه الأهميّة أكثر من ذكره = لأنّ نفس السامع تتّسع في الظنّ والحساب، وكلّ معلوم فهو هيّن لكونه محصورا = (2).
وتتّصل الحركة الموضعيّة في الجملة أو النص بما يطرأ على التركيب من تحوّل لبعض عناصره (بالتعيين). وفي هذا المجال اعتبر بعض النحاة أنّ (النكرة) هي الأصل، لأنّها أشدّ تمكّنا من المعرفة على أساس أنّ الأصل في الأشياء أن تكون نكرة، ثم يطرأ عليها التعريف، ومن ثمّ فأكثر الكلام ينصرف إلى النكرة (3). وتتفاوت درجة التعريف والتنكير كما تتفاوت درجة النكرة، وهذا التفاوت بدوره يؤدّي إلى تأكيد عمليّة (التعيين) أو التقليل منها حسب السياق الذي يرد فيه الكلام. وحضور المتكلّم والمتلقّي أمر بدهي في حركة الصياغة موضعيّا من خلال التنكير والتعريف، فعند ما نقول: = زيد منطلق = يكون الكلام مع من لم يعلم أنّ انطلاقا كان لا من زيد ولا من عمرو فيفيده فذلك ابتداء، وإذا قلنا (زيد المنطلق) كان الكلام مع من عرف أنّ انطلاقا كان إمّا من زيد وإمّا من عمرو، فنعلمه أنّه كان من زيد دون غيره = (4).
وتطالعنا أمثلة عديدة مستخرجة من المادّة النحويّة، وهي أمثلة صحيحة لمن ينظر فيها نظرة شكليّة داخليّة، ولكنّها عند من يحتكم إلى مثل هذا الأصل (سياق الحال، أو العرف
__________
(1) الكتاب، 1/ 280.
(2) ابن رشيق القيرواني، العمدة، 1/ 168.
(3) سيبويه (الكتاب) 1/ 22.
(4) الجرجاني (عبد القاهر)، دلائل الإعجاز، ص 196.(1/46)
الاجتماعي) قد تصحّ وقد لا تصحّ، وذلك وفقا للموقف الخارجي وعناصره، ومن هذه الأمثلة:
قولك: الحمد لله، أو قولك الحمد لزيد، تجوز الجملة الأولى ولا تجوز الجملة الثانية عند سيبويه، لأنّه ليس كلّ شيء من الكلام يكون تعظيما لله عزّ وجلّ، يكون تعظيما لغيره من المخلوقين =
وا منقذكاه (في خطاب الأقصى) يا منقذك
يجوز ندبة المضاف إلى المخاطب، ولا يجوز نداؤه، لأنّ المندوب لا ينادى ولا يجيب = (1).
ولعلّ من مقايسة الحقيقة اللسانيّة بالحقيقة الكونيّة الخارجيّة أيضا ما نجده لدى أبي علي الفارسي في المسائل العسكريّات من قوله: = وقد قيل لمن وصف الفعل بهذا الوصف:
أرأيتم قولكم: خلق الله الزمان، وهل يدلّ هذا على زمان؟ فإن قلتم: لا، فسد وصفكم، وإن قلتم يدلّ فقد ثبتّم زمانا قبل. وذلك ممتنع لما يجيبون به عن ذلك أنّ اللفظ فيه قد جرى عندهم الآن مجرى ما يتخاطبون به ويتعارفون = (2) إن هذا المثال شاهد على ضرورة توافق الحقيقة اللسانية مع الحقيقة الخارجيّة عند النحاة ومثله كثير.
ومن مظاهر اهتمام اللّغويّين العرب من نحاة وبلاغيّين بدراسة البنيات المختلفة في إطار التفاعل بين بنية المقال ومقتضيات المقام، اقتراحهم أوصافا لكلّ من ظاهرة (التخصيص) وظاهرة (العناية) وظاهرة (التوكيد)، وظاهرة (الحصر). واللافت للنظر في معالجتهم لهذه الظواهر أنّهم علّلوا الخصائص البنيويّة المميّزة للبنيات المعنيّة بالأمر انطلاقا من أنماط المقامات التي تنجز فيها ويعني هذا بعبارة أخرى أنّهم اعتبروا في تحليلهم لهذه المجموعة من الظواهر أنّ الوظائف التداوليّة (التخصيص، العناية، الحصر،) تحدّد بنية الجملة التي تسند إلى أحد مكوّناتها، فالمكوّن (قصيدة) في الجملة:
__________
(1) نهاد الموسى، الأعراف، ص 26.
(2) أبو علي الفارسي (ت 377هـ)، المسائل العسكريّات، تحقيق د. اسماعيل عمائرة / مراجعة د. نهاد الموسى / منشورات الجامعة الأردنية، 1981، ص 32.(1/47)
قصيدة ألّفت (لا كتابا) مثلا، يحتلّ موقع الصدر لأنّه حامل لوظيفة تداوليّة معيّنة هي وظيفة التخصيص. وهكذا (1).
وعلى الرغم من اهتمام النحويّين العرب بالقياس، إلّا أنّ قسما منهم قد أولى السماع قيمة كبرى. ويستند أبو الفتح ابن جنّي في بعض أحكامه على السماع بدلا من القياس توكيدا للدور الذي يقوم به الشيوع ودوران اللفظ على اللّسان، وفي أحوال معيّنة نجده يستند في تفسير (الوجه) على العودة إلى سياق الحال ففي قول الشاعر:
تقول وصكّت وجهها بيمينها ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس؟!
فذكر صكّ الوجه، أعلمنا بأنّها كانت منكرة لا متعجبّة، أي أنّه لمّا حكى الحال (وصكّت وجهها) علم بذلك قوّة إنكارها، وتعاظم الصورة لها، هذا مع أنك سامع لحكاية الحال غير مشاهد لها، وقد قيل: ليس المخبر كالمعاين) (2).
وفي موضع آخر يذكّرنا أبو الفتح بحرص الأصوليّين على استقصاء وجوه الأحوال التي تصاحب الكلام من رموز وإشارات، وتعبيرات لعلو الوجه، ومن سكنات وحركات، لها أثرها البليغ في فحوى الخطاب يقول: = فالحمّالون، والحماميّون، والساسة (أي الذين يسوسون الدواب)، والوقّادون ومن يليهم يستوضحون من مشاهدة الأحوال ما لا يحصّله أبو عمرو من شعر الفرزدق، إذا أخبر به عنه، ولم يحضره ينشده = (3).
وعلى حين يظلّ للّسانيّات الاجتماعيّة فضل التصريح الشمولي المجرّد عن هذا المنحى في تحليل الظاهرة اللّسانيّة وتفسيرها، فإنّ عمل النحاة العرب يمثّل الصدور التلقائي عن هذا المنطلق في الجملة، وأمثلة النحاة وتطبيقاتهم لهذا البعد متواردة متكاثرة، وهم متلاقون على جمهرة هذه الأمثلة والتطبيقات، كأنّ الأصل الذي يصدرون عنه مشترك متّفق، شأنهم فيه شأنهم في مسائل القياس مثلا = (4).
__________
(1) د. احمد المتوكّل، الوظائف التداوليّة في اللّغة العربيّة، ط 1، دار الثقافة للنشر والتوزيع / الدار البيضاء / المغرب / ص 8.
(2) ابن جنّي، الخصائص، 2/ 97.
(3) نفسه، 2/ 79.
(4) نهاد الموسى، الأعراف، ص 28.(1/48)
وقد لاحظ اللّغويّون العرب أنّ الأحوال الاجتماعيّة والأدوات تؤثّر في أنماط الكلام، وأنواعه بحيث يكثر تداول ألفاظ معيّنة في مواقف خاصّة، ويقلّ تداول غيرها.
ومن ذلك أنّهم وقفوا على استخدام العرب ألفاظا مخصوصة في مخاطبات الملوك والأمراء، ولم يخاطبوهم بأسمائهم، بل دلّوا عليها، وأشاروا لهم بلفظ الغيبة إجلالا وتعظيما.
ووقفوا كذلك على ألفاظ لا يحسن التفوّه بها في المجالس، ومن هنا كانت بعض الألفاظ الموجودة في المعجم غير جارية في الاستعمال لأنّ العرف اللّغوي والاجتماعي لا يسمح باستعمالها. ونستطيع أن نلمح هذا في نظم المكاتبات والمخاطبات الرسميّة في العهود المختلفة للدولة الإسلاميّة، من مثل طرق مكاتبة الأدنى للأعلى، أو مخاطبة الوزير، أو الأشراف. وقد أودع (ابن شيت القرشي) في كتابه (معالم الكتابة) أمثلة عديدة على تدخّل العرف الاجتماعي في تحديد الوحدات اللغويّة المستخدمة في المواقف المختلفة.
وفي الدرس الصوتي يتنبّه اللّغويّون العرب لأثر السياق في البعد الصوتي للكلام، وذلك على مستويين: مستوى داخلي، فالفونيمات حين تلتقي في البنية اللفظيّة تؤثّر في بعضها بعضا، ويلقي هذا التأثير بثقله على الأصوات اللغويّة فتتباعد وتتقارب.
ويذكر ابن فارس في الصاحبي أنّ بعض الحروف تألف الاجتماع في كلمات، وبعضها يأنف ذلك بحسب المخارج فالعربيّة تميل إلى تجنّب الألفاظ التي تتألّف من حروف متباعدة المخارج مثل (هحخع) (1). ومستوى خارجي: وذلك بأن تكون تشكيلات الأصوات المؤلّفة للألفاظ موافقة للسياق اللّغوي المجاور لها، وموافقة للمقام الذي تتشكّل فيه، ومن ذلك حديثهم عن كلمة (مستشزرات) في معلّقة امرئ القيس، ومناسبتها للسياق الذي وردت فيه، على الرغم من تقارب مخارج حروفها فالسياق الذي وردت فيه هو وصف غدائر الحصان (غدائره مستشزرات إلى العلا)، وما فيه من إيحاء التطاير والعلوّ والتفاعل مع حركة الفرس والفارس معا.
__________
(1) الخصائص، 2/ 79.(1/49)
وقد تكلّم ابن جنّي في (الخصائص) و (سرّ صناعة الإعراب) على ظواهر صوتيّة سياقيّة كثيرة جدّا، وتحدّث عن إطالة الأصوات أو تقصيرها أو حذفها كما في (الترخيم). ولاحظ الدلالة النفسيّة لمدّ الأصوات، أو اختزالها سواء فيما يتّصل بالمتحدّث أم بالمخاطب، ولا ننسى بحثه الشهير في الخصائص المعنون ب (تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني)، وهو بحث في اتّصال دلالات الألفاظ بالأصوات المكوّنة لها. ومن الظواهر الصوتيّة الأخرى التي ذكرها اللغويّون القدامى ولها علاقة بالسياق:
التنغيم، والوقف والابتداء، والحمل على المجاورة، والقلب المكاني في الحركات، والإدغام التامّ والناقص، وحذف الصوت اللّغوي وربطوا ذلك بالسياق العامّ للكلام والاتّساق الداخلي معا. وقد اهتمّ (ابن السكّيت) بالفروق الصوتيّة بين الألفاظ وأثرها في الدلالة، كما في الفرق بين ترب وترب، وجرح وجرح، ودور السّياق في تحديد الضبط الدقيق للكلمة، وبالتالي تحديد دلالتها، وقد أصبحت طريقة ابن السكّيت هذه من الطرق المتّبعة في التحقق من البناء الصوتي للألفاظ واهتم اللغويون بضبط الأبنية وحركات الإعراب لأنّ هذا الضبط هو ما يوقف به على أغراض المتكلّمين. = وللعرب في ذلك ما ليس لغيرهم، فهم يفرّقون بالحركات وغيرها بين المعاني = (1).
ويراعي اللغويّون العرب الحال التي يدخل عليها المقال كما في جمعهم (الأمثال) فقد نقل عن أبي عبيدة معمر بن المثنّى (209هـ) قوله: = يجيء في الأمثال ما لا يجيء في غيرها، ونقل عن سيبويه = إنّ الأمثال قد تخرج عن القياس فتحكى كما سمعت) وقال المرزوقي: = من شرط المثل ألّا يغيّر عما يقع في الأصل عليه = ومعنى هذا أنّ العرب غلّبوا الشائع الجاري في الاستعمال على القياس في هذا النوع من الكلام خاصّة لمراعاة الحال الدالّ عليه. وكانوا عند شرح تلك الأمثال يستعيدون الحال التي ضربت عليها (2).
__________
(1) السيوطي، الحافظ جلال الدين عبد الرحمن، المزهر في علوم اللغة وأنواعها. شرحه وضبطه وصححه وعنون موضوعاته وعلّق حواشيه محمد أحمد جاد المولى ومحمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، منشورات المكتبة العصرية، بيروت / 1986، 1/ 329.
(2) إبراهيم خليل / السياق، ص 67.(1/50)
وفي علم الدلالة نجد أن اهتمام اللغويين العرب بالسياق ودوره في البحث الدلالي جليّ واضح، ومن ذلك تصنيف الألفاظ في زمر ومجموعات على أساس سياقيّ كالمترادف، والأضداد، والمشترك اللفظي، ومنه بناء المعجم العربي على أساس السياق التفسيري. وكان معيارهم في التدقيق بين الدلالات هو الاحتكام للسياق الذي يتمثّل في الاستعمال المألوف والشاهد المعروف من شعر او مثل أو حديث أو آية. وليس أدلّ على هذا في موضوع الأضداد من تسمية الملدوغ سليما، والصحيح سليما، وهذا ممّا لا يمكن تبيّنه إلّا عبر السياق. وكذلك ما يعرف في موضوع المشترك اللفظي بظاهرة الاستصحاب، ومعناها أنّ اللفظة إذا صحبت لفظا معيّنا انزاحت عن المعنى المعجمي الأصلي للدلالة على معنى جديد هو المعنى السياقي، فإذا اختلّ هذا الاستصحاب تغيّرت الدلالة، ومثاله: مادّة (يد) يذكرون فيها:
هم يد على من سواهم (إذا كان أمرهم واحدا).
أعطيته مالا عن ظهر يد (عن تفضّل) وهكذا.
وفي كتب الفروق اللغويّة (1) المختلفة بيان كامل وشامل عن دور السياق في التفريق فيما يذهب الذهن إلى أنّه من المترادف، كما في (الجحد والإنكار) أو (العقل واللبّ) إذ بينها فروق دقيقة لا تظهر إلّا من خلال السياق. ونجد مزيدا من جلاء دور السياق في مسألة المترادف لدى كلّ من قدامة بن جعفر في كتابه (جواهر الألفاظ) والهمذاني في كتابه (الألفاظ الكتابيّة) وأبرز ما يميّز عملهما الاهتمام بوقوع المترادف على مستوى التراكيب. ودور السياق في جلاء معانيها من مثل: شعب الصدع، ورأب القطع، وسدّ الثلمة، وغيرها.
وتكشف معاجم المعاني عن لون آخر من ألوان علاقة السياق بالدلالة، فقد اهتمّ اللغويّون العرب بجمع المعاني التي يجمعها حقل دلاليّ واحد في صعيد واحد. مع الاهتمام بما بينها من لطيف الفروق، مثل درجات النوم، ودرجات العشق، أو ومن
__________
(1) انظر الفروق في اللّغة، أبو هلال العسكري.(1/51)
ذلك أيضا اهتمامهم بتصنيف الألفاظ التي تندرج في باب واحد من أبواب المعاني كأن تلتقي في علاقة ما كالارتباط بجسم الإنسان أو النبات أو الفرس كما في كتب خلق الإنسان وغيرها. وانظر إلى هذا المثل من فقه اللّغة وسرّ العربيّة وكيف استفاد الثعالبي من فكرة السّياق في تحليل المعنى فتحت عنوان (فصل في العبوس) قال:
= إذا زوى ما بين عيني الرجل فهو قاطب وعابس، فإذا كشّر عن أنيابه مع العبوس فهو كالح، فإذا زاد عبوسه فهو باسر ومكفهرّ، فإذا كان عبوسه من الهمّ فهو ساهم، فإذا كان عبوسه من الغيظ، وكان مع ذلك منتفخا فهو مبرطم = (1). وهذا النصّ يظهر علاقة تقاطيع الوجه، وحركاته، والحالة النفسيّة للشخص بالدلالات والألفاظ المستخدمة في الوصف. وفي موضع آخر تحت عنوان: = في تفصيل أحوال السارق وأوصافه = قال: = إذا كان يسرق المتاع من الأحراز فهو سارق، فإذا كان يقطع على القوافل فهو لصّ، وقرضوب، فإذا كان يسرق الإبل فهو حارب، فإذا كان يسرق الغنم فهو أحمص، والحميصة: الشاة المسروقة، فإذا كان يسرق الدراهم بين أصابعه فهو قفّاف، فإذا كان يشقّ الجيوب وغيرها من الدراهم والدنانير فهو طرّاد، فإذا كان داهية في اللصوصيّة فهو سبد وجمعها أسباد، فإذا كان له تخصّص بالتلصّص والخبث فهو طمل، فإذا كان خبثا منكرا فهو عفر) (2). ولعلّ علاقة هذا النصّ بوضع المخاطب، أو المتكلّم والموضوع، وسياق الحال غنيّ عن التعليق، فهي واضحة جدّا.
وثمّة شيء آخر شغل به اللّغويّون العرب ويعدّ في إطار التصنيف السياقي للألفاظ، وهو تصنيف الألفاظ على أساس دلاليّ يرتبط بلون من ألوان الكلام الأدبي أو الفلسفي، وقد اكتشف اللّغويّون أنّ اللفظة الواحدة يمكن أن تتحوّل إلى كلمة متعدّدة المعاني بحسب سياق النصّ، أو الخطاب، وقد قالوا في (المتكلّم) أنّها تعني كلّ من نطق
__________
(1) الثعالبي: الإمام أبو منصور اسماعيل الثعالبي النيسابوري (ت 329هـ)، فقه اللّغة وسرّ العربية، مكتبة لبنان / بلا تاريخ / ص 140.
(2) نفسه، ص 143.(1/52)
بكلام، ولكنّها إذا وردت في سياق خاص كالحديث عن الصفات الإلهية والمعتقدات دلّت على من يشتغل بعلم مخصوص، هو علم الكلام، وقد سمّوا المعنى الأول: المعنى العرفي وسمّوا الثاني المعنى الوضعي أو الاصطلاحي (1).
وكثيرا ما يعرض في (معاجم الألفاظ) على اختلاف مدارسها ما ينبئ عن احتفائها ب (سياق الحال) الذي استخدمت فيه الألفاظ، فيوردون الحكايات والقصص والشواهد التي ترتبط بدلالة لفظة من الألفاظ، واعتمدوا على السياق، الاجتماعي والمكاني للّفظة، وأمّا الزمخشري فقد عني (في أساس البلاغة) باستخراج المعاني من السياق ولم يتقيّد بشرح الألفاظ المفردة وهذا ما قصد إليه في المقدّمة بقوله الذي يصف فيه خصائص كتابه = ومنها التوقيف على مناهج التركيب والتأليف، وتعريف مدارج الترتيب والترصيف بسوق الكلمات متناسقة لا مرسلة بددا، ومنتظمة لا طرائق قددا = (2). فهو يشترط لوضوح دلالة اللفظ أن يؤخذ بالاعتبار علاقته بغيره من الألفاظ، وموقعه من العبارة، وطريقة تداوله ودورانه في الاستعمال ومدى شيوعه، وخروج معناه عن الأصل الذي وضع له مع مراعاة تعاضد المستويين الدلالي والتركيبي في صناعة هذا المعنى. كما اعتنى الزمخشري بالسياق الثقافي للكلمة. فعند ما يعدّد المعاني المتباينة للفظة تبعا لأنماط التراكيب المختلفة المتداولة، فإنه يصوّر بطريقة غير مباشرة الثقافة العربيّة السائدة في عصره، وتلك التي توارثها معاصروه عمّن سبقوهم فهذه الأنماط (يد البحر)، و (يد الدهر) و (أيدي سبأ) وغيرها تمثّل الثقافة التي يتشكّل معنى اللّفظة في ضوئها.
__________
(1) الغزالي، المستصفى في علم الأصول 1/ 325.
(2) الزمخشري، أساس البلاغة، ط 1، دار الفكر، بيروت، 1979، ص 8.(1/53)
2 - نظرية العلاقة بين النصّ والسياق في ميدان النقد والبلاغة:
لاحظ البلاغيّون منذ القديم ظاهرة السياق من خلال مقولتهم الدقيقة = لكلّ مقام مقال =، فانطلقوا في مباحثهم من فكرة ربط الصياغة بالسياق، وأصبح مقياس الكلام في باب الحسن والقبول بحسب مناسبة الكلام لما يليق به، أي (مقتضى الحال). = فإن كان مقتضى الحال إطلاق الحكم فحسن الكلام تجريده من مؤكّدات الحكم، وإن كان مقتضى الحال بخلاف ذلك فحسن الحكم تحلّيه بشيء من ذلك بحسب المقتضى ضعفا وقوّة، وإن كان مقتضى الحال طيّ ذكر المسند إليه فحسن الكلام تركه، وإن كان المقتضى إثباته على وجه من الوجوه، فحسن الكلام وروده عاريا عن ذكره، وإن كان المقتضى إثباته مخصّصا بشيء من التخصيصات فحسن الكلام نظمه على الوجوه المناسبة، من الاعتبارات المقدّم ذكرها، وكذا إن كان المقتضى عند انتظام الجملة مع أخرى فصلها أو وصلها، أو الإيجاز معها أو الإطناب فحسن الكلام تأليفه مطابقا لذلك = (1).
إنّ السكّاكي قد جمع في هذه العبارات مقتضيات الأحوال أو السياقات التي ترد فيها أنواع الصياغة بما تحويه من خواص تركيبيّة في الجملة. وقريب من هذا ما قاله القزويني في الإيضاح = بلاغة الكلام هي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته، ومقتضى الحال مختلف، ومقامات الكلام متفاوتة، فمقام التنكير مباين لمقام التعريف، ومقام الإطلاق مباين لمقام التقييد، ومقام التقديم مباين لمقام التأخير، ومقام الذكر مباين لمقام الحذف، ومقام الوصل لمقام الفصل وكذا خطاب الذكيّ مباين لخطاب الغبيّ = (2). ويكشف نصّ القزويني عن علاقة النصّ بسياق الظرف وطبيعة الأحداث المرافقة للحدث الكلامي، وكذلك علاقة السياق بطرائق الكلام، وأسلوب الحديث، كما يكشف عن علاقة المستوى العقلي للمتكلّم بطبيعة الخطاب، ومستواه العقلي كذلك.
__________
(1) السكّاكي: مفتاح العلوم، بيروت، دار الكتب العلميّة، د. ت، ص 73.
(2) الخطيب القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة، تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، ط 5، دار الكتاب اللبناني / بيروت / 1980، ص 12.(1/54)
وفكرتا الحال والمقام في مفهوم البلاغيّين مرتبطتان بالبعد الزماني والمكاني للكلام، وذلك أنّ الأمر الذي يدعو المتكلّم إلى تقديم صياغته على وجه معيّن، إمّا أن يتّصل بزمن هذه الصياغة فيسمّى (الحال) وإما أن يتّصل بمحلّها فيسمّى (المقام)، ومن هنا ارتبطت فكرة الحال والمقام بالمقال، واختلاف صور هذا المقال يعود بالضرورة إلى اختلاف الحال والمقام، وتمتدّ فكرة المقام إلى علاقة المجاورة التي تكون بين كلمتين متتابعتين فقالوا:
= إنّ لكل كلمة مع صاحبتها مقاما =، ويمكن ملاحظة تقارب مفهوم المقام عند البلاغيّين مع مفهوم العلاقات السياقيّة عند (دي سوسير) (9)، من خلال ما ذكره ابن الأثير في باب الصناعة اللفظيّة، متدرّجا من هذا الإطار الضيّق للعلاقات السياقيّة إلى الإطار الواسع لمفهوم السياق المتّصل بالمقام فصاحب الصناعة اللفظيّة يحتاج في تأليفه إلى ثلاثة أشياء أوّلها: = اختيار الألفاظ المفردة، وحكم ذلك حكم اللآلئ المبدّدة فإنّها تتخيّر وتنتقى قبل النظم وثانيها: نظم كلّ كلمة مع أختها المشاكلة لها لئلّا يجيء الكلام قلقا نافرا عن مواضعه، وحكم ذلك حكم العقد المنظوم في اقتران كلّ لؤلؤة منه بأختها المشاكلة لها.
والثالث: الغرض المقصود من ذلك الكلام على اختلاف أنواعه، وحكم ذلك حكم الموضع الذي يوضع فيه العقد المنظوم، فتارة يجعل إكليلا على الرأس، وتارة يجعل قلادة في العنق، وتارة يجعل شنفا في الأذن، ولكلّ موضع من هذه المواضع هيئة من الحسن تخصّه = (1).
__________
(9) يرى سوسير أنّ هناك علاقات تقوم بين الكلمات في تسلسلها تعتمد على خاصيّة اللغة الزمنيّة، فهي تجري كخط مستقيم يستبعد فيه إمكانيّة النطق بعنصرين في وقت واحد، وتتآلف العناصر في سلسلة الكلام، وهذا التآلف الذي يعتمد على الامتداد يطلق عليه (العلاقات السياقية). والتركيب بهذا الاعتبار يتألّف دائما من عنصرين أو أكثر مثل: (الطقس جميل)، وعند ما تدخل الكلمة في تركيب ما فإنّها تكتسب قيمتها فحسب من مقابلتها لما يسبقها أو يلحقها من كلمات. ومن ناحية أخرى فإنّنا لو أخذنا أيّ كلمة من السلسلة السياقية لوجدنا أنّها تثير كلمات أخرى بالتداعي والإيحاء. فكلمة = تعليم = مثلا تثير معها في الذهن كلمات أخرى مثل: تربية، معلّم، وعلم، ومدرسة. وهذه تجمعها علاقة تسمّى العلاقات الإيحائيّة وهي تختلف عن العلاقات السياقيّة. انظر صلاح فضل / نظريّة البنائيّة في النقد العربي، ط 1، ص (3635).
(1) ابن الأثير، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبّانة، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، 1، 1972/ 398.(1/55)
وهذا نصّ يؤكد إدراك هذا البلاغي لمفهوم الامتداد الخطّي لسلسلة الكلام وأهميّة التوافق الذي يجب أن يتوافر بين عناصره، ومن ثمّ التوافق مع السياق المحيط به والذي أسماه (الموضع) أو (الغرض) فتشكيلة الكلام تتّفق مع الحدث الذي أنتج هذا الكلام. كما أنكر ابن الأثير ما كان ذهب إليه الجمهور من أهل النظر البلاغي من أنّ البيت الشعري يجب أن يكون مستقلا عن غيره من الأبيات، وأنكر عدم جواز ما يعرف بالتضمين في البيت الشعري. ورأى أنّ علاقة البيت بالبيت كعلاقة الفقرة بالفقرة، ويشبّه القصيدة بأنّها كالسبيكة الواحدة (1). إنّ هذه الوحدة العضويّة تعين القارئ على التفاعل مع النصّ، وهذا التفاعل يعينه على الوقوف على مزايا النصّ، وتنظيمه الداخلي.
ويمكن تدقيق الرؤية العربيّة القديمة لمفهوم العلاقات السياقيّة بنقلها من مستوى اللّغة إلى مستوى الأداء الفنيّ من خلال دراسة ابن سنان الخفاجي للحروف والأصوات، وربطها بالنواحي الدلاليّة والبلاغيّة، حيث يذكر في مقدّمة كتابه (سرّ الفصاحة) نبذا من أحكام الأصوات وحقيقتها، وتقطيع هذه الأصوات بحيث تصير حروفا متميّزة، وأحوال مخارجها وكيفيّة تحوّلها إلى كلام منتظم (2). كما يذكر الخفاجي أنّ كلّ صناعة كمالها بخمسة أشياء. الموضوع وهو الخشب في صناعة النّجارة، والصانع وهو النّجار، والصورة وهي التربيع المخصوص، والآلة مثل المنشار والقدوم وما يجري مجراهما، والغرض وهو أن يقصد على هذا المثال الجلوس فوق ما يصنعه إن كان كرسيّا وإذا كان الأمر على هذا، ولا يمكن المنازعة فيه، وكان تأليف الكلام المخصوص صناعة وجب أن نعتبر فيها هذه الأقسام = (3). والموضوع عنده في صناعة الكلام هو الكلام المؤلّف من الأصوات، والصانع هو الكاتب الذي ينظم الكلام، وأمّا الصورة فهي كالفصل للكاتب والبيت للشاعر، وأمّا الآلة فهي طبع الناظم والعلوم التي اكتسبها، وأمّا الغرض فبحسب الكلام المؤلّف إن كان مدحا، وإن كان هجوا.
__________
(1) ابن الأثير، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبّانة، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، ج 1/ ص 211.
(2) ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة ط 1، مطبعة صبيح / القاهرة / 1953، ص (54).
(3) نفسه، ص: 102.(1/56)
إنّ دراسة ابن سنان هذه تقدّم لنا صورة عن طبيعة العمليّة الإبداعية، وأنّها ليست عفويّة، بل إنّها اختيار منظّم يرتبط بالسّياق اللغوي الداخلي للنصّ، ويتدرّج معه حتّى ينتظم ضمن سياق عام أو مقام، كما أنّ الأسلوب عند ابن سنان يرتبط بهذا السياق، فالسياق هو الذي يحدّد الأسلوب، ويستحسن هذا الأسلوب بقدر ما يتّفق مع السياق = فإنّ لكلّ مقام مقالا، ولكلّ غرض فنا، وأسلوبا = (1)، كما يقول ابن سنان.
وعناصر السّياق التي يتعرّض لها البلاغيّون والنقّاد هي الغرض أو الهدف، وطبيعة الموضوع، والمخاطب فطبيعة الرسالة اللغويّة تتغيّر بتغيّر هذه العناصر، بما فيها الرسالة الإبداعيّة. ويعبّر ابن قتيبة عن هذا بقوله: = فالخطيب من العرب إذا ارتجل كلاما في نكاح، أو حمالة، أو تخصيص، أو صلح، أو ما أشبه ذلك لم يأت به من واد واحد، بل يفتنّ فيختصر تارة إرادة التخفيف، ويطيل تارة إرادة الإفهام، ويكرّر تارة إرادة التوكيد، ويخفي بعض معانيه حتى يغمض على أكثر السامعين، ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجمين، ويشير إلى الشيء ويكنّى عنه، وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال وكثرة الحشد وجلالة المقام = (2). وممّا لفتني حقا أنّه أتبع هذه العبارة الجامعة قولة تضيء بعض ما نحن بصدده من تحليل سورة البقرة، وهي أنّ = من فهم مذاهب العرب في ذلك، وكثر نظره في افتنانها في الأساليب، عرف فضل القرآن = (3). أي أنّ اتّساق الكلام مع غرضه، ومع حال المتكلّم وحال السامع وعنايته بالأسلوب من أجل إيصال الرسالة اللّغويّة قول ينطبق على كلّ رسالة لغويّة، ومن هذا الوجه يعرف فضل (القرآن الكريم) باعتباره يمثّل الذروة في الاتّساق والإبلاغ والبيان، والمخاطب هو محور عملية الإبلاغ في هذه الرسالة الإلهيّة ولذلك فقد توافر لهذا النّص القرآني كل عناصر الاتساق التي تؤدّي إلى تمام الإبلاغ.
__________
(1) ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة ط 1، مطبعة صبيح / القاهرة / 1953، ص 156.
(2) ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن، تحقيق أحمد صقر، ط 1، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1954، ص 13.
(3) نفسه.(1/57)
وأمّا (السياق الحالي) فقد كان له حظّ وافر في دراسات البلاغيّين العرب القدامى، فقد تنبّهوا إلى أثره في جعل الوحدات الكلاميّة أكثر غنى، وثراء ووضوحا، لدى السامع، ولعلّ الجاحظ أوّل من حاول تصنيف صور الدلالة فجعلها خمسا لا تزيد ولا تنقص، وهي اللّفظ والإشارة، والعقد (الحساب) والخطّ، ثمّ الحال التي سمّاها نصبة، والنصبة هي الحال الدالّة التي تقوم مقام تلك الأصناف، ولا تقصّر عن تلك الدلالات، ويقصد الجاحظ بالإشارة عمل اليد والرأس، والعين، والحاجب، والمنكب وغير ذلك ممّا يصحب الكلام من حركات، ولولا هذه الإشارة في رأيه لما تفهّم النّاس معنى خاص الخاصّ (1).
وقد جمع الجاحظ في هذا عددا من القوى الكلاميّة وعدّها دلالات ناطقة، فهي جزء لا يتجزّأ من الحدث الكلامي، ودورها معروف في الإبانة عن دلالته وتقويته، وأما النصبة وهي الحال الناطقة من غير لفظ، والمشيرة بغير يد، فالأشياء هنا تقوم مقام الكلمات في الإبانة عن ذواتها، وهو تعبير دقيق لسياق الحال بكلّ تفاصيله وأثره في تدقيق الوصف للحدث الكلامي، ولنا أن نتخيّل مثلا مسرحا لمعركة دامية بكلّ تفاصيلها، إنّ آلاف المجلّدات لا يمكن أن تعدل بضعة مشاهد حيّة لهذا المسرح، أو مكانا قد أتت عليه الزلازل، أو حادث تصادم بين عدد كبير من الحافلات وغيرها. ويتنبّه الجاحظ إلى الأثر السلبي الذي يتركه انتزاع الكلم من سياقه، وبخاصّة إذا كان الأمر في النوادر من كلام الأعراب، = فأي تغيير يجريه الناقل في الإعراب أو في مخارج الألفاظ يفسدها ويبدّد ما كان فيها من المؤانسة والإمتاع = (2).
ويقف السكّاكي عند أثر (المقام) في صياغة الحدث الكلامي حين يثير موضوع (الزيادة) فالزيادة كما يقول لها مقامات تستمدّ قوامها من مناسباتها، بحيث تصادف
__________
(1) الجاحظ: عمرو بن بحر (ت 255هـ)، البيان والتبيين، ط 1، تحقيق عبد السلام هارون، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1950، 1/ 16.
(2) نفسه، 1/ 267.(1/58)
موقعها المحمود، فزيادة (لك) في قول الخضر لموسى عليه السلام في الكرّة الثانية (ألم اقل لك) لاقتضاء المقام مزيد تقرير لما كان قد قدّم له من {(إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)} (1).
وكذلك قول موسى عليه السلام {(رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي)} (2). بزيادة (لي) = لاكتساء الكلام معها من تأكيد الطلب لانشراح الصدر ما لا يكون بدونه = (3). وإنّما يقصد السكّاكي في هذا الموضع أنّ كلّ تغيير في العالم الخارجي يجد صداه في الحدث الكلامي المتّصل به، ولعلّ هذا يذكّرنا بقولة (برتراند رسل): = إنّ علينا أن ننظر إلى كلامنا على أنّه أحداث في العالم الملموس = (4).
وتبدو كتب إعجاز القرآن (9) ميدانا فسيحا تتجلّى فيه نظريّة السّياق بأوضح صورة وأعمقها. وهذه النظريّة تتناول جميع جوانب العلاقة بين النصّ والسياق. فهذا الخطّابي يرسم صورة الائتلاف بين النصّ والسياق من جهة، وبين أجزاء النصّ نفسه في مستوياته المختلفة من جهة أخرى، يقول: = وأمّا رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنّها لجام الألفاظ وزمام المعاني، وبه تنتظم أجزاء الكلام، ويلتئم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان = (5). فالعالم الخارجي يتشكّل صورة في النفس، ثمّ تترتّب هذه المعاني ألفاظا متّسقة متآلفة منتظمة، يمسك بعضها ببعض، وهذه هي رؤية الخطّابي لطبيعة التكامل بين الواقع (سياق الحال) وسياق اللّغة.
__________
(1) سورة الكهف، آية (75).
(2) سورة طه، آية (25).
(3) السكّاكي، مفتاح العلوم، ص 123.
(4) جون لاينز، اللّغة والمعنى والسياق، ص 227.
(9) لم ندرج كتب إعجاز القرآن ضمن ميدان علوم القرآن، لأنّها تناولت معجزة القرآن البيانيّة بشكل أساسي ممّا يجعلها أقرب إلى ميدان البلاغة، إن لم نقل إنها في مركز الدراسات البلاغيّة.
(5) بيان إعجاز القرآن / ضمن ثلاث مسائل في إعجاز القرآن الكريم للرمّاني والخطّابي والجرجاني، تحقيق محمد خلف الله أحمد ومحمد زغلول سلام، ط 3، دار المعارف، القاهرة، 1986، ص 36.(1/59)
وأمّا الباقلّاني فهو أكثر وضوحا في تحديد أثر السياق المحيط بالنصّ على اختيار ألفاظ ذلك النصّ وأسلوبه، يقول: = إنّ اختيار اللّفظ، وإحلاله في الموقع المناسب في السياق هو أساس البلاغة، والإحسان في البيان، فإنّ إحدى اللفظتين قد تنفرد في موضع، وتزلّ عن مكان لا تزلّ عنه اللفظة الأخرى، بل تتمكن فيه، وتضرب بحرانها، وتراها في مظانّها، وتجدها غير منازعة إلى أوطانها، وتجد الأخرى لو وضعت موضعها في محل نفار، ومرمى شراد، ونابية عن استقرار = (1). فالمقامات تحدّد اختيار الألفاظ ثمّ تترتّب هذه الألفاظ وفق تسلسل سياقيّ لغويّ داخل النص، وأوضح الباقلّاني مسألة الاتساق الداخلي في النصّ من خلال وصفه لأسلوب القرآن بأنه قائم على الترابط والتناسب سواء فيما بين المحتوى أو تسلسل الألفاظ واطّرادها في قوالب منظومة، تتّصل مقدماتها مع نتائجها وتتناغم موضوعاتها وتترتّب عناصرها، وتتّصل بطريقة قائمة على التناسب في نظم الفصل والوصل (2).
ومن الجدير بالذكر أنّ علماء الإعجاز غالبا ما يبدءون الحديث عن إعجاز القرآن بالحديث عن بلاغة العرب، وتمكّنهم من فنّ القول وكأنّه يشار بذلك إلى سياق الثقافة، فقد كانت معجزة القرآن في جنس ما يمهرون ليكون التحدي أكبر وأظهر. ثم إنّهم يشيرون إلى الوقائع التاريخيّة التي نزل القرآن في سياقها، وبعد ذلك يبدءون بالحديث عن ألوان الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم مركّزين على المخاطب، وعلى تشكّل الآية في صورة مثلى تؤدّي إلى إبلاغ (توصيل) أسرع وأعمق وأكثر تأثيرا.
وحين نظر البلاغيّون والنّقاد إلى = مراعاة القول لمقتضى الحال = باعتباره شرطا أساسيّا في التعبير، فإنّهم بنوا هذا التصوّر على فهم اجتماعي لوظيفة الأدب، يؤول إلى افتراض المتلقّي وحضوره، وقد عدل به القدماء عن مناسبة القول الشعري للحال التي
__________
(1) أبو بكر الباقلّاني، إعجاز القرآن الكريم، تحقيق أحمد صقر، ط 3، دار المعارف، مصر، 1971، ص 220.
(2) نفسه، ص 220.(1/60)
فيها الشاعر، إلى مناسبته للحال التي فيها القول (السياق الحالي) عدولا محكوما بطبيعة الشعر العربي أحيانا وتقسيمه إلى أغراض ومناسبات، وهذا ما نراه في ارتباط فكرة السياق في كتب النقد والبلاغة بالحديث عن سقوط المطالع، وضعف التخلّص، وتنافر الأشطار، وافتقاد التناسب بين العبارة الشعريّة ومقتضى الحال، وهو تفسير جعل القدماء يطلقون أحكاما لا تتعلّق في أكثر الأحيان بالجانب الفني من التعبير بقدر ما يتعلّق باللّياقة والمراسم الاجتماعيّة، وإذا كان الاهتمام بالجانب الاجتماعي أمرا ضروريا فإنّ من السذاجة إغفال مسألة أنّ النص الأدبي قابل للقراءة في سياقات عديدة بحكم تكوينه الجمالي الذي يقترب به إلى العالميّة من خلال تراكيبه وقوى الكلمات المشعّة فيه وصوره، وعمق التجربة الكامنة فيه، فالسياق له قدرة على النموّ والتغيّر من خلال القارئ الذكيّ المتفتّح.
والتماسك النّصّي مظهر بارز من مظاهر الاتّساق الداخلي، وأعاره المحدثون أهميّة بالغة وخاصّة في لسانيّات النصّ، وقد عالجه النّقاد القدامى معالجة ذكيّة وعبّروا عنه من خلال استخدام مصطلحات متعدّدة مثل: التلاحم، النّظم، تناسب الأجزاء، الانسجام، المشاكلة، وأبرز من تناول هذا المظهر الجاحظ، وابن طباطبا، والحاتمي، وحازم القرطاجنيّ. فالجاحظ يصرّح بأنّ أجود الشعر = ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج فتعلم بذلك أنه أفرغ إفراغا واحدا، وسبك سبكا واحدا = (1). وفي موضع آخر يصف بيتا يقول فيه: = فتفقّد النصف الأخير من هذا البيت، فإنّك ستجد بعض ألفاظه يتبرأ من بعض = (2). ويضيف في موضع آخر أنّ الشعر الجيّد = تجد أجزاء البيت فيه متّفقة، حتّى كأنّ البيت بأسره كلمة واحدة. وكأنّ الكلمة بأسرها حرف واحد = (3) فتلاحم الأجزاء عند الجاحظ يتمثّل في تلاحم الأبيات المشكّلة للقصيدة، وتلاحم الأجزاء المشكّلة
__________
(1) الجاحظ، البيان والتبيين / ج 1/ ص 89.
(2) نفسه، ج 1/ ص (8887).
(3) نفسه، ج 1/ ص 91.(1/61)
للبيت، وتلاحم الأجزاء المشكلة للّفظ (الحروف والأصوات)، وأبرز العناصر التي انصبّ اهتمام الجاحظ عليها هي الاتّساق الصوتي.
وأمّا ابن طباطبا فله في (عيار الشعر) إشارات متفرّقة هنا وهناك تنمّ على وعي بضرورة توافر شروط التماسك في الخطاب، ومن ذلك قوله: = إنّ للشعر فصولا كفصول الرسائل، فيحتاج الشاعر إلى أن يصل كلامه، على تصرّفه في فنونه، صلة لطيفة فيتخلّص من الغزل إلى المديح، ومن المديح إلى الشكوى، بألطف تخلّص وأحسن حكاية بلا انفصال للمعنى الثاني عمّا قبله = (1). وفي موضع آخر يصف أحسن الشعر بأنّه ما ينتظم القول فيه انتظاما يتّسق به أوّله مع آخره =. وأنّ القصيدة يجب أن يكون فيها = كلّ كلمة تقتضي ما بعدها ويكون ما بعدها متعلّقا بها مفتقرا إليها = (2)، ولديه إشارات عديدة عن أهميّة المخاطب، وهذه الاقتباسات توضح طبيعة الاتّساق الداخلي الذي يريده ابن طباطبا، فالاتّصال والترابط بين أجزاء النصّ، والعلاقات المنطقيّة بين الأجزاء، وأهميّة المخاطب في صنع هذا الاتّساق، ونجد عنده مصطلح التشاكل بمعناه المعاصر يقول:
= وينبغي للشاعر أن يتأمّل شعره وينسّق أبياته، ويقف على حسن تجاورها أو قبحه، فيلائم بينها لتنتظم له معانيها، ويتّصل كلامه فيها () ويتّفق كلّ مصراع، هل يشاكل ما قبله؟ = (3). وفي نقد يتّصل كثيرا بتكامل الاتّساقين الداخلي والخارجيّ يورد ابن طباطبا بيتين لابن هرمة، وبيتين للفرزدق، ويذكر فيهما شيئا عن (تماثل الألفاظ) مع موضوع القصيدة، ويتحدّث عن اتّساق القصيدة وموضوعها مع مقصد الشاعر، وأنّ كلّ تشبيه منسجم مع الموقف الذي يعبّر عنه (4).
__________
(1) ابن طباطبا، عيار الشعر، ص 12.
(2) نفسه، ص 16.
(3) نفسه، ص 129.
(4) نفسه، ص 133.(1/62)
ويتميّز حازم القرطاجنيّ عن البلاغيّين بنظرة أشمل للنصّ، فهو يقسّم القصيدة إلى فصول (والفصل بيتان من الشعر إلى حدود أربعة أبيات تتضافر لأجل إيصال معنى معيّن)، ووضع لهذه الفصول أحكاما في البناء تضمن تماسك الفصل، وتماسك الفصول يؤدّي إلى تماسك النص فهو يصف مواد الفصل (الموضوع والألفاظ) بأنّها يجب أن تكون = متناسبة المسموعات والمفهومات، حسنة الاطّراد، غير متخاذلة النسج، غير متحيّز بعضها عن بعض التميّز الذي يجعل كلّ بيت كأنّه منحاز بنفسه = (1). ففي هذه المواصفات حديث دقيق عن الترابط والنسج والاتّصال والتناسب وهذه كلّها من مظاهر الاتّساق الداخلي، ومن جهة أخرى فهو يشترط أن يكون نمط نظم الفصل مناسبا للغرض تعتمد فيه الجزالة في الفخر، والعذوبة في النسيب وهذا مرتبط بالمبدإ البلاغي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فالغرض من الخطاب يؤثّر في الأسلوب أو يؤثر في اختيار الألفاظ، ويجب أن تكون العلاقة بين الغرض (الهدف) و (الموضوع) والتعبير علاقة انسجام، وهذه العلاقة يحكمها مبدأ تداولي ساهمت في صياغته تقاليد اجتماعيّة وأعراف سنّتها أجيال واحتفظت بها أخرى.
ولا ريب أنّ لثقافة الشاعر وفكره الدور الأكبر في الجمع بين أطراف هذه المعادلة جميعا: المقام، الموضوع، الأسلوب، التعبير وهو ما أطلق عليه القرطاجنيّ (بالقوّة الحافظة والقوّة المائزة) وهما قوّتان يستطيع من خلالهما الكاتب أن يميّز ما يلائم الموضع والنظم والأسلوب والغرض ممّا لا يلائم ذلك، وما يصحّ وما لا يصحّ (2). وصناعة القصيدة عنده غالبا ما تخضع لاعتبارات تداوليّة ومنها رغبات القارئ فالشاعر يجب أن يقدّم في الفصول ما يكون = للنفس به عناية إذا سيق وفق الغرض المقصود بالكلام، ويتلوه الأهمّ فالأهمّ والنفوس تتغيّر وما يكون لنفس به عناية يختلف عما به عناية لنفس
__________
(1) حازم القرطاجنيّ، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة. تونس / دار الكتب الشرقيّة / 1966، ص 63.
(2) نفسه، ص: 29.(1/63)
أخرى = (1). إنّ قوله = الأهمّ فالأهمّ = مبدأ يتّصل مباشرة بطبيعة العرف والعادة، والسائد بين الناس، ويختلف باختلاف المقامات وكلّ ذلك يرتبط بغرض الخطاب.
وقد نظر البلاغيّون العرب إلى الدلالة على أنّها نتاج للتداخل الطبيعي بين مستويات اللّغة. فالنّص هو جماع البنية الصوتيّة والبنية المعجميّة، والبنية التركيبيّة (الجملة التي تتحقّق بتأليف الكلمات في نظام نحوي يقرن عناصر الجملة في سياق داخلي يتأسس من معنى جديد للكلمات غير معناها الاصطلاحي)، والبنية الدلاليّة وهي ناتج ما يفرزه السياق من معاني عناصر الجملة مجتمعة في نظام محدّد. ويعبّر الجرجاني عن هذا المعنى حين يشير إلى أنّ الأوصاف اللاحقة للجمل من حيث هي جمل لا يصحّ ردّها إلى اللغة، ولا وجه لنسبتها إلى واضعها = (2). وقصده من ذلك أنّ الدلالات التي تتولّد عن نظام السّياق في الجملة هي تشكّل ناتج عن الجملة وليس معنى سابقا عليها.
وحديث الجرجاني المعروف عن النظم يفضي بنا إلى السياق = فاللّفظة قد تروق لك في موضع، وتثقل عليك في موضع آخر = (3)، والموضع ليس هو إلّا المقام الذي يجب أن يتناسب مع المقال، ويذكر الجرجاني ثلاثة أنواع من الدلالة هي: الدلالة اللّغويّة، والدلالة العقلية التي تنتج عن التفكير بعلاقات السياق في الجملة، والدلالة التأويليّة (المجازيّة). والمفردة الواحدة قد تتعدّد معانيها باختلاف الموضع، ويقرّر الجرجاني مفهوم إشاريّة اللّغة، ممّا يجعل الألفاظ إشارات (9)، ومن شأن الإشارة أن تكوّن علاقة حرّة واعتباطيّة، ويتحقّق معناها من موقعها في الجملة مع سائر الإشارات المتضامنة معها فيتشكّل السياق من هذا التضامّ، ويعود إلى عناصره المكوّنة ليمنحها دلالتها فالسياق
__________
(1) منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 33.
(2) عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص: 376.
(3) نفسه، ص 42.
(9) يقول الجرجاني: = لأنّ اللّغة تجري مجرى العلامات والسّمات ولا معنى للعلامة والسّمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلا عليه وخلافة = انظر أسرار البلاغة ص: 347.(1/64)
ناتج عن تآلف الإشارات كما أنّ معاني هذه الإشارات هي من صنع السياق، فهو يقيم ألفة بين المتباعدات ويصنع من ذلك سياقا مؤتلفا، والكتابة أو النّص هو الذي يعطي لهذه المتباعدات معنى واحدا هو المعنى السياقي.
ويربط الجرجاني (النظم) بالتصرّف بمعاني النحو، وليس معنى التصرّف بمعاني النحو مطابقة الكلم للقواعد، والتحرّز من اللحن، أو زيغ الإعراب، وإنّما يلجأ الناظم أو الناثر للتقديم والتأخير والتعريف والتنكير أو الاستئناف، وما شابه ذلك بطريقة ناتجة عن إعمال الرويّة والفكر لتلائم هذه الأساليب، وهذا المعنى، وهنا قد يلتبس الأمر على الناس فيظنّون أنّ المزيّة في الألفاظ أو الاستعارات أو، وإنّما تكون المزيّة في السياق الذي وضعت فيه، فعناصر اللّغة كلّها عند الجرجاني بما فيها من مفردات أو قواعد، أو نحو أو مجاز واستعارة لا قيمة لها في ذاتها، وإنّما تستمدّ قيمتها من السياق.
النصّ والقارئ والسياق
= إنّ القصيدة تقع في مكان ما بين الكاتب والقارئ =. إليوت
يبرز دور المتلقّي أو السامع واضحا في كتابات البلاغيّين العرب، فالخطيب يجب أن يعرف الأحوال النفسيّة للسامعين حتى يجعل خطبته مؤثّرة فيهم. وكأنّهم يوجبون على الخطيب المعرفة الدقيقة بعلم النفس، حتى يستطيع المطابقة بينهم وبين كلامه والموضوع الذي يتحدّث فيه. وقد فاق اهتمامهم بالمخاطب أيّ اهتمام آخر فالمتكلّم مثلا لم يظفر بمثل هذا الاهتمام باعتبار أنّ البلاغة مراعاة لمقتضى الحال.
والحال عندهم هي حال المخاطب لا المتكلّم، لأن ليس من المتصوّر عقلا ودينا أن يتناول هؤلاء المنظّرون القرآن باعتبار مصدره ولذا اتّجهت مباحثهم إلى ناحية المتلقّي، ومحاولة ربط الأسلوب بظروفه الاجتماعيّة والدينيّة، ومن هذا المنطلق رفض القدماء كثيرا من المطالع الشعريّة لأنّها لم تتوافق مع طبيعة المتلقّي ومن ذلك قول الأخطل لعبد الملك بن مروان:
خفّ القطين فراحوا منك أو بكروا(1/65)
فقال له عبد الملك: بل منك، وتطيّر من قوله فغيّرها الأخطل وقال: (خفّ القطين فراحوا اليوم أو بكروا). (1) وعلّق على ذلك ابن الأثير بقوله: = وذلك لأنّ مقابلة الممدوح بهذا الخطاب يجلب كراهيته = (2).
وابن رشيق في دراسته للنسيب في مطلع القصيدة الشعريّة يحاول تعليله بما يربطه بمتلقّي الشعر لا بقائله، = وللشعراء مذاهب في افتتاح القصائد بالنسيب، لما فيه من عطف القلوب، واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حبّ الغزل والميل إلى اللهو بالنساء = (3).
وبالمثل أيضا درسوا خاتمة القصيدة الشعريّة من خلال توافقها مع المتلقّي، فيرى العلوي أنّ من الواجب تضمّن هذا الختام معنى تامّا يؤذن السامع بأنّه الغاية والمقصد والنهاية. (4)
وعبد القاهر الجرجاني في تحليله للعلاقات النحويّة يميل إلى ربطها بالمتلقي، بل يجعل مهمّة الناظم هادفة إلى توصيل المعنى إلى السامع باعتبار تواجده في عمليّة النظم تواجدا بيّنا يقول: = وليت شعري هل يتصوّر وقوع قصد منك إلى معنى كلمة من دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى، ومعنى القصد إلى معنى الكلم أن تعلم السامع بها شيئا لا يعلمه، ومعلوم أنّك أيّها المتكلّم لست تقصد أن يعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلّم بها، فلا تقول خرج زيد لتعلمه معنى (خرج في اللغة) ومعنى (زيد) كيف، ومحال أن تكلّمه بألفاظ لا يعرف هو معانيها كما تعرف =. (5)
ويمكن تأكيد هذا المفهوم لدى عبد القاهر الجرجاني إذا ما رأيناه يربط الصياغة بالمتلقي، ويجعل تغيّر هذه الصياغة مرهونا بالحالة الإدراكيّة له، ويستشهد على ذلك بالحوار الذي دار بين أبي العبّاس والكندي الذي قال: إني لأجد في كلام العرب حشوا، فقال له أبو العبّاس: في أيّ موضع وجدت ذلك؟ فقال: أجد العرب يقولون: عبد الله
__________
(1) ابن الأثير، المثل السائر، 2/ 88.
(2) نفسه.
(3) ابن رشيق القيرواني / العمدة / ج 1/ ص 150.
(4) العلوي / الطراز / ج 3/ ص 185.
(5) دلائل الإعجاز، ص 73.(1/66)
قائم، ثمّ يقولون إنّ عبد الله قائم، ثمّ يقولون: إنّ عبد الله لقائم، فالألفاظ متكرّرة والمعنى واحد. فقال أبو العبّاس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ، فقولهم: عبد الله قائم إخبار عن قيامه، وقولهم: إنّ عبد الله قائم، جواب عن سؤال سائل، وقولهم: إنّ عبد الله لقائم: جواب على إنكار منكر قيامه، فقد تكرّرت الألفاظ لتكرّر المعاني. (1)
ونجد السكّاكي يحدّد المعاني تحديدا قائما على اعتبار المتلقّي العنصر الأساسي في العمليّة الإبداعيّة. فالمخاطب إمّا أن يكون خالي الذهن، وإمّا أن يكون متردّدا في الحكم وإمّا منكرا له، وقد يخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر فيجعل غير السائل وهو خالي الذهن كالسائل، وقد يجعل غير المنكر للمنكر وقد يجعل المنكر كغير المنكر (2). فذهن المتلقّي وطبيعته واردة في جلّ مجالات الدراسة البلاغيّة من خلال هذا الإطار الإدراكي المشترك بينه وبين المبدع، وفي كلّ حالة من الحالات يراعي المبدع ذلك، من خلال استخدام أدوات لغويّة معيّنة تناسب هذا المتلقّي، كأدوات التوكيد مثلا مراعاة لمقتضى الحال، ومناسبة للمخاطب. ويتأثّر الأسلوب تبعا لهذا، كما ورد في عبارة السكّاكي الماثلة في مطلع هذا الموضوع، = فمقام التشكّر يباين مقام الشكاية، ومقام التهنئة يباين مقام التعزية ومقام المدح يباين مقام الذمّ، ومقام الترغيب يباين مقام الترهيب، ومقام الجدّ يباين مقام الهزل، وكذا مقام الكلام ابتداء يغاير مقام الكلام بناء على الاستخبار ولكلّ ذلك مقتضى غير مقتضى الآخر = (3).
ويمتدّ هذا المقام عند البلاغيّين عبر جزيئات الصياغة بحيث يكون لكلّ كلمة مع صاحبتها مقام، ولكلّ حدّ ينتهي إليه الكلام مقام، ونحن نلحظ دقّة السكاكي عند ما عرض لأداء المعنى الواحد بطرق متعدّدة، فقد لاحظ أنّ تغيّر الصياغة لا بدّ أن يتبعه تغيّر في المعنى العام بالزيادة أو النقصان، أو بالوضوح والخفاء بل إنّ اتفاق الجملتين
__________
(1) دلائل الإعجاز، ص 375.
(2) السكّاكي، مفتاح العلوم، ص 7.
(3) نفسه، ص 2.(1/67)
المختلفين تركيبا في الدلالة أمر ممتنع عقلا، حتى بالدلالات الوضعيّة فضلا عن الدلالات العقليّة، وهو في ذلك يطبّق مقولة الحال والمقام على مستوى الموقف الاجتماعي، أو على مستوى الصياغة وما بين جزئياتها من علاقات.
ويعدّ مبحث الالتفات من المباحث التي تصل بين المخاطب والمخاطب، وله صلة بتنويع الأسلوب بحسب السياق، فهذا الزمخشري يلحظ أنّ العدول من أسلوب إلى أسلوب في الالتفات فيه = إيقاظ للسامع وتطرية له بنقله من خطاب إلى خطاب تنشيطا له في الاستماع = (1).
الفصل والوصل وأهميّته في الدرس السياقي:
يعدّ (الفصل والوصل) من مظاهر اتّساق النصّ وانسجامه. وهي ظاهرة ذات إمكانات أسلوبيّة كبيرة لاعتمادها على الأدوات الرابطة التي يطلق عليها (حروف المعاني). والتي تجاوز بها البلاغيون ما تؤدّيه من وظيفة نحويّة إلى أمور وراء ذلك تتّصل بالمقام والسياق. وذلك من خلال قدرتها (الظاهرة) على الربط بين الجمل والمفردات، ولم يقتصر الأمر على حروف العطف وحدها، بل إنّ ابن الأثير والعلوي قد مدّا هذا المبحث إلى الحروف الجارّة باعتبار قدرتها على وصل الكلام وأنّ لها معاني تخرج بها عن عملها النحوي، وأنّ هذه المعاني لا تكتسب وجودها من الدلالة المعجميّة وإنّما من السياق الوظيفي فمعنى هذه الحروف هي وظيفتها في آن واحد، ومن هنا كانت عمليّة العدول بين هذه الأحرف ذات تأثير بالغ في الدلالة، وكذلك عمليّة التناوب بينها كما في العطف الوارد في قوله تعالى {= * إِنَّمَا الصَّدَقََاتُ لِلْفُقَرََاءِ وَالْمَسََاكِينِ وَالْعََامِلِينَ عَلَيْهََا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقََابِ وَالْغََارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللََّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ =} (2). عدل عن اللام إلى
__________
(1) الزمخشري، الكشاف، 1/ 278.
(2) سورة التوبة، آية (60).(1/68)
(في) في الآيات الثلاثة الأخيرة (للإيذان بأنّهم أرسخ في استحقاق التصدّق عليهم لمن سبق ذكره باللام، لأنّ (في) للوعاء فنبّه على أنّهم أحقّاء بأن توضع فيهم الصدقات كما يوضع الشيء في الوعاء، وأن يجعلوا مظنّة لها = (1).
ويورد صاحب كتاب الصناعتين نصوصا كثيرة تكشف عن أهميّة الوصل والفصل في الكلام، وأنّ عدم مراعاة هذا المبحث يؤثّر على النظم سلبا. ومن هذه النصوص قول للمأمون فيه: = إنّ البلاغة إذا اعتزلتها المعرفة بمواضع الفصل والوصل كانت كاللآلئ بلا نظام = (2). ونصّ آخر يوصي فيه أكثم بن صيفي كتّابه قائلا = افصلوا بين كلّ منقض معنى، وصلوا إذا كان الكلام معجونا بعضه ببعض = (3). وفي موضع آخر يقول: وإذا نزع بك الكلام إلى الابتداء بمعنى غير ما أنت فيه، فافصل بينه، وبين تبيعته، وإذا مدحت رجلا، وهجوت آخر فاجعل بين القولين فصلا = (4). إنّ في النصوص السابقة حديثا غير مباشر عن دور الوصل والفصل في اتّساق الخطاب وانسجامه، وفي النصّ الأخير إيضاح لدور الموضوع في اللجوء إلى الوصل أو الفصل، فتباين الموضوعات أو تناقضها يكون سبيلا في الفصل (كالمدح والهجاء مثلا في النصّ).
وأمّا الجرجاني فقد جعل مسألة الوصل والفصل محكومة بمجموعة من المبادئ والأسس التي تجعل من هذه الظاهرة تجلّيا حقيقيّا لاتّساق الخطاب، وأوّل هذه الأسس الأساس النحوي. فالجرجاني ينطلق من مجموعة من القواعد والقيود النحويّة التي بلورها النحاة من أجل ضبط العطف كامتناع ذكر الواو بين الوصف والموصوف، أو بين التأكيد والمؤكّد، أو امتناع عطف جملة على أخرى لا محلّ لها من الإعراب، وتمييزهم بين عطف المفرد على المفرد وعطف الجملة على الجملة واستثماره لهذه المعطيات قصد مقاربة
__________
(1) ابن الأثير، المثل السائر، 2/ 241.
(2) أبو هلال العسكري، الصناعتين، ط 2، مطبعة محمود علي صبيح، القاهرة، 1960، ص: 497.
(3) نفسه، ص 499.
(4) نفسه.(1/69)
الفصل والوصل بلاغيّا، فالجرجاني ينظر إلى حالتي فصل الجمل ووصلها انطلاقا من المفرد معمّما أساسه على الجمل وصلا وفصلا، وحين ينفلت عطف الجملتين من قاعدة المفرد يجتهد لتبريره بمبدإ غير نحوي، وأمّا الأساس الثاني الذي ينطلق منه، فهو مجموعة من المبادئ المعنويّة مثل معنى الجمع، والتضامّ النفسي بين الجملتين، والتضامّ العقلي، ومن الأسس كذلك قياس العطف على الشرط والجزاء، وكذلك التأكيد وهو رابط غير شكلي، ووفقا له يعدّ تأكيد جملة لأخرى وسيلة مهمّة من وسائل الخطاب رغم أنّ كيفيّة الاتّصال معنويّة غير معتمدة على رابط شكلي. ومن أمثلته في القرآن الكريم الآية من سورة لقمان: {= وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِ آيََاتُنََا وَلََّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهََا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً =} (1).
فإنّ التشبيه الثاني لم يعطف على الأوّل = لأنّ المقصود من التشبيه هو التوكيد = (2). فهذا هو الرابط في نظر الجرجاني، ومن المبادئ الأخرى التي تحكم فصل الخطاب أو وصله هو صيغة ذلك الخطاب. فإذا كانت الصيغة متماثلة حكاية أو خبرا وصل، وإن كانت غير متماثلة فصل.
ومن دواعي فصل الكلام عن كلام آخر سابق وجود سؤال مقدّر غير متجلّ في سطح الخطاب، والذي يدعو إلى تقدير هذا السؤال هو بناء الخطاب على شكل زوج مكوّن من سؤال مقدّر وجواب ظاهر، ومن أمثلته في القرآن الكريم: {= قََالَ فِرْعَوْنُ وَمََا رَبُّ الْعََالَمِينَ قََالَ رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قََالَ لِمَنْ حَوْلَهُ =} (3). يقول الجرجاني: = وجاء ذلك والله أعلم على تقدير السؤال والجواب كالذي جرت به العادة فيما بين المخلوقين = (4). وغنيّ عن البيان أنّه لم يربط رابط شكليّ ما بين
__________
(1) سورة لقمان، آية 7.
(2) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص: 179.
(3) سورة الشعراء، الآيات (2926).
(4) دلائل الإعجاز، ص 186.(1/70)
السؤال المقدّر والجواب في الخطاب القرآني السابق، ولكنّ الخطاب مع ذلك منسجم بالنسبة للمتلقي. ويختم الجرجاني وصفه للفصل والوصل بقوله: = وإذ قد عرفت هذه الأصول والقوانين في شأن فصل الجمل ووصلها، فاعلم أنّا حصلنا من ذلك على أنّ الجمل على ثلاثة أضرب:
أجملة حالها مع التي قبلها حال الصفة مع الموصوف، والتأكيد مع المؤكّد فلا يكون فيها العطف البتّة.
ب جملة حالها مع التي قبلها حال الاسم يكون غير الذي قبله، إلّا أنّه يشاركه في حكم ويدخل معه في معنى مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلا أو مفعولا فيكون حقّه العطف.
ج جملة ليست في شيء من الحالين، بل سبيلها مع التي قبلها سبيل الاسم مع الاسم لا يكون منه في شيء، فلا يكون إيّاه ولا مشاركا له في معنى، وحقّ هذا ترك العطف = (1).
والحالة الأولى يسمّيها السكّاكي (كمال الاتّصال)، والثانية (بين بين)، والثالثة كمال الانفصال، وحول هذه الأنماط الثلاثة يجري السكّاكي أحكامه حول الفصل والوصل، وحسب عدد من الأسس منها الأساس النحوي، ويضع شروطا ثلاثة لمعرفة الوصل من الفصل هي: إتقان تمييز موضع العطف، وإتقان معرفة فائدته، وإتقان معرفة مقبوليّته من حيث وجود جهة جامعة بين المعطوف والمعطوف عليه. (2)
ومن الأسس التي اعتمدها كذلك جملة من المبادئ المعنويّة منها مبدأ أمن اللّبس، وهو مبدأ يراعى فيه المخاطب كما ترى، ويمثّل له بالبيت الشعري:
وتظنّ سلمى أنّني أبغي بها ... بدلا أراها في الضلال تهيم
__________
(1) دلائل الإعجاز، ص 187.
(2) السكّاكي، المفتاح، ص 109.(1/71)
إنّ ما ينقله هذا البيت هو ظنّ سلمى أنّ صاحبها يحبّ أخرى، ولكنّه في الحقيقة لا يحبّ إلّا سلمى، وقوله (أراها في الضلال تهيم) نفي لظنّها، وردّ لاتّهامها إياه لذلك قطع (أراها) عن الكلام السابق والداعي لهذا القطع هو أمن اللّبس (1). ومن الأسس الأخرى التي يستند إليها السكّاكي في مقامات الفصل هو ما يطلق عليه داعي الإيضاح، وهو أن يكون في الكلام السابق نوع خفاء، والمقام مقام إزالة له (2). ومن المبادئ المهمّة التي يركّز عليها السكّاكي في الفصل والوصل مجموعة من المبادئ التداوليّة، ومن أبرزها في مقام الفصل: تقدير السؤال وهو يشابه تحليل الجرجاني له من حيث وجود جواب ظاهر لسؤال مقدّر، وأمّا دواعي تقدير السؤال عند السكّاكي فيقول عنها: = إنّ تنزيل السؤال بالفحوى منزلة الواقع لا يصار إليه إلّا لجهات لطيفة:
* إمّا لتنبيه السامع على موقعه.
* أو لإغنائه أن يسأل.
* أو لئلّا يسمع منه شيء.
* أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه.
* أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللفظ. (3)
ويلاحظ أنّ الجهات الثلاث الأولى اعتبارات تتعلّق بالسامع، ويمكن إجمالها في ثلاثة: تنبيه السامع، وإغناء السامع، وإسكات السامع، وأمّا الرابع فيتعلّق بسلطة المتكلّم وتنبئه بإمكان إثارة الكلام المقول استفهاما في ذهن السامع، فيبادر إلى الجواب قبل السؤال لضمان الاستمرار في الكلام (الكلام نفسه) أمّا الاعتبار الخامس فيتعلّق بالخطاب نفسه.
ومن المبادئ التداوليّة كذلك اختلاف الأفعال الكلامية، كأن تشتمل الجملة الأولى على (خبر) والثانية على طلب، أو العكس. فهنا يجب الفصل. وفي حالة مختلفة قد
__________
(1) السكّاكي، المفتاح، ص 110.
(2) نفسه، ص: 111.
(3) نفسه.(1/72)
تكون الجملتان متماثلتين خبرا، ولكن يجب أن تقطع إحداهما عن الأخرى بسبب انكسار بنية الخطاب لو تم الوصل. وأسباب ذلك هي اختلاف موضوع الخطاب فيكون كإقحام لموضوع أجنبيّ في بنية الخطاب. مثال: (يقول أحدهم: إنّ خاتمي هذا سيّئ الصّياغة، كريه النفس، ويقول آخر: خفّي ضيّق، قولوا ماذا أعمل؟) فلا يصحّ هنا أن يقول الآخر (وخفيّ ضيّق) فالمقام مقام حديث عن الخاتم، وهو بعيد عن الخفّ رغم اشتراكهما في صفة الضيق، وكونهما ملبوسين، وكون الخاتم محيطا بالإصبع، والخفّ محيطا بالقدم = (1).
فالذي جعلنا نعتبر القطع هنا واجبا هو انقطاع الصّلة بين موضوعي الخطاب.
إنّ الروابط بين الجمل لا تجعل منها نصّا متماسكا، هذا ما أراد أن يقوله السكّاكي ولعلّ المثال الذي يضربه هو خير شاهد على ما نقول. المثال: = زيد منطلق، ودرجات الحمل ثلاثون، وكمّ الخليفة في غاية الطول، وما أحوجني إلى الاستفراغ، وأهل الروم نصارى، وفي عين الذباب جحوظ، وكان جالينوس ماهرا في الطبّ، وختم القرآن في التراويح سنّة، وإن القرد لشبيه بالآدمي. (2) إنّ هذا النصّ سليم من حيث النحو والمعجم والدلالة، إذا نظرنا إلى الجمل بمعزل عن سياقها، ولكن إذا نظر إليها كجزء من كلّ فإنّها لا تنسجم معه، وإذن فمسألة الوصل والفصل ليست مسألة إتقان ذكر العاطف وتركه، بل إنّها مهارة معرفة اتّساق الخطاب وانسجامه أيضا.
ومن المبادئ الأخرى التي تحكم الوصل تأويل اختلاف الأفعال الكلاميّة، وفي هذه الحالة قد تكون الجملتان مختلفتين خبرا وطلبا مثلا، ولكنّ المقام يكون مشتملا على ما يزيل الاختلاف من تضمين الخبر معنى الطلب أو الطلب معنى الخبر. (3) مثال: {= إِنْ كََانَتْ إِلََّا صَيْحَةً وََاحِدَةً فَإِذََا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنََا مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لََا تُظْلَمُ نَفْسٌ}
__________
(1) السكاكي، المفتاح، ص 117.
(2) نفسه، ص 118.
(3) نفسه، ص 118.(1/73)
{شَيْئاً وَلََا تُجْزَوْنَ إِلََّا مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ أَصْحََابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فََاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوََاجُهُمْ فِي ظِلََالٍ عَلَى الْأَرََائِكِ مُتَّكِؤُنَ لَهُمْ فِيهََا فََاكِهَةٌ وَلَهُمْ مََا يَدَّعُونَ سَلََامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ وَامْتََازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ =} (1). يذهب السكّاكي إلى أنّ قوله تعالى (وامتازوا اليوم) معطوف على = إنّ أصحاب الجنّة اليوم = لأنّ = المقام مشتمل على تضمينه معنى الطلب = (2). ويسمّي السكّاكي هذه الحالة التوسّط بين كمال الاتّصال وكمال القاعدة فالخطاب في صورته السطحيّة من حيث اختلاف الأفعال الكلاميّة يفضي إلى الفصل حسب القاعدة، لكنّ تأويل هذا الاختلاف بالاستعانة بالمقام يؤدّي إلى الوصول بالخطاب إلى صورته العميقة فتصبح القاعدة هي الوصل.
ومن مبادئ الوصل المهمّة لديه جهة الجمع، وينطلق السكّاكي فيه من مبدأ عام هو أن الجمل ينبغي أن يقطع بعضها عن بعض ما لم يكن بينها ما يجمعها من جهة العقل أو الوهم أو الخيال: (جامع عقلي، أو جامع وهمي، أو جامع خيالي) (3). ولعلّ من الأمثلة الباهرة التي يسوقها السكّاكي موقف ثلاثة أشخاص، مختلفي المهن، يصفون (الكلام)، لكنّ وصفهم يتفاوت بحسب ما اختزن كلّ منهم في مخيّلته من صور مرتبطة بمهنته:
(فقال الجوهري: أحسن الكلام ما ثقبته الفكرة، ونظمته الفطنة، وفصل جوهر معانيه في سمط ألفاظه، فحملته نحور الرواة، وقال الصيرفي: خير الكلام ما نقدته يد البصيرة، وجلّته عين الرويّة ووزنته معيار الفصاحة، فلا ينطق فيه بزائف، ولا يسمع فيه ببهرج، وقال الكحّال: أصحّ الكلام ما سحقته في منحار الذكاء، ونخلّته
__________
(1) سورة يس، الآيات (5953).
(2) السكّاكي، ص 111.
(3) نفسه، ص 111.(1/74)
بحرير التمييز، وكما أنّ الرمد قذى العين كذا الشبهة قذى البصائر، فاكحل عين اللّكنة بحيل البلاغة، وأجل رمض الغفلة ببرود اليقظة = (1).
هذا المثال وإن كان ساقه السكّاكي للحديث عن الفصل والوصل فهو في صلب قضيّة السياق والمقام وسياق الثقافة فالمتكلّم يغترف من وعائه الثقافي (سياق الثقافة) وهنا يتبدّى هذا السياق في طبيعة المهنة، وطبيعة اللّغة الخاصّة التي يستخدمها أرباب المهن والحرف المختلفة، وكيف يتمّ التفاهم وفق شيفرة خاصّة تترجم عبر السياق الثقافي، ولو لم نعرف أنّ هذا صيرفي، وهذا كحّال، وهذا جوهري، لما أمكننا أن نضع عبارات كل منهم في موضعها الصحيح من التأويل، فاللّغة جزء لا يتجزّأ من سياق الثقافة، والتفاهم والتواصل يحصل عبر (كودات) خاصة توفّرها هذه الثقافة إن جاز التعبير واختلاف الحال هذا أدّى إلى اختلاف المقال. ومثال آخر يسوقه السكّاكي يتمحور حول ثلاثة أشخاص، مهنهم مختلفة، نظمهم سلك الطريق، وافتقدوا البدر، وبينما يتخبّطون في الظلماء، طلع البدر عليهم فطفق كل منهم يصفه، وإذا شبّهه شبّهه بأفضل ما في خزانة صوره:
فالسلاحيّ يشبّهه بالترس المذهّب يرفع عند الملك.
والصائغ يشبّهه بالسبيكة من الإبريز تفترّ عن وجهها البوتقة.
والمعلّم يشبّهه برغيف أحمر يصل إليه من بيت ذي مروءة (2).
ولا يحتاج المثال إلى تعليق كبير فهو بسابقه شبيه. والسكّاكي في المثالين السابقين يبرهن عن اختلاف الحال في ثبوت الصور في الخيالات ترتّبا ووضوحا، وذلك لاختلاف الأسباب المؤدّية إلى ثبوتها، ومنها ارتباط إنتاج الخطاب ونوعية ذلك الإنتاج بالنشاط الذي يمارسه الإنسان في حياته اليومية. وفي مثال ثالث يقوم السكّاكي بتحليل خطاب قرآني،
__________
(1) السكّاكي، ص 111.
(2) نفسه، ص 111.(1/75)
مفترضا متلقّيين أحدهما من (أهل المدر) والآخر من (أهل الوبر)، والآيات هي {= أَفَلََا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمََاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبََالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ =} (1). في هذا المثال لدينا خطاب قرآني عناصره: الإبل والسماء والأرض والجبال، وأفعال هي: الخلق، والرفع والسطح. ولدينا متلقّيان حضريّ وبدويّ أمام هذا الخطاب فالحضري لا يستطيع خياله أن يجمع صور هذا الخطاب بشكل متّسق، إذ كيف تجتمع عنده الإبل مع السماء والأرض والجبال؟ ولذا فإنّه سيحكم على هذا الخطاب بأنّه غير منسجم، وأنّ نسقه غريب معيب، وأمّا البدوي فمطعمه وملبسه ومشربه من المواشي وخاصّة الإبل وهي أنفعها لديه، ثم إذا كان انتفاعهم بما لا يتحصّل إلّا بأن ترعى وتشرب كان جلّ مرمى غرضهم نزول المطر، وأهمّ مسارح النظر عندهم السماء، والجبال لهم مأوى، إنّ البدويّ لا يستغرب هذا العدّ، ولا هذا الترتيب لأنّ صورة الإبل والسماء والجبال متقارنة في خياله مجتمعة متعالقة في خزانة صوره، ولذا فسيحكم على هذا الخطاب بأنّه منسجم. فهذا الجزء من حديث السكّاكي خاضع لاعتبارات اجتماعيّة، ثقافيّة، وليس بسبب اعتبارات أملاها الخطاب.
إنّ نوع المتلقّي ودوره أساسي في فهم الخطاب وإحداث انسجامه، ووقوف السكّاكي عند (الجامع الخيالي) بهذا الحشد من الأمثلة يشعرنا بأنّه مختلف عن الجامعين الأوّلين (الوهمي والعقلي)، فهذا الجامع أكثر ارتباطا بسياق الثقافة والسياق الاجتماعي.
ويشير إلى هذا الجانب الاجتماعي بقوله: (ولمّا لم تكن الأسباب على وتيرة واحدة فيما بين معشر البشر = (2). ويفهم من كلام السكّاكي أهميّة التجربة الشخصيّة السابقة، ونمط الحياة التي يمارسها الشخص المواجه للخطاب، ومن ثمّ فإنّ كلّ خطاب جاء وفق ما هي
__________
(1) سورة الغاشية، الآيات (2017).
(2) السكّاكي، المفتاح، ص 113.(1/76)
عليه الصورة في خيال المتلقّي اعتبره السكّاكي منسجما، وكلّ خطاب جاء على خلاف ذلك اعتبره غير منسجم.
وقد تناول البلاغيّون بالدرس والتحليل مجموعة من سياقات الكلام، ومنها سياق الحذف والذكر، وقد أوردنا مسألة الحذف والذكر في ميدان النحو، وأمّا في الدرس البلاغي وهو لا يبتعد كثيرا فيمكن إدراك القيمة الحقيقيّة لسياق الذكر والحذف من خلال السياق الأعمّ كسياق الإطناب أو التطويل، أو الإيجاز، وقد تناول عبد القاهر الجرجاني هذه السياقات في جانبها التطبيقي دون تعيين محدّد كما فعل البلاغيّون بعده وحاول رصد المجال الذي لاحظ فيه أنماط الحذف، وربط ذلك بنظريّته في النظم، ونجد عنده ربط نسق الذكر والحذف بطبيعة المتكلّم في تحليله لقوله تعالى: (وأسأل القرية).
ويرى أنّ فهم الحذف فيها يعود إلى غرض المتكلّم، فلو كان المتكلّم خارج سياق النّص القرآني لاختلف الفهم، ولكن لأنّها جاءت في معرض الوعظ والتذكير فإنّها تفضي إلى فهم مختلف (1).
ويربط عبد القاهر سياقات الحذف ببعض الموضوعات كما في وروده بشكل مألوف عند ذكر الديار، ويذكر سياقات أخرى يطّرد فيها حذف المبتدأ، وحذف المفعول، ويربطها بحاجة المتكلّم وبطبيعة التركيب وصلة اللفظة بغيرها، وفي هذا قد يساوى الفعل المتعدّي بالفعل اللازم باعتبار السياق الذي يرد فيه. كقولنا يحلّ ويعقد، ويأمر وينهى، ويضرّ وينفع (2).
وقد يعود اختلاف السياق عنده إلى الدلالة أو إلى طبيعة الصياغة ومقتضياتها، أو لأنّ الحذف يدلّ عليه الحال، فالسياق عند عبد القاهر هو نقطة البدء، وليس الكلمة، ويعتبر أنّ البحث عن السياق يأتي قبل البحث عن الألفاظ وعلاقاتها (3). وأورد عبد القاهر بعض سياقات الذكر مؤكّدا دور السياق في تركيب الصياغة.
__________
(1) عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص 367.
(2) نفسه، ص 367.
(3) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الاعجاز، 188.(1/77)
وقد حدّد البلاغيون بعد عبد القاهر سياقات الحذف في شكل إطارات ثابتة تنضوي تحت شرطين رئيسين هما:
1 - وجود ما يدلّ على المحذوف من القرائن.
2 - وجود السياق الذي يترجّح فيه الحذف والذكر.
ومن السياقات التي يكثر فيها حذف المسند إليه، ويذكرها البلاغيّون ما يلي:
1 - الاحتراز عن العبث، وهو سياق يعتمد بالدرجة الأولى على ظهور المخاطب ظهورا بيّنا في عملية التوصيل، وذلك أنّ ما قامت عليه القرينة، وظهر عند المخاطب فذكره يعدّ نوعا من العبث بسقوط عنصر الإفادة، وذلك برغم كون المحذوف يمثّل ركنا أساسيّا في الكلام، كأن يكون فاعلا أو مبتدأ في مثل قولنا:
حضر. وشمس، أي هو حضر، وهذه الشمس (1)، وأمثلته كثيرة.
2 - ضيق المقام عن إطالة الكلام: وهذا السياق في الغالب يتّصل بالمتكلّم في مجال الإبداع، وارتباطه بالموقف النفسي الذي يعايشه، كأن يكون في حالة توجّع وألم، نحو قول الشاعر:
قال لي كيف أنت؟ قلت: عليل ... سهر دائم وحزن طويل
أي قلت: أنا عليل (2). ويمتدّ هذا السياق إلى مجال الأسلوب الأخباري كأن يخشى فوات فرصة، كقول من ينبّه إنسانا إلى خطر يواجهه مثلا: الأسد، أو من ينبّهه إلى شيء يقتنصه كقولنا للصيّاد: غزال. أي هذا أسد، وهذا غزال.
3 - تيسير الإنكار عند الحاجة، وهو سياق يتّصل بالمستوى الإخباري أيضا، وذلك لأنّه قد تدعو الحاجة إلى إنكاره مثل قولنا عند حضور جماعة فيهم عدوّ: (غادر خائن) فلكيّ تتاح فرصة الإنكار يحذف المسند إليه.
4 - تعجيل المسرّة بالمسند نحو (ثروة)، أي: هذه ثروة.
__________
(1) دلائل الإعجاز، ص 188.
(2) نفسه، ص 188.(1/78)
5 - تكثير الفائدة بإيجاد عدّة احتمالات للمعنى، نحو قوله تعالى: {= قََالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ =} (1). أي فأمري صبر جميل. أمّا إذا كان المسند إليه فاعلا فإنّ السياقات التي يترجّح فيها حذفه تتمثّل في:
1 - حين لا يحقّق ذكره غرضا معيّنا في الكلام.
2 - يحذف للعلم به.
3 - للجهل به أو الخوف منه وعليه. (2)
ويتّضح لنا أنّ اتجاه البلاغيّين في بحث سياق الحذف والذكر، كان يهتم بالمحيط الأسلوبي العام الذي يرتبط بموقف كلاميّ، أو نمط أدبي تتحرّك على أساسه الصياغة، وقد يتّصل بظروف المخاطبين، أو المخاطب، ويكون متّصلا بعمليّة التوصيل مثل فهم السامع، وإذا ما كان هذا الفهم منوطا باللفظ دون القرائن، وفيما قصد به التنبيه على غباوة السامع أو غيرها.
كما رصد البلاغيّون كذلك سياقات التقديم والتأخير، فذكروا منها الخبر الذي يأتي على خلاف العادة، وفيما يستغرب، وفي مسائل الوعد، والضمان، وفي مجال المديح، وهذه السياقات ترتبط بالمتكلّم، والمتلقّي، واعتبارات أخرى، تتّصل بطبيعة الصناعة ذاتها، فمن الاعتبارات المتعلّقة بالمتلقي: سياق التشويق، أو سياق محاولة تعديل فكر المتلقّي، كما يتمثّل في تعجيل المسرّة للمتلقي أو تعجيل الإساءة وغيرها. فمن أمثلة الاعتبارات المتّصلة بالمتكلّم نجدهم يقدّمون المسند إليه، تبرّكا به، في نحو قولنا: اسم الله اهتديت به.
ويكاد عبد القاهر الجرجاني يعدّ المخاطب الركيزة الأساسيّة في سياقات التعريف والتنكير، وإن كان هذا لا ينفي وجود المتكلّم في الصياغة باعتباره مصدرها، ودراسة عبد
__________
(1) سورة يوسف، آية (18).
(2) ابن الأثير، المثل السائر، 2/ 184.(1/79)
القاهر في هذا المجال لم تخرج عن تحليل أنماط من النظم جاء فيها أحد طرفي الإسناد معرّفا أو منكّرا، أو جاءا معا معرّفين، واتّصال ذلك بالجانب النفسي في ترتيب المعنى، ممّا هيّأ للبلاغيّين أن يربطوا بين سياقات معيّنة، وبين مجيء المسند إليه معرّفا أو منكّرا. وكذلك المسند وهي سياقات تتداخل حدودها وتتبادل أماكنها، وقد تكون المقامات ترجع إلى نيّة المتكلّم، أو إلى الموقف الاجتماعي الذي يخلق السياق.
ومن سياقات التنكير التي يذكرونها:
1 - الدلالة على الفرديّة، أو النوعيّة. 2التعظيم أو التحقير أو التكثير أو التقليل.
3 - قصد التمويه والإخفاء. 4عدم الرغبة في الحصر والتخصيص.
فمن أمثلة النوع الثاني مثلا (سياق التعظيم أو التحقير) وهو سياق يعود إلى المتكلّم في أنّ المنكّر قد بلغ شأنا في الارتفاع أو الانحطاط، وصل إلى حدّ يوهم أنّه لا يمكن أن يعرّف، فتقول في جميع ذلك عندي رجل، أو حضر رجل ومنه قول ابن أبي السمط:
له حاجب في كلّ أمر يشينه ... وليس لّه عن طالب العرف حاجب
= فإنّ الفهم والذوق يقضيان كمال ارتفاع شأن حاجب الأوّل، وكمال انحطاط حاجب الثاني = (1).
ويمثّل الخروج على مقتضى الظاهر مبحثا آخر من المباحث التي يتجلّى فيها السياق في الوظيفة التواصليّة للّغة، وأمثلته تمتدّ في الفروع المختلفة لعلم المعاني كأضرب الخبر وأضرب الإنشاء، كما في خروج الاستفهام عن معناه الأصلي إلى دلالات متنوّعة تستفاد من السياق، ويؤدّي المخاطب والمخاطب وطبيعة العلاقة بينهما دورا خاصا في هذا الموضوع، فيفرّق البلاغيّون مثلا بين صدور الأمر من الكبير إلى الصغير، وبين صدوره من زميل إلى زميل، فهو في الحالة الأولى أمر صريح ولكنّه في الحالة الثانية يعدّ التماسا لتماثل المخاطب والمخاطب في المنزلة، كما يتدخّل مقصود الخطاب وغرضه في تحديد دلالة
__________
(1) السكّاكي، مفتاح العلوم، ص 83.(1/80)
الكلام في حالة الخروج على مقتضى الظاهر فإذا كان المقصود بالأمر مثلا تعديل فهم المخاطب بالنسبة لما هو محظور عليه كما في قول الشاعر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقليّة إن تقلّت
فإنّ هذا يسمّى (إباحة) وذلك التعديل لا يمنع الجمع بين الأمرين فإذا امتنع سمّي (تخييرا) كقول الشاعر:
عش عزيزا أو مت وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق الطبول
وإذا كان هناك توهّم في الرجحان بين الأمور فإنّ (الأمر) يفيد التسوية كقول الشاعر:
فعش واحدا أوصل أخاك فإنّه ... مقارف ذنب مرّة ومجانبه
ولا شكّ أنّ الدلالات المتحوّلة للصيغ في هذا الباب كثيرة متعدّدة، ورصدها داخل سياقات التعبير كفيل بإبراز كثير من الطاقات التعبيريّة المدهشة للّغة، والتي تكشف عن جماليّات النصّ الأدبي، وأهميّة منظومة الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة في الولوج إليه.(1/81)
3 - نظرية العلاقة بين النصّ والسّياق في ميدان علوم القرآن وأصول الفقه وعلوم التفسير
تنبئ مؤلّفات أعلام التفسير، وأصول الفقه، وعلوم القرآن عن وعي متقدّم بحقيقة انسجام الخطاب القرآني مع واقعه الخارجي، واتّساقه في بنائه الداخلي، ويخبر أنّ القرآن الكريم رغم تفاوت أوقات نزوله يشكّل نصّا واحدا، وهذا ما يعبّر عنه عادة بأنّه (كالكلمة الواحدة) وهنا نعرض لرؤيتهم في تماسك النصّ القرآني وانسجامه مع السياق.
(13) في ميدان علوم القرآن
إنّ مباحث علوم القرآن كلّها يمكن أن تدرس دراسة وافية ضمن نظريّة العلاقة بين النصّ والسياق، ولكنّنا نجد أنّ بعض الموضوعات ألصق بموضوعنا من غيرها. ويمكننا ابتداء تصنيف مباحث علوم القرآن المتّصلة اتّصالا وثيقا بنظريّة العلاقة بين النص والسياق إلى نوعين من الموضوعات:
أموضوعات تتعلّق بظروف التنزيل (السياق المقامي) وهي: أسباب النزول، ونزول القرآن منجّما، والمكّي والمدني، والناسخ والمنسوخ.
ب موضوعات تتّصل بالنصّ القرآني وعلاقاته الداخليّة (السّياق اللّغوي) وهي: موضوع المناسبة بين الآيات والسور، وقضايا لغويّة ومنطقيّة تضيء مفهوم الاتّساق في النصّ القرآني. وإليك بيان ذلك:
أالموضوعات المتعلّقة بظروف التنزيل (السياق المقامي)
1 - أسباب النزول
يمثّل القول في أسباب النزول (9) ألصق مباحث علوم القرآن بما نحن فيه من استقراء العلاقة بين النصّ والسياق فهو دال كاشف عن هذه العلاقة، وبصور
__________
(9) لأهمية هذا المبحث في فهم القرآن ومعانية أفرده جماعة بالتصنيف منهم: علي بن المديني شيخ البخاري، والواحدي في كتابه (أسباب النزول)، ومختصر كتاب الواحدي للجعبري، والسيوطي في لباب النقول في أسباب النزول وغيرهم.(1/82)
متعددة تشمل السياقين: اللّغوي والمقامي. وتشير كتب علوم القرآن إلى أنّ كلّ آية أو مجموعة من الآيات نزلت عند سبب خاص استوجب إنزالها، وأنّ الآيات التي نزلت دون علّة خارجية قليلة جدّا. وقد أدرك علماء القرآن أنّ السبب أو المناسبة المعيّنة هي التي تحدّد الإطار الواقعي الذي يمكن فهم الآية أو الآيات من خلاله، بل وأدرك علماء القرآن أن قدرة المفسّر على فهم النصّ لا بدّ أن تسبقها معرفة بالوقائع التي أنتجت هذه النصوص. وهذا واضح من خلال الشروط التي يضعونها للمفسّر.
ولم يقف علماء القرآن عند مستوى هذا الربط بين النصّ والواقع، وإنّما أدركوا أنّ للنصّ من حيث هو نصّ لغوي فعالياته الخاصّة التي يتجاوز بها حدود الوقائع الجزئيّة التي كان استجابة لها، وهو ما ناقشوه تفصيلا في قضية العام والخاص، وبالإضافة إلى ذلك فقد أدركوا أنّ النصّ وإن كان من حيث النزول أي من حيث ترتيب نزول أجزائه مرتبطا بالوقائع والأسباب، فإنّه من حيث التلاوة [أي من حيث ترتيبه الآن في المصحف] يتجاوز هذا الارتباط بالوقائع ليقيم روابط أخرى ناقشها العلماء أيضا في علم (المناسبة بين الآيات).
إنّ معرفة أسباب النزول لم تكن مجرّد ولع برصد الحقائق التاريخيّة التي أحاطت بتشكّل النص، بل هدفت إلى فهم النص واستخراج دلالته فإنّ = العلم بالسبب يورث العلم بالمسبّب كما يقولون = (1). كما إنّ دراسة الأسباب والوقائع تؤدّي إلى فهم (حكمة التشريع) خاصّة في آيات الأحكام ممّا يساعد الفقهاء على نقل الحكم من الواقعة الجزئيّة أو السبب الخاصّ، وتعميمه على الوقائع المشابهة، وذلك بالاستناد إلى (دوالّ) في بنية النصّ ذاته تساعد على نقل الدلالة من الخاص والجزئي إلى العامّ والكلّي.
ومن أبرز مفردات هذا العلم ممّا له صلة مباشرة بنظريّة النصّ والسّياق القاعدة المعروفة لدى علماء القرآن: = العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص سبب النزول =. وقد ناقش
__________
(1) السيوطي (أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن أبو بكر السيوطي) ت (911هـ)، الإتقان في علوم القرآن، ط 3، دار الكتب العلمية / بيروت / لبنان / 1995، 1/ 65.(1/83)
السيوطي في (الإتقان) هذه المسألة، ودافع بشدّة عن الرأي القائل بأنّ = العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص سبب النزول = واستشهد على ذلك بأمثلة عديدة منها الآية الكريمة:
{= وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مََالَهُ يَتَزَكََّى =} (1). فإنّها نزلت في أبي بكر الصدّيق بالإجماع، ومع ذلك فإنّ صيغة العموم منها تفيد أنّ هذا الحكم ليس مقصورا عليه. ولذا فإنّ عموم اللفظ وسياق الآيات فيصل في الحكم الذي تضمّنته الآيات = (2). وللسيوطي عبارة في هذا الموضوع لها اتّصال وثيق بما نحن بصدده يقول: = إنّ صورة السبب قطعيّة الدخول في العام، وقد تتنزّل الآيات على الأسباب الخاصّة، وتوضع مع ما يناسبها من الآي العامّة رعاية لنظم القرآن وحسن السياق، فيكون ذلك الخاصّ قريبا من صورة السبب في كونه قطعيّ الدخول في العام = (3). وضرب لذلك مثلا بقوله تعالى: {= أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتََابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطََّاغُوتِ =} (4). فإنّها إشارة إلى كعب بن الأشرف ونحوه من علماء اليهود = لمّا قدموا مكّة، وشاهدوا قتلى بدر، حرّضوا المشركين على الأخذ بثأرهم، ومحاربة النبي صلّى الله عليه وسلّم فسألوهم: من أهدى سبيلا: محمّد وأصحابه، أم نحن؟ فقالوا: أنتم. مع علمهم بما في كتابهم من نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم المنطبق عليه، وأخذ المواثيق عليهم أن لا يكتموه، وكان ذلك أمانة لازمة لهم، ولم يؤدّوها، حيث قالوا للكفّار أنتم أهدى سبيلا حسدا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بإفادة أنّه الموصوف في كتابهم، وذلك مناسب لقوله تعالى: {= إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا =} (5). فهذا عامّ في كلّ أمانة، وذلك
__________
(1) سورة الليل، آية (17).
(2) السيوطي، الإتقان، 1/ 65.
(3) نفسه، 1/ 66.
(4) سورة النساء آية (51).
(5) سورة النساء آية (58).(1/84)
خاصّ بأمانة هي صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالطريق السابق، والعامّ تال للخاص في الرسم، متراخ عنه في النزول، والمناسبة تقتضي دخول ما دلّ عليه الخاصّ في العام = (1). ونقل السيوطي عن بعضهم أنّه لا يردّ تأخّر نزول آية الأمانات عن التي قبلها بنحو ستّ سنين، لأنّ الزمان إنّما يشترط في سبب النزول، لا في المناسبة، لأنّ المقصود منه وضع آية في موضع يناسبها، والآيات كانت تتنزّل على أسبابها، ويأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، بوضعها في المواضع التي علم من الله أنّها مواضعها = (2).
ويستشفّ من مجموع هذه النصوص ما يلي:
1 - جاءت آيات النزول لتواكب الوقائع والأحداث، وهو ما نقصده بالسياق المقامي للنصّ، ويشمل:
1 - زمن الخطاب.
2 - أطراف الخطاب (المخاطب والمخاطب) (الرسول وعلاقته بالمخاطبين).
3 - سياق التخاطب وأحوال المخاطبين.
2 - آيات أسباب النزول مناسبة لسياق الحال الذي نزلت فيه من جهة، وهي مناسبة لسياق السورة التي توجد فيها من جهة أخرى. وإن تباعد زمن النزول بين آيات السورة الواحدة فالقرآن نصّ واحد متّسق متماسك الأجزاء، متلاحمها، ولو قرأ القارئ النصّ القرآني بمعزل عن معرفته لأسباب النزول لما لحظ أيّ تفاوت أو تباين أو اختلاف في انسياب الخطاب أو تلاحم أجزائه.
3 - ومع ذلك يبقى لسياق الحال المرافق للنصّ (الآية أو مجموعة الآيات) دوره الخاصّ في الكشف عن طبيعة تفاعل النصّ مع الظرف الذي نزل فيه، وبسببه، ويكشف عن تفاعل النصّ مع المخاطبين بشكل خاصّ، كما أنّه لا يمكن تبيّن دقائق النصّ وفهم مراميه بمعزل عن هذا السياق المقامي. ولهذا وقعه الخاصّ في المعالجة التربويّة
__________
(1) السيوطي، الإتقان 1/ 65.
(2) نفسه 1/ 66.(1/85)
المتدرّجة المنوطة بأسبابها للمتربيّن ولذا كان للقرآن / النصّ، أثره الواضح والمباشر في تغيير مفاهيم المتلقّين، لأنّه كان يتنزّل وفق وقائع حياتهم وأسئلتهم، وهذا يدعم النظرة الحديثة للنصّ والعالم. ومن هنا يدعو أحد المشتغلين بعلوم القرآن من المحدثين، المربّين في مجال الحياة التربويّة التعليميّة، والعاملين في التوجيه والإرشاد = أن يستفيدوا من سياق أسباب النزول في التأثير على الطلّاب والدارسين = (1).
وإذا كان اهتمام الفقهاء قد انصبّ أساسا على النصوص الخاصّة بالأحكام دون ما عداها من النصوص، فإنّ طرائقهم في تحليل النصوص لاستقطار دلالتها، تعدّ طرائق هامة فيما يرتبط بمنهج التحليل اللّغوي للنصوص بشكل عام، ويعلّمنا هذا المنهج أنّ السعي لاكتشاف دلالة النصّ لا يجب أن يفصل بين النصّ وبين الوقائع التي يعبّر عنها، ولكنّه لا يصحّ أن يقف عند حدود هذه الوقائع، دون أن يدرك خصوصيّة الأداء اللّغوي في النصّ، وقدرتها على تجاوز الوقائع الجزئيّة.
إنّ استيعاب النصوص للوقائع الجديدة لا بدّ أن يستند إلى دوال إمّا في بنية النصّ وإمّا في السياق الاجتماعي لخطابه، أي في أسباب النزول. وقد أدرك عمر بن الخطاب حكمة التشريع الذي يعطي للمؤلّفة قلوبهم نصيبا من الزكاة، لا من بنية النصّ ذاته، بل من السياق العام للنصّ، فأدرك أنّ حكمة هذا التأليف تقوية الإسلام الذي كان ضعيفا، ومع قوّة الإسلام وسيطرته على الجزيرة العربيّة، وامتداده إلى ما وراءها لم يعد ثمّة حكمة في إعطاء جزء من الزكاة لمن لا يستحقّها، وبالفهم نفسه من جانب عمر لحكمة فرض حدّ السرقة، لم يقم هذا الحد على العبدين اللّذين سرقا من سيّدهما الذي كان يجيعهما، وهدّد ابن الخطاب السيّد نفسه بقطع يده لو عاد العبدان للسرقة مرة أخرى.
وكذلك نرى هذا الفهم في طرائق المفسّرين في التعامل مع النص القرآني.
إنّ التمسّك بقاعدة = العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص سبب النزول = هكذا على إطلاقها لا يتّفق مع مقاصد الشريعة التي لا تبرز إلّا من خلال دراسة علاقة النصّ
__________
(1) منّاع القطان، مباحث في علوم القرآن، ص 96.(1/86)
بالواقع، ثمّ إنّ إهدار السبب في كلّ نصوص القرآن بحجّة عموم اللفظ من شأنه أن يؤدّي إلى إهدار حكمة التدرّج بالتشريع في قضايا الحلال والحرام، وإنّ مناقشة دلالة النصوص من خلال ثنائيّة عموم اللّفظ وخصوص السبب أمر يتعارض مع طبيعة العلاقة بين النصّ اللّغوي وبين الواقع الذي ينتج هذا النصّ. = فالنصّ ينتج داخل سياق الفكر والثقافة، وتنتمي دوالّ النصّ وعلاماته إلى النظام اللّغوي الذي يعدّ نظاما خاصّا داخل نظام الثقافة، وإن كان هو النظام المركزي = (1). وفي النصوص تتفاعل نظم دلاليّة ثانويّة داخل النظام العام للنصّ، فنجد دوالّ تتجاوز إطار الوقائع الجزئيّة، ونجد دوالّ أخرى تشير إلى الوقائع الجزئيّة، ولا تتجاوزها، ولكنّ النصوص الممتازة تتضمّن أيضا دوالّ ذات طبيعة عامّة تمكّن العصور المختلفة من قراءة النصوص، واكتشاف دلالات مغايرة لها. فالشافعي يقول: = اللفظ بيّن في مقصوده، ويحتمل في غير مقصوده = (2). ويضرب المنتصرون (9) لفكرة أنّ = العبرة بخصوص السبب لا بعموم النزول = مثلا بالآية الكريمة {= الَّذِينَ قََالَ لَهُمُ النََّاسُ إِنَّ النََّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزََادَهُمْ إِيمََاناً =} (3). ويرون أنّه ليس من المتصوّر أن يكون لفظ (الناس) في هذا النصّ دالا على (جميع الناس) وإلّا كان جميع الناس قائلين (لجميع الناس) إنّ (جميع الناس) قد جمعوا لكم. إنّ بنية النصّ ذاته تؤكّد على خصوص مدلول (الناس) في كلّ لفظ من هذه الألفاظ، بحيث يكون القائلون غير المخاطبين غير الغائبين، وهي مستويات الضمائر في منطوق الآية. إنّ الألف واللام في كلمتي (الناس)
__________
(1) نصر حامد أبو زيد، مفهوم النصّ في دراسة علوم القرآن، ط 3، المركز الثقافي العربي / بيروت / والدار البيضاء / 1996، ص 107.
(2) الشافعي، الرسالة، ص 53.
(9) منهم من القدامى جمع من المفسّرين كالزمخشري، وعدد من مؤلّفي دراسات القرآن ومن المحدثين الأستاذ سيّد قطب رحمه الله، ونصر حامد أبو زيد، على اختلاف ما بينهما من منهج التناول للمسألة.
(3) سورة آل عمران، الآية (173).(1/87)
ألف ولام الجنس، ولكنّها ألف ولام العهد التي لا تنكشف إلّا بالعودة إلى أسباب النزول ومعنى ذلك أنّ دلالة النصّ تنكشف من خلال تحليل بنائه اللّغوي أوّلا، ومن خلال العودة إلى سياق إنتاجه ثانيا. وإنّ إهدار أحد الجانبين يعوق المفسّر عن اكتشاف الدلالة والمعنى. كما أنّ دلالة النصوص ليست إلّا محصّلة لعمليّة التفاعل في عمليّة تشكيل النصوص وصيغها من جانبيّ اللغة والواقع، وكلا الجانبين هامّ لاكتشاف دلالة النصوص (1).
إنّ مجموعة النصوص التي نتعامل معها في موضوع = أسباب النزول = تفيد أنّ حركة تحليل النصوص يجب أن تسير في اتجاهين: الأوّل من خارج النصّ إلى داخله، أي من السياق الاجتماعي للنصّ إلى بنيته الداخليّة، والثاني: من داخل النصّ إلى خارجه، فنرى السياق الاجتماعي من خلال بنية النصّ الداخليّة وعلاقته بالأجزاء الأخرى من النص العامّ. فيمكن بهذا اكتشاف أسباب النزول من داخل النصّ، كما يمكن اكتشاف دلالة النصّ بمعرفة سياقه الخارجي. خاصّة إذا تعسّر تحديد سبب النزول بسبب تضارب الروايات.
2 - نزول القرآن منجّما
الذي عليه معظم علماء الإسلام أنّ القرآن الكريم أنزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثمّ أنزل بعد ذلك متتابعا متدرّجا مع الوقائع والأحداث في قرابة ثلاث وعشرين سنة. (2) {= وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا =} (3).
= وغالب القرآن نزل مفرّقا وأقلّه نزل جمعا = (4). ويضع مؤلّفو كتب علوم القرآن حكما
__________
(1) نصر حامد أبو زيد، مفهوم النصّ، ص 180.
(2) منّاع القطان، مباحث في علوم القرآن، ص 101.
(3) سورة الإسراء آية (106).
(4) السيوطي، الإتقان، ص 12.(1/88)
لنزول القرآن منجّما ومنها تثبيت فؤاد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم {= وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلََا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً كَذََلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ وَرَتَّلْنََاهُ تَرْتِيلًا =} (1) وحول هذه الآية وهذه الحكمة يقول السيوطي: = لنثبّت به قلبك، أي لنقوّي به قلبك، فإنّ الوحي إذا كان يتجدّد في كل حادثة، كان أقوى بالقلب، وأشدّ عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك، وتجدّد العهد به، وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة = (2). وفي موضع آخر يذكر طرفا آخر من حكم تنزّل القرآن الكريم مفرّقا يقول: [ومنه ما هو جواب لسؤال، ومنه ما هو إنكار على قول قيل، أو فعل فعل (3) {= وَلََا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلََّا جِئْنََاكَ بِالْحَقِّ =} (4).
ولا شكّ أنّ هذين النصّين يكشفان بجلاء عن تفاعل النصّ مع سياقه المقامي (الخارجي) فتثبيت الفؤاد المشار إليه في الآية، وفي نصّ السيوطي يشير إلى مراعاة حال المتلقّي الأوّل من حيث صعوبة عمليّة الاتصال بالوحي عليه على الأقل في بدايتها ومن حيث إنّ الثقافة ثقافة شفاهية يستحيل فيها استيعاب نصّ على هذا الطول، وعلى ذلك فإنّ مراعاة حال المتلقّي الأوّل ليست مجرد مراعاة لعوامل شخصيّة ذاتيّة بقدر ما هي مراعاة لحالة عامّة، يدخل فيها المتلقي الأول جنبا إلى جنب مع المخاطبين بالنصّ = لتقرأه على الناس على مكث =. إنّ النصّ هنا يستجيب لواقع ثقافي له شروطه الموضوعيّة الخاصّة، وإنّ فهم علماء القرآن لعلّة التنجيم يتجاوز إطار مراعاة حال المتلقّي الأول، إلى مقاربة الإحساس بجدليّة العلاقة بين النصّ والواقع.
وقد عبّر الأستاذ مالك بن نبي عن هذه العلاقة بقوله: = سيهدي الوحي خلاله ثلاثة وعشرين عاما سير النبي وأصحابه خطوة خطوة نحو هذا الهدف البعيد وهو يحوطهم
__________
(1) سورة الفرقان، الآيات (3332).
(2) السيوطي، الإتقان، ص (9392).
(3) نفسه، ص: 92.
(4) سورة الفرقان آية (33).(1/89)
في كلّ لحظة بالعناية الإلهيّة المناسبة، فهو يعزز جهودهم العظيمة، ويدفع أرواحهم وإرادتهم نحو هدف الملحمة الفريد في التاريخ، فيكرّم بآية صريحة قضاء شهيد أو استشهاد بطل = (1). ثمّ تساءل كيف كان القرآن سيؤدّي دوره حيال طبيعة الإنسان التي جاء يصوغها في ذلك العصر، لو أنّه سبق بنزوله أحداث حنين وأحد، وماذا كان يكون لو أنّه لم يأت لكلّ ألم بعزائه العاجل، ولو أنّه لم ينزّل لكلّ تضحية جزاءها، ولكلّ هزيمة أملها، ولكلّ نصر درسه، ولكلّ عقبة إشارة إلى ما تقتضيه من جهد، ولكلّ خطر أدبي أو مادّي روح التشجيع اللازم لمواجهته، وهل كان لدرس الإسلام العظيم أن يجد طريقه إلى قلوبهم وضمائرهم لو لم يكن نزوله تبعا لأمثلة الحياة نفسها والواقع المحيط بهم؟ ويجيب: لو أنّ القرآن كان قد نزل جملة واحدة لتحوّل سريعا إلى كلمة مقدّسة خامدة، وإلى فكرة ميّتة، وإلى مجرّد وثيقة دينيّة لا مصدرا يبعث الحياة في حضارة وليدة، فالحركة التاريخيّة والاجتماعيّة والروحيّة التي نهض بأعبائها الإسلام لا سرّ لها إلّا في هذا التنجيم = (2).
ومن ناحية أخرى فإنّ تنجيم هذا النصّ ليتناسب مع مقتضيات الأحوال الخارجيّة ولمدّة طويلة (23سنة) يعني الترابط الواضح بين النصّ اللّغوي والواقع الخارجي ويكشف أيضا عن قضيّة أخرى هي قضية الاتّساق الداخلي في النصّ القرآني، فمسألة التنجيم، ومسألة أسباب النزول، ومسألة الناسخ والمنسوخ كلّها قضايا قد توحي بوجود تناقض في العلاقات الداخليّة للنصّ القرآني. ولكنّها جميعا تؤكّد اتساق النصّ القرآني، فالقرآن رسالة، والمتلقّي الأول هو الرسول (صلى الله عليه وسلّم)، وهناك مخاطبون، وقد تنزّل القرآن إليهم معالجا مقتضيات حياتهم بخطابات متنوّعة في الأسلوب والمضمون، وإنّ تنوّع الخطاب القرآني، وتدرّجه في مستويات عدّة، بحسب المخاطبين وظروف الخطاب، هو أبرز دليل على أنّ هذا الخطاب هو خطاب الحياة. والذي يكشف عن هذا
__________
(1) مالك بن نبي، الظاهرة القرآنيّة، ص 174.
(2) نفسه، ص 174.(1/90)
التفاعل الحار بين النصّ والمقام الذي يتنزّل فيه، ومع ذلك يبقى متّسقا منسجما مترابطا، فالتفاعل مع الواقع ينتج نصّا متآلفا متناغما. ولن يفوتنا الإشارة إلى أنّ السبب الرئيسي في بقاء النصّ القرآني متوحّدا كالكلمة الواحدة هو وحدة المخاطب سبحانه وتعالى، وعلى الرغم من توحّده فهو متنوّع يشتمل على خطابات عديدة تختلف باختلاف المقام داخل النسيج القرآني الواحد.
3 - المكّي والمدني:
ضبط الصحابة والتابعون وعلماء القرآن منازل القرآن آية آية ضبطا يحدّد الزمان والمكان. وعني العلماء بتحقيق المكّي والمدني على وجه التخصيص عناية فائقة.
ويمكن القول إنّ ظروف التنزيل كانت واضحة لديهم أشدّ الوضوح، ومن ذلك علمهم بما نزل بمكّة، وما نزل بالمدينة، وما نزل بمكّة وحكمه مدنيّ وما نزل بالمدينة وحكمه مكيّ، وما نزل بمكّة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكّة، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبيّة، وما نزل ليلا، وما نزل نهارا، وما نزل مشيّعا، وما نزل مفردا، وما نزل مجملا، وما نزل صيفا، وما نزل شتاء، وما نزل في الحضر (الحضري) وما نزل في السفر (السفري) وغيرها.
ولعلّ التفرقة بين المكّي والمدني في النصّ تعدّ تفرقة بين مرحلتين هامتين ساهمتا في تشكيل النصّ سواء على مستوى المضمون أم على مستوى التركيب والبناء. وليس لذلك من دلالة سوى أنّ النصّ ثمرة للتفاعل مع الواقع الحيّ التاريخي، وإذا كان العلم بالمكّي والمدنيّ يكشف عن الملامح العامّة لهذا التفاعل، فإنّ علم أسباب النزول الذي سلف الحديث عنه يكاد يزوّدنا بالمراحل الدقيقة لتشكيل النصّ في الواقع والثقافة. ولذلك جهد علماء القرآن ليس في تبيّن دقائق هذا الموضوع فحسب، بل في ذكر فوائده الجمّة، في كلّ زمان ومكان، ويذكرون من هذه الفوائد = الاستعانة في تفسير القرآن، والاستفادة منها في أسلوب الدعوة، فإنّ لكلّ مقام مقالا، ومراعاة لمقتضى الحال، فالخطاب يختلف
باختلاف أنماط الناس ومعتقداتهم، وأحوال بيئتهم، وتتلاءم طرائق الخطاب بما يلائم نفسيّة المخاطب = (1). كما أنّه = عماد قويّ في تاريخ التشريع يستند إليه الباحث في معرفة التدرّج في الأحكام والتكاليف = (2).(1/91)
ولعلّ التفرقة بين المكّي والمدني في النصّ تعدّ تفرقة بين مرحلتين هامتين ساهمتا في تشكيل النصّ سواء على مستوى المضمون أم على مستوى التركيب والبناء. وليس لذلك من دلالة سوى أنّ النصّ ثمرة للتفاعل مع الواقع الحيّ التاريخي، وإذا كان العلم بالمكّي والمدنيّ يكشف عن الملامح العامّة لهذا التفاعل، فإنّ علم أسباب النزول الذي سلف الحديث عنه يكاد يزوّدنا بالمراحل الدقيقة لتشكيل النصّ في الواقع والثقافة. ولذلك جهد علماء القرآن ليس في تبيّن دقائق هذا الموضوع فحسب، بل في ذكر فوائده الجمّة، في كلّ زمان ومكان، ويذكرون من هذه الفوائد = الاستعانة في تفسير القرآن، والاستفادة منها في أسلوب الدعوة، فإنّ لكلّ مقام مقالا، ومراعاة لمقتضى الحال، فالخطاب يختلف
باختلاف أنماط الناس ومعتقداتهم، وأحوال بيئتهم، وتتلاءم طرائق الخطاب بما يلائم نفسيّة المخاطب = (1). كما أنّه = عماد قويّ في تاريخ التشريع يستند إليه الباحث في معرفة التدرّج في الأحكام والتكاليف = (2).
وحين فرّق العلماء بين المكّي والمدنيّ اعتمدوا غالبا على المعيار المكاني، ولمّا كان مكان الاتّصال / الوحي مرهونا دائما بمكان المتلقّي الأوّل للوحي، الذي هاجر من مكّة إلى المدينة، ثمّ عاد إلى مكّة فاتحا، وأخذ يتردّد عليها بعد ذلك زائرا أو حاجّا، فقد ذهب بعضهم إلى أنّ المكّي ما نزل بمكّة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة، وفرّقوا بين السفري والحضري، والسمائي والأرضي (3) وكلّ هذه التقسيمات تستند إلى معيار المكان دون نظر إلى النصّ من حيث المضمون أو من حيث الشكل، وثمّة معيار آخر للتفرقة بين المكّي والمدنيّ هو معيار المخاطبين بالنصّ على التغليب في كلّ مرحلة من المرحلتين فالمكّي ما وقع خطابا لأهل مكّة، ولو نزل بالمدينة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة ولو نزل بمكّة، وثمّة معيار زماني، فما وقع قبل الهجرة يعدّ مكيّا ولو نزل في المدينة، وما وقع بعد الهجرة يعدّ مدنيّا ولو نزل في مكّة.
ويقترح د. حامد نصر أبو زيد أن يكون معيار التصنيف مستندا إلى الواقع من جهة، وإلى النصّ من جهة أخرى. إلى الواقع لأنّ حركة النصّ ارتبطت بحركته، وإلى النصّ من حيث مضمونه وبناؤه ذلك أنّ حركة النصّ في الواقع تنطبع آثارها في جانبي النصّ. ولذا فمعيار التصنيف هو التفرقة بين مرحلتين تاريخيّتين تفصل بينهما الهجرة فالمكّي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها سواء نزل بمكّة أم بالمدينة (4). ودليل صحّة هذا المعيار (ارتباط النصّ بحركة الواقع) أنّ علماء الإسلام حين كان يلتبس عليهم إيجاد دليل حاسم على مكان نزول الآيات كانوا يلجئون إلى بعض المعايير المضمونيّة
__________
(1) منّاع القطان، مباحث في علوم القرآن، ص: (6059).
(2) نفسه، ص: 51.
(3) انظر الإتقان للسيوطي، والبرهان في علوم القرآن للزركشي، باب أسباب النزول والمكي والمدني.
(4) نصر حامد أبو زيد، مفهوم النصّ، ص 92.(1/92)
داخل النصّ ذاته، فذهبوا مثلا إلى أن = كلّ سورة فيها {(يََا أَيُّهَا النََّاسُ)} وليس (يل أيّها الذين آمنوا) فهي مكيّة. وهذا المعيار المضموني أيضا له صلة بالواقع الاجتماعي كما نرى فيبرز فيه عنصر مراعاة المخاطب مرتبطا بالعنصر الدلالي والتعبيري داخل النصّ، وكلّ سورة فيها (كلّا) فهي مكيّة، وحكمة ذلك = أنّ نصف القرآن حسب ترتيب التلاوة وحسب ترتيب النزول نزل أكثره بمكّة، وأكثرها جبابرة، فتكرّرت فيه (كلّا) على وجه التهديد والتعنيف لهم، والإنكار عليهم بخلاف الصنف الأول = (1). ويبرز في هذا المعيار المضموني أيضا، عنصر مراعاة المخاطب، والتكيّف مع الظرف الاجتماعي، وأثر ذلك في أسلوب الخطاب.
ويذكر علماء القرآن أيضا أنّ كلّ سورة فيها ذكر المنافقين هي مدنيّة سوى العنكبوت، وهنا تبرز مراعاة ظروف التخاطب والمخاطبين كذلك، وأثرها في المستوى المعجمي والدلالي للنصّ، وكلّ سورة فيها الحدود والفرائض فهي مدنيّة، وفي هذا مراعاة للوضع النفسي والاعتقادي للمخاطب ومراعاة الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة أيضا فالحدود لا تطبّق إلّا بوجود دولة إسلاميّة. وهذا العامل يجد أثره واضحا في مضمون الخطاب وموضوعه، بل وفي بنيته الكليّة بتعبير (ديك).
وليست هذه الخصائص جامعة مانعة كما أدرك العلماء أنفسهم، بل هي خصائص وصفات على التغليب فإنّ سورة النساء مدنيّة وفيها {(يََا أَيُّهَا النََّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ)}، وإذا كان معيار المضمون كما هو الحال في معيار المكان معيارا غير حاسم. فذلك لأنّ المدخل الفقهي يفترض وجود تمايز واضح حادّ يمكن تلمّسه والدلالة عليه في التفريق بين المكّي والمدني. وهذا غير ممكن لأنّ المرحلتين المدنية والمكية متداخلتان تداخلا واضحا، ولذا تظل مسألة التفريق بين المكّي والمدني في النصّ تفرقة تقوم على خصائص عامّة ولكنّها ليست حاسمة، ويمكن الاستعانة هنا بالمعيار الزماني جنبا إلى جنب مع المعيار المكاني والموضوعي، وإضافة معيار جديد هو معيار الأسلوب، أي محاولة البحث عن
__________
(1) السيوطي، الإتقان / 1/ 67.(1/93)
خصائص أسلوبيّة فارقة إلى جانب المعايير السابقة، ويذكر علماء القرآن في هذا أنّ للآيات المكيّة خصائص ليست للآيات المدنية في وقعها ومعانيها. فظروف المخاطبين مختلفة، ففي الفترة المكّية = كان القوم في جاهليّة تعمي وتصمّ، يعبدون الأوثان، ويشركون بالله وينكرون الوحي وو لذا فنجد في مكّي القرآن ألفاظا شديدة القمع على المسامع، تقذف حروفها شرر الوعيد، وألسنة العذاب، ف (كلّا) الرادعة الزاجرة، والصاخّة وو كل هذا نجده في خصائص القرآن المكّي، وحين تكوّنت الجماعة المؤمنة بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشرّه، وامتحنت في عقيدتها بأذى المشركين، فصبرت وهاجرت بدينها مؤثرة ما عند الله على متاع الحياة. وحين تكوّنت هذه الجماعة نرى الآيات المدنيّة طويلة المقاطع، تتناول أحكام الإسلام، وحدوده، وتدعو إلى وهذا هو الطابع العام القرآن المدني = (1).
ويعلّل علماء القرآن خصيصة طول الآيات المدنيّة إذا قورنت بقصر الآيات المكيّة بانتقال الدعوة من مرحلة الإنذار إلى مرحلة الرسالة، أي من واقع اجتماعي إلى واقع اجتماعي آخر فالإنذار يعتمد على التأثير الذي يعتمد بدوره على لغة ذات أسلوب مركّز وموقّع، وهو أسلوب طاغ في قصار السور بصفة عامّة، وكلّها سور مكيّة، ولكنّ الرسالة من جهة أخرى تخاطب المتلقّي وتنقل إليه محتوى أوسع من مجرّد التأثير، وهي من ثمّ تحتاج لغة مختلفة على مستوى التركيب والبناء. في الرسالة يغلب جانب نقل المعلومات على جانب التأثير، وإن كان لا يلغيه الغاء تاما، وفي الإنذار تكون الأولويّة للتأثير، ويقلّ جانب تدفّق المعلومات.
وإنّ معرفة (المكّي والمدني) و (سبب النزول) مع دراسة النصّ دراسة داخليّة (أسلوب النصّ ومضمونه) تضمن تحليلا دقيقا للخطاب وتجعله قابلا للتمايز، وعدم الخلط بين مناسبة النزول وبين سياق آخر يعاد فيه الاستشهاد بالنص مرة أخرى، فيظنّ الراوي أنّ النصّ نزل سابقا على سببه، ومثال ذلك ما يرويه السيوطي أنّ عمر بن الخطاب
__________
(1) منّاع القطان، مباحث في علوم القرآن ص: (5353).(1/94)
حين نزل قوله تعالى: {= سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ =} (1) قال: أيّ جمع؟ فلمّا كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في آثارهم مصلتا بالسيف يقول: = سيهزم الجمع ويولّون الدبر =، فكانت ليوم بدر = (2). ولكنّ سياق الآية في سورتها يكشف أنّها تتضمّن مقارنة بين آل فرعون وبين مشركي مكّة، وهي مقارنة يمكن تلمّسها من انتقال النصّ من قصّة آل فرعون إلى تهديد أهل مكّة. {= وَلَقَدْ جََاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ، كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا كُلِّهََا، فَأَخَذْنََاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. أَكُفََّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولََئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرََاءَةٌ فِي الزُّبُرِ. أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السََّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسََّاعَةُ أَدْهى ََ وَأَمَرُّ =} (3). وهو انتقال ينكشف من خلال الالتفات المتكرّر من الغيبة إلى خطاب المؤمنين إلى خطاب الكفّار ثمّ إلى الغيبة مرة أخرى، في حركة سريعة، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ التوعّد بصيغة الاستقبال (السين) ثمّ الإضراب باستخدام (بل) والحديث عن الساعة يكشف عن (سياق النصّ) أو مناسبة النزول (4). والنصّ كذلك يكشف عن الصراع المستمر بين المؤمنين والكافرين وهو صراع كانت الغلبة فيه للكفّار في المرحلة المكيّة، ولذلك نجد النصّ يتوعّد، ونجد هذا الوعيد قد تحوّل في سياق حركة الواقع مع إعادة قراءته ومع إعادة الاستشهاد به في سياق جديد إلى نوع من البشارة. لكنّ هذا التحوّل نوع من توسيع دلالة النصّ باتّساع أفق القراءة. وليس سبب نزول جديد متأخّر عن وقت نزول الآية. وهذا يفضي بنا إلى فهم جدليّة علاقة النصّ بواقعه، وإعادة قراءته مرّة أخرى مع تطور وعي الجماعة التي تتعامل مع هذا النصّ.
والنصوص الإبداعيّة العظيمة تملك إمكانيّات مفتوحة دائما للتعبير عن وقائع جديدة، لكنّ عمليّة استخراج هذه الدلالات الجديدة من النصوص في ضوء القراءات
__________
(1) سورة القمر، الآية (45).
(2) السيوطي، الإتقان، 1/ 36.
(3) سورة القمر، الآيات (4441).
(4) نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، ص 94.(1/95)
الجديدة لا يمكن أن تتمّ بمعزل عن دراسة سياق النصوص. وهو السياق الذي نجده في (أسباب النزول) كما مرّ معنا.
4 - في مسألة الناسخ والمنسوخ.
تعدّ ظاهرة النسخ التي ذكرها علماء القرآن في مؤلّفاتهم من الظواهر الدالّة على وجود علاقة قويّة بين النصّ والواقع، وهي دالّة أيضا على تفاعل هذا النصّ مع سياقه الثقافي والاجتماعي. ومعنى النسخ: الإزالة، واختلف العلماء حول مفهومه، فشرحه بعضهم بأنّه إزالة الحكم وإبقاء اللفظ، ويقصد بذلك إزالة حكم آية بحكم آية أخرى متلوّة أو بخبر متواتر، ويبقى لفظ المنسوخة متلوّا، ويرى آخرون أنّه إزالة الحكم واللفظ وتحلّ الآية الناسخة لها في الحكم والتلاوة. والمعنى الثالث من معاني النسخ مأخوذ من قول العرب: نسخت الريح الآثار إذا أزالتها فلم يبق منها عوض، ولا حلّت الريح محلّ الآثار بل زالا جميعا، وهذا النوع من النسخ إنّما يؤخذ من جهة الأخبار، نحو ما روي أنّ سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة طولا، فنسخ الله منها ما شاء فأزاله بغير عوض، وذهب حفظه من القلوب، وهذا الأخير على ضربين:
1 - أن يزول اللّفظ من الحفظ أو يزول الحكم، على نحو ما ذكرنا من سورة الأحزاب.
2 - أن تزول التلاوة واللفظ، ويبقى الحكم والحفظ للفظ، ولا يتلى على أنّه قرآن ثابت، نحو آية الرجم التي تواترت الأخبار عنها (1).
وقد انقسم العلماء إزاء هذه المسألة إلى أقسام، فكان منهم القائلون بوجود النسخ، وآخرون قالوا بندرته، وفئة ثالثة انكرت وجود النسخ في القرآن (9) ويهمّنا في هذا
__________
(1) أبو محمد مكّي بن أبي طالب القيسي، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، ص (5349).
(9) يمكن للمهتم أن يطّلع على آراء هذه الفئات في كتب التفسير والأصول وكتب علوم القرآن، كما يمكن التعرّف على آراء العلماء المحدثين من خلال مناقشاتهم وفتاويهم التي ورد بعضها في كتاب (لا نسخ في القرآن) / أحمد حجازي السقا / دار الفكر العربي ط 1/ 1978.(1/96)
المبحث إيضاح علاقة هذا الموضوع بنظريّة العلاقة بين النصّ والسّياق من خلال النصوص التي تركها أصحاب دراسات علوم القرآن ونشير ابتداء إلى أنّ مسألة النسخ تتّصل بموضوع معالجة النص للواقع وتفاعله معه من جهة، وكذلك تتصل بمسألة انسجام الخطاب من جهة أخرى.
فنرى أبا محمّد مكّي بن أبي طالب (المتوفّى سنة 437هـ) يحاول جاهدا الخروج من مسألة شائكة، وهي أنّ حدوث النسخ يناقض أنّ القرآن محفوظ حفظا أزليّا في اللوح المحفوظ. وبعد أن يقرّر أنّ هذا التعديل والتبديل والنسخ إنّما هو مكتوب في علم الله. وأنّ الله يحدّد أوقات التعديل وكيفيّة. في علمه سبحانه، ثمّ يخرج بعد هذا إلى توضيح وظيفة النسخ، وهي في رأينا توضح علاقة النصّ بالسياق الخارجي، وبالذات علاقة النصّ بالمخاطبين يقول: = وذلك منه تعالى لما فيه من الصلاح لعباده، فهو يأمرهم بأمر في وقت لما فيه من صلاحهم في ذلك الوقت، وقد علم أنّه يزيلهم عن ذلك في وقت آخر لما علم فيه من صلاحهم في ذلك الوقت الثاني () فأتى كلّ رسول قومه بشرع شرعه الله مخالف لشرع من كان قبله من الرسل {= لِكُلٍّ جَعَلْنََا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهََاجاً =}. وذلك منه تعبّد واختيار وابتلاء للطائع والعاصي، وكلام الله واحد لا اختلاف فيه، وإنّما الاختلاف في المأمور به في وقتين متقدّمين في علم الله قبل علم كل مخلوق ولأجل ما أراد الله من النسخ للرفق بعباده، والصلاح لهم أنزل القرآن شيئا بعد شيء، ولم ينزله جملة واحدة لأنّه لو نزل جملة واحدة لم يجز أن يكون فيه ناسخ ولا منسوخ، إذ غير جائز، أن يقول في وقت واحد افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا لذلك الشيء بعينه = (1).
إنّ هذا النصّ يعالج قضيّة اتّساق النصّ مع المقام (السياق المقامي) فليس معقولا أن يتنزّل الأمر وضدّه في آن واحد فكيف يستجيب المخاطبون في هذه الحالة؟ ثمّ إنّ النصّ كان يتشكّل مع تطوّر الواقع وتفاعل المخاطبين من جانب آخر، ومع هذا التنزّل وفق
__________
(1) مكّي بن أبي طالب القيسي، الإيضاح، ص (5655).(1/97)
حاجات البشر وتدريج التشريع على أولئك العباد، يبقى النصّ منسجما متّسقا ولاحظ قوله (وكلام الله واحد لا اختلاف فيه) ويبقى الاختلاف في دائرة تفاعل المخاطبين مع النصّ الواحد المتّسق المنسجم. ثمّ إنّ النسخ مظهر لاتّصال النّص مع الوقائع، ومعالجتها معالجة مباشرة، ولا بدّ أن تظهر آثار هذا الاتّصال داخل النصّ القرآني، فأيّ معنى أن ينزل النصّ حول حادثه لم تقع بعد؟ يقول مكّي بن أبي طالب حول هذه القضية = مع أنّه كان إنزاله القرآن غير جملة أخفّ في التعبّد، فلو نزل العرض كله جملة واحدة لصعب العمل به، ولسبق الحوادث التي من أجلها نزل كثير من القرآن، فغير جائز أن ينزل قرآن في حادثة يخبر عنها بالحدوث ويحكم فيها وهي لم تقع، فافهم ذلك فهو الأصل الذي يبنى عليه الناسخ والمنسوخ = (1).
وقريب من هذا ما قاله ابن الجوزي في كتابه (نواسخ القرآن) = إنّ التكليف لا يخلو أن يكون موقوفا على مشيئة المكلّف أو على مصلحة المكلّف، فإن كان الأوّل فلا يمنع أن يريد تكليف العباد عبادة في مدّة معلومة ثم يرفعها ويأمر بغيرها. وإن كان الثاني فجائز أن تكون المصلحة للعباد، في فعل عبادة زمان دون زمان = (2). ويستفاد من النصوص السابقة ما يلي:
1 - النصّ القرآني وحدة واحدة لا تتجزّأ وكلام الله واحد وليس متعدّدا، وهو بهذا يعامل معاملة النّص الواحد الكامل مع أنّه نزل منجّما، أو حدث فيه نسخ للأحكام أو الألفاظ.
2 - النّص القرآني متّسق، لا اختلاف فيه ولا تباين، أو تناقض بين أجزائه، فهو يمتلك جميع خصائص النّص الكامل من حيث التماسك والترابط، وهذه الخصيصة (النصيّة) تلازمه في جميع مفرداته، بما فيها ناسخه ومنسوخه إن ثبت أن فيه نسخا (الاتّساق الداخلي للخطاب).
__________
(1) ابن الجوزي، نواسخ القرآن، ص (1514).
(2) مكّي بن أبي طالب، الايضاح، ص: 58.(1/98)
3 - وجود الناسخ والمنسوخ يجب أن يراعى فيه (زمان الخطاب) أو زمن النّص، وإنّ النّص المتعلّق بإحدى مناسبات النزول يجب أن يرتبط بظروف التنزيل وملابساته، ويجب أن يوضع في فضائه الزماني والمكاني وقت تنزيله (سياق التخاطب).
4 - النّص يتفاعل مع المخاطبين ويتنزّل بحسب أحوالهم وهذا ما يسمّى بالسياق المقامي أو السياق الثقافي والاجتماعي المحيط بالنّص. وهذا هو انسجام النّص مع السياق المقامي. وإذن فقد تجمّع لدينا من خلال موضوع (الناسخ والمنسوخ) جميع عناصر نظرية النّص والسياق، وهي النّص الكامل بجميع عناصره، الاتّساق الداخلي والتماسك، الانسجام مع السياق (السياق اللغوي والسياق المقامي).
ويعالج (مكّي بن أبي طالب القيسي) في باب (بيان شروط الناسخ والنسوخ) علاقة الناسخ والمنسوخ بالشرائع السابقة، ويرى أنّها يجب أن لا توضع في الناسخ والمنسوخ يقول: = وقد أدخل أكثر المؤلّفين في الناسخ والمنسوخ آيات كثيرة وقالوا: نسخت ما كانوا عليه من شرائعهم، وكان حقّ هذا ألّا يضاف إلى الناسخ والمنسوخ، لأنّا لو اتبعنا هذا النوع لذكرنا القرآن كلّه في الناسخ والمنسوخ = وهذا خروج عما نقصد إليه من هذا العلم = (1). ويستفاد من ذلك أنّ النّص القرآني نصّ واحد متّصل، ارتبطت آية بأمّة جديدة، وبظروف تنزيل مختلفة عن الشرائع السابقة، وعالجت سياقا ثقافيا واجتماعيّا مختلفا ولذلك لا يجوز أن ندرس الناسخ والمنسوخ في أطر زمانيّة سابقة لنزول القرآن، وليس معنى هذا أنّ قراءة هذا النّص موقوفة على ظروف تنزيله فقط بل هو نصّ لغوي يمتلك دوال متعدّدة تمكّن القارئ من قراءته في إطار النظرة الشاملة (للعالم). ولكن ينبغي علينا قراءته في ضوء علاقة النّص بالمخاطبين (المكلّفين) وفقا لظروف السياقات المختلفة المحيطة بهذا النّص، لأنّه نصّ لغويّ (بلسان عربي مبين) نزل وفق سنن العربيّة، التي تقتضي هذا التناغم والانسجام بين النّص والمقام، إضافة لأنّ ذلك يحقّق (مصلحة العباد) التي أشار إليها (مكّي بن أبي طالب) وغيره من دارسي موضوع الناسخ والمنسوخ.
__________
(1) مكي بن أبي طالب، الإيضاح، ج 1/ 59.(1/99)
وفي شرط آخر من شروط النسخ يذكر مكّي بن أبي طالب من شروط الناسخ أن يكون منفصلا من المنسوخ، منقطعا عنه، فإن كان متّصلا به غير منقطع عنه لم يكن ناسخا لما قبله ممّا هو متّصل به = (1). وهاهنا تأكيدا آخر على اتّساق الخطاب وانسجامه، فوجود التناقض يفسد انسجام الخطاب ويفسد تناسقه، لتغاير الخطاب أو النصّ مع الحقيقة الواقعة خارجه من جهة، ولوجود تعارض بين بعض مكوّنات النص الدلالية، وهذا ممّا يفسد (النصيّة).
وقد ناقش د. نصر حامد أبو زيد مسألة النسخ في كتابه (مفهوم النصّ) وينطلق من معنى النسخ ويحدّده بأنّه إبدال نصّ بنص مع بقاء النصّين، وعلى ذلك يصعب تقبّل كثير من النصوص والأنواع التي يوردها العلماء داخل قضيّة الناسخ والمنسوخ، ثمّ بعد ذلك يعرّج على وظيفة النسخ وهي التدرّج في التشريع خطوة خطوة، فالقرآن وحي انطلق من حدود الواقع، ولا بدّ أن يراعي في نصوصه هذا الواقع، وقد قارب العلماء القدماء هذا الفهم وعبّروا عنه بلغة عصرهم. ويرى أنّه لا يجوز إغفال البعد الآخر للنّص وهو الواقع والمتلقّون، ذلك أنّ الأحكام الشرعيّة أحكام خاصّة بالبشر في حركتهم داخل المجتمع، ويرى أنّ كثيرا من علماء القرآن قد غالوا في النماذج التي عدّوها من الناسخ والمنسوخ، وخلطوا في ذلك بين أدوات التخصيص اللّغوي داخل الآية الواحدة، وبين تغيير الحكم لتغيّر الظروف والملابسات. ثمّ يتناول عددا من الأمثلة يعدّها بعض علماء القرآن من المنسوخ، ويوضح من خلال سياقها أنّها آيات محكمة، وأنّ المقصود بها خلاف ما فهمه أولئك.
ويعالج أبو زيد مسألة أنماط النسخ، ومنها نسخ نصوص من القرآن بنصوص من السنة، ويذكر خلاف العلماء حول هذه المسألة، ويرى أنّ موقف الشافعي (9) هو أقرب
__________
(1) مكي بن أبي طالب، الإيضاح، ج 1/ 59.
(9) يقول الشافعي: = حيث وقع نسخ القرآن بالسنّة فمعها قرآن عاضد لها، وحيث وقع نسخ السنّة بالقرآن فمعه سنّة عاضدة ليتبيّن توافق القرآن والسنّة =، الرسالة، الشافعي، ص 141.(1/100)
المواقف إلى سياق النّص من حيث إصراره على التماثل في مستوى النصوص فيما يتّصل بنسخ الأحكام، ويعدّ الناسخ والمنسوخ في رأيه من المفردات الهامّة التي تحدّد علاقة النصّ بسياق الواقع والثقافة (1).
وفي كتابه (ديناميّة النصّ) يفرد د. محمد مفتاح فصلا عنوانه (الانسجام في النصّ القرآني)، ويتناول فيه موضوع (ناسخ القرآن ومنسوخه) ويهدف من هذا التناول إلى محاولة تعميم نظريّة وضعها في دراسة دينامية النص وتفاعله وانسجامه، وأمّا المبادئ التي ينطلق منها فهي:
1 - اعتبار آراء السلف، وخصوصا من صاحب منهم الرسول، ومن قارب عهده.
2 - استثمار المناهج اللسانيّة والسيميائيّة ومنها:
أاعتبار النّص القرآني كلا لا يتجزأ لأنّه يهدف إلى غاية واحدة، وينطلق من فلسفة منسجمة، وإن تنوّعت مظاهر تعبيره، وتنوّعت قضاياه، لذلك يجب التسليم بأنّ الآيات التي تدور حول قضيّة واحدة وإن وجدت في مواطن متفرّقة من المصحف لها ثابت بنيوي تنطلق منه لتفصّله، أو تكمله، أو تبيّنه في الآيات المكيّة، أو لتخصّصه أو تقيّده في الآيات المكيّة، أو المدنية. ولكنّه مهما كان الحال فإنّها لا تناقضه أبدا. وكذلك الأمر في الآيات المدنيّة التي تتحدّث عن قضيّة واحدة (آيات الصيام مثلا) ويمكن أن تدعى هذه الوشائج بالعلائق الداخلية.
ب مراعاة مقتضى الأحوال التي نزل فيها القرآن، ومجاله التداولي، وزمانه، أي علاقات النصّ القرآني بالشرائع والعادات والأعراف السابقة والمعاصرة، ويطلق على هذه العلاقات اسم العلائق الخارجيّة (2).
__________
(1) نصر حامد أبو زيد، مفهوم النصّ / دراسة في علوم القرآن، ص (124122).
(2) د. محمّد مفتاح، ديناميّة النصّ، ص 202.(1/101)
وأمّا مفاهيم التحليل التي يستند إليها د. مفتاح فهي أوّلا المقصدية، وهي المعتقدات والمقاصد والأهداف التي تحكم فعل الكلام الصادر من متكلّم إلى مخاطب في مقتضيات أحوال خاصّة، وبهذا يدخل من خلال هذا المفهوم ثلاثة عناصر أساسيّة هي:
المخاطب، والمخاطب، وظروف التنزيل. أو ما عبّر عنه الشاطبي بالمقاصد ومقتضيات الأحوال. فالمخاطب هو الرسول الذي كان يخاطب الناس بلسان عربيّ مبين، وينبني على هذا الأصل نتائج منها تفضيل النصّ الذي لا يحتمل التأويل على غيره. وإذا كان ثمّة تأويل فهو مبنيّ على حقائق العربيّة وسننها في التعبير. فاللّغة وظيفتها الأساسيّة هي التواصل فيجب أن يكون التعبير اللّغوي واضحا دقيقا شفّافا. وأمّا عن المخاطب فقد تكيّف أسلوب القرآن بحسب نوعية مخاطبيه، وبحسب القضيّة المتحدّث عنها والسياق الذي دار فيه الخطاب، وأمّا ظروف التنزيل فهي الظروف التي جرت فيها عمليّة الخطاب ممّا يؤدّي إلى نجاحه أو فشله.
وأمّا المفهوم الثاني فهو المماثلة والمشابهة فإنّ أهمّ ما يضمن نجاح الرسالة هو مخاطبة الناس على قدر عقولهم وبما يفهمونه. ويترتّب عليه، أنّ المطابقة بين مجموعتين غير ممكنة في عمليّة الخطاب إذ لا يمكن أن تحصل هذه المطابقة إلّا إذا كان الموضوع والزمان والمكان هي نفسها من جميع الجهات، وهذا شيء لا يحصل البتّة. فإذا توفر عنصر وحدة الموضوع فإنّ الزمان والمكان يفتقدان. وإن ما أتى في الموضوع قد يأتي مخصّصا (أي حاذفا لبعض المقوّمات). وقد يكون بيانا وتفصيلا (يضيف بعض المعلومات) وباستخدام مبدأ المماثلة والمشابهة فليس هناك ناسخ ولا منسوخ. وأمّا المفهوم الثالث فهو نوع العلاقة ويقسّمها إلى قسمين:
* علاقة خارجيّة، وهي علاقة المماثلة والمشابهة بين الخطاب القرآني وغيره من الخطابات السابقة له أو المعاصرة، وهي نوعان علاقة تعضيد أو علاقة رفع، ومثال التعضيد: القاعدة الفقهيّة: = شرع من قبلنا شرع لنا =، ومثال الرفع القاعدة الفقهيّة: (ما خالف شرعنا). وللتعضيد درجات كما للرفع درجات بحسب توافر
عناصر المقصديّة والمماثلة. والمشابهة. فآيات القصاص مثلا تأخذ أقصى درجات التعضيد، باعتبار أنّ الإسلام حافظ عليها كما جاء قبله، وآيات الصيام مثلا تأخذ أوسط حالات التعضيد، فإنّها تناولت الموضوع نفسه الذي تناولته الديانات السابقة، بتعديلات اقتضتها الأحوال. وآيات المعتقدات المتعلّقة بالألوهيّة تأخذ أقصى درجات الرفع (تغيير جذري للمعتقدات المحرّفة)، وآيات المحرّمات في اللحوم مثلا عند اليهود تأخذ أوسط حالات الرفع، فقد أبيحت بعض أنواع اللحوم للمسلمين، وهناك ضرب مشترك يحتمل التعضيد في سياق ومساق، وتحتمل الإبطال والنقض في سياق ومساق، كما في بعض القصص القرآني.(1/102)
* علاقة خارجيّة، وهي علاقة المماثلة والمشابهة بين الخطاب القرآني وغيره من الخطابات السابقة له أو المعاصرة، وهي نوعان علاقة تعضيد أو علاقة رفع، ومثال التعضيد: القاعدة الفقهيّة: = شرع من قبلنا شرع لنا =، ومثال الرفع القاعدة الفقهيّة: (ما خالف شرعنا). وللتعضيد درجات كما للرفع درجات بحسب توافر
عناصر المقصديّة والمماثلة. والمشابهة. فآيات القصاص مثلا تأخذ أقصى درجات التعضيد، باعتبار أنّ الإسلام حافظ عليها كما جاء قبله، وآيات الصيام مثلا تأخذ أوسط حالات التعضيد، فإنّها تناولت الموضوع نفسه الذي تناولته الديانات السابقة، بتعديلات اقتضتها الأحوال. وآيات المعتقدات المتعلّقة بالألوهيّة تأخذ أقصى درجات الرفع (تغيير جذري للمعتقدات المحرّفة)، وآيات المحرّمات في اللحوم مثلا عند اليهود تأخذ أوسط حالات الرفع، فقد أبيحت بعض أنواع اللحوم للمسلمين، وهناك ضرب مشترك يحتمل التعضيد في سياق ومساق، وتحتمل الإبطال والنقض في سياق ومساق، كما في بعض القصص القرآني.
* علاقة داخليّة وهي إمّا:
أعلاقات مرفوضة أو مقبولة مثل علاقة التناقض ويعرّفها أبو بكر الصيرفي بقوله (وإنّما التناقض في اللّفظ ما ضادّه من كلّ جهة على حسب ما تقتضيه الأسماء، ولن يوجد في الكتاب والسّنة شيء من ذلك أبدا)، وبذا فإنّ هذه النقطة التي ترتكز عليها دعوى النسخ تكون قد تهاوت وهي (التناقض). ومن هذه العلاقات علاقة التضادّ وهو ذو طرفين لا يجتمعان، ويمكن أن يرتفعا معا كأن يقال الصلاة واجبة، الصلاة غير واجبة وهذا غير مقبول إذا توارد على شيء واحد في وقت واحد، ولكن يمكن أن يرتفعا معا وحينئذ يبقى التخيير.
ومنها علاقة الاقتضاء، وتحكمها المعادلة التي مثالها (ليست الصلاة غير واجبة يقتضي الصلاة واجبة) وعلاقة التناقض غير موجودة في القرآن أبدا، ولكنّ العلاقات الأخرى موجودة شرعا ومتصوّرة عقلا، ولهذا تعرّضت لها كتب الفقه.
ب العلاقات المهيمنة: ومن أبرزها بيان المجمل وتخصيص العموم، وتقييد المطلق، وتفصيل ما لم يفصّل، وتكميل ما لم يظهر تكميله. ويختزل د. مفتاح هذه العلاقات إلى مفهومين: الأوّل: التنمية، أي تنمية قضيّة كليّة أو فكرة ما
بتقليبها في صور مختلفة، إن على مستوى الخطاب القرآني جميعه أو على مستوى آيات متتابعة تحتلّ فضاء واحدا، وإنّ اختلاف هيئات المخاطبين والأوقات والأمكنة كانت سببا في هذا التنويع. والثاني: النقص (تخصيص العموم وتقييد المطلق) وفي هذه الحالة تأتي آية أو آيات مزيلة لبعض الأوصاف، وهذا النوع غالبا ما يصيب الآيات المدنية وحدها. وبهذه الأدوات جميعا نستبعد من الخطاب القرآني علاقة التناقض عبر الناسخ والمنسوخ (بمعنى الإزالة والإبطال) إذ هو مجرد دعوى قائمة على أوهام لغويّة وأيديولوجيّة أغرت كثيرا ممّن ألّف في الموضوع من القدماء والمعاصرين معتبرين فيه تدرّجا للتشريع ومراعاة للظروف الاجتماعية والاقتصادية، فالأسلم لهؤلاء أن يقولوا بالبيان والتفصيل والتكميل والتخصيص.(1/103)
ب العلاقات المهيمنة: ومن أبرزها بيان المجمل وتخصيص العموم، وتقييد المطلق، وتفصيل ما لم يفصّل، وتكميل ما لم يظهر تكميله. ويختزل د. مفتاح هذه العلاقات إلى مفهومين: الأوّل: التنمية، أي تنمية قضيّة كليّة أو فكرة ما
بتقليبها في صور مختلفة، إن على مستوى الخطاب القرآني جميعه أو على مستوى آيات متتابعة تحتلّ فضاء واحدا، وإنّ اختلاف هيئات المخاطبين والأوقات والأمكنة كانت سببا في هذا التنويع. والثاني: النقص (تخصيص العموم وتقييد المطلق) وفي هذه الحالة تأتي آية أو آيات مزيلة لبعض الأوصاف، وهذا النوع غالبا ما يصيب الآيات المدنية وحدها. وبهذه الأدوات جميعا نستبعد من الخطاب القرآني علاقة التناقض عبر الناسخ والمنسوخ (بمعنى الإزالة والإبطال) إذ هو مجرد دعوى قائمة على أوهام لغويّة وأيديولوجيّة أغرت كثيرا ممّن ألّف في الموضوع من القدماء والمعاصرين معتبرين فيه تدرّجا للتشريع ومراعاة للظروف الاجتماعية والاقتصادية، فالأسلم لهؤلاء أن يقولوا بالبيان والتفصيل والتكميل والتخصيص.
وإنّ النتائج النظريّة والمنهاجيّة والعمليّة التي نتوصّل إليها بهذا الموقف، تجعلنا نحصل على نظريّة منسجمة واحدة وشاملة لعموم أنواع الخطاب القرآني الهادفة جميعها إلى تبليغ الرسالة مع مراعاة أحوال المخاطبين الذين هم أنواع عديدة: منهم الخلّ الحميم للمبلّغ، ومنهم العارف المتنوّر، ومنهم الأعرابي والبادي، مع اعتبار مقتضيات الأحوال.
وهذا لا يناقض القول بالتدرّج مع اختلاف المنطلقات، وذلك على النحو التالي:
أإنّ المخاطبين بالقرآن لم يكونوا على مستوى واحد من الفهم والإدراك، ولم يكونوا على درجة واحدة. في اتّصالهم بصاحب الرسالة. وعلى هذا فلا يعقل أن يتساوى إدراك أقرب الصحابة إلى الرسول مع الأعراب الوافدين عليه من مناطق نائية فالمقرّبون يفهمون مضمون الرسالة ومغزاها بالإيحاء والتلميح دون ذكر التفاصيل وضرب الأمثلة إذ أطرهم المعرفيّة مشتركة، ومن ثمّ كانت تغني الإشارة عن العبارة. وأمّا من كانوا أبعد ثقافيّا وحضاريّا فإنّهم كانوا محتاجين إلى الإطناب.(1/104)
ب إنّ القرآن أخرج أوامره ونواهيه مخرج الاستفهام أو الإخبار أحيانا كثيرة تلطّفا وتأنيسا، وقد كان المقرّبون والمؤمنون يدركون التوضيحات والتلميحات والتلويحات فيطيعون ويستجيبون. وقد كان البعيد أو الذي في قلبه مرض يتجافى عقله عن الفهم فيستمرّ في سلوكه، أو يسأل فتأتي آيات أخرى فيها مزيد إيضاح حتى ترفع كل شبهة وتقطع كل ذريعة.
ج إنّ كثيرا من التعابير العربيّة، وتبعا لذلك الآيات القرآنية، يحكمها مبدأ الترابط، ومعناه أنّ بعض الكلمات ترتبط بأخرى أو تدعوها، وهكذا فإنّه غالبا ما تأتي الصلاة مقرونة بالزكاة، والفحشاء بالمنكر ولكن أن تذكر الصلاة إلى جانب الخمر فشيء لا يقبله العرف اللغوي، فالصلاة يدعو حقلها الدلالي مجموعة من الألفاظ ويرفض أخرى، ومن ثمّ فإنّ ممارستها أثناء السكر تعني عملا غير مقبول أي محرّما.
وأما الآيات التي تتخذ كلية ليجعل ما جاء بعدها بيانا أو تكميلا أو تفصيلا أو تخصيصا أو تقييدا فإنّها الآيات التي تواترت الأخبار في سبق نزولها، فإنّها تتّخذ أصلا، وما عضّده المساق الوارد فيه أي ينظر إلى علاقته بما قبله وما بعده من آيات إذ إنّه إذا بتر من سياقه يفقد خصوصيّته، ويصبح قابلا لأن يمنح أيّة دلالة، وإذا وردت أخبار في سبب النزول، ولكنّها ليست متواترة، أو لم تتوافر فيها شروط الحديث الصحيح، فإنّه يجب تحليل الآية، أو الآيات في ضوء مساقها تحليلا دقيقا كل على حدة، ثمّ تجميعها حتى تصير مكوّنة لموضوع قائم الذات، ثمّ يقارن بين دلالة كل منها حتى يتبيّن كليّها من جزئيّها مع الاسترشاد ببعض القواعد الأصوليّة، من مثل: حمل المطلق على المقيّد، والعامّ على الخاص. وأمّا عن إشكال مبدأ تأخير البيان عن وقت الحاجة فيرى أنّه لا يجوز، وأمّا تأخيره إلى وقت الحاجة فجائز عند أهل الأصول (1). وهذا الرأي منطلقه أن نأخذ بعين الاعتبار
__________
(1) انظر: الغزالي، المستصفى، ص 388.(1/105)
المخاطب والمخاطبين الذين وجّهت إليهم الدعوة ومساق الخطاب وسياقه، فعمليّة الخطاب تتحكّم فيها ثلاثة أركان أساسيّة هي المخاطب والمخاطب والسياق. (1)
ب الاتّساق الداخلي في النّص القرآني في كتب علوم القرآن:
بحث علماء القرآن في الاتساق الداخلي للنّص القرآني من خلال بحوثهم في موضوع = المناسبة = (9) أو التناسب، ويقصدون به = وجه الارتباط بين الجملة والجملة في الآية الواحدة، أو بين الآية والآية في الآيات المتعددّة، أو بين السورة والسورة = (2). ويعرّفه الإمام ابن قيّم الجوزيّة بأنّه = ترتيب المعاني المتآخية التي تتلاءم ولا تتنافز، وأن تكون المعاني مناسبة لألفاظها = (3). وفي البرهان للزركشي مقتطفات تدلّ على قدم الاهتمام بهذا العلم، وأقدم إشارة مروية عن أبي الحسن الشهراباني وهي: قوله = أوّل من أظهر ببغداد علم المناسبة ولم نكن سمعناه من غيره هو الشيخ الإمام النيسابوري (8)، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب، وكان يقول إذا قرئ عليه الآية: لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟
وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟ =. وكان يزري بعلماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة = (4). ثمّ توالت بعد ذلك التنبيهات إلى أهميّة هذا العلم وضرورة الاهتمام به.
__________
(1) محمّد مفتاح، دينامية النصّ، ص (207203).
(9) أفرد هذا العلم بالتأليف العلّامة أبو جعفر بن الزبير شيخ أبي حيّان في كتاب سماه = البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن = والشيخ برهان الدين البقاعي في كتابه = نظم الدرر في تناسب الآي والسور = والسيوطي في كتاب سماه = تناسق الدرر في تناسب السور =.
(2) منّاع القطان، مباحث في علوم القرآن، ص 97.
(3) ابن قيّم الجوزية، الفوائد المشوّقة إلى علوم القرآن، ص 13.
(8) هو الإمام أبو عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري الشافعي المتوفّى سنة أربع وعشر وثلاثمائة (324هـ).
(4) الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1/ 36.(1/106)
وقد جعل ابن القيّم المناسبة في قسمين: معنويّة ولفظيّة، فالمعنويّة أن يبتدئ المتكلّم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه في المعنى دون اللفظ، ومنه قوله تعالى: {= وَرَدَّ اللََّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنََالُوا خَيْراً وَكَفَى اللََّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتََالَ وَكََانَ اللََّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً =} (1)، أخبر سبحانه في فاصلة الآية بأنّه قويّ عزيز ليدلّ على أنّ تلك الريح التي أصابت المشركين ليست اتّفاقا، وليست من أنواع السحر، بل هي من إرساله على أعدائه، كعادته وسنّته في أمثاله من نصره لعباده المؤمنين مرّة بالقتال كيوم بدر، ومرّة بالريح كيوم الأحزاب (2)، وأمّا المناسبة اللفظيّة فتتعلّق بالتقفية من مثل: {= ن وَالْقَلَمِ وَمََا يَسْطُرُونَ =} (3).
وقد أشار الرازي إلى هذه (المناسبة) في تفسيره في قوله: = أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط =. وقال ابن العربيّ في سراج المريدين: = ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى يكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني، علم عظيم = (4).
وقد درس العلماء أنواعا عديدة من المناسبات منها: المناسبة بين الآيات، وأمّا الآليات والأدوات التي تتعلّق بها الآيات بعضها ببعض، فإنّ السيوطي يفرق هنا بين نوعين من الآيات:
1 - ما كان فيه ذكر الآية بعد الأخرى ظاهر الارتباط لتعلّق الكلم بعضه ببعض، وعدم تمامه بالأولى، وكذلك إذا كانت الثانية للأولى على وجه التأكيد، أو التفسير، أو الاعتراض، وهذا النوع لا يفصّل فيه.
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية (25).
(2) ابن قيّم الجوزية، الفوائد المشوّقة، ص 24.
(3) سورة القلم، الآيات (21).
(4) السيوطي، الإتقان، 2/ 234.(1/107)
2 - ما كانت فيه الآيات غير ظاهرة الارتباط، بل يظهر أنّ كل جملة مستقلّة عن الأخرى، وأنّها خلاف النوع المبدوء به، وهنا يبدأ بتفصيل الروابط المحتملة من هذا النوع من الآيات (1). ومعنى ذلك أنّ العلاقات و (المناسبات) احتمالات ممكنة على المفسّر محاولة اكتشافها. ومعناه تأسيس علاقة بين عقل المفسّر أو القارئ وبين النصّ، إنّ للّغة آلياتها الخاصة التي بها تمثّل الواقع، فهي كما ذكرنا لا تمثل الوقائع تمثيلا حرفيّا بل تصوغها صياغة رمزيّة وفق قوانين خاصّة، ومن هنا قد تكون العلاقات بين (الوقائع) الخارجيّة مفتقدة، ولكنّ اللّغة تصوغ هذه الوقائع في علاقات لغويّة.
إنّ وحدة النصّ القرآني بوصفه بناء مترابط الأجزاء كما وصفه السيوطي هي الغاية التي يبحث عنها علم المناسبة، فإذا كانت الجملة في النوع الثاني من الآيات معطوفة على الأولى بحرف من حروف العطف المشركة في الحكم أوّلا، فإن كانت معطوفة فلا بدّ أن يكون بينهما جهة جامعة كقوله تعالى: {= يَعْلَمُ مََا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمََا يَخْرُجُ مِنْهََا وَمََا يَنْزِلُ مِنَ السَّمََاءِ وَمََا يَعْرُجُ فِيهََا =} (2). وممّا الكلام فيه كذلك: التضادّ وذكر الرحمة بعد ذكر العذاب، والرغبة بعد الرهبة، وقد جرت عادة القرآن إذا ذكر أحكاما ذكر بعدها وعدا ووعيدا ليكون باعثا على العمل بما سبق، ثمّ يذكر آيات توحيد وتنزيه ليعلم عظم الآمر والناهي، وتأمّل سورة البقرة والنساء والمائدة تجده كذلك (3). وإن لم تكن معطوفة فلا بدّ من دعامة تؤذن باتّصال الكلام. وهي قرائن معنويّة تؤذن بالربط وله أسباب، أحدها التنظير فإنّ إلحاق النظير بالنظير من شأن العقلاء كقوله تعالى = كما أخرجك ربك من بيتك بالحق = عقب قوله = أولئك هم المؤمنون حقا =. ومنه الاستطراد كقوله تعالى:
__________
(1) السيوطي، الإتقان، 1/ 235.
(2) سورة سبأ، الآية (2).
(3) الزركشي، البرهان، 2/ 31.(1/108)
{= يََا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنََا عَلَيْكُمْ لِبََاساً يُوََارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبََاسُ التَّقْوى ََ ذََلِكَ خَيْرٌ =} (1). وقال الزمخشري: = هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدوّ السوآت، وخصف الورق عليهما إظهارا للمنّة فيما خلق من اللباس، ولما في العرّي وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعارا بأن الستر باب عظيم من أبواب التقوى = (2). وكذلك المناسبة بين خاتمة السورة وفاتحتها وهو مبحث تنبّه له أصحاب علوم القرآن ولكنهم لم يستوفوا الحديث فيه في القرآن كلّه =. ومن أمثلته أنّ سورة القصص بدأت بقصّة موسى ونصرته وقوله = فلن أكون ظهيرا للمجرمين = وخروجه من وطنه، وإسعافه بالمكالمة وختمها بأمر الله للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بألّا يكون ظهيرا للكافرين، وتسليته بخروجه من مكّة، والوعد بعودته إليها (3). {= إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرََادُّكَ إِلى ََ مَعََادٍ =} (4). ومن أمثلته كذلك، فاتحة سورة المؤمنون {= قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ =} وأورد في خاتمتها {= إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الْكََافِرُونَ =}. وطبيعة العلاقة بين الفاتحة والخاتمة هنا هي التضادّ (5)، وهي نوع من ردّ العجز على الصدر إن جاز التعبير.
ومن أنواع المناسبات كذلك مناسبة فاتحة السورة لخاتمة التي قبلها، مثل افتتاح سورة الأنعام بالحمد، واختتام سورة المائدة بفصل الخطاب، وافتتاح سورة الحديد بالتسبيح واختتام سورة الواقعة بالأمر به (6). ومنها مناسبة السورة للحرف الذي بنيت عليه، والمقصود به أن كثيرا من السور مسمّاة أو مفتتحة بحرف من حروف اللّغة، وإنّ معظم الكلمات التي تتألّف منها السورة يتراكم فيها هذا الحرف ويتكرّر، وربّما كانت دلالة الكلمات معضّدة للسّمات
__________
(1) سورة الأعراف، الآية (26).
(2) الزركشي، البرهان، 1/ 237.
(3) الإتقان، 1/ 46.
(4) سورة القصص، الآية (85).
(5) الزركشي، البرهان، 1/ 36.
(6) نفسه، 1/ 38.(1/109)
الصوتيّة لهذا الحرف، قال الزركشي: = وتأمّل السورة التي اجتمعت على الحروف المفردة كيف تجد السورة مبنيّة على كلمة ذلك الحرف، فمن ذلك (ق والقرآن المجيد) فإنّ السورة مبنيّة على الكلمات القافيّة من ذكر القرآن، وذكر الخلق، وتكرار القول، ومراجعته مرارا، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين، وذكر المتّقين، وقول العتيد، وذكر الرقيب، وذكر السابق، والقرين، والإلقاء في جهنّم والتقدّم بالوعد وذكر المتقين، وذكر القلب والقرن والتنقيب في البلاد، وذكر القتل مرتين، وتشقّق الأرض، وإلقاء الرواسي فيها وسرّ آخر وهو أن كلّ معاني السورة مناسبة لما في حرف القاف من الشدّة والجهر والقلقلة والانفتاح = (1). والشيء نفسه يقال عن سورة (ص) التي حوت خصومات متعدّدة، خصومة الكفّار مع النبيّ، ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم، ثم تخاصم إبليس واعتراضه على ربّه وأمره بالسجود (2).
ومن المناسبات كذلك المناسبة بين السورة واسمها، ثمّ المناسبة بين السور وفي هذا ألف السيوطي كتابا = سمّاه تناسق الدرر في تناسب السور = وفي هذا الكتاب يقسّم السيوطي موقف العلماء من ترتيب السور في المصحف إلى موقفين:
الموقف الأول: ويذهب إلى أنّ ترتيب السور تمّ باجتهاد من الصحابة، ويذكر من معتنقي هذا الرأي مالكا والقاضي أبا بكر، وابن فارس.
الموقف الثاني: يرى أصحابه أنّ الترتيب تمّ بتوقيف من الرسول صلّى الله عليه وسلم ويمثل هذا الرأي علماء مثل الكرماني، وأبو بكر الأنباري، ويقف السيوطي مع الرأي الثاني، ويرى أنّ ترتيب سور القرآن فيه تناسب تحكمه العلاقات التالية:
1 - الإجمال والتفصيل = فكلّ سورة تفصيل لإجمال ما قبلها وشرح له وإطناب لإيجازه، وقد استقرّ ذلك في غالب سور القرآن طويلها وقصيرها = (3). وقد عبّر الإمام
__________
(1) الزركشي، 1/ 169.
(2) نفسه، 1/ 272.
(3) السيوطي، تناسق الدرر، ص 65.(1/110)
الشاطبي عن هذه الحقيقة بقوله: = المدنيّ من السور ينبغي أن يكون منزّلا في الفهم على المكّي، وكذلك المكّي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض، على حسب ترتيبه مع التنزيل، وإلّا لم يصحّ، والدليل على ذلك أنّ معنى الخطاب المدني في الغالب مبنيّ على المكي، كما أنّ المتأخر من كلّ منهما مبنىّ على ما تقدّمه، دلّ على ذلك الاستقراء وذلك إنّما يكون ببيان مجمل، أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق، أو تفصيل ما لم يفصّل، أو تكميل ما لم يظهر تكميله = (1).
2 - الاتحاد والتلازم في تناسب السور: ويقصد السيوطي بالاتحاد والتلازم ذلك التناسب الذي يقوم بين سورتين وتتجلّى في: مناسبة خاتمة السورة الثانية لفاتحة السورة الأولى وتلازم لفظين = كالجنّة والنار =، والاتحاد المعنوي، كأن يذكر الأصل في سورة سابقة ثم يذكر الفرع في السورة اللاحقة مثل ذكر خلق آدم في سورة البقرة وذكر مبدأ خلق أولاده في آل عمران (2).
3 - قاعدة ردّ العجز على الصدر: ويعتبر السيوطي أنّ تعالق سورة الواقعة بسورة الرحمن أشبه بردّ العجز على الصدر قال: وانظر إلى اتصال قوله هنا (الواقعة) = إذا وقعت الواقعة = بقوله هناك في (الرحمن) = فإذا انشقت السماء = ولهذا اقتصر في الرحمن على ذكر انشقاق السماء، وفي الواقعة على ذكر رجّ الأرض فكأنّ السورتين لتلازمهما واتحادهما سورة واحدة = (3). ويرى السيوطي أنّ للاتحاد والتلازم الذي بين السورتين أثرا في ترتيبهما فقد وردت في الرحمن العناصر التالية: [ذكر القرآن، وذكر الشمس والقمر، وذكر النبات، وذكر خلق السماء، وخلق الجان، وصفة القيامة، وصفة الجنّة، وصفة النار]. وفي الواقعة ترتّبت العناصر كالتالي:
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، مجلد 2، ج 3، ص 244.
(2) السيوطي، تناسق الدرر، ص 121.
(3) نفسه.(1/111)
[ذكر القيامة، وصفة الجنّة، وصفة النار، وخلق الإنسان، والنبات، والماء، والنار، والنجوم، والقرآن]. وهذا الترتيب هو الذي سمّاه السيوطي بردّ العجز على الصدر بحيث ختمت (الواقعة) بما افتتحت به (الرحمن) (1).
ومن العلاقات الأخرى التي يمكن أن تلحظ بين السور، وتفطّن لها دارسون آخرون، علاقة الترابط اللّغوي كما في الكهف والإسراء مثلا، وعلاقة التقابل كما في الماعون والكوثر، والضحى والشرح، وعلاقة التكرار اللغوي بين لفظ في آخر السورة ولفظ في أول السورة التي تليها، وعلاقة الاتصال الإيقاعي ويعتمد على تناغم الفاصلة الأخيرة في سورة والفاصلة الأولى في السورة التي تليها كما في سورة المسد والإخلاص (2).
وقد أثار علماء القرآن مجموعة من القضايا والتنبيهات التي تضيء مفهوم الاتّساق في النّص القرآني ومن هذه القضايا: معرفة الوقف والابتداء، والموصول والمفصول، ومعرفة معاني الأدوات، والمحكم والمتشابه، وفي مقدّم القرآن ومؤخّره، وعامّه وخاصه، ومجمله ومبيّنه، ومشكله وموهم الاختلاف والتناقض فيه، ومطلقه ومقيّده، ومنطوقه ومفهومه، ومخاطباته، وحقيقته ومجازه، والحصر والاختصاص فيه، والإيجاز والإطناب، والخبر والإنشاء، وفواصل الآي، وفواتح السور وخواتمها، ومسائل في غريب التفسير. ونتخيّر مثالا واحدا من موضوع = معاني الأدوات التي يحتاج إليها المفسّر =، لصعوبة التمثيل على هذه الأبواب كلّها وعلاقتها بموضوعنا، يقول السيوطي عن أهميّة معرفة الأدوات والحروف، وما شاكلها من الأسماء والأفعال والظروف: = اعلم أنّ معرفة ذلك من المهمّات المطلوبة لاختلاف مواقعها، ولهذا يختلف الكلام والاستنباط بحسبها كما في قوله تعالى: {= وَإِنََّا أَوْ إِيََّاكُمْ لَعَلى ََ هُدىً أَوْ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ =} (3).
فاستعملت (على) في جانب الحق، و (في) جانب الضلال لأنّ صاحب الحقّ مستعمل
__________
(1) السيوطي، تناسق الدرر، ص 123.
(2) السيوطي، الإتقان، 1/ 309.
(3) سورة سبأ، الآية (24).(1/112)
يصرف نظره كيف شاء، وصاحب الباطل كأنّه منغمس في ظلام منخفض لا يدري أين يتوجّه = (1).
ونلاحظ أنّه في كل مسألة يربط ذلك بالمناسبة والسياق فمثلا في موضوع التقديم والتأخير يقول: = قد يقدّم لفظ في موضع، ويؤخّر في آخر، ونكتة ذلك إمّا لكون السياق في كلّ موضع يقتضي ما وقع فيه، كما تقدّمت الإشارة إليه، وإمّا للاعتناء بشأنه = (2).
وفي موضوع مخاطبات القرآن، يقسّم السيوطي الخطاب بحسب الموضوع ويذكر أقساما عديدة للخطاب ويذكر أنّ هناك من الخطابات ما لا يصلح إلّا للنّبي، وقسم لا يصلح إلّا لغيره وقسم لهما (3). وهذا من صلب علاقة النّص بالسياق. ويتحدّث السيوطي عن القرآن فيقول: = فنظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ، وبديع النظم، وحسن السياق، والمبادي والمقاطع، والمخالص والتكوين في الخطاب = (4). وينتقد بعض المفسّرين الذين اعتقدوا معاني ثمّ أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، وهؤلاء = راعوا المعنى الذي رأوه من غير النظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان، والآخرون راعوا مجرّد اللفظ وما يجوز أن يراد به اللفظ العربي، من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلّم وسياق الكلام = (5).
(23) الخطاب القرآني في ضوء نظرية النصّ والسياق في ميدان أصول الفقه
اهتمّ علماء الأصول بالخطاب، والخطاب الشرعي عندهم إمّا خطاب الله، وإما خطاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإمّا خطاب الأمّة (الإجماع). واهتمّوا بمقاصد الشريعة (أهدافها) وهي مقاصد الخطاب، وربطوا الأحكام بمقاصدها.
__________
(1) السيوطي، الإتقان، 2/ 31.
(2) نفسه، 2/ 71.
(3) نفسه، 2/ 274.
(4) نفسه، 2/ 391.
(5) نفسه.(1/113)
وأمّا الحكم الشرعي فيعرّفونه بأنّه = خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا = (1). فالمكلّفون (المخاطبون) ركن أساس في هذا التعريف، ودرس الفقهاء أحوال الحكم الشرعي بحسب اختلاف المخاطبين. وقسّم علماء الأصول مقاصد الخطاب إلى نوعين: مقاصد كليّة وهي مطلقة عامة تختصّ بالخطاب الشرعي جملة، وهو مطّرد في كل أبوابه، ومقاصد جزئيّة تهيمن على النصّ الخاصّ، تحدّد مضمونه، وترسم مجال تطبيقه (2). والعلاقة بين المقاصد والخطاب واضحة فالأحكام مرتبطة بالغايات، وهذا يذكّرنا بعنصر الهدف وأثره على بنية النصّ.
ولمّا كان الحكم الشرعي يستنبط من النصوص، فقد انكبّ الأصوليّون على هذه النصوص ودرسوا ما فيها من عامّ، وخاصّ، ومشترك، وحقيقة، ومجاز، ونصّ، وظاهر. وقد راعى الأصوليّون الأحناف في تقسيم الخطاب إلى هذه العناصر وغيرها اعتبارين:
1 - دراسة المفرد والمركّب من الخطاب، ويقصدون بالمفرد ما تدلّ عليه مفردات الألفاظ في حالة التركيب، وبالمركّب ما تدلّ عليه العبارة ككلّ من خلال علاقات الألفاظ ببعضها، لأنّ الألفاظ بمعزل عن التركيب لا يتحدّث عنها.
2 - الإحاطة بالاعتبارات جميعا من أوّل وضع الواضع إلى آخر فهم السامع. (3) وهذا يعني أنّهم راعوا كلّ الأحوال التي يستند عليها أداء المعنى باللّفظ الجاري على قانون الوضع، وهي وضع الواضع اللّفظ لمعنى معيّن، ثمّ استعمال المتكلّم اللّفظ في معناه الذي وضع له، أو في غير معناه، ثمّ حمل السامع اللّفظ على المعنى الذي تبيّنه من خلال السياق والقرائن المحيطة بالخطاب. وقد بحث الأصوليّون في ألفاظ الخطاب من زاوية الوضع وقسّموها إلى عامّ وخاصّ ومشترك و، وبحثوا في العامّ
__________
(1) مباحث الحكم عند الأصوليّين، ص: 55.
(2) د. فتحي الدريني، خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم، ص 12.
(3) درّ. سعادات، مرآة الأصول، ص: 34.(1/114)
والخاصّ، والصيغ الدالّة عليهما، وكيف يكون عموما يراد به الخصوص، أو خصوصا يراد به العموم، ونظروا للسياق في تحديد هذا كلّه، فقالوا مثلا: النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط دالّة على العموم (1) مثل قوله تعالى: {= لََا ظُلْمَ الْيَوْمَ =} (2). وإنّ النكرة في سياق الإثبات إذا وصفت بوصف عام تعمّ أيضا مثل قوله تعالى: {= وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ =} (3).
واهتمّ الأصوليّون بالسامع أو القارئ في عمليّة دراسة الخطاب الشرعي، وشرحوا عمليّة استنباط الحكم بالنسبة له، = والقارئ أو المستمع وهو يتابع القراءة يشغله ما يريد المتكلّم أن يقول، وذهن القارئ لا يركّز على كلمات الخطاب فقط، بل على الخطاب جملة () فإذا توالت الألفاظ والمفردات بحركاتها المخصوصة على السمع، ارتسمت المعاني المفردة مع نسبة بعضها إلى بعض في الذهن، ومتى حصلت المفردات مع نسبها المخصوصة في الذهن حصل العلم بالمعاني المركّبة لا محالة = (4). وبذلك يقسّمون الخطاب باعتبار السامع إلى قسم واضح في معناه، وقسم غامض أو خفيّ، ومن حيث الوضوح يقسّم الخطاب إلى (نصّ) و (ظاهر).
ولا يكتفي الأصوليّون بالوقوف على مفهوم الخطاب الشرعي من حيث:
حقيقته، وأقسامه ومضمونه، وموضوعه، وتحليله إلى عناصره اللّغويّة المكوّنة له من مختلف المستويات، إن على مستوى الواضع للكلمات أو على مستوى المتكلّم بها، أو على مستوى السامع لها، بل إنّهم يدرسون العناصر السياقيّة والمقاميّة في الخطاب لأنّ الألفاظ لا تثبت على معانيها التي وضعت لها إذ للمتكلّم الحقّ في أن يستعمل هذه
__________
(1) السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، 1/ 19.
(2) سورة غافر، آية (17).
(3) سورة البقرة، آية (221).
(4) المحصول، 1/ 67.(1/115)
الألفاظ فيما وضعت له، وأن يستعملها وفق أساليب اللغة وقوانينها المعروفة للسامع والمتكلّم، إذ في ظلّها يتمّ التواصل وهنا يكون للعناصر السياقيّة والمقاميّة دورها الواضح.
ويقول الشافعي في إشارة واضحة إلى تآلف السياق اللّغوي في صنع الدلالة:
= إنّ بعض الكلام يبين أوّل ألفاظه عن آخره، وقد يبتدئ، ويكون آخر ألفاظه مبينا عن أوّله =. (1) ويؤكّد ابن حزم أهميّة السياق في الاستدلال بالنصّ يقول: = والحديث والقرآن كله كلفظة واحدة فلا يحكم بآية دون أخرى، ولا بحديث دون آخر، بل يضمّ كلّ ذلك بعضه إلى بعض إذ ليس بعض ذلك أولى بالاتّباع من بعض، ومن فعل غير هذا فقد تحكّم بلا دليل = (2). وهاتان الإشارتان واضحتان في أهميّة تآلف الخطاب جملة في صياغة الأحكام واستنباطها، وهو تآلف السياق اللّغوي للخطاب.
وأما السياق المقامي أو القرائن بأنواعها فقد ذكرها الأصوليّون بوضوح، وأشاروا إلى أهميّتها وطرق الاستدلال عن طريقها، ولعلّ أبرز الأصوليّين تنبّها لهذه القضيّة وتوضيحا لها (الغزالي)، فهو يشرح خطوات استخراج الدلالة من النصّ بأنّها معرفة اللّغة في أصل وضعها إن كان الكلام (نصّا) لا يحتمل التأويل، وإن تطرّق إليه الاحتمال فلا يعرف المراد منه حقيقة إلّا بانضمام قرينة إلى اللفظ وجب التعرّف إلى تلك القرينة. والقرينة عنده إمّا لفظ مكشوف أو إحالة على دليل العقل، وإمّا علامات هادية من خلال سياق الحال. ويضرب مثلا على السياق اللّفظي قوله تعالى: {(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصََادِهِ)} (3)، والحقّ (العشر). وأمّا الإحالة إلى دليل العقل فمثالها {(وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ)} (4)، وقوله عليه السلام: (قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع
__________
(1) الشافعي، الرسالة، ص 58.
(2) ابن حزم، الأحكام، ص: 167.
(3) سورة الأنعام، آية (141).
(4) سورة الزمر، آية (67).(1/116)
الرحمن) (1). وأمّا قرائن الأحوال (السياق الحالي) فهذه عند الغزالي كثيرة فمنها الإشارات، والرموز، والحركات، والسوابق، واللواحق، وهي = لا تدخل تحت الحصر والتخمين، يختصّ بدركها المشاهد لها، فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى التابعين بألفاظ صريحة، أو مع قرائن من ذلك الجنس، أو من جنس آخر حتى توجب علما ضروريّا لفهم المراد أو توجب ظنا، وكل ما ليس له عبارة موصوفة في اللّغة فتتعيّن فيه القرائن = (2).
(فالخمسة) مثلا نصّ في معناه (بمصطلح الأصوليّين) لا يحتمل الستّة ولا الأربعة، أمّا غير النصّ، فالقرائن فيه لها الدور الأساس، ويتجاوز معناه دلالة الألفاظ المعجميّة، فما دام المتكلّم يملك من الحريّة ما يكفل له الانتقال باللفظ الخاصّ من الخصوص إلى العموم، وباللّفظ العامّ من العموم إلى الخصوص، وما دامت دلالة الألفاظ ليست كلّها قطعيّة، فإنّ الدلالة المعجميّة للألفاظ تبقى قاصرة عن تحديد المعنى المراد.
ويمثّل الغزالي عمليّا كيفية الاستفادة من السياق بنوعيه: اللّغوي والمقامي، في تحديد المعنى المراد من خلال الآية (9) من سورة الجمعة {(يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا نُودِيَ لِلصَّلََاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ََ ذِكْرِ اللََّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)} يقول: = إنّما نزلت وسيقت لمقصد وهو بيان الجمعة، وما نزلت الآية لبيان أحكام البياعات، ما يحلّ منها وما يحرم، فالتعرّض للبيع لأمر يرجع إلى البيع في سياق هذا الكلام يخبط الكلام ويخرجه عن مقصوده، ويصرفه إلى ما ليس مقصودا به، وإنّما يحسن التعرّض للبيع إذا كان متعلّقا بالمقصود، وليس يتعلّق به الأمر إلّا من حيث كونه مانعا للسعي الواجب، وغالب الأمر في العادات جريان التكاسل والتساهل في السعي بسبب البيع، فإنّ وقت الجمعة يوافي الخلق، وهم منغمسون في المعاملات فكان ذلك أمرا مقطوعا به لا يتمارى فيه، فعقل أنّ النهي عنه لكونه مانعا من السعي الواجب فلم يقتض ذلك فسادا، ويتعدّى التحريم إلى
__________
(1) صحيح مسلم، (باب القدر)، رقم الحديث (356).
(2) المستصفى، 1/ 149.(1/117)
ما عدا البيع من الأعمال والأقوال، وكلّ شاغل عن السعي لفهم العلّة) (1). فانظر كيف خرج الغزالي من السّياق اللّغوي إلى السّياق المقامي ليستطيع استخراج دلالة النص فقرأ عادات الناس يوم الجمعة، وهو من صلب اللّسانيّات الاجتماعيّة في العصر الحديث، ليستطيع تفسير مجيء البيع داخل آيات الصلاة، ثمّ كيف يمكن أن يخرج من هذا التخصيص إلى عموم الدلالة (أي كلّ أمر يعوق عن العبادة مثل البيع) وما كان يمكن التعميم من غير قراءة السياق الخارجي أبدا.
وفي موضع آخر يؤكّد الغزالي دور القرائن الحاليّة في تحقيق التواصل الذي عبّر عنه بالإفادة حينا، وبالبيان حينا آخر يقول: = اعلم أنّ كلّ مفيد من كلام الشارع، وفعله وسكوته، واستبشاره، حيث يكون دليلا، وتنبيها بفحوى الكلام على علّة الحكم، كلّ ذلك بيان، وهو من حيث إنّه يفيد العلم بوجوب العمل دليل قطعا وبيان وهو كالنصّ = (2).
ولا يسوّغ لدى الغزالي تأويل نصّ الخطاب دون الاتّكاء على مثل هاتيك القرائن، وكلّ تأويل مفتقر إليها يجب ردّه وإن كان محتملا، لأنّ القرائن الأخرى قد تدلّ على فساد ذلك التأويل ودفعه، ونصّ الغزالي سابق جدّا في أهميّة ما يسمّيه علماء الدلالة اليوم بالقوّة اللاكلاميّة، وتشمل الإشارات، وقسمات الوجه، وحركات اليدين وغيرها، وهي ركن أساس في الحدث الكلامي كما يذهب جون لاينز (3). ولا يقال إنّ هذه القرائن تابعة للفظ، لأنّه لا أحد يسلّم أنّ حركة المتكلّم وأخلاقه وعاداته وأفعاله، وتغيّر لونه، وتقطيب وجهه وجبينه، وحركة رأسه، وتقليب عينيه تابع للفظه، بل هذه أدلّة مستقلّة يفيد اقتران جملة منها علوما ضرورية = مثل فعل المتكلّم فإنّه إذا قال عن المائدة: هات الماء، فهم أنّه يريد الماء العذب البارد دون الحارّ المالح = (4).
__________
(1) شفاء الغليل، ص: 51.
(2) المستصفى، الغزالي، ص: 60.
(3) جون لاينز، اللغة والمعنى والسياق، ص: 271.
(4) المستصفى، 2/ 15.(1/118)
ومثل قصد الاستغراق من اللّفظ العام فإنّه يعلم بعلم ضروري يحصل عن قرائن أحوال ورموز وإشارات وحركات من المتكلّم وتغيّرات في وجهه وأمور معلومة من عادته ومقاصده، وقرائن مختلفة لا يمكن حصرها في جنس، ولا ضبطها بوصف بل = هي كالقرائن التي يعلم بها خجل الخجل، ووجل الوجل، وجبن الجبان، وكما يعلم قصد المتكلّم إذا قال: (السلام عليكم) أنّه يريد التحية، أو الاستهزاء، أو اللهو = (1). وقالت المعتزلة: = إنّ الأمر لا يكون أمرا إلّا بثلاث: إرادة المأمور به، وإرادة إحداث الصيغة، وإرادة الدلالة بالصيغة على الأمر، = وإذا أردنا تفسير رأي المعتزلة وإيضاحه بكلمات ثانية، وجب أن نأخذ بمفهوم العلامات أو العوامل السياقيّة لدى جاكبسون وفيرث، وهي الغرض والهدف، والرسالة، ونوايا المتكلّم الذي صدرت عنه الكلمات = (2) فالأمر مثلا يرد لغايات متنوّعة بتنوّع السياق، فقد يأتي للوجوب، أو النصح، أو الإباحة، أو التخيير، أو التحقير، أو الإهانة، أو التسوية. وكلّها معان يستدلّ عليها من خلال القرائن.
وهكذا تظهر لنا القرائن اللغويّة التي تستعمل في سياق النصّ من طرف المتكلّم كعلامات هادية إلى المعنى المراد، لكنّ هذه القرائن إن لم تصحبها معرفة بالمتكلّم المنتج للخطاب وبالمستمع الموجه إليه الخطاب، وبالظروف الاجتماعيّة التي تحيط بالخطاب، وبيئة الخطاب، يظلّ فهم المستمع قاصرا عن تحديد المعنى المراد من الخطاب، لأنّ المعنى كلّ مركّب من مجموعة الوظائف اللّغويّة إضافة إلى سياق الحال غير اللّغوي، ويشمل سياق الحال هذا عناصر كثيرة تتّصل بالمتكلّم والمخاطب، أو الظروف الملابسة والبيئة. ويبيّن الإمام الشاطبي هذه الأركان وما تؤدّيه من دور في تحديد المعنى المراد بقوله: = إنّ علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم الكلام فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنّما مداره على مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة الخطاب نفسه، أو المخاطب، أو المخاطب، أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه، بحسب حاله، وبحسب
__________
(1) المستصفى، 2/ 15.
(2) إبراهيم خليل، السياق ص: 61.(1/119)
المخاطبين، وبحسب غير ذلك = (1). ويمثّل لهذا الاختلاف في التأويل ب (الأمر والنهي) فإنّها من جهة اللّفظ على تساو في دلالة الاقتضاء، والتفرقة بين ما هو منها أمر وجوب، أو ندب، وما هو نهي تحريم، أو كراهة، فهذه كلّها = لا تعلم من النّصوص، وإن علم منها بعض فالأكثر منها غير معلوم، وما حصل لنا الفرق بينها إلّا باتّباع المعاني، والنظر إلى المصالح، وفي أيّ مرتبة تقع، وبالاستقراء المعنويّ، ولم نستند فيه لمجرّد الصيغة = (2). وإلّا ما كان الأمر في الشريعة على أقسام متعدّدة، والنهي كذلك أيضا = فلا بدّ من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ في كلام العرب كلّه = فما ظنّك بكلام الله وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلم؟ = (3). وعلى هذا المساق يجري التفريق بين الماء الدائم وغيره في علم الفقه.
ويرجع الشاطبي كلّ المأمورات والمنهيّات في القرآن الكريم إلى ضربين: ضرب جاءت فيه الأوامر والنواهي على العموم والإطلاق في كلّ شيء، وعلى كل حال، ومن ثمّ فهي على وزن واحد ظاهرا ولكنّها (بحسب كلّ مقام، وعلى ما تقتضيه شواهد الأحوال في كل موضع لا على وزن واحد، ولا على حكم واحد = (4). مثل الإحسان في قوله تعالى: {= إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ =} (5) فإنّه ليس مأمورا به أمرا جازما في كلّ شيء، ولا غير جازم في كلّ شيء، بل ينقسم بحسب المناطات، فإحسان العبادات بتمام أركانها من باب الواجب، وإحسان تمام آدابها من باب المندوب، كذلك يقال في إحسان القتلة في قوله عليه الصلاة والسلام: = إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) (6). وضرب = تأتي فيه الأوامر والنواهي، في أقصى مراتبها من حيث
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 3/ 347.
(2) نفسه، 3/ 153.
(3) نفسه، 3/ 152.
(4) نفسه، 3/ 138.
(5) سورة النحل الآية (90).
(6) الحديث مرويّ في الجامع الصغير عن أحمد ومسلم.(1/120)
كان الحال والوقت يقتضي ذلك، مثل قول الله تعالى: {= وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ =} (1). وذلك كلّه من جهة الخطاب) (2).
وأمّا من جهة المخاطب سبحانه وتعالى فقد كانت المعرفة بالذات العليّة عن طريق المعرفة بصفاتها التي تحدّث عنها القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة، وعن طريق آثارها المتمثّلة في إعجاز النظم القرآني من جهة، والكون ونظامه البديع من جهة أخرى أمرا ضروريّا لمعرفة المراد من خطابه تعالى، لأنّ من شأن ذلك أن ينعكس على المجتهد في تحديد المراد من الخطاب الصادر من الله تعالى، فبمعرفة حكمة الله وكمال أسمائه وصفاته ورحمته كان الصحابة يستدلّون على إذن الله تعالى في الأفعال وإباحته لها بإقراره وعدم إنكاره عليهم زمن الوحي، يقول ابن القيّم: = وهذا استدلال على المراد بغير لفظ، بل ربّما عرف من موجب أسمائه وصفاته، وأنّه لا يقرّ على باطل حتى يبيّنه) (3). ويرى الإمام الشاطبي أيضا أنّ = أصل التخلّق بصفات الله، والاقتداء بأفعاله أصل من أصول الاجتهاد = (4). بعد أن يمهّد له بأنّ هناك قسما من علوم القرآن، = مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله، وخطاب الخلق به، ومعاملتهم له بالرفق والحسنى، من جعله عربيّا يدخل تحت نيل أفهامهم، وكونه تنزّل لهم بالترتيب والملاطفة والتعليم في نفس المعاملة به قبل النظر إلى ما حواه من المعارف والخبرات، وهذا نظر خارج عمّا تضمّنه القرآن من العلوم = (5).
وكانت المعرفة بشخصيّة الرسول عليه الصلاة والسلام باعتباره مخاطبا ومخاطبا في آن واحد عن طريق ما جاء في القرآن الكريم الذي تحدث كثيرا عن صفاته وأخلاقه، من الأمور اللازمة لمعرفة الخطاب الشرعي (6).
__________
(1) سورة الحشر الآية (9).
(2) الموافقات، 3/ 335.
(3) ابن قيّم الجوزية، أعلام الموقّعين، 1/ 52.
(4) الموافقات، الشاطبي، 3/ 377.
(5) نفسه، 3/ 377.
(6) نفسه.(1/121)
وأمّا المخاطب فقد اهتمّ به علماء الأصول، ووجدوا أنّ المخاطب يتنوّع في الخطاب، وتتنوّع الأحكام تبعا لنوعه، فهو أحيانا صحيح معافى، وأحيانا مريض أو مسافر، وأحيانا مجاهد قادر، وأحيانا قادر على الجهاد ولكنه متبلّد، وأحيانا منافق، وأحيانا أمّة بكاملها وأحيانا جنس الناس وأحيانا نوع من هذا الجنس {(يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ)} (1).
وأحيانا فرد بعينه {(يََا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلََامٍ)} (2). ووجدنا الخطاب أحيانا مقتضبا موجزا تكثر محذوفاته، وأحيانا مرسلا فيه إطناب، وما ذلك إلّا لتنوّع علم السامع بالأشياء التي يتحدّث عنها الخطاب، كخطاب الله الذي نزل بمكّة وخطابه الذي نزل بالمدينة، كلّ ذلك يجسّد لنا ضرورة المعرفة بالمخاطب لمعرفة الخطاب، بل لأهميّة المخاطب لم يتصوّر الأصوليّون وجود خطاب بدونه) (3).
ولا يكتفي علماء الأصول بالدراسات الجادّة المتعلّقة بلغة الخطاب، وبالمخاطب، والمخاطب، باعتبارها جميعا تشكّل ركائز أساسيّة لوجود التخاطب، حيث كان المخاطب مبدعا ومنشئا للأحكام وكان المخاطب متلقيّا للخطاب ومكلّفا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وكان التواصل إنّما يتمّ بلغة الخطاب، بل يتجاوزون تلك الدراسات إلى دراسات أخرى تتعلق بما يحيط الخطاب من قضايا دينيّة وثقافيّة، وقيم أخلاقيّة، ونظم اجتماعيّة وسياسيّة وغيرها، لا تقلّ أهميّة في إلقاء الأضواء على فقه المراد من الخطاب عن الأركان التي تحقّق التخاطب وذلك لصلتها القريبة أو البعيدة ظاهرا على ما سنرى.
وما يحيط بالخطاب يمكن أن يقسم إلى مستويين:
__________
(1) سورة البقرة الآية (4).
(2) سورة هود، الآية (48).
(3) أبو البقاء الكفوي، الكليّات، 2/ 286، وسلّم الوصول لشرح نهاية السؤل، 1/ 53.(1/122)
مستوى خاصّ قريب إلى الخطاب، وهو ما يرجع إلى ثبوت النصّ وضبطه ببيان تاريخ ظهوره، وأدوار جمعه المختلفة، وكتابته، وأسباب نزوله، وقراءته وغير ذلك ممّا أطلق عليه علماء الشريعة منذ القرن السادس الهجري مصطلح علوم القرآن.
ومستوى عامّ بعيد عن الخطاب ظاهرا، ولكنّه لازم لفهمه فهما سليما دقيقا، وهو ما يرجع الى البيئة العربيّة الماديّة أرضها: بجبالها وصحاريها وقيعانها، وسمائها:
بسحبها ونجومها وأنوائها، وجوّها: بحرّه وبرده وعواصفه وأنسامه. وطبيعتها:
بجدبها وخصبها ومحلها، ونباتها، وشجرها. والمعرفة كذلك بالبيئة العربية المعنوية = بكلّ ما تتّسع له هذه الكلمة من ماض سحيق، وتاريخ معروف، ونظام أسرة، أو قبيلة، أو حكومة في أيّ درجة كانت أو عقيدة، أو فنون أو أعمال = (1).
وأمّا وجه ضرورة المعرفة بالبيئة بوجهها الماديّ فيكفي أن يقال فيه: = إنّنا ما دمنا نذكر الحجر، والأحقاف، والأيكة، ومدين، ومواطن ثمود، ومنازل عاد، ونحن لا نعرف من هذه الأماكن إلّا تلك الإشارات الشاردة، فما ينبغي أن نقول إنّنا فهمنا وصف القرآن لها ولأهلها، أو إنّنا أدركنا مراد القرآن من الحديث عنها وعنهم، ثمّ لن تكون العبرة بهذا الحديث جليّة، ولا الحكمة ولا الهداية المرجوّة مفيدة مؤثّرة = (2). ويكفي أن يقال إجمالا بالنسبة للبيئة المعنويّة أنّ القرآن فيها قد جمع وكتب، وقرئ وحفظ، وفيها نزل بلغة أهلها وخاطبهم أوّل من خاطب، وألقى إليهم رسالته لينهضوا بأدائها وإبلاغها إلى شعوب الدنيا (3). بالإضافة إلى ذلك فروح القرآن عربية، ومزاجه عربيّ، وأسلوبه عربيّ {= قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ =} (4). = والنفاذ إلى مقاصده إنّما يقوم على التمثّل الكامل
__________
(1) مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، ص: (312307).
(2) نفسه، ص 311.
(3) نفسه، ص 310.
(4) سورة الزمر، الآية (28).(1/123)
والاستشفاف التامّ لهذه الروح العربيّة، وذلك المزاج العربي والذوق العربي، رغم ما له من معان ومرام إنسانيّة اجتماعية خالدة) (1).
وفي بيان أهميّة المعرفة بالبيئة نجد الإمام الشاطبيّ يذكر أنّ من بين أنواع المقاصد الشرعيّة = قصد وضع الشريعة للإفهام = وركّز في بيان هذا القصد على كثير من خصوصيّات تلك البيئة التي يجب أن تفهم الشريعة في ظلّها (2). بل إنّه يجعل عرف العرب في معاشهم أصلا في فهم الشريعة، وكذلك يربط عمليّة فهم الخطاب بمستواهم الفكري، فيرى أنّ التكاليف الاعتقاديّة والعمليّة لا بدّ أن تكون ممّا يسع العربيّ تعقّلها ليسعه الدخول تحت حكمها (3).
وقد اهتمّ علماء الأصول بهدف الخطاب ومقصده، فإذا عرف مراد المتكلّم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، = والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنّما هي أدلّة يستدلّ بها على مراد المتكلّم، فإذا ظهر مراده ووضح بأيّ طريق كان، عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة أو كتابة، أو بإمارة أو دلالة عقليّة أو قرينة حاليّة أو عادة له مطّردة لا يخلّ بها = (4).
ومعنى هذا أنّ المجتهد لا يمكن أن ينطلق من فراغ بل لا بدّ من = أن يجتهد في طريق إمّا دلالة وإمّا إمارة = (5). وفي النصّ السابق يذكر لنا ابن القيّم طرق الاستدلال على هدف الخطاب أو مقصده وكلّها من القرائن المتّصلة بالسياق المقامي الذي سبق ذكره.
وهكذا يتبيّن لنا أنّ مهمّة المجتهد في الخطاب الشرعي ليست قاصرة على تفسيره واستنباط الأحكام منه انطلاقا من منطوقه أو من مفهومه، أو من معقوله، ووضح قواعد لغويّة أو شرعيّة يرسم بها لدراسة المسار الذي يجب أن يسلكه للوقوف على مراد الشارع
__________
(1) د. محمّد بن لطفي الصبّاغ، بحوث في أصول التفسير، ص 187.
(2) الموافقات، 2/ 64.
(3) نفسه، 2/ 88.
(4) ابن قيّم الجوزية، أعلام الموقّعين، 1/ 219.
(5) المعتمد في أصول الفقه، 2/ 695.(1/124)
منه، بل إنّ هذه ليست إلّا خطوة أولى تليها خطوة أخرى، ربّما كانت أكثر أهميّة، وهي تطبيق هذه الأحكام المطلقة على تصرّفات الناس التي تصدر عنهم في واقعهم الاجتماعي أقوالا وأفعالا = ما دام كلّ دليل شرعي مبنيّا على مقدّمتين إحداهما راجعه إلى تحقيق مناط الحكم والأخرى ترجع إلى الحكم الشرعي نفسه = (1). ونرى عند ابن عابدين إشارة مهمّة إلى أثر أحوال المخاطب وواقع الأمر في فهم النصّ يقول: = لا بدّ من فقه في أحكام الحوادث الكليّة، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس، يخبر به الصادق والكاذب، والمحقّ والمبطل، ثم يطابق بين هذا وهذا فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفا للواقع = (2).
وقالوا إنّ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصّة على وزن واحد. (3) ومن هذا المنطلق قالوا في قوله تعالى: {= إِنَّمََا جَزََاءُ الَّذِينَ يُحََارِبُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ =} (4): إنّ الآية تقتضي مطلق التخيير ثم رأوا أنّه مقيّد بالاجتهاد، فالقتل في موضع، والصلب في موضع، والقطع في موضع، والنفي في موضع، وكذلك التخيير في الأسرى من المنّ والفداء (5).
وهنا نفهم سلوك عمر حيال الآية {= وَالسََّارِقُ وَالسََّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمََا جَزََاءً بِمََا كَسَبََا نَكََالًا =} (6) في عام المجاعة، حين امتنع عن إقامة الحد (7). إنّ مراعاة هذه
__________
(1) الموافقات، 3/ 43.
(2) رسائل ابن عابدين، رسالة العرف، ص 41.
(3) الموافقات، 4/ 98.
(4) سورة المائدة، آية 33.
(5) الموافقات، 4/ 103.
(6) سورة المائدة، الآية (33).
(7) د. محمد بلتاجي، منهج عمر في التشريع، ص: (245244).(1/125)
الأمور الخارجيّة وهذه التوابع التي تشخّص الفعل فتجعله يلبس صورا عديدة هي ما عبّر عنه الفقهاء بتحقيق المناط الذي يعني عندهم = أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محلّه = (1). وبتعبير آخر للإمام الشاطبي = إنّ اقتضاء الأدلّة للأحكام بالنسبة إلى محالّها على وجهين: أحدهما الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض، وهو الواقع على المحلّ مجرّدا عن التوابع والإضافات كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة وسن النكاح وندب الصدقات. والثاني: الاقتضاء التبعي، وهو الواقع على المحلّ مع اعتبار التوابع والإضافات كالحكم بإباحة النكاح لمن لا إرب له في النساء، ووجوبه على من خشي العنت، وكراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو، وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام،
ووبالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقترانه بأمر خارجي = (2).
وفرّق الأصوليّون بين دلالة العبارة، ودلالة الإشارة، ودلالة النصّ، ودلالة الاقتضاء، وهي طرق دلالة النصوص على المعاني أو الأحكام الشرعيّة. وهذه تأتي من خلال نظم الكلام أو من القرائن أو منهما معا. ومن خلال القصد كذلك. (قصد المتكلّم) (3).
وعرّفوا عبارة النّص بقولهم = فأمّا الثابت بعبارة النصّ فهو ما كان السياق لأجله، ويعلم قبل التأمّل أنّ ظاهر النصّ متناول له = (4). وحين بحثوا في دلالة الخطاب إشاريّا على الحكم حدّدوا دلالة الإشارة وقصدوا بها = ما ثبت بنظمه لغة، لكنّه غير مقصود ولا سيق له النصّ وليس بظاهر من كلّ وجه = (5).
فالأصوليّون لا يقفون في استثمار الخطاب الشرعي عند ما تدل عليه الألفاظ في النصّ نطقا صريحا، أو غير صريح أو بمعنى آخر عند استنفاد جميع المعاني الأساسيّة أو
__________
(1) الموافقات، 4/ 90.
(2) نفسه، 3/ 79.
(3) التفتازاني، التلويح، 1/ 131.
(4) أصول السرخسي، 1/ 236.
(5) فخر الإسلام البزدوي، الأصول، 1/ 68.(1/126)
الثانوية التي توكل للكلمة إمّا عن طريق عبارة النصّ أو إشارته أو دلالته الاقتضائيّة، بل يخطون خطوة أخرى تتمثّل فيما أطلقوا عليه مصطلح (المفهوم) أو دلالة النصّ أي ما نفهمه ليس من الكلمات وما تدلّ عليه فقط، بل من المعاني اللّغويّة التي يحدّدها سياق الكلمات أيضا، باعتبار أنّ العناصر التي تشكّل هذا السياق، والتي تتراءى للمخاطب عبر أقسام الكلام، تساعد على إدراك ما تتضمّنه الكلمات من معان وعلل لا يمكن إغفالها في استثمار الخطاب. وأمّا دلالة المفهوم عند أولئك فهي = ما أشعر به المنطوق = (1)، ونجد عند الغزالي عبارة من مثل: = إنه مفهوم من السياق = (2). فالمفهوم يدرك بواسطة علّة حكم المنطوق به، وهذه إنّما تعرف من السياق (3).
(33) العلاقة بين النصّ والسّياق في جهود المفسّرين
إنّ البحث في الترابط والمناسبة بين الآيات وسياقها الداخلي والخارجي ليس عملا ميكانيكيّا من منظور المفسّرين لذا نجد في تفاسيرهم تنبيهات يمكن أن تعدّ توجيهات عامّة في هذا العلم. ومن ذلك ما يشير إليه الفخر الرازي من أنّ التنويع بين الموضوعات في القرآن الكريم إنّما هو مراعاة لطاقات المخاطب، وأدعى ألّا يصاب بالملل، = فإنّه إذا انتقل من نوع من العلوم إلى نوع آخر فكأنّه يشرح به الصدر ويفرح به القلب = (4).
ويعبّر ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) إلى تلازم الأغراض والمعاني في القرآن الكريم، بحسب ترتّب الآيات الكريمة = وأنّ ذلك فيه من المناسبة في المعاني وانسجام في نظم الكلام = (5). وأما الزمخشري فإنّنا نلاحظ أنّه وإن لم يصرّح بمصطلح (المناسبة) فإنّه كان يستعمل صيغا تدلّ على ذلك دلالة واضحة من مثل: = فإن قلت: من المأمور بقوله:
= وبشّر = قلت () وإن قلت: علام عطف هذا الأمر، ولم يسبق أمر ولا نهي يصحّ
__________
(1) محمّد جواد مغنيّة، الفقه في ثوبه الجديد، ص 142.
(2) الغزالي، شفاء الغليل، ص 53.
(3) محمّد جواد مغنية، الفقه في ثوبه الجديد، ص 143.
(4) تفسير الرازي، ج 7، ص 259.
(5) محمّد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، 3/ 465.(1/127)
عطفه عليه؟ قلت: ()، وقد يتمّ ذلك بصيغة تقريريّة كقوله: = وذلك إشارة إلى إحياء القتيل، أو إلى جميع ما تقدم من الآيات المعدودة = (1).
وإذا كان هذا حال الزمخشري، فإنّ حال الرازي مختلف عنه فهو يصرّح بأنّ = أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط، ومن ثمّ نجد في تفسيره تنصيصا على البحث في المناسبة معبّرا عنه بصيغتين مطّردتين، أولاهما قوله: = ذكروا في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوها = (2). وثانيتهما قوله: = في كيفيّة النظم وجوه = (3)، أو = في كيفيّة النظم أقوال = (4). ولم يستعمل قطّ كلمة = المناسبة = طوال تفسيره للبقرة إلّا مرّة واحدة، وذلك أثناء تفسيره للآية (275) قائلا: = اعلم أنّ بين الربا وبين الصدقة مناسبة من جهة التضادّ = (5).
أمّا ابن عاشور فقد كان الدافع الأساسي الذي ألّف تفسيره استجابة له هو (المناسبة) بين الآي والسور والسياق. (6) ويقول الشيخ (رشيد رضا) في تفسير المنار = إنّ أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ: موافقته لما سيق له من القول، واتفاقه مع جملة المعنى، وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته = (7). وفي هذه العبارة توضيح للسياق اللّغوي والمقامي، وإلى عنصر الهدف وأهميّته في صياغة النصّ.
ويراعي المفسّرون عند الكلام على شروط المفسّر ضرورة إلمامه بالظروف المحيطة بالنصّ عند تفسيره، لما لهذه الظروف من أثر في تعميم الدلالة أو الحكم الشرعي أو تخصيصهما، فبيان سبب النزول مثلا طريقه إلى فهم معاني الكتاب العزيز، كما رأينا في
__________
(1) الكشّاف، 1/ 290.
(2) تفسير الرازي، 3/ 255.
(3) نفسه، 4/ 10.
(4) نفسه، 7/ 90.
(5) نفسه، 7/ 91.
(6) انظر مقدّمة التحرير والتنوير.
(7) تفسير المنار، ط 1/ 22.(1/128)
مبحث علوم القرآن. وكذلك يعدّ علم المناسبة من العلوم الضروريّة للمفسّر. ويجمع كلّ ذلك معرفة السياق. يقول الزركشي: = ليكن محطّ نظر المفسّر مراعاة النظم الذي سيق له الكلام، وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوّز، ولهذا تجد صاحب الكشّاف يجعل الذي سيق له الكلام معتمدا = (1). وقد ألحّ المفسّرون على اللّجوء للسّياق لفهم المعاني الملبسة في الآيات القرآنيّة. وقد يتمثّل هذا السياق عندهم في معرفة أسباب النزول، الذي قد يفيد التخصيص أو قد يزيل الإشكال، وقد يعني التعالق والترابط بين الآيات، وقد يتمثّل السياق لدى المفسّر في نسق الآيات وما يصل بينها من روابط كالعطف والمضادّة التي تظهر في ذكر الرحمة بعد العذاب، أو الرغبة بعد الرهبة، أو حسن التخلّص، وهو الانتقال من مقام إلى آخر من غير شعور بالانقطاع، وترتيب الآيات.
وقد تنبّه المفسّرون إلى القرائن بنوعيها: المعنويّة والحالية، وأهميّتها في تفسير الآي، وجعلوها مهمّة جدّا كأهمية معرفة اللّغة والنحو والصرف والبلاغة (2). فالسّياق هو الذي يفضي بك إلى معرفة غرض المتكلّم، ويدلّك على وجود الحذف في الآية، ومعرفة المحذوف، وهو الذي يفسّر معاني الأدوات وأحرف المعاني، كما سبق أنّ أشرنا في مبحث علوم القرآن.
ويذكر ابن خلدون أن من الأمور التي تلزم للمفسّر العلم بأحوال البشر = فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب، وبيّن فيه ما لم يبيّن في غيره فلا بدّ للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر: في أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم من قوّة وضعف = (3). ويقول في موضع آخر: = وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يبيّن المجمل، ويميّز الناسخ من المنسوخ، ويعرّفه أصحابه فعرفوه، وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه = (4).
__________
(1) البرهان، ج 2، ص 18.
(2) نفسه، 2/ 200.
(3) ابن خلدون، المقدمة، ص 488.
(4) نفسه، ص 489.(1/129)
وإذن فقد وعى المفسّرون مسألة ارتباط الآي، وبحثوا في أنواع المناسبة والعلاقات القائمة بين الآيات والسور، واجتهدوا في إبراز اتّساق النصّ القرآني وانسجامه، على أنّ الاهتمام بالانسجام لم يكن الانشغال الوحيد لهؤلاء وأولئك، وإنّما كان جزءا من انشغال أشمل هو فهم القرآن وإظهار وجوه إعجازه. أمّا كيف أبرز المفسّرون العلاقة بين الآيات الكريمة، وكيف جعلوها دليلا على تماسك النصّ القرآني وانسجامه مع السياق الخارجي فهذا ما سنراه في الفصل الثاني من هذا الكتاب.(1/130)
المبحث الرابع = تجارب في المنهج =
أإدوارد سعيد في = العالم والنص والناقد =
في كتابه = العالم والنصّ والناقد = (،،) الذي صدرت طبعته الأولى عن جامعة هارفارد عام (1983)، يناقش إدوارد سعيد مسألة النّصّ وإمكانيّة قراءته بمعزل عن ظروف تشكيله، ودور النقد والناقد في هذا. ويبدأ (سعيد) بعرض هذه المسألة عن طريق استحضار نموذج لنصّ شكّله عازف البيانو الكندي (جلن جولد). وهذا النّصّ هو عبارة عن تسجيل لحفلة موسيقيّة للسمفونيّة الخامسة لبيتهوفن حسب لحن على البيانو أعدّه (لسزت). ويفصّل سعيد في سرد الظروف التي أحاطت بإعداد هذا التسجيل، والجدل الذي دار حوله، وعن زمن اللحن، ودور البيانو في محاكاة الجوّ الأوركسترالي، وعن القرص المصاحب للتسجيل الذي يحتوي على مقابلة غير رسميّة بين (جولد) ومدير إحدى شركات التسجيل. وفيه حديث من (جولد) عن سرّ هربه من الحفلات الحيّة التي يواجه فيها الجمهور، وهو أنّ هذه المواجهة المباشرة تسبّب له تشوّهات في طبيعة الإيقاعات والمعزوفات. ومن خلال هذه (الحالة) يطرح إدوارد سعيد أسئلة غاية في الأهميّة، ومنها كيف ننظر للنصّ (اللّحن في هذه الحالة) لو لم نعرف جملة الظروف التي أحاطت بتشكيله؟ هل يمكن النظر إلى النّص على أنّه مجرّد قرص بلاستيكي جامد لا يتحدّث؟ ومن غير أنّ نتفاعل مع الأسلوب المتهوّر وغير الرسمي للمقابلة التي أداها (جولد)؟ ومن غير تفاعل مع صوت (جولد) أو نصّ (لسزت) الطاوسي أو؟
وهل يمكن تلقّي النصّ بمعزل عن هذا التماسّ المباشر مع الجمهور والسامعين كما فعل (جولد) حين عزف وحده في قاعة خالية؟
إنّ الوجود المادّي للنصّ يمكن إعادة إنتاجه في أوقات مختلفة، وحتّى أسلوب المؤلّف يمكن اعتباره أحيانا عنصرا محيّدا لا يربط النصّ بظروف إنتاجه، وإذن فما المرجع
الذي يتمّ قراءة النصّ من خلاله؟ إنّ الحديث (الخطاب المباشر) تعدّ ظروفه المحيطة هي المرجع فيه، حيث يكون المتحدّثون حاضرين وملمّين بظروف الجلسة التي تمّ فيها الخطاب بكلّ ما فيها من محيطات إدراكيّة أو ما يكمن خلفها من خلفيّات ثقافيّة للمتحدّثين. إنّ اللّغة وكلّ المؤشّرات الظاهريّة تربط الخطاب (الحديث) بالحقيقة الظرفيّة الملامسة له. أمّا في حالة النصّ (الكتاب أو القرص) فإنّ القراءة حينئذ تقوم بمهمّة تحقيق المرجعيّة، وفي هذه الحالة يفترض النّقاد أنّ النصّ يكون خارج العالم في الهواء، وعن طريق إلغاء علاقة النصّ بالعالم تصبح الطرق مفتوحة لدى هذا النصّ للدخول في علاقات مع النصوص الأخرى جميعها، وهذا بدوره يأخذ محلّ الحقيقة الظرفيّة التي يوضحها الحديث المباشر ويطلق (سعيد) على الحقيقة الظرفيّة اسم (دنيويّة النصّ).(1/131)
إنّ الوجود المادّي للنصّ يمكن إعادة إنتاجه في أوقات مختلفة، وحتّى أسلوب المؤلّف يمكن اعتباره أحيانا عنصرا محيّدا لا يربط النصّ بظروف إنتاجه، وإذن فما المرجع
الذي يتمّ قراءة النصّ من خلاله؟ إنّ الحديث (الخطاب المباشر) تعدّ ظروفه المحيطة هي المرجع فيه، حيث يكون المتحدّثون حاضرين وملمّين بظروف الجلسة التي تمّ فيها الخطاب بكلّ ما فيها من محيطات إدراكيّة أو ما يكمن خلفها من خلفيّات ثقافيّة للمتحدّثين. إنّ اللّغة وكلّ المؤشّرات الظاهريّة تربط الخطاب (الحديث) بالحقيقة الظرفيّة الملامسة له. أمّا في حالة النصّ (الكتاب أو القرص) فإنّ القراءة حينئذ تقوم بمهمّة تحقيق المرجعيّة، وفي هذه الحالة يفترض النّقاد أنّ النصّ يكون خارج العالم في الهواء، وعن طريق إلغاء علاقة النصّ بالعالم تصبح الطرق مفتوحة لدى هذا النصّ للدخول في علاقات مع النصوص الأخرى جميعها، وهذا بدوره يأخذ محلّ الحقيقة الظرفيّة التي يوضحها الحديث المباشر ويطلق (سعيد) على الحقيقة الظرفيّة اسم (دنيويّة النصّ).
ويعرض سعيد وجهة نظر (بول ريكور) من أنّ النّص يكون خارج الحقيقة الظرفيّة، ويبقى كذلك حتّى يقوم الناقد باسترجاعها، ويفترض أنّ رأس الناقد أو المفسّر يجب أنّ يكون بدون دنيويّة (أي غير خاضع للحقيقة الظرفيّة) وبذا يجعل ريكور الحقيقة الظرفية ملاصقة فقط للحديث المباشر، أو لما أراد الكتّاب قوله لو لم يختاروا أن يكتبوه ويحوّلوه إلى نصّ. أمّا إدوارد سعيد فينفي هذا القول لريكور، ويرفض أن يكون النقّاد مجرّد مترجمين كيميائيّين يقومون بترجمة النصوص إلى حقيقة ظرفيّة أو دنيويّة، فهم أيضا معرّضون ومنتجون للظروف. إنّ النصوص لديها الطرق للكينونة التي تجعل الناقد يقع في شباك الظرفيّة (الزمان والمكان والمجتمع) مهما كانت أساليبه نقيّة (موضوعيّة). إنّ النقّاد دنيويّون طالما أنّ النصّ موجود في العالم. إنّ معظم النّقاد يستسلمون للفكرة القائلة بأنّ النصّ الأدبي مثقل بمناسبته، وبالتجارب التي انبثق منها. ولذا فنراهم يدعون إلى ما يعرف ب (النصّ المستقلّ) مثل ريفاتير، ويقصدون بالنصّ المستقلّ النّص بمعزل عن أيّ ظرف أو حقيقة دنيويّة.
ومن ثمّ يطرح (سعيد) سؤاله الهامّ: ألا توجد وسيلة للتعامل مع النصّ وظروفه الدنيويّة بطريقة عادلة؟ أمّا من وسيلة للتعامل مع مشكلات اللّغة الأدبيّة إلّا
بقطعها عن اللغة الدنيوية الملحّة التي نواجهها كلّ يوم؟ وللإجابة على هذا السؤال المحور يعرض (إدوارد سعيد) عددا من المناهج والأمثلة، ويعرض رؤاها للنصّ وعلاقته بالحقيقة الظرفيّة، وفي البداية نراه يعرض جهد المدرسة الظاهريّة في الأندلس وعلى رأسها ابن حزم وابن مضاء القرطبي. إنّ الفكر الظاهريّ يقوم على أنّ الكلمات لها معنى ظاهريّ فقط مرتبط باستخدام معيّن (ظرفي تاريخي وديني) وقد هاجم الظاهريّون التأويل الباطنيّ للنصوص الذي يذهب إلى أنّ اللّغة تختفي داخل الكلمات، وأن التفسير يكمن في باطن النصّ ويرى سعيد أنّ أساس الخصام بين هذين الفريقين قديم ومنبثق من نظرة الأجيال المختلفة إلى القرآن باعتباره نصّا إلهيّا. وفي الوقت الذي يسير فيه التأويل الباطني بالكلمات إلى مستوى مخفيّ تحت هذه الكلمات بحيث يصبح كلّ شيء مسموحا للتفسير، أو لن يكون هناك معنى دقيق أو سيطرة على ما تقوله الكلمات، أو حتى أيّ مسئوليّة تجاه الكلمات، فإنّ الظاهريّة يتركّز جهدها على استعادة نظام لقراءة النصّ حيث يوجّه الاهتمام إلى ظاهر الكلمات نفسها، إلى ما يمكن اعتباره معناها النهائي الذي صدر في مناسبة معيّنة وليس المعاني الخفيّة التي قد تحتويها. وقد ذهبوا بعيدا في محاولتهم لإيجاد هذا النظام الذي يضع أكبر سيطرة ممكنة على القارئ وظروفه. = ومن المفيد أنّ نبيّن كيف نتج هذا الجدل عن كتاب مقدّس يستمدّ سلطته من كونه كلمة الله غير المخلوقة، التي نقلت مباشرة ومن طرف واحد إلى الرسول في وقت معيّن، إنّها كلمة الله إلى العالم. وهي كلمة تدخل التاريخ البشري باستمرار من خلال التاريخ وكجزء منه، ولذلك فقد أعطيت مكانة هامّة لما سمّاه (روجر ارنالدجز) = العوامل الإنسانيّة = في تلقّي ونقل وفهم نصّ كهذا = (1).(1/132)
ومن ثمّ يطرح (سعيد) سؤاله الهامّ: ألا توجد وسيلة للتعامل مع النصّ وظروفه الدنيويّة بطريقة عادلة؟ أمّا من وسيلة للتعامل مع مشكلات اللّغة الأدبيّة إلّا
بقطعها عن اللغة الدنيوية الملحّة التي نواجهها كلّ يوم؟ وللإجابة على هذا السؤال المحور يعرض (إدوارد سعيد) عددا من المناهج والأمثلة، ويعرض رؤاها للنصّ وعلاقته بالحقيقة الظرفيّة، وفي البداية نراه يعرض جهد المدرسة الظاهريّة في الأندلس وعلى رأسها ابن حزم وابن مضاء القرطبي. إنّ الفكر الظاهريّ يقوم على أنّ الكلمات لها معنى ظاهريّ فقط مرتبط باستخدام معيّن (ظرفي تاريخي وديني) وقد هاجم الظاهريّون التأويل الباطنيّ للنصوص الذي يذهب إلى أنّ اللّغة تختفي داخل الكلمات، وأن التفسير يكمن في باطن النصّ ويرى سعيد أنّ أساس الخصام بين هذين الفريقين قديم ومنبثق من نظرة الأجيال المختلفة إلى القرآن باعتباره نصّا إلهيّا. وفي الوقت الذي يسير فيه التأويل الباطني بالكلمات إلى مستوى مخفيّ تحت هذه الكلمات بحيث يصبح كلّ شيء مسموحا للتفسير، أو لن يكون هناك معنى دقيق أو سيطرة على ما تقوله الكلمات، أو حتى أيّ مسئوليّة تجاه الكلمات، فإنّ الظاهريّة يتركّز جهدها على استعادة نظام لقراءة النصّ حيث يوجّه الاهتمام إلى ظاهر الكلمات نفسها، إلى ما يمكن اعتباره معناها النهائي الذي صدر في مناسبة معيّنة وليس المعاني الخفيّة التي قد تحتويها. وقد ذهبوا بعيدا في محاولتهم لإيجاد هذا النظام الذي يضع أكبر سيطرة ممكنة على القارئ وظروفه. = ومن المفيد أنّ نبيّن كيف نتج هذا الجدل عن كتاب مقدّس يستمدّ سلطته من كونه كلمة الله غير المخلوقة، التي نقلت مباشرة ومن طرف واحد إلى الرسول في وقت معيّن، إنّها كلمة الله إلى العالم. وهي كلمة تدخل التاريخ البشري باستمرار من خلال التاريخ وكجزء منه، ولذلك فقد أعطيت مكانة هامّة لما سمّاه (روجر ارنالدجز) = العوامل الإنسانيّة = في تلقّي ونقل وفهم نصّ كهذا = (1).
ويتعرّض (أرنالدجز) إلى أنّ فكرة النزول الحرفي إلى دنيويّة النّص عبر اللّغة والصيغ، يجعل من قراءة النّص قراءة ظرفيّة أمرا ممكنا. وهذا لا ينفي تميّز اللّغة التي نزل بها هذا النّص وهي العربيّة، وتميّز ناقلها وهو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) 13.،،،(1/133)
وفي دراسته لابن حزم وضع (أرنالدجز) وصفه للقرآن كالتالي: = يتحدّث القرآن عن أحداث تاريخيّة ومع ذلك فهو ليس تاريخيّا، إنّه يعيد الأحداث الماضية يلخّصها ويخصّصها، ومع ذلك فهو ليس تجربة معاشة، إنّه يقطع استمراريّة الحياة البشريّة، ومع ذلك فالله لا يدخل الصفة الزمنيّة بفعل متّفق عليه أو بفعل مؤجّل. يستحضر القرآن الأحداث، ويعيد محتواها بشكل دائم ومتطابق كتحذيرات وأوامر وعقوبات ومكافئات وباختصار فإنّ الظاهريّة تتبنّى موقفا ظرفيّا من القرآن، وفي الوقت ذاته فإن هذا الموقف لا يجعل الدنيويّة تسود روح النّص، وهذا هو التجنّب الكامل للحتميّة الشائعة في موقف التأويل الباطني = (1).
وبناء على ذلك فإنّ نظريّة ابن حزم كما يقول (سعيد) تقوم على تحليل صيغ الأمر مثل (اقرأ) أو الإخبار = قل =، وهاتان الصيغتان هما دوالّ المظهر التاريخي والظرفي للقرآن وتفرّده كحدث، وحدوث هاتين الصيغتين هو شيء غاية في الدنيويّة، وحدوثها مقتصر على العالم. إنّها مؤقتّة وظرفيّة على وجه دقيق، وللدلالة على شيء فلا بدّ من استخدام اللّغة تبعا لقواعد المفردات والتراكيب والتي تكون اللّغة بها في العالم وللعالم.
فاللّغة تنتظم بالاستخدام الفعلي، وليس بالوصف المجرّد كما يرى الظاهريّون. إنّ العالم نظام عملاق من الانسجام والتوافق بين الكلمات والأشياء. واللّغة كذلك وهي تسمح لنا بعزل الأشياء المسمّاة من بين هذه التوافقات المنتظمة بشكل كبير عبر توالي الخيال. وعبر ميزان الظرفيّة أو الدنيويّة. ويذكّرنا (أرنالدجز) يقول (سعيد). أنّ ابن حزم يرى أنّ اللّغة تمتلك خاصيّتين هما في ظاهرهما متناقضتان: الخاصيّة الأولى: أنّ هذه اللّغة لغة سماويّة منزّهة غير متغيّرة ثابتة منطقيّة عقلانيّة جليّة، والخاصيّة الثانية أنّها أداة توجد بشكل طارئ، كمؤسّسة تدلّ على معان متّصلة بتعبيرات معيّنة. ولأنّ الظاهريّة ينظرون إلى اللّغة بهذا المنظار المزدوج فإنّهم يرفضون أساليب القراءة التي تختزل الكلمات ومعانيها إلى مجرد صيغ وجذور وعلاقات نحويّة. إنّ كلّ تعبير هو مناسبته، وهو أيضا متّصل بشكل ثابت
__________
(1). 34،،،(1/134)
بسياقه الدنيويّ يتعلّق به، ولأنّ القرآن الكريم هو نصّ، يضمّ الحديث (الخطاب المباشر) والكتابة والقراءة والإخبار، فإنّ تفسير الظاهريّة بحدّ ذاته لا يأخذ الفصل بين التكلّم والكتابة أو النّص وظرفيّته مسلما به، ولكنّه يعترف بتداخلهما وتفاعلهما معا. إنّ الظاهريّة بهذا تمثّل فرضيّة مفصّلة عن كيفيّة التعامل مع النّص كصيغة هامّة تجتمع فيها الدنيويّة والظرفيّة، وحالة النصّ كحدث له خصوصيّة حسيّة، واحتمال تاريخي مندمجة معا، ويكون النصّ في هذه الحالة ناقلا للمعنى ومنتجا له، وهذا يعنى أنّ النصّ له حالة محدّدة تفرض قيودا على المفسّر.
ثمّ يناقش (سعيد) بعد هذا بعض الطرق التي تفرض بها النصوص قيودا على تفسيرها، أو بصورة أخرى الطرق التي تقارب بين جسم النصّ وجسم العالم، ممّا يفرض على القرّاء أخذ كليهما بعين الاعتبار. ويستمدّ سعيد هذه الطرق أو الآليّات من خلال أعمال ثلاثة أعلام من الأدب الغربي وهم (جرارد مانلي هوبكنز)، و (أوسكار وايلد)، و (وجوزيف كونراد)، ويستنبط من خلالها أنّ النصوص تعكس ظروفها الواضحة، وأنّ الكاتب يستجيب لما يصف في الطبيعة، وإنّ القارئ عنصر مشارك فاعل في إنتاج المعنى فالقراءة إخبار، والطبيعة إخبار، وإنّ النّص يمتلك الكثير من الحقيقة الظرفيّة، إنّ النصّ يحتضن العالم. كما أنّ طريقة تقديم القصّة كما هو الحال عند (كونراد) تجسّد وتخلق ظروف السرد ومناسبته، إنّ اللقاء ليس بين الإنسان وقدره مجسّدا في لحظة، ولكنّه دوما اللقاء بين المتحدث والسامع. إنّ التراث الروائي الغربي مليء بالأمثلة على نصوص تتشبّث ليس فقط بواقعها الظرفي، وإنّما أيضا بكونها تحقّق دورا أو مرجعيّة أو معنى في العالم. إنّ (الحديث) أو الخطاب هو المجس الذي بواسطته تربط النصوص الصامتة نفسها بعالم الخطاب، وهو ما يعنى أنّ الظرفية تكثّف التبادل مع المتحدّث بمواجهة السامع بطرقها الخاصّة. إنّ النّص، وإنّ كان يبدو وكأنّه يفتح نفسه ديموقراطيّا لأيّ شخص يمكن أن يقرأه، فإنّه يمتلك آليّات خاصّة يحاول من خلالها إخضاع القارئ له، ليصرفه بعيدا عن العالم.(1/135)
إنّ النّص يمتلك سطوة من نوع معيّن (فاشية) كما يقول (سعيد) في التعامل مع القارئ، وينقل سعيد هنا قولة لرينان: = إنّ النصوص المقدّسة نزلت إلى العالم، ومن ثمّ فإنّ لغتها وإنّ كان مصدرها الله، لا يمكن أنّ تكون غير قابلة للقراءة الإنسانيّة وكيف يكون ذلك وقوامها هو اللّغة (هذا الشيء الدنيويّ الحقير)؟ = (1). ولذلك فإنّ رينان يحاول أنّ يستبدل في قراءة النّص الديني السلطة الإلهيّة بالسلطة النصيّة التي تعتمد على اللّغة وفقه اللّغة. وكما يقول (ميشيل فوكو): = في كلّ مجتمع يتمّ ضبط إنتاج الخطاب واختياره وتنظيمه وإعادة توزيعه، تبعا لعدد من الخطوات التي يكون دورها تجنّب القوى والأخطار، والتأقلم مع الأحداث الطارئة، وتجنّب ماديّتها المروّعة = إنّ الكتابة طريقة تتنكّر فيها الماديّة في حلّة إنتاج مدبّر ومنظّم، إنّ الخطاب يمثّل الفروقات السياسيّة والعرقيّة والدينيّة، وإنّ الكثير من الاستثناءات والظروف التاريخيّة والإيديولوجيّة والرسميّة تضع النّص في الواقع، حتّى وإنّ اعتبر النّص أداة مطبوعة صامتة لها ألحانها غير المسموعة (2).
= ثمّ يعود (سعيد) ليسأل: أين الناقد والنقد في كلّ هذا؟ إنّ الشكل التقليدي الذي يعبّر النقد فيه عن نفسه هو المقالة، وهذا يجعل الأسئلة تتوالى تترى حول هذه المقالة، ما علاقة النّص بها؟ وما غرضها؟ هل هو التعرّف على نصّ مختار؟ وهل تقف المقالة بين النّص والقارئ، أم تقف إلى جانب أحدهما؟ وهل المقالة نصّ أم تداخل بين النصوص؟ أم هي تكثيف للفكرة النصيّة؟ وبعد أن يستقري سعيد آراء عدد كبير من النقّاد مثل (لوكاش) و (دريدا) وغيرهم، يرى أنّ النقد يعالج العمل الأدبي كنقطة بداية لإبداع جديد، والناقد يعدّ مسئولا إلى حدّ ما، عن توضيح تلك الأصوات التي تسيطر عليها أو تزيحها أو تسكتها نصيّة النصوص. إنّ النصوص نظام من القوى التي قامت بمؤسستها الثقافة السائدة على حساب الإنسان إلى عناصرها المختلفة، والنقد دنيويّ، ويقع في العالم، وهذا مفهوم
__________
(1) النص والنقد والعالم، ص: 31.
(2) نفسه، ص: 43.(1/136)
يعمل بالتعاون مع التمركز حول العرق والذي يمنح رخصة للثقافة بأن تخفي نفسها في سلطة معيّنة (1).
ب نصر حامد أبو زيد في = مفهوم النصّ = و = النصّ: السلطة الحقيقيّة =
إنّ دراسات = نصر حامد أبو زيد = في معظمها تصلح أن تكون في مجموعها تجربة في المنهج، ولكنّنا سنحاول أنّ نركّز العرض من خلال كتابه = مفهوم النّص: دراسة في علوم القرآن = الذي صدرت طبعته الأولى عام (1994)، وكتابه (النّص: السلطة الحقيقية) الذي صدرت طبعته الأولى عام (1995)، وكتابه (الخطاب الديني: رؤية نقدية) الذي صدرت طبعته الأولى عام (1992).
إنّ أبا زيد يرى أنّ النصوص الدينيّة ليست في التحليل الأخير سوى نصوص لغويّة، بمعنى أنّها نصوص تنتمي إلى بنية ثقافة محدّدة، تمّ إنتاجها طبقا لقوانين تلك الثقافة التي تعدّ اللّغة نظامها الدلالي المركزي. وليس معنى ذلك أنّ النصوص تمثّل صورة سلبية عن البنية الثقافيّة من خلال النظام اللّغوي، فهي تمتلك فعاليتها الخاصّة الناشئة عن خصوصيّة بنائها اللّغوي ذاته. إنّ النصوص لا تنفكّ عن النظام اللّغوي العام للثقافة، ولكنّها من ناحية أخرى تبدع شيفرتها الخاصّة التي تعيد بناء عناصر النظام الدلالي الأصلي من جديد. وتقاس أصالة هذه النصوص، وتتحدّد درجة إبداعيّتها بقدر ما تحدثه من تطوّر في النّظام اللّغوي، وبمقدار ما تحقّقه نتيجة لذلك من تطوّر في الثقافة والواقع معا.
إنّ النصوص ترتبط بواقعها اللغوي الثقافي فتتشكّل به من جهة، وتبدع شيفرتها الخاصة التي تعيد بها تشكيل اللّغة والثقافة والواقع من جهة أخرى. وهناك منطقة تماسّ بين الجهتين، هي التي تمكّن النصوص من أداء وظيفتها داخل البنية الثقافيّة في مرحلة إنتاج النصوص، أي تجعل النصوص دالّة ومفهومة للمعاصرين لإنتاجها، وهي المنطقة المترعة بالدلالات المشيرة إلى الواقع والتاريخ، وخارج تلك المنطقة تكون الدلالات مفتوحة
__________
(1) النص والنقد والعالم، ص (5144).(1/137)
وقابلة للتجدّد مع تغيّر آفاق القراءة المرتهن بتطوّر الواقع اللّغوي والثقافي (1). ويدافع أبو زيد عن منهجه من حيث توهّم حدوث تعارض وتضاد بين الإلهي والإنساني في النصّ الديني إذا أخضع لهذا المنهج، فيقول بأنّ النصوص الدينيّة نصوص بشريّة بحكم انتمائها للّغة والثقافة في فترة تاريخيّة محدّدة هي فترة تشكّلها وإنتاجها فهي بالضرورة نصوص تاريخيّة، ومن هذه الزاوية تمثّل اللّغة ومحيطها الثقافي مرجع التفسير والتأويل، وتدخل في مرجعيّة التفسير والتأويل تلك كلّ علوم القرآن، وهي علوم نقليّة تتضمّن كثيرا من الحقائق المرتبطة بالنصوص بعد إخضاعها لأدوات الفحص والتوثيق (2).
وفي كتابه (مفهوم النّص) يطبّق أبو زيد هذا المنهج، فيتناول علوم القرآن بالتحليل والفحص والتوثيق ليدلّل بها على صحّة منهجيّته في التعامل مع النّص القرآني.
ويعيد التأكيد فيه على أنّ النّص منتج ثقافي والمقصود بذلك أنّه تشكّل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاما. كما أنّ القرآن يصف نفسه بأنّه رسالة، والرسالة تمثّل علاقة اتّصال بين مرسل ومستقبل من خلال شيفرة أو نظام لغوي. وهو في الوقت نفسه منتج للثقافة، حيث كوّن حضارة لها شخصيّتها وهويّتها الواضحة في تاريخ الحياة. إنّ اللّغة هي مدخل الدراسة لهذا النصّ، وهذه اللّغة تعيد تقديم العالم بشكل رمزي، إنّها وسيط من خلاله يتحوّل العالم الماديّ والأفكار الذهنيّة إلى رموز، والنصوص اللغويّة ليست إلّا طرائق لتمثيل الواقع والكشف عنه بفعاليّة خاصّة. وهي كذلك رسالة لها وظيفتها الاتّصالية التي تقوم على مرسل ومخاطب. ومن ثمّ يعرض أبو زيد في الباب الأول من كتابه وهو تحت عنوان (النصّ في الثقافة / التشكّل والتشكيل) مفهوم الوحي، والمتلقّي الأوّل للنصّ، والمكّي، والمدني، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ. وأمّا في الباب الثاني وهو بعنوان: (آليات النصّ) فيعرض علاقة النصّ بالنصوص الأخرى في الثقافة من جهة، وآلياته في إنتاج الدلالة من جهة أخرى، ويندرج تحت هذا الباب مسائل: الإعجاز،
__________
(1) نصر حامد أبو زيد، الخطاب الديني: رؤية نقدية، ص: (137136).
(2) نفسه، ص: (144143).(1/138)
والمناسبة بين الآيات والسور، والغموض والوضوح، والعامّ والخاصّ، والتفسير والتأويل. وفي الباب الثالث يحاول أبو زيد الكشف عن التحوّل الذي أصاب مفهوم النصّ ووظيفته، والذي صارت له السيادة في الثقافة العربيّة الإسلاميّة حتّى عصورها الحديثة. مع وقفة خاصّة عند فكر أبي حامد الغزالي ودوره في الكشف عن آليّة التعامل مع الخطاب الديني.
وجملة أفكار هذا الكتاب أنّ الوحي عمليّة اتّصال من الله إلى الرسول عبر الملك ثمّ يتحوّل الرسول عليه السلام بعد ذلك إلى مرسل للمخاطبين (الناس) باعتباره المتلقّي الأوّل للرسالة، وأنّ تصنيف القرآن إلى مكّي ومدني هو ثمرة للتفاعل مع الواقع الحيّ التاريخي، وأنّ التنجيم يتضمّن معنى الواقعيّة والتدرّج بالإنسان، وإنّ استيعاب النصّ للوقائع الجديدة يستند إلى دوال إمّا في بنيته وإمّا في السياق الاجتماعي لخطابه، أي في أسباب النزول وهي، كما يرى أبو زيد، من أهمّ العلوم الكاشفة عن علاقة النصّ بالواقع كما أنّ الناسخ والمنسوخ دليل آخر على جدليّة العلاقة بين الوحي والواقع. وإذا كان انصراف العلماء موجّها إلى البحث عن إعجاز القرآن في تأليفه، فإنّ له إعجاز آخر خارج النّص من حيث تعامله مع الواقع ومعالجته له، وأما إعجازه في داخله فنراه في المناسبة والتأليف والنظم، وآلياته في التعبير عن الثقافة عبر مباحث الغموض والوضوح التي آثارها علماء القرآن، وعبر العموم والخصوص، فهذه هي آليّات النصّ في إنتاج الدلالة، ويتحدّث بعد ذلك عن آليّات التأويل وهي الاستناد إلى اللّغة وإلى أدوات الفقه وكذلك إلى مصلحة المخاطبين باعتبار النّص جاء معبّرا عنها (1).
وأمّا في (النصّ: السلطة الحقيقيّة) فيذهب أبو زيد إلى أنّ النصّ القرآني نصّ يمتلك كلاما وليس نصّا تنطقه اللّغة وإنّ كان يستمدّ مقدرته القوليّة أساسا من اللّغة.
والمقصود بمقدرته القوليّة مقدرته من حيث هو نصّ موجه للناس في ثقافة معيّنة، وليس المقصود مقدرته من حيث طبيعة المتكلم به سبحانه وتعالى ويؤكّد على تشكّل النّص ضمن
__________
(1) نصر حامد أبو زيد، مفهوم النّص: دراسة في علوم القرآن، ط 3، المركز الثقافي الملكي، بيروت / 1996.(1/139)
إطار الثقافة واللّغة، ثمّ تشكيله بعد للثقافة، بحيث أصبح الإطار الذي تقاس عليه النصوص الأخرى وتتحدّد به مشروعيّتها.
وتحت عنوان (النّص ومشكلات السياق) يرى أنّ تأويل النصّ يتطلّب اكتشاف الدلالة من خلال تحليل مستويات السياق جميعا. ويعيب على التيّارات الدينيّة تجاهلها وإهدارها للسياق في تأويل الخطاب الديني، ثمّ يتناول التفسير العلمي للنصوص الدينيّة، وهو الموضوع الكاشف عن أهميّة السياق الثقافي وخطورة إهداره، وموضوع الحاكميّة وهو الموضوع الكاشف عن خطورة إهدار السياق التاريخي (سياق أسباب النزول) إلى جانب خطورة إهدار السياق السردي اللّغوي للنصوص موضوع التأويل، ثمّ يعرض الآثار الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة لتجاهل الخطاب الديني لهذا المستوى أو ذاك من مستويات السياق. (1)
ويقترح أبو زيد مجموعة من مستويات السياق التي يجدر الوقوف عندها في عمليّة التأويل، وهي: السياق الثقافي والاجتماعي، والسياق الخارجي (سياق التخاطب)، والسياق الداخلي (علاقات الأجزاء)، والسياق اللّغوي (تركيب الجملة والعلاقات بين الجمل)، وأخيرا سياق القراءة أو سياق التأويل (2).
وإنّ الوقوف عند هذه المستويات باعتبار النصّ الديني نصّا لغويّا لا يعني إغفال الطبيعة النوعيّة لخصائص النصّ فالنصّ القرآني يستمدّ خصائصه النصيّة المميّزة له من حقائق بشريّة دنيويّة اجتماعيّة ثقافيّة لغويّة في المحلّ الأوّل. إنّ السياق الثقافي يستدعي الاجتماعي بما هو مؤسّس عليه، وإنّ كان له استقلاله وسياقه وقوانينه المستقلّة نسبيّا عنه.
ويقصد بالسياق الثقافي للنصوص اللغويّة كلّ ما يمثّل مرجعيّة معرفيّة لإمكانيّة التواصل اللّغوي، وبعبارة أخرى إذا كانت اللّغة تمثّل مجموعة من القوانين العرفيّة الاجتماعيّة بدءا من المستوى الصوتي وانتهاء بالمستوى الدلالي، فإنّ هذه القوانين تستمدّ
__________
(1) نصر حامد أبو زيد، النصّ: السلطة الحقيقية، ص (924).
(2) نفسه، ص 96.(1/140)
قدرتها على القيام بوظيفتها من الإطار الثقافي الأوسع بالمعنى الذي شرحناه، لذلك لا يكفي المتلقّي معرفة قوانين اللّغة لضمان عمليّة التواصل، ولا بدّ بالإضافة إلى ذلك أنّ يكون هناك إطار معيشي حياتي يمثّل مرجعيّة التفاهم والتواصل، وهذه المرجعية المعرفية هي الثقافة بكلّ مواضعاتها وأعرافها وتقاليدها، وهي التي تتجلّى في اللّغة وقوانينها بطريقة لم يتمكّن (علم اللّغة الاجتماعي) رغم إنجازاته الهامّة من رصدها رصدا دقيقا بعد.
وتعدّ التصوّرات والمفاهيم جزءا من منظومة الثقافة، ولذا فإنّ اللّغة تشير إليهما بطريقة رمزيّة. وتزداد درجة كثافة الإحالة الرمزيّة في اللّغة إذا انتقلنا من مستوى الألفاظ المفردة إلى مستوى التركيب المنتج للدلالة، وإنّ النصوص لا تفصح عن نفسها إلّا من خلال السياق الثقافي (1). وإنّ الفرق بين النظام اللّغوي ونظام النصّ هو المحدّد لخصائص الرسالة، وهو نابع أساسا من أيديولوجيّة المرسل، ويمثّل النظام اللّغوي للمتلقّي الإطار التفسيري للرسالة، ويرى أنّه لا يمكن فهم النّص الديني والقرآن خاصّة خارج إطار السياق الثقافي المعرفي للوعي العربي في القرن السابع (2).
وبالنسبة للقرآن الكريم، فإنّ سياق التخاطب الأساسي فيه، وهو أهمّ مستويات السياق الخارجي، يجعل محور الخطاب (أعلى / أدنى). وعلى أساس هذا المحور تتحدّد الوظيفة التعليميّة بوصفها سمة أساسيّة للنّص، ويؤكّد هذه السمة أنّ محور التركيز غالبا هو المتلقّي، وإن لم يمنع هذا من وجود المتكلّم بشكل يطغى على المخاطب في بعض الأجزاء. ويرى أنّ سياق التنزيل راعى أحوال المخاطبين خلال حقبة زمنيّة تربو على العشرين عاما. وأنّ سياق التنزيل يمكن قراءته في موضوعات علوم القرآن (المكّي والمدني) وأسباب النزول، وهو ما يميّز الخطاب القرآني خلال مرحلتي الدعوة الإسلاميّة. ثمّ يسير إلى السياقات الداخليّة للنصّ القرآني من حيث سياق الترتيب والمناسبة والروابط
__________
(1) نصر حامد أبو زيد، النص: السلطة الحقيقية، ص 98.
(2) نفسه، ص 100.(1/141)
والعلاقات وأنّ هذا النصّ من خلال تركيبه يقدّم رؤية للعالم تحتاج إلى بحث ينطلق من تحليل مستويات السياق، وليس من خلال القفز عنها (1).
تعقيب:
ربّما يجدر بنا أنّ نناقش أفكار الكاتبين كلّ على حدة، وربّما يتقاربان في أكثر من موقع فتصبح المناقشة أكثر ضبطا، ولكنّهما يفترقان كذلك في مواضع عديدة. وربّما يكون الافتراق الرئيس بينهما أنّ كلا منهما قد صدر عن غاية مختلفة، ومع ذلك فلن أناقش مقولات الكاتبين بهذه الطريقة، وإنّما سأعرض وجهة نظري بعد أن عرضت مجمل وجهة نظر كلّ واحد منهما بإيجاز ولكن باستيفاء. إنّ المستقري للبحث الدلالي عند الأصوليّين ليلمح سمات اتّجاهات ثلاثة تتمايز فيما بينها نظريّا ولكنّها تتلازم عمليّا على صعيد البحث والممارسة. فالاتجاه الأوّل يرتهن في وجوده الى البعد الحضاري، وذلك لأنّ أثر هذا البعد كان بيّنا في أمرين: الأوّل ويتعلق باللّغة نفسها، والثاني يتعلّق بالدرس اللغوي، أمّا الأوّل فقد تجلّى في التطوّر الدلالي الذي أصاب اللّغة، والثاني وقد تجلّى في جعل الدرس لهذه الظاهرة مرتبطا ضرورة بالنسق الحضاري ذاته فتطوّر اللّغة دلالة لا يكون إلّا نتيجة لتطوّر استعمالها حضارة. وذلك لأنّ للحضارة وخاصّة الإسلاميّة وجودا يقوم على اللّغة. وهي أيضا دحض لمفاهيم، وخلق لأخرى بعد أن لم تكن، وإعادة إبداع لبعضها الثالث في صيغ جديدة ثمّ إنّها انتقال بالإنسان من كائنه الشخصي إلى كائنه النصيّ إن جاز التعبير. فهي فعل تركيبيّ يصل أعمق الأعماق في إحداث الوعي لغة، وتشكيلي ليطال الظاهرة في إحداث تجليّاتها الماديّة نصّا، وإنّها بين هذا وذاك لتجعل للمعنى حضورا دائما في حضور وعي الإنسان بالعالم. وضرورة مستمرّة ترافق إعادة تشكيل العالم لنفسه على صور مختلفة، ومن هنا فقد كان فعلها قدرة خلّاقة تخترق الواقع بكلّ ما فيه لتعيده نشأة أخرى.
__________
(1) نصر حامد أبو زيد، النصّ: السلطة الحقيقة، ص: 107.(1/142)
وإنّنا لنجد من زاوية رؤية أخرى أنّ الحضارة العربيّة عبر علاقتها العضويّة باللّغة قد تحوّلت هي نفسها من نسق تقول اللّغة فيه ما تقول، إلى فعل لغوي يقول النّص القرآني فيه كلّ ممكناته الدلاليّة التي لا تتناهى. والاتجاه الثاني الذي يرتهن في وجوده إلى الوجود الاجتماعي للّغة ولقد تجلّى هذا عندهم في النظر إلى الخطاب موزّعا على أنواعه وأجناسه التي يحقّق فيها نفسه وينتج من أجلها دلالاته. فلدينا أولا الخطاب التداولي ممثّلا في الكلام اليومي الاستهلاكي ويضع هذا النوع من الخطاب الدلالة في قلب السياق الاجتماعي، وذلك لأنّ هدفه يقوم على التواصل. وهو يطلب لكونه أداة تقوم بنقل الأفكار. ولكي يؤدّي رسالته فكرة ودلالة ومضمونا ومعنى محتاج أن يكون مكتسبا لتواضع المرسل والمتلقّي عليه بشكل ضمني وسابق على وجوده، فالنظام المستخدم فيه يجب أن يخضع الى معياريّة النظام المتعارف عليه بين المتكلّمين، أي يجب أن يكون ممّا يقره السياق الاجتماعي ويتعارف عليه. ولدينا ثانيا الخطاب الأدبي ممثّلا بكلّ التراث الفنّي والجمالي، وهو يقوم على غير ما يقوم عليه الخطاب التداولي وهذا النوع من الخطاب ليضع الدلالة في قلب السياق اللّساني، لأنّ هدفه لا يقوم على التواصل إلّا بشكل غير مباشر. والكلام فيه غالبا يطلب لذاته. وهو غير محتاج لتواضع تفضيليّ بين المرسل والمتلقّي وحاجته إلى نظامه الخاص وسياقه الخاص أولى ولذا فالإشارات اللّسانيّة المتضمّنة فيه إذ يلتقطها المتلقّي فهو يتصرّف بها على أنّها إشارات حرّة أو مفتوحة. فإذا أضفنا إلى هذين الخطابين الخطاب القرآني الذي يجمع بينهما تداولا وإبداعا ويتجاوزهما معا في الوقت نفسه إلى هويّة خاصّة به وهو يرتهن في وجوده إلى وجود القرآن نفسه، وهو يختزل كلّ ما فيه بكلمة واحدة هي التوحيد. هي أصل كلّ دلالة فيه ومنتهى كلّ توليد فيه فإننا نستطيع القول إنّ هذا النّص أنشأ حضارة يمكن أن نسمّيها حضارة النّص كما سمّاها أبو زيد، وإنّنا يمكن أن نرى في هذا الخطاب: الدلالة التاريخيّة ونقصد بها الدلالة التي ثبّتها المكتوب في النّص وصيّرها إشارة يدلّ بها على سياقه الخارجي. والنصّ بهذا يعدّ حزمة إشاريّة تتّصل دلالاتها بأسباب النزول وزمن الحدوث. ويمثل النظر إلى النّص بهذا المعيار الجانب
الموضوعي الإدراكي منه، ولكن على مستويات أخرى تظهر تداوليّا، ولذا فإنّ ذات القارئ المتحوّلة به تتدخّل أيضا في إعطاء تاريخيته معنى مضافا غير المعنى المتّصل بأسباب النزول وزمن الحدوث، ويمكن أن نرى في هذا الخطاب الدلالة النصيّة، والنّص القرآني يمتاز عن بقيّة النصوص بفرادة تماسكه وكيفيّة تماسكه، فهو يقدّم نصوصا متداخلة في إطار السورة الواحدة كما يقدّم نفسه بوصفه نصّا واحدا في إطار السور المتعددّة. ولكنه أيضا يرتدّ إلى بؤرة دلاليّة واحدة هي بؤرة التوحيد.(1/143)
وإنّنا لنجد من زاوية رؤية أخرى أنّ الحضارة العربيّة عبر علاقتها العضويّة باللّغة قد تحوّلت هي نفسها من نسق تقول اللّغة فيه ما تقول، إلى فعل لغوي يقول النّص القرآني فيه كلّ ممكناته الدلاليّة التي لا تتناهى. والاتجاه الثاني الذي يرتهن في وجوده إلى الوجود الاجتماعي للّغة ولقد تجلّى هذا عندهم في النظر إلى الخطاب موزّعا على أنواعه وأجناسه التي يحقّق فيها نفسه وينتج من أجلها دلالاته. فلدينا أولا الخطاب التداولي ممثّلا في الكلام اليومي الاستهلاكي ويضع هذا النوع من الخطاب الدلالة في قلب السياق الاجتماعي، وذلك لأنّ هدفه يقوم على التواصل. وهو يطلب لكونه أداة تقوم بنقل الأفكار. ولكي يؤدّي رسالته فكرة ودلالة ومضمونا ومعنى محتاج أن يكون مكتسبا لتواضع المرسل والمتلقّي عليه بشكل ضمني وسابق على وجوده، فالنظام المستخدم فيه يجب أن يخضع الى معياريّة النظام المتعارف عليه بين المتكلّمين، أي يجب أن يكون ممّا يقره السياق الاجتماعي ويتعارف عليه. ولدينا ثانيا الخطاب الأدبي ممثّلا بكلّ التراث الفنّي والجمالي، وهو يقوم على غير ما يقوم عليه الخطاب التداولي وهذا النوع من الخطاب ليضع الدلالة في قلب السياق اللّساني، لأنّ هدفه لا يقوم على التواصل إلّا بشكل غير مباشر. والكلام فيه غالبا يطلب لذاته. وهو غير محتاج لتواضع تفضيليّ بين المرسل والمتلقّي وحاجته إلى نظامه الخاص وسياقه الخاص أولى ولذا فالإشارات اللّسانيّة المتضمّنة فيه إذ يلتقطها المتلقّي فهو يتصرّف بها على أنّها إشارات حرّة أو مفتوحة. فإذا أضفنا إلى هذين الخطابين الخطاب القرآني الذي يجمع بينهما تداولا وإبداعا ويتجاوزهما معا في الوقت نفسه إلى هويّة خاصّة به وهو يرتهن في وجوده إلى وجود القرآن نفسه، وهو يختزل كلّ ما فيه بكلمة واحدة هي التوحيد. هي أصل كلّ دلالة فيه ومنتهى كلّ توليد فيه فإننا نستطيع القول إنّ هذا النّص أنشأ حضارة يمكن أن نسمّيها حضارة النّص كما سمّاها أبو زيد، وإنّنا يمكن أن نرى في هذا الخطاب: الدلالة التاريخيّة ونقصد بها الدلالة التي ثبّتها المكتوب في النّص وصيّرها إشارة يدلّ بها على سياقه الخارجي. والنصّ بهذا يعدّ حزمة إشاريّة تتّصل دلالاتها بأسباب النزول وزمن الحدوث. ويمثل النظر إلى النّص بهذا المعيار الجانب
الموضوعي الإدراكي منه، ولكن على مستويات أخرى تظهر تداوليّا، ولذا فإنّ ذات القارئ المتحوّلة به تتدخّل أيضا في إعطاء تاريخيته معنى مضافا غير المعنى المتّصل بأسباب النزول وزمن الحدوث، ويمكن أن نرى في هذا الخطاب الدلالة النصيّة، والنّص القرآني يمتاز عن بقيّة النصوص بفرادة تماسكه وكيفيّة تماسكه، فهو يقدّم نصوصا متداخلة في إطار السورة الواحدة كما يقدّم نفسه بوصفه نصّا واحدا في إطار السور المتعددّة. ولكنه أيضا يرتدّ إلى بؤرة دلاليّة واحدة هي بؤرة التوحيد.
وأمّا بروز معنى ما وتغليبه على آخر، واختيار عنصر دال وتفضيله على سواه فأمر يختلف من عصر إلى عصر، لا بحسب التاريخ بوصفه مفهوما تعاقبيا للأحداث، ولكن بحسب الزمن بوصفه مفهوما آنيّا ملازما للأحداث. وإنّه ليختلف أيضا من قارئ إلى قارئ بسبب الظروف المحيطة، والقضايا المثارة، والاهتمامات الذاتيّة، ومع ذلك فإنّ اختيار عنصر من العناصر الدّالة على وجه من وجوه المعنى والتركيز عليه إنما يتم في إطار النظام القرآني ونسقه وليس على إطلاق الأمر، ألا وإنّه لنظام قائم في الوعي الباطن للكائن النصّي المتحوّل به. وبسبب هذه الإمكانات في بروز المعنى على اختلاف العصور والأشخاص فإنّ نصوص بعض الوحدات القرآنية يمكن أن تدخل في نموذجين أو أكثر من نماذج العلاقة ضمن ظرف معين. وهذه القراءة لا تلغي العناصر غير اللّغوية كالتاريخ وأسباب النزول وإنّما تحوّلها إلى عناصر لغويّة بحيث تبدو منتجا دلاليّا من منتجات النّص القرآني، وذلك لأن اللّغة عند ما تغادر نظامها لتدخل في نظام النّص فإنّها لا تبقى أداة ناقلة، ولكنّها تصبح ذاتا مبدعة لما تقول، فهي تحوّل العناصر غير اللغويّة لصالح النّص نفسه، الذي لا يعود معطى تاريخيّا أو ناتجا ثقافيّا ينتمي إلى الماضي، ولكنّه يؤسّس التاريخ ويؤثّر فيه، ويصنع الثقافة ويتجاوزها.
إنّ دلالة النّص تتجه إلى إقامة علاقات بنيويّة مع المحيط الخارجي، غير أنّه لا يمكن لعملها أن يفسّر إلّا من داخل النّص نفسه. والقرآن يسمح بنظام التبادل المستمر بين البنية من جهة، والحدث من جهة أخرى، وبين اللّغة بوصفها نظاما والكلام بوصفه إنجازا.
والقرآن بوصفه كلاما دالّا على ذاته ودالّا على مبدعه، يضع نفسه في قلب التواصل اللساني، فعمليّة الكلام في الخطاب القرآني تحتوي على عناصر التواصل الثلاثة:(1/144)
إنّ دلالة النّص تتجه إلى إقامة علاقات بنيويّة مع المحيط الخارجي، غير أنّه لا يمكن لعملها أن يفسّر إلّا من داخل النّص نفسه. والقرآن يسمح بنظام التبادل المستمر بين البنية من جهة، والحدث من جهة أخرى، وبين اللّغة بوصفها نظاما والكلام بوصفه إنجازا.
والقرآن بوصفه كلاما دالّا على ذاته ودالّا على مبدعه، يضع نفسه في قلب التواصل اللساني، فعمليّة الكلام في الخطاب القرآني تحتوي على عناصر التواصل الثلاثة:
المتكلّم الخطاب المستمع وهو يتضمّن دلالة الكلام على منشئه، ودلالة الكلام على ذاته، ودلالة الكلام على متلقيه مع الأخذ بعين الاعتبار جلال المرسل في الخطاب القرآني، ولذا وجدنا علماء الأصول يتعاملون مع دلالة الخطاب القرآني من مبدأ المطلق والنسبي، والتام والناقص، والواسع والمحدود، والدائم والتاريخي، والزماني والآني فالمتكلم هنا هو الله وهو المطلق وهو الكامل، وخطابه يكون على مثاله فهو تام لغة ومطلق دلالة، وإنّه يكون من أجل هذا دائم التحقّق كلاما في انتسابه إلى قائله، ولكنّ الكلام إذ يغادر مرسله يكون أيضا على مثال متلقيه. وإنّه لمن أجل هذا يأخذ طابعا غير الطابع الذي يكون عليه مع مرسله في تمامه المطلق. وهذا يتبدّى مثلا في صنيع المفسّرين والفقهاء.
وقد أشار أكثر من ناقد ودارس إلى إشكاليّات القراءة والمنهج في التعامل مع النّص الأدبي، فيرفض (محمد منيس) مثلا أن يعامل النصّ الأدبي كعالم ذرّي مغلق على نفسه (1). وأكّد محمّد رشيد ثابت في دراسته لحديث عيسى بن هشام على ضرورة الانتباه إلى الجذور الاجتماعيّة والتاريخيّة التي أسهمت في إنتاج النصّ، ويرى أنّ الشكل الأدبي نفسه تمليه الظروف الاجتماعية والتاريخية التي نشأ فيها (2)، وأمّا توفيق الزيدي فيقول: إنّ النّص وإن كان له عالمه الخاص فإنّ بنية هذا العالم مشروطة بالعالم الخارجي، فالكاتب ليس وحده المؤلف، بل يشترك معه المجتمع والتاريخ. (3) كما يأخذ الأستاذ مالك بن نبي على جهود العلماء المسلمين أنّها لم تحدّد المنهج الاجتماعي الذي تعامل به القرآن مع
__________
(1) فاضل ثامر، مدارات نقديّة في إشكاليّة النقد والحداثة والإبداع، ط 1، وزارة الإعلام / بغداد / 1987، ص (223222).
(2) فاضل ثامر، اللّغة الثانية، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، 1994، ص: 43.
(3) توفيق الزيدي، اللّسانيّات والنقد الحديث، ط 1، تونس، 1984، ص: 148.(1/145)
الأفكار والحياة والثقافة رغم أنّهم لم يغفلوا الجانب الاجتماعي في التفسير. (1) إنّ الناقد أو القارئ لا بدّ أنّ يطوّر منهجا يفهم النّص من خلاله ضمن سياقاته الاجتماعيّة والتاريخيّة والإيديولوجيّة والفلسفيّة المختلفة. ولا بدّ أنّ يوازن هذا المنهج بين سلطة النصّ وبقيّة السلطات ويكشف عن أسراره البنيويّة والجماليّة ودلالاته الاجتماعيّة.
__________
(1) مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، ص: 58.(1/146)
الفصل الثاني العلاقة بين النصّ والسّياق في قراءات الأوائل
* المبحث الأوّل: العلاقة بين نصّ سورة البقرة وسياقها:
قراءة في كتب علوم القرآن.
* المبحث الثاني: العلاقة بين نصّ سورة البقرة وسياقها:
قراءة في كتب التفسير.
* المبحث الثالث: العلاقة بين نصّ سورة البقرة وسياقها:
قراءة في كتب أصول الفقه.
* المبحث الرابع: العلاقة بين نصّ سورة البقرة وسياقها:
قراءة في كتب إعراب القرآن.(1/147)
المبحث الأول العلاقة بين نصّ سورة البقرة وسياقها قراءة في كتب علوم القرآن
إضاءات حول النصّ
سورة البقرة، سورة مدنيّة، عدد آياتها مائتان وستّ وثمانون آية، وهي السورة الثانية بحسب الرسم القرآني، وهي السورة الأولى من قسم الطوال (9) وممّا ورد في فضلها. أخرج الإمام أحمد والإمام مسلم حديثا طويلا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه = اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنّهما يأتيان يوم القيامة كأنّهما غمامتان يحاجّان عن أهلهما = ثم قال: اقرءوا البقرة فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة = (8) (1).
وفي حديث آخر يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: = سورة البقرة سنام القرآن وذروته نزل مع كلّ آية منها ثمانون ملكا، واستخرجت = الله لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم = من تحت العرش، فوصلت بها = (2). وفي حديث آخر = لا تجعلوا بيوتكم قبورا، فإنّ البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان = (3)، وعن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه
__________
(9) أحاديث وآثار كثيرة ذكرت السبع الطوال، وقد عقد ابن كثير فصلا لذلك في تفسيره عنون له ب (ذكر ما ورد في فضل السبع الطوال). والسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف والأنفال ومعها براءة لأنهما بحكم السورة الواحدة، ولذلك لم يفصل بينهما الصحابة ببسم الله الرحمن الرحيم.
(8) البطلة تعني السحرة، ومعنى لا تستطيعهما أي لا يمكنهم حفظها، وقيل لا تستطيع النفوذ في قارئها. انظر لسان العرب مادة بطل، وابن كثير، 1/ 30.
(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج 1/ ص 31.
(2) نفسه.
(3) نفسه، ص 32.(1/149)
وسلّم بعثا وهم ذوو عدد فاستقرأهم، فاستقرأ كلّ واحد منهم ما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سنا، فقال: = ما معك يا فلان؟ = فقال: = معي كذا وكذا وسورة البقرة =، فقال: أمعك سورة البقرة؟ قال: نعم. قال: = اذهب فأنت أميرهم = (1).
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: = لكلّ شيء سنام، وإنّ سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيّدة آي القرآن آية الكرسي = (2). وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: = أتى النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) ملك فقال: = أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: الفاتحة وخواتيم سورة البقرة = (3) ومن أسمائها: فسطاط القرآن، وقد كان نفر من الصحابة يسمّيها كذلك (4).
وتتألّف سورة البقرة من مقدّمة وثلاثة أقسام وخاتمة، أمّا المقدّمة فتتألّف من الآيات (201) وتبدأ بعد الأحرف (الم) بتقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: متّقين، وكافرين، ومنافقين. وكلام بعد ذلك عن المتّقين وصفاتهم، ثمّ عن الكافرين وأوضح علاماتهم، ثمّ عن المنافقين وحقيقتهم وعلاماتهم وتوضيحات في شأنهم. والأحرف (الم) تعدّ آية، ووصف المتّقين في أربع آيات، وآيتين في وصف الكافرين، وثلاث عشرة آية في المنافقين، وقال مجاهد في هذا: = أربع آيات من سورة البقرة في نعت المتّقين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين = (5).
وأمّا القسم الأوّل فيمتدّ من الآية الحادية والعشرين إلى نهاية الآية السابعة والستين بعد المائة، مبتدئا بدعوة الناس لسلوك طريق العبادة والتوحيد كطريق موصل إلى التقوى، ثم يسير القسم ليناقش قضيّة الكفر، وليعمّق قضيّة السير في التقوى من خلال
__________
(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ص 33.
(2) نفسه، ص 33.
(3) السيوطي، الإتقان، 1/ 86.
(4) نفسه، 1/ 119.
(5) الواحدي، أسباب النزول، ص 11.(1/150)
تأكيد طاعة الأمر، واجتناب النهي، ومن خلال عرض الآثار الخطيرة لمخالفة الأوامر، والوقوع في النهي، ومن خلال عرض نماذج الاستقامة في قصّة إبراهيم عليه السلام. ولا ينتهي القسم إلّا وقد تأكدت قضيّة التقوى وقضيّة السير فيها وقضيّة العبادة والتوحيد ومظاهر ذلك.
ثمّ يأتي القسم الثاني الآيات من (202168) فيؤكّد قضيّة التقوى، ويرسم طرائق التحقّق بها على مستوى الفرد، وعلى مستوى الأمّة، ويعمّق مفهوم الشكر، وطرائقه، ولا ننتهي من هذا القسم إلّا وقد توضّحت قضيّة التقوى، وقضيّة العبادة، وقضيّة الشكر وقضيّة الصراط المستقيم، وقضيّة الانحراف عنه، واتجاهات المنحرفين وخلال ذلك يتمّ الكلام عن الإيمان وأركان الإسلام: الإيمان، والصلاة، والزكاة والصوم، والحجّ، فتصبح أرضية النفس والقلب والعقل جاهزة للسير في الإسلام كلّه. وهاهنا يأتي القسم الثالث الآيات من (284202) داعيا إلى الدخول في الإسلام كلّه، فيعرض قضايا في الحرب والعلاقات الاجتماعيّة في محيط الأسرة وفي قضايا السياسة والاقتصاد. ثمّ تأتي خاتمة السورة وهي تنتظم الآيتين الأخيرتين في السورة، وقد ورد فيهما أكثر من نصّ يخصّهما بالذكر، وتربط هذه الخاتمة كلّ شيء بقضايا الإيمان والتوجّه إلى الله معلّمة في ذلك مربّية عليه.
أالسياق المقامي في سورة البقرة
ويتعلّق هذا القسم من هذا المبحث برصد ملاحظات أصحاب كتب علوم القرآن التي تتعلّق بالسياق الخارجي المحيط بسورة البقرة، أو السياق التاريخي أو السياق المقامي أو سياق الحال على اختلاف التسميات لدى الدارسين، ونقصد بالسياق المقامي هنا جميع الظروف النفسيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة، وأحوال المخاطبين، وبيئة الخطاب المحيطة بالنصّ. وقد عالج علماؤنا الأوائل كلّ ما يتّصل بظروف التنزيل وملابساته. ونقصد بظروف التنزيل: زمانه، ومكانه، وتنزّلات سورة البقرة ومراحلها، وأسباب النزول، والمخاطبون، وموضوع الخطاب.(1/151)
1 - مكان النزول وزمانه:
روى الطبراني في الكبير أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: = أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة: مكّة والمدينة والشام = ويقصد بالشام بيت المقدس = (1)، أمّا سورة البقرة فكلّها مدنيّة، واستثني منها آيتان {= فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا =} (2) و {= لَيْسَ عَلَيْكَ هُدََاهُمْ =} (3). وهي أوّل سورة نزلت في المدينة (4).
وحول مسألة المدنيّ والمكّي أثيرت مسائل عديدة منها ربط مكان النزول بطبيعة المخاطبين وأسلوب الخطاب فعدّوا ما كان فيه {(يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)} مدنيّا، وما كان فيه {(يََا أَيُّهَا النََّاسُ)} مكيّا، وقال آخرون: = هذا القول إن أخذ على إطلاقه فيه نظر فإنّ سورة البقرة مدنيّة وفيها {= يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ =} (5). و {= يََا أَيُّهَا النََّاسُ كُلُوا مِمََّا فِي الْأَرْضِ =} (6)
وقال مكّي: = هذا إنّما هو في الأكثر وليس بعامّ، وفي كثير من السور المكيّة = يا أيّها الذين آمنوا = (7). ويدعو آخرون إلى حصر هذا التعميم فيما فيه نقل، ويضعف أن يكون السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكّة إذ يجوز خطاب المؤمنين بصفتهم وباسمهم وجنسهم، ويؤمر غير المؤمنين بالعبادة كما يؤمر المؤمنون بالاستمرار عليها والازدياد منها = (8).
__________
(1) السيوطي، جلال الدين، ترتيب سور القرآن، ط 1، دار ومكتبة الهلال / بيروت / 1986، ص 47.
(2) سورة البقرة، الآية (109).
(3) نفسه، الآية (272).
(4) السيوطي، الإتقان، 1/ 87.
(5) سورة البقرة، آية (21).
(6) نفسه، الآية 168.
(7) السيوطي، الإتقان، 1/ 27.
(8) نفسه، 1/ 36.(1/152)
ويربط آخرون تصنيف المكّي والمدني بموضوع الخطاب = فكل شيء نزل من القرآن فيه ذكر الأمم والقرون فإنّما نزل بمكّة، وما كان من الفرائض والسنن فإنّما نزل بالمدينة = (1). وفي حديث جامع يقول الجعبري: = لمعرفة المكّي والمدني طريقان: سماعي وقياسي، فالسماعي ما وصل إلينا نزوله بأحدهما، والقياسي كلّ سورة فيها {(يََا أَيُّهَا النََّاسُ)} فقط، أو (كلّا) أو أوّلها حرف تهجّ سوى الزهراوين (9) والرعد، وفيها قصة آدم وإبليس سوى البقرة فهي مكيّة. وكلّ سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية مكيّة، وكلّ سورة فيها فريضة أو حدّ فهي مدنيّة = (2).
وإذن فقد كان أمام علماء القرآن طريقان: الأوّل أن يكون مكان النزول معروفا واضحا منقولا وحينئذ كانوا ينظرون إلى أثر مكان النزول في صياغة النصّ وأسلوبه وطبيعة المخاطبين، وموضوع الخطاب، أو أن يلتبس مكان النزول على العلماء فيحاولون تبيّنه من خلال أسلوب الخطاب وموضوعه، والمخاطبين فيه. وكلا الطريقين يفضي إلى فهم واضح لجدليّة العلاقة بين النصّ والسياق، فسياق الحال أو المقام يبدو جليّا في ثنايا النصّ، والدلالة التاريخيّة للنصّ، ونقصد بها تلك الدلالة التي ثبّتها المكتوب في النصّ وصيّرها إشارة يدلّ بها لا على نفسه، ولكن على سياقه الخارجي وهي دلالة ذات كينونة إشاريّة تتّصل دلالاتها بأسباب النزول وزمنه ومكانه. وقد اهتمّ العلماء لذلك بها باعتبارها جزءا من الدلالة العامّة للنصّ.
وممّا يتّصل بالمكان كذلك ما أسماه علماء القرآن بالحضري والسفريّ.
والحضري ما نزل في مكان إقامة، والسفريّ ما نزل في سفر وقد تتّبع السيوطي الحضري والسفريّ في سورة البقرة ومنها: {= وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقََامِ إِبْرََاهِيمَ مُصَلًّى =} (3) نزلت بمكّة عام
__________
(1) السيوطي، الإتقان، 1/ 34.
(9) الزهراوان هما سورتا البقرة وآل عمران.
(2) نفسه، 1/ 36.
(3) سورة البقرة، الآية (125).(1/153)
حجّة الوداع، وعن جابر قال: = لمّا طاف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال له عمر:
هذا مقام أبينا إبراهيم الخليل؟ قال: نعم، قال: أفلا نتّخذه مصلّى؟ فنزلت = (1). ومنه {= وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهََا =} (2). روى الزهري = أنّها نزلت في عمرة الحديبية = وعن السدّي = أنّها نزلت في حجّة الوداع = (3). ومنها: {= وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلََّهِ =} (4)
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن صفوان بن أميّة قال: = جاء رجل إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم مضمّخ بالزعفران عليه جبّة فقال: كيف تأمرني في عمرتي؟ فنزلت. فقال: أين السائل عن العمرة؟ ألق عنك ثيابك ثم اغتسل = (5). ومنه: {= فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ =} (6) نزلت بالحديبية (7). ومنه: {= آمَنَ الرَّسُولُ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ =} (8) قيل نزلت يوم فتح مكّة (9). ومنه: {= وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ =} (10) الآية نزلت بمنى عام حجّة الوداع (11). وليس الهدف من هذا المبحث حصر الآيات التي نزلت بمكّة، والتي نزلت في المدينة، وتلك التي نزلت في الحضر أو في السفر. بل إنّ الهدف كما أسلفنا هو ربط الآيات (النصّ) بسياق تنزّلها، وتفاعلها مع الواقع. فنحن نرى حركة
__________
(1) السيوطي، الإتقان، 1/ 36.
(2) سورة البقرة، الآية (189).
(3) السيوطي، الإتقان، 1/ 36.
(4) سورة البقرة، الآية (196).
(5) السيوطي، التحبير في علم التفسير، ص 130.
(6) سورة البقرة، الآية 196.
(7) السيوطي، التحبير في علم التفسير، ص 130.
(8) سورة البقرة، الآيتان (286285).
(9) السيوطي، التحبير في علم التفسير، ص 131.
(10) سورة البقرة، الآية (281).
(11) السيوطي، التحبير في علم التفسير، ص 131.(1/154)
الشخوص وتنقّلهم واستقرارهم، ونحن نقرأ النصّ قراءة جديدة. ونستحضر الواقع الخاص للنص ضمن قراءة ظروف المكان، فتنزّل النصّ في المدينة (مستقرّ الدولة) يختلف عن تنزّله في الحديبية حيث أجواء الصلح مع قريش، واستشعار زيارة البلد الذي أخرجوا منه عنوة بعد غياب، وهكذا
وغنيّ عن القول ما لزمن الخطاب من صلة بإيضاح ملابسات ظروفه المختلفة، وقد يتناقض حديثنا هنا عن زمن النزول مع الحديث عن اللوح المحفوظ، وقدم القرآن وغيره ممّا أثاره علماء الإسلام. وقد نوضح موقفنا هنا بالقول إنّ زمن الخطاب هنا قد يأخذ أبعادا ثلاثة: الزمن المطلق، والزمن العام، والزمن الخاصّ فالزمن المطلق ما يتعلّق بهذا القرآن الكريم في جانبه الغيبي، والزمن العامّ هو ما يتّصل بتفاعل الشخوص مع هذا النصّ في كلّ مكان أو زمان، وفيه نرى النصّ في زمن تلقّيه لا في زمن نزوله، والزمن الخاصّ وهو يتّصل بالدلالة التاريخيّة التي ذكرناها في الحديث عن مكان النزول. وهي ما يتّصل بزمن الحدوث، وأسباب النزول وهذا الزمن الخاصّ رصده أصحاب علوم القرآن، واهتمّوا به وهو السبب الذي أنشأ في العلوم اللّغوية عند الأصوليّين بحوثا تتعلّق بمقاصد الخطاب. وسورة البقرة يتعلق نزولها بزمن خاص يشغل الفترة التالية مباشرة لحدث الهجرة، بكل ما رافقه من أحداث تتصل بعلاقات المسلمين باليهود والمنافقين وانشاء الدولة الجديدة.
ومما يتصل بزمن النزول أيضا اعتبار بعض علماء القرآن (المكّي) ما نزل قبل الهجرة حتى لو نزل بغير مكّة، والمدني ما نزل بعد الهجرة حتّى لو نزل في غير المدينة.
وهذا المعيار الزماني يقصد به التنبيه على الظروف التي أحاطت بالمسلمين وبالدعوة الإسلامية آنئذ، فهم قبل الهجرة مستضعفون، محاصرون، قلّة، وبعد الهجرة صارت لهم دولة وأصبحوا أقوياء أعزّة، كما اختلفت الظروف المحيطة بهم من حيث ظاهرة النفاق، وعداء اليهود، وبهذا المعيار تكون سورة البقرة جميعها مدنيّة، ويدلّنا على
ذلك اعتبار الآية {= الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلََامَ دِيناً =} (1) مدنيّة مع أنّها نزلت يوم الجمعة بعرفة في حجّة الوداع (2). وهذا التقسيم من أبرز الشواهد على الربط بين النصّ وسياقه، وفيه تجاوز لمكان النزول، وتحر لظروف النصّ أو سياقه لما له من أهميّة واضحة في تشكيل خطاب النصّ، فالمكان في زمان معيّن غيره في زمان آخر، فمكّة قبل الفتح غيرها بعد الفتح، وهكذا.(1/155)
وهذا المعيار الزماني يقصد به التنبيه على الظروف التي أحاطت بالمسلمين وبالدعوة الإسلامية آنئذ، فهم قبل الهجرة مستضعفون، محاصرون، قلّة، وبعد الهجرة صارت لهم دولة وأصبحوا أقوياء أعزّة، كما اختلفت الظروف المحيطة بهم من حيث ظاهرة النفاق، وعداء اليهود، وبهذا المعيار تكون سورة البقرة جميعها مدنيّة، ويدلّنا على
ذلك اعتبار الآية {= الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلََامَ دِيناً =} (1) مدنيّة مع أنّها نزلت يوم الجمعة بعرفة في حجّة الوداع (2). وهذا التقسيم من أبرز الشواهد على الربط بين النصّ وسياقه، وفيه تجاوز لمكان النزول، وتحر لظروف النصّ أو سياقه لما له من أهميّة واضحة في تشكيل خطاب النصّ، فالمكان في زمان معيّن غيره في زمان آخر، فمكّة قبل الفتح غيرها بعد الفتح، وهكذا.
وقد اجتهد علماء القرآن في رصد الزمن الدقيق للنزول، ومثاله تتبّعهم للنهاري والليلي، بل في أيّ ساعة من ليل أو نهار، وأمثلة النّهاري كثيرة، قال ابن حبيب: = نزل أكثر القرآن نهارا = (3). ومعظم سورة البقرة من النّهاري. وأمّا الليلي فمن أمثلته = آية تحويل القبلة = ففي الصحيحين: = بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ أتاهم آت فقال: = إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة = (4). وروى مسلم عن أنس = أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي نحو بيت المقدس فنزلت {= قَدْ نَرى ََ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمََاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضََاهََا =} (5)،
فمرّ رجل من بني سلمة وهم ركوع، في صلاة الفجر، وقد صلّوا ركعة، فنادى: ألا إنّ القبلة قد حوّلت، فمالوا كلّهم نحو القبلة = (6). وبعض الصحابة يحدّد نزولها بين الظهر والعصر. ومنها خواتيم سورة البقرة قيل نزلت في ليلة الإسراء (7). وفيما يتعلّق بزمن النزول
__________
(1) سورة المائدة، الآية (3).
(2) الزرقاني، مناهل العرفان، ص 195.
(3) السيوطي، الإتقان، ص 54.
(4) نفسه، ص 54.
(5) سورة البقرة، الآية 144.
(6) السيوطي، التحبير في علم التفسير، ص 132.
(7) نفسه، ص 134.(1/156)
كذلك درس علماء القرآن ما يعرف بالصيفي والشتائي ويعد من الصيفي قوله تعالى {= وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ =} (1)، وآية الدين (2).
وممّا يتّصل بزمن النزول كذلك بحثهم في أول وآخر ما نزل. وأمّا في سورة البقرة فآخر ما نزل فيه اختلاف وفي قول لابن عبّاس = آخر شيء نزل من القرآن {= وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ =} (3) = (4). وكان بين نزولها وبين موت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم واحد وثمانون يوما = (5). وقيل هي آخر ما أنزل من القرآن مطلقا، وعاش النبيّ بعدها تسع ليال ثمّ مات ليلة الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأوّل = (6). وفي قول ثان إنّ آخر ما نزل هو قول الله تعالى في سورة البقرة أيضا: {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَذَرُوا مََا بَقِيَ مِنَ الرِّبََا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ =} (7). وفي قول ثالث إنّ آخر ما نزل آية الدين في سورة البقرة {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا تَدََايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ =} (8). ويرجّح الزرقاني الرأي الأول = واتّقوا =، وذلك لأمرين: أحدهما ما تحمله هذه الآية في طيّاتها من الإشارة إلى ختام الوحي والدين بسبب ما تحثّ عليه من الاستعداد ليوم المعاد، وما تنوّه به من الرجوع إلى الله، واستيفاء الجزاء العادل من غير غبن ولا ظلم، وذلك كلّه أنس بالختام من آيات الأحكام المذكورة في سياقها. وثانيهما: التنصيص في رواية هذا القول أنّ النبيّ عاش بعد نزولها، تسع ليال ولم تظفر الروايات السابقة بنصّ مثله = (9).
__________
(1) سورة البقرة، الآية (281).
(2) سورة البقرة، الآية (282).
(3) سورة البقرة، الآية (281).
(4) السيوطي، الإتقان، ص: 45.
(5) نفسه، ص 57.
(6) الزرقاني، مناهل العرفان، ص 97.
(7) نفسه، ص 97.
(8) نفسه، ص 97.
(9) نفسه، ص 98.(1/157)
وإذن فالزمن الخاصّ للآيات الكريمة (النصّ) تحدّد وفقا للمعايير التالية: الحدث (الهجرة) واختيرت الهجرة نظرا لضخامتها وعظيم تأثيرها باعتبارها نقطة تحوّل محوريّة في تاريخ المخاطبين بهذا النصّ الكريم، ونحن اليوم نؤرخ بالأحداث الكبيرة باعتبار هول تأثيرها في الحياة والشخوص كقولنا: خلال الحرب العالميّة الأولى أو الثانية، أو في أيّام الزلزال الكبير، أو في ذكرى النكبة، أو غيرها من المصطلحات الزمانيّة المرتبطة بأحداثها.
والمعيار الثاني هو الوقت الحقيقي للنزول (نهارا أو ليلا) صيفا أو شتاء وحتّى تحديده بالساعة أو الشهر أو السنة. ومن أمثلته آيات تحديد القبلة فقد نزلت في السنة الثانية من الهجرة في رجب ما بين الظهر والعصر (1)، ومنه آية الصيام (2) نزلت في السنة الثانية في شعبان. والآية (196) من سورة البقرة نزلت سنة ست في ذي القعدة، والآية (217) من سورة البقرة نزلت في سريّة عبد الله بن جحش سنة اثنتين في رجب (3). والمعيار الثالث: هو ترتيب النزول فهناك ترتيب للنزول وآخر للتلاوة، وهذه المعايير معا تشكّل نوافذ مختلفة للنظر. فالتأريخ بالحدث يعني رصد التحوّلات في ظرف الحال الملامس للنصّ، وأثره في تحوّلات المخاطبين، والتأريخ بالوقت يشبه وضع النصّ في لحظة تاريخيّة محدّدة حيّة وفق معاش الشخوص وحركتهم، ويضع النصّ ضمن حركة الزمان الطبيعيّة، وأمّا المعيار الثالث فهو ذو طبيعة نصيّة بحتة إن جاز التعبير فهو يتعلّق باكتمال النصّ وترتّب مفرداته، وأثره واضح فيما يشبه أثر مقدّمة النصّ وخاتمته على القارئ وهو ملحظ تنبّه له الدارسون من خلال ترجيحهم لآخر ما نزل في الآية {= وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ =}
لمناسبته أن يكون آخر ما يقرأه المسلم في مثل تلك الظروف، بل يربط بعضهم ذلك النصّ الختامي بمبتدإ التنزيل فسورة العلق التي تعدّ آياتها الأولى أوّل ما نزل تتحدّث عن أصل الخلق والتكوين {(الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ)} والنصّ الختامي يذكر الرجوع
__________
(1) السيوطي، التحبير في علم التفسير، ص 153.
(2) سورة البقرة، الآيات (184182).
(3) السيوطي، التحبير في علم التفسير، ص 154.(1/158)
إلى الله بعد الرحلة المعاشيّة للإنسان {(تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ)}. وهو ربط ينمّ على تنبّههم لفكرة اتّساق زمن الخطاب مع مضمونه، وإنّ النصّ القرآني كلّ واحد متّصل منذ الآية الأولى حتى الآية النهائيّة. وهذا معنى قولهم إنّه كالكلمة الواحدة.
2 - أسباب النزول:
إنّ دراسة الظروف المحيطة بالنصّ تقتضي معرفة الوقائع التاريخيّة التي لازمت نزوله ورافقته، وهو ما سمّي لدى علماء القرآن باسم (أسباب النزول)، وفيما يتعلّق بسورة البقرة فكثير من آياتها له سبب نزول، مع استحضار أنّ سورة البقرة هي أوّل سورة نزلت بعد هجرة المسلمين إلى المدينة، وما رافق هذه الهجرة من أحداث عظام. وسنلحق بهذه الدراسة ملحقا يضمّ أسباب النزول المتعلّقة بآيات سورة البقرة، ونكتفي هنا بتصنيف محاور هذه الأسباب، ووجهاتها، وآليات اتّصالها بالنصّ كما فهمناها من خلال النّصوص التي أوردها علماء القرآن.
(12) أسباب النزول تحدّد الواقع الاجتماعي الذي خاطبه النصّ
تكشف أسباب النزول عن حقيقة الواقع الاجتماعي الذي تصدّت سورة البقرة للحديث عنه وتصوير حقيقته، ومعظم أسباب النزول تشرح حقيقة التفاعل بين النصّ وهذا الواقع الاجتماعي. فالسورة الكريمة تحدّد مكوّنات المجتمع الإسلامي الوليد في المدينة المنوّرة، وحقيقة المعركة التي خاضتها الرسالة في أول أمرها، وأسباب النزول تشرح على وجه التحديد مواصفات تلك المعركة وأطرافها، فبعض نصوص أسباب النزول تحدّد أعداء الرسالة وهم: اليهود، والمنافقون، والمشركون (الذين كفروا)، ومن ذلك ما رواه الضحّاك حول الآية السادسة من سورة البقرة {= إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ =} قال: نزلت في أبي جهل، وخمسة من أهل بيته = (1). فنصّ الآية
__________
(1) الواحدي، أسباب النزول، ص 12.(1/159)
يتّصف بالعموم، ولكنّ سبب النزول يضيء الواقع ويسلّط الضوء عليه، ومن أمثلته كذلك ما رواه ابن عبّاس حول الآية الكريمة {= أَتَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتََابَ أَفَلََا تَعْقِلُونَ =} (1). قال: = نزلت في يهود المدينة، كان الرجل منهم يقول لصهره ولذوي قرابته، ولمن بينهم وبينه رضاع من المسلمين: اثبت على الدين الذي أنت عليه، وما يأمرك به، وهذا الرجل (يعنون محمّدا صلّى الله عليه وسلّم) فان أمره حقّ، فكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه = (2). إنّ هذه الآية قد تفهم على غير وجهها لو اقتصرنا في قراءتها على السياق اللّغوي فقط، فقد ينصرف الذهن إلى أنّ المخاطب هم المسلمون، ويأتي سبب النزول ليجعل القراءة تتّجه وجهة أخرى مغايرة.
وقد تناول النصّ القرآني (سورة البقرة) واقعا معيّنا بالمعالجة، وأمّا مجمل الصورة التي ترسمها (أسباب النزول) لهذا الواقع وهذا المجتمع الذي نزلت فيه السورة على النحو التالي:
1 - المجتمع الإسلامي الوليد وفيه نرى النبيّ القائد، وعمله الدائب، وتعليمه للمؤمنين وغيرهم. ومواجهته لكلّ الأعداء، والعقبات، والشدائد المحيطة بهذا المجتمع.
وتصف هذه الأسباب محاوراته مع تابعيه ومع خصومه وتفاعله مع الأحداث المحيطة.
2 - ترسم كذلك صنائع أعداء الرسالة، ومكرهم، وكيدهم، وانظر مثلا ما رواه الكلبيّ عن ابن عبّاس حول الآية (14) من سورة البقرة {= وَإِذََا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قََالُوا آمَنََّا، وَإِذََا خَلَوْا إِلى ََ شَيََاطِينِهِمْ قََالُوا إِنََّا مَعَكُمْ إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ =} قال:
= نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وذلك أنّهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عبد الله
__________
(1) سورة البقرة، آية (44).
(2) الواحدي، أسباب النزول، ص 13.(1/160)
بن أبيّ: انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال:
مرحبا بالصدّيق سيّد بني تميم وشيخ الإسلام، وثاني رسول الله في الغار، الباذل نفسه وماله ثمّ أخذ بيد عمر فقال: مرحبا بسيّد بني عديّ بن كعب، الفاروق القويّ في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد عليّ فقال: مرحبا بابن عمّ رسول الله وختنه، سيّد بني هاشم، ما خلا رسول الله ثم افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت، فأثنوا عليه خيرا، فرجع المسلمون إلى رسول الله، وأخبروه بذلك، فأنزل الله هذه الآية = (1).
فالمنافقون هم العدو الأول للرسالة، واليهود هم العدو الثاني، وكثير من أسباب النزول تتعلّق بهم، وبكيدهم. ومن ذلك ما رواه ابن عبّاس حول الآية (110) من سورة البقرة {= وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمََانِكُمْ كُفََّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مََا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتََّى يَأْتِيَ اللََّهُ بِأَمْرِهِ،} {إِنَّ اللََّهَ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ =} قال: نزلت في نفر من اليهود قالوا للمسلمين بعد وقعة أحد:
= الم تروا إلى ما أصابكم، ولو كنتم على الحقّ ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم = (2). وذكرت الأسباب محاولاتهم الدائبة لتشكيك المسلمين بدينهم، ومحاولة إيذائهم، وخاصة في حادثة تحويل القبلة، وأفعال رؤسائهم من مثل كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف وأبي ياسر بن أخطب، وذكرت أسباب النزول شيئا عن النّصارى، وتفاعلهم مع الرسالة، وذكرت الكثير عن الكافرين الذين رفضوا الرسالة وخاصّة أهل مكة.
3 - ووصفت أسباب النزول كذلك سلوك المؤمنين، وتفاعلهم مع الرسالة ومع المجتمع الوليد، وأسئلتهم، وأحداث حياتهم في تلك الفترة من فترات الرسالة. ويهمّنا هنا
__________
(1) الواحدي، أسباب النزول، ص 12.
(2) نفسه، ص 19.(1/161)
كيف عالج النصّ التاريخي الواقع (سبب النزول) وكيف عالج النصّ القرآني بدوره ذلك الواقع. إنّ النصّ القرآني لا ينقل المشهد الواقعي كما هو أبدا فيما يشبه أن يكون نقلا دقيقا لذلك الواقع كالصورة الفوتوغرافية، إنّ الصورة التي يرسمها النصّ القرآني متفاعلة مع الواقع ولكنّها تصوّره بصيغة العموم (مشهد من عل) بحيث يصلح أن يقرأ في كلّ واقع مشابه قراءة جديدة، وسنجد أنّ الواقعة التاريخية المحدّدة ماثلة في النصّ من غير أسماء شخوصها أو تفاصيلها الدقيقة. وهذا يتم عبر اللغة، وعبر أدوات التعميم والتخصيص فيها.
(22) التفاعل مع جزء من النصّ يستدعي جزءا آخر منه
وهو كثير فنجد نزول آية من الآيات، قد يسأل المؤمنون عنها، ممّا يستدعي نزول آية أخرى، وقد يعقّب أحد اليهود أو الكفار، أو أحد أعداء الرسالة بما يمكن أن يشكّك بالآية مما يستدعي توضيحا أو استثناء أو تعقيبا مناسبا. ومن أمثلة ذلك ما روي حول الآية (26) من سورة البقرة: {= إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا بَعُوضَةً فَمََا فَوْقَهََا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مََا ذََا أَرََادَ اللََّهُ بِهََذََا مَثَلًا، يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً، وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ =}. قال ابن عبّاس: = نزلت في المنافقين، ذلك أنّه لمّا ضرب الله سبحانه وتعالى هذين المثلين للمنافقين قوله {(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً)} وقوله {(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمََاءِ)} قالوا: الله أجلّ وأعلى من أن يضرب الأمثال، فأنزل الله هذه الآية = {إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي} = (1).
وعن عطاء عن ابن عبّاس في قوله تعالى = {إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ} = قال:
= وذلك إنّ الله ذكر آلهة المشركين فقال: {= وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبََابُ شَيْئاً =} وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت فقالوا: أرأيتم حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل القرآن على محمّد، أيّ شيء يصنع بهذا؟ فأنزل الله هذه الآية = (2).
__________
(1) الواحدي، أسباب النزول، ص 12.
(2) نفسه، ص 13.(1/162)
ومن أمثلته كذلك ما ورد في سبب نزول الآية الكريمة {= أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيََامِ الرَّفَثُ إِلى ََ نِسََائِكُمْ =} إلى قوله: {= وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ =} (1). قال سهل بن سعد: = نزلت هذه الآية = وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم ينزل = من الفجر = وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبيّن له زيّهما، فأنزل الله تعالى بعد ذلك = من الفجر = فعلموا أنّما يعني بذلك الليل والنهار = (2).
ومن ذلك أيضا ما ورد في سبب نزول الآية الكريمة {= إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافِ =} (3) قال عطاء: أنزلت بالمدينة على النّبي صلّى الله عليه وسلم {= وَإِلََهُكُمْ إِلََهٌ وََاحِدٌ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الرَّحْمََنُ الرَّحِيمُ =} فقالت كفّار قريش بمكّة: كيف يسع الناس إله واحد؟ فانزل الله تعالى: {= إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ =} حتى بلغ {= لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ =} (4).
إنّ هذا وجه آخر من وجوه تفاعل النصّ مع سياقه المقامي تفاعلا يستدعي تخصيصا في النصّ أو تعميما، أو تحويلا أو تغييرا، أو إجابة أو توضيحا لغامض عبر طرائق اللغة وأساليبها في كل ذلك.
__________
(1) سورة البقرة، الآية (187).
(2) الواحدي، أسباب النزول، ص 28.
(3) سورة البقرة، الآية (164).
(4) الواحدي، أسباب النزول، ص 25.(1/163)
(32) أسباب النزول تكشف عن أثر النصّ على المخاطبين
تكشف بعض نصوص (أسباب النزول) عن أثر الخطاب القرآني على المخاطبين وتفاعلهم معه وهو جزء ممّا تدرسه اللسانيات الاجتماعية في مشمولاتها. ومن ذلك ما نزل في سبب الآية (62) من سورة البقرة، وهي {= إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا وَالنَّصََارى ََ وَالصََّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صََالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ =} فعن السدّي قال: = نزلت في أصحاب سلمان الفارسي لمّا قدم سلمان على رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) جعل يخبر عن عبادة أصحابه واجتهادهم وقال: يا رسول الله كانوا يصلّون ويصومون ويؤمنون بك، ويشهدون أنّك تبعث نبيّا، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال الرسول الكريم: يا سلمان هم من أهل النار، قال سلمان: فأظلمت عليّ الأرض، فنزلت = إنّ الذين آمنوا والذين هادوا إلى قوله (يحزنون) قال: فكأنّما كشف عني جبل = (1). إنّ هذه الرواية تكشف عن المخاطب في حالين قبل تنزّل النصّ (فأظلمت علي الأرض) وبعد نزول النصّ (فكأنّما كشف عني جبل) وهو نموذج من نماذج تفاعل المخاطبين بالنصّ ومع النصّ، وهو كذلك يكشف عن تفسير مغاير لما يبدو عليه ظاهر الآية.
ومن هذا كذلك مجموعة النّصوص التي وردت حول آيات تحويل القبلة في السورة الكريمة، وأثر الحادث كلّه على رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) وتفاعل المؤمنين بهذا التحويل، وتفاعل اليهود مع هذه الحادثة وسخريتهم من هذا التحويل وفرح المؤمنين به، ثم تخوّف المؤمنين من مصير إخوانهم الذين ماتوا قبل تحويل القبلة وتنزّل الآيات لتشرح كلّ ذلك. فتصف الآيات حالة رسول الله إبّان نزول هذه الآيات ففي الآية {= قَدْ نَرى ََ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمََاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضََاهََا =} (2). قال البراء: = لمّا نزلت هذه
__________
(1) الواحدي، أسباب النزول، ص 13.
(2) سورة البقرة، الآية (144).(1/164)
الآية قال السفهاء من الناس وهم اليهود ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها = قال تعالى: {= قُلْ لِلََّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ =} إلى آخر الآية وهو ما ذكر في سبب نزول الآية الكريمة:
{= سَيَقُولُ السُّفَهََاءُ مِنَ النََّاسِ مََا وَلََّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كََانُوا عَلَيْهََا =} (1).
وقال ابن عباس في رواية الكلبي: كان رجال من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ماتوا على القبلة الأولى منهم اسعد بن زرارة وأبو أمامة أحد بني النجّار، والبراء بن معرور أحد بني سلمة وأناس آخرون جاءت عشائرهم، فقالوا: يا رسول الله توفّي إخواننا وهم يصلّون إلى القبلة الأولى، وقد صرفك الله تعالى إلى قبلة إبراهيم. فكيف بإخواننا؟ فأنزل الله: {= وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُضِيعَ إِيمََانَكُمْ =} (2). ثمّ قال وفي قوله تعالى {= قَدْ نَرى ََ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمََاءِ =} إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لجبريل عليه السلام: وددت أنّ الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، وكان يريد الكعبة لأنّها قبلة إبراهيم، فقال له جبريل: إنّما أنا عبد مثلك لا أملك شيئا، فسل ربّك أن يحوّلك عنها إلى قبلة إبراهيم، ثم ارتفع جبريل، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديم النظر إلى السماء رجاء ان يأتيه جبريل بما سأله، فأنزل الله تعالى هذه الآية = (3). فالحديث عن أثر النصّ على المخاطبين وتفاعلهم معه يكشف إضاءات إضافيّة عن علاقة النصّ بالسياق، لما للآليّات اللّغويّة المستخدمة في النصّ من دور في إحداث هذا الأثر على اختلاف طبيعة المخاطبين وتنوّعها.
(42) أسباب النزل تكشف طبيعة المخاطبين
المخاطب جزء أساس من عناصر الخطاب، وفهم طبيعة المخاطب تستدعي فهم طبيعة الخطاب، والأسلوب اللّغوي الذي صيغ فيه. وسبب النزول مدخل كبير لكل ذلك.
__________
(1) الواحدي، أسباب النزول، ص 23.
(2) سورة البقرة، الآية (143).
(3) الواحدي، أسباب النزول، ص (23).(1/165)
ومن أمثلته ما ذكرناه حول سبب نزول الآية {= أَتَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبِرِّ =} ومنه كذلك ما ورد في سبب نزول الآية (79) من سورة البقرة {= فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتََابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هََذََا مِنْ عِنْدِ اللََّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمََّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمََّا يَكْسِبُونَ =} فإنّ هذه الآية نزلت في الذين غيّروا صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبدّلوا نعته، قال الكلبي: = إنّهم غيّروا صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم، وجعلوه آدم سبطا طويلا، وكان ربعة أسمر، وقالوا لأصحابهم وأتباعهم:
انظروا إلى صفة النبيّ الذي يبعث في آخر الزمان، ليس يشبه نعت هذا، وكانت للأحبار والعلماء، مأكلة من سائر اليهود فخافوا أن يذهبوا مأكلتهم إن بيّنوا الصفة، فمن ثمّ غيّروا = (1).
ومن ذلك أيضا ما ورد في سبب الآية {= الَّذِينَ آتَيْنََاهُمُ الْكِتََابَ يَعْرِفُونَهُ كَمََا يَعْرِفُونَ أَبْنََاءَهُمْ =} (2). فهذه الآية نزلت في مؤمني أهل الكتاب (عبد الله بن سلّام وأصحابه) كانوا يعرفون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنعته وصفته وبعثه في كتابهم كما يعرف أحدهم ولده إذا رآه مع الغلمان، قال عبد الله بن سلّام: لأنا أشدّ معرفة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم منّي بابني، فقال له عمر بن الخطّاب: وكيف ذاك يا ابن سلّام، قال: لأنّي أشهد أنّ محمدا رسول الله حقا يقينا، فأنا لا أشهد بذلك على ابني، لأنّي لا أدري ما أحدث النساء، فقال عمر: وفقك الله يا ابن سلّام = (3). هذان مثلان على أسباب النزول التي تكشف طبائع المخاطبين، فالمثل الأوّل يكشف طبيعة الذين غيّروا صفة النبيّ عن قصد، وهم يعلمون = ليشتروا به ثمنا قليلا وتوعّدتهم الآية بسبب ذلك أشدّ الوعيد. وفي المثل الثاني مؤمنون من أهل الكتاب يتفانون في يقينهم، وجاء النصّ
__________
(1) الواحدي: أسباب النزول، ص 14.
(2) سورة البقرة، الآية (121).
(3) الواحدي: أسباب النزول، ص 24.(1/166)
ليصوّر ذلك تصويرا عميقا = كما يعرفون أبناءهم = والكشف عن طبائع المخاطبين عبر النصّ وحده قد لا يصل بالوصف إلى التشخيص والتدقيق، فالخطاب القرآني يتّصف بالعموم كما ذكرنا ليبقى النصّ قابلا للقراءة في عدد لامتناه من الحالات والشخوص.
والشواهد في هذا الباب كثيرة، وبعضها يتعلّق بطبيعة المخاطب الأوّل وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو المؤمنين بالرسالة، أو المجاهدين لها، أو بطبيعة أعداء الرسالة وعلى رأسهم اليهود والمنافقون.
(52) النصّ يستدعي وقائع سابقة لها صلة بالواقع الاجتماعي المزامن له
وهو ما يمكن أن نطلق عليه تشابه السياقات مما يستدعي استحضارها من خلال الحديث عن النصّ، ومن ذلك قوله تعالى: {= أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كََانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلََامَ اللََّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مََا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ =} (1)
قال ابن عبّاس ومقاتل: نزلت في السبعين الذين اختارهم موسى ليذهبوا معه إلى الله تعالى، فلمّا ذهبوا معه سمعوا كلام الله تعالى، وهو يأمر وينهى، ثم رجعوا إلى قومهم، فأمّا الصادقون فأدّوا ما سمعوا، وقالت طائفة منهم: سمعنا الله من لفظ كلامه يقول: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا ولا بأس = (2). فالآيات تخاطب به الجماعة المسلمة في عهد رسول الله محذّرة إيّاها من حسن الظن باليهود، بل ومجرّد التفكير في إمكانيّة إيمانهم، ثم يستحضر النصّ واقعة سابقة هي صنع أولئك اليهود مع نبيّهم موسى عليه السلام. وجاء سبب النزول ليوضح هذه الواقعة.
وكذلك نجد في قوله تعالى {= وَكََانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا =} (3)
قال ابن عبّاس: = كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلّما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت
__________
(1) سورة البقرة، الآية (75).
(2) الواحدي، أسباب النزول، ص 15.
(3) سورة البقرة، الآية (89).(1/167)
اليهود بهذا الدعاء، وقالت: اللهم إنّا نسألك بحقّ النّبي الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان، إلّا نصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان، فلمّا بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كفروا به، فأنزل الله تعالى {= وَكََانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا =} أي بك يا محمّد إلى قوله: {= فَلَعْنَةُ اللََّهِ عَلَى الْكََافِرِينَ =} (1). إنّ هذه الحادثة سابقة لبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي النصّ خطاب مباشر للجماعة المسلمة في زمن محدّد بعد الهجرة، ولكنّ الحديث عن إمكانية إيمان اليهود ثم مراوغتهم استدعى استحضار هذه الواقعة.
وقال السدّي: = كانت العرب تمرّ بيهود فتلقى اليهود منهم أذى، وكانت اليهود تجد نعت محمّد في التوراة أنّه يبعثه الله فيقاتلون معه العرب، فلمّا جاءهم محمّد صلّى الله عليه وسلّم كفروا به حسدا، وقالوا إنّما كانت الرسل من بني إسرائيل فما بال هذا من بني إسماعيل؟ = (2). إنّ بعض ملامح الواقع الاجتماعي الذي جاء النصّ ليعالجه لا يمكن أن تتّضح إلّا بذكر الجذور التاريخيّة التي أفرزتها، وهو ما أطلقنا عليه = تداعي السياقات = ولكنّ النصّ لا يعالج في هذه الحالة الوقائع السابقة، وإنّما يبني عليها ويوضح بها، ومن خلالها يعالج الواقع المزامن له. وتكون وظيفة استحضار السياقات المولّدة للسياق المقامي الحالي هي توضيح ملابسات الواقع الاجتماعي، وتعضيد مجيء النصّ على هذه الشاكلة بعينها، وعلى هذا الأسلوب دون غيره إن كان استفهاما أو زجرا أو ترغيبا أو ترهيبا. وهي استجاشة للمخاطب في هذا الخطاب، ليستجيب أكثر فهي أداة تأثير واستجاشة في هذا الخطاب، لتحفيز المخاطبين على الاستجابة الكاملة.
ومن هذا أيضا ذكر قصص الأنبياء السابقين الذين صادفوا بعض الحوادث المشابهة لما عاينه الرسول الكريم وأصحابه من واقع، ومنه ذكر قصّة إبراهيم في هذه السورة: {= وَإِذْ قََالَ إِبْرََاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ََ =} (3). {= وَإِذِ ابْتَلى ََ إِبْرََاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمََاتٍ}
__________
(1) الواحدي، أسباب النزول، ص 15.
(2) نفسه، ص: 15.
(3) سورة البقرة، آية 260.(1/168)
{فَأَتَمَّهُنَّ =} (1). {= وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثََابَةً لِلنََّاسِ وَأَمْناً =} (2). {= وَإِذْ قََالَ إِبْرََاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذََا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ =} (3). {= وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرََاهِيمُ الْقَوََاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمََاعِيلُ =} (4). {= إِذْ قََالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قََالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعََالَمِينَ =} (5). وكذلك الآيات المتعلّقة بسيّدنا موسى ومنها: {= وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ وَقَفَّيْنََا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنََا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ =} (6) و {= وَلَقَدْ جََاءَكُمْ مُوسى ََ بِالْبَيِّنََاتِ =} وكذلك سيّدنا يعقوب {= أَمْ كُنْتُمْ شُهَدََاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ =} (7)، واستحضار قصّة سيدنا سليمان {= وَاتَّبَعُوا مََا تَتْلُوا الشَّيََاطِينُ عَلى ََ مُلْكِ سُلَيْمََانَ وَمََا كَفَرَ سُلَيْمََانُ وَلََكِنَّ الشَّيََاطِينَ كَفَرُوا =} (8). وتشرح أسباب النزول هذه المناسبات شرحا مفصّلا، وتربطها بواقع الرسالة حين تنزّلت هذه الآيات المتّصلة بها، وكذلك تفعل كتب التفسير، وهو من المنهج القرآني في تغيير الواقع الاجتماعي عن طريق استحضار السياقات المشابهة أو استدعاء السياقات ذات العلاقة ومن هنا يصبح معرفة (سياق الحال) المرافق للنصّ والممثّل في سبب النزول ضروريّا في فهم النصّ، وأساسيّا في توضيح استحضار هذه الوقائع التاريخية في هذا الموضع بالذات من الخطاب. وعلاقة كل ذلك بواقع المخاطبين.
__________
(1) سورة البقرة، آية 124.
(2) سورة البقرة، آية 126.
(3) سورة البقرة، آية 126.
(4) سورة البقرة، آية 127.
(5) سورة البقرة، آية 258.
(6) الآيات التي تذكر سيّدنا موسى في سورة البقرة هي: الآيات (51)، و (53)، و (54)، و (55)، و (60) و (61)، و (67) و (87)، و (92)، و (108)، و (136)، و (246)، و (248).
(7) الآيات التي تذكر سيّدنا يعقوب في سورة البقرة هي: الآيات (132) و (133) و (136) و (140).
(8) سورة البقرة، الآية (102).(1/169)
(62) أسباب النزول وهدف النصّ:
جاء النصّ القرآني = سورة البقرة = ليعالج واقعا اجتماعيّا معيّنا، جاء ليحدث تغييرا شاملا في هذا الواقع، وجاء ليغيّر المفاهيم أو ليصحّحها أحيانا، ويزرع مكان ذلك مفاهيم جديدة نابعة من جوهر الرسالة الكريمة. وتكشف أسباب النزول عن هدف النصّ وآليّاته، في تغيير الواقع الاجتماعي، والهدف كما نعلم من أبرز العناصر التي تنبّهت لها اللسانيات الاجتماعية في تحليل الرسالة اللّغويّة، فقد يكون الهدف هو التأثير، أو التغيير، أو إجابة تساؤل، أو توضيح الخ. ويتشكّل النصّ موافقا لهذا الهدف متفاعلا معه.
وأبرز أمثلة ذلك آيات تحويل القبلة، وما ورد فيها من أسباب نزول، أوردنا بعضها سابقا، ويرد بعضها الآخر في ملاحق الرسالة. وتصف هذه الأسباب حادثة التحويل بالتفاصيل الدقيقة، وكيف كانت أمنية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تغيير القبلة، نظرا لسخرية اليهود ومع ذلك لم تتنزّل آيات التحويل إلّا بعد فترة زمنية أرادها الله اختبارا للمؤمنين واستجابتهم للوحي، وأيضا تسفيها لليهود ثمّ كيف كان أثر ذلك على المؤمنين قبل التحويل وبعده، وهو ما لن نكون قادرين على الإحاطة به لو قرأنا الآية {= قَدْ نَرى ََ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمََاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضََاهََا =} فلن نفهم لماذا يتقلّب وجه النبيّ، ولن نفهم رضاه عن قبلة دون غيرها مع أنّ النصّ يقول {= فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ =}
إنّ هدف النصّ ماثل أشد المثول في سبب النزول. ومن هنا يصبح الواقع الاجتماعي مدخلا من مداخل قراءة النصّ باعتباره يزوّدك بمفتاح رئيسي هو مفتاح = هدف النصّ =.
ومن أمثلة ذلك الآية: {= وَقََالُوا اتَّخَذَ اللََّهُ وَلَداً =} (1)، نزلت في اليهود حيث قالوا: {(عُزَيْرٌ ابْنُ اللََّهِ)}، وفي نصارى نجران حيث قالوا {(الْمَسِيحُ ابْنُ اللََّهِ)}، وفي مشركي العرب قالوا: = الملائكة بنات الله = (2). فهدف الآية هنا دحض هذه المقولات والعودة بالقوم
__________
(1) سورة البقرة، الآية (116).
(2) الواحدي، أسباب النزول، ص: 21.(1/170)
إلى الوحدانية الخالصة، ومنه كذلك الآية الكريمة {= صِبْغَةَ اللََّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللََّهِ صِبْغَةً =} (1). قال ابن عبّاس: إنّ النّصارى كانوا إذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيّام صبغوه في ماء لهم يقال له = المعمودي = ليظهروه بذلك، ويقولون هذا ظهور مكان الختان، فإذا فعلوا ذلك صار نصرانيّا حقّا، فانزل الله تعالى هذه الآية = (2). إنّ الممارسات التي يظهرها سبب النزول هنا مشمولة ولا شك في الآية الكريمة، ولكن ستبقى الآية تأخذ طابع العموم الذي لا يسعفنا في فهم الواقع الاجتماعي الذي استدعى نزول هذه الآية. أما وقد قرأنا سبب النزول فنحن نفهم أنّ مقصد النصّ هو تغيير هذه الممارسات بعينها ثم أيّ ممارسات أخرى مشابهة لاحقا لا تتّفق مع صبغة التوحيد.
ومنها كذلك الآيات المتعلّقة بشهر رمضان وفريضة الصيام، وبالذات الآية الكريمة {= أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيََامِ الرَّفَثُ إِلى ََ نِسََائِكُمْ =} (3) فالقارئ لسبب النزول يلمح تفاصيل المنهج الإسلامي في وضع التشريع والغاية من التشديد في هذا التشريع أوّلا، ثمّ الغاية من التخفيف فيه بعد ذلك لمقتضيات الواقع الاجتماعي المرافق لنزول النصّ.
ومنه كذلك ما جاء في سبب الآية {= وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهََا وَلََكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى ََ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوََابِهََا =} (4). عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: كانت الأنصار إذا حجّوا فجاءوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها. فجاء رجل فدخل من قبل باب، فكأنّه عيّر بذلك، فنزلت هذه الآية = (5). إنّ هذا النصّ يكشف لنا أوّلا فهما أوضح للنّص الذي قد يبدو غير واضح
__________
(1) سورة البقرة، الآية 138.
(2) الواحدي، أسباب النزول، ص: 23.
(3) سورة البقرة، الآية 187.
(4) سورة البقرة، الآية 190.
(5) الواحدي، أسباب النزول، ص: 28.(1/171)
للوهلة الأولى. خاصّة في السّياق اللّغوي الذي ورد فيه. وثانيا يكشف لنا عن أسلوب النصّ القرآني في تغيير سلوكات المخاطبين من خلال شرح طبيعة الواقع الاجتماعي السائد، وكيف تصدّى النصّ لتغييره مع أنّه واقع مستحكم، يأخذ طابع العرف والعادة، بدليل أنّ الرجل حين دخل من قبل الباب تعرّض (للتعيير) وهي رفض اجتماعي لسلوكه فجاء النصّ ليظهر أنّ سلوكه كان أقرب لروح الشرع والإسلام وأقرب للتقوى، والتقوى وتحقيقها هي هدف النصّ، كما أنّ التقوى هي هدف آيات الصيام من قبل، وللتقوى وجوه عديدة نقرؤها من خلال أسباب النزول.
ومن أمثلته كذلك ما ورد في سبب الآية: {= فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ =} (1). فعن كعب بن عجرة قال: = فيّ أنزلت هذه الآية، أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال = ادنه فدنوت مرّتين أو ثلاثا، فقال: أيؤذيك هوامك (9)؟ قال ابن عون:
وأحسبه قال نعم، فأمرني بصيام أو صدقة أو نسك ما تيسّر = (2). في سبب النزول لهذه الآية استثناء أو تخفيف في الحكم. والواقع الاجتماعي الذي يعرضه هذا السبب يوضح غرض هذا التخفيف.
فهذه الآيات الكريمة تتحدّث عن واقع اجتماعي معيّن وتبغي تغييره في تفاصيله المختلفة، في صيامه، وحجّه، وعباداته، وعاداته، وأفكاره، وتوقّعاته، وحسبنا هذه الأمثلة للدلالة على المناحي المختلفة التي نرى غرض الخطاب ماثلا فيها، ممّا يضيء النصّ إضاءات كثيرة. أمّا عن أثر هذا الهدف في الصياغة اللغوية للنصّ القرآني فمحلّه في الفصل الثالث من هذا الكتاب.
__________
(1) سورة البقرة، الآية (187).
(9) الهوام: ما هام في الرأس وانتشر من = قمل = أو نحوه.
(2) الواحدي: أسباب النزول، ص: 26.(1/172)
(72) أسباب النزول والنصّ وأسئلة المخاطبين:
جاءت كثير من آيات سورة البقرة لتجيب عن أسئلة مباشرة من المخاطبين، وهو وجه آخر من وجوه تفاعل النصّ مع السياق، ومن ذلك ما ورد في سبب نزول الآية {= يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوََاقِيتُ لِلنََّاسِ وَالْحَجِّ =} (1). قال معاذ بن جبل: يا رسول الله، إنّ اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلّة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال قتادة: ذكر لنا أنّهم سألوا نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم لم خلقت هذه الأهلّة، فأنزل الله تعالى {= قُلْ هِيَ مَوََاقِيتُ لِلنََّاسِ وَالْحَجِّ =} (2)، وهناك روايات أخرى حول هذه الآية. ومنه ما جاء في سبب نزول الآية {= يَسْئَلُونَكَ مََا ذََا يُنْفِقُونَ قُلْ مََا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوََالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتََامى ََ وَالْمَسََاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمََا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللََّهَ بِهِ عَلِيمٌ =} (3). قال ابن عبّاس: = نزلت في عمرو بن الجموح الأنصاري وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير فقال: يا رسول الله بماذا يتصدّق، وعلى من ينفق؟ فنزلت هذه الآية = (4). وقال في رواية عطاء: = نزلت الآية في رجل أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّ لي دينارا، فقال: أنفقه على نفسك فقال: إنّ لي دينارين، فقال:
أنفقها على أهلك. فقال إنّ لي ثلاثة، فقال: أنفقها على خادمك. فقال إنّ لي أربعة فقال: أنفقها على والديك، فقال: إنّ لي خمسة، فقال: أنفقها على قرابتك فقال: إنّ لي ستّة فقال: أنفقها في سبيل الله وهو أحسنها = (5). وفيه ما نزل في سبب الآية {= يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرََامِ قِتََالٍ فِيهِ =} (6). وفيه قتل المسلمين لابن الحضرمي، وأنّهم غنموا عيره في
__________
(1) سورة البقرة، الآية (189).
(2) الواحدي، أسباب النزول، ص: 28.
(3) سورة البقرة، الآية (215).
(4) الواحدي، أسباب النزول، ص: 35.
(5) الواحدي، أسباب النزول، ص: 35.
(6) سورة البقرة، الآية (217).(1/173)
يوم بقي من الشهر الحرام، فبلغ ذلك كفّار قريش فقدموا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قائلين: أتحلّ القتال في الشهر الحرام فأنزل الله تعالى الآية (1). ولهذه الحادثة روايات أخرى متعدّدة تجدها في ملحق هذه الرسالة. وانظر كذلك ما جاء في سبب نزول الآية {= يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنََافِعُ لِلنََّاسِ وَإِثْمُهُمََا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمََا =} (2). والآية {= وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتََامى ََ =} (3). والآية {= وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ =} (4)، والآية {= وَيَسْئَلُونَكَ مََا ذََا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ =} (5)، وغيرها. إنّ ما يلفتك في هذه المسألة تنوّع الأسئلة، وشمولها لمناحي الواقع الاجتماعي جميعها، فأسئلة تتعلّق بطبيعة العلاقة مع الله عزّ وجل ومنها: {= وَإِذََا سَأَلَكَ عِبََادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ =} (6).
وهي في جواب سؤالهم: أربّنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه = (7). وأسئلة تتعلّق بطبيعة العلاقة مع الملائكة، وأسئلة تتعلق بطبيعة العلاقة مع النبي المرسل، وأخرى تتعلّق بالعلاقات الزوجيّة، وأخرى بالعلاقات الدوليّة (الحرب والسلم)، وأسئلة تتعلّق بالتشكيل الإنساني للفرد في ضعفه وقوّته، وسرّه وعلانيته. وإنّ هذه الروايات لتكشف عن جانب جوهري من جوانب علاقة النصّ بالسياق الاجتماعي الذي تنزّل فيه، وهو علاقة المخاطبين بهذا النصّ، وتفاعلهم معه، وتأثّرهم به، واستجابتهم له، كما أنّ علاقته مباشرة بالصّياغة اللّغوية لهذه الآيات، من مثل تنوّع الضمائر = يسألونك = = قل =، وتنوّع الأساليب مثل الإجابة بالأمر، أو بالنهي، أو بالجملة الخبرية الابتدائيّة أو الطلبيّة، أو الإنكارية وغيرها وهو ما سنجهد في الكشف عنه في الفصل الثالث.
__________
(1) الواحدي، أسباب النزول، ص 36.
(2) سورة البقرة، الآية (219).
(3) سورة البقرة، الآية (220).
(4) سورة البقرة، الآية (222).
(5) سورة البقرة، الآية (219).
(6) سورة البقرة، الآية (186).
(7) الواحدي، أسباب النزول، ص 28.(1/174)
(82) أسباب النزول تضيء خفايا النصّ
إذا كنّا قد أشرنا في أماكن سابقة إلى دور لأسباب النزول في إضاءات إضافية للنّصوص القرآنية، فإنّ بعض الآيات الكريمة لا يمكن قراءتها وفهمها فهما دقيقا صحيحا إلّا في ضوء معرفة سبب نزولها، لا بسبب صعوبة ألفاظها، وإنّما بسبب ما يمكن أن يترتّب على الفهم الحرفي المباشر لهذه الألفاظ من تناقض مع طبيعة المنهج الإسلامي. والأمثلة من سورة البقرة متعدّدة، وكلّها تؤذن بالقول إنّ (أسباب النزول) أو معرفة السياق المقامي الذي رافق النصّ يبدو من أبرز آليّات الدخول لفهم هذا النصّ، وهو صورة أخرى بارزة من صور العلاقة بين النصّ والسياق.
ومن ذلك ما يمكن ان يتبادر إلى الذهن من استغراب حين نقرأ الآية الكريمة {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَقُولُوا رََاعِنََا وَقُولُوا انْظُرْنََا وَاسْمَعُوا وَلِلْكََافِرِينَ عَذََابٌ أَلِيمٌ =} (1). فنتساءل: وما الفرق بين = راعنا = و = انظرنا =؟، ومن ثمّ فما سبب منع استخدام الأولى، وإباحة استخدام الثانية؟ وما علاقة ذلك بقوله: {= وَلِلْكََافِرِينَ عَذََابٌ أَلِيمٌ =}؟ ويزول الاستغراب تماما حين نقرأ سبب النزول، أو حين نعرف السياق المقامي المرافق لهذا الجزء من النصّ، فعن ابن عبّاس في رواية عطاء = أنّ العرب كانوا يتكلّمون بها (راعنا) فلما سمعتهم اليهود يقولونها للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعجبهم ذلك، وكان (راعنا) (9) في كلام اليهود سبّا قبيحا، فقالوا: إنّا كنّا نسبّ محمّدا سرّا، فالآن أعلنوا
__________
(1) سورة البقرة، الآية (104).
(9) أصلها في العربية (رعن)، والأرعن: الأهوج في منطقة المسترخي. والرعونة: الحمق والاسترخاء، وقوله تعالى: {= لََا تَقُولُوا رََاعِنََا =} قيل هي كلمة كانوا يذهبون بها إلى سبّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، اشتقوه من الرعونة، قال ثعلب: إنما نهى الله تعالى عن ذلك لأن اليهود كانت تقول للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا أو راعونا، وهو من كلامهم سب، وقال ابن سيده: وعندي أن في لغة اليهود (راعونا) على هذه الصيغة يريدون الرعونة أو الأرعن، وقد قرأ الحسن لا تقولوا راعنا بالتنوين قال ثعلب: معناه لا تقولوا كذبا وسخريا وحمقا، وأما الكلمة التي كان يستخدمها المؤمنون فهي (راعنا) من (رعى) بمعنى الرعاية(1/175)
السبّ لمحمّد، فإنّه من كلامه، فكانوا يأتون نبيّ الله (صلّى الله عليه وسلّم) فيقولون: يا محمّد راعنا، ويضحكون، فففطن بها رجل من الأنصار وهو سعد بن عبادة وكان عارفا بلغة اليهود، وقال: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفس محمّد بيده لئن سمعتها من رجل منكم لأضربنّ عنقه، فقالوا: ألستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَقُولُوا رََاعِنََا =} (1). إنّ هذا التصرّف بالكلمات الذي كانت تقوم به اليهود هو مفتاح فهم هذه الآية، ومن غير معرفة السياق الخارجي الذي رافق هذا النصّ لم يكن ممكنا أن نفهمه.
ومثل هذا يصادفنا حين نقرأ الآية الكريمة {= إِنَّ الصَّفََا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعََائِرِ اللََّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمََا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللََّهَ شََاكِرٌ عَلِيمٌ =} (2). إن ما يمكن أن نفهمه من هذه الآية أنّ السعي بين الصفا والمروة هو من قبيل التطوّع، مع أنّ المعروف أنّ السعي ركن من أركان الحج. وإنّ هذا التناقض بين ظاهر النص ومفهومه الحقيقي لا يمكن تفسيره إلّا إذا اطّلعنا على سياق الآية الكريمة، والذي يمكن ان نقرأه فيما ترويه السيدة عائشة، وفيما يرويه أنس بن مالك، وفيما يرويه عمرو بن الحسين. وغيرهم، وفيه يقول عمرو بن الحسين: = سألت ابن عمر عن هذه الآية فقال: = انطلق إلى ابن عبّاس فسله فإنّه أعلم من بقي بما أنزل على محمّد صلّى الله عليه وسلّم فأتيته، فسألته، فقال: كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له أساف، وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى نائلة، فزعم أهل الكتاب أنّهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين، ووضعهما على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلمّا
__________
والإمهال، جاء في اللسان: قال الفراء: هو من الإرعاء والمراعاة. انظر لسان العرب مادة (رعن) ومادة (رعى).
(1) الواحدي، أسباب النزول، ص 24.
(2) سورة البقرة، الآية (158).(1/176)
طالت المدّة عبدا من دون الله، فكان أهل الجاهليّة إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنين، فلمّا جاء الإسلام وكسّرت الأصنام كره المسلمون الطواف لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية = (1).
إنّ هذا (السبب) خير شاهد على النصّ الذي لا يمكن فهمه بمعزل عن سياقه الاجتماعي الذي نزل فيه، وإلّا فسيقرأ قراءة مغايرة لما يراد منه، وهو ممّا يمكن أن يشكّل لبسا لدى القارئ المعاصر كما سبّب لبسا للقارئ في تلك العصور الأولى، على نحو ما رأينا في سؤال عمرو بن الحسين لابن عمر. ويكشف فضلا عن ذلك عن آليّات النصّ في معالجة هذا الموضوع الذي نزل ليعالج واقعة بعينها. وانظر في مثالنا قوله تعالى {= فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمََا =} فهناك محذوف في النصّ هو ما يتعلّق بوجود الصنمين، فالجناح متعلّق بوجودهما وليس بالطواف مطلقا.
ومن الأمثلة البارزة كذلك على حدوث مثل هذا اللّبس لدى القدامى فضلا عن المحدثين الآية الكريمة: {= وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَلََا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ =} (2). فيروي الحكم بن عمران هذه المسألة حين يقول: = كنّا بالقسطنطنية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر الجهني صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد صاحب رسول الله فخرج من المدينة صفّ عظيم من الروم، وصففنا لهم صفّا عظيما من المسلمين، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، ثم خرج إلينا مقبلا، فصاح الناس فقالوا: سبحان الله (ألقى بيديه إلى التهلكة). فقام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: = أيّها الناس إنّكم تتأوّلون هذه الآية على غير التأويل، وإنّما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنّا لمّا أعزّ الله تعالى دينه وكثر ناصروه، قلنا بعضنا لبعض سرّا من رسول الله: إنّ أموالنا قد ضاعت، فلو أنّا أقمنا فيها، وأصلحنا ما ضاع منها،
__________
(1) الواحدي، أسباب النزول، ص 25.
(2) سورة البقرة، الآية (195).(1/177)
فأنزل الله تعالى في كتابه يردّ علينا ما هممنا به، فقال: = {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَلََا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ =} في الإقامة التي أردنا أن نقيم، وفي الأموال فنصلحها، فأمرنا بالغزو فما زال أبو أيّوب غازيا في سبيل الله حتى قبضه الله عز وجلّ = (1). إنّ المسلمين في هذه الحادثة قد استدعوا نصّا ليحاكي سياقا جديدا، وهو عكس ما أثرناه في النقطة (531) التي ذكرنا فيها استدعاء النصّ لسياقات سابقة له بسبب تشابه السياقات. ولكنّ استدعاءهم لهذا النصّ لم يكن في محلّه إذ إنّ عدم فهمهم للسياق الذي زامن النصّ جعل قياسهم خاطئا، بل هو مغاير تماما لمقصود النصّ، وفي تعبير أبي أيوب رضي الله عنه = على غير التأويل = فالنصّ يدعو إلى البذل والجهاد وهم فهموا منه عدم التضحية وحتى الجبن باسم الابتعاد عن التهلكة، وهو ما جاء سبب النزول ليوضحه.
ومنه كذلك قوله: {= فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ =} (2)، فإنّا لو تركنا مدلول اللفظ كما هو لاقتضى أنّ المصلّي لا يجب عليه استقبال القبلة سفرا أو حضرا، وهو خلاف الإجماع، فلمّا عرف سبب نزولها (3)، علم أنّها في نافلة السفر، أو فيمن صلّى بالاجتهاد وبان له الخطأ على اختلاف الروايات في ذلك.
إنّ هذه الأمثلة لتؤكّد ما ذهبنا إليه من أنّه لا يمكن فهم النصّ بمعزل عن سياقه، وإنّ هذا السياق لا يشرح النصّ فحسب، بل ينفي التناقض الذي يترتّب على القراءة الظاهرية للنص، كما أنّه يفسّر أيضا طبيعة الصياغة اللّغوية التي جاء النصّ عليها دون غيرها.
__________
(1) الواحدي، أسباب النزول، ص 32.
(2) سورة البقرة، الآية (115).
(3) الواحدي، أسباب النزول، ص 32.(1/178)
(92) أسباب النزول تكشف عن آليّة النصّ في معالجة الواقع الاجتماعي
يأتي النصّ ليخاطب جمهورا من الناس في إطار ثقافتهم، وفي إطار منظومة حياتهم، ليصنع بعد ذلك ثقافة جديدة، ومنظومة جديدة، ويعالج الواقع الاجتماعي لأولئك المخاطبين معالجة تتّفق وخفايا هذا الواقع. فيترفّق حينا، ويشتدّ حينا، ويباشر حينا، ويتدرّج حينا آخر، ويعمّم حينا، ويخصّص حينا آخر، ويأتي الأمر مقتضبا أحيانا، ومفصّلا أحيانا أخرى.
إنّ (أسباب النزول) تكشف عن سرّ هذه المعالجات جميعا، ولعلّ جميع روايات النزول تصلح أن تكون مثلا على هذه النقطة من البحث، ولكنّنا سنختار هنا معالجة النصّ القرآني لمسألة (مال اليتامى) وآية (الإنفاق من الطيّبات) فأمّا مسألة (مال اليتامى) فهو قوله تعالى: {= وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتََامى ََ قُلْ إِصْلََاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخََالِطُوهُمْ فَإِخْوََانُكُمْ وَاللََّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللََّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ =} (1).
فتقرأ في سبب نزولها قول سعيد بن جبير: (لمّا نزلت {= إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوََالَ الْيَتََامى ََ ظُلْماً =}، عزلوا أموالهم، فنزلت {= قُلْ إِصْلََاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخََالِطُوهُمْ فَإِخْوََانُكُمْ =} فخلطوا أموالهم بأموالهم) (2).
إنّ هذا التدرّج في التشريع، مع تشديد الخطاب في الآيات الأولى، ثم إباحة خلط أموال اليتامى بأموال كافليهم هو لأجل حفظ حقوق اليتيم. ولمّا تمّ الاطمئنان إلى سلامة ذلك جاء التخفيف بعد تركّز أهميّة التقوى في التعامل مع أموال الأيتام، ورفعا للحرج عن الأوصياء والكافلين، إذ توضّح رواية ابن عباس أنّ بعض أولئك الكفلاء لمّا نزلت الآية (ولا تقربوا مال اليتيم إلّا بالتي هي أحسن) سارع فعزل طعام اليتيم من طعامه، وشرابه من شرابه، وجعل يفضل الشيء من طعامه فيجلس له حتى يأكله أو يفسد، واشتدّ ذلك عليهم
__________
(1) سورة البقرة، الآية 220.
(2) الواحدي، أسباب النزول، ص 47.(1/179)
فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله عزّ وجل = يسألونك = (1).
وهذا يشرح لنا آليّات التغيير التي اتّبعها النصّ في ذلك المجتمع، والتي يمكن القياس عليها أو الاستئناس بها عند إصدار الأحكام على الحالات المغايرة أو المشابهة. وأمّا آية الإنفاق من الطيّبات، فهي قوله تعالى: {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبََاتِ مََا كَسَبْتُمْ وَمِمََّا أَخْرَجْنََا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلََا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلََّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ =} (2). فيروي جابر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم = أمر بزكاة الفطر بصاع من تمر فجاء رجل بتمر رديء فنزل القرآن بالآية = (3). وعن البراء قال:
نزلت هذه الآية في الأنصار كانت تخرج إذا كان جذاذ النخل من حيطانها أقناء من التمر والبسر، فيعلقّونها على حبل بين أسطوانتين في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيأكل منه فقراء المهاجرين، وكان الرجل يعمد فيخرج قنو الحشف، وهو يظن أنّه جائز عنه في كثرة ما يوضع من الأقناء، فنزل فيمن فعل ذلك = ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون = يعني القنو الذي فيه حشف، ولو أهدي إليكم ما قبلتموه = (4). إنّ هذه الرواية تبرز قيمة الإنفاق في سبيل الله من جانب، ومن جانب آخر فإنّها تريد لهذا الإنفاق أن يكون على شاكلة بعينها، يأخذ صورة مثلى من الانتقاء والاختيار والتجديد لمادّة الإنفاق، وهو ما يمكن فهمه فهما سديدا في ضوء ملاحظة الطباع الإنسانيّة التي تتجلّى في هذه الرواية وفي سواها، وتقدّر الضعف الإنساني وترتقي به إلى مراتب عليا في الإنفاق والاستعلاء. بل تصل بهم إلى المرتبة السامقة حيث تأتي الآيات التالية لتتحدّث عن إبداء الصدقات أو إخفائها، ففي قوله تعالى {= الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ سِرًّا وَعَلََانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلََا}
__________
(1) الواحدي، أسباب النزول، ص 38.
(2) سورة البقرة، الآية (267).
(3) الواحدي، أسباب النزول، ص 48.
(4) نفسه، ص 48.(1/180)
{خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ =} (1). والآية السابقة التي تتحدّث عن تضاعف الصدقة وأجرها العظيم. = كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل = ثمّ الآيات التي تتحدّث عن إتمام الإنفاق من غير منّ ولا أذى، وهو من كمال الصدقة، إنّ سبب النزول الذي مرّ بنا في موضوع الإنفاق يرينا أنّ هدف التربية القرآنية ليس الحديث عن القمّة السامقة، وضرورة الارتقاء إليها، بل هو يعالج الضعف الإنساني كذلك، وكيفيّة التعامل معه، وتحفيز لكوامن الشحن والاستثارة في هذا الكائن الإنساني الذي يحيط به الضعف من كلّ جانب. إنّ أسباب النزول إذن تمدّنا بروافد عديدة تسهم كثيرا في تحليل النصّ. فهي تصف السياق المقامي للنّص، وتصف طبيعة المخاطبين ووقائع أحوالهم، وتكشف عن هدف النصّ، وأثره، وتكشف عن آليّاته في الخطاب والتغيير، وهو ما يحتاج إليه الباحث والمفسّر والمحلّل الاجتماعي واللغوي الذي يتعامل مع النصّ من وجهته الاجتماعيّة بل العامّة.
3 - المخاطبون:
حين درس العلماء المكّي والمدني من القرآن وجدناهم يصنّفون ذلك باعتبارات عديدة ومنها مراعاة أحوال المخاطبين، ومن ذلك اعتبارهم النصّ مكيّا إذا وقع خطابا لأهل مكّة، ومدنيّا إذا وقع خطابا لأهل المدينة، وعليه يحمل قول من قال: = إنّ ما صدّر في القرآن بلفظ = يا أيّها الناس = فهو مكّي، وما صدّر فيه بلفظ = يا أيها الذين آمنوا = فهو مدني، لأنّ الكفر كان غالبا على أهل مكّة فخوطبوا بيا أيّها الناس، وان كان غيرهم داخلا فيهم، ولأنّ الإيمان كان غالبا على أهل المدينة فخوطبوا ب = يا أيّها الذين آمنوا =، وان كان غيرهم داخلا فيهم أيضا، وألحق بعضهم صيغة = يا بني آدم = بصيغة = يا أيها الناس = (2).
وهذا التقسيم بحسب المخاطب مع مراعاة أثر ذلك في طبيعة النصّ ولغته، طور متقدّم من أطوار الربط بين النصّ والسياق لدى أصحاب علوم القرآن. وسنجد الانعكاسات
__________
(1) سورة البقرة، الآية (274).
(2) الزرقاني، مناهل العرفان، ص: 193.(1/181)
الأسلوبيّة واللّغوية لهذا الاعتبار، حين ندرس مراعاتهم لموضوع الخطاب في مبحث (السياق الداخلي أو السياق اللغوي في سورة البقرة).
ومن تتبعهم لحال المخاطبين ما نقله أبو عثمان الزعفراني عن مجاهد، وسبق ذكره في موضع آخر من هذه الرسالة قوله = أربع آيات من أوّل هذه السورة نزلت في المؤمنين، وآيتان بعدها نزلتا في الكافرين، وثلاث عشرة بعدها نزلت في المنافقين = (1). ومن ذلك أيضا ما ذكره علقمة أنّ قول الله عزّ وجل {= يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} = (2).
خطاب لمشركي مكّة إلى قوله {= وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا =} (3)، قال: وهذه الآية نازلة في المؤمنين وذلك أنّ الله تعالى لمّا ذكر جزاء الكافرين بقوله: {= النََّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النََّاسُ وَالْحِجََارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكََافِرِينَ =} (4)، = ذكر جزاء المؤمنين = (5). وقوله {= إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا =} (6). قال ابن عبّاس في رواية أبي صالح: = لمّا ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين يعني قوله: {= مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً =}، وقوله {= أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمََاءِ =} قالوا: الله أجلّ وأعلى من أن يضرب الأمثال فأنزل الله هذه الآية = (7).
ومنه كذلك، ما ذكر في الآية (46) من سورة البقرة {= وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلََاةِ، وَإِنَّهََا لَكَبِيرَةٌ إِلََّا عَلَى الْخََاشِعِينَ =}. فعند أكثر أهل العلم أنّ هذه الآية خطاب لأهل الكتاب، وهو مع ذلك أدب لجميع العباد، وقال بعضهم: رجع بهذا الخطاب إلى خطاب المسلمين، والقول الأوّل أظهر = (8).
__________
(1) الواحدي، أسباب النزول، ص 11.
(2) سورة البقرة، الآية (21).
(3) سورة البقرة، الآية (25).
(4) سورة البقرة، الآية (24).
(5) أسباب النزول، ص (22).
(6) سورة البقرة، الآية (26).
(7) أسباب النزول، ص 12.
(8) نفسه، ص 13.(1/182)
4 - الناسخ والمنسوخ في سورة البقرة
تعرّفنا على معنى النسخ في موضع سابق من هذا الكتاب، ونعرض هنا لمعالجة اثنين من علماء القرآن (9) لمسألة الناسخ والمنسوخ، والجوانب التي استعانوا فيها بأدوات الدرس السياقي لتمييز الآيات التي وقع فيها نسخ من تلك التي لم يقع بها. وهذان العالمان هما ابن الجوزي ومكّي بن أبي طالب، وذلك من خلال شواهد سورة البقرة، ومن هذه الشواهد قوله تعالى: {= إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا وَالنَّصََارى ََ وَالصََّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صََالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ =} (1). قيل إنّها نسخت بقوله تعالى: {= وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلََامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ =} (2). ويرى ابن الجوزي أنّ هذا النسخ لا يصحّ لوجهين: = أمّا الوجه الأوّل فإنّه إن أشير بهذه الآية لمن كان تابعا لنبيّه قبل بعثة النبيّ الآخر فأولئك على الصواب، وإن أشير إلى من كان في زمن نبيّنا محمّد فإنّ من ضرورة من لم يبدّل دينه ولم يحرّف أن يؤمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم يتبعه، وأمّا الثّاني فإنّ هذه الآية خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ = (3). وإذن فقد اتكّأ ابن الجوزي على ثلاثة من عناصر الرسالة اللّغوية لينفي وقوع النسخ، وأمّا العنصر الأوّل فهو المخاطب (من كان قبل البعثة أو بعدها)، والثاني عنصر الأسلوب والصياغة اللّغوية، والثالث هو زمن الخطاب، وكلّها عناصر متّصلة بالسياق.
__________
(9) كتب الناسخ والمنسوخ تذكر الروايات نفسها في الغالب، وتم اختيار المصدرين أعلاه لوضوح اللغة والمعالجة فيهما لهذا المبحث من مباحث علوم القرآن.
(1) سورة البقرة، الآية 62.
(2) سورة آل عمران، الآية (85).
(3) ابن الجوزي: الحافظ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي القرشي البغدادي، نواسخ القرآن، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت / لبنان، 1985، ص 43.(1/183)
وفي الآية الكريمة = {وَقُولُوا لِلنََّاسِ حُسْناً =} (1)، يستعين ابن الجوزي أيضا بعنصر = المخاطب = بهذه الآية لنفي النسخ، فقد اختلف المفسّرون في المخاطبين بهذا على نوعين:
الأوّل أنّهم اليهود والثاني أنّهم المشركون، وإذا كان المخاطبون بهذه الآية هم المشركون فهي منسوخة بآية السيف (9). قال ابن الجوزي: = وهذا قول بعيد لأنّ لفظ (الناس) عام فتخصيصه بالكفّار يفتقر إلى دليل، ولا دليل هاهنا، ثم إنّ إنذار الكفّار من الحسنى = (2).
إنّ ابن الجوزي قد اعتمد على عنصر المخاطب مقرونا بالسياق اللغوي للنصّ (التعميم والتخصيص) للوصول إلى نفي النسخ. ونجد قريبا من هذا ما جاء في نسخ الآية {= فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتََّى يَأْتِيَ اللََّهُ بِأَمْرِهِ =} (3). فقد قيل إنّ الله أمر بالعفو والصفح عن أهل الكتاب قبل أن يأمر بقتالهم، ثم نسخ العفو والصفح بقوله: {= قََاتِلُوا الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ =} (4). ونفى ابن الجوزي النسخ فيها قال: = لأنّه لم يأمر بالعفو مطلقا، وأنّما أمر به إلى غاية، وبيّن الغاية بقوله: {= حَتََّى يَأْتِيَ اللََّهُ بِأَمْرِهِ =} وما بعد الغاية يكون حكمه مخالفا لما قبلها، وما هذا سبيله لا يكون أحدهما ناسخا للآخر، بل يكون الأوّل قد انقضت مدّته بغايته والآخر محتاجا إلى حكم آخر = (5). فإنّ الحكم استند هنا على أحوال المخاطبين واستجابتهم من عدمها في وقت معلوم وفي ظرف محدّد، واستعان كذلك بالسياق اللّغوي من حيث (الإطلاق والتقييد) في تحديد النسخ.
وفي الآية (159) من سورة البقرة {= إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مََا أَنْزَلْنََا مِنَ الْبَيِّنََاتِ وَالْهُدى ََ =} إلى قوله {= اللََّاعِنُونَ =}، قال ابن الجوزي = قد زعم قوم من القراء الذين قلّ حظهم
__________
(1) سورة البقرة، الآية (83).
(9) آية السيف هي الآية (36) من سورة التوبة، وهي قوله تعالى: {(قََاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمََا يُقََاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)}.
(2) ابن الجوزي، نواسخ القرآن، ص 44.
(3) سورة البقرة، الآية (109).
(4) سورة التوبة، الآية (29).
(5) ابن الجوزي، نواسخ القرآن، ص 46.(1/184)
من علم العربيّة والفقه أنّ هذه الآية منسوخة بالاستثناء بعدها، ولو كان لهم نصيب من ذلك لعلموا أنّ الاستثناء ليس بنسخ، وإنّما هو إخراج بعض ما شمله اللفظ = (1). ويدعم ابن الجوزي رأيه هذا من خلال العالم الواقعي في أنّ الناسخ والمنسوخ لا يمكن العمل بأحدهما إلّا بترك العمل بالآخر، وفي هذه الآية يمكن العمل بالمستثنى والمستثنى منه، ويستند كذلك إلى هدف النصّ، فالجمل = إذا دخلها الاستثناء يثبت أنّ المستثنى لم يكن مرادا دخوله في الجملة السابقة، وما لا يكون مرادا باللّفظ الأوّل لا يدخل عليه النسخ = (2).
وفي قوله تعالى: {= فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ =} (3). اختلف المفسّرون في نسخها، وبنوا هذا الاختلاف على اختلافهم في غرض الآية (الهدف) وذلك على قولين:
الأوّل: أنّه الانتهاء عن الكفر. والثاني: عن قتال المسلمين لا عن الكفر، فعلى القول الأول الآية محكمة، والثاني يختلف في المعنى فمن المفسّرين من يقول: (فإنّ الله غفور رحيم) إذ لم يأمركم بقتالهم في الحرم، بل يخرجون منه على ما ذكرنا في الآية التي قبلها فلا يكون نسخ أيضا. ومنهم من يقول: المعنى اعفوا عنهم وارحموهم فيكون لفظ الآية خبر ومعناه الأمر بالرحمة لهم والعفو عنهم، وهذا منسوخ بآية السيف (4). فهنا أدّى غرض الخطاب دورا أساسيّا في تحديد المنسوخ من عدمه ومن أمثلة الاعتماد على غرض النصّ في تحديد النسخ كذلك. آية الخمر {= يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنََافِعُ لِلنََّاسِ =}. فقد اختلف العلماء في هذه الآية، فقال قوم = إنّها تضمّنت ذمّ الخمر لا تحريمها، فإنّ كان الذم، فهي منسوخة بقوله تعالى: = فاجتنبوه = وإذا كان الهدف منها التحريم فلا نسخ فيها (5).
__________
(1) ابن الجوزي، نواسخ القرآن، ص 55.
(2) نفسه، ص 55.
(3) سورة البقرة، الآية (192).
(4) ابن الجوزي، نواسخ القرآن، ص 74.
(5) نفسه، ص 82.(1/185)
وكثيرا ما يلجأ علماء القرآن إلى زمن النزول لتحديد المنسوخ، ومنه ما جاء في ذكر الآية (21) من سورة البقرة، فقد اشترط ابن الجوزي للقول بنسخها = أن يثبت أنّ نزول قوله {= فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً =} تأخّر عن نزول أوّل الآية ولا يثبت هذا = (1). ونعرف أنّ زمن النزول من العناصر الرئيسة في السياق المقامي للنصّ، وزمن النزول متّصل بحال المخاطبين والوقائع المصاحبة لنزول النصّ. فالوقائع المصاحبة مهمّة في تحديد معنى النصّ.
وهل هو محكم أم منسوخ، وظروف المخاطبين عنصر أساس في تحديد ذلك. وانظر إلى ما ذكر في الآية {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصََاصُ فِي الْقَتْلى ََ =} (2). قال ابن عبّاس: = هذا منسوخ بقوله تعالى = في المائدة: = النفس بالنفس = (3). قال مكّي بن أبي طالب: = وهذا لا يجوز عند جماعة من العلماء لأنّ ما فرضه الله علينا لا ينسخه ما حكى الله من شريعة غيرنا إنّما أخبرنا الله في المائدة بما شرع لغيرنا، لم يفرضه علينا = (4). ثم يذكر رأي الشعبي وهو = أنّ آية البقرة مخصوصة نزلت في قوم تقاتلوا، فقتل منهم خلق كثير وكانت إحدى الطائفتين أعزّ من الأخرى فقالت العزيزة: لا يقتل العبد منّا إلّا بالحرّ منكم ولا الأنثى إلّا بالرجل منكم، فنزلت الآية، في ذلك، ثمّ هي في كل من أراد أن يفعل كفعلهم فهي محكمة = (5). وإذن فطبيعة الواقعة، وطبيعة (سياق الحال) الذي تنزّل فيه النصّ استدعت صياغته على هذا النحو، وفي (المائدة) جاءت بصياغة أخرى، وهذا الاختلاف في السياقات استدعى اختلاف النّصوص، ومن ثمّ فلا نسخ، وقال السدّي عبارة بليغة، لها علاقة بحديثنا عن سبب النزول وزمنه وعلاقته بالنصّ قال: = هي مخصوصة في فريقين تقاتلا، والنسخ إنّما هو لبيان الأزمان التي انتهى إليها الفرض الأوّل، وابتدأ منها الفرض الثاني = (6).
__________
(1) ابن الجوزي، نواسخ القرآن، ص 74.
(2) سورة البقرة، الآية 178.
(3) مكيّ بن أبي طالب، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، ط 1دار المنارة، جدة، 1986، ص 134.
(4) نفسه، ص 135.
(5) نفسه، ص 135.
(6) نفسه، ص 134.(1/186)
ويستعين علماء القرآن بالسياق اللّغوي في تعيين وجود حذف، أو ما يعود عليه الإضمار في تحديد النسخ أو عدمه، وهو كثير، ومنه ما ذكر في نسخ الآية {= وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعََامُ مِسْكِينٍ =} (1). فذهب ذاهبون إلى أنّ الهاء راجعة على الفداء، وقدّروه = وعلى الذين يطيقون الفداء إذا كرهوا الصوم فدية طعام مساكين = فنسخ ذلك بما بعده. وبنى آخرون على أنّ الهاء تعود على الفداء أيضا، والآية غير منسوخة، وقالوا:
نزلت الرخصة في الشيخ الفاني والعجوز الهرمة فالمعنى على هذا القول وعلى الذي يطيقون الفداء ولا يطيقون الصوم فدية طعام مساكين، وقال ابن الأنباري، وإنّما رجعت الهاء على الفداء، وإن لم يتقدّم ذكره، كما رجعت الهاء في قوله: {= فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ =}
على غير مذكورين، يريد أنّ الخطاب يدلّ على صاحب الإضمار = (2). وهنا تؤدّي الضمائر وصيغة الخطاب دورا أساسا في تحديد حدوث النسخ، وفي توضيح معنى الآية. ويطالعنا نصّ نفيس يربط موضوع النسخ بسياق الحال عند مكّي بن أبي طالب خلال حديثه عن النسخ في آية الخمر التي سلف القول حولها يقول: = وسورة البقرة مدنيّة، فلا يعترض على ما فيها بما نزل في الأنعام المكّية في قوله: {= قُلْ لََا أَجِدُ فِي مََا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى ََ طََاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلََّا أَنْ يَكُونَ =} (3) لأنّ هذا تحريم نزل بمكّة والخمر نزل تحريمها بالمدينة = (4)، وظروف المدينة غير ظروف مكّة، وسياق الحال مختلف وما يلزم المسلمين هناك قد لا يلزمهم هنا، ومن ثمّ فالآية تقرأ في سياقها. ما لم يكن في الخطاب دليل على غير ذلك كما يشير علماء القرآن في موضوع الناسخ كثيرا.
ويؤدّي موضوع الخطاب دورا آخر في هذه المسألة، وهو عنصر رئيس من عناصر الرسالة اللّغوية، وأمثلته عديدة، ومنها ما ذكر في قوله تعالى: {= وَإِنْ تُبْدُوا مََا فِي}
__________
(1) سورة البقرة، آية (184).
(2) مكيّ بن أبي طالب، الإيضاح في لناسخ القرآن ومنسوخه، ص 154.
(3) سورة الانعام، الآية (145).
(4) مكيّ بن أبي طالب، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، ص 166.(1/187)
{أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحََاسِبْكُمْ بِهِ اللََّهُ =} (1). قيل هي منسوخة بقوله {= لََا يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا =} (2). وقيل = الآية مخصوصة محكمة نزلت في كتمان الشهادة خاصّة، ودلّ على ذلك تقدّم ذكر الشهادة والأمر بترك كتمانها وأدائها = (3). فتعيين الموضوع الذي تضمّنته الآية كفيل بتوضيح حدوث النسخ أو عدمه.
ب السياق الداخلي في سورة البقرة في كتب علوم القرآن:
إذا ما انتقلنا من السياق المقامي (الخارجي) أو سياق التخاطب إلى السياق الداخلي فإنّ البحث عن دلالة سياق الترتيب هي أبرز ما يطالعنا، ولقد تناول علماء القرآن جانبا من هذا البحث في (علم المناسبة بين الآيات والسور) وقد حاولوا في هذا اكتشاف الروابط العقليّة أو الذهنيّة أو اللّغويّة، ولا يختلف هنا المستشرق (جاك بيرك) في تعقيبه على ترجمته للقرآن إلى اللّغة الفرنسيّة عن منظور علماء القرآن من حيث اعتبارهم أنّ القرآن نصّ موحّد متجانس، وأمّا المستوى الثاني من مستويات السياق الداخلي فهو سياق الخطاب نفسه، أو سياق القول، فسياق القصّ مثلا، وسياق الأمر والنهي، وسياق الترغيب والترهيب، وسياق الوعد والوعيد، وسياق الجدل والسّجال، وسياق التهديد. والإنذار، وسياق الوصف، وسياق العقائد والتشريعات، وكلّ مستوى من مستويات الخطاب يتجلّى في بنية لغويّة داخل إطار النظام اللّغوي العامّ للنصّ، الأمر الذي يعني أنّ تعدّدية النصّ على مستوى سياقه الداخلي بالإضافة إلى تعدّد مستويات سياق الخطاب، يفرض تعدّدية في اللّغات الثانويّة للنصّ، وهو ما كان موضوعا أساسيّا لدراسات الإعجاز القرآني.
ويرتبط علم المناسبة بقضية الإعجاز من حيث هي في حقيقتها بحث في آليّات النصّ الخاصّة التي تميّزه داخل سياق الثقافة. إنّ الفارق بين علم المناسبة وعلم أسباب
__________
(1) سورة البقرة، الآية 284.
(2) سورة البقرة، الآية 286.
(3) مكيّ بن أبي طالب، الإيضاح في لناسخ القرآن ومنسوخه، ص 200.(1/188)
النزول فارق بين درس علاقات النصّ في صورتها الأخيرة النهائيّة، وبين درس أجزاء النصّ من حيث علاقاتها بالظروف الخارجيّة أو السياق الخارجي لتكوّن النصّ وتشكّله.
إنّه بعبارة أخرى فارق بين البحث عن جماليّات النصّ، وبين البحث عن دلالة النصّ على الوقائع الخارجيّة، ومن هنا نفهم إصرار القدامى على أنّ علم أسباب النزول (علم تاريخي) في حين أنّ علم المناسبة علم أسلوبي، بمعنى أنّه يهتمّ بأساليب الارتباط بين الآيات والسور.
وقد كان العلماء والباحثون القدامى على وعي بإمكان الاعتراض على هذا العلم باعتبار أنّ القرآن نزل في أوقات وأماكن مختلفة، وعلى هذا الاعتراض يجيب أحد مشايخ الزركشي قائلا: = قد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريم مناسبة لأنّها على حسب الوقائع المتفرّقة، وفصل الخطاب أنّها على حسب الوقائع تنزيلا، وعلى حسب الحكمة ترتيبا، فالمصحف كالصحف الكريمة على وقف ما في الكتاب المكنون، مرتّبة سوره كلّها وآياته بالتوقيف، وحافظ القرآن لو استفتي في أحكام متعدّدة، أو ناظر فيها، أو أملاها لذكر آية كلّ حكم على ما سئل، وإذا رجع إلى التلاوة لم يتل كما أفتى، ولا كما نزل مفرّقا، بل كما أنزل جملة إلى بيت العزّة، والذي ينبغي في كلّ آية أن يبحث أوّل كلّ شيء عن كونها مكمّلة لما قبلها مستقلّة، ثم المستقلّة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك علم جمّ، وهكذا في السور يطلب وجه اتّصالها بما قبلها، وما سيقت له = (1).
ولعلّ السطر الأخير في هذا الاقتباس يوضح المسألة تماما، فعلم المناسبة يبتغي جلاء العلاقة بين النصّ وسياقه الداخلي (الاتّساق الداخلي) من خلال النظر إلى النصّ في تشكّله الأخير (ترتيب التلاوة) بغضّ النظر عن ترتيب النزول علما أنّ لا تعارض أبدا بين الاتّساقين (الداخلي والخارجي).
والمناسبة بين الآيات والسور تقوم على أساس أنّ النصّ وحدة بنائيّة مترابطة الأجزاء، ومهمّة المفسّر محاولة اكتشاف هذه العلاقات أو المناسبات الرابطة بين الآية والآية
__________
(1) الزركشي، البرهان، 1/ 37.(1/189)
من جهة، وبين السورة والسورة من جهة أخرى، وبديهي أنّ اكتشاف هذه العلاقات يعتمد على قدرة المفسّر وعلى نفاذ بصيرته في اقتحام آفاق النصّ.
وحين عدّد الزرقاني في = مناهل العرفان = حكم نزول القرآن منجّما، قال في الحكمة الرابعة: = الإرشاد إلى مصدر القرآن، وأنّه كلام الله وحده، وأنّه لا يمكن أن يكون كلام محمّد صلّى الله عليه وسلّم ولا كلام مخلوق سواه، وبيان ذلك أنّ القرآن الكريم تقرؤه من أوّله إلى آخره، فإذا هو محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قويّ الاتّصال، آخذ بعضه برقاب بعض في سوره وآياته، وجمله، يجري دم الإعجاز فيه كلّه من ألفه إلى يائه، كأنه سبيكة واحدة وعقد فريد يأخذ بالأبصار، نظمت حروفه وكلماته، وبدا أوّله مواتيا لآخره = (1). ويتساءل الزرقاني بعد ذلك: كيف اتّسق للقرآن هذا التأليف المعجز، وكيف استقام هنا التناسق المدهش، على حين أنّه لم يتنزّل جملة واحدة، بل تنزّل آحادا مفرّقة تفرّق الوقائع والحوادث في أكثر من عشرين عاما؟ ويجيب بالآية الكريمة: {= وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً =} (2). ومرجع المناسبة في السور والآيات كما يرى السيوطي وجود رابط بينها عامّ أو خاصّ، عقلي أو حسّي أو خيالي، وغير ذلك من أنواع العلاقات أو التلازم = (3) وفائدته جعل أجزاء الكلام متّصلة مترابطة متلائمة كالبناء المحكم كما وصفها الزركشي (4).
وقد حاول علماء القرآن إيجاد روابط عامّة بين السور من حيث المضمون أوّلا، وكان من الضروري أن تحتلّ سورة (الفاتحة) مكانة خاصّة من حيث إنّها تمثّل المدخل الأساسي للنصّ كما يتبيّن من اسمها (الفاتحة) أو (أمّ الكتاب). إنّ (الفاتحة) تتضمّن كما يرى علماء القرآن كلّ أقسام القرآن، فهي تشكّل الافتتاحيّة، وتحصر علوم القرآن،
__________
(1) الزرقاني، مناهل العرفان، ص 24.
(2) سورة النساء، الآية (82).
(3) السيوطي، الإتقان، 2/ 235.
(4) الزركشي، البرهان، 1/ (3635).(1/190)
وتشير سورة الفاتحة إلى كلّ قسم منها على سبيل التمهيد والافتتاح، وبذلك تكتسب مكانتها بوصفها (أمّ الكتاب). وهذه العلوم هي التوحيد والتذكير والأحكام، فالتوحيد تدخل فيه معرفة المخلوقات، ومعرفة الخالق بأسمائه وصفاته وأفعاله، والتذكير ومنه الوعد والوعيد، والجنّة والنار، وتصفية الظاهر والباطن، والأحكام ومنها التكاليف، وتبيّن المنافع والمضار، والأمر والنهي والندب. والتوحيد يأتي من أوّل سورة الفاتحة إلى قوله: {= يَوْمِ الدِّينِ =}، وأمّا الأحكام ف {= إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ =}، وأمّا التذكير فمن قوله (اهدنا) إلى آخرها (1) وقد أدّى انحصار أقسام القرآن في هذه العلوم الثلاثة إلى كشف العلاقات بين الفاتحة والقرآن كلّه.
ولكنّ العلاقات العامّة ليست بديلا عن العلاقات الخاصّة التي توجد بين سورة الفاتحة، وسورة البقرة، والعلاقة الخاصّة أقرب إلى أن تكون علاقة أسلوبيّة لغويّة، في حين تكون العلاقات العامّة علاقات في المضمون والمحتوى، هذه العلاقة الأسلوبية اللّغوية تتمثّل في أنّ سورة الفاتحة تنتهي بالدعاء {= اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {وَلَا الضََّالِّينَ =} وهذا الدعاء يجد الإجابة عليه في أوّل سورة البقرة {= الم ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ =}
ويكون النصّ على ذلك متّصلا، = كأنّهم لمّا سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم:
ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب = (2). و = قال بعض الأئمة: وسورة الفاتحة تضمّنت الإقرار بالربوبيّة والالتجاء إليه في دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهوديّة والنّصرانية، وسورة البقرة تضمّنت قواعد الدين، وآل عمران مكمّلة لمقصودها = (3).
وإذا كان الارتباط بين سورة الفاتحة وسورة البقرة ارتباطا أسلوبيّا، فإنّ العلاقة بين سورة البقرة وسورة آل عمران أشبه بالعلاقة بين الدليل وشبهات الدليل من حيث إنّ
__________
(1) الزركشي، البرهان، 1/ 17.
(2) السيوطي، الإتقان، 1/ 243.
(3) نفسه.(1/191)
سورة البقرة = بمنزلة إقامة الدليل على الحكم، وذلك لأنّها تضمّنت قواعد الدين، أمّا سورة آل عمران فكانت بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم = (1). ولهذا = ورد فيها ذكر المتشابه لما تمسّك به النّصارى، وأوجب الحجّ في آل عمران، وأمّا في = البقرة = فذكر أنّه مشروع، وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه، وكان خطاب النّصارى في آل عمران أكثر، كما أنّ خطاب اليهود في البقرة أكثر، لأنّ التوراة أصل والإنجيل فرع لها = (2).
ولاحظ علماء القرآن كذلك اقتران ذكر المتشابه فيها بظهور الحجّة والبيان، = فإنّه نزل أوّلها في آخر الأمر لمّا قدم وفد نجران النّصارى، وآخرها يتعلّق بيوم أحد، والنّصارى تمسّكوا بالمتشابه، فأجيبوا عن شبههم بالبيان، ويوم أحد تمسّك الكفّار بالقتال فقوبلوا بالبيان، وبه يعلم الجواب لمن تتّبع المتشابه من القول والفعل = (3). وبهذا يكون علماء القرآن قد استصحبوا المقام الاجتماعي واستعانوا به في إبراز هذا الربط وهذا التناسب.
وإذا كان هذا الترابط بين سورة (البقرة) و (آل عمران) ترابطا يعتمد على نوع من التأويل يكاد يقصر محتوى سورة (آل عمران) على الآية السابعة منها، فإنّ علينا أن نلاحظ كيف اعتمد المفسّر في هذا التأويل على (سبب النزول) أو (المقام) أوّلا، ثمّ كيف أعاد تفسير آخر السورة اعتمادا على سبب نزوله أيضا موقعة أحد ليربطه بمفهوم (التشابه)، وقد أدّى هذا التأويل إلى اختصار محتوى سورة (آل عمران) في الجواب على (شبهات الخصوم) وذلك لتكون مكمّلة لسورة البقرة المتضمّنة (إقامة الدليل على الحكم) وهذا الحكم متضمّن في سورة الفاتحة ويشتمل على = الإقرار بالربوبية والالتجاء إليه في دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهودية والنّصرانية = (4). فالأحكام التي دلت عليها سورة الفاتحة، تتضمّن سورة البقرة الدليل عليها، وتتضمن سورة (آل عمران) الجواب على
__________
(1) الإتقان، 1/ 243.
(2) الزركشي، البرهان، 1/ 261.
(3) نفسه.
(4) نفسه، 1/ 260.(1/192)
شبهات الخصوم الخاصّة بهذا الدليل، ولمّا كانت شبهات الخصوم على الدليل الإسلامي تأتي من جانب اليهود، أو من جانب النّصارى فقد كان من الطبيعي أن تسبق سورة البقرة سورة آل عمران بحكم أسبقيّة علاقة الإسلام باليهود من جهة بحكم التجاور المكاني، وبحكم أسبقيّة التوراة للإنجيل من جهة أخرى من الناحية التاريخيّة.
إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم = وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر، كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب، ولهذا كانت السور المكّية فيها الدين الذي اتّفق عليه الأنبياء، فخوطب بها جميع الناس. والسور المدنيّة فيها خطاب من أقرّ بالأنبياء من أهل الكتاب فخوطبوا (يا أهل الكتاب) و (يا بني إسرائيل) (1). وهذا انعكاس واضح للمقام (أو السياق الحالي) داخل النصّ سواء في حجم الموضوعات، أو في أسلوب الخطاب، أو في مناسبة الخطاب لطبيعة المخاطبين، إنّ (الظرف) أو سياق الحال يتبدّى داخل دقائق النصّ، كما أنّ السياق الداخلي للنصّ يسوده الانسجام، والتواؤم. ويشير الإمام الفخر الرازي إلى هذا التناسب حين يقول في مقدّمة تفسيره لسورة البقرة: = ومن تأمّل في لطائف نظم هذه السورة، وفي بدائع ترتيبها، علم أنّ القرآن كما أنّه معجز بحسب فصاحة ألفاظه، وشرف معانيه، فهو أيضا بسبب ترتيبه ونظم آياته، ولعلّ الذين قالوا إنّه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك = (2).
وجدير بالذكر أنّ موضوع التناسب بقي ملاحظات متفرّقة تدور حول مناسبة الآية في السورة الواحدة، أو مناسبة آخر السورة السابقة لبداية السورة اللاحقة، ومن ذلك ما ذكروه حول ابتداء سورة البقرة ب (الم) وانتهائها ب {(وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)} (3).
وأنّ سورة آل عمران مبدوءة ب (الم) ومنتهية بقوله تعالى: {(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)} (4)،
__________
(1) الزركشي، البرهان، 1/ 261.
(2) تفسير الرازي، ج 1/ ص 37.
(3) سورة البقرة، الآية (5).
(4) سورة آل عمران، الآية (200).(1/193)
وملاحظتهم أنّه بعد مقدّمة سورة البقرة يأتي قوله تعالى: {= يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ =} (1). وأنّ سورة (النساء) الآتية بعد سورة (آل عمران) مبدوءة بقوله تعالى: {= يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ =} (2). وأنّه بعد آيات من سورة البقرة يأتي قوله تعالى: {= وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثََاقِهِ =} (3). وأنّ سورة المائدة الآتية بعد سورة النساء مبدوءة بقوله تعالى: {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ =} (4) ولاحظوا كذلك أنّه بعد ذلك يأتي في سورة البقرة قوله تعالى: {= هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً =} (5). وأنّ سورة الأنعام تفصّل هذا المعنى، ولذلك تتكرّر فيها الآيات المبدوءة بقوله تعالى: (وهو) بل آخر آية فيها هي قوله تعالى {= وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلََائِفَ الْأَرْضِ =} (6). وصلة ذلك بآية البقرة واضحة. وبعد ذلك تأتي في سورة البقرة قصّة آدم عليه السلام وهي منتهية بقوله تعالى: {= فَمَنْ تَبِعَ هُدََايَ فَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ =} (7). وأنّ الآية الثانية في سورة الأعراف هي قوله تعالى: = اتبعوا ما أنزل عليكم من ربكم =، وأنّ قصة آدم معروضة فيها منذ بدايتها. ثمّ بعد ذلك بآيات كثيرة في سورة البقرة تأتي الآية التي يفرض بها القتال
__________
(1) سورة البقرة، الآية (21).
(2) سورة النساء، الآية (1).
(3) سورة البقرة، الآية (27).
(4) سورة المائدة الآية (1).
(5) سورة البقرة، الآية (29).
(6) سورة الأنعام، الآية (165).
(7) سورة البقرة، الآية (38).(1/194)
{(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتََالُ)} (1)، وبعدها مباشرة آية فيها سؤال عن قضيّة لها صلة بالقتال {= يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرََامِ قِتََالٍ فِيهِ =} (2). وأنّ سورة الأنفال وبراءة وهما في موضوع واحد وهو القتال قد بدئتا بقوله تعالى = يسألونك = فكأنّهما تفصيل لقضايا متعلقة بالقتال. وكأنّهم لاحظوا تسلسلا واضحا بين السور السبع الأولى التي جاءت بعد البقرة، وأنّ هذه السور التي جاءت بعد سورة البقرة مباشرة أتت على تسلسل معيّن، هو التسلسل نفسه الذي جاءت به المعاني في سورة البقرة، وأنّ لكلّ سورة منها موضوعا محدّدا موجودا في سورة البقرة.
ولقد لفتت هذه الملاحظات المتفرّقة الأستاذ سعيد حوّى في العصر الحديث، وحاول أن ينشئ منها نظريّة متكاملة في التناسب بين سور القرآن في تفسيره (الأساس في التفسير)، ورأى أنّ هذه النظرية تعطي أجوبة على كثير من الأمور ممّا له صلة بوحدة السورة، ووحدة المجموعة القرآنية، ووحدة القسم القرآني، ثمّ في الوحدة القرآنيّة كلّها.
ويشرح حوّى صنيعه هذا من خلال تتابع أقسام القرآن وهي الطوال والمئين والمثاني والمفصّل، ويشرح التعالق بين سور كلّ قسم من هذه الأقسام وارتباط الفاتحة بسور القرآن كلها. وخاصّة ارتباطها بسورة البقرة، ومن ذلك أنّ الفقرة قبل الأخيرة من سورة الفاتحة هي قوله تعالى {= إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ =}، وأنّ القسم الأوّل من سورة البقرة يبدأ بقوله تعالى {= يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ =} وينتهي بقوله تعالى: {= وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللََّهِ أَنْدََاداً =} فمقدّمة سورة البقرة مرتبطة بآخر فقرة في الفاتحة، والقسم الأول من سورة البقرة مرتبط بالفقرة الثانية، وأن القسم الثاني في البقرة مرتبط بالفقرة الأولى من الفاتحة {= الْحَمْدُ لِلََّهِ =} و = اشكروا الله إن كنتم إيّاه تعبدون = (3). وعلى وجاهة عمل (حوّى) رحمه الله
__________
(1) سورة البقرة، الآية (216).
(2) سورة البقرة، الآية (217).
(3) سعيد حوى، الأساس في التفسير، ص: (2522).(1/195)
في هذا التفسير إلّا أنّ جلّ ملاحظاته قد ذكرها العلماء القدامى في كتب التفسير وعلوم القرآن متناثرة هنا وهناك.
وفيما يتعلق بالتناسب بين الآيات في السورة الواحدة، فقد قال فيه الشيخ عز الدين بن عبد السلام: = المناسبة علم حسن لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متّحد مرتبط أوّله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط، ومن ربط ذلك فهو متكلّف بما لا يقدر عليه، إلّا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث = (1).
فالبحث في التناسب له محاذير من حيث تمحّل وجوه المناسبة وإخضاع النصّ لشوارد الباحثين، ولكنّ الفوائد المترتّبة على البحث في المناسبة عديدة، وإذا كان البحث عن المناسبة بين السور قد حاول كما رأينا أن يقيم للنص وحدة عامّة تعتمد على تأسيس علاقات متعدّدة ومختلفة ذات طابع تأويلي في أغلب الأحيان، فإنّ البحث عن المناسبة بين الآيات يدخلنا مباشرة في صميم الدرس اللّغوي لآليات النصّ، فإنّ مفهوم وحدة النصّ مفهوم يرتدّ إلى قضية الإعجاز بمعنى أن كلام الله مغاير لكلام غيره سبحانه وتعالى.
وإذا كانت بعض الآيات لا تحتاج في بيان المناسبة بينها إلى معرفة سبب النزول فإنّ اكتشاف المناسبة يحتاج في بعض الآيات إلى معرفة سبب النزول من أجل اكتشاف المعنى والدلالة الذي يساعد المفسّر على اكتشاف وجه الترابط أو المناسبة، ومثال ذلك قوله تعالى: {= يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوََاقِيتُ لِلنََّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهََا وَلََكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى ََ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوََابِهََا وَاتَّقُوا اللََّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ =} (2). فما هي العلاقة أو المناسبة بين ذكر (الأهلّة)
__________
(1) السيوطي، الإتقان، 2/ 235.
(2) سورة البقرة، الآية 189.(1/196)
وبين حكم إتيان البيوت؟ ويكتسب السؤال أهميّته من أنّ الموضوعين تتضمّنهما آية واحدة، ولا بدّ من ثمّ أن يكون وجه = الترابط = قويّا، ويحصر علماء القرآن وجه الارتباط بين جزءي الآية في أحد احتمالين:
الأوّل: أن يكون ذكر إتيان البيوت من ظهورها نوعا من (التمثيل) الرمزي لسؤالهم عن (الأهلّة) وفي هذا الاحتمال يفهم السؤال استنادا إلى سبب النزول على أنّه لم يكن سؤالا استفهاميا، بل كان سؤالا على سبيل التهكّم والسخرية، فقد تساءلوا = ما بال الهلال يبدأ صغيرا ثم يكتمل بدرا، ثم يعود هلالا صغيرا؟ وما الحكمة في ذلك؟ = (1).
واستنادا إلى هذا السبب يكون النصّ في إجابته عن هذا السؤال قد تجاهله، وأجاب عن سؤال آخر كان هو الذي يجب أن يسألوه وذلك ما عرف بعد ذلك ب (أسلوب الحكيم) ثم سخر النصّ منهم ببيان أنّهم في سؤالهم المعكوس هذا شأن من يأتي البيوت من ظهورها، وبناء على هذا الفهم تكون العلاقة بين جزأي الآية هي علاقة الممثول بالمثل، ويكون الجزء الثاني من الآية من قبيل التمثيل لما هم عليه من عكسهم للسؤال، = وأنّ مثلهم كمثل من يترك بابا ويدخل من ظهر البيت، فقيل لهم ليس البرّ ما أنتم عليه من تعكيس الأسئلة، ولكنّ البرّ من اتّقى ذلك =، ثم قال سبحانه: {= وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوََابِهََا} = أي باشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها، ولا تعكسوا = (2). إنّ النصّ في مثل هذا الفهم يحوّل الحدث الخارجي سبب النزول إلى صورة رمزيّة تمثيليّة، فهو لا يعكس الحدث عكسا آليّا، ولا يعبّر عنه بطريقة ميكانيكيّة، إنّه يعكسه ويتجاوزه في الوقت نفسه بتحويله إلى صورة مجازية. ولكن علينا أن نلاحظ أنّ هذا فهم يعتمد على ضرب من التأويل، وإن كان معتمدا على سبب النزول، ويعتمد التأويل هنا على (التقابل) بين المعنى الناتج عن معرفة سبب النزول، وبين الصورة المجازيّة المنتزعة من إتيان البيوت من ظهورها.
__________
(1) السيوطي، الإتقان 1/ 243.
(2) الزركشي، البرهان، 1/ 41.(1/197)
والاحتمال الثاني في وجه ارتباط جزأي الآية يتباعد عن هذا الفهم التمثيلي لصور إتيان البيوت من ظهورها، ويكتفي بالتركيز على علاقة النصّ بالواقع، فيذهب إلى أن إتيان البيوت من ظهورها نوع من الاستطراد بعد ذكر الحجّ، ردّا على سؤالهم عن الهلال إنّه من باب الاستطراد لما ذكر أنّها مواقيت للحجّ، وقد مرّ بنا سبب نزول هذه الآية فقيل لهم: ليس البرّ بتحرّجكم دخول الباب، ولكن البرّ من اتّقى ما حرّم الله وكان من حقّهم السؤال عن الأهلّة. وهذا الاحتمال ينقلنا إلى مناقشة العلاقة بين (المناسبة) و (السبب)، وإذا كان السبب هو الحادثة أو الواقعة التي ينزل النصّ استجابة لها رفضا أو تأييدا أو تعديلا فهي الأساس الذي يستند إليه الفقيه في استخراج الحكم الشرعي الذي تتضمّنه الآية. وإذا كانت الآيات المختلفة تتجاور بناء على علاقات (تناسب) غير أسباب نزولها، فقد يؤدّي بعض ذلك إلى نوع من الغموض كما هو الحال في آية سؤال الأهلّة.
وقد أثار علماء القرآن هذه المسألة على الوجه التالي: = وقد تنزل الآيات على الأسباب خاصّة، وتوضع كلّ واحدة منها مع ما يناسبها من الآي رعاية لنظم القرآن وحسن السياق، فذلك الذي وضعت معه الآية نازلة على سبب خاصّ للمناسبة إذا كان مسوقا لما نزل في معنى يدخل تحت ذلك اللفظ العام، أو كان من جملة الأفراد وضعا تحت اللفظ العام، فدلالة اللفظ عليه: هل هي كالسبب فلا يخرج، ويكون مرادا من الآيات قطعا؟ أو لا ينتهي في القوّة إلى ذلك؟ لأنّه قد يراد غيره وتكون المناسبة مشبّهة به = (1).
وجواب السؤال يكون في أنّ الأحداث والمناسبات التي تتعلّق الآيات بها لا تمنع من وضع الآية في موقع آخر يناسبها لجعل نظام السرد القرآني نظاما متلاحما متماسكا متجانسا، وهذا بالطبع يجعل من مهمة الشارح أو المفسّر مهمّة صعبة معقّدة إذ عليه أن ينظر في هذا النظام ويعيد لكلّ آية موقعها من المناسبات والأحداث والمقامات للإلمام بالأحوال والقرائن. ثمّ إنّ النّصوص لا تصوغ الوقائع صياغة حرفيّة، ومع ذلك فإنّ العلماء
__________
(1) الزركشي، البرهان، 1/ 25.(1/198)
يحرصون على الفصل بين علم (المناسبة) وعلم (الأسباب)، من حيث إنّ كلّ واحد منهما ينظر للنصّ من زاوية خاصّة.
وفي سورة البقرة يظهر علماء القرآن بعض العلاقات التي اتصلت من خلالها الآيات بعضها ببعض، ومن ذلك علاقة المضادّة كما في قوله تعالى: {= إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ =} (1). فإنّ أوّل السورة كان حديثا عن القرآن، وإنّ من شأنه الهداية للقوم الموصوفين بالإيمان، فلمّا أكمل وصف المؤمنين عقّب بحديث الكافرين فبينهما جامع وهمي، ويسمّى بالتضاد من هذا الوجه، وحكمته التشويق، والثبوت على الأوّل كما قيل (وبضدّها تتميّز الأشياء) (2). ومنه كذلك ما سأله الكرماني في = العجائب = بقوله = إن قيل كيف جاء (يسألونك) أربع مرات بغير واو: {= يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ =}، {= يَسْئَلُونَكَ مََا ذََا يُنْفِقُونَ =}، {= يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرََامِ =}، {= يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ =}، ثم جاء ثلاث مرات بالواو: {= وَيَسْئَلُونَكَ مََا ذََا يُنْفِقُونَ =}، {= وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتََامى ََ =}، {= وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ =}، ثمّ يجيب: = لأنّ سؤالهم عن الحوادث الأولى وقع متفرّقا، وعن الحوادث الأخر وقع في وقت واحد، فجيء بحرف الجمع دلالة على ذلك، فإن قيل: كيف جاء {= وَإِذََا سَأَلَكَ عِبََادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ =} وعادة السؤال يجيء جوابه في القرآن بقل؟ قلنا: حذفت للإشارة إلى أنّ العبد في حال الدعاء في أشرف المقامات لا واسطة بينه وبين مولاه = (3).
ويدخل في درس التناسب ما عرف باسم (الآيات المشتبهات) (9) ويقصد به = إيراد القصّة الواحدة في صور شتّى، وفواصل مختلفة، بل تأتي في موضع واحد مقدما، وفي آخر مؤخرا كقوله في البقرة: {= وَادْخُلُوا الْبََابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ =}، وفي الأعراف
__________
(1) سورة البقرة، الآية (6).
(2) السيوطي، الإتقان، 1/ 236.
(3) السيوطي، الإتقان، 2/ 247.
(9) أفرده بالتصنيف خلق منهم الكسائي، والسخاوي، والكرماني، والرازي، وجعفر بن الزبير، وبدر الدين بن جماعة، والسيوطي في أسرار التنزيل المسمّى (قطف الأزهار في كشف الأسرار).(1/199)
{= وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبََابَ سُجَّداً =}، وفي البقرة {= وَمََا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللََّهِ =}، وسائر القرآن {= وَمََا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللََّهِ بِهِ =}، وفي البقرة ويس {= وَيَكُونَ الدِّينُ لِلََّهِ =}، وفي الأنفال = كله لله = بزيادة، أو في موضع معرفا وفي آخر منكّرا، أو مفردا، وفي آخر جمعا، أو بحرف وفي آخر بحرف آخر، أو مدغما، وفي آخر مفكوكا، وهذا النوع يتداخل مع نوع المناسبات = (1)، ومن أمثلة ذلك قوله سبحانه وتعالى في سورة البقرة {= هُدىً لِلْمُتَّقِينَ =} وفي لقمان {= هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ =}، لأنّه لما ذكر هنا مجموع الإيمان ناسب المتقين، ولمّا ذكر ثمّ الرحمة ناسب المحسنين. (2) ويلاحظ أن تأويل ورود هذه الآيات التي تبدو متشابهة في الموضوع، ومختلفة قليلا في الصياغة يعتمد على أمرين:
الأوّل: ما يعرف لدينا نحن المحدثين بالتناصّ، وهو تداخل النّصوص وتشابهها، وقد لاحظه القدامى ملاحظة دقيقه وحصروا أمثلته في القرآن كلّه تقريبا وسنأتي إليه في مبحث آخر من هذه الدراسة (9).
والثاني: تأويل اختلاف الصياغة، إن كانت في التقديم والتأخير أو الزيادة أو النقصان بحرف أو أكثر، أو اختلاف صوتي: كالفكّ والإدغام وغيره، من خلال السياق الخارجي (الظرف) أو سياق الحال، أو السياق الداخلي (ترابط الآيات).
ويعبّر (البارزي) في كتابه (أنوار التحصيل في أسرار التنزيل) عن توخّي علماء القرآن التلاؤم والاتّساق الداخلي، وطبيعة العلاقات بين الجمل المشكّلة للآيات في تأويلهم للتعبير عن المعنى الواحد بصياغات متعدّدة، بقوله: = اعلم أنّ المعنى الواحد قد يخبر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، وكذلك كلّ واحد من جزأي الجملة قد يعبّر عنه بأفصح ما يلائم الجزء الآخر، ولا بدّ من استحضار معاني الجمل أو استحضار جميع ما يلائمها من الألفاظ، ثم استعمال أنسبها وأفصحها = (3).
__________
(1) السيوطي، الإتقان، 2/ 248.
(2) نفسه، 2/ 249.
(9) انظر المبحث الثاني من هذا الفصل في مفردة (ب 4) = التناص والسياق =.
(3) السيوطي، الإتقان، 2/ 169.(1/200)
واهتم علماء القرآن كذلك بمسألة المناسبة بين فاتحة السورة وخاتمتها، وربطوا ذلك بالسياق، من خلال الإشارة إلى أثر ذلك على المتلقي ومراعاة أحواله النفسية واستجاباته، كما ربطوا ذلك بظروف الخطاب (1). كما ربطوا ذلك بالغرض الذي سيقت له السورة، وما يحتاج إليه من المقدمات والفواتح (2). وأمّا (خواتم السور) فهي مثل الفواتح في الأهميّة فيجب أن يتوافر فيها شروط التأثير والحسن = لأنّها آخر ما يقرع الأسماع كالدعاء الذي اشتملت عليه الآيتان من آخر سورة البقرة = (3).
ويشرح صاحب البرهان هذا الضرب من المناسبة بقوله: = ومن ذلك افتتاح السور بالحروف المقطّعة، واختصاص كلّ واحدة بما بدئت به حتّى لم يكن لترد (الم) في موضع (الر) ولا (حم) في موضع (ص)، وذلك أنّ كلّ سورة بدئت بحرف منها فإنّ أكثر كلماتها وحروفها مماثل له، فحقّ لكلّ سورة منها أن لا يناسبها غير الواردة منها = (4). وذكر أنّ عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلّق بالقرآن، كقوله {= الم ذََلِكَ الْكِتََابُ =} (5).
ومن ألوان التناسب التي يشيرون إليها التناسب بين موضوع الخطاب والأسلوب ففي سورة البقرة وهي نموذج للقرآن المدني يذكرون أن موضوعاتها شملت دقائق التشريع، ومناقشة أهل الكتاب من يهود ونصارى في أمور العقائد، ولذلك فقد سلكت سبيل الإطناب والتطوير، والشرح والإيضاح، وذلك مراعاة للموضوع ومقتضيات الأحوال التي شملها العهد المدني (6).
__________
(1) انظر مثلا الإتقان، 2/ 230، وقد ألّف السيوطي كتابا في مناسبة فواتح السور وخواتمها سمّاه مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع ولكنّه لم يصل، وأورد في الإتقان طرفا منه.
(2) انظر الإتقان 2/ 239.
(3) نفسه 2/ 232.
(4) البرهان، 2/ 130.
(5) نفسه.
(6) مناهل العرفان ص (203202).(1/201)
ومنها كذلك المناسبة بين فواصل الآي والسياق، والأصل في الفاصلة المساواة، وعدّوا خروجها عن ذلك للمناسبة (1). وتوقف العلماء عند مسألة (مشكلات الفواصل) فذكروا من أمثلتها قوله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: {= هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى ََ إِلَى السَّمََاءِ فَسَوََّاهُنَّ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ =} (2).
وفي آل عمران: {= قُلْ إِنْ تُخْفُوا مََا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللََّهُ وَيَعْلَمُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ =} (3). فإنّ المتبادر إلى الذهن في آية البقرة الختم بالقدرة، وفي آية آل عمران الختم بالعلم، والجواب = أنّ آية البقرة لمّا تضمّنت الإخبار عن خلق الأرض وما فيها على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم، وخلق السموات خلقا مستويا محكما من غير تفاوت، والخالق على الوصف المذكور يجب أن يكون عالما بما فعله كليّا وجزئيّا، مجملا ومفصّلا يناسب ختمها بصفة العلم، وآية آل عمران لمّا كانت في سياق الوعيد على موالاة الكفار، وكان التعبير بالعلم منها كناية عن المجازاة بالعقاب والثواب، ناسب ختمها بصفة القدرة = (4). وفي هذا التنبّه إلى علاقة الفاصلة بالغرض الذي سيقت له الآية وموضوعها، ربط دقيق بعلاقة عناصر السياق المختلفة بصياغة النصّ. وينقل صاحب الإتقان عن أحد المفسّرين أنّ المحافظة على الفواصل ليست مسألة شكليّة، ولا تتمّ على حساب إهمال المعاني، بل = إنّ ذلك متعلّق بحسن النظم والالتئام، ومن ذلك أنّ التقديم في {(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)} (5) ليس لمجرّد الفاصلة بل لرعاية الاختصاص = (6).
__________
(1) الإتقان، 2/ 209.
(2) سورة البقرة، الآية (29).
(3) سورة آل عمران، الآية (29).
(4) السيوطي، الإتقان 2/ 223.
(5) سورة البقرة، الآية (4).
(6) السيوطي، الإتقان 2/ 226.(1/202)
ومن وجوه السياق الداخلي الأخرى التي عني علماء القرآن بتتبّعها الملاحظات المتصلة بالسياق اللغوي للنص القرآني، وقد ربطوا هذه الملاحظات بالمقام في كثير من الأمثلة ومن ذلك ما يتعلّق بالمترادفات وعلاقتها بالسياق وهم يربطون الفروق بين ما يظهر أنّه من المترادف بالسياق مباشرة، ومن ذلك = الإيتاء والإعطاء = ويرون أنّ الإيتاء أقوى من الإعطاء في إثبات مفعوله، ومن ذلك: قوله تعالى: {= تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشََاءُ =} (1). لأنّ الملك شيء عظيم لا يعطاه إلّا من له قوّة، وكذا {= يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشََاءُ =} (2) و {= آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي =} (3) لعظم القرآن وشأنه (4). وكما يلاحظ فإنّ تفسير هذه الظواهر اللّغويّة الواردة داخل النصّ يجيء من خارج النصّ أي من السياق.
كما تنبّه دارسو غريب القرآن (9) إلى علاقة معاني مفردات القرآن بالسياق الذي وردت فيه في وقت مبكر، كما أشاروا إلى دور السياق في إضاءة جوانب النصّ فقد تعاملوا مع تلك المفردات تعاملا سياقيّا بحتا. وأولى الملاحظات التي يلمحها الدارس (الاستئناس بالسياق) في شرح الغريب، ففي شرح ابن قتيبة لقوله تعالى: {= خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ =} (5). قال: = بمنزلة طبع الله عليها = والخاتم بمنزلة الطابع، وإنّما أراد أنه أقفل
__________
(1) سورة آل عمران، الآية (26).
(2) سورة البقرة، الآية (269).
(3) سورة الحجر، الآية (87).
(4) الإتقان، 2/ 410.
(9) ممّن ألف في غريب القرآن، أبو عبيدة، وأبو عمر الزاهد، وابن دريد، والعزيزي، والراغب الأصفهاني، وأبو حيّان والسجستاني، والزّجاج، والفرّاء، والأخفش، وابن الأنباري، وابن قتيبة.
(5) سورة البقرة، الآية (7).(1/203)
وأغلقها فليس تعي خيرا ولا تسمعه، وأصل هذا أنّ كلّ شيء ختمته فقد سددته وربطته = (1)
. ويظهر هذا الاستئناس بالسياق واضحا في تفسيره للصبر بالصوم في قوله تعالى: = {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ =} (2). ويقال = لشهر رمضان شهر الصبر، وللصائم صابر = (3). وهاهنا استعانة بالسياق الخارجي والداخلي معا في تفسير المفردات.
ويظهر كذلك هذا التمثّل لدور السياق في المفاضلة بين المعاني، حين يكون للكلمة أكثر من معنى، ومن ذلك في شرح الآية: {= الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا رَبِّهِمْ =} (4).
فيذكر ابن قتيبة ل = يظنّون = معنيين هما = الشكّ = و = اليقين = (5). ويختار معنى (العلم) بدلا من الشك لموافقته للسياق الدلالي للآية الكريمة. ومن أمثلته كذلك ما أورده الفرّاء في شرح الآية {= يَحْسَبُهُمُ الْجََاهِلُ أَغْنِيََاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ =} (6). قال: = لم يرد الجهل الذي هو ضدّ العقل، وإنّما أراد الجهل الذي هو ضدّ الخبرة، يقول يحسبهم من لا يخبر أمرهم = (7).
ومن الملاحظات كذلك استحضار معنى المفردة في سياقاتها المختلفة، وذلك لتعزيز المعنى الوارد في السياق المطلوب، فحين يشرح السجستاني لفظة (أمانيّ) (8) في سورة البقرة يقول: = هي جمع أمنيّة وهي التلاوة، ومنه قوله: {(إِذََا تَمَنََّى أَلْقَى الشَّيْطََانُ}
__________
(1) ابن قتيبة: أبو محمد عبد الله بن مسلم (ت 276هـ)، تفسير غريب القرآن، ط 1، تحقيق السيد أحمد صقر، دار الكتب العلمية، بيروت / لبنان، 1978، ص 37.
(2) سورة البقرة الآية (45).
(3) ابن قتيبة، تفسير غريب القرآن، ص 47.
(4) سورة البقرة، الآية 46.
(5) ابن قتيبة، تفسير غريب القرآن، ص: 47.
(6) سورة البقرة، الآية (276).
(7) الفرّاء، معاني القرآن، ص: 134.
(8) سورة البقرة، الآية (78).(1/204)
{فِي أُمْنِيَّتِهِ)} (1). أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته، والأماني الأكاذيب أيضا، ومنه قول عثمان رضي الله عنه ما تمنّيت منذ أسلمت = (2). فالسجستاني في النصّ السابق يستحضر المفردة في سياقات مختلفة، ويوازن فيها ويعضّد المعنى المراد في السياق المطلوب، ومن أمثلته كذلك شرحه للآية {(فَادََّارَأْتُمْ فِيهََا)} (3). قال: = اختلفتم، والأصل تدارأتم، فأدغمت التاء والدال ومنه قول القائل = كان شريكي، فكان خير شريك لا يماري ولا يداري، أي لا يخالف = (4).
ومن الملاحظات كذلك استحضار المعجم الثقافي للعرب، في أعرافهم، وعاداتهم، وطبائعهم، وتسمياتهم، وهو ما يمكن أن يطلق عليه السياق الثقافي اللّغوي، وانظر في شرح السجستاني للآية {(آبََائِكَ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْمََاعِيلَ وَإِسْحََاقَ)} (5) قال: = والعرب تجعل العمّ أبا، والخالة أمّا، ومنه قوله تعالى: {= وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ =} يعني أباه وخالته فكانت أمّه ماتت = (6) وممّا يمكن أن يضاف إلى موضوع استحضار السياق الثقافي اللّغوي مسألة الاستشهاد بالشعر العربي في تفسير غريب القرآن، وما يروى في هذا الموضوع أنّ ابن عبّاس كان جالسا بفناء الكعبة، وقد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به. فقاما إليه، فقالا: إنّا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسّرها لنا، وتأتينا بمصادفة من كلام العرب، فإنّ الله تعالى إنّما أنزل القرآن بلسان عربيّ مبين، فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما، فقال نافع: أخبرني عن قول الله تعالى: {= عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ}
__________
(1) سورة الحج، الآية (52).
(2) السجستاني: أبو بكر محمد بن عزيز السجستاني، غريب القرآن المسمّى بنزهة القلوب، ط 1، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح 1963، ص 5.
(3) سورة البقرة، الآية (72).
(4) السجستاني، غريب القرآن المسمى بنزهة القلوب، ص 55.
(5) سورة البقرة، الآية (133).
(6) السجستاني، غريب القرآن، ص 15.(1/205)
{الشِّمََالِ عِزِينَ =} قال: العزون: حلق الرفاق، قال: وهل تعرف العرب ذلك، قال نعم، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول:
فجاءوا يهرعون إليه حتّى ... يكونوا حول منبره عزينا
ثم سأله عن قوله تعالى: {= شِرْعَةً وَمِنْهََاجاً =} فقال: الشرعة: الدين، والمنهاج:
الطريق، واستشهد بقول أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلّب:
لقد نطق المأمون بالصدق والهدى ... وبين للإسلام دينا ومنهجا (1)
ويمضي ابن الأزرق في أسئلته، ويمضي ابن عبّاس في إجاباته عبر استشهاده بالشعر العربي، وتمثّل العرب لهذه المفردات، وهو ما يعرف بتوخّي سنن العرب في كلامها، وهو جزء من السياق الثقافي لأهل اللّغة.
ويلاحظ مفسّر والمفردات طبيعة الخطاب، وزمانه، وملابساته ويتحرّون ذلك كلّه في تحديد معنى الآية، فقد جاء في شرح ابن قتيبة للآية {= وَإِذْ قََالَ رَبُّكَ لِلْمَلََائِكَةِ إِنِّي جََاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً =} (2). قال: يرى أهل النظر من أصحاب اللّغة أن الله عزّ وجل قال: إنّي جاعل في الأرض خليفة، يفعل ولده كذا، ويفعلون كذا، فقالت الملائكة:
أتجعل فيها من يفعل هذه الأفاعيل؟ ولولا ذلك ما علمت الملائكة في وقت الخطاب أنّ خليفة الله يفعل ذلك فاختصر الله الكلام = (3).
ومن الملاحظات كذلك تحرّيهم لاتّصال النصّ، وتواتر السياق وتحرّي مجموعة الاحتمالات التي يمكن أن يحتملها معنى المفردة في ذلك السياق، قال ابن قتيبة في شرحه لقوله تعالى {= فَجَعَلْنََاهََا نَكََالًا =} (4) أي قرية أصحاب السبت نكالا، أي عبرة لما بين يديها من
__________
(1) السيوطي، الاتقان 1/ 282245.
(2) سورة البقرة، الآية (30).
(3) ابن قتيبة، تفسير غريب القرآن، ص 45.
(4) سورة البقرة، الآية (66).(1/206)
القرى وما خلفها ليتّعظوا بها، ويقال لما بين يديها من ذنوبهم، وما خلفها من صيدهم الحيتان في السبت، وهو قول قتادة = (1). ومن الملاحظات كذلك استحضار السياق التاريخي أو (مناسبة النصّ) أو الحدث التاريخي في تفسير المفردات ومنها شرح ابن قتيبة لقوله تعالى {= فَقُلْنََا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهََا =} (2): أي اضربوا القتيل ببعض البقرة، قال بعض المفسّرين:
= فضربوه بالذنب فحيي = (3). ومنها شرح الراغب الأصفهاني لقوله تعالى من سورة البقرة {= وَمََا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللََّهِ =} (4): أي ما ذبح لغير الله، وإنّما قيل ذلك لأنّه يذكر عند ذبحه غير اسم الله، فيظهر ذلك أو يرفع الصوت به، وإهلال الحج منه إنّما هو إيجابه بالتلبية، واستهلال الصّبي منه إذا ولد أي صوته بالبكاء = (5).
وينوه الزركشي بصنيع الراغب الأصفهاني في تحري المعنى العرفي للألفاظ يقول:
= وهذا يعتني به الراغب كثيرا في كتاب المفردات فيذكر قيدا زائدا على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ لأنّه اقتضاه السياق = (6).
القراءات في سورة البقرة وعلاقتها بالسياق
نلاحظ من خلال استقراء قراءات سورة البقرة في كتب القراءات المختلفة أنّ السياق يظهر عاملا حاسما في ترجيح قراءة على أخرى، أو ترك إحدى القراءات، ومن المسائل التي تنبهوا لها في هذا الإطار مراعاة السياق الصوتي للنص وعلاقته بالمعنى، ومن
__________
(1) ابن قتيبة، تفسير غريب القرآن، ص 52.
(2) سورة البقرة، الآية (73).
(3) ابن قتيبة، تفسير غريب القرآن، ص 55.
(4) سورة البقرة، الآية (173).
(5) الراغب الأصفهاني أبو القاسم الحسين بن محمد (ت 502هـ) المفردات في غريب القرآن، ط 1، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت لبنان / تحقيق وضبط محمد سيد كيلاني، بلا تاريخ، ص 69.
(6) نفسه، 1/ 401.(1/207)
أمثلته قراءة الآية {= وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ =} (1). فإنّها تقرأ بالإمالة والتفخيم، = وللعرب في إمالة الراء رغبة ليست في غيرها من الحروف، للتكرير الذي فيها فإن قيل: فيلزم من أمال النار أن يميل الجار، فقل: لمّا كثر دور النار في القرآن أمالوها، ولما قلّ دور الجار في القرآن أبقوه على أصله = (2). وفي هذا الاقتباس نلحظ دور التنبّه للسياق الصوتي، وهو أهميّة صفة (التكرير) في حرف الراء وأيضا دور كثرة الاستعمال كما في = الجار = و = النار = فهما عنصران سياقيّان: السياق الصوتي، وسياق الشيوع إذا جاز التعبير.
ومنها كذلك مراعاة العرف اللّغوي (السياق اللّغوي الثقافي)، وهو توخّي ما جرت عليه العرب في سنن كلامها وعرفها اللّغوي، ومن أمثلة ذلك: ما قرئ في الآية {= غِشََاوَةٌ وَلَهُمْ =} (3). فإنّه = يقرأ بالرفع والنّصب، فالحجة لمن رفع أنّه أستأنف الكلام مبتدئا، ونوى به التقديم، وبالخبر التأخير، فكأنّه يقال: وغشاوة على أبصارهم، والحجّة لمن نصب أنه أضمر مع الواو فعلا عطفه على قوله: {= خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ =} وجعل على أبصارهم غشاوة، وإضمار الفعل إذا كان عليه دليل كثير مستعمل في كلام العرب = (4).
ومنه كذلك ما قرئ في قوله تعالى {= حَتََّى يَطْهُرْنَ =} (5). يقرأ بالتشديد والتخفيف ويهمّنا في هذا الموضع قراءتها بالتخفيف، وحجّة من خفّف = أنّه أراد حتى ينقطع الدم، لأنّ ذلك ليس من فعلهن، ثم قال = فإذا تطهرن يعني بالماء، ودليله على ذلك قول العرب طهرت المرأة من الحيض فهي طاهر = (6). ففي المثال الأوّل استعان موجّه القراءة بصنيع العرب في
__________
(1) سورة البقرة، الآية (7).
(2) الأصفهاني، المفردات، ص 67.
(3) سورة البقرة، الآية (7).
(4) ابن خالويه، الحجّة في القراءات السبع، ص 67.
(5) سورة البقرة، الآية (222).
(6) ابن خالويه، الحجّة في القراءات السبع، ص 96.(1/208)
نحوها (قواعد كلامها في المستوى النحوي)، وفي المثال الثاني استعان بصنيع العرب في صرفها (قواعد كلامها في المستوى الصرفي)، وارتباط هذين المستويين مباشرة بالمستوى الدلالي من خلال الاستعمال.
ومما أوردوه في هذا الشأن مسألة المشاكلة بين الألفاظ (اتّساق الألفاظ) ومثاله ما جاء في شرح الآية {= وَمََا يَخْدَعُونَ =} (1). = فإنّها تقرأ بضم الياء وإثبات الألف، وبفتح الياء، وطرح الألف، فالحجّة لمن أثبتها أنّه عطف لفظ الثاني على لفظ الأوّل ليشاكل بين اللّفظين، والحجّة لمن طرحها أنّ (فاعل) لا يأتي في الكلام إلّا من فاعلين يتساويان في الفعل، كقولك قاتلت فلانا وضاربته، والمعنى بينهما قريب، ألا ترى إلى قوله تعالى:
{= قََاتَلَهُمُ اللََّهُ =} أي قتلهم، فكذلك يخادعون بمعنى = يخدعون =) (2). وهنا نلحظ أنّ أمام توجيه القراءة خيارين: الأوّل الاتّكاء على عنصر = التشاكل = وهو عنصر صوتي معنوي داخلي له صلة بالاتّساق الصوتي الداخلي للنص، والثاني هو الاتّكاء على عنصر من = سياق الحال =، وهو مسألة التكافؤ بين طرفي المخادعة، ويبقي موجّه القراءة الخيارات مفتوحة إذ أنّه حتّى مع تبيّن انعدام التكافؤ بين الله عزّ وجل وبين المنافقين، وهو معنى ملتمس من خارج النصّ، فإنّ اللّغة تسمح بنوع من التبادل بين معاني أبنيتها فتأتي (يخادعون) بمعنى يخدعون، وهنا لا يكون تعارض بين اللّغة داخل النصّ والمقام الخارجي. وهو ما يؤكد عليه علماء القرآن دائما من كون القرآن متّسقا داخليّا وخارجيّا.
ومن أمثلة هذا أيضا قراءة الآية {(حَتََّى يَطْهُرْنَ)} (3) الآنف ذكرها بالتشديد، والحجّة لمن شدّد أنّه طابق بين اللفظين لقوله {= فَإِذََا تَطَهَّرْنَ =} (4). وهذا من قبيل التشاكل اللفظي الذي
__________
(1) سورة البقرة، الآية (9).
(2) ابن خالويه، الحجّة في القراءات، ص 99.
(3) سورة البقرة، الآية (222).
(4) ابن خالويه، الحجة في القراءات، ص 96.(1/209)
يؤدّي إلى اتّساق النصّ، ومن أمثلته كذلك قراءة الآية (282) = وكتبه = فإنه = يقرأ بالتوحيد والجمع، فالحجّة لمن جمع أنّه شاكل بين اللفظين وحقّق المعنى، لأنّ الله تعالى قد أنزل كتبا، وأرسل رسلا = (1). ف (كتبه) على زنة (رسله) و (ملائكته)، فجمع الألفاظ التي وقع الإيمان عليها في الآية جاءت بصيغة الجمع، فناسب مجيء (الكتب) كذلك. وهي مشاكلة صوتيّة معنويّة.
ويعد استحضار السياق المقامي لدى دارسي القراءات ملمحا آخر في هذا الشأن ومن أمثلته قوله تعالى: {= بِمََا كََانُوا يَكْذِبُونَ =} (2) = يقرأ بتشديد الذال وبضمّ الياء وبفتح الياء، وتخفيف الذال، فالحجّة لمن شدّد أنّ ذلك تردّد منهم إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرّة بعد أخرى فيما جاء به، والحجّة لمن خفّف أنه أراد = بما كانوا يكذبون عليك بأنك ساحر، وأنّك مجنون =، فأضمر حرف الجر لأنّ (كذّب) بالتشديد يتعدّى بلفظه وكذب بالتخفيف لا يتعدّى إلّا بحرف جر، ومعنى القراءتين قريب لأنّ من كذب بما جاء به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقد كذّب = (3). إنّ صنيع المنافقين والكافرين مع الرسول عنصر مأخوذ من السياق الخارجي، ولكنّه وجد صداه في توجيه قراءة النصّ.
ومن ذلك أيضا قراءة الآية (37) من سورة البقرة {= فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ =}
(تقرأ برفع آدم ونصب الكلمات، وبنصب آدم ورفع الكلمات، فالحجّة لمن رفع (آدم) أنّ الله تعالى لمّا علّم آدم الكلمات فأمره بهن تلقّاهنّ بالقبول عنه، والحجّة لمن نصب (آدم) أن يقول: (ما تلقّاك فقد تلقّيته وما نالك فقد نلته) وهذا ما يسمّيه النحويون المشاركة في الفعل = (4)، إنّ استجابة آدم وقبوله (وهي عنصر سياقي خارجي) تمثّلت رمزا لغويا في رفع (آدم)، وكذا الفهم الآخر للآية فإنّه يحيل إلى خارج النصّ. ومن أمثلته كذلك قراءة الآية
__________
(1) ابن خالويه، الحجة في القراءات، ص 105.
(2) سورة البقرة، الآية (10).
(3) ابن خالويه، الحجّة في القراءات، ص (6968).
(4) نفسه، ص (75).(1/210)
= وكتبه = التي مرّ ذكرها فإنّه = يقرأ بالتوحيد والجمع، فالحجّة لمن وحّد أنّه أراد (القرآن) لأنّ أهل الأديان المتقدّمة قد اعترف بعضهم لبعض بكتبهم، وآمنوا بها إلّا القرآن فإنّهم أنكروه فلذلك أفرد، وجمع الرسل لأنّهم لم يجمعوا على الإيمان بهم = (1). فطبيعة الموقف الذي اتّخذته الأمم السابقة انعكس داخل النصّ وفي المستوى الصرفي ما بين إفراد وجمع، وهو ما يؤكّد أنّ انعكاسات السياق الخارجي تتبدّى داخل مستويات النصّ اللّغوي جميعها، نحوها وصرفها، ودلالتها، وصوتها وبيانها. ومنه كذلك توجيه الآية الكريمة رقم (36) {= فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطََانُ =} = تقرأ بإثبات الألف والتخفيف، وبطرحها والتشديد. فالحجّة لمن أثبت الألف أن يجعله من الزوال والانتقال عن الجنة، والحجّة لمن طرحها أن يجعلها من الزلل وأصله (فأزللهما) فنقلت فتحة اللام إلى الزاي فسكنت اللام، فأدغمت للمماثلة = (2). فإذا كان الواقع الخارجي (السياق المقامي) زوالا أي انتقالا ترجّحت القراءة الأولى، وإن كان التركيز على عنصر الزلل والخطأ في الواقع الخارجي ترجّحت القراءة الثانية.
وممّا يتّصل بهذا الموضوع ما يمكن أن نطلق عليه = المقامات الاجتماعيّة، أو أحوال المخاطب والمخاطب والمنزلة التي يحتلّها كلّ منهما، وكذلك مراعاة المكانة الدينيّة، وما يليق بحقّ الخالق وما لا يليق وأمثلته عديدة، مرّ معنا بعضها سابقا، ونضيف هنا قراءة الآية {= وَإِذْ وََاعَدْنََا =} فقد قال ابن خالويه فيها: = هاهنا وفي الأعراف وطه، يقرءان بإثبات ألف بين الواو والعين وبطرحها فالحجّة لمن أثبت الألف أنّ الله تعالى وعد موسى عليه السلام وعدا فقبله، فصار شريكا فيه فجاء الفعل ب (فاعلت) لأنّه بنيّة فعل الاثنين، فإذا جاء للواحد فهو قليل، والحجة لمن طرح الألف أن يقول: الله هو المنفرد بالوعد والوعيد، وإنّما تكون المواعدة بين المخلوقين، فلمّا انفرد الله تعالى بذلك كان (فعلت) فيه أولى من
__________
(1) ابن خالويه، الحجة في القراءات السبع، ص (105).
(2) نفسه، ص: 74.(1/211)
(فاعلت) (1). إنّ هذه المراعاة لمقام الله عزّ وجل في قوله: = إنّما تكون المواعدة بين المخلوقين =، وتكييف الخطاب بحسب مقامات المخاطبين أو المخاطبين يعتبر من أبرز ملامح اللسانيّات الاجتماعيّة التي تقوم على مراعاة العرف الاجتماعي، والعرف العام للّغة.
ومن أمثلته كذلك قوله تعالى: {= وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ =} (2). وقوله {= إِلى ََ أَشَدِّ الْعَذََابِ وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ =} (3). وقوله {= وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ =} (4). = يقرءان بالياء والتاء، فالتاء في الأول أكثر لقوله تعالى {= ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ =}.
والياء والتاء في الثاني معتدلتان، فالحجّة لمن قرأ بالتاء أنّه أراد = وما الله بغافل عما تعملون أنتم وهم = والاختيار في التاء لعلّتين: إحداهما أنّ ردّ اللفظ على اللفظ أحسن، والثانية أنّه لمّا ثبت أنّ الله ليس بغافل عما يعمل كل أحد اعتدلت التاء والياء فيهما، والحجّة لمن قرأ بالياء أنّ العرب ترجع من المخاطبة إلى الغيبة كقوله تعالى: {= حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ =} ولم يقل بكم، والياء والتاء في الثالث قريبتان، والاختيار الياء لقوله = من ربّهم = والياء والتاء في الرابع متساويتان لأنّه لم يتقدّم في قوله {= وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ =} ما تكون إحداهما أولى بالردّ عليه، إلّا أن يجعل قوله = من ربّك = إفرادا للنبيّ عليه السلام بالخطاب، والمعنى له ولأمّته، فيكون الاختيار على هذا الوجه التاء، كما قال الله تعالى:
{= يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ =} (5). فها هنا تحرّ لمقام النبي صلّى الله عليه وسلّم (إفرادا للنّبي بالخطاب) ونلحظ فيه كذلك توخيهم لعمليّة الاتّساق الداخلي في النصّ، وكذلك استحضارهم لسنن العرب في كلامها من حيث (إنّ العرب ترجع من المخاطبة إلى الغيبة).
__________
(1) ابن خالويه، الحجة في القراءات السبع، ص 77.
(2) سورة البقرة، الآية (74).
(3) سورة البقرة، الآية (85).
(4) سورة البقرة، الآية (149).
(5) ابن خالويه، الحجّة في القراءات السبع، ص (83).(1/212)
ويستحضر دارسو القراءات (عنصر المعنى) في توجيه الخطاب القرآني واختلاف هذا العنصر باختلاف القراءة أو العكس، أي اختلاف القراءة باختلاف توجيه المعنى.
وأمثلته عديدة، ومنها في قوله تعالى: {= لََا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللََّهَ =} (1). = تقرأ بالياء والتاء فالحجّة لمن قرأ بالتاء: مواجهة الخطاب فيكون أخذ الميثاق قولا لهم، والحجّة لمن قرأ بالياء معنى الغيبة = (2). ومنه كذلك الآية الكريمة {= مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ =} (3). فإنّه = يقرأ بضمّ النون وفتحها، فالحجّة لمن ضمّ أنّ المعنى = ما ننسخك يا محمّد من آية = كقولك أنسخت زيدا الكتاب، ويجوز أن يكون {= مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ =} أي تجعلها ذات نسخ كقوله تعالى (فأقبره)، أي جعله ذا قبر، والحجّة لمن فتح أنّه جعله من الأفعال اللازمة لمفعول واحد = (4). ومنه كذلك توجيه الخطاب بحسب المخاطب ومعنى الخطاب في قراءة الآية {= أَمْ يَقُولُونَ =}. تقرأ بالتاء والياء = فالحجّة لمن قرأه بالياء أنّ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمعنى لمن قال ذلك لا للنبيّ فأخبر عنهم بما قالوه، والحجّة لمن قرأ بالتاء أنّه عطف باللّفظ على معنى الخطاب في قوله = أتحاجّوننا =، = أم تقولون =، = قل أأنتم = فأتى بالكلام على سياقه = (5).
ومن أمثلة توجيه الخطاب بحسب المخاطب أو موضوع الخطاب قراءة الآية (165) من سورة البقرة = ولو ترى الذين ظلموا = تقرأ بالتاء والياء فالحجّة لمن قرأ بالتاء أنه أراد: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا إذ عاينوا العذاب لرحمتهم، والحجّة لمن قرأ بالياء أنه جعل الفعل لهم، ومعناه، ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أنّ القوّة لله = (6).
__________
(1) سورة البقرة، الآية 83.
(2) ابن خالويه، الحجة في القراءات السبع، ص (83).
(3) سورة البقرة، الآية (106).
(4) ابن خالويه، ص 26.
(5) ابن خالويه، ص 89.
(6) نفسه، ص 91.(1/213)
ويتحكّم بتوجيه الخطاب في القراءة أحيانا استحضار سياق الحال، كأن تأتي الآية جوابا على سؤال محدّد، فإذا ما تغيّر السؤال تغيّرت الإجابة، وفي حالتنا هذه تغيّرت القراءة، ومن أمثلته كذلك قراءة الآية = لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة = (يقرأ ذلك بالرفع والتنوين، وبالنّصب وترك التنوين فالحجّة لمن رفع أنّه جعله جوابا لقول قائل:
هل عندك رجل؟ فقال لا رجل، فلم يعمل (لا) لأنّ (هل) غير عاملة، والحجّة لمن نصب أنّه جعله جوابا لقول قائل: هل من رجل؟ فقال (لا رجل) لأنّ (من) لمّا كانت عامله في الاسم كان الجواب عاملا فيه النّصب، وسقط التنوين للبناء، كما سقط في = رام هرمز = (1).
ويدخل في هذا الإطار أيضا قراءة الآية الكريمة {= قُلِ الْعَفْوَ =} (2). يقرأ بالرفع والنّصب = فمن رفع جعل (إذا) منفصلة من (ما) فيكون بمعنى (الذي) فكأنّه قال: ما الذين ينفقون؟ فقال: الذي ينفقون: العفو، فترفعه بخبر الابتداء لأنّه جعل الجواب من حيث سألوا والحجّة لمن نصب أنّه جعل (ماذا) كلمة واحدة، ونصب العفو بقوله (ينفقون) كأنّه قال: ينفقون العفو = (3). فاستحضار موقف خطاب فيه حوار بين طرفين قد يوضح مجيء النصّ بهذه الصياغة اللّغويّة تلبية لمتطلّبات ذلك الخطاب الذي يحمل جوّا سياقيّا معيّنا، وهو أسلوب يلجأ إليه علماء القرآن والمفسّرون عادة في توضيح صيغ القرآن وأساليبه.
وتوجيه الخطاب يترتّب عليه توجيه الأحكام وتغييرها، ومن ذلك قراءة الآية (184) من سورة البقرة في قوله {= فِدْيَةٌ طَعََامُ مِسْكِينٍ =} يقرأ بالتنوين والتوحيد، وبالإضافة والجمع فالحجّة لمن رفع ووحّد أنّ الفدية مبتدأ وطعام بدل منها ومسكين واحد، لأنّ عليه عن كل يوم يفطره إطعام مسكين، والحجّة لمن أضاف وجمع أنّه جعل الفدية عن أيام متتابعة لا عن يوم واحد = (4).
__________
(1) ابن خالويه، الحجة في القراءات السبع، ص 99.
(2) سورة البقرة، الآية (219).
(3) ابن خالويه، الحجة في القراءات، ص 96.
(4) نفسه، ص 93.(1/214)
ومن العناصر السياقية التي يوليها دارسو القراءات أهمية بالغة = مقصد الخطاب = فالخطاب يتشكّل بحسب مقصد واضع النصّ، والهدف المقصود من أيّ خطاب يتحقّق إذا توافرت الآليّات اللّغويّة المناسبة لإيصاله إلى المخاطب. ومن ذلك قوله تعالى: = أو ننسأها = = فإنّه يقرأ بفتح النون والهمز، وبضمّها وترك الهمز، فالحجّة لمن فتح النون وهمز أنّه جعله من التأخير أو من الزيادة ومنه قولهم: (نسأ الله أجلك، وأنسأ في أجلك، والحجّة لمن ضمّ وترك الهمز، أنّه أراد الترك، يريد أو نتركها فلا ننسخها، وقوله {= نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهََا =} قيل:
بأخفّ منها في العبادة، وقيل: نبدل آية العذاب بآية رحمة، فذلك خير، وقيل: بل بأشدّ منها لأنّه تخويف من الله لعباده، وترغيب فيما عنده وذلك خير، فإن قيل: ما معنى قوله:
= أو مثلها = فقل: المماثلة، موافقة الشيء من وجه من الوجوه، ولو ماثله من جميع وجوهه لكان هو، ولم يكن له مثلا، والمعنى هنا أنّها قرآن مثلها، وهي في المعنى غيرها، لأنّ هذه آية رحمة، وهذه آية عذاب = (1). فاختلاف مقصد الخطاب ما بين الرحمة والعذاب جعل القراءة تختلف وهذا ما التمسه دارسو هذه القراءات.
ومن أمثلته كذلك اختلافهم في قراءة الآية (119) من سورة البقرة {= وَلََا تُسْئَلُ =}
ما بين رفع وجزم وتوجيه الآية يتمّ بحسب مقصد الخطاب، فمن جعل مقصد الآية الإخبار فقد رفع، ومن جعل المقصد النهي فقد جزم، وفي قراءة الآية (125) من سورة البقرة {= وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقََامِ إِبْرََاهِيمَ مُصَلًّى =} تقرأ بكسر الخاء وفتحها، فمن كسر فقد اعتبر أنّ مقصد الخطاب هو الأمر، ومن فتح اعتبر أنّ المقصد هو الإخبار = أخبر الله عنهم بذلك بعد أن فعلوه = (2).
وكذا في توجيه قراءة الآية {= وَتَصْرِيفِ الرِّيََاحِ =} فقد قرئت بالإفراد والجمع، فمن جمعها ففي سياق الرحمة، ومن أفردها فقد جعلها في سياق العذاب، ومن أمثلة تحكّم
__________
(1) ابن خالويه، الحجة في القراءات، ص 87.
(2) نفسه، ص 87.(1/215)
مقصد الخطاب في توجيه القراءة أيضا قوله تعالى: {= وَانْظُرْ إِلى ََ حِمََارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنََّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظََامِ كَيْفَ نُنْشِزُهََا ثُمَّ نَكْسُوهََا لَحْماً فَلَمََّا تَبَيَّنَ لَهُ قََالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ =} (1). = يقرأ (أعلم) بقطع الألف والرفع، وبوصلها والوقف فالحجّة لمن قطع أنّه جعله من إخبار المتكلّم عن نفسه، والحجّة لمن وصل أنّه جعله من أمر الله تعالى للمخاطب = (2). وإذن فتوجيه الخطاب تتداخل فيه عوامل عديدة ومنها استحضار المخاطب، أو المخاطب، أو طبيعة الخطاب، أو مقصد الخطاب، أو السياق المقامي المحيط بذلك الخطاب.
نخلص من هذا المبحث إلى أنّ علماء القرآن قد تتبعوا العلاقة بين النص والسياق في سورة البقرة في صورتيها: الاتساق المقامي، والاتساق الداخلي فدرسوا في السياق المقامي: ظروف تنزيل سورة البقرة مكانا وزمانا وأسباب نزول ومخاطبين، كما أبانوا عن أثر هذه الظروف داخل سورة البقرة، ودرسوا في هذا الشأن كذلك مسألة النسخ، والآيات المنسوخة في السورة الكريمة، وكان توجيههم في القول بالنسخ أو عدمه محكوما في الغالب بظروف السياق المقامي للنص، وأما فيما يتعلق بالسياق الداخلي فدرسوا التناسب بين آيات سورة البقرة وفاتحتها وخاتمتها وترابط آياتها، كما درسوا السياق اللغوي في النص وعلاقته بالمقام، ونظروا في مفردات السورة، وشرحوا غريبها بالاستعانة بالسياق.
وأظهر علماء القراءات دور السياق في توجيه قراءات هذه السورة الكريمة من خلال مراعاة العرف اللغوي، والسياق الصوتي، ومقصد الخطاب، والمشاكلة بين الألفاظ، واستحضار السياق المقامي للنص الكريم.
__________
(1) سورة البقرة، الآية (259).
(2) ابن خالويه، الحجة في القراءات، ص 9.(1/216)
المبحث الثاني العلاقة بين نصّ سورة البقرة وسياقها قراءة في كتب التفسير
اهتمّ المفسّرون بدراسة ما يحيط بالخطاب القرآني، وأثاروا الحديث حوله في مقدّمات تفاسيرهم، ولولا شعورهم بضرورته ما طرقوه، وما افتتحوا تفاسيرهم به، بل نجد من أفرده بالدراسة والتأليف، وأطنب فيه بتعداد أنواع كثيرة متّصلة به، وذلك لأنّهم رأوا جميعا أنّ مثل هذه الدراسة القريبة من الخطاب = ما ينبغي مطلقا أن يتقدّم لدراسة التفسير من لم ينل حظّه منها = (1). ويوضح الشيخ رشيد رضا جانبا آخر من المسألة حين يقول: = إن القرآن أجمل الكلام عن الأمم وعن السنن الإلهيّة، وعن آياته في السموات والأرض، وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمال صادر عمّن أحاط بكلّ شيء علما، وأمرنا بالنظر والتفكّر والسير في الأرض لنفهم الإجمال بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره، لكنّا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمة = (2).
على أنّ الشيخ محمد رضا يرى أنّ المعرفة بالبيئة العربيّة بوجهيها المادّي والمعنويّ التي نزل فيها الخطاب، ليست كافية في عمليّة الفهم، بل لا بدّ بالإضافة إلى ذلك من المعرفة بعلم أحوال البشر ما دام الله سبحانه وتعالى قد بيّن في كتابه كثيرا من أحوال الخلق وطبائعهم، والسنن الإلهيّة في البشر، وقصّ علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسننه فيها. وما دام المخاطب لا يستطيع أن يفهم من الخطاب ما له ارتباط بمثل هذه القضايا، إذا هو لم ينظر في أحوال البشر، وأدوارهم ومناشئ اختلاف
__________
(1) أمين الخولي، مناهج تجديد، ص 309.
(2) رشيد رضا، تفسير المنار، 1/ 23.(1/217)
أحوالهم: من قوّة وضعف، وعزّ وذل، وعلم وجهل، وإيمان وكفر =. (1) وهذا تأكيد واضح على ضرورة معرفة السياقات الاجتماعية المختلفة المحيطة بالمخاطبين ليحدث الوعي بالخطاب، وطبيعته ومحتواه.
أفي الاتساق الداخلي للنصّ (النصّ والسياق اللغوي):
يمثل النص القرآني نسيجا متماسكا مترابط الأجزاء، أما اختيار أدوات الترابط في هذا الموضع أو ذاك، فهو شكل من الأشكال التي يتكيف فيها النص مع سياقه، وقد أبرز المفسرون بعضا من هذه الروابط، ونظروا في دلالات اختيارها، وعلاقة هذا الاختيار بالسياق، ومن الروابط التي أبانوا عنها في سورة البقرة: العطف، والإحالة، والتكرير.
وفيما يلي بيانها.
1 - العطف:
نظر المفسّرون في عطف جملة على جملة، والمعنى المترتّب على ذلك فيشير الزمخشري أثناء تفسيره للآية (25) من سورة البقرة إلى أن قوله تعالى: {= وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ كُلَّمََا رُزِقُوا مِنْهََا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قََالُوا هََذَا الَّذِي رُزِقْنََا مِنْ قَبْلُ =} يوجب طرح سؤال مفاده علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهي يصحّ عطفه عليه، وفي رأيه أن ليس = الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتّى يطلب له كل من أمر أو نهي يعطف عليه، إنّما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين، فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين () وذلك أن تقول هو معطوف على قوله (2) {= فَاتَّقُوا النََّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النََّاسُ وَالْحِجََارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكََافِرِينَ =} (3).
__________
(1) رشيد رضا، تفسير المنار، 1/ 43.
(2) الزمخشري، الكشاف، 1/ 322.
(3) سورة البقرة، الآية (24).(1/218)
ويفهم من كلام الزمخشري أنّ العطف سوّغته الجهة الجامعة بين محتوى الوصفين، وهي التضاد: فالأوّل عقاب الكافرين، والثاني ثواب المؤمنين.
وفي تفسير الآية نفسها يقول ابن عاشور في تفسيره = التحرير والتنوير = = وجعل جملة = وبشّر = معطوفة على مجموع الجمل المسوقة لبيان وصف عقاب الكافرين، يعني جميع الذي فصّل في قوله تعالى: {= وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمََّا نَزَّلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا =} إلى قوله: {= أُعِدَّتْ لِلْكََافِرِينَ =}
فعطفت مجموع أخبار عن ثواب المؤمنين على مجموع أخبار عن عقاب الكافرين، والمناسبة واضحة مسوّغة لعطف المجموع على المجموع، وليس هو عطفا لجملة معيّنة على جملة معيّنة الذي يطلب معه التناسب بين الجملتين في الخبريّة والإنشائية () وجعل الجرجاني لهذا النوع من العطف، لقب (القصّة على القصّة) لأنّ المعطوف ليس جملة على جملة، بل طائفة من الجمل على طائفة أخرى = (1). ونجد الزمخشري يعبّر عن هذا الرأي نفسه إلّا أنّ هناك إضافة تكمن في أنّ المعطوف عليه لا يقف عند قوله = فاتقوا = وإنّما يتجاوز مجموع الأخبار الواردة في الآيتين (23) و (24) عن عقاب الكافرين الناشئ في = اصطلاح ابن عاشور، عن التحدّي والعجز عن رفعه ممّا ترتّب عنه العقاب الشديد، وقد عزّز رأيه برأي الجرجاني متبنّيا مصطلحه = عطف القصّة على القصّة =.
وقريب منه إشارة الطبري إلى مسألة العطف في تفسيره للآية (34) من سورة البقرة {(وَإِذْ قُلْنََا لِلْمَلََائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلََّا إِبْلِيسَ أَبى ََ وَاسْتَكْبَرَ وَكََانَ مِنَ الْكََافِرِينَ =} (2). قال: = أمّا قوله: = وإذ قلنا = فمعطوف على قوله: {= وَإِذْ قََالَ رَبُّكَ لِلْمَلََائِكَةِ =} كأنّه قال جلّ ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بني إسرائيل معدّدا عليهم نعمه ومذكّرهم آلاءه على نحو الذي وصفنا فيما مضى قبل = اذكروا فعلي بكم إذ أنعمت عليكم فخلقت لكم ما في الأرض جميعا، وإذ
__________
(1) ابن عاشور، التحرير والتنوير، 1/ 357.
(2) تفسير الطبري، 1/ 171.(1/219)
قلت للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة، فكرّمت أباكم آدم بما آتيته من علمي وفضلي وكرامتي، وإذ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له ثم =.
ويمكن أن نقدّم مثالا آخر لعطف القصّة على القصّة لدى ابن عاشور من أجل إبراز تتبّعه لهذا النوع من العطف واهتمامه به في تفسيره للآية (34) التي سبق ذكرها فهو يذهب إلى أنّ هذه الآية معطوفة على آية تفصلها عنها ثلاث آيات، وهي قوله تعالى: {= وَإِذْ قََالَ رَبُّكَ لِلْمَلََائِكَةِ إِنِّي جََاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً =} قال: = وإعادة (إذ) بعد حرف العطف المغني عن إعادة ظرفه تنبيه على أنّ الجملة مقصودة بذاتها لأنّها متميّزة بهذه القصّة العجيبة فجاءت على أسلوب يؤذن بالاستقلال والاهتمام، ولأجل هذه المراعاة لم يؤت بهذه القصّة معطوفة بفاء التفريع = (1). فالذي سوّغ العطف رغم كون القصتين مستقلّتين هو أنّ الطرفين اللذين تمحور حولهما الخطاب متماثلان = الملائكة وآدم. ففي القصّة الأولى إظهار لعلوّ درجته عند الله بعد احتجاج الملائكة على استخلافه في الأرض، وفي الثانية تزكية لسمّو درجته عنده تعالى ممّا استوجب سجود الملائكة له بأمر منه تعالى لكنّ ابليس رفض السجود فالقصّتان مشتركتان معا في:
وحدة المخاطب
الاحتجاج / التسليم بأمر الله.
الاحتجاج / التسليم / العصيان
ورغم أنّ ابن عاشور لم يفصّل قوله على هذا النحو، إلّا أنّ العطف هنا (عطف قصة على قصة) يضمر هذا الذي أشرنا إليه.
ومن أمثلته كذلك اهتمام الزمخشري بالعطف الداخلي بين الجمل ومعاني حروف العطف في سياقاتها المختلفة، فحين يفسّر الزمخشري الآيات (53، 54) = وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنّه هو التوّاب الرحيم = يتساءل
__________
(1) ابن عاشور، التحرير والتنوير، 1/ 336.(1/220)
الزمخشري عن الفرق في معاني الفاءات الواردة في قوله تعالى: {= فَتُوبُوا =} و {= فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ =}
و {= فَتََابَ عَلَيْكُمْ =} قال: = فإن قلت: ما الفرق بين الفاءات، قلت: الأولى للتسبّب لا غير، لأنّ الظلم سبب التوبة والثانية للتعقيب لأنّ المعنى فاعزموا على التوبة، فاقتلوا أنفسكم من قبل أنّ الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم، ويجوز أن يكون القتل تمام توبتهم، فيكون المعنى: فتوبوا فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم، والثالثة متعلّقة بمحذوف، ولا يخلوا إمّا أن ينتظم في قول موسى لهم فتتعلّق بشرط محذوف كأنّه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم، وإمّا أن يكون خطابا من الله تعالى على طريقة الالتفات، فيكون التقدير: ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم = (1).
من اللافت للانتباه في دراسة المفسّرين لكيفيّة ارتباط الآي، أو ارتباط العناصر المكوّنة للآية نفسها بواسطة العطف، هو تعدّد ما يعطف عليه. على أنّ تعدّد المعطوف عليه يخضع لإمكانيّة العطف، ثمّ تبرير المعطوف عليه في حالة تعدّده، ونضرب لهذا المظهر مثالين: أحدهما من تفسير الزمخشري، والثاني من تفسير الرازي. قال تعالى: {= إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمََا يَنْفَعُ النََّاسَ وَمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ مََاءٍ فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا وَبَثَّ فِيهََا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيََاحِ وَالسَّحََابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ =} (2). يفترض الزمخشري سائلا يسأل عمّ عطف = وبثّ فيها = أعلى (أنزل) أم على (أحيا)؟ يجيب باحتمالين، ظاهر وجائز. أمّا الظاهر فهو عطفه على (أنزل)، وعلى هذا النحو يكون داخلا = تحت حكم الصلة لأنّ قوله {= فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ =} عطف على (أنزل) فاتّصل به وصارا جميعا كالشيء الواحد، فكأنه قال: وما أنزل في الأرض من ماء وبثّ
__________
(1) الكشّاف، 1/ 140.
(2) سورة البقرة، الآية (164).(1/221)
فيها من دابّة = (1). أما الجائز فهو عطفه على قوله (أحيا) على معنى (فأحيا بالمطر الأرض وبثّ فيها من كلّ دابّة) لأنّهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة، والواقع أنّ العطفين معا جائزان لأنّ البنية المنطقيّة التي تحكمهما متماثلة، وهي بنية السبب والنتيجة، وهذا ما قصد إليه الزمخشري في تخريجه ذاك، وخاصّة بين الفعلين = أنزل فأحيا = ولذا دخلت الفاء على (أحيا) ولم تدخل على (بثّ) فالإحياء نتيجة مترتّبة عن نزول الماء، ويمكن أن تتقوّى هذه العلاقة السببيّة، إذا اعتبرنا سلسلة النتائج التي ترتبّت عن إنزال الماء، بين (بثّ) وأنزل عبر الوسيط (أحيا) لأنّه شرط ضروري لقيام الحياة على الأرض.
وفي الإطار نفسه نقدّم مثالا من تفسير الرازي لقوله تعالى: {= وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثََابَةً لِلنََّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقََامِ إِبْرََاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنََا إِلى ََ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْمََاعِيلَ أَنْ طَهِّرََا بَيْتِيَ لِلطََّائِفِينَ وَالْعََاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ =} (2). يشير الرازي إلى أنّ ما عطف عليه = واتّخذوا = فيه ثلاثة أقوال الأوّل: أنّه عطف على قوله {= اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعََالَمِينَ =}. والثاني: أنّه عطف على قوله {= إِنِّي جََاعِلُكَ لِلنََّاسِ إِمََاماً =} وقال (اتخذوا)، ويجوز أن يكون أمر به ولده إلا أنه تعالى أضمر قوله = وقال =
والثالث: أنّ هذا أمر من الله تعالى لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى، وهو كلام اعتراض في خلال ذكر قصّة إبراهيم عليه السلام، وكأنّ وجهه = وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا (واتّخذوا) أنتم من مقام إبراهيم مصلّى، والتقدير أنّا لمّا شرفناه ووصفناه بكونه مثابة للنّاس وأمنا، فاتخذوه أنتم قبلة لأنفسكم = (3).
ونلاحظ في الاحتمالات الثلاثة السابقة أنّ الأوّل منها هو المعتمد على ما ورد في آية
__________
(1) الكشاف، 1/ 315.
(2) سورة البقرة، الآية (125).
(3) تفسير الرازي، 4/ 52.(1/222)
سابقة، أي أنّ العطف تمّ اعتمادا على ما تقدّم في النص، وهو الآية (122) إذ في هذه الآية أمر بالذكر يسوّغ عطف أمر على آخر، ولو كانت المسافة بينهما بعيدة، وفي هذه الحالة يكون الخطاب بالفعلين موجّها إلى بني إسرائيل، أمّا الاحتمالان الباقيان في عطف (واتّخذوا) فمرتكزان إلى المقام واحتمالات ما يوحي به، ومن ثمّ يتعدّد المخاطب بالأمر ففي الحالة الأولى التي يعدّ فيها واتّخذوا جزاء لإبراهيم على طاعته والتزامه بتنفيذ الأوامر الإلهيّة يكون المخاطب هو ولد إبراهيم، بناء على أنّ القصّة متمحورة حوله، وفي الثانية يكون (واتّخذوا) خطابا موجّها إلى أمّة محمد عليه الصلاة والسلام. ومن ثمّ يعدّ اعتراضا انجرّ إليه الكلام تشريفا لإبراهيم والمسلمين معا.
ويفرّق الرازي بين معاني العطف في السياقات المختلفة، ومن ذلك ما جاء في تفسيره للآية {= أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ =} (1). فقد تساءل:
= فإن قيل فلم جاء مع العاطف، وما الفرق بينه وبين قوله {= أُولََئِكَ كَالْأَنْعََامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولََئِكَ هُمُ الْغََافِلُونَ =} (2). وأجاب على هذا التساؤل بقوله: = قد اختلف الخبران هنا فلذلك دخل العاطف، بخلاف الخبرين هناك فإنّهما متّفقان، لأنّ التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد، وكانت الجملة الثانية مقرّرة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل = (3).
ومثله وقوفه عند الآية {= وَإِذْ نَجَّيْنََاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنََاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسََاءَكُمْ وَفِي ذََلِكُمْ بَلََاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ =} (4). فقد
__________
(1) سورة البقرة، الآية (5).
(2) سورة الأعراف، الآية (179).
(3) تفسير الرازي، 1/ 34.
(4) سورة البقرة، الآية (49).(1/223)
تنبّه الرازي إلى أنّ الله تعالى قد ذكر لفظة يذبّحون بلا واو، وفي سورة إبراهيم ذكره مع الواو، ويقول في جواب ذلك: = والوجه فيه أنّه إذا جعل قوله {= يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ =}
مفسّرا بقوله {= يُذَبِّحُونَ أَبْنََاءَكُمْ =} لم يحتج إلى الواو، وأمّا إذا جعل قوله {= يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ =} مفسّرا بسائر التكاليف الشاقّة سوى الذبح، وجعل الذبح شيئا آخر سوى سوء العذاب احتيج فيه إلى الواو، وفي الموضعين يحتمل الوجهين، إلّا أنّ الفائدة التي يجوز أن تكون هي المقصودة من ذكر حرف العطف في سورة إبراهيم، أن يقال إنّه تعالى قال قبل تلك الآية: {= وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا مُوسى ََ بِآيََاتِنََا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ، وَذَكِّرْهُمْ بِأَيََّامِ اللََّهِ =} والتذكير بأيّام الله لا يحصل إلّا بتعديد نعم الله تعالى، فوجب أن يكون نوعا من العذاب، والمراد من قوله {= يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ =} نوعا من العذاب، والمراد من قوله {= يُذَبِّحُونَ أَبْنََاءَكُمْ =} نوعا آخر ليكون التّخلص منهما نوعين من النعمة فلهذا وجب ذكر العطف هناك، وأمّا في هذه الآية لم يرد الأمر إلّا بتذكير جنس النعمة، وهي قوله = اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، فسواء كان المراد من سوء العذاب هو الذبح أو غيره كان تذكير جنس النعمة حاصلا فظهر الفرق = (1).
وقال الرازي في تفسيره لقوله تعالى: {= اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ =} (2). متسائلا = كيف ابتدأ قوله {= اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ =} ولم يعطف على الكلام الذي قبله؟ = ثم يقول: = الجواب هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة، وفيه أنّ الله تعالى هو الذي يستهزئ بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزاؤهم في مقابلته كالعدم، وفيه أيضا أنّ الله هو الذي يتولّى الاستهزاء بهم انتقاما للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم باستهزاء مثله = (3). فها هنا توقّف عند أهميّة التفريق بين معنى العطف والاستئناف ودلالة ذلك في مقصديّة النصّ وأثره.
__________
(1) تفسير الرازي، 1/ 68.
(2) سورة البقرة، الآية (15).
(3) تفسير الرازي، 1/ 70.(1/224)
وتعرّض الرازي كذلك إلى ما يعرف بالعطف السببي، ومن ذلك ما ذكره عند تفسيره للآية (35) من سورة البقرة {= وَقُلْنََا يََا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلََا مِنْهََا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمََا =} فقد عطف الأكل هنا على السكن بالواو، بينما عطف الأكل في سورة الأعراف على الدخول بالفاء، وقد دفعه هذا الفرق إلى صياغة قاعدة في العطف السببي وذلك قوله: = كلّ فعل عطف عليه شيء وكان الفعل بمنزلة الشرط، وكان ذلك الشيء بمنزلة الجزاء، عطف الثاني على الأوّل بالفاء دون الواو كقوله تعالى: {= وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا =} فكلوا، فعطف كلوا على ادخلوا بالفاء لمّا كان وجود الأكل منها متعلقا بدخولها، فالدخول موصل إلى الأكل والأكل متعلّق وجوده بوجوده، في حين أنّ الأكل لا يختصّ وجوده بوجوده (أي السكن) فلمّا لم يتعلّق الثاني بالأوّل تعلّق الجزاء بالشرط وجب العطف بالواو دون الفاء = (1). ويستفاد من هذا أنّ الرازي يفرّق بين العطف السببي الذي يتمّ بالفاء (وهو السببي حقا)، وبين العطف بالواو دون أن يكون سببا. فرغم أنّ الواقعة في السورتين معا هي هي إلّا أنّها في البقرة معطوفة بالواو، وفي الأعراف بالفاء، والذي رشّح الثاني للسببيّة هو ورود الفعل الثاني معطوفا بالفاء. وإذا كانت السببيّة هنا مقوّاة بتجاور الفعلين وترتّب أحدهما على الآخر، فإنّ المثال الذي نقدّمه لابن عاشور ليس كذلك أثناء تفسيره للآية (79) {= فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتََابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هََذََا مِنْ عِنْدِ اللََّهِ =} يعلّق قائلا: = (الفاء) للترتيب والتسبّب فيكون ما بعدها مترتّبا على ما قبلها، والظاهر أنّ ما بعدها مترتّب على قوله {= وَقَدْ كََانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلََامَ اللََّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مََا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ =} (2). الدال على وقوع تحريف منهم عن عمد فرتّب عليه الإخبار باستحقاقهم سوء الحالة = (3). إنّ البنية الشكليّة للآيتين خالية من
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 4.
(2) سورة البقرة، الآية (75).
(3) ابن عاشور، التحرير والتنوير، 1/ 575.(1/225)
المؤشّرات الشرطية إذا ف أو إن فكذا، ومع ذلك فإنّ ابن عاشور كشف عن وجود هذا المعنى في العلاقة بين الآيتين وذلك أنّ عذابهم مترتب عن تحريفهم كلام الله عن مواضعه، ومن ثمّ إنّ الآيتين رغم تباعدهما مترابطتان أشدّ ما يكون الترابط.
ومن الملاحظات التي يمكن أن بيديها الباحث العطف بين جملتين تحملان أحكاما مختلفة، أو قد يبدو هذا لأوّل وهلة، ومنه عطف الآية {= وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلََا يُقْبَلُ مِنْهََا شَفََاعَةٌ وَلََا يُؤْخَذُ مِنْهََا عَدْلٌ وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ =} (1). على الآية {= يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعََالَمِينَ =} (2). قال ابن كثير: = لمّا ذكّرهم تعالى بنعمه أوّلا، عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة، فقال: = واتقوا يوما = (3). فالآية الأولى بيان النعمة والتفضيل، والثانية تحذير من عدم احترام هذه النعمة وصونها، ولهذا جاز العطف بين أمرين يبدوان متناقضين.
ومن أنواع العلاقات التي تنبّه لها المفسّرون بين العاطف والمعطوف عليه علاقة العموم والخصوص، ومنه في الآية الكريمة {= مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِلََّهِ وَمَلََائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكََالَ فَإِنَّ اللََّهَ عَدُوٌّ لِلْكََافِرِينَ =} (4). قال ابن كثير: = وهذا من باب عطف الخاص على العام فإنّهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل، ثمّ خصّصنا بالذكر لأنّ السياق في الانتصار لجبرائيل، وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللّفظ لأنّ اليهود زعموا أنّ جبرائيل عدوّهم وميكائيل وليّهم = (5). وبذا فيكون المفسّرون قد
__________
(1) سورة البقرة، الآية (48).
(2) سورة البقرة، الآية (47).
(3) تفسير ابن كثير، 1/ 77.
(4) سورة البقرة، الآية (98).
(5) تفسير ابن كثير، 1/ 115.(1/226)
تمثّلوا أهميّة العطف في ترابط النصّ واتّساقه، كما تمثّلوا آلية هذا العطف في توضيح دلالات السياق وانسجامه مع النصّ، وتبيّنوا الأشكال المتعدّدة التي يأتي عليها العطف في السياقات المختلفة. كما نجد أنّ السياق الخارجي والأحداث الخارجيّة تركت لها أثرا خطيّا داخل النّص تمثّل في اقتران بعض الألفاظ معا.
2 - الإحالة
لا يخفى الدور الذي تقوم به الإحالة ضميريّة كانت أو إشاريّة في ربط أجزاء خطاب معيّن، وقد اهتمّ المفسّرون بهذا الدور. فقد تتّبعوا حركة الضمائر في الخطاب القرآني ودلالاتها وإحالة الضمير، وتعدّد المحال إليه، ومن ذلك عند الزمخشري في تفسيره للآية {= وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلََاةِ وَإِنَّهََا لَكَبِيرَةٌ إِلََّا عَلَى الْخََاشِعِينَ =} (1). فيشير إلى أنّ الضمير (للصلاة) أو (للاستعانة)، ويجوز أن يكون لجميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها من قوله (اذكروا نعمتي) إلى (واستعينوا) (2). نحن هنا إذن أمام ثلاثة إمكانات، وعود الضمير إلى الصلاة أقرب من الاستعانة وفي هاتين الحالتين هناك تطابق بين الضمير (ها) وبين المحال إليه إفرادا وتأنيثا، مع كون الإحالة داخل الآية نفسها، أمّا في الإمكان الثالث فإنّ الضمير (ها) يحيل إلى خطاب سابق يستغرق خمس آيات تتضمّن الأمور التالية: ذكر النعمة، والوفاء بالعهد، ورهبة الله، والإيمان برسالة محمد، وألا يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وتقوى الله، وألّا يلبسوا الحقّ بالباطل، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسلوك سبيل البرّ. وهي كما نرى تتراوح بين الأوامر والنواهي وقد جاء بعضها متداخلا مع بعض، ويتحصّل من تحليل الزمخشري أنّ إحالة الضمير نوعان: إحالة إلى عنصر متقدّم، وإحالة إلى خطاب سابق.
__________
(1) سورة البقرة، الآية (45).
(2) الكشاف، 1/ 278.(1/227)
وتخريجا للمحال إليه بالضمير المستتر في الفعل (ليحكم) في قوله تعالى: {= كََانَ النََّاسُ أُمَّةً وََاحِدَةً فَبَعَثَ اللََّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ =} (1). قال الرازي: = فاعلم أنّ قوله (ليحكم) فعل لا بد من استناده إلى شيء تقدم ذكره، وقد تقدّم ذكر أمور ثلاثة فأقربها إلى هذا اللفظ (الكتاب)، ثمّ (النبيّون)، ثمّ (الله) فلا جرم إن كان إضمار كلّ واحد منها صحيحا فيكون المعنى: ليحكم الله أو النبيّ المنزل، أو الكتاب ثم إنّ كل واحد من هذه الاحتمالات يختصّ بوجه ترجيح، أمّا الكتاب فلأنّه أقرب المذكوران، وأمّا الله فلأنّه سبحانه هو الحاكم في الحقيقة لا الكتاب، وأمّا النبيّ فهو المظهر، فلا يبعد أن يقال: حمله على الكتاب أولى، وأقصى ما في الباب أن يقال: الحاكم هو الله، فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز إلّا أن تقول هذا المجاز يحسن تحمّله لوجهين: أحدهما أنّه مجاز مشهور، يقال حكم الكتاب بكذا، وقضى كتاب الله بكذا، وإذا جاز أن يكون هدى وشفاء جاز أن يكون حاكما. قال تعالى: {= إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ =} (2). والثاني أنّه يفيد تفخيم شأن القرآن وتعظيم حاله (3).
نلاحظ أنّ تعدّد الإحالة مبرّر لدى الرازي بعدّة قرائن: أولاها نحويّة وهي عود الضمير على الأقرب، والثانية بلاغية تعتمد على مسألة الحقيقة والمجاز، فإذا عاد الضمير المستتر على الله كانت الإحالة حقيقيّة لأنّ بعث النبيّين وإنزال الكتب أفعال صادرة منه، وإذا تمّت الإحالة إلى الكتاب كان الإسناد مجازيّا بحكم الاستعمال المتعارف عليه. والقرينة الثالثة مقاميّة مأخوذة من حقيقة الواقع (أن الله هو الحاكم في الحقيقة)، والعرف اللغوي
__________
(1) سورة البقرة، الآية (213).
(2) سورة الإسراء، الآية (9).
(3) تفسير الرازي، 6/ 15.(1/228)
= مأخوذ من قوله = مشهور = ومأخوذ من الغرض وهو جزء من سياق الحال وذلك في قوله = يفيد تفخيم شأن القرآن وتعظيم حاله =. والذي جعل إحالة الضمير المستتر متعدّدة هو ورود الفعل حرّا غير مقيّد بأيّة قرينة على عكس الأفعال الأخرى. فالفعل (بعث) أسند إلى فاعل صريح هو (الله) كما أنّ الفعل (أنزل) لا يحتمل العدد المحال إليه، لأنّه عقّب بجار ومجرور يتضمّن ضميرا محيلا إلى النبيّين ممّا يجعل الإحالة بضميرين إلى العنصر نفسه (الله عز وجل) مستحيلة.
ومن أمثلته كذلك عند الزمخشري في تفسيره للآية (25) {= هََذَا الَّذِي رُزِقْنََا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشََابِهاً =}. قال: = ويجوز أن يرجع الضمير في (أتوا به) إلى الرزق، كما أنّ هذا إشارة إليه ويكون المعنى أنّ ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانسا في نفسه، كما يحكى عن الحسن: يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بالأخرى فيقول: هذا الذي أتينا به من قبل، فيقول الملك: كل فاللون واحد، والطعم مختلف فإن قلت: كيف موقع قوله {(وَأُتُوا بِهِ مُتَشََابِهاً)} من نظم الكلام. قلت: هو كقولك: فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل، ورأى من الرأي كذا وكان صوابا (1). فالإحالة إلى الرزق جاءت بتعضيد من حديث شريف يصف حال أهل الجنة فهو معتمد على سياق الحال آنئذ وإن كان ذلك في المستقبل. ومنه كذلك في تفسير الزمخشري للآية (27) من سورة البقرة {= الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثََاقِهِ، وَيَقْطَعُونَ مََا أَمَرَ اللََّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ =}. قال: = والضمير، في ميثاقه للعهد، وهو ما وثقوا به عهد الله من قبوله وإلزامه أنفسهم، ويجوز أن يكون بمعنى توثيقه كما أنّ الميعاد والميلاد بمعنى الوعد والولادة، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى أي من بعد توثقته عليهم، ومن بعد ما وثق به عهده من آياته وكتبه وإنذار رسله = (2). فالإحالة هنا تتعدّد احتمالاتها، وترجيح الإحالة يتمّ
__________
(1) الكشاف، 1/ 109.
(2) نفسه، 1/ 119.(1/229)
بالاستعانة بعناصر من داخل النصّ (القرينة النحويّة، وقرينة المعنى) وبعناصر من خارج النصّ وهي المقام وذلك بالاستئناس بأحوالهم من حيث قبول العهد وإلزام أنفسهم به.
وللتدليل على أنّ الاهتمام بتعدّد المحال إليه مشترك بين المفسّرين نورد تحليل ابن عاشور للآية (146) قال تعالى {= الَّذِينَ آتَيْنََاهُمُ الْكِتََابَ يَعْرِفُونَهُ كَمََا يَعْرِفُونَ أَبْنََاءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ =} يرى ابن عاشور أنّ هناك ثلاثة احتمالات لما يعود إليه الضمير المنصوب في (يعرفونه)، = إمّا أنّه عائد إلى الرسول وإن لم يسبق ذكر المعاد مناسب لضمير الغيبة لكنّه قد علم من الكلام السابق وتكرّر فيه من قوله: {= وَمََا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهََا إِلََّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ =} (1). وقوله {= قَدْ نَرى ََ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمََاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضََاهََا =} (2). وقوله: {= فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ =} (3). فالإتيان بالضمير بطريقة الغيبة من الالتفات، وهو على تقدير مضاف أي يعرفون صدقه، وإمّا أن يعود إلى الحقّ في قوله السابق = ليكتمون الحقّ = فيشمل رسالة الرسول وجميع ما جاء به، وإمّا إلى العلم (4) في قوله {= مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ =} (5). واضح من هذه الاحتمالات أن الضمير يحيل إلى سابق مذكور صراحة فإذا جعل الضمير محيلا إلى الرسول فقد جاء ظاهرا مرة واحدة في الآية (143) ومستمرّا في الآيات اللاحقة، بضمير الخطاب المتّصل، والضمير في هذه الحالة محيل إلى عنصر فقط، وإذا كان محيلا إلى الحقّ يصبح عنصرا محيلا إلى خطاب، وهكذا تكون الضمائر حسب
__________
(1) سورة البقرة، الآية (143).
(2) سورة البقرة، الآية (144).
(3) سورة البقرة، الآية (144).
(4) ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، 2/ 39.
(5) سورة البقرة، الآية (145).(1/230)
المفسّرين محيلة إحالة مزدوجة مرّة إلى عنصر واحد في خطاب سابق، ومرّة أخرى إلى خطاب بأكمله.
ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الاحتمالات هي نفسها التي يذكرها الرازي في تفسيره وسننقل فقط بعض العبارات البينيّة أو التعقيبيّة التي كان يستخدمها والتي تدلّ على أنّه شديد الاهتمام بعلاقة الضمائر المباشرة وتأويل الإحالات باتّساق الخطاب وتناسب النصّ مع سياقيه: اللّغوي والمقامي. وانظر إلى عبارته = وجاز الإضمار وإن لم يسبقه ذكر، لأنّ الكلام يدلّ عليه ولا يلتبس على السامع، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنّه لشهرته معلوم بغير إعلام = (1). وعبارة الرازي هذه فيها اهتمام بالسياق اللغوي = لأنّ الكلام يدلّ عليه = أي دلالة السياق العام للجملة، واهتمام بالسامع وهو من عناصر سياق الحال أو المقام، وفيها اهتمام بالتأثير أو هدف الخطاب وهو من عناصر المقام أيضا.
وليس هذا هو الموضع الوحيد الذي يصل فيه الرازي بين إحالة الضمائر وهدف الخطاب، ففي تفسيره للآية {= خََالِدِينَ فِيهََا =} (2) أحال الضمير في = فيها = إلى اللّعنة، وقيل في النار = إلّا أنّها أضمرت تفخيما لشأنها، وتهويلا كما في قوله تعالى {= إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ =}
ويرجّح الرازي الاحتمال الأوّل لوجوه منها أنّ الضمير إذا وجد له مذكور متقدّم فردّه إليه كان أولى من ردّه إلى ما لم يذكر، والثاني أنّ حمل هذا الضمير على اللّعنة أكثر فائدة من حمله على النار، لأنّ اللعن هو الإبعاد من الثواب بفعل العقاب في الآخرة، وإيجاده في الدنيا فكان اللعن يدخل فيه النار وزيادة، فكان حمل اللفظ عليه أولى، والثالث أنّ قوله {= خََالِدِينَ فِيهََا =} إخبار عن الحال، وفي حمل الضمير على اللعن يكون ذلك حاصلا في الحال، وفي حمله على النار لا يكون حاصلا في الحال بل لا بدّ من التأويل، فكان ذلك أولى = (3). وفي هذا التناول اهتمّ الرازي بالمكانة التي احتلّها المحال إليه وهو (النار) هنا حين
__________
(1) تفسير الرازي، 4/ 128.
(2) سورة البقرة (164).
(3) تفسير الرازي، 4/ 166.(1/231)
يتحدّث عن شأنها وتفخيمه، وهي (عرف) وتناول لقيمة في النفوس، ولذلك اتكأ على قيمة تداولية وهي = الفائدة = كما استفاد من عنصر (الزمان) في ترجيح رأي على آخر والزمان عنصر من عناصر سياق الحال.
ومن الأمثلة الواضحة على ربط الإحالة بالسياق ما نجده عد ابن كثير في تفسيره للآية (126) من سورة البقرة قال: = وقرأ بعضهم {= قََالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا =}
جعله من تمام دعاء إبراهيم، وهي قراءة شاذّة مخالفة للقرّاء السبعة، وتركيب السياق يأبى معناها، فإنّ الضمير في (قال) راجع إلى الله تعالى في قراءة الجمهور، والسياق يقتضيه، وعلى هذه القراءة الشاذّة يكون الضمير في = قال = عائدا على إبراهيم، وهذا خلاف نظم الكلام والله سبحانه هو العلّام = (1). والنصّ واضح الدلالة على معناه، ولاحظ المصطلحات التي يستخدمها وتهمنا كثيرا فيما نحن بصدد معالجته وهي = تركيب السياق = و = السياق يقتضيه = ثم = نظم الكلام = وكلّها وظّفت بدلالتها المعاصرة، وتضيء مفهوم الاتّساق بين النص والسياق.
بناء عليه فإنّ الضمير كما يبرز ذلك من خلال تخريجات المفسّرين يساهم بشكل فعّال في اتّساق الخطاب القرآني، وإذا كان العطف كما رأينا يغوّي الصلة بين الآيات أو بين الجمل داخل الآية نفسها، فإن الضمائر وخاصّة منها ضمائر الغيبة تقوم بوظيفتين: استحضار عنصر متقدّم في خطاب سابق، أو استحضار مجموع خطاب سابق في خطاب لاحق. غير أنّ تعامل المفسّرين مع إحالة الضمائر لا يحكمه دوما تعدّد المحال إليه، بل نجد اهتماما بآحادية الإحالة أيضا وكمثال على ذلك الآية (84) {= وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ لََا تَسْفِكُونَ دِمََاءَكُمْ، وَلََا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيََارِكُمْ، ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ =} يقول ابن عاشور: = الضميران في = أقررتم = و = أنتم تشهدون = راجعان لما رجع له ضمير = ميثاقكم = وما بعده لتكون الضمائر على سنن واحد في النظم = (2). أو قوله في تفسير الآية (61)
__________
(1) تفسير ابن كثير، 1/ 153.
(2) ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، 1/ 586.(1/232)
{= قُلْ مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى ََ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللََّهِ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى ََ لِلْمُؤْمِنِينَ =} الضمير المقصود ب (نزّله) عائد للقرآن لأنّه تقدّم في قوله {= وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ =} وإمّا لأنّ الفعل لا يصلح إلّا له = (1). ومعنى هذا أنّ الضمير ليس دائما متعدّد الإحالة، أي أنه يصرف إلى عنصر معيّن بسبب يفرضه نظم الكلام، أو لكون الضمير لا يصلح إلّا لذلك العنصر لا لغيره. و (نظم الكلام) عند المفسّرين مصطلح مرن، قد يعني تناسب الخطاب والزمن السياقي، وتناسب الخطاب مع المخاطبين وتنوّعهم، وتنوّع مقاماتهم، وقد يعني تناسب الخطاب والموضوع، وقد يعني تناسب الخطاب مع الهدف، وغير ذلك من العناصر.
ويشير الزمخشري إلى مسألة تواؤم ضمائر الخطاب مع المخاطبين في تفسيره للآية {= قُلْ مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى ََ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللََّهِ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى ََ لِلْمُؤْمِنِينَ =} (2). و {= مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِلََّهِ وَمَلََائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكََالَ فَإِنَّ اللََّهَ عَدُوٌّ لِلْكََافِرِينَ =} (3). قال: = (نزّله) للقرآن ونحو هذا للإضمار أعني إضمار ما لم يسبق ذكره، فيه فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدلّ على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته = (4). وحين يقف عند ضمير المخاطب في قوله تعالى {= عَلى ََ قَلْبِكَ =} يقول = فإن قلت: كان حقّ الكلام أن يقال: على قلبي قلت: جاءت على حكاية كلام الله تعالى كما تكلّم به كأنّه قيل: قل ما تكلّمت به من قولي: من كان عدوّا لجبريل فإنّه نزّله على قلبك = (5).
__________
(1) ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، 1/ 681.
(2) سورة البقرة، الآية (97).
(3) سورة البقرة، الآية (98).
(4) الكشّاف، 1/ 169.
(5) نفسه، 1/ 170.(1/233)
والطبري كذلك يقف عند ضروب الإحالات التي أشار إليها المفسّرون الآخرون، ومن الإحالة الآحادية التي ذكرها ما جاء في تفسير الآية {= وَلَهُمْ فِيهََا أَزْوََاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهََا خََالِدُونَ =} (1). ذكر أنّ الضمير في = لهم = يعود على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأن الضمير في = فيها = يعود على الجنّات، وتأويل ذلك هو = وبشّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنّ لهم جنات فيها أزواج مطهّرة = والضمير في (هم) عائد على الذين آمنوا وعملوا الصالحات = (2)، وهذه الإحالة من ضمائر متعدّدة على شيء واحد يساهم في تشاكل السياق وائتلاف نظم الكلام.
ويؤكد الرازي أهميّة اتّساق الضمائر في الخطاب وأثرها في اتّساق نظم الكلام حين يقف عند الآية = وأتوا به متشابها = ويسأل = إلام يرجع الضمير في قوله = = وأتوا به = ويفاضل بين ما يمكن أن يعود إليه الضمير قائلا: = إن قلنا المشبّه به هو رزق الجنّة فإلى الشيء المرزوق في الدنيا والآخرة، يعني أتوا بذلك النوع متشابها يشبه الحاصل منه في الآخرة ما كان حاصلا منه في الدنيا، وإن قلنا المشبه به هو رزق الجنّة أيضا فإلى الشيء المرزوق في الجنة، يعني أتوا بذلك النوع في الجنة بحيث يشبه بعضه بعضا = (3). وبعد ذلك يتساءل = كيف موقع قوله = وأتوا به متشابها من نظم الكلام؟ = ويجيب: = إن الله تعالى لمّا حكى عن أهل الجنة ادعاء تشابه الأرزاق في قوله {= قََالُوا هََذَا الَّذِي رُزِقْنََا مِنْ قَبْلُ =} فالله تعالى صدقهم في تلك الدعوة بقوله: {= وَأُتُوا بِهِ مُتَشََابِهاً =} (4).
ونورد هنا مثالا على أنّ صرف الضمير إلى عنصر معيّن دون غيره قد يساهم في تفكيك النظم، ففي تفسير الرازي للآية (45) {= وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلََاةِ، وَإِنَّهََا لَكَبِيرَةٌ}
__________
(1) سورة البقرة، الآية (25).
(2) تفسير الطبري، 1/ 147.
(3) نفسه، 3/ 130.
(4) نفسه، 3/ 13.(1/234)
{إِلََّا عَلَى الْخََاشِعِينَ =} قال: = واختلفوا في المخاطبين بقوله سبحانه وتعالى: {= وَاسْتَعِينُوا =} فقال قوم: = هم المؤمنون بالرسول قال: لأنّ من ينكر الصلاة أصلا، والصبر على دين محمد صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد يقال له استعن بالصبر والصلاة فلا جرم وجب صرفه إلى من صدّق بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا يمتنع أن يكون الخطاب لبني إسرائيل ثم يقع بعد ذلك خطابا للمؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، والأقرب أنّ المخاطبين هم بنو إسرائيل لأنّ صرف الخطاب إلى غيرهم يوجب تفكيك النظم = (1)، وجليّ أن الرازي في إرجاعه الضمير إلى بني إسرائيل اعتمد على موقع الآية من الآيات السابقة، باعتبار أنّ الخطاب فيها موجّه إلى بني إسرائيل دون غيرهم أما الذي أرجعه إلى المؤمنين فقد اعتمد على معرفته للعالم، ذلك أنّ الأحقّ بهذا الخطاب هم المؤمنون بدين محمد، أمّا اليهود فلا يعقل أن يخاطبوا بالصبر والصلاة وهم كافرون، والرازي لا ينكر الصلاة عند اليهود، ولكنّ صلاتهم مختلفة كيفا عن صلاة المسلمين، إلّا أن الأهمّ في نظره الاحتفاظ بقوّة نظم الآية بدل تفكّكه (تماسك الخطاب).
ومن أمثلة تواؤم الضمائر مع سيرورة الخطاب ما طرحه الزمخشري في توقّعه عند دلالة الضمير على المفرد في الآية {= وَمََا أَنْتَ بِتََابِعٍ قِبْلَتَهُمْ =} (2). = فإن قلت: كيف قال: وما أنت بتابع قبلتهم ولهم قبلتان: لليهود قبلة وللنصارى قبلة؟ قلت = كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحقّ، فكانتا بحكم الاتّحاد في البطلان قبلة واحدة = (3). وفضلا عن اهتمامه بالاتّساق الداخلي في النص، فقد اتّكأ على حقيقة موضوعيّة خارجيّة لتفسير هذا الاتّساق وهي بطلان الدعوى التي طرحوها. ومن أمثلة الحرص على توضيح ما يظنّ أنّه يعارض هذا التواؤم ما أورده الماوردي في تفسيره حول الآية {= فَتََابَ عَلَيْكُمْ =} (4). قال: = فإن قيل:
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 51.
(2) سورة البقرة، الآية (144).
(3) الزمخشري، الكشاف، 1/ 204.
(4) سورة البقرة، الآية (54).(1/235)
فلم قال: = فتاب عليه = ولم يقل فتاب عليهما، والتوبة قد توجّهت إليهما؟ قيل: عنه جوابان: أحدهما لمّا ذكر آدم وحده بقوله: = فتلقّى آدم من ربّه كلمات = ذكر بعدها قبول توبته ولم يذكر توبة حوّاء، وإن كانت مقبولة التوبة لأنه لم يتقدّم ذكرها. والثاني أن الاثنين إذا كان معنى فعلهما واحدا جاز أن يذكر أحدهما ويكون المعنى لهما = (1). وفي الحالتين نجد أنّ الهدف في التوضيح إظهار سيرورة الخطاب في تناغم واضح.
كما يهتمّ المفسرون بتوجيه الضمير توجيها يضمن ديمومة اتّساق الخطاب (الاتساق الداخلي) ويضمن في الوقت نفسه مناسبة الكلام لمقتضى الحال، وهو سياق الحال، ويأتي توجيه الرازي للضمير في الآية الكريمة {= أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ =} مثلا على هذا القول فهو يرى أنّ في هذه الآية وجهين: الأوّل: أنه خطاب مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم خاصّة لأنه هو الداعي وهو المقصود بالاستجابة واللفظ، وإن كان للعموم لكنّا حملناه على الخصوص لهذه القرينة، وروى أنّه عليه السلام حين دخل المدينة ودعا اليهود إلى كتاب الله وكذّبوه فأنزل الله تعالى هذه الآية. والثاني: وهو قول الحسن أنّه خطاب مع الرسول والمؤمنين وينقل قول القاضي: = وهذا أليق بالظاهر لأنّه عليه السلام، وإن كان الأصل في الدعاء، فقد كان في الصحابة من يدعوهم إلى الإيمان، ويظهر لهم الدلائل، وينبّههم عليها، فصحّ أن يقول تعالى: {= أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ =} ويريد به الرسول ومن هذا حاله من أصحابه وإذا كان ذلك صحيحا فلا وجه لترك الظاهر = (2). وهذا مثال واضح على علاقة الإضمار بالمقام، وعلى وجه التخصيص عنصر (المخاطب) وما يليق بحقّه وما لا يليق (العرف الاجتماعي). كما يتبدّى الحرص على أن يتّفق الضمير مع الحقيقة الموضوعيّة الخارجيّة وهي هنا حال المؤمنين في علاقتهم مع المشركين واليهود،
__________
(1) الماوردي: أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري، ت (450هـ)، النكت والعيون (تفسير الماوردي) ط 1، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت / لبنان، 1992، تحقيق السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم، 1/ 110.
(2) تفسير الرازي، 3/ 133.(1/236)
والمفسّر يسمح لنفسه في سبيل الحرص على التواؤم بين السياقين اللّغوي والمقامي أن يؤوّل العلاقات التي تحكم الضمائر فالضمير في = تطمعون = دالّ على الجمع فحين يوجّه ليعود على النّبي تكون هناك مشكلة فيفترض أنّه عموم يراد به الخصوص من أجل أن يبقى النصّ متّسقا.
ويعالج الرازي مسألة الإضمار معالجة ذكيّة في آية تحويل القبلة = ولله المشرق والمغرب فحيثما تولّوا = فيذهب إلى أنّ قوله تعالى {= فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا =} ينصرف إلى الجهات المأمور بها، {(فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ)} ويعقّب على ذلك قائلا: = إلّا أنّ هذا الإضمار لا بدّ منه على كلّ حال لأنّه من المحال أن يقول تعالى: {= فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا =} بحسب ميل أنفسكم {(فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ)}
بل لا بدّ من الإضمار الذي ذكرناه، وإذا كان كذلك فقد زالت طريقة التخيير ونظيره، إذا أقبل أحدنا على ولده وقد أمره بأمور كثيرة مترتبة فقال له: كيف تصرّفت فقد اتبعت رضائي، فإنّه يحمل ذلك على ما أمره على الوجه الذي أمره من تضييق أو تخيير، ولا يحمل ذلك على التخيير المطلق فكذا هاهنا = (1). ففي هذا النصّ تضييق لإمكانيّة إحالة الضمير إلى أكثر من جهة لعدم سماح السياق بذلك بنوعيه: السياق اللّغوي والمقامي. ونلاحظ أيضا استشهاد الرازي بالوقائع والسياقات المشابهة في تعليل مجيء النصّ على هذه الصيغة دون سواها.
وهو ملحظ يتكرّر عند المفسّرين من حيث استنطاق خطابات البشر في مواقفهم اليوميّة من أجل تقريب فهم الخطاب القرآني باعتباره يخاطب البشر فيما هو مألوف لديهم من أساليب الخطاب.
وفيما لحظنا تضييقا في احتمالات الإحالة في المثال السابق فإنّ الرازي يوسّع هذه الاحتمالات في إحالة الضمير في قوله تعالى: {= فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ =} (2). فيرى أنّ قوله = أنه الحق = يعود إلى مذكور سابق، وقد تقدّم ذكر
__________
(1) تفسير الرازي، 4/ 20.
(2) سورة البقرة، الآية (26).(1/237)
الرسول، فجاز أن يكون المراد أنّ القوم يعلمون أنّ الرسول مع شرعه ونبوّته حقّ، فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها، ويحتمل أن يرجع إلى هذا التكليف الخاصّ بالقبلة وأنّهم يعلمون أنّه الحق، وهذا الاحتمال الأخير أقرب لأنّه أليق بالكلام = (1). إنّ تعدّد الاحتمالات لإحالة الضمير أمر مرتبط بما يسمح به السياق أو المقام، وترجيح أحد الاحتمالات إنّما يكون أيضا بالاستناد إلى ذلك السياق، وانظر إلى عبارته = لأنّه أليق بالكلام = وما تدلّ عليه من ضرورة الانسجام التامّ، وما تدلّ عليه من الاستئناس بالعرف اللّغوي والمقامي وهو يكررها كثيرا في تفسيره.
واهتمّ المفسّرون كذلك بأسماء الإشارة بأنواعها، وتنوّع تناولهم لها، وتراوح بين تعدّد المشار إليه وبين الإشارة إلى الخطاب، وعدم التطابق بين اسم الإشارة والمشار إليه وغيرها. فمن أمثلة تتبّعهم لمسألة تعدّد المشار إليه، تفسير الزمخشري للإشارة الواردة في الآية (74) من سورة البقرة {= ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ فَهِيَ كَالْحِجََارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً =}
يقول: = ذلك = إشارة إلى إحياء القتيل أو إلى جميع ما تقدّم من الآيات المعدودة = (2). نحن هنا أمام المظهر السابق نفسه في الإحالة الضميرية أي تعدد أو على الأقل ازدواج المشار إليه. ونلاحظ أنّ الاحتمالين مختلفان، إذ في الإشارة إلى (القتيل) نكون أمام إحالة عنصر إلى عنصر، وفي الإشارة إلى الآيات المعدودة وهي سبع آيات تتناول ذبح البقرة من الآية (67) إلى الآية (73) نحن أمام الإحالة إلى خطاب مكوّن من عدة آيات، ورغم أنّ المفسّرين لم يفرّقوا بين النوعين فإنّ هذا لا يمسّ المبدأ العام الثاوي خلف الإشارة، وهو جعل الخطاب متماسكا من خلال استحضار عنصر متقدّم أو خطاب بأكمله. ولعلّ فكرة الاستحضار لم تكن غائبة عن المفسّرين خاصّة منهم الزمخشري الذي نصّ على ذلك، وإن في سياق آخر بقوله: = وقوله {= أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ =}
استحضار لقوله لهم {= إِنِّي أَعْلَمُ مََا لََا تَعْلَمُونَ =} إلا أنه جاء على وجه أبسط من ذلك وأشرح = (3).
__________
(1) تفسير الرازي، 1/ 123.
(2) الكشّاف، 1/ 290.
(3) نفسه، 1/ 290.(1/238)
وعند الرازي توضيح لمسألة الإشارة ودورها في اتّساق الخطاب، ففي تفسيره للآية (176) من سورة البقرة {= ذََلِكَ بِأَنَّ اللََّهَ نَزَّلَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتََابِ لَفِي شِقََاقٍ بَعِيدٍ =}. قال: = اختلفوا في أنّ قوله (ذلك) إشارة إلى ماذا؟ فذكروا وجهين (الأوّل) أنّ ذلك إشارة إلى ما تقدّم من الوعيد، لأنّه تعالى لمّا حكم على الذين يكتمون البينات بالوعيد الشديد، بيّن أنّ ذلك الوعيد على ذلك الكتمان إنّما كان لأنّ الله نزّل الكتاب بالحقّ في صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم و (الثاني) أنّ (ذلك) إشارة إلى ما يفعلونه من جراءتهم على الله في مخالفتهم أمر الله وكتمانهم ما أنزل الله، فبيّن تعالى أنّ ذلك إنما هو من أجل أنّ الله نزّل الكتاب بالحق = (1). إنّ في الآيتين المتقدّمتين على هذه الآيات (175174) ما يعزّز هذين الاحتمالين لذا نلاحظ أنّ الرازي لا يرجّح احتمالا على آخر مكتفيا بإيرادهما منسوبين إلى الغائب (اختلفوا، ذكروا) وربّما كان ما صنعه من ترجيح أحدهما هو ورودهما معا. ولقد تمّت الإحالة فيهما معا إلى خطابين، وليس إلى عنصر وخطاب.
على أنّنا نجد رأيا آخر في الإشارة الواردة في هذه الآية فصاحب (التحرير والتنوير) يقول: = جيء باسم الإشارة لربط الكلام اللاحق بالسابق على طريقة العرب في أمثاله، إذا طال الفصل بين الشيء وما ارتبط به من حكم أو علّة، أو نحوهما،
والكلام السابق الأظهر أنّه قوله {= فَمََا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النََّارِ =}. والمعنى أنّهم استحقّوا العذاب على كتمانهم، بسبب أنّ الله أنزل الكتاب بالحقّ فكتمانهم شيئا من الكتاب كتمان للحق، وذلك فساد، وتغيير لمراد الله = (2). ويفهم من كلامه أنّ الإشارة تمت إلى أقرب شيء إليها وهو التعجّب الذي ختمت به الآية (175)، لكنّ الأهمّ في اعتقادنا هو إشارته الصريحة إلى وظيفة الإشارة من حيث تماسك الخطاب، حتّى إنّ القارئ يفهم من ملاحظته هذه أنّ
__________
(1) تفسير الرازي، 5/ 25.
(2) ابن عاشور، التحرير والتنوير، 2/ 126.(1/239)
هذا النوع الذي يفتتح به آية ما مفصولة عن آيات سابقة ترتبط بها، تنحصر مهمّته في ربط كلام بكلام لا غير، ومن ثمّ لا يهتمّ بتعدّد ما يشير إليه (ذلك).
ونجد كذلك عند ابن عاشور في (التحرير والتنوير) نوعا آخر من الإشارة هو المسمّى لدى (هاليداي ورقية حسن) بالإحالة المقاميّة، أي أنّ العنصر المحال إليه يكون حاضرا في الخطاب بالقوّة وليس بالفعل، قال تعالى: {= الم، ذََلِكَ الْكِتََابُ =}، وقد فسّر ابن عاشور هذه الإشارة بقوله: = وعلى الأظهر تكون الإشارة إلى القرآن المعروف لديهم يومئذ، واسم الإشارة مبتدأ والكتاب بدل وخبره ما بعده = (1). إنّ استخلاص ابن عاشور لما يشير إليه (ذلك) معتمد على قرينتين: نحويّة، وهي اعتبار الكتاب بدلا من اسم الإشارة، و (الكتاب اسم من أسماء القرآن). وتداوليّة تجسّدها إشارته إلى انّ المشار إليه = معروف لديهم يومئذ = إذ المشار إليه حاضر في أذهان المخاطبين أي معرفتهم للعالم رغم غيابه في الخطاب تصريحا.
ومن بين الأمور التي تعرّض لها الزمخشري فيما يخصّ الإشارة، مسالة عدم التطابق بين المشير والمشار إليه، قال: = فإن قلت: لم قيل = تلك أمانيّهم = وقولهم: = لن يدخل الجنّة = أمنية واحدة؟ قلت: أشير هنا إلى الأماني المذكورة، وهو أمنيتهم ألّا ينزل على المؤمنين خيرا من ربّهم، وأمنيتهم أن يردّوهم كفارا، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنّة غيرهم، أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم = (2). إنّ الذي جعل طرح السؤال مشروعا هو التباعد بين الآيات التي وردت فيها الأماني التي ذكرها الزمخشري، فالأمنية الأولى وردت في الآية (105)، ووردت الثانية في الآية (109)، بينما وردت الأمنية الأخيرة في الآية (111)، بينما ورد اسم الإشارة في آية مستقلة بذاتها {= وَقََالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلََّا مَنْ كََانَ هُوداً أَوْ نَصََارى ََ، تِلْكَ أَمََانِيُّهُمْ =} بحيث إذا حصر البحث عن المشار إليه في هذه
__________
(1) ابن عاشور، التحرير والتنوير، 1/ 219.
(2) الكشاف، 1/ 304.(1/240)
الآية وحدها حصل عدم التطابق بين الإشارة التي جاءت بصيغة الجمع المؤنّث، وبين المشار إليه المفرد، لذا لجأ الزمخشري إلى تعداد بقيّة الأمنيات السابقة، على أنّ الذي وجّه الزمخشري إلى هذا التخريج هو الاسم البدل (أمانيّهم) الذي حدّد اسم الإشارة وجعله جمعا.
ويقف المفسّرون عند استخدام اسم الإشارة المخصّص للبعيد موضع اسم الإشارة المخصّص للقريب، وهو صورة لما أسماه البلاغيّون الخروج على مقتضى الظاهر لضرورة المقام، ونجد ذلك في تفسير الزمخشري للآية الثانية من سورة البقرة {= ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ =} ويتساءل = فإن قلت: لم صحّت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد، قلت: وقعت الإشارة إلى (الم) بعد ما سبق التكلّم به وتقضّى، والمتقضّي في حكم المتباعد، وهذا في كلّ كلام، يحدّث الرجل بحديث ثمّ يقول: وذلك ما لا شكّ فيه. وقال الله تعالى: {= لََا فََارِضٌ وَلََا بِكْرٌ عَوََانٌ بَيْنَ ذََلِكَ =} وقال: {= ذََلِكُمََا مِمََّا عَلَّمَنِي رَبِّي =}. ولأنّه لمّا وصل من المرسل إلى المرسل إليه، وقع في حدّ البعد، كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئا: احتفظ بذلك وقيل: معناه ذلك الكتاب الذي وعدوا به، فإن قلت: لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنّث وهو السورة؟ قلت: لا أخلو من أن أجعل الكتاب خبره أو صفته، فإن جعلته خبره، كان ذلك في معناه ومسمّاه، فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير كما أجري عليه في التأنيث في قولهم: من كانت أمك؟ وإن جعلته صفته فإنّما أشير به إلى الكتاب صريحا، لأنّ اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له، تقول: هند ذلك الإنسان، أو ذلك الشخص فعل كذا = (1).
ويصرّح الزمخشري بدور الإشارة في انسجام الخطاب، = فإن قلت: أخبرني عن تأليف = ذلك الكتاب = مع (الم) قلت: إن جعلت (الم) اسما للسورة، ففي التأليف وجوه: أن يكون (الم) مبتدأ، وذلك مبتدأ ثانيا، والكتاب خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول، ومعناه أنّ ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، كأنّ ما عداه من الكتب في مقابلته
__________
(1) الكشّاف، 1/ 31.(1/241)
ناقص، وأنّه الذي يستأهل أن يسمّى كتابا. وأن يكون الكتاب صفة، ومعناه: هو ذلك الكتاب الموعود. وأن يكون (الم) خبرا لمبتدإ محذوف، أي هذه (الم) ويكون ذلك خبرا ثانيا أو بدلا، على أنّ (الكتاب) صفة، وأن يكون (هذه الم) جملة، وذلك الكتاب جملة أخرى، وإن جعلت (الم) بمنزلة الصوت، كان (ذلك) مبتدأ، خبره (الكتاب)، أي (ذلك الكتاب) المنزّل هو (الكتاب) الكامل، أو (الكتاب) صفة، والخبر ما بعده، أو قدّر مبتدأ محذوفا أي هو يعني المؤلّف من هذه الحروف {(ذََلِكَ الْكِتََابُ)}، وقرأ عبد الله: = الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه، وتأليف هذا ظاهر = (1). ففي هذا الطرح خيارات عديدة ويجمعها رابط واحد هو هدف تحقيق انسجام الخطاب، وتوافقه مع الحقيقة الخارجيّة. ويهتمّ الزمخشري دائما بتوضيح المشار إليه وتحديده، من مثل {= ثُمَّ عَفَوْنََا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ =} (2) (قال: = من بعد ذلك = أي من بعد ارتكابكم الأمر العظيم وهو اتخاذكم العجل = (3).
3 - التكرير
من الروابط التي تتبّعها المفسّرون وتعاملوا معها باعتبارها من وسائل ارتباط أجزاء الخطاب بعضها ببعض (التكرير)، وحاولوا أن يرصدوا دلالته في السياق، ودوره في اتّساق النصّ مع السياق. فحين يفسّر الرازي الآية الكريمة {= يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعََالَمِينَ =} (4). يعلّق قائلا: = اعلم أنّه تعالى إنّما أعاد هذا الكلام مرّة أخرى توكيدا للحجّة عليهم وتحذيرا من ترك اتباع محمّد صلّى الله عليه
__________
(1) الكشاف، 1/ 33.
(2) سورة البقرة، الآية (52).
(3) الكشاف، 1/ 139.
(4) سورة البقرة، الآية (47).(1/242)
وسلّم ثمّ قرنه بالوعيد، وهو قوله {= وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً =} (1). فتعتبر الآية تكريرا جزئيّا لآية سابقة هي الآية (40) فبالإضافة إلى مساهمة هذا التكرير في تماسك الخطاب فإنّه يؤدّي وظيفة أخرى هي توكيد الحجّة، وتحذير بني اسرائيل، وهي وظيفة غير موجودة في النصّ، ذلك أنّ كلّ ما يستفاد من هذه الآية هو كونها تذكيرا لهم، ولكنّ السياق الذي وردت فيه، ما تقدّمها من أوامر ونواه وما لحقها من تذكير بنعم أخرى يوضح هذا، أمّا وظيفة التحذير فهي مستفادة من الآية اللاحقة لها مباشرة.
لكنّنا نجد وظيفة التكرير في الآية نفسها مختلفة لدى ابن عاشور قال: = أعيد خطاب بني اسرائيل بطريقة النداء مماثلا لما وقع في خطابهم الأول لقصد التكرير للاهتمام بهذا الخطاب وما يترتّب عليه، فللتكرير هنا نكتة جمع الكلامين بعد تفريقهما ونكتة التعداد لما به إجمال معنى النعمة = (2). إنّ في هذا تنصيصا على الوظيفة المزدوجة التي يقوم بها التكرير، وهي: الربط أوّلا (الجمع بين الكلامين) والثانية: الوظيفة التداوليّة المعبّر عنها هنا بالاهتمام بالخطاب، أي لفت أسماع المتلقّين إلى أنّ لهذا الكلام أهميّة لا ينبغي إغفالها، يضاف إلى هذا أنّ افتتاح الخطاب على هذا النحو الإجمالي يمنح إمكانيّة التفصيل نعمة نعمة.
وفي السياق نفسه نذكر تفسير ابن عاشور للآيتين (38) و (39) قال: = كرّرت جملة {= قُلْنَا اهْبِطُوا =} فاحتمل تكريرها أن يكون لأجل ربط النظم في الآية القرآنية، من غير أن تكون دالّة على تكرير معناها في الكلام الذي خوطب به آدم، فيكون هذا التكرير لمجرّد اتصال ما تعلّق بمدلول = قلنا اهبطوا =، وذلك قوله: {= بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ =} وقوله: {= فَإِمََّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً}: إذ قد فصل بين هذين المتعلّقين ما اعترض بينهما من قوله: {= فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ =}، فإنّه لو عقّب ذلك بقوله: {= فَإِمََّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً =} لم يرتبط كمال الارتباط، ولتوهّم السامع أنّه خطاب للمؤمنين على عادة القرآن في التفنّن، فلدفع ذلك أعيد قوله
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 55.
(2) التحرير والتنوير، 1/ 482.(1/243)
= قلنا اهبطوا =، فهو قول واحد كرّر مرتين لربط الكلام، ولذلك لم يعطف = قلنا = لأنّ بينهما شبه كمال الاتصال = (1). في هذا الاقتباس تتجلّى وظيفة الربط أساسا إلّا أنّه قد حكمت هذا التكرير مقتضيات تداوليّة عبّر عنها ابن عاشور = بتوهّم السامع أنّه خطاب للمؤمنين = إضافة إلى مقتضى خطابي صرف متعلّق بتماسك الخطاب، وهو اعتراض كلام بين قولين، وقد جاء التكرير لوصل ما انقطع بينهما.
ويتتبّع الزمخشري في تفسيره = التكرير = ويربط ذلك بالسياق، فحين يفسّر الآية {= وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ =}. يقول: = فانظر كيف كرّر الله عزّ وجل التنبيه على اختصاص المتّقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتّى، وهي ذكر اسم الإشارة وتكريره، وتعريف المفلحين، وتوسيط الفصل بينه وبين أولئك يبصّرك مراتبهم. ويرغّبك في طلب ما طلبوا، وينشطك لتقديم ما قدّموا، ويثبّطك عن الطمع الفارغ، والرجاء الكاذب، والتمنّي على الله ما لا تقتضيه حكمته = (2). إذن فالزمخشري يرى أنّ النصّ يحشد أساليب عديدة من اجل إيصال الرسالة اللغوية، والتأكيد على هدفها، وهي الترغيب بنيل منزلة المتّقين هنا، والتكرير هو أحد هذه الأساليب.
ومن أمثلة هذا عند الرازي ربطه بين التكرار والعطف في الآية {= أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ =}. قال: في تكرير (أولئك) تنبيه على أنّهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى، ثبت لهم الاختصاص بالفلاح أيضا، فقد تميّزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين = (3). ثم يتساءل: = فإن قيل: فلم جاء مع العاطف، يشرح ذلك كما سبق أن ذكرنا في مبحث العطف =. وهنا إشارة أخرى إلى تعدّد وظائف التكرير في سياق التواصل مع المخاطبين.
__________
(1) التحرير والتنوير، 1/ 44.
(2) الكشاف، 1/ 46.
(3) نفسه، 1/ 52.(1/244)
ويشترك الرازي والزمخشري في تفسير الآية {= خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ =} (1). يقول الرازي: = فإن قلت: أيّ فائدة في تكرير الجار في قوله:
= وعلى سمعهم = قلت: لو لم يكرّر لكان انتظاما للقلوب والأسماع في تعدية واحدة وحين استجدّ للأسماع تعدية على حدة كان أدلّ على شدة الختم في الموضعين = (2). فهنا تناول للتكرير في حرف الجر ووظيفته في الجملة فهو يؤدي وظيفة متّصلة بالسامع وإحساسه الداخلي، فالتكرير يؤدّي إلى الإشعار بأنّ الختم حدث على دفعات، لكلّ من القلب والسمع والأبصار دفعة خاصة بها من الختم، ولذا فشدّة هذا الختم أكثر وأوقع وأعمق تأثيرا ممّا لو كان النصّ قد جاء على الصيغة = ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم غشاوة = من غير تكرير.
بل إنّ التكرير يمثّل أحيانا عند الرازي = الشيفرة = التي من خلالها يتمّ تفسير الآية كاملا، ويصرّ على ذكر الفائدة من التكرير بوضوح ففي تفسيره للآية: {= وَلَقَدْ جََاءَكُمْ مُوسى ََ بِالْبَيِّنََاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظََالِمُونَ =} (3)
يقول: = اعلم أنّ تكرير هذه الآية يغني عن تفسيرها، والسبب في تكريرها أنّه تعالى لمّا حكى طريقة اليهود في زمان محمّد صلّى الله عليه وسلّم ووصفهم بالعناد والتكذيب وأعاد ذكر موسى عليه السلام، وما جاء به من البيّنات، وأنّهم مع وضوح ذلك أجازوا أن يتّخذوا العجل إلها، وهو مع ذلك صابر ثابت على الدعاء إلى ربّه، والتمسّك بدينه وشرعه، فكذلك القول في حالي معكم، وإن بالغتم في التكذيب والإنكار = (4). وحين يعلّق على الآية التي تليها {= وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ وَرَفَعْنََا فَوْقَكُمُ}
__________
(1) سورة البقرة، الآية (7).
(2) تفسير الرازي، 3/ 33.
(3) سورة البقرة، الآية (92).
(4) تفسير الرازي، 3/ 187.(1/245)
{الطُّورَ خُذُوا مََا آتَيْنََاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قََالُوا سَمِعْنََا وَعَصَيْنََا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمََا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمََانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ =} (1). يشير إلى تعدّد وظائف التكرار يقول: = اعلم أنّ في الإعادة وجوها:
أحدها أنّ التكرار في هذا وأمثاله للتأكيد وإيجاب الحجّة على الخصم على عادة العرب، وثانيها أنّه إنّما ذكر ذلك مع زيادة وهي قولهم: سمعنا وعصينا، وذلك يدلّ على نهاية لجاجهم = (2). فالتكرير وظائفه متعدّدة، وفي الغالب ينصبّ تأثيره على السامع، أو تأكيد الحادثة كما في المثال أعلاه، أو لتضخيم حجم الشيء أو الحادثة او التأثير، أو السلوك. وفي كل الأحوال يقع هذا جميعا ضمن السياق المحيط بالنصّ.
ويحلّل الرازي ورود التكرير في آيتين مختلفتين هما الآية (36) من سورة البقرة {= فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطََانُ عَنْهََا، فَأَخْرَجَهُمََا مِمََّا كََانََا فِيهِ، وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ =}
والآية (38) من سورة البقرة. وهي: {= قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهََا جَمِيعاً فَإِمََّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدََايَ =} قال: = ذكروا في فائدة تكرير الأمر بالهبوطين وجوها:
الأوّل: الهبوط الأول غير الثاني، فالأول من الجنّة إلى سماء الدنيا، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض الثاني: أنّ التكرير لأجل التأكيد. الثالث: أقوى من هذين الوجهين، وهو أنّ آدم وحوّاء لمّا أتيا بالزلّة أمرا بالهبوط، فتابا بعد الأمر بالهبوط، ووقع في قلبهما أنّ الأمر بالهبوط لما كان بسبب الزلّة، فبعد التوبة وجب أن لا يبقى الأمر بالهبوط، فأعاد الله تعالى الأمر بالهبوط مرّة ثانية، ليعلما أنّ الأمر بالهبوط ما كان جزاء ارتكاب الزلّة حتى يزول بزوالها، بل الأمر بالهبوط باق بعد التوبة لأنّ الأمر به كان تحقيقا للوعد المتقدّم في قوله: {= إِنِّي جََاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً =} (3). ويبرز في الاحتمالات الثلاثة أثر
__________
(1) سورة البقرة، الآية (93).
(2) تفسير الرازي، 3/ 209.
(3) نفسه، / (2726).(1/246)
الوقائع الخارجيّة على صياغة النصّ الداخليّة، فتكرّر الهبوط أدّى إلى تكرير الصيغة، ثم إحداث تغيير في المفاهيم استدعى حدوث التكرير = ليعلما = وقد كان إحداث هذا العلم عن طريق أسلوب لغوي وهو التكرير ويربط (ابن عطيّة) في تفسيره تكرير الهبوط بموضوع النصّ وغرضه، وسياقه الخارجي يقول: = وكرّر الأمر بالهبوط لمّا علّق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر، فعلّق بالأوّل العداوة، وعلّق بالثاني إتيان الهدى، وقيل كرّر الأمر بالهبوط على جهة تغليظ الأمر وتأكيده، وحكى النقّاش أنّ الهبوط الثاني إنّما هو من الجنّة إلى السماء. والأولى في ترتيب الآية إنّما هو إلى الأرض، وهو الآخر في الوقوع فليس في الأمر تكرار على هذا = (1). فالآية الأولى تعلّقت بموضوع العداوة، والثانية تعلّقت بموضوع إتيان الهدى، وأمّا الغرض فهو تغليظ الأمر وتأكيده، ومن جهة ثالثة، فإنّ الوقائع الخارجيّة (سياق الحال) قد ينفي وقوع التكرير إذا كان الهبوط الأوّل غير الهبوط الثاني كما أسلفنا في تفسير الرازي.
ومن إشارات الرازي الأخرى لفائدة التكرير ما جاء في تفسيره للآية {= فَأَنْزَلْنََا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمََاءِ =} (2). قال: = إنّ في تكرير = الذين ظلموا = زيادة في تقبيح أمرهم وإيذانا بأنّ إنزال الرجز عليهم لظلمهم = (3). ففوائد التكرير تتعدّد بحسب السياق الخارجي وبحسب السياق اللغوي. ويربط القاسمي أيضا موضوع التكرير بموضوع النصّ وسياقه اللّغوي والمقامي وغرضه، وذلك في تفسيره للآية (14) {= وَإِذََا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قََالُوا آمَنََّا =} قال: = واعلم أن مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أوّل قصّة المنافقين فليس بتكرير لأنّ تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم، وهذه لبيان تباين أحوالهم،
__________
(1) ابن عطيّة الأندلسي: أبو محمّد بن عبد الحق بن عطيّة الأندلسي، المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق الرحّالي الفاروق وزملائه ط 1، الدوحة، 197، 1/ 263.
(2) سورة البقرة، الآية (59).
(3) تفسير الرازي، 3/ 91.(1/247)
وتناقض أقوالهم في أثناء المعاملة والمخاطبة حسب تباين المخاطبين =. (1) وتكرّرت الآيتان رقم (122) و (123) من سورة البقرة {= وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً =} قيل = وإنّما كرّرتا لأنّ كل واحدة منهما صادفت معصية تقتضي تنبيها ووعظا ولأنّ كل واحدة منهما وقعت في غير وقت الأخرى = (2) فالتكرير هنا متّصل باختلاف الحدث (الوقائع) والزمان وكلاهما من عناصر السياق المقامي.
ومنه كذلك قوله {= تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ =} (3). كرّرت هذه الآية في هذه السورة = لأنّ المراد بالأوّل الأنبياء وبالثاني أسلاف اليهود والنصارى، وقال القفّال: الأول لإثبات ملة إبراهيم لهم جميعا والثاني لنفي اليهوديّة والنصرانيّة عنهم = (4). وهذا التكرير مرتبط باختلاف المقام (طبيعة الشخوص في المقامين)، والثاني متصل بغرض النص (الهدف).
ومنه كذلك الآية (149) = ومن حيث خرجت فولّ = هذه الآية مكرّرة ثلاث مرات، قيل: = إنّ الأولى لنسخ القبلة والثانية للسبب، وهو قوله {= وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ =}
والثالثة للعلّة وهو قوله {= لِئَلََّا يَكُونَ لِلنََّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ =}، وقيل الأولى في مسجد المدينة، والثانية خارج المسجد، والثالثة خارج البلد. وقيل في الآيات خروجان: خروج إلى مكان ترى فيه القبلة، وخروج إلى مكان لا ترى فيه، أي الحالتان فيه سواء. وقيل إنّما كرر لأنّ المراد بذلك الحال والزمان والمكان = (5). والربط هنا بين التكرير والمقام ربط واضح وبالذات (الحال) و (الغرض). ومنه كذلك قوله {= وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ =} ثم قال:
{= وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مَا اقْتَتَلُوا =} في الآيتين (253) و (254). وقيل = كرّر تأكيدا وقيل ليس بتكرار لأن الأول للجماعة والثاني للمؤمنين، وقيل: كرره تكذيبا لمن زعم أن ذلك لم يكن
__________
(1) القاسمي: (محمد جمال الدين القاسمي (ت 1322هـ) محاسن التاويل، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط 1، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، لبنان، 1994.
(2) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 147.
(3) سورة البقرة، الآيتان (134و 141).
(4) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 148.
(5) نفسه، 1/ 149.(1/248)
بمشيئة الله = (1). فإذا قلنا نحن بوجود التكرار فنذهب مع ما يعرف باختلاف الجهة، فهما نصّان مختلفان باعتبار الجهة، والجهة هنا السياق، والسياق هنا متعلّق بالشخوص المقصودين بالنص فالخطاب لجهتين مختلفين، وإن قلنا بالتكرار كان ذلك مرتبطا بالغرض، وفي الحالتين ارتبط هذا الأثر النصيّ بالسياق.
نخلص من دراسة هذه الأنواع الثلاثة من الروابط: العطف، الإحالة (إشارية وضميرية)، والتكرير إلى أن مفسري القرآن قد تنبهوا إلى دورها في ترابط النص وتماسك أجزائه (الاتساق الداخلي للنص)، كما رصدوا حكمة اختيار هذا الرابط دون غيره في هذا الموضع أو ذاك من النص من خلال العلاقة بين النص والسياق اللغوي والمقامي. كما نظروا دائما في تناسق الرسالة اللغوية بعناصرها المختلفة: المخاطب، والمخاطب، والمقصد أو الغرض، والأسلوب، وموضوع الرسالة، من خلال التدقيق في الروابط التي تصل بين أجزاء النص.
ب الخطاب والسياق:
وقفنا في الفصل الأول من هذه الدراسة على تحديد مصطلح الخطاب وعناصره وفي هذا المبحث سنرى كيف أبرز المفسّرون هذا المصطلح وكيف بيّنوا عناصره، وكيف ربطوا بين هذه العناصر وسياقها. وابتداء نستطيع أن نقرّر أنّ أولئك المفسّرين قد تمثّلوا مفهوم الخطاب تماما، ورأوا في الرسالة اللّغويّة التي يحملها النصّ القرآني خطابا متكامل الأجزاء، ونظروا في الوظيفة التواصلية للنصّ باعتباره خطابا من المرسل سبحانه وتعالى إلى العباد (المرسل إليهم) عبر قناة للاتصال وهي اللّغة، وهذه الرسالة تحمل مضمونا هو موضوع الخطاب، وتهدف إلى إحداث تغيير في حياة المخاطبين، كما أنّ له أهدافا أخرى، ونظروا كذلك في ترتيب الخطاب وتنظيمه، وعلاقات أجزائه وتناسبها، وما يعتريه من ظواهر سياقيّة.
__________
(1) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 155.(1/249)
وإذا نظرنا إلى بعض عبارات الرازي في هذا المقام يقول: = هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم، فقيل لهم: لا تكفروا بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم فإنّه سيكون بعدكم الكفّار = (1). وفي تعليقه على الآية {= وَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ وَآتُوا الزَّكََاةَ =} قال:
= القائلون بأنّه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب قالوا: إنّما جاء الخطاب في قوله = وأقيموا الصلاة بعد أن كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم = (2). وقال في موضع آخر = والأقرب أنّ المخاطبين هم بنو إسرائيل لأنّ صرف الخطاب إلى غيرهم يوجب تفكيك النظم = (3). وعند الزمخشري في الكشّاف في تفسير الآية (21) = لمّا عدّد الله تعالى فرق المكلّفين من المؤمنين والكفّار والمنافقين، وذكر صفاتهم وأحوالهم، ومصارف أمورهم، وما اختصّت به كلّ فرقة ممّا يسعدها أقبل عليهم بالخطاب = (4). وفي شرح الآيات (71 73) قال: = على أنّ الخطاب كان لإبهامه متناولا لهذه البقرة الموصوفة كما تناول غيرها، ولو وقع الذبح عليها بحكم الخطاب قبل التخصيص، وكذلك إذا وقع بعد التخصيص خوطبت الجماعة لوجود القتل فيها = (5). وعند الطبري نجد تمثّلا لمشهد الخطاب المتكامل بكلّ عناصره وذلك حين يفسّر مشهد تعليم الأسماء لآدم عليه السلام، وتمثّل الحوار الدائر بين الله والملائكة وآدم، وما يعتمل في الصدور عند عقد المقارنة مع خطاب مماثل، وإيضاح هدف الخطاب. إنّ مشاهد الخطاب كما يرسمها الطبري تكشف عن وعي عميق بمفهوم الخطاب، وطبيعة الرسالة اللّغوية التي يحملها هذا الخطاب مع تدفّق الاتصال بين المخاطب والمخاطبين. ونشير هنا إلى هذا الوعي إشارة فقط لعدم اقتدارنا على التمثيل لأنّه نصّ طويل ويصعب الاجتزاء منه، ونحيل القارئ إليه في مصدره ليقرأه كاملا غير منقوص (9).
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 42.
(2) نفسه، 3/ 44.
(3) نفسه، 3/ 47.
(4) الكشّاف، 1/ 88.
(5) نفسه، 1/ 153.
(9) انظر تفسير الطبري، 1/ (169166).(1/250)
والطبري في تفسيره للآية (93) من سورة البقرة {= وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ وَرَفَعْنََا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مََا آتَيْنََاكُمْ بِقُوَّةٍ، وَاسْمَعُوا. قََالُوا سَمِعْنََا وَعَصَيْنََا =}. يشير إلى مصطلح = اتّصال الخطاب = يقول: = وأمّا قوله = قالوا سمعنا = فإنّ الكلام خرج مخرج الخبر عن الغائب، بعد أن كان الابتداء بالخطاب، فإنّ ذلك كما وصفنا من أنّ ابتداء الكلام إذا كان حكاية فالعرب تخاطب فيه، ثم تعود فيه إلى الخبر عن الغائب، وتخبر عن الغائب ثم تخاطب، فكذلك ذلك في هذه الآية = (1). وهو ما أشار إليه (جون لاينز) في كتابه (اللّغة والمعنى والسياق) حين تحدّث عن اتصال الخطاب وانقطاعه، وأنّه يمكن أن يكون متّصلا حتى لو دخلته جمل قد تبدو خارجة عن النصّ، وأن أمر التئام هذا النسق من الجمل في الخطاب إنّما يكمن في السياق (2).
ويجمع بين المفسّرين جميعا استحضار المخاطب دائما في شرح هذا الخطاب بكل أبعاده، واختلاف دلالة النصّ باختلاف المخاطب، ولعلّ الطبري قد بيّن هذا تماما وبشكل واضح، حين وضّح طبيعة القرآن وكونه رسالة لغوية من الخالق عز وجل إلى المخاطبين، وتناسب الخطاب مع أولئك المخاطبين على اختلاف أنواعهم، يقول في مقدمة تفسيره:
= كان معلوما أنّ أبين البيان بيانه، وأفضل الكلام كلامه وفإن كان كذلك وكان غير مبين منّا عن نفسه من خاطب غيره بما لا يفهمه عنه المخاطب، كان معلوما أنّه غير جائز أن يخاطب جلّ ذكره أحدا من خلقه إلا بما يفهمه المخاطب، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولا برسالة إلّا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه = (3). إنّ قوله = بما يفهمه المخاطب = تلخّص كلّ المعادلة، ففهم المخاطب مبنيّ على ثقافته وثقافة عصره، وهذا يبرز سياق الثقافة الذي نزل فيه النصّ، كما أنّ فهم المخاطب يستلزم استخدام المخاطب لأدوات توصيل مناسبة عبر قناة اللّغة، وهنا تبرز مشروعيّة النظر في لغة النصّ لتبيّن حال المخاطبين أو العكس، أي النظر في أحوال المخاطبين للحصول على صورة أوضح للنصّ. وينتقل الطبري بعد
__________
(1) تفسير الطبري، 1/ 299.
(2) انظر، جون لاينز، اللغة والمعنى والسياق، ص 91.
(3) تفسير الطبري، 1/ 5.(1/251)
هذه العبارات إلى توضيح دور الخطاب وأثره وهدفه فيقول: = لأنّ المخاطب والمرسل إليه إن لم يفهم ما خوطب به، وأرسل به إليه فحاله قبل الخطاب، وقبل مجيء الرسالة إليه وبعده سواء إذ لم يفده الخطاب والرسالة شيئا، كان به قبل ذلك جاهلا، والله جلّ ذكره يتعالى أن يخاطب خطابا أو يرسل رسالة لا توجب فائدة لمن خوطب أو أرسلت إليه، لأنّ ذلك فيه من فعل أهل النقص والعبث والله تعالى عن ذلك متعال = (1).
وليس هناك أوضح من هذا الكلام يدلّ على تمثل المفسّر للوظيفة التواصليّة للخطاب، والعناصر التي تتحقّق من خلالها هذه الوظيفة. إنّ النص السابق يفترض نقلة يحدثها الخطاب في حياة المخاطبين، وعبّر عن هذه النقلة بقوله = فائدة = وهذا يشير إلى علاقة النص بالواقع قبل تشكّله (النصّ) وبعد تشكّله قبل تشكّله حين يأخذ في الحسبان أحوال هذا المخاطب وفهمه وثقافته، فيصاغ النصّ وفقا لهذا كله، وبعد تشكله حين يحدث أثرا في الحياة وفي الثقافة وفي التفكير وفي السلوك، وهذا النصّ يبرز أركان الخطاب الأساسيّة:
الموضوع والمخاطب والمخاطب، والرسالة اللغويّة، وتناسب هذه الأطراف كلّها ضمانا لنجاح عمليّة الاتّصال اللّغوي.
ويشير الطبري إلى قضيّة هامة كذلك وهو تمثل الخطاب اللغوي لسياق الثقافة الذي يحيط بالخطاب، وضرورة أن يختزل الخطاب في داخله جميع = شيفرات = هذه الثقافة إذا جاز التعبير فالكلمات داخل الخطاب يمكن تفسيرها في ضوء هذا السياق الثقافي، وقد يختلف تفسيرها تماما إذا قرأت في سياق ثقافي مغاير. يقول في موضع آخر من المقدّمة: = فالواجب أن تكون معاني كتاب الله المنزّل على نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم لمعاني كلام العرب موافقة، وظاهره لظاهر كلامها ملائما، وإن باينه كتاب الله بالفضيلة التي فضل بها سائر الكلام والبيان بما قد تقدّم وصفنا (2).
__________
(1) تفسير الطبري، 1/ 5.
(2) نفسه، 1/ 6.(1/252)
(ب 1) موضوع الخطاب:
ونقصد به هنا تلك البنية الدلاليّة التي تصبّ فيها مجموعة من الآيات بتضافر مستمر عبر متواليات قد تطول أو تقصر، وحسب ما يتطلّبه الخطاب من إيجاز أو إطناب أو شرح أو، ويعبّر المفسّرون عن موضوع الخطاب من خلال تحليلاتهم وتفسيراتهم التي تكشف عن وجود هذا المفهوم في أذهانهم وهم يمارسون التفسير، وللتدليل على أنّ المفسّرين كانوا على وعي بانتظام الخطاب في موضوعات نقدّم هنا بعض المقتطفات.
يقول الرازي: = اعلم أنّه سبحانه وتعالى لما تكلّم في دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد إلى هذا الموضع (أي الآية 27)، فمن هذا الموضع الآية (28) إلى قوله (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم = أخذ في شرح النعم التي عمّت جميع المكلّفين وهي أربعة = (1). وهذا يعني أنّ الرازي كان يتصوّر النصّ القرآني موضوعات خطابيّة مرتّبة بطريقة مقصودة فمن هذا النصّ يمكن استخراج موضوعين خطابيّين تتمحور حولهما الآيات. وهما: دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد (الآيات من 271)، والثاني من (28 39) وهو النعم العامّة لسائر المكلّفين. بل إنّ الرازي يلحّ من خلال تذكيره المستمر على أنّ الآيات منظّمة في مواضيع خطابيّة، وذلك حين ينتهي من تفسير ما تعلّق بهذا الموضوع أو ذاك مشيرا إلى الموضوع اللاحق يقول مثلا: = اعلم أنّه سبحانه وتعالى لمّا أقام دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد أولا ثم عقّبها بذكر الإنعامات العامّة لكلّ البشر، عقّبها بذكر الإنعامات الخاصّة على أسلاف اليهود، وإذ قد حقّقنا هذه المقدّمة فلنتكلّم في التفسير بعون الله = (2). بل إنّه يستخدم عبارة واضحة الدلالة على مصطلح موضوع الخطاب، فيضع عنوانا جانبيّا خلال شرحه لهذه الآيات هو = القول في إقامة الدلالة على التوحيد والنبوّة والمعاد = ويذكر الموضوع الرئيسي، وموضوعاته الفرعيّة، فمثلا في
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 30.
(2) نفسه، 3/ 30.(1/253)
الموضوع الأول وهو دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد، ذكر موضوعا منبثقا عنها، وهو مذاهب المختلفين في مسمّى الإيمان، ثم في موضوع الإنعام ذكر أنواعه على سبيل الإجمال، ثم فرّع ذلك، وشرع في تعديد تلك النعم على سبيل التفصيل، وربط ذلك بالموضوع الرئيس للقرآن الكريم، وهو تحصيل الاعتقاد لدى المخاطب، والدعوة إلى الإيمان يقول: = ومن تأمّل وأنصف علم أنّ هذا هو النهاية في حسن الترتيب لمن يريد الدعوة وتحصيل الاعتقاد في قلب المستمع = (1).
وحين يفسّر الآية {= وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ =} يسارع إلى ربط ذلك بما قبله يقول: = اعلم أنّه سبحانه وتعالى لما تكلّم في التوحيد والنبوّة تكلّم بعدهما في المعاد، وبيّن عقاب الكافر وثواب المطيع = (2). وهذا شأنه في كلّ موضوع يظن أنّه منفصل عن الموضوع الرئيس للسورة. يربطه بما قبله ربطا واضحا ممّا لا يدع مجالا للشكّ أنّ الرازي واع تماما إلى أنّ النصّ القرآني من حيث التنظيم يسير وفق موضوعات خطابية، أي أنّ غياب التنصيص على المفهوم لا يعني عدم توظيفه، خاصّة إذا أخذنا بعين الاعتبار مدلول (المقدّمات) لدى القدماء.
وإذا كان هذا حال الرازي فإن ابن عاشور لا يكاد يخرج عن هذه القاعدة، فقد قدّم هذا العالم سورة البقرة قائلا: = هذه السورة مترامية أطرافها، وأساليبها ذات أفنان
ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين: قسم يثبت سموّ هذا الدين على ما سبقه وعلوّ هديه وأصول تطهيره النفوس، وقسم يبيّن شرائع هذا الدين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم = (3). فابن عاشور قبل الشروع في التفسير يقدّم السورة على شكل موضوعين عامين جدا تتمحور حولهما، لكنّه لا يقف عند هذا الحدّ، بل يشير كلّما دعت الحاجة إلى ذلك، إلى الموضوعات الصغرى التي تندرج من موضوع عام، مثال ذلك قوله قبل الشروع في تفسير
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 29.
(2) نفسه، 3/ 123.
(3) التحرير والتنوير، 1/ 203(1/254)
الآية (40) = انتقال من موعظة المشركين إلى موعظة الكافرين من أهل الكتاب، وبذلك تتمّ موعظة الفرق المتقدّم ذكرها = (1). وهذا ما نجده أيضا عند الزمخشري في الكشاف من خلال ربط الموضوعات جميعا بموضوع الإيمان واختلاف الناس حوله في فرق ثلاث. وعند الطبري كذلك إشارات واضحة إلى تكامل الخطاب في المقدّمة، وأيضا في الربط بين الآيات والموضوعات الفرعية للسورة الكريمة، ابتداء من الحديث عن الكتاب = ذلك الكتاب = وأقسام الناس بالنسبة إليه حتى منتهى السورة.
ومن الأمثلة الواضحة على هذا الانتباه للتنظيم والترتيب في موضوع النصّ في تعليق الرازي على الآية {= وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسََاجِدَ اللََّهِ =}، قال: = وعندي فيه وجه خامس وهو أقرب إلى رعاية النظم = (2). ويرجّح أن هذا التأويل أولى ممّا قبله، وذلك لأنّ الله تعالى لم يذكر في الآيات السابقة على هذه الآية إلّا قبائح أفعال اليهود والنصارى، وذكر أيضا بعدها قبائح أفعالهم فكيف يليق بهذه الآية الواحدة أن يكون المراد منها قبائح أفعال المشركين في صدّهم الرسول عن المسجد الحرام، وأما حمل الآية على سعي النصارى في تخريب بيت المقدس فضعيف أيضا على ما شرحه الرازي، ثم يذكر وجوه اتّصال هذه الآية بما قبلها تحت عنوان (في كيفية اتّصال هذه الآية بما قبلها وجوه) (3). ثم يذكر وجوه الاتّصال الموضوعي بين الآيات. وفي تفسيره للآية {= بَدِيعُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ =}
يعتبر الرازي أنّ هذه الآية هي تمام لقوله = بل له ما في السموات والأرض =. قال = فبين بذلك كونه مالكا لما في السموات والأرض، ثمّ بيّن بعده أنّه المالك أيضا للسماوات والأرض، ثمّ إنّه تعالى بيّن أنّه كيف يبدع الشيء فقال: = وإذا قضى أمرا فإنّما يقول له كن فيكون = (4).
وبشكل عام أشار المفسّرون إلى الموضوعات الفرعية التالية في سورة البقرة:
__________
(1) التحرير والتنوير، 1/ 206.
(2) تفسير الرازي، 4/ 9.
(3) نفسه 4/ 11.
(4) نفسه، 4/ 12(1/255)
1 - الكلام في التوحيد والنبوّة والمعاد.
2 - النعم العامة لسائر البشر.
3 - النعم الخاصة ببني إسرائيل وأسلافهم.
4 - قبائح أفعال اليهود والنصارى والمشركين سابقا وأفعالهم مع الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم.
5 - أحوال إبراهيم عليه السلام.
6 - الأحكام.
(ب 2) تنظيم الخطاب وترتيبه:
ونقصد بتنظيم الخطاب كيفية مجيء الموضوعات وتتابعها، وتلاصقها ضمن تنظيم معيّن، وقد تبيّن لنا من خلال مجيء الموضوعات وترابطها في المبحث السابق أنّ المفسّرين قد خلصوا إلى أنّ الخطاب القرآني مبني بطريقة محبوكة جدا. وأنّ الموضوع الرئيسي للسورة يتفرّع إلى موضوعات، وأنّ هذه الموضوعات تتخصّص كلّما تقدّمنا في قراءة النصّ، فالنصّ ابتدأ مثلا بسرد النعم العامة لسائر البشر، ثم استرسل مستعرضا نعمه تعالى الخاصّة ببني إسرائيل، وفي هذا خصّص القول عن الأسلاف ثم عن الخلف
ويتجلّى هذا في وضع العناوين الفرعيّة لكلّ موضوع عند الرازي مثلا، ويتتبّع التفاصيل الخاصة للموضوع آية آية، فمن عناوينه التي يضعها: = القول في النعم الخاصّة ببني إسرائيل =، وحين يحدّد العنوان العام يشرع في التفسير بقوله: = اعلم أنّ هذه هي النعمة الأولى، أو الثانية، أو الثالثة ثم موضوع = أحكام النساء = الذي يخصّصه بعناوين مثل: = أحكام الطلاق = و = أحكام الحيض = و = أحكام الرضاعة =
وفي هذا الإطار كذلك نلحظ اهتمام المفسّرين بتغيّر موضوع الخطاب مشيرين كلّما كان ذلك واردا إلى التغير أو الانتقال دون انفصال المنتقل إليه انفصالا نهائيا عن الموضوع العام، ومن أمثلة ذلك عند الرازي تفسيره للآية (66) من سورة البقرة، قال:
= اعلم أنّه تعالى لمّا عدّد وجوه إنعامه عليهم أوّلا، ختم ذلك بشرح بعض ما وجّه إليهم من التشديدات، وهذا النوع الأوّل (1) (الوارد في الآية 66). فإذا نظرنا إلى الآيات التي تقدّمت الآية (66) وجدنا انها تتمحور حول إنعاماته تعالى على بني إسرائيل، بينما الآية (66) والتي تليها مرتكزة على تشديدات منه تعالى عليهم أوجبها عصيانهم. وقبل هذا الموضع نجده يذكر تحت عنوان: = سرّ ترتيب الآيات الأربع الأولى يقول: = بيانه أنّه نبّه أوّلا على أنّه الكلام المتحدّى به، ثم أشير إليه بأنّه الكتاب المنعوت بغاية الكمال، فكان تقريرا لجهة التحدّي، ثم نفى عنه أن يتشبّث به طرف من الريب، فكان شهادة بكماله، ثم أخبر عنه بأنّه هدى للمتقين، فقرّر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، ثم لم يخل كلّ واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق من نكتة ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه. وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف. ووضع المصدر الذي هو هدى موضع الوصف الذي هو هاد، وإيراده منكّرا = (2). إن هذا النص يكشف عن عناية المفسّرين بترابط الخطاب موضوعيّا، والنظر في آلية هذا الترابط، ومنها الترتيب، وانظر إلى عبارة الرازي = الترتيب الأنيق = وتنظيم الخطاب تنظيما منطقيا مقبولا مستحبا = بألطف وجه =.(1/256)
وفي هذا الإطار كذلك نلحظ اهتمام المفسّرين بتغيّر موضوع الخطاب مشيرين كلّما كان ذلك واردا إلى التغير أو الانتقال دون انفصال المنتقل إليه انفصالا نهائيا عن الموضوع العام، ومن أمثلة ذلك عند الرازي تفسيره للآية (66) من سورة البقرة، قال:
= اعلم أنّه تعالى لمّا عدّد وجوه إنعامه عليهم أوّلا، ختم ذلك بشرح بعض ما وجّه إليهم من التشديدات، وهذا النوع الأوّل (1) (الوارد في الآية 66). فإذا نظرنا إلى الآيات التي تقدّمت الآية (66) وجدنا انها تتمحور حول إنعاماته تعالى على بني إسرائيل، بينما الآية (66) والتي تليها مرتكزة على تشديدات منه تعالى عليهم أوجبها عصيانهم. وقبل هذا الموضع نجده يذكر تحت عنوان: = سرّ ترتيب الآيات الأربع الأولى يقول: = بيانه أنّه نبّه أوّلا على أنّه الكلام المتحدّى به، ثم أشير إليه بأنّه الكتاب المنعوت بغاية الكمال، فكان تقريرا لجهة التحدّي، ثم نفى عنه أن يتشبّث به طرف من الريب، فكان شهادة بكماله، ثم أخبر عنه بأنّه هدى للمتقين، فقرّر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، ثم لم يخل كلّ واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق من نكتة ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه. وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف. ووضع المصدر الذي هو هدى موضع الوصف الذي هو هاد، وإيراده منكّرا = (2). إن هذا النص يكشف عن عناية المفسّرين بترابط الخطاب موضوعيّا، والنظر في آلية هذا الترابط، ومنها الترتيب، وانظر إلى عبارة الرازي = الترتيب الأنيق = وتنظيم الخطاب تنظيما منطقيا مقبولا مستحبا = بألطف وجه =.
ونجد هذه العناية كذلك في تقسيم الرازي لموضوعات سورة البقرة حين يقول:
= اعلم أنّه سبحانه وتعالى لمّا أقام دلائل التوحيد وثم عقّبها بذكر الإنعامات العامّة لكلّ البشر، ثم عقّبها بذكر الإنعامات الخاصة على أسلاف اليهود كسرا لعنادهم، ولجاجهم بتذكير النعم السالفة، واستمالة لقلوبهم بسببها وتنبيها على ما يدلّ وذكّرهم تلك النعم أولا على سبيل الإجمال وفرّع على تذكيرها الأمر بالإيمان، ثم عقبها بذكر الأمور التي تمنعهم عن الإيمان به. ثم ذكّرهم تلك النعم على سبيل الإجمال ثانيا، تنبيها على شدّة غفلتهم، ثمّ أردف هذا التذكير بالترغيب البالغ بقوله: {= وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي}
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 30.
(2) نفسه، 3/ 22.(1/257)
{نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً =} ثمّ شرع بعد ذلك في تعديد تلك النعم على سبيل التفصيل، ومن تأمّل وأنصف علم أنّ هذا هو النهاية في حسن الترتيب لمن يريد الدعوة وتحصيل الاعتقاد في قلب المستمع = (1). وحين يفسر الآية {= وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً =}
يقول: = بقي على هذا الترتيب سؤالان = (2). وحين يصل إلى قوله تعالى: {= وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ يََا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخََاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى ََ بََارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذََلِكُمْ خَيْرٌ =} (3). قال: = اعلم أنّ هذا الإنعام الخامس = (4). وكان بذلك يردّ على قول بعض المفسّرين إنّ هذه الآية وما بعدها منقطعة عمّا تقدّم من التذكير بالنعم، وذلك لأنها أمر بالقتل، والقتل لا يكون نعمة وأوّل ذلك بقوله: = وهذا ضعيف من وجوه أحدها أنّ الله نبّههم على عظم ذنبهم، ثم ينبّههم على ما به يتخلّصون من ذلك الذنب العظيم، وذلك من أعظم النعم في الدين = (5).
إنّ الخطاب القرآني لدى الرازي منسجم مترابط، مترتّب ترتيبا منطقيّا وموضوعيّا، وحين يبدو الأمر كأنّ فيه انقطاعا يسارع إلى توضيحه وتفسيره متكئا على البنى الدلالية المكوّنة للموضوع الكليّ. ويتعلّق بهذا ترتيب مفردات الجملة الواحدة أيضا، ومنه قول الرازي في تفسيره للآية (82) قال: = إنّما أردف عبادة الله بالإحسان إلى الوالدين لوجوه: أحدهما أنّ نعمة الله تعالى على العبد أعظم النعم، فلا بدّ من تقديم شكره على شكر غيره، ثمّ بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعمّ النعم، وذلك لأنّ الوالدين هما
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 29.
(2) نفسه، 3/ 54.
(3) سورة البقرة، الآية (54)
(4) تفسير الرازي، 3/ 76.
(5) نفسه، 3/ 79.(1/258)
الأصل = (1). ثمّ في الآية نفسها يشرح الرازي سرّ ترتيب الآية (82)، ولماذا قدّم الله اليتامى على المساكين، يقول: = إنّما تأخّرت درجتهم (المساكين) عن اليتامى لأنّ المسكين قد يكون بحيث ينتفع به في الاستخدام، فكأنّ الميل إلى مخالطته أكثر من الميل إلى مخالطة اليتامى، ولأنّ المسكين أيضا يمكنه الاشتغال بتعهّد نفسه ومصالح معيشته، واليتيم ليس كذلك فلا جرم قدّم الله ذكر اليتيم على المسكين = (2).
وحين يصل إلى ذكر قصة سيّدنا إبراهيم {= وَإِذِ ابْتَلى ََ إِبْرََاهِيمَ رَبُّهُ =} حاول أن يربطها بما قبلها عن طريق ترتيب الموضوعات، وتنظيمها تنظيما عضويّا موضوعيّا قال:
= اعلم أنّه سبحانه لما استقصى في شرح وجوه نعمه على بني إسرائيل، ثمّ في شرح قبائحهم في أديانهم وأعمالهم، وختم هذا الفصل بما بدأ به وهو قوله: {= يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ =} إلى قوله = {وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ =}. شرع سبحانه وتعالى هاهنا في نوع آخر من البيان، وهو أن ذكر قصّة إبراهيم عليه السلام وهو شخص يعترف بفضله جميع الطوائف والملل، فالمشركون كانوا معترفين بفضله متشرّفين بأنّهم من أولاده، ومن ساكني حرمه، وخادمي بيته، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا أيضا مقرّين بفضله فحكى الله سبحانه عن إبراهيم أمورا توجب على المشركين واليهود والنصارى قبول قول محمّد عليه الصلاة والسلام = (3).
أمّا ابن عاشور فإنّه يعبّر عن تغيير الموضوع تارة صراحة وتارة ضمنا، فإنّه عبّر عنه صراحة حين استعمل قوله = الانتقال من إلى = وإن عبّر عنه ضمنا أشار إلى دواعي الفصل عن النوع الأول ونورد هنا المثال التالي: = انتقال من الإنحاء على بني إسرائيل في أفعالهم مع الرسول موسى عليه السلام بما قابلوه به من العصيان، والتبرّم والتعلّل في قبول الشريعة إلى الإنحاء عليهم بسوء مقابلتهم للرسل الذين أتوا بعد
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 165.
(2) نفسه، 3/ 167.
(3) نفسه، 4/ 33.(1/259)
موسى مثل يوشع وإلياس = (1). فالخطاب عند ابن عاشور يدور حول موضوع الإنحاء باللائمة على بني اسرائيل إلّا أنّه يميّز في ذلك بين مرحلتين، والطريقة الثانية التي يشير ابن عاشور بها إلى تغيير موضوع الخطاب تبرز في قوله: = قطعت هاته الجملة (6) عن التي قبلها لأنّ بينهما كمال الانقطاع إذ الجمل السالفة لذكر الهدى والمهتدين، وهذه لذكر الضالين = (2). وربّما كان المثال الأخير أبلغ في التعبير عن تغيّر موضوع الخطاب من الأوّل، لأنّ في الأوّل استمرارا لعنصر وارد في الخطاب السابق، بينما الصلة منقطعة في الثاني بين محتوى الخطابين (الهدى / الضلال).
على أنّ تفسير الزمخشري لم يخل من الإشارة إلى هذا المظهر الذي يمكن رصده في المستوى السطحي للخطاب (تغيّر المحتوى يخلّف أثرا شكليّا) = فإن قلت: لم قطعت قصّة الكفار عن قصّة المؤمنين، ولم تعطف كنحو قوله (إنّ الأبرار لفي نعيم، وإنّ الفجّار لفي جحيم = وغيره من الآي الكثيرة؟ قلت: ليس وزان هاتين القصتين وزان ما ذكرت لأنّ الأولى فيما نحن فيه مسوقة لذكر الكتاب، وأنّه هدى للمتّقين، وسيقت الثانية لأنّ الكفار من صفتهم كيت وكيت، فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب، وهما على حدّ لا مجال فيه للعطف = (3). إنّ السياق اللّغوي للنصّ يسير وفق منهجيّة معيّنة يراعى فيها تسلسل الموضوعات وفقا لغرض الخطاب، وإنّ تباين الأسلوب والغرض في اي مرحلة من مراحل سيرورة الخطاب يفرض تغيير خطّ سير الخطاب إن جاز التعبير وفقا لما يراه الزمخشري. وتتبدّى نظرة الزمخشري العميقة إلى مسألة ترتيب الخطاب في شرحه لسرّ ترتيب الآيات الأولى من سورة البقرة، فهو يرى أن {(الم)} جملة برأسها، و {(ذََلِكَ الْكِتََابُ)} جملة ثانية و {(لََا رَيْبَ فِيهِ)} ثالثة، و {(هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)} رابعة، ثم يقول: = وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة، وموجب حسن النظم = (4).
__________
(1) التحرير والتنوير 1/ 592.
(2) نفسه، 1/ 247.
(3) الكشاف، 1/ 149.
(4) الكشاف، 1/ 37.(1/260)
وفي تفسيره لتقديم الأولياء على المردة من الكفار يقول: = لمّا قدّم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم التي أهّلتهم لإصابة الزلفى عنده قضّى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة من الكفّار الذين لا ينفع فيهم الهدى، ولا يجدي عليهم اللطف، وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه، وإنذار الرسول وسكوته = (1). وفي تفسيره للآية (20) {= يَكََادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصََارَهُمْ} = قال: = {كُلَّمََا أَضََاءَ لَهُمْ} = استئناف ثالث = (2).
وفي تفسيره للآية (22): {= الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرََاشاً، وَالسَّمََاءَ بِنََاءً، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرََاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلََا تَجْعَلُوا لِلََّهِ أَنْدََاداً، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ =}.
قال: = قدّم سبحانه من موجبات عبادته، وملزمات حقّ الشكر له، خلقهم أحياء قادرين أوّلا لأنّه سابقة أصول النعم ومقدّمتها، ثمّ خلق الأرض التي هي مكانهم ومستقرّهم، ثمّ خلق السماء التي هي كالقبّة المضروبة ثم ما سوّاه عز وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلّة بإنزال الماء منها عليها، والإخراج به من بطنها (أشباه النسل المنتج من الحيوان، من ألوان الثمار رزقا لبني آدم = (3). وللطبري كذلك إشاراته إلى مسألة ترتيب الخطاب وتنظيمه، من خلال ربط الآيات بما قبلها، وربط الموضوعات بإشارة سابقة في النصّ، ولكن ليس بمثل جلاء هذه المسألة عند الرازي والزمخشري وابن عاشور. ويكرّر المفسّرون الآخرون معظم هذه النقول التي ذكرناها.
ولا شكّ أنّ لترتيب الوقائع والأحداث في الخطاب حسب وقوعها في الخارج (في المقام) أهميّة في انسجام الخطاب وتوافقه، وكثيرا ما يؤدي تداخل الترتيب في خطاب ما إلى عدم انسجام الخطاب. وقد اعتنى المفسّرون كلّ من زاوية اهتمام معينة بترتيب الخطاب، فمنهم من اهتمّ بفائدة قلب الترتيب، ومنهم من اهتمّ بسبب ترتيب الخطاب، ومن شواهد ذلك عند الزمخشري في تفسيره للآيات (7367) قال: = فإن قلت = فما
__________
(1) الكشّاف، 1/ 46.
(2) نفسه، 1/ 71.
(3) نفسه، 1/ 93.(1/261)
للقصّة لم تقصّ على ترتيبها، وكان حقّها أن يقدّم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها، وأن يقال: = وإذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها، قلت: كل ما قصّ من قصص بني إسرائيل، إنّما قصّ تعديدا لما وجد منهم من الجنايات وتقريعا لهم عليها. ولما جدّد فيهم من الآيات العظام، وهاتان قصّتان كلّ واحدة منهما مستقلّة بنوع من التقريع وإن كانتا متّصلتين متّحدتين: فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال، وما يتبع ذلك، والثانية للتقريع على قتل النفس المحرّمة وما يتبعه من الآية العظيمة، وإنّما قدّمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنّه لو عمل على عكسه لكانت قصّة واحدة، ولذهب الغرض من تثنية التقريع، ولقد روعيت نكتة بعد ما استؤنفت الثانية استئناف قصّة برأسها أن وصلت بالأولى دلالة على اتّحادها بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله = اضربوه ببعضها =، حتى يتبيّن أنّهما قصّتان فيما يرجع إلى التقريع وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها، وأنّها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة = (1). فالترتيب الذي يقترحه المتسائل هو أن يقدّم ذكر المقتول ثمّ يعقّب بالأمر بالذبح ثم يأتي في الختام الأمر بضرب المقتول ببعضها إنّ هذا الترتيب يسلك سبيل ترتيب الوقائع في الخطاب حسب حدوثها في العالم الخارجي، أمّا الإجراء الذي يقوم به الزمخشري تبريرا لترتيب الخطاب على هذا النحو فهو النظر إلى الهدف الذي سيقت له جميع قصص بني إسرائيل في القرآن، وهو التقريع على مقابلتهم الطيّب بالخبيث والعصيان بدل الطاعة، ومن ثمّ فإن قصّة البقرة مرتبطة بالهدف العام من تلك القصص، وقد تحكّم الهدف في جعل القصّة قصّتين لأجل تثنية التقريع، أي التنصيص على ذنبين اثنين: الأوّل: المماطلة في تنفيذ أمره تعالى، والثاني: قتل النفس المحرّمة ممّا جعلهما من هذه الزاوية قصّتين، ولكنّهما من ناحية أخرى قصّتان متّحدتان متّصلتان، أمّا الذي ضمن الاتصال فهو الضمير المحيل إلى البقرة، ومن خلال استمرار أحد العناصر المتقدم في القصّة
__________
(1) الكشّاف، 1/ 280.(1/262)
الثانية. نخلص من هذا إلى أن الزمخشري تنبه أوّلا إلى أنّ القصّة كما هي في الخطاب وقع فيها التقديم والتأخير، وثانيا أن قلب الترتيب تحكّم فيه مقصد المتكلم وهو تثنية التقريع الذي ينتج عنه إشعار المتلقي بالذنب العظيم الذي ارتكبه المعنيّ بالقصّة. ومعنى هذا أنّ المقصديّة وهي مبدأ تداولي هي التي زحزحت الترتيب الأصلي بل قلبته، وقد نشير إلى أن المخاطب بهذه الآيات يأتي في مستويين: المستوى الأول هو مستوى الخطاب والمخاطب المباشر فيه هم بنو إسرائيل. والمستوى الثاني هو المقام والمخاطب المباشر فيه هم المسلمون، وإذا كان هدف الخطاب تقريع بني إسرائيل فإنّ هدفه بالنسبة للمخاطب المقامي هي التحذير من مغبّة إتيان ما أتاه هؤلاء من أفعال منكرة، مجملها عصيانه تعالى ممّا استوجب غضبه عليهم وكشف صورة اليهود المعاصرين للرسول الكريم في المدينة المنورة.
أما اهتمام الرازي فقد انصبّ على سبب الترتيب، وهو هنا غير مرتبط بالأحداث وكيفيّة حدوثها، ومراعاة ذلك في إنتاج الخطاب، وإنّما هو مرتبط بترتيب العناصر في الخطاب، ومحاولة البحث في سبب ذلك الترتيب، وهذا ما سنعمل على إظهاره من خلال تفسيره للآيتين (2221) قال الرازي: = إنّ الله تعالى ذكر هاهنا خمسة أنواع من الدلائل: اثنين من الأنفس، وثلاثة من الآفاق فبدأ أوّلا بقوله (خلقكم) وثانيا بالآباء والأمّهات وثالثا بكون الأرض فراشا ورابعا بكون السماء بناء، وخامسا بالأمور الحاصلة من مجموع السماء والأرض ولهذا الترتيب أسباب: الأوّل: أنّ أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه، وعلم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره، وإذا كان الغرض من الاستدلال إفادة العلم فكلّ ما كان أظهر دلالة كان أقوى إفادة، وكان أولى بالذكر، فلهذا قدّم ذكر الإنسان، ثم ثنّاه بآبائه وأمّهاته، وثلّث بالأرض لأنّ الأرض أقرب إلى الإنسان من السماء، والإنسان أعرف بحال الأرض منه بأحوال السماء، وإنّما قدّم السماء على نزول الماء من السماء، وخروج الثمرات بسببه لأنّ ذلك كالأمر المتولّد من السماء والأرض والأثر متأخّر عن المؤثّر، فلهذا السبب أخّر الله ذكره عن ذكر الأرض والسماء، الثاني: هو أنّ خلق المكلّفين أحياء قادرين أصل لجميع النعم،
وأمّا خلق الأرض والسماء والماء، فذلك إنّما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة. فلا جرم قدّم ذكر الأصول على الفروع، الثالث أنّ كلّ ما خلق في الأرض والسماء من دلائل الصانع فهو حاصل من الإنسان، وقد حصل في الإنسان من الدلائل ما لم يحصل فيها لأنّ الإنسان حصّل فيه الحياة والقدرة والشهوة والعقل، وكلّ ذلك ممّا لا يقدر عليه أحد سوى الله تعالى فلمّا كانت وجوه الدلائل له هاهنا أتمّ كان الأولى بالتقديم = (1).(1/263)
أما اهتمام الرازي فقد انصبّ على سبب الترتيب، وهو هنا غير مرتبط بالأحداث وكيفيّة حدوثها، ومراعاة ذلك في إنتاج الخطاب، وإنّما هو مرتبط بترتيب العناصر في الخطاب، ومحاولة البحث في سبب ذلك الترتيب، وهذا ما سنعمل على إظهاره من خلال تفسيره للآيتين (2221) قال الرازي: = إنّ الله تعالى ذكر هاهنا خمسة أنواع من الدلائل: اثنين من الأنفس، وثلاثة من الآفاق فبدأ أوّلا بقوله (خلقكم) وثانيا بالآباء والأمّهات وثالثا بكون الأرض فراشا ورابعا بكون السماء بناء، وخامسا بالأمور الحاصلة من مجموع السماء والأرض ولهذا الترتيب أسباب: الأوّل: أنّ أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه، وعلم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره، وإذا كان الغرض من الاستدلال إفادة العلم فكلّ ما كان أظهر دلالة كان أقوى إفادة، وكان أولى بالذكر، فلهذا قدّم ذكر الإنسان، ثم ثنّاه بآبائه وأمّهاته، وثلّث بالأرض لأنّ الأرض أقرب إلى الإنسان من السماء، والإنسان أعرف بحال الأرض منه بأحوال السماء، وإنّما قدّم السماء على نزول الماء من السماء، وخروج الثمرات بسببه لأنّ ذلك كالأمر المتولّد من السماء والأرض والأثر متأخّر عن المؤثّر، فلهذا السبب أخّر الله ذكره عن ذكر الأرض والسماء، الثاني: هو أنّ خلق المكلّفين أحياء قادرين أصل لجميع النعم،
وأمّا خلق الأرض والسماء والماء، فذلك إنّما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة. فلا جرم قدّم ذكر الأصول على الفروع، الثالث أنّ كلّ ما خلق في الأرض والسماء من دلائل الصانع فهو حاصل من الإنسان، وقد حصل في الإنسان من الدلائل ما لم يحصل فيها لأنّ الإنسان حصّل فيه الحياة والقدرة والشهوة والعقل، وكلّ ذلك ممّا لا يقدر عليه أحد سوى الله تعالى فلمّا كانت وجوه الدلائل له هاهنا أتمّ كان الأولى بالتقديم = (1).
وقد أدرجنا هذا النصّ رغم طوله نظرا لأهميته بالنسبة لترتيب الخطاب، وإذا تساءلنا عن المبادئ التي حكمت هذا الترتيب في رأي الرازي وجب أن ننظر في الأسباب التي ذكرها كلّ على حده ففي السبب الأول نجد علاقة القرب والعلم بالشيء، وقد احترم الخطاب هذه العلاقة فقدّم خلق الإنسان نفسه ثم ثنّى بوالديه ومن جهة أخرى واعتبارا للعلاقة نفسها قدّمت الأرض على السماء في الخطاب على أنّ علاقة القرب والعلم لا تعني شيئا إن لم ينظر إليها في الغرض الذي يروم المتكلّم تحقيقه، وهو إقناع المتلقّي بوحدانيّته وهذا ما تنبّه إليه الفخر الرازي حين صاغ تلك القاعدة (إذا كان الغرض من الاستدلال إفادة العلم، فكلّ ما كان أظهر دلالة كان أقوى إفادة، وكان أولى بالذكر) التي تحكّمت في ترتيب العناصر في الخطاب على ذلك النحو المخصوص، إضافة إلى هذا نجد في السبب الأوّل علاقة أخرى سببيّة (السبب المسبّب):
الأرض السماء نزول الماء خروج الثمرات المؤثر الأثر فقد تأخّر هنا أمران: نزول الماء وخروج الثمرات وهما معا متوقّفان على وجود الأرض والسماء، ومن ثمّ كانا أثرين ناتجين عن مؤثرين. ونخلص من هذا إلى أنّ الآيتين
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 111.(1/264)
وفق السبب الأول يتحكّم في ترتيب عناصرهما مبدآن: عقلي ومنطقيّ لكنّهما من حيث العمق مبدأ واحد: منطقيّ باعتبار أنّ الأول يهدف إلى الإقناع فسلك سبيل الاستدلال، والثاني راعى علاقة المؤثّر والأثر. والسبب الثاني الذي جعل الخطاب يترتّب على هذا النحو، هو ما سمّاه الرازي علاقة الفرع بالأصل التي يستفاد منها أنّ الإنسان أصل لوجود السماء والأرض إذ لا معنى في هذه الحالة لوجود الفرع بدون وجود الأصل، فوجود الأصل وهو الإنسان على كيفيّة مخصوصة هي الحياة والقدرة والشهوة والعقل، والتي بدونها يصبح وجود النعم عبثا فهو انتفاع مشروط، فالسبب الثاني يحكمه مبدأ منطقي تتحكّم فيه علاقة شرطيّة، والسبب الثالث يعدّ تبيينا للسبب الثاني، ومعه إضافة هي كون الإنسان الدليل الأسمى على قدرة الخالق. وبذا يكون الرازي قد ركّز على العلاقة المنطقيّة وهو أمر مبرّر إذا علمنا أنّ مقصد المتكلّم هو الإقناع فلا جرم أن جاءت الآيات استدلالية على هذا المقصد، ومن ناحية أخرى يمكن أن نقول إنّ هذه الأسباب تحكمها علاقة تداوليّة إذا قرئت قراءة أخرى، فالاهتمام بترتيب العناصر حسب المعرفة بها مسألة تداوليّة، وكذلك حسب القرب أو البعد مسألة تداوليّة، وحسب الأثر والمؤثر أمر تداولي وهو مرتبط بمعرفة الإنسان بالعالم الخارجي.
وفي مثال آخر يتساءل الرازي عن سبب تقديم قبول الشفاعة على أخذ الفدية في الآية (121)، في الوقت الذي قدّم قبول الفدية على ذكر الشفاعة في سورة أخرى يقول في الجواب: = لأنّ من كان ميله إلى حبّ المال أشد من ميله إلى علوّ النفس، فإنّه يقدّم التمسّك بالشافعين على إعطاء الفدية، ومن كان بالعكس يقدّم الفدية على الشفاعة فائدة تغيير الترتيب الإشارة إلى هذين الصنفين = (1). وهنا يشير الرازي إلى اختلاف ترتيب الخطاب باختلاف المخاطب، وهي مسألة غاية في الأهميّة على المستوى التداولي.
ومن ناحية أخرى فقد أشار المفسّرون إلى علاقات خاصّة تحكم الترتيب من مثل الإجمال والتفصيل كما في تفسير الرازي للآية {= وَإِذْ نَجَّيْنََاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}
__________
(1) تفسير الرازي، 2/ 54.(1/265)
{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنََاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسََاءَكُمْ وَفِي ذََلِكُمْ بَلََاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ =} (1). قال الرازي: = اعلم أنّه تعالى لمّا قدّم ذكر نعمه على سبيل التفصيل ليكون أبلغ في التذكر وأعظم في الحجة = (2). ومثلها في تفسيره للآية = وآتينا عيسى بن مريم البيّنات = قال: = والسبب في أنّ الله تعالى أجمل ذكر الرسول ثم فصّل ذكر عيسى لأنّ من قبله من الرسل = (3).
وممّا يتّصل بهذا الموضوع علاقة ترتيب الخطاب بزمن الخطاب، وانظر إلى مثال ذلك عند الرازي في تفسيره للآية: {= وَإِذْ قُلْنََا لِلْمَلََائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا =} (4). ذكر الرازي ترتيب الموضوعات، وهو ذكر تخصيص آدم بالخلافة أولا، ثم تخصيصه بالعلم الكثير ثانيا، ثم بلوغه في العلم إلى أن صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم، وذكر الآن كونه مسجودا للملائكة، ثم أوضح الرازي كيف انسجم الزمن مع ترتيب الخطاب فقال: = الأمر بالسجود حصل قبل أن يسوّي الله تعالى خلقة آدم عليه السلام بدليل قوله: = إنّي خالق بشرا من طين، فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين = وظاهر هذه الآية يدلّ على أنّه عليه السلام لمّا صار حيّا صار مسجود الملائكة، لأنّ الفاء في قوله (فقعوا) للتعقيب. وعلى هذا التقدير يكون تعليم الأسماء ومناظرته مع الملائكة في ذلك حصل بعد أن صار مسجود الملائكة. (5) وفي موضع آخر في تفسيره للآية {= وَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ وَآتُوا الزَّكََاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرََّاكِعِينَ} = (6). قال: = القائلون بأنّه لا يجوز
__________
(1) سورة البقرة، الآية (49).
(2) تفسير الرازي، 3/ 67.
(3) نفسه، 3/ 176.
(4) سورة البقرة، الآية (34).
(5) تفسير الرازي، 3/ 212.
(6) سورة البقرة، الآية (43).(1/266)
تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب، قالوا: إنّما جاء الخطاب مع قوله (وأقيموا الصلاة = بعد أن كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصف لهم أركان الصلاة وشرائطها فكأنّه تعالى قال: وأقيموا الصلاة التي عرفتموها =.
ومن أمثلة اتّساق زمن الخطاب مع توالي وقائع السياق الخارجي عند الزمخشري في تفسيره للآية {= بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ =} يقول: = إن عني به القرآن بأسره، والشريعة عن آخرها لم يكن منزّلا وقت إيمانهم، فكيف قيل أنزل بلفظ المضيّ؟ وإن أريد المقدار المنزّل واشتمال الإيمان على الجميع سالفة ومترقّبة واجب. قلت: المراد المنزل كلّه وإنّما عبّر عنه بلفظ المضيّ، وإن كان بعضه مترقّبا تغليبا للموجود على ما لم يؤخذ. = ويدلّ عليه قوله تعالى {= إِنََّا سَمِعْنََا كِتََاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ََ =} ولم يسمعوا جميع الكتاب، ولا كان كلّه منزّلا = (1).
ومن أمثلته أيضا تناول الزمخشري لقصّة البقرة حين يرى أنّ الخطاب كان لإبهامه متناولا لهذه البقرة الموصوفة، كما تناول غيرها، ولو وقع الذبح عليها بحكم الخطاب قبل التخصيص لكان امتثالا له، وكذلك إذا وقع عليها بعد التخصيص = وإذ قتلتم نفسا = خوطبت الجماعة لوجود القتل فيها = (2). فالزمن في الخطاب وهو جزء من المقام له علاقة مباشرة بترتّب الأحداث، وله دلالته في التأثير على صياغة الوقائع صياغة جديدة كما يريدها المتكلّم.
وعند الطبري ملاحظات جديرة بالانتباه، ففي تفسيره للآيات (228226) حول قوله تعالى = فإن عزموا الطلاق = يقول: = فإن قلت كيف موضع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدّة التربّص؟ قلت: موقع صحيح لأنّ قوله = فإن فاءوا = = وإن عزموا = تفصيل لقوله = للّذين يؤلون من نسائهم = والتفصيل يعقب المفصّل = (3). إنّ تنظيم الخطاب
__________
(1) الكشّاف، 1/ 42.
(2) نفسه، 1/ 153.
(3) الكشّاف، 1/ 152.(1/267)
لدى المفسّرين تحكمه مبادئ عديدة، منها الوحدة العضويّة، والموضوعيّة للنصّ ومبادئ منطقيّة، ومبادئ تداوليّة ومقاميّة متنوّعة.
(ب 3) العلاقات الداخلية:
الخطاب كلّ موحّد متجانس مرتّب منتظم، ولتحقيق هذا التوحّد والتجانس والترتيب والانتظام والانسجام والتماسك، أو الاتساق الداخلي والخارجي، لا بدّ من علاقات، وقد اهتمّ المفسّرون بأنواع العلاقات التي يرون أنها قائمة بين آيات متجاورة أو متباعدة، وهي علاقات تتجاوز النظر إلى الارتباط الشكلي إلى ما هو أعمق. ومن العلاقات التي يشيرون إليها: علاقة البيان، والتفسير، والإجمال، والتفصيل، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد.
فقد اهتمّ الزمخشري شأن المفسّرين الآخرين بعلاقة البيان والتفسير، ويمكن أن نميّز في تناوله بين نوعين: الأوّل يتّصل بالكلمات، والثاني يتّصل بالجمل ففي النوع الأوّل يأتي فيه اللاحق بيانا لكلمة سابقة، وفي الثاني بيانا لجملة، ومن أمثلة الأول قوله: (يذبّحون) بيان لقوله = يسومونكم = (ولذلك ترك العاطف) (1). ففي هذه الحالة يكون الفعلان (يذبّحون ويستحيون) فعلين مبينين لفعل سابق هو (يسومونكم) لأنّ هذا الفعل الأخير يفتقر إلى ما يبيّنه فجاء الفعلان محدّدين لنوع العذاب، وفي النوع نفسه يمكن أن ندرج تفسيره للآية (214) (ومسّتهم) بيان للممثّل، وهو استئناف، كأنّ قائلا قال: كيف كان ذلك المثل؟ فقيل:
مسّتهم البأساء =. ويمثل النوع الثاني تفسير الزمخشري للآية (255) التي حوت متواليات متعدّدة، يقول: فإن قلت: كيف ترتبّت الجمل في آية الكرسي من غير عطف؟. قلت: ما منها جملة إلّا وهي واردة على سبيل البيان لما ترتّب عليه، والبيان متّحد بالمبيّن فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه، والثانية لكونه مالكا لما يدبّره،
__________
(1) الكشاف، 1/ 279.(1/268)
والثالثة لكبرياء شأنه، والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى عنهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى، والخامسة لسعة علمه وتعلّقه بالمعلومات كلّها أو لجلاله وعظم قدره = (1). ورغم أنّ العلاقة في الحالتين معا هي البيان، فإنّ الحالة الأولى والثانية شرح وتفسير للمراد، فالحاجة إلى التبيين معنويّة. بينما الحالة الثانية توظّف فيها علاقة البيان للإشارة إلى الارتباط الوثيق بين الجمل بدون رابط شكلي أو على الأقل حرف عاطف.
وفي النقطة نفسها ندرج تفسير ابن عاشور للآية (173) معتبرا هذه الآية بيانا للآية السابقة (172) يقول: = هي استئناف بياني، ذلك أنّ الإذن بأكل الطيّبات يثير سؤال من يسأل ما هي الطيّبات فجاء هذا الاستئناف مبينا للمحرّمات، وهي أضداد الطيّبات، لتعرف الطيّبات بطريقة المضادّة المستفادة من صيغة الحصر = (2). وإذا كان الزمخشري مهتمّا في الأمثلة السابقة بعلاقة البيان داخل الآية نفسها، فابن عاشور (في هذا المثال) يهتمّ بالعلاقة نفسها لكن بين آيتين (173172) وقد جاء هذا البيان بيان الطيّبات على عكس ما هو منتظر، إذ اكتفى تعالى بحصر المحرّمات (الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله) بناء على أنّ المحرّم محدود، بينما الطيّبات غير محدودة.
ونلاحظ أنّ علاقة البيان سواء بين عنصرين داخل الآية نفسها أم بين آيتين غالبا ما تكون استجابة لاستفهام مقدّر، ممّا يعني أنّ العلاقة بين المبيّن والمبيّن وطيدة، في غير حاجة إلى رابط. وحين يفسّر الزمخشري = هدى للمتّقين = يفترض وجود سؤال: ما بال المتّقين مخصوصين بذلك؟ فوقع قوله = الذين يؤمنون بالغيب = إلى ساقته كأنّه جواب لهذا السؤال المقدّر) (3). ويجعل ذلك استئنافا، ومثله قوله تعالى: {= يَكََادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصََارَهُمْ =}
جاءت من غير عاطف على ما قبلها، اعتبره الزمخشري استئناف ثالث كأنّه = جواب لمن يقول: كيف تصنعون في تارتي خفوت البرق وخفيته؟. وهذا تمثيل لشدّة الأمر على
__________
(1) الكشّاف، 1/ 355.
(2) التحرير والتنوير، 2/ 115.
(3) الكشاف، 1/ 44.(1/269)
المنافقين بشدّته على أصحاب الصيّب = (1). ويميّز ابن عاشور ما يعرف بالاستئناف الابتدائي خلال حديثه، وهو الذي يتّخذ فيه الكلام اللاحق وجهة غير وجهة الكلام السابق، مع كون الثاني رفعا لإبهام أو التباس قد يقع في فهم ذلك السابق. وفي تفسير الزمخشري للآية {= يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً =} قال: = جار مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدّرتين بأمّا =.
ومن العلاقات الخطابيّة التي أثارها المفسّرون، علاقة الإجمال والتفصيل، وأمثلتها لا تكاد تحصى ومنها عند الرازي مثلا أثناء تفسيره للآية (31) قال: = اعلم أنّ الملائكة لمّا سألوا عن وجه الحكمة في خلق آدم وذريّته وإسكانه تعالى إيّاهم في الأرض، وأخبر الله تعالى عن وجه الحكمة في ذلك على سبيل الإجمال بقوله تعالى: {= إِنِّي أَعْلَمُ مََا لََا تَعْلَمُونَ =} أراد تعالى أن يزيدهم بيانا، وأن يفصّل لهم ذلك الجمل، فبيّن تعالى لهم من فضل آدم عليه السلام ما لم يكن من ذلك معلوما لهم، وذلك بأنّه علّم آدم الأسماء كلّها ثم عرضهم عليه ليظهر بذلك كمال فضله، وقصورهم عنه في العلم، فيتأكّد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي = (2). ومعنى هذا أنّ العلاقة بين الآيات (31، 33، 32) والآية (30) هي علاقة تفصيل بإجمال، على أنّ علاقة التفصيل بالإجمال لا تخلو من غاية وهي ما أشار إليه الرازي بالتأكيد أي تأكيد التفصيل للإجمال. ومن أمثلته كذلك في تفسير الرازي للآية {= وَآتَيْنََا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنََاتِ} = قال: = السبب في أنّ الله تعالى أجمل ذكر الرسول ثم فصّل ذكر عيسى لأنّ من قبله من الرسل جاءوا بشريعة موسى فكانوا متّبعين له، وليس كذلك عيسى، لأنّ شرعه نسخ أكثر شرع موسى عليه السلام = (3).
__________
(1) الكشاف، 1/ 86.
(2) نفسه، 1/ 175.
(3) نفسه، 3/ 176.(1/270)
وهناك مثال آخر مختلف نوعا ما عن السابق في كون المفصّل بعيدا عن المجمل، ذلك أنّ الرازي يتبنّى رأي من ذهب إلى أنّ الآية (261) تفصيل لما أجمل في الآية (245) يقول: = في كيفيّة النظم وجوه (الأول) أنّه تعالى لمّا أجمل في قوله = من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعف له أضعافا كثيرة = فصّل بعد ذلك في هذه الآية (261) تلك الأصناف = (1) إنّ ما يلفت الانتباه في هذا التفسير هو أنّ الآية (261) تفصيل لمجمل ورد في الآية (245) أي أنّ هذه العلاقة تربط بين آيتين تفصلهما ست عشرة آية وهذه مسألة هامّة جدا يستخلص منها أنّ المفسّرين لم يهتمّوا بالعلاقة الخطيّة بين الآيات فحسب، بل اهتموا أيضا بالعلاقة العمودية بين بعض الآيات دون ان يعني هذا أنّ العلاقة بينهما قطعتها الآيات التي تملأ الفضاء من (260245).
غير أنّ العلاقة بين الآيات لا تسلك دائما سبيل المجمل / المفصّل، بل قد تنقلب الأمور فيتقدّم المفصّل على المجمل لتحقيق غاية معيّنة، كما في تفسير ابن عاشور للآية (17) قال: {= مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً =} أعقبت تفاصيل صفاتهم بتصوير مجموعها في صورة واحدة بتشبيه حالهم بهيئة محسوسة، وإتماما للبيان بجمع المتفرّقات في السمع المطالة في اللّفظ في صورة واحدة، لأنّ للإجمال بعد التفصيل وقعا من نفوس السامعين = (2). أي أنّ التمثيل إجمال لتفاصيل وردت في الآيات (8) إلى (16). ومن ثمّ فإن العلاقة كما هي متجلّية في الخطاب لا تسلك سبيلا مخالفا من المفصّل إلى المجمل، فالترتيب الأوّل معياري، والثاني تداولي، وهو ما عبّرنا عنه بأنّه يأتي لتحقيق غاية معيّنة، وعبّر عنه ابن عاشور بقوله: = لأنّ للإجمال بعد التفصيل وقعا في نفوس السامعين =.
ومن أنواع العلاقات الداخلية: المناسبة، والتناسب بين الآي وهي بحث عن علاقة آية بآية أخرى متقدّمة، وقد بدا لنا من خلال الاستقراء أنّ المفسّر يشرع في البحث عن المناسبة حين تنقطع الصلة بين آية وآية، أو آيات سابقة (كما لو كانت الآية الأولى عن القتال والثانية عن إنفاق الأموال) ويفترضون وجود سائل يسأل ما وجه المناسبة بين هذه
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 47.
(2) التحرير والتنوير، 1/ 302.(1/271)
وتلك، أو ما موقع هذه الآية من الكلام السابق، وقد وضعوا صيغا متميّزة للدلالة على هذه المناسبة ومنها عند الزمخشري: (في كيفيّة الاتصال وجوه، فإن قلت بم تتعلّق، نظم الكلام، فكّ النظم، التئام النظم، اتّساق النظم، التشاكل الانسجام، الالتئام).
وعند الرازي: (في كيفيّة الاتّصال، اعلم أنّ تعلّق هذه الآية بما قبلها من وجوه، في كيفيّة النظم وجوه، فاللائق بهذا المقام، بين كذا وكذا مناسبة من جهة كذا، في التأليف وجوه، في بيان اتّصال هذه الآية).
وعند ابن عاشور: (في كيفيّة التناسب، مناسبة هذه الآية للآيات قبلها، مناسبته لما قبله، قد خفي موقع هذه الآية من الآي التي بعدها، مناسبة التركيب).
وعند الطبري: (كيف جاز أن يقال كذا، كيف ذكر هذا هنا، فإن قلت لم قيل هنا هكذا، وحكمة الله تقتضي أن يكون كذا هكذا، كيف طابق قوله تعالى، كيف ناسب قوله تعالى) وعند ابن الجوزي = ألطف موقعا، وأبلغ في التأثير = وعند الألوسي = سيق بغاية الكمال، سيق إثر بيان بديع = وعند الطوسي = لأنّ الغرض مبنيّ عليه =. وغيره.
والمفسّرون في تساؤلهم عن المناسبة، وعمّا يعود إليه الضمير أو الإشارة وعمّ الآية عليه معطوفة، يخوضون في المناسبة بين الآيات، أو بين عناصر داخل الآية نفسها، وكانوا يلجئون هنا إمّا إلى شروح مستفيضة لكي يقتنع القارئ بسلامة تخريج الصلة بينهما، وإمّا أنّهم يستنجدون بسبب النزول، أي المقام الذي أطّر الآيات لتبرير موقع آية فيها، ومن أمثلة ذلك عند الطبري قوله عند تأويل الآية = ذلك الكتاب = قال: = ذلك الكتاب = بمعنى هذا الكتاب، فإن قال قائل: كيف يجوز أن يكون ذلك بمعنى هذا، قيل:
جاء ذلك لأنّ كلّ ما تقضّى وقرب من الأخبار فهو وإن صار بمعنى غير الحاضر فكالحاضر عند المخاطب = (1). ويرجّح الطبري تأويلا على تأويل آخر استنادا إلى اتّصال الآيات واتّساقها فمثلا في تفسيره للآية = {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ}
__________
(1) تفسير الطبري، 1/ 72.(1/272)
{تُنْذِرْهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} = (1). يرجّح أنّها نزلت في اليهود الذين جحدوا نبوّة محمّد وكذّبوا به مع علمهم بأنّه رسول الله إلى الناس كافّة، ويستند في هذا الاختيار على السياق السابق لهذه الآية يقول: = وأمّا علّتنا في اختيار ما اخترنا من التأويل، فهو أنّ قوله تعال: ى = إنّ الذين كفروا لا يؤمنون = جاء عقيب خبر الله جلّ ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب، وعقيب نعتهم وصفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به، وبكتبه ورسله، فأولى الأمور بحكمة الله أن يتلى ذلك الخبر عن كفّارهم ونعوتهم، وذمّ أسبابهم وأحوالهم ولأنّ مؤمنيهم ومشركيهم وإن اختلفت فإنّه يجمعهم جميعا أنّهم بنو اسرائيل = (2). ثم يجتهد في إثبات ذلك من خارج النصّ من خلال المقام، يقول: = وممّا ينبئ عن صحّة ما قلنا اقتصاص الله تعالى ذكره نبأهم وتذكيره إيّاهم ما أخذ عليهم من أمر المنافقين، واعتراضه بين ذلك بما اعترض به من الخبر عن إبليس وآدم في قوله: {= يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} = (الآية 40 وما بعدها) ويقول: = فإذا كان الخبر أوّلا عن مؤمني أهل الكتاب وآخرا عن مشركيهم، فأولى أن يكون وسطا عنهم، إذ كان الكلام بعضه لبعض تبع، إلّا أن تأتيهم دلالة واضحة بعدول بعض ذلك عمّا ابتدأ به من معانيه فيكون معروفا حينئذ انصرافه عنه = (3).
ومنه توجيه القراءة = وما يخدعون = على القراءة الأخرى = وما يخادعون = ويعزّز ذلك أنّ الله قد أخبر عنهم أنّهم = يخادعون الله والمؤمنين في أوّل الآية، فمحال أن ينفي عنهم ما قد أثبت أنّهم قد فعلوه، لأنّ ذلك تضادّ في المعنى وذلك غير جائز = (4). فالطبري إذن يصرّ على البحث عن أدوات الاتّساق في ثنايا النصّ نفسه، وهذا هو معنى قولهم في لسانيّات الخطاب أنّ النصّ لا يكون نصّا حتى يكون منسجما متماسكا، وكذلك معنى قولهم أنّ القارئ هو الذي يكمل انسجام النّص بقراءته، فالانسجام ليس عنصرا قبليّا وإنّما هو عنصر يتأتّى من خلال القراءة التواصليّة.
__________
(1) سورة البقرة، الآية (6).
(2) تفسير الطبري، 1/ 97.
(3) نفسه، 1/ 98.
(4) نفسه، 1/ 107.(1/273)
إنّ السياق الخارجي هو الذي يسعف القارئ غالبا في تبيّن انسجام النّص وتماسكه، ويؤدّي إلى تبيّن الدلالات، وإذا حصل تناقص بين (العالم) أو الواقع وبين النصّ الداخلي، سارع القارئ إلى إحداث عمليّة تجسير عبر مستوى الدلالة أو المنطق.
فحين يفسّر الطبري الآية (25) {= هََذَا الَّذِي رُزِقْنََا مِنْ قَبْلُ =} يقف أمام التناقض الحاصل من قول أهل الجنّة = من قبل = فمعلوم أنّه محال أن يكون من قيلهم لأوّل رزق رزقوه من ثمار الجنّة = (1). ويختار أنّ هذا القول لبعض ما رزقوا في الجنّة، وليس في أوّل عهد دخولهم الجنّة.
ومثله معالجته للآية (49) قال: وإنّما جاز أن يقال: = وإذ نجّيناكم من آل فرعون = والخطاب به لمن لم يدرك فرعون ولا المنجين منه، لأنّ المخاطبين بذلك كانوا أبناء من نجّاهم من فرعون وقومه فأضاف ما كان من نعمة على آبائهم إليهم = (2).
إنّ المفسّر يفترض حالة من الانسجام والتوافق بين النصّ والسياق (الخارجي) ولكنّه لا يفترض حالة اتّفاق تام، فالنصّ له آليّاته الخاصّة التي تسمح بها اللغة للتعبير عن العالم، ولذلك فهو حين يقف على حدوث ما يشبه الاختلاف يسارع إلى العالم الخارجي أو إلى اللّغة ليشرح هذا الاختلاف. ومنه في تفسير الطبري للآية (143) = فإن قال قائل:
وكيف قال الله عزّ وجل: = ما كان الله ليضيع إيمانكم = فأضاف الإيمان إلى الأحياء المخاطبين، والقوم المخاطبون بذلك إنّما كانوا أشفقوا على إخوانهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلّون نحو بيت المقدس، وفي ذلك من أمرهم أنزلت هذه الآية قيل = إنّ القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك فإنّهم أيضا كانوا مشفقين من حبوط ثواب صلاتهم التي صلّوها إلى بيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة فمن شأن العرب إذا اجتمع في الخبر المخاطب والغائب أن يغلّبوا المخاطب فيدخل الغائب في الخطاب = (3). ويبقى الواقع مثل النافذة التي يطلّ منها المفسّر ليحكم على الخطاب بالانسجام أو عدمه، وانظر مثلا تغليب
__________
(1) تفسير الطبري، 1/ 144.
(2) نفسه، 1/ 202.
(3) نفسه، 1/ 418.(1/274)
الطبري قراءة الآية = ولو ترى الذين ظلموا = أنّ (ترى) = بالتاء = وليس = بالياء = ويستند في هذا إلى أن الكلام وإن كان مخرجه مخرج الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم معنيا به غيره لأنّ النبيّ كان لا شكّ عالما بأنّ القوّة لله جميعا، وأنّ الله شديد العذاب = (1). فهو حكم مبنيّ على المعرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم أي حكم مبنيّ على الحقيقة الخارجية.
ويتحدّث الزمخشري عن الاتساق الدلالي عن طريق مناسبة الألفاظ للمقام أو الحدث في السياق الخارجي فمثلا في لفظة = يخادعون = يتساءل عن مجيء النعت بالانخداع ولم يأت بالخدع، ويؤوّل ذلك بتأويلات مختلفة منها = أنّ (يخادعون) هي صورة صنعهم مع الله حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون، أو أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنّهم أنّ الله تعالى ممّن يصحّ خداعه، لأنّ من كان ادعاؤه الإيمان بالله تعالى نفاقا لم يكن عارفا بالله ولا بصفاته، والثالث أن يذكر الله تعالى ويراد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأنّه خليفته في أرضه، والرابع أن يكون من قولهم أعجبني زيد وكرمه فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا بالله، وفائدة هذه الطريقة قوّة الاختصاص، ولمّا كان المؤمنون من الله بمكان سلك بهم ذلك المسلك = (2). إن هذا النص يكشف عن اعتبارات عديدة منها مكانة المخاطب والمخاطب في نفوس المخاطبين، وطبيعة العلاقات والوقائع وكلّها انعكاسات للسياق على النصّ.
ويؤكّد المفسرون كثيرا على اتّساق الضمائر كما أسلفنا ويربطونها كذلك بالتوافق في العالم الخارجي، ومن ذلك وقوف الزمخشري عند قوله تعالى = ربّكم = ويفسّره بأنّ المشركين كانوا معتقدين ربوبيّتين ربوبيّة الله، وربوبية الآلهة فإن خصّوا بالخطاب، فالمراد به اسم يشترك فيه ربّ السموات والأرض والآلهة التي يسمّونها أربابا، وإن كان
__________
(1) تفسير الطبري، 1/ 453.
(2) الكشّاف، 1/ 58.(1/275)
الخطاب للفرق جميعا فالمراد به (ربّكم) على الحقيقة، و (الذي خلقكم صفة جرت عليه على طريقة المدح والتعظيم، ولا يمتنع هذا الوجه في خطاب الكفرة خاصة = (1).
وفي تفسيره لاختيار لفظ التنزيل دون الإنزال في قوله تعالى = فما نزّلنا = يقول:
= لأنّ المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم = (2). وفي موضع آخر يقول: = وردّ الضمير إلى المنزّل أوجه، لأنّ القرآن جدير بسلامة الترتيب، والوقوع على أصحّ الأساليب، والكلام مع ردّ الضمير إلى المنزّل أحسن ترتيبا، وذلك أنّ الحديث في المنزّل لا في المنزّل عليه، وهو مسوق إليه ومربوط به، فحقّه أن لا يفكّ عنه بردّ الضمير إلى غيره = (3). إنّ موضع الخطاب وسيرورته ومكانة القرآن أوجبت هذا الاختيار، وهذا شاهد آخر على علاقة النصّ بالسياق.
وليس في الضمائر فحسب، بل في الأدوات والحروف أيضا في السياق المقامي حاضرا في تحليل المفسّرين، فالزمخشري يتساءل عن مجيء (إذا) الذي للوجوب دون (إن) الذي للشك يقول: في الآية (24) = فيه وجهان: أحدهما أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم وطمعهم، وأنّ العجز عن المعارضة كان قبل التأمل كالشكوك فيه لديهم لاتّكالهم على فصاحتهم، والثاني أنه يتهكّم بهم = (4). وفي الوجه الأول نجد التأويل التداولي حاضرا، وفي الثاني نجد عنصر الهدف أو غرض الخطاب ماثلا وكلاهما وثيق الصّلة بالسياق. ومنه كذلك تعليل الرازي لمجيء الحرف (إنّ) في الآية الكريمة = إنّ الذين كفروا سواء عليهم) جاء فيه = وإنّما حسن موقعها لأنّ الغالب أنّ الناس لا يحملون أنفسهم على اليأس، وأما جعلها مع اللام جوابا للمنكر في قولك (إنّ زيدا لعالم) فجيّد لأنّه إذا كان الكلام مع المنكر كانت الحاجة إلى التأكيد أشدّ = (5). فالحروف والأدوات أيضا
__________
(1) الكشّاف، 1/ 90.
(2) نفسه، 1/ 97.
(3) نفسه، 1/ 97.
(4) تفسير الطبري، 1/ 101.
(5) تفسير الرازي، 733.(1/276)
تسهم في اتساق النّص وذلك بالاستضاءة بالمقام. وهذا يذكرنا بقولة السيوطي عن هذه الحروف والأدوات: = اعلم أنّ معرفة ذلك من المهمّات المطلوبة لاختلاف مواقعها، ولهذا يختلف الكلام والاستنباط بحسبها = (1).
ومن أمثلته كذلك في تفسير الفيروزآبادي للآية (23) قال: قوله {= فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ =} بزيادة من هنا، وفي غير هذه السورة بدون (من) لأنّ (من) للتبعيض، وهذه السورة سنام القرآن، وأوّله بعد الفاتحة فحسن دخول (من) فيها ليعلم أنّ التحدي واقع على جميع سور القرآن من أوّله إلى آخره = (2). وإذن فليس معنى الأداة فقط هو ما له أهميّة خاصة بل موقع الأداة في النصّ وغرض الخطاب، هما ما يحدّد دلالة هذا النّص ومراميه.
ومنه كذلك قوله = فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف = في الآية (234)، وقال في الآية (240) من السورة نفسها = من معروف = باختلاف حرف الجرّ بين (الباء) و (من) قيل: = لأنّ تقدير الأوّل (فيما فعلن في أنفسهن بأمر الله وهو المعروف، والثاني فيما فعلن في أنفسهن من فعل من أفعالهن معروف)، أي جاز فعله شرعا = 2.
فاختلاف المقصدية واختلاف التوجيه ناسبهما اختلاف الأداة، ومنها كذلك قوله تعالى {= وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئََاتِكُمْ =} في الآية (271) بزيادة (من) = موافقة لما بعدها لأنّ بعدها ثلاث آيات فيها (من) على التوالي وهو قوله: = وما تنفقوا من خير ثلاث مرات = 3.
ومناسبة الأداة هنا مرتبط بالاتساق الداخلي للنصّ مباشرة وقد عبّر المفسّر عن معنى المناسبة بقوله (موافقة). وكذلك نظروا في دقّة دلالة الوصف على الموصوف من خلال المقام، ففي تفسير الآية = لن نصبر على طعام واحد = يرى الزمخشري أنّه أريد بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل وليس بمعنى ما هو عكس الاثنين، ويستشهد على ذلك بأنّه لو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كلّ يوم لا يبدّلها، قيل: لا يأكل فلان إلّا طعاما
__________
(1) الإتقان، 1/ 309.
(2) الفيروزآبادي: مجد الدين محمد بن يعقوب، ت (817هـ) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، ط 1، تحقيق الاستاذ محمد علي النجار، دار الباز للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، 1974، 1/ 26.(1/277)
واحدا، فيراد بالوحدة نفي التبدّل والاختلاف، ويجوز أن يريدوا أنّها ضرب واحد لأنّهما معا من طعام أهل التلذّذ والترف، ونحن قوم فلاحة فما نريد إلّا ما ألفناه وضربنا به من الأشياء المتفاوتة كالحبوب والبقول وغير ذلك. (1) إنّ أحوال أولئك القوم وطبيعة معاشهم قبل الإنعام عليهم بالمنّ والسلوى، وبعد الإنعام عليهم يفسّر العلاقة بين الوصف والموصوف (طعام واحد).
ومن أشكال الاتساق، الاتّساق الموضوعي، فالآية (189) يتوزّعها موضوعان: حديث عن الأهلّة والحكمة منها، وحديث عن البرّ، ورغم بعد ما بين الموضوعين فقد تمّ عطفهما بالواو ممّا يفرض السؤال عن وجه الاتّصال، ويلجأ الزمخشريّ إلى إجراءين لحلّ هذه المشكلة الإجراء الاول: أن يلجأ إلى أسباب النزول (المقام) ويرى أنّ لهذه الآية سببي نزول، أولهما: سؤال لمعاذ بن جبل وثعلبة بن عنم عن حال الهلال المتغيّرة، والثاني متعلّق بممارسة ناس من الأنصار أثناء الحج، وهما معا سببان واردان، وأمّا الإجراء الثاني فهو البحث عن الاتّساق من داخل النّص يقول: = ويجوز أن يجري ذلك عن طريق الاستطراد لمّا ذكر أنّها مواقيت للحجّ لأنّه من أفعالهم في الحج، ويحتمل أن يكون هذا تمثيلا لتعكيسهم في سؤالهم، وأنّ مثلهم فيه كمن يترك باب البيت ويدخله من ظهره ثم قال (وائتوا البيوت من أبوابها) أي وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا = (2).
ومن ضروب التناسب التي يهتمّ بها المفسّرون الاتّساق بين النصّ والفاصلة القرآنية. ويقف الزمخشري عنده بشكل متكرّر، خاصّة إذا لم يكن هناك علاقة واضحة بين الآية وفاصلتها، فمثلا في تفسيره للآية (23) يسأل ما معنى = وأنتم تعلمون =. ويجيب: = بأنّ أولئك العرب من ساكني الحرم من قريش وكنانة كانوا من التدبير والدهاء والفطنة بمنزلة عالية، ومع ذلك هم ما هم عليه من جعل الأصنام لله أندادا، وهو غاية الجهل، ونهاية
__________
(1) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 155.
(2) الكشاف، 1/ 234.(1/278)
سخف العقل، وهذا من التوبيخ = (1). إنّ الفاصلة جزء من النّص (الآية) ويجب أن تتّسق مع محتوى الآية، ولكن ما لاحظناه في المثال السابق أنّ الزمخشري حاول أن يوضح هذا الاتّساق بعناصر من خارج النّص (عناصر غير لغويّة) أي عناصر مقامية.
وأمّا الرازي فقد شغل نفسه بتتبّع الفواصل منذ الآيات الأولى، واهتمّ كثيرا بالتناسب بين الفاصلة القرآنيّة ومضمون الآية، ومن أمثلة الآية والفاصلة = هدى للمتقين = ويوضّح ذلك بأنّه ذكر المتقين مدحا ليبيّن أنّهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به = (2). وحين يقف عند الآية {= أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ =} قال: = في كيفيّة تعلّق هذه الآية، بما قبلها وجوه ثلاثة: أن ينوي الابتداء بالذين يؤمنون بالغيب، وذلك لأنّه كما قيل (هدى للمتّقين) كان لسائل أن يسأل: ما السبب في اختصاص المتّقين بذلك؟
فوقع قوله {= الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ =} إلى قوله {= وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ =} وثانيهما أن لا ينوي الابتداء به بل يجعله تابعا للمتقين ثم يقع الابتداء من قوله = أولئك على هدى من ربّهم كأنّه قيل: أيّ سبب في أن صار الموصوفون بهذه الصفات مختصّين بالهدى؟ فأجيب بأن أولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا، وبالفلاح آجلا وثالثهما أن يجعل الموصول الأول صفة المتّقين. ويرفع الثاني على الابتداء، وأولئك خبر، ويكون المراد جعل اختصاصهم بالفلاح والهدى تعريضا بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم وهم ظانون أنّهم على الهدى، وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله تعالى = (3). وهنا نخرج بالملاحظات التالية: الأولى: أنّ الفاصلة تتّصل دلاليّا بمضمون الآية، وفي مثالنا العلاقة الدلالية التي تربط بين الفاصلة والآية هي علاقة التخصيص، والثانية أن الفاصلة قد تكون أداة دلاليّة رابطة بين آيتين كما في مثالنا أعلاه، وقد يكون الرابط نحويا أي أن تربط علاقة على مستوى التركيب بين الآية والفاصلة التي
__________
(1) الكشاف، 1/ 96.
(2) تفسير الرازي، 3/ 21.
(3) نفسه، 3/ 73.(1/279)
تسبقها. والملاحظة الثالثة هي اتّصال تركيب الآية وفاصلتها بغرض الخطاب، فغرض المدح هو الذي يوضح الفاصلة = هدى للمتقين =، وغرض التعريض والتخصيص في الآية التالية التعريض بأهل الكتاب والتخصيص هو للمتّقين.
ونجد الرازي من جهة أخرى يوازن بين الفواصل القرآنية، وكيف وظّفت كلّ في سياقها. يقول: = إنّما قال في آخر هذه الآية = لا يعلمون = وفيما قبلها = لا يشعرون = لوجهين =: الأول: أنّ الوقوف على أنّ المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري، وأما أنّ النفاق وما فيه من البغي يفضي إلى الفساد، وفي الأرض فضروري جار مجرى المحسوس، والثاني أنّه ذكر السفه وهو جهل، فكان ذكر العلم أحسن طباقا والله أعلم = (1).
ونلاحظ أنّه اعتمد في هذه الموازنة على الاتّساق المنطقي، والاتّساق الدلالي والاتساق الموضوعي، وموافقة النصّ للحقيقة الخارجيّة. ومن أمثلته كذلك الفاصلة (لآيات لقوم يعقلون) في الآية (164) قيل: = خصّ العقل بالذكر لأنّه به يتوصّل إلى معرفة الآيات، ومثله في الرعد والنحل والنور والروم = (2). وهنا اتّصلت الفاصلة بالسياق الداخلي للآية الكريمة.
ومنه كذلك قوله {(إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)} في الآية (173) وفي الأنعام {= فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ =} وذلك = لأن لفظ الربّ تكرر في الأنعام مرات، ولأنّ في الأنعام قوله = وهو الذي أنشا جنات =، وفيها ذكر الحبوب والثمار وأتبعها بذكر الحيوان من الضأن والمعز والإبل والبقر وبها تربية الأجسام (وكان) ذكر الربّ بها (أليق) = (3). وقول الفيروزآبادي هنا (أليق) دليل على المناسبة، ولاختلاف السياق اللّغوي والمقامي اختلفت الفاصلة بما يناسب كلا منهما في النّصين.
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 68.
(2) بصائر ذوي التمييز، 1/ 150.
(3) نفسه، 1/ 151.(1/280)
وقد تأتي الفاصلة لتأكيد مضمون الآية أو تثبيتها أو مطابقتها، كما في سؤال الرازي عن تعلّق قوله: {= إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ =} بقوله: = إنّا معكم = والجواب = هو توكيد له.
لأنّ قوله: = إنّا معكم = معناه الثبات على الكفر وقوله: = إنّما نحن مستهزءون = ردّ للإسلام، وردّ نقيض الشيء، تأكيد لثباته، أو بدل منه، لأنّ من حقّر الإسلام فقد عظّم الكفر. (1)
وفي موضع آخر: = هل قيل = إنّ الله مستهزئ بهم = ليكون مطابقا لقوله: = إنّما نحن مستهزءون =؟ الجواب = لأنّ (يستهزئ) يفيد حدوث الاستهزاء وتجدّده وقتا بعد وقت وهذه كانت نكايات الله فيهم = أولا يرون أنّهم يفتنون في كلّ = (2).
ومن المناسبة بين المضمون الآية والفاصلة كذلك ما يشبه أن يكون السبب أو النتيجة، ومن أمثلته الآية الكريمة {= وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُضِيعَ إِيمََانَكُمْ إِنَّ اللََّهَ بِالنََّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} = (3). قال الرازي: = ذكروا في وجه تعلّق هذين الاسمين بما قبلهما وجهين أحدهما: أنّه تعالى لمّا أخبر أنّه لا يضيع إيمانهم قال: {= إِنَّ اللََّهَ بِالنََّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ =} والرءوف الرحيم كيف يتصور منه هذه الإضاعة، وثانيهما: إنّه لرءوف رحيم فلذلك ينقلكم من شرع إلى شرع آخر وهو أصلح لكم = (4).
والفاصلة دورها أساسي في إحداث الاتساق، فهي من جهة مرتبطة مضمونيّا ومنطقيّا بالآية الكريمة، وهي من جهة أخرى آخر جزء يلقاه القارئ من الآية ولذا فدورها أساسي في تأكيد مضمون الآية، أو مطابقتها أو اختزالها ولذلك فهي عنصر هام في صنع الاتساق الداخلي للخطاب. يقول الرازي في إحدى الفواصل التي تنتهي بقوله (عليم): = وأمّا قوله = عليم = فالمعنى أنّه يعلم قدر الجزاء فلا يبخس المستحق حقه، لأنه تعالى عالم بقدره، وعالم بما يزيد عليه من التفضل، وهو أليق بالكلام ليكون لقوله تعالى
__________
(1) بصائر ذوي التمييز، 1/ 151.
(2) تفسير الرازي، 3/ 69.
(3) سورة البقرة، الآية (143).
(4) تفسير الرازي، 3/ 71.(1/281)
(عليم) تعلّق بشاكر، ويحتمل أنّه يريد أنه عليم بما يأتي العبد فيقوم بحقّه من العبادة والإخلاص، وما يفعله لا على هذا الحد، وذلك ترغيب في أداء ما يجب على شروطه وتحذير من خلاف ذلك (1). = فالفاصلة توكيد لما قبلها هنا وهي لائقة بموضعها كما وصفها الرازي، وهي أيضا تجيب على ما بفطن إليه السائل من أسئلة فيما يسمّى بالاحتراس في البلاغة.
ومن التناسب بين مضمون الآية وفاصلتها ما ورد عند ابن كثير في تفسير الآية {= وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصََارِهِمْ إِنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} = (2).
قال: وإنّما وصف الله تعالى بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع، لأنه حذّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير = (3).
وانظر إلى قوله = في هذا الموضع = وما تعنيه في الدرس السياقي، إنّ هذه الفاصلة مناسبة في هذا السياق، ولكنّها قد لا تكون كذلك في سياق آخر.
ومن صور التناسب التي نراها، المناسبة في اختيار الألفاظ والجمل، ويسأل الرازي هنا = لم قال: {= فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا =} (4)، ولم يقل فإن لم تأتوا به والجواب هو: = لأنّ هذا أخصر من أن يقال فإن لم تأتوا بسورة من مثله، ولن تأتوا بسورة من مثله = (5). وهذا التناسب يتّصل بموضوع الاستبدال اللفظي الذي أشرنا إليه في الفصل الأول من هذه
__________
(1) تفسير الرازي، 4/ 162.
(2) سورة البقرة، الآية 21.
(3) تفسير الرازي، 2/ 121.
(4) الآيتان (2423) من سورة البقرة ونصهما {= وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمََّا نَزَّلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدََاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النََّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النََّاسُ وَالْحِجََارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكََافِرِينَ =}.
(5) تفسير الرازي، 2/ 121.(1/282)
الدراسة، وإن كان الهدف منه هنا لا يبرز على المستوى الدلالي، وإنّما على المستوى التنظيمي للخطاب إن جاز التعبير وتمثّل هذا المستوى بإحداث الاختصار في بناء الآية.
ومن المناسبة في اختيار الألفاظ كذلك قوله: {= إِنِّي جََاعِلُكَ لِلنََّاسِ إِمََاماً =} قال الرازي: = وثبت أنّ الأنبياء في أعلى مراتب الإمامة، ومن ثم وجب حمل اللفظ هاهنا عليه، لأنّ الله تعالى ذكر لفظ الإمام هاهنا في معرض الامتنان، فلا بد أن تكون تلك النعمة من أعظم النعم ليحسن نسبته فوجب حمل هذه الإمامة على النبوة = (1). وهنا يبرز التناسب على المستوى المقامي والدلالي، إذ ارتبط باتّساق دلالة النّص مع السياق (في معرض الامتنان) وهو سياق الامتنان، وعلى المستوى الدلالي باعتبار النبوّة أعلى مراتب الإمامة. ومن أمثلته كذلك قوله تعالى: (واعدنا) في الآية (52) ومناسبتها كما يذكر الرازي من وجوه: أحدها أنّ الوعد وإن كان من الله فقبوله كان من موسى، وقبول الوعد يشبه الوعد، وثانيها لا يبعد أن يكون الآدمي بعد الله ويكون معناه يعاهد الله.
وثالثها أنه أمر جرى بين اثنين فجاز أن يقال واعدنا، ورابعها أنّ الله تعالى وعده الوحي وهو وعد الله المجيء للميقات إلى الطور = (2).
إنّ هذا التناسب يتبدّى في عدد من المستويات، أولها على المستوى الصرفي وهو استخدام واعدنا بدلا من وعدنا واتّساق ذلك مع المعنى الصرفي للصيغة = فاعل = بدلا من = فعل =، وهذا الاتّساق مبنيّ على المستوى الثاني من الاتّساق وهو المستوى المقامي (الواقع والعالم المحيط) فالمواعدة جرت بين طرفين (الله وموسى)، والثالث المستوى الاستبدالي، وهو استخدام الوعد بمعنى العهد. وتتآلف هذه المستويات أو تتبادل، وفي كل الحالات يتحصل الاتساق.
ومن أمثلة هذا التناسب قوله: (لعلّكم تتفكّرون في الدنيا والآخرة) في الآيتين (219) و (220) وفي آخر السورة {(لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)} في الآية (266). قيل: = لأنّه لما بيّن
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 73.
(2) نفسه، 3/ 73.(1/283)
في الأول مفعول التفكّر وهو قوله: {(فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ)} حذفه ممّا بعده للعلم (1). ويرتبط هنا التناسب بالمستوى التداولي وهو العلم المسبق لدى المخاطب.
ومن ألوان التناسب الأخرى ما يعرف بالمجاورة، وهذه المجاورة تأخذ أشكالا عديدة، وقد يكون ما ذكرناه آنفا صورا من هذه المجاورة، ونقصد به هنا تجاور الألفاظ وتناسبها وتجاور الجمل وتناسبها، وتجاور الآيات وتناسبها. ومن ذلك ما ذكره الرازي في تفسيره للآية {(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ)} (2). قال: (اعلم أنّه سبحانه وتعالى لمّا تكلّم في التوحيد والنبوّة تكلم بعدهما في المعاد، وبيّن عقاب الكافر وثواب المطيع ومن عادة الله تعالى أنه إذا ذكر آية في الوعيد أن يعقبها بآية في الوعد) (3). إنّ التضادّ هنا بين الوعد والوعيد لا يمنع من حدوث الاتّساق، بل إنّه الوسيلة التي حدث بها الاتساق فالشيء لا يظهر إلّا بضدّه. وهذا من صور التجاور داخل الآية الواحدة.
ومنه أيضا قول الرازي: (إنّما أردف عبادة الله بالإحسان إلى الوالدين لوجوه:
أحدها أنّ نعمة الله تعالى على العبد اعظم النعم فلا بد من تقديم شكره على شكر غيره ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعم النعم، وذلك لأن الوالدين هما الأصل، والسبب في كون الولد ووجوده كما أنّهما منعمان عليه بالتربية (4). وهو أيضا من تجاور الجمل داخل الآية الواحدة. وهو تجاور مبنيّ على الحقيقة الخارجية، وهي أنّ هذه النعم أعظم النعم على العبد فجاز تجاورها في السياق اللّغوي. ومن أمثلته في تفسير الألوسي للآية (6) قال:
{(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)} كلام مستأنف يتميّز به حال الكفرة المردة العتاة سيق إثر بيان بديع أحوال أضدادهم المتّصفين بنعوت الكمال الفائزين بمطالبهم في الحال والكمال، ولم يعطف على سابقه لأنّ المقصود من ذلك بيان اتّصاف الكتاب بغاية الكمال في الهداية
__________
(1) الفيروزآبادي. بصائر ذوي التمييز، 12/ 153.
(2) سورة البقرة، الآية (25).
(3) تفسير الرازي، 3/ 123.
(4) نفسه، 3/ 123.(1/284)
تقريرا لكونه يقينا لا مجال للشكّ فيه (1). وأمّا المجاورة على مستوى الآيات فيعبّر عنها المفسّرون بألفاظ عديدة منها (التعلّق)، (التناسب في مساق الآيات السابقة واللاحقة)، وغيرها. ومن أمثلتها عند الرازي في تفسيره للآية (158) {= إِنَّ الصَّفََا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعََائِرِ اللََّهِ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ =} قال: (إنّ تعلّق هذه الآية بما قبلها من وجوه (أحدها) أنّ الله تعالى يبيّن أنّه إنّما حوّل القبلة الى الكعبة ليتمّ انعامه على محمد صلّى الله عليه وسلم، وأمته، بإحياء شرائع إبراهيم ودينه على ما قاله = ولأتمّ نعمتي عليكم = وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم على ما ذكر في قصّة بناء الكعبة، وسعي هاجر بين الجبلين، فلمّا كان الأمر كذلك ذكر الله تعالى هذا الحكم عقيب تلك الآية. وثانيها أنّه تعالى لمّا قال: {= وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ =} الى قوله: {= وَبَشِّرِ الصََّابِرِينَ =}. قال:
{= إِنَّ الصَّفََا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعََائِرِ اللََّهِ =} وإنّما جعلهما كذلك لأنّهما من آثار هاجر واستدلّوا بذلك على أنّ من صبر على البلوى، لا بد وأنّ يصل الى أعظم الدرجات، وأعلى المقامات وهل مثل أفعال الحج من السعي بين الصفا والمروة، فذكر الله تعالى هذا القسم عقيب القسمين الأولين ليكون قد نبّه على جميع اقسام تكاليفه، وذاكرا لكلّها على سبيل الاستيفاء، والاستقصاء = (2). والتوجيه الأوّل لهذا التعلّق أو المجاورة تمّ عبر المقام (الحدث الخارجي) والثاني يتعلّق جزء منه بالمقام (آثار هاجر) والجزء الآخر منه يتعلّق بالمستوى الدلالي فإنّ تجاور هاتين الآيتين أفضى الى معنى جديد هو ثمرة الصبر على البلوى، وهذا يعود بنا الى العلاقات السياقيّة عند (دوسوسير) ثمّ عند (فيرث) وأثرها على دلالة النصّ.
ومن أمثلة هذا النوع من المجاورة (بين الآيات) ما ذكره الرازي حول الآية (195) {= وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَلََا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ =}.
يقول: = اعلم أنّ تعلق هذه الآية من وجهين: (الأوّل) انّه تعالى لما أمر بالقتال، والاشتغال بالقتال لا يتيسّر إلّا بآلات وأدوات يحتاج فيها إلى المال، وربما كان ذو المال عاجزا عن القتال، وكان الشجاع القادر على القتال فقيرا عديم المال، فلهذا أمر الله تعالى الأغنياء أن
__________
(1) تفسير الرازي، 4/ 157.
(2) نفسه.(1/285)
ينفقوا على الفقراء الذين يقدرون على القتال. و (الثاني) يروى أنه لمّا نزل قوله تعالى {= الشَّهْرُ الْحَرََامُ بِالشَّهْرِ الْحَرََامِ وَالْحُرُمََاتُ قِصََاصٌ =}. قال رجل من الحاضرين: والله يا رسول الله ما لنا زاد، وليس أحد يطعمنا، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينفقوا في سبيل الله، وأن يتصدّقوا، وأن لا يكفّوا أيديهم عن الصدقة ولو بشقّ تمرة في سبيل الله فيهلكوا، فنزلت هذه الآية على وفق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم = (1). ونجد الرازي في كلتا الحالتين يربط هذه الآية بما قبلها بواسطة مقتضى الحال، ففي المقتضى الأول تكون الآية قد نزلت مراعاة للحالة المادية التي عليها المقاتلون، وفي الثاني تكون جوابا عن سؤال سائل يقرر هذه الحالة (أي فقر المقاتل). وفي هاتين الحالتين تعدّ الآية جوابا عن استفسار مباشر أو غير مباشر فرضه المقام، وهي على هذا النحو تقترح حلا للصعوبة الماديّة التي يجتازها المسلمون (موارد للقتال).
أما ابن عاشور فنستشهد بتفسيره للآية (26) {= إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا بَعُوضَةً فَمََا فَوْقَهََا =} قال: (قد يبدو في بادئ النظر عدم التناسب بين مساق الآيات السالفة (9) ومساق هذه الآية فبينما كانت الآية السابقة ثناء على هذا الكتاب المبين، ووصف حاليّ المهتدين بهديه والناكبين عن صراطه وبيان إعجازه، والتحدّي به () إذا بالكلام قد جاء يخبر بأنّ الله تعالى لا يعبأ أن يضرب مثلا بشيء حقير أو غير حقير، فحقيق بالناظر عند التأمّل أن تظهر له عدم المناسبة لهذا الانتقال ذلك أنّ الآيات السابقة اشتملت على تحدّي البلغاء بأن يأتوا بسورة مثل القرآن، فلمّا عجزوا عن معارضة النظم سلكوا في المعارضة طريقة الطعن في المعاني، فتلبّسوا على الناس بأنّ في القرآن من سخيف المعاني ما ينزّه عنه كلام الله ليصلوا بذلك إلى إبطال أن يكون القرآن من عند الله بإلقاء الشك في نفوس المؤمنين (2). وأهمّ ما نستخلصه من هذا الشرح هو أنّ الآية (26) تقوم بوظيفتين
__________
(1) تفسير الرازي، 4/ 167.
(9) الآية السابقة لها هي: = {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ كُلَّمََا رُزِقُوا مِنْهََا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قََالُوا هََذَا الَّذِي رُزِقْنََا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشََابِهاً وَلَهُمْ فِيهََا أَزْوََاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} =.
(2) التحرير والتنوير، 1/ 357.(1/286)
معنويّتين: أولاهما تعضيد التحديد الذي ابتدأت به الآيتان (23) و (24)، والثانية جواب عن طعن الكافرين في القرآن، وبهذا المعنى ترتبط الآية بالسابقات إذ إنّها معضّدة لمعناها. ومن خلال الأمثلة السالفة يتّضح أنّ المفسّرين يبحثون في المناسبة بين آية وآية حين يبدو للقارئ أنّ العلاقة بين السابقة وبين اللاحقة منقطعة، ممّا يستوجب تبرير موقع الآية من سالفاتها، ولأجل ذلك يلجئون تارة الى أسباب النزول، وأخرى إلى شرح مطوّل بخلاف ما يفعلون حين تكون العلاقة متجلّية في سطح الخطاب، أو ثاوية في عمقه، على أنّ المناسبة لا تعني آليّا البحث عن العلاقة في المقام، وإنّما قد تستعمل ويقصد بها مجرّد العلاقة بين آيتين (الاتّساق الداخلي) دونما استنجاد بالمقام دائما.
ومن ألوان التناسب الأخرى التي يشيرون اليها المناسبة بين المقام وأسلوب الخطاب، ففي تأويل الرازي لمجيء النهي في الآية الكريمة {(وَلََا تَكُونُوا أَوَّلَ كََافِرٍ بِهِ)} قال:
= بل المقصود من هذه السياقة استعظام وقوع الجحد والإنكار ممّن قرأ في الكتب نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصفته (1). واستخدام أسلوب النهي هنا قد اقترن بالهدف أو الغرض من الخطاب وهو (الاستعظام)، وهو مبني على حوادث المقام وظروفه، وهو كون أولئك المخاطبين قد اطّلعوا على صفة النبيّ في كتبهم فلا ينبغي لهم أن يجحدوها، فضلا عن أن يكونوا أوّل كافر بها.
ومن أمثلة الأسلوب كذلك ما جاء في تفسير الآية {= وَقُولُوا لِلنََّاسِ حُسْناً =} عند الرازي قال: = يقال لم خوطبوا ب (قولوا) بعد الإخبار؟ والجواب من ثلاثة أوجه: أحدها أنه على طريقة الالتفات، وثانيها فيها حذف أي: قلنا لهم قولوا، وثالثها: الميثاق لا يكون إلّا كلاما كأنه قيل: قلت لا تعبدوا وقولوا (2). إنّ تأويل أسلوب الأمر بحدوث الالتفات، فيه التفات إلى القارئ، وهو من عناصر المقام الخارجيّ، وتأويله بحدوث الحذف فيه نظر إلى مستوى الدلالة والتركيب، وأمّا التأويل الثالث فمرتبط بالواقعة الخارجيّة تماما.
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 125.
(2) نفسه، 3/ 167.(1/287)
ومن أمثلة المناسبة بين الأسلوب والمقام ما نراه عند ابن قيم الجوزية في (بدائع التفسير) في تفسيره للآية {= أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ =} قال: = وقوله تعالى: {= أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ =} أخرجه مخرج الاستفهام الاستنكاري، وهو أبلغ من النفي والنهي وألطف موقعا كما ترى غيرك يفعل فعلا قبيحا فتقول له: لا يفعل هذا عاقل، أيفعل هذا من يخاف الله والدار الآخرة؟ = (1) فالموقع (السياق) هو الذي يجعل أسلوب الاستفهام الاستنكاري أنسب من غيره من الأساليب في هذه الآية، ثمّ نلاحظ مقارنة هذا السياق مع خطابات الناس ثمّ السؤال عمّا يفترض أن يقال في خطاباتهم في سياق ممايل، ليعضّد أنّ الآية جاءت لتخاطب الناس في مثل ما اعتادوا في ظروف مشابهة.
وأمّا تناسب النصّ (الآية) مع المقام، ويقصد به المفسرون مقام الخطاب او مقتضى حال الخطاب، فأمثلته كثيرة. فإضافة إلى الأمثلة التي ذكرت سابقا ما نراه عند ابن كثير في تفسيره للآية (33) {= وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا =} يقول: = هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة بما اختصّه من علم أسماء كل شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له، وإنّما قدّم هذا الفصل على ذلك لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليقة حين سألوا عن ذلك، فأخبرهم تعالى بأنّه يعلم ما لا يعلمون، ولهذا ذكر الله هذا المقام عقيب هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليقة حين سألوا عن ذلك فأخبرهم تعالى بأنّه يعلم ما لا يعلمون، ولهذا ذكر الله هذا المقام عقيب هذا، ليبيّن لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم فقال تعالى: {= وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا =} (2).
وفي البحر المحيط لأبي حيّان في تفسيره للآيات من (1611) ما يمكن أن يكون مثلا مناسبا هنا يقول: = وفي مقابلة استهزائهم بالمؤمنين باستهزاء الله بهم ما يدلّ على عظم شأن المؤمنين وعلوّ منزلتهم، وليعلم المنافقون أنّ الله هو الذي يذبّ عنهم ويحارب من حاربهم، وفي افتتاح الجملة باسم الله التفخيم العظيم، حيث صدّرت الجملة به،
__________
(1) ابن قيم الجوزية، بدائع التفسير، 1/ 425.
(2) تفسير ابن كثير، 1/ 63.(1/288)
وجعل الخبر فعلا مضارعا يدلّ عندهم على التجدّد والتكرّر، فهو أبلغ في النسبة من الاستهزاء المخبر به في قولهم، ثمّ في ذلك التنصيص على الذين يستهزئ الله بهم إذ عدّى الفعل إليهم فقال: {= يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ =} وهم لم ينصّوا حين نسبوا الاستهزاء إليهم على من تعلّق به الاستهزاء، فلم يقولوا إنّما نحن مستهزءون، وذلك لتحرّجهم من إبلاغ ذلك للمؤمنين فينقمون ذلك عليهم، فأبقوا اللفظ محتملا، أن لو حوكموا على ذلك لكان لهم مجال في الذبّ عنهم أنّهم لم يستهزءوا بالمؤمنين. ألا ترى إلى مداراتهم عن أنفسهم بقولهم {= آمَنََّا بِاللََّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ =} (1). وهنا يبرز أكثر من عنصر على أكثر من مستوى فاختيار طريقة صياغة النّص تتّصل بالمستوى التداولي = عظم شأن المؤمنين وعلوّ منزلتهم =، و = التفخيم العظيم = = التحرّج = ويتّصل بالغرض وهو التأثير، ثم الارتباط التام بالموقف الذي دار في السياق الخارجي من حيث أنّ الإدراكات والعواطف والأفكار التي كانت تحتمل في نفوس المخاطبين تبدّت في النصّ، من خلال أسلوب المقابلة والافتتاح واستخدام الفعل المضارع، أي تبدّت في أثر واضح على المستوى السطحي للخطاب.
ومن صور التناسب كذلك ما يتّصل بتركيب الجملة وانظر إلى إشارة الرازي إلى هذا في تفسيره للآية = {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} = قال: = وأمّا كلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها، ففيها فائدتان: الأولى:
معاضدة حرف النداء بتأكيد معناه، والثانية: وقوعها عوضا مما يستحقّه أي من الإضافة وإنّما كثر في كتاب الله النداء على هذه الطريقة لاستقلاله بهذه التأكيدات والمبالغات، فإنّ كل ما نادى الله تعالى به عباده من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد، واقتصاص أخبار المتقدّمين بأمور عظام، وأشياء يجب على المستمعين أن يتيقّظوا لها مع أنّهم غافلون عنها، فلذا وجب أن ينادوا بالأبلغ الآكد = (2). وهنا يبرز دور السامع أو القارئ بوضوح داخل التراكيب والأساليب في النصّ. وكل ذلك مرتبط كذلك بهدف النّص وهو هنا التأكيد والتنبيه.
__________
(1) أبو حيان الأندلسي: محمد بن يوسف، البحر المحيط في التفسير، بعناية الشيخ عرفات العشا حسونة، ط 3، دار الفكر للنشر والتوزيع، بيروت / لبنان، 1992، 1/ 115.
(2) تفسير الرازي، 3/ 267.(1/289)
ويؤدّي الحذف دورا مهمّا في صنع التناسب في النصّ القرآني، ومنه قوله تعالى: {= كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللََّهِ =} قال الرازي = فيه حذف. والمعنى فقلنا لهم أو قال لهم موسى كلوا واشربوا وإنّما قال كلوا لوجهين: أحدهما لما تقدم من ذكر المنّ والسلوى فكأنّه قال: كلوا من المن والسلوى الذي رزقكم الله بلا تعب ولا نصب، واشربوا من هذا الماء. والثاني: أنّ الاغذية لا تكون إلّا بالماء، فلمّا أعطاهم الماء فكأنه تعالى أعطاهم المأكول والمشروب = (1). فالحذف علامة داخل النّص، تحيل إلى معلومات سابقة، فالعنصر المحذوف موجود في جزء سابق من النّص أو موجود في معرفة القارئ وذهنه أو موجود في سياق المقام (السياق الخارجي)، أو موجود في سياق الثقافة وفي كلّ الحالات حين يحدث الحذف فإنّ الجزء المحذوف مفهوم ضمنا للقارئ، وذكره مرّة أخرى يخلخل الاتساق، ومن هنا اعتبر الحذف أحد الروابط في اتّساق الخطاب.
ومن أمثلة الحذف كذلك ما جاء به الطبري في تفسيره للآية (17) يقول: = فإن قال لنا قائل: إنّك ذكرت أنّ معنى قول الله تعالى = {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً فَلَمََّا أَضََاءَتْ مََا حَوْلَهُ} = خمدت وانطفأت وليس ذلك بموجود في القرآن فما دلالتك على أنّ ذلك معناه؟
قيل: قد قلنا إنّ من شأن العرب الإيجاز والاختصار إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفت وتركت = (2). إنه السياق يترك بعض الفراغات ولكنّها تكون مملوءة بالنسبة للقارئ، فالمقال يكمل بعضه بعضا، وهو ما يعبّر عنه في علم الدلالة بالسياق الضمني.
ومن أمثلته كذلك ما نجده عند أبي جعفر الطوسي في تفسيره للآية {= وَأَغْرَقْنََا آلَ فِرْعَوْنَ =} قال: قوله {= وَأَغْرَقْنََا آلَ فِرْعَوْنَ =} (3). وإن لم يكن في ظاهره أنّه أغرق فرعون فهو دالّ عليه، وكأنه قال: = وأغرقنا آل فرعون وهو معهم وأنتم تنظرون = فاختصر لدلالة
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 97.
(2) نفسه، 3/ 267.
(3) سورة البقرة، الآية (50).(1/290)
الكلام عليه، لأنّ الغرض مبني على إهلاك فرعون وقومه = (1). فالحذف يحدث عند دلالة السياق على المادّة المحذوفة اعتمادا على فهم القارئ. كما أنّ هذا الحذف له تأثير في اتّساق النصّ وترابطه.
(ب 4) التناصّ والسياق
إنّ أي تغيير في المقام أو السياق الخارجي أو الداخلي يترتب عليه اختلاف بنية الخطاب في المستويات اللغوية المختلفة، وتتنوع التأثيرات داخل هذه المستويات بتنوع تغيرات المقام التي تتراوح ما بين تغير في الزمان أو المكان، أو المخاطب أو المخاطب، أو أحداث الواقع، أو الغرض، أو اختلاف جزء من السياق اللغوي الداخلي قبل الآية المعنية أو بعدها. مما يعزز نظرتنا بأن النص القرآني كل واحد، وعلينا أن نتعامل معه كذلك. وقد رصد المفسرون هذه المعادلة من خلال الموازنة بين نصّين يبدوان متشابهين ولكنّهما يفترقان في بعض التّبدلات والصيغ اللّغوية لاختلاف السياق المقامي بينهما في الغالب، وهو ما يمكن أن يدخل فيما يسمّى بالتناص في علم النقد، ويهمّنا هنا التركيز على العامل الذي أدّى إلى هذا الاختلاف بين النصّين وهو في الغالب اختلاف المقام بعناصره المختلفة.
فمن أمثلة نغير الخطاب لتغير المخاطب قوله تعالى: {= يُذَبِّحُونَ =} (2). بغير واو هنا على البدل من (يسومونكم) ومثله في الأعراف {(يُقَتِّلُونَ)} (3). وفي إبراهيم {= وَيُذَبِّحُونَ =} (4).
بالواو قال الفيروزآبادي: = لأنّ ما في هذه السورة والأعراف من كلام الله تعالى فلم يرد تعداد المحن عليهم، والذي في إبراهيم من كلام موسى فعدّد المحن عليهم وكان مأمورا
__________
(1) الطوسي: أبو جعفر محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق آغا بزرك الطهراني، ط 1، النجف، 1957، 1/ 119.
(2) سورة البقرة، الآية (49).
(3) سورة الأعراف، الآية (141).
(4) سورة إبراهيم، الآية (6).(1/291)
بذلك في قوله: {(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيََّامِ اللََّهِ)} (1). إنّ إختلاف المخاطب في كل من النصّين (مع الأخذ بعين الاعتبار أن القرآن كلّه كلام الله) ثمّ اختلاف طبيعة الموقف إلى حدّ ما، أدّت إلى إحداث تغيير في صيغة الخطاب.
ويتغير الخطاب تبعا لتغير أحداث الواقع ومنه قوله: {= وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هََذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا =} (2). بالفاء وفي الأعراف {(وَكُلُوا)} (3). بالواو = لأنّ الدخول سريع الانقضاء فيعقبه الأكل وفي الأعراف {(اسْكُنُوا)} والمعنى أقيموا فيها، وذلك ممتد فذكر بالواو، أي أجمعوا بين السكنى والأكل وزاد في البقرة {(رَغَداً)} لأنّه تعالى أسنده إلى ذاته بلفظ التعظيم بخلاف الأعراف، فإنّ فيه {= وَإِذْ قِيلَ =} (4). وقال الرازي: = قال في البقرة = {(ادْخُلُوا)} وفي الأعراف {= اسْكُنُوا =} لأنّ الدخول مقدّم على السكون ولا بدّ منهما فلا جرم ذكر الدخول في السورة المتقدّمة والسكون في السورة المتأخّرة = (5). إنّ الاختلاف بين الواو والفاء بين الموضعين جاء بسبب اختلاف الموقف أو الحدث ففي سورة (البقرة) حدث الدخول، والدخول سريع لا يحتاج وقتا طويلا، فأعقبه الأكل مباشرة ولذا استعمل الفاء، وأمّا في الأعراف فعمليّة السكون أو الإقامة فتحتاج وقتا طويلا، ولذلك استخدم معها الواو. أمّا لماذا ذكر الدخول في (البقرة) والسكون في الأعراف، فلأن الدخول مرحلة تسبق السكون، فعمليّة ترتّب الحدث ووقائعه في خارج النّص أدّت إلى اختلاف التعبير اللغوي داخل النّص، مع أنّ الفعل بقي فعل أمر إلّا أنّ الفعل نفسه اختلف ما بين دخول وسكون، فالنصّ الأول يصف مرحلة أخرى معينة من المقام، بينما النصّ الثاني يصف
__________
(1) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 142.
(2) سورة البقرة، الآية (58).
(3) سورة الأعراف، الآية (161).
(4) الفيروزآبادي، 1/ 143.
(5) تفسير الرازي، 4/ 80.(1/292)
مرحلة أخرى متقدّمة قليلا أوجبت تغير الفعل، ولأنّ (البقرة) تأتي قبل الأعراف فقد اختصت بالفعل الذي يأتي أولا. وأما قوله في البقرة (رغدا) وحذفه في الأعراف، فقد ذكر الرازي إضافة لما سبق أن ذكرناه من قول الفيروزآبادي = لأنّه لما أسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنعام الأعظم وهو أن يأكلوا رغدا، وفي الأعراف لمّا لم يسند الفعل إلى نفسه لم يذكر الإنعام الأعظم فيه = (1). ففي الأعراف جاءت الصيغة {= وَإِذْ قِيلَ} = مبنيّة للمجهول أمّا في البقرة فقد جاء الخطاب مباشرا من الله فاقتضى زيادة هذا الإنعام العظيم (كلوا رغدا) لمناسبته للمخاطب سبحانه.
وقد يكون التغير في بنية الخطاب لإحداث التناسب مع السياق اللغوي العام الذي ورد فيه، ومنه في هذه السورة {= فَأَنْزَلْنََا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا =} وفي الأعراف {= فَأَرْسَلْنََا =}
= لأنّ لفظ الرسول والرسالة كثرت في الأعراف فجاء ذلك على طبق ما قبله، وليس كذلك في سورة البقرة = (2). ومن ناحية أخرى فقد قال تعالى في سورة البقرة: = {الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا =} (3). وفي الأعراف {(ظَلَمُوا مِنْهُمْ) =} موافقة لقوله {= وَمِنْ قَوْمِ مُوسى ََ =} ولقوله = {مِنْهُمُ الصََّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذََلِكَ =} (4). إنّ قوله {= أَرْسَلْنََا =} فيه تأكيد على الاتساق الداخلي بين أجزاء النصّ القرآني كلّه، فإذا كان الحديث عن الرسالة شائع في ثنايا سورة الأعراف كلّها كان من الاتّساق الموضوعي أن يقول في هذه الآية {= فَأَرْسَلْنََا =}، ولما ابتدأت سورة البقرة بالحديث عن التنزيل وافق هنا قوله {= فَأَنْزَلْنََا =}. ومن ناحية أخرى فإنّ سورة الأعراف فيها (منهم) وهو حرف تبعيض هنا لأنّ قوم موسى فيهم الظالمون وفيهم الصالحون، كما أوردت السورة نفسها، ولمّا لم يرد مثل هذا التبعيض في الفقرة فلم يقترن الفعل (ظلموا) ب
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 93.
(2) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 143.
(3) سورة البقرة، الآية (59).
(4) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 143.(1/293)
(من). إنّ طبيعة أولئك القوم فرضت استخدام هذا الحرف هنا، فالمقام قد يتدخّل في اختيار الفعل وزمنه وكذلك في تحديد الأدوات المناسبة.
ومنه كذلك قوله في البقرة {= وَسَنَزِيدُ =} بواو، وفي الأعراف {(سَنَزِيدُ)} من غير واو، وكلاهما واقع في فاصلة الآية، وقد قال الرازي في تأويل ذلك. = وأمّا في الأعراف فقد ذكر فيه أمرين: أحدهما قول الحطّة وهو إشارة إلى التوبة، وثانيهما دخول الباب سجّدا وهو إشارة إلى العبادة، ثمّ ذكر جزاءين: أحدهما قوله تعالى: {= نَغْفِرْ لَكُمْ خَطََايََاكُمْ =}
وهو واقع في مقابلة قول الحطّة، والآخر قوله {= وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ =} وهو واقع في مقابلة دخول الباب سجّدا، فترك الواو يفيد توزّع كلّ واحد من الجزاءين على كلّ واحد من الشرطين، وأمّا في سورة البقرة فيفيد كون مجموع المغفرة والزيادة جزاء واحدا لمجموع الفعلين أعني دخول الباب وقول الحطّة = (1). وهذا أيضا مظهر آخر من مظاهر التضافر بين الاتّساق المقامي والاتساق اللّغوي. وشرح الرازي ليس في حاجة لمزيد إضاءة.
ومنه قوله في سورة البقرة {= بِمََا كََانُوا يَفْسُقُونَ =}، وفي سورة الأعراف {= بِمََا كََانُوا يَظْلِمُونَ =} قال الرازي في جوابه: = أنّه تعالى لمّا بيّن في سورة البقرة كون ذلك الظلم فسقا، اكتفى بذكر الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدّم من البيان في سورة البقرة = (2). وهذا يفضي بنا إلى تكامل النصّ القرآني واعتباره نصّا واحدا متآلفا، فما سبق الإشارة إليه في نصّ يتكرّر في النصّ اللاحق.
ومنه قوله في البقرة {= فَانْفَجَرَتْ =}. وفي الأعراف {= فَانْبَجَسَتْ =} قال الفيروزآبادي = لأنّ الانفجار انصباب الماء بكثرة، والانبجاس ظهور الماء = (3). وأمّا الرازي فيقول:
= وبينهما تناقض لأنّ الانفجار خروج الماء بكثرة، والانبجاس خروجه قليلا، والجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: الفجر الشقّ في الأصل، والانفجار الانشقاق، ومنه الفاجر الذي
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 93.
(2) نفسه، 3/ 94.
(3) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 144.(1/294)
يشقّ عصا المسلمين بخروجه إلى الفسق، والانبجاس اسم للشقّ الضيق القليل، فهما مختلفان اختلاف العام والخاص فلا يتناقضان. وثانيهما: لعلّه انبجس أوّلا ثم انفجر ثانيا وكذا العيون يظهر الماء فيها قليلا ثم يكثر لدوام خروجه، وثالثها لا يمتنع أنّ حاجتهم كانت تشتدّ إلى الماء فينفجر، أي يخرج الماء كثيرا، ثمّ كانت تقلّ فكان الماء ينبجس أي يخرج قليلا = (1). إنّ الهدف الأساسي أن لا يكون هنالك تناقض بين مكوّنات النصّ القرآني، وهو ما يدخل ضمن (الاتّساق الداخلي للنص) وهو اتساق دلالي هنا، والأمر الآخر أنّ الحقيقة الخارجيّة وحدوثها ضمن شكل معيّن وآليّة معيّنة، جعل النّصين يختلفان في اختيار المفردات.
ومن أمثلته كذلك قوله: {= إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا وَالنَّصََارى ََ وَالصََّابِئِينَ =} (2). وفي سورة الحج {(وَالصََّابِئِينَ وَالنَّصََارى ََ)} (3). وقال في المائدة {= وَالصََّابِئُونَ وَالنَّصََارى ََ =} (4). قال الفيروزآبادي: = لأنّ النّصارى مقدّمون على الصابئين في الرتبة، لأنّهم أهل الكتاب، فقدّمهم في البقرة، والصابئون مقدّمون على النّصارى في الزمان، لأنّهم كانوا قبلهم فقدّمهم في الحج، وراعى في المائدة المعنيين فقدّمهم في اللّفظ وأخّرهم في التقدير، لأنّ تقديره: والصابئون كذلك. قال الشاعر:
فمن كان أمسى بالمدينة رحله ... فإنّي وقيّار بها لغريب
أراد إني لغريب بها، وقيّار كذلك، فتأمّل فيها وفي أمثالها يظهر لك إعجاز القرآن = (5). إنّ المفسّر هنا اتّكأ على المقام في عنصرين من عناصره وهما: الرتبة الدينيّة أو
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 96.
(2) سورة البقرة، الآية (62).
(3) سورة الحج، الآية 17.
(4) سورة المائدة، الآية (69).
(5) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 145.(1/295)
الاجتماعيّة. والثاني: هو الوجود الزماني وهو ما تكرّر ذكره عند المفسّرين. إنّ تنويعنا للأمثلة في هذا الموضوع سببه أنّ الأثر النصّي الذي يتركه تغيّر المقامات يختلف بين مثال وآخر، ونحن نحاول أن نبيّن أنّ التغيّر داخل النّص يطال كلّ مستوياته، وكلّ مكوّناته، وكلّ ما يتّصل به.
ومن تغير الخطاب تبعا لتغير حال المخاطب قوله {= وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ =} (1) في سورة البقرة، وفي سورة الجمعة {= وَلََا يَتَمَنَّوْنَهُ =} (2). قيل: = لأنّ دعواهم في هذه السورة بالغة قاطعة، وهي كون الجنّة بصفة الخلوص، فبالغ في الردّ عليهم بلن، وهو أبلغ ألفاظ النفي، ودعواهم في الجمعة قاصرة متردّدة، وهي زعمهم أنّهم أولياء الله فاقتصروا على (لا). (3) إنّ اعتقاد المخاطب جدّ مهمّ في اختيار الأسلوب اللّغوي الذي يختاره المخاطب، فحين بالغوا في ظنّهم جزم في الردّ عليهم بصيغة نفي قاطعة.
ومن أمثلة هذا النوع من التغير أيضا قوله في سورة البقرة {= بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} = (4). وفي غيرها (لا يعقلون) و (لا يعلمون) قال: = لأنّ هذه نزلت فيمن نقض العهد من اليهود، ثمّ قال {(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ)}، لأنّ اليهود بين ناقض عهد، وجاحد حقّ، إلّا القليل، منهم عبد الله بن سلّام وأصحابه، ولم يأت هذان المعنيان معا في غير هذه السورة = (5). إنّ المفسّر اعتمد في رصده لهذين السياقين على تحديد المخاطب من خلال سبب النزول (المقام) ومواصفات هؤلاء الجحد ونقض الحق إلّا قليلا منهم،
__________
(1) سورة البقرة، الآية (95).
(2) سورة الجمعة، الآية (7).
(3) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 146.
(4) سورة البقرة، الآية (100).
(5) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز 1/ 146.(1/296)
فناسب قوله = لا يؤمنون =. ومن أمثلته كذلك قوله {= وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ =} (1). وفي السورة نفسها {= مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ =} (2). فجعل مكان قوله (الذي) (ما) وزاد (من). قيل: = لأنّ العلم في الآية الأولى علم بالكمال، وليس وراءه علم لأنّ معناه بعد الذي جاءك من العلم بالله وصفاته وبأنّ الهدى هدى الله. ولفظ (الذي) أليق به من لفظ (ما) لأنّه في التعريف أبلغ، وفي الوصف أقعد، لأنّ (الذي) تعرّفه صلته، فلا ينكّر قطّ، ويتقدّمه أسماء الإشارة، فيكتنف (الذي) بيانان: الإشارة والصلة، ويلزم الألف واللام ويثنّى ويجمع، وأمّا (ما) فليس له شيء من ذلك، لأنّه يتنكّر مرّة ويتعرّف أخرى، ولا يقع وصفا لأسماء الإشارة، ولا يدخله الألف واللام ولا يثنّى ولا يجمع، وخصّ الثاني ب (ما) لأنّ المعنى: من بعد ما جاءك من العلم بأنّ قبلة الله هي الكعبة، وذلك قليل من كثير من العلم، وزيدت معه (من) التي لابتداء الغاية، لأنّ تقديره: من الوقت الذي جاءك فيه العلم بالقبلة. لأنّ القبلة الأولى نسخت بهذه الآية، وليس الأوّل موقتا بوقت، وقال في سورة الرعد {(بَعْدِ مََا جََاءَكَ)} فعبّر بلفظ (ما) ولم يزد (من) لأنّ العلم هاهنا هو الحكم العربي أي القرآن، وكان بعضا من الأول ولم يزد فيه (من) لأنّه غير موقت (3).
إنّ اختلاف السياق بين الآيتين أدى إلى إحداث تغييرين في هذا النصّ: الأوّل دخول (الذي) في مقابل (ما) في النصّ، والثاني دخول (من) في النصّ الثاني. فكلاهما تغيير تركيبي في المستوى النحوي، أمّا السياق فجاء اختلافه من ناحية نوع العلم فالعلم الأوّل هو العلم الكامل والعلم الثاني نوع من العلم فحسب، والاختلاف الآخر في السياق يتّصل بالزمن فالعلم الكامل لا يحدّه زمن، وأمّا مسألة القبلة فقد اتّصل تحويلها بزمن معيّن ولذلك أضيفت (من).
__________
(1) سورة البقرة، الآية (120).
(2) سورة البقرة، الآية (145).
(3) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 146.(1/297)
ومن أمثلته أيضا الآية (170) {= أَوَلَوْ كََانَ آبََاؤُهُمْ لََا يَعْقِلُونَ شَيْئاً =} وفي المائدة {(لََا يَعْلَمُونَ)} (1). وذلك لأنّ دعوى المخاطبين في المائدة أبلغ لقولهم {= حَسْبُنََا مََا وَجَدْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا =} فادّعوا النهاية بلفظ (حسبنا) فنفى ذلك بالعلم وهو النهاية، وقال في البقرة {= بَلْ نَتَّبِعُ مََا أَلْفَيْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا =} ولم يكن النهاية، فنفى بما هو دون العلم ليكون كلّ دعوى منفيّة بما يلائمها = (2).
ومنه أيضا قوله {= إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ الْكِتََابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولََئِكَ مََا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النََّارَ =} (3). وفي آل عمران {= أُولََئِكَ لََا خَلََاقَ لَهُمْ =} (4). والسياق المختلف بينهما هو حال المخاطبين، فالمنكر الذي ورد في سورة البقرة أكثر، والتوعّد فيها أكثر = (5). ومما يتعلّق بحال المخاطب أيضا التناصّ الحاصل بين قوله: {= وَيَكُونَ الدِّينُ لِلََّهِ =} في الآية (193) من سورة البقرة والآية (39) من سورة الأنفال في قوله {= كُلَّهُ لِلََّهِ =} وذلك لأنّ القتال في هذه السورة مع أهل مكّة، وفي الأنفال مع جميع الكفار مقيّدة بقوله (كلّه) والأثر السطحي للخطاب ظهر في اختلاف الأسلوب، فهو في نصّ مؤكّد وفي نص آخر غير مؤكّد. وهذا يقع في المستوى النحوي التركيبي للجمل.
وقد يكون التغيير لهدف تداولي ومنه في الآية (160) من سورة البقرة قوله {= إِلَّا الَّذِينَ تََابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا =}. = وليس في هذه السورة {= مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ =} وفي غيرها = من بعد ذلك = لأنّ (قبله) (من بعد ما بيّنه) فلو أعاد ألبس = (6). واللبس متعلّق لا ريب بالقارئ، وبما
__________
(1) سورة المائدة، الآية (104).
(2) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 150.
(3) سورة البقرة، الآية (174).
(4) سورة البقرة، الآية (174).
(5) سورة آل عمران، الآية (77).
(6) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 149.(1/298)
أنّ السياق اللّغوي في نصّ البقرة قد أوضح فلا ضرورة لتكرار ذلك في هذا الموضع. فهنا الاختلاف بين هذين النّصين بني على القارئ وهو جزء من المقام، وعلى السياق اللّغوي.
وقد يكون الأثر الذي يحدثه تغير السياق اختلافا على المستوى الدلالي، ومن أمثلته قوله (تقربوها) في الآية (187) من سورة البقرة (ولا تعتدوها) في الآية (229) في السورة نفسها، وذلك لأنّ الأولى جاءت في سياق النهي، والثانية جاءت في سياق الأمر، فالأولى تتحدّث عن مباشرة النساء في رمضان وهو نهي، والثانية تتعلّق ببيان عدد الطلقات بخلاف ما كان عليه العرب من المراجعة بعد الطلاق من غير عدد، وما كان أمرا أمر بترك المجاوزة وهو الاعتداء = (1).
إن قولة الفيروزآبادي = ليكون لكلّ دعوى ما يلائمها = تلخّص المعادلة التي يتعلّق بها النصّ والسياق، فكلّ أثر في السياق يحدث تأثيرا مختلفا داخل بنية النصّ.
(ب 5) الاتّساق بين النصّ والمخاطب
ورد معنا آنفا وفي كثير من المواضع استحضار دور المخاطب في صياغة الخطاب، ونركّز هنا على الأشكال التي أخذها هذا الدور لدى المفسّرين، ومن ذلك أنّ عمل المفسّر غالبا يبدأ من تحديد المخاطب بالآية أو الآيات، ثمّ شرح الآيات في ضوء تحديد المخاطب، ثم شرح التناقض أو الاتّفاق بين النصّ من جهة، وطبيعة المخاطب من جهة أخرى، وإذا اختلف في المخاطب بهذه الآيات كان المفسّر يرجح أحد الآراء بالعودة إلى السياق.
ويتصور المفسّر غالبا وجود سائل يسأل دائما عن جزء من النصّ فيأتي الجواب في جزء آخر منه، وهذا يوحي بأنّ هذا النّص قابل للقراءة في سياقات متجدّدة من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ النصّ يتصور تجاوب المخاطب معه وتترتبّ أجزاء النّص على هذا الأساس، ومن ذلك عند الرازي في تفسيره للآية {= هُدىً لِلْمُتَّقِينَ =} قال: = حين خصّ المتقيّن
__________
(1) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 152.(1/299)
بأنّ الكتاب هدى لهم كان لسائل أن يسأل فيقول: = ما السبب في اختصاص المتقين بذلك؟
فوقع قوله {= الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ =} إلى قوله {= وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ =} جوابا عن هذا السؤال فإن قيل أي سبب في أن صار الموصوفون فأجيب بأنّ الموصوفين = (1).
وحين يختلف المفسّرون في تحديد المخاطب يسارعون إلى ترجيح أحد الآراء بالاستناد إلى النصّ أو إلى قراءة النّص في ضوء اختلاف المخاطب في كلّ قراءة، ومن أمثلته أنّ الرازي يذكر اختلاف أهل التفسير في المراد بقوله: {= الَّذِينَ كَفَرُوا =} فذهب فريق إلى أنّ المقصود هم رؤساء اليهود المعاندون، وذهب فريق آخر إلى أنّ المراد هم قوم من المشركين كأبي جهل وأبي لهب، والوليد بن المغيرة، وأضرابهم. ويحاول الرازي أن يقرأ النصّ في ضوء المخاطب الأوّل (اليهود) فقال: = إنّهم رؤساء اليهود المعاندون الذين وصفهم الله تعالى بأنّهم يكتمون الحقّ وهم يعلمون = وقراءة أخرى في ضوء المخاطب الثاني (المشركون) قال: = وكان عليه السلام حريصا على أن يؤمن قومه جميعا ثم إنّه سبحانه يبيّن له أنّهم لا يؤمنون ليقطع طمعه عنهم ولا يتأذّى بسبب ذلك فإنّ اليأس إحدى الراحتين = (2).
ومن أمثلته كذلك تفسير الرازي للآية = {وَإِذََا خَلَوْا إِلى ََ شَيََاطِينِهِمْ قََالُوا إِنََّا مَعَكُمْ} = (3). ويذكر الخلاف حول القائل {= إِنََّا مَعَكُمْ =} أهم كلّ المنافقين أو بعضهم؟ فالرأي أنّهم صغار المنافقين ومن يقول في الشياطين أنّ المراد بهم الكفّار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كلّ المنافقين ولا شبهه في أنّ المراد بشياطينهم أكابرهم، وهم إمّا الكفار، وإمّا أكابر المنافقين لأنّهم هم الذين يقدرون على الإفساد في الأرض = (4). وهكذا يستند الرازي في تحديد المخاطب إلى النصّ نفسه.
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 33.
(2) نفسه، 3/ 40.
(3) سورة البقرة، الآية 14.
(4) تفسير الرازي، 3/ 65.(1/300)
ويجهد المفسّر نفسه في إعادة الضمائر إلى أصحابها دائما، وفي التعرّف على موجّه الخطاب، ولمن يوجّه هذا الخطاب ففي تفسير الآية = {وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ لََا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قََالُوا إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} {أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلََكِنْ لََا يَشْعُرُونَ} = (1). يتساءل الرازي = من القائل: لا تفسدوا في الأرض ومن القائل:
إنّما نحن مصلحون =. وأمّا عن السؤال الأوّل فيجيب: = فمنهم من قال: ذلك القائل هو الله تعالى، ومنهم من قال: هو الرسول عليه السلام، ومنهم من قال بعض المؤمنين = وكلّ ذلك محتمل =. ويستبعد أن يكون القائل من لا يختصّ بالدين والنصيحة ويرجّح أن يكون الأقرب هو أنّ القائل لهم ذلك من شافههم بذلك، ويضيف = فإما أن يكون الرسول عليه السلام بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك فنصحهم فأجابوا بما يحقّق إيمانهم وإمّا أنّ يقال إن بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبله منهم، وكان ينقلب واعظا لهم قائلا لا تفسدوا = (2). ويتمّ الاستئناس عند تحديد المخاطب في آية أو مجموعة آيات بجزء آخر من النصّ، أي عن طريق التماس الاتّساق اللّغوي في النصّ. ومن ذلك ما جاء في تفسير الرازي للآية = {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنََّا بِاللََّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمََا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} = يذكر أنّ ذلك في وصف المنافقين، ويعزّز ذلك بأن النّص بدأ بذكر المؤمنين المخلصين، ثمّ أتبعهم بالكافرين، ثم ها هو يصف حال المنافقين = (3). ويصرّح ابن كثير بهذا الاستئناس بمجمل السّياق اللّغوي في تفسيره للآية (118) = {وَقََالَ الَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ لَوْلََا يُكَلِّمُنَا اللََّهُ أَوْ تَأْتِينََا آيَةٌ =}
قال: = النّصارى تقوله، وهو اختيار ابن جرير لأنّ السياق فيهم = (4).
ويربط المفسّرون بين النصّ وطبيعة المخاطب والمخاطب، فيقف المفسّرون كثيرا فيما يليق بحقّ الله، وما لا يليق، وما يمكن أن يكون بحقّ العباد أو لا يمكن. وكيف يتشكّل
__________
(1) سورة البقرة، الآية (11).
(2) الكشاف، 1/ 104.
(3) تفسير الرازي، 2/ 58.
(4) تفسير ابن كثير، 1/ 141.(1/301)
النّص وفقا لهذا، ومنه عند ابن كثير في قوله تعالى: {= يُخََادِعُونَ اللََّهَ =} يقول: ومخادعته ممتنعة من وجهين = ثم يؤوّل مجيء الآية على وجهين: = الأوّل أنه تعالى ذكر نفسه، وأراد به رسوله على عادته في تفخيم وتعظيم شأنه. والثاني: أن يقال صورة حالهم مع الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يخادع، وصورة صنيع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد الكفرة = (1).
ومنه وقوف الرازي عند قوله تعالى: {= اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ =} ويتساءل = كيف يجوز وصف الله تعالى بأنّه يستهزئ، وقد ثبت أنّ الاستهزاء لا ينفكّ عن التلبيس وهو على الله محال لقوله تعالى: {= أَتَتَّخِذُنََا هُزُواً قََالَ أَعُوذُ بِاللََّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجََاهِلِينَ =} والجواب = ذكروا في التأويل خمسة أوجه أحدها أنّ ما يفعله الله بهم جزاء على استهزائهم سمّاه بالاستهزاء، وثانيها أنّ ضرر استهزائهم بالمؤمنين راجع عليهم وغير ضارّ بالمؤمنين، وثالثها أنّ من آثار الاستهزاء حصول الهوان والحقارة، والرابع أنّ استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أحكامه في الدنيا ما لهم عند الله خلافها في الآخرة = (2). إنّ الرازي يجهد نفسه في بيان الاحتمالات المختلفة لهذه الجملة محاولا أن يبتعد بها عن تفسيرها اللّغوي العادي إلى تفسير مقامي، حيث إنّ فهمها في مستوى اللّغة فقط قد يؤدّي إلى مخالفة كبيرة سمّاها الرازي = جهلا =، وهو إن كان يستعين باللّغة في الوصول إلى هذه الاحتمالات إلّا أنّها تستند إلى المقام، وهو ما أسمته (كرستيفا) بالظاهرة عبر اللّغويّة. أي ظاهرة اجتماعية تفسّر عبر أدوات اللغة.
إنّ الواقع الخارجي بما فيه المخاطب يجب أن ينسجم منطقيّا مع النصّ، والزمن واحد من عناصر الواقع الاجتماعي التي اهتمّ المفسرون بالحديث عنه، وقد تساءل المفسّرون عن عموم الخطاب في الآية الكريمة = {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} = وفيما إذا كان قوله = يا أيّها الناس = يتناول الذين سيوجدون بعد ذلك العصر الذي نزلت فيه الآية؟ ثم يرجّح الرازي أنّه لا يتناولهم يقول: = لأنّ قوله يا أيّها الناس خطاب مشافهة، وخطاب
__________
(1) تفسير ابن كثير، 2/ 63.
(2) تفسير الرازي، 3/ 80.(1/302)
المشافهة مع المعدوم لا يجوز، وأيضا فالذين سيوجدون بعد ذلك ما كانوا موجودين في تلك الحالة = (1).
ومن أمثلته كذلك اختلاف المفسّرين في المخاطبين بقوله: {= قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهََا جَمِيعاً =} بعد الاتفاق على أنّ آدم وحوّاء عليهما السلام كانا مخاطبين به، وذكروا فيه وجوها: الأول وهو قول الأكثرين أنّ إبليس داخل فيه أيضا، قالوا لأنّ إبليس قد جرى ذكره في قوله: {= فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطََانُ عَنْهََا =} أي = فأزلّهما وقلنا لهم اهبطوا = (وهنا يبرز الاستئناس في السياق اللغوي الداخلي في تحديد المخاطب) وقالوا المراد ب (اهبطوا) آدم وحواء وذريتهما = لأنّهما لمّا كانا أصل الإنس جعلا كأنّهما الإنس كلّهم =. والدليل عليه قوله {= اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ =} وهذا حكم يعمّ الناس كلّهم ومعنى = بعضكم لبعض عدو ما عليه الناس من التعادي والتباغض، وتضليل بعضهم لبعض، واعلم أنّ هذا القول ضعيف، لأنّ الذريّة ما كانوا موجودين في ذلك الوقت فكيف يتناولهم الخطاب؟ (2) =.
إنّ لدينا عمليتين متداخلتين هما تحديد المخاطب من خلال السياق اللغوي، أو الاستناد إلى الواقع الخارجي للمخاطب في ترجيح قراءة واستبعاد أخرى. وفي كلّ الحالات بالاستعانة بلغة النصّ. إذ هي تشكّل القاسم المشترك في العمليتين وإذا جاء لفظ المخاطب بصيغة العموم فإنّ المفسّر يسارع بتخصيصه إذا ما وجد في النّص ما يعينه على ذلك، قال المفسّر: = فقوله = يا بني إسرائيل = خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة المنوّرة من ولد يعقوب عليه السلام في أيّام محمّد صلّى الله عليه وسلّم = (3). فالمفسّر يجهد في جمع أدلة من النصّ ليحدد المخاطب، وإذا حدّده سارع ليقرأ النصّ قراءة جديدة في ضوء المخاطب.
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 84.
(2) نفسه، 3/ 17.
(3) نفسه، 3/ 29.(1/303)
أما عن أثر طبيعة المخاطب ومن هو، ووضعه، وأحواله داخل النّص فيمكن أن نرصد عددا من الآثار ذكرها المفسّرون، ومنها تنوّع الجمل بين الخبر والإنشاء، وبين أضرب الخبر هل هو مؤكّد أم غير ذلك. وكما أوضحه الرازي في قوله تعالى {= إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا =} كما مرّ معنا. وانظر كيف ساهمت حال المخاطبين في جعل الجملتين في الآية الكريمة = {إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا بَعُوضَةً فَمََا فَوْقَهََا فَأَمَّا} = (1)
مصدّرتين بالحرف (أمّا) قال المفسّر: = إيراد الجملتين مصدّرتين ب (أما) إحماد عظيم لأمر المؤمنين، واعتداد بعلمهم أنّه الحق، وذم عظيم للكافرين على ما قالوه وذكروه = (2). وفيه أيضا ربط بغرض الخطاب.
ويربط الرازي بين حال المخاطب وحدوث العطف في النص ففي تفسيره للآية {= وَآمِنُوا بِمََا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمََا مَعَكُمْ =} قال: = اعلم أنّ المخاطبين بقوله {(وَآمِنُوا)} هم بنو إسرائيل، ويدلّ عليه وجهان: الأوّل أنّه معطوف على قوله {= اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ =} والثاني أن قوله {= مُصَدِّقاً لِمََا مَعَكُمْ =} يدل على ذلك = (3). ويتبدّى هذا الأثر أيضا في الضمائر وزمن الخطاب ففي قوله تعالى: {= وَقَدْ كََانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ =} اختلفوا في ذلك الفريق، منهم من قال: = المراد بالفريق من كان في أيّام موسى عليه السلام لأنّه تعالى وصف هذا الفريق بأنّهم يسمعون كلام الله والذين سمعوا كلام الله هم أهل الميقات، ومنهم من قال بل المراد بالفريق من كان في زمن محمّد عليه الصلاة والسلام، وهذا أقرب لأنّ الضمير في قوله تعالى: {= وَقَدْ كََانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ =} راجع إلى ما تقدّم وهم الذين عناهم الله بقوله {= أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} =، وقد بيّنا أنّ الذين تعلّق الطمع بإيمانهم هم الذين كانوا في زمن محمد = (4). واتّساق زمن الخطاب أيضا يتبدّى في تفسيرهم للآية = {أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} =. قال
__________
(1) سورة البقرة، الآية (26).
(2) تفسير الرازي، 3/ 11.
(3) نفسه، 3/ 40.
(4) نفسه، 3/ 134.(1/304)
الرازي: = هم اليهود الذين كانوا في زمن الرسول عليه السلام لأنّهم الذين يصحّ فيهم الطمع في أن يؤمنوا وخلافه، لأنّ الطمع إنّما يقع في المستقبل لا في الواقع = (1). فالمستقبل والواقع وكون المخاطبين معاصرين لرسول الله عناصر مقاميّة استند إليها المفسّر في تحديد المخاطب.
وقد يوضح المفسّر مجيء هذا الأسلوب دون غيره في هذا الموضع بالاستعانة بالمخاطب فيتساءل الطبري حول الآية (106) وهي قوله: {= أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} = يقول: = فإن قال لنا قائل: = أو لم يكن رسول الله يعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير، وأنّ له ملك السموات والأرض، حتى قيل له ذلك = قيل =: بلى، فقد كان بعضهم يقول:
إنّما ذلك من الله جل ثناؤه خبر عن أنّ محمدا قد علم ذلك، ولكنّه أخرج الكلام مخرج التقرير = ولكنّ ذلك عندي وإن كان ظهر ظهور الخطاب للنّبي فإنّما هو معنيّ به الصحابة = (2) والهدف لدى المفسر في كل الحالات هو وجود الاتّساق بين النصّ والسياق.
وانظر إلى احتكام الطبري إلى سياق الثقافة في اختيار هذا الأسلوب في هذا السياق يقول: = وذلك من كلام العرب مستفيض أن يخرج المتكلّم كلامه على وجه الخطاب منه لبعض الناس، وهو قاصد به غيره، وعلى وجه الخطاب لواحد وهو يقصد به جماعة غيره = (3). وانظر إلى تعليقات المفسرين على أهمية دور المخاطب داخل النصّ، أو دور النصّ في تحديد المخاطب يقول: = إنّ ذلك لا يليق بما أنتم عليه، وهذا الوجه أظهر لأنّه من تمام الحكاية عنهم فلا وجه لصرفه عنهم إلى غيرهم = (4). وفي موضع آخر = والأقرب في نظام الكلام أنّه راجع إلى المذكور من المال المأخوذ على هذا الوجه = (5). وقوله: = وإن
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 133.
(2) نفسه، 3/ 335.
(3) نفسه، 3/ 335.
(4) تفسير ابن كثير، 1/ 217.
(5) تفسير الرازي، 3/ 134.(1/305)
كان الأول أقرب حتّى تكون القصّة قصّة واحدة مشتملة على محاسن العادات ومكارم الأخلاق من كل الوجوه =. وتأمل هذه الألفاظ (أليق) (نظام الكلام) (قصّة واحدة) وما تدلّ عليه من ضرورة الاتّساق بين النصّ والمخاطب.
وهذا الاتّساق في الخطاب من خلال دور المخاطب يتبدّى في إيجاد علاقة بين أجزاء الخطاب المترامية لتقوية تحديد هذا المخاطب ففي تفسير الآية = {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ =} يختلفون في المخاطب على ثلاثة أوجه أحدها: أنّه من تقدّم من بني إسرائيل، وثانيها أنّه خطاب لمن كان في عصر النّبي من اليهود، وثالثها أنّ المقصود بهم من تقدّم بالقول عنهم = وأنتم معرضون = ومن تأخّر. أمّا وجه القول الأوّل أنّه إذا كان الكلام الأوّل في المتقدّمين منهم، فظاهر الخطاب يقتضي أنّ آخره فيهم أيضا إلّا بدليل يوجب الانصراف عن هذا الظاهر، يبيّن ذلك أنّه تعالى ساق الكلام الأوّل سياقة إظهار النعم بإقامة الحجج عليهم، ثمّ بيّن من بعد أنّهم تولّوا إلّا قليلا منهم فإنّهم بقوا على ما دخلوا فيه =، ووجه القول الثاني إنّ قوله = ثمّ توليتم = خطاب مشافهة وهو بالحاضرين أليق = (1). وهذا معناه اتّساق لغة الخطاب مع المخاطب متجلّيا في الضمائر.
وعموم الخطاب أو خصوصه مظهر لغوي آخر من مظاهر علاقة النصّ بالمخاطب. وانظر هذا الاستحضار لمجموعة المخاطبين المحتملين من خلال السياق في تفسير الآية (136) من سورة البقرة أن قوله تعالى: {= قُولُوا آمَنََّا بِاللََّهِ =} = يتناول جميع المكلّفين النبيّ وأمتّه والدليل عليه وجهان: أحدهما، أنّ قوله = قولوا = خطاب عام يتناول الكلّ، والثاني أنّ قوله = وما أنزل إلينا = لا يليق إلّا به صلّى الله عليه وسلّم فلا أقلّ من أن يكون هو داخلا فيه، واحتجّ الحسن على قوله بوجهين: الأوّل أنه عليه السلام أمر من قبل بقوله {= قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرََاهِيمَ =} والثاني أنّه في نهاية الشرف، والظاهر إفراده بالخطاب = (2). إنّ
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 159.
(2) نفسه، 4/ 83.(1/306)
المفسر هنا قد اتّكأ على مسألتين الأولى: صياغة النّص (العموم) والثانية المقام الخارجي (لا يليق إلّا به) وهو يشمل مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ومن أمثلة العموم والخصوص أيضا قوله تعالى: = {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} = (1).
ذكروا فيه وجهين: الأوّل: وهو قول ابن عبّاس أنه خطاب مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصّة لأنّه هو الداعي وهو المقصود بالاستجابة، واللفظ وإن كان للعموم لكنّا حملناه على الخصوص لهذه القرينة، والثاني: أنّه خطاب مع الرسول والمؤمنين، قال القاضي: وهذا أليق بالظاهر لأنّه عليه السلام وإن كان الأصل في الدعاء فقد كان في الصحابة من يدعوهم إلى الإيمان، ويظهر لهم الدلائل وينبّههم عليها فصحّ أن يقول تعالى = {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} = ويريد به الرسول ومن هذه حاله من أصحابه، وإذا كان ذلك صحيحا فلا وجه لترك الظاهر = (2). إنّ القرينة التي ذكرها المفسّر في الخيار الأوّل مستمدّة من المقام الاجتماعي وهو حال النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيامه بوظيفته في الدعوة، وفي الخيار الثاني أضاف المفسّر حال الصحابة وقيامهم بالدعوة جنبا إلى جنب مع الرسول الكريم، وهذا يوسّع دائرة الخطاب من جهة ويتّسق مع ضمير الجمع في الآية، بينما في الخيار الأول سنخرج على مقتضى الظاهر.
وقد يحدث أن يرجّح المفسر خطاب الخصوص كما في تفسيرهم للآية (139) من السورة = {قُلْ أَتُحَاجُّونَنََا فِي اللََّهِ وَهُوَ رَبُّنََا وَرَبُّكُمْ} = فقد اختلفوا في هذه الآية المحاجّة كانت مع من، وذكروا فيه وجوها ثلاثة هي: أنّه خطاب لليهود والنّصارى، والثاني أنّه خطاب مع مشركي العرب، وثالثها أنّه خطاب مع الكلّ ثم يقول معقّبا = والقول الأول أليق بنظم الآية = (3). ويتوقّع المفسّر حال المخاطبين وقت الخطاب من خلال النصّ يقول: = وإنّما قلنا
__________
(1) سورة البقرة، الآية (75).
(2) تفسير الرازي، 3/ 133.
(3) نفسه، 4/ 88.(1/307)
إنّ هذا خطاب معهم حال الاجتماع لأنّ قوله = جعلناكم = خطاب لمجموعهم لا لكلّ واحد منهم وحده = (1).
ويتمّ معالجة بعض الآيات في المستوى التداولي، ومن ذلك المعرفة المسبقة في ذهن المخاطب، وانظر قول الزمخشري في تفسير الآية (24) = فإن قلت: صلة = الذي = و = التي = يجب أن تكون قصّة معلومة للمخاطب، فكيف علم أولئك أنّ نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟ قلت: لا يمتنع أن يتقدّم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب = (2). ومن أمثلة دور المخاطب في النصّ على المستوى التداولي أيضا، وأثر هذا الدور في الصياغة اللّغوية للنصّ ما قيل في تفسير الآية: = {وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمََا آمَنَ النََّاسُ} = قال الطبري:
= وإنّما أدخلت الألف والالم في (الناس) وهم بعض الناس لا جميعهم، لأنّهم كانوا معروفين عند الذين خوطبوا بهذه الآية بأعيانهم = (3). فهو يبنى هنا على المعرفة السابقة المتحصّلة لدى المخاطب، وهذه مسألة مهمّة في تفسير معنى الخطاب فلا يكون المخاطب بحاجة إلى ذكر التفاصيل باعتبارها معروفة لديه.
لقد أوضحنا سابقا أنّ الاتساق بين النصّ والسياق بمختلف عناصر هذا السياق هو الهدف الذي يحكم التأويلات المختلفة للمفسّرين، وقد تكون المطابقة بين هذا النصّ وسياقه هو مظهر من مظاهر هذا الاتساق، يقول الطبري: = فإن قلت: لمن الخطاب في قوله = ولا يحلّ لكم أن تأخذوا = إن قلت للأزواج لم يطابقه قوله {= فَإِنْ خِفْتُمْ أَلََّا يُقِيمََا حُدُودَ اللََّهِ =}
وإن قلت للأئمة والحكام فهؤلاء ليسوا بآخذين منهن ولا بمؤتيهن، قلت: يجوز الأمران جميعا، أن يكون أوّل الخطاب للأزواج، وآخره للأئمة والحكام ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وغيره، وأن يكون الخطاب كلّه للأئمة والحكام لأنّهم الذين يأمرون بالأخذ
__________
(1) تفسير الرازي، 4/ 99.
(2) الكشاف، 1/ 102.
(3) نفسه، 1/ 104.(1/308)
والإيتاء عند الترافع إليه فكأنّهم الآخذون والمؤتون = (1). إنّ الهدف من هذه التأويلات إحداث اتساق بين أجزاء النّص وضمائره مع طبيعة المخاطب ووظيفته وحاله في السياق الخارجي عن طريق المطابقة بين لغة النصّ والمخاطب باعتباره جزءا من السياق.
ويشير المفسّر إلى تجاوب المخاطب مع النّص، وتساؤلاته وكيف توقّعها النّص وأجاب عليها فعن الآية الكريمة التي أوردت أسماء الملائكة قيل: = معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما أنّ اليهود لمّا قالت: جبريل عدوّنا وميكائيل ولّينا أعلمهم الله أن من كان لجبريل عدوا فإنّ الله له عدو، وأنّه من الكافرين فنصّ عليه باسمه، وعلى ميكائيل باسمه لئلّا يقول منهم قائل: إنّما قال الله من كان عدوا لله وملائكته ورسله ولسنا لله ولا لملائكته ورسله أعداء لأن الملائكة اسم عام محتمل خاصا، وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه، وكذلك قوله (ورسله) فلست يا محمد داخلا فيهم، فنصّ الله تعالى على أسماء من زعموا أنّهم أعداؤه بأعيانهم ليقطع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم = (2). إنّ النصّ يخاطب كلّ أحد بما يناسبه، ويعلم الله خلجات النفوس فيقرّر المناسب بناء عليها، إنّ وضوح النصّ وتفصيله أو إجماله مرتبط بالمخاطب، وهذا مظهر آخر من مظاهر العلاقة بين النصّ والسياق.
وقد يكون المخاطب هو الفيصل في الفرق بين النّصوص التي يبدوا بينها ضرب من التناصّ، من خلال انعكاسه على صياغة النّص ففي الآية (214) من سورة البقرة يقول الله تعالى: = {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمََّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ =}. وفي الآية (142) من سورة آل عمران = {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمََّا يَعْلَمِ اللََّهُ الَّذِينَ جََاهَدُوا مِنْكُمْ} =، وفي الآية (16) من سورة التوبة = {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمََّا يَعْلَمِ اللََّهُ الَّذِينَ جََاهَدُوا مِنْكُمْ}
__________
(1) تفسير الطبري، 3/ 74.
(2) نفسه، 3/ 44.(1/309)
= قال الفيروزآبادي: = الآية الأولى للنبيّ والمؤمنين، والثانية للمؤمنين والثالث للمجاهدين = (1).
إنّ تحديد المخاطب، وتوضيح علاقته بالنصّ لدى المفسّرين جميعا له أهميّة كبيرة في فهم النصّ وتأويله، وبيان إعجازه، وهذا هو ما أسماه الطبري بفائدة الخطاب فهو يقول في المقدّمة: = والله جلّ ذكره يتعالى عن أن يخاطب خطابا، أو يرسل رسالة لا توجب فائدة لمن خوطب = (2).
(ب 6) النصّ وهدف الخطاب:
يعدّ مقصد الخطاب أو هدفه من العناصر التي لها تأثيرات بارزة في صياغة النصّ، وقد رأينا كثيرا من المظاهر النصيّة والعناصر ترتبط بالغرض في المباحث السابقة، وقد ركّز المفسّرون على هذا المقصد أو الغرض أو الهدف، ونظروا في أثر هذا المقصد داخل النصّ، أو حاولوا استخراج ذلك الهدف من خلال صياغة النّص. فالزمخشري حين نظر في الآيات الأربع الأولى تنبه إلى أنّها نظمت بحيث تؤدّي غرضا ما من خلال ترتيبها يقول: = ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه = (3). ومرّ بنا أنّ التأثير في المخاطب هو هدف الآية = {خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ} = وقد تجلّى الأثر الخطيّ لهذا الهدف في عمليّة تكرير الجار في النّص.
__________
(1) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 153.
(2) نفسه، 3/ 44.
(3) الكشاف، 1/ 37.(1/310)
وهدف الخطاب له أثر في تكوين الأسلوب وتنويع الضمائر وطرائق الخطاب، فمثلا كان القصد إلى إنكار الدعوى أو المقولة سببا في عدم المطابقة بين قوله تعالى = {وَمََا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} = وقولهم = {آمَنُوا بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} =. والأوّل في ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثاني في شأن الفاعل لا الفعل، ويعبّر عنه الزمخشري بقوله = القصد إلى إنكار ما ادّعوه ونفيه، فسلك في ذلك طريقا أدّى إلى الغرض المطلوب، وفيه من التوكيد والمبالغة ما ليس في غيره، وهو إخراج ذواتهم وأنفسهم من أن تكون طائفة من طوائف المؤمنين لمّا علم من حالهم المنافية لحال الداخلين في الإيمان فإن قلت فلم جاء الإيمان مطلقا في الثاني، وهو مقيّد في الأول؟ قلت يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه، وأن يراد بالإطلاق أنّهم ليسوا من الإيمان في شيء = (1). إنّ الكيفيّة التي عرض النّص من خلالها موضوعه، والعلاقات التي استثمرها كالتقييد والإطلاق، كلّ ذلك مرتبط بالمقام = حالهم = ومرتبط مباشرة بغرض الخطاب كما صرّح بذلك الزمخشري.
وتتعدّد الأغراض والأهداف في الخطاب القرآني، وكلّ هدف منها يجد صداه يتردّد داخل النصّ، في بنيته وتركيبه ومفرداته، وأسلوبه، وأصواته، وبداءاته، وفواصله، فمثلا ينظر المفسّر في قوله تعالى: = {أَتَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبِرِّ، وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ، وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتََابَ، أَفَلََا تَعْقِلُونَ} = (2). قال الزمخشري: = قوله = {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتََابَ} = تبكيت، أو فيها الوعيد على الخيانة، وترك البرّ، ومخالفة القول العمل = {أَفَلََا تَعْقِلُونَ} = توبيخ عظيم بمعنى أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدّكم استقباحه عن ارتكابه = (3). فقد جمع المفسر هنا ثلاثة أهداف: التبكيت، والوعيد، والتوبيخ. وتبدّت هذه الأهداف في النّص وخاصّة في الفاصلة التي اشتملت على الاستفهام الاستنكاري متعلّقا بالعقل.
__________
(1) الكشّاف، 1/ 42.
(2) سورة البقرة، الآية (46).
(3) الكشاف، 1/ 33.(1/311)
وحين استخدم النّص صيغة التسوية في الآية = {سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} = ربط الرازي بين هذه الصيغة وهدف الناس في قوله: = ليقطع طعمه عنهم ولا يتأذّى بسبب ذلك = (1). وفي تفسير قوله تعالى: = {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} = فقد علّل الرازي مجيء (إن) في مكان (إذا) بأنّه = يتهكّم بهم = (2). وفي موضع آخر يربط بين هدف الخطاب وظاهر النصّ يقول: = واعلم أنّ قوله = {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللََّهِ} = وإن كان بصورة الاستخبار فالمراد به التبكيت، والتعنيف لأنّ عظم النعمة يقتضي عظم معصية المنعم = (3).
وينظر المفسّر في تعدّد احتمالات الغرض الكامن وراء الخطاب، في تفسير الرازي للآية = {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} = قال: = ليس المراد مدح النفس، بل المراد بيان أنّ هذا السؤال ما أوردناه لنقدح به في حكمتك يا رب فإنّا، فكأنّ الغرض من ذلك بيان أنّهم ما أوردوا السؤال للطعن في الحكمة الإلهيّة، بل لطلب وجه الحكمة على سبيل التفصيل.
وأمّا الوجه الرابع، وهو أنّ قولهم = {لََا عِلْمَ لَنََا إِلََّا مََا عَلَّمْتَنََا} = يشبه الاعتذار فلا بد من سبق الذنب = (4). ويساهم تحديد غرض الخطاب في قراءة الخطاب، بل وتختلف القراءة بتعدّد احتمالات الغرض ومنه في تفسير الآية = {وَلََا تَكُونُوا أَوَّلَ كََافِرٍ بِهِ} = فقد تساءل المفسّر كيف جعلوا أوّل من كفر به وقد سبقهم إلى الكفر به مشركوا العرب؟ ويجعل الجواب من وجوه: أحدها أنّ هذا تعريض بأنّه كان يجب أن يكونوا أوّل من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته، ولأنّهم كانوا مثل أول كافر به يعني من أشرك من أهل مكّة = أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكورا في التوراة والإنجيل = مثل من لم يعرفه = (5). وفي تفسير الآية
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 40.
(2) نفسه، 35/ 121.
(3) نفسه، 3/ 149.
(4) نفسه، 3/ 169.
(5) نفسه 3/ 41.(1/312)
{(إِلََّا خِزْيٌ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا)} يستعرض المفسّر احتمالات الغرض منها، ويرجّح أنّه الذّم العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص، ويشير إلى أنّ مجيء كلمة خزي بصيغة النكرة = يدلّ على أنّ الذّم واقع في النهاية العظمى = (1). وهذه إشارة صريحة لأثر الغرض في لغة النّص.
ويتمثّل أثر المقصد في صياغة النصّ وأسلوبه في تفسير الرازي للآية = {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرََاهِيمُ الْقَوََاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} = ولم يقل = يرفع قواعد البيت = لأنّ في إبهام القواعد وتبيّنها بعد الإبهام من تفخيم الشأن ما ليس في العبارة الأخرى، واعلم أنّ الله تعالى حكى عنهما بعد ذلك ثلاثة أنواع من الدعاء = (2). إنّ موضوع النصّ يمكن التعبير عنه بعدد كبير من الأشكال والصيغ والصور اللّغويّة، وإنّ استخدام شكل بعينه دون الآخر مرتبط مباشرة بالسياق، وهنا بعنصر محدّد من السياق وهو الغرض.
ومثله أيضا تفسير الآية {(شُهَدََاءَ عَلَى النََّاسِ)} قال الرازي: = قال = {شُهَدََاءَ عَلَى النََّاسِ} = ولم يقل شهداء للناس لأنّ قولهم يقتضي التكليف إمّا بقول وإما بفعل، وذلك عليه لا له في الحال، فإن قيل: لم أخّرت صلة الشهادة أولا، وقدّمت آخرا، قلنا لأنّ الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاص بكون الرسول شهيدا عليهم = (3).
ويقف الطبري عند الغرض في تفسير كلّ آية تقريبا، ومن أمثلته هنا حين يفسّر الآية (28) يقول: = وهذه الآية توبيخ من الله جلّ ثناؤه للقائلين = {آمَنََّا بِاللََّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} = (4). وفي تفسيره للآية (30) يتساءل عن وجه قيل الملائكة لربّها {(أَتَجْعَلُ فِيهََا مَنْ يُفْسِدُ فِيهََا)} ثم يرجّح أنّ ذلك كان استخبارا من الملائكة لربّها = (5). وفي تفسير الآية (263)
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 186.
(2) نفسه، 4/ 57.
(3) نفسه، 4/ 57.
(4) نفسه، 4/ 102.
(5) تفسير الطبري، 1/ 156.(1/313)
يشرح علاقة الفاصلة القرآنيّة = {وَاللََّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} = بما قبلها من خلال مقصد الخطاب، يقول: = غنّي لا حاجة به إلى منفق يمنّ ويؤذي، (حليم) عن معاجلته بالعقوبة وهذا سخط منه ووعيد له = (1). وفي تفسير الآية = {إِلََّا إِبْلِيسَ أَبى ََ وَاسْتَكْبَرَ وَكََانَ مِنَ الْكََافِرِينَ} = تنبّه الطبري إلى أنّ ظاهر النصّ قد يطوي تحته مقصد الخطاب يقول: = وهذا وإن كان من الله جلّ ثناؤه خبرا عن إبليس فإنّه تقريع لضربائه من خلق الله الذين يتكبّرون عن الخضوع لأمر الله والانقياد لطاعته فيما أمرهم به = (2). وهكذا يظهر المقصد أو الغرض أو الهدف عنصرا رئيسا من عناصر الخطاب يفسر من خلالها علاقة أجزاء النّص بعضها ببعض، ويفسّر من خلالها أسلوب النصّ وصياغته واختياره.
(ب 7) ظواهر سياقية في الخطاب
1 - في التقديم والتأخير وعلاقته بالسياق.
رصد المفسّرون عددا من الظواهر التركيبيّة والبنيويّة في النصّ، ومنها مسألة التقديم والتأخير في العناصر المكوّنة للجملة، وحاولوا أن يفسّروا سب حدوث مثل هذا التقديم والتأخير، وابتداء نبيّن أنّ هذا التقديم والتأخير قد يكون متعلّقا بالمستوى النحوي من مثل تقدّم المعمول على العامل أو غيره، وقد يكون أسلوبيّا لا علاقة له بنظام الجملة في العربية. ومن أبرز الأسباب التي يذكرونها لهذه الظاهرة المناسبة. وحين نفسّر هذه المناسبة نجدها ذات بعدين: بعد داخلي اصطلحنا على تسميته بالاتّساق الداخلي، وبعد خارجي هو السياق المقامي، كما اجتهدوا أن يتبيّنوا أثر هذا التقديم والتأخير على البناء النصّي، وأثره في قراءة هدف النصّ، أو العكس أي دور هدف النصّ على حدوث هذا التقديم والتأخير، ولعلّ الزمخشري يعدّ أبرز من تنبّه لهذه الظاهرة السياقيّة.
__________
(1) تفسير الطبري، 1/ 163.
(2) نفسه، 1/ 312.(1/314)
وفي تفسير الزمخشري لقوله تعالى = {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} = يقول: = وفي تقديم الآخرة، وبناء يوقنون على (هم) تعريض بأهل الكتاب، وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، وأنّ قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأنّ اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك = (1). فهنا ربط مباشر بالهدف أو بمقصد الخطاب، وهو (التعريض). وهكذا يتحوّل التقديم والتأخير من مظهر أسلوبي تركيبي إلى ظاهرة سياقية.
وينبّه الزمخشري بصراحة على هذا الربط بين ظاهرة التقديم والتأخير وسياق النصّ اللّغوي ومقصد الخطاب في تقديم وقوع القتل على الأمر بالذبح في الآية الكريمة {= وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادََّارَأْتُمْ فِيهََا} = يتساءل: = فما الفائدة في ترجيح هذا النظم؟ قلنا: إنّما قدمت قصّة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنّه لو عمل على عكسه لكانت قصّة واحدة، ولو كانت قصّة واحدة لذهب الغرض من بنية التقريع = (2). ولاحظ أنّه اعتبر أنّ عدم حصول هذا التقديم والتأخير الأسلوبي يعدّ سببا في ذهاب الغرض، ولاحظ قوله = ترجيح النظم = وعلاقته بالاتّساق الداخلي للنصّ.
وفي تفسير الرازي للآية (137) من السورة الكريمة {(قُولُوا آمَنََّا بِاللََّهِ وَمََا أُنْزِلَ إِلَيْنََا وَمََا أُنْزِلَ إِلى ََ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْمََاعِيلَ، وَ)} قال الرازي: = أما قوله = {قُولُوا آمَنََّا بِاللََّهِ} = فإنّما قدمه لأنّ الإيمان بالله أصل الإيمان بالشرائع فمن لا يعرف الله استحال أن يعرف نبيّا أو كتابا = (3). وذكر ابن الصائغ في الآية الكريمة = {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ} = أنّ ذلك بسبب التولّي من الأعلى إلى الأدنى (4). وهكذا يرتبط مباشرة بترتّب الوقائع في السياق المقامي فالسنة هي الأدنى والنوم هو الأعلى، فمن تنزّه عن السنة وهي الومضة من النوم فمن باب أولى أن يتنزّه عن الأعلى وهو النوم كله.
__________
(1) الكشاف، 1/ 57.
(2) نفسه، 1/ 127.
(3) تفسير الرازي، 4/ 83.
(4) الإتقان في علوم القرآن، 2/ 31.(1/315)
ويوازن المفسّرون بين السياقات اللّغويّة في النصّ القرآني من حيث ترتيب الأحداث فيها وحدوث التقديم والتأخير، ومن ذلك التقديم والتأخير في العدل والشفاعة في الآيتين (48) و (123) من سورة البقرة، والذي مرّ معنا سابقا، والذي يمكن أن نجد تفسيره على المستوى التداولي بربط الظاهرة الأسلوبية بهدف النّص، = قطعا لطمع من =، وأيضا يفسّر في ضوء المقام الاجتماعي = أحوالهم التي يصوّرها النّص = وقريب منه قوله تعالى: = {وَمََا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللََّهِ} = في الآية (173) من سورة البقرة، قدّم (به) في هذه السورة، وأخّرها في المائدة في الآية (3)، وفي الأنعام في الآية (145)، وفي النحل في الآية (115) قيل = لأنّ تقديم الباء الأصل فإنّها تجري مجرى الألف، والتشديد في التعدّي، وكان كحرف من الفعل، وكان الموضع الأوّل أولى بما هو الأصل، ليعلم ما يقتضيه اللفظ ثم قدّم فيما سواها ما هو المستنكر وهو الذبح لغير الله، وتقديم ما هو الغرض أولى، ولهذا جاز تقديم المفعول على الفاعل والحال على ذي الحال، والظرف على العامل فيه، إذا كان أكثر ذلك في الغرض في الإخبار = (1) ومرّة أخرى يرتبط التقديم والتأخير بسياق الحال ويغرض الخطاب.
وفي قوله تعالى: = {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشََاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشََاءُ} = (2) (يغفر) مقدّم هنا وفي غيرها، إلّا في المائدة فإنّ فيها = {يُعَذِّبُ مَنْ يَشََاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشََاءُ} = (3) = لأنّها نزلت في حقّ السارق والسارقة وعذابهما يقع في الدنيا فقدّم لفظ العذاب، وفي غيرها قدّم لفظ المغفرة رحمة منه سبحانه وترغيبا للعباد في المسارعة إلى موجبات المغفرة = (4). إنّ أمامنا مثالا جميلا على ترتّب الخطاب وتلوّنه بحسب السياق، فإنّ النّصين يحملان مضمونا
__________
(1) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 154.
(2) سورة البقرة، الآية (284).
(3) سورة المائدة، الآية (40).
(4) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 155.(1/316)
واحدا إلّا أنّ أحدهما خاطب أناسا عاديّين يجترحون معاصي صغيرة فقدّمت المغفرة وأخّر العذاب. والنصّ الثاني خاطب من وقع في حدّ من الحدود وهو حدّ السرقة، فاستوجب تقديم العذاب على المغفرة. واختلاف أحوال المخاطبين يجد صداه داخل لغة النّص كما تقدّم كما أنّ الصياغة الطبيعيّة التي تتّفق مع غرض النصّ، وهو ترغيب العباد بالمسارعة إلى موجبات الرحمة اقتضت تقديم المغفرة على العذاب في المواضع جميعها إلّا في سياق سورة المائدة للسبب الذي ذكرنا.
ومن أمثله هذه الموازنات لدى الرازي توقّفه عند التقديم والتأخير في قوله تعالى في سورة البقرة {= وَادْخُلُوا الْبََابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ =} (1). وفي سورة الأعراف، {= وَكُلُوا مِنْهََا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبََابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئََاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} = (2). ويتساءل الرازي هنا لم يقدّم المؤخّر وفي الجواب قال: = يحتمل أن يقال إنّ بعضهم كانوا مذنبين والبعض الآخر ما كانوا مذنبين، فالمذنب لا بدّ أن يكون اشتغاله بحطّ الذنوب مقدّما على الاشتغال بالعبادة لأنّ التوبة عن الذنب مقدّمة على الاشتغال بالعبادات المستقبلة لا محالة، فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا أوّلا حطة، ثم يدخلوا الباب سجّدا، وأمّا الذي لا يكون مذنبا فالأولى به أن يشتغل بالعبادة ثم يذكر التوبة ثانيا على سبيل هضم النفس، وإزالة العجب في فعل تلك العبادة، فهؤلاء يجب أن يدخلوا الباب سجدا أوّلا ثم يقولوا حطّة ثانيا فلمّا احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى هذين القسمين لا جرم ذكر الله تعالى حكم كل واحد منها في سورة أخرى = (3). إنّ طبيعة المخاطب المختلفة على هذا النحو اقتضت هذا
__________
(1) سورة البقرة، الآية (58).
(2) سورة الأعراف، الآية (161).
(3) تفسير الرازي، 3/ 93.(1/317)
التقديم والتأخير، كما أنّ التقديم والتأخير يأخذ شكلا تداوليّا بترتيب عناصر الخطاب حسب أولويّتها للمخاطب. كما أنّ تفاصيل سياق الحال المرتبطة بهدف النصّ جعلته يتشكّل على هذا النحو في هذين النصّين.
2 - في التعريف والتنكير وعلاقته بالسياق
قال السيوطي في الإتقان تحت عنوان = قاعدة في التعريف والتنكير =: = اعلم أنّ لكلّ منهما مقاما لا يليق بالآخر = (1). ثمّ يعدّد أسباب التنكير ومواضعه، وأسباب التعريف ومواضعه، ويسوق مئات الأمثلة من القرآن الكريم جميعه، على كل حالة من حالات التعريف والتنكير، ومن الأمثلة التي يسوقها قوله تعالى: = {لََا رَيْبَ فِيهِ} = قيل: = قصد بها العموم حيث جاءت في سياق النفي، ومن أمثلة التعريف التي يذكرونها قصد التحقير بالقرب كقول الكفّار =ماذا أراد الله بهذا مثلا = أو قصد التعظيم كقوله تعالى: = ذلك الكتاب لا ريب فيه = ذهابا إلى بعد درجته (2). وحين يذكر السيوطي التعريف يقول: = وأمّا التعريف فله أسباب فبالإضمار لأنّ المقام مقام المتكلّم أو الخطاب أو الغيبة، أو بالعلميّة لإحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداء أو لتعظيم أو إهانة أو الإشارة لتمييزه أكمل تميّز بإحضاره في ذهن السامع حسّا نحو = هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه =. وللتنبيه بعد ذكر المشار إليه بأوصاف قبله على أنّه جدير بما يرد بعده من أجلها نحو = {أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} = (3).
وواضح هنا الربط بين التعريف والتنكير وسياق النّص (مقامه). وفي تفسير الزمخشري للآية = {وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} = يحاول أن يجمع العناصر اللغويّة العديدة التي تضافرت للتنبيه على اختصاص المتّقين بنيل ما لا يناله على طرق شتّى، منها: ذكر اسم
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن، 2/ 403.
(2) نفسه، 2/ 403.
(3) نفسه، 2/ 405.(1/318)
الإشارة وتكريره، ومنها كذلك تعريف المفلحين وتوسيط الفصل بينه وبين أولئك ليبصّرك مراتبهم = (1). إنّ آليات النصّ في التعبير عن الواقع الاجتماعي عديدة، ولذلك فإنّ المفسّر يجهد نفسه في الوصول إلى أكبر عدد من هذه الآليّات، متّكئا على الاتّساق بين النصّ والسياق.
وحول الآية الكريمة {= وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمََا آمَنَ النََّاسُ =} يقول الرازي: = اللام في (الناس) فيها وجهان، أحدهما أنّها للعهد أي كما آمن رسول الله ومن معه، وهم ناس معهودون أو عبد الله بن سلّام وأشياعه لأنّهم من أبناء جنسهم، والثاني أنّها للجنس ثم هاهنا أيضا وجهان: أحدهما أنّ الأوس والخزرج أكثرهم كانوا مسلمين، وهؤلاء المنافقون كانوا منهم، وكانوا ملّتين، ولفظ العموم قد يطلق على الأكثر. والثاني أنّ المؤمنين هم الناس في الحقيقة لأنّهم هم الذين أعطوا الإنسانيّة حقّها لأنّ فضيلة الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل المرشد الهادي = (2). وهذا المقطع الأخير ملمح لطيف يربط بين التعريف والمقام الفكري وما هو الفضيلة في ذلك السياق وما هو عكسها. ثم إنّ نوع ال التعريف في هذا النصّ يمكن أن يكون للعهد أو للجنس بحسب المقام المفترض وهو هنا واقع الحال في المدينة المنوّرة.
إنّ اهتمام المفسّرين بتحديد نوع التعريف مربوط غالبا بالمقام، فحين يحدّد الزمخشري نوع التعريف في قوله تعالى: {= الَّذِينَ كَفَرُوا =} يرى أنّه يجوز أن يكون للعهد وأن يراد بهم ناس بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة، وأضرابهم وأن يكون للجنس متناولا كلّ من صمّم على كفره تصميما لا يرعوي بعده وغيرهم = (3). ويتساءل الزمخشري عن سرّ تنكير (صيّب) وتعريف (السماء) في قوله تعالى: {= أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمََاءِ فِيهِ ظُلُمََاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ =} مع أنّ الصيّب معروف أنّه لا ينزل إلّا من السماء قال: وتنكير
__________
(1) الكشاف، 1/ 45.
(2) تفسير الرازي، 1/ 68.
(3) الكشاف، 1/ 47.(1/319)
صيّب لأنه أريد نوع من المطر شديد هائل، وأمّا السماء فقد جاء بها معرفة فنفى أن يتصوّب من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق لأنّ كلّ أفق من آفاقها سماء
والمعنى أنّه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء، وفيه مبالغات من جهة التركيب والبناء، والتنكير أمد ذلك بأن جعله مطبقا = (1). إنّ مجرد السؤال عن التنكير والتعريف في سياق دون آخر، هو تصريح بصدور المفسّر عن هذا الأصل. وهو علاقة النصّ اللّغوي بالمقام الاجتماعي. إنّ تخطي القاعدة النحويّة أو إعمالها في سياق دون آخر يجعل الأمر غير مرتبط بالمستوى اللّغوي فقط وإنّما يتجاوزه إلى ما يحيط بممارسة اللغة وهو الظرف الاجتماعي أو المقام.
إن تنكير جنات في الآية (25)، وتعريف (الأنهار) في هذه الآية مظهر لغوي جدير بالانتباه، لأنّه قد يظنّ تعارضه مع الواقع، فيسارع المفسّر إلى إيضاح هذا بقوله:
= لأنّ الجنّة اسم لدار الثواب كلّها، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتّبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين، لكلّ طبقة منهم جنّات من تلك الجنان أمّا تعريف الأنهار فإنّه يراد بها الجنس كما تقول لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب وألوان الفواكه، تشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب = (2). إنّ الواقع أو المقام اتّصل مباشرة بهذه الظاهرة السياقيّة كما أنّ المعلومات السابقة للمخاطب تتحكّم هنا أيضا كما في هذا المثال الأخير.
وقد اعتبر الرازي موافقة التعريف والتنكير للمقام الاجتماعي إصابة لمحزّ البلاغة في تفسيره للآية {= وَلَكُمْ فِي الْقِصََاصِ حَيََاةٌ =} وقال: = كلام فصيح، وهو أن القصاص قتل وتفويت للحياة وقد جعل مكانا وظرفا للحياة، ومن إصابة محزّ البلاغة بتعريف القصاص وتنكير الحياة لأنّ المعنى = (3). وقد يكون التعريف لتخريج النّصّ مخرج العموم كما أورد الرازي في تفسيره للآية {= يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ =}. ثم يعقّب على هذا بقوله:
__________
(1) الكشاف، 1/ 82.
(2) نفسه، 1/ 107.
(3) تفسير الرازي، 3/ 54.(1/320)
= إنّ لفظ الجمع المعرّف بلام التعريف يفيد العموم، ويرغّبك في طلب ما طلبوا، وينشّطك لتقديم ما قدّموا، ويثبّطك عن الطمع الفارغ، والرجاء الكاذب = (1). فهنا إشارة إلى أنّ التعريف والتنكير من العناصر التي تقوّي غرض الخطاب، ودلالته وهو مثل آخر على دور هذه الظاهرة اللّغوية في تقوية السياق.
وفي تفسير الآية (125) وهي قوله: {= وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثََابَةً لِلنََّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا =} قال الرازي = أمّا البيت فإنّه يريد البيت الحرام، واكتفى بذكر البيت مطلقا لدخول الألف واللام عليه، إذ كانتا تدخلان لتعريف المعهود أو الجنس، وقد علم المخاطبون أنّه لم يرد به الجنس فانصرف إلى المعهود عندهم وهو الكعبة = (2). إنّ ما يدّخره المخاطب في حافظته من علم يبني عليه السياق، ومثله في تفسير الطبري تعليقه على تعريف (السفهاء) (3)، اتكاء على معرفة المخاطب لهؤلاء السفهاء.
ويبدو استقصاء الظاهرة اللّغويّة في سياقين متشابهين مختلفين أمرا غاية في الفائدة، وانظر هذه الأمثلة في مسألة التعريف والتنكير فقد جاء في سورة البقرة قوله تعالى: {= وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ =} (4). وفي سورة آل عمران قال {= وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ =} (5)، وفي النساء {= وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيََاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ =} (6) قيل: = لأنّ ما في البقرة إشارة إلى الحقّ الذي أذن الله أن يقتل النفس فيه، وهو قوله: {= وَلََا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللََّهُ إِلََّا بِالْحَقِّ =} (7). وكان الأولى بالذكر لأنّه من الله تعالى، وما
__________
(1) الكشاف، 1/ 49.
(2) تفسير الرازي، 4/ 46.
(3) تفسير الطبري، 1/ 116.
(4) سورة البقرة، الآية (61).
(5) سورة آل عمران، الآية (21).
(6) سورة النساء، الآية (155).
(7) سورة الأنعام، الآية (151).(1/321)
في آل عمران والنساء نكرة أي بغير حقّ في معتقدهم ودينهم فكان بالتنكير أولى = (1). إنّ المعتقدات والمعرفة قد تكون جزءا من السياق الثقافي والاجتماعي للمخاطب وتتبدّى جليّة في الخطاب اللغوي.
ومن أمثلته أيضا قوله تعالى في سورة البقرة في الآية (126) {= رَبِّ اجْعَلْ هََذََا بَلَداً آمِناً =} على التنكير، وفي سورة إبراهيم في الآية (35) {= رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً =} على التعريف لوجهين: = الأوّل أنّ الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلدا، كأنّه قال: اجعل هذا الوادي بلدا آمنا والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلدا، فكأنّه قال:
اجعل هذا المكان الذي صيّرته بلدا ذا أمن وسلامة. والثاني أن تكون الدعوتان وقعتا بعد ما صار المكان بلدا. فقوله {= بَلَداً آمِناً =} تقديره: (اجعل هذا البلد بلدا آمنا) كقولك: كان اليوم يوما حارّا، وهذا إنّما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة، لأنّ التنكير يدلّ على المبالغة فيكون معناه = اجعله من البلدان الكاملة في الأمن =. وأمّا قوله ربّ اجعل هذا البلد آمنا فليس فيه إلّا طلب الأمن لا طلب المبالغة = (2).
3 - جمل الخطاب بين الاسميّة والفعلية وعلاقته بالسياق
يدرس أهل علم المعاني هذا الموضوع دراسة وافية، ويضعون لكلّ من الجملة الاسمية والفعلية المواضع المناسبة لاستعمالها، وقد رصد المفسّرون بعض هذا التنوّع في جمل الخطاب، وتراوحها بين الاسميّة والفعليّة، وضروب الخبر والإنشاء فيها، وحاولوا أن يلتمسوا له تفسيرا من خلال المقام. ومن أبرز أمثلته ما أورده الرازي في تفسيره للآية {= وَإِذََا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قََالُوا آمَنََّا وَإِذََا خَلَوْا إِلى ََ شَيََاطِينِهِمْ قََالُوا إِنََّا مَعَكُمْ إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ =} (3).
__________
(1) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 144.
(2) تفسير الرازي، 3/ 59.
(3) سورة البقرة، الآية (14).(1/322)
قال الرازي: = لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعليّة، وشياطينهم بالجملة الاسميّة محقّقة (بأن)؟ والجواب: ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديرا بأقوى الكلامين لأنّهم كانوا في ادّعاء حدوث الإيمان منهم، لا في ادّعاء أنّهم في الدرجة الكاملة منه، إمّا لأنّ أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة لأنّ القول الصادر عن النفاق والكراهة قلّما يحصل معه المبالغة وإمّا لعلمهم بأنّ ادّعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين. وأمّا كلامهم مع إخوانهم فهم كانوا يقولونه عن الاعتقاد، وعلموا أنّ المستمعين يقبلون ذلك منهم فلا جرم كان التأكيد لائقا به، وإذا سئل كيف تعلّق قوله {= إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ =} بقوله = إنّا معكم = الجواب هو توكيد له لأنّ قوله {(إِنََّا مَعَكُمْ)} معناه الثبات على الكفر. وقوله = {إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} = ردّ للإسلام، وردّ نقيض الشيء تأكيد لثباته أو بدل منه لأنّه من حقّر الإسلام فقد عظّم الكفر = (1).
إنّ النّص يعبّر ليس عن الحال العام للموضوع فحسب، وإنّما يدخل إلى خلجات نفوسهم فيصوّرها عن طريق أدوات اللغة وأساليبها، إنّ حال المنافقين مع الدين متلوّن متبدّل يناسبه التغيير بالجملة الفعليّة لارتباطها بالزمن، ففي حال وجودهم مع المؤمنين يكونون في حال إيمان ظاهر وإذا تركوهم عادوا إلى الكفر، وأمّا حالهم مع أصدقائهم من الشياطين والكفّار فهو ثابت وهو الكفر وكراهية الدين، فعبروا عنه بجملة اسمية مؤكّدة = إنّا معكم =.
ومن أمثلته كذلك عند الرازي في تفسيره للآية {= لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ خَيْرٌ =} قال: وأمّا قوله {= لَمَثُوبَةٌ =} (2) ففيه وجوه أحدها: أنّ الجواب محذوف وتقديره = ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لأثيبوا إلّا أنّه تركت الجملة الفعليّة إلى هذه الاسمية، لما في الجملة الاسميّة من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها، فإن قيل: هلّا قيل لمثوبة الله خير؟ قلنا: لأنّ المراد
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 69.
(2) سورة البقرة، الآية (103).(1/323)
لشيء من ثواب الله خير لهم، وثانيها: يجوز أن يكون قوله {= وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا =} تمنّيا لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم، كأنّه قيل = وليتهم آمنوا = ثمّ ابتدأ = {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ خَيْرٌ =} (1). إنّ لكل نوع من الجمل سياقه الخاصّ، ولمّا أريد بالجملة الدلالة على ثبات الثواب واستقراره استخدمت الجملة الاسميّة في سياقها المناسب.
4 - تنوّع الصيغ في الخطاب وعلاقته بالسياق:
اهتمّ المفسّرون برصد الصيغ اللغويّة المستخدمة في النّص، وحاولوا تفسير مجيئها على هذه الشاكلة دون غيرها، من مثل استخدام الفعل دون الاسم، أو التعبير بالمصدر بدلا من اسم الفاعل أو التعبير بالمزيد بدلا من المجرّد وغيرها، والتمسوا لهذا التفسير من خلال السياق اللغوي للآيات، أو من خلال المقام الاجتماعي أو من خلال طبيعة المخاطب فحين التفت الزمخشري إلى الآيات الأربع الأولى من سورة البقرة وما فيها من نظم، ذكر أنّ الرابعة فيها الحذف وفيها وضع المصدر الذي هو هدى موضع الوصف الذي هو هاد وإيراده منكّرا = (2). وإن كان الزمخشري لم يفصّل هذا الموضع إلّا أنّه نبه في موضع آخر إلى مفهوم الهداية، وخصوصيّته بالمتقين وأهميّة المصدر في الدلالة على مطلق الحدث.
ويتساءل الزمخشري عن التعبير عن الإنزال بلفظ المضيّ في قوله {= بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ =}
ولم يكن ذلك منزّلا وقت إيمانهم؟ ويجيب بأنّ بعضه كان قد أنزل وقت إيمانهم فجعل بعضه كأنه كلّه على سبيل المجاز، ويدلّ عليه قوله تعالى: = إنّا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى = ولم يسمعوا جميع الكتاب ولا كان كلّه منزّلا = (3). وهنا ربط بين الصيغة والواقع الخارجي وضرورة المطابقة بينهما، فإن انتفت احتيج إلى تفسير.
__________
(1) تفسير الرازي، 3/ 103.
(2) الكشاف، 1/ 37.
(3) نفسه، 1/ 42.(1/324)
ويتساءل الزمخشري مرّة أخرى عن استخدام الفعل المضارع بدلا من اسم الفاعل في قوله {= اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ =} = فإن قلت: فهلّا قيل: = الله مستهزئ بهم ليكون طبقا لقوله {= إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ =} قلت: = لأنّ يستهزئ يفيد حدوث الاستهزاء وتجدّده وقتا بعد وقت، وهكذا كانت نكايات الله فيهم وبلاياه النازلة بهم = (1). وهنا البحث يدور حول الاتّساق الداخلي والخارجي، الداخلي في أهميّة المطابقة بين صيغ الخطاب (مستهزئ ومستهزءون) والخارجي وهو المتّصل بحالهم مع الله، وغرضه من هذه الصيغة تجاههم.
وفي موضع آخر يتساءل: فهلّا قيل (تعبدون) في الآية (22) في مكان (اعبدوا)؟ أو (اتّقوا) لمكان تتقون؟ ليتجاوب طرفا النظم = ويجيب = ليست التقوى غير العبادة حتّى يؤدّي ذلك إلى تنافر النظم، وإنّما التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده، فإذا قال = اعبدوا ربكم الذي خلقكم = للاستيلاء على أقصى غايات العبادة، كان أبعث على العبادة واشدّ إلزاما لها، واثبت لها في النفوس. ونحوه أن تقول لعبدك: احمل خريطة الكتب، فما ملكتك يميني إلّا لجرّ الأثقال، ولو قلت: لحمل خرائط الكتب، لم يقع من نفسه ذلك الموقع = (2). في هذا النصّ رصد لتبدّلات الصيغ في النصّ، ثمّ تأويلها من خارج النصّ وإثبات لأثرها في نفس السامع أو المخاطب.
ومن الصيغ التي تنبّهوا لها التعبير بالمفرد والجمع، ونوع الجمع بين قلّة وكثرة ودلائل ذلك في السياق. ومنه تساؤل الزمخشري عن التعبير بالثمرات دون الثمر = فإن قلت فالثمر المخرج بماء السماء كثير جمّ، فلم قيل: الثمرات دون الثمر والثمار، قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يقصد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك: فلان أدركت ثمرة بستانه أريد ثماره والثاني: أنّ الجموع يتعاور بعضها موقع بعض لالتقائها في الجمعية = (3). إنّ التفسير هنا مستمدّ من اللّغة مباشرة ولكنّه يدلّ على حرص المفسّر على وجود الاتّساق
__________
(1) الكشاف، 1/ 67.
(2) نفسه، 12/ 85.
(3) نفسه، 1/ 94.(1/325)
بين النّص وعالمه الخارجي، وقد مرّ معنا تساؤلهم عن قوله تعالى {= مِمََّا نَزَّلْنََا =} واختياره هذه الصيغة (نزّل) بدلا من أنزل وتحليلها بنزول القرآن منجّما بحسب الحوادث. ومرّ بنا كذلك التعبير عن الجنّة بالجنات وكيف علّل ذلك من خلال المقام.
وفي الآية (25) {= وَلَهُمْ فِيهََا أَزْوََاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهََا خََالِدُونَ =} تساءل المفسّر عن (مطهّرة) ويقول: = فهلا جاءت الصفة مجموعة كما في الموصوف، قلت: في (مطهّرة) فخامة لصفتهن ليست في طاهرة، وهي الإشعار بأن مطهّرا طهّرهن وليس ذلك إلّا الله عز وجل المريد بعباده الصالحين أن يخوّلهم كلّ مزيّة فيما أعدّ لهم = (1). ومن أمثلته كذلك رصد الفرق بين (يطهرن) و (تطهّرن) ففي الآية الكريمة رقم (222) يقول تعالى: {= وَلََا تَقْرَبُوهُنَّ حَتََّى يَطْهُرْنَ فَإِذََا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللََّهُ، إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ التَّوََّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ =} ويقول ابن كثير حتى (يطهرن) أي من (الدم) فإذا (تطهّرن) أي بالماء = (2). إنّ هذه الارتباطات اللفظية المقاميّة تذكّرنا بآراء الدلاليّين ومنهم (جون لاينز) عن المقامات التي تستدعي ألفاظا معيّنة. والتي سبق ذكرها في الفصل الأوّل من هذه الدراسة. وفي المثال الأخير حدّد المقام (وكيفية حدوث الطهر ومرحلته) الصيغة المناسبة في الخطاب.
ويقارن المفسّرون بين مجيء الصيغ في السياقات التي تبدو متشابهة، ويحاولون التماس الفروق في الصيغ وسببها، ومن ذلك موازنة الرازي بين قوله سبحانه في سورة البقرة في الآية (49) {= وَإِذْ قُلْنََا =} وقال في الأعراف {= وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ =} في الآية (141). والجواب = أنّ الله تعالى صرّح في أوّل القرآن بأن قائل هذا القول هو الله تعالى إزالة للإبهام، ولأنّه ذكر في أول الكلام {= اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ =} ثم أخذ يعدّد نعمة نعمة، فاللائق بهذا المقام أن يقول = وإذ قلنا = وأمّا في سورة الأعراف مثلا فلا يبقى في قوله تعالى {= وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ =} إبهام بعد تقديم التصريح به في سورة البقرة = (3). إنّ هذا التفسير يحيلنا إلى مسألتين:
__________
(1) الكشاف، 1/ 192.
(2) تفسير ابن كثير، 1/ 228.
(3) تفسير الرازي، 3/ 93.(1/326)
الاتّساق الداخلي في نصّ السورة الواحد وقد تجلّى في سورة البقرة، والاتساق الداخلي في النّص القرآني كلّه وقد تجلى في هذه العلاقة التكامليّة بين سورة البقرة وسورة الأعراف. ثم تجلّي هذين الاتّساقين في الصيغ اللّغوية المستخدمة في الخطاب. كما في اختيار البناء للمعلوم أو المجهول في الآية السابقة.
ومن أمثلته أيضا قوله في سورة البقرة {= نَغْفِرْ لَكُمْ خَطََايََاكُمْ =} وفي سورة الأعراف {= نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئََاتِكُمْ =}. وجاء في جوابه: = الخطايا جمع الكثرة، والخطيئات جمع السلامة فهو للقلّة. وفي سورة البقرة لمّا أضاف ذلك القول إلى نفسه فقال: {= وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هََذِهِ الْقَرْيَةَ =} (1). لا جرم قرن به ما يليق بجوده وكرمه، وهو غفران الذنوب الكثيرة فذكر بلفظ الجمع الدالّ على الكثرة، وفي الأعراف لمّا لم يضف ذلك إلى نفسه، بل قال = وإذا قيل لهم = لا جرم ذكر ذلك بجمع القلّة، فالحاصل أنّه لما ذكر الفاعل ذكر ما يليق بكرمه من غفران الخطايا الكثيرة وفي الأعراف لمّا لم يسمّ الفاعل لم يذكر اللفظ الدالّ على الكثرة = (2)
إنّ الصيغة الأولى (المبني للمجهول أو المعلوم) استدعت الصيغة الثانية (جمع القلّة وجمع الكثرة) وهذا من الاتّساق الداخلي، أمّا طبيعة الخطاب كلّه فقد استدعتها عناصر المقام الخارجي ولاحظ عبارة الرازي (فاللائق بهذا المقام) وما توحي به من الاتّساق.
ومن أمثلته أيضا المجيء بصيغة جمع السلامة (النبيّين) في سورة البقرة في الآية (61) ومجيئها بصيغة جمع التكسير في السورة نفسها في آيات عديدة، وكذلك مجيئها في آل عمران بصيغة جمع السلامة في موضع، وصيغة جمع التكسير في مواضع أخرى ويعلّل ذلك عند المفسّرين بأنّه = موافقة لما بعده وهو (الذين) و (الصابئين) في البقرة وكذلك في آل عمران (إن الذين) و (ناصرين) و (معرضون) بخلاف (الأنبياء) في السورتين = (3). وهذا له صلة بما أسميناه بالمجاورة من جهة، والاتّساق اللّغوي الداخلي من جهة أخرى.
__________
(1) سورة البقرة، الآية (58).
(2) تفسير الرازي، 3/ 93.
(3) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز، 1/ 144.(1/327)
ج النصّ وسياق الحال:
يلتفت المفسّرون في تحليلهم وشرحهم وتأويلهم للآيات إلى سياق الحال أو المقام أو الواقع. بل يبنون تفسيرهم عليه، ويأخذ هذا الالتفات أشكالا متعدّدة منها طبيعة العلاقات بين شخوص الواقعة، وثقافة محيط الخطاب، وطبيعة الأعراف السائدة، والاعتبارات والحوادث الموجودة داخل (المقام) ولذلك سنجد أنّ ذكر أسباب النزول، والوقائع الموجودة في المقام حين تنزل الآيات هي من أبرز الملامح التي تدلّ على استحضار المفسّرين لسياق الحال في إضاءة النّصوص، وقد يكون من المفيد هنا أن نشير إلى جواب ابن كثير في مقدّمة تفسيره عن سؤال القائل: ما أحسن التفسير؟ فيذهب في جوابه إلى أنّ أصحّ الطريق في ذلك تفسير القرآن بالقرآن، فإن لم تجده فمن السنّة، وإن لم نجد رجعنا في ذلك إلى = أقوال الصحابة فإنّهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصّوا بها = (1). ففي هذا الجواب أكثر من إشارة إلى المقام في إشارته إلى السنّة وهي الوجه العملي للنصّ القرآني إن جاز التعبير وهو نصّ حيّ متحرّك قابل للقراءة أيضا، ثم إشارته إلى أقوال الصحابة واطّلاعهم على دقائق المقام الذي تنزلت فيه الآيات الكريمة (النصّ)، وهو ما أسماه ابن كثير (القرائن والأحوال). وسنعرض لطائفة قليلة من الأمثلة عند المفسّرين لهذه القرائن والأحوال.
ففي تفسير الطبري لقوله تعالى {= وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنََّا بِاللََّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمََا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ =} (2). قال: = وتأويل ذلك أنّ الله جلّ ثناؤه لمّا جمع لرسوله محمد أمره في دار هجرته واستقرّ بها قراره، وأظهر الله بها كلمته، وفشا في دور أهلها الإسلام أظهر أحبار يهودها لرسول الله الضغائن وأبدوا له العداوة = (3). وفي تفسيره للآية {= فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ =}
__________
(1) تفسير ابن كثير، المقدمة ص (13).
(2) سورة البقرة، الآية (8).
(3) تفسير الطبري، 1/ 102.(1/328)
قال: والمرض الذي ذكره الله هو شكّهم في أمر محمّد، وما جاء به من عند الله وتحيّرهم فيه = (1). وفي تفسير الآية (198) من السورة يقول الطبري وهو يستحضر السياق العام المحيط بالخطاب = وكان ناس من العرب يتأثّمون أن يتّجروا أيام الحج، وإذا دخل العشر كفّوا عن البيع والشراء فلم تقم لهم سوق، ويسمّون من يخرج بالتجارة (الداج) ويقولون: (هؤلاء الداج وليسوا بالحاج). فلما جاء الإسلام تأثّموا فرفع عنهم الجناح في ذلك وأبيح لهم وإنّما يباح ما لم يشغل عن العبادة = (2).
ومن صور ذلك عقد المقارنة بموقف خطاب مماثل نسبيّا من حيث الوقائع، أو استحضار نصّ استخدم فيه أجزاء من الخطاب المراد تفسيره مع اختلاف السياق، وتوضيح طبيعة الاتّفاق والافتراق بينهما. ففي تفسير الطبري للآية (31) من سورة البقرة قال: = هذا يظهر قوله جلّ جلاله لنبيّه نوح صلوات الله عليه إذ قال: {= رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحََاكِمِينَ =}. وهي الآية (45) من سورة (هود) {= فَلََا تَسْئَلْنِ مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجََاهِلِينَ =} فكذلك الملائكة سألت ربّها أن تكون خلفاءه في الأرض فلمّا اتضح لهم هفوة زلتهم أنابوا إلى الله بالتوبة فقالوا: {= سُبْحََانَكَ لََا عِلْمَ لَنََا إِلََّا مََا عَلَّمْتَنََا =}، فسارعوا الرجعة من الهفوة وبادروا الإنابة من الزّلة = (3).
ويلجأ الزمخشري إلى مقتضى الحال (المقام) ليفسّر كثرة ورود النداء (يا أيّها) في كتاب الله على هذه الطريقة ما لم يكثر في غيره؟ قال: = لاستقلاله بأوجه من التأكيد وأسباب من المبالغة، لأنّ كلّ ما نادى الله به عباده من أوامره ونواهيه وعظاته وزواجره، ووعده ووعيده واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم وغير ذلك ممّا أنطق به كتابه أمور عظام، وخطوب جسام، ومعان عليهم أن يتيقّظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها،
__________
(1) تفسير الطبري، 1/ 108.
(2) نفسه، 1/ 245.
(3) نفسه، 1/ 167.(1/329)
وهم عنها غافلون، فاقتضى الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ = (1). ومنه كذلك ترتيب وقائع الحدث في السياق الخارجي بناء على سياق الكلام في داخل النّص. ويشير ابن كثير إلى هذا المعنى في تفسيره للآيات (5251) {= وَوََاعَدْنََا مُوسى ََ} {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً =} يقول: كان ذلك بعد خروجهم من البحر كما دلّ عليه سياق الكلام في سورة الأعراف، ولقوله تعالى {= وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ مِنْ بَعْدِ مََا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى ََ بَصََائِرَ لِلنََّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ =} (2). ومن أمثلته الواضحة في هذا الشأن أيضا استنتاج ابن كثير أنّ إبراهيم قد بنى البيت الحرام قبل أن يفارق هاجر (3) من خلال سياق الآية 125من سورة البقرة.
ومن صور العلاقة بين النّص وسياق الحال الانتباه إلى الثقافة السائدة في مجتمع الخطاب، ومنها الثقافة اللّغويّة، وثقافة الحياة الاجتماعية السائدة، فالنصّ يتناسب مع ثقافة المخاطب، ففي تفسير الطبري للآية (16) من سورة البقرة يتساءل عن وجه قوله {= فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ =} يقول = هل التجارة ممّا تربح أو توكس، قيل: إنّ معنى ذلك لا فيما اشتروا ولا فيما شروا، ولكنّ الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عربا، فسلك في خطابه إياهم، وبيانه لهم فسلك خطاب بعضهم بعضا، وبيانهم المستعمل بينهم فلمّا كان فصيحا لديهم قول القائل الآخر: = خاب سعيك، ونام ليلك، وخسر بيعك = ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله، خاطبهم بالذي هو في منطقهم من الكلام إذ كان معقولا عندهم أنّ الربح إنّما هو في التجارة، فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك عن أن يقال فما ربحوا في تجارتهم وإن كان ذلك معناه = (4).
ومن أمثلة هذه العلاقة بين النّص وسياق الحال ما جاء في تفسير الزمخشري للآية (194) {= الشَّهْرُ الْحَرََامُ بِالشَّهْرِ الْحَرََامِ =} قال: قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر
__________
(1) الكشاف، 1/ 153.
(2) تفسير ابن كثير، 1/ 79.
(3) نفسه، 1/ 155.
(4) تفسير الطبري، 1/ 138.(1/330)
الحرام وهو ذو القعدة فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهيتهم القتال، وذلك في ذي القعدة {= الشَّهْرُ الْحَرََامُ بِالشَّهْرِ الْحَرََامِ =} أي هذا الشهر بذلك الشهر وهتكه بهتكه، والحرمات قصاص (1).
واختلف حول الآية الكريمة {(وَلََا تَقْرَبََا هََذِهِ الشَّجَرَةَ)} في كونه نهي تحريم أو نهي تنزيه، ويرجح الرازي أنه نهي تنزيه، وقال: = وهذا هو الأولى بهذا المقام لأنّ على هذا التقدير يرجع حاصل معصية آدم عليه السلام إلى ترك الأولى، ومعلوم أنّ كل مذهب كان أفضى إلى عصمة الأنبياء عليهم السلام، كان أولى بالقبول = (2).
ومن العناية بسياق الحال الإشارة إلى القرآن المدني وخصائصه، وسياق الأحداث في المدينة بعد الهجرة بعد سلسلة الأحداث التي سيقت في مكّة المكرّمة، ومنه الشرح المستفيض الذي ذكره الرازي في شرح الآية {= اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ =} (3).
ومنه استحضار حال الجماعة المخاطبة بالآيات وواقعها في وقت تنزّل الخطاب وربطه مع الحوادث السابقة لذلك الخطاب، وكم تفيد الجماعة المسلمة منه في حاضرها، وهو كثير عند الرازي كما في حديثه عن أعمال اليهود في الزمن الغابر وربطه بسياق الحال وواقع المسلمين في وقت تنزّل الخطاب. ومن مظاهره كذلك الاستئناس بالسياق الخارجي ما أوردناه حول استحضار الخطابات ذات السياقات المتشابهة ومحاولة رصد التبدّلات والتغيّرات النّصّية في مستوى البنية ومستوى التركيب، ومستوى المعجم والدلالة، والمقارنة بين هذه الخطابات، ومحاولة البحث عن السبب في هذه التبدّلات النّصيّة ومن ذلك الموازنة الباهرة التي عقدها الرازي بين آيات من سورة البقرة وآيات مشابهة لها من سورة الأعراف، وقد مرّ بنا نماذج عديدة منها في مواضع سابقة.
__________
(1) الكشاف، 1/ 237.
(2) تفسير الرازي، 3/ 5.
(3) نفسه، 3/ 107.(1/331)
ومن المواضع التي يبدو المقام فيها فيصلا في فهم النصّ، تفسير الرازي للآية {= أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتََابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ =} قال: = أي بالقتال والإجلاء، وذلك أنّ قريظة كانوا حلفاء الأوس، والنضير كانوا حلفاء الخزرج، فكان كلّ فريق يقاتل مع حلفائه، وإذا غلبوا خرّبوا ديارهم وأخرجوهم، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه، فعيّرتهم العرب وقالت: كيف تقاتلونهم ثمّ تفدونهم، فيقولون: أمرنا أن نفديهم، وحرّم علينا قتالهم، ولكنّنا نستحي أن نذلّ حلفاءنا، والخزي قتل بني قريظة وأسرهم وإجلاء بني النضير و = (1). ومن صور العلاقة بين النصّ والمقام الالتفات إلى العرف اللّغوي لدى الجماعة اللّغويّة المخاطبة في استخدام بعض الألفاظ أو التعابير أو التراكيب. ومنه في جواب الطبري لمن قال = كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلّا تقية؟ قيل لا تمتنع العرب من أن تسمّي من أعطى بلسانه غير الذي هو في ضميره تقية، لينجو ممّا هو له خائف، فنجا بذلك ممّا خافه، مخادعا لمن تخلّص منه بالذي أظهر له من التقية، فذلك المنافق سمّي مخادعا لله = (2). ومنه كذلك عند الطبري في تفسير الآية (133) {= أَمْ كُنْتُمْ شُهَدََاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ =} قال = يعني تعالى ذكره بقوله = أم كنتم شهداء = (أكنتم) ولكنه استفهم ب أم إذ كان استفهاما مستأنفا على كلام قد سبقه كما قيل {= الم} {تَنْزِيلُ الْكِتََابِ لََا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ} {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ =} (3). وكذلك تفعل العرب في كلّ استفهام ابتدأته بعد كلام قد سبقه تستفهم فيه ب (أم) (4).
__________
(1) تفسير الرازي، 4/ 161.
(2) تفسير الطبري، 1/ 105.
(3) سورة السجدة، الآيات من (31).
(4) تفسير الطبري، 1/ 396.(1/332)
ومن صور الالتفات إلى العرف الاجتماعي اللّغوي ودوره في صياغة عبارة النصّ، ما قاله الطبري حول الآية {= وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنََّا بِاللََّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمََا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ =} فيقول حول تسمية القيامة (بيوم) = إنّ اليوم عند العرب إنّما سمي يوما بليلته التي قبله، فإذا لم يتقدّم النهار ليل لم يسمّ يوما فيوم القيامة يوم لا ليل بعده سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة، فذلك اليوم هو آخر الأيام. لذلك سمّاه الله جلّ ثناؤه (اليوم الآخر) ونعته بالعقيم لأنّه لا ليل بعده = (1). ومن صور تمثّل العرف الاجتماعي كذلك تفسير الطبري للآية (64) قوله تعالى: {= فَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ =} يقول: = وهذا وإن كان خطابا لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله من أهل الكتاب أيام رسول الله فإنّما هو خبر عن أسلافهم فأخرج الخبر مخرج المخبر عنهم على نحو ما قد بيّنا فيما مضى من أنّ القبيلة من العرب تخاطب القبيلة عند الفخار أو غيره، ممّا مضى من فعل أسلاف المخاطب إلى نفسها فتقول فعلنا بكم، وفعلنا بكم = (2).
ومن أمثلة هذا العرف الاجتماعي عند الزمخشري حين يفسر الآية = وأزواجا مطهّرة = قال: = والمراد بتطهير الأزواج أن طهرن ممّا يختصّ بالنساء من الحيض والاستحاضة، وما لا يختصّ بهنّ من الأقذار، ويجوز لمجيئه مطلقا أن يدخل تحته الطهر من دنس الطباع، وطبع الأخلاق الذي عليه نساء الدنيا ممّا يكتسبن بأنفسهن، وممّا يأخذنه من أعراق السوء، والمناصب الرديئة والمناشئ المفسدة ومن سائر عيوبهن ومثالبهن وخبثهن وكيدهن = (3). وأين يمكن أن يقرأ هذا التأويل عند الزمخشري إلّا في اللسانيّات الاجتماعيّة ومشمولاتها، وفيما يتحدّث به عن فروق بين الرجال والنساء وخصائص كلّ جنس وانعكاس ذلك كلّه في لغة النصّ؟
__________
(1) تفسير الطبري، 1/ 104.
(2) نفسه، 1/ 236.
(3) الكشاف، 1/ 109.(1/333)
ومن العرف الاجتماعي الذي استند إليه الزمخشري، الحديث عن الذكور والإناث ومنزلة الذكور في المجتمعات الذي يتقدّم غالبا على منزلة الإناث. وذلك في تفسيره للآية {= يَعْرِفُونَهُ كَمََا يَعْرِفُونَ أَبْنََاءَهُمْ =} سأل: = فإن قلت: لم اختصّ الأبناء؟ قلت: لأنّ الذكور أشهر وأعرف، وهم لصحبة الآباء ألزم، وبقلوبهم ألصق = (1). إنّ هذا الربط مع أعراف المجتمع واعتقاده، في التعامل مع مسألة مثل الذكور والإناث لا يمكن فهمها إلّا عبر علم اللّسان الاجتماعي.
وانظر كذلك هذه الإشارة إلى بعض العرف الاجتماعي في تفسير الرازي للآية {= وَإِذْ قُلْنََا لِلْمَلََائِكَةِ اسْجُدُوا =} فقد تحدّث عن شمول الخطاب لإبليس، فبعضهم قال إنّ إبليس ليس من الملائكة ولكنه نشأ معهم وطالت مخالطته بهم والتصق بهم، فلا جرم يتناوله ذلك الخطاب، وبعضهم قال إنه وإن لم يدخل في هذا الأمر ولكنّ الله تعالى أمره بالسجود بلفظ آخر والرازي يقول: = إنّ المخالطة لا توجب ما ذكرتموه، ولهذا قلنا في أصول الفقه إنّ خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس، مع شدّة المخالطة بين الصنفين = (2). وفي تفسير قوله {= فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ =} قال الرازي: = وإنّما اكتفى الله تعالى بذكر توبة آدم دون توبة حوّاء لأنّها كانت تبعا له كما طوى ذكر النساء في القرآن والسنّة كذلك = (3). ونحن وإن كنا نذكر للرازي هذه العبارة لنعلم أنّ جماهير غفيرة من الناس ستحتجّ على مثل هذا التوجّه لديه. ونرى أنّ تفسير الفيروزآبادي للآيات نفسها أكثر قبولا وهو أنّ حوّاء مقصودة ضمنا لأنّها كانت معه في الحادثة كلّها.
د بين عموم النصّ وخصوصيّة السياق
هذا المبحث هو إتمام للمبحث السابق الذي يقرأ النصّ في ضوء وقائع المقام وظروفه وهنا يأتي السؤال التالي: متى نقرأ النصّ قراءة محدودة بخصوصيّة المقام، ومتى
__________
(1) الكشاف، 1/ 204.
(2) تفسير الرازي، 2/ 215.
(3) نفسه، 3/ 26.(1/334)
يمكننا قراءته مرة أخرى في ضوء ما يتيحه الخطاب اللغوي من أفق غير محدود يقاس على أي مقام مشابه، ولأيّ مخاطبين محتملين في قادم الزمان؟ وهل يمكن اعتبار الخطاب القرآني خطابا مفتوحا قابلا لعدد غير محدود من القراءات ضمن ضوابط هذا الكتاب الكريم؟ ولن نجيب على هذه الأسئلة الكبيرة إلّا في ضوء ما أسعفنا به المفسّرون في قراءاتهم المختلفة لسورة البقرة.
وعن هذا الموضوع يحدّثنا الزمخشري في تفسيره للآية {= إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ =} قال: = والتعريف يجوز أن يكون للعهد، وأن يراد بهم ناس بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد وأضرابهم، وأن يكون للجنس متناولا كلّ من صمم على كفره تصميما لا يرعوي بعده، وغيرهم = (1). ومنه كذلك لدى الزمخشري قوله معقّبا على إحدى الآيات = فإن قلت: لا يخلو الأمر بالعبادة، من أن يكون متوجّها إلى المؤمنين والكافرين جميعا، أو إلى كفّار مكّة خاصة = (2). وفي موضع آخر في شرح الآية (21) يقول: = فإن قلت كما خلق المخاطبين لعلّهم يتّقون، فكذلك خلق الذين من قبلهم لذلك، فلم قصره عليهم دون من قبلهم؟ قلت لم يقصره عليهم. ولكن غلب المخاطبون على الغائبين في اللفظ والمعنى = (3).
وفي تفسير الزمخشري للآية (25) {= وَبَشِّرِ =} قلت: يجوز أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأن يكون كلّ أحد كما قال عليه السلام: بشّر المشّائين إلى المساجد في الظلم بالنور التامّ يوم القيامة =. لم يأمر بذلك واحدا بعينه وإنّما كلّ أحد مأمور به، وهذا الوجه أحسن وأجزل = (4). وعند الطبري مثال آخر إذ إنّه في تفسيره للآية {= وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ لََا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ =} آية (10). قال (نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد
__________
(1) الكشاف، 1/ 47.
(2) نفسه، 1/ 90.
(3) نفسه، 1/ 93.
(4) نفسه، 1/ 104.(1/335)
رسول الله، وإن كان معنيّا بها كلّ من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدهم إلى يوم القيامة = (1). ومنه عند الطبري كذلك في تفسير الآية (22) {(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)}. وأنّه يعني بذلك كلّ مكلّف عالم بوحدانية الله وأنّه لا شريك له في خلقه يشرك معه في عبادته غيره، كائنا من كان من الناس عربيّا كان أو أعجميّا. كاتبا أو أميّا، وإن كان الخطاب لكفّار أهل الكتاب، الذين كانوا حوالي دار هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهل النفاق منهم وممّن بين ظهرانيهم ممّن كان مشركا، فانتقل إلى النفاق بمقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم = (2).
وفي تعقيب الطبري على تفسير الآية {= ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً =} قال: = والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنّ الله جلّ ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلّها، وقد يدخل في الذين آمنوا المصدّقون بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم وبما جاء به، والمصدّقون بمن قبله من الأنبياء والرسل وما جاءوا وقد دعا الله عزّ وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع شيء من ذلك، فالآية عامّة لكلّ من شمله اسم الإيمان فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض = (3).
وبعد أن يذكر الطبري سبب نزول الآية (204) في الأخنس بن شريق يقول:
= وقيل هو عامّ في المنافقين الذين تحلو ألسنتهم، وقلوبهم أمرّ من الصبر = (4). وفي موضع آخر يقول الطبري: = وهذا وإن كان من الله جلّ ثناؤه خبرا عن إبليس فإنّه تقريع لضربائه من خلق الله، الذين يتكبّرون عن الخضوع لأمر الله، والانقياد لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه = (5).
__________
(1) تفسير الطبري، 1/ 112.
(2) نفسه، 1/ 137.
(3) نفسه، 1/ 565.
(4) نفسه، 1/ 250.
(5) نفسه، 1/ 171.(1/336)
وفي تعليقه على الآية {= أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ =} قال بعد شرح طويل: ابتدأ أوّل الآية بخطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: {= أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللََّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ =} لأنّ المراد بذلك الذين وصفت أمرهم من أصحابه، والمقصود به جميعهم، وذلك من كلام العرب مستفيض بينهم فصيح أن يخرج المتكلّم كلامه على وجه الخطاب منه لبعض الناس وهو قاصد به غيره، وعلى وجه الخطاب لواحد وهو يقصد به جماعة غيره، أو جماعة والمخاطب به أحدهم، وعلى وجه الخطاب للجماعة والمقصود به أحدهم = (1).
ومن ذلك قوله {(يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللََّهَ وَلََا تُطِعِ الْكََافِرِينَ وَالْمُنََافِقِينَ)} ثم قال:
{(وَاتَّبِعْ مََا يُوحى ََ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللََّهَ كََانَ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيراً)}. فكذلك الآية {= أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ =}، وإن كان ظاهر الكلام على وجه الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فإنّه مقصود به قصد أصحابه وذلك بيّن بدلالة قوله {(وَمََا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا نَصِيرٍ)}. أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل = (2). لقد قلنا إنّ المفسّرين كانوا دائما يتمثّلون المقام الذي تنزّل فيه الخطاب القرآني. وكانوا يستعينون بذلك المقام في توضيح ملابسات ذلك الخطاب. ولكنّهم كثيرا ما يعلنون بعد تفسير الآية أو الآيات إمكانيّة قراءتها قراءة أعمّ وأشمل، لتصبح معبّرة عن كلّ حالة مشابهة، وهم بهذا يوافقون أصحاب كتب علوم القرآن في قاعدتهم الشهيرة: = العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص سبب النزول =.
__________
(1) تفسير الطبري، 1/ 186.
(2) نفسه، 1/ 335.(1/337)
المبحث الثالث العلاقة بين نصّ سورة البقرة وسياقها قراءة في كتب أصول الفقه
صدر علماء أصول الفقه في استخراج الأحكام الفقهيّة وتوجيهها في آيات القرآن الكريم من خلال قواعد ومبادئ عامّة معروفة، ونشير في هذا المبحث إلى استصحاب المقام في هذا التوجيه للآيات القرآنية، وأنّهم عدوّه أصلا صدروا عنه صدورا تلقائيّا من خلال فهمهم للقرآن باعتباره رسالة لغويّة جاءت لمصلحة المكلّفين أو المخاطبين، وسنسترشد بمجموعة كبيرة من النصوص والمقابسات تدلّ على أنّهم قد صدروا عنه، وتبيّن آليّة هذا الصدور وكيفيّته.
1 - المخاطب والنصّ والسياق:
نظر علماء الأصول إلى ما يناسب مقام الله تبارك وتعالى، وما لا يناسب في تحليلهم للآي الكريم، وانظر إلى ما قاله الإمام الباجي وغيره في قوله تعالى:
{= وَالْمُطَلَّقََاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلََاثَةَ قُرُوءٍ =} (1). قال: = إنّ لفظة (يتربّصن) ظاهرها الخبر، ويحتمل أن يراد بها الأمر، فلو تركنا الظاهر لحملناها على الخبر إلّا أنّا نخبر من المطلقات من لا يتربّصن، وخبر الباري تبارك وتعالى لا يصحّ أن يقع بخلاف مخبره، فثبت بذلك أنّ المراد به الأمر، والله أعلم = (2). فهنا التمس الحكم من خلال معرفة الفقيه بالله عز وجل وما يصحّ بحقّه وما لا يصحّ وهذا ملحظ مقامي.
__________
(1) سورة البقرة، الآية (228).
(2) الباجي (أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي (ت 474هـ) الحدود في الأصول، تحقيق د. نزيه حماد، جامعة بغداد، ط 1مؤسسة الزعبي للطباعة والنشر 1973، ص 48.(1/338)
2 - المخاطب والنصّ والسياق:
يقسّم علماء الأصول الخطاب بحسب السامع إلى واضح الدلالة وخفيّ الدلالة، وواضح الدلالة عند كلّ من الحنفيّة والجمهور هو الظاهر والنصّ والمفسّر، وهذه التقسيمات جميعا التمست بحسب السامع أو المخاطب. ويضربون للظاهر أمثلة عديدة منها قوله تعالى: {= وَأَحَلَّ اللََّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبََا =} (1). فدلالة الآية واضحة على إحلال البيع وتحريم الربا من غير احتياج إلى قرينة خارجيّة، ولكنّ هذا المعنى ليس هو المقصود بالأصالة من سوق الآية، بل المقصود منه هو نفي التماثل بين البيع والربا، وإثبات التفرقة، لأنّ الآية إنّما قيلت في الردّ على أكلة الربا الذين يقولون {= إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبََا =}
وبذلك يكون المعنى الأول هو الظاهر منها، لأنّه المقصود بالتبعيّة لنفي التماثل. ثمّ من جهة أخرى فإنّ البيع والربا في الآية لمّا كانا عامّين، احتملا التخصيص والقصر على بعض أنواع البيوع، واحتملت الآية كذلك النسخ باعتبارها خطابا يتعلّق بأحكام جزئيّة تكليفيّة = (2).
وأما المفسّر فمثل قوله تعالى: {= وَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ وَآتُوا الزَّكََاةَ =} (3). وقوله سبحانه {= كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيََامُ =} (4). فقد فسّرت ألفاظ الصلاة والزكاة والصيام، بأقوال وأفعال متواترة من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قاطعة في دلالتها على المعنى منها والداعي إلى تفسير الخطاب يرجع إمّا إلى الخطاب ذاته، بأنّه كان مجملا أو إلى المتكلّم إذا كان الكلام ظاهرا في إفادة معناه، ولكنّه يحتمل أن يراد به غير ظاهره، فيرفع المتكلّم ذلك
__________
(1) سورة البقرة، الآية (275).
(2) الإمام علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري ت (730هـ)، كشف الأسرار، ط 2، دار الكتاب العربي / بيروت / 1974، ص (4746).
(3) سورة البقرة، الآية (110).
(4) سورة البقرة، الآية 182.(1/339)
الاحتمال بالكشف عن مراده بواسطة قرائن، والأوّل يسمّى بيان تفسير والثاني بيان تأكيد (1).
وأمّا خفيّ الدلالة فمن أقسامه المشكل، والإيهام في المشكل جاء من الصيغة نفسها التي أصبح إدراك المراد فيها موقوفا على النظر والاجتهاد في ضبط مفهومات اللّفظ كلّها أوّلا، ثمّ في تأمّلها لاستخراج المراد منها ثانيا، كما لو وقع النظر في كلمة (أنّى) في قوله تعالى: {= فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنََّى شِئْتُمْ =} (2). فوجد المجتهد أنّها تأتي بمعنيين، ثم تأمّل فيهما فوجد أنّ المناسب في هذا السياق هو معنى (كيف) (3). ومثل أن ينظر علماء الشريعة فيما يفهم من قوله تعالى: {= وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مََا فَرَضْتُمْ إِلََّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكََاحِ =} (4). فيجدون أنّ معنى قوله تعالى {= أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكََاحِ =} إمّا أن يكون المراد به الزوج أو الوليّ، كما يجدون أنّ كلمة (يعفو) ترد تارة بمعنى يسقط وأخرى بمعنى (يهب) لكنّهم عند التأمل في المناسب من هذه المعاني يختلفون، فيذهب المالكيّة إلى أنّ المراد به هو الوليّ لأنّ الله قال في أول الآية: {= وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ =} فذكر الأزواج وخاطبهم بهذا الخطاب ثم قال: = إلّا أن يعفون = فذكر النساء = أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح = فهو ثالث، فلا يردّ إلى الزوج المتقدّم إلا لو لم يكن لغيره وجود، وقد وجد وهو الوليّ فهو المراد = (5). وأيضا فإنّ الله تعالى قال: إلّا أن يعفون، ومعلوم أنّه ليس كل امرأة تعفو، فإنّ الصغيرة والمحجور عليها لا عفو لهما. أي إن كنّ لذلك أهلا. وكذا الوليّ إذا كان من أهل السداد فلا يجوز عفوه إذا كان سفيها. (6) ويذهب الحنفيّة = إلى أنّ الضمير يعود على الزوج لأنّ
__________
(1) كشف الأسرار، 1/ 51.
(2) السرخسي، الأصول، 1/ 168.
(3) سورة البقرة، الآية (275).
(4) سورة البقرة الآية (227).
(5) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 3/ 207.
(6) نفسه، 3/ 207.(1/340)
اللفظ عند ما يكون محتملا = وجب حمله على موافقة الأصول، ولا خلاف أنّه غير جائز للأب هبة شيء من مالها للزوج ولا لغيره فكذلك المهر لأنه مالها = (1). والذين حملوه على الولي قد خالفوا الأصول لأنّ أحدا لا يستحقّ الولاية على غيره في هبة ماله (2).
وهكذا وجدنا أنّ المتكلّم لمّا كان لا يتأتّى له أن يغفل المخاطب وهو يبدع الخطاب، أو يتحدّث به، فإن كلّ ذلك يتجلّى داخل النص، ولمّا وجدنا المخاطب يتنوّع في الخطاب، تتنوّع الأحكام تبعا لتنوعه فهو أحيانا صحيح معافى، وأحيانا مريض أو مسافر وأحيانا مجاهد قادر، وأحيانا قادر على الجهاد ولكنه متبلّد، وأحيانا منافق، وأحيانا أمّة بكاملها، وأحيانا جنس الناس، وأحيانا نوع من هذا الجنس = يا بني إسرائيل = وبحسب هؤلاء صاغ الأصوليّون أحكامهم مستقين ذلك من النص.
3 - السياق المقامي وفهم النص
لقد توخّى علماء أصول الفقه النظر إلى البيئة المحيطة بالنصّ، فبالنسبة للتكاليف العمليّة فكثيرة هي الأمور الجليلة التي وقع التكليف فيها بالتقريبات، من مثل معرفة أوقات الصلاة بالظلال، وطلوع الفجر، والشمس، وغروبها وغروب الشفق، وكذلك الصيام، قال تعالى: {= حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ =} (3). وجاء في الحديث النبوي الشريف: = إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم = (4). فهنا لا بدّ أن يتعامل الفقيه مع عناصر البيئة المختلفة لتفسير هذه النصوص، ووضع الأحكام.
__________
(1) الجصاص: (الإمام أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص) ت (370هـ)، أحكام القرآن، تحقيق محمد الصادق قمحاوي، ط 2، دار المصحف القاهرة، بلا تاريخ، 2/ 152.
(2) نفسه.
(3) سورة البقرة، الآية 187.
(4) صحيح البخاري، باب الصيام.(1/341)
وفي بيان أهميّة المعرفة بالبيئة نجد الإمام الشاطبي يذكر أنّ من بين أنواع المقاصد الشرعيّة = مقصد وضع الشريعة للإفهام = (1). وركّز في بيان هذا القصد على كثير من خصوصيّات تلك البيئة التي يجب أن تفهم الشريعة في ظلّها، ومن بينها أحوال المخاطبين، والأعراف والعادات، وغيرها. وعند الأصوليّين ما اصطلح عليه = بعبارة النصّ = أو المنطوق الصريح. ويقصد بها الصيغة المكوّنة من المفردات والجمل وقد سميّت الألفاظ الدالّة على المعاني عبارات، لأنّها تفسّر ما في الضمير الذي هو مستور، وتعبّر عنه وتظهره للوجود (2).
وبذلك يظهر أنّ الضابط الأساسي الذي يميّز عبارة النصّ من إشارته، هو دلالة اللّفظ بالوضع على الحكم والقصد إنّما يتوقف عليه في التمييز بينهما: فيما يستفاد من خارج اللّفظ أي من مدلول اللفظ بطريق اللّزوم.
ولعلّ هذا المعيار الدقيق هو الذي جعل بعض الأصوليّين يمثّلون لعبارة النصّ بقوله تعالى: {= وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ =} (3). حيث رأى أنّ الحكم المستفاد من اللام في (له) والذي هو اختصاص الآباء بنسب الأبناء إليهم دون غيرهم، مدلول عليه بعبارة النصّ لا بإشارته كما هو رأي الجمهور لأنّ التعبير عن الأب بالمولود له يدلّ على مزيد اتصال الولد بأبيه، واختصاصه به حتى كأنّه ملك له، وهو معنى متبادر من اللّفظ ومقصود منه، ولكنّه ليس هو المقصود الأوّل، ويمكن إفادة المعنى الأوّل بدونه، بأن يقال = وعلى الأب رزقهن وكسوتهن بالمعروف = فهو مقصود تبعا، ومن ثمّ كانت الدلالة عليه عبارة لا إشارة = (4).
وكدلالة عبارة النصّ عند الحنفيّة على المعنى الالتزامي إذا كان مقصودا للمتكلّم، مثل التفرقة بين حقيقة البيع وحقيقة الربا في قوله تعالى: = وأحلّ الله البيع وحرّم الربا =. وقالوا
__________
(1) الشاطبي، الموافقات، 2/ 64.
(2) كشف الأسرار 1/ 67.
(3) سورة البقرة، الآية 233.
(4) كشف الأسرار، 1/ 68.(1/342)
في دلالة الالتزام المقصودة: = أنّ النص في قوله تعالى {= وَأَحَلَّ اللََّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبََا =} لمّا سيق من أجل الدلالة على التفرقة بين حقيقة المعاملة في البيع، والمعاملة في الربا بدلالة السياق، والتفرقة لا تستفاد ممّا وضع اللفظ له، ولكن من مدلول اللفظ للزومه إياه عقلا، كانت الدلالة التزاميّة، وكانت أيضا عبارة لأنّ الكلام سيق من أجلها = (1).
وكذلك هو الأمر في قوله تعالى {= وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} = لأنّ الخطاب يدلّ على اختصاص الآباء بنسب الأبناء إليهم، المستفاد من اللام في (له) وهو معنى مقصود بالتبعيّة للمعنى الأصلي، الذي هو وجوب نفقة الوالدات على الآباء، لأنّ اللام في قوله تعالى (المولود له) تفيد الاختصاص لغة، والاختصاص ينصرف إلى معناه الكامل، ومن أفراده اختصاص الملك، واختصاص النسب، واختصاص المال، وبما لا شكّ فيه أنّ اختصاص الملك منفيّ إجماعا فيبقى اختصاص النسب واختصاص المال، وكلّ منهما مدلول عليه بالعبارة لأنّه معنى تضمّني = (2).
وعليه قالوا في تعريف عبارة النصّ هي = دلالته على المعنى المسوق له، سواء كان ذلك المعنى عين الموضوع له أو جزأه أو لازمه المتأخر = (3). وقالوا أيضا: = فأما الثابت بعبارة النصّ فهو ما كان السياق لأجله، ويعلم قبل التأمّل أنّ ظاهر النصّ متناول له = (4). وممّا يتّصل بهذا استحضار ظروف التنزيل في استنباط الأحكام الفقهيّة من النصوص.
ومن ذلك استئناسهم بأسباب النزول ومواقيت النزول في الاجتهاد، ومن ذلك آية القصاص، فعن الشافعي في قوله تعالى: {= وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنََا لِوَلِيِّهِ سُلْطََاناً}
__________
(1) القاضي صدر الشريعة: عبيد الله بن مسعود المحبوبي (ت 747هـ)، التوضيح على التلويح، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، بلا تاريخ، 1/ 13.
(2) د. خليفة بابكر الحسن، مناهج الأصوليين في طرق دلالات الألفاظ على الأحكام، ط 1، مكتبة وهبة / القاهرة، 1989، ص: 83.
(3) القاضي صدر الشريعة، التوضيح في التلويح، 1/ 13.
(4) السرخسي، الأصول، 1/ 236.(1/343)
{فَلََا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ =} (1) في غير البقرة وهو يشبه قوله تعالى: {= كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصََاصُ فِي الْقَتْلى ََ =} وهي (الآية (178) في سورة البقرة) قال: = فالقصاص إنّما يكون ممّن فعل ما فيه القصاص لا ممّن لا يفعله، فأحكم الله عزّ وجل فرض القصاص في كتابه، وأبانت السنّة لمن هو، وعلى من هو. وقال: من العلم الذي لا اختلاف فيه بين أحد لقيته فحدثنيه، وبلغني عنه من علماء العرب أنّها كانت قبل نزول الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تباين في الفضل، ويكون بينهما ما يكون بين الجيران من قتل العمد والخطأ، وكان بعضها يعرف لبعض الفضل في الديات حتى تكون دية الرجل الشريف أضعاف دية الرجل دون
(وذكر قصة كليب ومقتل شأس بن زهير العبسي)، وحكم الله بالعدل فسوّى في الحكم بين عباده الشريف منهم والوضيع، وقد نزل الإسلام وبعض العرب يطلب بعضا بدماء وجراح، فنزل فيهم {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصََاصُ فِي الْقَتْلى ََ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى ََ بِالْأُنْثى ََ =} وكان بدء ذلك في حيّين من العرب اقتتلوا قبل الإسلام بقليل، وكان لأحد الحيّين فضل على الآخر، فلمّا نزلت هذه الآية رضوا وسلّموا = (2).
ومن أمثلة استحضار سبب النزول في الحكم الشرعي كذلك الآية الكريمة {= وَلََا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكََاتِ حَتََّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلََا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتََّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ =} (3). قال الشافعي فيها: = وقد قيل في هذه الآية أنّها نزلت في جماعة مشركي العرب الذين هم أهل الأوثان، فحرّم نكاح نسائهم كما حرّم أن ينكح رجالهم المؤمنات = (4).
__________
(1) سورة الإسراء، الآية (33).
(2) أحكام الشافعي ص: 273.
(3) سورة البقرة، الآية (221).
(4) أحكام الشافعي، ص: 1860.(1/344)
4 - دلالة الخطاب إشاريّا على الحكم
يقصد الأصوليّون الأحناف بدلالة الإشارة = ما ثبت بنظمه لغة، لكنّه غير مقصود ولا سيق له النصّ، وليس بظاهر من كلّ وجه = (1). أو بتعبير آخر = دلالة اللّفظ على حكم غير مقصود ولا سيق له النصّ ولكنّه لازم للحكم الذي سيق لإفادته الكلام، وليس بظاهر من كل وجه = (2). ولتوضيح هذه العبارة نسوق المثال التالي: يقول الله تعالى:
{= لََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ مََا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً =} (3).
فالحكم الذي سيق له الكلام ودلّ عليه اللفظ مطابقة وعبارة هو أنّ طلاق الزوج زوجته قبل الدخول بها، وقبل أن يفرض لها مهر هو طلاق مشروع لا إثم فيه على الزوج، وأنّ هذا الحكم المدلول عليه بعبارة النصّ يستلزم حكما آخر هو صحّة عقد الزواج بدون تعرض للمهر، وإلّا لم يكن الطلاق لتوقّفه على عقد زواج صحيح. وقد سمّوا الحكم الأخير باللازم المتأخر لأنّه إنّما استفيد بواسطة مدلول اللفظ الذي هو الحكم الأوّل للزومه إيّاه ولولاه ما عرف من الخطاب، ووجه التلازم بينهما يعبّر عنه المحقّق التفتازاني بقوله: = إنّما جعلوا اللازم المتأخّر ثابتا بنفس النظم عبارة (أي عند ما يكون مقصودا) أو إشارة أي عند ما يكون غير مقصود لأنّ نسبة الملزوم إلى اللازم المتأخّر نسبة المعلول إلى العلّة، بمعنى أنّ كلّ علّة تدلّ على معلولها، كالشمس تدلّ على الضوء، والنّار على الدخان = (4). ودون شك أنّ إشارة النصّ إلى اللازم المتأخّر في الآية الكريمة كانت واضحة.
ويرى الإمام الشافعي أن القيود اللّغوية الواردة في الخطاب لا بدّ أن تكون مقصودة من قبل المتكلّم أو الشارع، إذ لا يتصور بتاتا أن يأتي الخطاب مشتملا على اسم
__________
(1) البزدوي، الأصول، 1/ 68.
(2) د. محمد أديب صالح، تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، ط 3، المكتب الإسلامي / بيروت، 1984، 1/ 478.
(3) سورة البقرة، الآية (236).
(4) البزدوي، الأصول، 1/ 75.(1/345)
عام مثلا قصد بصفة خاصّة، من غير أن تكون الصفة الخاصّة مقصودة بالذكر ولا يتصوّر أن يكون قيد الغاية في قوله تعالى {= فَإِنْ طَلَّقَهََا فَلََا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتََّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ =} (1) غير مقصود في الخطاب، وكذلك هو الأمر في قيد الشرط في قوله تعالى: {= وَإِنْ كُنَّ أُولََاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتََّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ =} (2). لا يتصوّر بتاتا أن يكون كلّ ذلك قد ذكر في الخطاب اتّفاقا من غير انتحاء التخصيص لأنّ إجراء الكلام من غير فرض تحرير القصد إليه يزري بأوساط الناس فكيف يظنّ ذلك بسيّد الخليفة = (3). وفي هذه العبارة الأخيرة نلحظ أهميّة عنصر = المخاطب = في الرسالة اللّغوية، وكذلك عنصر = المقصد أو الهدف = وأثر ذلك داخل النص، ثم كيف يساهم ذلك في استنباط الحكم الشرعي.
__________
(1) سورة البقرة، الآية 230.
(2) سورة الطلاق، الآية (6).
(3) الجويني، البرهان في أصول الفقه، 1/ 462.(1/346)
المبحث الرابع العلاقة بين نصّ سورة البقرة وسياقها قراءة في كتب إعراب القرآن
سبق أن أشرنا إلى أنّ اللغويّين العرب اهتمّوا بدراسة البنيات المختلفة في إطار التفاعل بين بنية المقال ومقتضيات المقام فاقترحوا أوصافا لظواهر الجملة المختلفة كالتخصيص، والعناية، والتوكيد، والحصر، وعلّلوا الخصائص البنيويّة المميّزة للبنيات المعيّنة بالأمر انطلاقا من أنماط المقامات التي تنجز فيها. وفي هذا المبحث سنحاول ان نرصد الملاحظات المتّصلة بسورة البقرة في كتب إعراب القرآن، وبعض كتب النحو واللّغة الأخرى، لنرى كيف عالجوا العلاقة بين النصّ والسياق عموما في هذه السورة الكريمة.
السياق وإعراب القرآن الكريم:
أشار الدارسون إلى أهميّة معرفة إعراب القرآن الكريم في تبيّن خفايا النص وفهم معانيه ومراميه ولذلك فقد أفرده بالتصنيف خلائق منهم مكّي والحوفي، وأبو البقاء العكبري، والسفاقسي، والنحّاس والزجّاج وغيرهم. وحول أهميّة إعراب القرآن وعلوم اللّغة في ضبط المعنى، يروي يحيى بن عتيق سؤاله للحسن، قلت: يا أبا سعيد الرجل يتعلّم العربيّة يلتمس بها حسن المنطق، ويقيم بها قراءته قال: حسن يا ابن أخي فتعلّمها، فإنّ الرجل يقرأ الآية فيعي بوجهها فيهلك فيها (1). = وهذا يوضح الأثر العظيم للإعراب على معنى الآية ولذا فقد أوجبوا على معرب كتاب الله أن يفهم معنى ما يريد أن يعربه مفردا أو مركّبا قبل الإعراب = فإنّه فرع المعنى = (2).
__________
(1) الإتقان، 1/ 382.
(2) ابن هشام، مغني اللبيب، 1/ 12.(1/347)
وقال ابن هشام: = وقد زلّت أقدام كثير من المعربين راعوا في الإعراب ظاهر اللفظ ولم ينظروا في موجب المعنى، ومن ذلك قوله تعالى: {= أَصَلََاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مََا يَعْبُدُ آبََاؤُنََا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوََالِنََا مََا نَشََؤُا =} (1). فإنّه يتبادر إلى الذهن عطف = أن نفعل = على = أن تترك = وذلك باطل لأنّه لم يأمرهم أن يفعلوا في أموالهم ما يشاءون، وإنّما هو عطف على (ما) فهو معمول للترك، والمعنى: أن تترك أن نفعل، وموجب الوهم المذكور أنّ المعرب يرى (أن) والفعل مرّتين وبينهما حرف العطف (2).
وذكروا كذلك أنّ على معرب كتاب الله أن يراعي ما تقتضيه الصناعة، فربّما راعى المعرب وجها صحيحا، ولم ينظر في صحّته في الصناعة فيخطئ. ومن ذلك قول بعضهم حول الآية {= وَثَمُودَ فَمََا أَبْقى ََ} = (3). أنّ (ثمودا) مفعول مقدّم، وهذا ممتنع لأنّ لما النافية الصدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، بل هو معطوف على (عادا) أو على تقدير (وأهلك ثمودا) (4). وقد استعان معربو القرآن بالسياق في إعرابهم، ولاحظوا أثر السياقات المختلفة في توجيه الآيات، وأبرزوا هذا الأثر من خلال محاور عديدة هذه أبرزها:
1 - الحذف والسياق:
اهتمّ أصحاب كتب إعراب القرآن بضبط مواضع الحذف، ومحلّ المحذوف من الإعراب في الجمل المختلفة، وحاولوا تقدير المحذوف بالاستعانة بالسياق الذي ورد فيه، بل أفرد بعضهم أبوابا كاملة وكبيرة لهذا الحذف، ومن أولئك الزجّاج في كتابه (إعراب القرآن) حيث كان هذا الباب هو الباب الأوّل والأكبر في كتابه، وجعله تحت عنوان = باب
__________
(1) سورة (هود)، الآية (87).
(2) الإتقان، 1/ 383.
(3) سورة (النجم)، الآية (51).
(4) الإتقان، 1/ 383.(1/348)
ما ورد في التنزيل من الإضمار =، وابتدأ بإضمار الجمل، ثمّ إضمار المفردات وغيرها. وأمّا الحذف في سورة البقرة فكثير، ويربطه بالسياق علاقات عديدة منها:
(11) تقدير المحذوف والسياق اللغوي
يعدّ السياق العامل الأوّل والأهمّ في تقدير المحذوف، والسياق هنا يتألّف من المقام الخارجي، واكتمال النص تركيبا ومعنى مع استصحاب واقع المخاطبين، ومقام المخاطب والمخاطب، واستصحاب أحوال الرسالة اللّغوية جميعا. وقد اجتهد النحاة في تقدير المحذوف في سورة البقرة مستأنسين بالعوامل السياقيّة المختلفة، ومن أمثلته قوله تعالى: {= وَإِذْ قََالَ رَبُّكَ =} (1). وتقديره: = أي واذكر إذ قال ربّك، وإن شئت قدّرت:
وابتداء خلقكم إذ قال ربّك = (2). ويلاحظ هنا أن المعرب يذكر جميع وجوه التقدير التي يحتملها السياق. ومن أمثلته أيضا قوله تعالى: {= بَلْ مِلَّةَ إِبْرََاهِيمَ حَنِيفاً =} (3). وتقديره: = أي نتّبع ملّة إبراهيم حنيفا = والكسائي يقول: = نكون أهل ملّة إبراهيم حنيفا = (4). وإضافة إلى الملاحظة السابقة، فإنّنا نشير هنا إلى أنّ السياق اللّغوي الخالص هنا هو الذي أمدّ المعرب بالوجوه التي يحتملها هذا النصّ.
ومثله في قوله تعالى: {= وَرَفَعْنََا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا =} (5). وتقديره = إضمار القول أي فقلنا خذوا = (6). والآية {= وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرََاهِيمُ الْقَوََاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمََاعِيلُ}
__________
(1) سورة البقرة، الآية (30).
(2) الزجاج، إعراب القرآن، ص 12.
(3) سورة البقرة، الآية (135).
(4) الزجاج، ص 14.
(5) سورة البقرة، الآية (63).
(6) الزجاج، إعراب القرآن، ص: 14.(1/349)
{رَبَّنََا =} (1) التقدير (أي يقولان ربنا) (2). إنّ المعرب لا يذكر = الحذف = باعتباره علامة اتّساق في النصّ أو أحد الروابط العاملة في ربط الآيات، ولكنّه يستعين بهذا الاتّساق الحاصل في النصّ ليقدّر المحذوف. في المستوى اللغوي الخالص في هذه الأمثلة معتمدا على اكتمال المعنى في كلّ منها.
(21) الحذف واستصحاب سياق الحال
في الأمثلة السابقة رأينا المعرب يعتمد على السياق اللّغوي في تقدير المحذوف، وحين يسكت النصّ عن ذكر بعض التفاصيل في أجزاء النصّ لدلالة السياق عليها، نجد النحاة يعتمدون على هذه المسألة في تقدير المحذوف فيكملون ما قاله النصّ ضمنا، مستأنسين بما ذكر من أجزاء النصّ من جهة، وبما يسعف به استصحاب واقع الحال (المقام) من جهة أخرى، ومن أمثلته: {= فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ =} (3). = وتقديره: أي فضرب فانفجرت = (4). فما كان للحجر أن ينفجر لولا أنّه ضرب، فهذا من حذف الجمل، وفي حذف الجمل في الغالب يستعان بسياق الحال في وضع تتمّة المادّة المحذوفة. ومن أمثلته أيضا {= فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى ََ سَفَرٍ =} (5). وتقديره: = أي فأفطر فعدّة من أيام أخر = (6). وفي الآية أيضا {= وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ =} (7). وتقديره = أي فيفطرون ففدية = (8). فما كانوا ليفتدوا لولا أنّهم أفطروا، ومثله كذلك قوله تعالى:
__________
(1) سورة البقرة، الآية (127).
(2) الزّجاج، إعراب القرآن، ص: 14.
(3) سورة البقرة، الآية (32).
(4) الزّجاج، إعراب القرآن، ص: 13.
(5) سورة البقرة، الآية (184).
(6) الزّجاج، إعراب القرآن، ص: 13.
(7) سورة البقرة، الآية (184).
(8) الزجاج، إعراب القرآن، ص: 13.(1/350)
{= فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ =} (1). وتقديره: = أي حلق ففدية = (2).
وكذلك قوله: {= فَتُوبُوا إِلى ََ بََارِئِكُمْ =} {= فَتََابَ عَلَيْكُمْ =} (3). والتقدير هو: (أي فتبتم فتاب الله عليكم) (4) إنّ التقدير في هذه الأمثلة كلّها يعتمد على البعد المنطقي في السّياق اللّغوي، أو ما يجب أن يتوافر في الواقع من عناصر حتّى تحدث هذه الوقائع كلّها.
إنّ الحقيقة المنطقيّة أو الإدراكية مبنيّة في الغالب على العالم الواقعي، ولذلك فإنّ الزّجاج في تقديره الحذف للآية (51) من سورة البقرة {= ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ =} يقدّره بقوله = أو صورته. = ويعلّل ذلك = بأنهم لم يعبدوا العجل حقيقة من بعده أي من بعد خروجه، ومن جهة أخرى فإنه لم يكن فيه حياة كما يكون في العجل حقيقة، بل كان صورة مموّهة وضعوها في صورة العجل = (5). إنّ علاقة رمزيّة أو مجازيّة يمكن أن تؤوّل هذه الآية، ولكنّ المعرب يعود إلى الواقع دائما فإذا اتّسق الطرفان (الواقع والنصّ) عن طريق تقدير المحذوف، لم يلجأ بعد إلى المجاز أو الرمز. ومن الأمثلة الأخرى قوله تعالى:
{= وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ =} في الآية (93) قال الزّجاج: = أي حبّ عبادة العجل ثمّ حذف العبادة = (6).
وقد يكون المحذوف كبيرا (عدّة جمل مثلا) وخاصّة في سياق القصّ، فتذكر المحاور المؤثّرة في الحكاية أو الموضوع، بالاعتماد على قدرة القارئ على ملء الفراغات في السياق بما يحفظ الاتّساق في ذلك النصّ. إنّ حذف هذه الجمل لغايات فنيّة مثلا (بنية السرد تقتضي ذلك)، أو لغايات تربويّة، أو لضرورات تتعلّق بطبيعة الواقعة أو الموضوع كما في
__________
(1) سورة البقرة، الآية (196).
(2) الزجاج، إعراب القرآن، ص: 15.
(3) سورة البقرة، الآية (54).
(4) الزجاج، إعراب القرآن، ص: 22.
(5) نفسه، ص: 46.
(6) نفسه، ص: 50.(1/351)
سورة يوسف، لا يخلّ أبدا بالاتّساق الداخلي في النصّ، ولكنّه يترك فراغات في تسلسل الحوادث في العالم الخارجي أو الواقعي، فيسارع المعرب إلى تقدير هذه المتسلسلات بما يضمن تماسكها ووصولها إلى البناء المكتمل الخالي من الثغرات. وانظر مثال ذلك في قوله تعالى: {= فَقُلْنََا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهََا كَذََلِكَ يُحْيِ اللََّهُ الْمَوْتى ََ =} في الآية (73)، قالوا في تقديرها = أي فضربوه ببعضها فحيي، وأخبر بقاتليه ثم خرّ ميتا، ويدلّ على صحّة الإضمار قوله: = {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ =} في الآية (74) (فقست) معطوف على (خرّ) = (1). إنّ هاهنا ملاحظتين:
الأولى تتعلّق بما قلناه من سياق السرد وتواؤم البناء السردي، والثانية استشهاده بوقائع الآية التالية وهو لون من التماس الاتّساق عبر السياق اللّغوي. ومثل هذا الاستئناس في تقدير المحذوف بما يلي من الجمل الواردة بعد موضع الحذف كثير.
وانظر إلى هذا التقدير الذي لا يمكن أن يكون مأخوذا إلّا من خارج النصّ (أي من المقام) وذلك في قوله تعالى في الآية (97) {= قُلْ مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ =} وتقديره = فليمت غيظا = (2). إنّ هذا من باب تقدير الجملة، ولكنّه مستلّ من العالم الخارجي الذي يحدّد علاقة المخاطب بالمخاطبين، وهم أعداء للرسالة ويضمرون لها الشرّ، فاستوحى المعرب هذا المعنى وقدّر المحذوف بحسبه. وتقدير المعنى الذي يحتمله النصّ، آلية أخرى من آليّات تقدير المحذوف، بل هي آليّة يستخدمها المعربون في توجيه النصّ ففي الآية الكريمة رقم (178) {= فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ =} قيل: = يجوز أن يرتفع (شيء) ب (عفي) أو بفعل محذوف يدلّ عليه قوله (عفي) لأنّ معناه ترك له شيء من أخيه، أي من حقّ أخيه ثم حذف المضاف، وقدّم الظرف الذي هو صفة للنكرة عليها فانتصب على الحال في الموضعين منها، وهذه الآية تجاذبها باب الجملة، وباب الإضافة وباب حذف حرف (الجر) وباب الحال =. (3) ومن تقدير المعنى المتّصل بالحذف والسياق تقدير المعربين لجواب (لو) في
__________
(1) الزجاج، إعراب القرآن، ص 20.
(2) نفسه، ص 21.
(3) نفسه، ص 23.(1/352)
التنزيل ومنه في سورة البقرة الآية (160) {= وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذََابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلََّهِ جَمِيعاً =} تقديره = أي لعلموا أنّ القوّة لله = (1). فهي عمليّة منعكسة إذن، فتقدير المعنى عنصر يسهم في تقدير المحذوف، وتقدير المحذوف عمليّة مهمّة في فهم تفاصيل المعنى، والأمران مرتبطان بالسياق بشقيه: سياق الحال والسياق اللّغوي الداخلي.
وقد تكون الحقيقة الخارجيّة مدخلا آخر من مداخل التعامل مع المحذوف، وتقديره أو استبعاده، ففي الآية الكريمة (26) {= إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا بَعُوضَةً فَمََا فَوْقَهََا =} قيل في تقديرها = أن يضرب مثلا ما بين بعوضة فما فوقها = عن الفرّاء فحذف (بين) وقيل (ما) نكرة في تقدير شيء، وبعوضة بدل منه وقال ابو علي في معنى الآية: = لا يجوز في القياس أن يريد أصغر منها، وقد حكي عن الكلبي أنّه يريد دونها وقال أبو عبّاس: (فما فوقها) الذباب فوق البعوضة، وقال الفرّاء: = فما فوقها = يريد أكبر منها، وهو العنكبوت والذباب، ولو جعلت في مثله من الكلام = فما فوقها = تريد أصغر منها، لجاز. ولست أستحسنه، لأنّ البعوضة غاية في الصغر فأحبّ إليّ أن أجعل (فما فوقها) أكبر منها = (2). إنّ حجم البعوضة حقيقة خارجيّة اتّكأ عليها الفرّاء في الاستحسان أو الاستبعاد.
ويتبدّى في الحذف مقايسة الحقيقة اللسانيّة بالحقيقة الخارجيّة، ومن ذلك افتراض وجود كلمة (مواضع) قبل كلمة (سمعهم) في الآية = ختم الله على سمعهم و {عَلى ََ قُلُوبِهِمْ =} قال العكبري = وفي الكلام حذف تقديره: على مواضع سمعهم لأنّ نفس السمع لا يختم عليه = (3).
__________
(1) الزجّاج، إعراب القرآن الكريم، ص: 21.
(2) نفسه، ص: 107.
(3) العكبري، التبيان في إعراب القرآن، 1/ 23.(1/353)
(31) الحذف وترابط النصّ
يستعين النحاة بعوامل سياقية عديدة في تقدير المحذوف كما رأينا، ومن ذلك الاستعانة بترابط النصّ وتعالقه، وتعالق العناصر المشكّلة له، ومن أمثلته قوله تعالى في الآية (89) من سورة البقرة: {= وَلَمََّا جََاءَهُمْ كِتََابٌ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ} {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا =}. = فحذف جواب (لمّا) أي كفروا، ودلّ عليه قوله تعالى: = {فَلَمََّا جََاءَهُمْ مََا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ =}، ولا يكون (لمّا) الثانية بجوابها جواب (لمّا) الأولى لأنّا لا نعلم = (1). إنّ المعرب هنا اتكأ على التآلف النحوي في جملة الشرط. ومن باب الاستعانة بالاتّساق الدلالي والصرفي ما جاء في تقدير المضمر في قوله تعالى {= خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ =} أي على مواضع سمعهم فحذف لأنّه استغنى عن جمعه = (2). وقد مرّ بنا في مكان سابق من هذا الكتاب (9) ما قاله المفسّرون عن اتّساق مفردات النصّ، من حيث أبنيتها، ومن حيث المفرد والجمع. ونوع الجمع، إنّ المعرب يعتمد على حقيقة أنّ الاتّساق يقتضي أن تدلّ (سمعهم) على الجمع لأنّها قد سبقت بجمع وهو (قلوبهم)، ولذلك جاء تقدير المحذوف من خلال هذه الحقيقة. ومثله تقديرهم = صوموا أياما معدودات = فحذف = صوموا = في قوله {= كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيََامُ} {أَيََّاماً مَعْدُودََاتٍ =}. لأنّ قوله {(كُتِبَ عَلَيْكُمُ)} يدلّ عليه = (3). وقال = لأنّه لا ينتصب ب (الصيام) لأن الصيام مصدر فلا يفصل بينه وبين أيام بالكاف المنصوبة ب (كتب) لأنّ التقدير: سنكتب عليكم الصيام كتابة مثل كتابته على الذين من قبلكم = (4).
إنّ القاعدة النحويّة والصرفيّة والدلاليّة تبقى حاضرة في ذهن المعرب وهو يقدّر المحذوف، ولكنّ الذي يبقى حاضرا أكثر هو ترابط النصّ واتّساقه الداخلي والخارجي.
__________
(1) الزجاج، ص: 43.
(2) نفسه.
(9) انظر تنوع الصيغ في الخطاب وعلاقته بالسياق، في المبحث الثاني من هذا الفصل.
(3) نفسه، ص: 23.
(4) نفسه.(1/354)
(41) الحذف والسياق القرآني العام.
كثيرا ما يلجأ المعربون في تقدير المحذوف إلى السياق القرآني العامّ (القرآن كلّه) وذلك لمعرفتهم بأنّ القرآن كلّه كالكلمة الواحدة تتكامل أجزاؤها وتتآلف، ومن ذلك في سورة البقرة قوله تعالى في الآية (83): {= لََا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللََّهَ وَبِالْوََالِدَيْنِ إِحْسََاناً} = قال الزجّاج:
= والتقدير = فأحسنوا بالوالدين إحسانا = وأضمر = وأحسنوا = لأنّ المصدر يدلّ عليه، والدليل عليه قوله تعالى: = وقولوا للناس حسنا = (1). وهنا لجأ المعرب إلى الاستدلال بآية من خارج سورة البقرة.
وقد يلجأ إلى موضع آخر من السورة نفسها، آية تسبق موضع الحذف أو تليه، ونظيره قوله تعالى: {= وَانْظُرْ إِلى ََ حِمََارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنََّاسِ =} في الآية (259) من السورة، وتقديره = لتستيقن ولنجعلك آية للناس = نظيره قبله = ولأتمّ نعمتي عليكم = تقديره = واشكروا ولأتمّ = (2)، وقيل: هو معطوف على قوله: = لئلّا يكون للناس عليكم حجّة ولأتمّ نعمتي عليكم = (3). إن اعتماد المفسّر على آية سابقة بكثير لموضع الحذف يدل على تمثّل الوحدة في هذا النصّ من جهة، والاتّساق من جهة أخرى.
ومن أمثلته كذلك قوله تعالى: = أو كصيّب من السماء = (4). قال الزجّاج: = أي كأصحاب صيّب من السماء دليله قوله {= يَجْعَلُونَ أَصََابِعَهُمْ =} (5). ويجعلون في موضع الجرّ وصف للأصحاب من الصواعق أي من شدّتها. وقوله تعالى: {= فِيهِ ظُلُمََاتٌ =} لأنّه لا يخلو من أن يعود إلى الصيّب أو إلى السماء، فلا يعود إلى الصيّب لأنّ الصيّب لا ظلمات فيه =.
وقال: = ويدل على هذا الحذف قوله تعالى: {= وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ =} في الآية (19) فهما معطوفان
__________
(1) الزجاج، ص: 43.
(2) سورة البقرة، الآية 155.
(3) الزجاج، ص: 24.
(4) سورة البقرة، الآية (16).
(5) الزجاج: ص: 43.(1/355)
على (الظلمات). ولا يجوز أن يكون الرعد والبرق ممّا ينزل وإنّهما في السماء لاصطكاك بعض أجرامها ببعضها، بالإضافة لاستقلال السحاب وارتفاعه في كون هذه الظلمات.
وقدّره مرة أخرى أي سحاب وفيه الظلمات، فكذلك فيه ظلمات أي في وقت نزوله = (1).
إنّ الشاهد في هذا المثال استدلاله بمواضع أخرى من النصّ (السياق العام للنصّ) ولكنّه من ناحية أخرى يكشف عن تمثّل المعرب للعلاقة بين إعراب النصّ والمقام الخارجي للحدث الكلامي: إنّه يعتمد على حقائق المقام من مثل: (الصيّب لا ظلمات فيه)، و (الرعد والبرق ليس ممّا ينزل)، وعمليّة حدوث البرق والرعد.
ومن أمثلته كذلك: (حذف المضاف) في قوله تعالى: {= وَإِذْ وََاعَدْنََا مُوسى ََ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً =} (2) = أي انقضاء أربعين ليلة. وقال أبو عليّ: ليس يخلو تعلّق الأربعين ب (الوعد) من أن يكون على أنّه ظرف أو مفعول ثان، فلا يجوز أنّ يكون ظرفا لأنّ (الوعد) ليس فيها كلّها فيكون جواب (كم) ولا في بعضها، فيكون كما يكون جوابا ل (متى) لأنّ جواب (كم) تكون عن الكلّ لأنّك إذا قلت: كم رجلا لقيت؟ فالجواب عشرين فأجاب عن الكل، وجواب (متى) جواب البعض لأنّك إذا قلت: متى رأيت يقال في جوابه (يوم الجمعة) وهو بعض الأيام التي يدلّ عليها (متى)، فإذا لم يكن ظرفا كان انتصابه بوقوعه موقع المفعول الثاني، والتقدير واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة، أو تتمّة أربعين ليلة فحذف المضاف كما تقول: اليوم خمسة عشر من الشهر، أي تمامه. ونظيره في الأعراف {= وَوََاعَدْنََا مُوسى ََ ثَلََاثِينَ لَيْلَةً =} أي انقضاء ثلاثين وأتممناها بعشر فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلة = والميقات هو الأربعون = وإنّما هو ميقات ووعد، لما روي أنّ القديم سبحانه وتعالى وعده إن يكلّمه على الطور = (3). إنّ هذا الشاهد يحيلنا إلى أكثر من موضوع يتّصل بالسياق، فهو
__________
(1) الزجاج، إعراب القرآن، ص 44.
(2) سورة البقرة، الآية (51).
(3) الزجاج، إعراب القرآن، ص: 45.(1/356)
من جانب قد قدّر المحذوف بالاتّكاء على الحقائق المنطقيّة وحقائق اللغة، وطبيعة التوافق بين لغة النصّ ومقامه، والاستئناس بنصّ قرآنيّ آخر في سورة الأعراف، واتكاؤه على سياق الواقع وهو حقيقة الوعد بالتكليم على الطور.
(51) الحذف ودور السياق في تحليل النصّ
يؤدّي الحذف دورا رئيسيا في ترابط النصّ واتّساقه، كما إنّ تقدير المحذوف بالاستعانة بالسياق يؤدّي دورا رئيسيّا في فهم النص وتحليله. إنّ الحذف مثل الاتساق المعجمي، مثل الإحالة، مثل الاستبدال، كلّها عناصر وعلاقات داخل النصّ، تربط العناصر السابقة باللاحقة عن طريق إيجاد نوع من الترابط، والترابط علاقة دلاليّة تعتمد على جميع ما ذكرنا إضافة إلى نوع من السياق الضمني والافتراضي، الذي يحيّد الافتراضات غير المقبولة في هذا النصّ وهذا السياق، ويبقي الافتراضات المقبولة وصولا إلى القراءة الأكثر قبولا وقربا من الواقع، أو ممّا أراد المخاطب إفهامه للمخاطب.
ومن ذلك ترابط الوقائع وترابط المفردات والدلالات وترابط العنصر الزمني، وكلّ هذا رأيناه من خلال الأمثلة السابقة، ونضيف إليه هنا أنّ المعرب يعتبر النصّ الذي فيه حذف نصّا تاما، إنّه خطاب ناقص انتقائيا بتعبير منظور تحليل الخطاب ولكنّه نصّ منسجم نظرا لأنّ المستمع / القارئ يملأ الناقص عن طريق الاستدلال، باعتبار القضايا غير المعبّر عنها فيه ضمنيّة، ومن أمثلة كلّ هذا في تحليل النصّ قوله تعالى في الآية (223):
{= نِسََاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ =} قال الزجّاج = أي فروج نسائكم = (1). ومثله قوله تعالى: {= قََالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا اللََّهِ} = (2). = أي ملاقون ثواب الله = (3). ومنه كذلك قوله تعالى {= فَإِنْ لَمْ يَكُونََا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتََانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدََاءِ أَنْ تَضِلَّ =} أي
__________
(1) الزجاج، إعراب القرآن، ص: 49.
(2) سورة البقرة، الآية (223).
(3) الزجاج، إعراب القرآن، ص: 50.(1/357)
فلتحدث شهادة رجل وامرأتين أن تضلّ إحداهما = (1). وقال أبو علي: = لا يتعلّق (أن) بقوله {= وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجََالِكُمْ} {أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا =} ولكن يتعلّق (أن) بفعل مضمر دلّ عليه هذا الكلام = (2). ومنه كذلك قوله تعالى {= إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقََاتِ فَنِعِمََّا هِيَ =} في الآية رقم (271) = أي فنعم شيئا إبداؤها، فحذف المضاف وهو إبداء فاتصل الضمير فصار (ها هي) لأنّ (ها) يتّصل بالاسم فإذا انفصل قيل: هي = (3).
ومنه الحذف في قوله تعالى: {= قَدْ نَرى ََ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمََاءِ =} (4). قال أبو علي: هذا يكون على ضربين أحدهما: تقلّب وجهك نحو السماء، وهذا يفعله المهتمّ المتفكّر فالسماء هذه التي تظلّ الأرض، وكون السماء ما ارتفع وكان خلاف السفل، أي تقلّب وجهك في الهواء، ولا يكون (في السماء) متعلّقا ب (نرى) لأنّه سبحانه وتعالى يرى في السماء وغيرها فلا وجه لتخصيص السماء = (5). إنّ هذا النصّ تحديدا يعتمد على معرفة المحلّل لطبيعة المخاطب سبحانه وتعالى (يرى في السماء وغيرها) والمخاطب وهو هنا رسول الله، والحقيقة الواقعيّة (السماء والأرض والرؤية) وهدف النص. وهو يقدّر المحذوف بالاستضاءة بهذا كلّه ومن ثمّ يحلّل النصّ.
وانظر كذلك إلى تحليلهم للنصّ في ضوء تقدير المحذوف في قوله تعالى في الآية (203) من سورة البقرة: {= فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلََا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلََا إِثْمَ عَلَيْهِ =}
= وموضع طرح تعجّل الإثم للمتعجّل، فجعل للمتأخّر الذي لم يقصّر مثل ما جعل على المقصر = وقال: = وتحتمل هذه وجها آخر، هو أن يريد لا يقولنّ واحد منهما لصاحبه: أنت مقصّر، فيكون المعنى لا يؤثمنّ أحدهما صاحبه، ومن ذلك قوله تعالى: {= فَلََا عُدْوََانَ إِلََّا}
__________
(1) سورة البقرة، الآية (282).
(2) الزجاج، إعراب القرآن، ص: 52.
(3) نفسه، ص: 72.
(4) سورة البقرة، الآية 144.
(5) الزجاج، إعراب القرآن، ص 73.(1/358)
{عَلَى الظََّالِمِينَ =} أي فلا جزاء ظلم إلّا على ظالم = (1). وفي شاهد آخر يصرّح الزجّاج بتمثّل سياق الكلام في تقدير المحذوف يقول: = ومن حذف المضاف قوله تعالى: {= هَلْ لَكُمْ مِنْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ مِنْ شُرَكََاءَ فِي مََا رَزَقْنََاكُمْ =} (2). أي في ملك ما ملّكناكم تخافونهم أي: تخافون تسويتهم في الملك لأنّ سياقه الكلام تدلّ عليه = (3).
فهذه أمثلة عديدة كلّها تدور في نقطة توظيف تقدير المحذوف، وهو خطوة من خطوات الاستدلال عبر السياق في تحليل النص، وهو كما أشرنا جزء من آليات تحليل الخطاب لدى مدرسة تحليل الخطاب المعاصرة التي أشرنا إليها في الفصل الأوّل من هذا الكتاب.
وسنن العرب في التعامل مع التراكيب من حيث الإضمار او الإظهار أو غيرهما ممّا ينتبه له المعرب ففي الآية (64) {= فَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ =} قال النحّاس: = رفع بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف لا يجوز عنده إظهاره لأنّ العرب استغنت عن إظهاره بأنّهم إذا أرادوا ذلك جاءوا بأن فإذا جاءوا بها لم يحذفوا الخبر، والتقدير: = فلولا فضل الله تدارككم = ورحمته عطف على فضل (لكنتم) جواب لولا (من الخاسرين) خبر (كنتم) = (4).
ومثله في إعرابهم للآية (274) {= الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ =}. = رفع بالابتداء والخبر {(فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)} ودخلت الفاء ولا يجوز (زيد فمنطلق) لأنّ في الكلام معنى الجزاء، أي من أحل نفقتهم فلهم أجرهم. وهذا كلام العرب إذا قلت: (السارق فاقطعه) فمعناه: من أجل سرقته فاقطعه = (5). إنّ دلالة السياق على المحذوف، وسنن العرب في كلامها (العرف اللغوي) هما العنصران اللذان استند إليهما تأويل المعرب لهذا
__________
(1) الزجاج، إعراب القرآن، ص: 72.
(2) سورة الروم، الآية (28).
(3) الزجاج، إعراب القرآن، ص: 81.
(4) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 233.
(5) نفسه، 1/ 340.(1/359)
الموضع في هذه الآية، ومنه أيضا في إعرابهم للآية (282) {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا تَدََايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ =} قال المعرب: = أثبت اللام في الثاني وحذفها من الأوّل، لأنّ الثاني غائب، والأوّل للمخاطبين فإن شئت حذفت اللام في المخاطب لكثرة استعمالهم ذلك، وهو أجود، وإن شئت أثبتها على الأصل = (1). وفي هذا المثال قضيّتان:
الأولى الاستشهاد بسنن العرب وعرفها في التعامل مع مثل هذه الحالة وهو من السياق الثقافي واللّغوي للجماعة المخاطبة، والثانية: تعامله مع الضمائر والحروف بحسب الحضور أو الغياب، وهو من الحقائق الخارجيّة التي تبدّت أثرا خطّيا في النصّ.
وعلم السامع يشبه ان يكون مسوّغا ثابتا للحذف، وهو يجري في إعراب القرآن كالأصل الثابت المتواتر، ويصرّح النحاة به تصريحا غير ملتبس. يقول ابن السراج:
= والمحذوفات في كلامهم (العرب)، كثيرة، والاختصار في كلام الفصحاء كثير موجود، إذا آنسوا بعلم المخاطب ما يعنون = (2). وأعلن المبرّد ذلك بأن وضع عنوانا عريضا فيه (هذا باب ما حذف من المستثنى تخفيفا واجتزئ بعلم المخاطب). وأمثلة ذلك في سورة البقرة عديدة، ونختار منها إعراب النحّاس للآية (179) {= وَلَكُمْ فِي الْقِصََاصِ حَيََاةٌ} = قال النحاس: {= لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ =} حذف المفعول لعلم السامع، وروى الليث عن ربيعة في قوله {(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)} محارمكم وما نهيت بعضكم فيه عن بعض = (3). ومن أمثلته كذلك في إعراب الآية (182) {= فَمَنْ خََافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً =} قال النحّاس: = فأصلح بينهم عطف على جاف، والكناية عن الورثة، ولم يجر لهم ذكر لأنّه قد عرف المعنى، وجواب الشرط فلا إثم عليه = (4).
ويرتبط الحذف كذلك بغرض النص ففي إعراب الآية (165) {= وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا =} قال النحاس: = أي لو يعلمون حقيقة قوّة الله (فيرى) واقعة على (ان)
__________
(1) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 282.
(2) ابن السراج، أصول النحو، 2/ 341.
(3) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 282.
(4) نفسه، 1/ 283.(1/360)
وجواب (لو) محذوف أي لتبينوا ضرر اتّخاذهم الآلهة =. كما قال: {= وَلَوْ تَرى ََ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النََّارِ =} و {= لَوْ تَرى ََ إِذْ وُقِفُوا عَلى ََ رَبِّهِمْ =} ولم يأت للو جواب. قال الزهري وقتادة: الإضمار أشدّ للوعيد = (1). وأما العكبري فيوضح هذا أكثر بقوله: = جواب (لو) محذوف، وهو أبلغ في الوعد والوعيد، لأنّ الموعود والمتوعّد إذا عرف قدر النعمة والعقوبة وقف ذهنه، مع ذلك المعيّن، وإذا لم يعرف ذهب وهمه إلى ما هو الأعلى من ذلك، وتقدير الجواب:
لعلموا أنّ القوّة أو لعلموا أنّ الانداد لا تضرّ ولا تنفع = (2). وحذف جواب (لو) من سنن العرب، وهدفه أنّ السامع يبدأ بتخيل هذا الجواب، ويكون خياله مفتوحا لا يحدّه حدّ فتركه على إطلاقه آكد في التأثير على الوعد أو الوعيد، والحذف ارتبط هنا بعنصر الغرض وهو من عناصر السياق.
يتبيّن لنا من كلّ ذلك أنّ المعربين قد اهتمّوا بضبط مواضع الحذف، وتقدير المحذوف في القرآن الكريم، وكان السياق اللّغوي هو الطريق الأوّل الذي التمسوه في تقدير المحذوف من خلال الآيات المحيطة بموضع الحذف، والمعلومات التي يوفّرها السياق الداخلي للنصّ، كما أنّ هذا النصّ كان يمدّ أولئك المعربين بمجموعة الاحتمالات التي يقبل موضع الحذف التأويل بها، كما أنّهم استصحبوا سياق الحال في تأويل المحذوف وتقديره، مستأنسين بما ذكر من أجزاء النصّ وبالوقائع التي توافرت لديهم، وكذلك بتوظيف البعد المنطقي في ترتّب الوقائع داخل النصّ وخارجه، ورأينا أنّ هذا التوظيف لسياق الحال أكثر ما يتجلّى في الحذف الذي ينتظم عددا كبيرا من الحمل المحذوفة، كما في سياق القصّ أو السرد وغيره، كما أنّ تقدير المعنى يعدّ عنصرا آخر من العناصر التي أسعفتهم في تقدير المحذوف، وهو مرتبط بالسياق اللّغوي من جهة وبسياق الحال من جهة أخرى. كما إنّ النحاة استعانوا بترابط النصّ وتعالقه في تقدير المحذوف ولكنّهم لم يصرّحوا بالحذف كعامل مهم من عوامل الاتساق الداخلي، وترابط النصّ يعتمد على الاتساق الدلالي والصرفي والتركيبي والصوتي، ويرتبط هذا جميعا بالاتّساق مع المقام.
__________
(1) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 277.
(2) العكبري، التبيان في إعراب القرآن، 1/ 35.(1/361)
ويلجأ المعربون في تقدير المحذوف إلى السياق القرآني كلّه لإدراكهم أنّ القرآن كلّه كالكلمة الواحدة، وقد يكون هذا السياق من السورة نفسها في موضع يسبق أو يلي موضع الحذف، أو في سور أخرى من القرآن الكريم. إنّ العمل التأويلي الذي يقوم به النحوي وهو يقدّر المحذوف، يشبه إلى حدّ بعيد عمليّة الاستدلال والتأويل التي افترضتها جماعة تحليل الخطاب، الذين يربطون موضع التحليل بالخطابات السابقة وبالزمان والعلاقات التي تمسّ الخطاب، والذين يعتمد عملهم في التأويل على ملء الفراغات أو التقطيعات في الخطاب. واعتمد النحاة على هذا كلّه في تحليل الخطاب كما أنّهم جعلوا سنن العرب في الحذف والإضمار أصلا ماثلا في التعامل مع مواضع الحذف في السورة الكريمة. ويوشك (علم السامع) أن يكون مسوّغا ثابتا للحذف عندهم كما أنّهم ربطوا بين الحذف كأثر خطيّ في الخطاب وغرض النصّ باعتباره من عناصر السياق.
2 - السياق والعطف
تنبّه معربو القرآن إلى حروف العطف في السورة الكريمة، ومتى يقصد بها العطف ومتى لا يقصد بها ذلك، ودور السياق في تحليل هذه المواضع ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: = ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين = في الآية الثامنة من سورة البقرة،، وقال أبو البقاء العكبري فيها: {= (وَمِنَ النََّاسِ) =} الواو دخلت هنا للعطف على قوله {= الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ =}. وذلك أنّ هذه الآيات استوعبت أقسام الناس فالآيات الأول تضمّنت ذكر المخلصين في الإيمان وقوله {(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)} تضمّن ذكر من أظهر الكفر، وأبطنه، وهذه الآية تضمّنت ذكر من أظهر الإيمان وأبطن الكفر، فمن هنا دخلت (الواو) لتبيّن أنّ المذكورين من تتمّة الكلام الأوّل (1). إنّ النحويّ هنا يقرّر أنّ (الواو) للعطف ابتداء، وحيث أنّه يرى العطف فيه علاقة ترتيب أو اشتراك في الحكم فإنّه يبحث
__________
(1) العكبري: أبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري (ت 616هـ)، التبيان في علوم القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، ط 2، دار الجيل، بيروت / لبنان، 1982، ص: 24.(1/362)
عن هذا في تآلف السياق بين موضع العطف وما يسبقه، وهنا يعتمد على عنصر (الموضوع) في تآلف هذا السياق وعبّر عنه بقوله: = إنّ المذكورين من تتمّة الكلام الأول =.
ومن أمثلته كذلك قوله تعالى: {= قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهََا جَمِيعاً فَإِمََّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدََايَ فَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ =} في الآية (38). قيل في = خوف = والرفع والتنوين هنا أوجه من البناء على الفتح لوجهين: أحدهما انه عطف عليه ما لا يجوز فيه إلّا الرفع وهو قوله = ولا هم = لأنّه معرفة، و (لا) لا تعمل في المعارف، فالأولى أنّه يجعل المعطوف عليه كذلك ليتشاكل الجملتان، كما قالوا في الفعل المشغول بضمير الفاعل، نحو قام زيد وعمرا كلّمته فإنّ النصب في (عمرو) أولى ليكون منصوبا بفعل، كما أنّ المعطوف عليه عمل فيه الفعل. والوجه الثاني من جهة المعنى وذلك بأنّ البناء يدلّ على نفي الخوف عنهم بالكليّة، وليس المراد ذلك بل المراد نفيه عنهم في الآخرة، فإن قيل: لم لا يكون وجه الرفع أنّ هذا الكلام مذكور في جزاء من اتّبع الهدى، ولا يليق أن ينفي عنهم الخوف اليسير، ويتوهّم ثبوت الخوف الكثير. قيل: الرفع يجوز أن يضمر معه نفي الكثير، تقديره:
ولا خوف كثير عليهم، فيتوهّم ثبوت القليل، وهو عكس ما قدّر في السؤال، فبان أنّ الوجه في الرفع ما ذكرنا = (1). إنّ في النصّ السابق إشارة إلى التشاكل الذي سبق أنّ تحدثنا عنه في الفصل الأوّل وهو تشاكل تركيبي، كما أنّ فيه إشارة إلى دور المعنى في إعراب النصّ وفيه مراعاة لهدف النصّ (نفي الخوف عنهم) كما أنّ فيه استحضارا لدور المخاطب = ويتوهّم ثبوت الخوف = إنّ هذا النصّ يعكس الموقف الخطابي كاملا: المخاطب والمخاطب والموضوع، وانظر إلى مصطلحاته: التشاكل، ما يليق، وكلّها تصبّ في موضوع العلاقة بين النصّ والسياق.
وقد يلجأ المعرب إلى توضح مجيء العطف بين لفظين يبدو ان مترادفين من مثل العفو والصفح في الآية (109) {= فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا =} فقال الزجّاج: = لأنّ العفو ألّا يكون في القلب من ذنب المذنب أثر، والصفح أنّ يبقى له أثر ما، ولكن لا تقع به المؤاخذة = (2).
__________
(1) العكبري: التبيان في إعراب القرآن، ص: 55.
(2) الزجاج، ص: 93.(1/363)
وهذا شرح سياقيّ للألفاظ ودفاع عن تآلف السياق وعدم وجود الحشو فيه، وهو كذلك استئناس بحال المخاطب من حيث ما يعتمل في صدره وموقفه من خصمه.
ومن أمثلته كذلك قوله تعالى في الآية (217) من سورة البقرة {= يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرََامِ قِتََالٍ فِيهِ، قُلْ قِتََالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرََامِ وَإِخْرََاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ =} قال مكيّ بن أبي طالب: = قوله تعالى = والمسجد الحرام = عطف على (سبيل الله) أي قتال في الشهر الحرام كبير، وهو صدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام. وقال الفرّاء: = والمسجد معطوف على الشهر الحرام، وفيه بعد لأنّ سؤالهم لم يكن عن المسجد الحرام، إنّما سألوا عن الشهر الحرام، هل يجوز فيه القتال؟ فقيل لهم: القتال فيه كبير الإثم، ولكنّ الصدّ عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، والكفر بالله وإخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله إثما من القتال في الشهر الحرام، ثم قيل لهم: = والفتنة أكبر من القتل = أي والكفر بالله عزّ وجل الذي أنتم عليه أيها السائلون أعظم إثما من القتل في الشهر الحرام الذي سألتم عنه وأنكرتموه فهذا التفسير يبيّن إعراب هذه الآية (1) =.
وأمّا النحّاس فقد قال في هذه الآية: = في المسجد الحرام عطف على الشهر، أي ويسألونك عن المسجد فقال تعالى: = وإخراج أهله منه أكبر عند الله، وهذا لا وجه له، لأنّ القوم لم يكونوا في شكّ منه عظيم، ما أتى المشركون المسلمين في إخراجهم من منازلهم بمكّة فيحتاجون إلى المسألة عند أهل كان ذلك لهم، ومع ذلك فإنّه قول خارج عن قول العلماء، لأنّهم أجمعوا أنّها نزلت في سبب قتل ابن الحضرمي = (2).
إنّ المعرب هنا استبعد وجها من الإعراب وهو عطف المسجد على الشهر الحرام، واتّكأ في هذا الاستبعاد على موقف الخطاب، حوار المتخاطبين، وأسئلتهم، وطبيعة ما أرادوه في السؤال، وغرض السؤال، ومعنى الجمل في الخطاب، فهو إذن مرتبط
__________
(1) مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437هـ)، مشكل إعراب القرآن، تحقيق: ياسين محمد السواس، ط 1 دمشق، 1974، 1/ 95.
(2) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 308.(1/364)
بسياق النصّ الخارجي، الذي تبدّى داخل النص وعلاقاته. وفي توجيه النحاس استقراء مباشر لسياق الحال، من خلال سبب النزول في قراءة (الناس) وتوجيهه أنّ النحاة يرون الإعراب فرع المعنى، والمعنى مرتبط بالسياق الداخلي والخارجي معا.
ومن مواضع العطف التي نشير إليها في هذا الموضوع قوله تعالى في الآية (245):
= من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة، والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون =. قال مكي: = من رفعه عطفه على ما في الصلة وهو (يقرض)، ويجوز رفعه على القطع ممّا قبله، ومن نصبه حمله على العطف بالفاء على المعنى دون اللفظ فنصبه، ووجه نصبه له أنّه حمله على المعنى فأضمر بعد الفاء (أن) فتكون مع الفعل مصدرا، فتعطف مصدرا على مصدر، فلمّا أضمر (أن) نصب الفعل ومعنى حمله له على المعنى، أنّ معنى {= مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً =} من يكن منه قرض يتبعه أضعاف، فلمّا كان معنى صدر الكلام المصدر جعل الثاني المعطوف بالفاء مصدرا ليعطف مصدرا على مصدر، فاحتاج إلى إضمار (أن) لتكون مع الفعل مصدرا فنصب الفعل، والفاء عاطفة للترتيب على أصلها في باب العطف، ولا يحسن أن تجعل = فيضاعفه = في قراءة من نصب جوابا للاستفهام بالفاء، لأنّ القرض غير مستفهم عنه إنّما الاستفهام عن فاعل القرض ألا ترى أنّك لو قلت: أزيد يقرضني فأشكره لم يجز النصب على جواب الاستفهام، لم يقع على القرض، إنّما وقع على زيد. ولو قلت: أيقرضني زيد فأشكره جاز النصب على جواب الاستفهام لأنّ الاستفهام عن القرض وقع. وقد قيل: إنّ النصب في الآية على جواب الاستفهام محمول على المعنى، لأنّ = من يقرض الله = و {= مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللََّهَ} = سواء في المعنى. والأوّل عليه أهل التحقيق والنظر والقياس (1). إنّ الحمل على المعنى يعدّ أصلا رئيسا يصدر عنه النحويّ، ثم إنّ معنى مطلع الكتاب لا بدّ ان يتّسق مع معنى آخره = فلمّا كان معنى صدر الكلام = ثمّ إنّ مقصد السائل وموضوع التساؤل كذلك، ووقائع حادثة
__________
(1) النحاس، إعراب القرآن، 1/ (103102).(1/365)
السؤال، كلّها لها علاقة مباشرة بتوجيه الإعراب هنا وهذا انعكاس آخر من انعكاسات علاقة النصّ بالسياق، إنّ العطف يعدّ موضعا حيويّا لتبدّي هذه العلاقة لأنّه أداة ترابط بين أجزاء الكلام، ولأنّه يشير إلى الاتساق الداخلي والخارجي معا، فحين يقطع المخاطب يقصد أن يحدث أثرا ما في ذهن المخاطب، وحين يعطف ويصل يقصد شيئا آخر، وهو ما حرص النحاة على إظهاره: ما معنى الجملة إذا قصد العطف؟ وما معناها إذا لم يقصد ذلك.
وتختلف توجيهات المعرب لمعنى الآية باختلاف المعطوف عليه، وهو يظهر أيّ لون من التركيب السياقي تمّ اختياره في كلّ حالة، ومن أمثلته في الآية (271) {= إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقََاتِ فَنِعِمََّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهََا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرََاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئََاتِكُمْ وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ =}. = فمن جزم الراء في {= وَيُكَفِّرُ =} عطف على موضع الفاء في قوله: {= فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ =} ومن رفع فعلى القطع، ومن قرأ بالنون ورفع قدّره: (ونحن نكفّر) ومن قرا بالياء ورفع قدّره: = والله يكفر عنكم = (1). إنّ السياق الداخلي يتحدّد بحسب مكوّناته وهو ما يعيدنا إلى قولهم: = لكلّ كلمة مع صاحبتها مقام = ويعيدنا إلى التحليل المكوّناتي عند علماء الدلالة في العصر الحديث، إنّ البدائل التي يتيحها السياق تسمح بتكوين عدد غير قليل من قراءات النص بحسب اختلاف المكوّنات أو العناصر اللّغوية في ذلك النص. وقال الزجّاج = قرأ الأعمش = فهو خير لكم نكفّر عنكم = بغير واو جزما، والصحيح عن عاصم أنّه قرأ مرفوعا بالنون، وروى عنه حفض أنّه قرأ {(وَيُكَفِّرُ)} بالياء والرفع، وكذلك روى عن الحسن وروى عنه بالياء والجزم، وقرأ عبد الله ابن عباس: (وتكفّر عنكم من سيّئاتكم) بالتاء وكسر الفاء والجزم وقرأ عكرمة (وتكفّر عنكم) بالتاء وفتح الفاء والجزم، قال أبو جعفر: أجود القراءات (ونكفّر عنكم) بالرفع هذا قول الخليل وسيبويه. قال سيبويه: والرفع هاهنا الوجه، وهو الجيّد لأنّ الكتاب الذي بعد الفاء جرى مجراه في غير الجزاء، وأجاز الجزم. يحمله على المعنى، لأنّ المعنى = وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء يكن
__________
(1) مكي بن أبي طالب، تأويل مشكل إعراب القرآن، 1/ 114.(1/366)
خيرا لكم ونكفّر عنكم = وقرأ ابن عبّاس: (وتكفر) يكون معناه وتكفّر الصدقات، وقراءة عكرمة (وتكفّر عنكم) أي أشياء من سيّئاتكم فأمّا النصب (ونكفّر) فضعيف وهو على إضمار (أن) وجاز على بعد لأنّ الجزاء إنّما يجب به الشيء لوجوب غيره فضارع الاستفهام = (1). إنّ الاتساق بين أول الكلام وآخره من حيث المعنى، ومن حيث اتّصال الموضوع هاجس لدى المعرب في مسألة العطف وغيره ومن ثمّ يصبح تآلف المعنى هو هدف النحويّ، ثمّ الترتّب المنطقي للأسباب والنتائج والوقائع، يعدّ هاجسا آخر وكلّ هذا له صلته بالسياق.
ومن الأمثلة التي يشيرون إليها في الآية (53) {= وَإِذْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ وَالْفُرْقََانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ =} قال أبو جعفر النحّاس: {= وَإِذْ آتَيْنََا مُوسَى =} بمعنى أعطينا (موسى الكتاب) مفعولان (والفرقان) عطف على (الكتاب) قال الفرّاء: وقطرب يقول: وإذ آتينا موسى الكتاب أي التوراة، ومحمّدا صلّى الله عليه وسلّم الفرقان، وهذا خطأ في الإعراب والمعنى، أمّا الإعراب فإنّ المعطوف على الشيء مثله. وعلى هذا القول يكون المعطوف على الشيء خلافه، وأمّا المعنى فقد قال فيه جلّ وعزّ: = ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان =، قال أبو إسحاق: يكون الفرقان هذا الكتاب أعيد ذكره، وهذا أيضا بعيد إنّما يجيء في الشعر كقول الشاعر: (وألفى قولها كذبا ومينا) وأحسن ما قيل في هذا قول مجاهد: فرقانا بين الحقّ والباطل الذي علّمه إياه (2).
إنّ المعرب اعتمد على حقيقتين: أولاهما معنى العطف، والثانية التوافق المادّي والواقعي بين المعطوف والمعطوف عليه = يكون المعطوف على الشيء خلافه = ومن ناحية أخرى فمقصد المخاطب وتقدير المعنى من العناصر الثابتة في الترجيح والاستبعاد لدى النحاة. إنّ القاعدة النحوية لا يمكن إعمالها بمعزل عن السياق وهذا هو ما أكده الزجاج بترجيح قول مجاهد.
__________
(1) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 39.
(2) نفسه، 1/ 25.(1/367)
وفي الآية (125) {= وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثََابَةً لِلنََّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقََامِ إِبْرََاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنََا إِلى ََ =} في قوله: = واتّخذوا = قيل = معطوف على (جعلنا)، قال الأخفش أي واذكروا إذ اتخذوا معطوف على (اذكروا نعمتي). ومن قرأ = واتخذوا = قطعه من الأول وجعله أمرا وعطف جملة على جملة، وقد ذكرنا انه قيل: الأولى ان يكون = مقام إبراهيم = الذي يصلّي إليه الأئمة الساعة، وإذا كان كذا كان الأولى (واتّخذوا) لحديث حميد بن انس وليس يبعد (واتّخذوا) على الاختيار ثمّ يكون قد عمل به، على أنّ حماد بن سلمة قد روى عن هشام بن عروة عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما صدرا من خلافته كانوا يصلّون بإزاء البيت ثم صلّى عمر إلى المقام، وهو اسم للموضع ومقام من أقام وتدخلها الهاء للمبالغة، وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل في موضع خفض. = (1) إنّ المعرب يستصحب سياق الحال وهو يعرب، ويتّكئ على النصوص الأخرى كالأحاديث ليقوّي قراءته للنصّ.
كما أنّه يستعين بالعناصر المكوّنة الأخرى في النصّ.
وفي إعراب الآية (188) {= وَلََا تَأْكُلُوا أَمْوََالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبََاطِلِ وَتُدْلُوا =} قيل:
= عطف على (تأكلوا) وفي قراءة أبي (ولا تدلوا) ويجوز أن يكون (ولا تدلوا) جواب الأمر بالواو (2) =. نجد أيضا أن توجيه العطف أو توجيه الآية يعتمد على خيارات يضعها النحوي بناء على تقدير المعنى، وأن تأويله للآية هو الذي يوجّه هذا الإعراب بحسب مقصد المخاطب كما يفهمه المعرب.
ومن أمثلته قوله تعالى في الآية (199) {= ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ =} قال السمين الحلبي: = استشكل الناس مجيء (ثم) هنا من حيث أنّ الإفاضة الثانية هي الإفاضة الأولى، لأنّ قريشا كانت تقف بمزدلفة وسائر الناس بعرفة فأمروا أنّ يفيضوا من عرفة، وفي ذلك أجوبة: أحدها أنّ الترتيب في الذكر لا في الزمان الواقع فيه الأفعال، وحسن ذلك أنّ
__________
(1) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 260.
(2) نفسه، 1/ 255.(1/368)
الإفاضة الأولى غير مأمور بها، إنّما المأمور به ذكر الله إذا فعلت الإفاضة، والثاني: أن تكون هذه الجملة معطوفة على قوله: {= وَاتَّقُونِ يََا أُولِي =} ففي الكلام تقديم وتأخير وهو بعيد، والثالث أن تكون (ثمّ) بمعنى الواو، وقد قال به بعض النحويّين، من يعطف كلام على كلام منقطع من الأوّل، والرابع أنّ الإفاضة الثانية هي من مزدلفة إلى منى، والمخاطبون بها جميع الناس = (1). وفي هذا النص ربط بالمقام الخارجي بتفاصيله، وربط بحركات الحجّ وشعائره، وربط بالمخاطبين كذلك.
ويشير الزمخشري إلى علاقة السياق بالفصل والوصل، بقوله في تفسير الآيات الأولى من سورة البقرة: = فان قلت: لم قطعت قصّة الكفّار عن قصّة المؤمنين ولم تعطف، قلت لأنّ الأولى فيما نحن فيه سوقه لذكر الكتاب، وأنّه هدى للمتقين، وسيقت الثانية لأنّ الكفّار من صفتهم كيت وكيت، فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب، وهما على حد لا مجال فيه للعاطف، فإن قلت هذا، إذا زعمت أنّ الذين يؤمنون جار على المتّقين، فأمّا إذا ما ابتدأته وبنيت الكلام لصفة المؤمنين ثمّ عقّبه بكلام آخر في صفة أضدادهم كان مثل تلك الآي = فإن قلت: فلم جاء الإيمان مطلقا في الثاني، وهو مقيّد في الأول؟ قلت: يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه، وأن يراد بالإطلاق أنّهم ليسوا من الإيمان في شيء قطّ، لا من الإيمان بالله وباليوم الآخر ولا من الإيمان بغيرهما = (2). إنّ الزمخشري يحرّكه في تأويله هنا السياق العام للآيات (تتابعها وتجاورها وموضوعها) (مسوقة) والعطف يقتضي تناغم السياق والموضوع، فإذن لا مجال هنا للعاطف بين موضعين لا يوجد بينهما مثل هذا التناغم فهما متباينان في الأسلوب، ويحرّكه كذلك غرض النصّ ومقصده، فاختلاف الغرض ينفي احتمال العطف.
__________
(1) السمين الحلبي: أحمد بن يوسف (ت 756هـ)، الدّر المصون في علوم الكتاب المكنون، تحقيق د. أحمد الخرائط، ط 1، دار القلم / دمشق / 1986، 2/ 332.
(2) الزمخشري، الكشاف، 1/ 55.(1/369)
ويصرّح العكبري بأهميّة العطف في ترابط الخطاب، وتوخّي المعنى في الوصل والقطع في إعرابه للآية (246) قال: = وما لنا = ما: استفهام في موضع رفع بالابتداء، و (لنا) الخبر، ودخلت الواو لتدلّ على ربط هذا الكلام بما قبله، ولو حذفت لجاز ان يكون منقطعا عنه، وهو استفهام في اللفظ وإنكار في المعنى = (1).
وفي تفسير الزمخشري أيضا للآية = صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون = قال: = إنّما جيء بلفظة (الصبغة) على طريقة المشاكلة (لصنيع النصارى في المعموديّة) وقوله = ونحن له عابدون = عطف على (آمنا بالله) وهذا العطف يردّ قول من زعم أنّ (صبغة الله) بدل من (ملّة إبراهيم) ونصب على الإغراء بمعنى: (عليكم صبغة الله) لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه = (2). إن البدائل التي يرجّح المعرب من خلالها تهدف كما لخّص ذلك الزمخشري إلى اتّساق النظم، وديمومة التئامه واتّساقه، وأي بديل يؤخّر هذا الهدف يستبعد ثم انظر إلى موضوع المشاكلة الدلاليّة التي أشار إليها في أوّل القول وعلاقة ذلك كلّه بالسياق.
ونخلص من كلّ ذلك إلى أنّ معربي كتاب الله عزّ وجل قد اهتمّوا اهتماما بالغا بمواضع العطف وحروفه، وصرّحوا بالعطف وسيلة للوصل والربط بين أجزاء النصّ الكريم، ووقفوا عند معنى العطف في الجملة، ومتى يقصد بالجملة القطع ومتى يقصد بها الاتصال، من خلال نظرهم في معاني الجمل والمفردات المجاورة في عمليّة العطف، ولعلّ هذا يعدّ مدخلا من مداخل (نحو النص) الذي ينظر إلى ما يسبق الجملة وما يليها، ويمكن أن يطوّر النظر إليه واعتباره بذرة في تنمية (علم النصّ) وهو ما أصبح ضرورة لازمة في الوقت الحاضر نظرا لتوسّع الفنّ السردي كالقصّة والرواية. وعلم النصّ أداة مهمّة من أدوات تحليل هذا الفن، في ضوء ظهور ما يعرف بعلم اللّغة الأدبي. إنّ ملاحظات النحاة
__________
(1) العكبري، 1/ 196.
(2) الزمخشري الكشاف، 1/ 196.(1/370)
في مسألة العطف تعدّ بالغة الأهميّة في مثل هذا المقام. وقد تنبّه النحاة إلى أنّ العطف والاتّصال يعتمد على عنصر الموضوع واتّصاله أو انقطاعه، وتآلف السياق من حيث الغرض والأسلوب، واتّصال أول الكلام مع آخره، وفي بحث النحاة عن مسألة العطف رأينا مجموعة من المصطلحات الغنية في موضوع السياق من مثل (المشاكلة)، و (اللّياقة)، (ما يليق)، (والمضارعة) و (الالتئام)، و (الاتّساق)، والسياق (سيقت، مسوقة) و (الانقطاع) و (الاتصال) و (النظم) و (التباين)، وقد نظر النحاة كذلك إلى عناصر الموقف الخطابي كاملا من مثل استحضار المخاطب وما يليق في حقّه، والمخاطب وما يناسبه من وجوه الخطاب واستحضار سياق الحال المرافق للخطاب، من مثل موقف الاستفهام أو الإنكار، وكان المعرب يقبل وجها أو يستبعد وجها آخر بالاتّكاء على هذه المسائل وغيرها.
ويبرز الحمل على المعنى عنصرا رئيسا في عملية الترجيح والاستبعاد، وقد صدر عنها النحاة صدورا عفويّا ومستمرّا، كما أوضحوا دور العطف باعتباره موضعا حيويّا من مواضع الارتباط والتجانس بين أجزاء النصّ، وهو يعكس نوعا من الصلة المباشرة بين المخاطب والخطاب لأنّ العطف يبرز ما يريد المخاطب إيصاله للمخاطب. كما اختلفت توجيهات المعربين باختلاف العنصر الذي وقع العطف عليه، وذلك يظهر أيّ لون من التركيب السياقي تمّ اختياره بناء على تأويل مسبق للنصّ، أو مدخلا للحصول على تأويل مناسب للنصّ، وهو ما يعيدنا إلى التحليل المكوّناتي ودرس (جون لاينز) في علم الدلالة.
ويحكم النحاة على حدوث العطف من خلال الحكم على إمكانيّة اجتماع طرفي العطف (المعطوف والمعطوف عليه) في واقع الحياة المشاهدة وبناء عليه قد يقبلون حدوث هذا العطف أو يستبعدونه كما في مثال الكتاب والفرقان في الآية (53) من سورة البقرة.
وقد يستشهد النحوي بسبب النزول ليوضح سياق الحال من أجل ترجيح وجه على وجه آخر أو لإظهار المعنى المراد من الآية، كما أنّه يستعين بالنصوص الأخرى ليقوّي قراءته الخاصّة للنصّ من خلال ترجيحاته التي خلص إليها.(1/371)
3 - السياق وتوجيه الإعراب
ونقصد بالإعراب في هذا الموضع عملية التحليل النحوي بمعناها الجامع، وتشمل الصيغة والتركيب والدلالة والإعراب. ويتبدّى أثر السياق في توجيه الإعراب في مظاهر عديدة منها اهتمام المعرب بتمام المعنى وإكمال السياق باكتمال الجمل المكوّنة له، ومن مظاهره كذلك شرح المعنى بعد اختيار كلّ وجه من وجوه الإعراب، والاستعانة بالمعنى في توجيه الإعراب واستصحاب الحال، والحال المشاهدة في توجية الإعراب، ويتمثّل كذلك في مجموعة من الملاحظات السياقيّة التي يثيرها النحاة خلال تصدّيهم لإعراب النصّ تمسّ النصّ من وجه من الوجوه، ومنها أيضا استحضار موقف خطاب مماثل للقياس عليه تمهيدا لترجيح الإعراب. وكذلك الاهتمام بعنصر الزمان والظرف وهو من عناصر السياق. وكذلك الاهتمام بمجموعة من الظواهر السياقيّة كالتقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، والإحالة بأشكالها.
ففي إعراب النحّاس للآية (6) وقوله تعالى: {= أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ =} قال:
(الخبر والجملة خبر (إنّ) أي أنّهم تبالهوا حتى لم تغن فيهم النذارة، والتقدير سواء عليهم الإنذار وتركه أي: سواء عليهم هذان، وجيء بالاستفهام من أجل التسوية قال ابن كيسان: يجوز أن يكون (سواء) خبر (أنّ) وما بعده يقوم مقام الفاعل، ويجوز أن يكون خبر إنّ (لا يؤمنون) أي إنّ الذين كفروا لا يؤمنون (1). إنّ المعرب يوجّه الجملة توجيهات عدّة، وفي كلّ اختيار سياقي ينظر في المعنى المتحصّل من هذا الاختيار السياقي، وهو بهذا يشير إلى أنّ اختلاف مكوّنات الجملة في كلّ مرّة، يصنع سياقا لغويّا جديدا، يحمل معنى جديدا ورسالة لغويّة جديدة. وهو لا ينسى في خضمّ بحثه عن المركّبات الأساسيّة في الجملة (أركان الجملة) أن يعالج المركّبات الأخرى، والدور الذي يمكن أن تؤديه في خدمة السياق في كلّ تركيب مختار.
__________
(1) النحاس، إعراب القرآن، ص 1/ 184.(1/372)
وتقدير المعنى التأويلي الأوّلي قبل الإعراب يسهم إلى حدّ كبير في توجيه دفة المعرب خلال معالجته للنصّ ففي الآية (18) في قوله = صمّ = قيل: = على إضمار مبتدأ أي: هم صمّ بكم عمي، وفي قراءة عبد الله وحفص (صمّا بكما عميا) لأنّ المعنى وتركهم غير مبصرين صمّا بكما عميا = (1). وأحيانا يحصل عكس ذلك، أي أنّ الوجه المختار هو الذي يعطي للمعرب المعنى، ومن ذلك في إعراب الآية (25) = فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا = قال ابن كيسان: = وإن شئت جعلت (ما) اسما تامّا في موضع رفع بالابتداء، و (ذا) بمعنى الذي هو خبر الابتداء ويكون التقدير: ما الذي أراد الله بهذا مثلا = (2). إنّ عمليّة التأويل والوصول إلى المعنى هي هدف المعرب في خاتمة الأمر، فقد يبدأ من معنى مفترض، ويقوّيه من خلال التركيب أو يستبعده أو يبدأ بالتركيب وصولا إلى المعنى. وفي كلّ الأحوال يحاول المعرب أن تكون القراءة أقرب إلى مقصد صاحب النصّ من جهة، ومتّسقة مع بقيّة أجزاء النّص من جهة أخرى.
ومن الأمثلة كذلك إعراب الآية (36) {= فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطََانُ عَنْهََا}، و {قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ =} قال النحّاس: = (بعضكم) مبتدأ وعدوّ خبر، والجملة في موضع نصب على الحال، والتقدير: وهذه حالكم، وحذفت الواو لأنّ في الكلام عائدا كما يقال رأيتك (السماء تمطر عليك) =، ويقال: كيف قال عدوّ، ولم يقل أعداء؟ ففي هذا جوابان: أحدهما أنّ (بعضا) وكلا يخبر عنهما بالواحد وذلك في القرآن، قال عزّ وجل:
{= وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ =} = وكلّ أتوه داخرين = والجواب الآخر أنّ عدوّا يرد في موضع الجمع، قال الله عزّ وجل: {= وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظََّالِمِينَ بَدَلًا} = بمعنى أعداء. = (3) وفي هذا النصّ أكثر من مسألة أوّلها: التقدير بناء على المكوّنات التي اختارها، وهي تصنع سياقا قابلا للقراءة هو هذا التقدير، وثانيها: اهتمامه بمسألة تجانس السياق وتشاكله فالخطاب
__________
(1) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 193.
(2) نفسه، 1/ 204.
(3) نفسه، 1/ 214.(1/373)
خطاب الجمع (اهبطوا، بعضكم) ولذا يجب أنّ تتجانس عناصر هذا الخطاب، وإذا خرج أحد العناصر عن هذا فلعلّة سياقيّة ولا ريب، وإذا كانت اللّغة هي التي يعبّر من خلالها عن السياقات المختلفة فهي أيضا التي تحمل مجموعة الخيارات التي يجوز الاختيار منها وفقا لسننها ونظمها في التركيب والتأليف، وهي هنا تسمح بمجيء (عدوّ) كدال على الجنس وليس على المفرد، وهو من باب تناوب الصيغ لاعتبارات السياق. وإن كان المعرب سكت عن ذكر هذه الاعتبارات، واكتفى باستحضار الشواهد على سماح اللغة بمثل هذا التناوب بين (عدوّ) و (أعداء).
وفي إعراب الآية (38) {= قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهََا جَمِيعاً =}. قال النحاس: = وزعم الفرّاء أنّه يقال: إنّما خوطب بهذا آدم صلّى الله عليه وسلم وإبليس بعينه ويعني ذريّته، فكأنّه خاطبهم كما قال = قالتا أتينا طائعين = أي أتينا بما فينا، وقال غير الفرّاء: يكون مخاطبة لآدم عليه السلام وحواء والجنّة، ويجوز أنّ يكون لآدم وحوّاء لأنّ الاثنين جماعة ويجوز أن يكون إبليس ضم إليهما في المخاطبة = (1). إنّ الذي جعل النحّاس يناقش هذه المسألة هو (جميعا) وأنّها منصوبة على الحال، ومن ثمّ اهتم بمن شملهم حال الهبوط.
وتحديد المخاطب هو مفتاح لفهم الخطاب، ويلاحظ أنّه استقصى الوجوه التي يحتملها الخطاب من غير أنّ يرجّح لأنّ الوجوه جميعا سواء في درجة قبولها، وكلّها يمكن أن يحتملها السياق. ومن جهة أخرى فإنّ العكبري يعالج هذا النصّ بطريقة أخرى فيقول:
= قوله (منها جميعا) حال، أي مجتمعين إمّا في زمن واحد أو في أزمنة، بحيث يشتركون في الهبوط = (2). إنّ العكبري يشير في هذه العبارة إلى عنصر الاشتراك في الفعل، وهو ربط بين الرمز اللّغوي (جميعا) والحقيقة الخارجيّة. وفي الآية (40) {= وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ =}
قال: (وأوفوا) أمر، (أوف) جواب الأمر مجزوم لأنّ فيه معنى المجازاة وقرأ الزهري أوفّ
__________
(1) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 215.
(2) العكبري، التبيان في إعراب القرآن، 1/ 54.(1/374)
على التكثير = (1). إنّ معنى التكثير هنا مأخوذ من الصيغة، ولكنّ معنى المجازاة كما هو واضح مأخوذ من السياق. ومن أمثلته أيضا في الآية (61) {= وَإِذْ قُلْتُمْ} {فَادْعُ =} قال النحّاس = (فادع) سؤال بمنزلة الأمر فلذلك حذفت منه الواو، ولغة بني عامر = فادع لنا = بكسر العين لالتقاء الساكنين (يخرج لنا) جزم لانه جواب الأمر، وفيه معنى المجازاة ممّا تنبت الأرض =. ومعنى المجازاة مأخوذ من السياق، كما أنّ جعل (فادع) بمنزلة الأمر أيضا مأخوذ من السياق، وهذا يوضح دور السياق في توجيه معنى الآية وتنبّه المعربين إلى كلّ ذلك.
ومن الاهتمام بدقّة الصيغ في الدلالة على السياق كذلك في الآية (41) {= وَلََا تَكُونُوا أَوَّلَ كََافِرٍ بِهِ =} = قال: (كافر)، ولم يقل: كافرين، فيه قولان: زعم الأخفش والفرّاء أنّه محمول على المعنى لأنّ المعنى أوّل من كفر به، ويقول الآخر: إنّ التقدير = ولا تكونوا أوّل فريق كافر به = (2). إنّ الصيغ تساهم في تآلف السياق الداخلي، ولذا فيجب أنّ تكون متجانسة، فإذا لم تكن كذلك التمس المعرب وجوها لتخريجها، وذلك إمّا من خلال الحمل على المعنى (التركيب السياقي للعبارة) أو من خلال تقدير يحتمله السياق.
وينظر المعرب إلى العرف في الاستخدام اللغوي، وهو جزء من العرف الاجتماعي. ففي إعراب الآية (49) {= وَإِذْ نَجَّيْنََاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ =} قال الكسائي: = إنّما يقال آل فلان وآل فلانة، ولا يقال في البلدان فلا يقال هو من آل حمص ولا من آل المدينة قال: إنّما يقال في الرئيس الأعظم نحو آل محمّد عليه السلام، أي أهل دينه وأتباعه، وآل فرعون لأنّه رئيسهم في الضلالة = (3). ويوشك أن يكون هذا العرف في الاستخدام اللغوي أصلا رئيسا من الأصول التي يصدرون عنها، ومثله في إعراب الآية (133) {= أَمْ كُنْتُمْ شُهَدََاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ =} قال أبو جعفر: = ومن قرأ (واله أبيك) فله فيه وجهان:
أحدهما أن يكون أفرد لأنّه كره أن يجعل إسماعيل أبا لأنّه عم، قال أبو جعفر: هذا لا
__________
(1) العكبري التبيان في إعراب القرآن، 1/ 217.
(2) نفسه، 1/ 231.
(3) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 223.(1/375)
يجب، لأنّ العرب تسمّي العمّ أبا، وأيضا فإنّ هذا بعيد لأنّه يقدّر وإله إسماعيل وإله إسحاق فيخرج وهو أبوه الأدنى من نسق إبراهيم، ففي هذا البعد ما لا خفاء به = (1). إنّ اعتبار العم أبا عند العرب، وهو جزء من منظومة العرب الاجتماعي كانت نقطة اعتمد عليها أبو جعفر فى الحديث عن هذه القراءة.
ويستحضر المعرب ما يليق بشأن المخاطب سبحانه وتعالى فقد قرأ أبو عمرو وشيبة = وإذ وعدنا = في الآية (51) بغير ألف، وأنكروا (واعدنا) قالوا: = لأنّ المواعدة إنّما تكون من البشر، فأمّا الله عزّ وجل فهو المنفرد بالوعد والوعيد = (2). إنّ ما أراد أن يقوله المعرب في هذا المجال إنّ السياقات مختلفة، وإنّ مراعاة المقام، والسياق الظرفي، وما يجب وما لا يجب هي التي تتحكم في صياغة النص.
ومن مراعاة المقام محاولة المعرب التماس وقائع الخطاب توضيحا للنص وتوجيها للإعراب، واستنتاج الكلام الذي صدر من المخاطب والمخاطب وأثره في توجيه العبارة، ومنه: في إعراب الآية (58) = وإذ قلنا ادخلوا = قال النحّاس: = وقولوا حطّة = على إضمار مبتدأ. قال الأخفش: وقرئت حطّة نصبا على أنّها بدل من الفعل، قال أبو جعفر:
الحديث عن ابن عبّاس أنّهم قيل لهم: قولوا: (لا إله إلّا الله) وفي حديث آخر عنه قيل لهم: قولوا: مغفرة = تفسيرا للنصّ، أي قولوا شيئا يحطّ عنكم ذنوبكم كما تقول: قل خيرا = (3). إنّ التنبّؤ بما قيل واستنتاجه يوضح موقف الخطاب ويساهم في جلاء النصّ.
ومن عناصر المقام (الزمن) وفي توجيه أبي إسحاق للآية {= أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى ََ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ =} قال: = وأجود من هذا أن يكون المعنى والله أعلم أتستبدلون الذي هو أقرب إليكم في الدنيا بالذي هو خير لكم يوم القيامة. لأنّهم إذا طلبوا غير ما
__________
(1) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 265.
(2) نفسه، 1/ 223.
(3) نفسه، 1/ 228.(1/376)
أمروا بقبوله فقد استبدلوا الذي هو أقرب إليهم ممّا هو خير لهم لما لهم فيه من الثواب = (1).
ومع أنّ الآية سكتت عن زمن الاستبدال وزمن الذي هو خير، إلّا أنّ اتّساق الخطاب يقتضي هذه القراءة من المعرب.
ومن الاهتمام بزمن الخطاب كذلك وما يتعلّق به من الأحكام والوقائع، وقوف المعرب عند قوله تعالى في الآية (187) من سورة البقرة: = فالآن باشروهن = قال: = حقيقة (الآن) الوقت الذي أنت فيه، وقد يقع على الماضي القريب منك وعلى المستقبل القريب وقوعه، تنزيلا للقريب منزلة الحاضر وهو المراد هنا، لأنّ قوله {(فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ)} أي فالوقت الذي كان يحرم عليكم الجماع فيه من الليل قد أبحناه لكم فيه. فعلى هذا (الآن) ظرف ل (باشروهنّ)، وقيل: الكلام محمول على المعنى، والتقدير: فالآن قد أبحنا لكم أن تباشروهن، ودل على المحذوف لفظ الأمر الذي يراد به الإباحة، فعلى هذا (الآن) على حقيقته = (2).
إنّ هذا التشخيص لدى العكبري عن زمن الخطاب يعيدنا إلى أدوات الاتّساق عند رقيّة حسن وهاليداي، ومنها الوصل، وأحد أنواع هذا الوصل هو الوصل الزمني وهو = علاقة بين أطروحتي جملتين متتابعتين زمنيّا أو بين متواليتين مترابطتين زمنيا بغضّ النظر عن التتابع = (3). وهذه العلاقة وظيفتها تقوية الاسباب بين الجملة أو الجمل وجعلها متماسكة مترابطة كما أنّها تحدّد الحدث، والزمن قد يكون عنصرا موضحا ومحدّدا لمعالم السياق الحالي في النصّ، ولكنّ الزمن قد يخرج عن ظاهر مقتضاه بناء على السياق الداخلي. وهذا هو ما حدث في المثال أعلاه (تنزيلا للقريب منزلة الحاضر) وهو جزء من الخروج على مقتضى الظاهر الذي ورد ذكره في الدرس البلاغي.
__________
(1) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 232.
(2) العكبري، التبيان في إعراب القرآن 1/ 155.
(3) رقية حسن وهاليداي، الاتساق في اللغة الإنجليزية، ص 227.(1/377)
ومن ذلك إعرابهم لقوله تعالى في الآية (228) من السورة: {= فِي أَرْحََامِهِنَّ =}
حالا قال العكبري: = وهي حال مقدّرة لأنّ وقت خلقه ليس بشيء حتى يتمّ خلقه = (1).
فالزمن يتّسق مع الحال أو الظرف دائما وهو ركن أساسي في المقام.
ويتقولب الزمن بحسب السياق الذي وقع فيه، وغرض الخطاب الذي لازمه كما في قوله تعالى: {= يَكََادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصََارَهُمْ =} في الآية (20) من سورة البقرة، فإنّ (يكاد) (تستخدم للمقاربة إذا لم تكن في سياق النفي الذي قارب الوقوع ولم يقع، نحو هذه الآية. وأمّا إذا صحبه نفي فهو واقع بعد إبطاء نحو قوله: {(فَذَبَحُوهََا وَمََا كََادُوا يَفْعَلُونَ)}
أي فعلوا الذبح بعد إبطاء = (2). وغنيّ عن القول إنّ هذه الآية تحمل في طيّها معنى التوبيخ كما أنّها متعلّقة بحال المخاطب (التكاسل والوضع النفسي له من حيث عدم رغبته في إنجاز العمل وهو ذبح البقرة). إنّ (يكاد) وحدها رمز للمقاربة في الوقوع مع عدم وقوعه وهذا حدث خارجي. أمّا (كاد) مع أداة النفي فهي رمز للوقوع مع الإبطاء وهو حدث خارجيّ آخر. إنّ كل حدث يحدث أثرا خطيا مباينا للآخر داخل النصّ، وهو ما نتحدّث عنه في موضوع العلاقة بين النص والسياق.
ومن الاهتمام بالزمن باعتباره ركنا رئيسا في المقام من جهة، وباعتباره موضحا لمعنى النصّ ومحدّدا له من ناحية أخرى، قول الأخفش في الآية (180) من سورة البقرة:
= الوصية للوالدين = قال: = إنّ الفاء مضمرة مع الوصيّة، وهي جواب الشرط كأنّه قال:
فالوصيّة للوالدين، فإن جعلت الوصيّة اسما غير مصدر جاز رفعها ب (كتب). ولا يجوز أن يكون (كتب) عاملا في (إذا) لأنّ الكتاب لم يكتب على العبد وقت موته، بل هو شيء قد تقدّم في اللوح المحفوظ فالإيصاء هو الذي يكون عند حضور الموت فهو العامل في (إذا) (3). إنّ الوقت أو الزمن وارتباطه مع الحدث مهمّ جدا في توافق النصّ مع السياق،
__________
(1) العكبري، 1/ 181.
(2) مكي بن أبي طالب، مشكل إعراب القرآن 1/ 29.
(3) نفسه، 1/ 83.(1/378)
ومنه كذلك ما جاء في إعراب الآية (214) في قوله تعالى: {= حَتََّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ =} قيل: = من رفع (يقول) فلأنه فعل قد ذهب وانقضى، وإنّما يخبر عن الحال التي كان عليها الرسول فيما مضى، فالفعل دالّ على الحال التي كانوا عليها فيما مضى، وهو مثل قوله: مرض حتى لا يرجونه، أي مرض فيما مضى حتى هو الآن لا يرجى، فتحكي الحال التي كان عليها فلا سبيل للنصب في هذا المجال، ولو نصبت لانقلب المعنى، وصرت تخبر عن فعلين قد مضيا وذهبا ولست تحكي حالا كان عليها، وتقديره أن يحكي حالا كان النبيّ عليها فتقديره: وزلزلوا حتّى قال الرسول، كما تقول سرت حتى أدخلها، أي قد كنت سرت فدخلت فصارت (حتّى) داخلة على جملة وهي لا تعمل في الجمل، فارتفع الفعل بعدها، ولم تعمل فيه، فأمّا وجه قول من نصب، فإنّه جعل (حتّى) غاية بمعنى (إلى أن) فنصب بإضمار (أن) وجعل قول الرسول غاية لخوف أصحابه لأنّ (زلزلوا) معناه خوّفوا فمعناه وزلزلوا إلى أن قال الرسول والفعلان قد مضيا = (1).
ومن مراعاة المقام أو سياق الحال عند المعربين ما جاء في إعراب الآية (85) = ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم = قال القتبي: = التقدير يا هؤلاء، قال أبو جعفر: هذا خطأ على قول سيبويه ولا يجوز عنده: (هذا اقبل) وقال أبو إسحاق: (هؤلاء) بمعنى (الذين) و (تقتلون) داخل في الصلة، أي ثمّ أنتم الذين تقتلون، وسمعت علي بن سليمان يقول:
سمعت محمد بن يزيد يقول: أخطأ من قال: إنّ (هذا) بمعنى (الذي)، وقال أبو جعفر:
يجوز أن يكون التقدير والله أعلم أعني هؤلاء (وتقتلون) خبر (أنتم) (وأنفسكم) مفعوله، ولا يجيز الخليل وسيبويه أنّ يتّصل المفعول في مثل هذا، لا يجيزان ضربتني ولا ضربتك قال سيبويه: استغنوا عنه بضربت نفسي وضربت نفسك، وقال: أبو العبّاس:
لم يجز هذا لئلّا يكون المخاطب فاعلا مفعولا في حال واحدة = (2).
__________
(1) مكي بن أبي طالب، مشكل إعراب القرآن، 1/ 93.
(2) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 243.(1/379)
= إنّ موقف الكلام عند النحاة يأتلف على هيئة مخصوصة تصبح فيصلا في تحديد الصواب والخطأ متجاوزين المعيار الشكلي، ومن ذلك عندهم أنّ حد الأسماء الظاهرة أن تخبر بها واحدا عن واحد غائب والمخبر عنه غيرها فتقول: قال زيد، فزيد غيرك، وغير المخاطب، ويمثّل هذا الضابط المعياري الخارجي منع سيبويه قول القائل:
هذا أنت وهو يعلّل ذلك ب (أنّك لا تشير للمخاطب إلى نفسه، ولا تحتاج إلى ذلك وإنّما تشير له إلى غيره) وهو يستمدّ هذا التحليل من تحليل موقف الإشارة، فقد لاحظ أنّه يقوم في المواضعات المتعارفة على جهات ثلاث: المتكلّم (المشير) والمشار إليه، والمخاطب (المشار له) ولاحظ أنّ المخاطب جهة لازمة من هذه الجهات، ولكنّه جهة واحدة فلا يجوز في حكم التحليل الخارجي للعبارة أن يكون المخاطب مشارا إليه ومشارا له في آن معا، ولو وقف سيبويه عند حدّ النظرة الداخلية المجرّدة لكان حقا عليه أنّ يجيز قول القائل: هذا أنت، كما يجيز قولنا هذا سور القدس هذا جوابهم = (1). ولذلك فإن معربي القرآن وقفوا عند قوله = أنتم هؤلاء = وحاولوا أن يؤوّلوا مجيء الآية على هذا النسق، فقدّروا (يا) قبل (هؤلاء) وقالوا (هؤلاء) بمعنى (الذين) أو بمعنى أعني هؤلاء و (تقتلون) خبر (أنتم) وكلّها تأويلات ساقهم إليها توافق الآية مع المعيار الخارجي، وهو أن لا يكون المشار إليه والمشار له جهة واحدة، وعبّر عنه (مكّي بن أبي طالب) في إعراب هذه الآية بقوله = (هؤلاء) مثل هو خبر (أنتم) و (تقتلون) حال من أولاء لأنّه لا يستغني عنها، كما أنّ نعت المبهم لا يستغنى عنه فكذلك حاله. وقال ابن كيسان: (أنتم) مبتدأ وتقتلون الخبر، ودخلت لتخصّ به المخاطبين إذ نبّهوا على الحال التي هم عليها مقيمون = (2).
وتتدخّل حال المخاطب في تحديد الاختيار النحوي فإذا قال شيئا تنكره أجبته ب (كلّا) ولم تجبه ب (لا المعتادة) في جواب السلب، وأمّا (بلى = فهي بمنزلة (نعم) إلّا أنّها
__________
(1) د. نهاد الموسى، الأعراف ص: 14.
(2) مكي بن أبي طالب، مشكل إعراب القرآن 1/ 95.(1/380)
لا تقع بعد النفي ولو قال قائل: ألم تأخذ دينارا فقلت: نعم، لكان المعنى: لا لم آخذ.
لأنّك حققت النفي وما بعده. وإذا قلت: (بلى) صار المعنى: قد أخذت. وهذا ما قاله النحاس في إعراب الآية (81) {= بَلى ََ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحََاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ =}. وذلك جوابا على قولهم في الآية السابقة لها (89) {= وَقََالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النََّارُ إِلََّا أَيََّاماً مَعْدُودَةً، قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللََّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللََّهُ عَهْدَهُ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللََّهِ مََا لََا تَعْلَمُونَ =} فموقف الخطاب وجزمهم بالنفي وهو نفي مسّ النار لهم استدعى هذا الجواب (بلى) وليس (نعم) مثلا. وهو أيضا ما نبّه إليه مكيّ بن أبي طالب في (مشكل إعراب القرآن) قال: = بلى بمنزلة (نعم) إلّا أنّ (بلى) لا تكون إلّا جوابا لإيجاب تقدّم = (1).
ويتمثّل المعرب ملابسات الخطاب ليصل إلى توجيه أمثل للنصّ، ويستعين بما روي من آثار حول الواقعة التاريخية (سياق الحال) ليلج بها ثنايا النص، ومن ذلك ما دار من خلاف حول إعراب الآية (124) من سورة البقرة. {= قََالَ لََا يَنََالُ عَهْدِي الظََّالِمِينَ =} قال الفراء: = لأنّ ما نالك فقد نلته كما تقول: نلت خيرا ونالني خير = (2). وقال محمّد بن يزيد:
= المعنى يوجب نصب الظالمين، قال الله عزّ وجل لإبراهيم: {= إِنِّي جََاعِلُكَ لِلنََّاسِ إِمََاماً =}
فعهد إليه بهذا، فسأل إبراهيم فقال: ومن ذريّتي؟ فقال عزّ وجل: = لا ينال عهدي الظالمين = لا أجعل إماما ظالما. وروي عن ابن عبّاس أنّه قال: سأل إبراهيم أن يجعل من ذريّته إماما فعلم الله عز وجل أنّ في ذريّته من يعصي فقال: {(لََا يَنََالُ عَهْدِي الظََّالِمِينَ)} (3).
إنّ موقف الخطاب وطرفيه وهما المخاطب (الله عزّ وجل) والمخاطب (إبراهيم عليه السلام) وطبيعة الحادثة، أوجدت هذا الأثر الخطي أو الرمز في النص من حيث إنّ الفاعل (عهدي) هو ممّا اعتيد أن يقع عليه الفعل، فلمّا كان هو الفاعل و (الظالمين) هو المفعول أوجب التساؤل عند المتعاملين مع النص، وسياق الحال يوضحه وهو أنّ العهد هو الإمامة، والإمامة لا ينالها الظالمون.
__________
(1) النحاس إعراب القرآن 12/ 241.
(2) نفسه، 1/ 258.
(3) نفسه 1/ 259.(1/381)
ويعدّ اتّساق الخطاب وتلاؤم أجزائه وتآلف عناصره من الأمور التي يعتمد عليها المعرب في قبول القراءة أو اعتبارها شاذّة، وهذا الاتّساق يشمل الوجهين الداخلي والخارجي (اتّساق النصّ مع سياق الحال). ففي الآية (126) {= وَإِذْ قََالَ إِبْرََاهِيمُ رَبِّ =}
في قراءة الحارث بن أبي ربيعة قال: = ومن كفر فأمتّعه قليلا ثم اضطرّه = قال أبو جعفر:
وهذا على السؤال والطلب، والأصل أضطره ثمّ أدغم ففتح لالتقاء الساكنين لخفّة الفتحة ويجوز الكسر قال أبو جعفر: = وهذه القراءة شاذّة ونسق الكلام والتفسير جميعا يدلّان على غيرها أمّا نسق الكلام فإنّ الله عزّ وجل خبّر عن إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: = ربّ اجعل هذا بلدا آمنا = ثم جاء بقوله ولم يفصل بينه يقال، ثم قال: فكان هذا جوابا من الله عزّ وجل ولم يقل بعد (قال: إبراهيم). وأمّا التفسير فقد صحّ عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمّد بن كعب، وهذا لفظ ابن عبّاس: دعا إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم لمن آمن دون الناس خاصّة فأعلم الله عزّ وجل أنّه يرقّ من كفر كما يرقّ من آمن، وأنّه يمتّعه قليلا ثم يضطرّه إلى عذاب النار، قال أبو جعفر: وقال الله عز وجل: {= كُلًّا نُمِدُّ هََؤُلََاءِ وَهَؤُلََاءِ مِنْ عَطََاءِ رَبِّكَ =}. وقال: = وأمم سنمتّعهم =. وقال أبو إسحاق: إنّما علم إبراهيم صلّى الله عليه وسلم أنّ في ذريّته كفّارا فخصّ المؤمنين لأنّ الله جل وعز قال له: {= لََا يَنََالُ عَهْدِي الظََّالِمِينَ =} (1).
إنّ المعرب يدرك أنّ النص (متّزن) وهذا المصطلح أستعيره من علم الكيمياء، والاتّزان عندهم هو تآلف العناصر المكوّنة للمركّب بنسب متفاوتة، بحسب ما يحتاج هذا المركب ليحصل على خصائصه، وكذا فالنصّ اللّغوي يتّزن إذا تآلف سياقاه الداخلي والخارجي، وتآلفت عناصره وهي في مثالنا عنصر الموضوع داخل النصّ، وترتّب نسق الكلام من حيث الضمائر (ضمائر المتكلم، والغائب والمخاطب) وهي التي تعكس موقف الخطاب بين إبراهيم وربّه سبحانه حول ذلك الموضوع.
__________
(1) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 261.(1/382)
ومن عناصر السياق الخارجي التي تجد صداها داخل النصّ طبيعة الواقعة وطبيعة الجماعة المتحدّث عنها، وبعضهم مؤمن وبعضهم كافر، فجاء الخطاب ليوائم في الحديث بين الجماعتين. ومثله أيضا قراءة الكسائي في الآية (140) {= أَمْ تَقُولُونَ} = بالتاء قال النحّاس: = وهي قراءة حسنة، لأنّ الكلام متسق، أي أتحاجوننا أم تقولون، والقراءة بالياء من كلامين وتكون (أم) بمعنى (بل) وقال الأخفش كما تقول: = إنّها لا بل أم شاء = وكسرت إنّ لأنّ الكلام محكيّ والأسباط من ولد يعقوب بمنزلة القبائل من ولد إسماعيل = (1). فالنّحاس استحسن قراءة الكسائي معلّلا هذا الاستحسان بالاتساق ويقصد به الاتساق الداخلي. وأمّا الأخفش فاستأنس في الحديث عن القراءة الثانية بالسياق الخارجي (سياق الحال) وهو أنّ الأسباط من ولد يعقوب بمنزلة القبائل من ولد إسماعيل.
ومن أمثلة قبول القراءة حملا على المعنى وواقع الحال، ما ورد في إعراب الآية (184) قال النّحاس: = والقراءة المجمع عليها (يطيقونه) وقرأ أبو عمرو والكسائي وحمزة {= وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعََامُ مِسْكِينٍ =} وهذا اختيار أبي عبيد، وزعم أنّه اختاره لأنّ معناه لكل يوم إطعام واحد منهم، فالواحد مترجم عن الجميع، وليس الجميع بمترجم عن الواحد. وقال أبو جعفر: وهذا مردود من كلام أبي عبيد لأنّ هذا إنّما يعرف بالدلالة، فقد علم أنّ معنى = وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين = أنّ لكلّ يوم مسكينا، فالاختيار هذه القراءة ليردّ جمعا على جمع، واختيار أبي عبيد ان يقرأ (فدية) (طعام مسكين) قال: لأنّ الطعام هو الفدية، قال أبو جعفر: لا يجوز أن يكون الطعام نعتا لأنّه جوهر، ولكنّه يجوز على البدل، وأبين منه أن يقرأ (فدية طعام) بالإضافة لأنّ (فدية) مبهمة تقع للطعام وغيره فصار مثل قولك: هذا ثوب خز (2). إنّ الاختيارات تفسّر حسب ظهورها في واقع الحال، وترجّح بحسب هذا الظهور أيضا.
__________
(1) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 286.
(2) نفسه، 1/ 269.(1/383)
ويتدخّل سياق الحال في طبيعة العبارة واختياراتها ومكوّناتها، وكان المعربون يحاولون استنتاج الحال التي استدعت هذه الاختيارات اللغويّة داخل النص ففي إعراب الآية (145) {= وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ بِكُلِّ آيَةٍ مََا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ =} قال الأخفش:
= لأنّهم كفروا وقد تبيّنوا الحق فليس تنفعهم الآيات = (1). وقال الفرّاء أجيبت (إن) بجواب (لو) لأنّ المعنى ولو أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية (ما تبعوا قبلتك) وكذا تجاب (لو) بجواب (إن) تقول: لو أحسنت أحسن إليك. ومثله: {= وَلَئِنْ أَرْسَلْنََا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا =} أي لو أرسلنا ريحا =. وقال أبو جعفر: هذا القول خطأ على مذهب سيبويه، وهو الحقّ، لأنّ معنى (إن) خلاف معنى (لو) يعني أن معنى إن يجب بها الشيء لوجوب غيره.
تقول: إن أكرمتني أكرمتك ومعنى (لو) أنّه يمتنع بها الشيء لامتناع غيره فلا تدخل واحدة منهما على الأخرى، والمعنى ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكلّ آية لا يتّبعون قبلتك.
وقال سيبويه: = المعنى: ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا ليظلّن = (2). إن المعنى المقصود من العبارة وطبيعة الخطاب وموقف الحال جعل الفرّاء يظن أنّ (إن) أجيبت بجواب (لو)، ونفي سيبويه أيضا اعتمد على العناصر ذاتها فهنا نرى المعربين يدقّقون في عناصر النص اللغوية واختيارات المخاطب، ومقصودها وطبيعة استعمالها، وكلّها من آثار العلاقة بين النصّ والسياق.
ويتنبّه المعربون إلى بعض الاستعمالات وأنّها تليق في القرآن ولا تليق في سواه.
أو تليق في غير القرآن ولا تليق في القرآن باعتبار القرآن كلام الله ففي إعراب الآية (152) {= فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلََا تَكْفُرُونِ =}. قال النحاس: = فاذكروني = (أذكركم) فيه معنى المجازاة فلذلك جزم (ولا تكفرون) وهي نهي، فلذلك حذفت فيه النون وحذفت الياء لأنّه رأس آية وإثباتها حسن في غير القرآن (3). ومثله في إعراب الآية (285) = كلّ آمن
__________
(1) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 286.
(2) نفسه، 1/ 270.
(3) نفسه، 1/ 272.(1/384)
بالله وملائكته = قال النّحاس: من (آمن) على اللفظ، ويجوز في غير القرآن آمنوا على المعنى = (1).
وانظر هذا التأويل المبني على فهم الحكم الشرعي وموافقته لأحوال الناس في مرضهم وسفرهم ففي إعراب الآية (185) {= هُدىً لِلنََّاسِ وَبَيِّنََاتٍ} {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ =} قال النّحاس: = يقال: ما الفائدة في هذا والحاضر والمسافر يشهدان الشهر؟
فالجواب أنّ الشهر ليس بمفعول، وإنّما هو ظرف زمان، والتقدير: فمن شهد منكم المصر في الشهر، وجواب آخر أن يكون التقدير: فمن شهد منكم الشهر غير مسافر ولا مريض فليصمه = (2). إنّ هدف المعرب هنا أن يحدث توافقا بين تركيب النصّ والحكم الشرعي الذي يعطي الرخصة للمسافر بالإفطار في شهر رمضان. إنّ المعرب يلجأ إلى التقدير ليتّسق المعنى مع سياق الحال الذي يجعل الحاضر غير المسافر في الحكم، وهذا مظهر آخر من مظاهر العلاقة بين النص والسياق.
ومن أمثلته كذلك في قوله تعالى في الآية (273) {= لِلْفُقَرََاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ =} قيل: = اللام بدل من اللام في قوله تعالى: {وَمََا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ =} في الآية السابقة. وفي الآية (273) {= لِلْفُقَرََاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا =}. وهذا لا يصحّ، لأنّ (الفقراء) مصرف الصدقة والمنفقون هم المزكّون. فإنّما لأنفسهم ثواب الصدقة التي أمروها إلى الفقراء = (3). وهذا وإن كان من أمثلة الحمل على المعنى إلّا أنّه متصل بمقاصد الشريعة والأحكام الشرعيّة، والحمل على المعنى مع الاتّفاق مع مقصد الخطاب، هو ما يجعل العكبري يستبعد أن تكون الجملة {(يُخََادِعُونَ اللََّهَ)} في الآية (9) في موضع جرّ على الصفة بمؤمنين. = لأنّ ذلك يوجب نفي خداعهم والمعنى على إثبات الخداع = (4). وفي إعراب الآية
__________
(1) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 351.
(2) نفسه، 1/ 287.
(3) الزجاج، إعراب القرآن، 1/ 181.
(4) نفسه، 1/ 29.(1/385)
(8) {= وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ =} يستبعد العكبري أن تكون (من) بمعنى الذي، = لأنّ (الذي) يتناول قوما بأعيانهم والمعنى هاهنا على الإبهام. والتقدير: ومن الناس فريق يقول = (1).
وفي إعراب الآية (11) في قوله {= إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ =} يشير العكبري إلى أنّ (نحن) هي للدلالة على الجمع أصلا، ولكنّها قد تكون ضميرا للمتكلّم ومن معه، وقد تكون للاثنين والجماعة في هذه الآية. = ويستعمله المتكلّم الواحد العظيم = (2). إنّ التعظيم عنصر مستلّ من خارج النص وهو يصف حال المخاطب، وبذا ينتقل الضمير من الدلالة على الجمع إلى الدلالة على الواحد العظيم. فالعبارة تتنوّع وفقا لمنزلة المتكلّم، فإذا كان المتكلّم من سواء الناس تحدّث عن نفسه بمثل أنا، والملك والرئيس والعظيم وذو الجاه يخبرون عن أنفسهم بلفظ الجماعة {= إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ =} وعبّر عنه مكّي بن أبي طالب في (مشكل إعراب القرآن) بقوله: = ونحن اسم مضمر مبني يقع للاثنين أو للجماعة المخبرين عن أنفسهم، وللواحد الجليل القدر = (3).
ومن أمثلة الموافقة بين الحقيقة اللسانيّة والحقيقة الخارجيّة توجيه العكبري للآية (48) {= وَاتَّقُوا يَوْماً =} قال: = (يوما) هنا مفعول به لأنّ الأمر بالتقوى لا يقع في يوم القيامة، والتقدير، واتّقوا عذاب يوم أو نحو ذلك =. (4) إنّ يوم القيامة لا يكون فيه العمل وإنّما يكون فيه الجزاء، وهذه حقيقة دينيّة ولذا لجأ المعرب إلى التقدير ليحدث التوافق بين الحقيقتين اللسانيّة والخارجيّة الكونيّة، ومنه في إعراب الآية (63) في قوله تعالى: {= وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ} {وَرَفَعْنََا فَوْقَكُمُ الطُّورَ =}. قال المعرب: قوله تعالى = فوقكم = ظرف لرفعنا، ويضعف أن يكون حالا من الطور، لأنّ التقدير يصير رفعنا الطور عاليا، وقد استفيد هذا من (رفعنا)، ولأنّ الجبل لم يكن فوقهم وقت الرفع، وإنّما صار فوقهم بالرفع. (5) إنّ المعرب
__________
(1) العكبري، التبيان في إعراب القرآن، 1/ 24.
(2) نفسه، 1/ 25.
(3) مكي بن أبي طالب، مشكل إعراب القرآن، 12/ 24.
(4) العكبري، التبيان في إعراب القرآن، 1/ 60.
(5) نفسه، 1/ 71.(1/386)
المعرب يحرص على أن يكون إعرابه للنص تعزيزا للانسجام بين النص وسياقه الخارجي بكلّ ما فيه من حقائق مادية.
وانظر إلى استصحاب الحال في إعراب العكبري للآية (75) من سورة البقرة في قوله تعالى: {= لََا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللََّهَ =} قال: = وفيها من الإعراب أربعة أوجه والثالث أنّه في موضع نصب على الحال، تقديره، أخذنا ميثاقكم موحّدين، وهي حال مصاحبة، ومقدّرة، لأنّهم كانوا وقت أخذ العهد موحّدين، والتزموا الدوام على التوحيد، ولو جعلتها حالا مصاحبة فقط على أن يكون التقدير: أخذنا ميثاقهم ملتزمين الإقامة على التوحيد أبدا ما عاشوا = (1). إنّ المعرب هنا يصرّح بالصدور عن الحال المصاحبة في توجيه الإعراب، وتقدير النصّ بناء على هذه الحال. وهو ملحظ آخر من وجوه العلاقة بين النصّ والسياق.
ومثله أيضا توخّي حال المخاطب وذلك في قوله تعالى في الآية (114): {= لَهُمْ فِي الدُّنْيََا =} قال العكبري = جملة مستأنفة وليست حالا مثل خائفين، لأنّ استحقاقهم الخزي ثابت في كلّ حال، لا في حال دخولهم المساجد خاصة =. (2) ومنه كذلك إعراب = حنيفا = حالا من إبراهيم، وقيل = حسن جعل (حنيفا) حال، لأنّ المعنى نتّبع إبراهيم حنيفا، وهذا جيد لأنّ الملّة هي الدين والمتّبع إبراهيم =. (3) وهنا يتفق الحمل على المعنى مع مراعاة وضع المخاطب مع مقصود الخطاب، مع منزلة المتحدّث عنه وهو إبراهيم.
وفي إعراب العكبري للآية (282) من سورة البقرة يتضافر أكثر من عنصر في تعضيد العلاقة بين النصّ والسياق. يقول العكبري = (أنّ تضلّ) يقرأ بفتح الهمزة على أنّها المصدريّة الناصبة للفعل، وهو مفعول له، وتقديره: لأن تضل إحداهما فتذكّر (بالنصب معطوف عليه) فإن قلت: ليس الغرض من استشهاد المرأتين أن تضلّ إحداهما، فكيف
__________
(1) العكبري، التبيان في إعراب القرآن، 1/ 83.
(2) نفسه، 1/ 108.
(3) نفسه، 1/ 121.(1/387)
تقدّر باللام؟ فالجواب ما قاله سيبويه: إن هذا كلام محمول على المعنى. وعادة العرب أن تقدّم ما فيه السبب، فيجعل في موضع المسبّب لأنّه يصير إليه، ومثل قولك: أعددت هذه الخشبة أن تميل الحائط فأدعمه بها، ومعلوم أنك لم تقصد بإعداد الخشبة ميل الحائط، وإنما المعنى لأدعم بها الحائط إذا مال. فكذلك الآية تقديرها لأن تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلّت أو لظلالها، ولا يجوز أن يكون التقدير مخافة أن تضلّ، لأنّه عطف عليه فتذكّر فيصير المعنى مخافة أنّ تذكّر إحداهما الأخرى إذا ضلّت وهذا عكس المراد = (1). فقد تعاضد هنا عنصر الغرض، مع الحمل على المعنى، والسياق الثقافي المتمثّل في العرف اللغوي وعادة العرب في كلامها (سنن العرب) وأيضا استحضار موقف خطاب مماثل (ميل الحائط) لتعزيز التوجيه الذي اختاره المعرب وكلّها من مظاهر العلاقة بين النص والسياق.
وتمثّل الحقيقة الدينية والعرف الديني إن جاز التعبير معنى آخر يتحرّاه المعرب في تعامله مع النصّ وهو جزء من سياق الثقافة ومدخل واسع من المداخل التي اهتمّت بها اللسانيّات الاجتماعية في الحديث، وفي إعراب مكّي لقوله تعالى {= يُعَلِّمُونَ النََّاسَ السِّحْرَ =} في الآية (102) قال: إن شئت جعلت (يعلّمون) بدلا من (كفروا) لأنّ تعلم السحر كفر في المعنى) (2).
ويتدخّل غرض الخطاب في توجيه المعرب واختياره ففي إعراب الآية (234) {= وَالْمُطَلَّقََاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ =} قال الكسائي: = إنّ قوله (يتربّصن) جرى خبرا عن الاسم الذي تقدّم في صلة الموصول، لأنّ الغرض من الكلام أنّ يتربّصن هنّ =. (3) ومنه كذلك ما قاله سيبويه في الآية (102). وهي قوله تعالى: {= فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمََا مََا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ =} فلا تكفر، فيتعلّمون = قال: قوله {= فَلََا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ =} فارتفع، لأنّه لم يخبر عن
__________
(1) العكبري، التبيان في إعراب القرآن، 1/ 229.
(2) نفسه، 1/ 64.
(3) الزجاج، إعراب القرآن، 1/ 175.(1/388)
الملكين أنّهما قالا فلا تكفر فيتعلموا، لتجعل قولهما = لا تكفر سببا للتعلم، ولكنه قال فيتعلّمون، أي فهم = يتعلمون =. إنّ غرض المخاطب يتمثّل دائما أمام المعرب فيختار وجهة الإعراب بما يحقّق هذا المقصد.
ومن الظواهر السياقية التي التفت إليها المعربون مسألة التعريف والتنكير، وغالبا ما يكون هذا المظهر أثرا خطيا للسياق داخل النص، وفي قوله تعالى {= اهْبِطُوا مِصْراً} = في الآية (61) قال النحّاس: = مصرا = نكرة وهذا أجود الوجوه لأنّها في السواد (9) بألف، وقد يجوز أن تصرف تجعل اسما للبلاد، وإنّما اخترنا الأوّل لأنّه لا يكاد يقال مثل مصر بلاد، ولا بلد، وإنّما يقال لها بلدة، وإنّما يستعمل بلاد في مثل بلاد الروم = (1). وهنا احتكم النّحاس في بعض أقواله على المعروف الشائع بين الناس في التفريق ما بين بلدة وبلاد، وهذا تبدّى أثرا خطيا داخل الخطاب من وجهة نظر المعرب.
ومن المظاهر السياقيّة كذلك التقديم والتأخير، ولمعربي الآي الكريم مذاهب في تناول هذا المظهر، فبعضهم اكتفى برصد مواضع التقديم والتأخير حيث وردت في السورة الكريمة من غير ربطها بدلالة سياقيّة معيّنة، كما هو الحال عند الزجّاج في إعراب قوله تعالى: {= وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ =} (2) قال: = ألا ترى أنّ (هم) مبتدأ و (يوقنون) في موضع خبره، والجار من صلة (يوقنون) وقدّمه على المبتدأ = (3). فهو قد أوضح التقديم والتأخير ولكنّه لم يعلّله بشيء يتصل بالسياق. ومنه كذلك عند النحّاس في إعراب الآية (3) {= وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ =} قال: = أي يقيمون الصلاة وينفقون ممّا رزقناهم، ففصّل بين الواو الفعل بالظرف = (4). ومن أمثلته كذلك قوله تعالى في الآية (183) من سورة البقرة
__________
(9) السواد: الأعظم من الناس وهم الجمهور الأعظم والعد الكثير من المسلمين. انظر لسان العرب مادة سود.
(1) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 233.
(2) سورة البقرة، الآية (4).
(3) الزجاج، إعراب القرآن، 1/ 274.
(4) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 277.(1/389)
{= كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيََامُ} = قال السمين الحلبي: = الصيام مفعول لم يسمّ فاعله، وقدّم عليه هذه الفضلة، وإن كان الأصل تأخيرها عنه، لأنّ البداءة بذكر المكتوب عليه أكد من ذكر المكتوب لتعلّق الكتب بمن يؤدي = (1). وهذا تأويل تداولي لمسألة التقديم والتأخير.
وبعضهم تناول التقديم والتأخير بشيء من التفصيل والتوضيح، كما في إعراب الآية (130) من سورة البقرة في قوله تعالى {= وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصََّالِحِينَ =}. فالنحّاس يسأل = كيف جاز تقديم (في الآخرة)، وهو داخل في الصلة؟ فالجواب أنّه ليس التقدير وأنّه لمن الصالحين في الآخرة فتكون الصلة قد تقدّمت، ولأهل العربية فيه ثلاثة أقوال: منها أن يكون المعنى وإنه صالح في الآخرة ثم حذف، وقيل في الآخرة متعلّق بمصدر محذوف أي صلاحه في الآخرة والقول الثالث: إنّ الصالحين ليس بمعنى الذين صلحوا، ولكنّه اسم قائم بنفسه كما يقال: الرجل والغلام = (2).
وفي هذا التحليل نجد النحّاس يربط التقديم والتأخير بالحمل على المعنى كما في القول الأوّل، أو بافتراض وجود عناصر محذوفة داخل النصّ وهذا يعود للسياق اللّغوي الداخلي. كما في القول الثاني، وبوجه عام يتنبّه المعربون إلى أنّ النص يخرج عن النسق الطبيعي في التعبير عن الموضوع أحيانا فيما يشبه الانعطافات، كما هو الحال في موضوع التقديم والتأخير هذا، ويحاولون تأويل الموضع بما يعيد العناصر اللّغوية المكوّنة إلى مكانها الطبيعي داخل السلاسل المكوّنة للنص. ولكنّهم لا يقفون طويلا عند الجانب الإبلاغي في هذه الانعطافات كما هو الحال عند المفسّرين مثل الزمخشري مثلا.
ومن المظاهر التي يتجلّى فيها تآلف السياق الداخلي والخارجي معا الضمائر، وقد سبق أن درسنا هذا العنصر السياقي لدى المفسّرين، ولكننا سنحاول تجلية نظرة المعربين لهذا العنصر الحيوي. فهم يهتمّون كثيرا بالمحال إليه في الضمائر، ويذكرون الوجوه المختلفة التي تحتملها هذه الإحالة. كما في قوله تعالى في الآية (45): {= وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ}
__________
(1) السمين الحلبي، الدرّ المصون، 2/ 266.
(2) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 263.(1/390)
{وَالصَّلََاةِ، وَإِنَّهََا لَكَبِيرَةٌ إِلََّا عَلَى الْخََاشِعِينَ =}. قال مكّي في (إعراب مشكل القرآن): = وإنّها لكبيرة تعود على الكعبة، وقيل بل تعود على الاستعانة، ودلّ على الاستعانة قوله (واستعينوا) ويدلّ على الكعبة ذكره للصلاة، بل تعود على الصلاة، وهذا أبين الأقوال لقربها منها = (1).
إنّ المعرب يستعرض وجوه التأويل التي لا تتعارض مع اتّساق الخطاب، ويرجح أكثرها تحقيقا لهذا الاتساق ولهذا نراه يهتم بالقرائن داخل النصّ لتقوية كل وجه من وجوه التأويل. والإحالة عن طريق الضمائر إحالة دلاليّة إلّا أنّها تعدّ من أبرز العناصر السياقيّة التي تربط بين المخاطب والمخاطب، فإنّ استخدام الضمائر مبنيّ على المعرفة السابقة لدى المخاطب. وهي أداة اتّساق بين أجزاء الخطاب، ومظهر من مظاهر التماسك، ونلاحظ أنّ المطابقة بين الضمائر مطلب أساسي لدى المعرب فهو يربط بين قوله (استعينوا) وهي دالّة على المخاطب وهي إحالة لخارج النصّ، وبين (وإنّها) وهي ضمير الغائب الذي قد يحيل إلى خارج النصّ إذا كان يدلّ على الكعبة، وقد يحيل لداخل النص إذا كان يدلّ على الصلاة، والمطابقة تعني أن يكون النص منسجما في خطابه، ولا يحتمل أي تناقض بين مكوناته. وأمّا العكبري فيوجّه الآية توجيها آخر يقول: = (وإنّها) الضمير للصلاة، وقيل للاستعانة، لأنّ (استعينوا) يدلّ عليها وقيل على القبلة لدلالة (الصلاة) عليها، وكان التحوّل إلى الكعبة شديدا على اليهود = (2). ومع أنّ منهج التحليل لا يبتعد كثيرا هنا إلّا أنّنا رأينا عنصرا خارجيّا من سياق الحال يساهم كقرينة في تأويل النصّ وتوضيح إحالاته، وهو هنا شدّة أثر تحويل القبلة على اليهود وهذه إحالة مقاميّة ولا ريب.
ومن الشواهد أيضا في مسألة الضمائر الآية (178) {= فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ =}
قال المعرب: = الهاء في (له) تعود على (من) ومن اسم القاتل، وكذلك الهاء في (أخيه) و (الأخ) وليّ المقتول وشيء يراد به الدم، وقيل (من) اسم الولي، والأخ هو القاتل = (3).
__________
(1) مكي بن أبي طالب، إعراب مشكل القرآن 1/ 44.
(2) العكبري، 1/ 59.
(3) نفسه، 1/ 79.(1/391)
إنّ المعرب يتحرّى ردّ الضمائر إلى المحال إليها لتكون الرسالة اللّغوية واضحة للمخاطب في مستواها التركيبي والإبلاغي.
والنصّ يدلّ بعضه على بعض بفعل تماسكه وانسجامه، والضمائر كجزء من هذا النصّ تدلّ أجزاء النص عليها (فالهاء) في قوله تعالى: = فجعلناها = في الآية (66) = تعود على القردة، وقيل: بل تعود على المسخة التي دلّ عليها الخطاب، وقيل (بل) تعود على العقوبة التي دلّ عليها الكلام، وكذلك الاختلاف في الهاء و (يديها) (وما خلفها) (1).
فالخطاب يحمل رسالة موحّدة ليست موجودة في جزء واحد من أجزائه، بل إنّ النص كلّه بتماسكه وانسجامه يوصل هذه الرسالة، ونستدلّ ببعضه على بعض.
ويحاول المعرب قراءة النصّ وفقا لكلّ وجه تأويل أو إحالة للضمير فمثلا في إعراب الآية (188) {= وَلََا تَأْكُلُوا أَمْوََالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبََاطِلِ وَتُدْلُوا بِهََا إِلَى الْحُكََّامِ =} قالوا:
= الهاء في (بها) تعود على الأموال، أي ترشوا بها وتخاصموا من أجلها، فكأنكم قد أدليتم بها ويجوز أن تكون (الهاء) تعود على الحجّة، وإن لم تتقدّم كما ذكر، كما يقال أدلى بحجّته. = أموالكم = إضافة الجنس أي الأموال التي لكم = (2). إنّ الضمائر تتنوّع بحسب الموضوع، ويستعاض بها عن الأسماء الظاهرة لضرورة يقتضيها السياق، أو للاختزال والاختصار لدلالة السياق عليها. ونلاحظ أنّ المعرب في هذا الشاهد أورد قراءتين للآية بحسب توجيه الضمير.
ومن الأمثلة الواضحة جدّا على الربط بين الضمائر والسياق، ما أورده السمين الحلبي حول الآية (136) قوله تعالى: = قولوا =. قال: = في هذا الضمير قولان: أحدهما أنه للمؤمنين، والمراد بالمنزّل إليهم القرآن على هذا، والثاني: أنه يعود على القائلين = كونوا هودا أو نصارى =. والمراد بالمنزّل إليهم: إمّا القرآن وإمّا التوراة والإنجيل، وجملة (آمنا) في محل نصب بقولوا، وكرّر الموصول في قوله: = وما أنزل إلى إبراهيم = لاختلاف المنزل إلينا
__________
(1) مكي ابن أبي طالب، مشكل إعراب القرآن، 1/ 56.
(2) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 290.(1/392)
والمنزّل إليه، فلو لم يكرّر لأوهم أنّ المنزّل إلينا هو المنزّل إليه، ولم يكرّر في (عيسى) لأنّه لم يخالف شريعة موسى إلّا في نزر يسير، فالذي أوتيه عيسى هو عين ما أوتيه موسى إلّا يسيرا، وقدّم المنزل إلينا في الذكر وإن كان متأخرا في الإنزال تشريفا له = (1). إنّ هذا النصّ يربط ما بين رموز الخطاب والحقائق المقاميّة في خارج النصّ ربطا مباشرا من مثل المخاطب وحقيقته، وطبيعة الواقعة وطبيعة الرسالة المشتركة بين موسى وعيسى، ثم في هذا التأويل منحى تداوليّ تمثل في قوله: (تشريفا له).
وأمّا نظر المعربين في = الحروف = و = الأدوات = فمظهر آخر من المظاهر التي يمكن أن نرصد فيها علاقة النصّ بالسياق، ويحرص المعربون على الوقوف عند هذه الحروف والأدوات: وظيفتها ودورها في خدمة غرض الخطاب، ومن ذلك في إعرابهم للآية (130) {= وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرََاهِيمَ إِلََّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ =} قالوا: (ومن) ابتداء وهو اسم تام في الاستفهام والمجازاة، وهو تقرير وتوبيخ وقع فيه معنى النفي، أى ما يرغب عن ملّة إبراهيم إلا من سفه نفسه = (2). فالغرض هنا هو التوبيخ والتقرير وفيه معنى النفي، وتركيب الخطاب على هذا النحو يعزّز هذا الغرض، والأسلوب الذي جاء به الخطاب عبر (من) كذلك.
ومن أمثلة دور هذه الحروف في تعضيد مقصد الخطاب في قوله تعالى = أتجعل فيها) قال مكّي: = الألف ألف استرشاد، وسؤال عن فائدة، وليس هو إنكار، إذ لفظه لفظ الاستفهام، قيل: هو تعجّب تعجّبت الملائكة من قدرة الله = (3). ولا شكّ أنّ هذه المعاني مكتسبة من السياق، وتتكوّن المعاني التعضيديّة التي يضيفها الحرف باختلاف مقاصد المخاطب، ووضع المخاطب وموضوع الخطاب.
__________
(1) السمين الحلبي، الدّر المصون، 2/ 138.
(2) النحاس، إعراب القرآن، 1/ 263.
(3) مكي بن أبي طالب / مشكل إعراب القرآن، 1/ 34.(1/393)
ومن المسائل الأخرى التي أثاروها معاني الحروف والأدوات، وتناوب هذه الحروف وتنوّع معانيها، والحذف في هذه الحروف، ومنه في الآية السابقة (130) = {إِلََّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ =}. قال الزجّاج = أي في نفسه، فحذف (في) (1). فهنا قدّر حرفا محذوفا ليتّسق الخطاب بناء على تأويل وضعه المعرب.
ومثله تقدير الزجاج للآية (178) {= فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} =. قال: = يمكن أن يكون تقديره = فمن عفي له من أخيه عن شيء فلمّا حذف حرف الجر، ارتفع شيء لوقوعه موقع الفاعل، كما أنّك لو قلت: سير بزيد ثم حذفت الباء. قلت سير زيد = (2). أما عن علاقة ذلك بالسياق فهو علاقة داخل النص علاقة اتساق وتماسك داخلي تضمن أن يقرأ النصّ قراءة واضحة الدلالة متماسكة العناصر.
ومثله حذف (عن) في التنزيل في قوله تعالى {= وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمََانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوََاءَ السَّبِيلِ =} في الآية (108) وتقديره: فقد ضلّ عن سواء السبيل = (3). ومنه قوله تعالى {= فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمََا =} في الآية (198) التقدير فلا جناح عليه في أن يطوّف بهما. ويتمّ تفسير هذه الحذوف عن طريق معنى النصّ وغرضه ومقصده غالبا.
ويتنبّه المعربون إلى خروج الأدوات والحروف عن معانيها الأصليّة إلى معان تستفاد من السياق ففي الآية {= أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ =}. قال العكبري: فإن قيل أصل (على) في قوله (على هدى) الاستعلاء، والهدى = لا يستعلى عليه، فكيف يصح معناها هنا؟ قيل: معنى الاستعلاء حاصل، لأن منزلتهم علت باتباع الهدى، ويجوز أن يكون لما كانت أفعالهم كلها على مقتضى الهدى كان تصرّفهم بالهدى كتصرف الراكب بما يركبه = (4). وتفسير المعرب هنا مبنيّ على عناصر من داخل النصّ وهي
__________
(1) الزجاج، إعراب القرآن، 1/ 108.
(2) نفسه، 1/ 109.
(3) نفسه.
(4) العكبري، التبيان في إعراب القرآن، 1/ 20.(1/394)
تآلف المعنى، وعناصر من خارج النص (عناصر مقاميّة) وهي حال المخاطبين وعلوّ منزلتهم.
وتتخصّص بعض الحروف بسياقات معيّنة فالباء الزائدة تدخل في سياق النفي عند البصريّين، وتدخل جوابا لمن قال جملة مؤكّدة مثل: إنّ زيدا لمنطق، وجاء هذا التوضيح في معرض إعرابهم للآية (8) في السورة الكريمة {(وَمََا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)}. فما بإزاء (إنّ) في قولك (إن زيدا لمنطق) والباء إزاء اللام، إذ اللام لتأكيد الإيجاب، والباء لتأكيد النفي) (1). فالسياق الذي يأتي فيه الحرف يحدّد دلالته. ومثله في الآية (10) {= وَبِمََا كََانُوا =}
(فالباء متعلّقة بالاستقرار، أي وعذاب مؤلم مستقرّ لهم بكونهم يكذبون بما أتى به نبيّهم = (2).
فالحروف والأدوات لها معان ولها سياقات، وفي الآية (222) (من حيث أمركم الله) قال العكبري: (من) هنا لابتداء الغاية على أصلها، أي من الناحية التي تنتهي إلى موضع الحيض، ويجوز أن تكون بمعنى (في) ليكون ملائما لقوله تعالى (في المحيض) وفي الكلام حذف تقديره: أمركم الله بالإتيان به = (3). إنّ الملاءمة أو الاتّساق هدف مركزيّ للمعرب، والحفاظ على هذا الاتساق يوجب اختيارات معينة ويعزز تأويلا على آخر وتوجيها على آخر.
وينبّه المعرب صراحة إلى دور الحروف في ترابط الكلام يقول العكبري في قوله تعالى: {= فَإِنَّ اللََّهَ يَأْتِي =} في الآية (258): = دخلت الفاء إيذانا بتعلّق هذا الكلام بما قبله، والمعنى إذا ادّعيت الإحياء والإماتة ولم تفهم، فالحجّة أنّ الله يأتي بالشمس. هذا هو المعنى = (4).
__________
(1) مكي بن أبي طالب، مشكل إعراب القرآن، 1/ 22.
(2) نفسه، 1/ 23.
(3) العكبري، 1/ 207.
(4) نفسه، 1/ 207.(1/395)
وتحمل بعض الحروف والأدوات دلالات خاصة على الزمن، وقد تتقوّى هذه الدلالة أو تتغيّر أو تتخصّص. ففي إعراب الآية (165) {= وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذََابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلََّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللََّهَ شَدِيدُ الْعَذََابِ =} قال مكّي: إنّما جاءت (إذ) هنا وهي لما مضى، ومعنى الكلام لما يستقبل لأنّ أخبار الآخرة من الله جل ذكره كالكائنة الماضية لصحّة وقوعها، وثبات كونها على ما أخبر به الصادق لا إله إلا هو، فجاز الإخبار عنها بالمضي، إذ هي في صحّة كونها كالشيء الذي قد كان ومضى، وهو كثير في القرآن = (1). إنّ الدلالة الزمنيّة للحرف قد تحوّلت من المضيّ إلى المستقبل ليحدث التوافق بين النصّ والسياق، إنّ السياق هو الذي أعطى للحرف دلالته الجديدة. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن التأويل الذي ساقه مكيّ يظهر سياق الحال، وهو الوضع في الآخرة أو الوضع في الدنيا وما يليق في كل سياق منهما، ثمّ إنّ فيها مراعاة لمقام المخاطب سبحانه وتعالى، وهو أنّ ما يصدر عنه بدلالة المستقبل بمثابة الماضي المنقضي لأنّه الإله العظيم فما يصدر عنه يقين لا شكّ فيه.
وقد تناول ابن جنّي مسألة العدول في الحروف في كتابه (الخصائص) فقال:
= اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر، وكان أحدهما يتعدّى بحرف، والآخر بآخر، فإنّ العرب قد تتّسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذانا بأنّ هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه، وذلك كقوله تعالى: {= أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيََامِ الرَّفَثُ إِلى ََ نِسََائِكُمْ =} (2). وأنت لا تقول: (رفثت إلى المرأة) وإنّما تقول: (رفثت بها) أو معها، لكنّه لما كان الرفث هنا بمعنى الإفضاء وكنت تعدّي، (أفضيت) ب (إلى) جئت بها مع الرفث إيذانا بأنّه معناه = (3). وهذه الدلالات كلّها مأخوذة من السياق الخارجي وتناوب المعنى داخل السياق الداخلي.
__________
(1) مكي ابن أبي طالب، مشكل إعراب القرآن، 1/ 79.
(2) سورة البقرة، الآية 187.
(3) ابن جني، الخصائص 2/ 435.(1/396)
نخلص من ذلك كلّه إلى أنّ النحاة في توجيههم للإعراب قد حاولوا أن يذكروا احتمالات الإعراب المختلفة التي يحتملها النصّ، وهذه الاحتمالات مبنيّة على اختيارات سياقيّة للمركّبات المشكّلة للجملة، وفي كلّ اختيار سياقي سنخرج بمعنى جديد وقراءة جديدة، فالرسالة اللّغوية تحمل سياقا لغويّا خاصّا يتحدّد وفقا للعناصر المشكّلة له.
ويفترض بعض النحاة أحيانا تأويلا أوّليا للنص، ويوجّهون إعرابهم بحسب هذا التأويل الأوّلي، وأحيانا يحصل العكس فيبدءون بذكر الوجه المختار ويحدّدون المعنى تبعا لذلك.
وفي الحالتين يحاول المعرب أن تكون القراءة أقرب إلى مقصد صاحب النصّ من جهة، ومتّسقة مع بقيّة أجزاء النصّ من جهة أخرى. ويهتمّ المعربون كثيرا بمسألة تجانس النصّ والسياق وتشاكلهما، فإذا ابتدأ الخطاب يجب أن تتّسق مكوّنات النصّ التي تلي مع ذلك، وإذا ابتدأت بالماضي يجب أن تتّسق المكونات التالية مع هذا وهكذا، ولا يعني الاتّساق المطابقة، بل التلاؤم والانسجام وفقا لمقتضيات السياق، وإذا خرج شيء عن هذا سارع المعرب إلى تمثّل السياق الثقافي لأهل اللغة، واحتكم إلى العرف اللّغوي ليجد التأويل والتفسير المناسب.
كما أنّ المعرب يتحرّى وقائع الحدث في خارج النص ويبحث عن تلاؤم النصّ معها في داخله فيهتمّ بأحوال المخاطبين وصلتهم بالوقائع. ويلتمس هذا من خلال التراكيب والصيغ، وفي كلّ الأحوال لا يجب أن يفقد النصّ تآلفه الداخلي بالإضافة إلى تآلفه مع الحقائق المائلة خارج السياق. ومن الأمور التي رأينا المعربين ينتبهون إليها طبيعة العرف الاجتماعي للمخاطبين من مثل من يطلق عليه (آل كذا) ومن لا يطلق عليه، ومتى يعتبر العم بمثابة الأب، ومن مثل الفرق بين (بلد) وبلدة وغيرها. ومنها كذلك ما يليق بشأن المخاطب من المخاطبات والصفات والنعوت وما لا يليق، وما يليق بشأن المخاطب من ذلك كله. كما وقف المعربون عند عنصر (الزمن) في الخطاب باعتباره ركنا رئيسا في المقام ودوره في توجيه القراءة، ووصف السياق والنصّ معا، ونظروا إليه باعتباره أداة اتساق داخليّة كذلك، ودور الوقائع الخارجية في تحديد هذا الزمن أو إخراجه عن مقتضى
ظاهره. فالزمن يتقولب أحيانا بحسب السياق الذي ورد فيه وغرض الخطاب الذي لازمه، وحالة المخاطب الذي ارتبط فيه على نحو ما رأينا.(1/397)
كما أنّ المعرب يتحرّى وقائع الحدث في خارج النص ويبحث عن تلاؤم النصّ معها في داخله فيهتمّ بأحوال المخاطبين وصلتهم بالوقائع. ويلتمس هذا من خلال التراكيب والصيغ، وفي كلّ الأحوال لا يجب أن يفقد النصّ تآلفه الداخلي بالإضافة إلى تآلفه مع الحقائق المائلة خارج السياق. ومن الأمور التي رأينا المعربين ينتبهون إليها طبيعة العرف الاجتماعي للمخاطبين من مثل من يطلق عليه (آل كذا) ومن لا يطلق عليه، ومتى يعتبر العم بمثابة الأب، ومن مثل الفرق بين (بلد) وبلدة وغيرها. ومنها كذلك ما يليق بشأن المخاطب من المخاطبات والصفات والنعوت وما لا يليق، وما يليق بشأن المخاطب من ذلك كله. كما وقف المعربون عند عنصر (الزمن) في الخطاب باعتباره ركنا رئيسا في المقام ودوره في توجيه القراءة، ووصف السياق والنصّ معا، ونظروا إليه باعتباره أداة اتساق داخليّة كذلك، ودور الوقائع الخارجية في تحديد هذا الزمن أو إخراجه عن مقتضى
ظاهره. فالزمن يتقولب أحيانا بحسب السياق الذي ورد فيه وغرض الخطاب الذي لازمه، وحالة المخاطب الذي ارتبط فيه على نحو ما رأينا.
إنّ موقف الكلام عند النحاة يأتلف على هيئة مخصوصة تصبح فيصلا في تحديد الصواب والخطأ متجاوزين المعيار الشكلي. ومن ذلك تعاملهم مع الأسماء الظاهرة وأسماء الإشارة كما سلف القول. وتتدخّل حال المخاطب في تحديد الاختيار النحوي كما في مثال (كلّا) و (بلى) آنف الذكر، ويتمثّل المعرب ملابسات الخطاب جميعا ليصل إلى توجيه أمثل للنصّ، كما أنّ اتساق الخطاب وتلاؤم أجزائه وتآلف عناصره من الأمور الرئيسة التي يعتمد عليه المعرب في قبول القراءة، أو اعتبارها شاذّة وهذا الاتّساق يشمل الوجهين الداخلي والخارجي. كما أنّ سياق الحال يمكن أن يستخرج من داخل النص، فيتوقّع المعرب الحال التي كان المخاطب عليها من خلال تراكيب النصّ وصيغة.
ويتنبّه المعربون إلى بعض الاستعمالات اللغويّة التي تليق في القرآن ولا تليق في سواه، أو تليق في غير القرآن ولا تليق في القرآن باعتبار القرآن كلام الله، وهو مستوى آخر من اللّغة، وفي هذا القول اعتبار لطبيعة المخاطب سبحانه وتعالى، كما أنّ هدف الخطاب ومقصده عنصر سياقي آخر يحكم توجّهات المعرب ويحرّكها. كما أنّ الحقيقة الدينيّة والعرف الديني موجّهات أخرى لحركة الإعراب.
ويدرس المعربون جملة من الظواهر السياقيّة، مثل: التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، والضمائر، والحروف والأدوات. وحاولوا توجيهها بما يحقّق الائتلاف اللغوي الداخلي، والائتلاف الخارجي مع سياق الحال. ونظروا في خروج الحروف والأدوات عن معانيها الأصلية إلى معان تستفاد من السياق، ورصدوا هذه المعاني من خلال عناصر السياق المختلفة، كالغرض والظرف ووضع المخاطب وغيره.
وهذه الملاحظات التي يثيرها اللغويّون حول هذه الشواهد قد نجدها مائلة في صورة أخرى لدى العاملين في مدرسة تحليل الخطاب، ومنهم (ليفيس) الذي يجعل خصائص السياق تتحدّد في عناصر أبرزها: العالم الممكن (الوقائع التي كانت، أو يمكن
أن تكون). والزمن حيث يعتبر الجمل المزمنّة وظروف الزمان مثل: اليوم، الأسبوع، عناصر مهمّة في تحديد خصائص السياق، وكذلك المكان والمتكلّم والمخاطب والخطاب السابق، الذي يتضمّن أيّة إشارة للخطاب الذي يراد تحليله، والتخصيص وهي مجموعة الأشياء والعلاقات التي تحدّد أيّ نصّ، وهي مقاربة لرؤية هايمس (للمقام). إنّ صنيع ابن جني في طرح تساؤلات حول النصّ أيضا يتجه مباشرة إلى طبيعة الاستدلال التي اقترحها (براون ويول) في بحوثهما. فهما يقترحان أن تجري عملية الاستدلال انطلاقا من مجموعة أسئلة الفهم (من، ماذا، أين، متى) فإذا اتّضح أنّ الإجابة عن بعض الأسئلة تتطلّب من القارئ عملا تأويليا إضافيا مثل (ملء الفراغات أو التقطيعات) (1)، وهو ما أسميناه بتقدير المحذوف، فعليه أن يفعل ذلك.(1/398)
وهذه الملاحظات التي يثيرها اللغويّون حول هذه الشواهد قد نجدها مائلة في صورة أخرى لدى العاملين في مدرسة تحليل الخطاب، ومنهم (ليفيس) الذي يجعل خصائص السياق تتحدّد في عناصر أبرزها: العالم الممكن (الوقائع التي كانت، أو يمكن
أن تكون). والزمن حيث يعتبر الجمل المزمنّة وظروف الزمان مثل: اليوم، الأسبوع، عناصر مهمّة في تحديد خصائص السياق، وكذلك المكان والمتكلّم والمخاطب والخطاب السابق، الذي يتضمّن أيّة إشارة للخطاب الذي يراد تحليله، والتخصيص وهي مجموعة الأشياء والعلاقات التي تحدّد أيّ نصّ، وهي مقاربة لرؤية هايمس (للمقام). إنّ صنيع ابن جني في طرح تساؤلات حول النصّ أيضا يتجه مباشرة إلى طبيعة الاستدلال التي اقترحها (براون ويول) في بحوثهما. فهما يقترحان أن تجري عملية الاستدلال انطلاقا من مجموعة أسئلة الفهم (من، ماذا، أين، متى) فإذا اتّضح أنّ الإجابة عن بعض الأسئلة تتطلّب من القارئ عملا تأويليا إضافيا مثل (ملء الفراغات أو التقطيعات) (1)، وهو ما أسميناه بتقدير المحذوف، فعليه أن يفعل ذلك.
__________
(1) براون ويول، ص 266.(1/399)
الفصل الثالث الخطاب القرآنى في سورة البقرة: بين حدود النصّ وآفاق السّياق
* موضوع الخطاب.
* عنوان النصّ في ضوء نظريّة السّياق.
* النصّ والمتلقّي الأوّل.
* النصّ والمخاطبون.(1/401)
يبحث هذا الفصل في الكيفيّة التي اتّسق بها الخطاب القرآني في سورة البقرة، وانعكاسات هذا الاتّساق في العلاقة بين نصّ السورة الكريمة وسياقها. وربّما يجدر بنا التنبيه إلى أنّ رصد هذه الكيفيّة يعني تحديد المؤهّلات اللغوية التي امتلكها النصّ، وحقّق من خلالها وظيفة التواصل مع المخاطبين. ويستخدم مصطلح المؤهّلات اللغويّة في لسانيّات الخطاب ليدلّ على = قدرة النصّ على إنتاج متواليات صوتيّة في شكل تركيبي ما، مع بعض المعنى وبعض القصد، وفي السياق الطبيعي والاجتماعي والعقلي المناسب لهذه المتواليات، بموافقة النماذج والاستراتيجيات التي تتبعها اللّغات في كلّ حالة من حالات التواصل = (1). ويعبّرون عن توافر هذه المؤهلات على شكل منظومة = من الشروط اللغوية والنفسية، والشروط المتعلقة بمقتضيات الأحوال = (2). التي ينسجم من خلالها النصّ مع سياقه. وسنعالج هذه الشروط الثلاثة متداخلة معا، مع التمييز الواضح بين محورين:
المحور الآني () الذي = يركّز في تحليله للظواهر على جملة علاقاتها وأبنيتها المتراكبة، وانتظامها في نسق متّصل = (3). وهذا المحور يرصد صورة وصفيّة للنص في لحظة محدّدة وفي سياق معين.
المحور التعاقبي (9) () الذي = يعنى بتطوّر الظواهر والنموّ في النصّ الأدبي = (4). ويفتح آفاقا للنصّ تجعله قابلا للقراءة ومؤثرا في فترات زمنيّة متعاقبة.
وسيكون هذا النظر وهذا التمييز في ضوء نظرية العلاقة بين النص والسياق، التي أوضحنا مظاهرها في الفصل الأول من هذا الكتاب، ومن خلال بعض عناصر الموقف الكلامي في سورة البقرة.
__________
(1) محمد مفتاح، دينامية النص، ص 20.
(2) نفسه، ص 22.
(3) أحمد المتوكّل، الوظائف التداولية في اللغة العربية، ص 8.
(9) اخترنا مصطلح (التعاقبي) بدلا من (التاريخي) الذي يستخدمه بعض اللّسانيّين لما يمكن أن تسببه لفظة (التاريخي) من اشكالات في هذا السياق، قد لا تتناسب مع كلام الله تعالى.
(4) نفسه، ص 9.(1/403)
1 - موضوع الخطاب
هذه السورة من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة، وتضم عدة موضوعات، ولكنّ المحور الذي يجمعها كلّها محور واحد مزدوج، يترابط الخطّان الرئيسان فيه ترابطا شديدا فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلاميّة في المدينة، واستقبالهم لها، ومواجهتهم لرسولها صلّى الله عليه وسلّم وللجماعة المسلمة الناشئة على أساسها، وسائر ما يتعلّق بهذا الموقف بما فيه تلك العلاقة القويّة بين اليهود والمنافقين من جهة، وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى. وهي من الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أوّل نشأتها، وإعدادها لحمل أمانة الدعوة والخلافة في الأرض، بعد أن تعلن السورة نكول بني إسرائيل عن حملها، ونقضهم لعهد الله، وتجريدهم من شرف الانتساب الحقيقي لإبراهيم عليه السلام، وتبصير الجماعة المسلمة، وتحذيرها من العثرات التي سبّبت تجريد بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم، وكلّ موضوعات السورة تدور حول هذا المحور المزدوج بخطيّه الرئيسين.
ولكي يتّضح مدى الارتباط بين محور السورة وموضوعاتها من جهة، وبين خط سير الدعوة أوّل العهد بالمدينة، وحياة الجماعة المسلمة وملابساتها من الجهة الأخرى، يحسن أن نلقي ضوءا على مجمل هذه الملابسات التي نزلت آيات السورة لموجهتها ابتداء.
لقد تمّت هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد تمهيد ثابت وإعداد محكم تحت تأثير ظروف حتمت هذه الهجرة وجعلتها إجراء ضروريا لسير هذه الدعوة في الخط المرسوم الذي قدّره الله لها، وكان موقف قريش العنيد من الدعوة في (مكة) خاصّة بعد وفاة خديجة وموت أبي طالب قد أدّى إلى تجميد الدعوة تقريبا في مكّة وما حولها، ومن ثمّ كان بحث الرسول عن قاعدة أخرى غير مكّة، تحمي العقيدة وتكفل لها الحريّة، وبعد محاولات إلى الحبشة والطائف فتح الله على الرسول الكريم، فكانت بيعة العقبة الأولى والثانية (1)، وهما ذواتا صلة قويّة بالموضوع الذي نعالجه في مقدّمة هذه السورة،
__________
(1) انظر تهذيب سيرة ابن هشام.(1/404)
وقد أخذ المبايعون الأمر بقوّة، ومن ثمّ فشا الإسلام في المدينة، وأخذ المسلمون في مكّة يهاجرون تباعا تاركين وراءهم كلّ شيء، وقامت دولة الإسلام من أولئك السابقين من المهاجرين والأنصار، وتكوّنت منهم طبقة ممتازة من المسلمين نوّه القرآن بها، وهنا نجد السورة تفتتح بتقدير مقوّمات الإيمان، وهي تقرّر صفة المؤمنين الصادقين إطلاقا، ولكنها تصف ذلك الفريق من المسلمين الذي كان قائما بالمدينة حينذاك. ثمّ نجد بعدها مباشرة في السياق وصفا للكفّار وهو يمثّل مواصفات الكفر بشكل عام، ولكنه وصف مباشر للكفّار الذين كانت تواجههم حينذاك. كذلك كانت هناك طائفة المنافقين، ووجود هذه الطائفة نشأ بأثر من الأوضاع التي أنشأتها الهجرة النبوية ولم يكن لها وجود بمكّة، ففي المدينة أصبح المسلمون عصبة يخشاها بعض الكارهين لها فيضطرون لمصانعتها، وفي مقدمة أولئك نفر من الكبراء دخل أهلهم وشيعتهم في الإسلام، فصار لزاما عليهم أن يتظاهروا باعتناق الدين الذي اعتنقه أهلهم، لكي يحتفظوا بمقامهم ومصالحهم الموروثة، ومن هؤلاء عبد الله بن أبيّ بن سلول الذي كان قومه ينظمون له الخزر ليتوّجوه ملكا عليهم قبيل مقدم الإسلام على المدينة (1). وسنجد في أول السورة وصفا مطوّلا لهؤلاء المنافقين ندرك من بعض فقراته أن المعني بهم في الغالب هم أولئك الذين أرغموا على التظاهر بالإسلام ولم ينسوا بعد ترفعهم على جماهير الناس، وتسمية هذه الجماهير بالسفهاء على طريقة العلية المتكبّرين {= وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنََّا بِاللََّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمََا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ =} (2).
وفي ثنايا هذه الحملة على المنافقين الذين في قلوبهم مرض نجد إشارة إلى (شياطينهم) والظاهر من سياق السورة ومن سياق الأحداث في السيرة أنّها تعني اليهود الذين تضمنت السورة حملات شديدة عليها فيما بعد. لقد كان اليهود أوّل من اصطدم
__________
(1) تهذيب سيرة ابن هشام، ص.
(2) سورة البقرة آية (8).(1/405)
بالدعوة في المدينة، وكان لهذا الاصطدام أسبابه الكثيرة، فقد كان لليهود في يثرب مركز ممتاز سبب أنّهم أهل كتاب بين الأميّين من العرب، وساعد ذلك ما بين الأوس والخزرج من فرقة وخصام، فلمّا جاء الإسلام سلبهم هذه المزايا، وأزال الفرقة التي كانوا ينفذون من خلالها للدس والكيد، وكانوا يتطلّعون أن يكون الرسول الأخير فيهم كما توقّعوا دائما، فلما وجدوا الرسول يدعوهم إلى كتاب الله أخذتهم العزّة بالإثم، وعدوّا ذلك إهانة لهم، وشعروا بالخطر من عزلهم عن المجتمع المدني الذي كانوا يزاولون فيه القيادة العقليّة الرابحة والربا المضاعف. لهذا كلّه وقف اليهود من الدعوة الإسلاميّة هذا الموقف الذي تصفه سورة البقرة في تفصيل دقيق. وكانت معجزة القرآن الخالدة أنّ صفتهم التي دمغهم بها هي الصفة الملازمة لهم في كلّ أجيالهم، مما جعل القرآن يخاطبهم في عهد النّبي صلّى الله عليه وسلّم كما لو كانوا هم أنفسهم الذين كانوا على عهد موسى عليه السلام، وعلى عهود خلفائه من أنبيائه باعتبارهم جبلّة واحدة، سماتهم واحدة وموقفهم من الحقّ والخلق واحد على مدار الزمان، ومن ثمّ يكثر الالتفات في السياق من خطاب قوم موسى إلى خطاب اليهود في المدينة، إلى خطاب أجيال بين هذين الجيلين.
وهذه السورة التي تضمّنت هذا الوصف وهذا التحذير، ذكرت كذلك بناء الجماعة المسلمة وإعدادها لحمل أمانة العقيدة في الأرض بعد نكول بني إسرائيل عن حملها قديما، ووقوفهم في وجهها هذه الوقفة أخيرا.
أمّا داخل النصّ فنجد أن السورة تمضي على محورها بخطيّه الرئيسين إلى نهايتها، في وحدة ملحوظة تمثّل الشخصية الخاصّة للسورة مع تعدّد الموضوعات التي تتناولها. فبعد استعراض النماذج الثلاثة الأولى: المتّقين، والكافرين، والمنافقين، وبعد الإشارة الضمنية لليهود الشياطين نجد دعوة الناس جميعا إلى عبادة الله والإيمان بالكتاب المنزّل على عبده، وتحدّي المرتابين فيه أن يأتوا بسورة من مثله، وتهديد الكافرين بالنار وتبشير المؤمنين بالجنّة، ثم نجد التعجّب من أمر الذي يكفرون بالله {= كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللََّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوََاتاً فَأَحْيََاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى ََ إِلَى السَّمََاءِ فَسَوََّاهُنَّ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} = (1). وعند هذا المقطع الذي يشير إلى خلق ما في الأرض جميعا للناس تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض: {= وَإِذْ قََالَ رَبُّكَ لِلْمَلََائِكَةِ =} (2).(1/406)
أمّا داخل النصّ فنجد أن السورة تمضي على محورها بخطيّه الرئيسين إلى نهايتها، في وحدة ملحوظة تمثّل الشخصية الخاصّة للسورة مع تعدّد الموضوعات التي تتناولها. فبعد استعراض النماذج الثلاثة الأولى: المتّقين، والكافرين، والمنافقين، وبعد الإشارة الضمنية لليهود الشياطين نجد دعوة الناس جميعا إلى عبادة الله والإيمان بالكتاب المنزّل على عبده، وتحدّي المرتابين فيه أن يأتوا بسورة من مثله، وتهديد الكافرين بالنار وتبشير المؤمنين بالجنّة، ثم نجد التعجّب من أمر الذي يكفرون بالله {= كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللََّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوََاتاً فَأَحْيََاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى ََ إِلَى السَّمََاءِ فَسَوََّاهُنَّ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} = (1). وعند هذا المقطع الذي يشير إلى خلق ما في الأرض جميعا للناس تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض: {= وَإِذْ قََالَ رَبُّكَ لِلْمَلََائِكَةِ =} (2).
وتمضي القصّة تصف المعركة الخالدة بين آدم والشيطان حتى تنتهي بعهد الاستخلاف وهو عهد الإيمان: {= قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهََا جَمِيعاً فَإِمََّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدََايَ فَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ =} (3).
بعد هذا يبدأ السياق جولة واسعة طويلة مع بني إسرائيل تتخلّلها دعوتهم للدخول في دين الله مع تذكيرهم بعثراتهم وخطاياهم والتوائهم منذ أيام موسى عليه السلام، وتستغرق هذه الجولة كل هذا الجزء الأوّل من السورة، وتحمل السورة حملة قوية على أفاعيل بني إسرائيل، وتنتهي هذه الحملة بتيئيس المسلمين من الطمع في إيمانهم وبتقرير أنهم وحدهم المهتدون بما أنهم ورثة إبراهيم عليه السلام، وأن وراثة إبراهيم عليه السلام انتهت إلى محمّد والمؤمنين به، وأنّ هذا كان استجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل.
وعند هذا الحد يبدأ سياق السورة يتّجه إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم وإلى الجماعة المسلمة من حوله، حيث يأخذ في وضع الأسس التي تقوم عليها حياة هذه الجماعة المستخلفة على دعوة الله في الأرض، وفي تمييز هذه الجماعة بطابع خاصّ وبمنهج في التصوّر وفي الحياة خاص، ويبدأ هذا بتعيين القبلة التي تتّجه إليها هذه الجماعة، وهي البيت المحرّم الذي عهد الله لإبراهيم وإسماعيل أن يقيماه ويطهّراه ليعبد فيه الله وحده. ثمّ
__________
(1) سورة البقرة، الآية (29).
(2) سورة البقرة، الآية (30).
(3) سورة البقرة، الآية (38).(1/407)
تمضي السورة في بيان المنهج الرباني لهذه الجماعة المسلمة، منهج التصوّر والعبادة، ومنهج السلوك والمعاملة، فبيّن لها أنّ الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا بل أحياء، وأن الإصابة بالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات ليس شرّا يراد بها، إنما هو ابتلاء ينال الصابرون عليه صلوات الله ورحمته، وأنّ الله وليّ الذين آمنوا، وبيّن لهم بعض الحلال والحرام في المطاعم والمشارب، وحقيقة البرّ لا مظاهره وأشكاله، وأحكام القصاص في القتلى، وأحكام الوصيّة، وأحكام الصوم والحج، وأحكام الزواج والطلاق مع التوسّع في دستور الأسرة بصفة خاصّة، وأحكام الصدقة والربا، وأحكام الدين والتجارة
ووإذا ما تأمّلنا كيف دخل السياق إلى الحديث عن بني إسرائيل، ثمّ كيف انتقل من بني إسرائيل إلى الأمة المؤمنة ليضع لها دستور حياتها الجديدة، فإنّ في هذين الموضعين بالذات تبدو (الهندسة) الدقيقة في بناء السورة، وترسم صورة كذلك للبناء كلّه، لم يبدأ الحديث مباشرة عن بني إسرائيل، بل بدأ بما يناسب افتتاح عهد جديد في حياة المسلمين، وهو قيام المجتمع المسلم والدولة المسلمة بعد ثلاثة عشر عاما من الاضطهاد والتشريد والملاحقة المضنية من قريش، والسياق في الآيات من (12342) تقريبا لخّص تاريخ بني إسرائيل الأسود كلّه، وينتهي الحديث الموجّه إليهم طيلة هذه الآيات كلّها بهذا الإنذار الأخير: {= يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعََالَمِينَ}
{وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلََا يُقْبَلُ مِنْهََا شَفََاعَةٌ وَلََا يُؤْخَذُ مِنْهََا عَدْلٌ وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ =} (1). علما أنّ هذا الإنذار ذاته قد جاء بتنويع طفيف في عبارته في مبدأ الحديث إلى بني إسرائيل في الآيات (4847) {= يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعََالَمِينَ، وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلََا يُقْبَلُ مِنْهََا شَفََاعَةٌ وَلََا يُؤْخَذُ مِنْهََا عَدْلٌ، وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ =} فكأنما بدأ الحديث بالإنذار
__________
(1) سورة البقرة، الآية (40).(1/408)
وختم به. ثمّ بعد ذلك سيبدأ الحديث الموجّه إلى المؤمنين ينظّم لهم شئون حياتهم في المجتمع الجديد، فكيف انتقل إلى ذلك؟ لقد أتى السياق بوصلة بديعة تصل بين الحديثين، وتفرّق في الوقت ذاته بين الأمّتين، إنّ الأمّتين تنتهيان في النسب إلى إبراهيم عليه السلام فهو الجدّ المشترك لليهود عن طريق إسحاق، وللعرب عن طريق إسماعيل، وهما ابنا إبراهيم عليه السلام، ولقد أعطى الله إبراهيم العهد فجعله للناس إماما، وسأل إبراهيم ربّه: هل يسري هذا العهد إلى ذريتي؟ فقال عزّ وجل: {= لََا يَنََالُ عَهْدِي الظََّالِمِينَ =} (1). وإذن فقد نبّه إبراهيم عليه السلام أن العهد له ثمّ لذريّته إن استقاموا على العهد، فإن ظلموا فلا عهد لهم عند الله، ومن ثمّ انتقل العهد إلى أمّة محمد عن طريق إسماعيل (2). لأنها أمّة مهتدية مؤمنة، تلك هي القصّة التي تحويها صراحة وضمنا تلك الوصلة البديعة التي تصل بين الحديثين، وتفرّق في الوقت ذاته بين الأمّتين.
إذن فهذه هي الرسالة اللّغويّة التي تحملها سورة البقرة، وهي رسالة متماسكة بخيط موضوعيّ واحد من الآية الأولى إلى الآية النهائية، ومن الجدير بالذكر أنّ السورة قد ركّزت على إنشاء الجماعة المسلمة المستخلفة التي تقيم شرع الله في كلّ ميادين الحياة: في الاقتصاد، والاجتماع، وفي ميدان الأسرة، وفي الجهاد، وضمن منهجيّة وسطيّة، وقد جاء الحديث عن وسطيّة الأمّة في الآية (143)، وهي الآية التي تنتصف بها سورة البقرة تماما (3)، إذ عدد آياتها هو (286) آية ممّا يومئ بنظام هندسيّ دقيق يرتبط بموضوع السورة وهذا يذكّرنا بقولة (بارت) عن الفن يقول: = إنّه لا يعرف الضوضاء، إنّه عبارة عن نسق خالص، وليس هناك أبدا وحدة ضائعة = (4). وفي نهاية السورة نرى الختام ينعطف على الافتتاح فنرى طبيعة التصوّر الإيماني من خلال إيمان الأمة المسلمة بالأنبياء كلّهم،
__________
(1) سورة البقرة، الآية (124).
(2) انظر محمّد قطب، دراسات قرآنيّة، ص 271.
(3) هذه الملاحظة من جاك بيرك في كتابه: القرآن وعلم القراءة، ط 1، ترجمة منذر عياشي، دار التنوير، بيروت، 1996، ص 53.
(4) رولان بارت، درس السيميولوجيا، ص 85.(1/409)
وبالكتب كلّها، وبالغيب وما وراءه، مع السمع والطاعة {= آمَنَ الرَّسُولُ بِمََا أُنْزِلَ =}
= ومن ثمّ يتناسق البدء والختام، وتتجمّع موضوعات السورة بين صفتين من صفات المؤمنين وخصائص الإيمان = (1).
إنّ النصّ في سورة البقرة متماسك في موضوعه، منسجم في سياقه، فهو نسيج متّصل ونسيج النصّ هو واحد من الخصائص التي تميز النصّ عن اللانصّ في علم لسانيات الخطاب، فكلمة نصّ توحي = بسلسلة من الجمل والملفوظات المنسوجة بنيويّا ودلاليّا، وتتمثل في هذا النسيج، أو هذه المتوالية عناصر الاستمرار والانسجام =. (2) وهذا النص = مغلق بمعنى له بداية ونهاية ولكنه توالديّ مفتوح = (3)، يملك رسالة للقراءة في كلّ آن، والعلائق الداخلية في نسيج النصّ تبدّت من خلال وجود ثابت بنيوي (محور رئيس للسورة) ينطلق منه النصّ يفصّله ويكمله = وهذا الثابت يحقق التماسك الدلالي والمنطقي في النصّ = (4).
2 - عنوان النصّ في ضوء نظريّة السّياق:
ورد أنّ تسمية سور القرآن هو توقيف من الله تعالى (5). وقد أورد (الكرماني) في عجائبه أنّ من ألوان المناسبة مناسبة اسم السورة لمقاصدها (6). ويذهب الزركشي إلى أنّ تسمية السورة باسم معيّن ليس إلّا تعضيدا لتقليد معلوم لدى العرب، وهو = تقليد يراعي في كثير من المسمّيات أخذ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون في الشيء من خلق أو صفة
__________
(1) سيّد قطب، في ظلال القرآن، ط 11، دار الشروق، القاهرة، 1985، 1/ 35.
(2) (2791، 091.، 81،
). (3) محمّد مفتاح، استراتيجية التناص، ص 42.
(4) انظر علاقة الثابت البنيوي بنسيج النصّ في دراسة الأزهر الزناد = نسيج النصّ =.
(5) السيوطي، الإتقان، 1/ 112.
(6) الكرماني، عجائب القرآن، 1/ 46.(1/410)
تخصّه، ويسمّون الجملة من الكلام أو القصيدة الطويلة بما هو أشهر فيها، وعلى ذلك جرت أسماء سور الكتاب العزيز = (1). ويرى (براون ويول) في دراستهما التي جرت الإشارة إليها في الفصل الأول من هذا الكتاب، أنّ العنوان إجراء يتحكم في تغريض الخطاب (هدف النصّ وغرضه)، وهما بذلك يخالفان الكثير من الباحثين من ناحية اعتبارهما العنوان أحد التعبيرات الممكنة عن موضوع الخطاب، في حين يعتبر أولئك الباحثون العنوان موضوعا للخطاب، كما يحدّدان وظيفة العنوان في أنه وسيلة خاصّة وقويّة للتغريض، وهو كذلك لأنه يثير لدى القارئ توقّعات قويّة حول ما يمكن أن يكونه موضوع الخطاب. بل غالبا ما يتحكّم العنوان في تأويل المتلقّي للنص، وكثيرا ما يؤدّي تغيير عنوان نصّ ما إلى تأويله وفق العنوان الجديد، بمعنى أنّ القارئ يكيّف تأويله مع العنوان الجديد، ويتجلّى هذا في النصوص التي يضعها علماء النفس المعرفي لاختبار افتراضاتهم (2).
ويرى د. صلاح فضل أنّ العنوان له أهميّة بارزة في تحديد النصّ الأدبي، فعن طريق هذا العنوان تتجلّى جوانب أساسيّة، أو مجموعة من الدلالات المركزيّة للنصّ الأدبي، ومثل هذا قد يحدث في بقيّة النصوص، كما نرى في النصوص الصحفيّة والدور الرئيسي للعنوان أو (المانشيت) فيها، ممّا يجعلنا نسند للعنوان دور العنصر المرسوم سيميولوجيّا في النصّ، بل ربّما كان أشدّ العناصر رسما، وليس معنى هذا أن جميع التحليلات النصيّة لا بدّ أن تشمل العنوان، بل على العكس من ذلك فإنّ اختيار العنصر الموجّه للدلالة يمثّل تحدّيا واضحا للمحلّل واختبارا لمدى إصابته، ويصبح الشروع في تحليل العنوان أساسيّا عند ما يتعلّق الأمر باعتباره عنصرا بنيويّا يقوم بوظيفة جماليّة محدّدة مع النصّ أو في مواجهته أحيانا، وذلك مثل الإشارة إلى شخصيّة أو شخصيّات محوريّة
__________
(1) الزركشي، البرهان، 1/ 272.
(2) براون ويول، ص 60.(1/411)
كما نرى مثلا في (دون كيشوت) أو إلى مكان يشمل مساحة هامّة محورية في فضاء النصّ مثل (زقاق المدقّ). أو إلى أحداث تمثّل مؤشّرا يحدّد الطابع الفكري أو الإيديولوجي للنصّ مثل (الحرب والسلام)، أو (موسم الهجرة إلى الشمال). كما يمكن أن يقوم العنوان بدور الرمز الاستعاري المكثّف لدلالات النص، مثل: (شجر الليل) أو (المعبد الغريق)، أو يشير إلى أساطير موظفة في النصّ مثل (عوليس) أو (رحلة السندباد) (1).
فالكرماني وكذلك (براون ويول) قد ربطوا العنوان بمقصد الخطاب وغرضه، أما الزركشي فقد ربطه بالسياق الثقافي (تقليد معلوم) كما يربطه (براون ويول) بالقارئ ودوره في تعضيد فكرته عن موضوع النص، ويربطه صلاح فضل بموضوع الخطاب وبنائه وكذلك بالمتلقّي، ولا يمنع من الجمع بين هذه الآراء جميعا مانع أبدا، فالعنوان جزء من موضوع السورة، بل هو جزء مكثّف منه، و (البقرة) تصلح أن تكون رمزا مكثّفا محوريّا لصنيع بني إسرائيل وموقفهم من الرسالة الجديدة، وهو موضوع رئيس كما رأينا في فقرة موضوع الخطاب، واختيار هذا العنوان فيه تنبيه للقارئ إلى هذا المحور الرئيس من موضوعات السورة، كما أنّ فيه تعضيدا لمقصد الخطاب، وهو لفت أنظار المؤمنين في زمن النص وفي كلّ آن إلى أن طبائع أولئك اليهود غير قابلة للتبدّل لا قديما (في زمن قصّة البقرة) ولا في عهد سيدنا محمد (زمن نزول النص) ولا في أيّ زمن من الأزمان. وبذا يجتمع في العنوان مفاتيح عناصر الموقف الكلامي جميعا، المخاطب سبحانه (الذي جعل العنوان توقيفا منه سبحانه)، والمخاطب أو المتلقّي، والمقصد، والموضوع أو الرسالة.
3 - النصّ والمتلقّي الأوّل:
إنّ بحثنا لن يتّجه بحال من الأحوال إلى المخاطب عزّ وجل، ولكنّ بعض الباحثين اجتهد أن يعتبر المخاطب في مثل هذا الدرس من دروس تحليل الخطاب هو
__________
(1) صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النصّ، ص 303.(1/412)
الرسول محمّد صلّى الله عليه وسلّم فرأى د. محمد مفتاح مثلا أنّ الرسول الكريم قد عرفت سيرته جملة وتفصيلا، وأنّه كان يخاطب الناس بلسان عربيّ مبين، وأنّ سنن العرب في كلامها جزء من تشكيلة الثقافة التي يتّكئ عليها محلّل النصّ القرآني، وأنّ الرسول مبلّغ لمشيئة الله، ولذلك فهو يخاطبهم بوسائل الخطاب المتاحة جميعا، وأنّه مؤهّل لتبليغ رسالة ربّه على الوجه الذي أراده سبحانه، فهو المخاطب أمام الناس في هذه الرسالة = (1).
ولن تكون هذه وجهتنا، بل سنتحدّث عن النبيّ باعتباره المتلقّي الأوّل للنصّ، وباعتباره مبلّغا للرسالة كما وصفه الله عزّ وجل، والنبي الكريم كان جزءا من الواقع والمجتمع الذي تنزّل فيه النصّ، لم يكن معزولا أبدا، ولكنّه جزء مميّز من هذا الواقع، وتذكر كتب السيرة تفرّده وبعده عن اللهو حتّى قبل البعثة، وأخلاقه التي عرف بها بين العرب كالصادق والأمين = إنّك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر = (2). إنّ هذه القولة التي ساقتها خديجة رضي الله عنها وهي تهدّئ من روعه بعد عمليّة الاتّصال الأولى مع الوحي تشير إلى جملة من مناشط الحياة التي كان يمارسها رسول الله، وهي تدلّ على انخراطه في مجتمعه مع الناس الذين عاشوا وإيّاه في واقعهم اليومي كلّه وهذا مسوّغ إضافي لدرس هذا النصّ ضمن منهج اللّسان الاجتماعي، وقد عاب القرآن على كفّار قريش طلبهم أن يكون النبيّ المرسل ملكا، وعاب عليهم انتقادهم للنبيّ أنّه يمشي في الأسواق، ويمارس جميع مناشط الإنسان العادي من أكل وشرب ونوم وو ذلك لتكون الرسالة رسالة الحياة والواقع.
وفي سورة البقرة جرى الخطاب مرسلا أحيانا من غير نسبة إلى مخاطب مثل {= ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ =}. ولكنه جاء في أحيان أخرى ليتحدّث عن النبيّ
__________
(1) محمّد مفتاح، دنيامة النصّ، ص 193.
(2) تهذيب سيرة ابن هشام، ص 12.(1/413)
باعتباره مخاطبا ومخاطبا في آن مثل: {= وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ =} (1). ومن مثل الآية (91) وفيها قوله تعالى: {= وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ =} فمن الطبيعي أنّ من قال هنا هو الرسول الكريم باعتباره المبلّغ عن ربّه، وكذلك الآية (94) {= قُلْ إِنْ كََانَتْ لَكُمُ الدََّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللََّهِ خََالِصَةً مِنْ دُونِ النََّاسِ =}
وكذلك الآية (97) {= قُلْ مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ =} وفي الآية 111 {= قُلْ هََاتُوا بُرْهََانَكُمْ =}
وفي الآية (120) توجيه مباشر بالخطاب إلى بني إسرائيل = سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بيّنة = وفي مجموعة من الآيات يسرد الخطاب توجّه الناس لرسولها بالأسئلة {= يَسْئَلُونَكَ مََا ذََا يُنْفِقُونَ =}. (2) {= يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرََامِ =} (3) ويلاحظ أنّ الرسول في هذه الآيات كان (مخاطبا مخاطبا) ممّا يجعل البحث عن الرسول باعتباره مخاطبا في هذه المواضع أمرا مشروعا.
ولكنّ آيات كثيرة أخرى جاءت لتتحدّث عن رسول الله باعتباره مخاطبا، شرحت موقفه وظروفه وتعامله مع الحوادث والوقائع، صوّرت حركته الدائبة، ولهفته، وانفعاله، وإخباته. ومن أمثلة ذلك: آيات تحويل القبلة التي تأتي ضمن سياق الجزء الثاني من سورة البقرة، والذي يتضمّن التركيز على إعداد الجماعة المسلمة لحمل الأمانة الكبرى ويتعلّق موضوع الآيات بقضيّة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بعد ستّة عشر شهرا من الهجرة، وقد كان توجّه المسلمين إلى بيت المقدس وهو قبلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى سببا وذريعة اتخذها اليهود للاستكبار عن الدخول في الإسلام، كما أطلقوا حول هذه المسألة الشائعات في أنّ دينهم هو الدين الحقّ وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم الله عليه وسلم يقلّب وجهه في السماء متّهجا إلى ربّه دون أن ينطق لسانه
__________
(1) سورة البقرة، الآية (25).
(2) سورة البقرة، الآية (214).
(3) سورة البقرة، الآية (216).(1/414)
بشيء تأدّبا مع الله وانتظارا لتوجيهه بما يرضاه (1). فنزلت الآيات الكريمة لتستجيب لما يعتمل في صدر الرسول {= قَدْ نَرى ََ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمََاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضََاهََا =} (2).
وحين سمع المسلمون بتحويل القبلة إلى البيت الحرام، وكان بعضهم في منتصف صلاة حوّلوا وجوههم شطره، وأكملوا الصلاة تجاه القبلة الجديدة، عندئذ انطلقت أبواق يهود، وقد عزّ عليهم أن يتحوّل محمّد صلّى الله عليه وسلّم والجماعة المسلمة عن قبلتهم وأن يفقدوا حجّتهم التي يركنون إليها في تعاظمهم، وفي تشكيك المسلمين في قيمة دينهم، وقالوا للمسلمين إذا كان التوجّه إلى بيت المقدس باطلا فقد ضاعت صلاتكم هذه الفترة، وإن كانت حقا فالتوجّه إلى المسجد الحرام باطل، وعلى أيّة حال فإن هذا التغيير للأوامر لا يصدر من الله وهو دليل على أنّ محمّدا لا يتلو الوحي عن الله. هذا عن المقام الذي أحاط بآيات تحويل القبلة، فماذا عن النصّ؟
إنّنا سنضع هذا الجزء من النصّ ضمن إطاره الأوسع فهو جزء من سورة البقرة، وقد أحطنا بسياقها العام، ثمّ إنّ سورة البقرة جزء من القرآن الكريم الذي هو النصّ الواحد الذي تتعالق كلّ أجزائه بروابط متينة، وهذا يعيدنا للّساني الذي قال: إنّ التحليل الدلالي الدقيق لجملة من كتاب يقتضيك قراءة الكتاب كلّه من الغلاف إلى الغلاف = (3). وفي ضوء هذين الإطارين نقترب أكثر من السياق اللّغوي للآيات المعنيّة (145142) ونجد أنّها بدأت بالسين الدالّة على الاستقبال = سيقول = وأطلقت على جماعات المشكّكين اسم (السفهاء)، ومن السياق القرآني ومن سياق الأحداث في المدينة يتّضح أن المقصود بالسفهاء هم اليهود، فهم الذين أثاروا الضجّة حول تحويل القبلة، وكلمة السفهاء وإن تعلّقت باليهود مباشرة بواسطة ال (العهديّة) ولكنّها تحمل بعدا تأويليّا مفتوحا بوساطة شبة الجملة = من الناس =. فمن التبعيضيّة يمكن أن يكون السفه حالة متكرّرة
__________
(1) انظر أسباب النزول للواحدي، ص (2423).
(2) سورة البقرة، الآية (143).
(3) إمبرتو إيكو، القارئ في الحكاية، ص 13.(1/415)
وليس واقعة محدّدة، وهذا هو النصّ في محوريه: الآني والتعاقبي، وهذا ما ينطبق على آليات النصّ في الحديث عن الواقعة المحدّدة، ثمّ الانتقال بها إلى الآفاق الرحيبة من التعبير عن كل حالة مشابهة. ثمّ ينتقل النصّ إلى طرح مقولة أولئك اليهود على شكل استفهام كبير = ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها = وهي المسجد الأقصى، ويلاحظ أنّ صيغة الخطاب جاءت مليئة بالضمائر: التعبير عن المسلمين بضمير الغائب استبعادا وكرها، وإسناد القبلة للمسلمين = قبلتهم = رغبة في استمرار توجّههم لبيت المقدس، ويبدو في صيغة الآية كلّها عمليّة التشكيك وتغيّر المواقف بين (عن) و (كانوا) و (عليها) كنوع من التأثير النفسي على المسلمين. ثمّ يبدأ النصّ في علاج آثار هذا التساؤل والردّ عليه بتلقين الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما يواجههم به = قل: {لِلََّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ =} (1).
إنّ النصّ يتوقّع اتهاماتهم، ولذلك جاء الأمر ب (قل)، ثمّ المقول جملة اسميّة فيها تقديم وتأخير سببه الدلالة المركزية في العبارة وهي أنّ الجهات والأماكن لا فضل لها في ذاتها، إنّما يفضّلها ويخصّصها اختيار اله وتوجيهه ولذلك قدّم لفظ الجلالة مسبوقا باللام التي تدلّ على التملك والاختصاص (لله)، والله الذي بيده الجهات هو الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فإذا اختار لعباده وجهة، واختار لهم قبلة فهي إذن المختارة، وعن طريقها يسيرون إلى صراط مستقيم. أمّا علاقة الآية بما بعدها فإنّ الآيات الآتية تتحدّث عن حقيقة الأمّة الكبيرة في هذا الكون، وعن وظيفتها الضخمة في هذه الأرض، وعن مكانها العظيم ودورها الأساسي في حياة الناس ممّا يقتضي أن تكون لها قبلتها الخاصّة وشخصيّتها الخاصّة (2). {= وَكَذََلِكَ جَعَلْنََاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدََاءَ عَلَى}
__________
(1) سورة البقرة، الآية (142).
(2) سيّد قطب، في ظلال القرآن، ص 36.(1/416)
{النََّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً =} (1). وتشتمل الآية (143) على الحديث عن الغاية والهدف من حادثة تحويل القبلة {= وَمََا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهََا إِلََّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى ََ عَقِبَيْهِ، وَإِنْ كََانَتْ =}. وذلك أنّ الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبّست به في نفوس العرب فكرة أخرى غير فكرة العقيدة، وشابت عقيدة جدّهم إبراهيم شوائب من الشرك، ومن عصيّه الجنس إذ كان البيت يعتبر في ذلك الحين بيت العرب المقدّس، والله يريده أن يكون بيت الله المقدّس ولذلك فقد صرف المسلمون عنه فترة، ووجّههم إلى بيت المقدس ليخلص مشاعرهم من ذلك التلبّس القديم، ثمّ ليختبر طاعتهم وتسليمهم للرسول صلّى الله عليه وسلم = وإن كانت لكبيرة إلّا على الذين هدى الله = وبعد ذلك يبدأ النصّ بالحديث عن المتلقّي الأوّل = قد نرى تقلّب وجهك = ويصوّر مطلع الآية حال النبي صلّى الله عليه وسلّم (قد نرى)، ثمّ التعبير عن وضع رسول الله بالمصدر (تقلّب) يشي برغبته القويّة في أن يوجّهه ربّه إلى قبلة غير القبلة التي كان عليها. إنّ النصّ يتفاعل مع انفعالات النبيّ ولقد أجابه ربّه إلى ما يرضيه، والتعبير عن هذه الاستجابة يشي بتلك الصلة الرحيمة الحانية الودود = فلنولينّك قبلة ترضاها =.
والفاء بما تحمله من تتابع وتعاقب ثمّ قوله = فولّ وجهك = أيضا، مع أنّ فترة التقلّب كانت تبدو عصيبة صعبة، بدلالة التعبير عن رؤية الله لها بالمضارع وليس (قد رأينا).
وإشارة إلى دور رسول الله بالبلاغ وإيصال الخطاب يأتي ذكره أوّلا = فولّ وجهك = ثمّ = وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره = وهذا جزء من الخطاب يظهر على وجه التفصيل علاقة النصّ بالمخاطب الأوّل فهو يرصد حركته، ويوجّه انفعاله ورغبته، ويستجيب له. وبعد ذلك يوجه الله الخطاب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد هذا البيان بشأن أهل الكتاب {= الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلََا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ =} (2). ورسول الله ما
__________
(1) سورة البقرة، الآية 143.
(2) سورة البقرة، الآية (147).(1/417)
امترى يوما ولا شك، ولكنّ توجيه الخطاب هكذا إلى شخصه يحمل إيحاء قويّا إلى من وراءه من المسلمين، سواء منهم من كان في ذلك الحين يتأثّر بأباطيل اليهود وأحابيلهم، ومن يأتي بعدهم ممّن تؤثّر فيهم أباطيل اليهود وغير اليهود في أمر دينهم، وبعد ذلك يأتي الخطاب عامّا = ولكلّ وجهة هو مولّيها فاستبقوا الخيرات = ثمّ يعود فيؤكّد الأمر بالاتجاه إلى القبلة الجديدة المختارة مع تنويع التعقيب، {= وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ =} (1). وقد بدأت الآية بخطاب مباشر إلى النبيّ وانتهت بخطاب شامل (تعملون) وجاء التحذير الخفيّ في الخطاب = وما الله بغافل عمّا تعملون = ليدلّ على أنّه كانت هناك حالة واقعة وراءه في قلوب بعض المسلمين، تقتضي هذا التحذير الشديد، ثمّ توكيد للمرة الثالثة بمناسبة غرض آخر جديد هو إبطال حجّة أهل الكتاب، وحجّة غيرهم ممّن كانوا يرون المسلمين يتوجّهون إلى قبلة اليهود فيميلون إلى الاقتناع بما يذيعه اليهود =. ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره = فلماذا جاء الأمر للرسول أوّلا ثمّ إلى المسلمين، ولماذا تكرار الأمر بشأن القبلة؟ إنّ في تكرار الأمر بشأن القبلة الجديدة معنى جديدا في كلّ مرّة في المرّة الأولى كان الأمر بالتوجّه إلى المسجد الحرام استجابة لرغبة الرسول بعد تقلّب وجهه في السماء وضراعته الصامتة إلى ربّه. وفي الثانية كان لإثبات أنه الحقّ من ربّه يوافق الرغبة والضراعة. وفي الثالثة كانت لقطع حجّة الناس والتهوين من شأن من لا يقف عند الحق والحجّة فالتكرار هنا مرتبط بمقصد الخطاب وهدفه، ولكنّنا نلمح أيضا وراء هذا التكرار أنّه كانت هناك حالة واقعة في الصفّ الإسلامي تستدعي هذا التكرار، وهذا التوكيد، وهذا البيان وهذا التعليل ممّا يشي بضخامة الحملة التي كان يشنّها اليهود وأثرها في بعض القلوب والنفوس،، هذا الأثر الذي كان يعالجه القرآن الكريم = ثمّ تبقى النصوص بعد ذلك على مدى الزمان تعالج مثل هذه الحالة في شتّى صورها = (2).
__________
(1) سورة البقرة، الآية (149).
(2) سيد قطب، في ظلال القرآن، 1/ 37.(1/418)
أمّا لماذا جاء الأمر للرسول أوّلا ثمّ إلى المسلمين فقد أشرنا إلى دور الرسول في البلاغ والبيان، فتخصيصه بالخطاب هو تخصيص له بالرسالة ثمّ إنّه عليه السلام كان بحاجة إلى لفتة خاصّة، وذلك لما اعتراه من قلق وحيرة نتيجة للتشويش والتحريض، فجاءت هذه اللفتة الحانية الرحيمة لتحقّق له الرضى والسكينة، ومن جانب آخر فإنّ الرسول الكريم هو قائد الجماعة المسلمة ففعله وعمله ورضاه واستقراره هو مصدر اقتداء للبقية من المؤمنين ولذا فقد جاءت الضمائر وطريقة الخطاب تترجم هذه الرعاية وهذا المنهج في التربية. ثمّ يتوجه الله إليه بخطاب خاصّ آخر {= وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ بِكُلِّ آيَةٍ مََا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ =} فالنبيّ يريد لهم الهداية، وهو يحاول معهم مرّه بعد أخرى، ولعلّ إصراره على هداهم وتنكّبهم في كلّ مرّة كان يزيد في أرقه وضيقه، فيأتي الخطاب بجواب قاطع بأسلوب الشرط فمهما أتيت من آية مقنعة فسيكون الجواب = ما تبعوا قبلتك = ومع أنّ القبلة ليست لمحمّد وحده فقد نسبها الخطاب إليه، والمقصود منهجك الذي تدعو إليه والذي ترمز إليه هذه القبلة. وفي مقابل إصرارهم على الغيّ يأتي موقف النبيّ وإصراره = وما أنت بتابع قبلتهم = ولاحظ وجود أداة العطف (الواو) مع أنّ النفي يلازم الجملتين وذلك لوجود التغاير بين معنى الجملتين فالجمل لا تحتاج إلى أداة رابطة إذا كان بعضها بيانا لبعض، ونحتاج الأداة إذا حدث تغاير في اتجاه الدلالة، فالفرق بين موقفه وموقفهم قد عبّر عنه النص بضمير المخاطب (قبلتك) وضمير الغائب (قبلتهم) فهما اتّجاهان مختلفان، ثمّ لاحظ الباء المزيدة = بتابع = التي إذا اقترنت بالنفي زادت المعنى قوّة والموقف صلابة، أي ليس من شأنك أن تتّبع قبلتهم أصلا، ثمّ استخدام الجملة الاسميّة المنفيّة هنا أبلغ في بيان الشأن الثابت الدائم للرسول صلى الله عليه وسلم تجاه هذا الأمر، وفيه إيحاء قويّ للجماعة المسلمة من ورائه بأن لا تختار غير ما اختار لها ربّها، وما كان النبيّ وقد علم الحق أن يتّبع أهواءهم. {= وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظََّالِمِينَ =}.(1/419)
ونفاجئ بهذا الخطاب الصارم إلى نبيّه الذي حثّه منذ لحظة ذلك الحديث الودود، = إنّ الأمر هنا يتعلّق بالاستقامة على هدى الله، ويتعلّق بقاعدة التميّز والتجرّد إلّا من طاعة الله ونهجه، ومن ثمّ يجيء الخطاب بهذا الحزم والجزم، وبهذه المواجهة والتحذير = (1).
{= إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظََّالِمِينَ =} فالآية تحدّد المواقف إزاء المنهج ولذا تكرّر أسلوب الشرط مرّة بعد أخرى {= وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ =} {= وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ =}. ولأنّ موقف الرسول مركزيّ ومحوريّ وغاية في الأهميّة، فإنّ جواب الشرط جاء في هذه الآية مركّبا وليس بسيطا كما في آية موقف أهل الكتاب التي جاءت بسيطة = ما تبعوا قبلتك = فهي جملة خبرية بسيطة مسبوقة بنفي. أما هنا {= إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظََّالِمِينَ =} فهي خطاب فرديّ مباشر (أنت). وهو أشدّ تأثيرا في الدلالة على التبعة والمسئوليّة، ثمّ إنّه جاء جملة خبرية إنكارية (تشتمل على أكثر من مؤكّد)، و (إذا) الظرفيّة ارتبطت بفعل الشرط وهي أبلغ في التعبير عن ترتّب جواب الشرط على فعله، وتوحي صيغة الجمع (لمن الظالمين) على الرغم من ابتداء العبارة بخطاب فردي بتحوّل هذا القائد العظيم من موقع التفرّد والتميّز والقيادة إلى أن يكون مجرد واحد من أولئك الذين اختاروا ألّا يتبعوا القبلة المنهج فيما لو اتبع أهواءهم لا قدر الله.
وفي مجموعة الآيات التي تبدأ بقوله = ويسألونك = وهي كثيرة في هذه السورة تطالعنا مواقف شتّى يسأل فيها المسلمون نبيّهم عن شئون مختلفة تصادفهم في حياتهم الجديدة، ليسلكوا إزاءها ما يتطلّبه منهج الإسلام المتفرّد فسألوا عن ظواهر الكون (الأهلّة)، وعن الإنفاق {= مََا ذََا يُنْفِقُونَ =} ومن أيّ نوع من مالهم ينفقون؟ وأيّ قدر وأيّ نسبة؟، وعن القتال في الشهر الحرام، وعن الخمر والمحيض، وهي أسئلة ذات دلالات شتّى، فهي دليل على تفتّح وحيويّة ونموّ في الحياة وعلاقاتها وبروز أوضاع جديدة في المجتمع الذي بدأ يأخذ شخصيّته الخاصّة، كما أنّها تعكس علاقتهم بنبيّهم، ورغبتهم
__________
(1) في ظلال القرآن، 1/ 38.(1/420)
واستعدادهم للتلقّي والتغيير. وسنقف مع سؤالهم عن الخمر وقفة متأنّية {= يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنََافِعُ لِلنََّاسِ وَإِثْمُهُمََا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمََا =} (1).
إنّ هذه الآية جاءت لتبيّن للمسلمين حكم الخمر والقمار، وكلتاهما لذّة من اللذائذ التي كان العرب غارقين فيها، وكانت تستغرق مشاعرهم وأوقاتهم، وإلى ذلك الوقت الذي نزلت فيه هذه الآية لم يكن قد نزل تحريم الخمر والميسر، ولكنّ نصّا في القرآن كله لم يرد بحلّهما، إنّما كان الله يأخذ بيد هذه الجماعة الناشئة خطوة خطوة في الطريق الذي أراده لها، ويهيّئها للدور الذي قدرّه لها والذي لا يتلاءم معه ذلك الضياع في الخمر والميسر. وهذا النصّ الذي بين أيدينا كان أوّل خطوة من خطوات التحريم، ويظهر هذا النصّ خصيصة من خصائص النص القرآني في معالجة الواقع فحين يتعلق التوجيه القرآني بقاعدة من قواعد التصوّر الإيماني والعقيدة فإنّه يقضي فيها قضاء حاسما منذ اللحظة الأولى، وإذا تعلّق الأمر أو النهي بعادة أو تقليد أو بوضع اجتماعي معقّد فإنّه يرفق ويتدرّج، ويهيّئ الظروف الواقعيّة التي تيسّر التنفيذ والطاعة، وقد كان الخمر والميسر أمر عادة وإلف، فبدأ بتحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي بأنّ الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، وفي هذا إيحاء بأنّ تركهما أولى، ولاحظ سياق الآية {= يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ =} فسؤالهم عن الحكم قد يعني استعدادهم للقبول بأيّ حكم يأتي، ومع ذلك، فإنّ علم الله بأحوالهم واستحكام هاتين العادتين فيهم جعل التحريم الصريح يتأخّر وجاء الجواب (قل)، ومضمون هذا القول = فيهما إثم كبير ومنافع = وهو جواب فيه تقديم وتأخير ليسلّط الضوء على موضع السؤال من جهة (الخمر والميسر)، وليعلّق السائل بموطن الإثم الكبير في هذه الحالة، وليضع نوعا من النفور بينهم
__________
(1) سورة البقرة، الآية (219).(1/421)
وبينه، حيث إنّ الخمر والميسر هما مناط هذا الإثم، وجاء الإثم موصوفا بوصف تضخيمي (إثم كبير)، وجاءت المنافع منكّرة، وجاءت كلمة الإثم الدالّة على المفرد لتوحي بجنس الإثم كلّه، بينما جاءت منافع بصيغة الجمع ليدلّ على أنّها مهما كثرت فهي معدودة أمّا الإثم فهو توالدي، كلّ إثم يفضي إلى آثام عديدة غير متناهية، ثمّ جاء الإثم سابقا للمنفعة لتعليق الذهن بالإثم وليس بالنفع فالإثم هو القاعدة، والمنفعة هي الجزء العارض اليسير فالإثم أكبر من النفع، وقد يكون ربط هذه الآية بالآيات الأخرى التي نزلت في الموضوع نفسه مفيدا في تبيّن استراتيجيّات النصّ في معالجة الواقع ففي الخطوة الأولى تحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي في سورة البقرة، ثمّ جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَقْرَبُوا الصَّلََاةَ وَأَنْتُمْ سُكََارى ََ حَتََّى تَعْلَمُوا مََا تَقُولُونَ =} (1).
وفي هذا تضييق لفرص مزاولة عادة الشرب، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلّق بمواعيد التعاطي لتقارب أوقات الصلاة، وبذا تفتر حدّة العادة، وبعد ذلك جاء النهي الحازم الأخير: {= إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصََابُ وَالْأَزْلََامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطََانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ =} (2). وهذه الآية في سورة البقرة وإن بدأت بخطاب مع المتلقّي الأوّل (قل) إلّا أنّه تحوّل بعد ذلك إلى خطاب للجماعة كلّها وتربية شاملة لها.
ومن الأمثلة كذلك على خطاب المتلقّي الأول في سورة البقرة الآية (252) {= تِلْكَ آيََاتُ اللََّهِ نَتْلُوهََا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ =}، وقد جاءت هذه الآية بعد سياق طويل يذكر بني إسرائيل يبدأ من الآية (243) {= أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيََارِهِمْ =}
وفيه بعض قصصهم مع أنبيائهم، وقصّة طالوت وجالوت، ثمّ دعاء الفئة المؤمنة بالصبر والثبات، ثمّ انتصارهم، ثمّ أتت هذه الآية كالتعقيب النهائي على القصّة،
__________
(1) سورة النساء، الآية (43).
(2) سورة المائدة، الآية (90).(1/422)
لتقول: نحن نتلو عليك هذه الآيات، ونزوّدك بهذه التجارب البشريّة، وتجارب الموكب الإيماني كلّه في جميع مراحله، ونورثك ميراث المرسلين أجمعين. أمّا اتصالها بما قبلها فهو قوله عزّ وجل {= وَلََكِنَّ اللََّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعََالَمِينَ =} ومن فضله أن زوّدك بكلّ هذه التجارب، ومن فضله أنّك مرسل جديد إلى هذه البشريّة، وهي أيضا تذكير للمتلقّي الأوّل بدوره في تبليغ الرسالة، ولذلك خصّ فيها بالخطاب (عليك، وإنّك) وتترابط هذه الآية بما سبق من الآيات عن طريق الإحالة الإشارية (تلك) وهي اسم إشارة للبعيد، مع أنّ الخطاب يبدو الآن مباشرا حاضرا (عليك وإنك) وكأنّ الخطاب كان أصلا مع المخاطب الأول، وجاء القصّ في ثنايا الحديث ليثبّته ويقوّي عزائمه، وييئسه من إيمانهم ثم عاد إليه مرة أخرى ليقول له: {= إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ =}.
هذه أمثلة حسب عن تعامل النصّ مع المتلقّي الأول، ونخلص منه إلى أن النصّ قد خاطبه بأكثر من طريقة أولها باعتباره مخاطبا ومخاطبا معا، وذلك في الآيات التي فيها (قل) وأحيانا باعتباره مخاطبا فقط كما في آيات تحويل القبلة، وحين يخاطب كذلك فهو جزء من المخاطبين، والرسالة الموجّهة إليه تكون موجّهة للجميع، ولكنّه يخصّص باعتبار مكانته في رأس الجماعة المسلمة، وتوجيه للمسلمين بالاقتداء والاتباع، وقد رأينا أن للنصّ آليات عديدة في إيضاح موقف المخاطب الأول ومراعاة مكانته، وتبدّى ذلك من خلال روابط النصّ (الضمائر) وتنويعها على سبيل الالتفات، ثم في أسماء الإشارة، وتركيب الخطاب وأساليبه وصيغته من حيث نوع الجملة وترتيب عناصرها وأسلوبها.
4 - النصّ والمخاطبون:
إنّ الرسالة تتقولب بحسب المخاطب، أي تتشكّل لإيصال الرسالة له، أو لتصفه حسب أحواله، أو تقرأ مواصفات هذا المخاطب وغرضه وتفكيره وسلوكه، أو نتوقّعها من خلال ما تشي به بنية النص وروابطه وصيغه، ولصعوبة استحضار جميع
الشواهد في هذه السورة الكريمة فإنّنا سنتخّير بضعة أمثلة لكل جماعة من المخاطبين، فبعد الحروف المقطّعة التي تفتتح بها السورة، نجد سمات الأمّة الجديدة التي كتب الله لها أن تكون خير أمة أخرجت للناس، و (ذلك) كما قال المفسّرون إشارة لما في سورة الفاتحة حين سألوا الله الهدى {= اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ =} جاء الجواب أنّ الهدى للصراط المستقيم هو في ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه، وقد قرّر السياق هذه الحقيقة في كلمات قلائل، لأنّه لم يعد يردّ على المكذّبين والمجادلين الذي يجادلون في صدق الوحي والرسالة، وفي أنّ الكتاب منزّل من عند الله، إنّه يخاطب المؤمنين اليوم مباشرة بعد أن تميّزوا عن الكفّار في مجتمعهم الجديد القائم بذاته، وصار الكلام والتوجيه لهم خاصّة، وإن كان يحدّثهم في السورة عن المشركين والمنافقين واليهود والنصارى ولكنّه يحدّثهم ليعلّمهم ويعرّفهم بأحوال هذه الفئات ومواقفها، لا ليجادلها جدلا مفصّلا في صحة الوحي والكتاب ويعد هذه الحقيقة الموجزة يمضي السياق إلى تقرير سمات المتّقين، وهو تقرير وتوجيه في الوقت ذاته، ولننظر كيف وصف النصّ الجماعات المختلفة بحسب موقفها من ذلك الكتاب.(1/423)
إنّ الرسالة تتقولب بحسب المخاطب، أي تتشكّل لإيصال الرسالة له، أو لتصفه حسب أحواله، أو تقرأ مواصفات هذا المخاطب وغرضه وتفكيره وسلوكه، أو نتوقّعها من خلال ما تشي به بنية النص وروابطه وصيغه، ولصعوبة استحضار جميع
الشواهد في هذه السورة الكريمة فإنّنا سنتخّير بضعة أمثلة لكل جماعة من المخاطبين، فبعد الحروف المقطّعة التي تفتتح بها السورة، نجد سمات الأمّة الجديدة التي كتب الله لها أن تكون خير أمة أخرجت للناس، و (ذلك) كما قال المفسّرون إشارة لما في سورة الفاتحة حين سألوا الله الهدى {= اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ =} جاء الجواب أنّ الهدى للصراط المستقيم هو في ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه، وقد قرّر السياق هذه الحقيقة في كلمات قلائل، لأنّه لم يعد يردّ على المكذّبين والمجادلين الذي يجادلون في صدق الوحي والرسالة، وفي أنّ الكتاب منزّل من عند الله، إنّه يخاطب المؤمنين اليوم مباشرة بعد أن تميّزوا عن الكفّار في مجتمعهم الجديد القائم بذاته، وصار الكلام والتوجيه لهم خاصّة، وإن كان يحدّثهم في السورة عن المشركين والمنافقين واليهود والنصارى ولكنّه يحدّثهم ليعلّمهم ويعرّفهم بأحوال هذه الفئات ومواقفها، لا ليجادلها جدلا مفصّلا في صحة الوحي والكتاب ويعد هذه الحقيقة الموجزة يمضي السياق إلى تقرير سمات المتّقين، وهو تقرير وتوجيه في الوقت ذاته، ولننظر كيف وصف النصّ الجماعات المختلفة بحسب موقفها من ذلك الكتاب.
أمّا المتّقون فقد جاءت الآيات (52) لوصفهم أي أربع آيات فقط لوصف المؤمنين أمّا سماتهم التي ذكرها فهي:
{= الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ = (1)، = وَيُقِيمُونَ الصَّلََاةَ = (2)، = وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ = (3)، = وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ = (4)، = وَمََا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ = (5)، = وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ = (6)، = أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ = (7)، = وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ = (8)}.
ثماني جمل متتابعة في آيات أربع لتصف المؤمنين، والجملة الأولى ارتبطت مع الآية الأولى في السورة عن طريق الاسم الموصول (الذين) فكأنما التقوى كلّها ممثّلة فيهم (المتقين الذين) فالوصف بالوصل يحمل معنى التمثّل الكامل، والإيمان بالغيب هو الصفة الأولى للمؤمنين، وهي الصفة الكبرى كذلك وهي مصدر الصفات الأخرى جميعا فوضعها في مقدّمة صفات المتّقين لا تجيء اعتباطا فكيف يتّقون إن لم يؤمنوا بالله وهو غيب، وبالوحي وهو غيب، وباليوم الآخر وهو غيب، وبال إنّ قاعدة حياة المؤمن
الرئيسة هي إيمانه بالغيب الذي يتمّ عن طريقه إيمانه بالله واليوم الآخر والملائكة، ويتقرّر عن طريقه خط سلوكه كلّه في الحياة. وفي الجملة الثانية {= وَيُقِيمُونَ الصَّلََاةَ =} وهي أوّل صورة عملية محسوسة ينعكس من خلالها ذلك الإيمان، إقامة الصلاة ثمّ الإنفاق من رزق الله، واستخدم النصّ الفعل المضارع الدال على الاستمرارية والديمومة: يؤمنون يقيمون ينفقون. ثم استخدام لفظة الإقامة للصلاة بما فيها من استقامة ودقّة ومحافظة، ولاحظ الحذف في الجملتين (2) و (3) فأصلها = والذين يقيمون الصلاة = = الذين ينفقون ممّا رزقناهم = ثمّ التقديم والتأخير في الجملة (3)، وذلك لأنّ السياق سياق حديث عن الإنفاق، والمال مال الله فهما صفتان لا صفة واحدة الأولى استشعار بأن الله هو الرزاق وهذا يدخل في نطاق الإيمان، والثانية هي صفة الإنفاق، واستشعار الأولى يأتي قبل الثانية، ولا يتصدّق المرء إلّا إذا استيقن تماما بأنّ الرزق من الخالق عزّ وجل، وفي هذا يتوافق السياق النصي مع السياق الواقعي أمّا الحذف فهو لتقوية حقيقة صدور هذا الخير كلّه عن الإيمان بالغيب {= الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمََا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ =}. وفي الجملة (6) نجد {= وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ =} مع أنّ الإيمان بالآخرة داخل ضمن الإيمان بالغيب، ولكنّ السياق يبرزه ليعطيه أهميّة خاصّة فالإيمان بالآخرة هو الطريق الذي يعين الإنسان على الاستقامة في الدنيا والالتزام بحدود الله. وفي الجملة تقديم وتأخير وأصلها = وهم يوقنون بالآخرة = وكأنّ موضع اليقين هو الذي يسلّط عليه الضوء هنا باعتبار أن اليقين حاصل بشكل عام بكلّ ما يتّصل بالغيب، ولكنّ الآخرة تأخذ مكانا خاصّا في هذا الغيب، ثمّ تأتي الجملة (7) {= أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ =} وترتبط بما قبلها باسم الإشارة، ثمّ الاستعلاء المجازي {= عَلى ََ هُدىً =} والتعبير بالمصدر أيضا له دلالته من الثبوت واستحكام اليقين فإذا كان الكتاب فيه هدى فإنّ أولئك {(عَلى ََ هُدىً)} فحين قبسوا الهدى من الكتاب أصبحوا يمتلكون الهدى الآتي من ربّهم مباشرة، وكأنّ ضربين من الهدى هنا:(1/424)
ثماني جمل متتابعة في آيات أربع لتصف المؤمنين، والجملة الأولى ارتبطت مع الآية الأولى في السورة عن طريق الاسم الموصول (الذين) فكأنما التقوى كلّها ممثّلة فيهم (المتقين الذين) فالوصف بالوصل يحمل معنى التمثّل الكامل، والإيمان بالغيب هو الصفة الأولى للمؤمنين، وهي الصفة الكبرى كذلك وهي مصدر الصفات الأخرى جميعا فوضعها في مقدّمة صفات المتّقين لا تجيء اعتباطا فكيف يتّقون إن لم يؤمنوا بالله وهو غيب، وبالوحي وهو غيب، وباليوم الآخر وهو غيب، وبال إنّ قاعدة حياة المؤمن
الرئيسة هي إيمانه بالغيب الذي يتمّ عن طريقه إيمانه بالله واليوم الآخر والملائكة، ويتقرّر عن طريقه خط سلوكه كلّه في الحياة. وفي الجملة الثانية {= وَيُقِيمُونَ الصَّلََاةَ =} وهي أوّل صورة عملية محسوسة ينعكس من خلالها ذلك الإيمان، إقامة الصلاة ثمّ الإنفاق من رزق الله، واستخدم النصّ الفعل المضارع الدال على الاستمرارية والديمومة: يؤمنون يقيمون ينفقون. ثم استخدام لفظة الإقامة للصلاة بما فيها من استقامة ودقّة ومحافظة، ولاحظ الحذف في الجملتين (2) و (3) فأصلها = والذين يقيمون الصلاة = = الذين ينفقون ممّا رزقناهم = ثمّ التقديم والتأخير في الجملة (3)، وذلك لأنّ السياق سياق حديث عن الإنفاق، والمال مال الله فهما صفتان لا صفة واحدة الأولى استشعار بأن الله هو الرزاق وهذا يدخل في نطاق الإيمان، والثانية هي صفة الإنفاق، واستشعار الأولى يأتي قبل الثانية، ولا يتصدّق المرء إلّا إذا استيقن تماما بأنّ الرزق من الخالق عزّ وجل، وفي هذا يتوافق السياق النصي مع السياق الواقعي أمّا الحذف فهو لتقوية حقيقة صدور هذا الخير كلّه عن الإيمان بالغيب {= الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمََا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ =}. وفي الجملة (6) نجد {= وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ =} مع أنّ الإيمان بالآخرة داخل ضمن الإيمان بالغيب، ولكنّ السياق يبرزه ليعطيه أهميّة خاصّة فالإيمان بالآخرة هو الطريق الذي يعين الإنسان على الاستقامة في الدنيا والالتزام بحدود الله. وفي الجملة تقديم وتأخير وأصلها = وهم يوقنون بالآخرة = وكأنّ موضع اليقين هو الذي يسلّط عليه الضوء هنا باعتبار أن اليقين حاصل بشكل عام بكلّ ما يتّصل بالغيب، ولكنّ الآخرة تأخذ مكانا خاصّا في هذا الغيب، ثمّ تأتي الجملة (7) {= أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ =} وترتبط بما قبلها باسم الإشارة، ثمّ الاستعلاء المجازي {= عَلى ََ هُدىً =} والتعبير بالمصدر أيضا له دلالته من الثبوت واستحكام اليقين فإذا كان الكتاب فيه هدى فإنّ أولئك {(عَلى ََ هُدىً)} فحين قبسوا الهدى من الكتاب أصبحوا يمتلكون الهدى الآتي من ربّهم مباشرة، وكأنّ ضربين من الهدى هنا:
أحدهما مقتبس من كلام الله (الكتاب) والثاني مقتبس مباشرة من الله (بتوفيق الله)
ولعلّ أحدهما أفضى إلى الآخر، أو هما درجتان من الهدى ولكن لا ريب أنّ حروف الجر تأخذ شكل معادلة ذات نمط تعبيريّ معين:(1/425)
أحدهما مقتبس من كلام الله (الكتاب) والثاني مقتبس مباشرة من الله (بتوفيق الله)
ولعلّ أحدهما أفضى إلى الآخر، أو هما درجتان من الهدى ولكن لا ريب أنّ حروف الجر تأخذ شكل معادلة ذات نمط تعبيريّ معين:
الكتاب (فيه هدى) أولئك (على هدى) {(وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)} أمّا تكرار (أولئك) في آية واحدة فقد وقف عنده المفسّرون، وأشرنا إليه في الفصل الثاني من هذا الكتاب (9)، ونقف عند ضمير الفصل (هم) الذي يشعر بالاختصاص، وكأنه لا أحد سواهم هو المفلح، ذلك الفلاح الآتي من امتلاك الهدى المؤدي إلى الصراط المستقيم الذي ورد ذكره في سورة البقرة، وهذا هو الضرب من المخاطبين الذين ذكرنا طرفا من أخبارهم في مبحث (الموضوع) ممّن تركوا الدنيا جميعا وهاجروا مع رسولهم، وحين نقابل مواصفات النصّ مع مواصفات السياق نرى أنهم استحقّوا هذا الوصف بجدارة.
وبعد هذا الاستفتاح الذي حدّد سمات المؤمنين يتحدّث عن غير المؤمنين، والتقسيم الغالب في القرآن هو تقسيم الناس إلى مؤمنين وكافرين، وكان كذلك الحال في العهد المكيّ، أما في المجتمع المدني فبدأت تظهر فئة جديدة من البشر، وهي ليست فئة (ثالثة) غير المؤمنين والكافرين فإنه لا توجد فئة غير هاتين {= خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كََافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ =} (1). ولكنّها فئة متميّزة داخل فريق الكافرين وهي فئة المنافقين، وهذا التقسيم الثلاثي: إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين (وهم أشد كفرا) يجيء في مقدمة سورة البقرة ليصف حال المجتمع الذي يحيط بالدولة الناشئة فالكفار من مشركي العرب جانب، والمنافقون من جانب آخر، وكما يحيط هؤلاء بالمسلمين في عالم الواقع، فإنّهم يحيطون بهم كذلك في سياق السورة {= إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ، وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ وَلَهُمْ عَذََابٌ}
__________
(9) انظر ص (244) من هذا الكتاب.
(1) سورة التغابن، الآية (2).(1/426)
{عَظِيمٌ =} (1). وفي آيتين اثنتين انتهى من وصف الكفار الصرحاء الذين وقفوا موقف الكفر الواضح في قولهم وسلوكهم وتدابيرهم أما الكفار المنافقون فيستغرق وصفهم ثماني آيات كاملة، ثم يستمر الحديث في تمثيل حالهم خمس آيات أخرى، فكأنما تحدث عنهم السياق ثلاث عشرة آية متوالية، وهذه العناية بإبراز صفاتهم لها أسباب في مجتمع المدينة، وأسباب دائمة لا تقف عند مجتمع معيّن، وسنعود إليها، أمّا الكفار الصرحاء فجاء وصفهم بالجمل التالية:
{= إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ = (1)، = أَأَنْذَرْتَهُمْ = (2)، = أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ = (3) = لََا يُؤْمِنُونَ = (4)، = خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ = (5)، = وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ = (6)}.
ونلاحظ ابتداء أنّ الجملة (1) لا ترتبط برابط مع الآيات التي وصفت المؤمنين، وذلك لتغاير الموضع والغرض (بلغة الجرجاني والسكّاكي). ثمّ جاءت هذه الجملة مؤكّدة إنكارية وذلك يناسب طبيعة المخاطبين الذين وقفوا ضدّ الدعوة وكفروا بها صراحة، وبين كفتي اتخاذ الموقف {(أَأَنْذَرْتَهُمْ)} و {(لَمْ تُنْذِرْهُمْ)} تأتي التسوية لتعطي النتيجة الراجحة {(لََا يُؤْمِنُونَ)} و (لا) مع الفعل المضارع تعطي ديمومة النفي بلا انقطاع، وليزيد اليأس من إيمانهم تأتي الجملة رقم (5) وهي آية الختم على القلوب وعلى السمع والأبصار بحيث لا يتسلّل شعاع واحد من إيمان إلى أي مدخل من مداخل الاستقبال، فالختم معناه تعطيل منافذ الاستقبال نهائيّا، ثمّ ينقل السياق هذا الصنف من الناس من الدنيا حيث يمتلكون قلوبا وأسماعا وأبصارا، لكنّها مختومة بغشاوة غير قابلة للاختراق إلى الآخرة حيث العذاب العظيم. وكان يكفي لو قال: {= خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ =} ليتمّ الختم، ولكنّ النصّ تفطّن إلى أنّ القلب يحيا بحياة الجوارح فبدأ بالموضع الأخير (القلب وهو مستوطن الإيمان) وانتهى بكلّ منافذ الاستقبال ليجعل اليقين تاما شاملا بكفرهم في الدنيا وعذابهم في
__________
(1) سورة البقرة، الآيات من (76).(1/427)
الآخرة، ولا بدّ أن التعطيل قد بدأ بالجوارح (السمع والبصر) ولكن المشهد بدأ منذ النهاية على طريقة الاسترجاع فالابتداء باللقطة الأخيرة في المشهد يربط كلّ اللقطات السابقة بخاتمة محتومة لا يمكن دفعها بعكس المشهد الذي تتسلسل أحداثه تصاعديا، فإنه يجعل القارئ يطرح الاحتمالات ويرجوها، ويأملها، كما إن الآية انتهت بالمشهد الأخير زمنيا (الآخرة) حيث العذاب العظيم ففيه تناسب، وانسداد القلب ابتداء أدّى إلى انسداد الرحمة انتهاء وفي الآية تقديم وتأخير (وعذاب عظيم لهم) وذلك لأن الضوء مسلّط الآن على الفئة المستحقة للعذاب، فالسياق كلّه فيها من بدايته {= إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا =}.
وقد يتبادر إلى الذهن سؤال واحد عن سبب إسناد الختم إلى الله {= خَتَمَ اللََّهُ} = والجواب أن أولئك اختاروا الكفر (كفروا) ثم أصرّوا {= سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ} {لََا يُؤْمِنُونَ =}، وأصرّوا إلى النهاية بدليل أنه مهما فعلت فإنّهم لا يؤمنون، ومن هنا جاء الختم على القلوب والأسماع والأبصار من الله نتيجة وليس حكما، فقد اختاروا أن تكون لهم جوارح معطلة فاستجاب الله لاختيارهم ثمّ ليبيّن لرسوله أن لا أمل يرجى في إيمانهم.
أمّا الفئة الثالثة وهم المنافقون فقد كانوا صورة جديدة على المؤمنين لذلك كان الأمر في حاجة إلى كشف وتنبيه مفصل لأحوالهم وسماتهم حتّى يحذرهم المؤمنون ويأمنوا كيدهم، أما السبب الدائم فهو أنّ المنافقون دائما وفي كل مجتمع أخطر من الأعداء الصرحاء، فهؤلاء موقفهم مكشوف، أمّا المنافقون، فهم يظهرون شيئا ويخفون شيئا آخر.
ولذلك فالسياق يضع العلامات الحمراء عليهم حتّى يتجنبهم السائر في الطريق، وعلى مدى (65) جملة. {= وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنََّا بِاللََّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمََا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ =}
إذن فهي ثلاث عشرة آية و (65) جملة للفريق الثالث، فهذا النوع من المخاطبين تحكّم بحجم النصّ للأسباب التي ذكرنا، والصورة التي يرسمها السياق لهذه الفئة = ليست في شفافية الصورة الأولى وسماحتها، وليست في عتامة الصورة الثانية وصفاقتها، ولكنّها تتلوّى في الحسّ وتروغ من البصر، وتخفى وتبين = (1). ولقد كانت هذه
__________
(1) في ظلال القرآن، 1/ 69.(1/428)
صورة واقعة في المدينة، ونستقصي جملة من تصرفاتها وأعمالها في أسباب النزول، أمّا داخل النصّ فنجد أنّه ابتدأ بقوله = ومن الناس = وهو ضرب من تقليل الشأن فكلمة (الناس) تحمل عموما غير متناه، فإذا ما ارتبطت ب (من) التبعيضيّة زادت عموميّة وتحسّ فيها لهجة الاستخفاف، ومع أنّ المنافقين كانوا معروفين للرسول وبعض الصحابة كأبي بكر وحذيفة كما تذكر كتب السيرة، إلّا أنّ النصّ جعل التعبير فيه عموميّة كبيرة = من الناس = لما ذكرنا أولا ولأنّ هذا النموذج يعدّ نموذجا مكرورا في أجيال البشرية جميعا.
ولقد رفع أولئك دعوى عبّر عنها النصّ بقوله {= مَنْ يَقُولُ آمَنََّا =} ولقد ربط النصّ الإيمان بالقول ولم يجاوز ذلك، فهي دعوى حسب، وجاء القول بالفعل المضارع مرتبطا بالاسم الموصول وكأنّ هذا القول يأتي بحسب الحاجة أو بحسب الطلب، وليس قولا دائما، ولذلك يجابههم النص بقوله: {= وَمََا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ =} وتأتي الباء الزائدة في سياق النفي لتجعل منه نفيا جازما، أما التعبير عن حقيقة وضعهم بالجملة الاسميّة وما فيها من ثبوت نفي الإيمان عنهم فملمح آخر في النصّ.
ثمّ هم يظنّون في أنفسهم الذكاء والدهاء والقدرة على الخداع، لكنّ القرآن يصف حقيقة فعلتهم فهم لا يخادعون المؤمنين إنّما يخادعون الله، وفي هذا النصّ نجد أن القرآن يقرر حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين، فصفّه صفّهم، وأمره أمرهم وشأنه شأنهم، ويجعل عدوّهم عدوّه، وما يوجّه إليهم من مكر موجّه إليه سبحانه فماذا يكون خداع أولئك المنافقين وأذاهم الصغير؟ وقد وقفنا في الفصل الثاني عند الصيغة (يخادع) وما تحتمله من وجهات نظر، ويطالعنا هنا المعادلتان التاليتان:
{يُخََادِعُونَ اللََّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} {وَمََا يَخْدَعُونَ إِلََّا أَنْفُسَهُمْ وَمََا يَشْعُرُونَ}
(الظنّ) (الحقيقة)
فما يبدو لهم شيء، وحقيقة الأمر شيء آخر، ولذلك جاءت الفاصلة لتعبّر عن حقيقة وضعهم بالقول {= وَمََا يَشْعُرُونَ =} وعبّر عن ظنّهم (بالمخادعة) وعبر عن الحقيقة ب (الخدع)، ولذلك جاء المفعول به في طرف المعادلة الأول (الظنّ) هو {(اللََّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا)}
وهو ما لا يمكن أن يقع فعل المخادعة عليه لما ذكرنا من عظم هذا الطرف فقوّة الله فوق
كلّ قوّة، وجاء المفعول به في الطرف الثاني (أنفسهم) لأنّ من يظنّ أنّ بإمكانه مخادعة الله والذين آمنوا قد وقع في وهم ليس له آخر.(1/429)
فما يبدو لهم شيء، وحقيقة الأمر شيء آخر، ولذلك جاءت الفاصلة لتعبّر عن حقيقة وضعهم بالقول {= وَمََا يَشْعُرُونَ =} وعبّر عن ظنّهم (بالمخادعة) وعبر عن الحقيقة ب (الخدع)، ولذلك جاء المفعول به في طرف المعادلة الأول (الظنّ) هو {(اللََّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا)}
وهو ما لا يمكن أن يقع فعل المخادعة عليه لما ذكرنا من عظم هذا الطرف فقوّة الله فوق
كلّ قوّة، وجاء المفعول به في الطرف الثاني (أنفسهم) لأنّ من يظنّ أنّ بإمكانه مخادعة الله والذين آمنوا قد وقع في وهم ليس له آخر.
وهكذا فقد تضافرت عناصر لغويّة عديدة وعميقة للتعبير عن الوهم والحقيقة، ثمّ جاء التعبير عن المخادعة بالفعل المضارع لديمومة إقناع النفس بهذا الوهم بلا كلل ولا ملل، ثمّ التعبير عن الحقيقة كذلك بالفعل المضارع المسبوق بالنفي (وما)، ومقطوعا بالاستثناء (إلّا) وحقيقة وقوع هذا الفعل على (أنفسهم) مع عدم شعورهم بهذا. وبذا يكون النص قد عبّر عن حقيقة شعورهم في مواجهة المؤمنين اصدق تعبير وأوضحه.
ثمّ يتابع السياق وصفهم وكأنّ سائلا يسأل: لماذا؟ لماذا يحاول المنافقون هذه المحاولة وهذا الخداع؟ ويأتي الجواب مباشرة: {= فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ =} وفي الجملة تقديم وتأخير واصلها = مرض في قلوبهم = فمكان المرض أهمّ من المرض نفسه لأنّ مرض القلب لا شفاء له، وقد يكون تنكير المرض من أجل تكثيف دلالته، وكأنّه مرض مجهول خبيث لا تعرف ماهيّته، وهذا ما يحيد بهم عن الصراط المستقيم، {= فَزََادَهُمُ اللََّهُ مَرَضاً =} فالمرض ينشئ المرض، والانحراف يبدأ يسيرا ثمّ تنفرج الزاوية حتّى يصيروا إلى المصير المعلوم الذي يستحقه من يخادع الله والمؤمنين، {= وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ بِمََا كََانُوا يَكْذِبُونَ =}. ولقد عبّر عن زيادة المرض بالماضي = زادهم = وكأنّه قد حكم عليهم وانتهى الأمر، وليس من أمل في شفائهم كالذين ختم الله على قلوبهم، وكما أنّ الختم استهدف القلوب فإنّ المرض استهدف القلب أيضا، ولم يقل (أمراض) بل عبّر باسم الجنس فقد جمعوا في قلوبهم المرض كلّه، وأمّا عن المصير ففيه كذلك تخصيص لهم من خلال التقديم والتأخير، وأصله = عذاب أليم لهم = فهم المخصوصون بهذا لما سبق منهم من فعل وجرم. أمّا (كانوا) في قوله {= بِمََا كََانُوا يَكْذِبُونَ =} فهي ليست للمضيّ فقد ارتبطت بالفعل المضارع فتعني في هذا السياق ديمومة التكذيب حتّى النهاية.
وصفة أخرى من صفاتهم خاصّة الكبراء منهم الذين كان لهم في أول العهد بالهجرة مقام ورئاسة وسلطان كعبد الله بن أبي بن سلول، هي صفة العناد وتبرير ما يأتون
من الفساد، والتبجّح حين يأمنون أن يؤخذوا بما يفعلون {= وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ لََا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قََالُوا إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} {أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلََكِنْ لََا يَشْعُرُونَ =} (1).(1/430)
وصفة أخرى من صفاتهم خاصّة الكبراء منهم الذين كان لهم في أول العهد بالهجرة مقام ورئاسة وسلطان كعبد الله بن أبي بن سلول، هي صفة العناد وتبرير ما يأتون
من الفساد، والتبجّح حين يأمنون أن يؤخذوا بما يفعلون {= وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ لََا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قََالُوا إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} {أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلََكِنْ لََا يَشْعُرُونَ =} (1).
فهم لا يقفون عند حدّ الكذب والخداع، بل يضيفون إليهما السفه والادّعاء، والتبجّح والتبرير {= إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ =}. ولاحظ أسلوب الحصر فهم ليسوا مصلحين حسب، وإنّما قصروا أنفسهم على هذا الإصلاح، فهم مصلحون ولا يكونون إلّا كذلك، ولأجل هذا الأسلوب الذي ينمّ على انحراف آخر من انحرافات التصوّر والاعتقاد، جاء التعقيب الحاسم {= أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلََكِنْ لََا يَشْعُرُونَ =}. فالجواب ثمّ الفاصلة القرآنية تصوّر حالهم أبلغ تصوير فالجواب جملة اسميّة مؤكّدة بعدد من أدوات التوكيد: (ألا) التي للتنبيه، و (إنّ) و (ضمير الفصل) فهذه الجملة الإنكارية تناسب حال أولئك المتبجحين من المنافقين وكأنّ الآية تقول: هم هم المفسدون ولا أحد سواهم. {= وَلََكِنْ لََا يَشْعُرُونَ =}
ونلاحظ التكرير في هذه المجموعة من الآيات فالفاصلة {= لََا يَشْعُرُونَ =} تكرّرت مرّتين للدلالة على حالة الوهم والظلام التي كانوا يعيشونها، وقد تكرّر معنى هذه الفاصلة بأشكال أخرى منها = لا يعلمون =، = يعمهون =، و = وما كانوا مهتدين =. ثمّ صورة الظلام الدامس التي ترسمها صورة الذي استوقد نارا، ثمّ ذهاب السمع والأبصار والصمم والعمى، وغيرها كما سيأتي.
ومن صفتهم كذلك التطاول والتعالي على عامّة الناس ليكسبوا لأنفسهم مقاما زائفا في أعين الناس {= وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمََا آمَنَ النََّاسُ قََالُوا أَنُؤْمِنُ كَمََا آمَنَ السُّفَهََاءُ أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهََاءُ وَلََكِنْ لََا يَعْلَمُونَ =} (2). واضح أنهم كانوا يأنفون من هذا الاستسلام للرسول ويرونه خاصا بفقراء الناس غير لائق بالعلية ذوي المقام، ومن ثمّ قالوا قولتهم هذه = أنؤمن كما آمن السفهاء =. وهذه القولة تعكس نظرة اجتماعيّة طبقيّة
__________
(1) سورة البقرة، الآيتان (1211).
(2) سورة البقرة، الآية (13).(1/431)
فضلا عن نظريّة عقديّة سفيهة، ونلاحظ أنّ دعوتهم للإيمان جاءت بأسلوب بسيط واضح (آمنوا) وهو فعل أمر بسيط، ثمّ {(كَمََا آمَنَ النََّاسُ)}، أي ولديكم نموذج في الإيمان عبّر عنه بتعريف كلمة (الناس) في مقابل {(مِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ)} الذين سبق الحديث عنهم، فأولئك بعض الناس وهو نوع من التهكّم في مقابل الناس الحقيقيّين الذين اقترنت إنسانيّتهم بالإيمان وليس بالقول والادّعاء. أمّا جواب الدعوة فقد جاء من المركّبات التالية: = أنؤمن كما آمن السفهاء؟! = وهو استفهام إنكاري ترافقه جملة فعلية مسبوقة بكاف التشبيه، وبنظرة واحدة نجد أنّ مركّبات الدعوة إلى الإيمان تساوي في الحجم مركّبات الإجابة على هذه الدعوة تقريبا، فالأمر يقابله الاستفهام الإنكاري، و {= كَمََا آمَنَ النََّاسُ =} حلّت محلّها {= كَمََا آمَنَ السُّفَهََاءُ =}. إنّ هؤلاء الذين تدعوننا إلى الاقتداء بهم هم السفهاء الفقراء، وهذه الموازنة بين قولتهم وبين ما يدعون إليه هي دعوة للنظر بين نموذج من الإيمان والإنسانيّة تجلّى في أجمل صورة في مطلع السورة الكريمة، وبين نموذج من الصلف والسفه والغرور والتبجّح والنفاق ليس مسبوقا أبدا ولذلك جاء التعقيب القرآني ليضع نتيجة المعادلة غير الموزونة في ميزانها الصحيح: {= أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهََاءُ وَلََكِنْ لََا يَعْلَمُونَ =}. ومرّة أخرى تأتي الجملة اسميّة خبريّة إنكاريّة لتواجه هذا السفه وهذا الانحراف، ولكن متى علم السفيه أنه سفيه؟! {= وَلََكِنْ لََا يَعْلَمُونَ =}. وحلقة أخرى من حلقات الظلام المقيم الذي يعيشون فيه، الذي انعدم فيه الشعور {= لََا يَشْعُرُونَ =}، والعلم {= لََا يَعْلَمُونَ =}. وجاءت (لكن) لتطيّب خاطر المؤمنين مستدركة على خواطرهم التي قد تعقدها الدهشة حين يسمعون تفوّهات السفه والغرور من هذا الصنف من المخاطبين.
ثمّ تجيء السمة الأخيرة التي تكشف عن مدى الارتباط بين المنافقين في المدينة واليهود الحانقي، ن وهي صفة اللؤم والتآمر في الظلام {= وَإِذََا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قََالُوا آمَنََّا وَإِذََا خَلَوْا إِلى ََ شَيََاطِينِهِمْ قََالُوا إِنََّا مَعَكُمْ إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ =} (1). فحالهم مع
__________
(1) سورة البقرة، الآية (14).(1/432)
المؤمنين جاء بالجملة الفعلية (آمنا) وهو فعل مرتبط بزمن، والزمن متلوّن متقلب فهو إيمان لا يتّسم بالثبوت، أمّا عند ما يلتقون بالشياطين (اليهود) فيأتي التعبير بالجملة الاسمية الدالّة على الثبوت، وبصيغتين: الصيغة الأولى {= إِنََّا مَعَكُمْ =} وهي جملة اسميّة مؤكّدة بمؤكّد واحد والمخاطب بهذا النوع من الجمل يكون متردّدا في قبول الحكم الذي تضمنته الجملة، فيسارع المنافقون لمحو هذا التردّد أو التوجّس أو أدنى شك في نفوسهم بالصيغة الثانية، وهي جملة واضحة مؤكّدة فيها أسلوب القصر {= إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ =}. أي نحن مستهزءون ولا نكون إلّا كذلك، وفي الآية نوع من الإيحاء بالدسائس والمكر والكيد والتخطيط في الظلام. وانظر إلى العبارات = خلوا = و = شياطينهم = وما فيهما من ظلام ومكر، وما ترسمه لفظة الشياطين من مرجعية الكيد والتآمر، وما يكاد القرآن يحكي قولتهم هذه حتّى يصبّ عليهم من التهديد ما يهدّ الرواسي: {= اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ =} جاء في الجواب مبتدئا باسم الجلالة وهو وحده كاف للتهديد وإدخال الرهبة في نفوسهم، ولم تقل الآية (يستهزئ بهم) فتحويل الجملة من الفعلية إلى الاسمية، وما فيه من ثبوت، وما في الابتداء من تأثير، ثم مماثلة الأفعال، فجاء الفعل من جنس فعلهم، وهو من باب المشاكلة الصوتية والدلالية التي أشرنا إليها في النظرية، واستخدام الفعل المضارع إزاء استخدامهم اسم الفاعل (مستهزءون) أي مقابلة حالة دائمة بحالة دائمة أخرى، ولكن شتّان ما بينهما فهناك (نحن) أي المنافقون وهنا (الله)، وفوق الاستهزاء بهم يأتي (المدّ). فقبل ذلك كانت الزيادة في المرض {(فَزََادَهُمُ اللََّهُ مَرَضاً)}، وهنا {= يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ =}، ومع الفعل المضارع الذي يزيد (المدّ) امتدادا في الطغيان والعمه والتخبّط والمرض، يتخبطون على غير هدى في طريق لا يعرفون غايته و = اليد الجبارة تتلقّفهم في نهايته، كالفئران الهزيلة تتواثب في الفخ، غافلة عن المقبض المهين، وهذا هو الاستهزاء المرعب لا كاستهزائهم الهزيل الصغير = (1) فهي ظلمة وتخبّط فوق ضياع ومرض في مقابل أولئك الأوائل الذين قبسوا (الهدى) من الكتاب فأصبحوا
__________
(1) سيد قطب، في ظلال القرآن، 1/ 45.(1/433)
(على هدى) يمتلكونه، ويتحرّكون بهديه ووحيه، فهو (الهدى) إذن الذي يشكل القاسم المشترك الأعظم في معادلة هذه النماذج الثلاثة إن جاز التعبير ولو حاولنا توضيح هذه المعادلة بالرسم لوجدنا ما يلي:
الهدى القبول الكامل (نور ووضوح ويقين): المخادعة سديم ملتبس: الرفض الكامل ظلام واضح: (المؤمنون): (المنافقون): (الكافرون) وتأتي الكلمة الأخيرة التي تصوّر حقيقة حالهم ومدى خسرانهم {= أُولََئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلََالَةَ بِالْهُدى ََ فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ وَمََا كََانُوا مُهْتَدِينَ =} (1).
فلقد كانوا يملكون الهدى لو أرادوا، ولكنهم اشتروا الضلالة بالهدى كأغفل ما يكون المتّجرون، وقد استخدم الأسلوب الاستعاري في هذا الموضع، قال العلوي: = وهذا النوع يسمى الاستعارة المرشّحة وهو أن يأتي بالاستعارة عقيب الاستعارة، لها بالأولى علاقة ومناسبة، فلمّا استعار الشراء عقّبه بذكر الربح بما كان مناسبا له وفي غاية الملاءمة لما سبق = (2). ونلاحظ أنّ اسم الإشارة (أولئك) يأتي رابطا بين مجموع الآيات السابقة وهذه
__________
(1) سورة البقرة، الآية (16).
(2) العلوي، الطراز، ص 102.(1/434)
الآية، فهم المنافقون وحدهم الذين يدخلون هذه الصفقة الخاسرة، وجاء الاسم الموصول ليؤكّد أنّهم هم فقط الذين يقعون في هذا الذنب العظيم، وقد عبّر مرّة اخرى عن المعادلة التي ذكرناها آنفا، (معادلة الهدى) أمّا هنا فطريق الهدى يسفر في مقابله عن طريق آخر هو طريق الضلالة، فماذا بعد الهدى والتنكّب عنه سوى الضلالة وانظر إلى صيغ النصّ:
{= أُولََئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلََالَةَ بِالْهُدى ََ =} [جملة اسمية فيها مخصّصان هما الإشارة والوصل (أولئك والذين) ثمّ أداة عطف (الفاء)] وهي تفيد التعقيب المباشر باعتبار أنّ الذي يدخل هذه الصفقة الخاسرة سيجد نتيجتها مباشرة، ثمّ جملة فعلية منفيّة {= فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ =} فتكون المعادلة التي تحكم هذا الجزء من النصّ هي معادلة الصفقة والنتيجة ويمكن تمثيلها على النحو التالي:
{= أُولََئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلََالَةَ بِالْهُدى ََ =} حرف عطف تعقيبي سريع (الفاء) (الصفقة) {= فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ =} (و) {= مََا كََانُوا مُهْتَدِينَ =} (النتيجة).
وهذا يعود بنا إلى نموذج هاليداي وحسن في التضام والاتّساق المعجمي، عن طريق توارد مفردات وكلمات ترتبط بأنواع مختلفة من العلاقات التي تساهم في (النصيّة) وكيف تؤدّي هذه الكلمات والعلاقات بالقارئ إلى خلق سياق تترابط فيه العناصر المعجمية بالاعتماد على اللغة عن طريق الوسائل الموجودة في النص، وتلك التي يمتلكها القارئ من خلال معرفته بالنظام اللّغوي. (1) ونلاحظ أنّ النتيجة عبّر عنها بالفعل الماضي المسبوق بالنفي، ولكيلا يبتعد الضوء المسلّط على التجّار، ولكي لا تنسب الخسارة إلى الصفقة فقط تأتي كلمة (تجارتهم) متّصلة بالضمير الدالّ عليهم (أولئك) لتكون الخسارة للتجارة والتجّار معا. ويأتي التعقيب الأخير حول النتيجة {= وَمََا كََانُوا مُهْتَدِينَ =} ليعلن أن تلك الصفقة الخاسرة ليست أمرا عارضا بل حالة دائمة. إنّ تنكّب الهدى لن يسلم إلّا إلى مزيد من العمى والظلمة والتخبّط (ما كانوا مهتدين) ولن يكونوا أبدا. إنّ السياق
__________
(1) هاليداي وحسن، ص 95.(1/435)
الموضوعي الذي ينتظم الآيات الكريمة منذ مطلع السورة هو سياق (الهدى الضلالة) وفقا للرسم الذي أوضحناه قبلا، ومن حوله ثلاثة أنماط من المخاطبين، وعالج النصّ كلّ نمط بما يناسبه من الأدوات اللّغوية مع ملاحظة أنّ الحيّز الذي استغرقه رسم الصورة الثالثة قد جاء أفسح وأوسع وإزاء هذه الملاحظة يقول الأستاذ سيّد قطب رحمه الله: = ذلك أنّ كلا من الصورتين الأوليين فيه استقامة على نحو من الأنحاء، وفيه بساطة على معنى من المعاني الصورة الأولى: صورة النفس الصافية المستقيمة في اتجاهها، والثانية: صورة النفس المعتمة السادرة في اتجاهها، أمّا الثالثة فهي صورة النفس الملتوية المريضة المعقدة المقلقلة، وهي في حاجة إلى مزيد من الخطوط كيما تتحدّد وتعرف بسماتها الكثيرة، كما أنها توحي (الإطالة) بضخامة الدور الذي كان يقوم به المنافقون في المدينة لإيذاء الجماعة المسلمة = (1).
وزيادة في الإيضاح يمضي السياق بضرب الأمثال لهذه الطائفة، ويكشف عن طبيعتها وتقلّباتها وتأرجحها {= مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً فَلَمََّا أَضََاءَتْ مََا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمََاتٍ لََا يُبْصِرُونَ} {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لََا يَرْجِعُونَ =} (2).
إنّهم لم يعرضوا عن الهدى ابتداء، ولم يصمّوا آذانهم عن السماع وعيونهم عن الرؤية، وقلوبهم عن الإدراك كما صنع الذين كفروا، ولكنّهم استحبّوا العمى على الهدى بعد ما استوضحوا الأمر وتبيّنوه، لقد استوقدوا النار فلمّا أضاء لهم نورها لم ينتفعوا بها وهم طالبوها، عندئذ {= ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ =} الذي طلبوه ثمّ تركوه، {= وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمََاتٍ لََا يُبْصِرُونَ =}. إنّ النار هي الهدى الذي يعدّ الخيط الموضوعي الذي تنقسم حوله النماذج الثلاثة، وهم طلبوا الهدى وانظر (الزيادة) الدالّة على الطلب (استوقد) فلما جاء الهدى (اشتروا الضلالة بالهدى) أي اختاروا الظلام على النور والضوء، وعطّلوا جميع منافذ
__________
(1) في ظلال القرآن، 1/ 46.
(2) سورة البقرة، الآيتان (1817).(1/436)
الاستقبال، عطلوا الآذان والألسن والعيون التي هيّئت لتلقّي الأصداء والأضواء والانتفاع بالهدى والنور فهم {= صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ =}، ونلاحظ هذا التكرير المعنوي لفكرة انعدام الهدى وانعدام النور:
{ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ} {تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمََاتٍ} {لََا يُبْصِرُونَ} {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}. إنّ هذه الحزم الأربع تطرق على حقيقة واحدة، هي حقيقة انعدام الهدى فحين تفقد بوصلة الاتّجاه إلى الإيمان فإنّ النتيجة المحتومة {= فَهُمْ لََا يَرْجِعُونَ =}. ونلاحظ كيف أدّت هذه الكلمة البؤرة (الهدى) في هذا السياق إلى هذا التداخل العجيب بين حقيقة المشبه والمشبّه به، فهذا التشبيه التمثيلي يأخذنا في رحلة مع من طلب النار وأوقد، ثمّ يحطّ بنا عند المنافق الذي يستبدل الضلالة بالهدى، وجاءت الصورة ترفل بالحركة وتعجّ باللون (نار ووهج) ثمّ خفوت وسواد وظلام، مع التركيز على عنصر الجملة الفعلية، (استوقد أضاءت، ذهب، ترك، يبصرون =. وأمّا النتيجة فجاءت جملتين اسميتين: الأولى {= صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ =} وجاء الحذف فيها ليتركهم في منتهى الانقطاع والتخبّط، ومهما يكن تقدير الحذف فإنه قد تركهم معلّقين غارقين في تيههم. والثانية: {= فَهُمْ لََا يَرْجِعُونَ =} وجاء فيها الضمير (هم) ليردّ الحديث إلى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى وكان هذا المثل كافيا ليصوّر حقيقة حالهم، ولكن زيادة في توضيح إصرارهم على اختيار الظلام فقد جاء بالصورة التالية ليصور ما في نفوسهم من حيرة وقلق وخوف {= أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمََاءِ =}
= إنّه مشهد عجيب، حافل بالحركة مشوب بالاضطراب، فيه تيه وضلال وهول ورعب، وفيه أضواء وأصداء، إنّ الحركة التي تغمر المشهد كلّه من الصيّب الهاطل إلى الظلمات والرعد والبرق، إلى الحظوات المروّعة الوجلة التي تقف عند ما يخيّم الظلام لترسم عن طريق التأثير الإيحائي مشهد التيه والقلق والأرجحة التي يعيشها المنافقون بين لقائهم للمؤمنين وعودتهم للشياطين، بين ما يقولونه لحظة ثمّ ينكصون عنه فجأة، بين ما يطلبون من هدى ونور، وما يفيئون إليه من ظلام وضلال فهو مشهد حيّ يرمز لحالة نفسيّة
ويجسّم صورة شعورية = (1). ولاحظ هذا التباين البعيد بين طلبهم للنار في المشهد السابق، ثمّ مشهد الصيّب في هذا المشهد، إن الصيّب هذا الخير الهاطل الذي يجلب معه الخضرة والغيث والفرح، ولا يرون فيه إلّا الجانب المخيف فقط: الظلمة والرعد والبرق، فهم يضعون أصابعهم في آذانهم حذر الموت، الخوف يعمي أبصارهم، إنّهم يستثمرون ضوء البرق فيمشون كلّما أضاء، ولكنّهم لا يربطون حركة البرق كضوء دالّ على الصيب وإنّما كمنفعة قريبة تضيء لهم بعض الطريق خلال تلك الظلمة فهم لا يستوعبون أنّ ضوء البرق عارض سريع الذهاب، وحين يظلم ترى حركتهم السريعة (قاموا) حركة ساذجة وصفقة خاسرة فالذي يمتلك الهدى يفهم حقيقة الصورة، ويعرف أين يكمن الضوء الحقيقي، وأن الاستفادة الحقيقية كانت من الصيّب وليست من البرق {= وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصََارِهِمْ =}. هنا إذن تشبيهان تمثيليّان يركّزان على مناطق مختلفة من شخصيّة أولئك المنافقين، الأوّل يرسم اختيارهم للضلال عن إصرار، والثاني يرسم خوفهم وتيههم واختيارهم للمنفعة القريبة الصغيرة على المنفعة الدائمة، ثمّ في النهاية ظلام بلا نهاية، وهذان التشبيهان مركّب استبدالي دلالي يسهم في إحداث الترابط بين مكوّنات النصّ.(1/437)
= إنّه مشهد عجيب، حافل بالحركة مشوب بالاضطراب، فيه تيه وضلال وهول ورعب، وفيه أضواء وأصداء، إنّ الحركة التي تغمر المشهد كلّه من الصيّب الهاطل إلى الظلمات والرعد والبرق، إلى الحظوات المروّعة الوجلة التي تقف عند ما يخيّم الظلام لترسم عن طريق التأثير الإيحائي مشهد التيه والقلق والأرجحة التي يعيشها المنافقون بين لقائهم للمؤمنين وعودتهم للشياطين، بين ما يقولونه لحظة ثمّ ينكصون عنه فجأة، بين ما يطلبون من هدى ونور، وما يفيئون إليه من ظلام وضلال فهو مشهد حيّ يرمز لحالة نفسيّة
ويجسّم صورة شعورية = (1). ولاحظ هذا التباين البعيد بين طلبهم للنار في المشهد السابق، ثمّ مشهد الصيّب في هذا المشهد، إن الصيّب هذا الخير الهاطل الذي يجلب معه الخضرة والغيث والفرح، ولا يرون فيه إلّا الجانب المخيف فقط: الظلمة والرعد والبرق، فهم يضعون أصابعهم في آذانهم حذر الموت، الخوف يعمي أبصارهم، إنّهم يستثمرون ضوء البرق فيمشون كلّما أضاء، ولكنّهم لا يربطون حركة البرق كضوء دالّ على الصيب وإنّما كمنفعة قريبة تضيء لهم بعض الطريق خلال تلك الظلمة فهم لا يستوعبون أنّ ضوء البرق عارض سريع الذهاب، وحين يظلم ترى حركتهم السريعة (قاموا) حركة ساذجة وصفقة خاسرة فالذي يمتلك الهدى يفهم حقيقة الصورة، ويعرف أين يكمن الضوء الحقيقي، وأن الاستفادة الحقيقية كانت من الصيّب وليست من البرق {= وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصََارِهِمْ =}. هنا إذن تشبيهان تمثيليّان يركّزان على مناطق مختلفة من شخصيّة أولئك المنافقين، الأوّل يرسم اختيارهم للضلال عن إصرار، والثاني يرسم خوفهم وتيههم واختيارهم للمنفعة القريبة الصغيرة على المنفعة الدائمة، ثمّ في النهاية ظلام بلا نهاية، وهذان التشبيهان مركّب استبدالي دلالي يسهم في إحداث الترابط بين مكوّنات النصّ.
وبعد استعراض هذه النماذج الثلاثة يرتدّ السياق في السورة نداء للناس كافة، وأمرا للبشريّة جمعاء أن تختار الصورة الكريمة المستقيمة العاملة المهتدية المفلحة، صورة المتّقين {= يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ =}. فهو عود على بدء إن جاز التعبير بدأت السورة بالمتقين، وهنا {= لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ =}. هذا نصّ تأتلف أجزاؤه وتتلاءم مع طبيعة الناس الذين تصوّرهم، وهذا ما نعنيه بالتلاؤم بين النصّ والمخاطبين، إنّنا أشرنا فيما سبق إلى مناسبة النص بالنظر إلى سياقه التداولي فالخطاب كما يصوّره (فان ديك) يرتبط بشكل نسقي مع الفعل التواصلي، والمكوّن التداولي هو
__________
(1) في ظلال القرآن، 1/ 47.(1/438)
الذي حدّد شروط مناسبة الجمل والخطابات للسياقات التواصلية التي أنجزت فيها = (1). وإن تحليل انسجام النصّ هنا كان من خلال هذا التناسب.
أمّا عن التماسك النصّي الممثّل في الروابط بين مكوّنات النص فيمكن تمثيله كما يلي:
{الم (1) ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)} (إحالة إشاريّة) {= الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (3)} (وصل سببي) {= وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمََا أُنْزِلَ (4)} (عطف وصل) {= أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ (5)} (إحالة إشارية) {= إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا (6)} (فصل (لا روابط) لتغيّر الموضوع) {= خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ (7)} (إحالة ضميرية) {= وَمِنَ النََّاسِ (8)}
(عطف) {= يُخََادِعُونَ اللََّهَ (9)} (إحالة ضميرية) {= فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (10)} (إحالة ضميرية) {= وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا (13)} (عطف إحالة ضميرية) {= وَإِذََا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا (14)}
(عطف إحالة ضميرية) {= اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ (15)} (إحالة ضميرية) = {أُولََئِكَ الَّذِينَ (16)} (إحالة إشارية وضميرية) {= مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ (17)} (إحالة ضميرية) = {صُمٌّ بُكْمٌ (18)} (إحالة ضميرية) {= أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمََاءِ = (19)} (عطف إحالة ضميرية) {= يَكََادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصََارَهُمْ} (20) (إحالة ضميرية).
فالنص متماسك بفعل الروابط التي أشرنا إليها وبفعل علاقات معنوية ودلالية ومنطقية كالبيان والتفسير وغيرها. ولاحظنا وجود الفصل بين وصف المؤمنين الذي ينتهي عند الآية الخامسة ووصف الكفار الذي يبدأ عند الآية السادسة وذلك لتباين الغرض وهذا يحيلنا إلى بحوث الجرجاني (عبد القاهر) والسكاكي في مسألة الفصل والوصل.
وأمّا النوع الرابع من المخاطبين في هذه السورة فهم (اليهود) ويبدأ الحديث عنهم في الآية (26)، ولكن ليس بشكل صريح، وربّما لأنّ مضمون الآية يتعلّق بأصناف كثيرة، ولذلك لم يذكروا صراحة، ولكنّ روايات النزول تؤكّد أنّها نزلت فيهم، ولقد
__________
(1)،. 14.،(1/439)
كان اليهود يشكّكون في صحة رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم وجاءت الآيات من (2520) لتعرض هذه الرسالة وحقيقتها للناس جميعا {= يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي =} وجاءت تتحدّاهم في تجربة واقعيّة تفصل في الأمر بين الدعوة وخصومها.
{= وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمََّا نَزَّلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدََاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ} {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا =} (1). ثم عرضت نتيجة هذا التحدّي بعد تحديد موقف الناس من الرسالة {= فَاتَّقُوا النََّارَ الَّتِي وَقُودُهَا} {أُعِدَّتْ لِلْكََافِرِينَ =} وفي مقابلهم {= وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي =} وفي الآية (26) يجيء الحديث عن الأمثال التي يضربها الله في القرآن {= إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا بَعُوضَةً فَمََا فَوْقَهََا =} وهذه الآيات تدل على أن المنافقين الذين ضربت لهم الأمثال السابقة (النار والصيب) والمشركين كذلك واليهود قد اتخذوا من ورود هذه الأمثال في هذه المناسبة منفذا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن، بحجّة أنّ ضرب الأمثال هكذا بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم لا تصدر عن الله، فهو لا يمكن أن يذكر هذه الأشياء الصغيرة كالذباب والعنكبوت في كلامه، وكان هذا طرفا من حملة التشكيك والبلبلة التي قاموا بها، فجاءت هذه الآيات دفعا لهذا الدس {= إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا =} وجاءت الجملة خبريّة إنكاريّة موافقة لطبيعة المخاطبين، ولتعلن أن العبرة ليست في الحجم والشكل وإنّما المعجزة هي معجزة الحياة في الفيل أو البعوضة، وأنّ الأمثال أدوات للتنوير والتعبير أي أدوات للهدى، وهنا يعود الهدى ليشكّل الثابت البنيوي الرابط مع هذا النموذج الرابع من المخاطبين و (الأمثال) اختبار للقلوب والنفوس {= فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ =}. وهنا يأتي الرابط (الفاء) ليفيد الاستجابة المباشرة من المؤمنين (أولئك على هدى من ربهم) وفي الطرف الآخر {= وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مََا ذََا أَرََادَ اللََّهُ بِهََذََا مَثَلًا =} والواو هنا تترك فراغا زمنيا وهي تشرح بعدها موقف الذين كفروا على شكل
__________
(1) سورة البقرة، الآية (23).(1/440)
قول، ويأتي القول استفهاما إنكاريّا يحمل البلبلة والتشكيك {= مََا ذََا أَرََادَ اللََّهُ بِهََذََا مَثَلًا =}؟
وهو سؤال المحجوب عن نور الله وحكمته، ثم هو سؤال من لا يرجو لله وقارا ولا يتأدّب الأدب اللائق بالعبد أمام ربّه، وهنا يجيئهم الجواب في صورة التهديد والتحذير بما وراء المثل من تقدير وتدبير {= يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ =}. وبين جملتين متساويتين في المكوّنات (يضلّ به كثيرا) و (يهدي به كثيرا) متعاكستين في الاتجاه (ضلال هداية) ويساعد الطباق هنا في رسم هذا التعاكس (يضل / يهدي) تأتي الجملة الفاصلة {= وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ =} فالنفي المقطوع بالاستثناء يحصر الضلالة بصنف واحد من الناس هم الفاسقون وهؤلاء هم اليهود، ثمّ يفصّل السياق صفة الفاسقين هؤلاء كما فصّل في أول السورة صفة المتقين: {= الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثََاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مََا أَمَرَ اللََّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ =} (1). ولقد جاء السياق هنا مجملا فلم يفصّل طبيعة العهد الذي نقض ولا الأمر الذي قطع، ولا طبيعة الفساد، وذلك لأنّ المجال مجال تشخيص طبيعة، وتصوير نماذج لا مجال تسجيل حادثة أو تفصيل واقعة، إنّ الصورة هنا مطلوبة في عمومها، والعهد الذي تشير إليه الآية هو عهد الفطرة، وهو عهد الاستخلاف في الأرض الذي أخذه الله على آدم ولذلك بعد هذه المجموعة من الآيات ستأتي قصة آدم عليه السلام. وجاءت هذه الآية تحمل الأفعال التالية: ينقضون، ويقطعون، ويفسدون. وتكاد تكون هذه الأفعال هي الصفات الدامغة التي تصف اليهود قديما وحديثا، والتعبير عنها بالمضارع يحمل الإيحاء بالديمومة ديمومة هذا السلوك، ولذلك جاء التعقيب {= وَأُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ =}. وهذا يعيدنا إلى طبيعة الصفقة الخاسرة {= فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ =} التي جرى ذكرها في الآيات السابقة.
__________
(1) سورة البقرة الآية (27).(1/441)
فالهدم والشر والفساد هو حصيلة الفسوق عن طريق الهدى الذي اختاره المؤمنون، ويأتي ضمير الفصل (هم) ليؤكّد حقيقة الخسران الذي التصق بهم بسبب أفعالهم وعند هذا البيان الكاشف يتوجّه النص إلى الناس باستنكار كفرهم بالله المحيي المميت الخالق الرازق المدبّر العظيم: {= كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللََّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوََاتاً فَأَحْيََاكُمْ ثُمَّ} {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ =} (1). وتتوالى المؤثّرات لتحريك الإيمان إذا كان ثمّة في قلوبهم، الاستفهام الإنكاري (كيف) أوّلا، ثمّ وصف فضل الله عليهم، مع التركيز على سرّ الحياة والخلق لأنّ الآية جاءت في سياق الحديث عن الأمثال وقدرة الله، وهذه هي الحقيقة التي يواجه بها السياق الناس في هذا المقام، وانظر إلى الخطاب المباشر وما يحمله من تقريع وتأنيب وإنكار: تكفرون، أحياكم، يميتكم، ترجعون وانظر كلمة = لكم = في قوله {= هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} فهي ذات مدلول عميق، وإيحاء قاطع بسرّ وجود الإنسان في الحياة، مما مهّد لقصة آدم بعد ذلك، والتي تنتظم الآيات من (3930). وهكذا فالإشارة الأولى إلى بني إسرائيل تأخذ شكل الخطاب العام وتمسّهم من بعيد من غير تخصيص.
وبعد انتهاء قصة آدم يعود إليهم مباشرة بعد أن يقرّر مرّة أخرى أنّ القصّة (آدم / الخلق) تدور حول طرفي المعادلة (الهدى / الضلال) {= قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهََا جَمِيعاً فَإِمََّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدََايَ فَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ =} (2). ويمتدّ الخطاب المباشر عن بني إسرائيل في الآيات من (7440) وبعد ذلك يعود إلى الجماعة المسلمة محذّرا إيّاها من أفاعيل بني إسرائيل، فهو خطاب للمؤمنين يشتمل على حديث عن بني إسرائيل المعاصرين للنبيّ الكريم، وكأنّ الخطاب يريد أن يؤكّد الحكم العام الذي ذكره
__________
(1) سورة البقرة، الآية (28).
(2) سورة البقرة، الآية (38).(1/442)
من نقض العهد والإفساد، وقطع ما أمر الله به أن يوصل بأمثلة من القديم والحديث، ويتداخلان تداخلا كبيرا فهي صورة مكرورة واحدة ولذلك وجدنا ضمائر الخطاب تنتقل ما بين ضمير المخاطب وضمير الغيبة باستمرار، وهذا المقطع الذي ينتظم الآيات من (7440) يبدأ بثماني آيات متتالية في خطاب مباشر لليهود المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلم {= يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا =} وابتداء من هذا المقطع يواجه السياق بني إسرائيل الذين واجهوا الدعوة في المدينة مواجهة منكرة، وقاوموها مقاومة خفية وظاهرة، وكادوا لها كيدا موصولا كما أظهرت أسباب النزول، وطبيعة المعركة التي شنها اليهود هي هي في كل زمان ومكان، أجملتها الآيات السابقة من (2926) (نقض العهد، والإفساد، وقطع ما أمر الله به أن يوصل) وتجملها أكثر معادلة تنكّب الهدى التي أشرنا إليها.
وأمّا الوصل الزمني (بتعبير هاليدي وحسن) في النص فيظهر في أنّ الآيات من (2926) أجملت الفئات المناكفة للهدى وأشارت إلى المواصفات العامّة لليهود في كل زمان ومكان منطلقة من حادثة معاصرة في سياق تنزّل السورة، وهي قصّة ضرب الأمثال (بعوضة فما فوقها) واستهزاء القوم وخاصة اليهود بها، ويتوجّه المقطع هنا إلى بني إسرائيل مباشرة، أولئك المعاصرين لرسول الله، ثمّ تعرّج لتذكّرهم بأفاعيل أجدادهم، وبهذا يتّسق الوصل الزمني في الخطاب، كما نلحظ الاتّساق الفنّي والنفسي في الأداء القرآني فبدء هذه الجولة يلتحم بختام قصة آدم، ثمّ تتحدّث الآيات عن هذا النموذج الذي لم يحفظ عهد الاستخلاف الذي مثّله آدم، وهذا جانب من التكامل في السياق القرآني بين القصص والوسط الذي تعرض فيه فقصّة آدم هي حلقة من سلسلة الصراع الطويل في الأرض بين قوى الشر والفساد، وبنو إسرائيل هم حلقة أخرى. وهكذا فالقصص القرآني جزء من عناصر السياق المنسجم المتّسق مع المقام الذي ينجز فيه الخطاب والقرآن لا يعرض هنا قصّة بني إسرائيل كاملة وإنّما يشير إلى مواقف ومشاهد منها باختصار أو بتطويل مناسب. وقد وردت القصّة في السور المكّية التي نزلت قبل هذا،
ولكنّها كانت هناك تذكر مع غيرها لتثبيت القلّة المؤمنة في مكّة بعرض تجارب الدعوة وموكب الإيمان الواصل منذ أول الخليفة، وتوجيه الجماعة المسلمة بما يناسب ظروفها في مكّة، أمّا هنا فالقصد هو كشف حقيقة نوايا اليهود ووسائلهم وتحذير المسلمين منهم، وبسبب اختلاف (الهدف) بين القرآن المكّي والمدني اختلفت طريقة العرض، وإن كانت الحقائق التي عرضت هنا وهناك عن انحراف بني إسرائيل واحدة، فاختلاف الظرف والهدف (السياق المقامي) عمل على تغيير لغة العرض وطريقته (السياق اللغوي) أو بناء النص، ويظهر هذا إذا استعرضنا السور المكيّة السابقة لسورة البقرة في ترتيب النزول.(1/443)
وأمّا الوصل الزمني (بتعبير هاليدي وحسن) في النص فيظهر في أنّ الآيات من (2926) أجملت الفئات المناكفة للهدى وأشارت إلى المواصفات العامّة لليهود في كل زمان ومكان منطلقة من حادثة معاصرة في سياق تنزّل السورة، وهي قصّة ضرب الأمثال (بعوضة فما فوقها) واستهزاء القوم وخاصة اليهود بها، ويتوجّه المقطع هنا إلى بني إسرائيل مباشرة، أولئك المعاصرين لرسول الله، ثمّ تعرّج لتذكّرهم بأفاعيل أجدادهم، وبهذا يتّسق الوصل الزمني في الخطاب، كما نلحظ الاتّساق الفنّي والنفسي في الأداء القرآني فبدء هذه الجولة يلتحم بختام قصة آدم، ثمّ تتحدّث الآيات عن هذا النموذج الذي لم يحفظ عهد الاستخلاف الذي مثّله آدم، وهذا جانب من التكامل في السياق القرآني بين القصص والوسط الذي تعرض فيه فقصّة آدم هي حلقة من سلسلة الصراع الطويل في الأرض بين قوى الشر والفساد، وبنو إسرائيل هم حلقة أخرى. وهكذا فالقصص القرآني جزء من عناصر السياق المنسجم المتّسق مع المقام الذي ينجز فيه الخطاب والقرآن لا يعرض هنا قصّة بني إسرائيل كاملة وإنّما يشير إلى مواقف ومشاهد منها باختصار أو بتطويل مناسب. وقد وردت القصّة في السور المكّية التي نزلت قبل هذا،
ولكنّها كانت هناك تذكر مع غيرها لتثبيت القلّة المؤمنة في مكّة بعرض تجارب الدعوة وموكب الإيمان الواصل منذ أول الخليفة، وتوجيه الجماعة المسلمة بما يناسب ظروفها في مكّة، أمّا هنا فالقصد هو كشف حقيقة نوايا اليهود ووسائلهم وتحذير المسلمين منهم، وبسبب اختلاف (الهدف) بين القرآن المكّي والمدني اختلفت طريقة العرض، وإن كانت الحقائق التي عرضت هنا وهناك عن انحراف بني إسرائيل واحدة، فاختلاف الظرف والهدف (السياق المقامي) عمل على تغيير لغة العرض وطريقته (السياق اللغوي) أو بناء النص، ويظهر هذا إذا استعرضنا السور المكيّة السابقة لسورة البقرة في ترتيب النزول.
وفي مقطع الخطاب المباشر مع بني إسرائيل المعاصرين للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم الذي ينتظم الآيات (4840)، نرى أنّ مضمون الوصايا والتوجيهات التي اشتملت عليها الآيات تركّز على الوفاء بالعهد والوعد والتقوى والاستجابة لأمر الله، وكأنها تقف في مقابل الصفات العامّة الثلاث التي استحقّوا بها أن يكونوا من الخاسرين وهي نقض العهد والإفساد وقطع ما أمر الله به أن يوصل. فالآية (40) {= اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي =} تذكر صفة الوفاء، والآية (41) {= آمِنُوا،} {وَلََا تَشْتَرُوا بِآيََاتِي ثَمَناً قَلِيلًا =} تحمل صفة الاستجابة لأمر الله والوفاء، {(وَإِيََّايَ فَاتَّقُونِ)} صفة التقوى، وفي الآية (42) {= وَلََا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبََاطِلِ =} عدم الإفساد، والحديث في الآيات (43)، (44) و (45)، و (46) كلّها تحمل معنى الاستجابة لأمر الله وعدم الإفساد، وفي الآية (47) الوفاء بالعهد، والآية (48) الأمر بالتقوى، وهكذا يبلغ التناسب ذروته في خطاب مركّز على مفاهيم محدّدة، في مقابل ما هو معروف عنهم في كل زمان ومكان والذي لخصته الآية (27) في المقطع السابق {= الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثََاقِهِ، وَيَقْطَعُونَ مََا أَمَرَ اللََّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ =} والملاحظة الأخرى التي يمكن الإشارة إليها هي التكرير سواء كان تكريرا لفظيّا أو معنويّا، وأمّا التكرار المعنوي فهو واضح في تكرار مفاهيم الأوامر والنواهي في المقطع السابق، وتمحورها حول فكرة الوفاء بالعهد والتقوى والاستجابة ولكن بأشكال مختلفة. وأمّا التكرير اللفظي فتراه في قوله {= يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ}
{اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ =} في الآيتين (40) و (47)، وأيضا قوله = فاتقون = في الآية (41) وقوله (واتقوا) في الآية (48)، وكذلك ذكر النعمة (نعمتي وأنعمت) في الآية (40) وغرض التكرير واضح فالآيات تخاطب قوما عرفوا بنقض العهد، وتزوير الحقائق والإفساد، فالتكرير يناسب حالهم، ثمّ إنّ صيغ الخطاب تراوحت بين الأمر والنهي والاستفهام فاشتملت الآيات على أحد عشر أمرا، وثلاثة نواه، وثلاثة استفهامات إنكاريّة، وعلاقة هذه الصيغ والأساليب بموضوع الآيات يمكن في أن من يقطع ما أمر الله به أن يوصل يحتاج إلى أمر ونهي واستفهام، وناكث العهد يحتاج إلى أمر ونهي واستفهام، والمفسد يحتاج إلى أمر ونهي واستفهام. إنّ المستعرض لتاريخ بني إسرائيل ليأخذه العجب من فيض الآلاء التي أفاضها الله عليهم، ومن الجحود المنكر المتكرّر الذي قابلوا به هذا الفيض المدرار، وهنا يذكّرهم الله بنعمته التي أنعمها عليهم إجمالا قبل البدء في تفصيلها، يذكّرهم بها ليدعوهم بعدها إلى الوفاء بعهدهم مع الله {= يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ =} (1). وأما العهد المشار إليه هنا فهو العهد الأول {= فَإِمََّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدََايَ فَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ =} (2). وهذا يعيدنا إلى الهدى وهو الخطّ الرابط في هذه السورة، وفي قوله {= وَلََا تَشْتَرُوا بِآيََاتِي ثَمَناً قَلِيلًا =} إحالة إلى أولئك الذين {= اشْتَرَوُا الضَّلََالَةَ بِالْهُدى ََ =}. ونلاحظ أنّ الخطاب ابتدأ بضمير المخاطب المباشر، وانتهى بصيغة الغيبة {= وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ =} وذلك للتعميم، فهذا مبدأ كلّي يشمل المخاطبين هنا وفي كل آن ممّن اختاروا سبيل نقض العهد والإفساد.(1/444)
وفي مقطع الخطاب المباشر مع بني إسرائيل المعاصرين للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم الذي ينتظم الآيات (4840)، نرى أنّ مضمون الوصايا والتوجيهات التي اشتملت عليها الآيات تركّز على الوفاء بالعهد والوعد والتقوى والاستجابة لأمر الله، وكأنها تقف في مقابل الصفات العامّة الثلاث التي استحقّوا بها أن يكونوا من الخاسرين وهي نقض العهد والإفساد وقطع ما أمر الله به أن يوصل. فالآية (40) {= اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي =} تذكر صفة الوفاء، والآية (41) {= آمِنُوا،} {وَلََا تَشْتَرُوا بِآيََاتِي ثَمَناً قَلِيلًا =} تحمل صفة الاستجابة لأمر الله والوفاء، {(وَإِيََّايَ فَاتَّقُونِ)} صفة التقوى، وفي الآية (42) {= وَلََا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبََاطِلِ =} عدم الإفساد، والحديث في الآيات (43)، (44) و (45)، و (46) كلّها تحمل معنى الاستجابة لأمر الله وعدم الإفساد، وفي الآية (47) الوفاء بالعهد، والآية (48) الأمر بالتقوى، وهكذا يبلغ التناسب ذروته في خطاب مركّز على مفاهيم محدّدة، في مقابل ما هو معروف عنهم في كل زمان ومكان والذي لخصته الآية (27) في المقطع السابق {= الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثََاقِهِ، وَيَقْطَعُونَ مََا أَمَرَ اللََّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ =} والملاحظة الأخرى التي يمكن الإشارة إليها هي التكرير سواء كان تكريرا لفظيّا أو معنويّا، وأمّا التكرار المعنوي فهو واضح في تكرار مفاهيم الأوامر والنواهي في المقطع السابق، وتمحورها حول فكرة الوفاء بالعهد والتقوى والاستجابة ولكن بأشكال مختلفة. وأمّا التكرير اللفظي فتراه في قوله {= يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ}
{اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ =} في الآيتين (40) و (47)، وأيضا قوله = فاتقون = في الآية (41) وقوله (واتقوا) في الآية (48)، وكذلك ذكر النعمة (نعمتي وأنعمت) في الآية (40) وغرض التكرير واضح فالآيات تخاطب قوما عرفوا بنقض العهد، وتزوير الحقائق والإفساد، فالتكرير يناسب حالهم، ثمّ إنّ صيغ الخطاب تراوحت بين الأمر والنهي والاستفهام فاشتملت الآيات على أحد عشر أمرا، وثلاثة نواه، وثلاثة استفهامات إنكاريّة، وعلاقة هذه الصيغ والأساليب بموضوع الآيات يمكن في أن من يقطع ما أمر الله به أن يوصل يحتاج إلى أمر ونهي واستفهام، وناكث العهد يحتاج إلى أمر ونهي واستفهام، والمفسد يحتاج إلى أمر ونهي واستفهام. إنّ المستعرض لتاريخ بني إسرائيل ليأخذه العجب من فيض الآلاء التي أفاضها الله عليهم، ومن الجحود المنكر المتكرّر الذي قابلوا به هذا الفيض المدرار، وهنا يذكّرهم الله بنعمته التي أنعمها عليهم إجمالا قبل البدء في تفصيلها، يذكّرهم بها ليدعوهم بعدها إلى الوفاء بعهدهم مع الله {= يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ =} (1). وأما العهد المشار إليه هنا فهو العهد الأول {= فَإِمََّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدََايَ فَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ =} (2). وهذا يعيدنا إلى الهدى وهو الخطّ الرابط في هذه السورة، وفي قوله {= وَلََا تَشْتَرُوا بِآيََاتِي ثَمَناً قَلِيلًا =} إحالة إلى أولئك الذين {= اشْتَرَوُا الضَّلََالَةَ بِالْهُدى ََ =}. ونلاحظ أنّ الخطاب ابتدأ بضمير المخاطب المباشر، وانتهى بصيغة الغيبة {= وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ =} وذلك للتعميم، فهذا مبدأ كلّي يشمل المخاطبين هنا وفي كل آن ممّن اختاروا سبيل نقض العهد والإفساد.
وإذا نظرنا في لغة هذا المقطع من النص نجد فواصل الآي تحمل معاني متتابعة، فالآية (40) تنتهي بقوله: {= وَإِيََّايَ فَارْهَبُونِ =}، وما في تقديم ضمير النصب المنفصل من تركيز على عظم الخالق الذي يتنكّبون هداه، وتحمل هذه الفاصلة الأمر بالتقوى. وفي الآية
__________
(1) سورة البقرة، الآية (40).
(2) سورة البقرة، الآية (38).(1/445)
(41) {= وَإِيََّايَ فَاتَّقُونِ =} وهي تحمل المعنى نفسه باستبدال يسير، وهو ما قلناه عن توالي الطرق على المعاني ذاتها لأنّ ناقض العهد يحتاج إلى مثل هذا الخطاب، وفي الآية (42) {= وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ =} وهي تحمل فكرة الإصرار على نقض العهد والإفساد، وفي الآية (43) {= وَارْكَعُوا مَعَ الرََّاكِعِينَ =}. وفيها إطناب نوعه الخصوص بعد العموم، والعموم هنا هو الأمر بالصلاة، وهي تحمل معنى الرجوع والإنابة والتقوى والاستجابة، وهكذا في فواصل جميع آيات هذا المقطع فيها تكثيف دلالي للمعاني التي أشرنا إليها.
ومما لفتني هنا في فاصلة الآية (41) قوله {(وَإِيََّايَ فَاتَّقُونِ)} وفيها مغايرة لمطلع الآية {= وَاتَّقُوا يَوْماً =} ولعلّ ذلك لأن التقوى في الآية (41) متعلقة بالله ودلّ عليه ضمير الفصل، فأخذت صورة التفخيم (فاتقون) وأمّا الآية (48) فمتعلقة بالتقوى من اليوم الآخر، وهو أقل تفخيما (اتقوا)، إنّ الآيات تتناسب مع المخاطبين من حيث: الموضوع، والروابط، وفواصل الآيات، ومن حيث ترتّب الآيات واتّساقها مع ما سبقها، ومع المحور الرئيسي للسورة ومن حيث أساليب الخطاب. ولنا أن نذكّر بمعالم نظريّة السياق لدى هاليداي وحسن وفان ديك من حيث إنّ نظام الأشكال النصية قد يمتدّ إلى المستوى اللّغوي أو نمط العملية من استبدال أو تكرير أو حذف، وكذلك خواصّ العملية التي يلجأ إليها النص من حيث مكانها في النص ومعدّل تكرارها، وكلّ ذلك مربوط بالمستوى التداولي لذلك النص.
وفي الآيات من (7449) يفصل الخطاب في النعم التي أجملت سابقا، وكيف استقبلوا هذه الآلاء وفي مقدّمتها نجاتهم من آل فرعون وخروجهم من مصر ناجين، والمنّ والسلوى، والقرية والاستسقاء والسبت وقصة البقرة، وكان هذا التفصيل ضروريّا هنا لكشف حقيقة بني يهود وليفتح عيون المسلمين على المكائد التي توجّه إلى مجتمعهم الجديد، ويلاحظ أن الضمير المستخدم هنا بقي للمخاطب {= وَإِذْ نَجَّيْنََاكُمْ} {يَسُومُونَكُمْ،} {يُذَبِّحُونَ} {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ =} مع أنّ الحديث عن أجدادهم، وسبق أن أوضحنا هذا من أنّ الطباع لم تتغير عبر أجيالهم، ثمّ إنّ النعم التي نزلت على
أجدادهم قد توارثوها فهي لهم، وقصة النجاة من فرعون جاءت هنا سريعا، باعتبار أنّ تفصيلات هذه النجاة قد وردت في السور المكيّة فهي هنا مجرد تذكير لقوم يعرفون القصّة.(1/446)
وفي الآيات من (7449) يفصل الخطاب في النعم التي أجملت سابقا، وكيف استقبلوا هذه الآلاء وفي مقدّمتها نجاتهم من آل فرعون وخروجهم من مصر ناجين، والمنّ والسلوى، والقرية والاستسقاء والسبت وقصة البقرة، وكان هذا التفصيل ضروريّا هنا لكشف حقيقة بني يهود وليفتح عيون المسلمين على المكائد التي توجّه إلى مجتمعهم الجديد، ويلاحظ أن الضمير المستخدم هنا بقي للمخاطب {= وَإِذْ نَجَّيْنََاكُمْ} {يَسُومُونَكُمْ،} {يُذَبِّحُونَ} {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ =} مع أنّ الحديث عن أجدادهم، وسبق أن أوضحنا هذا من أنّ الطباع لم تتغير عبر أجيالهم، ثمّ إنّ النعم التي نزلت على
أجدادهم قد توارثوها فهي لهم، وقصة النجاة من فرعون جاءت هنا سريعا، باعتبار أنّ تفصيلات هذه النجاة قد وردت في السور المكيّة فهي هنا مجرد تذكير لقوم يعرفون القصّة.
ونقف قليلا مع هذا المقطع من النص فالله سبحانه يعيد على خيالهم ويحيي في مشاعرهم صورة الكرب الذي كانوا فيه {= وَإِذْ نَجَّيْنََاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ =} (1).
واختيار كلمة (يسومونكم)، وهي من سام الماشية أي جعلها سائمة ترعى أبدا، ذو دلالة خاصة، وكأن العذاب هو الغذاء الدائم الذي يطعمونهم إيّاه، ثمّ يخصّص لونا من هذا العذاب بالذكر هو تذبيح الذكور واستحياء النساء كي يضعف ساعد بني إسرائيل.
ونلاحظ استخدام = إذ = الظرفيّة التي تنقل بني إسرائيل من لحظتهم الحاضرة في عهد رسول الله في المدينة المنورة إلى ذلك الزمن الغابر أيّام سيدنا موسى عليه السلام، وكأنّها مشاهد حيّة تبثّ بثّا مباشرا أمام أعينهم، وهذه المراوحة بين الماضي والحاضر مقصودة باعتبار أنّ أفعالهم ما زالت مستمرة، ونجدها داخل النص من خلال المراوحة بين الماضي والمضارع، فالآيات تبدأ بالماضي {= وَإِذْ نَجَّيْنََاكُمْ =} ثمّ بعد ذلك تنقل إلى مجموعة من الأفعال المضارعة (يسومونكم، يذبّحون، يستحيون) ثمّ يأتي بالماضي (وإذ فرقنا) وتختم اللوحة بالمضارع {= وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ =}. بعكس اللوحة التالية من لوحات الخطاب المباشر مع بني إسرائيل، والتي تمضي قدما مع بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر ناجين فكل الأفعال الواردة فيها تأتي بالماضي {= وَإِذْ وََاعَدْنََا =}، {= ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ =}، {= ثُمَّ عَفَوْنََا =} = {وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ =}، {= ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ =}
{= فَتََابَ عَلَيْكُمْ} =، واشتملت على بعض أفعال الأمر = فتوبوا = = فاقتلوا =. ونصبح وجها لوجه أمام ذلك الزمن الغابر مباشرة، وكأنّنا نعيش مع سيّدنا موسى عليه السلام بكلّ تفاصيل ما حصل آنئذ. وتتكرّر هذه الملاحظة فيما يلي من اللوحات إذ جميعها تتراوح بين الماضي والأمر، باستثناء بعض الأفعال التي جاءت مع أداة الترجّي مثل: {= لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ =} و {= لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ =} و {= لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ =} والحكمة فيه واضحة، فهذه الأفعال لم تقع أبدا وكانت مجرّد ترجّ منهم، لكنّهم خذلوا هذا الرجاء، ووقعوا في نكث العهد وتنكّب
__________
(1) سورة البقرة، الآية (49).(1/447)
الهدى، ولم يعملوا عقولهم إلّا في الشرّ، وباستثناء اللوحة التعقيبيّة الأخيرة في هذا المقطع، والتي هي تعقيب عام لكلّ زمان ومكان {= كَذََلِكَ يُحْيِ اللََّهُ الْمَوْتى ََ وَيُرِيكُمْ آيََاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ =} (1). و {= وَإِنَّ مِنْهََا لَمََا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمََاءُ وَإِنَّ مِنْهََا لَمََا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللََّهِ وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ =} (2). ليعود الخطاب بعدها إلى الواقع الحيّ المشاهد، حيث تخوض الجماعة المسلمة معركتها مع بني إسرائيل من جديد.
وفي مطلع كلّ لوحة من لوحات الإنعام السابقة ظلّت (إذ) الناقلة للمشهد عبر الزمان والمكان تتكرّر مرّات عديدة، {= وَإِذْ نَجَّيْنََاكُمْ =}، و {= وَإِذْ فَرَقْنََا =}، و {= وَإِذْ قُلْتُمْ يََا مُوسى ََ =}، و {= إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا =} و {= إِذِ اسْتَسْقى ََ =} ونجد تكرارا آخر في قوله {= وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} = وردت في الآية (50)، والآية (55). ثم ذكر التوبة بتشكيلاته المختلفة (فتوبوا، فتاب، التوّاب) وقوله {(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)} تكرّرت في الآيات (52) و (56) وكذلك ورد في الآية (49) {= وَإِذْ نَجَّيْنََاكُمْ =} وفي الآية (50) فأنجيناكم. فالتكرير بمعنى إعادة عنصر معجمي أو مرادف له من أدوات التضام في نموذج هاليداي ورقيّة حسن، وهو يساهم في النصية والاتساق. كما أنّ من عناصر النصية والاتساق في هذا المقطع إيراد الخطّ الدلالي الناظم للآيات وهو خطّ الهدى، وقد ارتبط هنا بالكتاب والفرقان {= وَإِذْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ وَالْفُرْقََانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ =} في الآية (51) وفي الآية (70) {= وَإِنََّا إِنْ شََاءَ اللََّهُ لَمُهْتَدُونَ =}.
وإذا اقتربنا من النص أكثر لننظر كيف تواءم مع المخاطب وهو بني إسرائيل فسنجد أن هذا التواؤم قد ظهر في عنصر الهدف. فغرض النص هو دعوة أولئك إلى طريق الهدى وألّا يختاروا الصفقة الخاسرة، ولذلك فإنّ النص يراوح بين التذكير بالأنعام العديدة وتوالي العفو بعد العفو، والتوبة بعد التوبة من غير طائل. إنّ نفوسهم كانت دوما تعود إلى الإفساد، ولذلك فاختيار الألفاظ جاء مناسبا لتذكير أقسى القلوب، فالسوم، والتذبيح،
__________
(1) سورة البقرة، الآية (73).
(2) سورة البقرة، الآية (74).(1/448)
والاستحياء، والبلاء العظيم، ثمّ جعل إنقاذهم من هذا البلاء من غير جهد يذكر منهم {= وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ =} (1)، وجعل الإنجاء سابقا للعذاب مزيدا في التذكير بالإنعام (تقديم أسلوبي) مع أنّ وقائع السياق الخارجي كانت السوم والتذبيح والاستحياء أوّلا ثمّ جاء الإنجاء، ولمزيد من التذكير كرّر {= فَأَنْجَيْنََاكُمْ =} وما بين (نجّى) الدالّة على التكثير مع التعدية، و (أنجى) التي تربط عمليّة النجاة بالله عز وجل مباشرة كان بنو إسرائيل يرقبون العمليّة من غير تقديم أي جهد يذكر فجاءت {= وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ =} (2) مرّة أخرى، وجاء اسم الإشارة (ذلكم) الذي يشير إلى سوء العذاب المتضمّن للذبح والاستحياء لمزيد من التضخيم للحدث، وفيه نوع من التعنيف مع التذكير. إن الخروج من ذلك البلاء العظيم كان نعمة عظيمة تستحقّ كل شكر ولم يرد في النص أي إشارة لأي شكر. وفي اللوحة الثانية وخلال المواعدة بين موسى وربّه عزّ وجل نراهم يتّخذون العجل من بعده ويأتي الحال كاشفا عن نفوسهم {= وَأَنْتُمْ ظََالِمُونَ =}. وتأتي شبة الجملة {= مِنْ بَعْدِهِ =} لتوبّخهم توبيخا آخر، وفيها إيحاء بنقض العهد واستغلال لحالة الغياب من موسى عليه السلام. وعلى الرغم من عظم الذنب جاء العفو، ولكنه لم يأت مباشرة بدليل قوله {= ثُمَّ عَفَوْنََا عَنْكُمْ =} (3). فالحرف (ثمّ) يشتمل على معنى التراخي، وبدليل (من بعد) في الآية نفسها. وهذه الآيات من مواضع الاتساق الجميل في النص:
= ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون = = ثمّ عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون = تراخ: (وقت يفيد التمهل في اتخاذ قرار الكفر): واقع حالهم: (تراخ): تمهّل ترجّ
__________
(1) سورة البقرة، الآية (50).
(2) سورة البقرة، الآية (55).
(3) سورة البقرة، الآية (52).(1/449)
إنّ ظلمهم واقع أمّا عودهم إلى الشكر والطاعة فموضوع رجاء، وكما جاء اتخاذ العجل (من بعده) فقد جاء العفو من (بعد ذلك). وفي مقابل الفئة الوضيئة {(أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ)} في أول السورة نجد هنا {(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)} وفرق شاسع بين التعبيرين، مع أن الهدى في كلا الموضعين جاء مرتبطا بالكتاب.
ونلاحظ كذلك أنّ موسى عليه السلام قد راعى في خطابه لهم البعد النفسي والعقلي والإدراكي، وواجههم بخطاب متّزن مناسب لواقع حالهم:
{= يََا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخََاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى ََ بََارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذََلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بََارِئِكُمْ =}. (1) ونجد هذا الخطاب يتّخذ أساليب عديدة أوّلها التحبّب والتقرّب {= يََا قَوْمِ =} ليصل الخطاب إلى قلوبهم مباشرة، ثمّ تأتي {= إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ =} وفيها إشارة لواقع حالهم عند ما اتّخذوا قرار عبادة العجل، والجملة مؤكّدة لتناسب الإصرار على تنكّب الهدى في نفوسهم، والفاء الدالّة على التعقيب تخبر أنّ حالهم لا يحتمل التأجيل، واختيار صفة البارئ من صفات الله تعالى مضافة إلى الضمير الدالّ عليهم، فيها ضرب من التعنيف والتوبيخ وإشارة إلى إحيائهم بعد ذلك البلاء العظيم، ويتبدى عنصر المناسبة كذلك هنا في ذكر التوبة فقد جاءت بصيغة الأمر = {فَتُوبُوا =}
وذكر توبة الله التي عبّر عنها بصيغة المبالغة المسبوقة بضمير الفصل {= إِنَّهُ هُوَ التَّوََّابُ الرَّحِيمُ =}. معاتبات متلاحقة، وتوبيخ مستمر، وتذكير متّصل. ثمّ يمضي الحوار. وفي مقابل {= وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ يََا قَوْمِ =} تأتي {= وَإِذْ قُلْتُمْ يََا مُوسى ََ =}، وفي مقابل قوله {= فَتُوبُوا =} جاء قولهم: {= لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتََّى نَرَى اللََّهَ جَهْرَةً =} ولذلك جاء التعقيب سريعا {= فَأَخَذَتْكُمُ الصََّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ =}، وفيها تكرير للجملة الواردة في مشهد الإنجاء حين أنجاكم {= وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ =} وفي مقابل (حتّى) التي تحدّد الغاية الزمانيّة التي انتهى إليها طلبهم وهي رؤية الله
__________
(1) سورة البقرة، الآية (54).(1/450)
عزّ وجل جاءت الفاء المصاحبة للعذاب السريع {= فَأَخَذَتْكُمُ الصََّاعِقَةُ =} ومرّة أخرى تعطيهم الفرصة، {= ثُمَّ بَعَثْنََاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} {وَظَلَّلْنََا عَلَيْكُمُ الْغَمََامَ وَأَنْزَلْنََا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ََ كُلُوا مِنْ طَيِّبََاتِ مََا رَزَقْنََاكُمْ وَمََا ظَلَمُونََا وَلََكِنْ كََانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} = (1). وحين أصرّوا على العصيان {= فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ =} (2). جاء الإنزال الثاني، وكان الإنزال الأول للمن والسلوى أمّا هنا = {فَأَنْزَلْنََا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمََاءِ بِمََا كََانُوا يَفْسُقُونَ =} (3). إن النص يكشف عن نفوسهم كشفا دقيقا، فهم ظالمون ترى فيهم كثافة الحسّ وماديّة الفكر {= نَرَى اللََّهَ جَهْرَةً =} ويواجه النصّ اليهود الجدد المعاصرين لرسول الله بهذا التجديف الذي صدر من آبائهم ليكشف تعنّتهم القديم الذي يشابه تعنّتهم الجديد مع الرسول الكريم، وطلبهم الخوارق منه. = وكلّ هذه النعم لم تغيّر طبيعتهم الجاسية التي لا تؤمن إلّا بالمحسوس والتي تبقى تجادل وتماحل ولا تستجيب إلّا تحت وقع العذاب والتنكيل = (4). ويركز النص على النفس الإنسانية كثيرا في هذا الموضع، وكيف تتحلّل مقوّماتها، وتضيع فضائلها = استخذاء تحت سوط الجلّاد، وتمرّدا حين يرفع عنها السوط، وتبطّرا حين يتاح لها شيء من النعم = (5).
وفي المشهد التالي بعد قصّة دخول القرية يأتي طلب موسى السقيا لقومه وبعد أن أخرجهم الله على يدي نبيّهم من الذلّ والهوان ليورثهم الأرض المقدّسة
__________
(1) سورة البقرة، الآيات (5755).
(2) سورة البقرة، الآية (58).
(3) سورة البقرة، الآية (58).
(4) في ظلال القرآن، 1/ 72.
(5) نفسه، 1/ 72.(1/451)
فيرفعهم من المهانة والضعة، وفي هذا المشهد نراهم يطلبون العودة إلى العدس والثوم والبصل بعد أن أبدلهم الله به المن والسلوى والرخاء والدعة، ولقد تلقّى موسى طلبهم بالاستنكار {= أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى ََ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ =} (1). ونلاحظ استخدامه كلمة (الذي) مرّتين في هذه الجملة بدلا من الأسماء الصريحة مزيدا في الاستهجان، ولذلك سارع إلى القول: {= اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مََا سَأَلْتُمْ =} (2). و (اهبطوا) تناسب الهبوط من المكانة العلية إلى المكانة الدنيّة. ونلاحظ أنّه لم يطلب من الله ذلك وإنّما أمرهم به مباشرة، إمّا بمعنى أنّ ما يطلبونه هيّن زهيد لا يستحقّ الدعاء فهو موفور في أيّ مصر من الأمصار، وإمّا بمعنى عودوا إذن إلى مصر التي أخرجتم منها، عودوا إلى حياتكم الدارجة المألوفة الخانعة الذليلة حيث تجدون العدس والبصل والثوم، ودعوا الأمور الكبار، ويكون هذا من موسى تأنيبا وتوبيخا ويرجّح هذا ما أعقبه السياق من قوله تعالى:
{= وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبََاؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللََّهِ =} (3). ومعلوم أنّ ضرب الذلّة والمسكنة على بني إسرائيل لم يكن من الناحية التاريخيّة في هذه المرحلة من تاريخهم إنّما كان فيما بعد وقوع ما ذكرته الآية في ختامها {= ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ كََانُوا يَكْفُرُونَ بِآيََاتِ اللََّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ =} (4). وقد وقع هذا فيهم متأخّرا بعد عهد موسى بأجيال، وإنّما عجّل السياق بذكر الذلّة والمسكنة والغضب هنا لمناسبته لموقفهم من طلب العدس والثوم ويمضي السياق ليستعرض مواقفهم ففي الآية {= وَإِذْ أَخَذْنََا مِيثََاقَكُمْ وَرَفَعْنََا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مََا آتَيْنََاكُمْ بِقُوَّةٍ =} (5). نلاحظ التناسق النفسي والتعبيري هنا
__________
(1) سورة البقرة، الآية (61).
(2) سورة البقرة، الآية (61).
(3) سورة البقرة، الآية (61).
(4) سورة البقرة، الآية (61).
(5) سورة البقرة، الآية (63).(1/452)
بين قوّة الصخرة فوق رءوسهم، وقوّة أخذ العهد الذي أمروا بأخذه بقوّة، ولكن هيهات {= ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ =} (1). إنّ خطوط شخصيّة المخاطبين الرئيسية من خلال النص هي نكث العهد، والإفساد والالتواء، ومن ثمّ اعتدوا في السبت على طريقتهم الملتوية، ونلاحظ أن الآيات قد ركزت بشكل واضح على الظلم، وهو نقيض الهدى الذي هو محور القصة كلّها. وفي نهاية هذا المقطع تأتي قصة البقرة، تجيء منفصلة وفي صورة حكاية لا مجرد إشارة كالذي سبق ذلك. انها لم ترد من قبل في السور المكيّة، كما أنّها لم ترد في موضع آخر. وهي ترسم سمة اللجاجة، والتعنّت، والتلكّؤ في الاستجابة، وتمحّل المعاذير التي تتّسم بها بنو اسرائيل، ومن ثمّ كانت هي عنوان هذه السورة.
وفي هذه القصة القصيرة كما يعرضها السياق القرآني مجال للنظر في جوانب شتّى، فهي تظهر جبلّة بني إسرائيل الموروثة. ثم تظهر جانب الأداء الفني في عرض القصة بدءا ونهاية واتساقا مع السياق. وإنّ صيغة الأمر التي خوطبوا بها {= إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً =} (2). كافية للاستجابة ولكن ماذا كان الجواب؟ لقد كان سفاهة وسوء أدب {= قََالُوا أَتَتَّخِذُنََا هُزُواً =} (3). وكان ردّ موسى على هذه السفاهة هو الاستعاذة بالله وأن يردّهم برفق، وعن طريق التعريض والتلميح إلى جادة الأدب {= أَعُوذُ بِاللََّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجََاهِلِينَ =}. ولاحظ حركة (الضمائر) في حديثهم {= قََالُوا ادْعُ لَنََا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنََا مََا هِيَ =} (4).
وكأنّما هو ربه وحده لا ربّهم، وكأنّما المسأله لا تعنيهم. ثمّ سؤالهم = ما هي؟ = مع أنّه أخبرهم إنّها بقرة فالسؤال عن الصفة والماهيّة في هذا المقام يعكس الإنكار والاستهزاء
__________
(1) سورة البقرة، الآية (64).
(2) سورة البقرة، الآية (67).
(3) سورة البقرة، الآية (67).
(4) سورة البقرة، الآية (67).(1/453)
منهم، وبعد أن يبيّن لهم تفاصيل تلك البقرة يعقبه بنصيحة آمرة حازمة {= فَافْعَلُوا مََا تُؤْمَرُونَ =}. ولقد كان في هذا كفاية لمن يريد الكفاية، ولكنهم واصلوا طلب التفصيل فضيّقوا على أنفسهم دائرة الاختيار. وانظر إلى هذا التعبير عن لجاجتهم وتلكّؤهم حين سألوه مرّة أخرى {= إِنَّ الْبَقَرَ تَشََابَهَ عَلَيْنََا وَإِنََّا إِنْ شََاءَ اللََّهُ لَمُهْتَدُونَ =} (1). هنا فقط وبعد أن تعقّد الأمر وتضاعفت الشروط قالوا: {= الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ =} وكأنّما كان من قبل ليس حقّا {= فَذَبَحُوهََا وَمََا كََادُوا يَفْعَلُونَ =} (2). وهذه القولة ستبقى رمزا لكلّ تسويف ونكث والتواء فنفوسهم تحنّ للنكوص والنكث ولمّا كان الغرض من ذبح البقرة هو الاختبار، فقد جاء الطلب والمواصفات ابتداء ولم يكشف لهم الهدف من التكليف إلّا في خاتمه القصة، وهو إحياء القتيل ليكشف عن قاتله. وفي هذا الموضع بالذات يتغيّر السياق من الحكاية إلى الخطاب والمواجهة، فقد كشف الله لقوم موسى عن الحكمة من ذبح البقرة فلم كانت هذه الوسيلة والله قادر على إحياء القتيل بلا وسيلة؟ ثمّ ما مناسبة البقرة المذبوحة مع القتيل المبعوث؟ أنّ ذبح البقرة موت، وإحياء القتيل حياة، لقد أراد الله أن يعلّمهم أنّ بيده الموت والحياة وجاء تأخير هذا الكشف اختبارا لمدى التسليم والاستجابة والطاعة، ولقد تتابع الحوار في عرض القصّة بين موسى وقومه، ولا يذكر السياق تفاصيل ذلك، ولا يقول في الخاتمة إنّ موسى سأل ربّه، ولا إنّ ربّه أجابه، = وهذا السكوت هو اللائق بعظمة الله التي لا يجوز أن تكون في طريق اللجاجة التي يزاولها بنو إسرائيل.
وتنتهي القصّة بمباغتة في الخاتمة. فقد بوغت بنو إسرائيل حين انتفض القتيل حيّا يخبر عن قاتليه، ومع أنّ المشهد الأخير من القصّة كان من شأنه أن يستجيش في قلوبهم الحساسية والخشية إلّا أنّ التعقيب يأتي مخالفا لكلّ ما يتوقّع ويرتقب = (3). = {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ}
__________
(1) سورة البقرة، الآية (70).
(2) سورة البقرة، الآية (71).
(3) في ظلال القرآن، 1/ 103.(1/454)
{مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ فَهِيَ كَالْحِجََارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} = (1). وقد جاء ذكر الحجارة مناسبا لما بينهم وبينها من سابق عهد فقد رأوها تتفجّر ماء، ورأوا الجبل يندكّ حين تجلّى عليه الله، وخرّ موسى صعقا، ومن ثمّ يأتي التهديد {= وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ =} (2). وقد جاء الخطاب هنا مباشرا وكأنّه يقصد اليهود المعاصرين للنبيّ مباشرة. وبهذا يختم هذا السطر من الجولة مع بني إسرائيل.
وينتقل السياق بعد ذلك إلى خطاب الجماعة المسلمة بضمير المخاطب، والحديث عن بني إسرائيل بضمير الغيبة ليشير إلى التحوّل الزمني في الخطاب {= أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كََانَ =} وهذا ينتظم الآيات من (10375)، ومع أنّ السياق قد أخذ في الاتّجاه بالخطاب إلى الجماعة المسلمة يحدّثها عن بني إسرائيل، ويبصّرها بأساليبهم، إلّا أنّه بين آن وآخر يلتفت بالخطاب إلى بني إسرائيل، ليواجههم بما أخذ عليهم من المواثيق. وتتبدّى أسرار الالتفات واضحة في تحويل سياق النصّ من الحكاية إلى الخطاب ما بين المؤمنين واليهود. وهدفه واضح فحين يتحوّل الخطاب إلى المؤمنين يكون هدفه التبصير، وحين يتحوّل إلى اليهود يكون هدفه التذكير والتهديد، ولا ينتهي الحديث عن اليهود عند هذا وإنما يستمر ظهورهم بشدّة أيضا خلال الآيات من (123103) وسيظهرون كذلك بشكل أو بآخر خلال الآيات (152142) وهي آيات تحويل القبلة، ودور اليهود في أحداثها واضح وتنتهي مجموعة الآيات المتخصّصة بالحديث عن بني إسرائيل بالعود إلى تذكيرهم بنعم الله {= يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعََالَمِينَ} {وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلََا يُقْبَلُ مِنْهََا شَفََاعَةٌ وَلََا يُؤْخَذُ مِنْهََا عَدْلٌ وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ =} (3).
__________
(1) سورة البقرة، الآية (74).
(2) سورة البقرة، الآية (85).
(3) سورة البقرة، الآية (123).(1/455)
وليس غريبا أن يتم ختم هذا الفصل من قصة بني إسرائيل بهاتين الآيتين فهما تكرار للآيتين (47) و (48) تماما من سورة البقرة باستثناء التقديم والتأخير بين (عدل وشفاعة) وقد مرّ بنا رؤية المفسّرين لسبب هذا التقديم والتأخير (9)، أمّا التكرار فهو يناسب النفس اللجوج كنفوس بني إسرائيل.
ونلاحظ مما سبق أنّ الخطاب اتّسق مع المخاطبين من حيث التناسب التام بين طبائعهم وأخلاقهم، وبين ألفاظ النص وأساليبه وترتب آياته، وقد سار الخطاب ضمن تتابع موضوعي غاية في الانسجام.
ومن الملاحظات الجديرة بالانتباه هنا أنّ النص حين تحدّث عن المنافقين وصفهم بقوله {= وَإِذََا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قََالُوا آمَنََّا وَإِذََا خَلَوْا إِلى ََ شَيََاطِينِهِمْ قََالُوا إِنََّا مَعَكُمْ إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ =} (1). ويشير عدد من المفسرين إلى أنّ شياطينهم هم اليهود وفي سياق الآيات (10375) التي تجمع بين خطاب الجماعة المسلمة وفضح أساليب اليهود وصف النص اليهود بقوله: {= وَإِذََا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قََالُوا آمَنََّا وَإِذََا خَلََا بَعْضُهُمْ إِلى ََ بَعْضٍ قََالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمََا فَتَحَ اللََّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلََا تَعْقِلُونَ}
= (2). وهذا يؤكّد أنّهم الشياطين في الآية الواردة أعلاه، ويؤكّد أنهم أضافوا إلى خراب الذمّة وكتمان الحق وتحريف الكلم عن مواضعه، الرياء والنفاق والخداع والمراوغة، وإذا كان وصف فعلهم مع البقرة بقوله: {= وَمََا كََادُوا يَفْعَلُونَ =} (3). فإنه في هذا المقطع يصفهم بقوله {= ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلََّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ =} (4). وإذا كان المنافقون قد
__________
(9) انظر الفصل الثاني، المبحث الثاني: مفردة التناص والسياق.
(1) سورة البقرة، الآية (14).
(2) سورة البقرة، الآية (76).
(3) سورة البقرة، الآية (71).
(4) سورة البقرة، الآية (86).(1/456)
اشتروا الضلالة بالهدى فإن هؤلاء {= اشْتَرَوُا الْحَيََاةَ الدُّنْيََا بِالْآخِرَةِ فَلََا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذََابُ وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ =} (1).
إنّ النصّ حين واجه اليهود الجدد في عهد رسول الله بكل هذا الإرث الضخم من الفتنة والإفساد والتلكّؤ في الاستجابة، كان يضعهم في دائرة الأعراف والأخلاق التي يصدرون منها وعنها، وكان ينبئهم بأن سلوكهم اليوم مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ليس غريبا طارئا وإنما هو مجبول في بنائهم النفس والسلوكي، إنّ الدارسين المحدثين في لسانيات الخطاب يشيرون إلى ما يعرف بإثنوجرافيا الكلام، وهو اعتماد تحليل الموقف الكلامي على معرفة العرق والجنس والتاريخ المتّصل بالشخوص المشاركين في عملية الاتصال، وبذا تواجه الجماعة المسلمة عدوّها على بصيرة مهتدية بكلّ التفاصيل التي وفّرها النص.
إنّ سورة البقرة جاءت لتركّز على إعداد الجماعة المسلمة لحمل الأمانة الكبرى أمانة العقيدة وأمانة الخلافة في الأرض، ولذلك فإنّ عمليّة التركيز هذه كانت ذات مسارين: المسار الأوّل يتعهّد الجماعة المسلمة بالدروس مباشرة في أخلاقها وأفعالها وأفكارها، والمسار الثاني يبصّرها بأعدائها المناهضين لها وفي مقدمتهم بنو إسرائيل ومواجهة دسائسهم وكيدهم وحربهم للعقيدة في أصولها، وللجماعة المسلمة في وجودها. كما تركز على التوجيهات الإلهية للجماعة المسلمة لمواجهة الحرب المتعدّدة الأساليب التي يشنها عليها خصومها، وللحذر كذلك من مزالق الطريق التي وقع فيها بنو إسرائيل قبلها، والنصّ من خلال هذين المسارين تتبدى فيه العلائق الخارجية مع السياق، أي مراعاة النّص لمقتضى الأحوال التي نزل بها وهي وجود الجماعة المسلمة في أول عهدها بالمدينة ومراعاة النّص لمجاله التداولي وزمانه، وعلاقات النّص بالشرائع والعادات والأعراف السابقة وهذه العلائق ظهرت ظهورا واضحا من خلال هذا التقسيم الدقيق
__________
(1) سورة البقرة، الآية (71).(1/457)
لفئات الناس ثم الحديث المطول عن المنافقين ثمّ الحديث المطول جدّا عن اليهود ثمّ المراوحة في الخطاب بين الجماعة المسلمة واليهود في زمانهم الغابر، ثمّ في معالجة قضايا آنية كانت مدار جدل في حياة الجماعة المسلمة.
لقد كان النّص يعالج الواقع الحيّ الحاضر من خلال الماضي ثمّ يعود ويرجع بحسب ما يكون مناسبا للواقعة، وليس أدلّ على مقصد التربية والتوجيه من استحضار قصّة إبراهيم من الآية (141124)، ففي القطاعات التي مضت من السورة كان الجدل مع أهل الكتاب دائرا كله حول سيرة بني إسرائيل ومواقفهم من أنبيائهم وشرائعهم ومن مواثيقهم وعهودهم ابتداء من عهد موسى إلى عهد محمد (صلّى الله عليه وسلّم) أكثره عن اليهود وأقلّه عن النصارى، مع إشارته إلى المشركين عن السمات التي يلتقون فيها مع أهل الكتاب، والآن في قصّة إبراهيم يرجع السياق إلى مرحلة تاريخية أسبق من عهد موسى، وقصّة إبراهيم على النحو الذي تساق به في موضعها هذا تؤدي دورها في (السياق الداخلي) كما أشرنا، كما أنها تؤدّي دورا هامّا فيما شجر بين اليهود والجماعة المسلمة في المدينة من نزاع. لقد عرضت سورة البقرة الحديث عن دعاوى اليهود وموقفهم من قضيّة تحويل القبلة والدعايات المسمومة التي أثاروها في الصف الإسلامي. ويجيء الحديث عن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، والحديث عن البيت الحرام وبنائه وعمارته وشعائره في جوّه المناسب لتقرير حقيقة دين إبراهيم عليه السلام وهو التوحيد الخالص.
وقد صوّر القرآن مشهد تنفيذ الأمر والاستجابة من إبراهيم وإسماعيل بحيث يبدو وكأن الأعين تراهما اللحظة وتسمعهما.
فقد بدأ التعبير بصيغة الخبر وكأنه حكاية تحكى: = وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل =، وذلك ليتصل الواقع الغابر بالواقع الماثل والحاضر. ودلالة (إذ) الزمانية تؤدي دورها أيّما أداء. وبينما نحن في انتظار بقية الخبر إذا بالسياق يكشف لنا عنهما، ويرينا إبراهيم وإسماعيل حاضرين واقفين، نكاد نسمع صوتيهما يبتهلان {= رَبَّنََا
تَقَبَّلْ مِنََّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} {رَبَّنََا وَاجْعَلْنََا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنََا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنََا مَنََاسِكَنََا وَتُبْ عَلَيْنََا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوََّابُ الرَّحِيمُ =} (1). ثمّ يمتدّ الدعاء ليربط تلك الواقعة بذلك الحاضر الذي يعالجه النّص {= رَبَّنََا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيََاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ =} (2). وكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل هي بعثة رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل بعد ذلك بقرون طويلة، يتلو عليهم آيات الله، ويعلمهم الكتاب والحكمة. وعند هذا المقطع من قصّة إبراهيم يلتقط السياق دلالته وإيحاءه ليواجه بهما الذين ينازعون الأمّة المسلمة الإمامة، وينازعون الرسول النّبوة والرسالة، فينتقل الخطاب إلى أولئك المخاطبين للرسالة بالقول {= وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرََاهِيمَ إِلََّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ =} (3). وكأن هذا الوصف (من سفه نفسه) يأتي في مقابل وصف السفهاء الذي ذكر في فواتح السورة {= أَنُؤْمِنُ كَمََا آمَنَ السُّفَهََاءُ =}. وقد جاءت الجملة بأسلوب التعريض (الخطاب بالعموم مع مقصد الخصوص) ولكنهم يعلمون أنهم المقصودون بهذا، ولذلك سرعان ما يأتي الخطاب مباشرا لهم {= أَمْ كُنْتُمْ شُهَدََاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ =} (4). فهذا هو ردّ الله على كلّ دعاويهم بالانتساب إلى دين إبراهيم الحق إنّ اسلوب الدعاء وما فيه من رقّة وإخبات، ثمّ الحوار بين الله وإبراهيم {= إِذْ قََالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قََالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعََالَمِينَ =} (5). ثمّ السؤال {= وَمَنْ يَرْغَبُ =}(1/458)
فقد بدأ التعبير بصيغة الخبر وكأنه حكاية تحكى: = وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل =، وذلك ليتصل الواقع الغابر بالواقع الماثل والحاضر. ودلالة (إذ) الزمانية تؤدي دورها أيّما أداء. وبينما نحن في انتظار بقية الخبر إذا بالسياق يكشف لنا عنهما، ويرينا إبراهيم وإسماعيل حاضرين واقفين، نكاد نسمع صوتيهما يبتهلان {= رَبَّنََا
تَقَبَّلْ مِنََّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} {رَبَّنََا وَاجْعَلْنََا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنََا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنََا مَنََاسِكَنََا وَتُبْ عَلَيْنََا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوََّابُ الرَّحِيمُ =} (1). ثمّ يمتدّ الدعاء ليربط تلك الواقعة بذلك الحاضر الذي يعالجه النّص {= رَبَّنََا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيََاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ =} (2). وكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل هي بعثة رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل بعد ذلك بقرون طويلة، يتلو عليهم آيات الله، ويعلمهم الكتاب والحكمة. وعند هذا المقطع من قصّة إبراهيم يلتقط السياق دلالته وإيحاءه ليواجه بهما الذين ينازعون الأمّة المسلمة الإمامة، وينازعون الرسول النّبوة والرسالة، فينتقل الخطاب إلى أولئك المخاطبين للرسالة بالقول {= وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرََاهِيمَ إِلََّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ =} (3). وكأن هذا الوصف (من سفه نفسه) يأتي في مقابل وصف السفهاء الذي ذكر في فواتح السورة {= أَنُؤْمِنُ كَمََا آمَنَ السُّفَهََاءُ =}. وقد جاءت الجملة بأسلوب التعريض (الخطاب بالعموم مع مقصد الخصوص) ولكنهم يعلمون أنهم المقصودون بهذا، ولذلك سرعان ما يأتي الخطاب مباشرا لهم {= أَمْ كُنْتُمْ شُهَدََاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ =} (4). فهذا هو ردّ الله على كلّ دعاويهم بالانتساب إلى دين إبراهيم الحق إنّ اسلوب الدعاء وما فيه من رقّة وإخبات، ثمّ الحوار بين الله وإبراهيم {= إِذْ قََالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قََالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعََالَمِينَ =} (5). ثمّ السؤال {= وَمَنْ يَرْغَبُ =}
ثمّ الاستفهام الاستنكاري {= أَمْ كُنْتُمْ شُهَدََاءَ =} ثمّ ذلك التعقيب بصيغة الخبر {= تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ}
__________
(1) سورة البقرة، الآية (128127).
(2) سورة البقرة، الآية (129).
(3) سورة البقرة، الآية (130).
(4) سورة البقرة، الآية (133).
(5) سورة البقرة، الآية (131).(1/459)
بصيغة الخبر {= تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهََا مََا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مََا كَسَبْتُمْ وَلََا تُسْئَلُونَ عَمََّا كََانُوا يَعْمَلُونَ =} (1). يقول لهم إنّ الانتساب إلى إبراهيم ويعقوب إنما يكون عبر دائرة الكسب والعمل، وليس عن طريق الادعاء والقول. إنّ هذه الأساليب تحمل سمات معالجة النّص لواقعة الماثل. وانظر لاسم الإشارة للبعيد الذي ينبهك إلى الفترة الزمانية والمكانية ما بين المشهدين، والذي يحملك إلى واقع المدينة بعد هذا المشهد الحيّ. وانظر كذلك أسلوب الشرط في قوله: {= فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مََا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمََا هُمْ فِي شِقََاقٍ =} (2). وإن حدث هذا التولي فيأتي الرد الحاسم من الله {= فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللََّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ =} (3)، ومن غير فصل يأتي التعقيب الصريح: {= صِبْغَةَ اللََّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللََّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عََابِدُونَ =} (4). ونقف هنا عند سمة التعبير القرآني ذات الدلالة العميقة. إنّ صدر هذه الآية من كلام الله التقريري {= صِبْغَةَ اللََّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللََّهِ صِبْغَةً =} (5). والاستفهام هنا بمعنى النفي، أي ليس أحسن من الله صبغة، وأما باقيها فهو من كلام المؤمنين يلحقه السياق بلا فاصل بكلام البارئ سبحانه، وكله قرآن منزل، ولكن الشكل الأول حكاية عن قول الله، والشطر الثاني حكاية عن قول المؤمنين وهو تشريف عظيم أن يلحق كلام المؤمنين بكلام الله في سياق واحد بحكم الصلة الوثيقة بينهم وبين ربّهم، وبحكم الاستقامة الواصلة بينه وبينهم {= وَنَحْنُ لَهُ عََابِدُونَ =}.
__________
(1) سورة البقرة، الآية (134).
(2) سورة البقرة، الآية (137).
(3) سورة البقرة، الآية (137).
(4) سورة البقرة، الآية (138).
(5) سورة البقرة، الآية (138).(1/460)
ثمّ يمضي السياق في هذه الأساليب المتلاحقة لكي يمضي بالحجة الدامغة إلى نهايتها الحاسمة: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنََا فِي اللََّهِ وَهُوَ رَبُّنََا وَرَبُّكُمْ وَلَنََا أَعْمََالُنََا وَلَكُمْ أَعْمََالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ =} (1). ثم يضرب السياق عنه وينتقل إلى مجال آخر من مجالات الجدل يظهر أنه هو الآخر غير قابل للّجاجة والمجادلة {= أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْمََاعِيلَ وَإِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبََاطَ كََانُوا هُوداً أَوْ نَصََارى ََ =} (2). ثم تساؤل آخر: {= أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللََّهُ =} (3). وهو سؤال لا جواب عليه، وفيه من الاستنكار ما يقطع الألسنة دون الجواب عليه. ثم سؤال آخر: {= وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهََادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللََّهِ =} (4).
وتأتي الفاصلة بالنفي {= وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ =} (5). تساؤل يعقبه تساؤل لينقل القصة من سياقها التاريخي إلى سياقها الواقعي، وحين يصل السياق إلى هذه القمة من بيان ما بين اليهود المعاصرين من مفارقة تامة في كل اتجاه، عندئذ يعيد الفاصلة التي حتم بها الحديث من قبل عن إبراهيم وذريته المسلمين {= تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهََا مََا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مََا كَسَبْتُمْ وَلََا تُسْئَلُونَ عَمََّا كََانُوا يَعْمَلُونَ =} (6). وفيها فصل الخطاب: لذلك الجدل الدائر في واقع الحال. وهنا ينقل السياق الحديث مباشرة إلى حال الجماعة المسلمة التي تكونت في المدينة المنورة. ويمتد هذا الموضوع من الجزء الثاني للسورة الكريمة.
__________
(1) سورة البقرة، الآية (139).
(2) سورة البقرة، الآية (140).
(3) سورة البقرة، الآية (140).
(4) سورة البقرة، الآية (140).
(5) سورة البقرة، الآية (140).
(6) سورة البقرة، الآية (141).(1/461)
إن هذا الحديث عن الجماعة المسلمة يظهر جانبا آخر من العلائق الخارجية بين النص والسياق. ويبدأ بالحديث عن تحويل القبلة وما رافقها من أحداث، وقد عرضنا لهذا قبلا، ويستغرق هذا الآيات من (152142) مع الإشارة لخط الهدى مرة أخرى في الآية (150) {= وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ =}. وفي مقابل موقف بني إسرائيل من إرث أنبيائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب المتصف بالتنكر وعدم الوفاء والمخالفة يطلب النص من المسلمين أن يذكروا الله ويشكروه وألا يتنكبوا طريق الهدى {= وَاشْكُرُوا لِي وَلََا تَكْفُرُونِ =} (1).
ثم يبدأ مقطع جديد يخاطب هذه الأمة المسلمة بشخصيتها المميزة بعد تقرير مسألة القبلة، وكان أول توجيه هو الاستعانة بالصبر والصلاة على تكاليف الدور العظيم المراد لهذه الأمة الوسط {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلََاةِ إِنَّ اللََّهَ مَعَ الصََّابِرِينَ =} (2). واختيار الصلاة مع الصبر يتكرر كثيرا في القرآن وهو مناسب في هذا السياق نظرا للأهمية البالغة للصلاة في الإعداد للقول الثقيل، (ويبدأ الخطاب بذلك النداء الحبيب {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وينتهي بذلك التشجيع العجيب = (3): {= إِنَّ اللََّهَ مَعَ الصََّابِرِينَ =}
ولأن الجماعة المسلمة في المدينة مقبلة على جهاد شاق لإقرار منهج الله في الأرض يأخذ النص بتعبئتها تعبئة روحية، وفي تقويم تصورها لما يجري في أثناء الجهاد من جذب ودفع {= وَلََا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتٌ بَلْ أَحْيََاءٌ وَلََكِنْ لََا تَشْعُرُونَ =} (4). ثم يمضي السياق في التعبئة لمواجهة الأحداث وفي تقرير التصور لحقيقة الأحداث: {= وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ}
__________
(1) سورة البقرة، الآية (152).
(2) سورة البقرة، الآية (153).
(3) في ظلال القرآن، 1/ 142.
(4) سورة البقرة، الآية (154).(1/462)
{مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوََالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرََاتِ وَبَشِّرِ الصََّابِرِينَ} {الَّذِينَ إِذََا أَصََابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قََالُوا إِنََّا لِلََّهِ وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ =} (1). فبعد الجهاد والموت في سبيل الله يأتي الحديث عن ضرب آخر من الجهاد وهو البلاء. وفي كل هذا تكون القاعدة كلها الصبر {= وَبَشِّرِ الصََّابِرِينَ =}. والالتجاء لله {= إِنََّا لِلََّهِ =} كلنا كل ما فينا، كل كياننا وذاتنا لله، إليه المصير والتسليم المطلق = (2). هؤلاء هم الصابرون، وهؤلاء هم الذين يصفهم النص وبصورة وضيئة {= أُولََئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوََاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ =} (3).
وهذا المقطع بدأ بالحديث عن الصبر والصلاة في خطاب عام، ثم حين شرع في الحديث عن متطلبات الجهاد والبلاء ذكر الصبر أيضا. ثم ختم بالجزاء ونلاحظ استخدامه لاسم الإشارة للبعيد = أولئك = مع ضمير الغائب = عليهم = إشارة لعلو المنزلة وتميزها. ويختم المقطع أيضا بخط الهدى، بعد أن كان الهدى رجاء في الآية (150) {= وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ =}، تحول إلى حقيقة واقعة بعد تمثل صفتي الصبر والجهاد {= أُولََئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ =}. وبعد أن استعانوا بالصلاة، ها هي صلوات الله تهبط عليهم {= عَلَيْهِمْ صَلَوََاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ =} فيتناسب المطلع والختام في هذا المقطع.
وبعد هذا المقطع يأتي درس طويل في تصحيح عدد من القواعد التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح، مع الاستمرار في مواجهة يهود المدينة الذين لا يكفون عن تلبيس الحق بالباطل في هذه القواعد، وكتمان الحق الذي يعلمونه في شأنها وإيقاع البلبلة والاضطراب فيها، ولكن السياق يتخذ في هذا الدرس أسلوب التعميم وعرض القواعد العامة التي تشمل اليهود وغيرهم ممن يرصدون للدعوة، كما يحذر المسلمين من المزالق التي تترصدهم في طريقهم بصفة عامة. ومن ثم نجد بيانا في موضوع الطواف بالصفا
__________
(1) سورة البقرة، الآية (157).
(2) في ظلال القرآن، 1/ 145.
(3) سورة البقرة، الآية (157).(1/463)
والمروة بسبب ما كان يلابس هذا الموضوع من تقاليد الجاهلية، وهو بيان يتصل كذلك بمسألة الاتجاه إلى المسجد الحرام في الصلاة، وإقرار شعائر الحج إلى هذا البيت، لذلك يليه في السياق بيان في شأن أهل الكتاب، وحملة عنيفة عليهم مع فتح التوبة لمن يريد أن يتوب، ثم بيان لوحدانية الله وبمناسبة ما كان يجادل فيه اليهود من الحلال والحرام في المطاعم والمشارب مما نزل به القرآن، وبيانه عندهم فيما يكتمونه من التوراة تجئ دعوة إلى الناس كافة للاستمتاع بالطيبات التي أحلها الله.
ويهمّنا هنا رسم الصورة التي خاطب فيها السياق الجماعة المسلمة في هذا المقطع. وأولى ملامح هذه الصورة هي المراوحة في الموضوع بين المسائل المتعلقة بالجماعة المسلمة خاصة، وبين تلك الأمور التي يشترك فيها جميع أصحاب الديانات السماوية، ثم الحديث إلى الكفار حديثا مباشرا. ويأخذ الخطاب شكل العموم أو الخبر حين يتعلق بأصحاب الديانات جميعا من قبل. {= إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمََا يَنْفَعُ النََّاسَ وَمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ مََاءٍ فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا وَبَثَّ فِيهََا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيََاحِ وَالسَّحََابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ =} (1). ومثل {= يََا أَيُّهَا النََّاسُ كُلُوا مِمََّا فِي الْأَرْضِ حَلََالًا طَيِّباً وَلََا تَتَّبِعُوا خُطُوََاتِ الشَّيْطََانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ =} (2).
وحين يتوجه الخطاب إلى الكفار في هذا المقطع فإنه يوجهه بضمير الغائب، أو بخطاب المبني للمجهول مثل {= وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللََّهِ أَنْدََاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللََّهِ =} (3).
ومن مثل {= وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَيُشْهِدُ اللََّهَ عَلى ََ مََا فِي قَلْبِهِ}
__________
(1) سورة البقرة، الآية (164).
(2) سورة البقرة، الآية (168).
(3) سورة البقرة، الآية (165).(1/464)
{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصََامِ =} (1). ومثل {= وَإِذََا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ قََالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مََا أَلْفَيْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا أَوَلَوْ كََانَ آبََاؤُهُمْ لََا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلََا يَهْتَدُونَ =} (2). ومرة أخرى نجد الهدى ماثلا هنا، يشكل الخط الفاصل بين منهجين، ونجد في هذا المقطع خصائص أسلوبية أخرى. ومنها الإكثار من أدوات التوكيد خاصة في سياق الحديث عن الظلم والكفر، ومنه {= وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذََابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلََّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللََّهَ شَدِيدُ الْعَذََابِ =} (3).
ثم اللجوء إلى الانتقال الزماني حيث الحديث عن الآخرة، مع استخدام = إذ = وكأنها أداة الانتقال عبر الزمن، وتنقل هنا حوارا غريبا عجيبا، شخوصه ما زالوا ماثلين في واقع الخطاب، ولكن ما ينقله الحوار عالم مغيب ومشاهد لم تحدث {= إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذََابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبََابُ} {وَقََالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنََا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمََا تَبَرَّؤُا مِنََّا كَذََلِكَ يُرِيهِمُ اللََّهُ أَعْمََالَهُمْ حَسَرََاتٍ عَلَيْهِمْ وَمََا هُمْ بِخََارِجِينَ مِنَ النََّارِ =} (4).
والنقلة الزمانية لها دلالاتها في هذا السياق. فإن الواقع يظهر اعتداد خصوم الرسالة من المشركين والمنافقين بأنفسهم وباعتمادهم على الشياطين اليهود = إنا معكم =.
فيعالج الخطاب هذا الواقع بهذا الحوار الحي ليزرع في ضميرهم أن أي حلف يناكف الرسالة الإسلامية مآله إلى هذه البراءة المزدوجة بين التابعين والمتبوعين، ومن ثم يظهر حسرتهم في
__________
(1) سورة البقرة، الآية (204).
(2) سورة البقرة، الآية (17).
(3) سورة البقرة، الآية (165).
(4) سورة البقرة، الآيتان، (166165).(1/465)
ذلك اليوم ذي العذاب العظيم بعدة ألوان أسلوبية وذلك أدعى لزيادة ألم الحسرة الأسلوب الأول هو التمني باستخدام الأداة (لو) {= لَوْ أَنَّ لَنََا كَرَّةً =} وما فيها من ندم وحسرة وألم. والأسلوب الثاني، أسلوب التصريح المباشر بلفظ الحسرة {= كَذََلِكَ يُرِيهِمُ اللََّهُ أَعْمََالَهُمْ حَسَرََاتٍ عَلَيْهِمْ =}. وعبر فعل (يري) تتحول الأعمال التي عملوها إلى حسرة، وتصب هذه الحسرة عليهم فيزدادون وجعا وألما. إن النص يعالج صلفهم وغرورهم بنقل مشهد الحسرة نقلا مباشرا عن طريق ذلك الحوار الحي، ويريهم بأعينهم ذلك المآل المصير، ثم فوق هذا تأتي الجملة الخبرية {(وَمََا هُمْ بِخََارِجِينَ مِنَ النََّارِ)}، وسبقت الإشارة إلى دلالة (ما) النافية مع الباء المزيدة من توكيد النفي وتضخيمه، ليضع في روعهم أنّ فكرة الخروج ليست واردة أبدا، وضمير الفصل الدال على الغائب في قوله (هم) له دلالته كما هو الحال في (أعمالهم) و (عليهم)، مع أنّ الحوار ابتدأ مباشرا حيّا، وتعرض سور أخرى تفاصيل هذا الحوار.
وحين يجابههم الخطاب بالدعوة إلى الإيمان يضربون عن هذه الدعوة بالاتّكاء على مقولة لا تثبت أمام دعوى العقل: {= وَإِذََا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ قََالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مََا أَلْفَيْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا أَوَلَوْ كََانَ آبََاؤُهُمْ لََا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلََا يَهْتَدُونَ =} (1).
وسواء كان هؤلاء الذين تعنيهم الآية هم المشركون الذين تكرر منهم هذا القول كلما دعوا إلى الإسلام وإلى تلقي شرائعهم وشعائرهم منه، أو كانوا اليهود الذين يصرون على ما عندهم من مأثور آبائهم، فالآية تندد بتلقي شيء في أمر العقيدة من غير الله، وتندد بالتقليد في هذا الشأن والنقل بلا تعقل ولا إدراك، ولذلك يأتي الاستنكار سريعا {= أَوَلَوْ كََانَ آبََاؤُهُمْ لََا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلََا يَهْتَدُونَ =}. ومن ثم يرسم لهم صورة زرية تليق بهذا التقليد وهذا الجمود، صورة البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا صاح بها راعيها
__________
(1) سورة البقرة الآية (170).(1/466)
سمعت مجرد صوت لا تفقه ماذا يعني، بل هم أضل من البهيمة، فالبهيمة ترى وتسمع وتصيح وهم صم بكم عمي: {= وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمََا لََا يَسْمَعُ إِلََّا دُعََاءً وَنِدََاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لََا يَعْقِلُونَ =} (1). وينص الوصف التشبيهي ضمن الإطار العام للسياق ليأخذ دلالته المناسبة كما يشير (بلاك) (2). وهذا الوصف يرجعنا إلى الآية السابقة في السورة إلى صورة الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى بصرهم غشاوة، صم بكم عمي ولو كانت لهم آذان وألسنة وعيون ما داموا لا ينتفعون بها ولا يهتدون.
وحين كان الخطاب يتوجّه إلى المؤمنين خاصة، أو يصفهم نجد خصائصهم تتجلى في الصيغ اللغوية للنص، كما في اسم التفضيل الوارد في الآية (165) {= وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلََّهِ =} وهو تعبير جميل يعكس تلك الصلة الوشيجة بين المؤمنين وربهم، وحين خاطب الله الناس جميعا يدعوهم إلى التمتع بالطيبات قال: {= يََا أَيُّهَا النََّاسُ كُلُوا مِمََّا فِي الْأَرْضِ حَلََالًا طَيِّباً وَلََا تَتَّبِعُوا خُطُوََاتِ الشَّيْطََانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ =} (3). وحين خاطب المؤمنين خاصة قال: {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبََاتِ مََا رَزَقْنََاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلََّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ =} (4). ففرق ما بين {(مِمََّا فِي الْأَرْضِ حَلََالًا طَيِّباً)} وبين {(مِنْ طَيِّبََاتِ مََا رَزَقْنََاكُمْ)}. فكأنما هما دائرتان للاختيار وليست دائرة واحدة، الأولى تشمل جميع الحلال الطيب في الأرض، والثانية من طيبات هذا الحلال الطيب، والخطاب في الأولى ي {(يََا أَيُّهَا النََّاسُ)}، وفي الثانية بالنداء الحبيب الجميل {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا =} واقترن الأكل في الأولى بالنهي عن اتباع خطوات الشيطان، واقترن في الثانية بالشكر، ثم بعد
__________
(1) سورة البقرة، الآية (171).
(2) صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، ص 219.
(3) سورة البقرة الآية (168).
(4) سورة البقرة، الآية (172).(1/467)
ذلك يبين لهم المحرمات من المآكل نصا وتحديدا باستعمال أداة القصر (إنما). {= إِنَّمََا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمََا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللََّهِ =} (1). ونلاحظ أن الضمير جاء مباشرا (عليكم) بعكس الخطاب مع غيرهم (حسرات عليهم). ويرتبط الحديث عن الحلال والحرام بما سبقه وما لحقه فقبله يأتي الحديث عن العبادة وخلوصها لله عز وجل {= إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ =}، وبعد آية التحريم تأتي الحديث عن اليهود وكتمانهم بعض ما أنزل الله في الكتاب، والعلاقة هي أن التحليل والتحريم له علاقة بالعقيدة والعبادة، فالطيب ما رآه الشرع طيبا والخبيث ما رآه خبيثا، ومن ثم فإذا اضطر العبد لشيء من ذلك الخبيث أو الممنوع يأتي فاصلة الآية مناسبة {= إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ =}. ولقد جادل اليهود جدالا كثيرا حول ما أحله القرآن وما حرمه، فقد كانت هناك محرمات على اليهود خاصة وردت في سورة أخرى (2)، فيما كانت هذه مباحة للمسلمين، ولعلهم جادلوا في هذا الحل ومن ثم نجد حملة قوية على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب {= إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ الْكِتََابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولََئِكَ مََا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النََّارَ، =}. (3). وتنسيقا للمشهد في السياق فقد أطعمهم في بطونهم نارا، وكأنما هذا الذي يأكلونه من ثمن الكتمان والبهتان نار في بطونهم وتعبير آخر موح {= أُولََئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلََالَةَ بِالْهُدى ََ وَالْعَذََابَ بِالْمَغْفِرَةِ =} (4)، وهي الصفقة ذاتها التي مضت قبلا، صفقة الهدى والضلالة التي تمايز بين أصناف المخاطبين في هذه السورة. وأخيرا وفي
__________
(1) سورة البقرة، الآية (173).
(2) الآية هي: {= وَعَلَى الَّذِينَ هََادُوا حَرَّمْنََا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنََا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمََا إِلََّا مََا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمََا أَوِ الْحَوََايََا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ =} سورة (الأنعام)، الآية (146).
(3) سورة البقرة، الآية (174).
(4) سورة البقرة، الآية (175).(1/468)
آية واحدة يضع قواعد التصور الإيماني الصحيح وقواعد السلوك الصحيح: {= لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلََكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلََائِكَةِ وَالْكِتََابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمََالَ عَلى ََ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى ََ وَالْيَتََامى ََ وَالْمَسََاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسََّائِلِينَ وَفِي الرِّقََابِ وَأَقََامَ الصَّلََاةَ وَآتَى الزَّكََاةَ =} (1).
والراجح أن هناك صلة بين هذا البيان وبين تحويل القبلة، وما ثار حوله من جدل طويل وهكذا تجمع آية واحدة بين أصول الاعتقاد وتكاليف النفس والمال، وتجعلها كلا لا يتجزأ، ووحدة لا تنقصم، وتضع على هذا كله عنوانا واحدا هو البر أو جماع الخير.
ويبرز السياق صورة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس، يبرزها بإعطاء كلمة (الصابرين) وصفا في العبارة يدل على الاختصاص، فما قبلها من الصفات مرفوع أما هي فمنصوبة على الاختصاص بتقدير: (وأخص الصابرين) وهي لفتة خاصة لها وزنها في معرض صفات البر.
أما المقطع التالي ويمتد من الآية (242178) فيتخصص بذكر التنظيمات الاجتماعية للمجتمع المسلم الذي كان ينشأ في المدينة نشأته الأولى، وجانبا من العبادات المفروضة، وكلها مشدودة بخط الهدى وخط التقوى، عقب آية البر التي استوعبت قواعد التصور الإيماني كله. وفي هذا الدرس حديث عن القصاص في القتلى وتشريعاته ويبدأ بالنداء الحبيب {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا =}، وتكثر فيه ضمائر المخاطب (كتب)، (من ربكم) (ولكم). وفي التعقيب على القصاص ترد إشارة إلى التقوى {= وَلَكُمْ فِي الْقِصََاصِ حَيََاةٌ يََا أُولِي الْأَلْبََابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ =} (2). ثم الحديث عن الوصية وفيها إشارة إلى التقوى {= كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذََا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ}
__________
(1) سورة البقرة، الآية (177).
(2) سورة البقرة، الآية (179).(1/469)
{لِلْوََالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى =} (1). وفي التعقيب على الصيام ترد الإشارة إلى التقوى {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيََامُ كَمََا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ =} (2). ثم ترد الإشارة نفسها بعد الحديث عن الاعتكاف في نهاية الحديث عن أحكام الصوم: {= تِلْكَ حُدُودُ اللََّهِ فَلََا تَقْرَبُوهََا كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ آيََاتِهِ لِلنََّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ =} (3). ولا تبعد التعقيبات الباقية في الدرس عن معنى التقوى واستجاشة الضابط الداخلي في القلوب فتجيء هذه التعقيبات {= وَلِتُكَبِّرُوا اللََّهَ عَلى ََ مََا هَدََاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ =} (4).
وإذن فخطاب الجماعة المسلمة يتسم بالخطاب المباشر (ضمائر المخاطب)، وتتسم بالنداء الحبيب الحاني {(يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)}، مع تكراره كثيرا عند كل تكليف، وتتسم بالحديث عن التقوى وهو الضابط الداخلي لمعايير السلوك. وأما تسلسل الحديث عن هذه التكاليف، فهو يدل على اتساق الخطاب وانسجامه، ويبدأ بدائرة العبادات كالحج والعمرة والصيام، ويمر بدائرة الأحكام الفردية كالوصية، ثم ينتقل السياق إلى الحديث عن القتال. كما يلجأ النص بين الفينة والأخرى إلى عقد المقارنات بين الصورة الدنيوية الهابطة والصورة الوضيئة. ففي آيات الحج مثلا، حيث يوجد فريق من الناس همه الدنيا فهو حريص عليها مشغول بها، وقد كان فريق من الأعراب يجيئون إلى الموقف الحج فيقولون: = اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن = (5). لا يذكرون من
__________
(1) سورة البقرة، الآية (180).
(2) سورة البقرة، الآية (183).
(3) سورة البقرة، الآية (187).
(4) سورة البقرة، الآية (186).
(5) تفسير ابن كثير، 1/ 134.(1/470)
أمر الآخرة شيئا، ووصفهم القرآن بقوله {= فَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ: = رَبَّنََا آتِنََا فِي الدُّنْيََا وَمََا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلََاقٍ =} (1)، وفريق آخر أفسح أفقا وأكبر نفسا لأنه موصول بالله، يريد الحسنة في الدنيا ولكن قلبه معلق بالآخرة فهو يقول: {= رَبَّنََا آتِنََا فِي الدُّنْيََا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنََا عَذََابَ النََّارِ =} (2).
وبعد هذه التوجيهات المتلاحقة التي تمتد إلى الآية (242)، والتي تشمل دائرة النفس والحياة والمجتمع، ونظام العلاقات الاجتماعية والسياسية والدولية يعرض النص تجربتين من تجارب الأمم يضمهما إلى ذخيرة هذه الأمة من التجارب، ويعدها لما هي مقبلة عليه من دور عظيم، الأولى تجربة لا يذكر القرآن أصحابها، ويعرضها في اختصار كامل ولكنه واف، فهي تجربة جماعة = خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت = فلم ينفعهم الخروج والفرار والحذر وأدركهم قدر الله الذي خرجوا حذرا منه، وفي ظل هذه التجربة يتجه إلى الذين أمنوا يحرضهم على القتال وعلى الإنفاق في سبيل الله واهب الحياة وواهب المال، والثانية تجربة في حياة بني إسرائيل من بعد موسى بعد ما ضاع ملكهم ونهبت مقدساتهم بعث الله لهم ملكا يقاتل في سبيل الله. والعبرة الكلية التي تبرز من هذه القصة هي = أن انتفاضة العقيدة بقيت حية على الرغم من كل ما اعتورها في التجربة الواقعة من نقص وضعف، وأنّ ثبات حفنة قليلة من المؤمنين حقق لبني إسرائيل نتائج ضخمة جدا، وهو إشارة لرسول الله أن يخوض بالجماعة المسلمة محل التجربة، وأنّه مهما بدت الحماسة الجماعية كبيرة فإنها قد تكون خادعة = (3). ولذلك بدأ الخطاب مباشرا للقائد
__________
(1) سورة البقرة، الآية (200).
(2) سورة البقرة، الآية (201).
(3) في ظلال القرآن، 1/ 154.(1/471)
{= أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيََارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ =} (1). ثم قبل قصة طالوت وجالوت {= أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ََ إِذْ قََالُوا =} (2).
ومن ثم يأت أيضا ذلك التعقيب {= وَلَوْلََا دَفْعُ اللََّهِ النََّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلََكِنَّ اللََّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعََالَمِينَ =} (3). يزود الله نبيه بتجارب البشرية ويورثه ميراث المرسلين. لتقوم أمّته بدورها في استئناف الرسالة وبهذا المقطع ينتهي الجزء الثاني من القرآن الكريم.
ولكن إعداد الجماعة المسلمة يمتد إلى الجزء الثالث حديثا ملتحما بما قبله عن الرسل. فبعد {= وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ =} تأتي {= تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنََا بَعْضَهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ مِنْهُمْ =} (4). وعبر عن الواقع الماثل بضمير المخاطب (وإنك) وعبر عن الماضي الغابر ب (تلك الرسل) وهو اسم إشارة للبعيد. والمناسبة واضحة ومن جانب آخر فمعظم الجدل في السياق كان بين الجماعة المسلمة الناشئة في المدينة وبين بني إسرائيل، ومن ثم يجيء الحديث هنا عن اختلاف أتباع الرسل من بعدهم واقتتالهم.
وبعد ذلك يعود الخطاب للمؤمنين ليقرر الارتباطات التي يقوم عليها المجتمع المسلم {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمََّا رَزَقْنََاكُمْ =} (5). وتأتي آية الكرسي لتوضح قواعد التصور الإسلامي الصحيح الذي يقوم عليه وجود الجماعة المسلمة، ثم آية خاصة لتنظيم
__________
(1) سورة البقرة، الآية (243).
(2) سورة البقرة، الآية (246).
(3) سورة البقرة، الآيتان (252251).
(4) سورة البقرة، الآية (253).
(5) سورة البقرة، الآية (254).(1/472)
العلاقات مع الغير {= لََا إِكْرََاهَ فِي الدِّينِ =} (1)، ولتمايز بين فريقين لا ثالث ولا رابع لهما، وهو مناسب في مقابل التصنيف الذي بدأت به السورة، فمهما اختلفوا في التصنيف فمردهم إلى هذا التصنيف الثنائي فقط {= اللََّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيََاؤُهُمُ الطََّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمََاتِ أُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ =} (2). وفي تركيب هذه الآية اتساق عجيب: {(اللََّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ)}، فبدأت بالله فهو الولي، والمؤمنون هم محل هذه الولاية، وهو ولي مفرد واحد. ثم حرف الجر (من) فهي نقلة من الظلمات إلى النور، وأما في المقطع الثاني: {(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيََاؤُهُمُ الطََّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمََاتِ)} فبدأ بالكفار وليس بالأولياء، لأنهم هم من طلب هذه الولاية وسعى لها، ثم إن الولي هنا جمع (أولياء) لأن سبل الشياطين عديدة وأهواءهم متفرقة، وأما في النقلة فهي من النور إلى الظلمات، وفي مقابل (الله) تأتي (الطاغوت) وتؤدي هذه المتطابقات دورها الواضح في التمييز الجلي بن هذين الصنفين من الناس.
وفي الآيات الكريمة من (274261) يتعرض السياق لقواعد النظام الاقتصادي والاجتماعي التي يريد الإسلام أن يقوم عليها المجتمع المسلم، وأن تنظم بها حياة الجماعة المسلمة. إنه نظام التكافل والتعاون والزكاة والبذل والإنفاق {= مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنََابِلَ =} (3).
و__________
(1) سورة البقرة، الآية (256).
(2) سورة البقرة، الآية (257).
(3) سورة البقرة، الآية (261).(1/473)
{= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبََاتِ مََا كَسَبْتُمْ =} (1). و {= لِلْفُقَرََاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا =} (2).
ومع أن التوجيهات التي وردت في هذا الدرس القرآني تعد دستورا دائما غير مقيد بزمن ولا بملابسات معينة، إلا أنه لا يفوتنا أن نلمح من ورائه أنه جاء تلبية لحالات واقعة كانت النصوص تواجهها في الجماعة المسلمة يومذاك. كان هناك من يضن بالمال فلا يعطيه إلا بالربا، وكان هناك من يقدم الرديء من ماله ويحتجز الجيد، وكل هؤلاء إلى جانب المنفقين في سبيل الله مخلصين له، الذين يجودون بخير أموالهم وينفقون سرا وعلانية.
{= الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ سِرًّا وَعَلََانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ =} (3). ثم يعرض المقطع التالي الوجه الآخر المقابل للصدقة، وهو الربا، عرضه السياق مباشرة بعد عرض الوجه الطيب الذي يشمل الإنفاق لكل الأموال بكل أنواعها، وفي كل الحالات وفي كل الأوقات = {بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ =} و {= سِرًّا وَعَلََانِيَةً =} وفي مثال الحبة التي أنبتت سبع سنابل، {= فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ}
{يَمْحَقُ اللََّهُ الرِّبََا وَيُرْبِي الصَّدَقََاتِ =}. ويأتي هذا التوجيه مقترنا بالتقوى أيضا = {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَذَرُوا مََا بَقِيَ مِنَ الرِّبََا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ =} (4). فالتقوى هي الحارس القابع في أعماق الضمير، ومن العجب أن يناديهم بصفة الإيمان = {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا =} ثم يشترط ترك الربا بشرط الإيمان = {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} = وكأنما الربا ينسف هذا الإيمان نسفا، وحين يذر المسلم الربا ويكتفي بالبيع الحلال فإنما يقدم دليلا جديدا على التقوى المرتبطة
__________
(1) سورة البقرة، الآية (266).
(2) سورة البقرة، الآية (273).
(3) سورة البقرة، الآية (274).
(4) سورة البقرة، الآية (278).(1/474)
بمعادلة الهدى {= ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ =}، فالإيمان سبيل للتقوى، والتقوى مرهونة باستقامة السلوك في جوانب عديدة ومنها هذا الجانب الاقتصادي في الحياة.
وفي المقطع الأخير يواجه النص المؤمنين لتوثيق الدين وكتابته، ويربط ذلك بالتقوى، {= يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا تَدََايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كََاتِبٌ} {وَلْيَتَّقِ اللََّهَ رَبَّهُ =} (1). وحين تتعسر الكتابة لسفر أو لعدم وجود كاتب، فرهان مقبوضة، أو والضامن الضابط أيضا في هذه الحالة هو التقوى مرة أخرى: {= وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى ََ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كََاتِباً فَرِهََانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمََانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللََّهَ رَبَّهُ =} (2). والتكرار ضروري هنا، وهو يعالج حالات مختلفة وكأنما هذا الضابط (التقوى) يحمل أزرار عديدة كل زر يستدعي لمواجهة حالة معينة ليشمل بذلك سلوكات الحياة وأحوالها جميعا ومن ثم يأتي ختام مقطع الربا حديثا عن الحياة كلها، وأنها كلها، لله وأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. {= لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مََا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحََاسِبْكُمْ بِهِ اللََّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشََاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشََاءُ وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ =} (3).
وبعد ذلك يأتي ختام السورة الكبيرة في آيتين اثنتين ولكنهما تمثلان بذاتهما تلخيصا وافيا لأعظم قطاعات السورة يأتي الختام متناسقا مع موضوعات السورة وجوها وأهدافها. لقد بدأت السورة بقوله تعالى: {= الم ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ، هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}
__________
(1) سورة البقرة، الآية (282).
(2) سورة البقرة، الآية (283).
(3) سورة البقرة، الآية (284).(1/475)
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ =} وورد في ثناياها إشارات إلى هذه الحقيقة، وبخاصة حقيقة الإيمان بالرسل جميعا وها هي ذي تختم بقوله {= آمَنَ الرَّسُولُ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللََّهِ وَمَلََائِكَتِهِ =}. وكأنما هي تفصل هنا كلمة الغيب الواردة في الافتتاح {= يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ =} = وهو ختام يتناسق مع البدء كأنما دفتا كتاب = (1)، وقد حوت السورة الكثير من التكاليف للأمة المسلمة وتشريعاتها في شتى شئون الحياة، كما ورد فيها الكثير عن نكول بني إسرائيل عن تكاليفهم وتشريعاتهم، وفي ختامها يجيء هذا النص المفصح عن الحد الفاصل بين النهوض بالتكاليف والنكول عنها، المبين أن الله لا يريد إعنات الأمة ولا أثقالها، وأنه كذلك لا يحابيها كما زعمت يهود عن ربها، {= لََا يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا لَهََا مََا كَسَبَتْ وَعَلَيْهََا مَا اكْتَسَبَتْ =} (2). وقد تضمنت السورة بعض قصص بني إسرائيل، وما أنعم الله عليهم به من فضل وما قابلوا به هذا الفضل من جحود، وفي ختامها يرد ذلك الدعاء الخاشع من المؤمنين: {= رَبَّنََا لََا تُؤََاخِذْنََا إِنْ نَسِينََا أَوْ أَخْطَأْنََا رَبَّنََا وَلََا تَحْمِلْ عَلَيْنََا إِصْراً كَمََا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنََا رَبَّنََا وَلََا تُحَمِّلْنََا مََا لََا طََاقَةَ لَنََا بِهِ وَاعْفُ عَنََّا وَاغْفِرْ لَنََا وَارْحَمْنََا =} (3).
وقد فرض الله في هذه السورة القتال، وأمر بالجهاد والإنفاق في سبيل الله لدفع الكفر والكافرين، وهي تختم بالتجاء المؤمنين إلى ربهم يستمدون منه العون على ما كلفهم، والنصر على عدوهم {= أَنْتَ مَوْلََانََا فَانْصُرْنََا عَلَى الْقَوْمِ الْكََافِرِينَ =} (4).
إنه الختام الذي يلخص ويشير ويتناسق مع خط السورة الأصيل. خط العقيدة، وحال المؤمنين مع ربهم في كل حين.
__________
(1) في ظلال القرآن، 1/ 339.
(2) سورة البقرة، الآية (286).
(3) سورة البقرة، الآية (286).
(4) سورة البقرة، الآية (286).(1/476)
خاتمة
إنّ الوظيفة الاجتماعية التي يؤدّيها الكلام عبر أنظمة اللّغة لا يمكن دراستها بمعزل عن السياق الذي حصل فيه فعل الكلام، وهو ما عبّر عنه البلاغيّون بقولهم: = لكلّ مقام مقال =. كما إن دراسة التشكيل الكلامي ومكوّناته من الداخل ستوصلنا إلى تفسير التناقض أو الاختلاف أو الاختيار الذي سلكه النظام اللغوي في تشكيله للكلام من أجل إيصال المعنى أو الدلالة، وهو ما عبّر عنه البلاغيّون أيضا بقولهم: = لكلّ كلمة مع صاحبتها مقام = فالمقامات الاجتماعية المختلفة ترتبط بتغييرات يتمّ فيها التضام بين الكلمات بصور مختلفة.
ويعرّف النصّ بأنّه = كلّ كلام متّصل ذو وحدة جلية تنطوي على بداية ونهاية وتتسم بالتماسك والترابط، ويتسق مع سياق ثقافي عام أنتج فيه، وينسجم مع سياق خاص أو مقام، يتعلق بالعلاقات القائمة بين القارئ والواقع من خلال اللغة. وبين بداية النص وخاتمته مراحل من النمو القائم على التفاعل الداخلي =. وتوافر العناصر السابقة وتفاعلها يؤدي بالنص إلى إحداث وظيفته التي تتمثل في خلق التواصل بين منتج النص ومتلقيه =. ويستخدم مصطلح الخطاب للدلالة على كل كلام متصل اتصالا يمكنه من أن ينقل الرسالة الكلامية من المتكلم أو الكاتب، والخطاب كالنص غير أن ليس كل خطاب نصا، وإن كان كل نص بالضرورة يشكل خطابا، فالكلام المتصل خطاب، ولكنه لا يكون نصا إلّا إذا اكتمل ببداية ونهاية، وعبّر عن موضوعه ببناء متماسك متناسق منسجم.
ويفسر السياق في رأي الدارسين الكثير من العمليات المصاحبة لأداء اللغة في وظيفتها التواصلية، لدى كل من منتج الكلام والمتلقي، وهو ركن أساس في فهم الرسالة اللغوية. والسياق بنوعيه: السياق اللغوي والسياق الحالي، يتّصل اتصالا مباشرا بعملية الإبلاغ (توصيل الرسالة). فالأول منهما هو الذي يعطي الكلمة أو العبارة معناها الخاص في الحديث أو النص، وينفي عنها المعاني الأخرى التي يمكن أن تؤديها في حديث أو نص
آخر، بينما يزيل سياق الحال أو المقام اللبس عن الجمل والنصوص. والسياق بهذا المفهوم يتعدى ما هو معروف من أنه تتابع للأصوات والألفاظ، ليشمل فضلا عن ذلك الجو البيئي والنفسي المحيط بكل من المتكلم والسامع، وهو يشمل أيضا الجو العام المحيط بالنص اللغوي.(1/477)
ويفسر السياق في رأي الدارسين الكثير من العمليات المصاحبة لأداء اللغة في وظيفتها التواصلية، لدى كل من منتج الكلام والمتلقي، وهو ركن أساس في فهم الرسالة اللغوية. والسياق بنوعيه: السياق اللغوي والسياق الحالي، يتّصل اتصالا مباشرا بعملية الإبلاغ (توصيل الرسالة). فالأول منهما هو الذي يعطي الكلمة أو العبارة معناها الخاص في الحديث أو النص، وينفي عنها المعاني الأخرى التي يمكن أن تؤديها في حديث أو نص
آخر، بينما يزيل سياق الحال أو المقام اللبس عن الجمل والنصوص. والسياق بهذا المفهوم يتعدى ما هو معروف من أنه تتابع للأصوات والألفاظ، ليشمل فضلا عن ذلك الجو البيئي والنفسي المحيط بكل من المتكلم والسامع، وهو يشمل أيضا الجو العام المحيط بالنص اللغوي.
ويبدو من الصعوبة بمكان الاتكاء على نظرية لغوية واحدة في رصد العلاقة بين النص والسياق، ذلك أنّ أية مدرسة لم تتوصل إلى الآن إلى صياغة نظرية شاملة في هذا المجال، وقد بدأت العناية بدراسة النصوص كاملة في المساهمات الغربية في فترة لاحقة لسوسير، الذي بذر التناول الاجتماعي للغة في الدرس الحديث، ثم اقتحم الشكلانيون في حلقة (براغ) حقل البحث اللساني في مجال النص، وكان لفقه اللغة والنقد الأدبي والبلاغة الجديدة ونظريات علم اللغة وعلم الدلالة دور كبير في مساندة علم اللسان، بالكشف عن سيرورة النص وتفاعله مع سياقه، كما أفاد علم النص كذلك من التداولية (أحدث فروع العلوم اللغوية)، وأسهمت اللسانيات الاجتماعية ومشمولاتها في رفد هذه النظرية. وتهتم هذه اللسانيات بإظهار العلاقات بين اللغة والمعطيات الاجتماعية والثقافية المحيطة بالموقف الكلامي. وقد قدم علماء اللسانيات على اختلاف مدارسهم أطرا مختلفة لطبيعة العلاقة بين النص والسياق، ودرسوا مظاهر الاتساق والانسجام في النصوص. ومن أبرز الجهود في هذا الإطار: دراسات (هاليداي ورقية حسن) التي تمثل منظور اللسانيات الوصفية، (وفان ديك) الذي يمثل منظور لسانيات الخطاب، (وبراون ويول) ويمثلان مدرسة تحليل الخطاب. وعلى الرغم من اتساع مجالات نظرية العلاقة بين النص والسياق في الدراسات الغربية إلا أن الرؤية المنهجية العامة لها تتمثل في جانبين
الأول ويرصد السياق بنوعيه: الحالي والمقالي، ويصف المعطيات الاجتماعية والثقافية والشخوص (المخاطب والمخاطب)، والهدف والزمان والمكان، وطبيعة الموضوع، وطبيعة العلاقات، والإشارات، والأثر، وقناة الاتصال.
الثاني ويرصد التكيّف اللغوي للنص مع معطيات السياق السابقة، وينتج عنه ما يعرف بالاتساق، ويدرس في هذا الجانب آلية حدوث هذا التكيف ومظاهره
في المستويات اللغوية المشكلة للنص، ويدرس أدوات الاتساق بين النص والسياق كالإحالة والحذف والتكرير والاستبدال والإضافة والقلب، وترتيب الخطاب، وتسلسل متواليات الجمل، وعلاقة هذا التسلسل بالعالم الخارجي، والاتساق المعجمي، والتضام، والروابط، والعلاقات، عبر مجموعة من مبادئ التأويل والاستدلال التي تؤدي إلى تبين انسجام الرسالة اللغوية، أو عدم انسجامها.(1/478)
الثاني ويرصد التكيّف اللغوي للنص مع معطيات السياق السابقة، وينتج عنه ما يعرف بالاتساق، ويدرس في هذا الجانب آلية حدوث هذا التكيف ومظاهره
في المستويات اللغوية المشكلة للنص، ويدرس أدوات الاتساق بين النص والسياق كالإحالة والحذف والتكرير والاستبدال والإضافة والقلب، وترتيب الخطاب، وتسلسل متواليات الجمل، وعلاقة هذا التسلسل بالعالم الخارجي، والاتساق المعجمي، والتضام، والروابط، والعلاقات، عبر مجموعة من مبادئ التأويل والاستدلال التي تؤدي إلى تبين انسجام الرسالة اللغوية، أو عدم انسجامها.
وفي المساهمات العربية نجد أن نظرية العلاقة بين النص والسياق قد امتدت في مجالات عديدة، مثل: علوم القرآن، والتفسير، وأصول الفقه، وعلوم البلاغة، وعلوم اللغة والنحو. واتصلت بحقول متنوعة من الدرس، وقد ترك أعلامنا الأوائل إرثا كبيرا حول هذا الموضوع، جاء موزعا عبر هذه الحقول، وكشفت ملاحظاتهم عن وعي كبير بدور المعطيات الاجتماعية والثقافية في تحليل الرسالة اللغوية وفهمها، واستفادوا من هذا الدور في وضع القواعد والأحكام. وتجاوز اللغويون العرب في رسم معالم النظام اللغوي حدود النص الذاتية إلى محيط الحدث الكلامي أو سياقه الخارجي. ونظروا في الاتساق الداخلي للنصوص، والتماسك النصي في إشكاله المختلفة، كما تنبهوا لدور القارئ في صناعة انسجام الرسالة اللغوية. وفيما يتصل بالخطاب القرآني فقد رأينا أن حركة تحليل هذا الخطاب سارت في اتجاهين: الأول من خارج النص إلى داخله، أي من السياق الاجتماعي للنص إلى بنيته الداخلية، والثاني من داخل النص إلى خارجه، من خلال البحث عن السياق الاجتماعي داخل بنية النص، وتبدت هذه النظرات في مباحث أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والقراءات والمناسبة بين الآيات والسور وغيرها.
وقد تشكلت بعض التجارب المنهجية في هذا الموضوع في العصر الحديث، ومنها تجربة الدكتور إدوارد سعيد في بحثه (النص والنقد والسياق)، والدكتور. نصر حامد أبو زيد في دراساته المختلفة مثل: (النص: السلطة الحقيقة) و (مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن). وناقشا في هذا الدراسات إمكانية قراءة النص بمعزل عن ظروف تشكيله، وطرحا عددا من التساؤلات تتعلق بتحليل النصوص الدينية، وإمكانية قراءتها ضمن بنية
ثقافية محددة تم إنتاجها طبقا لقوانين تلك الثقافة، وهي تجارب مفيدة في مجال نظرية العلاقة بين النص والسياق مع التحفظ على بعض جوانب شططها.(1/479)
وقد تشكلت بعض التجارب المنهجية في هذا الموضوع في العصر الحديث، ومنها تجربة الدكتور إدوارد سعيد في بحثه (النص والنقد والسياق)، والدكتور. نصر حامد أبو زيد في دراساته المختلفة مثل: (النص: السلطة الحقيقة) و (مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن). وناقشا في هذا الدراسات إمكانية قراءة النص بمعزل عن ظروف تشكيله، وطرحا عددا من التساؤلات تتعلق بتحليل النصوص الدينية، وإمكانية قراءتها ضمن بنية
ثقافية محددة تم إنتاجها طبقا لقوانين تلك الثقافة، وهي تجارب مفيدة في مجال نظرية العلاقة بين النص والسياق مع التحفظ على بعض جوانب شططها.
أما سورة البقرة فقد تتبع علماء القرآن والمفسرون وعلماء الأصول والنحاة العلاقة بين نصها وسياقها في مظهريها: الاتساق المقامي والاتساق الداخلي، ودرسوا في الاتساق المقامي ظروف تنزيل هذه السورة مكانا وزمانا وأسباب نزول ومخاطبين. وأبانوا عن أثر هذه الظروف داخل سورة البقرة. وكان توجيههم للقراءات وتأويلهم للناسخ والمنسوخ فيها محكوما بظروف السياق. كما درس أولئك الروابط في النص الكريم وأثرها في اتساق الخطاب، ودرسوا مكونات الخطاب وتنظيمه والعلاقات بين أجزائه، والمناسبة والتناسب بين هذه الأجزاء، كما ركّزوا على أهمية هدف الخطاب في تحليله، كما درسوا بعض الظواهر السياقية في سورة البقرة كالتقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، والاسمية والفعلية في جمل النص. ودرسوا تنوع الصيغ لتنوع السياق، كما أبانوا عن رأيهم في عموم النص وخصوصية السياق. ووظفوا البعد المنطقي والإدراكي في ملء تقطيعات الكلام في ظاهرة الحذف من خلال السياق، وأغنوا بحوث علم النص بمجموعة من المقاربات المتصلة بالمشاكلة واللياقة والالتئام والاتساق والنظم والاتصال.
وقد عالجت سورة البقرة واقع المسلمين بعد الهجرة النبوية، فهي أول سورة نزلت بعد الهجرة، وموضوعها الرئيس موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية، وتربية الجماعة المسلمة الناشئة وتبصيرها وتحذيرها من العثرات التي تسببت في تجريد بني إسرائيل من شرف القيادة. وحول هذا المحور الرئيسي تترابط خيوط السورة الكريمة. ويأتي عنوان السورة ليعبر عن هذا الموضوع، فهو رمز مكثف لهذا المحور. ونجد أن النص قد أولى أهمية خاصة للمتلقي الأول، كما تكيف النص اللغوي بحسب المخاطبين وهم: المنافقون، والكفار، واليهود، والجماعة المسلمة في ذلك الوقت. وقد تشكلت الرسالة اللغوية في هذا النص بحيث تقرأ مواصفات المخاطبين وأغراضهم وسلوكهم. وقد تبدت هذه الأمور جميعا من خلال بنية النص وروابطه وصيغه. وقد شغل الحديث عن اليهود حجما كبيرا
من الرسالة اللغوية في سورة البقرة، ويمكن تفسير المراوحة بين الحديث عن اليهود في الزمن الغابر، ثم العودة إلى خطابهم في الزمن الحاضر المعاصر لرسول الله، ضمن نظريات إثنوجرافيا الخطاب التي تفسر توجهات المخاطبين في المواقف الكلامية من خلال أعراقهم وأجناسهم وتاريخهم الذي يصدرون عنه في المواقف المختلفة. كما يظهر (الهدى) نقطة مركزية في السورة تفصل بين أصناف المخاطبين في النص الكريم.(1/480)
وقد عالجت سورة البقرة واقع المسلمين بعد الهجرة النبوية، فهي أول سورة نزلت بعد الهجرة، وموضوعها الرئيس موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية، وتربية الجماعة المسلمة الناشئة وتبصيرها وتحذيرها من العثرات التي تسببت في تجريد بني إسرائيل من شرف القيادة. وحول هذا المحور الرئيسي تترابط خيوط السورة الكريمة. ويأتي عنوان السورة ليعبر عن هذا الموضوع، فهو رمز مكثف لهذا المحور. ونجد أن النص قد أولى أهمية خاصة للمتلقي الأول، كما تكيف النص اللغوي بحسب المخاطبين وهم: المنافقون، والكفار، واليهود، والجماعة المسلمة في ذلك الوقت. وقد تشكلت الرسالة اللغوية في هذا النص بحيث تقرأ مواصفات المخاطبين وأغراضهم وسلوكهم. وقد تبدت هذه الأمور جميعا من خلال بنية النص وروابطه وصيغه. وقد شغل الحديث عن اليهود حجما كبيرا
من الرسالة اللغوية في سورة البقرة، ويمكن تفسير المراوحة بين الحديث عن اليهود في الزمن الغابر، ثم العودة إلى خطابهم في الزمن الحاضر المعاصر لرسول الله، ضمن نظريات إثنوجرافيا الخطاب التي تفسر توجهات المخاطبين في المواقف الكلامية من خلال أعراقهم وأجناسهم وتاريخهم الذي يصدرون عنه في المواقف المختلفة. كما يظهر (الهدى) نقطة مركزية في السورة تفصل بين أصناف المخاطبين في النص الكريم.
إن ملاحظات علماء القرآن والمفسرين والبلاغيين واللغويين والنحويين يمكن أن تشكل مدخلا واسعا من مداخل (نحو النص)، الذي ينظر إلى ما يسبق الجملة وما يليها، ويمكن أن يطور النظر إليه واعتباره بذرة في تنمية = (علم النص)، وهو ما أصبح ضرورة لازمة في الوقت الحاضر نظرا لتوسع الفن السردي كالقصة والرواية. وعلم النص أداة مهمة من أدوات تحليل هذا الفن، في ضوء ظهور ما يعرف ب (علم اللغة الأدبي)، ولذا فتوصي هذه الدراسة باستقراء إرث هؤلاء الأعلام وتبويبه في هذا المجال. كما توصي هذه الدراسة أيضا بإعمال نحو النص في الدرس اللغوي في العربية، جنبا إلى جنب مع نحو الجملة لما يمكن أن يقدمه هذا النحو في إغناء الدرس الدلالي، وما يمكن أن يقدمه في تسهيل درس النحو من خلال الفعل التواصلي للغة، وليس من خلال جمل جامدة جافة لا توجد إلا في كتب النحو. وهذه كما رأينا ليست دعوة مبتدعة وإنما وجدنا جذورها لدى علمائنا الأوائل.
كما توصي الدراسة بتوسيع نطاق البحث في اللسانيات الاجتماعية وتطبيقاته في نصوص العربية، وتوصي بإعادة قراءة سور القرآن الكريم جميعا في ضوء علم اللسان الاجتماعي، ضمن ضوابط ومعايير تتفق مع منزلة الكتاب العظيم، مع الاستفادة من المعلومات التي يوفرها ترتيب النزول بالإضافة لترتيب القراءة في القرآن الكريم، وهي دراسات تحتاج إلى جهد كبير متصل من أكثر من باحث، وتحتاج قاعدة واسعة من البيانات المبثوثة في كتب علوم القرآن والتفسير وكتب أصول الفقه، والدراسات القرآنية القديمة والحديثة، وقد يستفاد هنا مما أتاحته التقنيات الحاسوبية الحديثة، وتكنولوجيا المعلومات،
التي يمكن أن تسهّل العمل للباحثين من حيث استرجاع المعلومات وتبويبها. إن دراسة القرآن الكريم في ضوء علم اللسان الاجتماعي، وإن كانت لا تخلو من محاذير، لتكشف عن أسرار هذا الكتاب العظيم وتجلي طبيعة العلاقة بين كتاب الله المسطور (القرآن) وكتاب الله المنظور (الكون والحياة)، مما يدفع باتجاه تمثل هذا الكتاب العظيم منهجا للحياة في كل زمان ومكان.(1/481)
كما توصي الدراسة بتوسيع نطاق البحث في اللسانيات الاجتماعية وتطبيقاته في نصوص العربية، وتوصي بإعادة قراءة سور القرآن الكريم جميعا في ضوء علم اللسان الاجتماعي، ضمن ضوابط ومعايير تتفق مع منزلة الكتاب العظيم، مع الاستفادة من المعلومات التي يوفرها ترتيب النزول بالإضافة لترتيب القراءة في القرآن الكريم، وهي دراسات تحتاج إلى جهد كبير متصل من أكثر من باحث، وتحتاج قاعدة واسعة من البيانات المبثوثة في كتب علوم القرآن والتفسير وكتب أصول الفقه، والدراسات القرآنية القديمة والحديثة، وقد يستفاد هنا مما أتاحته التقنيات الحاسوبية الحديثة، وتكنولوجيا المعلومات،
التي يمكن أن تسهّل العمل للباحثين من حيث استرجاع المعلومات وتبويبها. إن دراسة القرآن الكريم في ضوء علم اللسان الاجتماعي، وإن كانت لا تخلو من محاذير، لتكشف عن أسرار هذا الكتاب العظيم وتجلي طبيعة العلاقة بين كتاب الله المسطور (القرآن) وكتاب الله المنظور (الكون والحياة)، مما يدفع باتجاه تمثل هذا الكتاب العظيم منهجا للحياة في كل زمان ومكان.(1/482)
قائمة المصادر والمراجع
أالمصادر:
الآمدي: سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي (ت 631هـ)، الإحكام في أصول الأحكام، ط 1، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1980.
ابن الأثير: نصر الله بن محمد بن الأثير الجزري (ت 637هـ)، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ط 1، تحقيق د. أحمد الحوفي ود. بدوي طبّانة، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، 1962.
الألوسي: أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي (ت 1270هـ) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، ط 1ضبطه وصححه علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1994.
الباجي: أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي (ت 474هـ)، الحدود في الأصول، ط 1، تحقيق د. نزيه حمّاد (جامعة بغداد)، مؤسسة الزغبي للطباعة والنشر، بغداد، 1973.
ابن الباذش: أبو جعفر أحمد بن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري ابن الباذش (ت 540هـ)، الإقناع في القراءات السبع، ط 1، تحقيق وتقديم د. عبد المجيد قطامش، جامعة أم القرى، السعودية، 1995.
الباقلّاني: القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلّاني (ت 403هـ)، إعجاز القرآن الكريم، ط 3، تحقيق سيّد أحمد صقر، دار المعارف، مصر، 1971.
البخاري: الإمام علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري (ت 730هـ)، كشف الأسرار، ط 2، دار الكتاب العربي، بيروت، 1974.
البخاري: الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ)، صحيح البخاري، ط 1، مطابع الشعب، القاهرة، 1959.(1/483)
البزدوي: فخر الإسلام البزدوي (ت 743هـ)، الأصول، ط 1، دار الكتاب العربي، بيروت، 1974.
البقاعي: برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي (ت 885هـ)، نظم الدرر في تناسب الآي والسور، ط 1، دار الكتب، بيروت، 1995.
التفتازاني: المحقّق سعيد الدين بن مسعود التفتازاني (ت 792هـ) التلويح على التوضيح، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، بلا تاريخ.
الثعالبي: الإمام أبو منصور إسماعيل الثعالبي النيسابوري (ت 429هـ)، فقه اللّغة وسرّ العربية، مكتبة لبنان، بلا تاريخ.
الجاحظ: عمرو بن بحر المعروف بأبي عثمان الجاحظ (ت 255هـ) البيان والتبين، ط 1، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1960.
الجرجاني: عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ)، دلائل الإعجاز، ط 1، تصحيح محمد عبده ومحمد رشيد رضا، مكتبة القاهرة، القاهرة، 1961.
الجرجاني: عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ)، أسرار البلاغة ط 1، تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي، مكتبة القاهرة، القاهرة 1976.
الجرجاني: السيد الشريف علي بن محمد بن علي السيد الزين أبي الحسين الحسني الجرجاني (ت 816هـ)، التعريفات، ط 1، المطبعة الخيرية، مصر، 1938.
الجصّاص: الإمام أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص (ت 370هـ)، أحكام القرآن، ط 2، تحقيق محمد الصادق قمحاوي، دار المصحف، القاهرة، بلا تاريخ.
ابن جنّي: أبو الفتح عثمان بن جني (ت 392هـ) الخصائص، ط 4، تحقيق محمد علي النجار، وزارة الثقافة والإعلام العراقية، دار الشئون الثقافية العامة، بغداد، 1990.
ابن الجوزي: الحافظ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي القرشي البغدادي (ت 597هـ)، نواسخ القرآن، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985.(1/484)
الجويني: إمام الحرمين (ضياء الدين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله) (ت 478هـ)، البرهان في أصول الفقه، ط 2، حققه الدكتور عبد العظيم الديب، كلية الشريعة، جامعة قطر، توزيع دار الأنصار، القاهرة، 1981.
الجويني: إمام الحرمين (ضياء الدين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله) (ت 478هـ) الكافية في الجدل، ط 1، تحقيق د. فوقية حسن، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، القاهرة، 1979.
ابن حزم: الإمام أبو محمّد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (ت 456هـ) الإحكام في أصول الأحكام، ط 1، تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1980.
أبو حيان الأندلسي: أثير الدين أبو حيّان محمد بن يوسف (ت 749هـ) البحر المحيط في التفسير، ط 3، بعناية الشيخ عرفات العشا حسّونة، دار الفكر للتوزيع، بيروت، 1992.
ابن خالويه: أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه (ت 370هـ) الحجّة في القراءات السبع، ط 2، تحقيق وشرح د. عبد العال سالم مكرم، دار الشروق، القاهرة، 1977.
الخفاجي: محمد بن عبد الله بن سنان الخفاجي (ت 466هـ)، سرّ الفصاحة، ط 1، تحقيق عبد المتعال الصعيدي، مطبعة محمد علي صبيح، القاهرة، 1952.
ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد الحضرمي (ت 808هـ)، المقدّمة، ط 5، دار القلم، بيروت، 1984.
ابن خلف المقرئ: أبو طاهر إسماعيل بن خلف المقرئ الأنصاري الأندلسي (ت 455هـ)، العنوان في القراءات السبع، ط 1، تحقيق وتقديم د. زهير زاهد وخليل العطيّة، عالم الكتب، بيروت، 1985.
در سعادات (ت 1192هـ)، مرآة الأصول، ط 1، المطبعة العثمانيّة، إستانبول، 1893م.(1/485)
الرازي: الإمام فخر الدين بن عمر بن الحسين الرازي (ت 606هـ) التفسير الكبير، ط 2، دار الكتب العلمية، طهران، 1971.
الرازي: الإمام فخر الدين بن عمر بن الحسين الرازي (ت 606هـ)، المحصول في علم أصول الفقه، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988.
الراغب الأصفهاني: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (ت 502هـ)، المفردات في غريب القرآن، ط 1، تحقيق وضبط محمد سيّد كيلاني، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت / لبنان، بلا تاريخ.
الرمّاني: أبو الحسن علي بن عيسى (ت 386هـ)، بيان إعجاز القرآن الكريم (ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرمّاني والخطابي والجرجاني)، ط 1، تحقيق محمد خلف الله أحمد ومحمد زغلول سلّام، دار المعارف، القاهرة، 1968.
الزبيدي: ابو بكر الزبيدي الإشبيلي (ت 379هـ)، الواضح، ط 1، تحقيق الأستاذ الدكتور عبد الكريم خليفة، من منشورات الجامعة الأردنية عمان، بلا تاريخ.
الزجّاج: أبو إسحاق إبراهيم بن السرى بن سهل (ت 311هـ) إعراب القرآن (المنسوب إلى الزجاج)، ط 2، تحقيق ودارسة إبراهيم الأبياري، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982.
الزركشي: بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (ت 794هـ)، البرهان في علوم القرآن، ط 3، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، بيروت، 1980.
الزمخشري: أبو القاسم محمد بن عمر (جار الله الزمخشري) (ت 528) أساس البلاغة، ط 1، دار الفكر، بيروت، 1979.
الزمخشري: أبو القاسم محمد بن عمر (جار الله الزمخشري) (ت 528) الكشّاف عن حقائق التأويل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ط 1، رتبه وضبطه وصحّحه مصطفى حسين أحمد، دار الكتاب العربي، بيروت، بلا تاريخ.
السجستاني: الإمام أبو بكر محمد بن عزيز السجستاني (ت 330هـ) غريب القرآن المسمّى بنزهة القلوب، ط 1، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح، 1963.(1/486)
ابن السرّاج: أبو بكر محمد بن سهل النحوي البغدادي (ت 316هـ)، أصول النحو، ط 1، تحقيق عبد الحسين الفتلي، النجف الأشرف، 1973.
السرخسي: الإمام أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي (ت 490هـ)، الأصول، ط 1، تحقيق أبي الوفاء الأفغاني، دار المعرفة، بيروت، 1973.
السكّاكي: يوسف بن أبي بكر السكّاكي (ت 626هـ)، مفتاح العلوم، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت 1972.
السمين الحلبي: أحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي (ت 756هـ) الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، ط 1، تحقيق د. أحمد محمد الخرّاط، دار القلم، دمشق، 1986.
سيبويه: أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر (ت 180هـ)، الكتاب، ط 1، تحقيق وشرح عبد السلام هارون دار الجيل، بيروت، 1993.
السيوطي: أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن أبو بكر السيوطي (ت 911هـ)، الإتقان في علوم القرآن، ط 3، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1995.
السيوطي: أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن أبو بكر السيوطي (ت 911هـ)، تفسير الجلالين، ط 6، دار ابن كثير، دمشق، 1991.
السيوطي: أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن أبو بكر السيوطي (ت 911هـ)، قطف الأزهار في كشف الأسرار (المسمّى أسرار التنزيل)، ط 1، تحقيق ودراسة د.
أحمد بن محمد الحمادي، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، دولة قطر، 1994.
السيوطي: الحافظ جلال الدين عبد الرحمن أبو بكر السيوطي (ت 911هـ)، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، ط 1، شرحه وضبطه وصحّحه وعنون موضوعاته، محمد أحمد جاد المولى ومحمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، 1986.(1/487)
السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن أبو بكر السيوطي (ت 911هـ)، تناسق الدرر في تناسب السور، ط 1، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1986.
السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن أبو بكر (ت 911هـ) شرح الجامع الصغير للمناوي، ط 1، دار إحياء الكتب العربية، بيروت / 1954.
السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن أبو بكر السيوطي (ت 911هـ)، ترتيب سور القرآن، ط 1، تحقيق السيد الجميلي، دار مكتبة الهلال، القاهرة، 1986.
السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن أبو بكر السيوطي (ت 911هـ)، التحبير في علم التفسير، ط 1، تحقيق د. زهير عثمان علي نور، مطبوعات إدارة الشئون الإسلامية، قطر، 1995.
الشاطبي: الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت 790هـ)، الموافقات في أصول الشريعة، ط 1، تحقيق د. محمد عبد الله دراز، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، بلا تاريخ.
الشافعي: الإمام المجتهد أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ)، أحكام القرآن، ط 1، جمعه الإمام الكبير الحافظ أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله البيهقي النيسابوري (المتوفى سنة 458هـ) دار الكتب العلمية، بيروت، 1975.
الشافعي: الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ)، الرسالة، ط 1، تحقيق الأستاذ أحمد محمد شاكر، المكتبة العلمية، بيروت، بلا تاريخ.
ابن شيت القرشي: معالم الكتابة ومغانم الإصابة، ط 1، تحقيق محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988.
القاضي صدر الشريعة: عبد الله بن مسعود المحبوبي (ت 747هـ)، التوضيح على التلويح، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1972.
ابن طباطبا: محمد بن طباطبا العلوي (ت 322هـ)، عيار الشعر، ط 1، تحقيق د. طه الحاجري ود. محمد زغلول سلام، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1956.(1/488)
الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ) جامع البيان في تفسير القرآن، ط 1، حقّقه د. بشار عواد معروف وعصام فارس الحرستاني، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1994.
الطوسي: أبو جعفر محمّد بن الحسن (ت 460هـ) التبيان في تفسير القرآن، ط 1، تحقيق آغا بزرگ الطهراني، المطبعة العلمية في النجف، 1957.
ابن عابدين: محمد أمين بن عمر بن عابدين (ت 1252هـ)، رسائل ابن عابدين، عالم الكتب، القاهرة، 1953.
ابن عاشور: محمد الطاهر بن عاشور (ت 932هـ) تفسير التحرير والتنوير، ط 2، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984.
ابن عربي: محيي الدين بن عربي (ت 638هـ)، الفتوحات المدنية، ط 1، دار صادر، بيروت، لبنان، بدون تاريخ.
ابن عربي: محيي الدين بن عربي (ت 638هـ)، تفسير القرآن الكريم، ط 1، دار اليقظة، بيروت، 1968.
العسكري: أبو هلال الحسن بن سهل العسكري (ت 395هـ) كتاب الصناعتين، ط 2، تحقيق محمد علي البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة عيسى البابي الحلبي وشركائه، القاهرة، 1981.
العسكري: أبو هلال الحسن بن سهل العسكري (ت 395هـ)، الفروق في اللّغة، ط 4، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1980.
ابن عطية الأندلسي: أبو محمد عبد الحق بن عطيّة الأندلسي (ت 541هـ) المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ط 1، تحقيق الرحّالي الفاروق ورفاقه، الدوحة، 1977.
ابن عقيل: بهاء الدين عبد الله بن عقيل العقيلي (ت 698هـ) شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، ط 13، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1962.(1/489)
العكبري: أبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري (ت 616هـ) التبيان في إعراب القرآن، ط 2، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، 1987.
العلوي: يحيي بن حمزة العلوي (ت 749هـ)، الطراز المتضمّن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق القرآن، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1980.
الغزالي: حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (ت 505هـ)، المستصفى في علم الأصول، ط 1، مطبعة مصطفى محمد، 1937.
الغزالي: حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (ت 505هـ)، شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعبير، ط 1، تحقيق د. أحمد الكبيسي، مطبعة الرشاد، بغداد، 1971.
الفارسي: أبو علي الفارسي (ت 377هـ)، المسائل العسكريات، ط 1، تحقيق د. إسماعيل أحمد عمائرة، منشورات الجامعة الأردنية، عمان (1981).
الفرّاء، أبو زكريا يحيى بن زياد الديلمي (ت 207هـ)، معاني القرآن، ط 1، تحقيق أحمد يوسف نجاتي ومحمد علي النجار دار الكتب المصرية، 1955.
الفيروزآبادي: مجد الدين محمد بن يعقوب (ت 817هـ) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، ط 1، تحقيق الأستاذ محمد علي النجار، دار الباز للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، 1974.
الفيروزآبادي: مجد الدين محمد بن يعقوب (ت 817هـ) القاموس المحيط، ط 1، دار الفكر، بيروت، 1983.
القاسمي: محمد جمال الدين القاسمي (ت 1322هـ) محاسن التأويل، ط 1، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مؤسّسة التاريخ العربي، بيروت 1994.
ابن قتيبة: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276هـ) تأويل مشكل القرآن، ط 1، تحقيق أحمد صقر، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1954.(1/490)
ابن قتيبة: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276هـ)، تفسير غريب القرآن، ط 1، تحقيق السيد أحمد صقر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978.
قدامة بن جعفر (ت 337هـ) جواهر الألفاظ، ط 1، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985.
القرطاجني: حازم القرطاجني (ت 684هـ)، مناهج البلغاء وسراج الأدباء، ط 1، تحقيق محمد الحبيب بلخوجة، دار الكتب الشرقية، تونس، 1966.
القرطبي: الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت 671هـ)، الجامع لأحكام القرآن، ط 3، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1976.
القزويني: محمد بن عبد الرحمن القزويني (ت 739هـ)، الإيضاح في علوم البلاغة، ط 5، تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1980.
القزويني: محمد بن عبد الرحمن القزويني (ت 739هـ)، التلخيص في علوم البلاغة، ط 1، تحقيق عبد الرحمن البرقوقي، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1983.
القيرواني: الحسن بن رشيق القيرواني (ت 463هـ)، العمدة في صناعة الشعر ونقده، ط 1، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، 1972.
ابن قيم الجوزية: الإمام العالم شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية (ت 751هـ)، أعلام الموقعين، دار الجيل، بيروت، 1973.
ابن قيم الجوزية (ت 751هـ)، بدائع التفسير، ط 1، تحقيق يسرى السيد محمد، دار ابن الجوزي، الدمام، السعودية 1993.
ابن قيم الجوزية (ت 751هـ)، الفوائد المشوّقة إلى علوم القرآن، ط 1، منشورات دار ومكتبة الهلال، بيروت، بإشراف لجنة تحقيق التراث، بلا تاريخ.
ابن كثير: الإمام الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (ت 774هـ) تفسير القرآن العظيم، ط 1، مكتبة المنار للنشر والتوزيع، الزرقاء / الأردن، 1990.(1/491)
الكرماني: برهان الدين أبو القاسم محمود بن حمزة بن نصر (ت 505هـ)، أسرار التكرار في القرآن الكريم، ط 1، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، 1974.
الكفوي: أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي (ت 1094هـ)، الكليّات (معجم في المصطلحات والفروق اللغويّة)، ط 2، تحقيق د. عدنان درويش محمد المصري، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1982.
الماوردي: أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري (ت 450هـ)، النكت والعيون المعروف بتفسير الماوردي، ط 1، تحقيق السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، لبنان 1992.
المبرد: محمد بن يزيد المبرد (ت 285هـ)، المقتضب، ط 1، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، عالم الكتب، بيروت، بلا تاريخ.
الإمام أبو الحسين بن علي بن الطيب البصري المعتزلي: (ت 436هـ)، المعتمد في أصول الفقه، ط 1، تحقيق الأستاذ محمد حميد الله، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية، دمشق، 1964.
المرزباني: محمد بن عمر (ت 384هـ)، الموشّح، ط 1، تحقيق علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر، القاهرة، 1965.
الإمام مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم النيسابوري (ت 261هـ)، صحيح مسلم، ط 2دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1972.
مكّي بن أبي طالب: الإمام العلامة أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437 هـ)، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ومعرفة أصوله واختلاف الناس فيه، ط 1، تحقيق د. أحمد حسن فرحات، دار المنارة، جدّة / السعودية، 1986.
مكّي بن أبي طالب القيسي (ت 437هـ)، مشكل إعراب القرآن، ط 1، تحقيق ياسين محمد السوّاس، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1974.(1/492)
ابن منظور: الإمام العلامة أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، (ت 711هـ) لسان العرب، ط 3، دار صادر، بيروت، 1994.
النحّاس: أبو جعفر أحمد بن إسماعيل النحّاس (ت 338هـ)، إعراب القرآن، ط 2، تحقيق د. زهير غازي زاهد، عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية، 1985.
ابن هشام: عبد الله جمال الدين بن هشام الأنصاري المصري (ت 761هـ)، الإعراب عن قواعد الأعراب، ط 1، عالم الكتب، القاهرة، 1952.
ابن هشام: عبد الله جمال الدين بن هشام الأنصاري المصري (ت 761هـ)، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ط 1، تحقيق د. مازن المبارك زميله، دار الفكر، دمشق، 1964.
ابن هشام: عبد الله جمال الدين بن هشام الأنصاري المصري (ت 761هـ)، شذور الذهب في معرفة كلام العرب، ط 1، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، عالم الكتب، القاهرة، بلا تاريخ.
الواحدي: أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري (ت 468هـ)، أسباب النزول، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1982.
ابن يعيش: موفّق الدين يعيش بن علي بن يعيش النحوي (ت 643هـ)، شرح المفصّل، ط 1، عالم الكتب / بيروت، ومكتبة المثنّى / القاهرة، بلا تاريخ.(1/493)
ب المراجع:
1 - المراجع الحديثة باللّغة العربيّة:
إبراهيم أنيس وزملاؤه، المعجم الوسيط، ط 3، مطبوعات مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1985.
إبراهيم خليل، الأسلوبية ونظرية النصّ، ط 1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1997.
إبراهيم السامرائي، من أساليب القرآن، ط 1، مؤسسة الرسالة، عمان، 1982.
إبراهيم فتحي، معجم المصطلحات الأدبية، ط 1، المؤسّسة العربية للناشرين المتّحدين، بيروت، 1986.
أحمد حجازي السقّا، النسخ في القرآن، ط 1، دار الفكر العربي، بيروت، 1978.
أحمد ماهر البقري، أساليب النفي في القرآن، ط 1، المكتب العربي الحديث، الإسكندرية، 1989.
أحمد المتوكل، قضايا اللغة العربية في اللسانيات الوظيفية، ط 1، دار الأمان، الرباط، 1995.
أحمد المتوكّل، الوظائف التداولية في اللغة العربية، ط 1، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، 1985.
أحمد محمّد قدّور، مبادئ اللسانيّات، ط 1، دار الفكر، دمشق، 1969.
أحمد مختار عمر، علم الدلالة، ط 1، مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع، الكويت، 1982.
إدريس حمّادي، الخطاب الشرعي وطرق استثماره، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1994.
الأزهر الزناد، دروس في البلاغة العربية، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1995.(1/494)
الأزهر الزناد، نسيج النصّ، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1993.
إمبرتو إيكو، القارئ في الحكاية، ط 1، ترجمة أنطوان أبو زيد، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1996.
إميل بديع يعقوب وميشال عاصي، المعجم المفصّل في اللّغة والأدب، ط 1، دار العلم للملايين، بيروت، 1987.
أمين الخولي، مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير، ط 1، دار المعرفة، القاهرة، 1961.
أندريه جاك ديشين، استيعاب النصوص وتأليفها، ط 1، ترجمة هيثم لمع، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1991.
أولمان (ستيف)، دور الكلمة في اللغة، ط 3، ترجمة د. كمال بشر، دار الفكر العربي، القاهرة، 1962.
بسّام بركة، معجم اللّسانيّة، ط 1، طرابلس، لبنان، 1985.
بطرس البستاني، محيط المحيط، ط 5، مكتبة لبنان، بيروت، 1983.
بارت (رولان)، درس السيميولوجيا، ط 1، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1985.
بيرس (تشارلز سوندرز)، تصنيف العلامات ط 1، ترجمة فريال الغزولي، إشراف سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد، دار الياس العصرية، القاهرة، 1986.
بيرك (جاك)، القرآن وعلم القراءة، ط 1، ترجمة وتعليق د. منذر عياشي، دار التنوير، بيروت، 1996.
تمام حسّان، اللّغة العربية معناها ومبناها، ط 2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1979.
تمّام حسّان، البيان في روائع القرآن، ط 1، عالم الكتب، القاهرة، 1993.(1/495)
تمّام حسّان، الأصول: دراسة ابستمولوجية في الفكر اللّغوي العربي، ط 2، دار الشئون الثقافية، بغداد، 1988.
تودوروف (تزفتان) وآخرون، في أصول الخطاب النقدي الجديد، ط 1، ترجمة وتقديم أحمد المديني، دار الشئون الثقافية، بغداد، 1987.
تودورف (تزفتان) نظرية المنهج الشكلي، ط 1، ترجمة إبراهيم الخطيب، مؤسّسة الأبحاث العربية، بيروت، 1982.
تودوروف (تزفتان)، نقد النقد، ط 2، ترجمة د. سامي سويدان، دار الشئون الثقافية، بغداد، 1986.
توفيق الزيدي، أثر اللّسانيات في النقد الحديث، ط 1، تونس، 1984.
جبور عبد النور، معجم مصطلحات الأدب، ط 1، دار العلم للملايين، بيروت، 1979.
جميل الحمداني، بنية النصّ السردي من منظور النقد الأدبي، ط 2، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1993.
جميل الحمداني، من أجل تحليل سوسيو بنائي للروائي، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1984.
جميل الحمداني، النقد الروائي والإيديولوجيا من سوسيولوجيا الرواية إلى سوسيولوجيا النص الروائي، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1990.
جون لاينز، علم الدلالة، ط 1، ترجمة مجيد عبد الحليم الماشطة وحليم حسين فالح وكاظم حسين باقر، جامعة البصرة / كلية الآداب، 1980.
جون لاينز، اللغة والمعنى والسياق، ط 1، ترجمة د. عباس صادق الوهاب، دار الشئون الثقافية العامة، بغداد، 1987.
جيرار جنيت، مدخل لجامع النصّ، ط 2، ترجمة عبد الرحمن أيوب، دار توبقال للنشر، سلسلة المعرفة الأدبيّة، 1986.(1/496)
حسن قاسم حبش البيّاتي، رحلة المصحف الشريف من الجريد إلى التجليد، ط 1، دار القلم، بيروت، 1993.
حلمي خليل، الكلمة: دراسة لغوية معجمية، ط 2، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، 1996.
حميد أحمد عيسى العامري، التقديم والتأخير في القرآن الكريم، ط 1، دار الشئون الثقافية العامة بغداد، 1996.
خليفة بابكر الحسن، مناهج الأصوليين في طرق دلالات الألفاظ على الأحكام، ط 1، مكتبة وهبة، القاهرة، 1989.
دوسوسير (فرديناند)، دروس في الألسنية العامة، تعريب صالح القرماوي ومحمد الشاويش، ط 1، الدار العربية للكتاب، 1985.
ديكرو (أوزفيلد)، كلمات الخطاب، ط 1، ترجمة عبد الحليم الماشطة، دار الشئون الثقافية بغداد، 1980.
راشد البراوي، القصص القرآني: تفسير اجتماعي، ط 1، دار النهضة العربية، القاهرة، 1978.
راي (وليم)، المعنى الأدبي: من الظاهراتية إلى التفكيكية، ط 1، ترجمة د. يوئيل عزيز يوسف، دار المأمون، بغداد، 1988.
رمزي البعلبكي، معجم المصطلحات اللغوية، ط 1، دار العلم للملايين، بيروت، 1990.
ريتشاردز (أ. أ) مبادئ النقد الأدبي، ط 1، ترجمة مصطفى بدوي، القاهرة، 1963.
الزرقاني (محمد عبد العظيم الزرقاني)، مناهل العرفان في علوم القرآن، ط 3، دار الفكر، بيروت، بلا تاريخ.
سعد مصلوح، الأسلوب، ط 1، دار البحوث العلمية، الكويت، 1980.
سعيد حوّى، الأساس في التفسير، ط 3، دار السلام، القاهرة، 1991.(1/497)
سعيد علّوش، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1985.
سعيد يقطين، انفتاح النصّ الروائي، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1989.
سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1989.
سعيد يقطين، الرواية والتراث السردي، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1992.
سيّد قطب، في ظلال القرآن، ط 11، دار الشروق، بيروت / القاهرة، 1985.
سيّد قطب، التصوير الفنّي في القرآن الكريم، ط 1، دار الشروق، 1978.
سيزا قاسم، أنظمة العلامات في اللّغة والأدب والثقافة، القاهرة، دار الياس العصرية، 1986.
شرف الدين الراجحي وسامي عيّاد، مبادئ علم اللّسانيّات الحديث، ط 1، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، 1991.
صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ط 4، دار العلم للملايين بيروت، 1965.
صدوق نور الدين، حدود النص الأدبي: دارسة في التنظير والإبداع، ط 1، دار الثقافة، الدار البيضاء / المغرب، سلسلة الدراسات النقدية / 2، 1984.
صلاح إسماعيل عبد الحق، التحليل اللغوي عند مدرسة أكسفورد، ط 1، دار التنوير للطباعة والنشر بيروت / لبنان، 1993.
صلاح الدين عبد التوّاب، الصورة الأدبيّة في القرآن الكريم، ط 1، مكتبة لبنان، بيروت، 1995.
صلاح فضل، أشكال التخيل: من فتات الأدب والنقد، ط 1، مكتبة لبنان، بيروت، من سلسلة أدبيات، 1996.(1/498)
صلاح فضل، إنتاج الدلالة الأدبية، ط 1، مؤسسة مختار للنشر والتوزيع، القاهرة، 1987.
صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، ط 1، سلسلة أدبيات، مكتبة لبنان، القاهرة 1996.
صلاح فضل، نظرية البنائيّة في النقد الأدبي، ط 3، دار الشئون الثقافية العامة، بغداد، 1987.
طاهر حمّودة، نظرية المعنى عند الأصوليين، ط 1، الإسكندرية، 1983.
عائشة عبد الرحمن، القرآن وقضايا الإنسان، ط 1، دار العلم للملايين، بيروت، 1972.
عائشة عبد الرحمن، من أسرار العربية في البيان القرآني، ط 1، جامعة بيروت العربية / بيروت، 1973.
عاطف جودة نصر، النصّ الشعري ومشكلات التفسير، ط 1، مكتبة لبنان، بيروت، 1995.
عبد الرحمن أيّوب، الكلام: إنتاجه وتحليله، ط 1، جامعة الكويت، 1994.
عبد الرحمن أيوب، اللغة بين الفرد والمجتمع، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1964.
عبد الرحيم أبو علبة، أسباب نزول القرآن: دارسة وتحليل، ط 1، دار البشير، عمان، 1994.
عبد العال سالم مكرم، من الدراسات القرآنية، ط 1، مؤسسة علي جرّاح الصباح، 1978.
عبد القادر الفهري الفاسي، اللّسانيّات واللغة العربية: نماذج تركيبية ودلالية، ط 3، دار توبقال للنشر، الرباط 1993.
عبد الله إبراهيم، المتخيّل السردي: مقاربات نقدية في التناص والرؤى والدلالة، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1990.(1/499)
عبد الله إبراهيم ورفاقه، معرفة الآخر: مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1990.
عبد الله الغذّامي، المشاكلة والاختلاف: قراءة في النظريّة النقديّة وبحث في الشبيه المختلف، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1994.
عبد المتعال الصعيدي، النظم الفني في القرآن، ط 1، مكتبة الآداب، القاهرة، 1992.
عبد المجيد الشرفي وآخرون، موافقات في قراءة النصّ الديني، ط 1، الدار التونسية للنشر، تونس، 1990.
عبد الملك مرتاض، النصّ الأدبي من أين وإلى أين، ط 1، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1983.
عبد الهادي عبد الرحمن: سلطة النص: قراءات في توظيف النص الديني، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، 1993.
عدنان بن ذريل، اللّغة والدلالة: آراء ونظريّات، ط 1، منشورات اتحاد الكتاب العربي، دمشق، 1981.
عفّت الشرقاوي، بلاغة العطف في القرآن الكريم، ط 1، النهضة العربية، بيروت، 1981.
علّال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية، ومكارمها، ط 2، لجنة نشر تراث زعيم التحرير علّال الفاسي، المغرب 1977.
علي حرب، الممنوع والممتنع: نقد الذات المفكرة، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء 1995.
علي حرب، نقد النصّ، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1993.(1/500)
علي عبد الواحد وافي، اللّغة والمجتمع، ط 2، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1951.
فاضل ثامر، اللّغة الثانية: في إشكالية المنهج والنظرية والمصطلح في الخطاب النقدي العربي الحديث، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1994.
فاضل ثامر، مدارات نقدية: في إشكالية النقد والحداثة والإبداع، ط 1، وزارة الإعلام، بغداد، 1987.
فائز الداية، علم الدلالة العربي: النظرية والتطبيق، دراسة تاريخية تأصيلية نقدية، ط 1، دار الفكر، دمشق، سوريا، 1985.
فتحي الدريني، خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم، ط 1، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1982.
فضل عباس، إتقان البرهان في علوم القرآن، دار الفرقان، عمّان، 1997.
فندريس (جوزيف)، اللّغة، ط 1، تعريب عبد الحميد الدواخلي ومحمد القصّاص، مطبعة الأنجلو المصرية، 1950.
فوكو (ميشيل)، نظام الخطاب وإدارة المعرفة، ط 1، ترجمة أحمد الطائي وعبد السلام بن عبد العال، دار النشر المغربية، 1985.
كريستيفا (جوليا)، علم النصّ، ط 2، ترجمة فريد الزاهي، مراجعة عبد الجليل ناظم، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، 1997.
كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما، ط 1، ترجمة رئيف كرم، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، 1992.
لبيب السعيد، الدراسة الأولى في مناهج البحث الاجتماعي في القرآن الكريم عند علمائه ومفسّريه، ط 1، دار عكاظ، 1980.
لطفي عبد البديع، التركيب اللغوي للأدب: بحث في فلسفة اللغة والأستطيقا، ط 1، القاهرة، 1970.(1/501)
لوفيغر (هنري)، اللسان والمجتمع، ط 1، ترجمة مصطفى صالح، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1983.
لويس (م. م)، اللّغة والمجتمع، ترجمة د. تمام حسّان ود. إبراهيم أنيس، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1959.
مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، ط 1، ترجمة عبد الصبور شاهين، بإشراف ندوة مالك بني، إصدار دار الفكر، دمشق، 1985.
مجدي وهبه، معجم مصطلحات الأدب، ط 1، مكتبة لبنان، 1974.
محمّد أديب صالح، تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، ط 3، المكتب الإسلامي، بيروت، 1984.
محمد بخيت (مفتي الديار المصرية)، سلّم الوصول لشرح نهاية السؤل، ط 1، المطبعة السلفية ومكتبتها، عالم الكتب، بيروت، 1982.
محمد بركات أبو علي، مناهج وآراء في لغة القرآن، ط 1، دار الفكر، عمان 1984.
محمد بلتاجي، منهج عمر في التشريع، ط 1، دار الفكر العربي، بيروت، 1970.
محمد البهي، نحو القرآن، ط 1، مكتبة وهبة، القاهرة، 1976.
محمّد التونجي، المعجم المفصّل في علوم اللّغة (الألسنيّات)، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993.
محمّد جواد مغنيّة، علم أصول الفقه في ثوبه الجديد، ط 1، دار العلم للملايين، بيروت 1975.
محمّد حسين الذهبي، التفسير والمفسّرون، ط 4، مكتبة وهبة، القاهرة، 1989.
محمّد الحسناوي، الفاصلة في القرآن، ط 2، المكتب الإسلامي، بيروت، ودار عمار / عمان، 1986.
محمّد الخطابي، لسانيات النصّ، مدخل إلى انسجام الخطاب، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1991.(1/502)
محمّد رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار، ط 1، دار المعرفة للطباعة القاهرة، 1973.
محمّد السرغيني، محاضرات في السيميولوجيا، ط 1، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1987.
محمّد سلام مذكور، مباحث الحكم عند الأصوليين، ط 1، دار النهضة العربية، القاهرة، 1984.
محمّد عبد الخالق عضيمة، دراسات الأسلوب في القرآن الكريم، دار الحديث، القاهرة، 1990.
محمّد عبد المطلب، البلاغة والأسلوبية، ط 1، مكتبة لبنان، بيروت، 1994.
محمّد عبد المطلب، جدليّة الإفراد والتركيب، ط 1، مكتبة لبنان، بيروت، 1995.
محمّد عبد المطلب، قضايا الحداثة عند عبد القاهر الجرجاني، ط 1، مكتبة لبنان، بيروت، 1995.
محمّد عبد الهادي الطرابلسي، بحوث في النص الأدبي، ط 1، الدار العربية للكتاب، ليبيا / تونس، 1988.
محمد علي الخولي، معجم علم اللغة النظري، ط 1، مكتبة لبنان، بيروت، 1982.
محمد قطب، دراسات قرآنية، ط 2، دار الشروق، بيروت / القاهرة، 1980.
محمّد بن لطفي الصبّاغ، بحوث في أصول التفسير، ط 1، المكتب الإسلامي، بيروت، 1988.
محمّد الماكري، الشكل والخطاب: مدخل لتحليل ظاهراتي، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1991.
محمد المجذوب، نظرات تحليلية في القصة القرآنية، ط 5، دار الشوّاف، 1992.
محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري استراتيجية التناص، ط 3، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1992.(1/503)
محمد مفتاح، التلقّي والتأويل: مقاربة نسقية، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء 1994.
محمد مفتاح، ديناميّة النصّ: تنظير وإنجاز، ط 2، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1990.
محمد مفتاح ورفاقه، قضايا المنهج في اللغة والأدب، ط 1، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، 1987.
محمود السعران، علم اللغة: مقدمة للقارئ العربي، ط 1، دار المعارف، 1962.
محمود السعران، اللغة والمجتمع: رأي ومنهج، ط 1، دار المعارف، الإسكندرية، 1963.
محمود السيّد حسن مصطفى، الإعجاز اللّغوي في القصّة القرآنية، ط 1، مؤسسة شباب الجامعة، 1981.
محمود السيد شيخون، أسرار التقديم والتأخير في لغة القرآن، ط 1، مكتبة الكليات الأزهرية، 1983.
محمود السيد شيخون، أسرار التكرار في لغة القرآن، ط 1، مكتبة الكليّات الأزهرية، 1982.
المسدّي (عبد السلام)، الأسلوب والأسلوبية، ط 1، الدار العربية للكتاب، تونس، 1977.
المسدّي (عبد السلام)، قاموس اللسانيات، ط 1، الدار العربية للكتاب، تونس، 1984.
المسدّي (عبد السلام)، اللسانيات من خلال النصوص، ط 2، الدار التونسيّة للنشر، 1986.
المسدّي (عبد السلام)، النقد والحداثة، ط 1، دار الطليعة، بيروت، 1983.
مصطفى الصاوي الجويني، النصّ القرآني بين فهم العلماء وذوقهم، ط 1، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1992.(1/504)
مصطفى عبد السلام أبو شادي، الحذف البلاغي في القرآن الكريم، ط 1، مكتبة القرآن، القاهرة، 1992.
مصطفى لطفي، اللغة العربية في إطارها الاجتماعي، ط 1، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1976.
مصطفى ناصف، نظرية المعنى في النقد العربي، ط 2، دار الأندلس، بيروت، 1981.
منّاع القطّان، مباحث في علوم القرآن، ط 22، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1987.
منذر عيّاشي، قضايا لسانيّة وحضاريّة، ط 1، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، 1991.
منذر عيّاشي، اللّسانيات والدلالة (الكلمة)، ط 1، مركز الإنماء الحضاري، 1996.
موريس أبو ناصر، الألسنية والنقد والأدب، ط 1، دار النهار للنشر، بيروت، 1979.
ميخائيل باختين، الخطاب الروائي، ط 1، ترجمة محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، 1987.
نصر حامد أبو زيد، إشكاليّات القراءة وآليات التأويل، ط 2، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1992.
نصر حامد أبو زيد، الخطاب الديني: رؤية نقدية، ط 1، دار المنتخب العربي، القاهرة، 1992.
نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، ط 3، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1996.
نصر حامد أبو زيد، النص: السلطة الحقيقة، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1995.
نعيم علويّة، نحو الصوت ونحو المعنى، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1997.(1/505)
نهاد الموسى: نظرية النحو العربي في ضوء مناهج النظر اللغوي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980.
نوح أحمد محمّد (جامع) تجميع آيات الموضوع لآيات القرآن الكريم، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1994.
هدسن، علم اللغة الاجتماعي، ط 1، ترجمة د. محمود عبد الغني عيّاد ومراجعة عبد الأمير الأعسم، دار الشئون الثقافيّة، بغداد، 1987.
هو (غراهام)، الأسلوب والأسلوبية، ط 1، ترجمة كاظم سعد الدين، دار الشئون الثقافية، بغداد، 1985.
هوكز (ترانس)، البنيوية وعلم الإشارة، ط 1، ترجمة محمد الماشطة، دار الشئون الثقافية، بغداد، 1986.
الوليّ محمد، الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء، 1991.
ياكبسون (رومان)، أفكار وآراء حول اللسانيات والأدب، ط 1، ترجمة فالح صدّام الأمارة وعبد الجبار محمد علي، دار الشئون الثقافيّة العامّة، بغداد، 1990.
يمنى العيد، في معرفة النصّ، ط 1، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1983.(1/506)
2 - المراجع الحديثة باللغة الانجليزية:
3 - الرسائل الجامعية:(1/507)
3 - الرسائل الجامعية:(1/508)
3 - الرسائل الجامعية:
إبراهيم خليل، السياق وأثره في الدرس اللغوي: دراسة في ضوء علم اللغة الحديث، رسالة دكتوراه، الجامعة الأردنية، 1992.
أحمد سليمان الشريف، دلالة الصيغ، رسالة دكتوراه، جامعة الجزائر، 1986.
بلعيد صالح، التراكيب النحوية ودلالاتها في السياقات الكلامية والأحوال التي ترتبط بها عند الإمام عبد القاهر الجرجاني، رسالة ماجستير، جامعة الجزائر، الجزائر، 1987.
التهامي نقرة، سيكولوجية القصة في القرآن، رسالة دكتوراه، جامعة الجزائر، 1971م.
جلال أبو زيد هليل، ظاهرة الحركة في القرآن الكريم، رسالة دكتوراه، جامعة عين شمس، جمهورية مصر العربية، 1991.
حسين أحمد علي الدراويش، النظم القرآني في سورة البقرة: دراسة في الدلالة والأسلوب، رسالة دكتوراه، الجامعة الأردنية، 1986.
كمال قادري، التركيب النحوي في الآيات المدنية في القرآن الكريم، رسالة ماجستير، جامعة حلب، 1988.
موسى إبراهيم موسى، دور السياق في منهج التحليل النحوي عند سيبويه، رسالة ماجستير، الجامعة الأردنية، 1991.(1/509)
ج بحوث منشورة في:
1. دوائر المعارف:
،) 22 (، 0891)،، (.
،،، 2،، 6891.)،،
(.، 51،) 81 (.
4791،)، (.
2. الدوريات:
أحمد أبو زيد، الاتصال، مجلة عالم الفكر، المجلّد 11، العدد 2، الكويت، سبتمبر / 1980، ص (2311).
أحمد الخديري، من النصّ إلى الجنس الأدبي، مجلّة الفكر العربي المعاصر، العدد (54)، بيروت، آب تموز / 1988. ص: (6352).
الآن دوجلان، المؤرّخ والنصّ والناقد الأدبي، ترجمة فؤاد كامل، فصول، المجلد الرابع، العدد الأول، القاهرة، أكتوبر نوفمبر ديسمبر / 1983ص (19 24).
بسّام بركة، تعريف اللغة في نظر الألسنية الحديثة، المجلّة العربية، العدد 5، الرياض، 1980، ص (6655).
بنفيست (إميل)، البنية في اللسانيّات، تعريب حنون مبارك، مجلة دراسات أدبية لسانية، المغرب العدد 2، 1986، ص (4539).
بوشوك مصطفى، علم اللغة الاجتماعي وتعليم العربيّة الفصحى، مجلة المدرسة العليا للأساتذة، العدد (54)، الرباط، 1978، ص (4941).
بيرك (جاك)، حينما كنت أعيد قراءة القرآن، مجلّة القاهرة، العدد 154، القاهرة، 1995، ص (386).(1/510)
تيري إيجلتون، نحو علم النص، ترجمة فخري صالح، مجلة الثقافة الأجنبية، العدد 2، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1991، ص (2419).
دريدا (جاك)، الاستنطاق والتفكيك، ترجمة كاظم جهاد، مجلة الكرمل، عمان، العدد 198517، ص (1917).
رتشاردز، فلسفة البلاغة، ترجمة ناصر حلاوي وسعيد الغانس، مجلة العرب والفكر العالمي، العدد (1413)، بيروت، ربيع 1991، ص (8653).
صبري حافظ، التناص وإشاريات العمل الأدبي، عيون المقالات، العدد 2، القاهرة، 1986، ص (4035).
عبد الرحمن أبو علي، عناصر أوّليّة لمقاربة سوسيولوجية للنصّ الشعري، مجلة العرب والفكر العالمي، العدد الأول، بيروت شتاء، 1988، ص (143125).
عبد العالي بو طيب، إشكالية تأصيل المنهج في النقد الروائي العربي، مجلة عالم الفكر، المجلّد (27)، العدد الأول، الكويت، يوليو / سبتمبر / 1998، ص (219).
عبد العزيز حمّودة، المرايا المحدبة: من البنيوية إلى التفكيك، سلسلة عالم المعرفة، العدد 232، الكويت، إبريل / نيسان، 1998.
عبد الفتاح كليطو، تعريف النصّ الأدبي، مجلّة كلية الآداب، الرباط، العدد 65، 1979، ص (2416).
عبده الراجحي، النحو العربي والدرس الحديث، مجلّة الفكر العربي، العددان الثامن والتاسع، عددان خاصّان بالألسنية، معهد الإنماء العربي، طرابلس / ليبيا، كانون الثاني / آذار، 1979، ص (10282).
عفيف دمشقية، الإبلاغية فرع من الألسنية ينتمي إلى علم أساليب اللغة، مجلّة الفكر العربي، العددان الثامن والتاسع، معهد الإنماء العربي، طرابلس / ليبيا، كانون الثاني / آذار، 1979، ص (223203).(1/511)
مازن الوعر، الاتجاهات اللسانية المعاصرة ودورها في الدراسات الأسلوبية، مجلة عالم الفكر، المجلّد (22)، العددان الثالث والرابع، الكويت، يناير / مارس وإبريل / يونيو، 1994، ص (180137).
مجموعة من الكتاب الغربيين، مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، ترجمة د. رضوان ظاظا ومراجعة د. المنصف الشنوفي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 221، الكويت، مايو / أيار، 1997.
محمد خير البقاعي، تلقي رولان بارت في الخطاب العربي النقدي واللساني، مجلّة عالم الفكر، المجلد 27، العدد الأول، الكويت، يوليو / سبتمبر، 1998، ص (6125).
محمّد فتّوح أحمد، جدليّات النصّ، مجلّة عالم الفكر المجلّد 22، العددان الثالث والرابع، الكويت، يناير / مارس وإبريل / يونيو، 1994، ص (6538).
محمّد الهادي الطرابلسي، النصّ الأدبي وقضاياه، مجلة فصول، المجلد الخامس، العدد الأول، القاهرة، أكتوبر / نوفمبر / ديسمبر، 1984، ص (3221).
موريس أبو ناصر، الأسلوب وعلم الأسلوب، مجلة الثقافة العربية، بغداد، السنة 2، العدد 9، سبتمبر، 1975، ص (4640).
نايف خرما، أضواء على الدراسات العربية المعاصرة، سلسلة عالم المعرفة، العدد 9، الكويت، 1978.
نبيلة إبراهيم، القارئ في النص، مجلة فصول، المجلد الخامس، العدد الأول، القاهرة، أكتوبر / نوفمبر / ديسمبر، 1984، ص (4234).
نصر حامد أبو زيد، مفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجاني في ضوء الأسلوبية، مجلة فصول، المجلد الخامس، العدد الأوّل، القاهرة، أكتوبر / نوفمبر، ديسمبر، 1984 ص (8362).
،.،،)،،،.،، 0591،.) 2573 (.(1/512)
،.،،)،،،.،، 0591،.) 2573 (.
3 - وقائع المؤتمرات:
محي الدين الغرائري، تعليم اللّغات بين اللسانيات الاجتماعية واللّسانيات النفسيّة، أعمال الملتقى المغربي لطرق تدريس اللغة العربية، المعهد القومي لعلوم التربية، تونس 1980.
د. نهاد الموسى، الأعراف أو نحو اللسانيات الاجتماعية في العربية، الملتقى الدولي الثالث في اللسانيات، تونس، (2318) شباط، 1985، العدد السادس، الجامعة التونسية، مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، 1986.
د. نهاد الموسى، الوجهة الاجتماعية في منهج سيبويه في كتابه، بحث ألقي في مؤتمر ذكرى القرن الثاني عشر لوفاة سيبويه، جامعة بهلوي، شيراز، نيسان / أيار، 1974.(1/513)
فهرس المحتويات
الموضوع الصفحة الإهداء 1 تصدير الكتاب: بقلم الأستاذ الدكتور نهاد الموسى 3 المقدّمة 7 الفصل الأول: في الإطار النظري للدراسة:
في حدّ المصطلح في حدود النظرية 14613 المبحث الأوّل: في حدّ المصطلح 15
المبحث الثاني: نظرية العلاقة بين النص والسياق في المساهمات الغربية 27
المبحث الثالث: نظرية العلاقة بين النص والسياق في المساهمات العربية 41
المبحث الرابع: تجارب في المنهج 131
الفصل الثاني: الخطاب القرآني في سورة البقرة: دراسة في العلاقة 401147 بين النص والسياق في قراءات الأوائل المبحث الأول: الخطاب القرآني في سورة البقرة: دراسة في العلاقة بين 149 النص والسياق (قراءة في كتب علوم القرآن)
المبحث الثاني: الخطاب القرآني في سورة البقرة: دراسة في العلاقة بين 217 النص والسياق (قراءة في كتب التفسير)
المبحث الثالث: الخطاب القرآني في سورة البقرة: دراسة في العلاقة بين 338 النص والسياق (قراءة في كتب أصول الفقه)(1/515)
المبحث الرابع: الخطاب القرآني في سورة البقرة: دراسة في العلاقة بين 347 النص والسياق (قراءة في كتب إعراب القرآن)
الفصل الثالث: الخطاب القرآني في سورة البقرة بين حدود النص 476401 وآفاق السياق الخاتمة 477 قائمة المصادر والمراجع 483 فهرس المحتويات 515(1/516)