مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم هذه دراسة تكتسب أهميتها من أهمية موضوعها الذاتية في التشريع والتأريخ والتراث.
وموضوع هذه الدراسة يتصل بصميم القرآن نصا ومفهوما، ويتعلق بجوانبه الإيحائية والتدوينية والشكلية أثرا ومعاناة وتأريخا، وهو يحوم حول جزئيات متناثرة، يجمع شتاتها، ويوحد متفرقاتها، بعيدا عن الفهم التقليدي حينا، وعن التزمت الموروث حينا آخر، في استيعاب القضايا المعقدة، وارتياد المناخ المجهول، وسوف لا تلمس فيه للتعصب أثرا، ولا تصطدم بالمحاباة منهجا، الهدف العلمي يطغى فيه على الهوى النفسي، ليلتقي من خلال ذلك الغرض الفني فى النقد والتمحيص، بالغرض الديني في الاستقراء والمعرفة، لم أكن فيه متطرفا حد الإفراط، ولا متسامحا حد التهاون، بل اتخذت بين ذلك سبيلا.
ومفردات هذه الدراسة تتناول «تأريخ القرآن» بكل التفصيلات الدقيقة، والأبعاد المترامية الأطراف ابتداء من ظاهرة وحيه، ومرورا بنزوله، وجمعه، وقراءاته، وشكله، وانتهاء بسلامته وصيانته، فكان أن انتظم عدة فصول هي كالآتي:
الفصل الأول: وحي القرآن وقد تكفل بالحديث عن ظاهرة الوحي القرآني، ورعاية الوحي للنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم شأنه بذلك شأن من تقدمه من الرسل، وكان ميدانا لتفسير الظاهرة وتعليلها نفسيا وعلميا وقرآنيا، مع معالجة مجموعة التقولات والاجتهادات التي تناولت الوحي حينا، والكشف والإلهام والروحية حينا آخر، بما ميّزنا به حالة الوحي عن سواها، وتأثيرها
الخارجي عند النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم، وكيف يفسر بعض المستشرقين ذلك عنادا وتمويها، فخلص للظاهرة مردودها الخارجي البعيد عن حالات اللاوعي المزعوم، ذلك المردود الذي أعطى نتائج طبيعية لشدة وقع الوحي في استقبال النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم لحقيقة مستقلة عن كيانه وشعوره وإرادته، تأمر وتنهى وتقرر، والنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم يستمع، وينفذ، ويبلغ، وكان ذلك هو الوحي، وكان هذا الوحي قرآنا عجبا، عبرت العرب عن حيرتها أمام تياره المتدفق، وأخفقت تخرصاتها المتناقضة في وصفه.(1/5)
الفصل الأول: وحي القرآن وقد تكفل بالحديث عن ظاهرة الوحي القرآني، ورعاية الوحي للنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم شأنه بذلك شأن من تقدمه من الرسل، وكان ميدانا لتفسير الظاهرة وتعليلها نفسيا وعلميا وقرآنيا، مع معالجة مجموعة التقولات والاجتهادات التي تناولت الوحي حينا، والكشف والإلهام والروحية حينا آخر، بما ميّزنا به حالة الوحي عن سواها، وتأثيرها
الخارجي عند النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم، وكيف يفسر بعض المستشرقين ذلك عنادا وتمويها، فخلص للظاهرة مردودها الخارجي البعيد عن حالات اللاوعي المزعوم، ذلك المردود الذي أعطى نتائج طبيعية لشدة وقع الوحي في استقبال النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم لحقيقة مستقلة عن كيانه وشعوره وإرادته، تأمر وتنهى وتقرر، والنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم يستمع، وينفذ، ويبلغ، وكان ذلك هو الوحي، وكان هذا الوحي قرآنا عجبا، عبرت العرب عن حيرتها أمام تياره المتدفق، وأخفقت تخرصاتها المتناقضة في وصفه.
الفصل الثاني: نزول القرآن، وقد تناول بالبحث المركز: بداية النزول، وزمن النزول، والنزول التدريجي والجملي، وأسرار تنجيم القرآن الكريم، ومرحلية النزول، وتأريخية السور القرآنية مكيها ومدنيها، وضوابط هذين القسيمين، وأسباب النزول وتأريخيته، وما نزل بمكة وما نزل بالمدينة، بما يعتبر فصلا نموذجيا مكثفا، أعقبناه بترتيب إحصائي لسور القرآن وعددها، وعدد آياتها، ونزولها الزماني والمكاني.
الفصل الثالث: جمع القرآن، وقد تناول بالبحث الموضوعي:
روايات الجمع في تأريخها وتناقضها، وتتبع شذراتها هنا وهناك وغربلتها، وذهب إلى أن القرآن كان مجموعا على عهد النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم، وكانت أدلة جمعه متعاقبة في الروايات المعتبرة، وتوافر مصاحف الصحابة، وعملية الإقراء القرآني والتعليم في عهد رسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم، ودليل الكتابة ووجود الكتاب، وأدلة أخرى قطعية استنتاجية وروائية، وتساءل عن مصير مصحف أبي بكر (رض) وبحث المواقف المترددة في الأمر، وعقبها بالرأي النهائي، وتحدث عن مصحف عثمان في أطواره كافة، واعتبره النص القرآني الكامل.
الفصل الرابع: قراءات القرآن، وقد تناول بالبحث الاتجاهات الرئيسية في أسباب ومؤثرات وعوامل نشوء القراءات القرآنية، وناقش حديث الأحرف السبعة، وعرض موضوع اختلاف القراءات وتعددها منذ عهد مبكر، وكان مصدر القراءات مستهدفا الاتجاهات كافة، باعتبار شكل المصحف العثماني، وطريق الرواية الشفوية عن النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم، واختلاف لهجات العرب، قضايا ذات أهمية متكافئة في نشوء القراءات، ثم بحث
وجوه القراءات، ثم عرض باختصار لعدد القراء وتضارب الآراء في منزلتهم، وحقق القول في السبعة منهم، واعتماد قراءاتهم كأصل يرجع إليه، وكان الاختلاف في هذه القراءات لا يعدو الشكل غالبا، ولا يتجاوزه إلا نادرا، ووثق القراءات السبع، وفرق بين القراءة والاختيار، وأورد اعتبار البعض القراءة سنة، وضعف الشاذ منها، وأبان شروط القراءة المعتبرة في ضوء مقاييس النقد والقبول، وبين الاختلاف في نسبة التواتر في القراءات، أهو للقراء أم هو للنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم وأشار إلى الفرق بين حجية هذه القراءات، وبين جواز الصلاة فيها.(1/6)
الفصل الرابع: قراءات القرآن، وقد تناول بالبحث الاتجاهات الرئيسية في أسباب ومؤثرات وعوامل نشوء القراءات القرآنية، وناقش حديث الأحرف السبعة، وعرض موضوع اختلاف القراءات وتعددها منذ عهد مبكر، وكان مصدر القراءات مستهدفا الاتجاهات كافة، باعتبار شكل المصحف العثماني، وطريق الرواية الشفوية عن النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم، واختلاف لهجات العرب، قضايا ذات أهمية متكافئة في نشوء القراءات، ثم بحث
وجوه القراءات، ثم عرض باختصار لعدد القراء وتضارب الآراء في منزلتهم، وحقق القول في السبعة منهم، واعتماد قراءاتهم كأصل يرجع إليه، وكان الاختلاف في هذه القراءات لا يعدو الشكل غالبا، ولا يتجاوزه إلا نادرا، ووثق القراءات السبع، وفرق بين القراءة والاختيار، وأورد اعتبار البعض القراءة سنة، وضعف الشاذ منها، وأبان شروط القراءة المعتبرة في ضوء مقاييس النقد والقبول، وبين الاختلاف في نسبة التواتر في القراءات، أهو للقراء أم هو للنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم وأشار إلى الفرق بين حجية هذه القراءات، وبين جواز الصلاة فيها.
الفصل الخامس: شكل القرآن، وتناول بالبحث: ما هو المراد من شكل القرآن، وكراهة الأوائل للزيادات التوضيحية في الرسم القرآني، وبداية إعجام القرآن ونقطه على يد أبي الأسود وتلامذته، فكان الرائد الأول، وتبعه الخليل بن أحمد الفراهيدي في ابتداع أشكال الحركات.
وبحث بعد النقط والحركات مظاهر الهمز والتشديد والروم والإشمام، وما أحدث على الشكل عموما بغية التطوير، وجعلوا لذلك قواعد للتمييز بين النص ومحسناته، ثم تناول مسألة الرسم المصحفي، وما صاحبها من مغالاة وتقديس لا تمت إلى الذائقة الشرعية بصلة، ونفى ادعاء كون الخط المصحفي توقيفيّا، وذهب إلى أنه مما تواضع عليه الكتبة، ولا مانع من أن يكتب بأي خط كان، وعزا اختلاف الخطوط، ومغايرتها لأصول الإملاء العربي، إلى اشتباه الكتاب، ولا ضير عليهم في ذلك إذ هو مدى ما يعرفون. وكان شكل القرآن متجاوبا مع العصور في تطوير خطوطه حتى طباعته في الغرب وفي مصر وفي أجزاء أخرى من الوطن العربي.
الفصل السادس: سلامة القرآن، وقد تناول بالبحث توثيق النص القرآني، وعدم وقوع التحريف فيه. وعالجنا القول بالتحريف من كل وجوهه وافتراضاته، فكان مبنيا على ادعاءات، وافتراضات، وروايات، واتهامات، وشبهات، ومحاولات.
عرضنا لها جميعا بشيء من المناقشة والحجاج والسرد، انتهينا من خلالها جميعا إلى سلامة القرآن وصيانته من التحريف.
وكانت مصادر هذه الدراسة ومراجعها تعتمد ما كتب القدامى في
علوم القرآن، والتفسير، وأسباب النزول، والقراءات، والرسم، والحديث، وما حققه المحدثون من إنجاز في المجالات نفسها، وإن كان متضائلا، وما كتبه المستشرقون في تأريخ القرآن، ونظمه، وتأليفه، وشكله، وكتابته، وقراءته، ومراحله، ومكيه، ومدنيه، وغيرها.(1/7)
وكانت مصادر هذه الدراسة ومراجعها تعتمد ما كتب القدامى في
علوم القرآن، والتفسير، وأسباب النزول، والقراءات، والرسم، والحديث، وما حققه المحدثون من إنجاز في المجالات نفسها، وإن كان متضائلا، وما كتبه المستشرقون في تأريخ القرآن، ونظمه، وتأليفه، وشكله، وكتابته، وقراءته، ومراحله، ومكيه، ومدنيه، وغيرها.
ولم يكن ضروريا موافقة من كتب، أو متابعة من اجتهد، فطالما اختلفنا في وجهات النظر المتغايرة، وربما انتقدنا وذهبنا بالنقد كل مذهب ينتهي إلى الحقيقة، وربما اتفقنا مع جملة من الآراء. وإزاء هذا وذاك، احترمنا كل رأي، مصيبا كان أم مخطئا، مع إقرارنا للصواب ومناقشتنا للخطأ، سواء أخذنا بذلك أو لم نأخذ، فالطريق العلمي أحق أن يتبع، والاستنتاج القائم على أساس المقارنة بين النصوص، والممايزة بين الاجتهادات، أجدر بالاحترام المنهجي، وقدسية الأثر الديني المتمثل في القرآن الكريم أسمى من كل الاعتبارات الهامشية التي لا تمتّ إلى المنطق بصلة، والأسماء وإن كانت لامعة إلا أنها قد تختفي بأضواء الحقائق العلمية.
هذا ما انتهجته هذه الدراسة في الرأي والكشف والاجتهاد، وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم، عليه توكلت وإليه أنيب، وهو حسبي ونعم الوكيل.
الدكتور محمد حسين علي الصغير(1/8)
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الفصل الأول وحي القرآن(1/9)
ما برحت حياة النبي محمد صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم موضع عناية الدارسين من أبعاد مختلفة، وبقدر ما عبئ للموضوع من أهبة واستعداد، ومنهجية في أغلب الأحيان، فما تزال هناك بقية للبحث، فقد تنقصنا كثير من الوثائق عن حياته الروحية قبل البعثة، وصلتها بحياته العامة والخاصة بعد البعثة.
هناك شذرات متناثرة في كتب السيرة والتأريخ والآثار، تتعلق بحياة النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم هامشيا، تتخذ مجال الثناء والاطراء حينا، وتتسم بطابع الحب والتقديس حينا آخر، وهي مظاهر لا تزيد من منزلة النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم الذاتية، ولا تكشف عن مكنونات مثله العليا، ذلك باستثناء الإجماع على عزلته في عبادته وتحثه، والاقتناع بصدقة وأمانته، وهي شذرات غير غريبة في أصالة النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم الكريمة، وتقويمه الخلقي الرصين.
وتطالعنا أحيانا أحداث في تأريخ النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم قبل البعثة، لها مداليل من وثاقة، ورجاحة من عقل، كالمشاركة الفاعلة في حلف الفضول، وتميزه بالدفاع عن ذوي الحقوق المهتضمة، وكاللفتة البارعة في رفع الحجر الأسود، ووضعه بموضعه من الكعبة اليوم، بما أطفأ به نائرة، وأخمد فتنة.
وهناك انفراده عن شباب عصره بالحشمة والاتزان، وهو في شرخ الصبا وعنفوان العمر، والتأكيد على الخلوة الروحية بين جبال مكة وشعابها، وفي غار حراء بخاصة، والحديث عن تجواله في سفرتين تجاريتين، لا يفصح كثيرا عن ثمرة تجربتهما النفسية، ولا يعرف صدى مشاهداتهما روحيا واجتماعيا.
في حياته العائلية قبل البعثة نجده يتيما يسترضع في بني سعد، ويقعد أبويه تباعا، ويحتضنه جده عبد المطلب حضانة العزيز المتمكن، وبوفاته يوصي به لأبي طالب، ويتزوج وهو فتى في الخامسة والعشرين من عمره من السيدة العربية خديجة بنت خويلد، وكان زواجا ناجحا في حياة عائلية سعيدة، تكدّ وتكدح في تجارة تتأرجح بين الربح والخسران، وفجأة الوحي الحقّ، والتجأ إلى خديجة، تزمله آنا، وتدثره آنا آخر.(1/11)
وهناك انفراده عن شباب عصره بالحشمة والاتزان، وهو في شرخ الصبا وعنفوان العمر، والتأكيد على الخلوة الروحية بين جبال مكة وشعابها، وفي غار حراء بخاصة، والحديث عن تجواله في سفرتين تجاريتين، لا يفصح كثيرا عن ثمرة تجربتهما النفسية، ولا يعرف صدى مشاهداتهما روحيا واجتماعيا.
في حياته العائلية قبل البعثة نجده يتيما يسترضع في بني سعد، ويقعد أبويه تباعا، ويحتضنه جده عبد المطلب حضانة العزيز المتمكن، وبوفاته يوصي به لأبي طالب، ويتزوج وهو فتى في الخامسة والعشرين من عمره من السيدة العربية خديجة بنت خويلد، وكان زواجا ناجحا في حياة عائلية سعيدة، تكدّ وتكدح في تجارة تتأرجح بين الربح والخسران، وفجأة الوحي الحقّ، والتجأ إلى خديجة، تزمله آنا، وتدثره آنا آخر.
وينهض النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم في دعوته، فتجد الدعوة مكذبين ومصدقين، وتقف قريش بكبريائها وجبروتها في صدر الدعوة، ويلقى الأذى والعنت من قومه وعشيرته الأقربين، وفي حمأة الأحداث يموت كافله وزوجته في عام واحد، فيكون عليه عام الأحزان، فلا اليد التي قدمت المال للرسالة، ولا الساعد الذي آوى وحامى، ويوحى إليه بالهجرة، فتمثل حدثا عالميا فيما بعد.
هذه لمحات يذكرها كل من يترجم للنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم يطيل بها البعض، ويوجز البعض الآخر، وليست كل شيء في حياة النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم فقد تكون غيضا من فيض.
ولست في صدد تأريخية هذه الأحداث، ولا بسبيل برمجتها، لألقي عليها ظلالا مكثفة من البحث، ولكنها لمسات تمهيدية تستدعي الإشارة فحسب.
ومهما يكن من أمر، فقد تبقى طريقة النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم المنهجية في التوفيق بين واجباته الروحية ومهماته القيادية من جهة، وبين حياته العامة ومساره الدنيوي من جهة ثانية، لا تجد تأريخا يمثل بدقة ووضوح تامين المنهج الرئيسي الذي اختطه لنفسه هذا القائد العظيم وهو في مكة المكرمة.
في المدينة المنورة حيث العدد والعدة، والنصرة والفداء، نلمس إيحاء قرآنيا بنقطتين مهمتين:
الأولى: مواجهته للمنافقين وتحركهم جهرة وخفاء، وتذبذبهم إزاء الرسالة بين الشك المتمادي، والتصديق الكاذب، يصافحون أهل الكتاب تارة، ويوالون مشركي مكة تارة أخرى، حتى ضاق بهم ذرعا، ونهاهم
القرآن الكريم عن التردي في هذه الهاوية مرارا وتكرارا، وهددهم بالاستئصال والتصفية بعض الأحيان، ولم ينقطع كيدهم، فمثلوا ثورة مضادة داخلية، تفتك بالصفوف وتفرق الجموع، لولا الوقوف في نهاية الأمر بوجه ترددهم الخائف، وهزائمهم المتلاحقة، إثر ما حققه الإسلام من انتصارات في غزواته وحروبه الدفاعية، إلا أن جذوتهم بقيت نارا تحت رماد، وعاصفة بين الضلوع، تخمد تارة وتهب أخرى.(1/12)
الأولى: مواجهته للمنافقين وتحركهم جهرة وخفاء، وتذبذبهم إزاء الرسالة بين الشك المتمادي، والتصديق الكاذب، يصافحون أهل الكتاب تارة، ويوالون مشركي مكة تارة أخرى، حتى ضاق بهم ذرعا، ونهاهم
القرآن الكريم عن التردي في هذه الهاوية مرارا وتكرارا، وهددهم بالاستئصال والتصفية بعض الأحيان، ولم ينقطع كيدهم، فمثلوا ثورة مضادة داخلية، تفتك بالصفوف وتفرق الجموع، لولا الوقوف في نهاية الأمر بوجه ترددهم الخائف، وهزائمهم المتلاحقة، إثر ما حققه الإسلام من انتصارات في غزواته وحروبه الدفاعية، إلا أن جذوتهم بقيت نارا تحت رماد، وعاصفة بين الضلوع، تخمد تارة وتهب أخرى.
الثانية: مجابهته للفضوليين، الذين كانوا يأخذون عليه راحته، ويزاحمونه وهو في رحاب بيته، بين أفراد عائلته وزوجاته، فينادونه باسمه المجرد، ويطلبون لقاءه دون موعد مسبق، بما عبّر عنه القرآن بصراحة:
{إِنَّ الَّذِينَ يُنََادُونَكَ مِنْ وَرََاءِ الْحُجُرََاتِ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْقِلُونَ 4}. (1).
واستأثر البعض من هؤلاء وغيرهم بوقت القائد، فكانت الثرثرة والهذر، وكان التساؤل والتنطع، دون تقدير لملكية هذا الوقت، وعائدية هذه الشخصية، فحدّ القرآن من هذه الظاهرة، واعتبرها ضربا من الفوضى، وعالجها بوجوب دفع ضريبة مالية تسبق هذا التساؤل أو ذاك الخطاب، فكانت آية النجوى:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا نََاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوََاكُمْ صَدَقَةً ذََلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 12} (2).
وكان لهذه الآية وقع كبير، فامتنع الأكثرون عن النجوى، وتصدق من تصدق فسأل ووعى وعلم، وانتظم المناخ العقلي بين يدي الرسول الأعظم صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم فكفّ الفضول، وتحددت الأسئلة، ليتفرغ النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم للمسئولية القيادية.
ولما وعت الجماعة الإسلامية مغزى الآية، وبلغ اللََّه منها أمره، نسخ حكمها ورفع، وخفف اللََّه عن المسلمين بعد شدة مؤدبة، وفريضة رادعة، وتأنيب في آية النسخ:
__________
(1) الحجرات: 4.
(2) المجادلة: 12.(1/13)
{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوََاكُمْ صَدَقََاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتََابَ اللََّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ وَآتُوا الزَّكََاةَ وَأَطِيعُوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَاللََّهُ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ 13} (1).
كان هذا وذاك يستدعي الوقوف فترة زمنية عند رعاية الوحي للنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم في التوفيق بين واجباته القيادية، وحياته الاعتيادية، فأمام المنافقين نجد الحذر واليقظة يتبعهما الإنذار النهائي باغرار النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم بهم، وعند الحادثتين التاليتين نجد الوحي حاضرا في اللحظة الحاسمة، فيسليه في الأولى بأن أكثر هؤلاء لا يعقلون. ويعظمه في الثانية بجعل مقامه متميزا، فلا يخاطب إلا بصدقة، ولا يسأل إلا بزكاة.
وما زلنا في هذا الصدد فإننا نجد الوحي رفيقا أمينا لهذا القائد الموحي إليه، من هذه الزاوية التوفيقية بين التفرغ لنفسه، والتفرغ لمسئولياته، وهذا أهم جانب يجب أن يكشف في حياة النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم، والكشف عنه إنما يتم بدراسة حياة النبي الخامسة مرتبطة بهذه الظاهرة، وهي ظاهرة الوحي الإلهي، ومدى الاتصال والانفصال بينها وبين النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم، وحاجته الملحّة إلى هذا الشعاع الهادي، منذ البدء وحتى النهاية.
لم يكن النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم بدعا من الرسل، ولم يختص بالوحي دونهم، بل العكس هو الصحيح، فقد شاركهم هذه الظاهرة، وقد أوحي إليه كما أوحي إليهم من ذي قبل، قال تعالى:
{إِنََّا أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ كَمََا أَوْحَيْنََا إِلى ََ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنََا إِلى ََ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْمََاعِيلَ وَإِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبََاطِ وَعِيسى ََ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهََارُونَ وَسُلَيْمََانَ وَآتَيْنََا دََاوُدَ زَبُوراً * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنََاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً} (2).
فقد هدفت الآية وما بعدها إلى بيان حقيقة الوحي الشاملة للأنبياء عليهم السّلام كافة، ممن اقتص خبرهم وممن لم يقتص، وإيثار موسى بالمكالمة وحده.
ويبقى التساؤل قائما: بماذا تفسر هذه الظاهرة، وكيف تعلل نفسيا؟
وكيف تنطبق كونيا، وكيف عولجت قرآنيا؟ وهل هي حقيقة تنطلق من ذات
__________
(1) المجادلة: 13.
(2) النساء: 164163.(1/14)
النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ أم هي ظاهرة منفصلة عنه تماما، وما هو سبيل معرفتها جوهريا عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ وعند الناس؟ وكيف آمن به بكل قوة ويقين وآمن بها من حوله؟
وللإجابة عن هذه الافتراضات، لا بدّ من رصد جديد لهذه الأبعاد كافة، وقد يرى ذلك غريبا في تأريخ القرآن، ولكن نظرة تمحيصية خاطفة، تؤصل حقيقة هذا المناخ، وتؤكد ضرورة هذا المنهج، لأن الوحي يشكل بعدا زمنيا معنيا يقترن بنزول القرآن، وذلك أول تأريخ القرآن، ويستمر معه بوحي القرآن متكاملا، وذلك تفصيلات تأريخ القرآن في عهد الرسالة، وهو الجزء المهم والأساس في هذا التأريخ.
وباستعراض هذه الافتراضات سوف نلمس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عبدا مأمورا محتسبا، ينفّذ ولا يسأل، ويبلغ ولا يضيف، مهمته التلقي والأداء، مستقلا بذاته، ومنفصلا عن ظاهرته، ويبقى الجمع بين حياته العامة والخاصة من اختصاصه بتوجيه من الله تعالى، وبعناية من وحيه، فلا تعارض بينهما، فيرتفع بذلك ما أثرناه مسبقا، ويتلاشى الإشكال بهذا الملحظ، مع أننا نلمس بشكل جدي أن النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم قد وهب حياته للوحي، مبلغا أمينا، ورسولا كريما، إلا أن شخصيته حقيقة، والوحي حقيقة أخرى، وهذا ما ندأب إلى إثباته عليما.
إن ما يذهب إليه بعض الدارسين من أن ظاهرة الوحي، قد يراد بها المكاشفة، وقد يعبر عنها بالوحي النفسي تارة، أو الإلهام المطلق تارة أخرى، دون تحديد مميز، لا يتوافق مبدئيا مع دراسة النهج الموضوعي لظاهرة الوحي.
إن كلمة الإبهام ليس لها أي مدلول نفسي محدد، مع أنها مستخدمة عموما لكي ترد معنى الوحي إلى ميدان علم النفس.
والوحي النفسي يدور حول معرفة مباشرة لموضوع قابل للتفكير، والوحي الإلهي يجب أن يأخذ معنى المعرفة التلقائية والمطلقة الموضوع لا يشغل التفكير، وأيضا غير قابل للتفكير.
والمكاشفة لا تنتج عند صاحبها يقينا كاملا، ويقين النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم بالوحي قد كان كاملا، مع وثوقه بأن المعرفة الموحى بها غير شخصية، وطارئة، وخارجة عن ذاته (1).(1/15)
والوحي النفسي يدور حول معرفة مباشرة لموضوع قابل للتفكير، والوحي الإلهي يجب أن يأخذ معنى المعرفة التلقائية والمطلقة الموضوع لا يشغل التفكير، وأيضا غير قابل للتفكير.
والمكاشفة لا تنتج عند صاحبها يقينا كاملا، ويقين النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم بالوحي قد كان كاملا، مع وثوقه بأن المعرفة الموحى بها غير شخصية، وطارئة، وخارجة عن ذاته (1).
والوحي الإلهي هو الفصل الذي يكشف به الله للإنسان عن الحقائق التي تجاوز نطاق عقله (2).
وإذا كان الوحي فعلا متميزا، فهو صادر عن فاعل مريد، وهذا الفاعل المريد هو الله تعالى، وليس الإلهام والكشف كذلك، وهذا ما يميز الوحي عن المكاشفة، والوحي النفسي، والإلهام، إذ أن مردّ الإلهام يعود عادة إلى الميدان التجريبي لعلم النفس، ونزعة الوحي النفسي في انقداحها تعتمد على التفكر في الاستنباط، والمكاشفة تتأرجح بين الشك واليقين.
أما الوحي فحالة فريدة مخالفة لا تخضع إلى التجربة أو التفكير، ومتيقنة لا مجال معها للشك. مضافا إلى أن حالات الكشف والإلهام والإيحاء النفسي حالات لا شعورية ولا إرادية، والوحي ظاهرة شعورية تتسم بالوعي والإدراك التامين.
والوحي بالمعنى المشار إليه يختص بالأنبياء، وليس الإلهام أو الكشف كذلك، فهما عامان وشائعان بين الناس.
ولقد فرّق المستشرق الألماني الدكتور تيودور نولد كه (19301836 م) بين الوحي والإلهام تفريقا فيه مزيج بين الواقع والصوفية، فاعتبر الوحي خاصا بالأنبياء، والإلهام خاصا بالأولياء إذ لا يوحي إليهم (3).
ويتجلى الفرق بين الإلهام والوحي بتعبير آخر، وبتصور متغاير، أن مصدر الإلهام باطني، وأن مصدر الوحي خارجي، بل الإلهام من الكشف المعنوي، والوحي من الواقع الشهودي، لأن الوحي إنما يتحصل بشهود الملك وسماع كلامه، أما الإلهام فيشرق على الإنسان من غير واسطة
__________
(1) ظ: مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية: 167وما بعدها.
(2) ظ: د. جميل صليبا، المعجم الفلسفي: 2/ 570.
(3) ظ: نولدكه، دائرة المعارف الإسلامية: مجلد 9مادة: الدين.(1/16)
ملك، فالإلهام أعم من الوحي، لأن الوحي مشروط بالتبليغ، ولا يشترط ذلك في الإلهام.
والإلهام ليس سببا يحصل به العلم لعامة الخلق، ويصلح للبرهان والإلزام، وإنما هو كشف باطني، أو حدس، يحصل به العلم للإنسان في حق نفسه لا على وجه اليقين والقطع، كما هي الحالة في الوحي، بل على أساس الاحتمال الإقناعي (1).
ولهذا فلا اعتبار بما حاوله الأستاذ محمد عبده: بجعل الإلهام وجدانا تستيقنه النفس، وحسبان ذلك طريقا لإمكان الوحي (2).
إن طريق الوحي هو التلقي، وطريق هذا التلقي هو الملك وفي ضوئه نجد عبد القاهر الجرجاني (في 471هـ) حديا بتمثل الوحي متفردا بما ألقاه جبرئيل عليه السّلام على النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم، وأن القول بأنه: «قد كان على سبيل الإلهام، وكالشيء يلقى في نفس الإنسان، ويهدى له من طريق الخاطر والهاجس الذي يهجس في القلب، فذلك مما يستعاذ بالله منه، فإنه تطرق للإلحاد» (3).
ولقد تطرق بعض الباحثين الكهنوتيين فدعى بأن الوحي: «هو حلول روح الله في روح الكتّاب الملهمين لاطلاعهم على الحقائق الروحية والأخبار الغيبية، من غير أن يفقد هؤلاء الكتاب بالوحي شيئا من شخصياتهم، فلكل منهم نمطه في التأليف، وأسلوبه في التعبير» (4).
وهذا التعبير عن الوحي بهذا الفهم، يختلف جذريا عن المفهوم القرآني للوحي، ويضفي مناخا باطنيا في الحلول والاتحاد، يدفعه الإسلام، وهو سبيل مختصر إلى تقمص الصفاء الروحي وادعائه من قبل من لم يحصل عليه، وفيه استهواء للدجل الاجتماعي عند الكهنة والكذبة، وبعد
__________
(1) ظ: د. جميل صليبا، المعجم الفلسفي: 1/ 131.
(2) ظ: محمد عبده، رسالة التوحيد: 108.
(3) عبد القاهر، الرسالة الشافية، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن: 156.
(4) جورج بوست، قاموس الكتاب المقدس، وانظر: صبحي الصالح مباحث في علوم القرآن: 25.(1/17)
هذا: فهو مغاير لمفهوم الوحي وطريقته اللذين خاطب الله بهما رسله، وعلمهم من خلالهما، مع استقلال في شخصية الوحي، بعيدة عن مراتب الفراسة والتجانس الروحي، واستقلال في المتلقي بعيد عن الاستنتاج الذاتي، أو التعبير المطلق بكل صوره.
إن عملية الوحي الإلهى إنما تخضع لتصور حوار علوي بين ذاتين:
«ذات متكلمة آمرة معطية، وذات مخاطبة مأمورة متلقية» (1).
ولم تتشاكل في مظهر من مظاهر الوحي وظاهرته، الذات المتكلمة، والذات المخاطبة في قالب واحد، ولم يتحدا في صورة واحدة على الإطلاق، فهما متغايران.
إن ظاهرة الوحي الإلهي ظاهرة مرثية ومسموعة، ولكنها خاصة بالنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم وحده، فما اتفق ولو مرة واحدة، أن سمع أصحابه صوت الوحي، ولا حدث أن رأوا هذا الكائن الموحي، ومع هذا فقد أدركوا صحة ما نزل عليه، وصدق ما أوحي إليه، بدلائل الإعجاز، وقرائن الأهوال، واعتبارات الاختصاص، فالنفس الإنسانية، وإن كانت واحدة في الأصل والجواهر، ولكنها تختلف شفافية كما تختلف تخويلا من قبل الله تعالى، فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يرى ويسمع ويعي ما حوله من الظاهرة بيقين مرئي مشاهد، ومن حوله لا يرون ولا يسمعون ولكنهم يصدقون ويؤمنون.
وربما قيل أن ما يتلقاه النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم من الروح الأمين وهو رسول الوحي: «هو نفسه الشريفة من غير مشاركة الحواس الظاهرة، التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية، فكان صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم يرى ويسمع حينما يوحى إليه من غير أن يستعمل حاستي البصر والسمع فكان صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم يرى الشخص، ويسمع الصوت مثل ما نرى الشخص ونسمع الصوت غير أنه ما كان يستخدم حاستي بصره وسمعه الماديتين كما نستخدمهما، ولو كانت رؤيته وسمعه بالبصر والسمع الماديين لكان ما يجده مشتركا بينه وبين غيره، فكان سائر الناس يرون ما يراه، ويسمعون ما يسمع، والنقل القطعي يكذب
__________
(1) ظ: مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية: 194صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن:
27.(1/18)
ذلك، فكثيرا ما كانت تأخذه برحاء الوحي، وهو بين الناس، فيوحي إليه، ومن حوله لا يشعرون بشيء، ولا يشاهدون شخصا يكلمه» (1).
وقد يفسر هذا بأنه ظاهرة ذاتية، ولكن عمى الألوان (2) مثلا يقدم لنا حالة نموذجية، لا يمكن في ضوئها أن ترى بعض الألوان بالنسبة لكل العيون.
«هناك مجموعة من الإشعاعات الضوئية دون الضوء الأحمر، وفوق الضوء البنفسجي لا تراها أعيننا، ولا شيء يثبت علميا أنها كذلك بالنسبة لجميع العيون، فلقد توجد عيون يمكن أن تكون أقل أو أكثر حساسية أمام تلك الأشعة، كما يحدث في حالة الخلية الضوئية الكهربية» (3).
وهذا مطرد بالنسبة للبصر المادي المتفاوت، أما على التفسير الأول، فينتفي الأشكال جملة وتفضيلا، فهو من باب الأولى.
ولقد توصل النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم إلى اليقين القطعي بصدق الرؤية والسمع عند حدوث ظاهرة الوحي طيلة ثلاثة وعشرين عاما، وكان لذلك أمارات خارجية تبدو على وجهه وعينه وجبينه، من شجوب أو احتقان أو تصبب عرق، وقد يرافق ذلك دوي بجسمه أو أصداء أو أصوات كما تقول الروايات (4).
ولكن هذه المظاهر لم تمتلك عليه وعيه الكامل، وإحساسه اليقظ، لأنها أمارات خارجية لا تغير من حقيقة شعوره على الإطلاق، فقسمات الوجه، وتعرق الجبين، وشحوب المحيا لا تدل في حالة اعتيادية على تغير في الوعي، أو انعدام للذاكرة، أو فقدان للشعور، وما هي إلا طوارئ عارضة لا تمس الجوهر بشيء.
__________
(1) الطباطبائي، الميزان: 15/ 317وما بعدها.
(2) عنى الألوان قسمان: كلي وجزئي، فالكلي هو العجز عن التمييز بين الألوان مع بقاء الإحساس البصري سليما من الاضطراب، والجزئي هو العجز عن إدراك لون بعينه، أو عن تمييز ذلك اللون عن غيره. (ط: المعجم الفلسفي: 2/ 108).
(3) مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية: 178.
(4) ظ: ابن سعد، الطبقات الكبرى: 1/ 197البخاري، الجامع الصحيح: 1/ 4الفتح الرباني: 20/ 212فتح الباري: 1/ 21.(1/19)
ولقد تعجل بعض النقاد من المستشرقين، حين ألموا بهذه الدلائل النفسية، والإمارات الشكلية الخارجية التي لا تنتاب الوعي إطلاقا، ولا تؤثر على الإدراك في حال، فاعتبروها مخطئين أعراضا للتشنج تارة، وللإغماء تارة أخرى. «وهذا الرأي يشمل خطأ مزدوجا حين يتخذ من هذه الأغراض الخارجية مقياسا يحكم به على الظاهرة القرآنية بمجموعها، ولكن من الضروري أن نأخذ في اعتبارنا قبل كل شيء الواقع النفسي المصاحب، الذي لا يمكن أن يفسر أي تعليل مرضي فإذا نظرنا إلى حالة النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم وجدنا أن الوجه وحده هو الذي يحتقن بينما يتمتع الرجل بحالة عادية، وبحريّة عقلية ملحوظة من الوجهة النفسية، بحيث يستخدم ذاكرته استخداما كاملا خلال الأزمة نفسها، على حين يمحى وعي المتشنج وذاكرته خلال الأزمة، فالحالة إذن ليست حالة تشنّج.
هذا التلازم الملحوظ بين ظاهرة نفسية في أساسها، وحالة معينة، هو الطابع الخارجي المميّز للوحي» (1).
وهكذا كان لظاهرة الوحي عند بعض المستشرقين تفسيرات خاطئة، أملاها حقد ودجل وافتراء، فقد كان الوحي على حد زعمهم أثرا لنوبات الصرع التي تعتري الرسول الأعظم صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم فكان يغيب عن صوابه، ويسيل منه العرق، وتعتري التشنجات، وتخرج من فيه الرغوة، فإذا أفاق من نوبته ذكر أنه أوحي إليه، وتلا على المؤمنين به ما يزعم أنه وحي من ربه (2).
ومع ما في هذا الزعم من الكذب المضحك، والغض المعتمد من منزلة النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم الرسالية، فالطريف أن ينبري له المستشرقون أنفسهم، لا سيما هنري لامنس، وفون هامر، وأمثالهما، للرد عليه، إلا أن في طليعة هؤلاء جميعا السير وليم موير (1819م / 1905م) (3).
لقد فند هذا الباحث المحايد في كتابه (حياة محمد) مزاعم الجهلة الحاقدين، وعقب على ظاهرة الوحي وأعراضها الخارجية بقوله: «وتصوير
__________
(1) مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية: 182.
(2) ظ: بكري أمين، التعبير الفني في القرآن: 18.
(3) (1429).،،(1/20)
ما كان يبدو على محمد في ساعات الوحي على هذا النحو الخاطئ من الناحية العلمية أفحش الخطأ. فنوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أي ذكر لما مرّ به أثناءها، بل هو ينسى هذه الفترة من حياته بعد إفاقته من نوبته نسيانا تاما، ولا يذكر شيئا مما صنع أو حلّ به خلالها، لأن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام العطل. هذه أعراض الصرع كما يثبتها العلم، ولم يكن ذلك ما يصيب النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم العربي أثناء الوحي، بل كانت تتنبه حواسه المدركة في تلك الأثناء تنبها لا عهد للناس به، يذكر بدقة غاية الدقة ما يتلقاه، وما يتلوه بعد ذلك على أصحابه، ثم نزول الوحي لم يكن يقترن حتما بالغيبوبة الحسية مع تنبه الإدراك الروحي غاية التنبه، بل كثيرا ما يحدث والنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم في تمام يقظته العادية» (1).
وفي ضوء ما تقدم يمكن أن نرصد في ظاهرة الوحي عملية إرسال واستقبال بوقت واحد، إرسال بوساطة الملك المؤتمن، واستقبال من قبل النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم المصطفى صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم، يتم ذلك في حالة إدراك متماسكة، يسيطر فيها الوعي والشعور والإحساس، كما لو كان أمرا عاديا في يقظة حقيقية، قبل الوحي، وأثناء الوحي، وبعد الوحي، مهما صاحب عملية الوحي من شدة ووطأة ومفاجأة. فالوحي حقيقة خارجية مستقلة عن كيان النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم النفسي، ولكنها لا تغير ذلك الواقع النفسي، بل تزيده جلاء وفطنة وذاكرة، ويمثل فيها النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم دور المتلقي الواعي من جهة، ودور المبلغ الأمين من جهة أخرى، لا يقدم ولا يؤخر، ولا يغيّر ولا يقترح، ولا يفتر ولا يتكاسل.
ولقد كان ذلك بحق:
«استقبالا من النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم لحقيقة ذاتية مستقلة، خارجة عن كيانه وشعوره الداخلي، وبعيدة عن كسبه أو سلوكه الفكري أو العملي» (2).
وليس من الضروري أن تتوافق هذه الظاهرة مع رغبات النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم الآنية، أو تطلعاته النفسية الملحة، فقد ينقطع عنه الوحي، وقد يتقاطر
__________
(1) ظ: بكري أمين، التعبير الفني في القرآن: 19.
(2) المصدر السابق، نفس الصفحة.(1/21)
عليه، ولكنه لا يعدو الوقت المناسب في تقدير الله عزّ وجلّ، وما تحويل القبلة إلي الكعبة، وإبطاء الوحي في حادثة الإفك، وفترة الوحي حينا، والتلبث في قصة أهل الكهف، إلا شواهد تطبيقية على ما نقول، وأدلة مثبتة: أن الوحي خارج عن إرادته، ومستقلّ عن ذاته.
ولا شك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم آمن منذ اللحظة الأولى بقناعة شخصية متوازنة بأن ما يوحى إليه ليس من جنس الأحلام وأضغاثها، ولا من سنخ الرياضيات ومسالكها، ولا من باب الأحاسيس القائمة على أساس من الذكاء والفطنة، ولا من قبيل التخيلات المستنبطة من الحدس والفراسة، وإنما كان بإيمان نفسي محض بأنه نبي يوحى إليه من قبل اللََّه تعالى، وما الروايات والإسرائيليات القائلة بشكه في الظاهرة إلا ضرب من الأخيلة التي لا يدعمها دليل.
«والحق أن وحي النبوة والرسالة يلازم اليقين من النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم والرسول بكونه من اللََّه تعالى على ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام» (1).
ويوحي اللََّه عزّ وجلّ لملك الوحي، ما يوحيه الملك إلى النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم عن اللََّه، ويتسلّم النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم الوحي، فالوحي واحد هنا مع تقاسم المسئولية، وهو عام بالنسبة لكل الأنبياء، وخاص بالنسبة لوحي القرآن أيضا، فالملك يؤدي عن اللََّه لمحمد، ومحمد يتلقى ذلك الوحي من الملك، ويؤدي ما يوحي به إليه إلى الناس، وكان ذلك طريق الوحي القرآني فحسب، وقد صرح به القرآن الكريم بقوله تعالى:
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعََالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى ََ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 192} (2).
والروح الأمين هو جبرائيل عليه السّلام بإجماع الأمة والروايات قال الطبرسي (ت: 548هـ): «يعني جبرائيل عليه السّلام، وهو أمين اللََّه لا يغيره، ولا يبدله لأن اللََّه تعالى يسمعه جبرائيل عليه السّلام فيحفظه، وينزل به على الرسول
__________
(1) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن: 20/ 328،
(2) الشعراء: 194192.(1/22)
ويقرأه عليه، فيعيه ويحفظه بقلبه، فكأنه نزل به على قلبه» (1).
وهذا صريح بكيفية تلقي النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم للقرآن من جبرائيل عليه السّلام، على قلبه تثبيتا وحفظا ورعاية، والقلب أشرف الأعضاء للتدبر والتفكر إن أريد به هذا الجهاز العضلي، وإلا فهو الإدراكات النفسية الخاصة لدى النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم المستعدة للتلقي والصيانة والاستيعاب دون ريب.
وكان ما نزل به جبرائيل عليه السّلام بإيحاء من اللََّه تعالى هو النص الصريح من الوحي القرآني دون زيادة أو نقصان، بألفاظه المدونة في المصحف من ألفه إلى يائه.
ولما كان الأمر كذلك، فقد تحدث هذا النص المحفوظ بين الدفتين عن ظاهرة الوحي بوحي القرآن وسواه، وطرقها، وكيفيتها، وأقسامها. ومن الضروري حقا استعراض مختلف أنشطة الموضوع من القرآن نفسه، مع الاستعانة باللغة حينا، وبالتبادر العربي العام حينا آخر، لأن القرآن عربي، والتبادر علامة الحقيقة.
صرّحت الآية التالية:
{وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلََّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ، مََا يَشََاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ 51} (2).
بطرق الوحي الإلهي، وحدوت كيفية هذا الوحي، ومراتب إيصاله على النحو التالي:
1 - الوحي، وأصل الوحي هو: الإشارة السريعة على سبيل الرمز والتعريض، وما جرى مجرى الإيماء والتنبيه على الشيء من غير أن يفصح به (3).
وقد يكون أصل الوحي في اللغة كلها الإعلام في خفاء (4).
__________
(1) الطبرسي، مجمع البيان: 4/ 204.
(2) الشورى: 51.
(3) قارن في ذلك بين: الراغب، المفردات: 515الطبرسي، مجمع البيان: 5/ 37.
(4) ظ: ابن منظور، لسان العرب: 20/ 258.(1/23)
ومؤدى التعريفات واحد فيما يبدو، إذ الإشارة السريعة، إعلام عن طريق الرمز، والرمز إيماء يستفيد منه المتلقي أمرا إعلاميا قد يخفى على الآخرين.
ومن ثم قيل «للكلمة الإلهية التي تلقى إلى أنبيائه وحي» (1) باعتبار إسرارها إليهم من قبل ملك الوحي، واختصاصها بهم دون سائر الناس.
قال ابن الأنباري: سمي الوحي وحيا لأن الملك أسرّه على الخلق، وخص به النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم (2).
ومن هنا يبدو أن التعريف الشرعي متحدر عن الأصل اللغوي في خصوصية الإسرار والإعلام السريع، وما يصاحب ذلك من الإشارة والرمز اللذين يخفيان على الآخرين.
وقد عبر الأستاذ محمد عبده عن ذلك بما يقارب هذا المؤدى فقال:
«بأنه عرفان يجده الشخص في نفسه مع اليقين بأنه من قبل اللََّه بواسطة، أو بغير واسطة، والأول بصوت يتمثل لسمعه، أو بغير صوت» (3).
ولعل المراد بما يتلقاه النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم من العرفان اليقيني بغير صوت هو الإلقاء في الروع، وذلك بأن ينفث اللََّه في روع النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم ما يشاء من أمر، أو ينفث روح القدس ما أوحي إليه بتبليغه إياه، فيكون ذلك من الوحي بوجه من الوجوه.
وقد يؤيد هذا الملحظ ما نسب إلى النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم أنه
قال: «إن روح القدس نفث في روعي» (4).
2 - سماع كلام اللََّه تعالى مباشرة من وراء حجاب دون معاينة أو رؤية، لامتناع ذلك عقلا وشرعا، كما كلم اللََّه موسى بن عمران عليه السلام: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً} (5). وكان ذلك من وراء حجاب «وهو
__________
(1) الراغب الأصفهاني، المفردات: 515.
(2) ابن منظور، لسان العرب: 20/ 258.
(3) ظ: محمد رشيد رضا، الوحي المحمدي: 28.
(4) ظ: الحديث في الاتقان للسيوطي: 1/ 129المفردات للراغب: 515.
(5) النساء: 164.(1/24)
أن يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه إلا من يريد أن يكلمه به نحو كلامه لموسى عليه السّلام لأنّه حجب ذلك عن جميع الخلق إلا عن موسى عليه السّلام وحده، لأن الحجاب لا يجوز إلا على الأجسام المحدودة» (1).
3 - أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء، كما في تبليغ جبرائيل لرسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم في صورة معينة، أو صور متعددة، وحي القرآن الكريم عن اللََّه، من غير أن يكلم اللََّه نبيه على النحو الذي كلم به موسى عليه السلام.
هذه الأصناف والمراتب في الإيحاء حددتها الآية الكريمة السابقة فيما يتعلق بوحي الأنبياء عليهم السّلام كما يبدو، إلا أننا من متابعة هذه الظاهرة في القرآن الكريم، لاحظنا بعض الدلالات الإيحائية لهذا التعبير قد تختلف عما تقدم، ويمكن الإشارة إلى أهمها بما يلي:
أالإلهام، وهو أن يلقي اللََّه تعالى في النفس أمرا يبعث على الفصل أو الترك، وهو نوع من الوحي، يخص به اللََّه من يشاء من عباده، غير قابل للتفكير به، أو التخطيط له مسبقا، ليفرق بينه وبين الحالات اللاشعورية من جهة، والسلوك الكسبي من جهة أخرى، كما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنََا إِلى ََ أُمِّ مُوسى ََ أَنْ أَرْضِعِيهِ} (2). وقوله تعالى: {إِذْ أَوْحَيْنََا إِلى ََ أُمِّكَ مََا يُوحى ََ 38} (3).
ب التسخير، وهو أن يسخر اللََّه تعالى بعض مخلوقاته إلى عمل ما، بهديه وإشاءته وتسخيره، بشكل من الأشكال التي لا تستوعبها بعض مداركنا أحيانا، ويستيقنها الذين آمنوا دون أدنى شبهة، كما يدل على هذا النوع قوله تعالى:
{وَأَوْحى ََ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبََالِ بُيُوتاً 68} (4).
ج الرؤيا الصادقة، وهي وحي إلهي بالنسبة للأنبياء عليهم السّلام خاصة،
__________
(1) الطبرسي، مجمع البيان: 5/ 37.
(2) القصص: 7.
(3) طه: 38.
(4) النحل: 68.(1/25)
يتلقون فيها الأوامر، ويتسلمون التعليمات من السماء، كما دل على ذلك قوله تعالى فيما اقتص اللََّه من خبر إبراهيم عليه السّلام مع ولده:
{فَلَمََّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قََالَ يََا بُنَيَّ إِنِّي أَرى ََ فِي الْمَنََامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مََا ذََا تَرى ََ قََالَ يََا أَبَتِ افْعَلْ مََا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شََاءَ اللََّهُ مِنَ الصََّابِرِينَ (102) فَلَمََّا أَسْلَمََا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنََادَيْنََاهُ أَنْ يََا إِبْرََاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيََا إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)} (1).
فأشارت الآيات إلى الرؤيا الصادقة في المنام، وإلى استفادة إبراهيم عليه السّلام وولده عليهما السلام، الأمر الإلهي فيها، للدلالة على أنها وحي يستلزم العمل به، بدليل تعقيب ذلك من قبل اللََّه في خطاب إبراهيم عليه السّلام بتصديق الرؤيا وجزاء المحسنين.
وقد تكون الرؤيا في جزء من هذا الملحظ تمهيدا للوحي المباشر، وقد يعبر عنها بالصادقة أو الصالحة، كما حصل هذا المعنى بالنسبة لرسول اللََّه صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم أول بدء الوحي، كما في رواية أم المؤمنين عائشة:
«أول ما بدئ به رسول اللََّه من الوحي الرؤيا الصادقة (الصالحة) في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح» (2).
وقد تكون الرؤيا نوعا من الوعد الحق الذي يقطعه اللََّه لنبيه صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم كما هو الحال في شأن فتح مكة، قال تعالى:
{لَقَدْ صَدَقَ اللََّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيََا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرََامَ إِنْ شََاءَ اللََّهُ آمِنِينَ 27} (3).
وقد دل على جميع ما تقدم مضافا للآلات القرآنية ما يروى عنه صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم:
«انقطع الوحي، وبقيت المبشرات: رؤيا المؤمن، فالإلهام، والتسخير والمنام» (4).
__________
(1) الصافات: 105102.
(2) البخاري، الجامع الصحيح: 1/ 7.
(3) الفتح: 27.
(4) الراغب، المفردات: 516.(1/26)
وفيه إذا صح تفريق بين الوحي المباشر، وهو جبرائيل عليه السّلام، وبين ما أشار إليه من المبشرات التي يبدو أنها غير الوحي الذي يريده الرسول الأعظم صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم في الحديث.
وقد يكون الوحي بملحظ آخر عاما بين جميع الأنبياء والرسل، وقد يكون خاصا بالنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم، فما كان عاما يكون مشتركا بينه وبين الأنبياء والمرسلين لأنه أحدهم بل سيدهم، وما كان خاصا ينفرد به وحده.
فالأول: كقوله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلََّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا أَنَا فَاعْبُدُونِ 25}. (1)
ويبدو أن هذا الوحي يشتمل على جميع أقسام الوحي وكيفياته، ولا يختص بالإيحاء بمعناه الدقيق، لأن الإيمان بالوحدانية فطرة إنسانية تحتمها طبيعة العقل السّوي، والأنبياء بعامة يتمتعون بهذه الفطرة نفسيا وعقليا.
قال الراغب الاصفهاني (ت: 502هـ): «فهذا الوحي هو عام في جميع أنواعه، وذلك أن معرفة وحدانية اللََّه تعالى، ومعرفة وجوب عبادته ليست مقصورة على الوحي المختص بأولى العزم من الرسل، بل يعرف ذلك بالعقل والإلهام كما يعرف بالسمع، فإذن المقصود من الآية تنبيه أنه من المحال أن يكون رسول لا يعرف وحدانية اللََّه، ووجوب عبادته» (2).
والثاني: ما هو مختص بالنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم وحده، كالأمر له في قوله تعالى:
{اتَّبِعْ مََا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ 106} (3).
وكإخباره عن نفسه، محكيا بقوله تعالى:
{إِنْ أَتَّبِعُ إِلََّا مََا يُوحى ََ إِلَيَّ وَمََا أَنَا إِلََّا نَذِيرٌ مُبِينٌ 9} (4) وكالطلب إليه بقوله تعالى:
__________
(1) الأنبياء: 25.
(2) الراغب، المفردات: 516.
(3) الأنعام: 106.
(4) الأحقاف: 9.(1/27)
{قُلْ إِنَّمََا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى ََ إِلَيَّ أَنَّمََا إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وََاحِدٌ 110} (1).
وفي هذا الضوء، فإن ما يوحى به إلى النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم لا يخلو: إما أن يكون تعليمات يؤمر بإشاعة مفاهيمها بين الناس بحال من الأحوال، وإما أن يكون كلاما يؤمر بتدوينه، ويثبته اللََّه في قلبه، ويتلوه بلسانه، فيكون كتابا فيما بعد، وإلى هذا أشار الزهري بقوله:
«ما يوحي اللََّه به إلى نبي من الأنبياء فيثبته في قلبه، فيتكلم به ويكتبه، وهو كلام اللََّه. ومنه ما لا يتكلم به ولا يكتبه لأحد، ولا يأمر بكتابته، ولكنه يحدث الناس به حديثا، ويبين لهم أن اللََّه أمره، أن يبينه للناس ويبلغهم إياه» (2).
والقرآن الكريم من النوع الذي ثبت في قلب النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم وتكلم به، وأمر بكتابته وتدوينه، بعد إنزاله وحيا من قبله.
وقد أورد الزركشي عن السمرقندي ثلاثة أقوال في المنزل من القرآن:
1 - إنه اللفظ والمعنى، وأن جبرائيل عليه السلام حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به.
2 - إن جبرائيل عليه السّلام إنما نزل بالمعاني الخاصة، وأن النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم علم تلك المعاني، وعبّر عنه بلغة العرب.
3 - إن جبرائيل عليه السّلام، إنما ألقي إليه المعنى، وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب (3).
والأول هو الصحيح دون ريب، لأن جبرائيل عليه السّلام وصف بالروح الأمين لأمانته المتناهية، فلا يضيف ولا يغير، ولا يبدل ولا ينسى، ولا يخوّل ولا يتجوز، كيف لا وهو روح القدس بقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ 102} (4).
__________
(1) الكهف: 110.
(2) السيوطي، الاتقان: 1/ 128.
(3) الزركشي، البرهان: 1/ 229السيوطي، الاتقان: 1/ 126.
(4) النحل: 102.(1/28)
والقرآن نازل من عند اللََّه بألفاظه نفسها، وما مهمة جبرائيل عليه السّلام إلا تبليغ الوحي كما تسلمه، وهو آيات الكتاب الكريم بنصوصها خالصة بدلالة قوله تعالى: {تِلْكَ آيََاتُ اللََّهِ نَتْلُوهََا عَلَيْكَ 108} (1).
وقد اختار السيوطي ذلك تعبدا بلفظ القرآن إعجازا، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه، وإن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه (2).
وخصوصية القرآن التعبد بتلاوته لأن ألفاظه نازلة من اللََّه تعالى فلا تدانيها خصوصية أخرى، لأن هناك ما هو نازل من السماء كالأحاديث القدسية، ولكنها ليست بقرآن، فلا خصوصية للتعبد بتلاوتها. وإن أخذنا بمضامينها حرفيا، ولكنها لم تنزل بألفاظها المخصوصة لها كما هو شأن القرآن.
والحديث النبوي نتعبد به أمرا ونهيا، وكان النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم يرسل الحديث ويقوله، ويتبع ذلك أهله وأصحابه، ثم يتلو القرآن ويقرؤه، فما اتفق يوما أن تشاكل النصان، أو تشابه القولان، ولو كان معنى القرآن ينقل إلى النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم وحيا، أو وحيه ينقل إليه معنى، والنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم يصوغه بلفظه، ويعبر عنه بكلامه، لاشتبه القرآن بالحديث، والحديث بالقرآن، من وجهة نظر بلاغية على الأقل، بينما العكس هو الصحيح، فالخصائص الأسلوبية في القرآن تدل عليه، وخصائص الحديث تدل عليه، فكل له أسلوبه المتميز، ومنهجه الخاص حتى عرف ذلك القاضي والداني، ممن آمن بالنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم والقرآن وممن جحدهما، فالقرآن كلام اللََّه، ومحمد صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم ينقله كما سمعه، بلفظه الدال على معناه، وبمعناه الذي نطق به لفظه، لا شيء من محمد صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم إلا النقل الأمين، والحديث كلام محمد صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم يتفوه به فيشرع ويحكم، لأنه المصدر الثاني بعد القرآن للشريعة الإسلامية، قال تعالى: {وَمََا آتََاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمََا نَهََاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3).
__________
(1) آل عمران: 108.
(2) ظ: السيوطي، الاتقان: 1/ 128.
(3) الحشر: 7.(1/29)
وثمت دليل قرآني آخر في توجيه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعبارة «قل» في القرآن الكريم، وتكرارها فيه أكثر من ثلاثمائة مرة، تصريح وأي تصريح بأن النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم: «لا دخل له في الوحي، فلا يصوغه بلفظه، ولا يلقيه بكلامه، وإنما يلقي إليه الخطاب إلقاء، فهو مخاطب لا متكلم، حاك لما يسمعه، لا معبر عن شيء يجول في نفسه» (1).
لهذا كان إذا نزلت عليه آية أو سورة، بل وجزء من آية، يدعو كتبته لتدوينها على الفور نصا.
ولقد بهت العرب أمام ظاهرة الوحي القرآني، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة، وأئمة البيان والفن القولي، وتذرعوا للتشكيك فيها بمختلف الوسائل، فأثاروا الشبهات، وتعقلوا بالأوهام، فوصفوا النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم بالضلال، والقرآن من ورائهم يناديهم بقوله: {وَالنَّجْمِ إِذََا هَوى ََ (1) مََا ضَلَّ صََاحِبُكُمْ وَمََا غَوى ََ (2) وَمََا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ََ (3) إِنْ هُوَ إِلََّا وَحْيٌ يُوحى ََ (4)} (2).
وتدعوا مرة أخرى إلى افتراضات متناقضة، فقالوا: أضغاث أحلام، وقد أيقنوا بصحوة النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم ويقظته، وردّوه إلى الكذب والاختلاق، وهم أنفسهم وصفوه من ذي قبل بالصادق الأمين، ونسبوا النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم إلى الشعر، وقد علموا بأن النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم أبعد ما يكون عن مزاج الشاعر وأخيلته، وما ترك في هذا المجال أثرا يركن إليه بهذه السمة، وقد عبر القرآن عن ذلك:
{بَلْ قََالُوا أَضْغََاثُ أَحْلََامٍ بَلِ افْتَرََاهُ بَلْ هُوَ شََاعِرٌ 5} (3).
وما استقامت لهم الدعوى في شيء، ووصموه بالجنون:
{وَقََالُوا يََا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (4).
__________
(1) صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن: 30.
(2) النجم: 41.
(3) الأنبياء: 5.
(4) الحجر: 6.(1/30)
{ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقََالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ 14} (1).
وقد دلت الأحداث الاستقرائية، والسيرة الذاتية للنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم على رجاحة عقله، واتزانه في تصرفاته، وتأكد لهم افتراؤهم بما شاهدوه من مجريات الأمور، وقد لبثت النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم بين ظهرانيهم حقبا طويلة قبل البعثة، فما مسكوا زلة، ولا أدركوا غفلة، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه النكتة الدقيقة بقوله:
{فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلََا تَعْقِلُونَ} (2).
وترددوا بقول الكهانة من بعد الجنون، فردّ افتراءهم القرآن بما أمره به: {فَذَكِّرْ فَمََا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكََاهِنٍ وَلََا مَجْنُونٍ 29} (3).
فما كان محمد صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم إلا بشيرا ونذيرا، وما كان الوحي إلا ذكرا للعالمين، فأين هو من الكهانة {وَلََا بِقَوْلِ كََاهِنٍ قَلِيلًا مََا تَذَكَّرُونَ 42} (4).
وحينما أعيتهم الحيلة، ووقف بهم المنطق السليم، انطلقوا إلى القول: {إِنْ هََذََا إِلََّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} (5) شأنهم في هذا شأن من تقدمهم من الأمم مع أنبيائهم ورسائلهم، حذو القذة بالقذة، في الادعاءات، قال تعالى:
{كَذََلِكَ مََا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلََّا قََالُوا سََاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ 52} (6) وقد علموا جديا، أن محمدا صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم في أصالته العقلية، أبعد ما يكون عن السحر والشعبذة والتمويه من قبل ومن بعد.
وتمسكوا بأوهن من بيت العنكبوت، فأشاعوا بكل غباء أن لمحمد صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم معلما من البشر، وهو غلام رومي يمتهن صناعة السيوف بمكة، فألقمهم القرآن حجرا بردهم ردا فطريا:
__________
(1) الدخان: 14.
(2) يونس: 16.
(3) الطور: 29.
(4) الحاقة: 42.
(5) المدثر: 24.
(6) الذاريات: 52.(1/31)
{لِسََانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهََذََا لِسََانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (1).
وأغلقت السبل كافة في الوجوه والألسن والأقاويل، فرجموا بالغيب، وتشبثوا بالطحلب، وحسبوا وجدان الضّالة: فقالوا بما حكى اللََّه عنهم {إِنْ هََذََا إِلََّا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (2).
وتمادى بهم القول، ففصلوا بعد الإجمال، وأبانوا بعد الإبهام:
{وَقََالُوا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهََا فَهِيَ تُمْلى ََ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا 5} (3).
وهكذا تبدو الحيرة مترددة بين عدة ادعاءات وافتراءات، هم أنفسهم يعلمون بمجانبتها للواقع المشهود، إذ لم يؤيدها نص استقرائي واحد في حياة محمد صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم.
ويبقى الوحي وحيا رغم كل هذا الأراجيف: {وَكَذََلِكَ أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ََ وَمَنْ حَوْلَهََا 7} (4).
ويبقى القرآن قرآنا مقترنا بظاهرة الوحي الإلهي.
__________
(1) النحل: 103.
(2) الأنعام: 25.
(3) الفرقان: 5.
(4) الشورى: 7.(1/32)
الفصل الثاني نزول القرآن(1/33)
نزل القرآن بأرقى صور الوحي، وتأريخ نزوله يمثل تأريخ القرآن في حياة النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم، وهو تأريخ يستغرق ثلاثة وعشرين عاما (1).
هذه الحقبة الذهبية هي تأريخ الرسالة المحمدية في عصر صاحب الرسالة، والعناية بها منبثقة عن عناية الوحي بصاحبها، وبتواجده معه، يحمله العبء حينا، ويلقي له بالمسئولية حينا آخر، ويتناول عليه بآيات اللََّه بين هذا وذاك.
وكان نزول القرآن مدرجا، وتفريقه منجما، مما أجمعت عليه الأمة، وصحت به الآثار الاستقرائية، استجابة للضرورة الملحة، واقتضاء للحكمة الفذة في تعاقب التعليمات الإلهية، يسرا ومرونة واستيعابا.
والذي يهمنا في هذه المرحلة، عطاؤها الإنساني في ضبط النص القرآني، ودقة أصوله ووصوله من ينابيعه الأولى، وهو موضوع البحث.
يكاد أن يتوافر لنا اقتناع نطمئن إليه بأن أوائل سورة العلق: هو أول ما نزل من القرآن.
ومنشأ هذا الاقتناع تأريخي وعقلي، أما التأريخي فمصدره إجماع
__________
(1) هنالك عدة أقوال في مدة نزول القرآن فقيل. عشرون، أو ثلاث وعشرون، أو خمس وعشرون سنة. وهو مبني على الخلاف في مدة إقامته صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم بمكة بعد النبوة فقيل عشر سنوات، وقيل ثلاث عشرة، وقيل خمس عشرة سنة. ولم يختلف في مدة إقامته بالمدينة إنها عشر. (ظ: الزركشي: 1/ 232) فإذا علمنا أنه صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم أوحي إليه وهو ابن أربعين سنة، وتوفي وعمره ثلاث وستون سنة، ترجح أن تكون مدة الوحي ثلاثة وعشرين عاما.(1/35)
المفسرين تقريبا، ورواة الأثر، وأساطين علوم القرآن (1).
وأما العقلي، فالقرآن أنزل على أمي لا عهد له بالقراءة، ليبلغه إلى أميّين لا عهد لهم بالتعلم، فكان أول طوق يجب أن يكسر، وأول حاجز يجب أن يتجاوز. هو الجمود الفكري، والتقوقع على الأوهام، وما سبيل ذلك إلا الافتتاح بما يتناسب مع هذه الثورة، وقد كان ذلك بداية للرسالة بهذه الآيات بسم الله الرحمن الرحيم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1} {خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ 2}
{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ 3} {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ 4} {عَلَّمَ الْإِنْسََانَ مََا لَمْ يَعْلَمْ 5} (2).
إنها الدعوة الفطرية إلى العلم والإيمان بوقت واحد، والبداية الطبيعة لملهم هذا العلم، ورائد وسيلة التعلم، فهو إرهاص بإيمان سيشع، وإشعار بإفاضات ستنشر، مصدرها الخالق، وأداتها القلم، لارتياد المجهول، واكتشاف المكنون، والقرآن كتاب هداية وعلم.
فلا ضير أن تكون أوائل العلق أول ما نزل، وسياقها القرآني لا يمنع من نزولها دفعة واحدة، لا سيما إذا وجدنا نصا في أثر، أو رواية من ثقة.
وأما ما حكاه ابن النقيب في مقدمة تفسيره، وأخرجه الواحدي عن عكرمة والحسن، والضحاك عن ابن عباس: من أن أول ما نزل من القرآن (بسم اللََّه الرحمن الرحيم) (3) فلا ريب فيه، ولا غبار عليه: «فإنه من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها، فهي أول آية نزلت على الإطلاق» (4).
وبدأت مسيرة الوحي تلقي بثقلها على عاتق الرسول الأعظم صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم وفتح محمد صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم للنداء السماوي، {إِنََّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا 5} (5) ذراعا وقلبا وتأريخا. وهذا القول ثقيل بمبناه ومعناه، فهبوطه من سماء العزة، وساحة الكبرياء والعظمة يوحي بثقله في الميزان، وتسييره للحياة العامة بشئونها
__________
(1) ظ: البخاري، الصحيح: 1/ 5الباقلاني، نكت الانتصار: 88الطبرسي، مجمع البيان: 5/ 514الزركشي، البرهان: 1/ 206السيوطي، الاتقان: 1/ 68وما بعدها.
(2) العلق: 51.
(3) السيوطي، الاتقان: 1/ 71.
(4) المصدر نفسه: 1/ 71.
(5) المزمل: 5.(1/36)
المتعددة يوحي بكونه عبئا ثقيلا في التشريع والتنفيذ وإدارة الكون والعالم.
إن تلقي النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم لهذا القول يعنى النهوض بما تتطلبه الرسالة من جهد وعناء وصبر، ونهوضه بذلك يعني تحمله لهذا الثقل في الإلقاء والإنزال والتبليغ والإعداد.
ونزل القرآن منجما: الآية والآيتين والثلاث والأربع، وورد نزول الآيات خمسا وعشرا وأكثر من ذلك وأقل، كما صح نزول سور كاملة (1).
ونزل القرآن في شهر رمضان المبارك: {شَهْرُ رَمَضََانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ 185} (2) وفي ليلة مباركة فيه {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبََارَكَةٍ} (3)
وحملت الليلة المباركة على ليلة القدر: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ 1} (4)
هكذا صرح القرآن.
واختلف في هذا الإنزال كلا أو جزءا، جملة أو نجوما، دفعة أو دفعات، إلى السماء الدنيا تارة، وعلى قلب النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم تارة أخرى (5).
وأوردنا الطبرسي جملة الأقوال في ذلك:
أإن اللََّه أنزل جميع القرآن في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم أنزل على النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم بعد ذلك نجوما. وهو رأي ابن عباس.
ب إنه ابتدأ إنزاله في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة، «وبه قال الشعبي» (6).
__________
(1) ظ: السيوطي، الاتقان: 1/ 124وما بعدها.
(2) البقرة: 185.
(3) الدخان: 3.
(4) القدر: 1.
(5) ظ: تفصيل هذه الآراء والروايات الكثيفة في: أبو شامه، المرشد الوجيز: 11وما بعدها الزركشي، البرهان: 1/ 230وما بعدها السيوطي، الاتقان: 1/ 118البيهقي، الأسماء والصفات: 236.
(6) ظ: السيوطي، الاتقان 1/ 118.(1/37)
ج إنه كان ينزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ما يحتاج إليه في تلك السنة جملة واحدة، ثم ينزل على مواقع النجوم إرسالا في الشهور والأيام. وهو رأي ابن عباس (1).
إلا أن ظاهر الآيات: أنزل القرآن جملة، ويؤيده التعبير بالإنزال الظاهر في اعتبار الدفعة، دون التنزيل الظاهر في التدرج، فمدلول الآيات أن للقرآن نزولا جمليا على النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم غير نزوله التدريجي الذي تمّ في ثلاث وعشرين سنة (2).
لقد أكد هذا المعنى من ذي قبل ابن عباس بقوله: «إنه أنزل في رمضان، وفي ليلة القدر، وفي ليلة مباركة، جملة واحدة، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام» (3).
ومهما يكن من أمر، فلا ريب بنزوله مفرقا أو منجما، ليثبت إعجازه في كل اللحظات، ولينضح بتعليماته بشتى الظروف، في حين يعترض فيه الكفرة على هذا النزول: {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلََا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً كَذََلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ وَرَتَّلْنََاهُ تَرْتِيلًا 32} (4).
ولكن الرد كان حاسما، لأن الوحي إذا تجدد في كل حادثة، كان أقوى للعزم، وأثبت للفؤاد، وأدعى للحفظ والاستظهار، وأشد عناية بالمرسل إليه فلا يغيب عنه إلا ويهبط عليه، ولا يودعه حتى يستقبله، وذلك يستلزم كثرة نزول الملك عليه وتجديد العهد به، وبما معه من الرسالة، وهو مضافا إلى العطاء الروحي، ذو عطاء نفسي تهذيبي بالنسبة للنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم «ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة نزول جبريل عليه السّلام عليه فيه» (5).
__________
(1) ظ: الطبرسي، مجمع البيان: 1/ 276.
(2) ظ: الطباطبائي، الميزان: 20/ 330.
(3) البيهقي، كتاب الأسماء والصفات: 236.
(4) الفرقان: 32.
(5) ظ: أبو شامة، المرشد الوجيز: 28.(1/38)
وناهيك في أسرار تعدد النزول حكمة ويقينا واستمرارا لجدة القرآن، وحضوره في زخمة الأحداث، وتجدد الوقائع، وطبيعة الرسالة المتدرجة في تعاليمها من الأسهل إلى السهل، ومن السهل إلى الصعب، ومن الكليات العامة إلى التفصيلات الجزئية.
والوحي ينظر إلى الناس باعتبارهم الهدف الرئيسي من تنزيل القرآن، قصد هدايتهم، ورجاء إثابتهم إلى الحق، فاهتم بهذا العنصر في سبب النزول مفرقا، وصرح بذلك سبحانه وتعالى:
{وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا 106} (1).
1 - وقد أفاض القدامى من العلماء والمفسرين في أسرار التنجيم في النزول، استفادوا قسما منها من القرآن، واجتهدوا في القسم الآخر، فمن الأول تيسير حفظ القرآن، وتثبيت فؤاد النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم، ومعرفة الناسخ من المنسوخ، والإجابة عن أسئلة السائلين (2).
ومن الثاني كون القرآن أنزل وهو غير مكتوب على نبي أمي، كما حكي ذلك عن أبي بكر بن فورك (ت: 406هـ) (3).
وقد لاحظ باحث معاصر أن القدامى قد أدركوا حكمتين في ذلك هما: تجاوب الوحي مع الرسول صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم، وتجاوبه مع المؤمنين (4).
2 - وإذا كان ما فهمه القدامى كما يدعى يقف عند هذا الحد، فلا ينبغي عند الباحثين المحدثين أن يقف عند حدود معينة، وعليهم الإمعان والإيغال في الاستنتاج. وإن كان كل ما تقدم هو الصحيح، ولكن لا مانع أن يضاف إليه بأن القرآن الكريم كما يبدو من منهجيته الاستقرائية يريد كتابة التأريخ الإنساني، بكل ما في هذا التأريخ من مفارقات وأحداث ونوازع وتطورات، والتأريخ إنما يكتب في جزئياته، ومن ضم
__________
(1) الإسراء: 106.
(2) ظ: السيوطي، الاتقان: 1/ 12185أبو شامة: 28.
(3) ظ: الزركشي: 1/ 231.
(4) ظ: صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن: 52.(1/39)
هذه الجزئيات بعضها لبعض يتكون التأريخ بمظاهره الماضية وتطلعاته الحالية، لإنارة المستقبل وإضاءة درب السالكين، والتأريخ لا يتألف جملة واحدة، وإنما ينجم موضوعات وصورا ومشاهد، ومن مجموعها يتشكل الأثر البارز لسمة من السمات، والقرآن إنما يعني بتأريخ الأمم والإيمان، والشعوب والهداية، فهما رمزان متلازمان، تنحصر عليه ذكر أحدهما بالآخر، حصرا عضويا ترى فيه الكون وقضية التوحيد يشكلان خطوطا رئيسية تنبثق منها حيثيات فرعية في النبوة والرسالة وعوالم الحياة.
3 - والرسالة المحمدية إحدى سنن الكون البنائية، وكما تقتضي سنن الكون التدرج، فهي تقتضي التدرج كما اقتضتها ابتداء بخلق السماوات والأرض والأفلاك وما فيهن وما بينهن، وانتهاء بخلق الإنسان وحياته وأطواره ونشوئه ومماته وتلاشيه وإعادته حيا، وإثابته أو عقابه.
والسنن الطبيعية في الحياة تلتقي بالسنن الروحية في القرآن، فمصدرهما واحد، وهو تلك القوة الخلاقة المبدعة المدبرة، وهي كما تستطيع أن تحكم الأمر فجأة كلمح البصر {وَمََا أَمْرُنََا إِلََّا وََاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ 50} (1) فهي كذلك تستمهل وتتدرج وفقا لمصالح الكون، وتنظيما لشئون الحياة، وكان التدرج في نزول القرآن من هذا الباب.
4 - وما التدرج في نزول القرآن، إلا دليل من أدلة إعجازه البيانية، فما نزل منه لم يكن بادئ الأمر إلا سورا قصيرة وآيات متناثرة تناثر النجوم، وهو بهذا القدر الضئيل ينادي بالتحدي، فدل على إعجازه في ذاته مع محاولة تقليده ومضاهاته، سواء أكان جزءا أم كلا. فقليله معجز، وكثيرة معجز، ولقد وقع هذا التحدي في مكة على هذا القليل فما نالوه، ووقع في المدينة وهو متكامل بنفس المنظور، وبناء على هذا التأسيس فقد كان التدرج في النزول مصاحبا لعملية الإعجاز، ودليلا من أدلتها الناطقة، وهو بعد مشعل هداية في السعي والعمل والمثابرة.
__________
(1) القمر: 50.(1/40)
5 - وهناك ملحظ جدير بالأهمية في هذا النزول التدريجي، هو إحكام الأمر، وإبرام العقد، وهذا الإحكام وذلك الإبرام يتمثل بعملية صياغة النفوس في إطار جديد، فهي على قرب عهد من الجاهلية بأعرافها ومفاهيمها وأخطائها، والنقلة الفورية ليست خطوة عملية في التغيير الاجتماعي الذي أرادته رسالة القرآن، فمن عزم الأمور إذن أن تستجيب النفوس لهذا التغيير الجذري، ولكن لا على أساس المفاجأة الخطرة، التي قد تولد ردة فعل مضادة، تطوح بكل شيء، بل تقليص القيم القديمة شيئا فشيئا، وتضييعها جزءا فجزءا، لتتلاشى في نهاية المطاف، وتختفي عن صرح الاجتماع. وخير دليل على ذلك مسألة تحريم الخمرة، إذ ارتبطت بالعرب أدبيا واجتماعيا ونفسيا واقتصاديا، وهي جوانب متعددة، أباحت هذا الإدمان المستحكم عند العرب، فلو حرمت دفعة واحدة، لكفر بهذا التحريم، ولضاعت فرصة التغيير الاجتماعي، ولكن الوحي تلبث وترصّد وتأنى، فجاء بالأمر في خطوات متعاقبة شملت بيان المنافع والمضار والمآثم، وتدرجت إلى النهي عن اقتراب الصلاة وأنتم سكارى، وانتهت إلى التحريم: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصََابُ وَالْأَزْلََامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطََانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (1).
6 - ولنقف بهذا الجانب الحساس والمؤثر على صلب الموضوع من بدايته، قبل النظر في التطبيق.
كانت الجزيرة العربية بعامة، ومكة المكرمة بخاصة، تتجاذبهما عقائد شتى، فالصابئة لها طقوسها المختلطة من ابتداعات وشعائر ترتبط بالكواكب وتأثيرها على الأحداث الأرضية (2). وما امتزج عن عاداتهم في مذاهب قريش في الوثنية وعبادة الملائكة، ومراسم الحج.
والمسيحية، وما صاحب مبادئها من تحريف مزدوج، وتغيير مفاجئ، فبدل التسامح الديني الذي اشتهرت به تعاليم السيد المسيح،
__________
(1) المائدة: 90.
(2) ظ: جزءا من عقائد الصابئة، محمد عبد الله دراز، مدخل إلى القرآن الكريم: 132وما بعدها.(1/41)
والزهد في الحياة بكل مظاهرها، استخدم المسيحيون في إرساء شهواتهم كل وسائل العبث والترف والقسوة، فمن عزلة مصطنعة إلى تزمت مفتعل، ومن تثليث لا يستقيم إلى وثنية مستهجنة، ومن تمسك باللاهوت إلى ابتزاز للحرية، كل ذلك يتراصف نماؤه بين أوهام موروثة، وخرافات مستجدة.
واليهودية، بما كان يكتنفها من غموض في ستر العلم وتحريف للكلم عن مواضعه، واستيعاب لاستحصال المال، وجمع الثروة عن طريق الخيانة والربا والاحتكار.
والحنفية، وهي أسلّم الأديان آنذاك عن الدّس والتحريف الكبيرين، فقد أدخل عليها مع ذلك تزييف في بعض الوقائع، ومغالطة في طقوس الحج ومتابعة الوثنية، وارتباط قسم من العرب بها على أساس من التعصب للأخطاء الموروثة في تأليه الملائكة وتأنيثها، وعبادة الأصنام وتقديسها، ورؤية الشمس والقمر والكواكب بمنظار الأرباب.
والجاهلية، وأرجاسها في الوأد، والبغاء، والربا، والزنا، وقتل الأولاد خشية الفقر، وأكل التراث وحب المال، ووراثة النساء كرها بما صرح به القرآن في آيات عديدة، ومواضع كثيرة من سوره (1).
ألا يتناسب مع هذا الخليط العجيب من الديانات المحرفة، وتعدد الآلهة، أن يبدأ الوحي بنداء التوحيد لأول مرة، وقد كان ذلك كذلك، فاستنقذ الناس من عبودية الفكر، واسترقاق النفوس، واتجه بها إلى عبادة الله الواحد القهار، وهي عبادة تجمع إلى راحة الضمير، صدق العبودية دون إذلال، وصحة الاعتقاد دون انحراف، ابتعادا عن الخرافات والأساطير والمتاهات.
وكان من الجدير بعد هذه الاستجابة، أن يتم تشريع الصلاة، لأنها تتضمن التوحيد والعبادة بوقت واحد.
وحينما اتجهت القلوب لله بدأ تطهير النفوس بالخلق والأدب والصفاء
__________
(1) ظ: على سبيل المثال، العادات الجاهلية كما يصورها القرآن: النساء: 19، 20، 21، 22، 23، 38، 127الأنعام: 140النور: 33الفجر: 17، 18، 19، 20.(1/42)
الروحي والإيثار، وكان كذلك منطلق الوحي بتعليماته، الواحدة تلو الأخرى.
7 - واشتد الأذى بالمسلمين، فكانت قصص الغابرين إيذانا بحرب نفسية، فما هم عنها ببعيد: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عََاداً الْأُولى ََ (50) وَثَمُودَ فَمََا أَبْقى ََ (51)} (1).
وكانت أحاديث الأنبياء مع أممهم، واستقراء أحوالهم في العذاب، نذيرا بما قد يصيب العرب نتيجة التكذيب، والأمور تقاس بأضرابها:
{كَذَّبَتْ عََادٌ فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي وَنُذُرِ (18) إِنََّا أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النََّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)} (2).
وهكذا الحال في كل من قوله تعالى:
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ 23}.
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ 33}.
{وَلَقَدْ جََاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ 41} (3).
وهي مؤشرات إنذارية في آيات من سورة واحدة، فكيف بك في السور المكية كافة.
وقد ذكرت قريش بعذاب الاستئصال في الفترة المكية، وكان ذلك مجالا رحبا من مجالات الوحي في هذه الحقبة العصيبة، فثاب من ثاب إلى رشد، وتجبر من تجبر في ضلال، وأمثلة عديدة متوافرة، ومن نماذجه قوله تعالى {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنََا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسََاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ أَفَلََا يَسْمَعُونَ 26} (4).
وهكذا الإشارة إلى مجموعة الأمم المكذبة، وقد مزقوا كل ممزق، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنََا رُسُلَنََا تَتْرََا كُلَّ مََا جََاءَ أُمَّةً رَسُولُهََا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنََا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنََاهُمْ أَحََادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لََا يُؤْمِنُونَ 44} (5).
__________
(1) النجم: 5150.
(2) القمر: 2018.
(3) على التوالي: سورة القمر: 23، 33، 41.
(4) السجدة: 26.
(5) المؤمنون: 44.(1/43)
وما قصة نوح عليه السّلام مع قومه، وموسى عليه السّلام مع آل فرعون، وصالح عليه السّلام وشعيب عليه السّلام وهود عليه السّلام إلا مؤشرات فيما سبق.
8 - وقد تناسق بشكل متقن عجيب استقراء اليوم الآخر، والتذكير بأهواله ومظاهره، والتحذير من عذابه وكوارثه، والتصريح بفناء الأعراض وذهابها، وتلاشي العوالم ونهايتها، وصفة الجنة والنار، وحال المؤمنين والكافرين، وقد مثل ذلك بسور فضلا عن الآيات، وبمجموعة مكية منها زيادة عن المتفرقات، وما سورة الرحمن والواقعة، والحاقة، والمعارج، والمدثر، والقيامة، والمرسلات، والنبأ، والنازعات، والتكوير، والانفطار، والمطففين، والانشقاق، والطارق، والغاشية، والبلد، والقارعة، والتكاثر، وغير ذلك إلا معالم في هذا الطريق مضافا إلى مئات الآيات الأخرى المتناثرة نجوما في معظم السور المكية.
9 - وزيادة على التشريع المناسب في المدينة المنورة، وإقرار الأحكام، وتوالي الفروض، والدعوة إلى الجهاد، وتصنيف معالم القتال، وتحديد سهام الحقوق، فقد عانت المدينة من ظاهرة النفاق، متسترة بالدين تارة، ومتأطرة بسبيل أهل الكتاب تارة أخرى، فقد تعدد مكرهم بالنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم، وعظم وقعهم على المسلمين، فكانوا رأس كل فتنة، وأصل كل سوأة، فالدسائس تحاك، والأراجيف تروج، والأباطيل تلوكها الألسن، فما كان من القرآن إلا أن تعقبهم بالتي هي أحسن تارة، وبالإنذار تارة أخرى، وبالتقريع والتوبيخ غيرهما، فكان الوعيد على أشده، والإغراء بهم على وشك الوقوع، وقد عالج القرآن مشكلتهم، وسلط الأضواء على تحركاتهم، وتربصهم الدوائر بالإسلام، وصور حالتهم النفسية والخلقية والجماعية والفردية، وأبان واقعهم الدنيوي ومآلهم الأخروي، وقد جاء ذلك متراصفا في سور عديدة، لمعالجة كل حالة بإزائها، فكانت سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والعنكبوت، والأحزاب، والفتح، والحديد، والحشر، والمنافقون، والتحريم، ميادين فارهة في تعقيب ظاهرة النفاق، وحقيقة المنافقين، فكان ذلك سمة لهم لا تبلى.
ولا نريد أن نطيل أكثر فأكثر في هذا الجانب وسواه فهو بديهي
لاستكمال الرسالة وضرورة تطبيقها، ومواكبة الوحي لهذه الأحداث والأزمات والمؤشرات دليل على أصالة هذا المنهج المتناسب تأريخيا وزمنيا مع مرحلية الظروف.(1/44)
ولا نريد أن نطيل أكثر فأكثر في هذا الجانب وسواه فهو بديهي
لاستكمال الرسالة وضرورة تطبيقها، ومواكبة الوحي لهذه الأحداث والأزمات والمؤشرات دليل على أصالة هذا المنهج المتناسب تأريخيا وزمنيا مع مرحلية الظروف.
10 - وهناك العلاقة الثّنائية بين الوحي والنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم وهناك التجاوب المطلق بينهما، وكان تحقق ذلك في التدرج بالنزول، وكانت الأزمات وهي تحاول أن تعصف بالنبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم تضرب فجأة بإرادة الوحي الإلهي، فهو إلى جنبه، يشد عزمه، ويقوي أسره، ويسلّيه تارة، ويعزيه تارة أخرى، ويصبره ويؤسيه، فيما يقتص له من الأنباء، وما يورده من الصبر، وما يحدده من الأحكام، مفرقا بين الحق الثابت الرصين، والباطل المتزعزع الواهن، وفي ذلك تثبيت له على المثل، وتحريض له على المثابرة، وإعلام له بالنصر، لأنها سنة الله مع رسله وأنبيائه.
وهناك أسئلة تتطلب الإجابة المحدودة. وحوادث تستدعي القول الفصل، ولا يضمن هذا إلا الوحي فيما ينزل به، فقد سألوه عن الخمر والميسر، وسألوه عن المحيض، وسألوه عن القتال في الأشهر الحرم، وسألوه عن الأهلة، وسألوه عن الساعة، وسألوه عن الروح، وسألوه عن الأنفال، وسألوه عن الجبال، وسألوه عن ذي القرنين وهكذا، فتصدر الوحي للإجابة الفاصلة
واستفتوه في النساء، واستفتوه في الكلالة، فأقناهم الوحي عن الله.
ووقع الظهار، والإيلاء، وحادثة الإفك، وغنموا في الحرب، وحصل الزنا، ونزلت السرقة، وبدأ القتل العمد والقتل الخطأ، وهي حوادث متعددة، في أزمنة متعددة، وقد نزلت أحكامها المتعددة، وهكذا.
إن الإحصاء الدقيق لهذه الجزئيات قد لا ينتهي إلا بصفحات كبيرة لا يتسع لها هذا البحث، وفيما أشرنا له غنية في التمثيل التطبيقي.
11 - وهناك ملحظ جدير بالأهمية في الوحي التدريجي، يعود إلى التنزيل نفسه، ليحكم فيه على ناحيتين:
الأولى: أنه ليس من كلام البشر، وإنما هو من كلام الله وحده، وذلك أن هذه المراحل المتعددة التي مرّ فيها، لم يحصل فيه تفاوت في
الأسلوب البياني، فهو في الأول نفسه في الوسط والآخر، ومع كثرة الأحداث وتعدد المسئوليات في بيان الأحكام، وتدارك النوازل، واستيعاب المشكلات، لم يبد فيه ولو مرة واحدة أي اختلاف وتناقض، ولو كان من كلام البشر، لحصل فيه التفاوت والتناقض معا، وصدق الله تعالى حيث يقول: {وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} (1).(1/45)
الأولى: أنه ليس من كلام البشر، وإنما هو من كلام الله وحده، وذلك أن هذه المراحل المتعددة التي مرّ فيها، لم يحصل فيه تفاوت في
الأسلوب البياني، فهو في الأول نفسه في الوسط والآخر، ومع كثرة الأحداث وتعدد المسئوليات في بيان الأحكام، وتدارك النوازل، واستيعاب المشكلات، لم يبد فيه ولو مرة واحدة أي اختلاف وتناقض، ولو كان من كلام البشر، لحصل فيه التفاوت والتناقض معا، وصدق الله تعالى حيث يقول: {وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} (1).
الثانية: أن قليل هذا التنزيل وكثيرة، هو الدليل المتعاقب مرة بعد مرة على نبوة محمد صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم لأن مراعاة المناسبة، والعقل في الأمر الجلل، والتحدث عن الغيب المطلق، كل ذلك بتحديد قاطع، وحجة لا تقبل جدلا، لا يمكن أن يكون إلا من قبل الله تعالى، لأن النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم أمي يفقد أدنى ما يمكن أن يتمتع به غيره من الناس الاعتياديين في القراءة والكتابة، فكيف إذن بمسائل التشريع، وأخبار الغيب، وقضايا الساعة، ومختلف الأحكام، ولم يسبق له أن مارس قبل بعثته أي نوع من أنواع الثقافة والمعرفة، التي تتناسب مع هذا العطاء المتواصل من الوحي، وفي هذه القضية الخارجة عن مقدرة النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم تأكيد لقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنََا بَعْضَ الْأَقََاوِيلِ (44) لَأَخَذْنََا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنََا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمََا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حََاجِزِينَ (47)} (2).
وكان نتيجة هذا التدرج في النزول أن استوعب نزول القرآن الكريم حياة النبي صلّى اللََّه عليه وآله وسلّم في الرسالة، وكانت رسالته قد اتخذت مرحلتين: مرحلة الفترة المكية قبل الهجرة، ومرحلة الفترة المدنية بعد الهجرة وفي هذا الضوء اقتضى أن ينقسم القرآن الكريم إلى مرحلتين تبعا لمرحلتي الرسالة، لاستمراره بالنزول فيهما، وهما المرحلة المكية، والمرحلة المدنية، وهو تقسيم روعي فيه النظر إلى الزمان والمكان، وللباحثين فيه ثلاثة اصطلاحات:
__________
(1) النساء: 82.
(2) الحاقة: 4744.(1/46)
1 - أن المكي ما نزل بمكة، والمدني ما نزل بالمدينة.
2 - أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة.
3 - أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة (1).
ولكل من هذه الاصطلاحات مبررها التأريخي، فالقول الأول ينظر إلى مكان النزول دون الالتفات إلى حدث الهجرة، فالمكي ما نزل في مكة وإن كان بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة لا خارج حدودها، فالمكان جزء من التأريخ في عملية التحديد.
والقول الثاني، وهو المشهور، ينظر إلى الزمان من خلال حدث الهجرة، والزمان جزء من التاريخ، وإن لم يكن التأريخ بعينه، فما نزل قبل الهجرة فمكي، وما نزل بعد الهجرة فمدني.
والقول الثالث، ينظر إلى الأشخاص، فما وقع خطابا لأهل مكة فهو مكي بحكم من نزل بين ظهرانيهم، وما وقع خطابا لأهل المدينة فهو مدني بلمح من نزل فيهم، والأشخاص عنصر التأريخ ومادته الأولى.
إلا أن المشهور بين العلماء والمفسرين، وهو الرأي الثاني لاعتبار الهجرة هي الحدث الفصل في تأريخ الرسالة الإسلامية، فالمكي ما نزل قبلها، وإن خوطب به أهل المدينة، وإن نزل حواليها كالمنزل بمنى وعرفات والجحفة مثلا، أو خارجها كالمنزل في الطائف أو بيت المقدس، بل وإن كان حكمه مدنيا.
والمدني ما نزل بعد الهجرة، وإن خوطب به أهل مكة، وإن نزل حواليها كالمنزل ببدر وأحد وسلع مثلا، أو خارجها كالمنزل في الحديبية أو في مكة في حجة الوداع، بل وإن كان حكمه مكيا.
والحق أن علمائنا القدامى قد عنوا في هذا الجانب عناية فائقة، تتناسب مع جلال القرآن وعظمته، واعتبروا علم نزول القرآن زمانيا ومكانيا
__________
(1) ظ: الزركشي، البرهان: 1/ 187.(1/47)
من أشرف علوم القرآن، حتى ذهبوا إلى أن من لم يعرف مواطن النزول وأماكنه وأزمنته، ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله.
قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري (ت: 406 هـ):
«من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء، وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة من أهل المدينة، وما نزل بالمدينة من أهل مكة، ثم ما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، ما ثم ما نزل بالجحفة، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، ثم ما نزل ليلا، وما نزل نهارا، وما نزل مشيعا، وما نزل مفردا، ثم الآيات المدنيات في السور المكية، والآيات المكية في السور المدنية، ثم ما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة، وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة، ثم ما نزل مفسرا، وما نزل مرموزا، ثم ما اختلفوا فيه [فقال بعضهم: مكي] وقال بعضهم: مدني. هذه خمسة وعشرون وجها، من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله» (1).
والحق أن ابن حبيب النيسابوري قد نبه إلى جزئيات وحيثيات مهمة، مضافا إلى تقسيمه المكي، ومثله المدني، إلى مراحل: أولية، ووسطية، ونهائية، وهي تقديرات تعنى بالتأريخ الدقيق لنزول سور القرآن وآياته، وكأنه بهذا قد فتح الطريق أمام المستشرقين للخوض في هذه التفصيلات في محاولة لترتيب القرآن زمنيا، ووصف كل ما يتعلق بمراحل نزول الوحي القرآني، وقد علقوا على ذلك أهمية كبرى، وكان المستشرق الألماني الاستاذ تيوردنولدكه (1836م 1930م) من أبرز المقتنعين في هذا المنهج وضرورة استقصائه، وقد أخضع في ضوئه الحوادث الهامشية في الحروب والمغازي والمراسلات والوقائع لاستنتاجاته العلمية.
__________
(1) الزركشي، البرهان: 1/ 192.(1/48)
وقد سلك في كشف تأريخ السور مسلكا قويما يهدي إلى الحق أحيانا، فإنه جعل الحروب والغزوات الحادثة في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلم تأريخها كحرب بدر والخندق وصلح الحديبية وأشباهها من المدارك لفهم تأريخ ما نزل من القرآن، وجعل اختلاف لهجة القرآن وأسلوبه الخطائي، دليلا آخر لتأريخ آياته، وهو يرتاب في بحثه التّحليلي في الروايات والأحاديث وأقوال المفسرين في تأريخ القرآن، وفي عين الحال يأخذ من مجموعها ما يضيء فكره، ويرشده إلى تأريخ السور والآيات ونظمها أحيانا (1).
وقد ظهرت في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر محاولات لترتيب سور القرآن، ودراسة مراحله التأريخية، منها محاولة وليم موير الذي قسم المراحل القرآنية إلى ست، خمس منها في مكة وسادستها في المدينة. ومنها محاولة ويل التي بدأها سنة 1844م، ولم تتخذ صورتها النهائية إلا سنة 1872، وقسم في ضوئها المراحل القرآنية إلى أربع: ثلاث في مكة ورابعة في المدينة، فتابعه على ذلك نولدكه وشفالي، وتأثر بذلك كل من، بل وبلاشير (2).
إلا أن هؤلاء جميعا قد رفضوا الأثر والروايات في تأريخ النزول مما خالفوا به مصدرا رئيسيا من مصادر التعيين في ترتيب النزول، وذلك عن طريق الجمع بين الروايات وغربلتها، والأخذ بأوثقها.
وقد أورد ابن حجر عن الإمام علي عليه السلام: أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وخرجه ابن أبي داود (3).
وأيد وجود ذلك صاحب الميزان وتحدث عن خصوصياته (4).
وقد أثبت في «كتاب المباني لنظم المعاني» جدول لهذا الترتيب الزمني (5).
__________
(1) ظ: المؤلف، المستشرقون والدراسات القرآنية: 88وما بعدها.
(2) ظ: صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن: 176وانظر مصادره.
(3) ظ: السيوطي، الاتقان: 1/ 202الزنجاني، تأريخ القرآن: 48.
(4) ظ: الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 138134.
(5) مقدمتان في علوم القرآن: 14.(1/49)
إلا أنه يختلف عن ترتيبه فيما ورد بأصل النسخة المطبوعة في ليبسك (18721871م) ولما أثبته الزنجاني في تقسيمه لجمع الإمام علي عليه السّلام للمصحف في سبعة أجزاء (1).
وإذا صحت هذه الرواية، فقد فاتنا تأريخ دقيق عن النزول يستند إلى أعظم راوية قد شاهد عصر التنزيل وصاحب مسيرته، وبذلك يكون الإمام علي عليه السّلام أول من حقق في تثبيت نزول القرآن تأريخيا.
وليس أمامنا طريق إلى تعيين تأريخ النزول إلا من جهتين:
الأولى: الرواية الصحيحة الثابتة المرفوعة إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو أهل البيت عليهم السّلام أو الصحابة (رض) الذين شاهدوا قرائن الأحوال، وتتبعوا مسيرة الوحي من بدايته إلى نهايته، وقد كان جزء من ذلك متوافرا فيما نلمسه من روايات وآثار في كتب التفسير وعلوم القرآن، من نصوص يوردها الإثبات ويتناقلها الثقات، وإن كان بعضها لا يخلو من تضارب، أما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد ادعي أنه: «لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة» (2).
الثانية: الاستنباط الاجتهادي القائم على أساس أعمال الفكر، ودراسة الأحداث، ومعرفة أسباب النزول، والمقارنة بين الآيات نفسها، واعتبار القرائن الحالية والمقالية، والسياق والنظم، ووحدة السّورة الموضوعية، وما ماثل ذلك أدلة تقريبية على ذلك، لا سيما فيما لا نص عليه، فتتعين معرفته عن طريق الأدلة والبراهين والمرجحات فيؤخذ بأقواها حجة، وأبرمها دليلا، وهذا ما نشاهده في شأن الآيات والسور المختلف بنزولها الزماني أو المكاني.
وقد استأنس العلماء والمحققون بعلائم وأمارات وخصائص، تتميز بها كل من السور المكية والمدنية، ففرقوا بينها على أساس هذا الفهم، والنظر في ذلك كضوابط قابلة للانطباق في أكثر تجاربها، إلا أنها ليست حتمية، ولكنها أمارات غالبة، لتوافر استثناءات في بعضها.
فمن ضوابط معرفة السور المكية أوردوا ما يلي:
__________
(1) ظ: الزنجاني، تأريخ القرآن: 69ما بعدها.
(2) الزركشي، البرهان: 1/ 191.(1/50)
1 - كل سورة فيها لفظ (كلا) فهي مكية.
2 - كل سورة فيها «يا أيها الناس» فهي مكية، والقاعدة ليست عامة، فهناك عدة سورة مدنية فيها «يا أيها الناس».
3 - كل سورة فيها سجدة فهي مكية.
4 - كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية فهي مكية سوى البقرة.
5 - كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة.
6 - كل سورة فيها حروف التهجي فهي مكية، إلا البقرة وآل عمران، وفي الرعد خلاف (1).
ومن ضوابط السور المدنية أوردوا ما يلي:
1 - كل سورة فيها «يا أيها الذين آمنوا» فهي مدنية، وهناك استثناء لسورة الحج.
2 - كل سورة فيها تفاصيل الفرائض والسنن والحدود والأحكام والقوانين فهي مدنية.
3 - كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية، سوى العنكبوت.
4 - كل سورة فيها إذن بالجهاد، أو ذكر له، وبيان لأحكامه، فهي مدنية.
5 - كل سورة فيها محاججة لأهل الكتاب، ومجادلة لهم، فهي مدنية (2).
والحق أن هذه الضوابط يمكن اعتبارها ضوابط استقرائية للأعم الأغلب فيما وقف عليه العلماء من كتاب الله، وقد يضاف إليها بعض
__________
(1) قارن بين هذه الأقوال وتفصيلها في كل من: الزركشي، البرهان: 1/ 188وما بعدها السيوطي، الاتقان: 1/ 47وما بعدها.
(2) قارن بين هذه الأقوال وتفصيلها في كل من: المصدرين السابقين صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن: 183.(1/51)
الضوابط الأخرى ناظرة في الأسلوب أو العرب أو الموضوع، أو القصر أو الطول، أو الشدة أو اللين، يستضاء بها ويسترشد إلى تمييز المكي من المدني وبالعكس.
وسواء أكانت هذه الضوابط نقلية أم اجتهادية فإن لها استثناءات في حدود، وتماثلا بين القسيمين في بعض الوجوه. وعليه فلا طريق لنا إلى القطع بالمكي أو المدني، إلا الرواية الصحيحة الثابتة، أو الأحداث التأريخية المتناولة لها سورة ما، وتقتضي التعيين الزماني أو التحديد المكاني، أو معرفة أسباب النزول بأشخاصه وأماكنه ووقائعه، لا دواعيه ومماثلاته ولوازمه، وبذلك يكون التدوين التأريخي لقسيمي القرآن مكية ومدنية، أمثل ترتيبا، وأكثر صحة.
على أن تلك الضوابط ولا ننكر أهميتها تشير إلى خصائص قيمة في مسيرة الوحي القرآني من الإجمال إلى التفصيل، ومن العموميات إلى الجزئيات، ومن الإشارة إلى التصريح، وهي بالأخير تنبه إلى الإيمان بالمرحلية الزمانية والمكانية في التشريع والقوانين والأنظمة، وتبرهن على تطور أساليب الرسالة ومقتضياتها.
وبديهي أن النزول إما أن يكون ابتدائيا، أو على أثر سؤال أو حادث أو استفتاء، فما كان منه ابتدائيا فيمكن اعتباره الأصل الأولي في الدين، والأساس في أركان التشريع العامة، وحجر الزاوية في تنظيم العالم من قبل الله تفضلا منه وتحننا ورحمة، وما جاء عقب واقعة فأما أن يكون حكما جديدا لا عهد لهم به، أو نبأ مجهولا عند السائلين، أو تفصيلا في حدود وفرائض أجملت من ذي قبل، وفيه تتجلى حكمة التشريع وبواعث الحكم، وعنه نشأ علم أسباب النزول، والعلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، واستفيد منه إنسانية القرآن، وعالمية دعوته، وشمولية أحكامه، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويعرف به الناسخ من المنسوخ في بعض الحالات، وفيه تعيين تأريخي للأحداث، وتقويم عام للمشكلات، وطريقه الأمثل هو النقل الصحيح القطعي.
قال الواحدي: «لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية
والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها» (1).(1/52)
قال الواحدي: «لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية
والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها» (1).
ويجب الحذر والتحرز تجاه أسباب النزول، فلا تؤخذ على علاتها، بل يجب عرضها على القرآن نفسه، فما وافق القرآن أخذ به، وما عارض القرآن طرح، فهناك التناقض الكثير في بعض الروايات، وهناك القصص الخرافي في جانب منه، وهناك الإسرائيليات المطولة التي لا يحتملها النص القرآني، بل وهناك ما لا يوحي بالسبب فيسمى سببا، وقد يطلق في هذا الضوء السبب على اللازم والمتعلق وهو غير السبب، وقد يطلق السبب على ما يعتبر من باب الجري وقبيل الانطباق وليسا من الأسباب.
ولو سلمت أسباب النزول من هذه الثغرات، لكانت خير منار لتتبع كثير من تأريخية النزول على أتم وجه، وأفضل سبيل للكشف عن كثير من الحالات النفسية، والقابليات العقلية التي عليها القوم.
إن هذا الجانب غني ببحوث القدامى، فقد أفاض به كل من الواحدي والزركشي والسيوطي وأضرابهم، ونقلوا فيه آراء السلف، ولسنا بحاجة إلى نقدها ولا إلى سردها (2). والحق أن تعيين أسباب النزول يعين كثيرا على معرفة المكي من المدني في وجه من الوجوه لارتباطه بالأحداث والتأريخ والأشخاص ولكن أغلب ذلك في الآيات لا في السور، والروايات فيه متضاربة ومتعارضة.
وتأريخية النزول تقتضي أن نعطي تقسيما للسور المكية والسور المدنية، وقد سبق أن أفضنا أن لا سبيل لذلك إلا الرواية الثابتة، وأني لنا ذلك، فهناك اختلاف كثير في النقول بهذا الجانب، وذكر جميع التفصيلات تطويل بغير طائل، ولكننا سنلقي بالمسئولية على الزركشي فنثبت ما أثبته.
__________
(1) السيوطي، الاتقان: 1/ 89.
(2) ظ: تفصيل ذلك في كل من: الواحدي، أسباب النزول الزركشي، البرهان: 1/ 22 33السيوطي، الاتقان: 1/ 9882.(1/53)
قال الزركشي (1):
«أول ما نزل من القرآن بمكة: (اقرأ باسم ربك)، ثم (ن والقلم)، ثم (يا أيها المزمل)، ثم (يا أيها المدثر)، ثم (تبت يدا أبي لهب)، ثم (إذا الشمس كورت)، ثم (سبح اسم ربك الأعلى)، ثم (والليل إذا يغشى)، ثم (والفجر)، ثم (والضحى)، ثم (ألم نشرح)، ثم (والعصر)، ثم (والعاديات)، ثم (إنا أعطيناك الكوثر)، ثم (ألهاكم التكاثر)، ثم (أرأيت الذي)، ثم (قل يا أيها الكافرون)، ثم (سورة الفيل)، ثم (الفلق)، ثم (الناس)، ثم (قل هو الله أحد)، ثم (والنجم إذا هوى)، ثم (عبس وتولى)، ثم (إنا أنزلناه)، ثم (لإيلاف قريش)، ثم (القارعة)، ثم (لا أقسم بيوم القيامة)، ثم (الهمزة)، ثم (المرسلات)، ثم (ق والقرآن)، ثم (لا أقسم بهذا البلد)، ثم (الطارق) ثم (اقتربت الساعة)، ثم (ص والقرآن)، ثم (الأعراف)، ثم (الجن)، ثم (يس)، ثم (الفرقان)، ثم (الملائكة)، ثم (مريم)، ثم (طه)، ثم (الواقعة)، ثم (الشعراء)، ثم (النمل)، ثم (القصص)، ثم (بني إسرائيل)، ثم (يونس)، ثم (هود)، ثم (يوسف)، ثم (الحجر)، ثم (الأنعام)، ثم (الصافات)، ثم (لقمان)، ثم (سبأ)، ثم (الزمر)، ثم (حم. المؤمن)، ثم (حم. السجدة)، ثم (حم. عسق)، ثم (حم. الزخرف)، ثم (حم. الدخان)، ثم (حم.
الجاثية)، ثم (حم. الأحقاف)، ثم (والذاريات)، ثم (الغاشية)، ثم (الكهف)، ثم (النحل)، ثم (نوح)، ثم (إبراهيم)، ثم (الأنبياء)، ثم (المؤمنون)، ثم (الم. تنزيل)، ثم (والطور)، ثم (الملك)، ثم (سأل سائل)، ثم (عم يتساءلون)، ثم (والنازعات)، ثم (إذا السماء انفطرت)، ثم (إذا السماء انشقت)، ثم الروم.
واختلفوا في آخر ما نزل بمكة، فقال ابن عباس: (العنكبوت). وقال الضحاك وعطاء: (المؤمنون)، وقال مجاهد (ويل للمطففين).
فهذا ترتيب ما نزل من القرآن بمكة، وعليه استقرت الرواية من الثقات، وهي خمس وثمانون سورة.
__________
(1) الزركشي، البرهان: 1/ 193وما بعدها.(1/54)
ثم ذكر ترتيب ما نزل بالمدينة، وهو تسع وعشرون سورة:
فأول ما نزل فيها: سورة (البقرة)، ثم (الأنفال)، ثم (آل عمران)، ثم (الأحزاب)، ثم (الممتحنة)، ثم (النساء)، ثم (وإذا زلزلت)، ثم (الحديد)، ثم (محمد)، ثم (الرعد)، ثم (الرحمن)، ثم (هل أتى)، ثم (الطلاق)، ثم (لم يكن)، ثم (الحشر)، ثم (إذا جاء نصر الله)، ثم (النور)، ثم (الحج)، ثم (المنافقون)، ثم (المجادلة)، ثم (الحجرات)، ثم (يا أيها النبي لم تحرم)، ثم (الصف)، ثم (الجمعة)، ثم (التغابن)، ثم (الفتح)، ثم (التوبة)، ثم (المائدة).
ومنهم من يقدم المائدة على التوبة.
فهذا ترتيب ما نزل بالمدينة. وأما ما اختلفوا فيه: ففاتحة الكتاب، فقال ابن عباس والضحاك ومقاتل وعطاء إنها مكية، وقال مجاهد أنها مدينة (1).
واختلفوا في (ويل للمطففين) فقال ابن عباس: مدينة، وقال عطاء:
هي آخر ما نزل بمكة.
فجميع ما نزل بمكة خمس وثمانون سورة، وجميع ما نزل بالمدينة تسع وعشرون سورة على اختلاف الروايات (2).
وهناك بعض السور المكية وفيها آيات مدنية، وبالعكس، وقد عينت من قبل الباحثين (3).
ولعل من المفيد حقا أن نضع جدولا بحسب ترتيب السور القرآنية في المصحف الشريف، نشير فيه إلى رقم السورة من المصحف، ثم نذكر
__________
(1) الحق أن فاتحة الكتاب مكية لأمرين: الأول ذكرها في سورة الحجر {وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} والسبع المثاني هي الفاتحة، لأنها تثنى في الصلاة، وسورة الحجر مكية. الثاني: أن الصلاة شرعت في مكة (ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب). مضافا إلى أن هناك قولا أنها أول ما نزل من الوحي (ظ: السيوطي: 2الاتقان: 1/ 70).
(2) ظ: تفصيل الاختلاف وقارن في كل من: المباني في نظم المعاني: 168 السيوطي، الاتقان: 1/ 74723725الزنجاني تأريخ القرآن: 6149.
(3) ظ: الزركشي، البرهان: 1/ 199.(1/55)
اسمها المشهور، ثم نكتب عدد آياتها، ثم نشير إلى مكان النزول، ثم نتبع تأريخ النزول، معتمدين بذلك على ترتيب المصحف الإمام، ومحققين في المعلومات المدونة على أوثق المصادر وأثبتها، ومن ثم نعقب في الهامش بالآيات المستثناة من السور مكية ومدنية، اعتمادا على الروايات القائلة بذلك (1).
على أن ما نقدمه من عرض قد لا يجد قبولا عند بعض الباحثين، لا سيما في استثناء الآيات المكية من السور المدنية، والآيات المدنية من السور المكية، فقد ناقش صاحب الميزان في أغلب ذلك، واعتبر السياق لا يساعد على جملة منها، بل ولأدلة نظمية عليه، وطريقته في تعيين ذلك تعتمد النظم والسياق أولا وأساسا (2).
ومهما يكن من أمر، فهو يتفق معنا في الأصل المشار إليه كما في الترتيب التالي:
(ترتيب سور القرآن العددي والمكاني والزماني) رقم السورة / اسم السورة / عدد آياتها / مكان النزول / تأريخ النزول 1/ الفاتحة / 7/ مكية / نزلت بعد المدثر / (3)
2/ البقرة / 286/ مدنية / أول سورة مدنية / (4)
3/ آل عمران / 200/ مدنية / نزلت بعد الأنفال / 4/ النساء / 176/ مدنية / نزلت بعد الممتحنة / 5/ المائدة / 120/ مدنية / نزلت بعد الفتح (5)
__________
(1) يقارن ذلك في كل من: الطبري، جامع البيان: الطبرسي، مجمع البيان: السيوطي:
الاتقان: 1/ 3725مقدمتان في علوم القرآن: 168الزنجاني، تأريخ القرآن:
49 - الشرقاوي، القرآن: المجيد: 44.
(2) ظ: الطباطبائي، الميزان: في أجزائه كافة.
(3) وقيل إنها مدنية عن مجاهد، وقيل أنزلت مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة، وكونها مكية هو الأشهر (ظ: فيما سبق، الهامش رقم: 46، من هذا الفصل).
(4) ما عدا الآية: 281، فإنها نزلت بعرفات في حجة الوداع، وهذا لا يعارض مدنيتها.
(5) ما عدا الآية: 3، فإنها نزلت في حجة الوداع، وهذا لا يعارض مدنيتها.(1/56)
رقم السورة / اسم السورة / عدد آياتها / مكان النزول / تأريخ النزول / 6/ الأنعام / 165/ مكية / نزلت بعد الحجر / (1)
7/ الأعراف / 206/ مكية / نزلت بعد ص (2)
8/ الأنفال / 75/ مدنية / نزلت بعد البقرة / (3)
9/ التوبة / 129/ مدنية / نزلت بعد المائدة (4)
10/ يونس / 109/ مكية / نزلت بعد الإسراء / (5)
11/ هود / 123/ مكية / نزلت بعد يونس / (6)
12/ يوسف / 111/ مكية / نزلت بعد هود / (7)
13/ الرعد / 43/ مدنية / نزلت بعد محمد / 14/ إبراهيم / 52/ مكية / نزلت بعد يوسف / (8)
15/ الحجر / 99/ مكية / نزلت بعد يوسف / (9)
16 - النحل / 128/ مكية / نزلت بعد الكهف / (10)
17/ الإسراء / 111/ مكية / نزلت بعد القصص (11)
18/ الكهف / 110/ مكية / نزلت بعد الغاشية / (12)
19/ مريم / 98/ مكية / نزلت بعد فاطر / (13)
__________
(1) ما عدا الآيات: 20، 23، 91، 93، 114، 141، 151، 152، 153فإنها مدنية.
(2) ما عدا الآيات: 163، 164، 165، 166، 167، 168، 169، 170فإنها مدنية.
(3) ما عدا الآيات: 30، 31، 32، 33، 34، 35، 36، فإنها مكية.
(4) ما عدا الآيتين: 128، 129، فمكيتان.
(5) ما عدا الآيات: 40، 94، 95، 96، فإنها مدنية.
(6) ما عدا الآيات: 12، 17، 114، فإنها مدنية.
(7) ما عدا الآيات: 1، 2، 3، 7. فإنها مدنية.
(8) ما عدا الآيتين: 28، 29، فمدنيتان.
(9) ما عدا الآية: 87، فمدنية على رواية يضعفها الكثيرون.
(10) ما عدا الآيات: 126، 127، 128، فإنها مدنية.
(11) ما عدا الآيات: 26، 32، 33، 57، 73، 74، 75، 76، 77، 78، 79، 80، فإنها مدنية.
(12) ما عدا الآيات: 28، 83، 84، 85، 86، 87، 88، 89، 90، 91، 92، 93، 94، 95، 96، 97، 98، 99، 100، 101، فمدنية.
(13) عدا الآيتين: 58، 71، فمدنيتان.(1/57)
رقم السورة / اسم السورة / عدد آياتها / مكان النزول / تأريخ النزول / 20/ طه / 135/ مكية / نزلت بعد مريم / (1)
21/ الأنبياء / 112/ مكية / نزلت بعد إبراهيم / 22/ الحج / 78/ مدنية / نزلت بعد النور (2)
23/ المؤمنون / 118/ مكية / نزلت بعد الأنبياء / 24النور / 64/ مدنية / نزلت بعد الحشر / 25/ الفرقان / 77/ مكية / نزلت بعد يس / (3)
26/ الشعراء / 227/ مكية / نزلت بعد الواقعة / (4)
27/ النمل / 93/ مكية / نزلت بعد الشعراء / 28/ القصص / 88/ مكية / نزلت بعد النمل / (5)
29/ العنكبوت / 69/ مكية / نزلت بعد الروم / (6)
30/ الروم / 60/ مكية / نزلت بعد الانشقاق / (7)
31/ لقمان / 34/ مكية / نزلت بعد الصافات / (8)
32/ السجدة / 30/ مكية / نزلت بعد المؤمنون / (9)
33/ الأحزاب / 73/ مدنية / نزلت بعد آل عمران / 34/ سبأ / 54/ مكية / نزلت بعد لقمان / (10)
35/ فاطر / 45/ مكية / نزلت بعد الفرقان /
__________
(1) عدا الآيتين: 130، 131، فمدنيتان.
(2) ما عدا الآيات: 52، 53، 54، 55، فنزلت بين مكة والمدينة.
(3) ما عدا الآيات: 68، 69، 70، فإنها مدنية.
(4) ما عدا الآيات: 197، 224، 225، 226، 227، فإنها مدنية.
(5) ما عدا الآيات: 52، 53، 54، 55، 85، فنزلت بالجحفة أثناء الهجرة.
(6) ما عدا الآيات: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 10، 11فإنها مدنية.
(7) عدا الآية: 17، فإنها مدنية.
(8) ما عدا الآيات: 27، 28، 29، فإنها مدنية.
(9) ما عدا الآيات: 16، 17، 18، 19، 20، فإنها مدنية.
(10) ما عدا الآية: 6، فإنها مدنية.(1/58)
رقم السورة / اسم السورة / عدد آياتها / مكان النزول / تأريخ النزول 36/ يس / 83/ مكية / نزلت بعد الجن / (1)
37/ الصافات / 182/ مكية / نزلت بعد الأنعام / 38/ ص / 88/ مكية / نزلت بعد القمر / 39/ الزمر / 75/ مكية / نزلت بعد سبأ / (2)
40/ المؤمن / 85/ مكية / نزلت بعد الزمر (3)
41/ فصلت / 54/ مكية / نزلت بعد غافر / 42/ الشورى / 53/ مكية / نزلت بعد فصلت (4)
43/ الزخرف / 89/ مكية / نزلت بعد الشورى / (5)
44/ الدخان / 59/ مكية / نزلت بعد الزخرف / 45/ الجائية / 37/ مكية / نزلت بعد الدخان (6)
46/ الأحقاف / 35/ مكية / نزلت بعد الجاثية / (7)
47/ محمد / 38/ مدنية / نزلت بعد الحديد / (8)
48/ الفتح / 29/ مدنية / نزلت بعد الجمعة / (9)
49/ الحجرات / 18/ مدنية / نزلت بعد المجادلة / 50/ ق / 45/ مكية / نزلت بعد المرسلات / (10)
51/ الذاريات / 60/ مكية / نزلت بعد الأحقاف /
__________
(1) ما عدا الآية: 45، فإنها مدنية.
(2) ما عدا الآيات: 52، 53، 54، فإنها مدنية.
(3) ما عدا الآيتين: 56، 57، فمدنيتان، والسورة تسمي (غافر) أيضا.
(4) ما عدا الآيات: 23، 24، 25، 27، فإنها مدنية.
(5) ما عدا الآية: 54، فإنها مدنية.
(6) ما عدا الآية: 14، فإنها مدنية.
(7) ما عدا الآيات: 10، 15، 35، فإنها مدنية.
(8) ما عدا الآية: 13، فإنها نزلت في الطريق أثناء الهجرة.
(9) نزلت هذه السورة في الطريق عند الانصراف من الحديبية.
(10) ما عدا الآية: 38، فإنها مدنية.(1/59)
رقم السورة / اسم السورة / عدد آياتها / مكان النزول / تأريخ النزول / 52/ الطور / 49/ مكية / نزلت بعد السجدة / 53/ النجم / 62/ مكية / نزلت بعد الإخلاص (1)
54/ القمر / 55/ مكية / نزلت بعد الطارق / (2)
55/ الرحمن / 78/ مدنية / نزلت بعد الرعد / 56/ الواقعة / 96/ مكية / نزلت بعد طه / (3)
57/ الحديد / 29/ مدنية / نزلت بعد الزلزلة / 58/ المجادلة / 22/ مدنية / نزلت بعد المنافقون / 59/ الحشر / 24/ مدنية / نزلت بعد البينة / 60/ الممتحنة / 13/ مدنية / نزلت بعد الأحزاب 61/ الصف / 14/ مدنية / نزلت بعد التغابن / 62/ الجمعة / 11/ مدنية / نزلت بعد الصف / 63/ المنافقون / 11/ مدنية / نزلت بعد الحج / 64/ التغابن / 18/ مدنية / نزلت / بعد التحريم / 65/ الطلاق / 12/ مدنية / نزلت بعد الإنسان / 66/ التحريم / 12/ مدنية / نزلت بعد الحجرات / 67/ الملك / 30/ مكية / نزلت بعد الطور / 68/ القلم 52/ مكية / نزلت بعد العلق / (4)
69/ الحاقة / 52/ مكية / نزلت بعد الملك / 70/ المعارج / 44/ مكية / نزلت بعد الحاقة / 71/ نوح / 28/ مكية / نزلت بعد النحل / 72/ الجن / 28/ مكية / نزلت بعد الأعراف /
__________
(1) ما عدا الآية: 32، فإنها مدنية.
(2) ما عدا الآيات: 44، 45، 46، فمدنية.
(3) ما عدا الآيتين: 81، 82، فمدنيتان.
(4) إلا من الآية: 17إلى غاية الآية: 33، ومن الآية: 48، إلى غاية: 50فإنها مدنية.(1/60)
رقم السورة / اسم السورة / عدد آياتها / مكان النزول / تأريخ النزول 73/ المزمل / 20/ مكية / نزلت بعد القلم / (1)
74/ المدثر / 56/ مكية / نزلت بعد المزمل / 75/ القيامة / 40/ مكية / نزلت بعد القارعة / 76/ الدهر / 31/ مدنية / نزلت بعد الرحمن / 77/ المرسلات / 50/ مكية / نزلت بعد الهمزة (2)
78/ النبأ / 40/ مكية / نزلت بعد المعارج 79/ النازعات / 46/ مكية / نزلت بعد النبأ / 80/ عبس / 42/ مكية / نزلت بعد النجم 81/ التكوير / 29/ مكية / نزلت بعد المسد / 82/ الانفطار / 19/ مكية / نزلت بعد النازعات / 83/ المطففين / 36/ مكية / نزلت بعد العنكبوت / (3)
84/ الانشقاق / 25/ مكية / نزلت بعد الانفطار / 85/ البروج / 22/ مكية / نزلت بعد الشمس / 86/ الطارق / 17/ مكية / نزلت بعد البلد / 87/ الأعلى / 19/ مكية / نزلت بعد التكوير / 88/ الغاشية / 26/ مكية / نزلت بعد الذاريات / 89/ الفجر / 30/ مكية / نزلت بعد الليل / 90/ البلد / 20/ مكية / نزلت بعد ق / 91/ الشمس / 15/ مكية / نزلت بعد القدر / 92/ الليل / 21/ مكية / نزلت بعد الأعلى / 93/ الضحى / 11/ مكية / نزلت بعد الفجر / 94/ الانشراح / 8/ مكية / نزلت بعد الضحى /
__________
(1) إلا الآيات: 10، 11، 20، فإنها مدنية.
(2) ما عدا الآية: 48، فإنها مدنية.
(3) هي آخر سورة نزلت بمكة.(1/61)
رقم السورة / اسم السورة / عدد آياتها / مكان النزول / تأريخ النزول / 95/ التين / 8/ مكية / نزلت بعد البروج / 96/ العلق / 19/ مكية / أول ما نزل من القرآن 97/ القدر / 5/ مكية / نزلت بعد عبس / 98/ البينة / 8/ مدنية / نزلت بعد الطلاق / 99/ الزلزال / 8/ مدنية / نزلت بعد النساء / 100/ العاديات / 11/ مكية / نزلت بعد العصر / 101/ القارعة / 11/ مكية / نزلت بعد قريش / 102/ التكاثر / 8/ مكية / نزلت بعد الكوثر / 103/ العصر / 3/ مكية / نزلت بعد ألم نشرح / 104/ الهمزة / 9/ مكية / نزلت بعد القيامة / 105/ الفيل / 5/ مكية / نزلت بعد الكافرون 106/ قريش / 4/ مكية / نزلت بعد التين / 107/ الماعون / 7/ مكية / نزلت بعد التكاثر / (1)
108/ الكوثر / 3/ مكية / نزلت بعد العاديات / 109/ الكافرون / 6/ مكية / نزلت بعد الماعون / 110/ النصر / 3/ مدنية / آخر ما نزل من سور القرآن / (2)
111/ المسد / 5/ مكية / نزلت بعد الفاتحة / 112/ الإخلاص / 4/ مكية / نزلت بعد الناس / 113/ الفلق / 5/ مكية / نزلت بعد الفيل / 114/ الناس / 6/ مكية / نزلت بعد الفلق /
__________
(1) الآيات الثلاث الأولى مكيات، والبقية مدنية.
(2) وقد نزلت بمنى في حجة الوداع.(1/62)
الفصل الثالث جمع القرآن(1/63)
لجمع القرآن في الروايات تأريخ متناقض عجيب، ألقى بتبعته على القرآن الكريم، والقرآن أسمى من أن يقدح فيه تعارض الروايات، وتداخل الأهواء، فهو محفوظ كما نزل، وسالم كما أوحي:
هذه الروايات بعد ضم بعضها إلى البعض الآخر تسفر عن هذه النتائج المتضاربة.
أمات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن كله على العسب واللخاف والرقاع والأكتاف، ولكنه لم يجمع في مصحف، وقد راع أبا بكر (رض) كثرة القتل في القراء بعد وقعة اليمامة في السنة الثانية عشرة للهجرة، فاستشار عمر في الأمر، فأقرا معا جمع القرآن من المصحف إلى المصحف، أو من العسب واللخاف والأقتاب إلى المصحف، وكلفا بالمهمة زيد بن ثابت.
ب أن عمر بن الخطاب كان أول من جمع القرآن بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد أن سأل عن آية فلم يجب إليها، ونهض بالمهمة زيد بن ثابت.
ج أن أبا بكر مات، وعمر قد قتل، ولم يجمع القرآن بعد، أي أن المسلمين في حالة فوضى من شرائع دينهم، وكتاب ربهم.
د أن عثمان كان أول من جمع المصحف تارة، وأول من وحد المصحف تارة أخرى.
هـ أن القرآن كان مجموعا في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأن جامعيه كانوا من الكثرة بحيث يعدون تارة، ويخصصون تارة أخرى، ولا يحاط بهم سواهما.
ولقد وقفت من هذه الروايات موقف المندهش تارة، وموقف المتحير تارة أخرى، وقررت في النهاية دراستها في موضوعية خالصة، أخلص منها إلى نتائج سليمة، قد تقارب الواقع وتتجه نحو الصواب بإذن الله.(1/65)
هـ أن القرآن كان مجموعا في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأن جامعيه كانوا من الكثرة بحيث يعدون تارة، ويخصصون تارة أخرى، ولا يحاط بهم سواهما.
ولقد وقفت من هذه الروايات موقف المندهش تارة، وموقف المتحير تارة أخرى، وقررت في النهاية دراستها في موضوعية خالصة، أخلص منها إلى نتائج سليمة، قد تقارب الواقع وتتجه نحو الصواب بإذن الله.
وهذه الدراسة تعنى بالاستنباط القائم على أساس الاجتهاد الفكري، والاجتهاد معرض للخطأ والصواب، وهي لا تمس القرآن ولا الحديث، وإنما تسير بينهما هامشيا، فالقرآن هو القرآن أنى كانت طرقه، وليس في جميع روايات الجمع ما هو مرفوع إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
من خلال ما تقدم نظفر بحصيلتين متعارضتين:
الأولى: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مات والقرآن بعد لم يجمع في مصحف.
الثانية: أن القرآن كان مجموعا في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في مصحف.
يدل على الحصيلة الأولى طائفة من الروايات المتناثرة لإثبات الفقرات أ، ب، ج، د.
ويدل على الحصيلة الثانية طائفة الروايات والدلائل والبراهين لإثبات الفقرة هـ.
ولسنا نحاول تفنيد روايات الحصيلة الأولى بقدر ما يهمنا إثبات حقيقة الحصيلة الثانية. لقد تتبّع السيد الخوئي فكفانا مؤنة الخوض في ذلك روايات الجمع بناء على الحصيلة الأولى في كل من صحيح البخاري، ومسند أحمد، وكنز العمال، ومنتخب كنز العمال، والاتقان للسيوطي، وكان أهم هذه الروايات من خلال تعقيبه عليها غثها وسمينها اثنتان وعشرون رواية (1).
وقد خلص إلى تناقصها في تعيين العهد الذى جمع فيه القرآن مترددا بين عهود أبي بكر، عمر، عثمان، ومن هو المتصدي لذلك؟ هل هو أبو بكر، أو عمر، أو زيد بن ثابت؟ وهل بقي من الآيات ما لم يدون إلى زمن عثمان؟ ومن الذي طلب من أبي بكر جمع القرآن؟ ومتى
__________
(1) الخوئي، البيان: 246240.(1/66)
ألحقت بعض الآيات في القرآن، وبماذا ثبت ذلك، وهل يكفي ذلك لتواتر القرآن (1).
وقد عارض الخوئي هذه الروايات بروايات أخر تدل على جمع القرآن في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مستندا فيها إلى منتخب كنز العمال، وصحيح البخاري، وإتقان السيوطي، وقد اعتبر التمحل بأن المراد من الجمع في هذه الروايات هو الجمع في الصدور لا التدوين، دعوى لا شاهد عليها، لأن الحفاظ أكثر من أن يعدوا (2).
وقد ثبت لديه جمع القرآن بعهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واعتبر ما سوى هذا معارضا لكتاب الله، ومخالفا لحكم العقل، ومناهضة صريحة للإجماع الذي عليه المسلمون كافة بأن القرآن لا طريق لإثباته إلا التواتر، فلا بد من طرح هذه الروايات لأنها تدل على ثبوت القرآن بغير التواتر، وقد ثبت بطلان ذلك بإجماع المسلمين (3).
واعتبر القول بروايات الجمع على أساس الحصيلة الأولى يستلزم فتح القول بالتحريف، باعتبار الجمع على تلك الطرق يكون قابلا للزيادة والنقصان (4).
وقد أيد جمع عثمان للقرآن، لا بمعنى أنه جمع الآيات والسور في مصحف، بل بمعنى أنه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد: «وهذا العمل من عثمان لم ينتقده عليه أحد من المسلمين، وذلك لأن الاختلاف في القراءة كان يؤدي إلى الاختلاف بين المسلمين، وتمزيق صفوفهم، وتفريق وحدتهم، بل كان يؤدي إلى تكفير بعضهم بعضا، وقد مرّ أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم منع عن الاختلاف في القرآن» (5).
والحق أن الخوئي قد تتبع هذه القضية بكل جزئياتها وتفصيلاتها،
__________
(1) المصدر نفسه: 249247.
(2) المصدر نفسه: 251249.
(3) المصدر نفسه: 256252.
(4) المصدر نفسه: 257.
(5) المصدر نفسه: 258.(1/67)
وانقض عليها يفندها ويجرحها، مثبتا أن القرآن قد دون في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا ما نذهب إليه من خلال اضطلاعنا بأدلة جملة تستقطب جملة من الروايات، وطائفة من الأدلة الخارجية والداخلية حول الكتاب وضمن الكتاب وعلى هامش الكتاب، تثبت دون ريب تكامل الجمع التدويني للقرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. ولا نريد أن ندخل في متاهة من هذا الموضوع بقدر ما نريد إثبات الحقيقة والوصول إليها بكل الطرق المختصرة.
ففي جملة من الروايات المعتبرة نجد جزءا لا يستهان به من هذه الحقيقة.
1 - في البخاري، أن من جمعوا القرآن على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أربعة، فعن قتادة، قال سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد (1).
2 - مات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ ابن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد (1).
3 - أورد البيهقي عن ابن سيرين، جمع القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أربعة لا يختلف فيهم: معاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد، وأبو زيد. واختلفوا في رجلين من ثلاثة: أبو الدرداء، وعثمان، وقيل: عثمان وتميم الداري (1).
4 - عن الشعبي، جمع القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ستة: أبي، وزيد، وأبو الدرداء، وسعد بن عبيد، وأبو زيد، ومجمع بن جارية وقد أخذه إلا سورتين أو ثلاثة. قال: ولم يجمعه أحد من الخلفاء من أصحاب محمد غير عثمان (1)
5 - وجمع على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعض من الصحابة القرآن كله، وبعض منهم جمع القرآن، ثم كمله بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذكر محمد بن إسحاق في الفهرست: «إن الجمّاع للقرآن على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هم: علي بن أبي طالب
__________
(1) ظ: الزركشي، البرهان: 1/ 241.(1/68)
عليه السلام، وسعد بن عبيد بن النعمان، وأبو الدرداء عويمر بن زيد، ومعاذ بن جبل بن أوس، وأبو زيد ثابت بن زيد، وأبي بن كعب، وعبيد ابن معاوية، وزيد بن ثابت» (1).
6 - وذكر الحافظ شمس الدين الذهبي، أن الأعداد المتقدمة هم الذين عرضوه على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واتصلت بنا أسانيدهم، وأما من جمعه منهم، ولم يتصل بنا فكثير. وأما الذين عرضوا القرآن على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فسبعة:
عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وأبو الدرداء.
وقد أكد الحافظ الذهبي نفسه الجمع في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: وقد جمع القرآن غيرهم من الصحابة، كمعاذ بن جبل، وأبي زيد، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر، وعقبة بن عامر (2).
7 - روى الخوارزمي في مناقبه عن علي بن رياح، قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم علي بن أبي طالب عليه السلام، وأبي بن كعب (3).
8 - أخرج بن أبي داود عن محمد بن كعب القرظي، قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري (4).
9 - قال الحارث المحاسبي، فيما أكده الزركشي: «وأما أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل: فبغير شك جمعوا القرآن، والدلائل عليه متظاهرة» (5).
10 - أخرج البيهقي، وأبو داود، عن الشعبي، قال: جمع القرآن على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ستة: أبي، وزيد، ومعاذ، وأبو الدرداء، وسعد بن
__________
(1) ظ: الزنجاني، تأريخ، القرآن: 46وانظر مصدره.
(2) الزركشي، البرهان: 1/ 242وما بعدها.
(3) الزنجاني، تأريخ القرآن: 47.
(4) السيوطي، الاتقان: 1/ 202.
(5) الزركشي، البرهان: 1/ 239.(1/69)
عبيد، وأبو زيد. ومجمع بن جارية قد أخذه إلّا سورتين أو ثلاثة (1).
11 - ذكر بن أبي داود فيمن جمع القرآن: قيس بن أبي صعصعة، وهو خزرجي يكنّى: أبا زيد (2).
12 - قال أبو أحمد العسكري: لم يجمع القرآن من الأوس غير سعد بن عبيد. وقال ابن حبيب في المحبر: سعد بن عبيد أحد من جمع القرآن على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (3).
13 - قال السيوطي: ظفرت بامرأة من الصحابيات جمعت القرآن، ولم يعدها أحد ممن تكلم في ذلك، فأخرج ابن سعد في الطبقات:
أنبأنا الفضل بن دكين، قال حدثنا: الوليد بن عبد الله بن جميع، قال:
حدثتني جدتي أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث
وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يزورها، ويسميها الشهيدة
وكانت قد جمعت القرآن ثم ساق الحديث (4).
وهذه الجملة من الروايات بضم بعضها إلى البعض الآخر تبرز لنا طائفة كبيرة من أعلام المهاجرين والأنصار قد جمعت القرآن في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وليس من المرجح أن يكون هؤلاء الرواة جميعا مع اختلاف عصورهم قد تواطئوا على الكذب، فأوردوا ذكر هذه الجمهرة من الصحابة ممن جمعوا القرآن، ولا منازع لهم في ذلك، بل ولا مناقش من الأعلام.
وأنت ترى أن هذه الروايات تدل دلالة قاطعة على الجمع المتعارف، وهو التدوين في مجموع ما، وقد يحلو للبعض أن يفسر الجمع بالحفظ في الصدور، ولا دلالة لغوية عليه، إذ أنه انتقال باللفظ عن الأصل إلى سواه دون قرينة تعرف عن المعنى الأول، ولأنه معارض بجمهور الحفظة الذين لا يعدون في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كثرة وتواترا وشيوعا، من النساء والرجال
__________
(1) السيوطي، الاتقان: 1/ 202.
(2) المصدر نفسه: 1/ 402.
(3) المصدر نفسه: 1/ 203.
(4) المصدر نفسه: 1/ 203.(1/70)
وفيهم الخلفاء الأربعة وأمهات المؤمنين وذرية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عدا آلاف المسلمين في طول البلاد وعرضها.
لقد عقب الماوردي على الرواية القائلة، بأنه لم يجمع القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلّا أربعة، واستقل ذلك بل استنكره، فقال:
«وكيف يمكن الإحاطة بأنه لم يكلمه سوى أربعة، والصحابة متفرقون في البلاد؟ وإن لم يكمله سوى أربعة، فقد حفظ جميع أجزائه مئون لا يحصون» (1).
فالماوردي هنا يفرق بين الجمع والحفظ، وهو من علماء القرن الخامس الهجري، ممن يعرف فحوى الخطاب، ومنطوق العبارة، ودلالة الألفاظ.
والفرق بين الجمع والقراءة والحفظ جليّ لا يحتاج معه إلى بيان، قد ذكر أبو عبيد في كتاب القراءات: القراء من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فعدّ الخلفاء الأربعة، وطلحة، وسعدا، وابن مسعود، وحذيفة، وسالما، وأبا هريرة، وعبد الله بن السائب، والعبادلة (2)، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة.
ومن الأنصار: عبادة بن الصامت، ومعاذ الذي يكنّى أبا حليمة، ومجمع بن جارية، وفضالة بن عبيد، ومسلم بن مخلد (3).
وهذا العدد يقتضي أن يكون على سبيل النموذج والمثال، لا على سبيل الحصر والاستقصاء، أو أن هؤلاء ممن اشتهر بالحفظ والقراءة أكثر من غيرهم.
ومما يؤيد صدق الروايات المتقدمة في إرادة الجمع المتعارف هو تداول جمع القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بما
روي عن زيد بن ثابت فإنه يقول:
__________
(1) الزركشي، البرهان: 1/ 242.
(2) العبادلة، عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ظ: ابن منظور، لسان العرب: 4/ 269.
(3) السيوطي، الاتقان: 1/ 202.(1/71)
«كنا حول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نؤلف القرآن من الرقاع» (1).
ودلالة التأليف، تعني الجمع والتدوين، وضم شيء إلى شيء، ليصح أن يطلق عليه اسم التأليف.
ولا دليل على ادعاء الزركشي: بأن بعض القرآن جمع بحضرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (2). فلم لا يكون كل القرآن جمع في حضرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم علما بأنه قد سبقه من صرح بجمع القرآن كله لا بعضه في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بما نصه: «أنه لم يكن يجمع القرآن كله إلا نفر يسير من أصحاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم» (3).
ولا ريب بعد هذا كله أن هناك بعض المصاحف المتداولة عند بعض الصحابة في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والأخبار مجمعة على صحة وجودها، وعلى تعدد مصاحف الصحابة أيضا، إذ لو لم يكن هناك جمع بالمعنى المتبادر إليه، لما كانت تلك المصاحف أصلا، إن وجودها نفسه هو دليل الجمع، إذ لم يصدر منع من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن جمعه، بل هناك
رواية عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم تقول: «لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه» (4).
وجمع هؤلاء الصحابة للقرآن هو الجمع الذي نقول به، لا الحفظ، وإلا فما معنى تسميتها بالمصاحف؟ وما معنى اختلاف هذه المصاحف فيما تدعي الروايات.
لقد أورد ابن أبي داود قائمة طويلة بأسماء مصاحف الصحابة، وعقب عليها بما فيها من الاختلاف، هذا الاختلاف الذي قد يعود في نظرنا إلى التأويل لا إلى التنزيل، أو إلى عدم الضبط في أسوأ الاحتمالات، وقد عقد لذلك بابا سماه «باب اختلاف مصاحف الصحابة» (5).
__________
(1) أبو شامة، المرشد الوجيز: 44.
(2) ظ: الزركشي، البرهان: 1/ 237.
(3) مقدمتان في علوم القرآن: 25.
(4) الخطيب البغدادي، تقييد العلم: 29.
(5) ابن أبي داود، كتاب المصاحف: 8850.(1/72)
وقد عدد ابن أبي داود منها: مصحف عمر بن الخطاب، مصحف علي بن أبي طالب، مصحف أبيّ بن كعب، مصحف عبد الله بن مسعود، مصحف عبد الله بن عباس، مصحف عبد الله بن الزبير، مصحف عبد الله بن عمرو بن العاص، مصحف عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، مصحف حفصة زوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مصحف أم سلمه زوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (1).
قال الآمدي (ت: 617هـ) في كتابه (الأفكار الأبكار): «إن المصاحف المشهورة في زمن الصحابة كانت مقروءة عليه ومعروضة» (2).
فالآمدي يجيبنا على سؤال دقيق هو: متى كتبت هذه المصاحف؟
ومتى جمعيت؟ وكيف أقرت؟ والجواب أنها كتبت في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقرئت عليه، بل هي معروضة عليه للضبط والدقة والاتقان.
وهناك دليل جوهري آخر، وهو أن الروايات في قراءة القرآن كله، وختمه، في عهد رسول الله تنطق بوجود جمعي له، إذ كيف يقرأ فيه من لم يحصل عليه.
1
«عن عبد الله بن عمرو، قال: قلت: يا رسول الله، في كم أقرأ القرآن؟ قال اختمه في شهر، قلت إني أطيق أفضل من ذلك، قال: أختمه في عشرين، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: اختمه في خمس عشرة، قلت إني أطيق أفضل من ذلك، قال: اختمه في عشر. قلت إني أطيق أفضل من ذلك، قال اختمه في خمس، قلت إني أطيق أفضل من ذلك فما رخص لي» (3).
وقد روي في غير هذا الحديث، أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له أول مرة، اقرأ القرآن في أربعين (3).
2 - وروي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله: «لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» (3).
فأي قرآن يشير إليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إن لم يكن مجموعا، ومتداولا بما تتيسر قراءته عند المسلمين.
__________
(1) المصدر نفسه: والصفحات.
(2) الزنجاني، تأريخ القرآن: 39.
(3) مقدمتان في علوم القرآن: 2827.(1/73)
3 - ومن المشهور الذي لا يجهل أن عمر بن الخطاب (رض) أقام من صلى التراويح بالناس في ليالي رمضان، وأمره أن يقرأ في الركعة الواحدة نحوا من عشرين آية، فكان يحيى القرآن في الشهر مرتين. ومعلوم أن ذلك لم يكن من المصحف الذي كتبه زيد، لأن المصاحف لم تنسخ منه (1).
وهذا تصريح بوجود المصاحف المغايرة لما استنسخه زيد، وأن سيرة المسلمين عليها إذ لم يعمم مصحف زيد.
وصاحب الرأي السابق يذهب صراحة أن القرآن كان منظوما ومجموعا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (2).
وقد يقال بأن الكتابة كانت محدودة في عصر الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد يحول هذا دون تدوين القرآن، فيقال إن عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعصر أبي بكر واحد، فما يقال هناك يقال هنا. على أن موضوع الكتابة لا يخلو من مبالغة، فهي وإن كانت محدودة النطاق، ومقتصرة على طبقة من الناس، فإننا نشكك كثيرا في تحديد الأرقام التي أوردها المؤرخون، ولنا عليها مؤاخذات ليس هذا موطن بحثها، ويزداد شكنا حينما نلمح البلاذري يقول:
«دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلا يكتب» (3).
أو ما أورده ابن عبد ربه الأندلسي «لم يكن أحد يكتب بالعربية حين جاء الإسلام، إلا بضعة عشر رجلا» (4).
لا ريب أن العرب كانت أمة أمية، إلا أن هذه الأرقام لا تتناسب مع ذكر القرآن للكتابة وأدواتها ومشتقاتها بهذه الكثرة. على أن للأمية دلالات أخرى لعل من أفضلها تعليلا ما
رواه ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ}
__________
(1) المصدر نفسه: 31.
(2) المصدر نفسه: 31.
(3) البلاذري، فتوح البلدان: 477.
(4) ابن عبد ربه، العقد الفريد: 4/ 242.(1/74)
{فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا 2} (1).
قال الصادق: «كانوا يكتبون، ولكن لم يكن معهم كتاب من عند الله ولا بعث إليهم رسول فنسبهم الله إلى الأميين» (2).
ومهما يكن من أمر فأمية من أسلّم، وقلة الكتبة، وتضاؤل وسائل الكتابة، لم تكن موانع تحول دون تدوين القرآن.
فلقد اتخذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عددا من الكتاب للقرآن الكريم في كل من مكة والمدينة في طليعتهم الخلفاء الأربعة، وزيد، وأبي (3).
قال القاضي أبو بكر الباقلاني: «وما على جديد الأرض أجهل ممن يظفر بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه أهمل في القرآن أو ضيعه، مع أن له كتّابا أفاضل معروفين بالانتصاب لذلك من المهاجرين والأنصار، فممن كتب له من قريش من المهاجرين: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن أرقم، وخالد بن سعيد، وذكر أهل التفسير أنه كان يملي على خالد بن سعيد ثم يأمره بطي ما كتب وختمه ومنهم الزبير بن العوام، وحنظلة، وخالد بن أسد، وجهم بن الصلت، وغير هؤلاء» (4).
ولا شك أن الكتابة كانت تخضع للإشراف المباشر من قبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالذات، ليكون النص مطابقا للوحي، كما مرّ
في حديث خالد بن سعيد، وكما روى زيد بن ثابت: «كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يملي عليّ، فإذا فرغت، قال: اقرأه، فأقرأه، فإن كان فيه سقط أقامه، ثم أخرج به إلى الناس» (5).
ولقد كان العرب في جاهليتهم يهتمون اهتماما كبيرا في تقييد المأثور الذى،
ففي حديث سويد بن الصامت:
__________
(1) الجمعة: 2.
(2) ظ: الطباطبائي، الميزان:، وانظر مصدره.
(3) ظ: الجهشياري، الوزراء والكتاب: 14.
(4) الباقلاني، نكت الانتصار: 100.
(5) الصولي، أدب الكتاب: 165.(1/75)
أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعل الذي معك مثل الذي معي، فقال: وما الذي معك؟ قال سويد: مجلة لقمان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم اعرضها عليّ.
فعرضها عليه، فقال له: إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى، هو هدى ونور (1).
وإذا كان اهتمام العرب في الجاهلية، بمثل هذا المستوى من الجمع والتدوين للموروث الثقافي أو الديني، فكيف يكون اهتمامها بالقرآن الكريم، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بين ظهرانيهم يدعوهم إلى حفظه ومدارسته والقيام به.
لكأنني بالآية حينما يتلوها الرسول الأعظم تتلاقفها الصدور لتدونها في السطور، ولقد كان من سيرته متى ما أسلّم أحد من العرب دفعه إلى الذين معه، فعلموه القرآن. وإذا هاجر له أحد من أصحابه أوكله إلى من يعلمه القرآن:
«فكان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى رجل من الصحابة يعلمه القرآن، وكان يسمع لمسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا» (2)
. إذن، كيف كان يتم تعليم القرآن؟ وكيف كانت تلاوته؟ لا أشك أن ذلك كان في مدون ما، ولا يمنع ذلك من الحفظ في الصدور.
يقول محمد عبد الله دراز: «إن النص المنزل لم يقتصر على كونه (قرآنا) أو مجموعة من الآيات تتلى أو تقرأ، وتحفظ في الصدور، وإنما كان أيضا (كتابا) مدونا بأعداد. فهاتان الصورتان تتضافران وتصحح كل منهما الأخرى. ولهذا كان الرسول كلما جاءه الوحي وتلاه على الحاضرين أملاه من فوره على كتبة الوحي» (3).
ومما يدل على تدوينه وكتابته مجموعا في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مضافا إلى ما سبق بيانه ما يلي:
1 - كان صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا نزلت عليه الآية من السورة دعا من يكتب له فيقول:
ضعها في موضع كذا وكذا من السورة.
وهذا من أوضح الأدلة على أن
__________
(1) ظ: ابن هشام، السيرة النبوية: 2/ 68الزمخشري، الفائق: 1/ 206.
(2) الزرقاني، مناهل العرفان: 1/ 234.
(3) محمد عبد الله دراز، مدخل إلى القرآن: الكريم: 34.(1/76)
هذا الترتيب الذي رتبه الله عليه. ولأجله كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يدلهم على موضع السور من القرآن، والآية من السورة، ليكتب ويحفظ على نظمه وترتيبه (1).
2 - لقد ورد لفظ الكتاب في القرآن والسنة النبوية القطعية الصدور، للدلالة على ماله كيان جمعي محفوظ، والإشارة بل التصريح في ذلك الكتاب إلى القرآن الكريم، فقد استعمل لفظ الكتاب في القرآن بهذا الملحظ في أكثر من مائة موضع، ونضرب لذلك بعض النماذج:
أ {ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} البقرة / 2.
ب {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ} آل عمران / 3.
ج {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ} آل عمران / 7.
د {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ 105} النساء / 105.
هـ {وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ} المائدة / 48.
و {وَهََذََا كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ مُبََارَكٌ / 92} الأنعام / 92.
ز {كِتََابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ 2} الأعراف / 2.
ح {الر تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ الْحَكِيمِ 1} يونس / 1.
ط {الر كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ} هود / 1.
ي {الر كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ 1} إبراهيم / 1.
أفلا يدل هذا الحشد الهائل إلى أن القرآن كان كتابا مجموعا يشار إليه. ومما يعضده ما ورد في السنة الشريفة من التصريح بالكتاب في عدة مواضع أبرزها:
أ
قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله
__________
(1) مقدمتان في علوم القرآن: 41.(1/77)
وعترتي أهل بيتي» (1).
ب
قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إني مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (2).
فهل يعني استخلاف الكتاب أن يترك بين عسب ورقاع وألواح تارة، أو بين أقتاب وأكتاف ولخاف تارة أخرى، أم أن استخلافه له ينبغي أن يكون مجموعا منظما صالحا لمعنى الخلافة.
3 - مما لا شك فيه أن الاسم البارز والأمثل لسورة الحمد هو (فاتحة الكتاب)، ولو لم يكن القرآن مدونا من قبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بوحي من جبرئيل عليه السّلام: «لما كان لتسميته هذه السورة فاتحة الكتاب معنى، إذ قد ثبت بالإجماع أن هذه السورة ليست بفاتحة سور القرآن نزولا، فثبت أنها فاتحته نظما وترتيبا وتكلما» (3).
4 - قد يقال بأن جمع القرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو حفظه في الصدور، وهذا وإن كان دعوى لا دليل عليها، فإن من أبسط لوازمها أن الحفظ في الصدور مما يستدعي توافر النص بين الأيدي وتداوله للمعارضة بين ما يحفظ وبين ما هو مثبت، ولا دليل أنهم كانوا يحفظونه مباشرة عند تلاوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم له، إذ هذه الميزة من مميزات الرسول الأعظم فبمعارضة جبرئيل عليه السّلام له يحفظ النص القرآني ويستظهره وبتعهد من الله له كما دل على ذلك قوله تعالى:
{لََا تُحَرِّكْ بِهِ لِسََانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} (4).
والكثرة الكاثرة كانت تحفظ القرآن بمدارسته وتكرار تلاوته، وأقل ما في ذلك أن تقارن الحفظ والاستظهار بما لديها من نصوص قرآنية، وهذا هو المتعين من قبل المسلمين نظرا لورعهم واحتياطهم من جهة، وتعبيرا
__________
(1) ابن الأثير، جامع الأصول: 1/ 187.
(2) الطوسي، التبيان: 1/ 3.
(3) مقدمتان في علوم القرآن: 41وما بعدها.
(4) القيامة: 1716.(1/78)
عن شغفهم بالقرآن وحبهم لمتابعته من جهة أخرى، فقد يظهر من كثير من الروايات كونهم يتحلقون لتلاوته ليلا،
فقد رفع إليه:
«إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالليل حين يدخلون وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار» (1).
5 «ومن المعلوم الذي لا خفاء به أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد كان يؤم أصحابه في الصلوات الخمس لا يخل بذلك في سفر ولا حضر، فقرأ في الركعتين من كل صلاة بسورة مع فاتحة الكتاب، ويسمعهم ذلك في الغداة والعشي. فماذا كان يسمعهم ليت شعري، إن كانت آيات القرآن متفرقة ولم تنظم السور حتى أنها نظمت في أيام أبي بكر وعثمان، فبماذا كان يقرع العرب حيث يقول الله تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيََاتٍ} (2). وذلك مما نزل بمكة، ثم قال تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (3). ونزل ذلك بالمدينة، ولو كان على ما خيلوا لم يكن العباس ابن عبد المطلب يهرب يوم حنين حيث انهزم القول فيقول: يا أصحاب سورة البقرة، وسورة آل عمران، هذا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. يستدعيهم بذلك إليه» (4).
6 - أورد ابن حجر ما أخرجه أحمد وأبو داود عن أوس بن أبي أوس، وكان في الوفد الذين أسلموا على يد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: فسألنا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزّبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل من (ق) حتى نختم (يعني القرآن).
قال ابن حجر: (فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو عليه في المصحف الآن كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم) (5).
__________
(1) الزرقاني، مناهل العرفان: 1/ 313.
(2) هود: 13.
(3) البقرة: 23.
(4) مقدمتان في علوم القرآن: 27.
(5) ابن حجر، فتح الباري: 9/ 42.(1/79)
7 - أورد السيوطي في مسألة القراءة في المصحف أفضل من القراءة من حفظه، لأن النظر في المصحف عبادة مطلوبة، أورد عدة روايات مرفوعة إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيها ذكر المصحف، مما يعني أن لفظ «المصحف» المجموع فيه القرآن، كان شائعا ومعروفا، وذا دلالة معينة منذ عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فما رفع إليه على سبيل المثال (1):
أ
ما أخرجه الطبراني، والبيهقي في الشعب من حديث أوس الثقفي مرفوعا:
«قراءة الرجل في غير المصحف ألف درجة، وقراءته في المصحف تضاعف ألفي درجة».
ب
ما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود مرفوعا: «من سره أن يحب الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فليقرأ في المصحف».
ج
وأخرج غير السيوطي، عن أبي هريرة، أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: الغرباء في الدنيا أربعة، وعدّ منها مصحفا لا يقرأ فيه (2).
هـ
وروى ابن ماجة، وغيره، عن أنس مرفوعا: «سبع يجري للعبد أجرهن بعد موته، وهو في قبره، وعدّ منهن: من ورث مصحفا» (3).
ووعن ابن عمر، قال نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يسافر بالمصاحف إلى أرض العدو، مخافة أن ينالوها، وفي لفظ آخر: نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو (4).
فهذه الأحاديث وأمثالها إن صحت دليل صريح على وجود جمعي وكيان تأليفي للقرآن في مصحف، بل في المصحف نفسه.
__________
(1) الأحاديث أ، ب، ج، في السيوطي: الاتقان: 1/ 34وما بعدها.
(2) المناوي، فيض القدير.
(3) ظ: السيوطي، الاتقان: 4/ 166.
(4) ابن أبي داود، كتاب المصاحف: 181180.(1/80)
والزركشي مع قوله: إن القرآن كان على هذا التأليف والجمع في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا أنه يعقب عليه بقوله: وإنما ترك جمعه في مصحف واحد، لأن النسخ كان يرد على بعض، فلو جمعه ثم رفعت تلاوة بعض، لأدى إلى الاختلاف، واختلاط الدين» (1).
فيرده التصريح بالجمع فيما تقدم من روايات وأدلة وأمارات يقطع العقل بصحبتها، والتحقيق العلمي يقتضي أن يكون القرآن كله قد كتب وجمع في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما يرى ذلك ابن حجر (2).
أما تعليله عدم جمع القرآن في مصحف بنسخ تلاوة، فمعارض ومطروح بمناقشة المسألة أصلا وموضوعا، إذ لا نسخ تلاوة في الكتاب الكريم، والقول بنسخ التلاوة هو عين القول بالتحريف، ولا تحريف بالكتاب إجماعا، فالآية حينما تنزل فهي قرآن سواء نسخت أو لم تنسخ، ورفعها من القرآن يعني ما هو قرآن.
وعلى فرض وجود النسخ المدعى، فالإشكال نفسه يرد بالنسبة للحفظ والاستظهار، فحفاظ القرآن أكثر من أن يحصوا، فإذا نزل الناسخ للتلاوة وقع ذات الإشكال، وصعب إزالة ما هو محفوظ في الصدور، بينما لو ثبت كتابة، لكان الرفع والإزالة أيسر ذلك بالإشارة إلى مواضعها وهو أبرم للأمر كما هو ظاهر.
وفي ضوء ما تقدم، لا نميل إلى الرأي القائل بأن القرآن لم يجمع في مصحف واحد، لئلا يرد الناسخ فيؤدي إلى الاختلاف.
والذي يلفت النظر حقا من جراء الاعتقاد أو التصور بأن أبا بكر (رض) قد جمع القرآن في مصحف، هو مصير هذا القرآن المجموع، فليس بين أيدينا رواية واحدة تتحدث عن هذا القرآن بأنه قد جمع للمسلمين، أو
__________
(1) الزركشي، البرهان: 1/ 235.
(2) ابن حجر، فتح الباري: 9/ 12.(1/81)
جعل قيد الاستعمال، أو استنسخ منه ولو نسخة واحدة إلى مكة مثلا، وهي حرم الله، وقد بقي هذا الحرم فيما يزعم دون قرآن يقرأ أو يتعلم أو يستظهر فيه.
وأغلب الظن إذا صحت روايات الجمع المدعى، فإن أبا بكر قد جمع لنفسه قرآنا في مصحف كما جمع غيره من الصحابة، وإلا فلو جمعه للمسلمين، وليس للمسلمين في قرآن مجموع لكان من الضرورة الملحة بمكان أن لا يغيب عن ظنه احتياج المسلمين لعدة نسخ منه على الأقل، كما فعل عثمان فيما بعد، أو لأوضح بأنه القرآن الرسمي للدولة التي يقوم على رأسها، ولو اعتذر بأن حياته لم تطل، لكان من الواجب على عمر تنفيذ ذلك.
والأغرب من هذا كله أنه لم يحدثنا التأريخ أن أحدا في عهد أبي بكر وعمر قد استنسخ من هذا القرآن شيئا، مما اضطر فيه الدكتور دراز أن يعبر عن رأيه فيه بقوله: «ولكن رغم قيمة هذا المصحف العظيمة، ورغم ما يستحقه من العناية التي بذلت في جمعه، فإن مجرد بقائه محفوظا بعناية عند الخليفتين الأولين أسبغ عليه الطابع الفردي أو الشخصي بعض الشيء، ولم يصبح وثيقة للبشر كافة إلا من يوم نشره، ولكن فرصة نشره لم تتح إلا في خلافة عثمان بعد معارك أرمينية وأذربيجان» (1).
على أن ما صرح به الحاكم في المستدرك أن ذلك كان جمعا في المصحف لا في المصحف إذ قال: «فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر» (2).
وقد قطع ابن أبي داود بأنها صحف في عدة مواضع من كتابه (3).
ودراز وإن اعتبر ما جمعه أبو بكر بحسب الروايات التي ناقشناها، مصحفا إلا أنه أرجعه إلى عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالطريقة التي عبر عنها بقوله:
__________
(1) محمد عبد الله دراز، مدخل إلى القرآن: الكريم: 38.
(2) السيوطي، الاتقان: 1/ 165.
(3) ابن أبي داود، المصاحف: 19، 21، 23، 24، 25إلخ.(1/82)
«ولا يفوتنا أن ننبه هنا إلى أن آيات مصحف حفصة لا ترجع إلى الخليفة الأول، وإنما ترجع بنصها الكامل إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم» (1).
ومهما يكن من أمر، فقد أورد ابن حجر، بناء على صحة بعض الروايات في شأن الكتابة قوله: «ولم يأمر أبو بكر إلا بكتابه ما كان مكتوبا» (2).
وهذا هو الاستنساخ بعينه، ولا مانع أن يستنسخ أبو بكر لنفسه مصحفا شأن بقية الصحابة. وقد أيد ذلك ابن شهاب بقوله: «إن أبا بكر الصديق كان جمع القرآن في قراطيس، وقد سأل زيد بن ثابت النظر في ذلك فأبى حتى استعان عليه بعمر ففعل» (3).
فهذه الرواية تدل صراحة أن أبا بكر قد جمعه في قراطيس، وقد طلب من زيد باعتباره من كتاب الوحي أن ينظر فيه لتقويمه، ولا دلالة فيه على جمع مصحفي، وإلى تصديه لذلك.
ولا يفوتنا التنبيه أن جملة من الرواة يعتبرون الجمع إنما تم في عهد عمر لا أبي بكر. ومنه ما أخرجه بن أبي داود عن طريق الحسين، أن عمر سأل عن آية من كتاب الله، فقيل: كانت مع فلان، قتل يوم اليمامة، فقال: «إنا لله ثم أمر بالقرآن فجمع، فكان أول من جمعه في المصحف» (4).
وفي رواية أخرى، قال ابن إسحاق: لما جمع عمر بن الخطاب المصحف. وفي نص آخر: لما أراد عمر أن يكتب الإمام (5).
ولم يكتف هؤلاء بترك القرآن متناثرا في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي
__________
(1) دراز، مدخل إلى القرآن: الكريم 46.
(2) ابن حجر، فتح الباري: 9/ 13.
(3) الخوئي، البيان: 242وانظر مصدره.
(4) المصاحف: 10السيوطي، الاتقان: 1/ 166.
(5) الخوئي: البيان: 244وانظر مصدره.(1/83)
بكر، حتى قالوا بجمعه في عهد عمر، مما فتح باب القول للمستشرقين في ذلك، فقد أيد «شواللي» الشك في صحة الرواية القائلة: بأن أبا بكر هو الذي أمر بجمع القرآن (1).
وقال بروكلمان: «ومما يحتمل كثيرا من الشك ما ذكرته الرواية من أن معركة اليمامة الحاسمة مع مسيلمة سنة 12هـ / 663م التي قتل فيها عدد كبير من قراء الصحابة، هي التي قدمت الداعي إلى جمع القرآن
على أن الخليفة عمر هو الذي أمر زيد بن ثابت وكان شابا مدنيا كتب كثيرا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقوم بجمع القرآن وكتابات الوحي. وبقي هذا المجموع في حوزة عمر، ثم ورثته حفصة. ولعل هذا المجموع الأول كان صحفا متناثرة» (1).
وأغرب مما تقدم ما أخرجه بن أشتة، قال: «مات أبو بكر ولم يجمع القرآن، وقتل عمر ولم يجمع القرآن» (2).
وكل هذه الاعتبارات بما فيها ما أكد المستشرقون تتضمن تلويحا خفيا بل تصريحا جليا بأن القرآن قد مرت عليه عهود وعصور وهو بعد لم يدون، وإنما دون بعد ذلك اعتمادا على نصوص قد تكون ناقصة أو ممزقة، وعلى روايات شفوية قابلة للخطأ والسهو والنسيان، للقول من وراء هذا بالتحريف وهو ما نرفضه جملة وتفصيلا.
وإذا سلمنا بأن جمع القرآن قد تم بعهد الصحابة، وأنهم قد استشهدوا على إثباته بشاهدين (3) وأن آيات لم يجدوها إلا مع معينين بالذات، «فعن زيد قال: كتبت المصاحف فقدت آية كنت أسمعها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فوجدتها عند خزيمة بن ثابت الأنصاري.
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ صَدَقُوا مََا عََاهَدُوا اللََّهَ عَلَيْهِ 23} (4) وكذلك آية
__________
(1) بروكلمان تأريخ الأدب العربي: 1/ 139وما بعدها.
(2) السيوطي: الاتقان: 1/ 202.
(3) المصدر نفسه: 1/ 167.
(4) الأحزاب: 23.(1/84)
{لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ 128} (1) وغيرها وغيرها (2).
فلا يصح حينئذ عدّ آيات القرآن في أماكنها من السور، ولا السور من المصحف توقيفيا، وإنما هو باجتهاد من الصحابة، كما تدل عليه تضافر روايات الجمع في ذلك، وإذا قلنا بتوقيف الآيات في السور، والسور من المصحف، فلا بدّ أن نقول إن القرآن قد جمع على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو ما نميل إليه ونرجحه في ضوء ما تقدم.
قال البيهقي: وأحسن ما يحتج به أن يقال: إن هذا التأليف لكتاب الله مأخوذ من جهة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخذه عن جبرائيل عليه السّلام (3).
وهناك ثلاثة مواقف تجلب الانتباه عند جملة من أرباب علوم القرآن، فهي تقدم رجلا وتؤخر أخرى، فلا تريد أن تقول إن القرآن لم يجمع بعهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا تريد أن تقول إن أبا بكر قد جمع القرآن سابقا إلى الموضوع.
الأول: عملية الاستنساخ التي صرح بها أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي (ت: 243هـ) بقوله: «كتابة القرآن ليست بمحدثة فإنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء» (4).
الثاني: ما ورد في المقدمة الأولى في علوم القرآن بإجمال على شكل فتوى تارة، وتحذير تارة أخرى، في قوله: «ومن زعم أن بعض القرآن سقط على المسلمين وقت جمع المصحف، وأن السور ضم بعضها إلى بعض بالمشورة والرأي فقد أعظم على الله الفرية، لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يملي كلما نزل من القرآن على كتابه أولا بأول، ميلا إلى حفظه
__________
(1) التوبة: 128.
(2) ابن أبي داود، المصاحف: 31.
(3) السيوطي، الاتقان: 1/ 309.
(4) الزركشي، البرهان: 1/ 238.(1/85)
وصيانته، فحفظ القرآن من أوله إلى آخره على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم» (1).
الثالث: موقف الزركشي المتردد بين السلب والإيجاب فيما رد به توهم بعض الناس أن القرآن لم يجمع بعهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم متبيّنا رأي الحارث المحاسبي بقوله: وفي قول زيد بن ثابت: فجمعته من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال ما أوهم بعض الناس أن أحدا لم يجمع القرآن في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأن من قال: إنه جمع القرآن أبيّ بن كعب وزيد ليس بمحفوظ. وليس الأمر على ما أوهم، وإنما طلب القرآن متفرقا ليعارض بالمجتمع عند من بقي ممن جمع القرآن ليشترك الجميع في علم ما جمع فلا نصيب أحد عنده منه شيء، ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف، ولا يشكو في أنه جمع عن ملأ منهم» (2).
وفي ضوء ما تقدم يجب أن ندع التشريق والتغريب جانبا، في قضية جمع القرآن، وأن نخضع للواقع الموضوعي والجرأة العلمية فنقول إن القرآن جمع ودوّن كاملا بكل حيثياته وجزئياته في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبأمر من الوحي، وبإشارة من القرآن نفسه، ما دام هناك أثر قطعي من كتاب أو سنة أو عقل أو جماع، فلا نركن إلى روايات آحاد لا تبلغ حد الشهرة فضلا عن التواتر الذي لا يثبت القرآن إلا به بإجماع المسلمين، وأن نعتبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مسئولا أمام الوحي عن جمع القرآن وتدوينه، كمسئوليته عن نشره وتبليغه، وفيما قدمناه من دلائل وبراهين وروايات إثبات لما نتبناه.
نعم لا شك أن عثمان قد جمع القرآن في زمانه، لا بمعنى أنه جمع الآيات والسور في مصحف، بل بمعنى أنه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد، وأحرق المصاحف الأخرى التي تخالف مصحفه، وكتب إلى البلدان أن يحرقوا ما عندهم منها، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة (3).
__________
(1) مقدمتان في علوم القرآن: 58.
(2) الزركشي، البرهان: 1/ 238.
(3) ظ: الخوئي، البيان: 258.(1/86)
فقد أخرج ابن أشتة قال: اختلفوا في القراءة على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون، فبلغ ذلك عثمان بن عفان، فقال: عندي تكذبون به وتلحنون فيه، فمن نأى عني كان أشد تكذيبا، وأكثر لحنا. يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما، فاجتمعوا فكتبوا (1).
هذا فيما شاهد عثمان في المدينة المنورة من الاختلاف في القراءات والوجوه واللغات، فاقتصر من سائرها على لغة قريش لأن القرآن نزل بلغتهم.
وقد يبدو من رواية أخرى أكثر شيوعا أن الاختلاف امتد إلى الثغور بين الأجناد فطعن بعضهم البعض بقراءة البعض الآخر، فهال هذا الأمر حذيفة بن اليمان، وكان يغازي أهل الشام في أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأشار على عثمان أن يدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلف اليهود والنصارى ففزع عثمان لذلك وصمم على جمع الناس على إمام واحد (2).
وكان هذا الأمر غيرة من حذيفة على القرآن، واستجابة من عثمان لصيانة القرآن.
وسأل عثمان: أي الناس أفصح؟ قالوا: سعيد بن العاص، قال: أي الناس أكتب؟ قالوا زيد بن ثابت، قال: فليكتب زيد، وليمل سعيد، فكتب مصاحف فقسمها في الأمصار (3).
ويستدل في كثير من الروايات أن هذا الترتيب والجمع على قراءة واحدة وفي مصحف واحد كان على ملأ من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبمشاورة من أهل القرآن (4).
__________
(1) السيوطي، الاتقان: 1/ 170.
(2) ظ: ابن أبي داود، المصاحف: 18وما بعدها.
(3) ظ: الطبري، جامع البيان: 1/ 62ابن أبي داود، المصاحف: 24أبو شامة، المرشد الوجيز: 58.
(4) ظ: ابن أبي داود: المصاحف: 12المرشد الوجيز: 64.(1/87)
وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يلقن أصحابه ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل عليه السلام إياه على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا في السورة التي يذكر فيها كذا، وروي معنى هذا عن عثمان بالذات (1).
قال الحارث بن أسد المحاسبي (ت: 243هـ):
«والمشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان رضي الله عنه، وليس كذلك، إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات والقرآن. وأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن» (2).
وفي عقيدتي أن أهم الأعمال التي قام بها عثمان هو جمع الناس على حرف واحد، فقد قطع به دابر الفتنة والخلاف، وفيه جرأة كبيرة تحدي بها كثيرا من الصعوبات.
يقول الدكتور طه حسين:
«وليس من شك في أن ما أقدم عليه عثمان من توحيد المصحف وحسم هذا الاختلاف، وحمل المسلمين على حرف واحد، أو لغة واحدة يقرءون بها القرآن، عمل فيه كثير من الجراءة، ولكن فيه من النصح للمسلمين أكثر مما فيه من الجراءة. فلو قد ترك عثمان الناس يقرءون القرآن قراءات مختلفة بلغات متباينة في ألفاظها، لكان هذا مصدر فرقة لا شك فيها، ولكان من المحقق أن هذه الفرقة حول الألفاظ ستؤدي إلى فرقة شر منها حول المعاني بعد أن كان الفتح، وبعد أن استعرب الأعاجم، وبعد أن أخذ الأعراب يقرءون القرآن» (3).
__________
(1) أبو شامة، المرشد الوجيز.
(2) الزركشي، البرهان: 9/ 239السيوطي، الاتقان: 1/ 171.
(3) طه حسين، الفتنة الكبرى: 1/ 182وما بعدها.(1/88)
وحينما تمّ توحيد المصحف على الشكل المقرر استنسخ عثمان منه عدة مصاحف أرسل بها إلى الأمصار.
واختلف في عدة هذه المصاحف، فقيل أربعة، والمشهور أنها خمسة (1) وأخرج أبو داود عن أبي حاتم السجستاني: أنها سبعة مصاحف، فأرسل إلى مكة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدا» (2).
وهذا العدد أوعى في توحيد القراءة لاستيعابه كبريات الآفاق الإسلامية آنذاك، فيما دامت المهمة بهذا الاتجاه، فالأنسب التوسع في استنساخ جملة من المصاحف تؤدي الهدف بعناية شمولية.
وأيا كان عدد هذه المصاحف، فقد كانت الأساس لاستنساخ آلاف المصاحف في الديار المترامية الأطراف، موحدة منظمة مؤصلة، اشتملت على القرآن بجزئياته وحيثياته كافة، دون زيادة أو نقصان، أو تغيير أو تحريف، بل هي من الوثوق بكونها عين القرآن الذي أنزل على الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم بجميع خصوصياته في التنزيل والترتيب والتوقيف.
وليس أدل على ذلك من شهادة أعلام المستشرقين في تأكيد هذه الحقيقة العلمية مع ابتعادهم عن كثير من ضروريات الإسلام، ولكنه الحق الذي يفرض ذاتيته وموضوعيته في أغلب الأحيان.
قال السير وليم موير: «إن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف. ولقد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر، بل نستطيع أن نقول إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة» (3).
ولم يكن اختلاف المسلمين في الفروع والجزئيات مانعا من إجماعهم
__________
(1) ظ: السيوطي، الاتقان: 1/ 172.
(2) ظ: ابن أبي داود، المصاحف: 34.
(3) محمد عبد الله دراز، المدخل إلى القرآن: الكريم: 40وانظر مصدره.(1/89)
المنقطع النظير على توثيق كل تفاصيل القرآن من ألفه إلى يائه.
ولقد كان الأستاذ لو بلوا موضوعيا حينما أكد بقوله: «إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر» (1).
وحينما تم إقرار المصحف الإمام، واستنسخت المصاحف في ضوئه، وسيرت إلى الآفاق وكان ذلك في سنة خمس وعشرين من الهجرة النبوية (2). أنس عثمان بصنيعه هذا، وعمد إلى توثيقه وتفرده بصيغتين:
الأولى: إرساله من يثق المسلمون بحفظه وإقرائه مع مصحف كل إقليم بما يوافق قراءته وكان ذلك موضع اهتمام منه في أشهر الأقاليم، فكان زيد بن ثابت مقرئ المصحف المدني، وعبد الله بن السائب مقرئ المصحف المكي، والمغيرة بن شهاب مقرئ المصحف الشامي، وأبو عبد الرحمن السلمي مقرئ المصحف الكوفي، وعامر بن عبد القيس مقرئ المصحف البصري (3).
الثانية: أمره بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق (4).
وكان هذا العمل مدعاة للنقد حينا، ومجالا للتشهير به حينا آخر حتى قال الخوئي:
«ولكن الأمر الذي انتقد عليه هو إحراقه لبقية المصاحف، وأمره أهالي الأمصار بإحراق ما عندهم من المصاحف، وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين، حتى سموه بحراق المصاحف» (5).
وقد عقب على ذلك الدكتور طه حسين بقوله: «وربما تحرج بعض المسلمين من تحريق ما حرّق عثمان من المصحف، ولم يقبلوا اعتذاره
__________
(1) المصدر نفسه: والصفحة.
(2) السيوطي، الاتقان: 1/ 170.
(3) ظ: الزرقاني، مناهل العرفان: 1/ 396وما بعدها.
(4) السيوطي، الاتقان: 1/ 169.
(5) الخوئي، البيان: 258.(1/90)
بحسم الفتنة وقطع الخلاف. ولو قد كانت الحضارة تقدمت بالمسلمين شيئا لكان من الممكن أن يحتفظ عثمان بهذه الصحف التي حرقها على أنها نصوص محفوظة لا تتاح للعامة، بل لا تكاد تتاح للخاصة، وإنما هي صحف تحفظ ضنا بها على الضياع. ولكن المسلمين لم يكونوا قد بلغوا في ذلك العصر من الحضارة ما يتيح لهم تنظيم المكتبات وحفظ المحفوظات، وإذا لم يكن على عثمان جناح فيما فعل لا من جهة الدين ولا من جهة السياسة، فقد يكون لنا أن نأسى لتحريق تلك الصحف لأنه إن لم يكن قد أضاع على المسلمين شيئا من دينهم، فقد أضاع على العلماء والباحثين كثيرا من العلم بلغات العرب ولهجاتها، على أن الأمر أعظم خطرا وأرفع شأنا من علم العلماء، وبحث الباحثين عن اللغات واللهجات» (1).
ومهما يكن من رأي حول هذا الموضوع، فإن من المقطوع به أن المصحف العثماني هو النص القرآني الوحيد الذي عليه عمل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وهو الكتاب المقدس الوحيد الذي أحيط بعناية ورعاية خاصة، حتى نقل بالتواتر القطعي جيلا بعد جيل.
ويبدو أن بعض نسخ المصحف العثماني، قد كانت معروفة في القرن الثامن الهجري، فالحافظ ابن كثير (ت: 774هـ) يقول:
«أما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وقد كان قديما بمدينة طبرية ثم نقل منها إلى دمشق في حدود 518هـ، وقد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيما ضخما بخط حسن مبين قوي، بحبر محكم، في رق أظنه من جلود الإبل» (2).
قال أبو عبد الله الزنجاني: «ومصحف الشام رآه ابن فضل الله العمري في أواسط القرن الثامن الهجري فهو يقول في وصف مسجد دمشق: (وإلى جانبه الأيسر المصحف العثماني) ويظن قويا أن هذا
__________
(1) طه حسين، الفتنة الكبرى: 1/ 183وما بعدها.
(2) ابن كثير، فضائل القرآن: 49، طبعة المنار، القاهرة 1348هـ.(1/91)
المصحف هو الذي كان موجودا في دار الكتب في لنين غراد وانتقل إلى إنكلترا» (1).
وقد تتبعت هذا الأمر في المتحف البريطاني فلم أظفر بحصيلة يطمئن إليها بوجود هذا المصحف.
نعم هناك عدة مصاحف في دار الكتب المصرية، مكتوبة بالخط الكوفي، ولكن الزخارف والنقوش توحي بأنها لا علاقة لها بأية نسخة من المصاحف العثمانية.
__________
(1) الزنجاني، تأريخ القرآن: 67.(1/92)
الفصل الرابع قراءات القرآن(1/93)
هناك اتجاهان رئيسيان في شأن نشوء القراءات القرآنية ومصادرها.
الأول: أن المصحف العثماني قد كتب مجردا عن الشكل والنقط والإعجام، فبدا محتمل النطق بأحد الحروف المتشابهة في وجوه مختلفة، فنشأت نتيجة ذلك القراءات المتعددة للوصول إلى حقيقة التلفظ بتلك الألفاظ المكتوبة، ضبطا لقراءة القرآن على وجه الصحة وكما نزل. وفي هذا الضوء تكون القراءات القرآنية اجتهادية فيما احتمل موافقته للصحة من جهة الرسم القرآني أو العربية، وقد تكون روائية في إيصال النص القرآني مشافهة عن طريق الإسناد، فيصحح الرسم القرآني في ضوء الإسناد الروائي.
الثاني: أن منشأ ذلك هو التوصل بالرواية المسندة القطعية المرفوعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في كيفية القراءة القرآنية إلى النطق بآيات القرآن الكريم كما نطقها، وكما نزلت عليه وحيا من الله تعالى، بغض النظر عن كتابة المصحف الشريف، وفي هذا الضوء فهي الطرق المؤدية بأسانيدها المختلفة حتى تتصل بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإذا كان الأمر كذلك، وتحققت هذه الطرق بالأسانيد الصحيحة الثابتة، فالقراءات متواترة وليست اجتهادية.
وقد ادعى المستشرق المجري جولد تسهير أن نشأة القراءات كانت بسبب تجرد الخط العربي من علامات الحركات، وخلوه من نقط الإعجام (1).
__________
(1) ظ: جولد تسهير، مذاهب التفسير الإسلامي: 8وما بعدها.(1/95)
وتابعه على هذا المستشرق الألماني الأستاذ كارل بروكلمان فقال:
«حقا فتحت الكتابة التي لم تكن قد وصلت بعد إلى درجة الكمال، مجالا لبعض الاختلاف في القراءة، لا سيما إذا كانت غير كاملة النقط، ولا مشتملة على رسوم الحركات، فاشتغل القرّاء على هذا الأساس بتصحيح القراءات واختلافها» (1).
وقد أكد بروكلمان هذا المعنى فيما بعد وقال: «جمع عثمان المسلمين على نص قرآني موحد، وهذا النص الذي لم يكن كاملا في شكله ونقطه، كان سببا في إيجاد اختلافات كثيرة، ولذلك ظهرت عدة مدارس في بعض مدن الدولة الإسلامية، وبخاصة في مكة والمدينة والبصرة والكوفة، استمرت كل منها في رواية طريقة للقراءة والنطق، معتمدة في ذلك على أحد الشيوخ ولقد تبين على مر الزمن أن الدقة في الرواية الشفوية، التي كانت مرعية في بادئ الأمر، لا يمكن اتباعها دائما بسبب عدد من الأشياء الصغيرة التي وجب المحافظة عليها» (2).
ومع أن هذا الرأي قد لقي نقدا وتجريحا من قبل بعض الدارسين العرب (3). إلا أنه لقي بالوقت نفسه تأييدا من قبل آخرين أمثال الدكتور جواد علي والدكتور صلاح الدين المنجد (4). لما يحمله في طياته من بعض وجوه الصحة.
لقد كان الاختلاف في القراءة شائعا، فأراد النص التدويني للمصحف العثماني، قطع ذلك الاختلاف، فكان سبيلا إلى التوحيد، وهذا لا يمانع أن ينشأ بعد هذا التوحيد بعض الخلاف الذي جاء اجتهادا في أصول الخط المكتوب، فنشأ عنه قسم من القراءات.
إن ما يستدل به حول تفنيد موقع الكتابة المصحفية من نشوء بعض
__________
(1) بروكلمان، تأريخ الأدب العربي: 1/ 140.
(2) المصدر نفسه: 4/ 1وما بعدها.
(3) ظ: عبد الوهاب حمودة، القراءات واللهجات عبد الصبور شاهين، تأريخ القرآن:.
(4) ظ: جواد علي، لهجة القرآن: الكريم، مجلة المجمع العلمي العراقي: 1955صلاح الدين المنجد، دراسات في تأريخ الخط العربي: 42.(1/96)
القراءات يكاد ينحصر بالاستدلال
بحديث: (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه) (1)
ليقال بأن الاختلاف روائي وليس كتابيا، والحق أن المسلمين إلى اليوم لم يصلوا إلى مؤدى هذه الرواية، ولا يمكن أن يحتج بغير الواضح، فما زال الخلاف قائما في معنى هذا الحديث وترجمته، على أنه معارض كما سترى بحديث إنزال القرآن على حرف واحد. على أنه لا دلالة في هذه الحروف السبعة على القراءات السبعة إطلاقا، وإذا كان القرآن قد نزل على سبعة أحرف.
فالإنزال حينئذ توقيفي، ووجب على الله تعالى حفظه وصيانته، لأنه ذكر، والذكر قرآن، والقرآن مصان لقوله تعالى: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ 9} (2).
ولقائل أن يتساءل: أين هذه الأحرف السبعة في القرآن، وهلا يدلنا أحد عليها، ولم يتفق المفسرون بل المسلمون على المعنى المراد من هذه الأحرف، ولا يصح الاحتجاج بما لا يفهم معناه، ولا يقطع بمؤداه، إذ هو احتجاج بما لا يعرف، وأخذ بما لا يراد، واعتماد على ما لا يبين، والالتزام بهذا باطل دون ريب.
وإذا كانت الأحرف السبعة منزلة من قبل الله تعالى بواسطة الوحي الذي أوحاه الروح الأمين جبرائيل عليه السّلام، فمعنى ذلك أنها من القرآن الإلهي، وإلا فمن التشريع الإلهي الذي لا يرد ولا ينقض إلا أن ينسخ، وما ادعى أحد بنسخ ذلك من القائلين به.
وقد يقال مع عدم وضوح الدلالة أن هذه الأحرف مما خفف به عن الأمة لوجود الشيخ والصبي والعجوز وما إلى ذلك كما في بعض الروايات (3).
وإذا كان ذلك مما خفف به عن الأمة، فكيف يجوز لأحد أن يشدد عليها، وإذا كان ذلك للرحمة فكيف صح لعثمان (رض) أن يتجاوز هذه
__________
(1) ظ: الطبري، جامع البيان: 1/ 2011البخاري، الجامع الصحيح 6/ 227.
(2) الحجر: 9.
(3) ظ: أبو شامة، المرشد الوجيز: 8977.(1/97)
الرحمة، ويجمع المسلمين على حرف واحد، ثم ما عدا مما بدا؟ فإن كان في المسلمين الأوائل من يعجز عن تلاوة القرآن حق تلاوته، أو أن ينطق به كما نزل فتجوّز بالأحرف السبعة تيسيرا، وهم أبلغ العرب، فما بال المسلمين في عصر عثمان، وما ذنبنا نحن في هذا العصر الذي انطمست به خصائص العربية حتى شدد علينا في حرف واحد.
ولسنا بصدد دفع هذا الحديث الآن، ولكننا بصدد ردّ دعوى من لا يرى للخط المصحفي أي أثر في تعدد القراءات واختلافها، إذ لو كان الأمر كذلك لما كانت موافقة خط المصحف أساسا لقراءات عدة، وميزانا للرضا والقبول والاعتبار، وما ذلك إلا لتحكم الخط بالقراءة. ولا نريد أن نتطرف فنحكم بأن الخط المصحفي هو السبب الأول والأخير في تفرع القراءات القرآنية، ولكن نرى أن جزءا كبيرا من اختلاف القراءات قد نشأ عن الخط المصحفي القديم، باعتباره محتملا للنطق بوجوه متعددة.
قال القسطلاني (ت: 923هـ) مشيرا إلى ذلك: «ثم لما كثر الاختلاف فيما يحتمله الرسم، وقرأ أهل البدع والأهواء بما لا يحل لأحد تلاوته، وفاقا لبدعتهم رأى المسلمون أن يجمعوا على قراءات أئمة ثقات تجردوا للأغنياء بشأن القرآن العظيم» (1).
وتابعه على هذا الدمياطي البنا (ت: 1117هـ) وصرح بالأسباب ذاتها (2).
فقد كان لاحتمال الرسم، ما تطاول به أهل البدع فيقرئون بما لا تحل تلاوته، ولا تصح قراءته، ومعنى هذا أن قراءات ما قد نشأت عن هذا الملحظ، فاحتاط المسلمون لأنفسهم بقراءات أئمة ثقات لدفع القراءات المبتدعة.
وقد يقال: بأن الاختلاف في القراءات مما شاع في حياة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذكره، وأن هذه القراءات السبع أو العشر أو الأكثر إنما تبرز بالمشافهة تلك
__________
(1) القسطلاني، لطائف الإشارات: 1/ 66.
(2) الدمياطي، اتحاف فضلاء البشر: 5.(1/98)
القراءات كما كانت في عهد الرسول الأعظم، ونحن وإن كنا لا ننكر جزءا ضئيلا من هذا، إلا أن الواقع المرير لتلك الروايات القائلة باختلاف القراءات في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا تستند إلى حقيقة تأريخية معينة يصرح فيها بنوعية هذا الاختلاف في القراءة، ولا تعطينا نماذج مقنعة بكيفية هذه القراءات المختلفة، بل تذهب مذاهب التعميم الفضفاض الذي لا يقره المنهج العلمي، وذلك أن الاختلاف المدعي في القراءات بعهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يعرض بروايات، تنقصها الدقة والوضوح والتحديد، فتارة يطلق فيها التجوز بالأحرف السبعة بما لا دلالة فيه كما تقدم، وتارة تنسب الاختلاف إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وكأنه مصدر من مصادر الفرقة في القراءات بينما العكس هو الصحيح لما رأيناه فيما سبق أن الاختلاف في القراءات جر المسلمين إلى صراع داخلي ونزاع هامشي تحسس الصحابة إلى خطره على القرآن فجمعوهم على قراءة واحدة (1).
وتارة تدعي هذه الروايات أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أقرأ هذه بقراءة، وغيره بقراءة أخرى، وحينا يدعى بأن أحد الصحابة قد سمع من صحابي مثله قراءة ما، لسورة ما، تختلف عما سمعه هو من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم تحاكموا للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فصحّح القراءتين، أما: ما هي هذه السورة المختلفة الحروف، وما هو عدد آياتها المتعددة القراءة، وما هي كيفية هذا الاختلاف ونوعية فروقه، فلم يصرح بجميع ذلك، مما يجعلها روايات قابلة للشك، ومع حسن الظن بالرواة فإن رواياتهم تلك قد تعبر عن السهو والاشتباه.
إننا لا ننكر الاختلاف في القراءات بعهد مبكر، فباستعراض تأريخ الموضوع يبدو أن تمايز القراءات كان موجودا قبل توحيد القراءة زمن عثمان، فقد أشير إلى كثرة الاختلاف بعهده، حتى قال الناس: قراءة ابن مسعود، وقراءة أبي وقراءة سالم (2).
ولكننا نبقى مصرين أن وجهة التعميم في الروايات تبقى هي المسيطرة، وعدم وضوح الرؤية يظل مخيما، إذ أننا نحتاج بمثل هذا
__________
(1) ظ: فيما سبق، جمع القرآن.
(2) ظ: مقدمتان في علوم القرآن: 44.(1/99)
الموضوع الخطير إلى الجزئيات والدقائق لنضع النقاط على الحروف، لهذا نرفض جملة هذه الروايات، ونتهم أصحابها، كما اتهمهم من سبقنا إلى الموضوع.
أورد أبو شامة عن زيد بن أرقم قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: أقرأني عبد الله بن مسعود سورة أقرأنيها زيد، وأقرأنيها أبيّ بن كعب، فاختلفت قراءتهم، بقراءة أيهم آخذ؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال:
وعلي عليه السّلام إلى جنبه، فقال علي: ليقرأ كل إنسان كما علم، كل حسن جميل» (1).
وقد ذكر الطبري هذه الرواية، وتعقبه الأستاذ أحمد محمد شاكر في تعليقه فقال:
«هذا حديث لا أصل له، رواه رجل كذاب، هو عيسى بن قرطاس، قال فيه ابن معين: ليس بشيء لا يحل لأحد أن يروي عنه. وقال ابن حبّان: يروي الموضوعات عن الثقات، لا يحل الاحتجاج به. وقد اخترع هذا الكتاب شيخا له روى عنه وسماه: زيد القصار، ولم نجد لهذا الشيخ ترجمة ولا ذكرا في شيء من المراجع» (2).
وبعد هذا، فليس هناك مسوغ على الإطلاق أن نأخذ بكل رواية على علاتها دون تمحيص، ودون تجويز الافتراء على الضعفاء من الرواة.
قال الإمام محمد الباقر عليه السّلام: «إن القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة» (3).
وفي شأن الحروف السبعة المدعاة، وإن كان لا علاقة لها بالقراءات، إلا أن البعض حملها على ذلك، بينما
ورد عن الفضل بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام (يعني الإمام جعفر الصادق): إن الناس يقولون: إن القرآن نزل على سبعة أحرف، فقال: كذبوا، أعداء الله،
__________
(1) أبو شامة، المرشد الوجيز: 85.
(2) الطبري، جامع البيان: 1/ 24الهامش.
(3) الكليني، أصول الكافي: 2/ 630.(1/100)
ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد» (1).
وقد يقال بأن مصدر القراءات هو اللهجات، ولا علاقة لها إذن بصحة السند، وموافقة كتابة المصحف، بل الأساس ارتباطها ببعض العرب في لغاتهم القبلية، وإلى هذا المعنى يشير السيوطي بما أورده أبو شامة عن بعضهم:
«أنزل القرآن بلسان قريش ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والأعراب» (2).
وقد سبق بذلك ابن قتيبة بما تحدث به عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: فكان من تيسيره أن أمره الله بأن يقرئ كل قوم بلغتهم، وما جرت عليه عادتهم
ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا، ولاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه» (3).
وقد تبني هذا الرأي الدكتور طه حسين، فاعتبر اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها لتقرأ القرآن كما كان يتلوه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعشيرته قريش، اعتبر ذلك أساسا لاختلاف القراءات، فقرأته هذه القبائل كما كانت تتكلم، فأمالت حيث لم تكن تميل قريش، ومرت حيث لم تكن تمر، وقصرت حيث لم تكن تقصر، وسكنت، وأدغمت، وأخفت، ونقلت (4).
وهو بهذا يريد أن ينتهي إلى أن اللهجات هي مصدر القراءات، وهو ينكر تواترها، وينعى على من رتب أحكاما عريضة على نكرانها، فيقول:
«وهنا وقفة لا بدّ منها، ذلك أن قوما من رجال الدين فهموا أن هذه القراءات السبع متواترة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نزل بها جبرئيل على قلبه، فمنكرها كافر من غير شك ولا ريبة والحق أن ليست هذه القراءات السبع من
__________
(1) المصدر نفسه: 2/ 630.
(2) السيوطي، الاتقان: 1/ 47.
(3) ابن قتيبة، تأويل القرآن: 30.
(4) ظ: طه حسين، في الأدب الجاهلي: 95.(1/101)
الوحي في قليل ولا كثير، وليس منكرها كافرا، ولا فاسقا، ولا مغتمزا في دينه، وإنما هي: قراءات مصدرها اللهجات واختلافها فأنت ترى أن هذه القراءات إنما هي مظهر من مظاهر اختلاف اللهجات» (1).
ولقد جهد المحققون منذ القرن الأول للهجرة حتى عهد ابن مجاهد (ت: 324هـ) وهو موحد القراءات أو مسبعها إن صح التعبير، في دراسة ظواهر القراءات القرآنية، متواترها، ومشهورها، وشاذها، فارجعوا جزءا من الاختلاف في القراءة إلى مظهر من مظاهر اللهجات العربية المختلفة، وعادوا بجملة من الألفاظ إلى استعمال جملة من القبائل، ذلك مما يؤيد وجهة النظر في عامل اللهجات، والاستئناس به عاملا مساعدا في تعدد القراءات، وللسبب ذاته فإن تلاشي اللهجات، وتوحيدها بلهجة قريش، قد ساعد أيضا على تلاشي واضمحلال كثير من جزئيات هذه القراءات وعدم إساغتها منذ عهد مبكر، بل إن توحيد القرآن للغة العرب على لغة قريش، وقصرهم عليها كان أساسا جوهريا في إذابة ما عداها من لغات، مما أزاح تراكما لغويا يبتعد عن الفصحى ابتعادا كليا، فلا تجد بعد ذلك عنعنة تميم، ولا عجرمية قيس، ولا كشكشة أسد، ولا ثلثلة نهراء، ولا كسكسة ربيعة، ولا إمالة أسد وقيس، ولا طمطمانية حمير.
وفي ضوء ما تقدم يمكننا أن نخرج برأي جديد نخالف فيه من سبقنا إلى الموضوع، فنعتبر كلا من شكل المصحف، وطريق الرواية إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتعدد اللهجات العربية، قضايا ذات أهمية متكافئة باعتبارها مصادر من مصادر القراءات، كلا لا يتجزأ، وإلا فهي على الأقل أسباب عريضة في نشوء القراءات ومناهج اختلافها.
وللتدليل على صحة هذا لا بد لنا من الوقوف عند أدلته وقفة مقنعة، إن لم تكن دامغة.
لا شك أن اختلاف مصاحف الأمصار في الرسم، وما نشأ عنه من اختلاف أهل المدينة وأهل الكوفة، وأهل البصرة، وأهل الشام في القراءة،
__________
(1) طه حسين، في الأدب الجاهلي: 9695.(1/102)
إنما كان مصدره الشكل المصحفي الذي استنسخ عن المصحف الإمام.
وهي اختلافات لا نقطع بمصدرها الكتابي، بل نرجحه، لما ثبت تأريخيا من تواتر نقله، وقد أحصى أبو داود ذلك في كتاب المصاحف إحصاء دقيقا (1).
وقد أيد هذا الرأي محمد بن جرير الطبري (في 310هـ) بما نقله عنه أبو شامة فقال:
«لما خلت تلك المصاحف من الشكل والإعجام وحصر الحروف المحتملة على أحد الوجوه، وكان أهل كل ناحية من النواحي التي وجهت إليها المصاحف، قد كان لهم في مصرهم ذلك من الصحابة معلمون
فانتقلوا عما بان لهم أنهم أمروا بالانتقال عنه مما كان بأيديهم، وثبتوا على ما لم يكن في المصاحف الموجهة إليهم، مما يستدلون به على انتقالهم عنه» (2).
وما دامت الروايات مختلفة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما يقولون فما المانع أن يكون الحدب على وصول هذه الروايات من مختلف الأسانيد سببا من تعدد هذه القراءات، سواء أكانت تلك الروايات صحيحة أم ضعيفة، وقد أورد من هذا القبيل أبو شامة شواهد على الموضوع، يتحمل عهدتها (3).
وقد سبقه ابن عطية فأورد عدة روايات تؤكد كثرة الروايات عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على علاتها، وانتهى فيها إلى القول:
«ثم إن هذه الروايات الكثيرة لما انتشرت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وافترق الصحابة في البلدان، وجاء الخلف، وقرأ كثير من غير العرب، ووقع بين أهل الشام وأهل العراق ما ذكر حذيفة فقرأت كل طائفة بما روي لها» (4).
وما دام للعرب لهجات ولغات، فلا ينتفي أن تكون هذه اللغات سببا
__________
(1) ظ: ابن أبي داود، كتاب المصاحف: 4939.
(2) أبو شامة، المرشد الوجيز: 149وما بعدها.
(3) أبو شامة، المرشد الوجيز: 86وما بعدها.
(4) ابن عطية، مقدمته، ضمن مقدمتان في علوم القرآن: 271.(1/103)
مباشرا في جزء من هذه القراءات، وقد قال عمر بن الخطاب (رض) مشيرا إلى قراءة أبيّ بن كعب: «إنا لنرغب عن كثير من لحن أبي، يعني لغة أبي» (1).
وقد أورد أبو شامة عن ابن جرير الطبري في (310هـ) ما يؤيد فيه هذا العامل فقال:
«فإن قيل: فما تقولون في هذه القراءات السبع التي ألفت بالكتب؟
قلنا: إنما أرسل أمير المؤمنين المصاحف إلى الأمصار الخمسة بعد أن كتبت بلغة قريش، فإن القرآن إنما نزل بلغتها، ثم أذن رحمة من الله تعالى، لكل طائفة من العرب أن تقرأ بلغتها على قدر استطاعتها، فلما صارت المصاحف في الآفاق غير مضبوطة ولا معجمة قرأها الناس فما أنفذوه منها نفذ، وما احتمل وجهين طلبوا فيه السماع حتى وجدوه» (2).
والطريف في رأي الطبري، وهو من قدامى المفسرين، أن يجمع هذه العوامل الثلاثة، فينص على اختلاف اللهجات، ويشير إلى شكل المصحف وإعجامه، ويؤكد جانب السماع في الروايات التي توصلوا فيها إلى نطق القرآن.
وعامل اللهجات، وإن محّص متأخرا، وتمحض له الدكتور طه حسين، إلا أنه عامل جدير بالتلبث والترصد والاستقراء في إثرائه جانب القراءات، ومواكبته لمسيرتها اللغوية. فما من شك أن القرآن قد نزل بلغة قريش، وهي أفصح لغات العرب، وحينما اختار الله تعالى لكتابه اللغة العربية، فلا ريب أن يقع الاختيار على الأفصح، والأفصح لغة قريش، وهو الموروث اللغوي المقروء في القرآن، ويؤيده وصية عثمان للرهط القرشيين لدى استنساخ المصحف: «إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت بشيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم» (3).
وفي هذا الضوء يبدو أن عبد الله بن مسعود (رض) كان يقرئ الناس
__________
(1) ابن أبي داود، كتاب المصاحف: 32.
(2) أبو شامة، المرشد الوجيز: 150.
(3) البخاري، الجامع الصحيح: 6/ 224.(1/104)
بلغة قومه، وهم هذيل، وقد نهاه عمر (رض) عن ذلك بما ذكره أبو داود في سننه: «إن عمر كتب إلى ابن مسعود: أما بعد، فإن الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش، فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل» (1).
ويبدو أن مسألة اللهجات متسالم على أثرها في نشوء القراءات، ولكن سرعان ما توحدت هذه اللهجات بلغة القرآن، وهذا من بركات القرآن في الوحدة.
وتعدد القراءات أنى كان مصدره، مهما كان قياسه صحة أو شذوذا، فقد حدده الشيخ محمد بن الهيصم، وقال: «أما القراءات فإنها على ثلاثة أوجه:
1 - أن يغلط القارئ فيقرأ على خلاف ما هو الخف، وذلك ما لا يجوز أن يعتد به في قراءات القرآن، وإنما يرجع لومه على الغالط به
2 - أن يكون القرآن قد نزل على لغة، ثم خرج بعض القراء فيه إلى لغة من لغات العرب مما لا يقع فيه خلاف في المعنى، ترك النكير عليه تيسيرا وتوسعة، فنقل ذلك، وقرأ به بعض القراء
3 - والوجه الثالث من القراءات هو ما اختلف باختلاف النزول بما كان يعرض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم القرآن على جبريل في كل شهر رمضان فكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتلقفون منه حروف كل عرض، فمنهم من يقرأ على حرف، ومنهم من يقرأ على آخر، إلى أن لطف الله عزّ وجلّ بهم، فجمعهم على آخر العرض، أو على ما تأخر من عرضين أو ثلاثة، حتى لم يقع في ذلك اختلاف إلا في أحرف قليلة، وألفاظ متقاربة» (2).
والوجه الثالث لا دلالة فيه إذ معارضة القرآن تعني تدقيقه وتوثيقه، وقد سبق في هذا الفصل رأينا في الحروف التي ادعى نزول القرآن عليها.
__________
(1) أبو شامة، المرشد الوجيز: 101.
(2) مقدمتان في علوم القرآن: 170وما بعدها.(1/105)
ومما لا شك فيه أن الاختلاف في جملة القراءات كان في الأقل، وأن الاتفاق كان في الأعم الأكثر، والنظر في المصاحف الأولى نجد يؤيد الاختلاف في قلة معدودة من الكلمات، نطقا وإمالة وحركات، وقد جمعت في كتاب المباني محدودة: «اختلف مصحفا أهل المدينة والعراق في اثنى عشر حرفا، ومصحفا أهل الشام وأهل العراق في نحو أربعين حرفا، ومصحفا أهل الكوفة والبصرة في خمسة حروف» (1).
فإذا كان بعض الخلاف في القراءات مصدره اختلاف مصاحف الأمصار، فالاختلافات ضيقة النطاق، وتظل القضية تأريخية فحسب، إذ القرآن المعاصر الذي أجمع عليه العالم الإسلامي وهو ذات القرآن الذي نزل به الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مرقوم برواية حفص لقراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي، باستثناء المغرب العربي الذي اعتمد قراءة نافع المدني برواية روش.
وتبقى المسألة بعد هذا أثرية العطاء، نعم قد تبدو الهوة سحيقة فيما يدعى من خلافات لا طائل معها، ولكن النظرة العلمية الفاحصة تخفف من حدتها، فما من شك أن عاملا متشابكا وراء تلك الخطوط المتناثرة هنا وهناك، ذلك هو المناخ الإقليمي السائد آنذاك في الأفق العلمي، فهو مما يجب الوقوف عنده، ألا وهو النزاع القائم بين مدرستي الكوفة والبصرة، وما نشأ عنه من تعصب إقليمي حينا، واختلاف تقليدي حينا آخر، ومزيج من هذا وذاك بعض الأحايين، فدرج جيل يصوب رأي الكوفيين، وآخر يؤيد نظر البصريين، مما طبع أثره على جملة من شئون التراث، والقراءات جزء من ذلك التراث، وأفرغ كثيرا من الإسراف في التجريح والتعديل، فعاد صراعا عشوائيا يوثق به الضعفاء، ويضعف به الثقات في كثير من المظاهر، وقد لا يكون لكل ذلك أصل، فطالما حمل البصريون أو من شايعهم على الكوفيين وبالعكس، وطالما تعصب لمذهب من القراءة جيل من الناس، وجانب قراءة جيل آخر، دون العودة إلى قاعدة متأصلة.
وهذا الملحظ الدقيق جدير بالتمحيص والترصد بغية الوصول إلى
__________
(1) المصدر نفسه: 117.(1/106)
مقياس علمي أصيل تزان في ضوئه حقائق القراءات.
وكما اختلف في مصادر القراءات ومنابعها، فقد اختلف في القراء وعددهم، وتضاربت الآراء في منزلتهم وشهرتهم، فكان منهم السبعة، والعشرة، والأربعة عشر، وكان اعتبارهم يتردد بين الأقاليم تارة، وبين الشهرة تارة أخرى، وبينهما في أغلب الأحيان، وقد تحل المنزلة العلمية مكان الشهرة حينا، وقد يكون العكس هو المطرد، وقد تتحقق الشهرة عند باحث، وتنتفي عند باحث غيره، وهكذا
وقد كان مشاهير القراء قبل ابن مجاهد (ت: 324هـ) على النحو الآتي:
1 - عبد الله اليحصبي، المعروف بابن عامر (شامي) (ت: 118هـ).
2 - عاصم بن أبي النجود (كوفي)، (ت: 127هـ).
3 - عبد الله بن كثير الداري (مكي)، (ت: 129هـ).
4 - أبو عمرو بن العلاء (بصري)، (ت: 154هـ).
5 - نافع عبد الرحمن بن أبي نعيم (مدني)، (ت: 169هـ).
6 - حمزة بن حبيب الزيات (كوفي)، (ت: 188هـ).
7 - يعقوب بن أبي إسحاق الحضرمي (بصري)، (ت: 205هـ).
وقد حذف ابن مجاهد يعقوب من السبعة وأثبت مكانه علي بن حمزة (الكسائي الكوفي) (ت: 189هـ) واعتبره من القراء السبعة. وهكذا كان.
أما من عدّ القراء عشرة، فأضاف لهم زيادة على تسبيع ابن مجاهد وتعيينه لهم، يزيد بن القعقاع (ت: 130هـ) ويعقوب الحضرمي (ت: 205 هـ) وحلف بن هشام (ت: 229هـ).
ويبدو أن الكسائي (ت: 189هـ) لم يكن معدودا من القراء السبعة، وإنما ألحقه ابن مجاهد في سنة ثلاثمائة أو نحوها بدل يعقوب الحضرمي
وقد كان السابع (1).(1/107)
ويبدو أن الكسائي (ت: 189هـ) لم يكن معدودا من القراء السبعة، وإنما ألحقه ابن مجاهد في سنة ثلاثمائة أو نحوها بدل يعقوب الحضرمي
وقد كان السابع (1).
وفي هذا الضوء نجد القراء عند ابن مجاهد، هم: نافع، ابن كثير، عاصم، حمزة بن حبيب، الكسائي، أو عمرو بن العلاء، عبد الله بن عامر.
وقد عقب ابن مجاهد على ذلك بقوله:
«فهؤلاء سبعة نفر، من أهل الحجاز، والعراق، والشام، خلفوا في القراءة التابعين، وأجمعت على قراءتهم العوام من أهل كل مصر من هذه الأمصار التي سميت وغيرها من البلدان التي تقرب من هذه الأمصار» (2).
وواضح أن تقسيم ابن مجاهد تقسيم إقليمي نظر فيه إلى اعتبار الأمصار التي وجهت إليها المصاحف في عهد عثمان (رض) لا باعتبار تعصب إقليمي من قبله.
وابن مجاهد أول من اقتصر على هؤلاء السبعة، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات الحرمين والعراقين والشام، إذ هذه الأمصار الخمسة هي التي خرج منها علم النبوة، من القرآن وتفسيره، والحديث، والفقه في الأعمال الباطنة والظاهرة وسائر العلوم الدينية (3).
وقد تبعه الفضل بن الحسن الطبرسي (ت: 548هـ) بتصنيف القراء في ضوء الأقاليم الإسلامية، ولكنه اختلف معه بالتعيين، فأسماء القراء المشهورين عنده باعتبار الأمصار كالآتي:
1 - أبو جعفر يزيد بن القعقاع، مدني وليس من السبعة.
2 - عبد الله بن كثير، مكي من السبعة.
3 - عاصم بن أبي النجود، كوفي من السبعة.
4 - حمزة بن حبيب، كوفي من السبعة.
__________
(1) أبو شامة، المرشد الوجيز: 153.
(2) ابن مجاهد، كتاب السبعة: 87.
(3) ظ: القسطلاني، لطائف الإشارات: 1/ 86.(1/108)
5 - علي بن حمزة الكسائي، كوفي من السبعة.
6 - خلف بن هشام، كوفي، وليس من السبعة وله اختيار.
7 - أبو عمرو بن العلاء، بصري من السبعة.
8 - يعقوب بن إسحاق الحضرمي، بصري وليس من السبعة.
9 - أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني بصري، وليس من السبعة.
10 - عبد الله بن عامر، شامي من السبعة (1).
فالطبرسي عدّ من القراء السبعة عبد الله بن كثير، وعاصم، وحمزة بن حبيب، والكسائي، وأبو عمرو بن العلاء، وعبد الله بن عامر، بينما أسقط نافع بن عبد الرحمن، قارئ أهل المدينة.
وعدّ من غيرهم: يزيد بن القعقاع، وخلف بن هشام، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي، وسهل بن محمد السجستاني.
فعدة القراء المشهورين عنده عشرة. وقد عقب على تعيينه لهؤلاء بما يلي:
«وإنما اجتمع الناس على قراءة هؤلاء واقتدوا بهم فيها لسببين:
أحدهما: أنهم تجردوا لقراءة القرآن، واشتدت بذلك عنايتهم مع كثرة علمهم. ومن كان قبلهم أو في أزمتهم ممن نسب إليه القراءة من العلماء، وعدت قراءتهم في الشواذ، لم يتجرد لذلك تجردهم، وكان الغالب على أولئك الفقه والحديث أو غير ذلك من العلوم.
والآخر: أن قراءتهم وجدت مسندة لفظا أو سماعا حرفا حرفا من أول القرآن إلى آخره مع ما عرف من فضائلهم، وكثرة علمهم بوجوه القرآن» (2).
والحق أن القراء الذين ذكرت قراءتهم فيما ألف من كتب القراءات
__________
(1) ظ: الطبرسي، مجمع البيان: 1/ 11وما بعدها.
(2) المصدر نفسه: 1/ 12.(1/109)
يزيد على هذا العدد كثيرا، وفيهم من هو أسبق منهم تأريخا. فقد تتبع الدكتور الفضلي من ألف في القراءات قبل اختيار ابن مجاهد للقراء السبعة، فبلغت عدتهم عنده أربعة وأربعين مؤلفا، ابتداء من يحيى بن يعمر (ت: 90هـ) وانتهاء بأبي بكر محمد بن أحمد الداجوني (ت: 324 هـ) (1).
وكان نتيجة لهذا الإحصاء الدقيق أن ظهر أن هذه المؤلفات لم تختص بالقراءات السبع أو العشر أو الأربع عشرة، وقراء تلك القراءات، بل اتضح من خلال العرض والتحليل أن فيها من هو متقدم على بعض القراء المشهورين تأريخا، حتى إذا جاء ابن مجاهد التميمي البغدادي (ت:
324 - هـ) فاختار من الجميع أولئك.
وقد علل مكي بن أبي طالب (ت: 437هـ) وجه الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم فقال:
«إن الرواة من الأئمة من القراء كانوا في العصر الثاني والثالث كثيرا في العدد، كثيرا في الاختلاف، فأراد الناس في العصر الرابع أن يقتصروا من القراءات التي توافق المصحف على ما يسهل حفظه، وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى إمام مشهور بالثقة والأمانة، وحسن الدين، وكمال العلم، فقد طال عمره، واشتهر أمره، وأجمع أهل عصره على عدالته فيما نقل، وثقته فيما روى، وعلمه بما يقرأ، فلم تخرج قراءته عن خط مصحفهم المنسوب إليهم، فأفردوا من كل مصر وجه إليه عثمان مصحفا، إماما هذه صفته، وقراءته على مصحف ذلك المصر» (2).
وقد أيد ذلك من المتأخرين السيد محمد الجواد العاملي النجفي (ت: 1226هـ) فتحدث عن وجهة نظره في تحديد القراءات بالسبع والقراء بالسبعة، وقال:
«وحيث تقاصرت الهمم عن ضبط الرواة لكثرتهم غاية الكثرة،
__________
(1) ظ: عبد الهادي الفضلي، القراءات القرآنية: 3227.
(2) مكي، الإبانة: 4847.(1/110)
اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه، وتنضبط القراءة به، فعمدوا إلى من اشتهر بالضبط والأمانة وطول العمر في الملازمة للقراءة، والاتفاق على الأخذ عنه، فأفردوا إماما من هؤلاء في كل مصر من الأمصار المذكورة، وهم: نافع وابن كثير وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي» (1).
وبملاحظة ما حققه ابن مجاهد من جمعه للقراءات، وبيان وجوه الاختلاف فيها، يتجلى أن الاختلاف ليس من العسر بمكان بحيث قد يؤدي إلى تشويه النص، أو تغيير الأحكام، أو اضطراب القراءة، بل نجد الأعم الأغلب منه إنما يرجع إلى أصول الأداء، وطريقة التلفظ، وتحقيق النطق مدغما أو ممالا، منقوطا أو غير منقوط، إمدادا وإشماما، وهو اختلاف لا يضفي على النص القرآني أي مردود معقد لا يمكن معه الوصول إلى الحقيقة القرآنية، مما يقرب إلينا القول بأن هذه القراءات إنما اشتبكت وتظاهرت وتفاوتت اجتهادا في كيفية أداء النطق تارة، وطريقة تلفظه تارة أخرى، ومردود اللهجات عليها بين ذلك.
وهذا إنما يجري في القراءات المتواترة رواية مرفوعة، أو دراية من أصحابها، ولا ينطبق على القراءات الشاذة التي أصبحت فيما بعد عرضة لزلل الأهواء.
«ولا مرية أنه كما يتعبد بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده، يتعبد بتصحيح ألفاظه، وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة. عن أئمة القراء، ومشايخ الأقراء، المتصلة بالحضرة النبوية الأفصحية العربية، التي لا يجوز مخالفتها، ولا العدول عنها (2).
وقد بلغت القراءات السبع حد الرضا والقبول عند المسلمين وعلمائهم، فلم يؤثّر عليها تعدد القراءات، ولم يؤثّروا عليها سواها.
وكان إلى جنب القراءات اختيار في القراءات قد تشمل هذه القراءات
__________
(1) العاملي، مفتاح الكرامة: 2/ 391القراءات القرآنية.
(2) القسطلاني، لطائف الإشارات: 1/ 209.(1/111)
كما سيأتي وقد لا تشملها، وهي لا تحمل الطابع الشخصي لأصحابها، بل هي ضمن قواعد قد تتسم بالطابع الشمولي العام.
قال مكي بن أبي طالب: «وأكثر اختياراتهم إنما هو في الحرف إذ اجتمع فيه ثلاثة أشياء:
قوة وجهه في العربية.
وموافقته للمصحف.
واجتماع العامة عليه.
والعامة عندهم ما اتفق عليه أهل المدينة وأهل الكوفة، فذلك عندهم حجة قوية، فوجب الاختيار.
وربما جعلوا العامة ما اجتمع عليه أهل الحرمين.
وربما جعلوا الاختيار على ما اتفق عليه نافع وعاصم، فقراءة هذين الإمامين أوثق القراءات وأصحها سندا، وأفصحها في العربية، ويتلوهما في الفصاحة خاصة: قراءة أبي عمرو والكسائي رحمهم الله» (1).
ويبدو مضافا إلى ما تقدم، أن لأئمة القراء أنفسهم تصرفا يقوم على حسن النظر وأصول الاستنباط، يتمثل باختيارهم للقراءة التي تنسب إليهم، فهم يتدارسون القراءات على يد نخبة من التابعين، ومن ثم يقارنون بين هذه القراءات التي أخذوها، ويحكمون مداركهم في أسانيدها وأصولها ومصادرها، فيؤلفون القراءة التي يختارونها بناء على كثرة الموافقات عند أغلب الشيوخ المقرئين. فقد قال نافع بن أبي نعيم (ت: 169هـ) وهو يتحدث عن مشايخه في الإقراء:
«أدركت هؤلاء الخمسة وغيرهم فنظرت إلى ما أجمع عليه اثنان منهم فأخذته، وما شذ فيه واحد تركته، حتى ألفت هذه القراءة» (2).
وربما كان المقرئ مخالفا لأستاذه في اختياره للقراءة، ناظرا في
__________
(1) مكي، الإبانة في معاني القراءات: 48وما بعدها.
(2) ابن مجاهد، كتاب السبعة: 62.(1/112)
وجوه القراءات الأخرى، كما هي الحال عند الكسائي حينما اختار من قراءة حمزة وقراءة من سواه، وأسس لنفسه بذلك اختيارا (1).
قال ابن النديم: «وكان الكسائي من قراء مدينة السلام، وكان أولا يقرأ الناس بقراءة حمزة، ثم اختار لنفسه قراءة، فأقرأ بها الناس» (2).
وقد كان لأبي عمرو بن العلاء اختيار من قراءة ابن كثير، وهو شيخه، ومن قراءة غيره، وأسس بذلك لنفسه قراءة تنسب إليه (3).
وقد شجعت ظاهرة الاختيار في القراءة على القضاء على النزعة الإقليمية التي انتشرت في نسبه القراءات للأمصار، إذا امتزجت هذه القراءات في الأغلب نتيجة للاختيار، فتداخلت قراءة أهل المدينة بقراءة أهل الكوفة، وقراءة الشام بقراءة العراق، فلم تعد القراء فيما بعد إقليمية المظهر، بقدر ما هي علمية المصدر، وفي هذا الضوء وجدنا القراء السبعة يمثلون خلاصة التجارب الماضية للقرنين الأول والثاني في العطاء العلمي المشترك بين الأقاليم، لما في ظاهرة الاختيار لدى أئمة الأقراء من عناصر مختلف القراءات، حتى وحدت ونسبت منفردة إلى عاصم، أو نافع، أو الكسائي، وهي عصارة قراءة لمصرين، أو قراءات لأمصار، تتفق مع قراءة بوجه، وتختلف مع قراءة بوجه آخر، وتجمع بين هذين بما ألف قراءة منظورة متميزة، تعني تجارب السابقين، وعطاء المتخصصين. حتى وقف الاختيار على أعتاب القرن الرابع، حيث بدأ ابن مجاهد في حفظ القراءات والاختيارات، دون التفكير بتجديد ظاهرة الاختيار التي لم تعد من هموم هؤلاء الأعلام أمثال ابن مجاهد، بل اتجهت هممهم إلى صيانة تلك القراءات، لا إلى الاختيار.
فقد روى الذهبي عن عبد الواحد بن عمر بن أبي هاشم، وهو تلميذ ابن مجاهد، قال:
«سأل رجل ابن مجاهد، لم لا يختار الشيخ لنفسه حرفا يحمل عليه؟
__________
(1) ظ: المصدر نفسه: 78.
(2) ابن النديم، الفهرست: 30.
(3) ظ: ابن الجزري، غاية النهاية: 2/ 376.(1/113)
فقال: نحن أحوج إلى أن نعمل أنفسنا في حفظ ما مضى عليه أئمتنا، أحوج منا إلى اختيار حرف يقرأ به من بعدنا» (1).
وفي ضوء ما تقدم يبدو لنا أن الاختيار عبارة عن استنباط القراءة من خلال النظر الاجتهادي في القراءات السابقة، والموازنة فيما بينها على أساس السند في الرواية، أو الوثاقة في العربية، أو المطابقة في الرّسم المصحفي، أو إجماع العامة، من أهل الحرمين أو العراقين، أو الموافقة بين مقرءين، ومن خلال ذلك نشأت القراءات المختارة.
يقول القرطبي: «وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القراء، وذلك أن كل واحد منهم اختار مما روي وعلم وجهه من القراءات ما هو الأحسن عنده والأولى، والتزم طريقه ورواه، وأقرأ به، واشتهر عنه وعرف به» (2).
ويرى الدكتور الفضلي: «أن اجتهاد القراء لم يكن في وضع القراءات كما توهم البعض وإنما في اختيار الرواية، وفرق بين الاجتهاد في اختيار الرواية والاجتهاد في وضع القراءة» (3).
فإضافة القراءة لصاحبها إضافة اختيار لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد (4).
ومما يؤيده ما أورد أبو شامة باعتبار القراءة سنة، والسنة لا مورد فيها للاجتهاد بالمعنى المشار إليه: «ألا ترى أن الذين أخذت عنهم القراءة إنما تلقوها سماعا، وأخذوها مشافهة، وإنما القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول، ولا يلتفت في ذلك إلى الصحف، ولا إلى ما جاء من وراء وراء» (5).
__________
(1) الحافظ الذهبي، معرفة القراءة: 1/ 171.
(2) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 15/ 40.
(3) الفضلي، القراءات القرآنية: 106.
(4) ابن الجزري، النشر: 1/ 52.
(5) أبو شامة، المرشد الوجيز: 132.(1/114)
وإلى جانب الحيطة في الاختيار، كانت الحيطة للقراءة نفسها، فلم يأخذوا بكل قراءة، بل وضعوا بعض المقاييس النقدية والاحترازية لقبول القراءة أو رفضها، مما ينصح معه مدى عناية القوم بالقراءة المختارة، بعد أن عسر الضبط، وظهر التخليط، واشتبه الأمر. قال القسطلاني نقلا عن الكواشي: «فمن ثم وضع الأئمة لذلك ميزانا يرجع إليه، ومعيارا يعول عليه وهو السند والرسم والعربية، فكل ما صح سنده، واستقام وجهه في العربية، ووافق لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة، فعلى هذا الأصل بني قبول القراءات عن سبعة كانوا أو سبعة آلاف، ومتى فقد شرط من هذه الثلاثة فهو شاذ» (1).
والشاذ لا يعمل به في القراءات ولا يقاس عليه، «وقد أجمع الأصوليون والفقهاء وغيرهم، على أن الشاذ ليس بقرآن، لعدم صدق حد القرآن عليه، أو شرطه وهو التواتر» (2).
وكأنّ ابن الجزري قد أدخل جانب الاحتمال في بعض الشروط، وصنف القراءة المعتبرة والباطلة فقال:
«كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها، ولا يحل إنكارها
ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم. هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف» (3).
وتكاد أن تتلاقى كلمات الأعلام في مقياس القراءة الصحيحة، وتتداعى الخواطر في صياغة ألفاظها، فقد اشترط مكي بن أبي طالب (ت:
437 - هـ) في وجه صحتها ما يلي:
__________
(1) القسطلاني، لطائف الإشارات: 1/ 67.
(2) المصدر نفسه: 1/ 72.
(3) السيوطي، الاتقان: 1/ 210.(1/115)
«أن ينقل عن الثقات إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن شائعا، ويكون موافقا لخط المصحف» (1).
ومع هذا نجد الداني جديا في مسألة القراءة، إذ يعتبرها سنة لا تخضع لمقاييس لغوية، وإنما تعتمد الأثر والرواية فحسب، فلا يردها قياس، ولا يقرّبها استعمال فيقول:
«وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل وإذا ثبتت الرواية لم يردّها قياس عربية، ولا فشو لغة، لأن القراءة سنة متبعة، يلزم قبولها والمصير إليها» (2).
وما أبداه الداني لا يخلو من نظر أصيل، إذ القراءة إذا كانت متواترة صحيحة السند، فهي تفيد القطع، ولا معنى لتقييد القطع بقياس أو عربية، فالعربية إنما تصحح في ضوء القرآن، ولا يصحح القرآن في ضوء العربية، ومع هذا فإن الإجماع القرائي يكاد أن يكون متوافرا على اشتراط صحة السند، ومطابقة الرسم المصحفي، وموافقة اللغة العربية لهذا تختلف النظرة بالنسبة للقراءة في ضوء تحقق هذه الشروط أو عدمه، وقد نتج عنه تقسيم القراءات إلى صحيحة وشاذة، فما اجتمعت فيه من القراءات هذه الشروط فهو الصحيح، وما نقص عنه فهو الشاذ.
وفي هذا الضوء ولد في عهد ابن مجاهد مقياسان آخران، وماتا في مهدهما، لعدم تلقي المسلمين لهما بالقبول، ولرفضهم لهما، وهما:
مقياس ابن شنبوذ (ت: 327هـ) الذي اكتفى فيه بصحة السند وموافقة العربية.
ومقياس ابن مقسم (ت: 354هـ) الذي اكتفى فيه بمطابقة المصحف وموافقة العربية (3).
وقد تحرر للسيوطي مع المقاربة فيما كتبه ابن الجزري في النشر، أن القراءات أنواع:
__________
(1) مكي، الإبانة: 18.
(2) السيوطي، الاتقان: 1/ 211.
(3) ظ: الفضلي، القراءات القرآنية: 39وانظر مصدره.(1/116)
الأول: المتواتر، وهو ما نقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب، عن مثلهم إلى منتهاه، وغالب القراءات كذلك.
الثاني: المشهور، وهو ما صح سنده، ولم يبلغ درجة التواتر، ووافق العربية والرسم واشتهر عند القراء.
الثالث: الآحاد، وهو ما صح سنده، وخالف الرسم أو العربية، أو لم يشتهر بالاشتهار المذكور، ولا يقرأ به.
الرابع: الشاذ، وهو ما لم يصح سنده.
الخامس: الموضوع، [وهو ما لا أصل له].
السادس: ما زيد في القراءات على وجه التفسير (1).
وهذا التقسيم الذي استخرجه السيوطي مما أفاضه ابن الجزري جدير بالأهمية إذ هو جامع مانع كما يقول المناطقة.
وتبقى النظرة إلى هذه القراءات متأرجحة بين التقديس والمناقشة، فمن يقدسها يعتبرها قرآنا، ومن يناقشها يعتبرها علما بكيفية أداء كلمات القرآن، وفرق بين القرآن وأداء القرآن.
فالباقلاني يذهب: «أن القراءات قرآن منزل من عند الله تعالى، وأنها تنقل خلفا عن سلف، وأنهم أخذوها من طريق الرواية، لا من جهة الاجتهاد، لأن المتواتر المشهور أن القراءة السبعة إنما أخذوا القرآن رواية، لأنهم يمتنعون من القراءة بما لم يسمعوه» (2).
بينما خالفه الزركشي في هذه الملحظ، واعتبر القرآن حقيقة، والقراءات حقيقة أخرى فقال:
«والقرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن: هو الوحي المنزل على محمد للبيان والإعجاز، والقراءات: اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما» (3).
__________
(1) ظ: السيوطي، الاتقان: 1/ 216.
(2) الباقلاني، نكت الانتصار لنقل القرآن: 415.
(3) الزركشي، البرهان: في علوم القرآن: 1/ 318.(1/117)
والحق أن رأي الزركشي يتفق مع تعريف القراءات المتداول عند أئمة التحقيق، فقد ذهبوا إلى أن علم القراءات: هو علم يعرف منه اتفاق الناقلين لكتاب الله واختلافهم في اللغة والأعراب، والحذف والإثبات، والتحريك والإسكان، والفصل والاتصال، وغير ذلك من هيئة النطق، والإبدال من حيث السماع (1).
والحق أن لا علاقة بين حقيقة القرآن وحقيقة القراءات، فالقرآن هو النص الآلهي المحفوظ، والقراءات أداء نطق ذلك النص اتفاقا أو اختلافا، والقرآن ذاته لا اختلاف في حقيقته إطلاقا.
وقد استظهر الزركشي تواتر القراءات عن القراء السبعة: «أما تواترها عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ففيه نظر، فإن إسناد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات، وهي نقل الواحد عن الواحد، ولم تكمل شروط التواتر في استواء الطرفين والواسطة، وهذا شيء موجود في كتبهم، وقد أشار الشيخ شهاب الدين أبو شامة في كتابه «المرشد الوجيز» إلى شيء من ذلك» (2).
وقد وافقه من المتأخرين السيد الخوئي وازداد عليه حيث قال: «إنها غير متواترة، بل القراءات بين ما هو اجتهاد من القارئ وبين ما هو منقول بخبر الواحد» (3).
وقد حشد لهذا الرأي جملة من الأدلة خلص منها إلى عدم تواتر القراءات، وأنها نقلت بأخبار الآحاد (4).
ويكاد أن ينعقد إجماع المسلمين على حجية هذه القراءات وتواترها سواء أكان تواترها عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو عن أصحابها وعلى جواز القراءة بها في الصلاة وغيرها.
__________
(1) القسطلاني، لطائف الإشارات: 1/ 170.
(2) الزركشي، البرهان: 1/ 319.
(3) الخوئي، البيان: 123.
(4) ظ: الخوئي البيان: 151وما بعدها.(1/118)
فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام أنه قال: «اقرءوا كما علّمتم» (1).
وقال الشيخ الطوسي (ت: 460هـ) وهو يتحدث عن رأي الإمامية في الموضوع:
«واعلموا أن العرف من مذهب أصحابنا، والشائع من أخبارهم ورواياتهم أن القرآن نزل بحرف واحد، على نبي واحد، غير أنهم أجمعوا على جواز القراءة بما يتداوله القراء، وأن الإنسان مخير بأي قراءة شاء قرأ، وكرهوا تجريد قراءة بعينها، بل أجازوا القراءة بالمجاز الذي يجوز بين القراء، ولم يبلغوا بذلك حد التحريم والحظر» (2).
وقد حكى الطبرسي (ت: 548هـ) الإجماع عليه فقال:
«اعلم أن الظاهر من مذهب الإمامية أنهم أجمعوا على جواز القراءة بما تتداوله القراء بينهم من القراءات، إلا أنهم اختاروا القراءة بما جاز بين القراء، وكرهوا تجريد قراءة مفردة» (3).
وذهب الشهيد الأول: (ت: 786هـ) من الإمامية إلى أن القراءات متواترة، ومجمع على جواز القراءة بها، وتابعه الخوانساري في ذلك، ونفي الخلاف في حجية السبع منهم مطلقا، والثلاث المكملة للعشر في الجملة، بل اعتبر تواترها بوجوهها السبعة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عند قاطبة أهل الإسلام (4).
وقد انتهى العاملي إلى الإجماع على تواتر القراءات ونعتها به وحكاه عن المنتهى والتحرير والتذكرة والذكرى، والموجز الحاوي، وغيرها من أمهات كتب الإمامية مما يقطع معه بتواترها حرفا حرفا، وحركة حركة (5).
__________
(1) الكليني، أصول الكافي: 2/ 631.
(2) الطوسي، التبيان: 1/ 7.
(3) الطبرسي، مجمع البيان: 1/ 12.
(4) ظ: الخوانساري، روضات الجنات: 263.
(5) ظ: العاملي، مفتاح الكرامة: 2/ 290.(1/119)
وقد فصل الخوئي في القول، فذهب إلى عدم حجية هذه القراءات، فلا يستدل بها على الحكم الشرعي، إذ لم يتضح عنده كون القراءات رواية، فلعلها اجتهادات في القراءة، ولكنه جوز بها الصلاة نظرا لتقرير المعصومين لها، وذلك عنده يشمل كل قراءة متعارفة زمن أهل البيت عليهم السّلام إلا الشاذة فلا يشملها التقرير (1).
__________
(1) ظ: الخوئي، البيان في تفسير القرآن: 167164.(1/120)
الفصل الخامس شكل القرآن(1/121)
نريد بشكل القرآن فيما يلي، الإطار الخارجي للنص القرآني، وهذا الإطار عبارة عن رسمه وإعجامه ونقطه، وما صاحب ذلك من جهد وتطوير منذ الكتبة الأولى للمصحف.
وهذا كله شيء يختلف عن القرآن نصا متعبدا بتلاوته، فالقرآن ألفاظه ومعانيه، وتشريعه ومراميه، بسوره وآياته متواترة متكاملة، وشكله هو صورته المصحفية التي تواضع عليها الناس في الرسم والأعراب والنقط والأعجام للدلالة على ألفاظه في النطق، وعلى هيئته وتركيبه في التلفظ، فهو تسجيل ثانوي للوحي الأولي، بما يؤدي إلى صورة حقيقته المثلى حينما يتلى بالألسن معادا كما أنزل.
وارتباط هذه الظاهرة الشكلية باللفظ المنزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الكريم وحيا سماويا، لم تأخذ طابع الصدفة أو صيغة العفوية، وإنما كان أمرا إليها مقصودا إليه، وجهدا رساليا معنيا بالذات، ليتضافر على حفظ القرآن الكريم برا بوعده تعالى عاملان:
الحفظ في الصدور، والرسم في السطور. وهو كما يبدو من استعراض الروايات واستقراء الأحداث أمر مدنوب إليه ومرغوب فيه، وقد كان تأسيس ذلك منذ عهد مبكر، اقترن بأول نزول الوحي كما سبقت الإشارة التفصيلية إليه (1) وأوشك على الكمال عند جمع النّاس على لغة
__________
(1) ظ: فيما سبق مقالة: جمع القرآن:.(1/123)
قريش في القراءة المصحفية زمن عثمان، وكتابة نص متكامل لهذا التوحيد، في المصحف الإمام المتداول إلى اليوم مرسومه، إلا أن ذلك النص مضافا إلى تسويته بالخط الكوفي القديم جاء مجردا: «من النقط والشكل، ليحتمل ما صح نقله، وثبتت تلاوته عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ كان الاعتماد على الحفظ، لا مجرد الخط» (1).
ورسم المصحف كما سنفصل القول فيه بإذن الله تعالى جاء مجردا من كل علامات الشكل والنقط والأعجام، لأنهم كانوا يستحبون تخليص القرآن من كل الزوائد على الخط الكوفي، ولما أورده جملة من أهل العلم من قول مشترك يحتمل عدة معان أن السلف كانوا يقولون:
«جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء» (2).
فلم تكتب مضافا إلى إهمال النقط والأعراب، حتى أسماء السور، ولم يدون عدد آياتها، ولا الإشارة إلى مكيها ومدنيها.
وقد اختلفوا فيما تبين فيه القراءة من الشكل، وكان اختلافهم مبنيا على قناعات خاصة في أغلب الأحيان.
فقد كره إبراهيم النخعي الكوفي (ت: 96هـ) نقط المصاحف (3).
وكره جملة الزيادات التوضيحية في المصاحف كل من: محمد بن سيرين (ت: 110هـ) والحسن البصري (ت: 110) (هـ) (4).
وكان ذلك منهم بعناية الحفاظ على الشكل الأول للمصحف، وقد يغلب على ظنهم احتمال التحريف لو أباحوا ذلك، وقد يكون ذلك بداعي المغالاة في تقديس الرسم الأول، بينما أفتى النووي باستحباب نقطه وشكله صيانة له عن اللحن والتحريف (5).
__________
(1) القسطلاني، لطائف الإشارات: 1/ 64.
(2) ظ: أبو عبيد، غريب الحديث: 4/ 49الداني، المحكم: 10السيوطي، الاتقان: 4/ 160.
(3) ظ: الداني، المحكم: 11السيوطي: 4/ 160.
(4) ظ: ابن أبي داود، المصاحف: 141.
(5) ظ: القسطلاني، لطائف الإشارات: 1/ 332.(1/124)
ومهما يكن من أمر، فقد كان الموقف السلبي من نقط المصحف وشكله منهزما حينما عمد المسلمون إلى إعجام القرآن ونقطه بشكل منظم، توافرت فيه النيات الصادقة، وتعاقبته الأيدي الأمينة، مما أدى بالأمر الواقع إلى تيسير تلاوة القرآن، وصيانته عن الالتباس، ومقاربتنا إلى نقطة الأمثل.
ويبدو أن الرائد الأول لذلك هو أبو الأسود الدؤلي (ت: 69هـ) حينما وجدناه قد عالج بادئ ذي بدء مسألة ضبط العلامات الإعرابية في المصحف، احترازا من اللحن، وابتعادا عن العجمة، ورعاية لسلامة النص، فاستعمل لذلك ما يفرق فيه بين حالات الرفع والنصب والجر بالتنوين وبدونه، وابتكر باجتهاد فطري منه طريقته الخاصة الأولى باستعمال النقط للحركات، بصورة مميزة، عددا، وموضعا، ولونا، كما سترى هذا من قوله لكاتبه:
«خذ المصحف، وصنيعا يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتي فأنقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتها فاجعل النقطة في أسلفه، فإن أتبعت هذه الحركات، غنة، فأنقط نقطتين. فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره» (1).
ومن خلال هذه الرواية المستفيضة، يتضح أن أبا الأسود قد خالف بين لون المداد المدون به المصحف وبين لونه لوضع هذه الحركات، وقد جعل هذه الحركات على شكل نقاط في مواضعها المعينة، وقد ظهر من ذلك ما يلي:
أنقطة فوق الحرف، علامة للفتحة.
ب نقطة تحت الحرف، علامة للكسرة.
ج نقطة في خلال أو بجانب الحرف، علامة للضمة.
د نقطتين على الحرف، علامة للتنوين.
__________
(1) السيرافي، أخبار النحويين البصريين: 16ابن النديم، الفهرست: 40ابن الأنباري، إيضاح الوقف والابتداء: 1/ 39القلقشندي، صبح الأعشى: 1/ 166.(1/125)
وكان هذا العمل من أبي الأسود متميزا بقيمة فنية أمكن بوساطتها التمييز بين الحالات الإعرابية بنقط مختلفة المواضع بعد أن كانت هملا، وبلون يخالف الأصل المدون به المصحف زيادة في الضبط والتفريق.
وفي دوافع أبي الأسود، ومشجعاته على هذا العمل الضخم روايات وتوجيهات كالآتي:
1 - إن الإمام علي عليه السّلام سمع قارئا يقرأ {أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) بكسر اللام في رسوله وهو كفر، فتقدم إلى أبي الأسود «حتى وضع للناس أصلا ومثالا وبابا وقياسا، بعد أن فتق له حاشيته، ومهّد له مهاده، وضرب له قواعده» (2).
2 - أن أبا الأسود نفسه قد سمع الآية المتقدمة في جزئها بكسر اللام من (رسوله) فقال:
لا يسعني إلا أن أضع شيئا أصلح به لحن هذا، أو كلاما هذا معناه (3).
3 - أن زياد بن أبيه طلب إليه أن يضع للناس علامات تضبط قراءتهم، فشكل أواخر الكلمات، وجعل الفتحة نقطة فوق الحرف، والكبيرة نقطة تحته، والضمة نقطة إلى جانبه، وجعل علامة الحرف المنون نقطتين (4).
وقيل إن زيادا أرسل إليه ثلاثين كاتبا للقيام بهذه المهمة (5).
4 - وقيل: إن أبا الأسود إنما قام بهذا وبنقط القرآن كما في رواية أخرى بأمر عبد الملك بن مروان (6).
__________
(1) التوبة: 3.
(2) أبو حيان التوحيدي، البصائر والذخائر: 1/ 261.
(3) البلوي، ألف با: 1/ 210.
(4) الأنباري، نزهة الألباب في طبقات الأدباء: 10وما بعدها.
(5) ظ: الزنجاني، تأريخ القرآن: 88.
(6) ظ: السيوطي، الاتقان: 4/ 160.(1/126)
والملحظان الأخيران يؤكدان استجابة أبي الأسود لهذا الأمر بسبب أمر رسمي من سلاطين عصره، وهو ما لا يتفق مع عزلة أبي الأسود السياسية، وعزوفه عن المناخ الرسمي، ولعل القلقشندي يدفع عنه ذلك صراحة، ويوضحه فيقول:
«إن أول من نقط القرآن ووضع العربية أبو الأسود الدؤلي من تلقين أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه» (1).
والغريب الذي لا يمت إلى أساس علمي أن يستبعد كل ما تقدم به أبو الأسود الدؤلي مع تظاهر الروايات على صدقة أو على شهرته على الأقل، بعض الدارسين المعاصرين، فمن يعد انفراد أبي الأسود في ذلك ليس منطقيا ولا معقولا، ولا يقوم على أساس عقلي، وكأنه يستكثر ذلك عليه إن لم يستنكره، بينما يعتبر أن للحجاج عملا عظيما لا سبيل إلى إنكاره في الإشراف على نقط القرآن (2).
ولدى التحقيق كما سترى فيما بعد فليس هناك مصدر واحد يوثق به، أو نقل ثابت، ويؤرخ هذه التقولات.
وليت شعري ما المانع العقلي أو المنطقي الذي يراه صبحي الصالح حائلا عن قيام أبي الأسود بذلك، وأبو الأسود عالم موسوعي في كثير من فنون الأدب واللغة والتراث، وهو بعد تلميذ الإمام علي عليه السّلام ولم تشغله سياسة القوم عن النهج العلمي.
ولقد أكمل عمل أبي الأسود من بعده، اثنان من تلامذته هما يحيى بن يعمر العدواني (ت: 90هـ تقريبا) ونصر بن عاصم الليثي (ت: 89هـ) حيث وضعا النقاط على الحروف أزواجا وإفرادا، وقد كان وضع النقاط على الحروف حقيقيا لا على سبيل الاستعمال المجازي، وبذلك تميزت صور الحروف المتشابهة، وصار لكل حرف صورة تغاير صورة غيره من الحروف، طبقا لما نجده متعارفا في كتابتنا المتداولة اليوم (3).
__________
(1) القلقشندي، صبح الأعشى: 3/ 151.
(2) ظ: صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن: 94.
(3) ظ: أبو أحمد العسكري، شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف: 13حمزة الأصبهاني، التنبيه على حدوث التصحيف: 27.(1/127)
ثم زاد أتباع أبي الأسود علامات أخرى في الشكل، فوضعوا مضافا إلى ما تقدم للسكون جرة أفقية فوق الحرف منفصلة عنه سواء كان همزة أم غير همزة، ووضعوا الألف الوصل جرة في أعلاها متصلة به إن كان قبلها فتحة، وفي أسفلها إن كان قبلها كسرة، وفي وسطها إن كان قبلها ضمة (1).
ويأبي التأريخ إلا أن يضيف للحجاج بن يوسف الثقفي (ت: 95هـ) أنه أصلح من الرسم العثماني في عدة مواضع حددت بأنها إحدى عشرة كلمة، فكانت بعد إصلاحه لها أوضح قراءة (2).
ولا مانع من هذا تأريخيا، وهو جهد عادي، إذ ارتبط بإصلاح إملائي لرسم المصحف، لا في نقطه وإعجامه كما تخيل صبحي الصالح، الذي اعتبر عمل الحجاج عظيما ومشكورا لا سبيل إلى إنكاره في الإشراف على نقط القرآن، وهو أمر موهوم كما رأيت.
وحينما ظهرت مشكلة اختلاط نقط الحركات التي وضعها أبو الأسود بنقط الحروف المتشابهة الرسم التي وضعها تلامذته كما أسلفنا، استطاع الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت: 170هـ) أن يبتدع أشكال الحركات، فتميزت حينئذ الحركات عن الحروف، فقد جعل الحركات حروفا صغيرة بدل النقط، وابتكر لكل حركة ما يناسبها في الشكل من الحروف، فالضمة واو صغيرة فوق الحرف، والكسرة ياء مردفة تحت الحرف، الفتحة ألف مائلة فوق الحرف.
وقد وفق الخليل مضافا لهذا إلى ابتكار علامات الهمز والتشديد والروم والاشمام (3).
وحينما أباح المسلمون لأنفسهم ضبط النص المصحفي في النقط والحركات وقواعد الهمز والتشديد، أحدثوا النقط عند آخر الآي، ثم الفواتح والخواتم، حتى قال يحيى بن أبي كثير: «ما كانوا يعرفون شيئا مما
__________
(1) ظ: الزنجاني، تأريخ القرآن: 88.
(2) ظ: ابن أبي داود، كتاب المصاحف: 117.
(3) ظ: البلوي، ألف با: 1/ 76السيوطي، الاتقان: 4/ 160.(1/128)
أحدث في المصاحف إلا النقاط الثلاث على رءوس الآي» (1).
وكان هذا العمل إيذانا بمعرفة حدود الآية، إذ يفصل بينها وبين الآية التي تليها بمؤشر نقطي، تطور فيما بعد إلى شكل دائري، يوضع داخله رقم الآية، وبذلك تم تأشير أعداد الآيات وضبطها في السورة الواحدة.
وكان ذلك في الوقت نفسه مؤشرا إلى حركة تطويرية في شكل المصحف، لا تتوقف عند حد من حدود التحسينات الشكلية الإيضاحية، بل تستقطبها جميعا فيما يحقق فائدة، أو يزيل لبسا، فقد عمدوا بعد ذلك إلى كتابة الأخماس والأعشار، وهو أن يدونوا بعد كل خمس آيات أو عشر آيات رقمها وعددها، وكان قد كره ذلك جماعة من الأوائل علي ما يدعي، كابن مسعود ومجاهد والنخعي والحليمي (2).
ولكنه لا يتعارض مع أي أصل ديني بل هو أمر إحصائي لا غبار على عائديته في التدقيق.
وحينما أدخل ما سبق تفصيله على الرسم العثماني، لم تقف حركة التطوير عند هذا الحد تجاه الرسم الأول بل أضيف إليه كل ما يتعلق بأحكام السجود القرآني الواجب والمندوب، فوضعوا في الهوامش إشارات إلى مواضع السجود، بحيث اتضح كونه شيئا والنص القرآني شيء آخر لانفصاله عنه إلى الجوانب شأنه في ذلك شأن تعيين الأحزاب والأرباع والأجزاء، وإشارات التجويد في مغايرة رسمها في المدار، وإن كانت ضمن النص، مما استحسنه البيهقي فقال:
«ولا يخلط به ما ليس منه، كعدد الآيات والسجدات والعشرات، والوقوف، واختلاف القراءات، ومعاني الآيات» (3).
وقد جعلوا لما تقدم بعض الضوابط، لتمييز القرآن من القراءات، والنص من الإضافات، ولجأوا إلى تنويع لون المداد لكل من الرسم
__________
(1) السيوطي، الاتقان: 4/ 160.
(2) المصدر نفسه: 4/ 160.
(3) المصدر نفسه: 4/ 161.(1/129)
والشكل والنقط، كحلّ أولي لرفع الالتباس، وإزالة الإبهام.
قال الداني وهو يشير إلى ما تقدم بل ويفتي به: «لا أستجير النقط بالسواد لما فيه من التغيير لصورة الرسم، ولا استجير جمع قراءات شتى في مصحف واحد بألوان مختلفة، لأنه من أعظم التخليط والتغيير للمرسوم، وأرى أن تكون الحركات والتنوين والتشديد والسكون والمد بالحمرة، والهمزات بالصفرة (1).
وواضح في النص وغيره من النصوص الأخرى، أن الرسم المصحفي للآيات كان يكتب بالمداد الأسود، لهذا استحبوا أن تكون العلامات بالحمرة، والهمزات بالصفرة، وليكون ذلك عرفا شائعا عند العامة والخاصة.
وهكذا جرى الضبط والتدقيق للشكل في القرآن، فأضيف له بعد رسمه في الخط الكوفي، النقط والحركات، والهمز والتشديد، والتخميس والتعشير، والفصل بين الآيات وترقيمها، ثم تطور الأخير إلى دوائر صغيرة، وضع فيها رقم الآية بحسب تسلسلها من السورة، ثم كتبت أسماء السور مع عدد آياتها في أول السورة وقبل البسملة متخذة لذلك عنوانا بالاسم، وإحصاء بالآيات، ثم قسم هذا النص إلى ثلاثين جزءا، وقسم كل جزء إلى أربعة أحزاب، وكان ذلك بإشارات هامشية وأرقام وكتابات جانبية رسمية غير مختلطة بالنص القرآني الكريم، وإلى جانب هذا أضيفت علامات التجويد والوقف، ومواضع السجود وأمثال ذلك مما لم يكن معروفا في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة عليهم السّلام والصحابة (رض)، وهي زيادات قصد بها الإيضاح والكشف والبيان، ولم يخالف فيها الرسم المصحفي، فقد بقيت صور الكلمات على هيئتها، وحافظت على أشكالها، كما وصفتها لنا كتب السلف في الموضوع، وفي طليعتها كتاب: المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار، لأبي عمرو وعثمان بن سعيد الداني (ت: 444هـ).
__________
(1) المصدر نفسه: 4/ 161وما بعدها.(1/130)
وبقي الرسم العثماني للمصحف هو الأساس في خط المصحف الكريم قديما وحديثا، فحينما تطورت عملية الكتابة، وتبلور فن الخط، لم يفقد ذلك الأساس أهميته على الإطلاق، إذ ظل المنار الهادي لدى أغلب خطاطي مختلف العصور، نظرا لاكتمال الصورة الأولى للمصحف، وإن انتقل الشكل في العموم من الخط الكوفي إلى الخط النسخي المعروف.
«وتوجد الآن في مكتبات العالم مجموعة كبيرة من المصاحف المخطوطة القديمة أو قطع منها، بعضها مكتوب على الرق، وبالخط الكوفي القديم، مجردة من النقط والشكل، ومن كثير مما ألحق بالمصاحف من أسماء السور وعدد آياتها وغير ذلك بحيث تبدو أقرب إلى الصورة التي كانت عليه المصاحف الأولى» (1).
وقد شاهدت كثيرا من هذه الآثار المصحفية في المتحف البريطاني في لندن، مصونة ومحافظا عليها، بعناية أثارية فائقة، وبحواجز زجاجية محكمة، لا تصل إليها يد الناظر، وقد أشير ببعضها إلى تواريخ قديمة قد يرجع قسم منها إلى القرون الأولى، ولا نعلم مدى توثيقها.
أما الرسم المصحفي الأول للقرآن، أعني كتابته على الكتبة الأولى، فقد جاء دور الحديث عنه، وأول ما نفجأ به، هو الهالة الكبرى من التقديس لهذا الرسم مما يضفي شيئا كثيرا من المغالاة التي لا مسوغ إليها في أغلب الأحيان، وإنا وإن كنا لا نعارض تبجيله والاعتداد به، ولكننا نعارض الغلو في شأنه، ويبدو أن هذا الغلو والتقديس، وما صاحب ذلك من هالات، ما هو إلا تعبير عملي عن احترام جيل الصحابة الذين كتبوا المصحف عند توحيد القراءة، وإن كانت تلك الكتابة مخالفة لأصول الإملاء، وقواعد الخط، إذ الكتابة تصوير لنطق اللفظ، والعبرة بنطق ذلك اللفظ، لا بتصويره، والتطرف في إضفاء صفة التقديس على الكتبة الأولى،
__________
(1) نقل هذا النص غانم قدوري، عن جولد تسهير وغيره، ظ: محاضرات في علوم القرآن:
93، وانظر مصادره.(1/131)
لا يعضده دليل نصي على الإطلاق، وما قيل هنا وهناك من توقيف كتابة المصحف لا يستند إلى أساس من نقل أو عقل أو كتاب، وليس فيه ما هو مرفوع إلى الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم إجماعا، بل كان منسجما مع طبيعة ما يحسن الكتبة، سواء أكان جنس ما يحسنون ممتازا، أم هو ما تعارفوا عليه، مما يؤدي إلى النطق الصحيح بالكلمات والآيات، وهو أمر يرجع إلى مدى الجهد الذي بذله القدامى إملائيا وهجائيا في ضبط الرسم، وما من شك أن يحصل الاختلاف بين الكتبة بقدر تفاوت الضبط فيما بينهم، أو على نحو من اختلاف القبائل فيما تكتب، مما طبع أثره على الاختلاف في الخطوط.
حينما جمع القرآن على لغة قريش، ووحدت القراءات على حرف معين، حصل جزء من هذا الاختلاف، فقد قال الزهري: «واختلفوا يومئذ في التابوت والتابوة، فقال النفر القرشيون: التابوت، وقال زيد: التابوة، فرفع اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه التابوت فإنه بلسان قريش» (1).
وفي رواية مماثلة: «فإنما أنزل القرآن على لسان قريش» (2).
وأما ما ادعاه ابن المبارك في نقله عن شيخه عبد العزيز الدباغ أنه قال:
«ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من النبي وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة: بزيادة الألف ونقصانها، لأسرار لا تهتدي إليها العقول، وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية، وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضا معجز، وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في «مائة» دون «فئة» وإلى سر زيادة الياء في «بأييد» و «بأييكم» أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الألف في «سعوا» بالحج، ونقصانها من «سعو» بسبإ؟ وإلى سر زيادتها في «آمنوا» وإسقاطها من «باؤ، جاؤ، تبوؤ، فاؤ» بالبقرة؟ وإلى سر زيارتها في «يعفوا الذي» ونقصانها من «يعفو عنهم» في النساء؟ أم كيف
__________
(1) ابن أبي داود، المصاحف: 19.
(2) الزركشي، البرهان: 1/ 376.(1/132)
تبلغ العقول إلى وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض، كحذف الألف من «قرءنا» بيوسف والزخرف، وإثباتها في سائر المواضع، وإثبات الألف بعد واو «سموات» في فصلت وحذفها في غيرها، وإثبات الألف في «الميعاد» مطلقا، وحذفها من الموضع الذي في الأنفال، وإثبات الألف في «سراجا» حيثما وقع، وحذفه من موضع الفرقان؟ وكيف نتوصل إلى حذف بعض التاءات وربطها في بعض؟؟
فكل ذلك لأسرار إلهية، وأغراض نبوية، وإنما خفيت على الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني، بمنزلة الألفاظ والحروف المقطعة في أوائل السور، فإن لها أسرارا عظيمة ومعاني كثيرة، وأكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها ولا يدركون شيئا من المعاني الإلهية التي أشير إليها، فكذلك أمر الرسم الذي في القرآن حرفا بحرف» (1).
فهو كلام طويل عريض يشتمل على ادعاءات وافتراضات لا نوافقه عليها من عدة وجوه:
الأول: أن الرسم المصحفي لم يرد فيه ولا حديث واحد عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فكيف يكون توقيفيّا، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يتهجى، فكيف يتم هذا الغلو بشأنه، بادعاء أن ما كتبوه كان بأمره، وهو تجاوز على مقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يأمر بما يخطأ فيه ويصاب، هجاء وإملاء مما نعتبره دون أدنى ريب خارجا عن توجيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتوقيفه، لأنه لا يحسن منه شيئا وأمّا ما ورد بالزعم
أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: قال لأحد كتبة الوحي:
«ألق الدواة، وحرف القلم، وأنصب الباء، وفرق السين ولا تعور الميم، وحسن الله، ومد الرحمن، وجود الرحيم، وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك» (2)
. فموضوع لا أصل له، ويدل على وضعه ونحله كون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أميا، فما أدراه بأصول الخط؟ وما هي معرفته بالحروف ومميزات كتابتها وهو فاقد لأصل الصنعة، وفاقد الشيء لا يعطيه كما يقولون، وليس في ذلك انتقاص للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا غض من منزلته، ولكن
__________
(1) الزرقاني، مناهل العرفان: 1/ 376.
(2) المصدر نفسه: 1/ 370.(1/133)
الحقيقة التي نطق بها القرآن في أكثر من موضع بأنه أمي، وهذه الحقيقة صاحبت حياته كلها، وهي ليست نقصا في شأنه، بل اقتضتها الحكمة الإلهية، لدرء تخرصات المشركين وارتياب المبطلين، فهي كرامة لا منقصة، وتشريف لا تضعيف، وتكريم لا توهين.
لقد أوتي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جوامع الكلم، وفصل الخطاب، والنص المتقدم لا ينسجم مع بلاغة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم القولية، ولا يتفق مع فصاحته المتناهية، فالصنعة بادية على النص، والتكلف بين السمات عليه، وعدم ارتباطه فنيا يبعده عن كلام أفصح من نطق بالضاد، ثم ما هي علاقة الكتابة بوضع القلم على الأذن اليسرى؟ وهل يصدق أن يكون هذا الهراء من كلام الرسول؟ وأين هي المعاني الجامعة في هذا النص الهزيل؟ وما هو وجه النظم بين فقراته التائهة، وما هو المراد منها؟
الثاني: لو كان رسم المصحف توقيفيا، لكانت خطوط كتاب الوحي واحدة، وليس الأمر كذلك، فقد أشير كثيرا إلى اختلاف المرسوم منها في جملة من الروايات.
الثالث: ليس في كتابة أي نص سر من الأسرار كما يدعى، وأنّى توصل لذلك؟ وكيف يطلق الكلام جزافا؟ وهل هنالك من له أدنى مسكة من عقل، أو إثارة من علم فيدعى أن رسم المصحف معجز كنظم القرآن، والقرآن معجزة بتحديه ونظمه وحسن تأليفه، وتفوقه باستعاراته ومجازاته وكناياته، وارتباط كل ذلك بالكشف عن الغيب، والتحدث عن المجهول، واستقراء الأحداث، واشتماله على الإعجاز التشريعي مضافا إلى الإعجاز البلاغي الذي لا يناسب البيئة التي نزل بها القرآن، وتمكنه بأسراره العلمية ونظرياته الثابتة، القرآن معجز بصورته الفنية التي اعتبرت اللفظ حقيقة، والمعنى حقيقة أخرى، والعلاقة القائمة بينهما حقيقة ثالثة، وهل يقاس هذا بالخط والإملاء؟ وما إعجاز الخط وما هي أسرار الإملاء؟ حتى لا تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في جملة من الكلمات، وحذفها من كلمات أخرى، نعم السر واضح، وهو بكل بساطة وكل تواضع وكل موضوعية: خطأ الكاتبين، ولا علاقة لخطئهم بالنص، فالنص القرآني متعبد بتلاوته لا برسمه، ولا يطالب الأوائل بأكثر من هذا الجهد في ضبط النص
القرآني بعد أن(1/134)
الثالث: ليس في كتابة أي نص سر من الأسرار كما يدعى، وأنّى توصل لذلك؟ وكيف يطلق الكلام جزافا؟ وهل هنالك من له أدنى مسكة من عقل، أو إثارة من علم فيدعى أن رسم المصحف معجز كنظم القرآن، والقرآن معجزة بتحديه ونظمه وحسن تأليفه، وتفوقه باستعاراته ومجازاته وكناياته، وارتباط كل ذلك بالكشف عن الغيب، والتحدث عن المجهول، واستقراء الأحداث، واشتماله على الإعجاز التشريعي مضافا إلى الإعجاز البلاغي الذي لا يناسب البيئة التي نزل بها القرآن، وتمكنه بأسراره العلمية ونظرياته الثابتة، القرآن معجز بصورته الفنية التي اعتبرت اللفظ حقيقة، والمعنى حقيقة أخرى، والعلاقة القائمة بينهما حقيقة ثالثة، وهل يقاس هذا بالخط والإملاء؟ وما إعجاز الخط وما هي أسرار الإملاء؟ حتى لا تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في جملة من الكلمات، وحذفها من كلمات أخرى، نعم السر واضح، وهو بكل بساطة وكل تواضع وكل موضوعية: خطأ الكاتبين، ولا علاقة لخطئهم بالنص، فالنص القرآني متعبد بتلاوته لا برسمه، ولا يطالب الأوائل بأكثر من هذا الجهد في ضبط النص
القرآني بعد أن
ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله: «نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» (1).
فكتابة المصحف إذن كانت في ضوء ما ألفوه من الهجاء، واعتادوه من الرسم، وذلك قصارى جهدهم، وما ورد فيها من منافيات أصول الخط، لا يتعارض مع أصول المعاني ومداليل الألفاظ، فالإملاء لا يغير نطقا، ولا يحرف معنى.
الرابع: ليس من المنطق العلمي ولا من المنهج الموضوعي أن نقارن ولو بوجه ضئيل بين الرسم المصحفي الذي كتبه بشر، وبين أوائل السور القرآنية ذات الحروف المقطعة التي قام الإجماع والتواتر على أنها من الوحي الإلهي والنص القرآني، وللعلماء فيها آراء واجتهادات، وفي مضامينها روايات وأخبار، وفي عرضها رموز وإشارات، وليس هذا موضع بحثها فلسنا بصددها، إلا أنها من القرآن المعجز، وليس الرسم المصحفي من الإعجاز في شيء وإنما هو يخضع لمدى ما يحسن الكاتب، وأين التحدي من السماء بالإعجاز إلى الصنعة الأرضية التي تتفاوت جودة وضعفا وإتقانا.
وقد حقق عبد الرحمن بن خلدون (ت: 808هـ) في قضية الرسم القرآني، وألقى مزيدا من الأضواء الكاشفة، على فكرة التعصب للرسم العثماني، وانتهى من فلسفة القول في الخط عند العرب بعامة فقال:
«وكان خط العرب لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الأحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوسط، لمكان العرب من البداوة والتوحش، وبعدهم عن الصنائع. انظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف، حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير محكمة الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها.
ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركا بما رسمه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وخير الخلق من بعده، المتلقون لوحيه من كتاب الله
__________
(1) أبو شامة، المرشد الوجيز: 132.(1/135)
وكلامه، كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركا، ويتبع رسمه خطأ أو صوابا.
وأين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه، فاتبع ذلك وأثبت رسما، ونبه علماء الرسم على مواضعه. ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يتخيل من مخالفته خطوطهم لأصول الرسم كما يتخيل، بل لكلها وجه، وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة رضوان الله عليهم، عن توهم النقص في قلة إجادة الخط، وحسبوا أن الخط كمال، فنزهوهم عن قصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة عن رسمه وليس ذلك بصحيح.
واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم، إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية، والكمال في الصنائع إضافي وليس بكمال مطلق، إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين، ولا في الخلال. وإنما يعود على أسباب المعاش، وبحسب العمران والتعاون عليه، لأجل دلالته على ما في النفوس.
ولقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم أميا، وكان ذلك كمالا في حقه، وبالنسبة إلى مقامه، لشرفه وتنزهه عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش والعمران كلها.
وليست الأمية كمالا في حقنا نحن، إذ هو منقطع إلى ربه، ونحن متعاونون على الحياة الدنيا» (1).
ورأي ابن خلدون واضح الأبعاد في إلقاء التبعة على من يتصور أن الخط كمال مطلق في حد ذاته، وإن فقدانه يشكل نقصا جليا، وعيبا لا يطاق، وصوبوا في كتابته من أخطأ، وليس الأمر كذلك، فالإخلال ببعض قواعد الخط، وجملة من أصول الإملاء ليس نقصا بحقهم، بل هي الطاقة وجهد المقدور، والتعظيم لمنزلة الصحابة لا يعني أن نغض الطرف عن خطأ هجائي وأصل إملائي فمنزلتهم شيء، وحقائق الأمور شيء آخر،
__________
(1) ابن خلدون، المقدمة: 350. طبعة بولاق.(1/136)
ولهذا كان ابن خلدون فيما قدمه من رأي جريئا في الحكم، وسخيا في العرض، وواقعيا في المبادرة.
وهناك موقف للباقلاني (ت: 403هـ) يتناسب مع الذائقة الفطرية، لطبيعة الأشياء، فما لم يفرض فيه أمر، لا يستنبط منه حكم، وما لا وجه له لا يجدد بوجه مخصوص، لقد بين حقيقة هذا الأمر بقوله:
«وأما الكتابة، فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا، إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره، أوجبهم عليهم وترك ما عداه، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه: أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص، وحد محدود، ولا يجوز تجاوزه، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية. بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل، لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يأمر برسمه، ولم يبين لهم وجها معينا، ولا نهى أحدا عن كتابته، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح وأن الناس لا يخفى عليهم الحال. ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول، وأن يجعل اللام على صورة الكاف، وأن تعوّج الألفات، وأن يكتب على غير هذه الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة، وجاز أن يكتب بين ذلك.
وإذا كانت خطوط المصحف، وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة، وكان الناس قد أجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى، من غير تأثيم ولا تناكر علم أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص، كما أخذ عليهم في القراءة والأذن، والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز، فكل رسم دال على الكلمة، مفيد لوجه قراءتها. تجب صحته وتصويب الكاتب على أية صورة كانت.
وبالجملة فكل من ادعي أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب
عليه أن يقيم الحجة على دعواه وأنى له ذلك» (1).(1/137)
وبالجملة فكل من ادعي أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب
عليه أن يقيم الحجة على دعواه وأنى له ذلك» (1).
ورأي الباقلاني قوي الحجة بجواز كتابة المصحف بأي خط اتفق، يدل على ألفاظ القرآن ويفصح عن قراءته، بدليل ثبوت كتابته بالحروف الكوفية، وبالخطوط المحدثة، وبالهجاء القديم، وفيما بين ذلك.
ومع أصالة هذا الرأي الذي لم يتأثر بميل أو هوى فقد تجد من يأتي بعده، ويتكأ على كثير من آرائه يخالفه جملة وتفصيلا، دون دليل علمي في الموضوع.
قال القسطلاني: (ت: 923هـ) وأكثر رسم المصاحف موافق لقواعد العربية، إلا أنه قد خرجت أشياء عنها، يجب علينا اتباع مرسومها، والوقوف عند رسومها، فمنها ما عرف حكمه، ومنها ما غاب عنا علمه» (2).
والقسطلاني يريد بتعبيره بأن أكثر رسم المصاحف موافق لقواعد الإملاء العربي، وأصول الخطوط، وما خرج عن ذلك يجب اتباعه في نظره، ولا أعلم من أين استفاد وجوب اتباع مرسوم هذه الخطوط، والوقوف عند رسومها، وما هي فلسفة حكمة من الأخطاء الإملائية، وما غاب عنا علمه من الاشتباهات الهجائية، وليست تلك إلا أمور موهومة، دعا إليها الغلو الفاحش، والطيش في العاطفة، وهو نفسه يقول:
«ثم إن الرسم ينقسم إلى قياسي، وهو موافقة الخط للفظ، واصطلاحي، وهو مخالفته ببدل، أو زيادة، أو حذف، أو فصل، أو وصل، للدلالة على ذات الحرف، أو أصله، أو فرعه، أو رفع لبس، أو نحو ذلك من الحكم والمناسبات» (3).
وهذا هو التقسيم الصحيح، والرسم المصحفي اصطلاحي لا شك، تواضع عليه كتبة المصاحف الأولى، واشتمل على مخالفة الخط للفظ، في
__________
(1) ط: محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان: 1/ 373وما بعدها.
(2) القسطلاني، لطائف الإشارات: 1/ 285.
(3) المصدر نفسه: 1/ 284.(1/138)
وجوه البدلية والزيادة والنقصان والحذف والفصل والوصل، وكان ذلك شائعا في جملة من الحروف، لا سيما في إبدال الألف ياء، وزيادة الألف بعد واو الجماعة الداخلة على بعض الأسماء، وحذفها بعد جملة من الأفعال في ذات المكان، وإثباتها لبعض الأفعال المعتلة بالواو، وفي إثبات الهمزة في الوصل حينا، وحذفها حينا آخر، وفي ما فيه قراءتان والرسم على أحدهما، كما هو ملاحظ في جملة من خطوط الرسم المصحفي.
وقد حصر السيوطي أمر الرسم المصحفي في الحذف، والزيادة، والهمز، والبدل، والفصل، وما فيه قراءتان فكتب بأحدهما (1).
ولا حرج مطلقا في أن يكتب المصحف كاتب، أو يطبعه طابع، بأي هجاء شاء، ما دام لا يخرج عن النطق المطلوب، كما أنزله الله تعالى، وكما تنطق به العرب، إذ لا يختلف اثنان في أن المراد بالقرآن هو ألفاظه ومعانيه، ومقاصده ومراميه، لا هجاؤه ورسمه وهيكله، والقرآن ما رسم بهذا الرسم، ولا كتب بهذا الهجاء، إلا لأنه الهجاء المعروف المتداول في العصر الأول (2).
وما القول بوجوب اتباع الرسم القديم، وعدم مخالفته وتعديه، إلا نوع من أنواع التزمت الذي لا يتفق مع النهج العلمي، والارتفاع بتقدير الأوائل من مستوى الاحترام المناسب إلى مستوى التقديس اللامعقول، وبهذا الملحظ فإننا لا نميل إلى ما قرره البيهقي في «شعب الإيمان» بقوله:
«من كتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء التي كتبوا فيها المصاحف، ولا يخالفهم فيها، ولا يغير مما كتبوه شيئا، فإنهم أكثر علما، وأصدق قلبا ولسانا، وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم» (3).
__________
(1) ظ: السيوطي، الاتقان: 4/ 147.
(2) ظ: ابن الخطيب، الفرقان: 84وما بعدها.
(3) الزركشي، البرهان: 1/ 379.(1/139)
بل نذهب إلى جواز المخالفة، وتيسير القرآن بالخط والهجاء الذي لا لبس فيه، فلا يؤدي إلى اختلاف، ولا يؤول إلى إبهام، وليس في ذلك تحامل على السلف، فليس الخط ونقصانه مما يشكل استخفافا بهم، ولا هو يتنافى مع ورعهم وتقواهم، ولا علاقة له بأنهم أصدق لسانا، وأعظم أمانة، ما دام أن الخطوط لم تكن متكاملة المعالم في عهودهم.
يقول الأستاذ أحمد حسن الزيات: «الغرض من كتابة القرآن: أن نقرأه صحيحا لنحفظه صحيحا، فكيف نكتبه بالخطإ، لنقرأه بالصواب؟ وما الحكمة أن يقيد كلام الله بخط لا يكتب به اليوم أي كتاب» (1).
ولقد كان عز الدين بن عبد السلام جريئا ومحافظا في وقت واحد بقوله:
«لا يجوز كتابة المصحف الآن على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمة، لئلا يوقع في تغيير من الجهّال، ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه، لئلا يؤذي إلى دروس العلم، وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاته لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة» (2). فهو يدعو إلى تطوير الرسم المصحفي رفعا لمشاكل القراءة عند المحدثين، ويدعو إلى الاحتفاظ بالرسم العثماني كجزء من التراث الذي لا يترك حبا بالأقدمين.
ولقد أوضح السيوطي حقيقة مخالفة الخط المصحفي في بعض الحروف لقواعد الخط العربي فقال: «القاعدة العربية أن اللفظ يكتب بحروف هجائية مع مراعاة الابتداء والوقف عليه، وقد مهد النجاة له أصولا وقواعد، وقد خالفها في بعض الحروف خط المصحف الإمام» (3).
وأنى كانت وجهة النظر تجاه الرسم المصحفي، فهي لا تعني شيئا ذا أهمية قصوى، لأنها مسألة شكلية لا تتعلق بجوهر القرآن، ولا تغير
__________
(1) مجلة الرسالة المصرية، عدد 8يناير، 1950.
(2) الزركشي، البرهان: 1/ / 379.
(3) السيوطي، الاتقان: 4/ 146.(1/140)
حقيقته، لأن اختلاف بعض الخطوط لقواعد الهجاء لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، ليتحقق بعد هذا كله التأكيد الإلهي بحفظ القرآن، سالما من التحريف، مصانا عن الزيف.
وقد شاءت العناية الإلهية أن يظل شكل القرآن متجاوبا مع اختلافات الرسم في كل العصور، ومتجانسا مع عملية التطوير الكبرى للخط العربي، فقد دأب المتخصصون بصياغة الخطوط وطرائقها أن ينقلوه من جيل إلى جيل مطابقا للأصل الكوفي مع إضافة الأشكال التطويرية زيادة في الإيضاح، ورفعا للالتباس، وكان ذلك متواترا طيلة أربعة عشر قرنا من الزمان، فما وجدنا في طول العالم الإسلامي وعرضه نصا قرآنيا يخالف نصا آخر، ولا مخطوطا يعارض مخطوطا سواه، حتى هيأ الله تعالى الطباعة، لتزود المسلمين بل الناس أجمعين، بملايين النسخ من القرآن الكريم، وبمختلف الطبعات الأنيقة والمذهبة والمحكمة، وهي تعطر كل بيت، وتشرف كل منتدى، وتحتل صدر كل مكتبة.
وكان دور الطباعة مهما في نشر القرآن الكريم في كل من أوروبا والبلدان الإسلامية والواطن العربي.
فقد نشر القرآن مطبوعا للمرة الأولى في البندقية في حدود سنة 1530م، بيد أن السلطات الكنسية وقفت منه موقفا متعصبا، فأصدرت أمرا بإعدامه عند ظهوره ثم قام هنكلمان بطبع القرآن في مدينة هانبورغ عام 1694م، وتلاه (مراتشي) بطبعه في بادو عام 1698م.
وقد ذكر كل من بلاشير وشزر وبفنلمر أن أول طبعة إسلامية القرآن كانت في سانت بطرسبورج بروسيا عام 1787م وهي التي قام بها مولاي عثمان، وبعد هذا قدمت إيران طبعتين حجريتين الأولى في طهران عام 1828م والثانية في تبريز عام 1833م (1).
وفي مصر قام الشيخ رضوان بن محمد الشهير بالمخللاتي بكتابة مصحف عني فيه بكتابة الكلمات في ضوء الرسم العثماني، وقدم له بمقدمة
__________
(1) ظ: صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن: 99وانظر مصادره.(1/141)
أبان فيها تحرير المصحف ورسمه وضبطه، وطبع بمطبعة حجرية هي المطبعة البهية في القاهرة عام (1308هـ) (1).
وكانت هذه الطبعة الأولى من نوعها في القاهرة، وقد استدركت عليها بعض الملاحظات المطبعية عولجت فيما بعد.
وفي القاهرة، عام 1342هـ 1923م تشكلت لجنة عليا من مشيخة الأزهر، مستعينة بكبار العلماء، بإقرار من قبل الملك فؤاد الأول، كان قوامها كل من: شيخ المقارئ المصرية محمد خلف الحسيني، والأستاذ حفني ناصف العالم اللغوي، ومصطفى عناني، وأحمد الاسكندري.
وقد اضطلعت هذه اللجنة بمهمة ضبط المصحف ورسمه وشكله، فكتب القرآن بإقرارها موافقا للرسم العثماني، وعلى قراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي، برواية حفص بن سليمان الكوفي. ثم طبعته طبعة أنيقة بالنسبة لزمنها، تلقاها العالم الإسلامي بالغبطة، وكان ذلك أساس انتشار طبعات القرآن الأخرى، ففي عام 1924تم طبع القرآن في مطبعة بولاق في القاهرة، وكانت هذه الطبعة هي الطبعة الرسمية للقرآن في نظر المستشرقين (2). وبعبارة أخرى فهي القرآن الرسمي عندهم.
وكان القرآن قد طبع بحجم صغير في عام (1337هـ) في مطبعة بولاق أيضا، وأعيدت طبعته في (1344، 1347) (3).
وقد بقي طبع القرآن في الوطن العربي بل الإسلامي مقتصرا على مصر في أغلبية مشروعاته، ثم قامت عدة دول بطبع القرآن طبعات أنيقة فاقت ما قدمته مصر، كان ذلك في عصر تقدم الطباعة وآلاتها ومستلزماتها، وتحسين الورق وازدهار الخطوط، وكان ذلك حديثا وفي بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، حينما استعانت هذه الدول
__________
(1) ظ: عبد الفتاح القاضي، تأريخ المصحف الشريف: 91وما بعدها.
(2) هناك مقالة للمستشرق الألماني الاستاذ نولدكه بعنوان: القرآن: الرسمي (طبعة بولاق 1924) بالنظر إلى قراءة أهل مصر، نشرها في مجلة الإسلام ج 20 (ظ: بروكلمان، تأريخ الأدب العربي: 1/ 141.
(3) ظ: بروكلمان، تأريخ الأدب العربي: 1/ 141.(1/142)
بمطابع راقية في الدول الغربية لسحب ملايين النسخ من القرآن الكريم بأبهى حلة لا سيما في مطابع ألمانيا وشركاتها، وكان في طليعة من تصدى لهذا العمل من دول الشرق الإسلامي وغربه كل من: العراق وتركيا وإيران وسوريا والمغرب والجزائر وتونس وغيرها.
وفي ضوء جميع ما تقدم نجد أن شكل القرآن قد استقر الآن على ما استقر عليه بالتحسينات والإيضاحات والأناقة الطباعية، مما نقطع معه إن لم يقدر لأي أثر ديني أن يحتفي بهذا القدر من الاحتفاء كما قدر للقرآن الكريم، كتابة، وشكلا ورسما، وحفظا، وطباعة، وانتشارا.(1/143)
وفي ضوء جميع ما تقدم نجد أن شكل القرآن قد استقر الآن على ما استقر عليه بالتحسينات والإيضاحات والأناقة الطباعية، مما نقطع معه إن لم يقدر لأي أثر ديني أن يحتفي بهذا القدر من الاحتفاء كما قدر للقرآن الكريم، كتابة، وشكلا ورسما، وحفظا، وطباعة، وانتشارا.
الفصل السادس سلامة القرآن(1/145)
لا حاجة بنا إلى القول بأن القرآن الكريم قد وصل إلينا كما نزل، وقد حفظ بين الدفتين كما أوحي، فالحديث عن سلامة القرآن وصيانته من البديهيات، والاعتقاد بخلوه من الزيادة والنقصان من الضروريات.
والقرآن في منأى عن التحريف في نصوصه وآياته، إذ لم يضف إليها ما ليس منها، ولم يحذف ما هو منها، فالموجود بين أيدينا هو النص القرآني الكامل في ضوء ما أسلفناه من وحي القرآن، ونزول القرآن، وجمع القرآن، وقراءات القرآن، وشكل القرآن، إذ تضافرت هذه العوامل جميعا على ضبطه كما أنزل، زيادة على العناية الإلهية التي رافقت هذه العوامل، وصاحبت هذا النص.
إن الدلائل العلمية تأكد حقيقة صيانة القرآن كيانا متماسكا مستقلا لم تصل إليه يد التحريف، ولم تستهدفه نبال العوادي، وليس هذا أمرا اعتباطيا تحكمت فيه الظروف أو الصدف، بل هو أمر حيوي قصدت إليه إرادة الغيب بإشاءة الله تعالى، وتأسيسا على ذلك فلا يغير القرآن غرض طارئ، ولا عدوان مباغت.
وحديثنا عن سلامة النص القرآني يقتضي دحض أي ادعاء مغاير، ورد أي اتجاه مناوئ، وهذا يدعو إلى تصفية دعاوى التحريف وتفنيد أباطيلها من الوجوه كافة.
ودعاوى التحريف لدى غربلتها، ودراسة مظاهرها، نجدها تتردد بين عدة ظواهر هي:
الادعاءات، الافتراضات، أخبار الآحاد، الاتهامات، الشبهات، المحاولات.(1/147)
ودعاوى التحريف لدى غربلتها، ودراسة مظاهرها، نجدها تتردد بين عدة ظواهر هي:
الادعاءات، الافتراضات، أخبار الآحاد، الاتهامات، الشبهات، المحاولات.
ورصد هذه الظواهر يحتم مسايرة الموضوع لجزئياتها، ولدى مسايرة الموضوع بجزئياته، والظواهر بحيثياتها، تجلى بطلان قسم منها، وفشل القسم الآخر، وتعثر الجزء الأخير في تحقيق الدعوى.
وسنقف عند هذه الظواهر وقفة المقوم المتحدي، والناقد الموضوعي.
أولا: الادعاءات، ويثيرها عادة زمرة من المستشرقين دون أساس يعتمد عليه، حتى بدا بعضهم مترددا متخاذلا، والبعض الآخر متحاملا.
فمع الجهد الكبير الذي بذله المستشرق الألماني الدكتور تيودور نولدكه (1836م 1930م) في كتابه القيم عن تأريخ القرآن إلا أننا نجد موقفه أحيانا غريبا ومتناقضا، ففي الوقت الذي يعقد فيه بكتابه فصلا بعنوان: (الوحي الذي نزل على محمد ولم يحفظ في القرآن) والذي يبدو فيه قائلا بالتحريف تلميحا، نجده يصرح بذلك في مادة قرآن بدائرة المعارف الإسلامية فيقول: «إنه مما لا شك فيه أن هناك فقرات من القرآن ضاعت ويثني على هذا الموضوع الخطي في دائرة المعارف البريطانية، مادة قرآن فيقول: «إن القرآن غير كامل الأجزاء» (1).
وجملة ما أثاره لا يعدو الادعاءات التي يصعب معها الاستدلال المنطقي، ويبدو أن نولدكه قد تنازل عن آرائه وتراجع عنها شيئا ما، فحينما ظهر كتاب المستشرق الألماني «فوللرز» عن لغة الكتابة واللغة الشعبية عند العرب القدماء، أثار نقاشا حادا، فقد زعم «فوللرز» في كتابه هذا أن القرآن الكريم قد ألف بلهجة قريش، وأنه قد عدّل وهذب حسب أصول اللغة الفصحى في عصر ازدهار الحضارة العربية، وقد انبرى نولدكه نفسه للرد عليه موضحا أن كلامه عار من الصحة والتحقيق العلميين (2).
__________
(1) المؤلف، المستشرقون والدراسات القرآنية: 30وانظر مصدره.
(2) ظ: آلبرت ديتريش، الدراسات العربية في ألمانيا: 13.(1/148)
ثم قرر نولدكه بعد هذا أن النص القرآني يعتبر على أحسن صورة من الكمال والمطابقة (1).
لقد فتح (نولدكه) الطريق أمام القول بتحريف القرآن، ثم بدا مدافعا عنه، مما بدا فيه متناقضا بين السلب والإيجاب في الموضوع.
وإذا كان ما قدمه الأستاذ نولدكه قد تضاءل قيمة نظرا لتردده في الأمر، وعدم وضوح الرؤية له فيه، فإن ما كتبه الأستاذ بول بكثير من عدم التورع، لا يمكن أن يتهاون فيه.
لقد ألقت مسألة التحريف التي أثارها بعض المستشرقين، عند الأستاذ بول بثقلها، فكتب عنها بحثا في دائرة المعارف الإسلامية الألمانية (2).
اعتبر بول التحريف تغييرا مباشرا لصيغة مكتوبة، وأن الأمر الذي حدا بالمسلمين إلى الاشتغال بهذه الفكرة هو ما جاء بالقرآن من آيات اتهم فيها محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم اليهود وبتغيير ما أنزل إليهم من كتب وبخاصة التوراة.
ولكن عرضه للوقائع والشرائع التي جاءت في التوراة انطوى على إدراك خاطئ أثار عليه النقد والسخرية من جانب اليهود، فكان في نظرهم مبطلا.
وقد خلط (بول) في هذا البحث خلطا غير متناسق، واكبته فيه النزعات المنحرفة، وصاحبه إسراف وإفراط لا يمتان إلى استكناه الحقائق بصلة.
والذي يهمنا من بحثه أن نشير إلى ما يلي (3):
أإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يرد الحصول على تأييد أهل الكتاب بالمعنى الذي أشار إليه، وإنما هو تعبير عن وحدة الديانات والشرائع والأنبياء في جميع الأطوار، وأن أصول هذه الديانات واحدة، وإن تغيير هذه الحقيقة
__________
(1) ظ: نولدكه. تأريخ القرآن: 2/ 93.
(2) ظ: بول، دائرة المعارف الإسلامية الألمانية: 4/ 608604.
(3) ظ: المؤلف، المستشرقون والدراسات القرآنية: 4140.(1/149)
الواقعة يعتبر تحريفا بالمعنى الذي أشار إليه القرآن: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوََاضِعِهِ} (1).
ب إن الألفاظ التجريحية التي وردت في المقال بالنسبة للرسول الأعظم لا تتفق مع المنهج الموضوعي، فقد أشار بل صرح بأن القرآن من تلقاء نفس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنه تحدث في القرآن بطريقة مبهمة، وأن محمدا يستعمل لفظ حرف بدل القرآن.
وهذه مواد لا يفترض بعالم أن يتولى التحدث بها بأسلوب الغمز واللّمز، وهو ما لا يقبل في بحث علمي، ولسنا نرى ذلك غفلة أو هفوة بل هو تغافل وجفوة.
ج ادعى الباحث أن خصوم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذوا عليه نسخ بعض أحكام القرآن بأحكام أخرى، مما حدا بعلماء المسلمين أن يذهبوا مذاهب شتى في تقديرهم للحقائق التي يقوم عليها هذا الاتهام.
وبإيجاز نقول: إن نسخ الأحكام شيء، والتحريف شيء آخر، فالنسخ لا يكون تحريفا، وإنما هو إحلال لحكم مكان حكم، أو رفع لحكم من الأحكام من قبل الله تعالى، تخفيفا عن العباد، أو رعاية لمصلحة المسلمين، أو استغناء عن حكم موقوت بحكم مستديم، وما أشبه ذلك مما يتعلق بالشريعة أو بمعتنقيها، ولا مجال إلى الطعن في هذه الناحية على ادعاء التحريف في القرآن.
د يقول الباحث، وهو يضرب على وتر حساس: «وقد أثيرت تهمة التحريف فيما وقع من جدل بين الفرق الإسلامية المختلفة. فالشيعة يصرون عادة على أن أهل السنة قد حذفوا وأثبتوا آيات في القرآن بغية محو أو تفنيد ما جاء فيه من الشواهد، معززا لمذهبهم، وقد كال أهل السنة بطبيعة الحال نفس التهمة للشيعة» (2).
وهنا آثار مسألة مهمة في أقدس أثر من تراث المسلمين، ولم يعط
__________
(1) النساء: 46.
(2) ظ: بول، دائرة المعارف الإسلامية الألمانية: 4/ 608.(1/150)
دليلا واحدا على صحتها، ولم يثبت مرجعا واحدا يتتبع هذا الاتهام.
والمسلمون جميعا قد اتفقوا على سلامة القرآن من التحريف وتبادل الاتهامات كما سترى فيما بعد، لا يغير من الحقيقة شيئا، وقد كان الأجدر بالباحث أن يتناول الموضوع بشكل آخر، فيعرض إلى آراء المسلمين بخلو القرآن من التحريف، بدلا من تجريح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونسبة ما لم يكن إلى المسلمين.
إن مما يؤسف له حقا أن يستغل (بول) نصا من نصوص القرآن في إدانة اليهود (النساء / 46) ليبني عليه حكما طائشا على إدراك خاطئ، فيعتبر التحريف تغييرا مباشرا لصيغة مكتوبة في القرآن، ولكنه لم يعطنا نموذجا واحدا على هذا التغيير المباشر، وهذا المنظور الفاضح لم يوافقه عليه حتى المستشرقون أنفسهم، فهناك بضع شهادات لكبار علماء الاستشراق العالمي، تؤكد سلامة النص القرآني من التحريف والتغيير والتبديل، دون كتب الديانات الأخرى.
وقد أورد أبو الحسن الندوي جملة من نصوص وأسماء المستشرقين في هذا الموضوع (1).
إن كثيرا من الأحكام الاستشراقية قد تمليها نزعات عدائية حينا، وتبشيرية حينا آخر، وهنا يكمن الخطر فيجب والحالة هذه أن يعامل الحكم الاستشراقي بكثير من الحذر.
ثانيا: الافتراضات: على مدعي التحريف أن يحدد زمن وقوع التحريف كافتراض أولي لإثارة أصل المشكلة، وإذا أخفق في تحقيق هذا الافتراض بطلت الدعوى من الأساس.
والتحريف المدعي: إما أن يقع في عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإما في عهد الشيخين، وإما في عصر عثمان، وإما زمن الإمام علي عليه السّلام، وإما في الحكم الأموي، إذ لا يخلو ذلك عن أحد هذه الأزمنة، إذ لم يدع أحد
__________
(1) ظ: الندوي، النبي الخاتم: 3130.(1/151)
على ما افترض وقوع التحريف بعد العصر الأموي.
أما الافتراض الأول، وهو وقوع التحريف في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فباطل إجماعا، بما تبين لنا من مدارسة ظاهرة الوحي ومعطياتها، فقد ثبت أن الوحي منفصل عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في شخصيته المستقلة، وأنه مؤتمن على الرسالة، وقد أداها متكاملة غير منقوصة بنص القرآن الكريم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلََامَ دِيناً} (1).
فلو كان هناك ما يمنع من الكمال، لما أيده القرآن، وأي مانع عنه أفظع من إباحة التحريف في النص الذي ثبت إعجازه، وكان دليل رسالته، وبرهان دعواه، فهذا الافتراض إذن مرفوع عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعن البيئة التي رافقت القرآن في عصره إذ كان الحاكم والمشرع والآمر.
وأما ادعاء وقوعه في زمن الشيخين، فلم يعضده دليل نصي أو عقلي، وحرص الشيخين على النص القرآني أشهر من أن يذكر، فالدعوى باطلة.
وأما في عهد عثمان، فعثمان هو الذي وجد المصحف على لغة قريش، والقراءات التي سبقت هذا التوحيد كانت اجتهادية في أغلب الظن، ومظنة الخطأ لو وقعت في الاجتهاد، فلا أساس لها في مس القرآن الكريم، وانتشار القرآن آنذاك مانع كبير من أن يقع عليه شيء من التحريف، وقد تعرض عثمان لثورة مضادة، فما ادعى عليه شيء من هذا القبيل على الإطلاق، فالدعوى إذن باطلة.
وأما في عهد الإمام علي عليه السّلام فلا يصح أن يقع التحريف للأسباب المتقدمة، ولاعتبارات أخرى:
1 - إنّ حريجة الإمام علي عليه السّلام في الدين بل وفي الجزئيات التشريعية معلومة الحال، فكيف تجاه أصل الدين، ونظام الإسلام، وهو القرآن، فلو سبق أن امتدت له يد التحريف، لما وقف مترددا في إرجاع الحق إلى
__________
(1) المائدة: 3.(1/152)
نصابه، وإلغاء سمات التحريف، فكيف يصح أن يقع في عهده، وهو من هو في ذات الله.
2 - إن الإمام علي عليه السّلام احتج بالقرآن على أهل الجمل، ودعي إليه في التحكيم مع أهل صفين، فلو كان في القرآن ما ليس منه، أو أنه لم يشتمل على كل القرآن، لما صح له به الاحتجاج، ولا قبوله في التحكيم، وهذا أمر مشهور لا يحتاج معه إلى برهان.
3 - إن خطب الإمام علي عليه السّلام في نهج البلاغة، تشير إلى القرآن في كثير من التفصيلات هداية واسترشادا وتوجيها للناس، فلو كان هناك مما يدعي شيء لأبان ذلك على الأقل وأنكره، ولاحتج فيه على من تقدمه، فلما لم يفعل ذلك علمنا بسلامة القرآن.
«أما دعوى وقوع التحريف بعد زمان الخلفاء لم يدعها أحد فيما تعلم، غير أنها نسبت إلى بعض القائلين بالتحريف، فادعى أن الحجاج لما قام بنصرة بني أمية أسقط من القرآن آيات كثيرة كانت قد نزلت فيهم
وهذه الدعوى تشبه هذيان المحمومين فإن الحجاج واحد من ولاة بني أمية، وهو أقصر باعا، وأصغر قدرا من أن ينال القرآن بشيء، بل وهو أعجز من أن يغير شيئا من الفروع الإسلامية، فكيف يغير ما هو أساس الدين وقوام الشريعة، وكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرخ في تأريخه» (1).
إذن فالافتراضات الموهومة جميعا لا تقوم على أساس علمي أو عقلي، فهي مرفوضة جملة وتفضيلا، بعد أن ثبت بطلانها جزئية جزئية، وفرضية فرضية.
ثالثا: الروايات، والتي عبرنا عنها بأنها أخبار أحاد، وهو كذلك، فهي متناثرة هنا وهناك، ويستنتج منها وقوع التحريف تصريحا أو تلميحا، ولكنها لا تصلح دليلا في قضية، ولا برهانا على دعوى، إذ لم تبلغ حد
__________
(1) الخوئي، البيان: 219.(1/153)
الشهرة فضلا عن التواتر، ولأن الضعف الكذب والتدليس واضح الإمارات في الرواة، والاضطراب والتناقض متوافر في الأسانيد، وأبرزها كالتالي:
1 - نسبوا إلى ابن مسعود (رض) أنه أسقط سورة الفاتحة من مصحفه (1).
أقول وهي رواية يجوز معها الشك والسهو والنسيان وإن لم نقل الكذب للأسباب التالية:
أقال ابن حزم: هذا كذب على ابن مسعود (2).
ب إنها معارضة بقراءة ابن مسعود لها في الصلاة، ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب.
ج إن صحت الرواية، فقد غلب على ظن ابن مسعود أن الفاتحة لا يمكن أن تنسى لوجوب تعلمها على المسلمين كافة، وإن ما كتب من القرآن كان لمخافة النسيان والضياع.
د إن مصحف ابن مسعود وأمثاله ليست إلا مصاحف فردية، كمن يكتب لنفسه سورة، ويغفل سورة، فإن سقط من مصحفه شيء فلا ينسحب ذلك على القرآن.
هـ إن المصحف الإمام المتداول بالأمس واليوم عند المسلمين قد اشتمل على الفاتحة، فلا تحريف إذن بهذا الملحظ.
ويبدو لي أن الرواية مكذوبة على ابن مسعود جملة وتفصيلا للإيهام بدافع سياسي فلا تحريف إذن بهذا الملحظ.
ويبدو لي بأن عدم اشتراكه عند جمع المصحف كما يدعى كان لهذا ولأمثاله.
2 - ما أورده السيوطي وغيره، أن هناك سورتين لم تكتبا بالمصحف، وهما سورة الحفد وسورة الخلع، وذلك عند الجمع، وقد علمهما علي وعمر، وكان أبي يقنت بهما على ما أورده المروزي، وأنه كان قد كتبهما في مصحفه، وهناك طائفة من الصحابة تستظهرهما وتقرؤهما في الصلاة أو القنوت (3).
__________
(1) السيوطي، الاتقان: 1/ 83.
(2) المصدر نفسه: 1/ 221.
(3) ظ: السيوطي، الاتقان: 1/ 184وما بعدها.(1/154)
ويرد على هذه الروايات ما يلي:
أإننا قد رجحنا أن يكون القرآن مجموعا في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإذا ثبت ذلك بطلت هذه الدّعاوى.
ب لو أن عليا وعمر، كانا قد علما بأن هاتين سورتان، فما يمنعهما من إلحاقهما بالمصحف، وهما من القوة بحيث لا يستطيع أحد معارضتهما مجتمعين إطلاقا.
ج لو كان الإمام علي عليه السّلام يعلم هاتين السورتين، فلم لم يشر بهما إلى أحد ذريته وشيعته لحفظهما من الضياع، وذلك في عهد خلافته، ولا رواية واحدة تدل على ذلك.
د إن السياق الجملي للسورتين المزعومتين، لا يتناسب مع مناخ القرآن البلاغي، ولا أسلوبه الإعجازي، ولا لغته المتميزة، فلغة القرآن «سبوح لها منها عليها شواهد، ولغة هاتين السورتين الموهومتين لغة دعاء مجرد» (1).
3 - نسب إلى عكرمة أنه قال: لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان، فوجد حروفا من اللحن، فقال: لا تغيروها، فإن العرب ستغيرها، أو قال ستعربها بألسنتها» (2).
ولا دلالة في هذا على التحريف إطلاقا، وإذا صح، ففيه دلالة على اشتباه الكتبة، ولكن الأمر المشكل فيها هو لماذا أمر عثمان بعدم تغييرها، ولماذا لا يكون هذا الأمر مخترعا لا سيما وأن الرواية منقطعة غير متصلة لأن عكرمة هذا لم يسمع من عثمان شيئا بل لم يره كما يرى ذلك (3)
4 - روى ابن عباس عن عمر أنه قال: «إن الله عزّ وجلّ بعث محمدا بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان مما أنزل إليه آية الرجم، فرجم
__________
(1) ظ: نص هاتين السورتين في: السيوطي، الاتقان: 1/ 184وما بعدها.
(2) المصدر نفسه: 1/ 183.
(3) ظ: الداني، المقنع: 115.(1/155)
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ورجمناه بعده، ثم قال: كنا نقرأ: (ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم) أو: (إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم) (1).
ويرد على هذه الرواية ما يأتي:
ألم ترو هذه الرواية متواترة عن عمر، وإنما رويت بطريق الآحاد، وهي بعيدة الصدور عن عمر، إذ لو اعتقد أنها آية (آية الرجم) لأثبتها لأنه كان يحتل الموقع الأول في الدولة مع وجود أبي بكر، وأية قوة تقف في صدر عمر إذا أراد شيئا آنذاك، وعلى فرض صحة وجود الآية فلا دلالة فيها على التحريف لأنها من نسخ التلاوة، وإن كنا نعارضه. ونعتبره أساسا للقول بالتحريف.
ب إن حكم الرجم ثابت في السنة، ولا يعني ذلك أن ما ثبت في السنة ثابت في القرآن، بل كلاهما يشكلان أساس التشريع. وهناك جملة من الأحكام كانت السنة أصلا لها ولا ذكر لها في القرآن كإعداد الصلاة، وبعض مراسيم الحج، وأنصبة الزكاة، وهكذا.
5 - روى عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت: «كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر إلا ما هو الآن» (2).
ويرد على هذه الرواية إشكالان:
أإن عروة بن الزبير ضعيف الرواية.
ب لو كانت عائشة وهي أم المؤمنين ومسموعة الكلمة، ولها أثرها في الدولة الإسلامية آنذاك تعتقد هذا الأمر فلماذا أخفته، وحينما عارضت عثمان لماذا لم تذكر في معارضتها هذا الأمر وهو خطير جدا.
فالأحرى إذن أن تكون الرواية موضوعة لا أصل لها.
6 - قال لبيب السعيد في نفي أدلة التحريف وذكر رواياتها: ما ادعاه
__________
(1) مسند أحمد: 1/ 47.
(2) السيوطي، الاتقان: 2/ 40.(1/156)
بعض الغلاة المنتسبين إلى الشيعة: أن عليا عليه السّلام جمع القرآن فكان فيه ما سموه «فضائح المهاجرين والأنصار» وأن عمر طلب إلى زيد بن ثابت أن يسقط من القرآن هذه الفضائح (1).
وهذه الرواية ظاهرة النحل والبطلان من وجوه:
أإن الروايات متظافرة على جمع الإمام علي للقرآن حتى سمي ذلك بمصحف علي، وهذا المصحف لا يختلف عن مصاحف بقية الصحابة ممن جمعوا القرآن، ولا عن القرآن المعاصر بشيء، لأن الإمام علي عليه السّلام كان قد ولي الخلافة، ولو كان في القرآن شيء منه لم يثبت لأثبته وفق ما يراه وهو الإمام الحاكم آنذاك.
ب قد يستفاد من كثير من النصوص كما أسلفنا القول فيه (2) أن الإمام علي عليه السّلام قد جمع القرآن ورتبه تأريخيا بحسب النزول وأسبقيته، ولا مانع من هذا، كما أنه قد قسمه على سبعة أجزاء بحسب ما أثبته الزنجاني بعنوان (ترتيب السور في مصحف علي) وقد طبع في لايبزك عام 1871 م (3).
ومع هذا فلا تختلف سور القرآن ونصوصه عن مصاحف المسلمين في شيء، إلا أنه قد يجمع التأويل إلى جنب التنزيل كما سترى هذا فيما بعد في دفع الشبهات فيكون مصحفة قد اشتمل على التأويل الصادر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخبر به الإمام، أو الصادر عنه هو بالذات مضافا إلى أصل القرآن الكريم، ومن قال بغير هذا فأهل البيت والإمامية برآء منه.
ج كيف يصح أن تكون هناك سور وآيات قد فاتت جميع المسلمين، والقرآن منتشر بين ظهرانيهم، ولم يستطع أحد أن يحفظ منها شيئا، وقد سبق لنا القول بأن حفاظ القرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمئات (4).
__________
(1) لبيب السعيد، الجمع الصوتي الأول للقرآن.
(2) ظ: فيما سبق: الفصل الثاني: نزول القرآن.
(3) ظ: الزنجاني، تأريخ القرآن: 7369.
(4) ظ: فيما سبق. الفصل الثالث: جمع القرآن.(1/157)
د إن ما قدمه المهاجرون والأنصار للإسلام والقرآن يعدّ مفخرة وأي مفخرة بحد ذاته، فما هو الذنب الذي اقترفه هؤلاء في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فرادى أو مجتمعين، حتى ينزل فيهم ما يسمها بالفضائح، وهب أن معدودين تجاوزوا حدودهم، فما نصنع بأولئك الذين يقول فيهم القرآن جهارا نهارا في سورة الفتح:
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللََّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدََّاءُ عَلَى الْكُفََّارِ رُحَمََاءُ بَيْنَهُمْ تَرََاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللََّهِ وَرِضْوََاناً سِيمََاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذََلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرََاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى ََ عَلى ََ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرََّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفََّارَ وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً 29} (1).
قال الأستاذ لبيب السعيد: «وعندي أن نسبة هذه المزاعم إلى الشيعة بعامة هو قول تنقصه الدقة فضلا عن الصحة. فهذه طائفة من علماء الشيعة يتبرءون من هذه المزاعم» (2).
7 - روى المسور بن مخرمة: «قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: ألم تجد فيما أنزل علينا: (أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة) فإنا لا نجدها.
قال: أسقطت فيما أسقط من القرآن» (3).
ويرد على هذه الرواية أمران:
الأول: ما هي القيمة الكبرى التي يتمتع بها عبد الرحمن بن عوف في المجتمع الإسلامي آنذاك ولا يتمتع بها عمر حتى يسأله عن شيء يجيبه به عبد الرحمن بأنه أسقط فيما أسقط من القرآن.
الثاني: من هؤلاء القوم الذين أسقطوا من القرآن ما هو منهم، وكيف يصح التصديق بمثل هذه الأباطيل.
وهناك روايات تجري بهذا المضمار أعرضنا عن ذكرها، ولا كبير أمر
__________
(1) الفتح: 29.
(2) لبيب السعيد، الجمع الصوتي الأول للقرآن: 449.
(3) السيوطي، الاتقان: 2/ 42.(1/158)
بمناقشتها، إذ لا تختلف عما تقدم أملاها الكذب والاستهانة بمقدرات الكتاب العظيم. وجميعها لا يشكل دليلا واحدا مقنعا على دعوى التحريف.
وفي نهاية هذا الجانب نشير أن صاحب كتاب المباني قد عقد فصلا قيما في مقدمته بعنوان الفصل الرابع: (في بيان ما ادعوا على المصحف من الزيادة والنقصان والخطأ والنسيان والكشف عنها بأوجز بيان).
وقد تتبع فيه هذا الباب تتبعا إحصائيا وفند فيه مزاعم التحريف (1).
رابعا: الاتهامات، يبدو أن العصر العباسي الأول قد اختار لدوافع سياسية أن ينمي روح التفرقة والخلاف بين مختلف المسلمين، وأن يخلق من قضايا جزئية متواضعة أمورا كلية مهمة، فنشأ عن ذلك القول بخلق القرآن بين قدمه وحدوثه، وما جر ذلك من الولايات بين المسلمين على أنها قضية فكرية، ويومها وجدنا التيارات تتقاذف بالآراء على السطح، لتصم هذا بالكفر تارة، وغيره بالنفاق تارة أخرى، وسواهما بالزندقة أحيانا، ونشأت هذه البذرة الخبيثة بين صفوف المسلمين، ووجدت لها مناخا صالحا في تربة العصر العباسي الثاني، حيث عمّق الفرقة، وعصف بالوحدة، فكانت الاتهامات المتبادلة تحبك بالظلام فتلقي بجرانها بين المسلمين، فينقض هذا ما أبرم ذلك، ويردّ ذلك على اتهامات ذه.
وقد وجدت مسألة القول بالتحريف من هذه المسائل، إذا استثنينا القول بنسخ التلاوة، فكل طائفة من المسلمين تنزه نفسها عن القول بها، وبعض المذاهب تنسب القول بها إلى البعض الآخر، وبالنتيجة تجد الجميع يبرءون منها، وهذا هو الصحيح.
فالقاضي أبو بكر الباقلاني (ت: 403هـ) يكيل في نكت الانتصار السباب والتهم دون حساب لشيعة أهل البيت عليهم السّلام في القول بالزيادة والنقصان وعقد لذلك عدة أبواب (2) من كتابه لا تقوم على أساس علمي على الإطلاق، ولا تخدم القرآن ولا المسلمين في كل الأحوال.
__________
(1) مقدمتان في علوم القرآن: 11678.
(2) ظ: الباقلاني، نكت الانتصار: 24223910395وغيرها.(1/159)
بينما وجدنا الطبرسي (ت: 548هـ) ينسب الزيادة والنقصان فيه إلى الحشوية من العامة (1).
إن ما يؤخذ به هو الاعترافات لا الشهادات التي نجدها هنا وهناك وقد لا تمثل واقعا، ولا تدفع شبهة، إن الروايات المتقدمة لم يقل بها الإمامية، ولم يؤيدها الجمهور، والدفاع عنها، أو تبني نسخ التلاوة منها، يمهد السبيل إلى القول بالتحريف، وردّها يعني تزييف مضامينها.
أوفي هذا الضوء كان ما قرره السيد الخوئي جديرا بالاعتبار، قال:
«المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف، وأن الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الأعظم وقد صرح بذلك كثير من الأعلام، منهم رئيس المحدثين الصدوق محمد بن بابويه، وقد عدّ القول بعدم التحريف من معتقدات الإمامية، ومنهم شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، وصرح بذلك في أول تفسيره «التبيان» ونقل القول بذلك أيضا عن شيخه علم الهدى السيد المرتضى، واستدلاله على ذلك بأتم دليل، ومنهم المفسر الشهير بالطبرسي في مقدمة تفسيره «مجمع البيان»، ومنهم شيخ الفقهاء الشيخ جعفر كاشف الغطاء في بحث القرآن من كتابه «كشف الغطاء» وادّعى الإجماع على ذلك، ومنهم العلامة الجليل الشهشهاني في بحث القرآن من كتابه «العروة الوثقى» ونسب القول بعدم بالتحريف إلى جمهور المجتهدين. ومنهم المحدث الشهير المولى محسن القاشاني في كتابيه (الوافي وعلم اليقين). ومنهم بطل العلم المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي وفي مقدمة تفسيره «ألاء الرحمن».
وقد نسب جماعة القول بعدم التحريف إلى كثير من الأعاظم، منهم شيخ المشايخ المفيد، والمتبحر الجامع الشيخ البهائي، والمحقق القاضي نور الله، وأحزابهم» (2).
ب وتأسيسا على ما تقدم، فقد نفى السيد المرتضى علم الهدى (ت: 436هـ) القول بالتحريف جملة وتفصيلا فقال: «إن العلم بصحة نقل
__________
(1) الطبرسي، مجمع البيان: 1/ 15.
(2) الخوئي، البيان: 200وما بعدها.(1/160)
القرآن كالعلم بالبلدان، والحوادث الكبار، والوقائع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت، والدواعي توفرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حد لم يبلغه فيما ذكرناه، لأن القرآن معجزة النبوة ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد إن العلم بتفسير القرآن وأبعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته، وجرى ذلك مجرى ما عم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه والمزني، فإن أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما، حتى لو أن مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا في النحو ليس من الكتاب لعرف وميّز وعلم أنه ملحق، وليس من أصل الكتاب، وكذلك القول في كتاب المزني، ومعلوم أن العناية بنقل القرآن وضبطه، أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعر» (1).
ج قال: الشيخ الطوسي (ت: 460هـ) في مقدمة تفسيره:
«المقصود من هذا الكتاب علم معانيه، وفنون أغراضه، وأما الكلام في زيادته ونقصانه فما لا يليق به أيضا، لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها. والنقصان منه فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق الصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى رحمة الله، وهو الظاهر في الروايات، غير أنه رويت روايات كثيرة، من جهة الخاصة والعامة، بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا، والأولى الإعراض عنها، وترك التشاغل بها، لأنه يمكن تأويلها» (2).
د وقال الفضل بن الحسن الطبرسي (ت: 548هـ):
«ومن ذلك الكلام في زيادة القرآن ونقصانه، فإنه لا يليق بالتفسير،
__________
(1) الطبرسي، مجمع البيان: 1/ 15.
(2) الطوسي، التبيان: 1/ 3.(1/161)
فأما الزيادة فيه فمجمع على بطلانها، وأما النقصان منه، فقد روى جماعة من أصحابنا، وقوم من حشوية العامة: أن في القرآن تغييرا أو نقصانا، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى قدس الله روحه، واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات» (1).
هـ وتعرض أعلام المعاصرين للمسألة ويهمنا رأي كل من:
1 - السيد محسن الحكيم، وهو يصرح: «إن سلف المسلمين كافة، وعلماء الإسلام عامة، منذ بدأ الإسلام إلى يومنا هذا، يرون أن القرآن في ترتيب سوره وآياته، هو كما بين أيدينا، ولم يعتقد أحد من السلف في التحريف» (2).
2 - السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، وهو يقول: «إن أي حديث، حول أي تحريف في القرآن، لا يعدو أن يكون خرافة، فإن القرآن الكريم لم يعتره أي تغيير من أي نوع» (2).
وفي ضوء ما تقدم من هذه الأقوال الصريحة من قبل أعاظم علماء الاسلام، لا يبقى أدنى شك، في أن لغة الاتهام والتهجم لا يكتب لها الاستمرار في التضليل، لهذا فقد كان الدكتور محمد عبد الله دراز مخطئا إن لم يكن مفتريا بقوله: «ولقد ظن بعض الشيعة أن عثمان قد بدل في نص القرآن، أو أنه على وجه التحديد أسقط شيئا يتعلق بعلي بن أبي طالب» (3).
فإنه لم يثبت مرجعا واحدا لاتهامه هذا بل على العكس من ذلك، فقد أورد ما يناقض زعمه، وأورد رأي الشيخ الطوسي بقوله:
«ومهما يكن من أمر، فإن هذا المصحف هو الوحيد المتداول في العالم الإسلامي بما فيه فرق الشيعة منذ ثلاثة عشر قرنا من الزمان.
__________
(1) الطبرسي، مجمع البيان: 1/ 15.
(2) لبيب السعيد، الجمع الصوتي الأول للقرآن: 451وما بعدها وانظره مصدره.
(3) محمد عبد الله دراز، مدخل إلى القرآن الكريم: 39.(1/162)
ونذكر هنا رأي الشيعة الإمامية (أهم فرق الشيعة)، كما ورد بكتاب أبي جعفر الأم:
«إن اعتقادنا في جملة القرآن الذي أوحى به الله تعالى إلى نبيه محمد هو كل ما تحتويه دفتا المصحف المتداول بين الناس لا أكثر، وعدد السور المتعارف عليه بين المسلمين هو (114) سورة، أما عندنا فسورتا الضحى والشرح تكونان سورة واحدة، وكذلك سورتا الفيل وقريش، وأيضا سورتا الأنفال والتوبة. أما من ينسب إلينا الاعتقاد في أن القرآن أكثر من هذا فهو كاذب» (1).
وهنا يتجلى أن الاتهامات التي لا تستند إلى أصل وثيق، تذهب أدراج الرياح.
خامسا: الشبهات، قد يتذرع القائلون بالتحريف بتوافر بعض الشبهات الدالة على ذلك، وليس في هذه الشبهات كما سترى أدنى دليل على ما يدعون، وسنشير إلى أهمها، ونتعقب ذلك بالرد والدفع والمناقشة (2).
أإن التحريف سنة قد جرت في حياة الأمم السابقة، والقرون الغابرة، فاشتمل حتى على التوراة والإنجيل وسائر الكتب الدينية، فلم لا يشمل القرآن ما شمل غيره.
وللرد على هذه الشبهة نرصد ما يلي:
1 - ليس من سنة الكون التحريف، ولا من طبيعة خرق النواميس الحقة، فموجده أتقن كل شيء صنعا، وأنزله بمقدار، ولا يمثل سنة الكون من يتلاعب بمقدراته من شعوب وأمم وقبائل وأجيال.
2 - إن التوراة والإنجيل لم يتعهد الله سبحانه وتعالى كشأن الكتب السماوية الأخرى بحفظهما، ولا بصيانتهما، وإنما أو كل ذلك البشر، محنة منه وابتلاء على طاعته أو معصيته، فاستحفظ على ذلك الأحبار والربانيين بدلالة قوله تعالى:
__________
(1) المرجع نفسه: 39وما بعدها، وانظر مصادره.
(2) ظ: الخوئي، البيان: 220وما بعدها في ذكر مجمل ومفصل هذه الشبه.(1/163)
{إِنََّا أَنْزَلْنَا التَّوْرََاةَ فِيهََا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هََادُوا وَالرَّبََّانِيُّونَ وَالْأَحْبََارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتََابِ اللََّهِ وَكََانُوا عَلَيْهِ شُهَدََاءَ فَلََا تَخْشَوُا النََّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلََا تَشْتَرُوا بِآيََاتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْكََافِرُونَ 44} (1).
3 - إن القرآن نزل على سبيل الإعجاز الدائمي فوجب حفظه تأبيدا، وتلك الكتب جاءت للبيان التوقيتي فلا يستلزم حفظها كحفظه، ولم يرد أنها نازلة على سبيل الإعجاز والتحدي.
ب هناك روايات تشير صراحة إلى أن كل ما وقع في الأمم السابقة، لا بدّ أن يقع في هذه الأمة، ومنه التحريف، بدلالة ما
روي عن الإمام الصادق عليه السّلام:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كل ما كان في الأمم السالفة، سيكون في هذه الأمة مثله، حذو النعل، بالنعل، والقذة بالقذة» (2).
وغير هذه من الروايات الدالة على هذا المعنى ويرد عليها ما يلي:
1 - إن هذه الروايات أخبار آحاد، ولم يدع فيها التواتر، وإذا كان الأمر كذلك فإنها لا تفيد علما ولا عملا.
2 - على فرض صحة هذه الروايات فإنها تدل على مشابهة الأحداث من بعض الوجوه بين الأمم لا في كل جزئياتها وتفصيلاتها فإن وقع التحريف عندها في كتبها، فيكفي في وقوع التحريف في هذه الأمة عدم اتباعهم لحدود القرآن وإن أقاموا حروفه (3).
3 - هناك كثير من الوقائع التي حدثت في الأمم السابقة ولم تقع في أمة محمد، ولم تصدر من المسلمين أمثالها ونظائرها، كعبادة العجل، وتيه بني إسرائيل، وغرق فرعون، وملك سليمان عليه السّلام، ورفع عيسى عليه السّلام إلى السماء، وموت هارون عليه السّلام وهو وصي موسى عليه السّلام قبل موت موسى عليه السّلام نفسه، وولادة عيسى عليه السّلام من غير أب، وعذاب الاستئصال وغيرها (3).
__________
(1) المائدة: 44.
(2) المجلسي، بحار الأنوار: 8/ 4.
(3) ظ: الخوئي، البيان: 221.(1/164)
ج تشير روايات الأئمة من أهل البيت عليهم السّلام إلى أن عليا كان له مصحف غير المصحف المتداول، وهذا يعني التغاير بين المصحفين، أو فرضية الزيادة والنقصان بين النصين، وروايات هذا الباب كثيرة، أبرزها،
قول الإمام علي عليه السّلام:
«يا طلحة إن كل آية أنزلها الله تعالى على محمد عندي بإملاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وخط يدي، وتأويل كل آية أنزلها الله تعالى على محمد وكل حلال أو حرام، أو حد، أو حكم، أو شيء تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة، فهو عندي مكتوب بإملاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وخط يدي، حتى أرش الخدش (1).
ومنها ما في احتجاجه عليه السّلام على الزنديق من أنه: «أتى بالكتاب كملا مشتملا على التأويل والتنزيل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، لم يسقط منه ألف ولا لام، فلم يقبلوا ذلك» (2).
ومنها ما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «سمعت أبا جعفر يقول ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما نزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده عليهم السلام» (2).
وفي التوفيق بين هذه الروايات وبين نفي التحريف عن القرآن الكريم، نرى أن الإمام علي عليه السّلام كما أسلفنا القول (3) قد جمع القرآن وفق ترتيب خاص، جمع فيه إلى جنب التنزيل التأويل، وفصل فيه بين الناسخ والمنسوخ، ورتب فيه السور أو الآيات ترتيبا تأريخيا بعناية زمن النزول، ولكن لا يعني ذلك أي اختلاف أو تناقض بين ما جمعه وبين القرآن، وقد يستفاد من جملة روايات أخرى أنه أول من جمع القرآن بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مع كونه مجموعا في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وفق هذا الترتيب الذي لو صح، لقلنا إن ترتيب القرآن اجتهادي، أو أن الإمام علي عليه السّلام قد علم من
__________
(1) ظ: الخوئي البيان: 222وما بعدها وانظر مصادره.
(2) المصدر نفسه: 222وما بعدها.
(3) ظ: فيما سبق، الفصل الثاني نزول القرآن: الفقرة: 6من هذا الفصل.(1/165)
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما لم يعلمه غيره، فكان أن جمع القرآن كما أنزل،
فقد روى السدي عن عبد خير عن الإمام علي:
«إنه رأى من الناس طيرة عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأقسم أن لا يضع عن ظهره رداء حتى يجمع القرآن، قال: فجلس في بيته حتى جمع القرآن، فهو أول مصحف جمع فيه القرآن، جمعه من قبله، وكان عند آل جعفر» (1).
وليس في جميع الروايات دلالة على أن المجموع من قبل علي يختلف عن نص القرآن المتداول اليوم، إذ لو كان مخالفا له في شيء لظهر أيام خلافته أو عند ورثته من الأئمة عليهم السّلام، فلمّا لم يكن من هذا شيء يذكر، علمنا سلامة القرآن.
د وهناك بعض الروايات عن الأئمة تدل بظاهرها على التحريف، منها
ما رواه جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم:
«يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون، المصحف والمسجد والعترة. يقول المصحف: يا رب حرفوني ومزقوني، ويقول المسجد: يا رب عطلوني وضيعوني، وتقول العترة: يا رب قتلونا وطردونا، وشردونا» (2).
ومنها قول الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام: «اؤتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدلوه» (2).
ولا دليل في هذه الروايات على التحريف بالمعنى المشار إليه، فهي تحمل أن القرآن قد حرّف بحدوده وضوابطه، فهو لا يعمل به، ولم يحرف بنصوصه وأصوله، فهي ثابتة لم تتغير، وسالمة لم تتحرف، أمّا أن القرآن لا يعمل به، ويشتكي غدا عند الله، فهو ما تحمل عليه هذه الروايات دون سواه من المفاهيم.
هـ وهناك شبهة تتلخص في أن كيفية جمع القرآن بحسب روايات الجمع الموهوم بشهادة الشهود، وإقامة البينة، تستلزم نسيان بعض
__________
(1) الخوئي، البيان: 503.
(2) المصدر نفسه: 288وانظر مصادره.(1/166)
القرآن، إما بموت من معه شيء من القرآن فضاع، وإما على سبيل السهو والخطأ، وعدم الضبط، شأنه في ذلك شأن المجامع الأخرى التي تتعرض للطوارئ.
والإجابة عن هذه الشبهة ودفعها، نرى أن القرآن كما سبق بيانه (1)
قد جمع متكاملا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فانتفت الشبهة جملة وتفصيلا.
قال السيد المرتضى علم الهدى (ت: 436هـ):
«إن القرآن كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مجموعا، مؤلفا على ما هو عليه الآن، واستدلال على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنه كان يعرض على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويتلى عليه، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عدة ختمات، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مبتور ولا مبعوث، وأن من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث، نقلوا أخبارا ضعيفة، ظنوا صحتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته» (2).
سادسا: المحاولات، ما زلت أتذكر، قبل عشرين عاما خلت، ونحن طلبة في الجامعة، أن أستاذنا الجليل الدكتور أحمد عبد الستار الجواري عضو المجمع العلمي العراقي، قد لفت أنظارنا من على كرسي التدريس إلى حادث خطير، يجب على العرب والمسلمين أن يحتدوا طاقاتهم لمحاربته، والوقوف بحزم يدا واحدة لصده، وهو قيام إسرائيل بمحاولة جادة لتحريف القرآن. وأتذكر أيضا أننا أصبنا بما يشبه وقع الصاعقة، وقلبنا وجوه الاحتمالات في الموضوع، وبعد حين ظهر صدق الحديث، فقد جاء في الإعلام المصري ما يؤيد هذا النبأ الجلل، وقرأنا آنذاك عن الخطوات التي اتخذت تجاهه.
__________
(1) ظ: فيما سبق، الفصل الثالث جمع القرآن:.
(2) الطبرسي، مجمع البيان: 1/ 15.(1/167)
1 - في أيلول عام 1960م أفادت أنباء القاهرة: أن إسرائيل قد قامت بطبع مائة ألف نسخة من القرآن الكريم، وقد أدخلت عليها التحريف، وذلك بإحداث أكثر من ألف خطأ مطبعي ولفظي متعمد، في طبعة محرفة للقرآن، وقد تم توزيع هذه النسخ المحرفة في جملة من البلدان الآسيوية والإفريقية، كالمغرب، وغانا، وغينيا، ومالي، ودول أخرى. وقد اكتشفت سفارة الجمهورية العربية المتحدة في المغرب هذه المحاولة الأثيمة، فأشعرت بذلك السلطات في القاهرة، وبعثت إليها ببعض النسخ المحرفة (1).
2 - وكان نتيجة هذا العمل اطلاعنا على أبرز مظاهر التحريف المهمة، وهي كالآتي:
أحذف الآيتين التاليتين من القرآن الكريم، ومنع تدريسهما في مدارس العرب والمسلمين في الأرض المحتلة:
{لََا يَنْهََاكُمُ اللََّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقََاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيََارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمََا يَنْهََاكُمُ اللََّهُ عَنِ الَّذِينَ قََاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيََارِكُمْ وَظََاهَرُوا عَلى ََ إِخْرََاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ (9)} (2).
ب حذف كلمة «غير» لينقلب المعنى عكسيا من قوله تعالى:
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلََامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخََاسِرِينَ 85} (3).
ج حذف كلمتي «ليست» من الآية الكريمة:
{وَقََالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصََارى ََ عَلى ََ شَيْءٍ وَقََالَتِ النَّصََارى ََ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى ََ شَيْءٍ 113} (4).
__________
(1) ظ: جريدة الأهرام القاهرية عدد: 28ديسمبر 1960مجلة آخر ساعة، عدد: 11يناير 1961م، للمقارنة.
(2) سورة الممتحنة: 98.
(3) سورة آل عمران: 85.
(4) سورة البقرة: 113.(1/168)
د إبدال عبارة «والله عزيز حكيم» بعبارة «والله غفور رحيم» من قوله تعالى:
{وَالسََّارِقُ وَالسََّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمََا جَزََاءً بِمََا كَسَبََا نَكََالًا مِنَ اللََّهِ وَاللََّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 38} (1) (2).
3 - لقد أحدث هذا العمل ضجة في الجمهورية العربية المتحدة دون سواها من البلدان العربية والإسلامية آنذاك، وكان دور الأستاذ الأكبر محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر رحمه الله، دورا كبيرا مشرفا فبالإضافة إلى تشاوره مع وزير الأوقاف المصري في الإجراءات الاحترازية لصد هذه الظاهرة، وذلك بتشكيل لجنة مشتركة لمراجعة المصحف المحرّف، وتعرية الأخطاء المطبعية المعتمدة، وتحذير المسلمين من تداوله، فقد أرسل ببرقية إلى الرئيس جمال عبد الناصر يستشير حميته وغيرته، ومما جاء فيها:
«إن إسرائيل التي قامت على البغي والطغيان والاعتداء على المقدرات والمقدسات ما زالت تعيش في هذا البعث، وتحيا في إطار هذا الطغيان، وإنها بتحريفها القرآن الكريم تريد القضاء على معتقداتنا وديننا، وهي بذلك تمارس ما كان عليه آباؤهم من تحريف الكلم عن مواضعه ابتغاء كبت الدعوة الإسلامية وإعاقتها.
إن المسلمين في أنحاء الأرض يهرعون إليكم وكلهم أمل في قوة إيمانكم، وغيرتكم على دينكم أن تعملوا على حفظ كتاب الله، فتقفوا في وجه هذا العدوان الأثيم» (3).
4 - وفيما عدا مصر لم نجد صوتا حيويا للبلاد العربية والإسلامية لشجب هذا الاعتداء الساخر، باستثناء الإفتاء السوداني، والحكومة الأردنية.
__________
(1) المائدة: 38.
(2) ظ: في المقارنة بين ما أوردناه في كل من: سليمان حسف عبد الوهاب، تحريف اليهود للقرآن قديما وحديثا، مقال في جملة منبر الإسلام المصرية، عدد جمادي الآخرة، 1385 لبيب السعيد، الجمع الصوتي للقرآن: 473وما بعدها.
(3) جريدة الأهرام عدد: 29ديسمبر 1960جريدة الجمهورية القاهرة بالتأريخ نفسه.(1/169)
فقد أمر مفتي الديار السودانية موظفي المحاكم الشرعية وأصحاب المكتبات العامة بضرورة مراجعة المصاحف قبل تداولها للتأكد من سلامتها من التحريف، وذلك عن طريق تسرب هذا المصحف الذي نشرته إسرائيل (1).
وأصدرت الحكومة الأردنية بيانا استنكرت فيه جريمة التحريف، وبيّنت عرض إسرائيل على الدول الإفريقية التي وزعت فيها المصحف المحرف، أن ترسل لها من يقوم بتدريس اللغة العربية في إطار النسخة المشوهة من المصحف (2).
ولم تنجح المؤامرة الإسرائيلية في تحريف القرآن، إذ تم اكتشاف الجريمة مبكرا، وأمكن القضاء عليها في مهدها، وتنبه المسلمون في شرق الأرض وغربها إلى هذه الحركة، فعزلت هذه النسخ المزورة وقضي عليها قضاء نهائيا.
5 - ولقد كان حدثا عالميا كبيرا ما توصل إلى ابتكاره الأصيل، الأستاذ لبيب السعيد من تفكيره في تسجيل المصحف المرتل، وبعد محاولات ومشاريع وأوليات وعقبات، تم تسجيل القرآن الكريم كاملا، وحفظ صوتا مسموعا مرتلا برواية حفص لقراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي، بصوت المرحوم الشيخ محمود خليل الحصري، عدا تسجيلات سواه من القراء، وخصصت مصر وإلى اليوم إذاعة خاصة يتلى بها ليل نهار أسمتها: إذاعة القرآن الكريم.
لقد تم هذا الحدث في صورته النهائية التنفيذية في: 23يوليو 1961 (3).
وتقرر توزيع اسطوانات المصحف المرتل في الدول التي وزعت فيها إسرائيل المصاحف المحرفة (4).
__________
(1) ظ: جريدة المساء القاهرية، عدد: 10فبراير، 1961م.
(2) ظ: جريدة الأخبار القاهرية، عدد: 8أبريل 1961م.
(3) ظ: لبيب السعيد، الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم: 114.
(4) ظ: جريدة الجمهورية القاهرية، عدد: 2يناير 1961م.(1/170)
وكأنما جاء هذا الحدث ردا حاسما لدرء محاولة التحريف.
وبذلك تحقق لسلامة القرآن الكريم عاملان: الكتابة في المصحف كما نزل، والتلاوة على الأسماع من خلال المصحف المرتل تسجيلا كاملا، محافظا فيه على أصول القراءة، وشرائط العربية، وترتيل الصوت، ذلك مضافا إلى الحفظ المتجاوب معه في الصدور.
لقد تحقق في هذا الزمان بالذات، وهو زمان ابتعد عن القرآن، ما لم يتحقق له في الأزمان السالفة، من ضبط وشكل، ورسم، وقراءة، وتلاوة، وطباعة، وعناية من كل الوجوه، بما يتناسب مع التأكيد الإلهي بقوله تعالى:
{إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ 9} (1).
وذلك من معاجز القرآن وأسراره.
__________
(1) سورة الحجر: 9.(1/171)
خاتمة البحث(1/173)
كنت فيما سبق، قد توخيت الدقة في البحث، والموضوعية في الاستنتاج، والحيطة في المقارنة، فعرضت أمهات المسائل، وأثرت عشرات الجزئيات، وانتهيت إلى العديد من النتائج، وكان الرائد الأول في جميع ذلك هو استقراء الحقيقة وحدها، وما يدريك فلعلي قد أصبت الهدف، ولعلي قد أخطأت التقدير، والله أعلم وهو المسدد إلى الصواب.
مهما يكن من أمر، فقد توصلت إلى بعض المؤشرات في النتائج يمكن إجمالها بكل تواضع على الشكل الآتي:
1 - انتهينا في الفصل الأول من معالجة ظاهرة الوحي معالجة علمية، فرقنا فيها بين الوحي والكشف والإلهام، ووجدنا الوحي عملية مرتبطة بحوار ثنائي: بين ذات أمرة، وذات متلقية، ورأينا ظاهرة الوحي مرئية ومسموعة، ولكنها خاصة بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحده.
ولم يكن الوحي ظاهرة ذاتية عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إطلاقا، بل كانت منفصلة عنه انفصالا تاما، ربما صاحبه من خلالها أمارات خارجية في شحوب الوجه أو تصبب الجبين عرقا، ولكنها أمارات لم تكن لتمتلك عليه وعيه نهائيا، وكان الداعي لبحث ذلك هو الرد على هجمات طائفة من المستشرقين الذين يرون الوحي نوعا من الإغماء، أو مثلا من التشنج، والأمر ليس كذلك، بل هو استقبال لظاهرة، أعقبه هذا الوقع، استعداد للنشر والتبليغ. بعد هذا أرسينا مصطلح الوحي على قاعدة من الفهم القرآني.
2 - انتهينا في الفصل الثاني من تحديد بداية نزول القرآن زمنيا، وتعيين ما نزل منه أول مرة، ثم أشرنا للنزول التدريجي، وضرورة تنجيم القرآن، وعالجنا هذه الظاهرة بما نمتلك من تقليل لأسرارها، وتقييم
لأبعادها، وأوضحنا إيمان القرآن بمرحلية النزول، وتعقبنا ذلك بتأريخية ما انقسم منه إلى مكي ومدني، وسلطنا الضوء على ضوابط السور المكية والمدنية، وحمنا حول أسباب النزول وقيمتها الفنية، وما يستأنس منه بجذورها في تعيين النزول زمانيا ومكانيا، وتتبعنا ما نزل من القرآن بمكة أولا بأول، وما نزل بالمدينة أولا بأول، معتمدين على أصح الروايات وأشهرها، أو بما يساعد عليه نظم القرآن وسياقه، وختمنا الفصل بجدول إحصائي استقرائي لسور القرآن كافة بترتيبها العددي والمصحفي والزماني والمكاني.(1/175)
2 - انتهينا في الفصل الثاني من تحديد بداية نزول القرآن زمنيا، وتعيين ما نزل منه أول مرة، ثم أشرنا للنزول التدريجي، وضرورة تنجيم القرآن، وعالجنا هذه الظاهرة بما نمتلك من تقليل لأسرارها، وتقييم
لأبعادها، وأوضحنا إيمان القرآن بمرحلية النزول، وتعقبنا ذلك بتأريخية ما انقسم منه إلى مكي ومدني، وسلطنا الضوء على ضوابط السور المكية والمدنية، وحمنا حول أسباب النزول وقيمتها الفنية، وما يستأنس منه بجذورها في تعيين النزول زمانيا ومكانيا، وتتبعنا ما نزل من القرآن بمكة أولا بأول، وما نزل بالمدينة أولا بأول، معتمدين على أصح الروايات وأشهرها، أو بما يساعد عليه نظم القرآن وسياقه، وختمنا الفصل بجدول إحصائي استقرائي لسور القرآن كافة بترتيبها العددي والمصحفي والزماني والمكاني.
3 - وانتهينا في الفصل الثالث إلى القول: بأن القرآن الكريم قد كان مجموعا في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بل ومدونا في المصحف، وذلك بمناقشة روايات الجمع وغربلتها، وكانت أدلتنا في هذا الحكم هو سيل الروايات المعتبرة، ووجود مصاحف في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وظاهرة الختم والإقراء في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ودليل الكتابة وتواتر الكتاب، وأدلة قطعية أخرى مما يؤكد لنا جمع القرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وكان القصد وراء ذلك إبراز القرآن سليما من الوجوه كافة، يحضى بعناية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بإشارة من الوحي ودليل من الكتاب، وكان مصحف أبي بكر يتسم بالفردية لا بالصفة الرسمية، وانتهينا في ذلك إلى رأي قاطع بالموضوع، وبحثنا جمع عثمان للمصحف، فكان توحيدا للقراءة، وإلغاء للاختلاف، وكان هذا التوحيد هو النص القرآني الوحيد الذي لا يختلف في صحته اثنان.
4 - وانتهينا في الفصل الرابع إلى: اعتبار الشكل المصحفي، وطريق الرواية إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتعدد لهجات القبائل، مضافا إلى المناخ الإقليمي القائم بين مدرستي الكوفة والبصرة، أسسا قابلة للاجتهاد والأثر في تعدد القراءات القرآنية، وانتهينا إلى أن الاختلاف كان في الأقل، والاتفاق في الأكثر، وحددنا وجهة النظر العلمية تجاه القرّاء السبعة والقراءات السبع، وأعطينا الفروق المميزة بين القراءة والاختيار، وأوردنا مقاييس القراءة المعتبرة، وأشرنا إلى تواتر هذه القراءات عند قوم، وإلى اجتهاديتها عند قوم آخرين، وفرقنا بين حجية هذه القراءات، وبين جواز الصلاة فيها، بما كان فيه بحق بحثا طريفا جامعا لشئون القراءات كافة.
5 - وانتهينا في الفصل الخامس إلى: تحقيق القول في شكل القرآن
ورسمه، وبحث جملة الزيادات التوضيحية، ولاحظنا ما أسداه أبو الأسود الدؤلي، وما ابتكره في إعجام القرآن ونقطه حتى تيسر للخليل بن أحمد الفراهيدي أن يشاركه هذه المكرمة.(1/176)
5 - وانتهينا في الفصل الخامس إلى: تحقيق القول في شكل القرآن
ورسمه، وبحث جملة الزيادات التوضيحية، ولاحظنا ما أسداه أبو الأسود الدؤلي، وما ابتكره في إعجام القرآن ونقطه حتى تيسر للخليل بن أحمد الفراهيدي أن يشاركه هذه المكرمة.
وقد وجدنا توسع المسلمين وتجوزهم بوضع التحسينات على الخطوط بقصد معرفة النص وإيضاحه، ونعيهم على من منع ذلك دون مسوّغ، ثم وجدنا الرسم المصحفي وهو يحتل مكانته بشيء من المغالاة حينا، والتقديس غير المعقول حينا آخر، وظهر لنا أن الرسم ليس توقيفيا، وإنما الخط المصحفي كان باجتهاد ممن كتب، ولم تكن صناعتهم في هذا الفن متكاملة، فكان ما قدّموه من سنخ ما يحسنون لا أكثر ولا أقل، وتعقبنا ظاهرة استنساخ القرآن الكريم حتى وقفنا بها عند حدود انتشار القرآن في الطباعة الأنيقة النموذجية.
6 - وانتهينا في الفصل السادس إلى: القول بسلامة القرآن وصيانته من التحريف، وتوثيق النص القرآني جملة وتفصيلا، وناقشنا شبه القائلين بالتحريف، فزيفنا الادعاءات، ودحضنا الافتراضات، وعالجنا الروايات فكانت أخبار آحاد لا تفيد علما ولا عملا، وناقشنا الاتهامات، وفندنا الشبهات، وتعقبنا المحاولات، وخلصنا من وراء ذلك إلى إنجاز الوعد الإلهي بحفظ القرآن.
ما قدمناه خلاصة مركزة في «تأريخ القرآن» آثرنا فيها المعاناة على الدعة، والمواجهة على الاستكانة، فعادت صفحات مشرقة فيما نعتقد، أخلصنا فيها القصد لخدمة كتاب الله، فإن أصبنا الحقيقة فذلك ما نتمناه، وإن كانت الأخرى، فلي من حسن النية ما يسدد الزلل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين النجف الأشرف / كلية الفقه د. محمد حسين علي الصغير الجامعة المستنصرية.(1/177)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين النجف الأشرف / كلية الفقه د. محمد حسين علي الصغير الجامعة المستنصرية.
المصادر والمراجع(1/179)
أالمصادر القديمة:
1 - القرآن الكريم.
2 - ابن الأثير، أبو السعادات، المبارك بن محمد الجزري (ت: 606 هـ) جامع الأصول في أحاديث الرسول.
تصحيح: عبد المجيد سليم، محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة 1949م.
3 - الأصبهاني، حمزة بن الحسن (ت: 351هـ تقريبا). التنبيه على حدوث التصحيف، دمشق، 1968م.
4 - الأنباري، محمد بن القاسم (ت: 328هـ). إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عزّ وجلّ، دمشق، 1971م.
5 - الأنباري، أبو البركات، عبد الرحمن بن محمد (ت: 577هـ) نزهة الألباب في طبقات الأدباء، القاهرة، 1294هـ.
6 - الباقلاني، أبو بكر، محمد بن الطيب (ت: 403هـ) نكت الانتصار، تحقيق: محمد زغلول سلام، منشأة المعارف، الاسكندرية، 1971م.
7 - البخاري، أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل (ت: 256هـ). الجامع الصحيح، مطبعة محمد صبيح، القاهرة، (د. ت).
8 - البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر (ت: 279هـ). فتوح البلدان، القاهرة، 1901م.
9 - البلوي، أبو الحجاج، يوسف بن محمد المالكي. ألف با، المطبعة الوهبية، القاهرة، 1287هـ.(1/181)
8 - البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر (ت: 279هـ). فتوح البلدان، القاهرة، 1901م.
9 - البلوي، أبو الحجاج، يوسف بن محمد المالكي. ألف با، المطبعة الوهبية، القاهرة، 1287هـ.
10 - البيهقي، أبو بكر، أحمد بن الحسين بن علي (ت: 458هـ).
كتاب الأسماء والصفات، القاهرة، 1358هـ.
11 - الجرجاني، أبو بكر، عبد القاهر بن عبد الرحمن (ت: 471هـ).
الرسالة الشافية، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق: د.
محمد خلف الله، د. محمد زغلول سلام، دار المعارف، القاهرة، 1976م.
12 - ابن الجزري، أبو الخير، محمد بن محمد (ت: 833هـ) غاية النهاية في طبقات القراء، القاهرة، 1932م.
13 - ابن الجزري: النشر في القراءات العشر، القاهرة، (د. ت).
14 - الجهشياري، أبو عبد الله، محمد بن عبدوس (ت: 331هـ) كتاب الوزراء والكتاب، تحقيق: مصطفى السقا وآخرين، الطبعة الأولى، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، (د. ت).
15 - ابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني (ت: 852هـ) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، المطبعة السلفية، القاهرة، 1380هـ.
16 - ابن حنبل، أحمد بن محمد الشيباني المروزي (ت: 241هـ).
المسند، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1949م.
17 - الخطيب البغدادي، أبو بكر، أحمد بن علي (ت: 463هـ). تقييد العلم، تحقيق: يوسف العش، دمشق، 1949م.
18 - ابن خلدون، عبد الرحمن بن خلدون (ت: 808هـ). المقدمة، طبعة بولاق، القاهرة، (د. ت).
19 - الخوانساري، محمد باقر الخوانساري (ت: 313هـ). روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات. الطبعة الحجرية، ايران، 1307هـ.
20 - الداني، أبو عمرو، عثمان بن سعيد (ت: 444هـ). المحكم في
نقط المصاحف، تحقيق: د. عزة حسن، المطبعة الهاشمية، دمشق، 1960.(1/182)
20 - الداني، أبو عمرو، عثمان بن سعيد (ت: 444هـ). المحكم في
نقط المصاحف، تحقيق: د. عزة حسن، المطبعة الهاشمية، دمشق، 1960.
21 - الداني، المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار، تحقيق:
محمد أحمد دهمان، مطبعة الترقي، دمشق، 1940م.
22 - ابن أبي داود، أبو بكر، عبد الله بن سليمان السجستاني (ت: 316 هـ). كتاب المصاحف، تحقيق: آرثر جفري، المطبعة الرحمانية، القاهرة، 1936م.
23 - الدمياطي البنا، أحمد بن محمد (ت: 117هـ). إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، طبع عبد الحميد أحمد حنفي، القاهرة 1380هـ.
24 - الذهبي، الحافظ شمس الدين الذهبي (ت: 748هـ). معرفة القراء، تحقيق: محمد سيد جاد الحق، مطبعة دار النشر والتأليف، القاهرة (د. ت).
25 - الراغب الأصبهاني، الحسين بن محمد بن الفضل (ت: 502هـ).
المفردات في غريب القرآن، تحقيق: محمد سيد كيلاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1961م.
26 - الزركشي، بدر الدين، محمد بن عبد الله (ت: 794هـ). البرهان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1957م.
27 - الزمخشري، جار الله، محمود بن عمر (ت: 538هـ) الفائق في غريب الحديث، تحقيق: علي البجاري ومحمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، 1945م.
28 - ابن سعد، أبو عبد الله، محمد بن سعد (ت: 230هـ) الطبقات الكبرى، بيروت، 1957م.
29 - السيرافي، أبو سعيد، الحسن بن عبد الله (ت: 368هـ) أخبار النحويين البصريين، تحقيق: فرنسيس كرنكو بيروت، 1936م.
30 - السيوطي، جلال الدين، عبد الرحمن بن أبي بكر (ت: 911هـ) الاتقان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة المشهد الحسيني، القاهرة، 1967م.(1/183)
29 - السيرافي، أبو سعيد، الحسن بن عبد الله (ت: 368هـ) أخبار النحويين البصريين، تحقيق: فرنسيس كرنكو بيروت، 1936م.
30 - السيوطي، جلال الدين، عبد الرحمن بن أبي بكر (ت: 911هـ) الاتقان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة المشهد الحسيني، القاهرة، 1967م.
31 - أبو شامة، شهاب الدين، عبد الرحمن بن إسماعيل (ت: 665هـ) المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، تحقيق: طيار آلتي قولاج، دار صادر، بيروت، 1975م.
32 - الصولي، أبو بكر، محمد بن يحيى (ت: 336هـ) أدب الكتاب، المطبعة السلفية، القاهرة، 341هـ.
33 - الطبرسي، أبو علي، الفضل بن الحسن (ت: 548هـ) مجمع البيان في تفسير القرآن، مطبعة العرفان، صيدا، 1333هـ.
34 - الطبري، أبو جعفر، محمد بن جرير (ت: 310هـ). جامع البيان عن تأويل القرآن، تحقيق: محمود محمد شاكر وأحمد محمد شاكر، القاهرة، (د. ت).
35 - الطوسي، أبو جعفر، محمد بن الحسن (ت: 460هـ) التبيان في تفسير القرآن، تحقيق: أحمد حبيب القصير، المطبعة العلمية، النجف الأشرف، 1957م.
36 - العاملي، محمد الجواد العاملي النجفي (ت: 1226هـ) مفتاح الكرامة، مطبعة الشورى، القاهرة، 1326هـ.
37 - ابن عبد ربه، أحمد بن محمد الأندلسي (ت: 327هـ). العقد الفريد، تحقيق: أحمد أمين وآخرين، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1967م.
38 - أبو عبيد، القاسم بن سلام الهروي (ت: 224هـ). غريب الحديث، الطبعة الأولى، حيدرآباد، 1964/ 1967م.
39 - العسكري، أبو أحمد، الحسن بن عبد الله، شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف، القاهرة، 1963م.
40 - ابن عطية مجهول، عبد الحق بن أبي بكر الغرناطي (ت: 972هـ).
مقدمتان في علوم القرآن، تحقيق: آرثر جفري، تصويب عبد الله إسماعيل الصاوي، مطبعة الصاوي، القاهرة. (د. ت).(1/184)
40 - ابن عطية مجهول، عبد الحق بن أبي بكر الغرناطي (ت: 972هـ).
مقدمتان في علوم القرآن، تحقيق: آرثر جفري، تصويب عبد الله إسماعيل الصاوي، مطبعة الصاوي، القاهرة. (د. ت).
41 - ابن قتيبة، أبو محمد، عبد الله بن مسلّم (ت: 276هـ) تأويل مشكل القرآن، الطبعة الثانية، القاهرة، 1973م.
42 - القرطبي، أبو عبد الله، محمد بن أحمد الأنصاري (ت: 671هـ)، الجامع لأحكام القرآن، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1935م.
43 - القسطلاني، شهاب الدين، أحمد بن محمد (ت: 923هـ) لطائف الإشارات لفنون القراءات، تحقيق: عامر السيد عثمان وعبد الصبور شاهين، القاهرة، 1972م.
44 - القلقشندي، أحمد بن علي بن أحمد (ت: 821هـ) صبح الأعشى في صناعة الإنشا، نسخة مصورة عن الطبعة الأميرية، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر والترجمة، القاهرة، 1963م طبعة دار الكتب المصرية (1910م 1920م).
45 - ابن كثير، أبو الفداء، إسماعيل بن عمر الدمشقي (ت: 774هـ) فضائل القرآن، مطبعة المنار، القاهرة، 1348هـ.
46 - الكليني، أبو جعفر، محمد بن يعقوب بن إسحاق (ت: 328هـ)، أصول الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1388هـ.
47 - ابن مجاهد، أبو بكر، أحمد بن موسى التميمي البغدادي (ت:
324 - هـ)، كتاب السبعة في القراءات، تحقيق د. شوقي ضيف، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1972م.
48 - المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي (ت: 1111هـ)، بحار الأنوار، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1386م.
49 - مكي بن أبي طالب القيسي (ت: 437هـ) الإبانة في معاني القراءات، تحقيق: عبد الفتاح إسماعيل شلبي، مطبعة الرسالة، القاهرة، (د. ت).
50 - المناوي، شمس الدين، محمد المدعو عبد الرءوف (ت: 911هـ) فيض القدير. شرح الجامع الصغير، مطبعة مصطفي محمد، القاهرة، 1380.(1/185)
49 - مكي بن أبي طالب القيسي (ت: 437هـ) الإبانة في معاني القراءات، تحقيق: عبد الفتاح إسماعيل شلبي، مطبعة الرسالة، القاهرة، (د. ت).
50 - المناوي، شمس الدين، محمد المدعو عبد الرءوف (ت: 911هـ) فيض القدير. شرح الجامع الصغير، مطبعة مصطفي محمد، القاهرة، 1380.
51 - ابن منظور، جمال الدين، محمد بن مكرم الأنصاري (ت: 711 هـ) لسان العرب، نسخة مصورة عن طبعة بولاق، القاهرة، (د.
ت).
52 - ابن نديم، محمد بن إسحاق بن يعقوب البغدادي (ت: 380/ 385هـ). الفهرست، نشر الأستاذ فلوجل، لايبزك، 1872871 م تحقيق: رضا تجدد، مطبعة دانشكاه 1391هـ.
53 - ابن هشام، أبو محمد، عبد الملك بن هشام (ت: 218هـ) السيرة النبوية، تحقيق: الأستاذ مصطفى السفا وآخرين، مطبعة مصطفى البابي الحلبي القاهرة، 1936م.
54 - الواحدي، أبو الحسن، علي بن أحمد النيسابوري (ت: 468هـ) أسباب النزول، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1959م.
55 - أبو حيان التوحيدي (ت: 414هـ). البصائر والذخائر، تحقيق:
أحمد أمين وأحمد صقر، مطبعة لجنة التأليف والنشر والترجمة، القاهرة، 1953م.
ب المراجع الحديثة:
55 - ألبرت ديتريش (مستشرق ألماني معاصر) الدراسات العربية في ألمانيا، تطورها التأريخي ووضعها الحالي، جوتنجن، 1962م.
56 - بروكلمان، المستشرق الألماني كارل بروكلمان (1868م 1956 م) تأريخ الأدب العربي، ترجمة: عبد الحليم النجار وآخرين، دار المعارف، القاهرة، 1968م.
57 - بكري الشيخ أمين (الدكتور)، التعبير الفني في القرآن، دار الشروق، بيروت، 1972م.
58 - بلاشير، المستشرق الفرنسي الدكتور ريجيس بلاشير (ولد: 1900 م) القرآن نزوله تدوينه ترجمته تأثيره ترجمة: رضا سعادة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1974م.(1/186)
57 - بكري الشيخ أمين (الدكتور)، التعبير الفني في القرآن، دار الشروق، بيروت، 1972م.
58 - بلاشير، المستشرق الفرنسي الدكتور ريجيس بلاشير (ولد: 1900 م) القرآن نزوله تدوينه ترجمته تأثيره ترجمة: رضا سعادة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1974م.
59 - بول). (. دائرة المعارف الإسلامية الألمانية، ج 6، مادة:
التحريف، تعريب: د. عبد الحميد يونس وجماعته، القاهرة، 1933م.
60 - جميل صليبا (الدكتور) المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1979م.
61 - جورج بوست (الدكتور) قاموس الكتاب المقدس، المطبعة الأميركية، بيروت، 1894م.
62 - جولد سهير، مستشرق مجري (1850م 1921م) مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة: عبد الحليم النجار، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1955م.
63 - ابن الخطيب، محمد محمد عبد اللطيف. الفرقان، الطبعة الأولى، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1948م.
64 - الخوئي، أبو القاسم الموسوي الخوئي. البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1974م.
65 - الخوئي، الشيخ أمين الخولي. دائرة المعارف الإسلامية الألمانية، ج 6، مادة: التحريف، تعريب: د. عبد الحميد يونس وجماعته، القاهرة، 1933م.
66 - الزنجاني، أبو عبد الله الزنجاني (13601309هـ) تأريخ القرآن، الطبعة الثالثة، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1969م.
67 - صبحي الصالح (الدكتور) محاضرات في علوم القرآن، دار العلم للملايين، بيروت، 1965م.
68 - طه حسين، عميد الأدب العربي الراحل (1889م 1973م)
الفتنة الكبرى، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1968م.(1/187)
68 - طه حسين، عميد الأدب العربي الراحل (1889م 1973م)
الفتنة الكبرى، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1968م.
69 - طه حسين، (الدكتور). في الأدب الجاهلي، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1958م.
70 - عبد الصبور شاهين (الدكتور). تأريخ القرآن، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1966م.
71 - عبد الهادي الفضلي (الدكتور). القراءات القرآنية، الطبعة الثانية، دار القلم، بيروت، 1980م.
72 - عبد الوهاب حمودة (الدكتور) القراءات واللهجات، مطبعة السعادة، القاهرة، 1948م.
73 - غانم قدوري حمد. محاضرات في علوم القرآن، دار الكتاب للطباعة، بغداد، 1981م.
74 - لبيب السعيد. الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم أو المصحف المرتل بواعثه ومخططاته، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967م.
75 - مالك بن نبي. الظاهرة القرآنية، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دار الفكر، بيروت، 1968م.
76 - محمد حسين الطباطبائي (ت: 1402هـ / 1982م). الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1973م.
77 - محمد حسين علي الصغير (المؤلف). المستشرقون والدراسات القرآنية، الطبعة الأولى، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1403هـ 1983م.
78 - محمد رشيد رضا. الوحي المحمدي، مطبعة المنار، القاهرة، 1935م.
79 - محمد عبد الله دراز (الدكتور). مدخل إلى القرآن الكريم، ترجمة: محمد عبد العظيم علي، دار القرآن الكريم، كويت، 1971م.
80 - محمد عبده. رسالة التوحيد، الطبعة التاسعة، القاهرة، 1357هـ.(1/188)
79 - محمد عبد الله دراز (الدكتور). مدخل إلى القرآن الكريم، ترجمة: محمد عبد العظيم علي، دار القرآن الكريم، كويت، 1971م.
80 - محمد عبده. رسالة التوحيد، الطبعة التاسعة، القاهرة، 1357هـ.
81 - محمد عبد العظيم الزرقاني. مناهل العرفان في علوم القرآن، مطبعة دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1372هـ.
82 - محمود الشرقاوي. القرآن المجيد، مؤسسة الشعب، القاهرة، 1970م.
83 - المنجد، صلاح الدين المنجد (الدكتور). دراسات في تأريخ الخط العربي منذ بدايته إلى نهاية العصر الأموي، بيروت، 1972م.
84 - الندوي، أبو الحسن، علي الحسيني الندوي. النبي الخاتم، القاهرة، 1975م.
85 - نولدكه، المستشرق الألماني الدكتور تيودور نولدكه (1836م 1930م). دائرة المعارف الإسلامية الألمانية، ج 9، مادة:
الدين، تعريب: د. عبد الحميد يونس وجماعته، القاهرة، 1933 م.
ج الصحف والمجلات:
86 - أحمد حسن الزيات. مجلة الرسالة المصرية، عدد 8يناير، 1950م.
87 - جواد علي (الدكتور). لهجة القرآن الكريم، مجلة المجمع العلمي العراقي 290، 1955م.
88 - سليمان حسن عبد الوهاب. تحريف اليهود للقرآن قديما وحديثا، مقال: مجلة منبر الإسلام المصرية، عدد جمادي الآخرة، 1385 هـ.
89 - جريدة الأخبار القاهرية، عدد 8أبريل، 1961.
90 - جريدة الأهرام القاهرية، عدد 28ديسمبر عدد 29ديسمبر، 1960م.
91 - جريدة الجمهورية القاهرية، عدد 29ديسمبر عدد 2يناير، 1961 م.(1/189)
90 - جريدة الأهرام القاهرية، عدد 28ديسمبر عدد 29ديسمبر، 1960م.
91 - جريدة الجمهورية القاهرية، عدد 29ديسمبر عدد 2يناير، 1961 م.
92 - جريدة المساء القاهرية، عدد 10فبراير، 1961م.
93 - مجلة آخر ساعة المصرية، عدد 11يناير، 1961م.
المراجع الأجنبية:
(18361930) 94. 19091919،،
. (18151905) 95
1912،،(1/190)