شكر وتقدير
إذا كان الله تبارك وتعالى قد اختصنى بالقيام بهذه الدراسة والاضطلاع بعبئها وحدى، فإنه سبحانه وتعالى قد هيأ بعض أهل العلم والإخلاص لمساندتى وتحفيزى على المضيّ فيه قدما، وعلى تجاوز العقبات والصعوبات التى اعترضت طريقى أثناء البحث.
أخص من هؤلاء بالذكر فضيلة الإمام الأكبر الشيخ / جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر السابق رحمه الله تعالى رحمة واسعة، حيث إنه هو الذى زكّانى لدى المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة العربية (إيسيسكو) للقيام بهذه الدراسة فى تفنيد آراء المستشرقين، والرد على مزاعمهم ضد القرآن الكريم.
وما أرانى أستطيع أن أوفي الدكتور / على القاسمي المشرف على مديرية الثقافة والاتصال بالمنظمة الإسلامية للعلوم والتربية، حقه من الشكر والعرفان على جميل صبره وحسن أدبه ونحن على طريق كتابة هذا البحث كما يطيب لي أن أشكر خلفه الدكتور / مصطفى أحمد علي الذى أرسل إلينا باسم المنظمة تقريظا للكتاب نثبت هنا جملا منه:
= السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فيطيب لي أن أشكركم باسم المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، على ما أسديتموه من خدمة جليلة في مجال الثقافة الإسلامية بكتابكم عن = القرآن الكريم = الذي قبلته المنظمة لإثراء قاعدة المعلومات الإسلامية التي تعدها في ظل نظام الإنترنت، وإن كان هذا العمل القيم الذي قمتم به يساهم إسهاما كبيرا في الذود عن الإسلام وتصحيح ما يتعلق بالمعرفة به من التباسات وأخطاء، خاصة في المجتمعات الغربية. وإن كان لعملكم هذا قيمة
بالغة وسوف ينتج ثمرة صالحة ونفعا جاريا في الحاضر والمستقبل، فإن أجره الحق يكون عند الله، فندعوه سبحانه وتعالى أن يضاعف لكم الثواب في الدنيا والآخرة. =(1/5)
= السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فيطيب لي أن أشكركم باسم المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، على ما أسديتموه من خدمة جليلة في مجال الثقافة الإسلامية بكتابكم عن = القرآن الكريم = الذي قبلته المنظمة لإثراء قاعدة المعلومات الإسلامية التي تعدها في ظل نظام الإنترنت، وإن كان هذا العمل القيم الذي قمتم به يساهم إسهاما كبيرا في الذود عن الإسلام وتصحيح ما يتعلق بالمعرفة به من التباسات وأخطاء، خاصة في المجتمعات الغربية. وإن كان لعملكم هذا قيمة
بالغة وسوف ينتج ثمرة صالحة ونفعا جاريا في الحاضر والمستقبل، فإن أجره الحق يكون عند الله، فندعوه سبحانه وتعالى أن يضاعف لكم الثواب في الدنيا والآخرة. =
وشكرى بلا شك مضاعف للمنظمة الإسلامية للعلوم والتربية والثقافة وللقائمين عليها، وعلى رأسهم أخى الفاضل المفكر والداعية الإسلامى الدكتور / عبد العزيز التويجرى رئيس عام المنظمة.
كما أشكر تلميذي الواعد / محمد أحمد إبراهيم الذي اضطلع بمراجعة هذا الكتاب وتنسيقه وإخراجه في صورته الأخيرة.
ويطيب لى كذلك أن أشكر دار النشر للجامعات والقائمين عليها، وبخاصة السيد / سليمان رفاعي وذلك لما بذلوه من جهد فى سبيل طباعة هذا الكتاب ونشره.
وأخيرا وليس آخرا أزجى أخلص الشكر وأعمق التقدير لزوجتى الدكتورة / نور شيف عبد الرحيم رفعت أستاذة العقيدة والفلسفة بكلية البنات الإسلامية بجامعة الأزهر والتى كان لها أكبر الفضل فى إخراج هذا الكتاب إلى النور، وذلك لما أبدته من ملحوظات وبذلته من جهد فى تجميع بعض مادته، والإشراف على طباعته.
المؤلف(1/6)
المؤلف
مقدّمة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما وجعله نورا هاديا، وروحا ساريا، ومعجزة باقية، وحجة ملزمة، كما جعله عصمة ونجاة لمن تمسك به وعمل بمحكمه، وآمن بمتشابهه، وتخلق بأخلاقه، والصلاة والسلام على من كان خلقه القرآن، محمد بن عبد الله الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله وكيلا، البشير النذير، والسراج المنير، والمثل الكامل، والداعي الصادق إلى الله تعالى، الذي حقق بالقرآن في المدة القصيرة ما لم يحققه بشر في الأحقاب الطوال، بل على مدار التاريخ الإنساني كله.
القرآن الكريم هو كلام الله القديم المعجز المنزّل من لدنه تعالى، على قلب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بلسان عربى مبين، المنقول عنه بالتواتر، والمكتوب فى المصاحف، والمتعبد بتلاوته، المأمور بقراءته وتدبره والعمل به وبتحكيمه فى الأمور كلها والقرآن الكريم هو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الباقية على مرّ العصور، وهو قاعدة الإسلام ومصدر التشريع، والأخلاق والسلوك عند المسلمين وهو الأصل الذي ترجع إليه، وتقاس عليه جميع المعاملات الإسلامية، وهذا الكتاب هو أساس حضارة المسلمين وأصل علومهم ومعارفهم، وهو كتاب شامل لكل ما ينفع الناس في الأرض ويضمن لهم السعادة في الدارين.
القرآن هو دستور الخالق لإصلاح الخلق منذ نزل وإلى أن تقوم الساعة، لا كتاب بعده، ختم الله به الكتب، وأكمل به الدين، وأتم به النعمة على المسلمين وهو يمثل قاعدة اللغة العربية وسنامها وتاجها وصولجانها، وهو خير داع إليها ودال عليها، وهو كامل في لغته وفي علومه وفي آثاره النفسية والعقلية وعلى أساسه تحددت معالم الشخصية المسلمة والهوية الإيمانية للمجتمع المسلم، وتميزت الحضارة الإسلامية عن غيرها من الحضارات.
لم ينزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة واحدة في وقت واحد ولا في مكان واحد، وإنما نزل مفرقا في مدد زمنية مختلفة وانطلاقا من القرآن الكريم نفسه فقد استقر علماء القرآن والمفسرون على أن للقرآن الكريم تنزلات ثلاثة:
الأول: صدوره عن الله فى اللوح المحفوظ.
الثانى: نزوله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة فى السماء الدنيا وقد نزل القرآن فى كلا التّنزّلين جملة واحدة.
أما التّنزّل الثالث: فهو نزول جبريل عليه السلام به منجما آيات تلو آيات، على الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب المناسبات والأحوال ومراعاة لتثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وتثبيت القرآن أيضا فى فؤاده صلى الله عليه وسلم حفظا وتمكينا ثم فى أفئدة الصحابة استظهارا وتطبيقا وقد استغرق نزول القرآن على النبى ثلاثا وعشرين سنة.(1/7)
الثانى: نزوله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة فى السماء الدنيا وقد نزل القرآن فى كلا التّنزّلين جملة واحدة.
أما التّنزّل الثالث: فهو نزول جبريل عليه السلام به منجما آيات تلو آيات، على الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب المناسبات والأحوال ومراعاة لتثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وتثبيت القرآن أيضا فى فؤاده صلى الله عليه وسلم حفظا وتمكينا ثم فى أفئدة الصحابة استظهارا وتطبيقا وقد استغرق نزول القرآن على النبى ثلاثا وعشرين سنة.
أول آيات نزلت من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسََانَ مََا لَمْ يَعْلَمْ} (5) (العلق: 1: 5) تلك الآيات التى تتكلم عن أول مراحل نزول القرآن (اقرأ) يعنى تعلّم وعلّم، اقرأ واستقرئ كما تتكلم عن أول مراحل الخلق بالنسبة للإنسان المخاطب بالقرآن {خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ}، وتتكلم كذلك عن تعليم الإنسان بالقلم كأن المداد هو مادة خلق العلم كالعلق الذى هو مادة الخلق وفى هذه الآيات أيضا نداء للمسلمين أن يلاحظوا ويجربوا ويستنتجوا. وقد ربط الله تعالى فى هذه الآيات المتصلة بين طلب القراءة وبين عملية الخلق، الخلق الأول والخلق المتجدد. هذا من جانب، ومن جانب آخر فقد ربطت الآيات بين العلم الأصلى وبين العلم المتطور المنبثق عنه، وربطت ذلك كله فى النهاية برب العالمين، أكرم الأكرمين، الذى خلق وعلّم ورزق ودبّر قبل أن يكلّف وهذه من المناسبات القرآنية اللطيفة.
وآخر سورة نزلت من القرآن الكريم هى سورة النصر نزلت بعد حجة الوداع فى منى، وقد استنتج منها ابن عباس رضي الله عنه، قرب وفاة النبى صلى الله عليه وسلم.
والقرآن منه ما هو مكي ومنه ما هو مدني، والفاصل الزمنى بينهما الهجرة النبوية.
ومن القرآن ما نزل بليل وما نزل بنهار، وما نزل بالبيت وما نزل بالغار، ومنه ما نزل على الجبل وما نزل بالمسجد، ومنه ما نزل فى الحل ومنه ما نزل فى الترحال، ومنه ما نزل بحضرة بعض الصحابة ومنه غير ذلك وقد استقر نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنين وعشرين سنة، وشهرين، واثنين وعشرين يوما.
عدد سور القرآن 114سورة، وثلاثين جزءا، وعدد آياته على الأرجح (6236) آية بحسب العد الكوفى وعدد كلماته (77473) كلمة وعدد حروفه بالرسم يعنى كتابة (323071) حرفا وعدد حروفه باللفظ أو الصوت (332588) والفرق بين المرسوم والملفوظ منه (9517)، وهذا الفرق ناتج عن الحروف المشددة إذ أنها ترسم حرفا واحدا وتلفظ حرفين.
وقد سمّى الله تعالى هذا الكتاب بالقرآن، وهو أخص أسمائه وأدلها عليه على الإطلاق، وبالفرقان، وبالضياء والنور، كما سماه الكتاب والحكمة، والذكر، والوحي، والروح إلخ وكل اسم من هذه الأسماء يشير إلى صفة قرآنية خاصة تعبر عن جانب من جوانب القرآن الكثيرة والمتنوعة، وكما ذكر الله تعالى أسماء القرآن فى القرآن عرّفنا كذلك مصدر هذا الكتاب: {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى ََ عَبْدِهِ الْكِتََابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً} (1) (الكهف: 1) {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (النمل: 6)، {تَنْزِيلُ الْكِتََابِ مِنَ اللََّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللََّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} (2) (الزمر: 21) {الرَّحْمََنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (2) (الرحمن: 21) وعرّفنا كذلك الشهر الذى نزل فيه هذا الكتاب العزيز وذكره باسمه دون سائر الشهور فقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضََانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنََّاسِ وَبَيِّنََاتٍ مِنَ الْهُدى ََ وَالْفُرْقََانِ} (البقرة: 185) وعرفنا الليلة التى أنزل فيها القرآن جملة: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (1) (القدر: 1)، ولذلك عظم الله تعالى شهر القرآن بالصيام والقيام والصدقة، كما عظم ليلة القدر باختصاصها بعظيم الفضل والقدر وبمزيد الأجر للعاملين فيها.(1/8)
عدد سور القرآن 114سورة، وثلاثين جزءا، وعدد آياته على الأرجح (6236) آية بحسب العد الكوفى وعدد كلماته (77473) كلمة وعدد حروفه بالرسم يعنى كتابة (323071) حرفا وعدد حروفه باللفظ أو الصوت (332588) والفرق بين المرسوم والملفوظ منه (9517)، وهذا الفرق ناتج عن الحروف المشددة إذ أنها ترسم حرفا واحدا وتلفظ حرفين.
وقد سمّى الله تعالى هذا الكتاب بالقرآن، وهو أخص أسمائه وأدلها عليه على الإطلاق، وبالفرقان، وبالضياء والنور، كما سماه الكتاب والحكمة، والذكر، والوحي، والروح إلخ وكل اسم من هذه الأسماء يشير إلى صفة قرآنية خاصة تعبر عن جانب من جوانب القرآن الكثيرة والمتنوعة، وكما ذكر الله تعالى أسماء القرآن فى القرآن عرّفنا كذلك مصدر هذا الكتاب: {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى ََ عَبْدِهِ الْكِتََابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً} (1) (الكهف: 1) {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (النمل: 6)، {تَنْزِيلُ الْكِتََابِ مِنَ اللََّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللََّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} (2) (الزمر: 21) {الرَّحْمََنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (2) (الرحمن: 21) وعرّفنا كذلك الشهر الذى نزل فيه هذا الكتاب العزيز وذكره باسمه دون سائر الشهور فقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضََانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنََّاسِ وَبَيِّنََاتٍ مِنَ الْهُدى ََ وَالْفُرْقََانِ} (البقرة: 185) وعرفنا الليلة التى أنزل فيها القرآن جملة: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (1) (القدر: 1)، ولذلك عظم الله تعالى شهر القرآن بالصيام والقيام والصدقة، كما عظم ليلة القدر باختصاصها بعظيم الفضل والقدر وبمزيد الأجر للعاملين فيها.
وقد حدد الله تعالى لنا كذلك من الذى نزل بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وكيفية هذا النزول فقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى ََ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (194) (الشعراء: 194193)، {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطََاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} (21) (التكوير: 19: 21).
ومعنى قول الحق سبحانه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أى إنه يعنى القرآن، نقل رسول أمين صادق، وهو جبريل تكلم بالقرآن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه إياه تلقينا ومشافهة، وليس معنى ذلك أن القرآن هو كلام جبريل أو كلام محمد صلى الله عليه وسلم بل هو كلام الله تعالى: {فَأَوْحى ََ إِلى ََ عَبْدِهِ مََا أَوْحى ََ} (النجم: 10) وفي هذا إشارة إلى الوحي المباشر دون واسطة.
وأخبرنا الله تعالى أيضا عن طريقة نزول القرآن بقوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا} (106) (الإسراء: 106)، {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلََا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً كَذََلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ وَرَتَّلْنََاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلََا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلََّا
جِئْنََاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} (33) (الفرقان: 3332) ففي هاتين الآيتين سمى الله تعالى القرآن = حقا = وذكر معه التفسير، بمعنى أن القرآن مفسّر لمعنى الحياة كما أن فيه إجابات على تساؤلات البشر على اتساعهم وتنوعهم وتجددهم وتعاقبهم جيلا بعد جيل وقد قلنا إن القرآن صالح لمخاطبة أهل البيئات المختلفة والعقليات المتنوعة ولجميع مستويات التمدن، والتحضر في كل عصر وفي كل مصر.(1/9)
وأخبرنا الله تعالى أيضا عن طريقة نزول القرآن بقوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا} (106) (الإسراء: 106)، {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلََا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً كَذََلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ وَرَتَّلْنََاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلََا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلََّا
جِئْنََاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} (33) (الفرقان: 3332) ففي هاتين الآيتين سمى الله تعالى القرآن = حقا = وذكر معه التفسير، بمعنى أن القرآن مفسّر لمعنى الحياة كما أن فيه إجابات على تساؤلات البشر على اتساعهم وتنوعهم وتجددهم وتعاقبهم جيلا بعد جيل وقد قلنا إن القرآن صالح لمخاطبة أهل البيئات المختلفة والعقليات المتنوعة ولجميع مستويات التمدن، والتحضر في كل عصر وفي كل مصر.
كذلك بيّن الله تعالى طريقة تلقّي محمد صلى الله عليه وسلم للقرآن، وتكفّل الله سبحانه وتعالى بحفظه فى صدر الرسول صلى الله عليه وسلم أولا وبتوقيفه على طريقة قراءته: {لََا تُحَرِّكْ بِهِ لِسََانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنََا بَيََانَهُ} (19) (القيامة: 16: 19) ويقول تعالى: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (9) (الحجر: 9)، ويقول تعالى: {وَلََا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى ََ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (114) (طه: 114)، هذه الآيات الكريمة تعنى في عمومها أن الله تعالى يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم نحن متكفلون بجمعه فى صدرك بقدرتنا، لا بفعل الذاكرة والمذاكرة من قبلك، ونحن متكفلون كذلك بإقرائك القرآن كما هو عند الله تعالى، وهذه القراءة ملزمة لك، ولكل من يتلقى القرآن منك، أو ممن حفظه من أمّتك وهكذا دواليك فإنه ينبغى عليه فى تعلم القرآن وحفظه أن يأخذه تلقينا = ثمّ إنّ علينا = بعد تثبيت القرآن فى الصدور فإن علينا تفسيره وبيانه لك ولقومك، وكما حفظنا القرآن أثناء نزوله عليك حتى استقر في صدرك، وحفظته الأمة عنك، فإننا متكفّلون كذلك بحفظه إلى قيام الساعة.
عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: قال لنا على بن أبى طالب رضي الله عنه: = إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرءوا القرآن كما علمتم =. وعن عبد الله بن مسعود قال:
= اتّبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم = وقال زيد بن ثابت: = القراءة سنة فاقرءوا كما تجدونه =. (1)
وتكلم القرآن عن طبيعته الإعجازية التى تفوق قدرات البشر البيانية والبلاغية، فرادى كانوا أم مجتمعين، إذ يقول تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمََّا نَزَّلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدََاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ (23)}
__________
(1) ابن مجاهد. كتاب السبعة فى القراءات. تحقيق الدكتور شوقى ضيف القاهرة دار المعارف ط 19883م / ص 46، 5150.(1/10)
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النََّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النََّاسُ وَالْحِجََارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكََافِرِينَ} (24) (البقرة: 2423)، ويقول عزّ وجلّ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيََاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمََا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللََّهِ وَأَنْ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)} (هود: 1413)، ويقول تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى ََ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لََا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كََانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (88) (الإسراء: 88)، ويقول تعالى:
{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لََا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كََانُوا صََادِقِينَ} (34) (الطور: 3433) وفى هذه الآيات دليل، بل أدلة على إعجاز القرآن الكريم، وعلى أنّه منزّل من عند الله تعالى.
كما حدّد الله عز وجل لنا كذلك طبيعة القرآن الكريم ولغته، فقرر أنه سبحانه وتعالى أنزله بلسان عربى مبين، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه كتاب قيم غير ذى عوج ولا تناقض وأنه كما وصفته الجن بحقّ قرآنا عجبا، يهدى إلى الرّشد وأخبرنا تبارك وتعالى أنه = يسّر = القرآن أي = سهّله = للحفظ والفهم، فقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (17) (القمر: 17، 22، 32)، وقال: {فَإِنَّمََا يَسَّرْنََاهُ بِلِسََانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} (97) (مريم: 97)، ويقول: {فَإِنَّمََا يَسَّرْنََاهُ بِلِسََانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (58) (الدخان: 58) وقد أمر الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن:
{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هََذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللََّهِ آلِهَةً أُخْرى ََ قُلْ لََا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمََا هُوَ إِلََهٌ وََاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمََّا تُشْرِكُونَ} (19) (الأنعام: 19) {إِنَّمََا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هََذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهََا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى ََ فَإِنَّمََا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمََا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلََّهِ سَيُرِيكُمْ آيََاتِهِ فَتَعْرِفُونَهََا وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ} (93) (النمل: 91: 93).
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرََادُّكَ إِلى ََ مَعََادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جََاءَ بِالْهُدى ََ وَمَنْ
هُوَ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ} (85) (القصص: 85)، ومعنى = فرض عليك = أى فرض عليك تلاوته وإبلاغه للناس.(1/11)
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرََادُّكَ إِلى ََ مَعََادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جََاءَ بِالْهُدى ََ وَمَنْ
هُوَ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ} (85) (القصص: 85)، ومعنى = فرض عليك = أى فرض عليك تلاوته وإبلاغه للناس.
{وَكَذََلِكَ أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ََ وَمَنْ حَوْلَهََا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لََا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (7) (الشورى: 7) {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخََافُ وَعِيدِ} (ق: 45) {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (4) (المزمل: 4)، أى اقرأه على تمهل، فإنه أكثر عونا على فهم القرآن وتدبّره، وهكذا كان يقرؤه صلى الله عليه وسلم.
عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقرأ السورة فيرتّلها حتى تكون أطول من أطول منها.
وفى صحيح البخارى عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كان مدّا، ثم قرأ {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} بمد {بِسْمِ اللََّهِ} وبمد {الرَّحْمََنِ} وبمد {الرَّحِيمِ} = أخرجه البخارى.
وعن أم سلمة رضى الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: = كان يقطّع قراءته آية آية = الحديث. وهذا مصداق قوله تعالى أيضا: {وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا} (106) (الإسراء: 106).
فهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقراءة القرآن، فقرأه آناء الليل وأطراف النهار وكان القرآن الكريم هو شغله صلى الله عليه وسلم قولا وعملا، وقد عني صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءة القرآن الكريم وتدبره منذ أن نزلت الآيات الأولى وحتى الآيات الأخيرة فيه، لا سيما وقد شملهم الأمر الإلهى في قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (4) وقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) وحيث جاءهم الأمر وتوجه إليهم وإلى عموم المسلمين الخطاب الربانى بأن يقرءوا القرآن ويتدبروه، إذ يقول تعالى: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} (82) (النساء: 82)، ويقول: {إِنََّا جَعَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3) (الزخرف: 3)، ويقول: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ} (الزخرف: 44)، ويقول: {فَاقْرَؤُا مََا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (المزمل: 20).
وأمرنا الله تعالى بالتأدب مع القرآن حين يتلى علينا، أن نخشع له ونرقّ عند سماعه يقول تعالى: {وَإِذََا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (204) (الأعراف: 204) والله سبحانه وتعالى يشهد قراءتنا ويجازينا عليها خيرا، يقول تعالى: {وَمََا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمََا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلََا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلََّا كُنََّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمََا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقََالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ وَلََا أَصْغَرَ مِنْ ذََلِكَ وَلََا أَكْبَرَ إِلََّا فِي كِتََابٍ مُبِينٍ} (61) (يونس: 61)، ويقول تبارك وتعالى أيضا: {فَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ مِنَ الشَّيْطََانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطََانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (99) (النحل: 9998) الأمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند الشروع فى قراءة القرآن إنما جاء لطهارة القلب من وساوس الشيطان وإفراغ العقل والبال لكلام الله تعالى، وجمع القلب بالكلية لقراءة القرآن حتى يصل نوره المبين إلى القلب، وإلى الروح فيحييهما ويجلوهما فالشيطان إذا حضر القراءة حصد الخير المترتب عليها، وصرف الثواب المرجو منها.(1/12)
فهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقراءة القرآن، فقرأه آناء الليل وأطراف النهار وكان القرآن الكريم هو شغله صلى الله عليه وسلم قولا وعملا، وقد عني صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءة القرآن الكريم وتدبره منذ أن نزلت الآيات الأولى وحتى الآيات الأخيرة فيه، لا سيما وقد شملهم الأمر الإلهى في قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (4) وقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) وحيث جاءهم الأمر وتوجه إليهم وإلى عموم المسلمين الخطاب الربانى بأن يقرءوا القرآن ويتدبروه، إذ يقول تعالى: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} (82) (النساء: 82)، ويقول: {إِنََّا جَعَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3) (الزخرف: 3)، ويقول: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ} (الزخرف: 44)، ويقول: {فَاقْرَؤُا مََا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (المزمل: 20).
وأمرنا الله تعالى بالتأدب مع القرآن حين يتلى علينا، أن نخشع له ونرقّ عند سماعه يقول تعالى: {وَإِذََا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (204) (الأعراف: 204) والله سبحانه وتعالى يشهد قراءتنا ويجازينا عليها خيرا، يقول تعالى: {وَمََا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمََا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلََا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلََّا كُنََّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمََا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقََالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ وَلََا أَصْغَرَ مِنْ ذََلِكَ وَلََا أَكْبَرَ إِلََّا فِي كِتََابٍ مُبِينٍ} (61) (يونس: 61)، ويقول تبارك وتعالى أيضا: {فَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ مِنَ الشَّيْطََانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطََانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (99) (النحل: 9998) الأمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند الشروع فى قراءة القرآن إنما جاء لطهارة القلب من وساوس الشيطان وإفراغ العقل والبال لكلام الله تعالى، وجمع القلب بالكلية لقراءة القرآن حتى يصل نوره المبين إلى القلب، وإلى الروح فيحييهما ويجلوهما فالشيطان إذا حضر القراءة حصد الخير المترتب عليها، وصرف الثواب المرجو منها.
وإذا ما قرأ الإنسان القرآن بجوانحه وجوارحه وبقلبه وعقله فانه يدخل فى المعية الإلهية ويجوب آمنا فى حرم القرآن الكريم، ويصل إلى الحق من طريق الحق، ويهتدى إلى الصراط المستقيم: {إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصََّالِحََاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (9) (الإسراء: 9) {وَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنََا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجََاباً مَسْتُوراً} (45) (الإسراء: 45) والقرآن شفاء من كل داء جسمانى أو روحانى، والقرآن مخلّص من كل مكدّر ومنغّص، يقول تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} (14) (التوبة: 14)، ويقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللََّهِ أَلََا بِذِكْرِ اللََّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (28) (الرعد: 28) وكما أن القرآن ذكر فإنه مذكّر، يقول تعالى: {طه (1) مََا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ََ} (2) (طه: 21)، {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ} (الفرقان: (32).
يقول أبو منصور الأزهرى محمد بن أحمد: = جاء فى التفسير أن كتب أهل الأديان مثل
التوراة والإنجيل والزبور، إنما يتلوها أهلها نظرا ولا يحفظونها كأن يسردها أحدهم عن ظهر قلبه سردا، ولأنهم لا يكادون يحفظونها من أولها إلى آخرها كما أنزل الله حفظا، كما تحفظ هذه الأمة القرآن، ومن عجيب تيسير الله القرآن إجراؤه للذكر والمذاكرة بإقداره لمن لم ينزل بلسانه، ومن لا يفهم معانيه أن يحفظه، كما يحفظه من نزل بلسانه من العرب وأمكنه أن يفهم تأويله، وأن يحفظه الأمي الذى لا يكتب ولا يتلو الكتب، والقارئ الرّيّض، والصغير والكبير والمعرب والفصيح والألكن = (1).(1/13)
يقول أبو منصور الأزهرى محمد بن أحمد: = جاء فى التفسير أن كتب أهل الأديان مثل
التوراة والإنجيل والزبور، إنما يتلوها أهلها نظرا ولا يحفظونها كأن يسردها أحدهم عن ظهر قلبه سردا، ولأنهم لا يكادون يحفظونها من أولها إلى آخرها كما أنزل الله حفظا، كما تحفظ هذه الأمة القرآن، ومن عجيب تيسير الله القرآن إجراؤه للذكر والمذاكرة بإقداره لمن لم ينزل بلسانه، ومن لا يفهم معانيه أن يحفظه، كما يحفظه من نزل بلسانه من العرب وأمكنه أن يفهم تأويله، وأن يحفظه الأمي الذى لا يكتب ولا يتلو الكتب، والقارئ الرّيّض، والصغير والكبير والمعرب والفصيح والألكن = (1).
ذكر الله تعالى أن القرآن هو نعمة الله على البشر، وأن فيه الهدى والنور واليقين والسعادة والفوز فى الدارين وأن الله ما فرّط فيه من شيء ولا ترك أمرا فيه صلاح الإنسان إلا أنزله فيه، وأن القرآن كتاب جامع لكل أصول العلوم بصنوفها المختلفة، بل إن القرآن نفسه كتاب علم وعلى قاعدته أسّست المعرفة الإسلامية، وبه قامت دولة الإسلام وسيست الأمة الإسلامية ودبرت شئونها. وعلم القرآن ليس علما تجريديّا أو نظريا يراد به التهويم أو التهويل أو عزل الناس عن الحياة، وإنما هو علم مقرون بالعمل لا ينفك عن الإيمان الراسخ والأخلاق السامية والقيم العالية والأهداف النبيلة البتّة، وكما ذكر الله تعالى فضل القرآن، كذلك نوّه النبى صلى الله عليه وسلم بالقيمة الأسمى لهذا الكتاب العظيم عن عثمان بن عفان عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: = خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه = انفرد بإخراجه البخاري. وروى عبد الله بن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه يقال لقارئ القرآن: = اقرأ وارق ورتّل كما كنت ترتّل فى الدنيا فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها = أخرجه أبو داود (2) وروى عقبة بن عامر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: = لا يعذّب الله قلبا وعى القرآن =. وروى أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: = إن لله أهلين من الناس حملة القرآن هم أهل الله وخاصته = أخرجه الديلمى عن عقبة بن عامر.
وروت عائشة رضى الله عنها، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: = من تعلم القرآن وحفظه، أدخله الله الجنة، وشفّعه فى عشرة من أهل بيته كلّ قد استوجب النار = رواه ابن ماجة فى المقدمة.
ومن خطبة للنبى صلى الله عليه وسلم: = إن الحمد لله، أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زيّنه فى قلبه،
__________
(1) معانى القراءات ج 1ص 9291عدّلنا كلمة = يحفظونه =، وشطبنا كلمة = منهم = فى النص ليستقيم المعنى.
(2) حديث رقم 1464ج 4ص 73والترمذى فى السنن (4/ 250)(1/14)
وأدخله فى الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أصدق الحديث وأبلغه. أحبوا من أحب الله، وأحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملّوا كلام الله وذكره، ولا تقسوا عليه قلوبكم، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا. اتقوا الله حق تقاته، وصدّقوا صالح ما تعلمون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم = (1). وقال صلى الله عليه وسلم: = ستكون فتن = قيل: وما المخرج منها؟ قال: = كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم = (2). وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود قال: = من أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين =. قال البيهقى: يعنى أصول العلم. ووصف الإمام على كرم الله وجهه القرآن بأنه: = نور لا تطفأ مصابيحه = (3). عن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعى يقول: = من قرأ القرآن عظمت قيمته ومن تفقه نبل قدره ومن كتب الحديث قويت حجته ومن تعلم اللغة رق طبعه ومن تعلم الحساب جزل رأيه ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه = (4). وقال الإمام الشافعى رضي الله عنه أيضا: = جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع السنة شرح للقرآن =. وأخرج أبو نعيم وغيره، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قال: قيل لموسى عليه السلام: = يا موسى إنما مثل كتاب أحمد فى الكتب المنزلة، بمنزلة وعاء فيه لبن، كلما مخضته أعطاك زبدا = (5) وهذا وصف عظيم للقرآن العظيم فهو كتاب لا تنتهي عجائبه، ولا تنفد ذخائره.
القرآن هو معجزة الإسلام ودستوره الشامل ومنهجه الكامل، والنبي صلى الله عليه وسلم هو مبلّغ هذا الكتاب الكريم ومبينه للناس قولا وعملا، والداعي إليه جميع البشر بإذن ربه إلى الصراط المستقيم، صراط الله الذي له ملك السماوات والأرض القرآن هو الذي أبقى على اللغة العربية، وجعلها لغة عالمية ولغة حية، باقية إلى اليوم وإلى قيام الساعة إن شاء الله تعالى.
القرآن هو سفير هذه اللغة إلى الآفاق، إلى الجزر النائية والبلاد القاصية والقارات المترامية هو جامعة القلوب، ورابطة الأخوة بين المسلمين، وهو عصمتهم من الانحراف والانجراف، وهو حكمهم وقاضيهم وناصحهم وزاجرهم وشفيعهم، ونورهم الذى يسعى
__________
(1) كنز العمال 16/ 124، 125.
(2) أخرجه الدارمي فى كتاب فضائل القرآن.
(3) نهج البلاغة تحقيق بشرح الإمام محمد عبده دار المعرفة 2/ 177.
(4) ابن الجوزى جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن (597510هـ) التبصرة. تحقيق طه عبد الرءوف سعد، وعمرو أحمد عطوة (الإسكندرية دار ابن خلدون ج 2ص 212).
(5) السيوطى معترك الأقران 1/ 1913(1/15)
بين أيديهم وبأيمانهم فى الدنيا والآخرة، والنبى صلى الله عليه وسلم هو مثل المسلمين الأعلى، وقدوتهم المثلى فى جميع شئون الدنيا والدين، وإذا كان القرآن هو معجزته القولية، فأخلاقه صلى الله عليه وسلم هى معجزته العملية. ولن تضل هذه الأمة أو تذل أو تزول ما دام هذا القرآن فيها يتلى، وعلى سلوكها وعملها يهيمن، وفى كل شئون حياتها يطبّق ويحكّم.
هذه هى أول دراسة نقدية شاملة على حد علمنا لآراء المستشرقين وبحوثهم حول القرآن الكريم، وبالتحديد كما جاءت فى دائرة المعارف الإسلامية تحت مادة القرآن، وما يتصل به من موضوعات.
إن دراسة ما جاء بهذه الموسوعة عن القرآن الكريم يعنى دراسة خلاصة ما انتهت إليه البحوث والمحاولات الاستشراقية فى مجال الدراسات القرآنية بشكل عام.
وإذا كان للمستشرقين جهودهم التى لا تنكر فى خدمة البحث العلمى والاهتمام بالعلوم الإسلامية والعناية بالتراث الإسلامي، وإذا كان لبعضهم فضل التنويه المنصف بقيم الإسلام والحضارة الإسلامية، فإن لهم أيضا أخطاء وأغاليط، وخروجا أحيانا كثيرة عن المنهج العلمى، ينبغى إظهارها والرد عليها وبخاصة فيما يتصل بالقرآن الكريم، والنبى صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان الرد على المستشرقين ومن لفّ لفيفهم، يعتبر واجبا على المسلمين فى كل وقت، فإنه فى هذا العصر بالذات يعتبر من أوجب الواجبات عليهم، فقد أصبحت الكلمة والصورة فى وقتنا الحاضر أبلغ خطرا من الأسلحة والجيوش الجرارة، وغدت أساليب الدعاية المدروسة أشدّ تأثيرا على الإنسان نفسه من الخطب والمواعظ المسطحة والعبارات المجنحة، يستوى فى ذلك الخاصة والعامة من الناس.
والقرآن كتاب عالمى، سواء أكان في لغته الأصلية، اللغة العربية، أم فى الترجمات المختلفة التى ظهر فيها، أم فى الدراسات التى كتبت وتكتب عنه، والتى تتفاوت قوة وضعفا، وإنصافا وإجحافا، وسطحية وعمقا، وخطأ وصوابا ومن الملاحظ أن ترجمات معانى القرآن المبكرة وكذلك الدراسات التى قامت عليها، والدراسات الإسلامية فى الغرب بوجه عام قام بها علماء وباحثون غير مسلمين، وأغلبهم إن لم يكن كلهم، من رجال الدين اليهودى أو المسيحى، وأما دخول المسلمين فى هذا الميدان فقد جاء متأخرا وحتى ما يقدمه المسلمون، سواء أكان فى مجال الترجمة أم فى مجال الدراسات والبحوث باللغات غير الإسلامية فى معظمه، ينقصه الكثير من الصقل والحرارة الأدبية والدقة فى التعبير.
إن تقديم الإسلام للغرب فى حاجة إلى تعاون العلماء الأكفاء وتضافر الجهود المخلصة فى سبيل تقديمه فى صورته الحقيقية، وتولى الرد على المستشرقين ونقاد الإسلام من الغربيين بالمنهج نفسه الذى يفهمونه، وبالأسلوب الذى يرتضونه، وهذا ما حاولناه فى هذه الدراسة، التى نرجو أن ننشرها باللغة الإنجليزية فيما بعد لتضاف إلى أعمال أخرى لنا قدمناها بهذه اللغة فى الرد على خصوم الإسلام ونقاد القرآن.(1/16)
والقرآن كتاب عالمى، سواء أكان في لغته الأصلية، اللغة العربية، أم فى الترجمات المختلفة التى ظهر فيها، أم فى الدراسات التى كتبت وتكتب عنه، والتى تتفاوت قوة وضعفا، وإنصافا وإجحافا، وسطحية وعمقا، وخطأ وصوابا ومن الملاحظ أن ترجمات معانى القرآن المبكرة وكذلك الدراسات التى قامت عليها، والدراسات الإسلامية فى الغرب بوجه عام قام بها علماء وباحثون غير مسلمين، وأغلبهم إن لم يكن كلهم، من رجال الدين اليهودى أو المسيحى، وأما دخول المسلمين فى هذا الميدان فقد جاء متأخرا وحتى ما يقدمه المسلمون، سواء أكان فى مجال الترجمة أم فى مجال الدراسات والبحوث باللغات غير الإسلامية فى معظمه، ينقصه الكثير من الصقل والحرارة الأدبية والدقة فى التعبير.
إن تقديم الإسلام للغرب فى حاجة إلى تعاون العلماء الأكفاء وتضافر الجهود المخلصة فى سبيل تقديمه فى صورته الحقيقية، وتولى الرد على المستشرقين ونقاد الإسلام من الغربيين بالمنهج نفسه الذى يفهمونه، وبالأسلوب الذى يرتضونه، وهذا ما حاولناه فى هذه الدراسة، التى نرجو أن ننشرها باللغة الإنجليزية فيما بعد لتضاف إلى أعمال أخرى لنا قدمناها بهذه اللغة فى الرد على خصوم الإسلام ونقاد القرآن.
اعتمدنا فى دراستنا هذه على دائرة المعارف الإسلامية باللغة الإنجليزية الصادرة عن دار بريل للنشر بليدن فى 19381913م، والطبعة الجديدة الصادرة عن الدار نفسها بالاشتراك مع دار لوزاك للنشر بلندن عام 1960م.
يستغرق مدخل القرآن فى دائرة المعارف الإسلامية اثنين وثلاثين صفحة بحجم الموسوعة تشتمل كل صفحة منها على عمودين كبيرين تتراوح عدد أسطر العمود الواحد ما بين 7472سطرا.
والمقال بقلم المستشرقين = أ. ت. ويلش = ( .. )، و = ج. د. بيرسون = ( .. )
وقبل أن نشرع فى هذه الدراسة ينبغى أن نبين المنهج الذى اعتمدنا عليه فى كتابتها.(1/17)
وقبل أن نشرع فى هذه الدراسة ينبغى أن نبين المنهج الذى اعتمدنا عليه فى كتابتها.
الخطة والمنهج
المنهج الذى اتبعناه فى هذا الكتاب يتلخص فى عرض كلام الكاتب أو نقوله وشواهده التى اعتمد عليها فى دراسته أولا ثم إبراز أهم النقاط التى نخالفه ونعارضه فيها مشفوعة بالرد عليها وذلك عن طريقين:
الأول: يأتى فى شكل تعقيب على دعوى الكاتب.
الثانى: فى شكل مداخلة، وذلك عند ما نضطر إلى قطع سياق حديثه، لتوضيح كلامه أو إظهار ما أجمله أو عمّى به على القارئ ولهذا قد يبدو للقارئ أحيانا بعد المسافات بين النقاط موضوع الدراسة، إلا أنه مع ذلك سوف يلاحظ بوضوح، فى الوقت نفسه، العلاقة العضوية الحية بين الموضوعات المختلفة التى نعالجها.
ومن خطتنا فى هذا الكتاب أيضا أننا قد نقدم للنقطة التى نتناولها بكلام مختصر نبين فيه وجهة نظر الإسلام قبل أن نعرض لآراء الكاتب. فى هذه الدراسة نشير إلى كاتب المقال أحيانا باسمه وأحيانا أخرى بعبارة = زعم الكاتب =، أو = ادعى المستشرق = أو = قال المعارض =.
وإذا كانت الإشارة إلى مؤلف آخر ورد ذكره فى النص فإننا نذكره باسمه تحديدا، حتى نميز بينه وبين كاتب المقال بالموسوعة.
ومما هو جدير بالذكر أيضا أن أنبه على أننى ككاتب مسلم قد استعملت عبارات التنزيه لله سبحانه وتعالى، عند ذكر لفظ الجلالة، وكذلك صليت وسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكر اسمه الشريف تيمنا وتبركا، واضعا ذلك بين قوسين فى حالة ما إذا كان الكلام نقلا عن المستشرقين، وذلك تنبيها على أن ما بنى القوسين من كلام ليس هو من كلامنا، ولا من صلب النص المترجم.
أما إذا ورد ذكر الاسمين الشريفين فى ثنايا كلامى فقد استغنيت عن القوسين وأمضيت الكلام نسقا واحدا متصلا.
يشتمل مقال القرآن بالموسوعة الإسلامية على الموضوعات الرئيسة الآتية:
1 - القرآن (الأصل والمترادفات) 1 ((أ) الاشتقاق والاستعمال القرآنى
(ب) المترادفات فى القرآن 2محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن) (3تاريخ القرآن بعد عام 632م (6323 ويدور حول:(1/19)
1 - القرآن (الأصل والمترادفات) 1 ((أ) الاشتقاق والاستعمال القرآنى
(ب) المترادفات فى القرآن 2محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن) (3تاريخ القرآن بعد عام 632م (6323 ويدور حول:
(أ) جمع القرآن (ب) القراءات المتنوعة ومصاحف الصحابة (ج) كتابة المصحف الإمام واعتماد القراءات 4بنية القرآن (4 ويتناول النقاط الآتية:
(أ) السور وأسماؤها (ب) الآيات (ج) البسملة (د) الحروف المقطعة أو الغامضة 5الحوادث والمناسبات التاريخية فى القرآن (5 ويشمل:
أالإشارات التاريخية فى القرآن
ب التأريخ الإسلامى المعتمد للقرآن ج التأريخ الغربى الحديث للقرآن 6اللغة والأسلوب 6 (تحت هذا العنوان تعالج الموضوعات الآتية:(1/20)
أالإشارات التاريخية فى القرآن
ب التأريخ الإسلامى المعتمد للقرآن ج التأريخ الغربى الحديث للقرآن 6اللغة والأسلوب 6 (تحت هذا العنوان تعالج الموضوعات الآتية:
ألغة القرآن ب المفردات غير العربية فى القرآن ج الأسجاع والفواصل المتكررة فى القرآن د الشكل التخطيطى والاعتبارات المتعددة (للأسجاع والفواصل القرآنية) 7الأشكال الأدبية والموضوعات الرئيسة (7 ويندرج تحته:
أأقسام القرآن وما يتصل بها من أشكال أخرى ب آيات النظر فى الأنفس وفى الآفاق ج آيات الأمر بصيغة = قل = د الأمثال = فى القرآن = هـ آيات الأحكام وآيات العبادات والشعائر ز موضوعات قرآنية أخرى
تناول الكاتب في هذا القسم بعض سمات السور المكية والسور المدنية مثل أوصاف الجنة والنار والحساب والعقاب وصفات الله وغير ذلك.(1/21)
أأقسام القرآن وما يتصل بها من أشكال أخرى ب آيات النظر فى الأنفس وفى الآفاق ج آيات الأمر بصيغة = قل = د الأمثال = فى القرآن = هـ آيات الأحكام وآيات العبادات والشعائر ز موضوعات قرآنية أخرى
تناول الكاتب في هذا القسم بعض سمات السور المكية والسور المدنية مثل أوصاف الجنة والنار والحساب والعقاب وصفات الله وغير ذلك.
8 - القرآن فى حياة المسلمين وفكرهم 8 (هذه الموضوعات الثمانية وما اشتملت عليه من تفريعات كتبها أ. ت. ويلش، وقد ذيلها بقائمة من المصادر المهمة.
9 - ترجمة القرآن 9 (ويبحث فيه:
أرأى علماء السلف فى ترجمة القرآن ب الترجمات واللغات التى ترجم إليها القرآن وهذا الموضوع الأخير تولى كتابته المستشرق ج. د. بيرسون، وهو آخر موضوع فرعى فى الموسوعة تحت مادة القرآن، وهو أيضا مذيل بقائمة من المصادر المهمة.
وسوف نتناول بالعرض والتحليل والنقد هذه الموضوعات التى ذكرناها منتهجين النسق نفسه فى ترتيبها على ما هو عليه فى الموسوعة وللتيسير على القارئ جعلنا العناوين الرئيسة التى وضعها ويلش أبوابا وفصولا، وحاولنا أن نقرب بينها من حيث حجم الباب والفصل، ما أمكننا إلى ذلك سبيلا سائلين المولى عز وجل التيسير والتوفيق بمنّه وفضله.
الأستاذ الدكتور / محمد محمّد أبو ليلة أستاذ مقارنة الأديان وأستاذ الدراسات الإسلامية باللغة الإنجليزية ورئيس قسم اللغة الإنجليزية كلية اللغات والترجمة جامعة الأزهر(1/22)
الأستاذ الدكتور / محمد محمّد أبو ليلة أستاذ مقارنة الأديان وأستاذ الدراسات الإسلامية باللغة الإنجليزية ورئيس قسم اللغة الإنجليزية كلية اللغات والترجمة جامعة الأزهر
الباب الأول القرآن الأصل والمترادفات
الفصل الأول الاشتقاق والاستعمال القرآني الفصل الثاني المترادفات في القرآن(1/23)
الفصل الأول الاشتقاق والاستعمال القرآني الفصل الثاني المترادفات في القرآن
الفصل الأول الاشتقاق والاستعمال القرآنى
لاحظ الكاتب أن أقدم استخدام مؤيد بالشواهد للفظة = القرآن = قد أورده القرآن نفسه، حيث ظهر فيه حوالى السبعين مرة متضمنا معانى شتى.
يقول: أ. ت. ويلش: = إن معظم علماء الغرب قد قبلوا وجهة النظر التى طورها ف.
اسكواللى، وآخرون، والتى تذهب إلى أن لفظ = القرآن = مأخوذ من الكلمة السريانية قريانا) (التى تعنى درسا فى قراءة الكتاب المقدس كما هو مستعمل فى الطقوس والشعائر النصرانية = يؤيد الكاتب هذا الزعم بالإحالة إلى مخطوط سريانى قديم يرجع إلى القرن السادس الميلادى والموجود ضمن مخطوطات المتحف البريطانى بلندن، إلحاقي رقم 14، 432، وهو تحت عنوان) (التى ترجمتها = فصول مقتبسة من الكتاب المقدس لقراءتها بغرض الدعاء أو الابتهال أثناء تأدية الطقوس النصرانية =. ثم يتناول الكاتب رأى علماء اللغة المسلمين فى معنى لفظة = قرآن = مقررا أن جمهور علمائهم ينصّون ببساطة على أن اللفظة مشتقة من الفعل = قرأ = وأن كلتا وجهتي النظر، الغربية والإسلامية، الخاصتين بتحديد المعنى اللغوى للفظة = قرآن = لها بعض الشواهد التى تؤيدها فى القرآن نفسه ثم يضيف المستشرق إلى ذلك قوله: = إن الفعل = قرأ = لا يظهر فى القرآن بهذه الكثرة نفسها التى يظهر بها الفعل = تلا = الذى يدل أيضا على القراءة وتورد المخطوطات الكوفية القديمة لفظة = القرآن = بهذا الرسم هكذا بدون همزة، وهى بهذا الشكل مشتقة من = قرن = لا من = قرأ =، وهى بهذا المعنى تكون مأخوذة من = ضم الشيء إلى الشيء = أى جمع بينهما، مما حدا ببعض الصحابة كقتادة وأبى عبيدة إلى القول بأن لفظة = قران = مأخوذة من = قرن = بمعنى ضم وجمع، لأن = قرأ =، بمعنى = تلا =.
يذكر الكاتب وجهة نظر أخرى كمقابل لتلك التى ذكرها فيقول إن حذف الهمزة يعتبر من سمات لهجة أهل مكة والمصاحف الكوفية القديمة، وإن لفظ = القرآن = له علاقة وشيجة بالفعل = قرأ = فى الاستعمال القرآنى، وينتهى الكاتب إلى القول بأن أصح الأقوال فى تقرير هذه المسألة تكمن فى أن لفظ = القرآن = كان قد استحدث أصلا فى القرآن نفسه لتأدية مفهوم الكلمة السريانية = قريانا =، ولكنه أى لفظ = القرآن = قد أسند إلى صيغة
مصدر عربى يعنى = قرآن =، على وزن = فعلان = المشتق من الفعل = قرأ =، ليكون منسجما مع التراكيب القرآنية وجاريا على قواعد اللغة العربية.(1/25)
يذكر الكاتب وجهة نظر أخرى كمقابل لتلك التى ذكرها فيقول إن حذف الهمزة يعتبر من سمات لهجة أهل مكة والمصاحف الكوفية القديمة، وإن لفظ = القرآن = له علاقة وشيجة بالفعل = قرأ = فى الاستعمال القرآنى، وينتهى الكاتب إلى القول بأن أصح الأقوال فى تقرير هذه المسألة تكمن فى أن لفظ = القرآن = كان قد استحدث أصلا فى القرآن نفسه لتأدية مفهوم الكلمة السريانية = قريانا =، ولكنه أى لفظ = القرآن = قد أسند إلى صيغة
مصدر عربى يعنى = قرآن =، على وزن = فعلان = المشتق من الفعل = قرأ =، ليكون منسجما مع التراكيب القرآنية وجاريا على قواعد اللغة العربية.
وقبل أن نعرض التفسير الإسلامي الصحيح لكلمة = القرآن =، التي هى عنوان كتاب الله تعالى وأخص أسمائه وأشهرها، لا بد أن نبين الأخطاء التى تضمنها كلام الكاتب، والغرض الذى يهدف إلى تأسيسه فى ذهن القارئ.
يزعم ويلش أولا أن لفظة = القرآن = لا تعنى غير القرآن نفسه فى كل المواضع التى ذكرت فيها أيا كانت القرينة وسوف نوضح خطأ الكاتب فى هذا الزعم، وخطأ استنتاجه كذلك. أما ما ذهب إليه اسكواللى وأيّده فيه معظم المستشرقين من أن لفظة = قرآن = مأخوذة أصلا من الكلمة السريانية = قريانا =، فزعم جافّ لا دليل عليه من قريب ولا من بعيد، وهذا التفسير الغريب لم يخطر ببال أحد من أئمة علماء اللغة العربية، ولا ببال هؤلاء الذين عنوا بجمع مفردات القرآن وتفسيرها.
فالثبت الذى يقدمه لنا السيوطى للألفاظ المعربة فى القرآن فى كتابه = الإتقان فى علوم القرآن = (1) يخلو تماما من هذه اللفظة وقد راجعنا أيضا كلّ ما أتيح لنا من مصادر فى هذا الباب، فلم نجد لها أيضا أثرا ولا ظلّا وهذا دليل دامغ على أن كلمة = قرآن = عربية الأرومة والمحتد، وأن اللغة العربية لم تكن لتضيق بلفظة اتخذها الله تعالى عنوانا لكلامه القديم، واسما لكتابه المعجز وبالتالى فإن افتراض الكاتب واعتراضه لا مسوغ لهما.
إن الفعل = قرأ = بمشتقاته المتنوعة يعد من أبرز الأفعال والمشتقات فى اللغة العربية، ولكن الكاتب يتجاهل هذه الحقيقة، ويزعم مع جمهور المستشرقين أن عنوان كتاب المسلمين منتحل من لغة أخرى، وينبغى أن يكون واضحا أنّ وجود كلمة = قريانا = السريانية بمعناها المشار إليه آنفا لا يعنى انتقالها إلى القرآن البتة، وإلا للزم أن يعرّفنا المستشرقون متى، وكيف وصلت هذه الكلمة إلى القرآن؟ آخذين فى الاعتبار أن كلمة = قريانا = السريانية تطلق كما أشار الكاتب نفسه على مجموعة نصوص مقدسة استلت من كتاب أو كتب معروفة وذلك لاستخدامها كأدعية وابتهالات دينية ضمن الطقوس الكنسية مع أن كلمة = قرآن = تطلق على = القرآن = كله = حقيقة =، وعلى بعضه = مجازا =، كالماء يطلق على البعض كما يطلق
__________
(1) جلال الدين عبد الرحمن السيوطى الإتقان فى علوم القرآن تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم القاهرة مطبعة المشهد الحسينى 1387هـ 1967م.(1/26)
على الكل. والقرآن ليس أدعية وإنما هو كتاب جامع يحتوى على أصول العلوم، وقواعد الإيمان، والأخلاق، والمعاملات، والتشريعات، وعلى السير والقصص، والمواعظ والأمثال، والأدعية والابتهالات، والنبوءات، وعلوم الآخرة من بعث وحساب وثواب وعقاب وجنة ونار فالقرآن هو المصدر الذى يرجع إليه المسلمون فى كل ما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم.
سمى القرآن بهذا الاسم، لأنه كتاب يقرأ ويتميز على الكتب الأخرى، لكثرة ما يقرأ، قرأه الله تعالى وعلّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الرَّحْمََنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (2) (الرحمن: 1) وقرأه جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنْ هُوَ إِلََّا وَحْيٌ يُوحى ََ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ََ} (5) (النجم: 54) وقوله تعالى: {فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنََا بَيََانَهُ} (19) (القيامة: 1918) ومعنى = قرآنه = فى الآية أي قراءته، ومعنى = بيانه = أى تفسيره وإظهاره، كما مرت الإشارة إليه.
وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن آية آية: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسََانَ مََا لَمْ يَعْلَمْ} (5) (العلق: 1: 5)، {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (4) (المزمل: 4)، {فَإِنَّمََا يَسَّرْنََاهُ بِلِسََانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} (97) (مريم: 97)، {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (6) (النمل: 6) وقوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا} (106) (الإسراء: 106).
وقرأ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وعنوا به عناية كبيرة، فقد حفظوه وضبطوه وتعلّموه وعلّموه وجمعوه فى الصدور والسطور، وطبّقوه فى كل مجالات حياتهم المختلفة، يستوى فى ذلك رجالهم ونساؤهم، وكهولهم وصبيانهم، عربيهم وعجميهم.
وعند ما اتسعت رقعة الإسلام اتسع حفاظه، ومعلموه، ومتعلموه أيضا، وانتشرت بكثرة دور تحفيظ القرآن، فى البقاع الإسلامية كلها على ترامى أطرافها واختلاف أجوائها وبيئاتها ومدنياتها، وتعدد أجناسها. ومن معجزات القرآن أنه كان يقرأ فى لغته الأصلية فى بلاد لم يكن لها عهد باللغة العربية.
لا يوجد كتاب فى العالم قد عني به أهله أكثر من القرآن بل إن هناك كتبا مقدسة تطبع بالملايين، وتترجم إلى لغات العالمين ولهجاتهم بل ويدفع بها إلى الناس دون مقابل، فى أفخم الطبعات وأجمل الإخراج، ومع هذا فإنها لا تجد من يقرؤها، وليس يقرأ منها غالبا إلا فى مناسبة دينية أو لدراسة علمية بحتة، ولا يفوتنا أن نلفت النظر هنا إلى أن بعض هذه الكتب المقدسة قد فقد بالكلية ومنها ما بقى بعضه ودخله التحريف والتبديل.(1/27)
وعند ما اتسعت رقعة الإسلام اتسع حفاظه، ومعلموه، ومتعلموه أيضا، وانتشرت بكثرة دور تحفيظ القرآن، فى البقاع الإسلامية كلها على ترامى أطرافها واختلاف أجوائها وبيئاتها ومدنياتها، وتعدد أجناسها. ومن معجزات القرآن أنه كان يقرأ فى لغته الأصلية فى بلاد لم يكن لها عهد باللغة العربية.
لا يوجد كتاب فى العالم قد عني به أهله أكثر من القرآن بل إن هناك كتبا مقدسة تطبع بالملايين، وتترجم إلى لغات العالمين ولهجاتهم بل ويدفع بها إلى الناس دون مقابل، فى أفخم الطبعات وأجمل الإخراج، ومع هذا فإنها لا تجد من يقرؤها، وليس يقرأ منها غالبا إلا فى مناسبة دينية أو لدراسة علمية بحتة، ولا يفوتنا أن نلفت النظر هنا إلى أن بعض هذه الكتب المقدسة قد فقد بالكلية ومنها ما بقى بعضه ودخله التحريف والتبديل.
وننتقل الآن إلى نقطة أخرى مهمة أثارها الكاتب فى سياق حديثه عن لفظة = قرآن = إذ يزعم أن المفهوم الإسلامى والمفهوم الاستشراقى لكلمة = قرآن = كلاهما له بعض الشواهد القرآنية التى تؤيده، ولسنا ندرى كيف سوّى المعارض بين المفهومين على الرغم من الاختلاف الواضح بينهما، هذا من جهة ومن جهة أخرى أين هو هذا الدليل القرآنى الذى يؤيد زعمه بأن لفظة = قرآن = سريانية الأصل؟ إن كلمة = قريانا = التى جاء بها الكاتب، والتى تختلف فى شكلها وجرسها عن الكلمة العربية = قرآن = لا وجود لها فى كتاب الله تعالى، وبالتالى فإن القاعدة التى بنى عليها المستشرقون تفسيرهم خارجة أصلا عن نطاق النص، وليس لها به أدنى تعلق، وكون كلمة = قرآن = تقرأ بدون همز أو نبر إعمالا للّسان القرشى، أو للتخفيف كما سنذكره بعد بشيء من التفصيل لا يعنى أنها منقولة من السريانية كما زعم الكاتب، إذ أن خلوّها من الهمزة، والذى يجعلها قريبة فى النطق، إلى حدّ ما، من كلمة = قريانا =، لا يؤيد دعوى المستشرق فى سريانيتها بل إن نطقها مهموزة وغير مهموزة فيه إشارة إلى كونها جارية على أصول العربية، خاضعة للهجات العرب.
ذكر ويلش أن الفعل = قرأ = ورد ذكره فى القرآن سبع عشرة مرة كما أن كلمة = تلا = بمعنى = قرأ = قد استعملت فى القرآن أكثر من الفعل = قرأ =، وهذا صحيح من حيث المبدأ ولكننا لا نوافقه فى النتيجة التى يحاول تقريرها ويشرئب إليها، وهى أن كلمة = قرآن = مستعارة من اللغة السريانية، وذلك بحجة أن الفعل = تلا = يوجد فى القرآن أكثر من الفعل = قرأ = وفى الحقيقة فإن الكلمتين = تلا =، و = قرأ = تستعملان كمرادفين فى القرآن، وإن كان هناك فرق دقيق بينهما لا يحصل إلا بمعرفة عميقة بأسرار اللغة وحس أهلها ولكى نوضح ذلك نقول إن الفعل = تلا = يعنى = قرأ بتتابع =، و = قرأ من نص أو كتاب =، وهى تفيد أيضا القراءة بصوت مسموع على الغير، يقول تعالى: {قُلْ تَعََالَوْا أَتْلُ مََا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} (الأنعام: 151)، {وَمََا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتََابٍ وَلََا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً
لَارْتََابَ الْمُبْطِلُونَ} (48) (العنكبوت: 48)، {قُلْ لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلََا أَدْرََاكُمْ بِهِ} (يونس: 16)، {تِلْكَ آيََاتُ اللََّهِ نَتْلُوهََا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} (البقرة: 252)، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ} (النمل: 9291)، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنََاهُ آيََاتِنََا فَانْسَلَخَ مِنْهََا} (الأعراف: 175)، {وَاتْلُ مََا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتََابِ رَبِّكَ} (الكهف: 27)، والمصدر = تلاوة = مستخدم أيضا فى القرآن، يقول تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنََاهُمُ الْكِتََابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلََاوَتِهِ أُولََئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ} (121) (البقرة: 121).(1/28)
ذكر ويلش أن الفعل = قرأ = ورد ذكره فى القرآن سبع عشرة مرة كما أن كلمة = تلا = بمعنى = قرأ = قد استعملت فى القرآن أكثر من الفعل = قرأ =، وهذا صحيح من حيث المبدأ ولكننا لا نوافقه فى النتيجة التى يحاول تقريرها ويشرئب إليها، وهى أن كلمة = قرآن = مستعارة من اللغة السريانية، وذلك بحجة أن الفعل = تلا = يوجد فى القرآن أكثر من الفعل = قرأ = وفى الحقيقة فإن الكلمتين = تلا =، و = قرأ = تستعملان كمرادفين فى القرآن، وإن كان هناك فرق دقيق بينهما لا يحصل إلا بمعرفة عميقة بأسرار اللغة وحس أهلها ولكى نوضح ذلك نقول إن الفعل = تلا = يعنى = قرأ بتتابع =، و = قرأ من نص أو كتاب =، وهى تفيد أيضا القراءة بصوت مسموع على الغير، يقول تعالى: {قُلْ تَعََالَوْا أَتْلُ مََا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} (الأنعام: 151)، {وَمََا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتََابٍ وَلََا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً
لَارْتََابَ الْمُبْطِلُونَ} (48) (العنكبوت: 48)، {قُلْ لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلََا أَدْرََاكُمْ بِهِ} (يونس: 16)، {تِلْكَ آيََاتُ اللََّهِ نَتْلُوهََا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} (البقرة: 252)، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ} (النمل: 9291)، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنََاهُ آيََاتِنََا فَانْسَلَخَ مِنْهََا} (الأعراف: 175)، {وَاتْلُ مََا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتََابِ رَبِّكَ} (الكهف: 27)، والمصدر = تلاوة = مستخدم أيضا فى القرآن، يقول تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنََاهُمُ الْكِتََابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلََاوَتِهِ أُولََئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ} (121) (البقرة: 121).
بعد هذا نذكّر القارئ بما سبق أن قلناه من أن كلمة = قرآن = عربية، صليبة وأرومة، وليست مستعارة من السريانية، كما يزعم الكاتب، وأنها لم تستحدث البتّة، وإنما نزلت فيما نزل من القرآن، وأن القرآن معروف باسمه هذا، من بداية التنزيل، وقلنا إن كلمة = قرآن = تطلق على كلام الله كله أو بعضه، فالآية الواحدة قرآن، والسورة الواحدة قرآن، ومجموع السور قرآن وأن العبارة القرآنية = هذا القرءان = كما فى قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمََا أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ هََذَا الْقُرْآنَ} (يوسف: 3)، وقوله: {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لََا تَسْمَعُوا لِهََذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (26) (فصلت: 26)، لا تتضمن الإشارة البتّة إلى = قرآن = آخر غير هذا القرآن، الذى هو بين دفتى المصحف، المنقول إلينا بالتواتر، والمبثوث فى الآفاق والمعروف لجميع المسلمين. وينبغى أن يكون واضحا تمام الوضوح أن عبارة = هذا القرءان =، التى تعلق بها الكاتب، لم يستعملها القرآن إلا فى الإشارة إلى كلام الله المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم بخاصة، يقول تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمََا أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ هََذَا الْقُرْآنَ} (يوسف: 3)، ويقول تعالى: {وَمََا كََانَ هََذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى ََ مِنْ دُونِ اللََّهِ وَلََكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتََابِ لََا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (37) (يونس: 37).
ومما يلحق بكلام ويلش، ما زعمه المستشرقان بل ووات فى مقدمتهما حول قوله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) (يوسف: 2)، وقوله تعالى: {وَلَوْ
جَعَلْنََاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقََالُوا لَوْلََا فُصِّلَتْ آيََاتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفََاءٌ وَالَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ فِي آذََانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولََئِكَ يُنََادَوْنَ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ} (44) (فصلت: 44).(1/29)
ومما يلحق بكلام ويلش، ما زعمه المستشرقان بل ووات فى مقدمتهما حول قوله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) (يوسف: 2)، وقوله تعالى: {وَلَوْ
جَعَلْنََاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقََالُوا لَوْلََا فُصِّلَتْ آيََاتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفََاءٌ وَالَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ فِي آذََانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولََئِكَ يُنََادَوْنَ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ} (44) (فصلت: 44).
يقول المستشرقان بل ووات إن تعبير = قرءنا عربيّا = يتضمن الإشارة إلى وجود قرآن غير عربى، وهذا تفسير غريب وتوجيه بعيد لعبارة القرآن، ولا يوجد مسلم يمكن أن يقول بوجود قرآن غير عربى البتّة وأين هو يا ترى هذا القرآن غير العربى؟ وفى أى لغة يكون؟
والله تعالى يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى ََ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لََا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كََانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (88) (الإسراء: 88)، فمثلية القرآن كمثلية منزّله تعالى ممتنعة فى الواقع وفى التصور الصحيح.
والآيات التى تتحدث عن عربية القرآن إنما تعنى الإلزام والإعلان إلزام للعرب بأنه جاء بلغتهم وخاطبهم بلسانهم وهم يفهمون مراده، فوجب عليهم إذن تصديقه، وأما الإعلان ففي تقرير المولى بأنه أرسله بلسان عربى مبين، بلغ الكمال فى لغته وفى لغات العالمين، وأن القرآن لا يوجد مثله، لا فى العربية ولا فى غيرها من اللغات، وما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره إذن أن يفترى هذا القرآن من دون الله، لأنه لا يمكن أن يفترى أصلا.
ونلقى الآن مزيدا من الضوء على كلمة = قرآن = فى أصلها اللغوى، اختلف العلماء فى مفهوم الاسم، هل هو اسم علم خاص بكلام الله تعالى وغير مشتق من شيء أصلا، أم أنه اسم مشتق من = القرى = تقول: = قريت الماء فى الحوض = أى جمعته، وعليه يكون القرآن بمعنى المجموع.
يقول الراغب الأصفهانى (ت: 425هـ / 1033م): = وليس يقال ذلك لكل جمع، فلا يقال: قرأت القوم أى جمعتهم =. والزركشى لا يمنع ذلك فى أصل اللغة، وإن كان ممتنعا فى العرف والاستعمال لذلك توسع الهروى فى تعريف الكلمة فقال: = كل شيء جمعته، فقد قرأته =.
ويبين لنا أبو عبيدة السبب فى إطلاق اسم = القرآن = على كلام الله تعالى بخاصة فيقول: = سمى القرآن بهذا اللفظ إما لأنه جمع السور بعضها إلى بعض، وإما لأن القرآن
جمع معا بين دفتيه أصناف العلوم كلها كما قال تعالى: {مََا فَرَّطْنََا فِي الْكِتََابِ مِنْ شَيْءٍ}
(الأنعام: 38).(1/30)
ويبين لنا أبو عبيدة السبب فى إطلاق اسم = القرآن = على كلام الله تعالى بخاصة فيقول: = سمى القرآن بهذا اللفظ إما لأنه جمع السور بعضها إلى بعض، وإما لأن القرآن
جمع معا بين دفتيه أصناف العلوم كلها كما قال تعالى: {مََا فَرَّطْنََا فِي الْكِتََابِ مِنْ شَيْءٍ}
(الأنعام: 38).
وقال عليه الصلاة والسلام: = ستكون فتن = قيل: وما المخرج منها؟ قال: = كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم =. (أخرجه الترمذى) وأخرج أبو سعيد بن منصور عن ابن مسعود قال: = من أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين =. قال البيهقى = يعنى أن القرآن يحتوى على أصول العلم =.
وقد عدّ السيوطى وغيره أن من أكبر دلائل إعجاز القرآن إحاطته بالعلوم الجمة، وجمعه للمعارف التامة، واحتواءه على علوم لم يجمعها كتاب من قبله، ولا أحاط بعلمها أحد (1).
ويقول الراغب الأصفهانى فى القرآن بمعنى الجمع، إنه جامع لثمرة كتب الله تعالى التى أنزلها على الأنبياء السابقين وذكر بعض العلماء من المتأخرين أن مادة = قرأ = و = قرآن = ليست بمعنى = جمع = استنادا إلى قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (17) فغاير بين الجمع والقرآن وعليه تكون مادة = قرأ القرآن = بمعنى أظهره وبيّنه، والقارئ يظهر القرآن ويخرجه بحسب قواعد قراءته وعلى الرغم من وجاهة هذا التوجيه للآية، فإن الجمع بين عبارتي = جمعه وقرآنه = فى الآية له معنى خاص، وقرينة خاصة، لا تتسع لما رآه هذا الفريق من العلماء، فكلمة = جمعه = هنا، تفيد جمع القرآن بمعنى تثبيته فى صدر النبى صلى الله عليه وسلم بطريقة إلهية بحتة، فيحفظه من أول مرة، لا بالتكرار والاستظهار، كما هى العادة فى الحفظ بالنسبة لعامة البشر، وكلمة = قرآنه = تعنى قراءته، كما مرّ بنا.
يذهب الإمام الشافعى رضي الله عنه (204150هـ / 819767م) إلى أن = القرآن = اسم علم على كتاب الله تعالى كالتوراة والإنجيل وأنه هو ليس مهموزا، وكان الشافعى يهمز = قرآنه =، ولا يهمز = القرآن =، وكون = القرآن = اسم علم على كتاب الله تعالى، لا يمنع أن يكون له أصل فى اللغة، وكونه ليس مهموزا، لا يعنى أن الأصل فيه أنه كذلك، أى غير مهموز.
__________
(1) معترك الأقران ج 1ص 22.(1/31)
قال الزجاج: = إن ترك الهمزة فى القرآن ليس أصلا وإنما هو للتخفيف، نقلت حركة الهمزة إلى الحرف الساكن قبلها =. (1)
وذهب بعض العلماء ومنهم الإمام الأشعرى إلى أن = القرآن = مشتق من = قرنت الشيء بالشيء إذا ضممته إليه =، سمى بذلك لقران السور والآيات والحروف فيه، وبهذا المعنى سمى الجمع بين الحج والعمرة = قرانا =، والتفريق بينهما = إفرادا =، وهذا القول فيه تكلف ومجافاة لمفردات اللغة ومراميها. ونشك فى صحة إسناد مثل هذا القول إلى الإمام الأشعرى، وبينما يوافق القرطبىّ الإمام الشافعى فى أن القرآن غير مهموز، وهو الرأى الذى ضعفناه، يقدم القرطبى تفسيرا آخر للّفظ، فيقول: = إنه مأخوذ من القرائن، وذلك لأن آياته يصدق بعضها بعضا ويدل بعضها على بعض = (2).
هذا وصف صائب لطبيعة القرآن، ينفى العوج والتناقض عنه، ولكنه لا يصلح أبدا أن يكون هو معنى = القرآن = فى اللغة، وقد ضعّف ابن عطية (ت: 541هـ / 1146م) أيضا هذا الرأى (3). بعد أن بيّنا بالأدلة الكثيرة اتفاق علماء المسلمين على أن لفظة = القرآن = عربية صرفة، وأن اختلاف العلماء حول أصلها ومفهومها اللغوى إنما هو اختلاف تنوّع لا اختلاف تضاد، وأنها مشتقة من الفعل = قرأ =، وأن الاسم المصدرى = قرآن = يقرأ أحيانا بدون همز للتخفيف. نذكر الآن المفهوم الشرعى المجمع عليه للقرآن الكريم.
يعرّف ابن خلدون (808732هـ / 14061332م) القرآن بأنه: = كلام الله المنزل على نبيه المكتوب بين دفتى المصحف. وهو متواتر بين الأمة = (4).
وعرفه آخرون بأنه: = الكلام المعجز المنزل على النبى صلى الله عليه وسلم المكتوب فى المصاحف، المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته = (5)، وهذا التعريف قد جمع خصائص القرآن من الوحي، والتنزيل، والتواتر، والتعبد بتلاوته. وكل هذا يؤكد إلهية المصدر الإلهى للقرآن، وكذلك
__________
(1) الزركشى. البرهان ج 1ص 276وما بعدها، وانظر الخطيب البغدادى. تاريخ بغداد، ج 2ص 62القاهرة 1349هـ
(2) الزركشى البرهان ج 1ص 279277.
(3) المقدمة ج 3ص 1028.
(4) المقدمة ج 3ص 1028.
(5) الزرقانى مناهل العرفان ج 1ص 18وما بعدها.(1/32)
العناية الشديدة التى أولاها الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون له، جيلا بعد جيل.
ويعرف أبو بكر الباقلانى (ت: 403هـ / 1012م) القرآن بقوله: = ذكر العلماء أن الأصل فى هذا (أى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم) هو أن تعلم أن القرآن الذى هو متلو محفوظ مرسوم فى المصاحف، هو الذى جاء به النبى صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الذى تلاه على من فى عصره ثلاثا وعشرين سنة والطريق إلى معرفة ذلك، هو النقل المتواتر الذى يقع عنده العلم الضرورى به. وذلك أنه قام به فى الموقف وكتب به إلى البلاد، وتحمله عنه إليها من تابعه وأورده على غيره ممن لم يتابعه، حتى ظهر فيهم الظهور الذى لا يشتبه على أحد = (1).
ويعرف علماء الكلام القرآن بأنه: = الصفة القديمة المتعلقة بالكلمات الحكمية من أول الفاتحة إلى آخر سورة العلق = (2).
ويقول ابن حزم (ت: 456هـ / 1064م): = يتبين بالبراهين والمعجزات أن القرآن هو عهد الله إلينا، والذى ألزمنا الإقرار به، والعمل بما فيه، وصح بنقل الكافة الذى لا مجال للشك فيه، أن هذا القرآن هو المكتوب فى المصاحف، المشهور فى الآفاق كلها = (3).
ويقول فى تعريفه أيضا: = القرآن وكلام الله كلاهما معنى واحد، واللفظان مختلفان، والقرآن هو كلام الله عزّ وجلّ على الحقيقة، بلا مجاز = (4). ونقل ابن تيمية (ت: 728هـ / 1327م) عن كتاب الفصول فى الأصول لأبى الحسن محمد بن عبد الملك الكرخى، قول الشيخ أبى حامد الأسفرايني = مذهبى ومذهب الشافعى وفقهاء الأمصار، أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل عليه السلام مسموعا من الله تعالى، والنبى سمعه من جبريل عليه السلام، والصحابة سمعوه من النبى صلى الله عليه وسلم، وهو الذى نتلوه بألسنتنا وفيما بين الدفتين، وما فى صدورنا مسموعا ومكتوبا ومحفوظا، وكل حرف منه كالباء والتاء، كله كلام الله غير مخلوق = (5). وسوف يكون لنا كلام آخر فى هذا الموضوع فى
__________
(1) إعجاز القرآن ص 39.
(2) إعجاز القرآن ص 39. وابن حزم. الفصل ج 3ص 1716، والزرقانى. مناهل العرفان. ج 1ص 18وما بعدها.
(3) ابن حزم. الفصل ج 2ص 7وما بعدها.
(4) المصدر نفسه.
(5) رسائل وفتاوى. تحقيق محمد رشيد رضا ومحمد البلتاجى، ج 3ص 162وما بعدها. القاهرة. وهبة 1412هـ / 1992م. وانظر الإمام البخارى. خلق أفعال العباد ضمن عقائد السلف. تحقيق على سامى النشار وعمار الطالبى الإسكندرية ص 118وما بعدها، المعارف 1971م.(1/33)
قرينة الرد على أصحاب دعوى خلق القرآن.
نتناول الآن مع ويلش مواضع لفظة = قرآن = وقرائنها فى القرآن الكريم، وذلك لتحديد التاريخ الذى ذكرت فيه هذه اللفظة، وتحديد معناها أو معانيها الدقيقة فى سياق القرائن القرآنية.
ورد لفظ = القرآن = هكذا معرفا بالألف واللام خمسين مرة فى خمس وثلاثين سورة منها ثلاثا وعشرين مكية واثنتا عشرة مدنية. كما جاء ذكرها بدون أداة التعريف ثمان عشرة مرة فى ثمان عشرة سورة ثلاث منها مدنية والباقية مكية وذلك على النحو التالى:
= بقرآن =، = قرآن =، = وقرآن =، = لقرآن =، = قرآنا =، = قرآنه =.
من هذا الثبت يتبين لنا أن لفظ = القرآن = قد ذكر بصيغه المختلفة فى ثمان وثلاثين سورة مكية، وخمس عشرة مدنية، أى أن ورود لفظ = القرآن = فى السور المكية، جاء أكثر منه فى السور المدنية، وأن بعض هذه السور والآيات المكية تعد من أوائل ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله تعالى: {لََا تُحَرِّكْ بِهِ لِسََانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (18) (القيامة: 1816)، وقوله تعالى: {وَإِذََا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لََا يَسْجُدُونَ} (21) (الانشقاق: 21)، وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (22) (البروج: 2221)، وقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلََا تَنْسى ََ (6) إِلََّا مََا شََاءَ اللََّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمََا يَخْفى ََ} (7) (الأعلى: 76) وهي مكية، وفيها إشارة إلى إقرائه صلى الله عليه وسلم القرآن وكذلك قوله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (1) (القدر: 1)، وهي مكية أيضا، والضمير فى = أنزلناه = عائد على القرآن وهذا محل إجماع بين علماء المسلمين.
إذا اتضح ذلك، نقول إن زعم المستشرق بأن تسمية = القرآن = إنما جاءت متأخرة فى القرآن بعد أن أمر الله تعالى النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يجهر بصلاته استنادا إلى قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلََّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (4) (المزمل: 41)، لا مسوغ له البتّة إذ لا علاقة بين الأمر بالصلاة وقراءة القرآن فيها على نحو ما وبقدر ما، وبين نزول = القرآن = نفسه وتسميته بهذا الاسم. حتى لو سلمنا للمستشرق جدلا بأن القرآن قد سمى باسمه هذا فى الوقت نفسه، الذى أمر فيه
النبى صلى الله عليه وسلم بالصلاة، أى بعد توالى الوحي عليه بمدة، فإن هذا لا يصلح أن يكون دليلا، لا من بعيد ولا من قريب، على أن كلمة = قرآن = سريانية الأصل، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد استعارها ليسمى بها كتاب الله تعالى. وقد ذكرنا من قبل أن القرآن معروف باسمه هذا منذ بداية التنزيل.(1/34)
إذا اتضح ذلك، نقول إن زعم المستشرق بأن تسمية = القرآن = إنما جاءت متأخرة فى القرآن بعد أن أمر الله تعالى النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يجهر بصلاته استنادا إلى قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلََّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (4) (المزمل: 41)، لا مسوغ له البتّة إذ لا علاقة بين الأمر بالصلاة وقراءة القرآن فيها على نحو ما وبقدر ما، وبين نزول = القرآن = نفسه وتسميته بهذا الاسم. حتى لو سلمنا للمستشرق جدلا بأن القرآن قد سمى باسمه هذا فى الوقت نفسه، الذى أمر فيه
النبى صلى الله عليه وسلم بالصلاة، أى بعد توالى الوحي عليه بمدة، فإن هذا لا يصلح أن يكون دليلا، لا من بعيد ولا من قريب، على أن كلمة = قرآن = سريانية الأصل، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد استعارها ليسمى بها كتاب الله تعالى. وقد ذكرنا من قبل أن القرآن معروف باسمه هذا منذ بداية التنزيل.
إن لفظة = قرآن = ليست من عمل محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما هى ككل كلمة فى القرآن وحي من الله تعالى، والقرآن كلام الله، وهو ليس مخلوقا، ولا هو من عمل مخلوق.
وللقرآن أسماء أخرى، تتّبعها الحرّاني فأوصلها إلى تسعة وتسعين اسما. وقال القاضى أبو المعالى عزيزى بن عبد الملك: = إن الله تعالى سمى = القرآن = بخمسة وخمسين اسما على سبيل المثال: {بَيََانٌ} (آل عمران: 138)، {نُوراً مُبِيناً} (النساء: 174)، {كَلََامَ اللََّهِ}
(التوبة: 6)، {وَرَحْمَةٌ} (يونس: 57)، {بِالْوَحْيِ} (الأنبياء: 45)، {ذِكْرٌ}
(الأنبياء: 50)، (لبلغا) (الأنبياء: 106)، {الْفُرْقََانَ} (الفرقان: 1)، {هُدىً}
(لقمان: 3)، {رُوحاً} (الشورى: 52)، {وَالْكِتََابِ الْمُبِينِ} (الدخان: 2).
ويذكر القاضى شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله المظفرى (ت: 632هـ / 1234م) فى تاريخه أن الصحابة سموا = القرآن = = مصحفا =، بعد أن جمعوه فى الصحف فى خلافة أبى بكر.
ونمضى الآن فى دراسة موضوع = القرآن = كلفظ قرآنى، فنلقى مزيدا من الضوء على الآيات، التى بنى عليها المستشرق ويلش، رأيه، بالنسبة للفعل = اقرأ =، الذى اشتق منه القرآن، والذى سبق أن قلنا إنه كان أول ما نزل من الوحي. يخبرنا الكرمانى فى شرح حديث = بدء الوحي = برواية البخارى، أن قوله تعالى: {اقْرَأْ} (العلق: 1)، تفيد العموم، ولا تخص قراءة شيء بعينه ولذلك تعجب النبى صلى الله عليه وسلم، وعارض جبريل ثلاث مرات سائلا، أو مقررا، ما أنا بقارئ؟! يعنى ماذا تريدنى أن أقرأ، وما أنا بقارئ أى أنه لا يعرف القراءة والكتابة، ولم يسلك سبيل التعلم البتّة، فجاءت عبارة: = باسم ربّك = لتفيد أن اسم الله، ربه ومربيه، هي أداته فى القراءة والتعلم، وأن ما سيقرؤه هو من عند الله تعالى. وبهذا دخلت القراءة فى القرآن، وحددت نوع المقروء (يعنى القرآن) وحددت كذلك من هو المعلّم للقراءة، وهو الله، الرب الذى يربى وينشئ، ويؤتي من لدنه العلم لمن شاء أن
يصطفيه من البشر (1).(1/35)
ونمضى الآن فى دراسة موضوع = القرآن = كلفظ قرآنى، فنلقى مزيدا من الضوء على الآيات، التى بنى عليها المستشرق ويلش، رأيه، بالنسبة للفعل = اقرأ =، الذى اشتق منه القرآن، والذى سبق أن قلنا إنه كان أول ما نزل من الوحي. يخبرنا الكرمانى فى شرح حديث = بدء الوحي = برواية البخارى، أن قوله تعالى: {اقْرَأْ} (العلق: 1)، تفيد العموم، ولا تخص قراءة شيء بعينه ولذلك تعجب النبى صلى الله عليه وسلم، وعارض جبريل ثلاث مرات سائلا، أو مقررا، ما أنا بقارئ؟! يعنى ماذا تريدنى أن أقرأ، وما أنا بقارئ أى أنه لا يعرف القراءة والكتابة، ولم يسلك سبيل التعلم البتّة، فجاءت عبارة: = باسم ربّك = لتفيد أن اسم الله، ربه ومربيه، هي أداته فى القراءة والتعلم، وأن ما سيقرؤه هو من عند الله تعالى. وبهذا دخلت القراءة فى القرآن، وحددت نوع المقروء (يعنى القرآن) وحددت كذلك من هو المعلّم للقراءة، وهو الله، الرب الذى يربى وينشئ، ويؤتي من لدنه العلم لمن شاء أن
يصطفيه من البشر (1).
اتخذ الكرمانى من عبارة = باسم ربّك = دليلا على أن البسملة من القرآن ولكننا نرى أن هذا الاستدلال بعيد فالبسملة بصيغتها المعروفة، غير مصرح بها فى ابتداء آيات سورة العلق التى نزل بها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الغار، ولا فى أحاديث بدء الوحي كذلك ثم إن عبارة = باسم ربّك = تختلف عن عبارة = باسم الله =، التى تختص محمدا صلى الله عليه وسلم بالخطاب التربوى التعليمى ثم إن الآيات متصلة لم يتخللها شيء من خارجها، ولو أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة مفتتحا بها قراءته لهذه الآيات، لكان قد بلّغها للسيدة خديجة، ثم للصحابة من بعدها، وهو ما لم يحدث ولم يصلنا فيه علم.
نقل القرآن عن كفار مكة قولهم: {وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُنََا بَيِّنََاتٍ قََالَ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هََذََا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مََا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقََاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلََّا مََا يُوحى ََ إِلَيَّ إِنِّي أَخََافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذََابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلََا أَدْرََاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلََا تَعْقِلُونَ} (16) (يونس: 1615) نزلت هذه الآيات فى قريش عند ما طلبوا منه قرآنا يوافق هواهم فى الحلال والحرام، والعقيدة والعبادة، والمعاملات، والسلوك، وإذن اتخذوه صلى الله عليه وسلم خليلا ووافقوه وواصلوه إلا أنّ ردّ الرسول صلى الله عليه وسلم جاء حاسما ومفحما: {مََا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقََاءِ نَفْسِي} يعنى أن الله تعالى هو منزل الكتاب، وصاحب الخطاب، والمتصرف فى الوحي والرسالات، وإنما أنا متلق ومبلّغ، فإذا شاء الله تبديل القرآن استجابة لكم، بدّله، فهو سبحانه وتعالى مطلق المشيئة. ليس فى هذا الكلام أى إشارة إلى إمكان تبديل القرآن، وهذه الآية لا تعني أكثر من طريقة فى الخطاب، ومنهج فى الحجاج، وهو من باب قوله تعالى: {لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا} (الأنبياء: 22)، إذ ليس فيه دليل ولا تقرير على إمكان وجود إلهين للكون، وإنما على العكس، فيه تأكيد استحالة وقوع ذلك، عن طريق ردّ المخاطب إلى النظر فى النظام الكونىّ المعجز الدالّ على الوحدانية والقدرة والحكمة ومن هذا أيضا قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كََانَ لِلرَّحْمََنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعََابِدِينَ} (81)
__________
(1) الكرمانى شرح صحيح البخارى ج 1ص 34 (المطبعة المصرية 1933).(1/36)
(الزخرف: 81)، ليس فيه جواز الشريك والوالد لله تعالى وإنما فيه ردّ على المجوّزين لذلك، الذين جاوزوا الحق، فقالوا اتّخذ الله ولدا ولو كان لله شريك، لجاءت به الرسل، وأبلغت عنه الأنبياء، ونطقت به الكتب، ولذكر الله ذلك صراحة فى القرآن، لأنه يكون إذن من أخص المسائل الاعتقادية، ولكن الأنبياء قد دعوا جميعا إلى الإله الواحد المنزّه عن الشريك والولد، وإلى إفراده عزّ وجلّ وحده بالعبادة والحكم والسلطان.
وبعبارات أخرى لو كان هناك إله آخر غير الله لأعلن عن نفسه، ولجاءتنا عنه الرسل والكتب، ولوجدنا فى الكون من ينازع الله تبارك وتعالى، كما يقول عز وجل وهو مما يدور فى السياق نفسه: {قُلْ لَوْ كََانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمََا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ََ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحََانَهُ وَتَعََالى ََ عَمََّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً} (43) (الإسراء: 4342).
أكد الله تعالى أن القرآن هو كلامه، وأن محمدا ليس إلا مبلّغا عنه، ولا يتأتّى له صلى الله عليه وسلم، ولا لأي بشر أن يأتي بمثل هذا القرآن، ولو لم ينزل الله تعالى هذا الكتاب العزيز على محمد صلى الله عليه وسلم ما كان للعرب أن يسمعوه، فقد كان الرسول يعيش بينهم أربعين سنة، هى سن الشبوبية، وثورة العقل، وقوة التطلع والطموح إلى الزعامة لكن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدّع شيئا من ذلك، ولا عرف به البتّة، فلم يكتب شعرا حتى يدوّن اسمه فى مصاف الشعراء الذين تبوءوا قمة الزعامة والنباهة فى أقوامهم. ولم تعرف لرسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك خطبة، أو حكاية، أو أقصوصة، أو نحو ذلك مما يمكن أن يتخذ دليلا على أنه قد بلغ بالقرآن إلى قمة تطوره الأدبى وإلى تمام نضجه الإبداعي شأنه فى ذلك شأن سائر الأدباء والشعراء.
إن الله تعالى يؤكد أيضا استحالة الإتيان بمثل القرآن من طريق البشر، فى مثل هذه الآيات إذ يقول تعالى: {وَمََا كََانَ هََذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى ََ مِنْ دُونِ اللََّهِ وَلََكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتََابِ لََا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (38) (يونس: 3837)، ويقول: {مََا كََانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ََ وَلََكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (111) (يوسف: 111) أى أن القرآن ليس حديثا أو كلاما مما هو فى مقدور البشر ويقول كذلك: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ
مُفْتَرَيََاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (13) (هود: 13)، تحدّاهم الله بالإتيان بمثل سورة منه أو عشر سور أو بالإتيان بمثله كله، إن أمكنهم ذلك مراعيا قدراتهم المتنوعة، ومتوسعا معهم فى الخطاب، دفعا للمعاذير، واضطرارا لهم إلى التسليم بصحة التنزيل، وذلك أن المفترى أسهل، ووضع الباطل والمختلق على الاختيار أقرب واللفظ إذا تبع المعنى الصحيح كان أصعب ولهذا قيل: فلان يكتب كما يقال، وفلان يكتب كما يريد وللأول فضل على الثانى، وبينهما شأو بعيد.(1/37)
إن الله تعالى يؤكد أيضا استحالة الإتيان بمثل القرآن من طريق البشر، فى مثل هذه الآيات إذ يقول تعالى: {وَمََا كََانَ هََذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى ََ مِنْ دُونِ اللََّهِ وَلََكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتََابِ لََا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (38) (يونس: 3837)، ويقول: {مََا كََانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ََ وَلََكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (111) (يوسف: 111) أى أن القرآن ليس حديثا أو كلاما مما هو فى مقدور البشر ويقول كذلك: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ
مُفْتَرَيََاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (13) (هود: 13)، تحدّاهم الله بالإتيان بمثل سورة منه أو عشر سور أو بالإتيان بمثله كله، إن أمكنهم ذلك مراعيا قدراتهم المتنوعة، ومتوسعا معهم فى الخطاب، دفعا للمعاذير، واضطرارا لهم إلى التسليم بصحة التنزيل، وذلك أن المفترى أسهل، ووضع الباطل والمختلق على الاختيار أقرب واللفظ إذا تبع المعنى الصحيح كان أصعب ولهذا قيل: فلان يكتب كما يقال، وفلان يكتب كما يريد وللأول فضل على الثانى، وبينهما شأو بعيد.
لم يستجب أحد من أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم وأعداء القرآن قاعدة رسالته، للتحدي، ولو بمجرد المحاولة والشروع فى معاناة القول لقد اكتفوا بالتشنيع والتنقيص كقول الله حكاية عنهم: {إِنْ هَذََا إِلََّا إِفْكٌ افْتَرََاهُ وَأَعََانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} (الفرقان: 4)، وقولهم:
{أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهََا فَهِيَ تُمْلى ََ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (5) (الفرقان: 5)، وقولهم: {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (2) (القمر: 2)، وقولهم: {إِنْ هََذََا إِلََّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هََذََا إِلََّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (25) (المدثر: 2524)، وهم فى هذا لم يخرجوا عن دائرة المعاندين من كفار العرب، ومن أقوام الأنبياء السابقين الذين قالوا لأنبيائهم: {قُلُوبُنََا غُلْفٌ}
(البقرة: 88)، وقالوا: {قُلُوبُنََا فِي أَكِنَّةٍ مِمََّا تَدْعُونََا إِلَيْهِ وَفِي آذََانِنََا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنََا وَبَيْنِكَ حِجََابٌ} (فصلت: 5)، وقولهم: {لََا تَسْمَعُوا لِهََذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (26) (فصلت: 26)، وكما فعل قوم نوح مع نوح عليه السلام: {جَعَلُوا أَصََابِعَهُمْ فِي آذََانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيََابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبََاراً} (7) (نوح: 7).
وأما عن موقف الكفار من طريقة نزول القرآن واعتراضهم عليها، فيقول تعالى:
{وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلََا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً كَذََلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ وَرَتَّلْنََاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلََا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلََّا جِئْنََاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} (33) (الفرقان: 3332) ففي هذا دليل على أن كفار قريش كانوا يعرفون القرآن باسمه هذا منذ البداية، وأنهم قالوا لو كان القرآن حقا من عند الله لنزل على محمد جملة واحدة، كالكتب السابقة التى سمعوا عنها، قال بهذا ابن عباس.
ويمكن لنا أيضا أن نقول إنهم أرادوا بطلبهم هذا، مجرد العناد والمكابرة والتشويش
على الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إنهم اعتقدوا فى أنفسهم أن القرآن لو نزل جملة واحدة، لاستطاعوا أن يواجهوه مرة واحدة، وأن يجتمعوا له، وينتصروا من ثمّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أن يتجدد التنزيل ويتواكب عليهم بالدعوة والرد والمعارضة، ويتجدد لذلك الإيمان فى قلوب أتباع محمد بتجدد نزوله، ويكسبه مؤيدين دائما، فهذا ما لا يستطيعون صدّه ولا ردّه. كذلك يمكن أن يقال ربما فكر الكفار فى أنه لو نزل القرآن جملة فى كتاب أو ألواح، لأمكنهم أن يتضافروا على اغتصابها وحرقها، كما حدث لبعض كتب الأنبياء السابقين.(1/38)
ويمكن لنا أيضا أن نقول إنهم أرادوا بطلبهم هذا، مجرد العناد والمكابرة والتشويش
على الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إنهم اعتقدوا فى أنفسهم أن القرآن لو نزل جملة واحدة، لاستطاعوا أن يواجهوه مرة واحدة، وأن يجتمعوا له، وينتصروا من ثمّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أن يتجدد التنزيل ويتواكب عليهم بالدعوة والرد والمعارضة، ويتجدد لذلك الإيمان فى قلوب أتباع محمد بتجدد نزوله، ويكسبه مؤيدين دائما، فهذا ما لا يستطيعون صدّه ولا ردّه. كذلك يمكن أن يقال ربما فكر الكفار فى أنه لو نزل القرآن جملة فى كتاب أو ألواح، لأمكنهم أن يتضافروا على اغتصابها وحرقها، كما حدث لبعض كتب الأنبياء السابقين.
ويرد الله تعالى على اعتراض الكافرين على طريقة نزول القرآن بقوله بأنه إنما أنزله منجّما، الآيات بعد الآيات، ليثبت به قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فى وجه الأزمات والمعارضات والمضايقات، وأيضا ليثبت به تلك الآيات فى قلبه حفظا، إذا لو أعطاه الله القرآن جملة، لصعب عليه حفظه، وشغل جميع وقته فى قراءته واستظهاره، وشغلته العناية بضبط القرآن واستظهاره عن بناء الدولة، وتشكيل الأمة، ورعاية مصالح المسلمين، ولاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم فى تحصيل ذلك إلى معونة غيره، ممن يعرف القراءة والكتابة، وهذا يفتح باب الشّبهة ويوسّع للكفار ويمهد لهم الطريق إلى القدح فى القرآن، والطعن في النبي صلى الله عليه وسلم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميا، فناسب كذلك أن ينزل عليه القرآن منطوقا، لا مكتوبا، وأن ينزل عليه منجما، ومرتبا حسب النوازل والحوادث، وأيضا بحسب طاقة النبى صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يعاني من التنزيل شدة، ولا يمكن أن يقال إنه كان بمقدور الله أن ينقش القرآن فى قلب محمد صلى الله عليه وسلم وذاكرته فهذا بخلاف ما رتب الله عليه طبائع الأشياء وإلا ففي قدرة الله أن يدخل الجنة بلا تكليف، وأن ينشئ الذرية بلا تزويج، وأن يغذّى بلا طعام، ويروي بلا شراب، ويشفى بلا دواء، وينضج بلا نار الخ. وحتى لو نقش الله القرآن فى قلب محمد صلى الله عليه وسلم ما انقطع بذلك لجاج المشركين، بل ربما ازدادوا عتوّا ونفورا، وكبرا وصدودا.
أشار ويلش فيما أشار إلى قوله تعالى: {فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (18)، وفهم أن الله تعالى هو القارئ للقرآن بنص هذه الآية. والصحيح أن القارئ هو جبريل عليه السلام، ولكن الله أسند القراءة إلى نفسه، لتكون بمثابة الدليل على صدق جبريل فيما نقله عن الله فالقرآن كلام الله المسموع أولا من جبريل ثم من محمد ثم من الصحابة ثم ممن جاء
بعدهم من المؤمنين إلى يومنا هذا وحتى قيام الساعة. وهذا تأكيد لحفظ الله للقرآن، فالله قد ائتمن عليه ملاكا لا تعتوره الآفات البشرية من الوهم، والخطأ، والنسيان ونبيا صادقا كريما، ثابت القلب، صافي الذهن متجردا من شواغل الدنيا وصوارفها، محتسبا وقته كله لله تعالى.(1/39)
أشار ويلش فيما أشار إلى قوله تعالى: {فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (18)، وفهم أن الله تعالى هو القارئ للقرآن بنص هذه الآية. والصحيح أن القارئ هو جبريل عليه السلام، ولكن الله أسند القراءة إلى نفسه، لتكون بمثابة الدليل على صدق جبريل فيما نقله عن الله فالقرآن كلام الله المسموع أولا من جبريل ثم من محمد ثم من الصحابة ثم ممن جاء
بعدهم من المؤمنين إلى يومنا هذا وحتى قيام الساعة. وهذا تأكيد لحفظ الله للقرآن، فالله قد ائتمن عليه ملاكا لا تعتوره الآفات البشرية من الوهم، والخطأ، والنسيان ونبيا صادقا كريما، ثابت القلب، صافي الذهن متجردا من شواغل الدنيا وصوارفها، محتسبا وقته كله لله تعالى.
موقف آخر من مواقف الكفار ضد القرآن تحكيه هذه الآيات: {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهََذَا الْقُرْآنِ وَلََا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (سبأ: 31) قالوا ذلك عن القرآن والقرآن لم يكتمل نزوله بعد إذ القرآن يطلق على الجزء، كما يطلق على الكل، وذلك كما أشرنا إليه آنفا.
{وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لََا تَسْمَعُوا لِهََذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (26) (فصلت: 26)، دعوة إلى عدم توقير القرآن، وتحفيز للعامة على تعييبه وتحقير شأنه، ابتغاء الغلبة وهذا الموقف فى حد ذاته، يحكى ضعف الكفار وعجزهم عن معارضة القرآن، إذ لو أمكنهم ذلك، لجمعوا له قواهم، وجندوا من أجله طاقاتهم الأدبية والفكرية، وشجعوا أهل العلم بينهم على معارضته وتحديه، ولم يلجئوا إلى هذه الوسيلة السلبية العبثية وهي صرف الناس عن الاستماع إليه، والتشويش عليه.
روى البخارى عن ابن عباس رضى الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة إذا صلى جهر بالقراءة، فكان المشركون يطردون عنه الناس، وقالوا: {لََا تَسْمَعُوا لِهََذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (26) (فصلت: 26) وإذا أخفى قراءته لم يسمع ذلك من يشتهى أن يسمعه فأنزل الله تعالى: {وَلََا تَجْهَرْ بِصَلََاتِكَ وَلََا تُخََافِتْ بِهََا وَابْتَغِ بَيْنَ ذََلِكَ سَبِيلًا} (110) (الإسراء: 110) (1). فى هذا الحديث دلالة على معرفة قريش بالقرآن مبكرا. وهناك أخبار كثيرة تفيد أن القرآن كان معروفا هكذا باسمه، من بداية الوحي بين المسلمين والكفار على حدّ سواء.
ورد ذكر الفعل = قرأ = الذى اشتق منه القرآن، بصيغ مختلفة، سبع عشرة مرة فى الذكر الحكيم اثنتا عشرة منها جاءت فى قرينة قراءة القرآن بخاصة، على سبيل المثال:
__________
(1) البخارى = خلق أفعال العباد بعقائد السلف = ص 173.(1/40)
قوله تعالى: {فَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ مِنَ الشَّيْطََانِ الرَّجِيمِ} (98) (النحل: 98) المخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمأمور أمّته، أمروا بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند قراءة القرآن، حتى لا يفسد عليهم قراءتهم بالإلقاء فى روعهم، {وَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنََا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجََاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذََانِهِمْ وَقْراً وَإِذََا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى ََ أَدْبََارِهِمْ نُفُوراً} (46) (الإسراء: 4645) القارئ للقرآن هنا، هو محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن سمعه من جبريل عليه السلام وحفظه.
يقول تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلََا تَنْسى ََ (6) إِلََّا مََا شََاءَ اللََّهُ} (الأعلى: 76) الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وعده ربّه بأنه سيقرئه القرآن بلسان جبريل عليه السلام، ويحفّظه إياه فلا ينساه، كما قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (17) (القيامة: 17)، وقال سبحانه: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (9) (الحجر: 9). وأما الاستثناء فى قوله تعالى: {إِلََّا مََا شََاءَ اللََّهُ} (الأعلى: 7)، فقد يكون الإنساء لبعض آيات القرآن من الله بغرض النسخ مصداقا لقوله تعالى: {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهََا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهََا أَوْ مِثْلِهََا} (البقرة: 106)، والنسخ والإنساء من عمل الله تعالى وتقديره، والقرآن كلام الله عز وجل وتنزيله، وهو صاحب الأمر والنهى. وسوف نتناول هذه النقطة، فى قرينة الحديث عن الناسخ والمنسوخ، فى موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وكما أمر الله نبيه بقراءة القرآن بلفظ (اقرأ)، أمره بقراءته كذلك بلفظ (رتّل)، قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (4) (المزمل: 4).
قلنا إن الترتيل معناه القراءة للغير، أو على الغير، بطريقة فيها تتابع وأناة. وقد أسند الله تعالى القراءة إلى نفسه بالفعل = رتّل = كما فى قوله تعالى: {كَذََلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ وَرَتَّلْنََاهُ تَرْتِيلًا} (32) (الفرقان: 32)، أسند الله الترتيل إليه بضمير = نا = للتعظيم والمقصود رتلناه لك بلسان جبريل عليه السلام.
يقول تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى ََ لِلْمُسْلِمِينَ} (102) (النحل: 102)، فهذه الآية واضحة فى أن جبريل، جاء بالقرآن من عند الله، لا من عند نفسه.
وردت كلمة (اقرءوا) بتوجيه الأمر للمسلمين بقراءة القرآن، فى قوله تعالى: {فَاقْرَؤُا مََا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (المزمل: 20) أى فى صلاتكم، وقد عبّر الله هنا بقراءة القرآن عن الصلاة لتلازمهما.(1/41)
يقول تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى ََ لِلْمُسْلِمِينَ} (102) (النحل: 102)، فهذه الآية واضحة فى أن جبريل، جاء بالقرآن من عند الله، لا من عند نفسه.
وردت كلمة (اقرءوا) بتوجيه الأمر للمسلمين بقراءة القرآن، فى قوله تعالى: {فَاقْرَؤُا مََا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (المزمل: 20) أى فى صلاتكم، وقد عبّر الله هنا بقراءة القرآن عن الصلاة لتلازمهما.
ونود أن نوضح بعد هذا العرض للآيات الخاصة بقراءة القرآن ومناقشتها، أنه على أى نحو ورد الأمر بالقراءة، وأيا كان المتحدث بالقرآن، الله تعالى، أو جبريل عليه السلام، أو محمد صلى الله عليه وسلم، فإن القرآن كله كلام الله تعالى، لا شريك له فيه، كما لا شريك له فى ملكه.
وهناك أيضا آيات جاء فيها الفعل = قرأ = بهذه الصيغة، أو بصيغة أخرى مصحوبا بلفظة = كتاب = بمعنى = مكتوب = كما فى قوله تعالى: {وَقََالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتََّى تَفْجُرَ لَنََا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهََارَ خِلََالَهََا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمََاءَ كَمََا زَعَمْتَ عَلَيْنََا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللََّهِ وَالْمَلََائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى ََ فِي السَّمََاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتََّى تُنَزِّلَ عَلَيْنََا كِتََاباً نَقْرَؤُهُ}
(الإسراء: 90: 93).
من هذه الآيات نتبين أن القوم كانوا أهل جدال وعناد، ولم يكونوا طلاب حقائق بالمرة. ولكن ينبغى أن نلاحظ أيضا أن الذين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ليسوا هم كل الكفار، وإنما جماعة منهم فقط، وهم عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وأبو البحترى، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل وهؤلاء هم رءوس الكفر آنذاك، وكلام هؤلاء المجادلين يخلو من الفكر والنظر، وهو وليد المكابرة والمهاترة، فهم قد جزموا سلفا بعدم الإيمان، إذ قالوا له: = لن نؤمن لك = أى لن نصدقك فيما تقول، ولم يقولوا = لن نؤمن بك = لأن الإيمان به يقتضى اتباعه لا مجرد تصديقه، فالقضية عنادية. وصراعهم مع محمد صلى الله عليه وسلم، كان من أجل الرئاسة والزعامة فحسب لقد تعنتوا بمطالبته أن يفجر لهم عين ماء جارية فى الأرض الجدباء أن تكون له حدائق غنّاء وزروع فيحاء، تنساب فيها مياه الأنهار عذبا فراتا أن يسقط عليهم السماء من فوقهم فلقا فلقا وقطعا قطعا كما أخبرهم بحسب زعمهم أن يكون له بيت فخم من ذهب، شأن أهل الرئاسات فى الدنيا أن يصعد إلى
السماء على سلّم أمام أعينهم فيحضر لكل واحد منهم كتابا باسمه، يقول الله له فيه بخاصة آمن بمحمد واتبعه.(1/42)
من هذه الآيات نتبين أن القوم كانوا أهل جدال وعناد، ولم يكونوا طلاب حقائق بالمرة. ولكن ينبغى أن نلاحظ أيضا أن الذين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ليسوا هم كل الكفار، وإنما جماعة منهم فقط، وهم عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وأبو البحترى، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل وهؤلاء هم رءوس الكفر آنذاك، وكلام هؤلاء المجادلين يخلو من الفكر والنظر، وهو وليد المكابرة والمهاترة، فهم قد جزموا سلفا بعدم الإيمان، إذ قالوا له: = لن نؤمن لك = أى لن نصدقك فيما تقول، ولم يقولوا = لن نؤمن بك = لأن الإيمان به يقتضى اتباعه لا مجرد تصديقه، فالقضية عنادية. وصراعهم مع محمد صلى الله عليه وسلم، كان من أجل الرئاسة والزعامة فحسب لقد تعنتوا بمطالبته أن يفجر لهم عين ماء جارية فى الأرض الجدباء أن تكون له حدائق غنّاء وزروع فيحاء، تنساب فيها مياه الأنهار عذبا فراتا أن يسقط عليهم السماء من فوقهم فلقا فلقا وقطعا قطعا كما أخبرهم بحسب زعمهم أن يكون له بيت فخم من ذهب، شأن أهل الرئاسات فى الدنيا أن يصعد إلى
السماء على سلّم أمام أعينهم فيحضر لكل واحد منهم كتابا باسمه، يقول الله له فيه بخاصة آمن بمحمد واتبعه.
هذا هو المعنى المقصود فى الآية، وليس ما زعمه ويلش من أنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا مقدسا كالتوراة والإنجيل، فالعرب لم يعرفوا تفصيلا كيف أعطى الله موسى التوراة، وعيسى الإنجيل، حتى يطالبوا محمدا بإحضار كتاب على هذا النحو وثانيا: فإنه ليس من المعهود فى الوحي، أن يصعد النبى إلى السماء على سلّم، لكى يتلقى الكتاب بيمينه من الله تعالى. إنّ شأن المكابر أنه يحاول أن يخرج الرسالة عن طبيعتها، ويحول بين النبى وبين الناس.
ولكى يقوّى المستشرق ويلش زعمه فى تحديد طبيعة الكتاب الذى طلبه المشركون من محمد صلى الله عليه وسلم أشار إلى قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتََابَ مِنْ قَبْلِكَ} (يونس: 94)، يريد بذلك أن يقول إن النبى صلى الله عليه وسلم، والعرب كذلك كانوا يعرفون كتب اليهود والنصارى، الذين هم أهل الكتاب وهو أمر بعيد التصور والاحتمال. ولكى تتضح المسألة أكثر، نتكلم فى معنى هذه الآية هنا باختصار، إذ كثيرا ما يرفعها الكتابيّون القدماء، والمحدثون منهم دائما فى وجه المسلمين لمدافعة اعتقادهم فى تحريف اليهود والنصارى لكتبهم.
ونعرض الآن ما يقوله علماء المسلمين فيها:
قال بعضهم: لا يجوز الشك على رسول الله صلى الله عليه وسلم البتّة. وفسر الحسن = إن = بمعنى = ما = النافية وبالتالى تكون الآية، فى نفى الشك، لا فى إثباته، ونرى أن هذا التوجيه بعيد، ولا يستغرق بحال، ما فى الآية، من الأمر بسؤال أهل الكتاب، وحثه صلى الله عليه وسلم ألا يكون من الممترين، أى الشاكين (1).
ويقدم القاضى عبد الجبار (ت: 415هـ 1024م) رأيا آخر فى المسألة فيقول: = المراد بعبارة = فإن كنت فى شكّ = أى من شكّ بالفعل فى ذلك، أى فى صحة القرآن على وجه الزجر أو أنه تعالى قال ذلك لأهل الكتاب، الذين يجوز أن يسألهم
__________
(1) ابن عطية المحرر الوجيز. ج 7ص 219217، وأيضا. ابن تيمية الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح ج 1ص 341وما بعدها. السعودية، مطابع المجد.(1/43)
غيرهم عما فى الكتب من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم (1)، وهذا التوجيه الأخير فيه تكلف وبعد عن مرامى الخطاب فى الآية الكريمة =.
ويرى ابن عطية أن الصواب فى المسألة أن يقال إن الآية تخاطب النبى صلى الله عليه وسلم مباشرة. وتتوجه بالخطاب من خلاله، إلى كل من يشك أو يعارض، وهو توجيه حسن وله شواهد تظاهره. وقال قوم آخرون هو على منوال قولك = إن كنت ابني فبرّنى = وأنت لا تشك أنه ابنك، وإنما تستحثه على البرّ بك.
وعلق أبو حيان على الآية بقوله إنّ = إن الشرطية = تقتضى تعليق شيء على شيء، ولا تستلزم تحقق وقوعه ولا إمكانه، بل قد يكون ذلك من باب المستحيل عقليا كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كََانَ لِلرَّحْمََنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعََابِدِينَ} (81) (الزخرف: 81) ومستحيل أن يكون لله ولد، وكذلك فإنه من المستحيل أن يشك محمد فيما أوحى إليه، ويقدم ابن عطية على ذلك مثلا آخر من قوله تعالى: {وَإِذْ قََالَ اللََّهُ يََا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنََّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلََهَيْنِ مِنْ دُونِ اللََّهِ قََالَ سُبْحََانَكَ مََا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مََا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}
(المائدة: 116)، والله يعلم أن عيسى لم يقل ذلك، وهو برىء منه. ولذلك روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما نزلت عليه هذه الآية = أنا لا أشك ولا أسأل = (2).
ويمكن أن يكون الشك المشار إليه فى الآية، وتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لسؤال أهل الكتاب، خاصا بمسائل معينة، أو حوادث مشتركة بين القرآن وبين الكتب السابقة كأن يكون النبى صلى الله عليه وسلم قد استكثر ما فعله اليهود بأنبيائهم، أو أخفوه هم والنصارى من كتبهم، أو اختلفوا فيه فيما بينهم، فأراد الله تعالى أن يثبّت قلب نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية، التى أمر فيها أن يسألهم عن هذه الأمور الخاصة، ليرى من واقعهم، صدق ما قاله الله له فى القرآن، ولذلك جاء بعده: = لقد جاءك الحق من ربك = ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أحدا من أهل الكتاب مما يدل على عدم وجود الشك فى نفسه، أو وقوعه منه بالفعل.
ومهما يكن الأمر، فإن فى هذه الآية مدلولا علميا وتربويا عظيم الأثر فإنها تأمر بإزاحة الشك، والوصول إلى اليقين بالسؤال والاستفسار، أو تأكيد اليقين بسؤال أهل العلم
__________
(1) تنزيه القرآن عن المطاعن، ص 179.
(2) أخرجه عبد الرازق وابن جرير، وروى من طرق أخرى باختلاف يسير فى العبارة. المحرر الوجيز. ج 7ص 219.(1/44)
والعارفين، على وجه التقرير والإلزام، وتنهى أن يكون الاختلاف فى الدين أو المعتقد حائلا دون طلب المعرفة، وعلى ذلك فالآية تحمل رصيدا نفسيا هائلا فى التقريب بين البشر، والتواصل معهم دون أن يكون لها مدلول عقدي كما فهم المستشرقون.
إضافة إلى ما سبق ذكره، يشير ويلش إلى آيتى الإسراء: {أَقِمِ الصَّلََاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى ََ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كََانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نََافِلَةً لَكَ عَسى ََ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقََاماً مَحْمُوداً} (79) (7978)، ثم يقول: = إن هاتين الآيتين تمدّنا بمعلومة مهمة، إذ توضح لنا العلاقة بين الصلاة والقرآن، فى الوقت الذى تعيّن واستقر كلّ منهما =.
ونحن إذ نوافق ويلش على أن فى الآية إشارة إلى العلاقة بين لفظ = القرآن = ومشروعية الصلاة، نخالفه تماما فى الربط التاريخى بينهما فالقرآن كان معروفا باسمه منذ بداية الوحى، وقبل فرض الصلاة على المسلمين فى ليلة الإسراء والمعراج، كما أثبتنا من قبل.
ومن المفيد أن نعرف أن معنى = قرءان الفجر = أى القرآن الذى يقرأ فى صلاة الفجر أو بعد الصلاة، ومعنى = مشهودا = أى تحضره ملائكة الليل والنهار، كما جاء فى الحديث الذى رواه البخارى فى صحيحه وأحمد والترمذى والنسائى وابن ماجة (1).
ويستمر المستشرق ويلش فى استعراض الآيات التى تحتوى على لفظة = القرآن = فيشير تحديدا إلى قوله تعالى: {طه (1) مََا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ََ} (2) (طه: 21) وقوله تعالى: {فَتَعََالَى اللََّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلََا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى ََ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (114) (طه: 114)، وقوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنََا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} (الأحقاف: 29)، وإلى قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقََالُوا إِنََّا سَمِعْنََا قُرْآناً عَجَباً} (1) (الجن: 1) وقوله تعالى: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنََا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} (الإنسان: 23)، ويعلق عليها بقوله: = فى مجموعة كبيرة من
__________
(1) انظر مختصر تفسير ابن كثير ج 2ص 391.(1/45)
القرائن المختلفة، والتي يرجع تاريخها بحسب موضوعاتها، إلى الفترة الأخيرة من العهد المكى، والسنوات الأولى من العهد المدنى =.
جاء ذكر = القرءان = مقترنا بأداة التعريف وهو فى هذه المواضع كلها يحتوى على معنى مركب وهذا المعنى المركب بدوره يشتمل على عدة عناصر أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم، فالآية (106) من سورة الإسراء (1)، تقضى بنزول القرآن منجما ليتمكن الناس من حفظه وتدبره وآية الفرقان (32) (2) تؤكد المعنى نفسه فالقرآن نزل منجما لتثبيت قلب محمد بتجدد النزول، ودوام الوصول أيضا، فإن نزول القرآن منجما يساعد على تثبيت القرآن فى قلبه صلى الله عليه وسلم حفظا وفقها وعملا ومنهجا.
ويشير ويلش إلى قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مََا هُوَ شِفََاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}
(الإسراء: 82)، ثم يستنتج منها خطأ أن القرآن الذى عند الله، هو غير القرآن الذى عند محمد، والذى ادعى محمد أنه نزل عليه وهذا جهل بأسرار اللغة، ومرامى العبارات، وجهل بالقرائن المصاحبة للتعبير القرآنى وذلك لأن حرف الجر = من = الذى تعلق به الكاتب، ووقع فى الخطأ بسببه، يصح أن يكون لابتداء الغاية كما يصح أن يكون لبيان الجنس، كما قاله الأخفش وأبو البقاء العكبرى، وإن كان أبو حيان يذهب فى تفسير الآية إلى أن = من = التى لبيان الجنس، لا تتقدم على المبهم الذى تبينه، وإنما تكون متأخرة عنه (3).
وأنكر البعض أن تكون = من = في الآية السابقة للتبعيض، ولكن ليس للسبب الذى تخيله المستشرق، وإنما لسبب آخر، وهو أن هذا التعبير = من القرءان = قد يوهم بأن البعض الآخر من القرآن لا شفاء فيه. وقد أثار الملاحدة بالفعل مثل هذا الاعتراض على الآية، حيث قالوا: أليس يوجب ذلك أن بعض القرآن شفاء ورحمة، دون البعض الآخر؟ = وقد ردّ عليهم القاضى عبد الجبار فى ذلك بقوله: = إن الله ينزل من آيات القرآن
__________
(1) {وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا}
(2) {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلََا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً كَذََلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ وَرَتَّلْنََاهُ تَرْتِيلًا}
(3) تنزيه القرآن عن المطاعن ص 232.(1/46)
ما يدعو إلى التمسك بالإيمان، الذى هو الشفاء من كل داء، ولا يجب ذلك فى كل القرآن وقول الله تبارك وتعالى أن بعضه شفاء، لا يعنى أن البعض الآخر لا يدل على أن سائره بخلافه = (1).
هذا بالنسبة للمؤمنين والمهيئين للإيمان، يشفيهم القرآن من مرض الكفر والكبر والعناد وسائر الأمراض النفسية والاجتماعية أما بالنسبة لغير المؤمنين، من المعاندين، فهو وقر فى الآذان، وهو عليهم عمى، وحرج فى صدورهم، واختلاط وخلل فى عقولهم، ومرض فى قلوبهم، وختم عليها.
يقول الله تعالى: {فَإِنَّمََا يَسَّرْنََاهُ بِلِسََانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} (97) (مريم: 97)، ويقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ جَعَلْنََاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقََالُوا لَوْلََا فُصِّلَتْ آيََاتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفََاءٌ وَالَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ فِي آذََانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولََئِكَ يُنََادَوْنَ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ} (44) (فصلت: 44).
فى هاتين الآيتين وصف للقرآن كله بأنه شفاء وهدى للمؤمنين المتقين، وأنّ فيهما أيضا ردّا على المستشرق، الذى يريد أن يضع تفسيرات غريبة للقرآن، لا يقرها عقل سليم ولا نقل صحيح.
إن نزول القرآن منجما من اللوح المحفوظ لا يعنى البتّة أن هناك = قرآنا أكبر = و = قرآنا أصغر = أو = قرآنا عند الله = وقرآنا عند محمد = كما توهم الكاتب بل هناك = قرآن = واحد، هو الذى أنزله الله على محمد، وهو مكتوب فى المصاحف المحفوظة فى الأمصار الإسلامية، وفى صدور الحفاظ من أمته صلى الله عليه وسلم، لا فرق بين القرآن مقروءا، أو مسموعا، أو مكتوبا، والقرآن هو هو الذى فى اللوح المحفوظ، وهو هو الذى نزل به جبريل، لا تحريف فيه ولا تبديل.
يحاول ويلش أن يعمق فكرته الخيالية فى وجود قرآنين، فيشير إلى قوله تعالى:
{وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى ََ فَإِنَّمََا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمََا أَنَا مِنَ}
__________
(1) المصدر نفسه.(1/47)
{الْمُنْذِرِينَ} (92) (النمل: 92) يقول بأن هذه الآية، إشارة إلى القرآن الذى كان بحوزة محمد، أمر أن يقرأه على الناس، بعد أن تلاه الله عليه، كما قال: {ذََلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيََاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (58) (آل عمران: 58) ويقول تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى ََ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) (القصص: 3). وهذا الزعم بعيد كل البعد عن منطوق الآية ومفهومها معا.
يعرض المستشرق بعد ذلك للجانب الطقسى أو التعبدى للقرآن، كما يسميه، فيقول إن هناك أكثر من دليل على وجود هذا النوع فى القرآن، على سبيل المثال، قوله تعالى: {وَإِذََا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (204) (الأعراف: 204) أمروا بالإنصات عند سماع القرآن من الإمام فى الصلاة وفى غير الصلاة، تأدبا مع القرآن، وتأملا، وتدبرا لمعانيه، سواء كان القارئ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أم غيره.
وقال تعالى: {وَإِذََا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لََا يَسْجُدُونَ} (21) (الانشقاق: 21) قال ذلك تعجبا من صلابة قلوب الكافرين، فهم لا يسجدون إعظاما لكلام الله، لا يسجدون عند سماعه، لا بجباههم، ولا بقلوبهم كبرا من عند أنفسهم يقول ويلش: = إن أشد المعانى التى يحتملها لفظ (القرآن) قربا من لفظ القرآن الذى هو عنوان كتاب المسلمين المقدس، يتجلى فى قوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرََاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}
(التوبة: 111). =
ويضيف إلى ذلك قوله: = إن هذا البناء الذى تقدمه السورة ينبئ عن نظم القرآن فى سلك واحد مع الكتب المقدسة المتقدمة عليه نزولا، أو هو يفيد وضع القرآن فى خط متواز مع التوراة والإنجيل، هذا على الرغم من أن القرآن لم يكن قد اكتمل نزوله بعد، ولم يكن قد وضع فى صورته النهائية كذلك إلا بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم =.
إن مقصد الكاتب هنا غير كريم، وإن حاول تغليفه بالعبارات الفضفاضة غير محددة المعانى، إنه يزعم بأن القرآن لم يكن معروفا بهذا الاسم قبل هذه الآية، تلك النقطة التى رددناها فى نحره من قبل. ولكن يبدو أنه مصر عليها، متشبث بها إنه يزعم بأن محمدا إنما
سمى القرآن بهذا الاسم، ليضعه على قدم وساق، مع التوراة والإنجيل وأن ذلك إنما حدث بسبب تأثر محمد صلى الله عليه وسلم بالكتابين وهذا ضرب من الكاتب فى عماية، ودليل على تمسكه المستميت بالأصولية الاستشراقية، التى تزعم بأن محمدا انتحل القرآن من كتب اليهود والنصارى، وهو أمر يرفضه المسلمون جملة وتفصيلا بل ويكذبه التاريخ والمنهج العلمى السليم.(1/48)
إن مقصد الكاتب هنا غير كريم، وإن حاول تغليفه بالعبارات الفضفاضة غير محددة المعانى، إنه يزعم بأن القرآن لم يكن معروفا بهذا الاسم قبل هذه الآية، تلك النقطة التى رددناها فى نحره من قبل. ولكن يبدو أنه مصر عليها، متشبث بها إنه يزعم بأن محمدا إنما
سمى القرآن بهذا الاسم، ليضعه على قدم وساق، مع التوراة والإنجيل وأن ذلك إنما حدث بسبب تأثر محمد صلى الله عليه وسلم بالكتابين وهذا ضرب من الكاتب فى عماية، ودليل على تمسكه المستميت بالأصولية الاستشراقية، التى تزعم بأن محمدا انتحل القرآن من كتب اليهود والنصارى، وهو أمر يرفضه المسلمون جملة وتفصيلا بل ويكذبه التاريخ والمنهج العلمى السليم.
وكون القرآن والتوراة والإنجيل تذكر فى سياق واحد فى هذه السورة المدنية، لا يعنى بحال أن محمدا صلى الله عليه وسلم تعمد بذلك إعلاء قيمة القرآن فالقرآن كلام الله القديم، وقد أخبر الله فى كلامه العزيز أن القرآن الكريم يسمو على كل ما حملته، أو انتحبته اللغات البشرية من علوم وآداب ونظم وبلاغة ثم إن قرينة الآية مخالفة تماما لما حاول المستشرق أن يؤسسه من دعوى إذ أن الآية الكريمة تتحدث عن الجهاد، وعن وعد الله للمجاهدين وليس فى الآية تنويه بالقرآن وإنما فيها تنويه بالوعد الإلهى للمجاهدين بالجنة والعجب كل العجب، أنه يزعم أن لفظ = القرآن = فى هذه الآية، قد اقترب من معنى لفظ = قرآن = الذى هو عنوان كتاب الله، هكذا لمجرد أنه ذكر فى سياق واحد مع التوراة والإنجيل إن الكاتب يتكلم عن مجرد أمانى وأظانين وتخيلات عن كتاب جاء بالحق، وبالحق نزل.
إن الكاتب محكوم فى هذا الزعم بقالب فكرى جامد، وفرضية تخمينية هزيلة، وهى أن التوراة والإنجيل، هما وحدهما الكتابان المقدسان، وأن القرآن إنما هو تقليد لهما، أو اقتباس منهما وسوف نرى عند تناولنا لموضوع ترجمة معانى القرآن، أن المترجمين الغربيين، بصفة عامة، قد انطلقوا من قاعدة هشة واحدة، وهى أن القرآن من وضع محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه كتاب محرف، ومتناقض، وليس وحيا من عند الله، إلى درجة أن إبراهيم جيجر اليهودى الألمانى، قد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد اطلع على التوراة، وكتب الأنبياء، وعلى التلمود، والمشناة فى اللغات المختلفة العبرية والآرامية كذلك، هذا على الرغم مما سبق أن قررناه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان أميا. وأن هذه الكتب لم تكن قد ترجمت بعد إلى العربية. وعلى فرض أن محمدا كان قارئا وهو ما لم يثبت البتّة، فإن الكاتب يتجاهل الشواهد القرآنية
الكثيرة، التى قدمنا أمثلة كافية منها للتدليل على أن القرآن كان معروفا منذ نزوله بهذا الاسم للمسلمين ولمشركى مكة جميعا بل إنه كان معروفا أيضا للجن فهم قد سمعوه وتأثروا به أبلغ التأثر، ووصفوه بقولهم: {قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} (2) (الجن: 21) وبقولهم كذلك: {إِنََّا سَمِعْنََا كِتََاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ََ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى ََ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} (30) (الأحقاف: 30)، ثم آمنوا به وصدقوه بل ودعوا قومهم إلى الإيمان به وإلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: {يََا قَوْمَنََا أَجِيبُوا دََاعِيَ اللََّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذََابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لََا يُجِبْ دََاعِيَ اللََّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءُ أُولََئِكَ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ} (31) (الأحقاف: 3231) وفى نهاية الفصل لا يفوتنا أن ننبه على المغمز الاستشراقى فى كلام ويلش، الذى دسّه فى ثنايا كلامه، يقول: = إن القرآن لم يكتب فى صورته النهائية، إلا بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كنا سنناقش هذه الدعوى فى موضع آخر من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، إلا أننا ننبه باختصار، أن القرآن الكريم قد كتب على الورق، وسعف النخيل، واللخاف، والرقاع، وغيرها، فى حياة محمد صلى الله عليه وسلم سجله كتّاب مخصوصون، عرفوا بكتّاب الوحى كما كتبه بعض الصحابة ممن يجيد القراءة والكتابة لأنفسهم. وكان القرآن كله مجموعا، ومحفوظا، فى حجرة نوم النبى صلى الله عليه وسلم كذلك كان القرآن محفوظا فى صدور المسلمين، رجالهم، ونساؤهم، وأطفالهم وما بالك بكتاب لا تتمّ الصلاة إلا به، ولا يدار الحكم إلا بمقتضاه، ولا تتم الأنكحة، والجنائز إلا بتلاوته.(1/49)
إن الكاتب محكوم فى هذا الزعم بقالب فكرى جامد، وفرضية تخمينية هزيلة، وهى أن التوراة والإنجيل، هما وحدهما الكتابان المقدسان، وأن القرآن إنما هو تقليد لهما، أو اقتباس منهما وسوف نرى عند تناولنا لموضوع ترجمة معانى القرآن، أن المترجمين الغربيين، بصفة عامة، قد انطلقوا من قاعدة هشة واحدة، وهى أن القرآن من وضع محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه كتاب محرف، ومتناقض، وليس وحيا من عند الله، إلى درجة أن إبراهيم جيجر اليهودى الألمانى، قد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد اطلع على التوراة، وكتب الأنبياء، وعلى التلمود، والمشناة فى اللغات المختلفة العبرية والآرامية كذلك، هذا على الرغم مما سبق أن قررناه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان أميا. وأن هذه الكتب لم تكن قد ترجمت بعد إلى العربية. وعلى فرض أن محمدا كان قارئا وهو ما لم يثبت البتّة، فإن الكاتب يتجاهل الشواهد القرآنية
الكثيرة، التى قدمنا أمثلة كافية منها للتدليل على أن القرآن كان معروفا منذ نزوله بهذا الاسم للمسلمين ولمشركى مكة جميعا بل إنه كان معروفا أيضا للجن فهم قد سمعوه وتأثروا به أبلغ التأثر، ووصفوه بقولهم: {قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} (2) (الجن: 21) وبقولهم كذلك: {إِنََّا سَمِعْنََا كِتََاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ََ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى ََ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} (30) (الأحقاف: 30)، ثم آمنوا به وصدقوه بل ودعوا قومهم إلى الإيمان به وإلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: {يََا قَوْمَنََا أَجِيبُوا دََاعِيَ اللََّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذََابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لََا يُجِبْ دََاعِيَ اللََّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءُ أُولََئِكَ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ} (31) (الأحقاف: 3231) وفى نهاية الفصل لا يفوتنا أن ننبه على المغمز الاستشراقى فى كلام ويلش، الذى دسّه فى ثنايا كلامه، يقول: = إن القرآن لم يكتب فى صورته النهائية، إلا بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كنا سنناقش هذه الدعوى فى موضع آخر من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، إلا أننا ننبه باختصار، أن القرآن الكريم قد كتب على الورق، وسعف النخيل، واللخاف، والرقاع، وغيرها، فى حياة محمد صلى الله عليه وسلم سجله كتّاب مخصوصون، عرفوا بكتّاب الوحى كما كتبه بعض الصحابة ممن يجيد القراءة والكتابة لأنفسهم. وكان القرآن كله مجموعا، ومحفوظا، فى حجرة نوم النبى صلى الله عليه وسلم كذلك كان القرآن محفوظا فى صدور المسلمين، رجالهم، ونساؤهم، وأطفالهم وما بالك بكتاب لا تتمّ الصلاة إلا به، ولا يدار الحكم إلا بمقتضاه، ولا تتم الأنكحة، والجنائز إلا بتلاوته.(1/50)
إن الكاتب محكوم فى هذا الزعم بقالب فكرى جامد، وفرضية تخمينية هزيلة، وهى أن التوراة والإنجيل، هما وحدهما الكتابان المقدسان، وأن القرآن إنما هو تقليد لهما، أو اقتباس منهما وسوف نرى عند تناولنا لموضوع ترجمة معانى القرآن، أن المترجمين الغربيين، بصفة عامة، قد انطلقوا من قاعدة هشة واحدة، وهى أن القرآن من وضع محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه كتاب محرف، ومتناقض، وليس وحيا من عند الله، إلى درجة أن إبراهيم جيجر اليهودى الألمانى، قد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد اطلع على التوراة، وكتب الأنبياء، وعلى التلمود، والمشناة فى اللغات المختلفة العبرية والآرامية كذلك، هذا على الرغم مما سبق أن قررناه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان أميا. وأن هذه الكتب لم تكن قد ترجمت بعد إلى العربية. وعلى فرض أن محمدا كان قارئا وهو ما لم يثبت البتّة، فإن الكاتب يتجاهل الشواهد القرآنية
الكثيرة، التى قدمنا أمثلة كافية منها للتدليل على أن القرآن كان معروفا منذ نزوله بهذا الاسم للمسلمين ولمشركى مكة جميعا بل إنه كان معروفا أيضا للجن فهم قد سمعوه وتأثروا به أبلغ التأثر، ووصفوه بقولهم: {قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} (2) (الجن: 21) وبقولهم كذلك: {إِنََّا سَمِعْنََا كِتََاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ََ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى ََ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} (30) (الأحقاف: 30)، ثم آمنوا به وصدقوه بل ودعوا قومهم إلى الإيمان به وإلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: {يََا قَوْمَنََا أَجِيبُوا دََاعِيَ اللََّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذََابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لََا يُجِبْ دََاعِيَ اللََّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءُ أُولََئِكَ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ} (31) (الأحقاف: 3231) وفى نهاية الفصل لا يفوتنا أن ننبه على المغمز الاستشراقى فى كلام ويلش، الذى دسّه فى ثنايا كلامه، يقول: = إن القرآن لم يكتب فى صورته النهائية، إلا بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كنا سنناقش هذه الدعوى فى موضع آخر من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، إلا أننا ننبه باختصار، أن القرآن الكريم قد كتب على الورق، وسعف النخيل، واللخاف، والرقاع، وغيرها، فى حياة محمد صلى الله عليه وسلم سجله كتّاب مخصوصون، عرفوا بكتّاب الوحى كما كتبه بعض الصحابة ممن يجيد القراءة والكتابة لأنفسهم. وكان القرآن كله مجموعا، ومحفوظا، فى حجرة نوم النبى صلى الله عليه وسلم كذلك كان القرآن محفوظا فى صدور المسلمين، رجالهم، ونساؤهم، وأطفالهم وما بالك بكتاب لا تتمّ الصلاة إلا به، ولا يدار الحكم إلا بمقتضاه، ولا تتم الأنكحة، والجنائز إلا بتلاوته.
الفصل الثاني المترادفات فى القرآن
يقول ويلش إن لفظ = القرآن = والمصدر الذى اشتق منه القرآن كتاب المسلمين المقدس لا يمكن أن يفهم فهما كاملا إلا إذا أخذنا فى الاعتبار مدلولات بعض ألفاظ أخرى لها تعلق كبير بهذا اللفظ، وبخاصة الألفاظ مثل = آية =، = كتاب =، = سورة =، = ذكر =، = مثانى =، = حكمة =، ونحوها. إذ أن لكل لفظ، من هذه الألفاظ، معناه المتميز أصلا فى القرآن ولكن فى بعض المواضع تأتى هذه المفردات فى قرائن تقترب فى معانيها من مفهوم = القرآن = كمصطلح كما سيتضح فيما يلى:
مفهوم لفظة = آية = فى القرآن بدأ الكاتب كلامه بمحاولة إرجاع لفظة = آية = إلى اللغة العربية والسريانية، وكأن هاتين اللغتين هما أصل العربية، وأصل اللغة القرآنية وإنه لغريب حقا، أن يبحث الكاتب أولا عن الكلمة فى غير لغتها، مما يجعله يبدو، وكأنه يجزم بوجود أصل معروف للغة العرب، ومن ثم لمفردات القرآن، لا يعرفه أحد إلا هو وبعض المستشرقين، وهذا فى حد ذاته ليس بالمنهج العلمى.
ويضيف ويلش قائلا: إن المعنى الأصلى لكلمة = آية = العربية، وأوث () العبرية، وآثا () السريانية واحد. وتعنى هاتان الكلمتان علامة، ودلالة على بعض الأشياء الغيبية، كالحق أو الحقيقة. ولكن اشتقاق الكلمة غير معروف على وجه اليقين، وأنه من الطبيعى جدا أن تكون لفظة = آية = مأخوذة من (أوهـ) ()، والتى تتوافق مع الكلمة العبرية آوه. لكن فعل هذا الأصل لا وجود له فى اللغة العربية، كما هو واضح فى ذهن الكاتب، وبالتالى فإنه من الصعب ادعاء أن كلمة = آية = القرآنية مأخوذة من أيّ من هاتين اللغتين.
ذكر المستشرق نفسه أن لفظة = آية = وردت فى القرآن بصيغة المفرد والجمع حوالى 400مرة، ومعظمها يدور حول الآيات الكونية، التى تثبت وجود الله ووحدانيته، وقيامه بحاجات العباد، واستحقاقه وحده بالشكر والثناء.
وبمراجعة المواضع التى ذكرت فيها لفظة = آية = وجدنا أنها ذكرت فى القرآن الكريم 382مرة، بالتحديد فى 60سورة، تبدأ بسورة البقرة، وتنتهى بالبلد وتتنوع هذه السور بين المكى والمدنى.(1/51)
ذكر المستشرق نفسه أن لفظة = آية = وردت فى القرآن بصيغة المفرد والجمع حوالى 400مرة، ومعظمها يدور حول الآيات الكونية، التى تثبت وجود الله ووحدانيته، وقيامه بحاجات العباد، واستحقاقه وحده بالشكر والثناء.
وبمراجعة المواضع التى ذكرت فيها لفظة = آية = وجدنا أنها ذكرت فى القرآن الكريم 382مرة، بالتحديد فى 60سورة، تبدأ بسورة البقرة، وتنتهى بالبلد وتتنوع هذه السور بين المكى والمدنى.
ولتمام الفائدة نلفت إلى أن لفظة = آية = وردت هكذا مفردة 84مرة، وبالجمع = آيات = 148مرة، ووردت بصيغة = آيتك = مرتين، و = آياتك = 3مرات، وبالمثنى = آيتين = مرة واحدة، و = آياتنا = 92مرة، و = آياته = بعود الضمير إلى الله 37مرة، و = آياتها = بعود الضمير إلى السماء مرة واحدة، وبلفظ = آياتي = 14مرة. وبالنظر فى هذه الآيات نلاحظ أنها متعددة الدلالة فهى بمعنى = الآية من القرآن = وبمعنى = المعجزة التى هى بمثابة الدليل على صدق النبى وصحة دعوته =، وهى بمعنى = الآية الكونية أو الظاهرة الطبيعية المعجزة فى تكوينها، وإحكام صنعتها، وفى اتساقها مع الغرض الذى خلقت من أجله = و = الآية = بمعنى = العظة والاعتبار = كما فى قوله تعالى: {لَقَدْ كََانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتََانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمََالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (15) (سبأ: 15)، فيها إشارة ودعوة إلى الاعتبار، والتأمل فى فضل الله وقدرته، وإلى تقييد النعمة بالشكر والثناء، والاستعانة بها على طاعة الله عز وجل.
وتكون = الآية = بمعنى = العلامة على وقوع شىء مخصوص = كما فى قوله تعالى: {قََالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قََالَ آيَتُكَ أَلََّا تُكَلِّمَ النََّاسَ ثَلََاثَ لَيََالٍ سَوِيًّا} (10) (مريم: 10). وهى بهذا المعنى تتضمن إشارة أيضا إلى = معجزة = وتأتى = الآية = كذلك بمعنى = الذكرى = كما فى قوله تعالى فى قصة نوح والطوفان: {وَلَقَدْ تَرَكْنََاهََا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (15) (القمر: 15)، أى أننا أثبتنا قصة نوح، وقومه فى القرآن، ليتأملها الناس، ويتذكروا ما جرى للعصاة، وكيف نجّى الله المؤمنين فيعتبروا ويتعظوا. وقد تكون = الآية = فى هذا الموضع إشارة إلى السفينة تركها الله آية، أى أبقاها حتى أدركها أول أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما ورد عن قتادة وفى قوله تعالى عن فرعون: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النََّاسِ عَنْ آيََاتِنََا لَغََافِلُونَ} (92) (يونس: 9291)، قال ذلك لما صرخ فرعون قائلا: {آمَنْتُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلَّا الَّذِي
آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرََائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (90) أخبره الله تعالى أنه سينجّيه ببدنه فقط، ليكون بدنه آية مستمرة، يراها الناس للاتعاظ والاعتبار.(1/52)
وتكون = الآية = بمعنى = العلامة على وقوع شىء مخصوص = كما فى قوله تعالى: {قََالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قََالَ آيَتُكَ أَلََّا تُكَلِّمَ النََّاسَ ثَلََاثَ لَيََالٍ سَوِيًّا} (10) (مريم: 10). وهى بهذا المعنى تتضمن إشارة أيضا إلى = معجزة = وتأتى = الآية = كذلك بمعنى = الذكرى = كما فى قوله تعالى فى قصة نوح والطوفان: {وَلَقَدْ تَرَكْنََاهََا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (15) (القمر: 15)، أى أننا أثبتنا قصة نوح، وقومه فى القرآن، ليتأملها الناس، ويتذكروا ما جرى للعصاة، وكيف نجّى الله المؤمنين فيعتبروا ويتعظوا. وقد تكون = الآية = فى هذا الموضع إشارة إلى السفينة تركها الله آية، أى أبقاها حتى أدركها أول أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما ورد عن قتادة وفى قوله تعالى عن فرعون: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النََّاسِ عَنْ آيََاتِنََا لَغََافِلُونَ} (92) (يونس: 9291)، قال ذلك لما صرخ فرعون قائلا: {آمَنْتُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلَّا الَّذِي
آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرََائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (90) أخبره الله تعالى أنه سينجّيه ببدنه فقط، ليكون بدنه آية مستمرة، يراها الناس للاتعاظ والاعتبار.
و= الآية = تطلق أيضا ويراد بها الشيء التام فى صنعه، وتركيبه، ومناسبته للغرض الذى خلق من أجله، وقيامه بهذا الغرض على أكمل وجه، وأتم غاية.
وكما لاحظ ويلش فإن الأغلب الأعم من هذه الآيات التى أشرنا إليها وحددنا مواضعها، تتحدث عن الآيات الكونية، التى نصبها الله تعالى دلائل على وجوده سبحانه وتعالى، وعلى قدرته، وتدبيره، وعنايته، وحكمته، ونفاذ أمره، ومضاء مشيئته. فى هذه الآيات القرآنية دعا الله تعالى الناس إلى النظر فى الآيات الكونية، والتفكر فى عجائبها، للتوصل بحاكم العقل والفكر إلى الله الذى جاءت عنه الكتب، ودلت عليه الأنبياء، ودعت إلى الإيمان به، والقيام بشرعه، وحذرت من عصيان أوامره ومخالفة منهجه، فإن من زل عن منهج الله ضل واختل ومن رحمة الله تعالى أن جعل الوحي والعقل ظهرين متصادقين متعاونين، لا ضدين متعارضين متنازعين. ونلاحظ كذلك أن كثيرا من هذه الآيات تواترت وتضافرت على تثبيت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتأييد دعواه، وربط رسالته ومعجزاته برسالات الأنبياء السابقين ومعجزاتهم.
يزعم ويلش، إلى جانب ذلك، أن الآيات التى تتحدث عن المعجزات والخوارق، قد تغيّر معناها فى أواخر العهد المكى، بل ربما حدث ذلك فى مطلع العهد المدنى، فأصبح لفظ = آية = من ثمّ يعنى = طائفة من القرآن = بعد أن كان يعنى = المعجزة = قبل ذلك ومن وجهة نظر هذا المستشرق، فإن لفظ = آية = بمعناه الجديد إنما حدث (يعنى من جانب محمد)، كردّ فعل معاكس لمطالب المشركين المتزايدة والمتكررة للنبى صلى الله عليه وسلم بأن يأتي لهم بمعجزات وخوارق تؤيد دعواه.
يقول ويلش إنه منذ هذه اللحظة تحول معنى لفظ = آية =، فصار يطلق على = الجزء المعروف من القرآن = بعد أن كان يطلق على المعجزة والخارق فقط هذا ضرب من الاعتساف، والإرجاف، والخيال، والخبال، وهو زعم ليس عليه دليل، لا من داخل النص القرآنى، ولا من خارجه، لا بطريقة مباشرة، ولا بطريقة غير مباشرة إن ويلش ينسج هنا على منوال التنصير، ضاربا بالمنهج العلمى عرض الحائط. إنه يطعن فى معجزات محمد صلى الله عليه وسلم
وينكرها، وهو مع ذلك يحاول عبثا، أن ينتزع من القرآن بعض الشواهد، التى يتخيل أنها تؤيد دعواه، وتموه على قرّائه، وتغلف مقصده الحقيقى من وراء هذا الزعم اللدود.(1/53)
يقول ويلش إنه منذ هذه اللحظة تحول معنى لفظ = آية =، فصار يطلق على = الجزء المعروف من القرآن = بعد أن كان يطلق على المعجزة والخارق فقط هذا ضرب من الاعتساف، والإرجاف، والخيال، والخبال، وهو زعم ليس عليه دليل، لا من داخل النص القرآنى، ولا من خارجه، لا بطريقة مباشرة، ولا بطريقة غير مباشرة إن ويلش ينسج هنا على منوال التنصير، ضاربا بالمنهج العلمى عرض الحائط. إنه يطعن فى معجزات محمد صلى الله عليه وسلم
وينكرها، وهو مع ذلك يحاول عبثا، أن ينتزع من القرآن بعض الشواهد، التى يتخيل أنها تؤيد دعواه، وتموه على قرّائه، وتغلف مقصده الحقيقى من وراء هذا الزعم اللدود.
إنه بهذا يشكك فى القرآن، وينكر معجزات النبى محمد صلى الله عليه وسلم، والأنبياء من قبله أضف إلى ذلك، تسليم المستشرق الجازم، بصحة موقف الكفار من محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن مع أن القرآن هو مصدر الحديث عن هذا كله ولكن ويلش يستعمل الدليل الواحد لتأييد الشيء ونقيضه، إنه لم يعتبر طبيعة أسلوب الكفار فى طلب المعجزة، وتفنيد القرآن لهم، ورده عليهم كل ما شغله، هو إنكار أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم قد صنع معجزة كعيسى وموسى من قبله، هذا هو موقف المنصرين والمستشرقين الجامد من نبوته صلى الله عليه وسلم إنهم يزعمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن نبيا، ولا صانع معجزات، هذا مع تواتر النقل بأن كثيرا من المعجزات، قد وقعت للنبى صلى الله عليه وسلم فى مكة، وفى المدينة، بطلب من الكفار، وبدون طلب والشواهد على ذلك كثيرة فى الكتاب والسنة، ولكن المقام لا يتسع لأكثر من الإشارة والإحالة.
إن لفظة = آية = لم يتحول عن معناه إلى معنى آخر، كما يزعم ويلش، وبخاصة للسبب الذى رآه، بل ظل هو هو فى أصل اللغة، وفى استعمال علماء القرآن، يعبّر به عن الجزء من القرآن، وعن المعجزة وقد فات الكاتب ولا نلومه فى ذلك أن لفظتي = معجزة =، و = خارق = لم يستعملهما القرآن البتّة، وإنما استعمل مادتهما فقط، وذلك لأن لفظة = آية = فيما نقدّر أدلّ على ثبات المعجزة، وعلى عمومها، وتناهيها فى الإعجاز، وعلى استمرار أثرها فى النفوس من لفظة = معجزة = وأيضا لاشتمال لفظة = آية = على معنى الاستمرار، وطلب التأمل العقلى، بخلاف لفظ = معجزة =.
إن معجزات محمد صلى الله عليه وسلم لم تنقطع البتّة، لا فى حياته، ولا بعد مماته فبقاء القرآن، وسلامته، وكذلك بقاء سنته، وأمته، من معجزاته الدائمة صلى الله عليه وسلم.
يدعى ويلش بالإضافة إلى ما سبق = أن علماء المسلمين المتأخرين، قد فسروا كلمة = آية = بمعنى = الجزء من القرآن =، هذا مع أن حجم = الآية = غير محدد، والقرآن نفسه لم يقدم أى إشارة فى هذا الصدد = ولسنا نرى أيّ علاقة بين تحديد حجم = الآية = ومعناها فى القرآن وعلى أن = الآية = بمعنى = الطائفة من القرآن =، قد وردت فى الكتاب العزيز مقترنة بالوحي، والتنزيل، والتلاوة، مما يؤكد قدم اللفظة، وصدق معناها الذى وضعت له
قال تعالى: {تِلْكَ آيََاتُ اللََّهِ نَتْلُوهََا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (252) (البقرة: 252). وقال عز وجلّ: {تِلْكَ آيََاتُ اللََّهِ نَتْلُوهََا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللََّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعََالَمِينَ} (108) (آل عمران: 108)، وقال تعالى: {يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيََاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا قََالُوا شَهِدْنََا عَلى ََ أَنْفُسِنََا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا وَشَهِدُوا عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كََانُوا كََافِرِينَ} (130) (الأنعام: 130)، وقال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمََا أُنْزِلَ الْكِتََابُ عَلى ََ طََائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنََا وَإِنْ كُنََّا عَنْ دِرََاسَتِهِمْ لَغََافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنََّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتََابُ لَكُنََّا أَهْدى ََ مِنْهُمْ فَقَدْ جََاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيََاتِ اللََّهِ وَصَدَفَ عَنْهََا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيََاتِنََا سُوءَ الْعَذََابِ بِمََا كََانُوا يَصْدِفُونَ} (157) (الأنعام: 157156) وقال تعالى: {وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُنََا بَيِّنََاتٍ قََالَ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هََذََا أَوْ بَدِّلْهُ}
(يونس: 15)، وجاء عن ابن مسعود وإبراهيم، عن النبى صلى الله عليه وسلم مرسلا: = من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية منها كفارة = (1).(1/54)
يدعى ويلش بالإضافة إلى ما سبق = أن علماء المسلمين المتأخرين، قد فسروا كلمة = آية = بمعنى = الجزء من القرآن =، هذا مع أن حجم = الآية = غير محدد، والقرآن نفسه لم يقدم أى إشارة فى هذا الصدد = ولسنا نرى أيّ علاقة بين تحديد حجم = الآية = ومعناها فى القرآن وعلى أن = الآية = بمعنى = الطائفة من القرآن =، قد وردت فى الكتاب العزيز مقترنة بالوحي، والتنزيل، والتلاوة، مما يؤكد قدم اللفظة، وصدق معناها الذى وضعت له
قال تعالى: {تِلْكَ آيََاتُ اللََّهِ نَتْلُوهََا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (252) (البقرة: 252). وقال عز وجلّ: {تِلْكَ آيََاتُ اللََّهِ نَتْلُوهََا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللََّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعََالَمِينَ} (108) (آل عمران: 108)، وقال تعالى: {يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيََاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا قََالُوا شَهِدْنََا عَلى ََ أَنْفُسِنََا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا وَشَهِدُوا عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كََانُوا كََافِرِينَ} (130) (الأنعام: 130)، وقال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمََا أُنْزِلَ الْكِتََابُ عَلى ََ طََائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنََا وَإِنْ كُنََّا عَنْ دِرََاسَتِهِمْ لَغََافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنََّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتََابُ لَكُنََّا أَهْدى ََ مِنْهُمْ فَقَدْ جََاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيََاتِ اللََّهِ وَصَدَفَ عَنْهََا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيََاتِنََا سُوءَ الْعَذََابِ بِمََا كََانُوا يَصْدِفُونَ} (157) (الأنعام: 157156) وقال تعالى: {وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُنََا بَيِّنََاتٍ قََالَ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هََذََا أَوْ بَدِّلْهُ}
(يونس: 15)، وجاء عن ابن مسعود وإبراهيم، عن النبى صلى الله عليه وسلم مرسلا: = من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية منها كفارة = (1).
أما عن طلب المشركين المعجزة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخبرنا القرآن أنهم كانوا يطلبونها، لا بغرض الإيمان بل للمكابرة والعناد قال قوم موسى لموسى: {وَقََالُوا مَهْمََا تَأْتِنََا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنََا بِهََا فَمََا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} (132) (الأعراف: 132)، قال تعالى: {وَمََا مَنَعَنََا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيََاتِ إِلََّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنََا ثَمُودَ النََّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهََا وَمََا نُرْسِلُ بِالْآيََاتِ إِلََّا تَخْوِيفاً} (59) (الإسراء: 59). ويقول تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (2) (القمر: 2)، شكك اليهود حتى فى الغرض من الآية أو المعجزة، إذ جاءهم موسى، فجعلوا الغرض منها السحر، لا مجرد الهداية وتقديم الدليل، يقول تعالى: {فَلَمََّا جََاءَهُمْ مُوسى ََ بِآيََاتِنََا بَيِّنََاتٍ قََالُوا مََا هََذََا إِلََّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمََا سَمِعْنََا بِهََذََا فِي آبََائِنَا الْأَوَّلِينَ} (36) (القصص: 36)، ويقول تعالى: {فَلَمََّا جََاءَتْهُمْ آيََاتُنََا مُبْصِرَةً قََالُوا هََذََا سِحْرٌ مُبِينٌ} (13) (النمل: 13) عجزوا عن التفريق بين السحر
__________
(1) الإمام البخارى خلق أفعال العباد ضمن عقائد السلف ص 196.(1/55)
والمعجزة، وبين الرسول وعمل الساحر ويقول عز وجل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيََاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لََا يُؤْمِنُوا بِهََا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لََا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا وَكََانُوا عَنْهََا غََافِلِينَ} (146) (الأعراف: 146)، ويقول تبارك وتعالى: {وَقََالَ الَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ لَوْلََا يُكَلِّمُنَا اللََّهُ أَوْ تَأْتِينََا آيَةٌ كَذََلِكَ قََالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشََابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (118) (البقرة: 118)، هذه الآية تفصح عن امتداد الخط الكفرى، وتشابه دعاوى الكافرين فى كل عصر وفى كل مصر، وأيضا عن منهج الله تعالى فى تربية كل جيل بما يناسبه، وإلزام كل صنف من البشر بما يقطع حجته ويزيل عذره.
ونتساءل بعد هذا كله، هل تغنى المعجزات عن سفه أهل العمه والعمى، والختم، والطمس، والصمم، والرّان؟ إن أكثر الناس مشاهدة للمعجزات كانوا هم أكثرهم جحودا وغباوة، وهم الذين قالوا من قبل: {أَرِنَا اللََّهَ جَهْرَةً} (النساء: 153)، وهم الذين علقوا إيمانهم على رؤية الله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يََا مُوسى ََ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتََّى نَرَى اللََّهَ جَهْرَةً}
(البقرة: 55) ولنتأمل هذا الربط بين سؤال أهل الكتاب من العرب لمحمد صلى الله عليه وسلم وسؤال اليهود لموسى نبيهم عليه السلام: {يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتََابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتََاباً مِنَ السَّمََاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى ََ أَكْبَرَ مِنْ ذََلِكَ فَقََالُوا أَرِنَا اللََّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصََّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَتْهُمُ الْبَيِّنََاتُ فَعَفَوْنََا عَنْ ذََلِكَ وَآتَيْنََا مُوسى ََ سُلْطََاناً مُبِيناً} (153) (النساء: 153) ويقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّنََا نَزَّلْنََا إِلَيْهِمُ الْمَلََائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ََ وَحَشَرْنََا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مََا كََانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (111) (الأنعام: 111).
إن المعجزات لا تأتى إلا بإذن الله ولا يتأتى الإيمان بالنبى إلا بمشيئة الله تعالى كذلك: {وَمََا كََانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتََابٌ} (38) (الرعد: 38)، المعجزة أو الآية مصدرها الله تعالى ودليلها للنبى صلى الله عليه وسلم وفى هذه القرينة، نشير إلى أنه قد جاء فى الأناجيل ما يفيد امتناع المسيح عليه السلام البتّة من صنع المعجزة، أو إظهارها عند وقوعها فى بعض الحالات فعلى سبيل المثال نجد فى إنجيل مرقس (6: 5) (ولم يقدر (أى المسيح عليه السلام) أن يصنع هناك ولا قوة واحدة وتعجب من عدم إيمانهم)، وفيه أيضا
(8: 11، 12): (فخرج الفريسيون وابتدءوا يحاورونه طالبين منه آية من السماء لكى يجربوه فتنهد بروحه وقال: لماذا يطلب هذا الجيل آية. الحق أقول لكم لن يعطى هذا الجيل آية)، يعنى بهذا المعاندين منهم، وإلا فهو قد صنع معجزات كثيرة شأنه فى ذلك شأن الأنبياء السابقين، والمعجزة من شواهد النبوة. وحتى فى اللحظات الأخيرة من حياة المسيح عليه السلام، على ما فى (إنجيل لوقا 33: 98) سأله هيرودس مرارا أن يصنع له آية يراها بنفسه فلم يجبه بشيء. ولما شفى أعمى بيت صيدا: (أرسله إلى بيته قائلا لا تدخل القرية ولا تقل لأحد فى القرية) (مرقس 8: 26)، فهو هنا يخفى بعض معجزاته، ويطلب ممن أجراها لهم، إخفاءها ولكن ماذا تقول لمن يكيل بكيلين ويفضل أن يرى بإحدى العينين؟(1/56)
إن المعجزات لا تأتى إلا بإذن الله ولا يتأتى الإيمان بالنبى إلا بمشيئة الله تعالى كذلك: {وَمََا كََانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتََابٌ} (38) (الرعد: 38)، المعجزة أو الآية مصدرها الله تعالى ودليلها للنبى صلى الله عليه وسلم وفى هذه القرينة، نشير إلى أنه قد جاء فى الأناجيل ما يفيد امتناع المسيح عليه السلام البتّة من صنع المعجزة، أو إظهارها عند وقوعها فى بعض الحالات فعلى سبيل المثال نجد فى إنجيل مرقس (6: 5) (ولم يقدر (أى المسيح عليه السلام) أن يصنع هناك ولا قوة واحدة وتعجب من عدم إيمانهم)، وفيه أيضا
(8: 11، 12): (فخرج الفريسيون وابتدءوا يحاورونه طالبين منه آية من السماء لكى يجربوه فتنهد بروحه وقال: لماذا يطلب هذا الجيل آية. الحق أقول لكم لن يعطى هذا الجيل آية)، يعنى بهذا المعاندين منهم، وإلا فهو قد صنع معجزات كثيرة شأنه فى ذلك شأن الأنبياء السابقين، والمعجزة من شواهد النبوة. وحتى فى اللحظات الأخيرة من حياة المسيح عليه السلام، على ما فى (إنجيل لوقا 33: 98) سأله هيرودس مرارا أن يصنع له آية يراها بنفسه فلم يجبه بشيء. ولما شفى أعمى بيت صيدا: (أرسله إلى بيته قائلا لا تدخل القرية ولا تقل لأحد فى القرية) (مرقس 8: 26)، فهو هنا يخفى بعض معجزاته، ويطلب ممن أجراها لهم، إخفاءها ولكن ماذا تقول لمن يكيل بكيلين ويفضل أن يرى بإحدى العينين؟
وإضافة إلى ما سبق أن ذكرناه فى إطلاق لفظ = آية = على = الطائفة من القرآن =، نشير إلى طريقة نزول القرآن إذ فيها ذاتها، دليل واضح يؤكد هذا المعنى، فقد نزل الوحى على رسول الله منجما، أى فى شكل مجموعة من الآيات، بحسب الحوادث والنوازل وكان الصحابة يحفظونه كذلك، مقسما إلى آيات. والقرآن نفسه مصرح بذلك، يقول تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ آيََاتٍ بَيِّنََاتٍ} (البقرة: 99)، ويقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ} (آل عمران: 7)، ويقول تعالى: {ذََلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيََاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (58) (آل عمران: 58)، {وَكَذََلِكَ أَنْزَلْنََاهُ آيََاتٍ بَيِّنََاتٍ وَأَنَّ اللََّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} (الحج: 16)، ويقول تعالى: {وَاذْكُرْنَ مََا يُتْلى ََ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيََاتِ اللََّهِ وَالْحِكْمَةِ}
(الأحزاب: 34)، ويقول تعالى: {تِلْكَ آيََاتُ اللََّهِ نَتْلُوهََا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللََّهِ وَآيََاتِهِ يُؤْمِنُونَ} (6) (الجاثية: 6) وهذه الآية مكية، ويقول تعالى: {وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُنََا بَيِّنََاتٍ قََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُمْ هََذََا سِحْرٌ مُبِينٌ} (7) (الأحقاف: 7)، وهى أيضا مكية.
أما وقد استبان خطأ المستشرق ويلش فى زعمه حول معنى لفظة = آية =، نعرض الآن لمفهوم اللفظ عند علماء المسلمين.
يطلق لفظ = آية = فى اللغة على معان ثلاثة:
أولا: يطلق هذا اللفظ ويراد به = الجماعة = بمعنى جماعة، أو مجموعة الحروف، قال أبو عمرو الشيبانى = خرج القوم بآيتهم = أى بجماعتهم وجملتهم.(1/57)
يطلق لفظ = آية = فى اللغة على معان ثلاثة:
أولا: يطلق هذا اللفظ ويراد به = الجماعة = بمعنى جماعة، أو مجموعة الحروف، قال أبو عمرو الشيبانى = خرج القوم بآيتهم = أى بجماعتهم وجملتهم.
قال أبو بكر: سميت = الآية = من القرآن = آية = لأنها علامة لانقطاع كلام من كلام وقال ابن حمزة = الآية = من القرآن، كأنها العلامة، التى يفضى منها إلى غيرها، كأنها الطريق المنصوبة للهداية، كما قال الشاعر: [إذا مضى علم منها بدا علم].
وفى حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه فى الجمع بين الأختين بملك اليمين (أحلّتهما آية، وحرّمتهما آية)، قال ابن الأثير: الآية المحلة، قوله تعالى: {أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ}
(النساء: 3، 24، 36)، والآية المحرمة قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلََّا مََا قَدْ سَلَفَ}
(النساء: 23).
ونقول إن = الآية = سميت بهذا أيضا، لا لكونها علامة على الحلال والحرام وأمارة بين الله وعبادة فحسب، بل إنها سميت كذلك، إشارة على إعجاز كلام الله تعالى. فكلام الله، آيات وعجائب فى لغات بين الإنسان، بارزة، ومميزة، ثابتة بحرفها ونصها، متجددة بمعانيها ومراميها والقرآن كلّه آية باقية على الأزمان، ليس له فيما عرفه الإنسان من آداب أو بلاغات مثال.
و= الآية = أيضا بهذا المعنى تفيد = العبرة = كما أشرنا إليه سلفا ويؤيد ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ كََانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيََاتٌ لِلسََّائِلِينَ} (7) أى عظات وعبر كيف انتصرت البراءة والصدق على الحقد والكذب كيف عزّ المتوكلون، وذل الماكرون المحتالون، كيف قال الإخوة الأعداء: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً} أي تخلصوا منه، {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ}، وكيف صاح خادم السيارة: {يََا بُشْرى ََ هََذََا غُلََامٌ}، وكيف قال عزيز مصر:
{أَكْرِمِي مَثْوََاهُ}، وكيف قالت له زوج العزيز: {هَيْتَ لَكَ}، وكيف قال الملك:
{ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}، وقال له بعد أن كلّمه: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنََا مَكِينٌ أَمِينٌ}
وكيف غلبت الطاعة غلبة الشهوة، وتحول حبّ الأبدان إلى حب الديّان، وكيف خرج يوسف من البئر المظلم، وبيع بالثمن البخس، مع الزهد فيه، ووصل إلى سدة العرش، وإدارة شئون الأرزاق، فى بلد ليس له فيه نصير إلا رب العالمين!
ثانيا: تكون = الآية =، بمعنى = العلامة =، كما فى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} (المؤمنون: 50)، جعلناهما = آية = لأن مريم حملت، دون أن يمسسها بشر ولم تك بغيّا، وعيسى ولد من غير منىّ رجل، ولم يكن هذا فى ولد البتّة. والآية فى خلق عيسى على هذا النحو، ليكون دالا على قدرة الله تعالى، وتصريفه وتنويعه فى الخلق، لا ليكون برهانا على ألوهية عيسى أو ربوبية أمه لأن الميلاد، والموت، والتحول، والانتقال من حال إلى حال، ومن طور إلى طور، ومن وقت إلى وقت، والتغذى، والتداوى، والانفعال، والأمل، واليأس، كلها أمارات على الحدوث، ودلائل على الخلق والضعف فعيسى وأمه بشرين ممن خلق الله، بأمارة الصفات البشرية، التى جرت عليهما يقولون = افعله بآية كذا = أى بعلامة كذا أو أمارته وهى من الأسماء المضافة إلى الأفعال، كقول الشاعر:(1/58)
{ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}، وقال له بعد أن كلّمه: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنََا مَكِينٌ أَمِينٌ}
وكيف غلبت الطاعة غلبة الشهوة، وتحول حبّ الأبدان إلى حب الديّان، وكيف خرج يوسف من البئر المظلم، وبيع بالثمن البخس، مع الزهد فيه، ووصل إلى سدة العرش، وإدارة شئون الأرزاق، فى بلد ليس له فيه نصير إلا رب العالمين!
ثانيا: تكون = الآية =، بمعنى = العلامة =، كما فى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} (المؤمنون: 50)، جعلناهما = آية = لأن مريم حملت، دون أن يمسسها بشر ولم تك بغيّا، وعيسى ولد من غير منىّ رجل، ولم يكن هذا فى ولد البتّة. والآية فى خلق عيسى على هذا النحو، ليكون دالا على قدرة الله تعالى، وتصريفه وتنويعه فى الخلق، لا ليكون برهانا على ألوهية عيسى أو ربوبية أمه لأن الميلاد، والموت، والتحول، والانتقال من حال إلى حال، ومن طور إلى طور، ومن وقت إلى وقت، والتغذى، والتداوى، والانفعال، والأمل، واليأس، كلها أمارات على الحدوث، ودلائل على الخلق والضعف فعيسى وأمه بشرين ممن خلق الله، بأمارة الصفات البشرية، التى جرت عليهما يقولون = افعله بآية كذا = أى بعلامة كذا أو أمارته وهى من الأسماء المضافة إلى الأفعال، كقول الشاعر:
بآية تقدمون الخيل شعثا ... كأن على سنابكها مداما
عرفنا من هذا أن = الآية = تطلق ويراد منها = الوحدة = أو = الجزء من السورة = وسميت = آية = لأنها علامة، وأمارة على صدق من أتى بها، وعلى عجز المتحدى بها، وعلى تميزها كما أن فيها دليلا، على سلامة القرآن من التحريف، والتبديل، والزيادة، والنقصان، وأن لفظة = آية = أيضا تطلق على = المعجزة = و = العبرة = و = المثل =، كما أوضحناه من قبل. وينبغى أن يكون واضحا فى أذهاننا، أن السورة من القرآن، تتألف من عدد معين من الآيات، وأن عدد الآيات، وحدودها، معروف من طريق الشرع، لا من طريق الاجتهاد، ولا مجال للرأى، ولا للقياس فى ذلك قاله على بن أحمد الواحدى (ت: 468هـ / 1075م) ومحمود بن عمر الزمخشرى (ت: 538هـ / 1143م) وناصر الدين بن المنير (ت: 363هـ / 1149م)، جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم، أن الفاتحة سبع آيات، وسورة الملك ثلاثون آية، وصح أنه قرأ العشر آيات الأخيرة من سورة آل عمران، وأضاف أن تقدير الآي، من المفصل فى القرآن الكريم، ومن الآيات طويل وقصير، وصدق الله تعالى إذ يقول: {كِتََابٌ فُصِّلَتْ آيََاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3) (فصلت: 3) فتفصيل الآيات بمقاديرها، هو من عمل الله تعالى، لا من عمل محمد صلى الله عليه وسلم، أو غيره، ومعنى = فصّل =، أى حدد وبين أحد
الشيئين من الآخر، حتى لا يكون بينهما فاصل أو فرجة ومنه قيل = المفصل والمفاصل =. (1)(1/59)
بآية تقدمون الخيل شعثا ... كأن على سنابكها مداما
عرفنا من هذا أن = الآية = تطلق ويراد منها = الوحدة = أو = الجزء من السورة = وسميت = آية = لأنها علامة، وأمارة على صدق من أتى بها، وعلى عجز المتحدى بها، وعلى تميزها كما أن فيها دليلا، على سلامة القرآن من التحريف، والتبديل، والزيادة، والنقصان، وأن لفظة = آية = أيضا تطلق على = المعجزة = و = العبرة = و = المثل =، كما أوضحناه من قبل. وينبغى أن يكون واضحا فى أذهاننا، أن السورة من القرآن، تتألف من عدد معين من الآيات، وأن عدد الآيات، وحدودها، معروف من طريق الشرع، لا من طريق الاجتهاد، ولا مجال للرأى، ولا للقياس فى ذلك قاله على بن أحمد الواحدى (ت: 468هـ / 1075م) ومحمود بن عمر الزمخشرى (ت: 538هـ / 1143م) وناصر الدين بن المنير (ت: 363هـ / 1149م)، جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم، أن الفاتحة سبع آيات، وسورة الملك ثلاثون آية، وصح أنه قرأ العشر آيات الأخيرة من سورة آل عمران، وأضاف أن تقدير الآي، من المفصل فى القرآن الكريم، ومن الآيات طويل وقصير، وصدق الله تعالى إذ يقول: {كِتََابٌ فُصِّلَتْ آيََاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3) (فصلت: 3) فتفصيل الآيات بمقاديرها، هو من عمل الله تعالى، لا من عمل محمد صلى الله عليه وسلم، أو غيره، ومعنى = فصّل =، أى حدد وبين أحد
الشيئين من الآخر، حتى لا يكون بينهما فاصل أو فرجة ومنه قيل = المفصل والمفاصل =. (1)
وبهذا يتضح وبدون أدنى شك أن كلمة = آية =، قرآنية، وهى مستعملة فى القرآن، بالمعانى التى ذكرناها وأنه خلافا لما ادعاه المستشرق ويلش، ليس لمتقدمى علماء المسلمين، ولا لمتأخريهم، دخل، فى تحديد معناها، أو تحويلها من معنى إلى معنى آخر.
مفهوم لفظة = كتاب = فى القرآن يتناول الكاتب هنا لفظة = كتاب = فى القرآن الكريم التى ذكرت فيه 255مرة بالمفرد (الكتاب، كتابا، كتابك، كتابكم، كتابنا، كتابه، كتابها، كتابهم، كتابي، كتابيه)، و 6مرات بالجمع (كتب، كتبه) وهو يرى أن هذا اللفظ يعد من أصعب الألفاظ القرآنية، من حيث التفسير، وأنه نادرا ما يستعمل للإشارة إلى نوع من الكتابة اليومية على سبيل المثال، فقد أطلق على الرسالة الموجهة من الملك سليمان عليه السلام، إلى بلقيس ملكة سبأ، كما فى قوله تعالى: {اذْهَبْ بِكِتََابِي هََذََا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مََا ذََا يَرْجِعُونَ (28) قََالَتْ يََا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتََابٌ كَرِيمٌ} (29) (النمل: 2928) = الكتاب = فى هذا الموضع بمعنى المكتوب أيا كان حجمه، وكتاب سليمان هو رسالة ملكية، كتب بها إلى ملكة اليمن وأرسلها مع أحد جنوده المسخرة لخدمته من مملكة الطير وهو الهدهد الذى حملها وسافر بها من الشام إلى اليمن، حيث ألقى بها بين يدى بلقيس من كوة صغيرة فى حجرة عرشها، ونص الرسالة: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمََانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ (30) أَلََّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (31) هذه رسالة قصيرة وجامعة، خف على الهدهد حملها ونقلها. وقد أطلق لفظ = كتاب = و = كتب = أيضا، على الرسائل التى بعث بها النبى صلى الله عليه وسلم، إلى الملوك والرؤساء يدعوهم فيها إلى الإسلام (2).
ووردت لفظة = كتاب = فى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتََابَ مِمََّا مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ فَكََاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} (النور: 33)، هذا أمر من الله للسادة أن يكاتبوا عبيدهم إذا طلبوا منهم الكتابة لتحرير أنفسهم من العبودية بالطرق والشروط المدونة فى كتب الفقه فلفظ = الكتاب = هنا يعنى = المكاتبة =، أو = تسجيل عقد الحرية بين السيد والعبد =
__________
(1) انظر الراغب الأصفهانى. مفردات ألفاظ القرآن الكريم ص 638.
(2) ابن هشام أبو محمد بن عبد الملك السيرة النبوية بيروت دار الجيل، ج 4ص 187وما بعدها.(1/60)
واستعملت الكلمة أيضا فى الإشارة إلى = سجل أعمال الإنسان فى الدنيا التى سيحاسب عليها يوم القيامة =، يقول تعالى: {وَكُلَّ إِنسََانٍ أَلْزَمْنََاهُ طََائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ كِتََاباً يَلْقََاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتََابَكَ كَفى ََ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} (14) (الإسراء: 1413)، = الكتاب = هنا بمعنى = الصحيفة الخاصة بكل إنسان تكتب فيها أعماله وأقواله قليلها وكثيرها وتحفظ له حتى يعطاها يوم القيامة منشورة أى مفتوحة يقرؤها بنفسه حتى وإن كان أميا بحضرة جميع الناس من كل الأمم والأجيال حتى تلزمه الحجة فلا يتذرع بالنسيان لطول الزمان، وتعاقب الحدثان، وتبدل الأحوال والهيئات، ومعالجة السكرات والممات، وطول الثواء فى عالم البرزخ، وهول البعث والنشور والمطلع والحساب، يقول تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتََابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمََّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يََا وَيْلَتَنََا مََا لِهََذَا الْكِتََابِ لََا يُغََادِرُ صَغِيرَةً وَلََا كَبِيرَةً إِلََّا أَحْصََاهََا وَوَجَدُوا مََا عَمِلُوا حََاضِراً وَلََا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (49) (الكهف: 49).
= الكتب = المشار إليه فى الآية اسم جنس يطلق ويراد به = كتب الناس التى أحصاها الحفظة عليهم واحدا واحدا = ويمكن أن تكون الإشارة كذلك إلى كتاب واحد تضمّن صحائف أعمال البشر، كما يفهم من قوله تعالى: {أَحْصََاهُ اللََّهُ وَنَسُوهُ} (المجادلة: 6)، وقوله: {قََالَ فَمََا بََالُ الْقُرُونِ الْأُولى ََ (51) قََالَ عِلْمُهََا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتََابٍ لََا يَضِلُّ رَبِّي وَلََا يَنْسى ََ} (52) (طه: 5251) فى هذا الخطاب القرآنى إشارة إلى = كتاب = جامع لأعمال الخلق هو بمثابة الأم أو المصدر لكل هذه الصحف.
يؤكد هذا قوله تعالى: {إِنََّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى ََ وَنَكْتُبُ مََا قَدَّمُوا وَآثََارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنََاهُ فِي إِمََامٍ مُبِينٍ} (12) (يس: 12)، وفيه إشارة إلى اللوح المحفوظ ومنه قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهََا وَوُضِعَ الْكِتََابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدََاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لََا يُظْلَمُونَ} (69) (الزمر: 69).
ونلاحظ أن الله تعالى قدّم الصغيرة فى الأعمال على الكبيرة لأن الكلام فى دقة الإحصاء وهو أنسب للقرينة، ومن اللافت فى = آية الكهف = أن المجرمين لم يركّزوا على
شدة العذاب بل ركّزوا على دقة الحساب تعجبوا من علم الله تعالى وشدة مراقبته لهم وعبارة: {وَوَجَدُوا مََا عَمِلُوا حََاضِراً} توحى بحضور كل ما عملوا فى أذهانهم وذواكرهم على الرغم من آفات الحياة وعوارضها، وسكرات الموت وطول العهد ومشاهدة أهوال يوم القيامة.(1/61)
ونلاحظ أن الله تعالى قدّم الصغيرة فى الأعمال على الكبيرة لأن الكلام فى دقة الإحصاء وهو أنسب للقرينة، ومن اللافت فى = آية الكهف = أن المجرمين لم يركّزوا على
شدة العذاب بل ركّزوا على دقة الحساب تعجبوا من علم الله تعالى وشدة مراقبته لهم وعبارة: {وَوَجَدُوا مََا عَمِلُوا حََاضِراً} توحى بحضور كل ما عملوا فى أذهانهم وذواكرهم على الرغم من آفات الحياة وعوارضها، وسكرات الموت وطول العهد ومشاهدة أهوال يوم القيامة.
يطلق = الكتاب = أيضا على = ما كتب الله أزلا من الحوادث المستقبلية =، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلََّا نَحْنُ مُهْلِكُوهََا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيََامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهََا عَذََاباً شَدِيداً كََانَ ذََلِكَ فِي الْكِتََابِ مَسْطُوراً} (58) (الإسراء: 58)، وكلمة = مسطورا = بعد ذكر = الكتاب = تأكيد على دقة علم الله تعالى وشموله، وعلى أن قلم القدرة قد جرى فعلا بكل أنواع المقدورات ومما هو جار فى معناه على هذا النحو قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفََاتِحُ الْغَيْبِ لََا يَعْلَمُهََا إِلََّا هُوَ وَيَعْلَمُ مََا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمََا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلََّا يَعْلَمُهََا وَلََا حَبَّةٍ فِي ظُلُمََاتِ الْأَرْضِ وَلََا رَطْبٍ وَلََا يََابِسٍ إِلََّا فِي كِتََابٍ مُبِينٍ} (59) (الأنعام: 59) فالله على الرغم من علمه، وعلى الرغم من أنه لا تجرى عليه عوارض النسيان ولا يعتريه سهو أو وهم أو تخليط أو ضلالة قد سجل كل شىء فى كتاب واضح وناطق مفصح.
وقد تكرر هذا المعنى فى مواضع أخرى من القرآن على سبيل المثال قوله تعالى:
{وَمََا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمََا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلََا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلََّا كُنََّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمََا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقََالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ وَلََا أَصْغَرَ مِنْ ذََلِكَ وَلََا أَكْبَرَ إِلََّا فِي كِتََابٍ مُبِينٍ} (61) (يونس: 61) وقوله تعالى: {وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلََّا عَلَى اللََّهِ رِزْقُهََا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهََا وَمُسْتَوْدَعَهََا كُلٌّ فِي كِتََابٍ مُبِينٍ} (6) (هود: 6)، و = الكتاب = فى هذه الآيات هو سجل الله تعالى الحاوى لكل ما خلق الله مما كان وما هو كائن وما سوف يكون إلى قيام الساعة هذا = الكتاب = موجود بالفعل، وهو مع الله تبارك وتعالى، على هذا إجماع المفسرين وأغلب جمهرة المستشرقين كما ذكر ويلش.
يؤكد جويدنجرن () هذا المعنى فى كتابه ((1955= محمد صلى الله عليه وسلم ومعراجه = (2215) ويرى آرثر جيفرى .. )
(فى مقالة = =، ((1) القرآن ككتاب مقدس)، أنها إشارة إلى كتاب الإحصاء للشرق الأدنى القديم، كتاب القرارات، أو الأوامر، أو هى بمعنى السجل.(1/62)
يؤكد جويدنجرن () هذا المعنى فى كتابه ((1955= محمد صلى الله عليه وسلم ومعراجه = (2215) ويرى آرثر جيفرى .. )
(فى مقالة = =، ((1) القرآن ككتاب مقدس)، أنها إشارة إلى كتاب الإحصاء للشرق الأدنى القديم، كتاب القرارات، أو الأوامر، أو هى بمعنى السجل.
وبعد أن استعرض المستشرق ويلش لوجهتى النظر هاتين يقول بأنه = لا توجد أسانيد من القرآن نفسه لتأييد أى منهما =، ويزعم أيضا أن ثمة مشكلات عويصة، تعترض أى تفسير حرفى لتلك الآيات التى ورد فيها ذكر كلمة = الكتاب =، إذ أنه يمكن أن تحمل اللفظة فى المواضع المختلفة فى القرآن على أنها إشارات مجازية إلى علم الله وأحكامه ويستمر الكاتب قائلا: = إنه من الممكن تقديم تفسير آخر للكلمة قريب من هذا التفسير المذكور، وهو أن كلمة = كتاب =، يمكن أن تكون إشارة إلى الكتاب الإلهى الأم، الذى هو مصدر القرآن كما يتجلى من هذه الآيات: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ} (آل عمران: 7) {يَمْحُوا اللََّهُ مََا يَشََاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتََابِ} (39) (الرعد: 39)، {إِنََّا جَعَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتََابِ لَدَيْنََا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (4) (الزخرف: 43)، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتََابٍ مَكْنُونٍ (78) لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (79) (الواقعة: 7977)، {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (22) (البروج: 2221).
بعد أن استعرض الكاتب هذه الآيات بالنص أو بالإشارة، علق عليها بقوله: = إنها غامضة وليس فيها ولا فى غيرها من آيات القرآن أى إشارة واضحة إلى هذا الكتاب، يعنى القرآن أو الأصل والمثال الإلهى لكتاب المسلمين المقدس = ويزعم المعارض كذلك أن لفظ = الكتاب = لم يتضمن هذا المعنى ابتداء، أو أنه استمر كذلك حتى جاء المفسرون المتأخرون وحملوه عليه ثم يقول: = وفى الأغلب الأعم استعملت لفظة = كتاب = فى القرآن، بمعنى الوحى الذى أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى الأنبياء السابقين الذين بعثوا فى أمم عاشت قبل الإسلام، ثم عاصرت هذه الأمم الإسلام فيما بعد كاليهود والنصارى الذين أطلق عليهم القرآن عبارة = أهل الكتاب =.
__________
(1))، 1950 (. 0574(1/63)
بهذا نلاحظ أن الكاتب قد اقتحم منطقة حساسة من عالم القرآن، دون خريطة أو معلومات صحيحة ودقيقة، تبين له المعالم وتوضح له الغامض ودون دليل يهديه للمقدمات الصحيحة والنتائج الصائبة، التى يمكن أن تترتب عليها. لقد ضل ويلش هنا فى شعاب المسائل ومرامى القرائن القرآنية ولكى نبرز الخطأ الذى وقع فيه لا بد أن نعود مرة أخرى إلى الآيات التى ذكرها أو أشار إليها فى سياق مناقشته للفظة = كتاب = فى القرآن.
بالنسبة لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتََابٍ مَكْنُونٍ (78) لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (79) (الواقعة: 77: 79)، فالكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ، ومعنى = مكنون = أى محفوظ عند الله لا تصل إليه يد فتعبث به وقد وصف الله تعالى القرآن بأنه مكنون لتعظيمه وإعلاء قيمته وأهميته كما فى قوله تعالى: {كَأَمْثََالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} (23) (الواقعة: 23)، قيل عنى بالكتاب المكنون الكتاب المحفوظ وقيل هو قلوب المؤمنين. (1)
فى آيات سورة الواقعة السابقة، ردّ على كفار مكة، الذين زعموا أن هذا القرآن من تنزلات الشياطين فأخبر الله تعالى أن القرآن فى كتاب مكنون، شأنه شأن سائر الغيوب، التى استأثر الله بعلمها، ولا تنزّل إلا بأمره، وأنه لا يمسه إلا المطهرون أما الشياطين فإنهم عنه معزولون، لا يصلون إليه، ولا يقتربون منه، فضلا عن أن يأتوا بمثله يقول تعالى: {وَمََا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيََاطِينُ (210) وَمََا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمََا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} (212) (الشعراء: 210: 212)، فالقرآن لا يمسه إلا المطهرون أى الملائكة وفى مقدمتهم جبريل عليه السلام، الذى نزل به وفى الأرض فإنه ينبغى أن لا يمس القرآن من البشر إلا طاهر القلب، وطاهر العقل، وطاهر القصد والنية.
روى أبو داود فى المراسيل من حديث الزهرى، فى الكتاب الذى أمر النبى صلى الله عليه وسلم بكتابته لعمرو بن حزم = لا يمس القرآن إلا طاهر =، وفى هذه القرينة، ننبه على تناقض الكفار فى أوصافهم للقرآن فهم تارة يقولون إنه من إملاء الشياطين، وتارة أخرى يقولون
__________
(1) الراغب الأصفهاني. مفردات ألفاظ القرآن. ص 727.(1/64)
إنه أساطير الأولين اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم فهى تملى عليه بكرة وأصيلا، ومرة ثالثة يدّعون أن محمدا أخذه من رجل باليمامة يقال له الرحمن، ورابعة يدّعون أنه تلقاه من أعجمى كان يعمل حدّادا بمكة، ومرة يقولون عن محمد صلى الله عليه وسلم إنه ساحر، وأخرى إنه مسحور وعلى الرغم من كل هذه الدعاوى، لم يستطع واحد منهم أن يظهر المصدر البشرى الذى يدعيه للقرآن، أو يدل بصدق على المعلّم الذى أخذه منه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان خصوم محمد صلى الله عليه وسلم يملكون المال والجاه والسلطان، كما كانت لهم الغلبة فى مضمار البلاغة والبيان ولكنهم اعتبروا مجرد الدعوى دليلا وهذه هى آفة المكابرين الجاهلين فى كل عصر وفى كل مصر.
ونتساءل لماذا اختصت الشياطين محمدا بالقرآن بالرغم من أنها لم تكن لها سبيل إليه، لا قبل النبوة ولا بعدها وكيف يملى الشيطان كلاما كالقرآن، وهو الذى تصب عليه اللعنات فيه ومنه يتعلّم الناس مكايده، وحيله، وطرق مغالبته وصده، وعصيان أمره كيف والاستعاذة من الشيطان الرجيم واجبة قبل الشروع فى قراءة القرآن الكريم وأن من شعائر الحج فى الإسلام، رجم الشيطان وأن فى كل شعيرة من شعائر الإسلام، تحقيرا له وإذلالا وكان النبى صلى الله عليه وسلم يستعيذ بكلمات الله التامة من كل عين لامة، ومن كل شيطان وهامة (1).
ومن المفيد أن نشير فى هذا الصدد إلى الافتراض، أو الزعم، الذى قدّمه معارضو القرآن، على عصر ابن كمونة اليهودى، الذى عاش فى القرن السابع الهجرى يقول أهل الإفك، وهكذا افترض ابن كمونة: = لم لا يجوز أن يكون القرآن أنزل على نبي آخر دعا محمدا أولا إلى دينه، وإلى هذا الكتاب، فأخذه منه محمد، وقتله، فلا جرم لم يظهر اسم ذلك النبى، وبقى الكتاب فى يد محمد؟ =، يرد ابن كمونة على هذا الاحتمال، المستحيل عقلا ونقلا، بقوله: = إن كل عاقل لو رجع إلى نفسه وأنصف، علم أن هذا لم يقع ثم إن فى القرآن عدة مواضع تدل على أنه صلى الله عليه وسلم هو المختص به دون غيره، يعرف ذلك من تأمّل ما جاء فيه من حكاية أحوال النبى صلى الله عليه وسلم فى وقته، ومع أزواجه، ومع المنافقين والكفار = (2). هذا صحيح ونضيف أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يأت بالقرآن جملة واحدة، ولا قدّمه إلى الناس، مجموعا فى كتاب وإنما تلقاه مشافهة من جبريل عليه السلام، وفى مراحل زمنية متباعدة، أو متقاربة، وفى أماكن مختلفة، ونسأل أصحاب هذا الزعم، أى نبي هذا الذى يأتى، ولا يعرفه إلا شخص واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم؟! وأىّ شخص هذا الذى يصلح أن يكون نبيا، ويؤتمن على كتاب من عند الله،
__________
(1) البخارى. خلق أفعال العباد بعقائد السلف ص 192190.
(2) ابن كمونة. تنقيح الأبحاث فى الملل الثلاثة. نشرة برلمان ط جامعة كاليفورنيا 1967ص 7270.(1/65)
ولا يستطيع أن يحميه؟ أىّ عاجز هذا؟ ثم لماذا اختص هذا النبى المزعوم محمدا دون بقية العرب، وأعيانهم، ووجوههم؟
هل يعتقد عاقل أن دينا كالإسلام، يقوم على الخطف، والاغتصاب، والقتل وهو الدين الذى يحرّم كل ذلك ويضع لمرتكبيه أفظع الحدود وأقساها ناهيك بأن هذه الغارة المتخيلة، تتنافى مع أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم وشخصيته. ولكن يبدو أن أعداء الإسلام، يهون عليهم ترك عقولهم عند ما يتعاملون مع هذا الدين القويم.
يعرض علينا ابن كمونة اليهودى الذى أسلم وحسن إسلامه عجيبة أخرى من ترّهات القوم، إذ ينقل عن بعضهم قوله: إنه من المحتمل = أن محمدا طالع فى كتب من تقدمه، أو سمعها، فانتخب أجودها، وضم البعض إلى البعض أو أنه كان يترصد كلمات الناس، ويستقرئها فما وجده من كلمة رائقة، أو نكتة فائقة، نقّحه، وجمعه، ورتبه قرآنا = واستشهد صاحب هذا الزعم، بما جرى من عبد الله بن أبى سرح (1)، أحد كتّاب الوحي، عند ما كان النبى صلى الله عليه وسلم يملى عليه آيات من سورة (المؤمنون: 11: 14)، والتى يتحدث الله فيها عن مراحل خلق الإنسان، حتى إذا ما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظََامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنََاهُ خَلْقاً آخَرَ} لهج ابن سرح على الفور بهذه العبارة = فتبارك الله أحسن الخلقين = فقال صلى الله عليه وسلم: = اكتب فهكذا أنزلت = فارتد الرجل وجمع به هواه، فظن أنه يوحى إليه كمحمد صلى الله عليه وسلم (2).
هذا الخبر صحيح لا شك فيه ولكن أصح منه، أن القرآن يتلاقى مع الفطرة، وبخاصة عند ما يتكلم القرآن عن الله تعالى، وعن عمله فى الخلق والإبداع وأصح منه كذلك، أن ابن أبى سرح لو كان يستطيع آنذاك، أن يتلقى وحيا أو يكتب كلاما مثل كلام الله تعالى فلماذا لم يستمر فى تلقى الوحى، وكتابة ما يوحى إليه؟ لماذا وقف عند هذه الجملة ولم يتعداها وكان المجال أمامه أفسح من الصحراء التى يعيش فيها؟ لماذا انقطع خبره عند هذه الدعوى؟ ولم يعرف عنه أحد إلا هذه الجملة وهذه الحكاية، التى أثبتتها كتب الحديث؟ والتى
__________
(1) عبد الله بن أبى سرح بن سعد بن الحارث العامرى القرشى، أسلم وهاجر، وكانت له صحبة، وكتب للنبى صلى الله عليه وسلم ثم ارتد وأسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وولّى فى خلافة عثمان، وبعد مقتله رضى الله عنه، اعتزل الناس والتزم العبادة، ودعا الله أن يتوفاه بعد الصلاة، فمات بعد تسليمه من صلاة الصبح. ذكره السهيلى.
(2) انظر تنقيح الأبحاث فى الملل الثلاث. ص 7270.(1/66)
لو لم يسجلها المحدّثون ما سمع بها ولا به أحد وأين أعداء محمد صلى الله عليه وسلم منه؟ لماذا لم ينتفعوا به ويعارضوا بكلامه كلام الله تعالى، الذى بلغه محمد صلى الله عليه وسلم.
ونرى أنه من المفيد أن نشير هنا إلى الحديث الذى رواه عكرمة أن عبد الله بن أبى سرح كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد مشركا، وصار إلى قريش فقال لهم: = إنى كنت أحرّف محمدا حيث أريد، كان يملى عليّ = عزيز حكيم =، فأقول: أو = عليم حكيم =؟
فيقول نعم كلّ صواب. وفى حديث آخر برواية السدى فيقول له النبى صلى الله عليه وسلم: = اكتب كذا = فيقول = أأكتب كذا =؟ فيقول: = اكتب كيف شئت =، ويقول اكتب = عليما حكيما = فيقول أكتب = سميعا بصيرا =؟ فيقول له: = اكتب كيف شئت =. وفى الصحيح عن أنس رضى الله عنه أن نصرانيا (يقال إنه رجل من بنى النجار) كان يكتب للنبى صلى الله عليه وسلم بعد ما أسلم، ثم ارتد، وكان يقول: = ما يدرى محمد إلا ما كتبت له =.
بعد أن أشار إلى هذين الحديثين قال القاضى عياض الأندلسى: = فاعلم، ثبّتنا الله وإياك على الحق، ولا جعل للشيطان وتلبيسه الحق بالباطل إلينا سبيلا، أنّ مثل هذه الحكاية أولا لا توقع فى قلب مؤمن ريبا. إذ هى حكاية عمن ارتد وكفر بالله، ونحن (أى علماء الحديث) لا نقبل خبر المسلم المتهم، فكيف بكافر افترى هو ومثله على الله ورسوله ما هو أعظم من هذا =، ويضيف القاضى عياض = ولم يرد عن أحد من المسلمين، ولا ذكر أحد من الصحابة أنه شاهد ما قاله (أى ابن أبى سرح أو هذا النصرانى) وافتراه على نبى الله صلى الله عليه وسلم =، يقول تعالى: {إِنَّمََا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِآيََاتِ اللََّهِ وَأُولََئِكَ هُمُ الْكََاذِبُونَ} (105) (النحل: 105) (1).
ويقول القاضى عياض إن الصحيح فى ذلك هو حديث عبد الله بن عزيز بن رقيع (التابعى) عن أنس وليس في هذا الحديث عن أنس قول شىء من ذلك من قبل نفسه، إلا من حكايته عن النصراني ولو كانت أى الحكاية صحيحة لما كان فيها قدح، ولا توهيم للنبى صلى الله عليه وسلم فيما أوحى إليه، ولا جواز للنسيان، والغلط عليه والتحريف فيما بلّغه، ولا طعن فى نظم القرآن وأنه من عند الله إذ ليس فيه لو صح أكثر من أن الكاتب قال له: = عليم حكيم =، أو كتبه فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: = كذلك هو =. فسبقه لسانه أو قلمه لكلمة أو كلمتين مما
__________
(1) انظر. الشفا بتعريف حقوق المصطفى. تحقيق محمد أمين على وآخرين. ج 2ص 307306، عمان. مؤسسة علوم القرآن، ودار الفيحاء 1407هـ / 1986م(1/67)
نزّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إظهار الرسول لها. إذ كان ما تقدم مما أملاه الرسول يدل عليها، ويقتضى وقوعها بقوة قدرة الكاتب على الكلام، ومعرفته به، وجودة حسه وفطنته، كما يتفق ذلك للعارف إذا سمع البيت من الشعر أن يسبق إلى قافيته أو مبتدأ الكلام الحسن إلى ما يتم به، ولا يتفق ذلك فى جملة الكلام، كما لا يتفق ذلك فى آية ولا سورة =.
ويمكن أن يفهم هذا الاتفاق، لو صح وقوعه أصلا، على أنه مما جاءت به القراءات المختلفة للقرآن الكريم، والتى تأخذ حكم القرآن من حيث كونها وحيا (1).
ونمضى فى استعراض الآيات التى أشار إليها ويلش فى مناقشته للفظ = كتاب =، يقول تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (22) (البروج: 2221) اللوح المحفوظ هو الكتاب المكنون، المذكور فى الآية الأخرى، أشار هنا إلى المادة التى كتب عليها القرآن، وهى = اللوح =، وجمعها = ألواح =، و = الكتاب = مصدر = كتب يكتب كتابة = وأصل = الكتابة = الجمع سميت كذلك، لجمعها الحروف فاشتق = الكتاب = منه، لأنه يجمع أصنافا من القصص، والآيات، والأحكام، والمواعظ، والأمثال، والأخبار، والعلوم، والمعارف ويسمى المكتوب = كتابا = على سبيل المجاز، كما فى قوله: {فِي كِتََابٍ مَكْنُونٍ} (78) (الواقعة: 78)، و = الكتاب = إذن بمعنى = المكتوب = سواء كتب على ورق، أم أباطى، أم لخاف، أم على لوح، أم حجر وقد عبر الله تعالى عن الكلام المكتوب الذى أنزله على الأنبياء، مرة بالمفرد = كتابا =، ومرة بالجمع = كتبا =، ومرة ب = الصحف = ومرة ب = اللوح = أو = الألواح =. يقول تعالى: {وَكَتَبْنََا لَهُ فِي الْأَلْوََاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ}
(الأعراف: 145) والمكتوب له هو موسى عليه السلام هذا مع أنه تعالى يسمى الوحى الذى أنزل على موسى أيضا ب = الكتاب =، و = التوراة =، و = الفرقان = و = اللوح = مادة كالورقة، لا يسمى = كتابا = إلا إذا كتب عليه بالفعل وقد استعمل = القرآن = هذا الاسم، بالمعنى الأصلى له، فى قوله تعالى: {وَحَمَلْنََاهُ عَلى ََ ذََاتِ أَلْوََاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنََا جَزََاءً لِمَنْ كََانَ كُفِرَ} (14) (القمر: 1413) والمحمول هو نوح عليه السلام، والدسر المسامير، والجري للسفينة.
تنطوى تحت هذه الطائفة من الآيات آية الزخرف أيضا: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتََابِ لَدَيْنََا}
__________
(1) المصدر السابق 309308.(1/68)
{لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (4) (الزخرف: 4)، والتى تشير هى الأخرى إلى الكتاب الأم والإمام الذى أخذ منه جبريل عليه السلام، ونزل به على النبى صلى الله عليه وسلم على التراخى كما ذكرنا من قبل.
ونأتى الآن إلى قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ} (آل عمران: 7) هذه الآية قد أصابت المستشرق بشجّى فى حلقه، واعترضت مجرى نفسه إذ أنه لم يفهم عبارة = أم الكتاب = هنا، و = أم الكتاب = فى الآيات الأخرى ومن ثم فقد وهم وخلط فى توجيه العبارة.
ولتوضيح هذه المسألة نقول إن = أم الكتاب = فى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتََابِ لَدَيْنََا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (4) تعنى أصل القرآن الذى جاء المقروء على منواله، وانتسخ منه الكتاب المجيد أما العبارة الواردة فى سورة (آل عمران: 7): {هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ} فتنص على أن من القرآن محكم ومتشابه، وأن الآيات المحكمة يعنى الواضحة الثابتة المفهوم والحكم إنما هى الأصل، أو الأم التى يرجع إليها عند الاختلاف، ويرد إليها النص عند الالتباس، كما يقال = مكة أم القرى = وذلك لما روى = أن الدنيا دحيت من تحتها = و = أم الرأس لمجتمع الشعر =، إذ هو أحظر مكان و = المجرة = يقال لها = أم النجوم =.
قال الخليل بن أحمد: = وكل شىء يضم إليه سائر ما يليه، يسمى أمّا =، و = الفاتحة = = أم الكتاب وأم القرآن = لاشتمالها على أصوله وكل آيات المحكم هن أم القرآن أراد الله تعالى أن يقول للمشككين فى وحيه، أن محكم هذا الكتاب، وواضحه، هو الأصل، وهو المعيار وأن آيات المحكم هى الأكثر، وأن المتشابه الذى يحتمل التأويل، وقد يثير الاختلاف، هو الأقل والقرآن الكريم، وهو الكتاب المقروء، كهذا الكون المنظور، فيه الثابت المحكم، والمتغير المتقن محكم القرآن ليس فيه فتور أو خلل، ومتشابهه ليس فيه عوج أو زلل، المحكم يثبّت القلب، والمتشابه يثير العقل، ويستحثه على النظر، وإعمال الفكر، فيقوى الإيمان كما تقوى به الأذهان، وتنتج العلوم، وتجول الخواطر، وتصول القرائح، وبذلك يجد أهل التسليم فى القرآن متمناهم وقراهم (غذاءهم)، كما يجد المتفلسفة والمتأملة مبتغاهم ومرقاهم. أما عبارة = أمّ الكتاب = الواردة فى قوله تعالى: {يَمْحُوا اللََّهُ مََا يَشََاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتََابِ} (39) (الرعد: 39)، فهى خاصة بديوان الخلق والتقدير، والحكم والتدبير، والقضاء والقدر ف = أم الكتاب = تعنى أم المكتوب فى سابق علم الله تعالى وأصل تقديره.
بعد هذا العرض للآيات الخاصة بلفظة = كتاب =، وعبارة = أم الكتاب = فى القرآن، والتعليق عليها يتضح لنا أن القرآن استعملها فى قرائن مختلفة، وفى التعبير عن معان متنوعة، تحددها القرائن، ومواقع الخطاب القرآنى، ليس بينها أدنى ليس أو خلط، ويتضح كذلك أن لفظ = كتاب =، يطلق أكثر ما يطلق فى القرآن، على كتاب الله تعالى، الذى يتعبد المسلمون بتلاوته ويتبركون بحمله، وينزلون على حكمه.(1/69)
قال الخليل بن أحمد: = وكل شىء يضم إليه سائر ما يليه، يسمى أمّا =، و = الفاتحة = = أم الكتاب وأم القرآن = لاشتمالها على أصوله وكل آيات المحكم هن أم القرآن أراد الله تعالى أن يقول للمشككين فى وحيه، أن محكم هذا الكتاب، وواضحه، هو الأصل، وهو المعيار وأن آيات المحكم هى الأكثر، وأن المتشابه الذى يحتمل التأويل، وقد يثير الاختلاف، هو الأقل والقرآن الكريم، وهو الكتاب المقروء، كهذا الكون المنظور، فيه الثابت المحكم، والمتغير المتقن محكم القرآن ليس فيه فتور أو خلل، ومتشابهه ليس فيه عوج أو زلل، المحكم يثبّت القلب، والمتشابه يثير العقل، ويستحثه على النظر، وإعمال الفكر، فيقوى الإيمان كما تقوى به الأذهان، وتنتج العلوم، وتجول الخواطر، وتصول القرائح، وبذلك يجد أهل التسليم فى القرآن متمناهم وقراهم (غذاءهم)، كما يجد المتفلسفة والمتأملة مبتغاهم ومرقاهم. أما عبارة = أمّ الكتاب = الواردة فى قوله تعالى: {يَمْحُوا اللََّهُ مََا يَشََاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتََابِ} (39) (الرعد: 39)، فهى خاصة بديوان الخلق والتقدير، والحكم والتدبير، والقضاء والقدر ف = أم الكتاب = تعنى أم المكتوب فى سابق علم الله تعالى وأصل تقديره.
بعد هذا العرض للآيات الخاصة بلفظة = كتاب =، وعبارة = أم الكتاب = فى القرآن، والتعليق عليها يتضح لنا أن القرآن استعملها فى قرائن مختلفة، وفى التعبير عن معان متنوعة، تحددها القرائن، ومواقع الخطاب القرآنى، ليس بينها أدنى ليس أو خلط، ويتضح كذلك أن لفظ = كتاب =، يطلق أكثر ما يطلق فى القرآن، على كتاب الله تعالى، الذى يتعبد المسلمون بتلاوته ويتبركون بحمله، وينزلون على حكمه.
مفهوم لفظة = السورة = فى القرآن = السورة = كلمة قرآنية، ورد ذكرها تسع مرات بالمفرد، ومرة واحدة بالجمع فى القرآن الكريم هذا ما لاحظه ويلش ونزيد عليه أن مجموع السور التى تتضمن لفظة = سورة = ست هى = البقرة = و = التوبة =، و = يونس =، و = النور =، و = محمد =، و = هود =، كلها مدنية، إلا سورة = هود = فإنها مكية.
يزعم المستشرق أن لفظة = سورة =، مأخوذة من الكلمة السريانية،) (، بمعنى = كتاب مقدس = أو = قراءة من نص مقدس = وتدعيما لهذا الحكم، الذى لا أساس له يعطى ويلش تعريفا مركبا، وغريبا لمعنى كلمة = سورة = فى القرآن، فيقول إن معنى = السورة = فى القرآن، هو الوحدة أو الجزء من الوحى، الذى يمكن أن يترجم بالكتاب المقدس ()، أو الوحي ().
وهذا التعريف غير صحيح ف = السورة = ك = الآية = جزء من الوحى، ولا يشار إليها بذاتها على أنها الوحى، ولا يسميها المسلمون بمفردها القرآن، أو الكتاب المقدس فالقرآن يحتوى على مائة وأربع عشرة سورة، تمثل فى مجموعها القرآن، والقرآن نفسه يسمى وحيا، كما فى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمََا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} (الأنبياء: 45) وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلََّا وَحْيٌ يُوحى ََ} (4) (النجم: 4). ولا يمكن بحال أن نسمى = السورة = بمفردها من القرآن = كتابا = أو = وحيا =، وربما وهم الكاتب فى معنى كلمة = أنزل = أو = ينزل =، التى جاءت فى مواضع كثيرة مقترنة ب = القرآن =، وفى بعضها جاءت مقرونة بلفظة = السورة = ففهم خطأ أن السورة يمكن أن تسمى لذلك = كتابا = و = وحيا = ك = القرآن = تماما إذ يقول الله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنََافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمََا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللََّهَ مُخْرِجٌ مََا تَحْذَرُونَ} (64) (التوبة: 64)، ومما يلفت النظر أن لفظ = سورة = ذكر فى سورة التوبة أربع مرات (في الآيات 64، 86، 124، 127)، وتدور اللفظة فى هذه المواضع الأربعة
حول المنافقين وذلك لشدة بأسهم، وخطرهم على المجتمع، فهم كانوا يخشون نزول السورة من القرآن لأنها تفضح أمرهم، وتكشف سرهم، فكأن السورة فى شدتها وتأثيرها على المنافقين، قرآنا كاملا. ومما يلاحظ أيضا أن آيات وصف المنافقين، أكثر من الآيات التى يصف الله فيها الكفار والمؤمنين.(1/70)
وهذا التعريف غير صحيح ف = السورة = ك = الآية = جزء من الوحى، ولا يشار إليها بذاتها على أنها الوحى، ولا يسميها المسلمون بمفردها القرآن، أو الكتاب المقدس فالقرآن يحتوى على مائة وأربع عشرة سورة، تمثل فى مجموعها القرآن، والقرآن نفسه يسمى وحيا، كما فى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمََا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} (الأنبياء: 45) وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلََّا وَحْيٌ يُوحى ََ} (4) (النجم: 4). ولا يمكن بحال أن نسمى = السورة = بمفردها من القرآن = كتابا = أو = وحيا =، وربما وهم الكاتب فى معنى كلمة = أنزل = أو = ينزل =، التى جاءت فى مواضع كثيرة مقترنة ب = القرآن =، وفى بعضها جاءت مقرونة بلفظة = السورة = ففهم خطأ أن السورة يمكن أن تسمى لذلك = كتابا = و = وحيا = ك = القرآن = تماما إذ يقول الله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنََافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمََا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللََّهَ مُخْرِجٌ مََا تَحْذَرُونَ} (64) (التوبة: 64)، ومما يلفت النظر أن لفظ = سورة = ذكر فى سورة التوبة أربع مرات (في الآيات 64، 86، 124، 127)، وتدور اللفظة فى هذه المواضع الأربعة
حول المنافقين وذلك لشدة بأسهم، وخطرهم على المجتمع، فهم كانوا يخشون نزول السورة من القرآن لأنها تفضح أمرهم، وتكشف سرهم، فكأن السورة فى شدتها وتأثيرها على المنافقين، قرآنا كاملا. ومما يلاحظ أيضا أن آيات وصف المنافقين، أكثر من الآيات التى يصف الله فيها الكفار والمؤمنين.
ومن الآيات التى ذكرت فيها = السورة = مع عبارة = التنزيل = قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلََا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتََالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى ََ لَهُمْ} (20) (محمد: 20) وقول الله: = لولا نزّلت سورة = لا يعنى البتّة أن = السورة = فى معناها ك = الكتاب =، وأنه يمكن أن تكون السورة بذاتها كتابا مقدسا ().
يقول الكاتب إن لفظة = سورة = قد استعملت فى القرآن فى قرائن مختلفة فهى تطلق أحيانا ويراد بها = الآية =، وتطلق أحيانا أخرى ويراد بها = القرآن =، كما تطلق كذلك على = الكتاب = ويستشهد ويلش على صحة كلامه، بما جاء فى القرآن بشأن تحدى الخصوم من الكفار أن يأتوا بمثله، أو بشيء منه، كما فى قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمََّا نَزَّلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدََاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (23) (البقرة:
23) وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (38) (يونس: 38) وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيََاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (13) (هود: 13).
وننبه هنا وفى هذا السياق على نقطة مهمة وهى أن لفظة = أنزل = استعملت مع = السورة =، وأيضا مع = الآيات =، وفى قرينة واحدة، كما جاء فى قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنََاهََا وَفَرَضْنََاهََا وَأَنْزَلْنََا فِيهََا آيََاتٍ بَيِّنََاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1) (النور: 1).
فالقرآن قد استعمل لفظ = أنزلنا = مع كل من = السورة =، و = الآيات = التى تشكل فى مجموعها السورة =، ولا يعقل القول بأن الآيات المشار إليها بلفظ = أنزلنا = فى قرينة السورة، يمكن أن تسمى بمفردها = كتابا مقدسا = بحجة أن الله قد نص على إنزالها والنقطة التى تخفى على الكاتب هنا، هى أن لفظة = أنزل = وما يجرى مجراها، إنما استعملت للتنبيه على معنى خاص، أو حكم خاص، جاءت به = السورة = أو = الآية =، وأراد الله تعالى تأكيده على هذا النحو.
ومن المفيد أن نذكر فى هذه القرينة كذلك أن الضمير فى = أنزلناها = و = أنزلناه =، راجع إلى = القرآن =، أو إلى = السورة =، ومعناه فى الموضعين أنزلنا حامله، أو حاملها لأن القرآن لم ينزل بنفسه بل نزل به جبريل عليه السلام.(1/71)
فالقرآن قد استعمل لفظ = أنزلنا = مع كل من = السورة =، و = الآيات = التى تشكل فى مجموعها السورة =، ولا يعقل القول بأن الآيات المشار إليها بلفظ = أنزلنا = فى قرينة السورة، يمكن أن تسمى بمفردها = كتابا مقدسا = بحجة أن الله قد نص على إنزالها والنقطة التى تخفى على الكاتب هنا، هى أن لفظة = أنزل = وما يجرى مجراها، إنما استعملت للتنبيه على معنى خاص، أو حكم خاص، جاءت به = السورة = أو = الآية =، وأراد الله تعالى تأكيده على هذا النحو.
ومن المفيد أن نذكر فى هذه القرينة كذلك أن الضمير فى = أنزلناها = و = أنزلناه =، راجع إلى = القرآن =، أو إلى = السورة =، ومعناه فى الموضعين أنزلنا حامله، أو حاملها لأن القرآن لم ينزل بنفسه بل نزل به جبريل عليه السلام.
يتخذ الكاتب من آيات التحدى بالقرآن المذكورة، دليلا يؤكد به زعمه، بأن = السورة = تطلق على القرآن كله، كما تطلق على بعضه وهو بهذا يكون قد أوجد فى الوهم علاقة بين كلمة = سورة = العربية، ومقابلها بالسريانية = سورتا =، والعلاقة هى أن كلا من الكلمتين، يطلق على = الكتاب المقدس = كله أو بعضه واجتهاد الكاتب هنا، فى غير محله والصلة بين نتيجته ومقدماته، مبتورة مقطوعة فعبارة القرآن: (فأتوا بسورة مثله)، و (فأتوا بعشر سور مثله)، بعود الضمير على القرآن فى كل، لا يعنى البتّة أن السورة، والعشر سور، والقرآن، كله بمعنى واحد، كما يحاول هو أن يفرضه والصحيح أن الله تعالى قد تدرج مع العرب فى التحدى فقد تحداهم فى البداية بكل القرآن: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى ََ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لََا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كََانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (88) (الإسراء:
88)، تلك الآية التى أهمل ويلش الإشارة إليها، فى هذا الصدد لأنها لا توافق مدّعاه تفيد بوضوح أن التحدى هنا بكل القرآن، لا بسورة، أو عشر سور منه فقط وهذا فى حد ذاته، إشارة واضحة إلى أن القرآن فى مجموعه معجز، وفوق قوى البشر العقلية وقدراتهم الإبداعية، كما أنه معجز فى سوره وآياته.
انتقل الله تعالى من تحدى العرب، أن يأتوا بمثل القرآن، إلى تحديهم بالسورة، والعشر سور منه، حتى لا يقولون: قرآن جاء به محمد فى ثلاث وعشرين عاما، يطالبنا أن نأتى به فى الوقت القصير وبلغاؤنا وعباقرتنا، يقلقون ويضطربون، يهيمون ويطوفون، ويطاف بهم، من أجل قصيدة تنشد، أو خطبة تلقى ناهيك بما فى القرآن من علوم، ومعارف، ولطائف، وطرائف، وغرائب، وعجائب، تعجز البشر لذلك قال الله لهم:
{قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ}، أو {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}، أى من جنسه وقد فات الكاتب أن يلاحظ عود الضمير على = القرآن = كله، لا على = سورة =، أو = العشر سور = إذ أثبت الله فى كلا الموضعين كلمة = مثله =، أى القرآن ولم يقل مثلها، يعنى = السورة = أو = العشر سور =. ومن التنزل فى التحدى، أن الله لم يحدد لهم حجم السورة، أو السور، التى طلب إليهم أن يأتوا بمثلها بل ترك لهم الاختيار، أن يختاروا ما يظنون أنه فى إمكانهم محاكاته.
ومن وهم الكاتب أيضا أنه ربط بين الآيات التى تحدى الله فيها العرب أن يأتوا بمثل القرآن أو بعض سوره، وبين قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتََابٍ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ هُوَ أَهْدى ََ مِنْهُمََا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (القصص: 49) بل آية القصص ليس فيها تحدى للقائلين، بأن يأتوا بمثل القرآن وإنما فيها رد عليهم فى دعوى أن محمدا صلى الله عليه وسلم، لم يؤت مثل ما أوتى موسى، عليه السلام، من قبل، من الكتب والمعجزات فرد الله تعالى عليهم، بأن أسلافهم قد كفروا بما أوتى موسى واتهموه بالسحر، مرددين قولهم نفسه لمحمد صلى الله عليه وسلم، متخذين الموقف ذاته معه. ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يقول لهم: ائتوا بكتاب من عند الله هو أكثر هداية من القرآن والتوراة فأتبعه معكم إن كانوا صادقين فى دعواهم، وقادرين على تحقيق هذا الأمر ولكنهم بلا أدنى شك، لا يمكنهم ذلك لأن الإتيان بكتاب من عند الله، يتطلب النبوة والرسالة والمعجزة وصدق الله إذ يقول: {وَإِذََا جََاءَتْهُمْ آيَةٌ قََالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتََّى نُؤْتى ََ مِثْلَ مََا أُوتِيَ رُسُلُ اللََّهِ اللََّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسََالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغََارٌ عِنْدَ اللََّهِ وَعَذََابٌ شَدِيدٌ بِمََا كََانُوا يَمْكُرُونَ} (124) (الأنعام: 124).(1/72)
{قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ}، أو {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}، أى من جنسه وقد فات الكاتب أن يلاحظ عود الضمير على = القرآن = كله، لا على = سورة =، أو = العشر سور = إذ أثبت الله فى كلا الموضعين كلمة = مثله =، أى القرآن ولم يقل مثلها، يعنى = السورة = أو = العشر سور =. ومن التنزل فى التحدى، أن الله لم يحدد لهم حجم السورة، أو السور، التى طلب إليهم أن يأتوا بمثلها بل ترك لهم الاختيار، أن يختاروا ما يظنون أنه فى إمكانهم محاكاته.
ومن وهم الكاتب أيضا أنه ربط بين الآيات التى تحدى الله فيها العرب أن يأتوا بمثل القرآن أو بعض سوره، وبين قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتََابٍ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ هُوَ أَهْدى ََ مِنْهُمََا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (القصص: 49) بل آية القصص ليس فيها تحدى للقائلين، بأن يأتوا بمثل القرآن وإنما فيها رد عليهم فى دعوى أن محمدا صلى الله عليه وسلم، لم يؤت مثل ما أوتى موسى، عليه السلام، من قبل، من الكتب والمعجزات فرد الله تعالى عليهم، بأن أسلافهم قد كفروا بما أوتى موسى واتهموه بالسحر، مرددين قولهم نفسه لمحمد صلى الله عليه وسلم، متخذين الموقف ذاته معه. ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يقول لهم: ائتوا بكتاب من عند الله هو أكثر هداية من القرآن والتوراة فأتبعه معكم إن كانوا صادقين فى دعواهم، وقادرين على تحقيق هذا الأمر ولكنهم بلا أدنى شك، لا يمكنهم ذلك لأن الإتيان بكتاب من عند الله، يتطلب النبوة والرسالة والمعجزة وصدق الله إذ يقول: {وَإِذََا جََاءَتْهُمْ آيَةٌ قََالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتََّى نُؤْتى ََ مِثْلَ مََا أُوتِيَ رُسُلُ اللََّهِ اللََّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسََالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغََارٌ عِنْدَ اللََّهِ وَعَذََابٌ شَدِيدٌ بِمََا كََانُوا يَمْكُرُونَ} (124) (الأنعام: 124).
إن الذين أجرموا فى حق الأنبياء يشترطون على الله أن يعطيهم ما أعطاه للأنبياء، وهم لم يعملوا بعمل الأنبياء، لا السابقين، ولا المعاصرين لهم ولو عملوا بعملهم واتبعوا طريقتهم لفازوا بالخير الذى معهم وحظوا بالسعادة فى الدنيا، وبالجنة فى الدار الآخرة، ولكنهم أنفوا أن يتبعوا الأنبياء، وطالبوا بالمساواة معهم كبرا وبطرا فأصابهم الصغار وهو الذل والعار فى الدنيا، والعذاب الشديد والأبيد فى الآخرة.
يضيف ويلش أنه لا توجد أى إشارة فى القرآن أجمع بتحديد حجم السورة، بالنسبة للوحى ككل، وفى الأغلب الأعم، فإن هذه السور، التى تشير إليها الآيات السابقة كانت أجزاء، أو أبعاضا فقط، من السورة الحالية وهذه قفزة غير مأمونة من الكاتب، ونسأل من الذى يقرر يا ترى أن سورا ما من القرآن، كانت تعتبر أجزاء من السورة الحالية، ثم فصلت عنها، وأصبحت سورا بذواتها؟ وليت شعرى أين تلك الأجزاء، أو الآيات الأخرى؟
هل هى لا تزال باقية فى المصحف، أم أنها سقطت منه؟
لنجيب على هذه الأسئلة ينبغى أن نتوقف قليلا، لحين مناقشة آراء الكاتب فى الناسخ والمنسوخ.
يمضى المؤلف فى استعراض الألفاظ القرآنية فيقول = إن الاستخدامات القرآنية لكلمة = قرآن =، = آية =، = كتاب =، = سورة = كلها تتفق أو تتقارب عند النقاط التالية:(1/73)
لنجيب على هذه الأسئلة ينبغى أن نتوقف قليلا، لحين مناقشة آراء الكاتب فى الناسخ والمنسوخ.
يمضى المؤلف فى استعراض الألفاظ القرآنية فيقول = إن الاستخدامات القرآنية لكلمة = قرآن =، = آية =، = كتاب =، = سورة = كلها تتفق أو تتقارب عند النقاط التالية:
أولا الألفاظ = قرآن = و = آية = و = سورة = كل منها يستعمل أحيانا، للتعبير عن الجزء الأساسى للوحى، وتشمل غالبا مجموعة من الآيات، كما فى قوله تعالى على سبيل المثال:
{وَمََا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمََا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلََا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلََّا كُنََّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (يونس: 61)، وقوله تعالى: {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهََا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهََا أَوْ مِثْلِهََا} (البقرة: 106).
وكتعليق على الآية الأولي، موضع الاستشهاد، نقول إن معنى = وما تكون فى شأن =.
أى من شئون الحياة، أو الدين = وما تتلوا منه = الضمير يعود إما يعود على شأن، ويكون = منه = بمعنى فيه أو بسبب، أى وما تتلوا من قرآن فى هذا الشأن، وبسببه وكانت حياته صلى الله عليه وسلم كلها قرآنية، والقرآن حاكم، وموجه لكل شئون المسلمين الدينية والدنيوية وإما أن يعود الضمير فى = منه =، على القرآن، أى وما تتلوا من القرآن وقد عرفنا أن القرآن، كالماء يطلق على الكل، وعلى الجزء وهذه الآية دليل قاطع على ذلك ولا متعلق للمستشرق بها ولا بآية البقرة (106).
أما لفظة = كتاب = فربما تعطى المعنى السابق نفسه، كما فى آية (49) من سورة يونس، التى أشرنا إليها، وأوضحنا معناها وليس فيها أن = الكتاب = و = السورة = و = الآية = بمعنى واحد وليس فى الآية كذلك ما يفيد تداخل المعانى بين هذه الألفاظ، لا من قريب ولا من بعيد بل لكل لفظ منها، معناه المحدد والواضح.
ثانيا الألفاظ = قرآن = كما فى سورة (سبأ: 31) (1)، و = كتاب = كما فى (البقرة:
89) (2)، و (الأنعام: 92 (3)، 154 (4))، و (الأعراف: 2) (5) تستعمل أحيانا بمعنى = الكتاب المقدس = وكذلك = سورة = تستعمل أحيانا بالمعنى نفسه والحقيقة أن كلمة = كتاب =
__________
(1) {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهََذَا الْقُرْآنِ وَلََا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}
(2) {وَلَمََّا جََاءَهُمْ كِتََابٌ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ مُصَدِّقٌ لِمََا مَعَهُمْ وَكََانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمََّا جََاءَهُمْ مََا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللََّهِ عَلَى الْكََافِرِينَ}
(3) {وَهََذََا كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ مُبََارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}
(4) {ثُمَّ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ}
(5) {كِتََابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلََا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ}(1/74)
قد استعملت فى جميع المواضع، التى أشار إليها المستشرق، للتعبير عن = القرآن =، إلا فى موضع واحد (الأنعام: 156) (1) فإنه أى الكتاب بمعنى = كتاب موسى أو عيسى عليهما السلام = مع أنه فى الآية السابقة عليها قد ورد لفظ = كتاب = إشارة إلى = القرآن = {وَهََذََا كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ مُبََارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (155) (الأنعام: 155).
أما عن لفظة = سورة =، التى يقرر المستشرق أنها تأتى أحيانا، بمعنى = الكتاب المقدس = فقد سبق أن ناقشناه فيها، وبيّنّا المعنى الصحيح للّفظة، كما فى سورة النور التى استشهد بها، ولا داعى للتكرار.
ثالثا فى بعض المواضع، تستعمل لفظتى = السورة = و = الكتاب = فى القرآن، بمعنى الوحى بصفة عامة، وأحيانا قد تشير إلى جزء، أو أجزاء مخصوصة منه، كما فى قوله تعالى:
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مََا هُوَ شِفََاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلََا يَزِيدُ الظََّالِمِينَ إِلََّا خَسََاراً} (82) (الإسراء: 82)، وقد تناولناها بالمناقشة فيما سبق، ولا داعى لذكرها هنا.
وفى قول الله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتََابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ} (فاطر: 31)، هذه الآية تعنى أن الذى أنزله الله على محمد، هو من باب الخاص والعام، أى أن الذى نزل من القرآن، هو من ضمن الكتاب الأم، الذى يضم القرآن كله، والذى هو عند الله.
رابعا وعلى أية حال، فإنه من المعتاد وجود تمييز بين هذه الألفاظ فلفظ = كتاب = يراد به = كتاب الله =، عند ما يشار به إلى الوحى بصفة عامة هذا بينما يطلق لفظ = قرآن = على الوحى، والكلام الذى أنزله الله على محمد خاصة، على سبيل المثال قوله تعالى: {وَمََا كََانَ هََذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى ََ مِنْ دُونِ اللََّهِ وَلََكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتََابِ لََا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (37) (يونس: 37)، المعنى = وما كان لأحد أن يفترى أو يزوّر مثل هذا القرآن، لأنه كلام الله وهو وحده القادر على إنشاء نظمه، وإبداع معانيه، وإحكام تأثيره على النفوس = وبالتالى فأصل دعوى الإتيان بمثل هذا القرآن، باطلة من الأساس. ولو أمكن لمحمد كبشر أن يؤلف القرآن، لأمكن لغيره ممن هو فى طبقته من أهل الصنعة، أن يأتى بمثله. وقد مرّ بنا أن الله تعالى تحدى البشر أن يأتوا بمثله فعجزوا، ومحمد صلى الله عليه وسلم من عموم البشر،
__________
(1) {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمََا أُنْزِلَ الْكِتََابُ عَلى ََ طََائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنََا وَإِنْ كُنََّا عَنْ دِرََاسَتِهِمْ لَغََافِلِينَ}(1/75)
وداخل فى عموم التحدى. وهذا التحدى ثابت للبشر إلى قيام الساعة. وعبارة = هذا القرآن = فى الآية، لا تقتصر فى الإشارة على بعض القرآن وهو الجزء الذى كان محمد صلى الله عليه وسلم قد تلقاه عن الله، وإنما تشير أيضا إلى القرآن كله وقد نوهنا فيما سبق أن لفظة = قرآن =، تطلق على الكل وعلى الجزء، وهو مما غاب عن الكاتب إدراكه.
ومن الجدير بالإشارة إليه هنا، أن معنى قوله تعالى: (وتفصيل الكتب) هو القرآن نفسه، فصّل أولا تنجيما وتنزيلا ثم إقراء وتثبيتا وأخيرا تفسيرا وتبيينا، وعملا وتطبيقا وينبغى ملاحظة قول الله تعالى: (وتفصيل الكتب)، إذ إنه لم يقل = وتفصيل القرآن =، وهو الأوضح، وذلك تجنبا لتكرار كلمة = قرآن = فى مثل هذه المساحة الضيقة، حفاظا على جمال الأسلوب وأيضا فإن استخدام كلمة = كتاب =، بدلا من = القرآن = أنسب للسياق، إذ أن عبارة (تصديق الّذى بين يديه) تشير إلى كتب الله السابقة، فناسب أن يأتى بعده بعبارة = وتفصيل الكتب = ولكن أنى للكاتب أن يصل إلى درجة الفقه فى كلام الله تعالى، وإلى معرفة معانيه التامة وأسراره الجمّة.
يشير ويلش فى نهاية حديثه عن كلمة = كتاب = فى القرآن، إلى هذه الآية: {الر تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ الْمُبِينِ (1) إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) (يوسف: 21) ليس فى الآية خصوص وعموم، وإنما فيها تلوين وتنويع فى الخطاب القرآنى، فآيات الكتاب المبين هى مجموع القرآن، وعددها (6236آية بالعد الكوفى).
وقول الله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} لا يعنى بحال أنه كان يوجد قرآن أعجمى وإنما معناه أن الله تعالى أنزله بهذه اللغة، وهى أفصح اللغات، وأظهرها، وأوسعها، وأغزرها، وأغدقها، وأروقها، نزل القرآن وهو أشرف الكتب وأكملها، على أشرف رسول، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، بسفارة أشرف الملائكة وتلقينه، جبريل عليه السلام، وأنزله فى أشرف البقاع مكة والمدينة وابتدأ نزوله فى أشرف ليلة هى ليلة القدر والتقدير وأنزله ابتداء فى أشرف شهر هو شهر رمضان الكريم، الذى أفرده الله تعالى دون سائر الشهور بذكر اسمه صراحة فى القرآن.
ألفاظ خاصة أخرى، استعملها القرآن فى التعبير عن الوحي أشار ويلش بعد ذلك، إلى مجموعة أخرى من أسماء القرآن الخاصة مثل:(1/76)
وقول الله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} لا يعنى بحال أنه كان يوجد قرآن أعجمى وإنما معناه أن الله تعالى أنزله بهذه اللغة، وهى أفصح اللغات، وأظهرها، وأوسعها، وأغزرها، وأغدقها، وأروقها، نزل القرآن وهو أشرف الكتب وأكملها، على أشرف رسول، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، بسفارة أشرف الملائكة وتلقينه، جبريل عليه السلام، وأنزله فى أشرف البقاع مكة والمدينة وابتدأ نزوله فى أشرف ليلة هى ليلة القدر والتقدير وأنزله ابتداء فى أشرف شهر هو شهر رمضان الكريم، الذى أفرده الله تعالى دون سائر الشهور بذكر اسمه صراحة فى القرآن.
ألفاظ خاصة أخرى، استعملها القرآن فى التعبير عن الوحي أشار ويلش بعد ذلك، إلى مجموعة أخرى من أسماء القرآن الخاصة مثل:
1= ذكر =، = تذكرة =، = ذكرى =، وثلاثتها مشتق من الفعل = ذكر = 2مثانى 3حكمة ثم تحدث بعد ذلك عن هذه الأسماء الثلاثة، باختصار ولكننا سنعرض لها بشيء من التفصيل، لتوضيح أهمية هذه الأسماء القرآنية ومناسبتها.
أولا: الذكر وردت كلمة = ذكر = بمادتها المتنوعة، فى مواضع كثيرة من القرآن، وهى فى مجموعها تتكلم عن القرآن، إما بلفظ = ذكر =، أو = تذكرة =، أو = ذكرى = هكذا تخصيصا وتنصيصا كما سنبينه بالأمثلة، وإما بلفظ مشتق من الفعل = ذكر = مشفوعا، أو مصاحبا للفظ القرآن، على سبيل المثال قوله تعالى: {وَإِذََا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى ََ أَدْبََارِهِمْ نُفُوراً} (46) (الإسراء: 46). ومعناها أنك يا محمد عند ما تذكر الله وهو رب القرآن فى تلاوتك، تشمئز قلوب الكفار غيرة على آلهتهم المزعومة، والقرآن كله دعوة إلى التوحيد، وتشنيع على الكفر والملاحدة. ومثله قوله تعالى: {وَإِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} (الزمر: 45).
وقول الله لنساء النبى صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرْنَ مََا يُتْلى ََ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيََاتِ اللََّهِ وَالْحِكْمَةِ} (الأحزاب: 34)، وآيات الله هى القرآن، والحكمة هى السنة المبينة له قولا وعملا. وهى إحدى جناحى التشريع ومنكرها، منكر للقرآن، خارج عن حظيرة الإيمان.
وقوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (1) (ص: 1)، يقسم الله تعالى بالقرآن ذى الشرف العظيم، والشأن الخطير الجليل فى نفسه، لأنه كلام الله الذى يعلو ولا يعلى عليه، وهو كذلك فى نفس تاليه، وسامعه، وفى نفس من يعمل به، ويلتزم بأحكامه. وسمى = القرآن = ب = الذكر = كذلك، لأنه يشتمل على ما يذكّر الغافل، وينبه اللاهى بالله تعالى ويحفزه للعمل الصالح فى دينه ودنياه.
وقوله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمََا أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ هََذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغََافِلِينَ} (3) (يوسف: 32). فالرسول صلى الله عليه وسلم كان غافلا عن تاريخ الأمم، والرسل، والملوك، وما جرى لهم بمعنى أنه كان يجهل كل ذلك ولم تكن له دراية به حتى عرّفه الله تعالى بذلك كله، وجعله ممن يذكره أى القرآن فلا ينساه، ويعيده فلا ينقص منه ولا يزيد فيه:(1/77)
وقوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (1) (ص: 1)، يقسم الله تعالى بالقرآن ذى الشرف العظيم، والشأن الخطير الجليل فى نفسه، لأنه كلام الله الذى يعلو ولا يعلى عليه، وهو كذلك فى نفس تاليه، وسامعه، وفى نفس من يعمل به، ويلتزم بأحكامه. وسمى = القرآن = ب = الذكر = كذلك، لأنه يشتمل على ما يذكّر الغافل، وينبه اللاهى بالله تعالى ويحفزه للعمل الصالح فى دينه ودنياه.
وقوله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمََا أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ هََذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغََافِلِينَ} (3) (يوسف: 32). فالرسول صلى الله عليه وسلم كان غافلا عن تاريخ الأمم، والرسل، والملوك، وما جرى لهم بمعنى أنه كان يجهل كل ذلك ولم تكن له دراية به حتى عرّفه الله تعالى بذلك كله، وجعله ممن يذكره أى القرآن فلا ينساه، ويعيده فلا ينقص منه ولا يزيد فيه:
{سَنُقْرِئُكَ فَلََا تَنْسى ََ (6) إِلََّا مََا شََاءَ اللََّهُ} (الأعلى: 76) ومن المفيد جدا أن ننبه على السر فى اختيار الله لكلمة = غافل = فى نفى المعرفة عن محمد، فنقول إن لفظة = غافل = تقابلها كلمتى = ذاكر =، = وناس = ومن حكمة الله تعالى، ودقة القرآن أنه استعمل كلمة = غافل = دون = ناس =، وذلك لأن الكلمة الأولى تفيد بوضوح عدم علم محمد بما كان فى الكتب السابقة بالمرة، وهو ما كان عليه النبى صلى الله عليه وسلم بالفعل وأما الكلمة الثانية = ناس =، فتفيد علما سابقا على النسيان وهذا الوصف لا يصدق على محمد صلى الله عليه وسلم بحال.
ومن هذه الآيات قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخََافُ وَعِيدِ} (45) (ق: 45) والعبارة هنا بمعنى الغفلة والنسيان معا جاء الفعل = اذكر = مقترنا ب = الكتاب = الذى هو = القرآن = فى خمسة مواضع من الكتاب العزيز، فى سورة مريم (16، 41، 51، 54، 56)، كذلك ورد بصيغة الأمر للجماعة، مصحوبا بلفظى = الكتاب =، و = الحكمة =، كما فى سورة الأحزاب، وقد مر بنا. وجاءت الآية فى سياق الحديث عن خلقيات الحياة الزوجية، وما ينبغى أن تتحلى به المرأة المسلمة من مؤهلات وفضائل.
كذلك جاءت الآية فى سياق الحديث عن تحريف كتب الله السابقة على القرآن:
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوََاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمََّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 13). المشار إليهم هنا، هم اليهود والنصارى، حرفوا بعض كتب الأنبياء، ونسوا بعضها، فجاءت كتبهم مملوءة بالأغاليط، والأوهام، والتناقضات الكثيرة لكثرة التبديل الذى أصابها، والتحريف بالزيادة والنقصان الذى اعتورها، على تعاقب الأجيال والزمان، وصاروا لذلك فرقا متناحرة، وأحزابا متلاعنة، وطوائف متناكرة لا تجتمع أبدا.
فى آيات كثيرة يدعو الله تعالى عباده إلى الذكر، وذكر الله، والخوف منه، والرجاء فيه وذلك لأن الله تعالى يرفع مكانة الذكر والذاكرين والذاكرات، إلى
أعلى الدرجات، لأن من ذكر الله تعالى، استحضر عظمته، ومن استحضر عظمته، خاف وأشفق، ومن خاف وأشفق، أدلج فبلغ المنزل كل شىء مترتب على ذكر الله تعالى، ولا يذكر الله ولا يستحضر عظمته، إلا من له قلب متعلق بالله ويعرف الله {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَذِكْرى ََ لِمَنْ كََانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37) (ق: 37)، {وَمََا يَتَذَكَّرُ إِلََّا مَنْ يُنِيبُ} (13) (غافر: 13).(1/78)
فى آيات كثيرة يدعو الله تعالى عباده إلى الذكر، وذكر الله، والخوف منه، والرجاء فيه وذلك لأن الله تعالى يرفع مكانة الذكر والذاكرين والذاكرات، إلى
أعلى الدرجات، لأن من ذكر الله تعالى، استحضر عظمته، ومن استحضر عظمته، خاف وأشفق، ومن خاف وأشفق، أدلج فبلغ المنزل كل شىء مترتب على ذكر الله تعالى، ولا يذكر الله ولا يستحضر عظمته، إلا من له قلب متعلق بالله ويعرف الله {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَذِكْرى ََ لِمَنْ كََانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37) (ق: 37)، {وَمََا يَتَذَكَّرُ إِلََّا مَنْ يُنِيبُ} (13) (غافر: 13).
إن القلب الفظّ إذا ذكر الله، لان واستقام على أمره ونهيه ومن لم يهتد بذكر الله ضل وقسى قلبه، وإن مهر فى أنواع العلوم البعيدة عن الدين، والمعرضة عن رب العالمين، وإن بعد صيته، وعلا صوته فى الحياة الدنيا {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ أَعْمى ََ} (124) (طه: 124)، و = الضنك = ضيق العيش وضيق العقل، وحرج الصدر، وأى ضنك أشد من أن يعيش الإنسان خارج دائرة الإيمان وحيّز التوحيد، وعالم النور {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ََ إِنَّمََا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبََابِ} (19) (الرعد: 19).
وجاء = الذكر = فى قرينة = القرآن = فى قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنََا فِي هََذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمََا يَزِيدُهُمْ إِلََّا نُفُوراً} (41) (الإسراء: 41) أى ضمنا هذا القرآن، العظات والأوامر والنواهى والحجج والبيانات والعلوم والمعارف، لعلهم يتذكرون، فيعملون بها، وينزجرون.
ورد لفظ = الذكر = فى القرآن، فى اثنين وخمسين موضعا عشرون منها عن القرآن (آل عمران: 58، يوسف: 104، الحجر: 96، النحل: 44، الأنبياء: 2 5010، الشعراء: 5، يس: 11، 69، ص: 87498، فصلت: 41، الزخرف: 5، القمر: 25، القلم: 5251، التكوير: 27)، والباقى جاء بمعنى = العلم والتذكر والاتعاظ =.
ومن الجدير بالذكر أن نقول إن القرآن سمى = ذكرا = لأنه كتاب يذكر دائما، كتاب ظاهر ومشهور، وحافظ ومحفوظ، فلا يبدل ولا يحرف، ولا يطمس ولا يخفى على أحد ذكره، كما فى قوله تعالى: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (9) (الحجر: 9).(1/79)
ورد لفظ = الذكر = فى القرآن، فى اثنين وخمسين موضعا عشرون منها عن القرآن (آل عمران: 58، يوسف: 104، الحجر: 96، النحل: 44، الأنبياء: 2 5010، الشعراء: 5، يس: 11، 69، ص: 87498، فصلت: 41، الزخرف: 5، القمر: 25، القلم: 5251، التكوير: 27)، والباقى جاء بمعنى = العلم والتذكر والاتعاظ =.
ومن الجدير بالذكر أن نقول إن القرآن سمى = ذكرا = لأنه كتاب يذكر دائما، كتاب ظاهر ومشهور، وحافظ ومحفوظ، فلا يبدل ولا يحرف، ولا يطمس ولا يخفى على أحد ذكره، كما فى قوله تعالى: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (9) (الحجر: 9).
والقرآن الآن هو هو، كما كان بالأمس أشهر كتاب، مقروءا، ومكتوبا، ومدروسا، ومطبقا إنه الكتاب الوحيد الذى تسمعه بالصوت الحى فى كل قارات الدنيا وهو الكتاب الوحيد، الأوسع انتشارا وقراءة صرف الله قلوب الملايين بحبه وتعاليمه فهو يقرأ بلسانه العربى، الذى نزل به فى جميع الأصقاع والبقاع، وبألسنة أهل اللغات المختلفة. وإذا قارنا بين = القرآن = وبين = كتاب النصارى المقدس = مثلا، وجدنا أن هذا الكتاب الأخير يطبع بالملايين، وفى أفخم الطبعات، ويترجم إلى جميع اللغات واللهجات، أكثر بكثير من القرآن ولكنه كما وصفه أحد الكتاب المسيحيين (الكتاب الذى يطبع بالملايين، ولا يقرؤه إلا أقل القليل) وصدق الله إذ يقول عن القرآن: {وَهََذََا ذِكْرٌ مُبََارَكٌ أَنْزَلْنََاهُ} (الأنبياء: 50)، {إِنْ هُوَ إِلََّا ذِكْرٌ لِلْعََالَمِينَ} (27) (التكوير: 27)، {إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (17) (القيامة: 17).
= الذكر = ك = القرآن = يطلق على الكل، والجزء أما إطلاقه على الكل، فظاهر من الآيات الكثيرة التى أشرنا إليها وإما إطلاقه على الجزء، ففي قوله تعالى: {مََا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} (2) (الأنبياء: 2)، وقوله تعالى: {وَمََا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمََنِ مُحْدَثٍ إِلََّا كََانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} (5) (الشعراء: 5).
ثانيا: المثانى = المثانى = من الألفاظ (1) القرآنية التى جذبت انتباه المستشرق ويلش، وقد ورد هذا اللفظ فى موضعين فقط من القرآن (الحجر: 87، والزمر: 23).
يقول المستشرق إن مفسرى القرآن قد تحيروا كثيرا فى تحديد معنى = مثانى = وهذا فى نظره كان له مردوده على الدراسات الاستشراقية، فقد انبرى المستشرقون المهتمون بالدراسات القرآنية لتقديم عدة معانى أخرى مختلفة للكلمة.
__________
(1) يكثر المستشرق من استعمال لفظة = مصطلح = للإشارة إلى الألفاظ القرآنية ولكنا نستعمل = لفظ =، و = لفظة = و = كلمة = بدلا من = مصطلح = لأن المصطلح من وضع البشر والقرآن كلام الله تعالى الخالص الذى لا وضع للبشر فيه البتة.(1/80)
ولننظر أولا فيما قاله علماء المسلمين فى معنى اللفظ، ثم نعود فنذكر آراء المستشرقين فيه ثم نناقشها. نعم لقد اختلف علماء المسلمين فيما بينهم، فى تحديد المراد بالكلمة ولكنهم لم يتحيروا فى فهمها، كما راق للكاتب أن يعبر عن هذا الاختلاف.
قال جمع من كبار الصحابة، منهم ابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر، وجماعة من كبار التابعين، كمجاهد، وابن جبير، إن السبع المثانى فى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (87) (الحجر: 87)، هى السبع الطّول (البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، الأنفال والتوبة).
نلاحظ أن القائلين بهذا التوجيه قد اعتبروا = الأنفال = و = التوبة = سورة واحدة، ربما على تقدير أنه لم يفصل بينهما بالبسملة، شأن السور الأخرى، مع أنهما سورتان مستقلتان هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنهم لم يبيّنوا بصورة قطعية الحكمة فى اختصاص هذه السور بهذا الفضل دون سائر السور.
وقول ابن عباس، إن صح الخبر عنه، أن فيها الأمثال، والخبر، والعبر، وأنه لم يعطاهن أحد إلا النبى صلى الله عليه وسلم، ليس قاطعا ولا شافيا فإن هذه الأوصاف تنطبق على سور أخرى كثيرة فى القرآن بل على القرآن كله.
هذا من وجه، ومن وجه آخر فإن السور الطوال يمكن أن تكون أكثر من سبعة، وإذا أخذنا سورة = الأنفال = على أنها سورة مستقلة، لكانت سورة = يونس = و = هود = و = يوسف = أطول منها بكثير ولذلك عدّ ابن جبير سورة = يونس = بدلا من = الأنفال = و = براءة =، وربما كان غرضه إزاحة مثل هذا اللبس. وننبه على أن هذه السبع الطوال، كانت من آخر ما نزل من القرآن وقد لاحظ أبو العالية ذلك، عند ما قال السبع المثانى هى فاتحة الكتاب، وقد نزلت هذه السورة (أى سورة الحجر)، وما نزل من السبع الطوال شىء. وورد عن ابن عباس، وكثير من الصحابة، كعمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، ما يؤيد قول أبي العالية، يعنى أن المراد بالسبع المثانى، ليس هو السبع الطوال وإنما آيات الحمد، أى سورة = الفاتحة = التى عدّها ابن عباس سبعا بالبسملة، وعدّها غيره سبعا بدونها.
وهذا التوجيه هو الصحيح لأنه مؤيد بالحديث، الذى رواه البخارى ومسلم فى صحيحيهما، ومالك فى الموطأ، عن أبى سعيد بن المعلى، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لأبي بن كعب: {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} متى أكملت فاتحة الكتاب؟، فقال: (هى، وهى السبع المثانى، والقرآن العظيم الذى أوتيت).(1/81)
هذا من وجه، ومن وجه آخر فإن السور الطوال يمكن أن تكون أكثر من سبعة، وإذا أخذنا سورة = الأنفال = على أنها سورة مستقلة، لكانت سورة = يونس = و = هود = و = يوسف = أطول منها بكثير ولذلك عدّ ابن جبير سورة = يونس = بدلا من = الأنفال = و = براءة =، وربما كان غرضه إزاحة مثل هذا اللبس. وننبه على أن هذه السبع الطوال، كانت من آخر ما نزل من القرآن وقد لاحظ أبو العالية ذلك، عند ما قال السبع المثانى هى فاتحة الكتاب، وقد نزلت هذه السورة (أى سورة الحجر)، وما نزل من السبع الطوال شىء. وورد عن ابن عباس، وكثير من الصحابة، كعمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، ما يؤيد قول أبي العالية، يعنى أن المراد بالسبع المثانى، ليس هو السبع الطوال وإنما آيات الحمد، أى سورة = الفاتحة = التى عدّها ابن عباس سبعا بالبسملة، وعدّها غيره سبعا بدونها.
وهذا التوجيه هو الصحيح لأنه مؤيد بالحديث، الذى رواه البخارى ومسلم فى صحيحيهما، ومالك فى الموطأ، عن أبى سعيد بن المعلى، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لأبي بن كعب: {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} متى أكملت فاتحة الكتاب؟، فقال: (هى، وهى السبع المثانى، والقرآن العظيم الذى أوتيت).
قال فى فتح القدير أخرج البخارى من حديث أبي هريرة بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
= أم القرآن هى السبع المثانى والقرآن العظيم = وأخرج الترمذى من حديث أبى هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: = الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثانى = (1).
قيل فى تعليل تسمية = الفاتحة = ب = المثانى =، إنها سميت كذلك، لكونها تثنّى فى كل ركعة، يقرؤها الإمام والمأموم فى صلاة الجماعة، كما أنها تثنى فى كل صلاة، أى تقرأ مثنى باعتبار الركعتين، اللتين يفصل بينهما التشهد، وهى كذلك بالنسبة لصلاة الفجر أما فى صلاة المغرب، فإنها تثنى فى الركعتين الأوليتين، ثم تقرأ مفردة فى الركعة الأخيرة.
وقيل سميت كذلك، لأنه يثنى بها على الله تعالى ولكن ابن عطية يستعبد ذلك من جهة التصريف، غير أن ابن حيان، والصواب فى جانبه، يستدرك على ابن عطية، ويقول إن = مثانى = جمع = مثنى = بضم الميم على = مفعل = من الفعل الرباعى = أثنى = أى مقر بالثناء على الله تعالى وعلى هذا فسورة = الفاتحة = هى سورة الثناء على الله والحقيقة أنها كذلك.
وسورة = الفاتحة = اختصار معجز للقرآن كله، وهى على قصرها، تتضمن من المعانى ما تعجز عن تسطيره الأقلام، وتنفد معه الأحبار والأوراق وهى أم القرآن، وقد يسر الله حفظها على الناس، فحفظها الطفل، والمرأة، والكبير والصغير، والأمى والمتعلم، والعربى وغير العربى ومن معانى = مثانى = أيضا، أن أحكام القرآن تتكرر فيه غير مرة بأساليب متنوعة، ومعان متضاعفة، حتى أن من يقرأ شيئا منها فى موضع، كفاه. وتتضمن كلمة = مثانى = كذلك معنى لطيفا هو أن القرآن تثنى قراءته وتضاعف، لأن قراءته أول مرة، تحببه إلى النفس، وترغب إليها معاودته، وقارئ القرآن لا يملّه، ولا يتعجل الفراغ منه وهذه فى حد ذاتها من معجزات القرآن فالقرآن = مثانى = بهذا المعنى.
__________
(1) انظر أيضا ابن عطية المحرر الوجيز ج 1ص 9796.(1/82)
وفى ثنايا كلمة = مثانى = ما يفيد أن القرآن مثنوى، أو زوجى من حيث عدد سوره (مائة وأربع عشرة سورة) وهو = مثانى = أيضا، لأنه يحض على الدنيا والدين، والدين والدولة، والروح والجسد، والعلم والعمل، وعلى الإيمان الظاهر والباطن، وعلى الحقيقة والشريعة، والعقائد والعبادات وعلى احتوائه على علوم الأولين والآخرين. فمعنى = مثانى = على توجيهنا هذا، ثنائى، وثنائية القرآن لا تقبل الفصل أو العذل.
أما عن كلمة = مثانى = من المنظور الغربى، فقد تعددت آراء المستشرقين فيها، إذ يعتقد البعض أنها مأخوذة من اللفظة العبرية ميشنا () (التعاليم الشفهية اليهودية أو موضوعات معدة للتعليم)، ونصوص الميشنا، غير مقدسة وإنما هى نصوص تشريعية، تتضمن القوانين، والتقاليد، والمأثورات، والشعائر، والتعاليم السلوكية، والأحداث التاريخية لليهود، أو هى مأخوذة فى زعمهم من الكلمة السريانية الآرامية، مثنيثا ().
ولسنا ندرى ما هى العلاقة بين هذه الألفاظ الثلاثة (مثانى، وميشنا، ومثنيتا)، ولماذا هذا التحميل البعيد على العبارات، وفرض علاقات وهمية بين الكلمات، لمجرد ما قد يكون بينها من تشابه يسير فى النطق؟! والقرآن كلام الله، وليس كلام كتّاب الوحي، ولا الصحابة، ولا فقهاء الأمة، ولا هو من نتاج المدارس الفكرية المختلفة التى تشكلت فى الأحقاب، والمدد الطويلة، كما هو الحال بالنسبة للميشنا.
وقد أصاب بل ووات إذ رفضا هذا التفسير الغريب لكلمة = مثانى = حيث يريا أن كلمة = مثانى = (الآرامية أو السريانية) إذا أطلقت على المعنى الذى تحمله أى من الكلمتين، فإنه لا يمكن أن تفسّر لنا معنى القرآن، المقترن ذكره بالسبع المثانى فى الآية السابقة ولا يمكن كذلك أن تفسر لنا هذه الكلمة وصف = المثانى = بأنها: {مَثََانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} (13) (الزمر: 23)، ذلك الوصف الذى لا توحى به الكلمة العبرية، أو الآرامية اليهودية ويضيف وات قائلا: = الشيء الوحيد الذى يمكن لأصحاب هذا التفسير أن يقدموه، هو تفسير العدد سبعة فى الآية: {وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (87)، هذا على زعم أن كلمة ميشنا يراد بها أيضا ما تعنيه الآية =.
مما لفت نظرنا هنا أن ويلش بينما يقرر أن مفسري المسلمين قد تحيروا فى تحديد معنى كلمة = مثانى = يقرر هو من جانبه وباطمئنان صحة التفسير الغربي للكلمة بل ويجعله هو الأصل، كما سنعرضه بشيء من التفصيل فيما يلى من الكلام، مع أن التفسير الإسلامى لكلمة = مثانى = مدعم بالأحاديث النبوية. وعلى الرغم من هذا، فإن المستشرق يرى أن التفسير الغربى لم يسلم من التأثر بنظيره الإسلامى، إذ أنه يبنى قاعدته على معنى = التثنية أو التكرار =، الذى تتضمنه أيضا كلمة = مثانى = المأخوذة من ثنى) () (1) ولهذا فقد اعتبر ويلش أن أحسن ترجمة للكلمة، هى ترجمة المستشرقين بل ووات، ونصها ()، وقبل أن نبين خطر هذه الترجمة، نود أن نذكر أن كلمة مثانى ترجمها أربرى)، وترجمها محمد أسد هكذا () إلا أن المترجم الأخير قد وضع كلمة () آيات بين قوسين، تنبيها على أن المراد بالسبع المثانى، هو آيات سورة = الفاتحة = وأكد المترجم ذلك بتعليق فى الهامش، إذ ذكر أن هذا التفسير، يرجع إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وقد سمى الله السورة أيضا ب = أم القرآن = أو = أم الكتاب = وأضاف أن سورة = الفاتحة = تتضمن الخلقيات والإلهيات الإسلامية.(1/83)
وقد أصاب بل ووات إذ رفضا هذا التفسير الغريب لكلمة = مثانى = حيث يريا أن كلمة = مثانى = (الآرامية أو السريانية) إذا أطلقت على المعنى الذى تحمله أى من الكلمتين، فإنه لا يمكن أن تفسّر لنا معنى القرآن، المقترن ذكره بالسبع المثانى فى الآية السابقة ولا يمكن كذلك أن تفسر لنا هذه الكلمة وصف = المثانى = بأنها: {مَثََانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} (13) (الزمر: 23)، ذلك الوصف الذى لا توحى به الكلمة العبرية، أو الآرامية اليهودية ويضيف وات قائلا: = الشيء الوحيد الذى يمكن لأصحاب هذا التفسير أن يقدموه، هو تفسير العدد سبعة فى الآية: {وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (87)، هذا على زعم أن كلمة ميشنا يراد بها أيضا ما تعنيه الآية =.
مما لفت نظرنا هنا أن ويلش بينما يقرر أن مفسري المسلمين قد تحيروا فى تحديد معنى كلمة = مثانى = يقرر هو من جانبه وباطمئنان صحة التفسير الغربي للكلمة بل ويجعله هو الأصل، كما سنعرضه بشيء من التفصيل فيما يلى من الكلام، مع أن التفسير الإسلامى لكلمة = مثانى = مدعم بالأحاديث النبوية. وعلى الرغم من هذا، فإن المستشرق يرى أن التفسير الغربى لم يسلم من التأثر بنظيره الإسلامى، إذ أنه يبنى قاعدته على معنى = التثنية أو التكرار =، الذى تتضمنه أيضا كلمة = مثانى = المأخوذة من ثنى) () (1) ولهذا فقد اعتبر ويلش أن أحسن ترجمة للكلمة، هى ترجمة المستشرقين بل ووات، ونصها ()، وقبل أن نبين خطر هذه الترجمة، نود أن نذكر أن كلمة مثانى ترجمها أربرى)، وترجمها محمد أسد هكذا () إلا أن المترجم الأخير قد وضع كلمة () آيات بين قوسين، تنبيها على أن المراد بالسبع المثانى، هو آيات سورة = الفاتحة = وأكد المترجم ذلك بتعليق فى الهامش، إذ ذكر أن هذا التفسير، يرجع إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وقد سمى الله السورة أيضا ب = أم القرآن = أو = أم الكتاب = وأضاف أن سورة = الفاتحة = تتضمن الخلقيات والإلهيات الإسلامية.
ترجمت الكلمة أيضا ب () زوجى أو أزواج ونرى أن من الأفضل ترجمتها بعبارة: () ونبين الآن خطورة ترجمة وات وبلاشير للكلمة، وما يجرى مجراها. إن ترجمة = مثانى = بالكلمة الإنجليزية = = تعطى انطباعا للقارئ الغربي ذى الثقافة المعادية للإسلام والقرآن، بأن القرآن يكرر نفسه، وأنه كتاب مملّ، ليس فيه جمال، ولا فكرة، ولا نظام، أو نسق وكل هذه المعانى الخاطئة مترسخة للأسف فى العقلية الغربية بوجه عام عن القرآن وخطر آخر تتضمنه هذه الترجمة وهو أن القرآن لم يقدم جديدا، وأن ما يحتوى عليه القرآن، منتحل من كتب اليهود والنصارى، وأنه بالتالى يكرر ما فى هذه الكتب، ولا يعدو أن يكون نسخة محرفة منها. وهذا من ثوابت الفكر الغربى، والموقف الغربى من القرآن الكريم، ولم لا، وبل ووات يستنتجان من قوله
__________
(1) (كتبت بالموسوعة خطأ () أى لوى الشيء والصواب أى جعل الشيء الواحد اثنين أو أعاد الشيء بنفسه وكرره).(1/84)
تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيًّا} أنه كان هناك قرآن غير عربى، أخذ محمد منه، ونسج على منواله، بقصد أن ينشئ للعرب كتابا جديدا ومستقلا عن كتب اليهود والنصارى، ويحتوى على تعاليم خاصة بالعرب، كتلك التعاليم الخاصة التى كانت لليهود والنصارى. هذا هو دائما اتجاه سهم البوصلة فى الدراسات الغربية عن القرآن والإسلام بصفة عامة وسوف تمر بنا أمثلة أخرى لدعوى المستشرقين بأن محمدا قد انتحل القرآن من كتب اليهود، والنصارى، والشعر العربى، وغير ذلك من المصادر.
نعود الآن فنصل كلامنا عن التفسير الاستشراقى العجيب لكلمة = مثانى = لقد تمخضت محاولات الدارسين الغربيين للقرآن عن نظرية عجيبة فى تفسير هذه الكلمة هذه النظرية اهتبلها بل ووات وكثير من المستشرقين وتوقفوا عندها طويلا وكأنها الحقيقة ظهرت لهم بعد جهد ولأى. تقول النظرية أن المراد بالسبع المثانى هى قصص العقوبات والتى نثبتها بترتيب بل ووات، مجردة من تعليقاتهما عليها للاختصار هذا ما لم تكن التعليقات ضرورية لتوضيح النص، فإننا نثبتها عندئذ كما هي:
(أ) قصة عاد (ب) قصة ثمود (ج) قصة أصحاب الحجر (د) أهل مدين (هـ) أصحاب الأيكة (و) أصحاب الرّس (ز) قوم تبّع (ح) أهل سبأ (ط) قوم نوح (ي) قوم إبراهيم:
يصور القرآن إبراهيم على أنه كان حنيفا مسلما، وأنه جاهد فى سبيل دينه، وهجر أباه وأهل وطنه، انتصارا للوحدانية وقد ذكرت آيات كثيرة فى القرآن أن قومه قد ألبوا عليه الجماهير، وحرضوا عليه الحاكم وطالبوا بتعذيبه حرقا بالنار، إلا أن الله قد نجاه منها بمعجزة، ونصره على قومه ويصور القرآن إبراهيم على أنه كان أمة قانتا لله حنيفا، ولم يك من المشركين، وأنه خليل لله تعالى، وأنه جمع إلى معرفة الله بالوحى، معرفته تعالى بالعقل والتفكير، والنظر والتدبر فى المخلوقات.
(ك) قوم لوط:
أورد القرآن ذكر نبى الله لوط عليه السلام وبلاءه مع قومه وعقاب الله لهم على شذوذهم، وخروجهم عن منهج الله، بالممارسات الجنسية الشاذة، التى لم يسبقهم إليها أحد من العالمين. يقول بل ووات بأن القرآن لم يورد قصة إبراهيم ولوطا معا، ولم يربط
بينهما فى موضع واحد منها، مستنتجين من ذلك، أنه كانت توجد هناك قصة محلية من هذا النوع، وهى تلك التى اعتمد عليها محمد، وأفاد منها فى وضع القصة القرآنية حول إبراهيم ولوط. وفى آيات أخرى من القرآن يذكر لوط على أنه كان ممن آمن بإبراهيم، واتبعه، وهاجر معه فى سبيل الله ويذكر القرآن عقوبة الله لقوم لوط ولزوجته، بالمطر الغزير المهلك، وبحجارة السجيل، عقوبة لهم على ممارسة الشذوذ الجنسي، الذى لم يكن له وجود قبلهم، كما جاء فى القرآن الكريم.(1/85)
أورد القرآن ذكر نبى الله لوط عليه السلام وبلاءه مع قومه وعقاب الله لهم على شذوذهم، وخروجهم عن منهج الله، بالممارسات الجنسية الشاذة، التى لم يسبقهم إليها أحد من العالمين. يقول بل ووات بأن القرآن لم يورد قصة إبراهيم ولوطا معا، ولم يربط
بينهما فى موضع واحد منها، مستنتجين من ذلك، أنه كانت توجد هناك قصة محلية من هذا النوع، وهى تلك التى اعتمد عليها محمد، وأفاد منها فى وضع القصة القرآنية حول إبراهيم ولوط. وفى آيات أخرى من القرآن يذكر لوط على أنه كان ممن آمن بإبراهيم، واتبعه، وهاجر معه فى سبيل الله ويذكر القرآن عقوبة الله لقوم لوط ولزوجته، بالمطر الغزير المهلك، وبحجارة السجيل، عقوبة لهم على ممارسة الشذوذ الجنسي، الذى لم يكن له وجود قبلهم، كما جاء فى القرآن الكريم.
وهذه العقوبة، فى حد ذاتها، تبين مدى خطورة الشذوذ الجنسي، والانحلال، على الأفراد، والمجتمعات ومدى مقت الله للشعوب المنحلة الخارجة على منهج الله، المنتهكة لحدوده وقيمه.
(ل) المؤتفكة: مدائن صالح التى قلبها الله على قومه.
(م) فرعون وقومه (ن) هامان وقارون يعلق ويلش على هذه القائمة بقوله إننا إذا اختبرنا بعض هذه القصص، فسوف يتبين لنا أن المجموعة من () (أ، و) شاملة لحكايات أو مأثورات عربية قديمة، أضيفت إليها فى الوقت نفسه بعض التفاصيل المستقاة من مصادر أخرى. وهذه القصة موجودة بالكتاب المقدس غير أنه لا يوجد ذكر للمدائن فى هذا الكتاب أما القصص المشار إليها فى مجموعة () (د، هـ)، فهى قصص عربية، وليست مأخوذة من كتب العهد القديم، وقصة الفيل، وأصحاب الأخدود، تضم من وجهة نظر ويلش، وبل، ووات خيوطا متناثرة مأخوذة من مصادر قديمة سابقة على القرآن، قد جمعت هنا، لتصنع منها قصة قرآنية محددة، وهذا يعنى أن هذه الآيات، وكذلك الطريقة التى استخدمت فيها القصص، تشتمل على سبع قصص رئيسة وهذه القصص فى الحقيقة تضمنتها القائمة التالية:
1 - وهى نوح، 2عاد، 3ثمود، 4قوم إبراهيم، 5قوم لوط، 6أهل مدين، 7قوم موسى.
يزعم ويلش أن قصص العقوبات السبعة بحسب عده إنما تمثل عنصرا أو
جزءا منفصلا بذاته فى القرآن، ويقوّى هذا الزعم عند الكاتب ما يلاحظ فى القرآن من ظهور هذه القصص معا بشكل عام وظهورها فى القرآن فى مجموعات ولكن لا بد أن نلاحظ أن أبنية هذه المجموعات القصصية متنوعة فيما بينها، وأما القصص التى يزعم الكاتب أنها منتحلة من الكتاب المقدس، فيقول إنها مشفوعة ببعض التفصيلات التى كيّفها محمد لتتوافق مع خبراته، وخبرات أصحابه.(1/86)
يزعم ويلش أن قصص العقوبات السبعة بحسب عده إنما تمثل عنصرا أو
جزءا منفصلا بذاته فى القرآن، ويقوّى هذا الزعم عند الكاتب ما يلاحظ فى القرآن من ظهور هذه القصص معا بشكل عام وظهورها فى القرآن فى مجموعات ولكن لا بد أن نلاحظ أن أبنية هذه المجموعات القصصية متنوعة فيما بينها، وأما القصص التى يزعم الكاتب أنها منتحلة من الكتاب المقدس، فيقول إنها مشفوعة ببعض التفصيلات التى كيّفها محمد لتتوافق مع خبراته، وخبرات أصحابه.
لم يستطع هؤلاء الكتّاب إثبات هذا الأصل المزعوم الذى يغمزون به على القرآن، والواقع أنهم لمّا لاحظوا أن القرآن لا يوافق الكتب السابقة فى كثير من القصص، اخترعوا القول بوجود مصدر، أو مصادر أخرى استقى منها محمد معلوماته، إلى جانب ما انتحله من كتب العهد القديم والجديد وهذه دعوى لا دليل عليها، وهى لا تخرج عن دعوى مشركى مكة، الذين قالوا عن القرآن بأنه أساطير الأولين، اكتتبها محمد فهى تملى عليه بكرة وأصيلا.
إن مثل هذا الزعم لا يتسق أبدا مع حقيقة القرآن، أما زعم المستشرقين الجامد بأن القرآن من صنع محمد صلى الله عليه وسلم فزعم مجاف للحقيقة ومن عادة المستشرقين أنهم كلما اعترضتهم مسألة تكذّب دعواهم، حاولوا إيجاد التفسيرات الباطلة لها. ولسنا ندرى كيف حصر المستشرقون قصص القرآن فى سبع فقط، مع أنها تتجاوز هذا العدد فى الحقيقة؟! والمستشرقون بالطبع على استعداد لإيجاد المخرج من هذا المأزق أيضا إنهم يتعللون بأن القصص الأخرى ترجع كلها إلى هذه القصص السبع الرئيسة، وتنتهى إليها وبهذا نجدهم يعللون إطلاق السبع المثاني، على قصص العقوبات السبع الكبار فى القرآن يقول بل ووات إن بعض الباحثين الغربيين كهوروفتز ()، ترددوا فى الأخذ بوجهة النظر هذه وذلك لأن القرآن (الحجر: 87) (1) قد فرق بين = المثاني = و = القرآن = ثم يقولان فى ردّهما على هذا الاستدراك، يعنى أن آيات السبع المثاني التى تحكى ما حلّ بالأمم السابقة من عذاب الله، كان لها وجود مستقل ومنفصل عن القرآن (2)، ثم أدمجت فيه فيما
__________
(1) {وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (87) (الحجر: 87)
(2) انظر: مقدمة بل ووات عن القرآن ص 134.(1/87)
بعد هذا الاجتهاد لا محل له من الصواب، بل هو الخطأ بعينه وهو مرفوض جملة وتفصيلا، فمحمد صلى الله عليه وسلم، لم يكن قصاصا، ولا شأن له بصناعة القصة، ولم ينزل القرآن عليه صلى الله عليه وسلم، على هذا النحو، الذى يمكن أن يؤيد مثل هذا الافتراء، الذى يحاول أصحابه أن يجعلوا القرآن عضين إن القرآن كالجسد الحى تتصل أعضاؤه وأجزاؤه فى انسجام تام وجمال عبقرى متناهى كيف والقرآن يضم القصص، والأمثال، والمواعظ، والأحكام، والآداب، والعقائد، والشرائع، والعبادات، والأخلاق، وينظمها جميعا فى سلك واحد متين، وربط محكم رصين ويعرضها فى بناء يبلغ الغاية فى الإتقان والإحكام ثم إن هذه القصص القرآنية لها وظيفة خاصة تؤديها فى إطار من التدبير الربانى والنظام الإلهى، وقد أنزلها الله تعالى على بلاغة القرآن، فليست هى فى آياتها مخالفة لآيات الأحكام، أو الأخلاق، والمعاملات والعبادات بل إنها تجرى على النسق نفسه، وتحتوى على ذات الألق والعبق الذى ينتشر من بين ثناياها كما ينتشر من بين سائر ثنايا الكلم القرآنى بصفة عامة ثم إن الكاتبين لم يبينا لنا، ولن يستطيعا إلى ذلك سبيلا البتّة، من أين جاء محمد صلى الله عليه وسلم بهذه القصص؟ وكيف أنها كانت مستقلة عن القرآن؟ ومتى دخلت على القرآن ومتى أدمجت فيه؟ إن المستشرقين للأسف يقطّعان الكلام إربا، ويعبثان بنسيج القرائن القرآنية، ويمزقان العلاقات اللفظية والمعنوية الحميمة فى القرآن كل ممزّق، حتى يصلا إلى ما استبقا إلى تصوره وصمّما على إثباته. إنهم لم يقرءوا الآية على وجهها ولم يفهموا المقصود الصحيح منها.
إن قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (87) يعنى أن الله تعالى هو الذى أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذى أنزل عليه القرآن أيضا وليست الواو الواقعة بين = المثانى = و = القرءان =، تفيد المغايرة فى النوع وإنما تنص على الفضل فى الرتبة فقط وعلى الخصوصية. ومثاله أن أقول لآخر = أعطيتك السبع لآلئ والعقد العظيم =، فليس معناه أن = السبع لآلئ = غير = العقد العظيم = وإنما هو جزء منه نبهت عليه لفضل أو ميزة رأيتها فيها، فى السبع لآلئ مع الاحتفاظ بالثناء على مجموع ما فى
العقد. ولكل آية فى القرآن فضل خاص يذكر فى إطار الفضل العام الذى يشتمل عليه.(1/88)
إن قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (87) يعنى أن الله تعالى هو الذى أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذى أنزل عليه القرآن أيضا وليست الواو الواقعة بين = المثانى = و = القرءان =، تفيد المغايرة فى النوع وإنما تنص على الفضل فى الرتبة فقط وعلى الخصوصية. ومثاله أن أقول لآخر = أعطيتك السبع لآلئ والعقد العظيم =، فليس معناه أن = السبع لآلئ = غير = العقد العظيم = وإنما هو جزء منه نبهت عليه لفضل أو ميزة رأيتها فيها، فى السبع لآلئ مع الاحتفاظ بالثناء على مجموع ما فى
العقد. ولكل آية فى القرآن فضل خاص يذكر فى إطار الفضل العام الذى يشتمل عليه.
إن القرآن كالجسد الواحد، تتصل أعضاؤه، وترتبط أجزاؤه بعضها ببعض، فى انسجام تام، وجمال يسمو على كل جمال. وقد ذكرنا أن القرآن يحتوى على القصص والأمثال، والمواعظ، والأحكام، والآداب، والأخلاق، والعقائد، والشرائع. كل ذلك، وغيره، أورده القرآن فى سياق وثيق، وربط دقيق، وبناء محكم متقن. ثم إن هذه القصص التى يزعم المستشرق أنها ململمة من هنا وهناك، ومقحمة فى القرآن، لها وظيفة خاصة، تؤديها فى إطار النظام القرآنى العام، والتصميم الإلهى المحكم لهذا الكتاب المعجز. وليس يفوت القارئ الواعى، والدارس المنصف للقرآن الكريم، أن هذه الآيات تجرى على الدرجة نفسها من بلاغة القرآن، وأنها تحمل الصبغة الإلهية ذاتها التى يتميز بها كلام الله من بدايته إلى نهايته.
وإذن فتفسير المستشرقين لقول الله تعالى: = سبعا من المثانى = على أنها تعنى المماثلة فيما بينها، مرفوض وقد أوضحنا أن هذه المماثلة، موجودة بين آيات القرآن كلها، سواء من حيث المصدر، أم من حيث النص أم من حيث البناء اللغوى والأسلوب والبيان كذلك فكل ما فى القرآن قرآن، وكل ما يطلق عليه هذا الاسم هو كلام الله رب العالمين، لا اختلاف فيه لأنه من عند الله، وليس من تأليف البشر، الذين تحكمهم عند الكتابة، الظروف والأحوال النفسية والجسدية والمؤثرات الاجتماعية والثقافية والبيئية التى يعيشون فيها ويتجاوبون معها بدرجات متفاوتة.
وقبل أن نغادر هذه النقطة، نود أن نلفت النظر إلى أمر مهم، وهو أن المستشرقين ركزوا قصص القرآن فى سبع فقط كما أشرنا إليه، وهى تلك التى أسموها بقصص العقوبات، لأمر فى أنفسهم وأهملوا قصصا أخرى كثيرة فى القرآن، لها الأهمية نفسها من حيث منظومة التربية القرآنية والمنهج القرآنى. فعلى سبيل المثال = قصة أصحاب الكهف =، و = قصة إبراهيم =، و = قصة يوسف =، وقصة = موسى والخضر =، و = قارون =، و = قصة سليمان والهدهد =، وغيرها، تلك القصص تتنوع فى أسلوبها ومغزاها الخلقى والقيمى.
ثالثا: الحكمة = الحكمة = لفظة قرآنية أخرى، سمى الله بها كتابه الكريم لما تضمنه من حكم، ولأنه
فى ذاته محكم، لا اختلاف فيه يخل بنظامه ولا تناقض يعتريه فيذهب بجماله وجلاله.(1/89)
ثالثا: الحكمة = الحكمة = لفظة قرآنية أخرى، سمى الله بها كتابه الكريم لما تضمنه من حكم، ولأنه
فى ذاته محكم، لا اختلاف فيه يخل بنظامه ولا تناقض يعتريه فيذهب بجماله وجلاله.
ورد ذكر اللفظة فى عدة مواضع فى القرآن الكريم، على سبيل المثال لا الحصر، قوله تعالى: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيََاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ}
(آل عمران: 164)، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللََّهُ عَلَيْكَ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مََا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (النساء: 113)، وقوله تعالى: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيََاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة: 2).
جاء ذكر = القرآن = مقرونا ب = الحكمة = فى عدة مواضع من الكتاب العزيز.
و= الحكمة = هى السنة، و = القرآن = أيضا هو الحكمة العليا، التى تتولد منه جميع صنوف الحكم، وحكمة السنة هى نفسها وليدة الحكمة القرآنية التى أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم.
و= الحكمة = معناها وضع الشيء فى موضعه، وفى وقته، ومناسبته والمستعرض لآيات = الحكمة = فى القرآن، يجد أن الله تعالى أنزلها على الأنبياء فيما أنزل عليهم من وحى، وما من حكمة فى الوجود إلا عن أصل إلهى انبعثت، ومن فم نبىّ خرجت، والأنبياء هم الذين تعلموا الحكمة من الله وعلموها الناس.
ونلفت النظر بعد هذا إلى نقطة مهمة، وهى أن هناك أسماء أخرى كثيرة للقرآن، على سبيل المثال = التنزيل =، و = الفرقان =، و = الروح = نكتفى بالتنبيه عليها باختصار، وذلك لضيق المقام، وأيضا لأن الكاتب نفسه لم يعرض لها بالدراسة أو التعليق. ومعنى = تنزيل = أى نزول القرآن بواسطة جبريل عليه السلام منجما، وذلك من حيث الزمان، والمكان، والحوادث. وأما لفظة = الفرقان = فهى ترادف القرآن ولكنها تزيد باعتبار الوصف، والجهل والعلم، والإيمان والكفر، والفضيلة والرذيلة. وأما = الروح = فى حق القرآن، فهى بمثابة الروح من الجسد، الجسد الإنسانى، والجسد الكونى وأن القرآن يسرى كالروح فى خفة ولطف إلى القلب والعقل، ويتشبث بهما فيحييهما.(1/90)
ونلفت النظر بعد هذا إلى نقطة مهمة، وهى أن هناك أسماء أخرى كثيرة للقرآن، على سبيل المثال = التنزيل =، و = الفرقان =، و = الروح = نكتفى بالتنبيه عليها باختصار، وذلك لضيق المقام، وأيضا لأن الكاتب نفسه لم يعرض لها بالدراسة أو التعليق. ومعنى = تنزيل = أى نزول القرآن بواسطة جبريل عليه السلام منجما، وذلك من حيث الزمان، والمكان، والحوادث. وأما لفظة = الفرقان = فهى ترادف القرآن ولكنها تزيد باعتبار الوصف، والجهل والعلم، والإيمان والكفر، والفضيلة والرذيلة. وأما = الروح = فى حق القرآن، فهى بمثابة الروح من الجسد، الجسد الإنسانى، والجسد الكونى وأن القرآن يسرى كالروح فى خفة ولطف إلى القلب والعقل، ويتشبث بهما فيحييهما.
الباب الثاني محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن
الفصل الأول القرآن بين الوحي والتجربة البشرية الفصل الثانى القرآن ودعوى الانتحال من كتب اليهود والنصارى(1/91)
الفصل الأول القرآن بين الوحي والتجربة البشرية الفصل الثانى القرآن ودعوى الانتحال من كتب اليهود والنصارى
الفصل الأول القرآن بين الوحي والتجربة البشرية
هذا موضوع مهم من موضوعات البحث والعقيدة معا. يقول المعارض: = إن كتاب المسلمين المقدس، والخبرة النبوية لمحمد صلى الله عليه وسلم جد متصلين، إلى درجة أنه لا يمكن فهم أحدهما فهما كاملا دون فهم الآخر إن العقيدة السّنّية أو الأصولية تقطع بأن الله هو المتحدث بالقرآن كله، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو المستقبل له، وجبريل هو الواسطة بين الله ومحمد فى نقل الوحى وذلك بغض النظر عن من يكون هو هذا الشخص الذى يجرى الكلام على لسانه، أو الذى يتوجه الخطاب إليه فى القرآن =.
هذا الكلام على صغر حجمه يحتوى على مغمزين خطيرين أو بلغة أكثر تحفظا، على إيهام وتشبيه:
أولا: لأن عبارة الكاتب = العقيدة السنية تجاه القرآن = توحى بأن هناك مذاهب أخرى، تعتقد فى القرآن غير هذا المعنى، كما هو الحال بالنسبة للعقيدة المسيحية تجاه المسيح حيث اتسعت خلافاتهم، واحتدمت حول مفهوم طبيعة عيسى عليه السلام، إلى درجة يستحيل معها التلاقى والاتفاق. إن المسلمين، على العكس، يجمعون على أن القرآن هو كلام الله رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب خير المرسلين وأنه هو هو، الذى أنزله الله، لا زيادة فيه ولا نقصان يعتريه، ولن يصيبه تبديل أو تحريف إلى يوم القيامة.
أما المغمز الثانى فى كلام المستشرق ويلش، فهو قوله بأن = القرآن والتجربة النبوية لمحمد جد متصلتين = وأنه لا يمكن الفصل بينهما هذا كلام صائب فى جملته وظاهره، ولكن لا بدّ أن نكون حذرين فى تناوله وذلك لأن محصلة العقيدة الاستشراقية، فى النهاية، تجزم بأن القرآن من كلام محمد وأنه، أى القرآن، إنما يمثل ثمرة معاناة محمد النفسية، ويعكس الصراع والتطور النفسى له. وهذه الدعاوى وأمثالها قد رد عليها القرآن نفسه، وفندها بعض علماء المسلمين، وبينوا تهافتها، مما يغنينا عن استعراضها هنا.
يقول الكاتب إن نظرة تحليلية فى القرآن، تفيد أن الموقف أعقد كثيرا مما يتصور المسلمون الذين يحاولون تبسيط المسألة إننا لا نصادف فى الآيات أو الأجزاء التى يبدو
منها أنها أقدم نزولا فى القرآن، أى من حيث كونها إشارة إلى شخص معين يتحدث بالقرآن، أو إلى مصدر واحد، يمكن أن يرد إليه القرآن كله! ففي بعض آيات منه، كآيات = سورة الشمس = و = سورة القارعة = على سبيل المثال لا نجد أى إشارة تفيد بأن هذا الكلام صادر عن إله وفى مواضع أخرى من القرآن مثل = سورة التكوير = (15: 21) و = الانشقاق = (16: 19) و = سورة الليل = (14: 21)، يلوح أن محمدا هو الذى يتحدث بالقرآن. وفى أوائل الآيات المنزلة، والتى ذكر فيها رب محمد، لم يصرح بلفظ الجلالة نصا، وإنما أشير إليه بضمير الغائب، عادة بصيغة = ربي = و = ربكم =، فعلى سبيل المثال:(1/93)
يقول الكاتب إن نظرة تحليلية فى القرآن، تفيد أن الموقف أعقد كثيرا مما يتصور المسلمون الذين يحاولون تبسيط المسألة إننا لا نصادف فى الآيات أو الأجزاء التى يبدو
منها أنها أقدم نزولا فى القرآن، أى من حيث كونها إشارة إلى شخص معين يتحدث بالقرآن، أو إلى مصدر واحد، يمكن أن يرد إليه القرآن كله! ففي بعض آيات منه، كآيات = سورة الشمس = و = سورة القارعة = على سبيل المثال لا نجد أى إشارة تفيد بأن هذا الكلام صادر عن إله وفى مواضع أخرى من القرآن مثل = سورة التكوير = (15: 21) و = الانشقاق = (16: 19) و = سورة الليل = (14: 21)، يلوح أن محمدا هو الذى يتحدث بالقرآن. وفى أوائل الآيات المنزلة، والتى ذكر فيها رب محمد، لم يصرح بلفظ الجلالة نصا، وإنما أشير إليه بضمير الغائب، عادة بصيغة = ربي = و = ربكم =، فعلى سبيل المثال:
{فَوَ رَبِّ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مََا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (23) (الذاريات: 23)، {إِنَّ عَذََابَ رَبِّكَ لَوََاقِعٌ} (7) (الطور: 7)، {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (3) (المدثر: 1: 3). يستمر الكاتب فى عرضه للآيات وتعليقه عليها فيقول إن فى القرآن أيضا آيات مكية نزلت مبكرة، تفيد أن محمدا كان يتلقى الوحى من الله مباشرة، ودون واسطة واستشهد على ذلك بقوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلََّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنََّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (5) (المزمل: 1: 5)، {سَنُقْرِئُكَ فَلََا تَنْسى ََ (6) إِلََّا مََا شََاءَ اللََّهُ} (الأعلى: 76).
وهناك أيضا آيات مكية متأخرة فى النزول، وآيات نزلت فى أول العهد المدنى، تحكى أن الله يقرأ (الآيات، والقرآن، والكتاب)، على سبيل المثال قوله تعالى: {تِلْكَ آيََاتُ اللََّهِ نَتْلُوهََا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (252) (البقرة: 252) وقوله تعالى: {تِلْكَ آيََاتُ اللََّهِ نَتْلُوهََا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللََّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعََالَمِينَ} (108) (آل عمران: 108). وقوله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (1) (القدر: 1)، وفى تلك الفترة نفسها نطالع فى القرآن سلسلة من الآيات الأخرى التى لها من السلطان، ما جعلها تضع الله فى مقام يسمو فيه بنفسه، عن رتبة الوحى المباشر إلى الأنبياء بل إنه يرسل إليهم وحيه بواسطة الملائكة. هذا المعنى قد تأسس فى نظر المستشرق من طريقين:
الأول: كون الرسالة تبلغ عن طريق وسطاء ().
والثانى: كون الرسالة متصلة بطريقة ما بالكتاب.
وكلا المفهومين ظاهر فى قوله تعالى: {وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلََّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مََا يَشََاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذََلِكَ أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنََا مََا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتََابُ وَلَا الْإِيمََانُ وَلََكِنْ جَعَلْنََاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشََاءُ مِنْ عِبََادِنََا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (52) (الشورى: 5251) مهمة هذه الروح هكذا فهمها الكاتب أنها تعمل كوسيط فى نقل الوحى وهذا المعنى يتضح أكثر فى قول الله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعََالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى ََ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسََانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (195) (الشعراء: 195192) وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى ََ لِلْمُسْلِمِينَ} (102) (النحل: 102).(1/94)
والثانى: كون الرسالة متصلة بطريقة ما بالكتاب.
وكلا المفهومين ظاهر فى قوله تعالى: {وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلََّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مََا يَشََاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذََلِكَ أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنََا مََا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتََابُ وَلَا الْإِيمََانُ وَلََكِنْ جَعَلْنََاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشََاءُ مِنْ عِبََادِنََا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (52) (الشورى: 5251) مهمة هذه الروح هكذا فهمها الكاتب أنها تعمل كوسيط فى نقل الوحى وهذا المعنى يتضح أكثر فى قول الله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعََالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى ََ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسََانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (195) (الشعراء: 195192) وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى ََ لِلْمُسْلِمِينَ} (102) (النحل: 102).
إن الآيات المدنية التى نزلت فى أول العهد المدنى وفى وقت مبكر منه، يظهر فيها ولأول مرة جبريل كوسيط عن الله، فى نقل القرآن إلى النبى محمد كما فى قوله: {قُلْ مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى ََ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللََّهِ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى ََ لِلْمُؤْمِنِينَ} (97) (البقرة: 97).
يزعم الكاتب أنه بناء على اشتمال هذه الآية على عدد من المسائل المضمنة فى الأحاديث، حدد المفسرون معنى الروح المذكور فى الآيات السابقة، والتى هى أسبق نزولا، على أنها هى جبريل عليه السلام ثم أعطى المفسرون لجبريل دور الوسيط فى نقل الوحى، ومن أجل هذا بوّءوه مكانة عالية، منذ ابتدأت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم هذا على الرغم من أن جبريل وذلك عكس الاعتقاد العام للمسلمين لم تتحدد طبيعته البتّة فى القرآن كواحد من الملائكة أضف إلى ذلك أن الملائكة لم تظهر فى القرآن على أنهم وسطاء فى نقل الوحى.
والآية التى يستشهد بها الكاتب على هذا، هى {يُنَزِّلُ الْمَلََائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى ََ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا أَنَا فَاتَّقُونِ} (2) (النحل: 2). وهذه هي أقرب آية في القرآن لتأكيد فرضية الكاتب من وجهة نظره فالملائكة، إذن، ليسوا من حملة الوحى بل إنهم يتكلمون فى القرآن، كما يتكلم محمد، وإبراهيم، وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام: {وَمََا نَتَنَزَّلُ إِلََّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} (مريم: 64)، الحقيقة أن الأمر بسيط، ولكن الكاتب هو الذى يريد أن يعقّده من خلال فرضياته وتخميناته.
وقبل أن نتولى الرد على هذه المزاعم المبتورة، نود أن نضع خطته ومادته فى شكل أشبه بالقائمة. إنه تتبّع، بقدر ما من التوسع، آيات القرآن فوجدها كالتالى:(1/95)
والآية التى يستشهد بها الكاتب على هذا، هى {يُنَزِّلُ الْمَلََائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى ََ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا أَنَا فَاتَّقُونِ} (2) (النحل: 2). وهذه هي أقرب آية في القرآن لتأكيد فرضية الكاتب من وجهة نظره فالملائكة، إذن، ليسوا من حملة الوحى بل إنهم يتكلمون فى القرآن، كما يتكلم محمد، وإبراهيم، وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام: {وَمََا نَتَنَزَّلُ إِلََّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} (مريم: 64)، الحقيقة أن الأمر بسيط، ولكن الكاتب هو الذى يريد أن يعقّده من خلال فرضياته وتخميناته.
وقبل أن نتولى الرد على هذه المزاعم المبتورة، نود أن نضع خطته ومادته فى شكل أشبه بالقائمة. إنه تتبّع، بقدر ما من التوسع، آيات القرآن فوجدها كالتالى:
1. آيات تخلوا تماما من ذكر أى مصدر للقرآن مع أنها فيما يبدوا متقدمة النزول.
2. آيات تخلوا كلية كذلك، حتى من مجرد الإشارة إلى أن كلام القرآن صادر عن الله.
3. آيات أخرى يلوح منها أن محمدا هو الذى يتحدث بالقرآن.
4. آيات مكية ذكرت رب محمد، ولكن بضمير الغائب.
5. آيات تفيد أن محمدا كان يتلقى الوحى مباشرة عن الله.
6. آيات من أواخر ما نزل بمكة، وأوائل ما نزل بالمدينة، تقطع بأن الله نفسه هو الذى يقرأ (الآيات)، و (القرآن)، و (الكتاب).
7. فى الوقت نفسه توجد آيات تنص على أن الله لا يوحى إلى بشر دون وسيط، وكتعليق سريع على هذه النقطة نلفت النظر إلى أن الكاتب قد فسر عبارة = روحا من أمرنا = بالملاك وهذا خطأ إذ المقصود بالروح هنا هو القرآن بخاصة و = الروح = من أسماء = القرآن = نفسه ثم إن الأوصاف التى لحقت بكلمة = روح = فى الآية توضح ذلك المعنى. ويقول ويلش إن الآية 97من سورة البقرة تصور جبريل لأول مرة كوسيط للوحى، وأنه بناء على هذا، قد فسر علماء المسلمين = الروح = على أنها جبريل الذى صنفوه ضمن الملائكة.
8. توجد آيات قرآنية تفيد أن الملائكة ليسوا من حملة الوحي (مريم: 17، 64) وهذا يعزز القول بأن جبريل لم يكن له دور على الإطلاق فى نقل الوحي إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
بعد أن استعرضنا شواهد الكاتب القرآنية، وفهمه لها، واستنتاجه الخاطئ منها، نناقشه الآن فيما ذهب إليه، وبنى عليه من آراء:
أولا: إن ملاحظته فيما يخص طبيعة الآيات، وموضوعاتها، صحيح بشكل عام، إذ أن هناك سورا تخلوا من ذكر مصدر الوحى، وهو الله تعالى وسورا أخرى أسندت القرآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إلى جبريل عليه السلام، كما توجد بعض الآيات التى تنص على أن الملائكة تكلمت بكلام ما فى القرآن، شأن الشخصيات الأخرى التى حكى الله تعالى فى القرآن كلامهم، هذا صحيح فى جملته ولكنّ خطأ الكاتب هنا، يكمن فى التفسير، فهو يحمّل
النصوص بما هو غريب عنها ومجلوب إليها، ويستنطقها بغير لغتها، ويدفع بها دفعا إلى نتائج جد غريبة فالقرآن ينقل كلام الملائكة من القرآن كما ينقل كلام الشخصيات الأخرى التى حكى الله تعالى كلامهم فى القرآن ولذلك نجد المستشرق مثلا يتخذ من الآيات التى لم تذكر مصدر الوحى من وجهة نظره هو دليلا على عدم إلهية تلك الآيات وبلا شك فإنه إذا اهتزت الثقة فى بعض آيات القرآن، انسحب ذلك على القرآن كله وهذا هو الغرض الذى يسعى إليه الكاتب بكل وضوح، مع أن القرآن، باعتباره وحيا من عند الله، كل لا يتجزأ، أنزله الله تعالى مفرقا هكذا، ليثبّت به فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم: {وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا} (106) (الإسراء: 106).(1/96)
أولا: إن ملاحظته فيما يخص طبيعة الآيات، وموضوعاتها، صحيح بشكل عام، إذ أن هناك سورا تخلوا من ذكر مصدر الوحى، وهو الله تعالى وسورا أخرى أسندت القرآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إلى جبريل عليه السلام، كما توجد بعض الآيات التى تنص على أن الملائكة تكلمت بكلام ما فى القرآن، شأن الشخصيات الأخرى التى حكى الله تعالى فى القرآن كلامهم، هذا صحيح فى جملته ولكنّ خطأ الكاتب هنا، يكمن فى التفسير، فهو يحمّل
النصوص بما هو غريب عنها ومجلوب إليها، ويستنطقها بغير لغتها، ويدفع بها دفعا إلى نتائج جد غريبة فالقرآن ينقل كلام الملائكة من القرآن كما ينقل كلام الشخصيات الأخرى التى حكى الله تعالى كلامهم فى القرآن ولذلك نجد المستشرق مثلا يتخذ من الآيات التى لم تذكر مصدر الوحى من وجهة نظره هو دليلا على عدم إلهية تلك الآيات وبلا شك فإنه إذا اهتزت الثقة فى بعض آيات القرآن، انسحب ذلك على القرآن كله وهذا هو الغرض الذى يسعى إليه الكاتب بكل وضوح، مع أن القرآن، باعتباره وحيا من عند الله، كل لا يتجزأ، أنزله الله تعالى مفرقا هكذا، ليثبّت به فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم: {وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا} (106) (الإسراء: 106).
وكان يكفى للفهم والتدليل، لو أنصف الكاتب، أن يعرف أن الله تعالى، قد ذكر أنه هو مصدر القرآن ومنزله، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم كان مجرد قارئ له وأنه منذ البداية، كان مبلغا للقرآن فحسب بنص هذه الآية، وآيات أخرى كثيرة، على سبيل المثال قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمََا بَلَّغْتَ رِسََالَتَهُ} (المائدة: 67)، وقوله تعالى: {اتْلُ مََا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتََابِ} (العنكبوت: 45)، وقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (4) (المزمل: 4)، وقد عرف المسلمون ذلك، وسلّموا به واعتقدوه وآمنوا بأن كل ما بين دفتى المصحف هو كلام الله تعالى، وأنه ليس من مطلب العقول المنصفة أن يكرر المؤلف لكتاب مثلا، ولله المثل الأعلى، فى كل جزء، وباب، وفقرة منه، أنه هو مؤلف هذا الكتاب لا غيره. ناهيك أن للقرآن نسقا فريدا، وطبيعة خاصة، وروحا إلهية ملازمة، تدل على أنه آية آية، وسورة سورة من عند الله تعالى أضف إلى ذلك أن السورة التى استدل بها الكاتب الغربى على عدم ورود ذكر مصدر القرآن فى القرآن، كلها تتحدث باللغة نفسها وبالطريقة ذاتها عن الله تعالى، وعن موضوعات كثيرة فى سور أخرى من القرآن، ذكر فيها أن الله تعالى هو مصدر القرآن. ونتساءل هنا، هل فى سورة الشمس كمثال أى دليل يخرجها عن كونها قرآنا؟ وهل شكك أحد فى ذلك أبدا؟!! أما عن قول الكاتب بأن القرآن قد أسند الكلام إلى محمد، أو إلى جبريل، عليهما السلام، فى بعض الإشارات القرآنية فهذا ليس معناه أن جبريل أو محمدا هو واضع القرآن لأن هذا معارض بالدليل الأعلى للقرآن نفسه. فالقرآن كله شاهد على كونه كلام الله، وأنه
هو منزله، سبحانه وتعالى، هذه حقيقة الحقائق. ومعنى قول الله تعالى الذى استشهد به الكاتب: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (19) (التكوير: 19)، إن هذا القرآن لتبليغ رسول = وهو جبريل = كريم، وقد أسند الله القول إلى جبريل، لأنه تلقى القرآن سماعا من الله، وبلغه تلقينا ومشافهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنه لبلاغه إياه بمثابة قوله فهو المظهر له حتى أنه لولاه لما عرف أحد القرآن، فصحت ثمة إضافته إليه، وقد ينسب كلام الغير إلى من تحمّله أو نقله. كمن تحمل رسالة من رسول، أو سفير وذلك كثير الوقوع فى العادة (1). ومما يدل على أن القرآن ليس من وضع غير الله، قوله تعالى بعده: {وَمََا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} (24) (التكوير: 24)، الضمير = هو = يعود على جبريل، والغيب هو القرآن، الذى كان غيبا قبل أن يعرّفه الله به، ويحمّله إياه ومعنى = بضنين = أى بممسك له وكاتم إياه، ثم إن كلمة رسول ذاتها، توحى بأن دور = جبريل = عليه السلام، كان دور السفير المكلّف لا المبدع المؤلّف، وأن الله أرسله بهذه الرسالة الخاتمة لا غير، فليس له إذن فضل إلا فضل النقل والتلقين. أضف إلى ذلك دلالة مواقع الإشارة فى الآيات التى بعدها: {وَمََا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطََانٍ رَجِيمٍ} (25) يعنى أن القرآن ليس من قول الشيطان الرجيم، أى المبعد عن رحمة الله، المطرود من حضرة قدسه الأعلى ومعنى كلام الله تعالى كما فى هذه الآية أن الشيطان لا يقدر على حمل القرآن، ولا يستطيع تبليغه فإن القرآن قاصم لظهور الشياطين. وإذا كان الله عبر هنا بلفظة = قول = التى قد يسهل على الجافى غير المنصف تحريفها عن معناها، فإن الله تعالى عبر عن ذلك بلفظة = تنزل = فى موضع آخر، والقرآن كالماس يجلّى بعضه بعضا، يقول تعالى: {وَمََا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيََاطِينُ (210) وَمََا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمََا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} (212) (الشعراء: 210: 212)، وقوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} (26) (التكوير: 26) يعنى أن جميع الطرق مسدودة أمامكم، إلا طريق التسليم بأن القرآن هو كلام الله بلغه ملاك كريم أمين غير متهم إلى رسول عظيم معصوم.(1/97)
وكان يكفى للفهم والتدليل، لو أنصف الكاتب، أن يعرف أن الله تعالى، قد ذكر أنه هو مصدر القرآن ومنزله، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم كان مجرد قارئ له وأنه منذ البداية، كان مبلغا للقرآن فحسب بنص هذه الآية، وآيات أخرى كثيرة، على سبيل المثال قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمََا بَلَّغْتَ رِسََالَتَهُ} (المائدة: 67)، وقوله تعالى: {اتْلُ مََا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتََابِ} (العنكبوت: 45)، وقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (4) (المزمل: 4)، وقد عرف المسلمون ذلك، وسلّموا به واعتقدوه وآمنوا بأن كل ما بين دفتى المصحف هو كلام الله تعالى، وأنه ليس من مطلب العقول المنصفة أن يكرر المؤلف لكتاب مثلا، ولله المثل الأعلى، فى كل جزء، وباب، وفقرة منه، أنه هو مؤلف هذا الكتاب لا غيره. ناهيك أن للقرآن نسقا فريدا، وطبيعة خاصة، وروحا إلهية ملازمة، تدل على أنه آية آية، وسورة سورة من عند الله تعالى أضف إلى ذلك أن السورة التى استدل بها الكاتب الغربى على عدم ورود ذكر مصدر القرآن فى القرآن، كلها تتحدث باللغة نفسها وبالطريقة ذاتها عن الله تعالى، وعن موضوعات كثيرة فى سور أخرى من القرآن، ذكر فيها أن الله تعالى هو مصدر القرآن. ونتساءل هنا، هل فى سورة الشمس كمثال أى دليل يخرجها عن كونها قرآنا؟ وهل شكك أحد فى ذلك أبدا؟!! أما عن قول الكاتب بأن القرآن قد أسند الكلام إلى محمد، أو إلى جبريل، عليهما السلام، فى بعض الإشارات القرآنية فهذا ليس معناه أن جبريل أو محمدا هو واضع القرآن لأن هذا معارض بالدليل الأعلى للقرآن نفسه. فالقرآن كله شاهد على كونه كلام الله، وأنه
هو منزله، سبحانه وتعالى، هذه حقيقة الحقائق. ومعنى قول الله تعالى الذى استشهد به الكاتب: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (19) (التكوير: 19)، إن هذا القرآن لتبليغ رسول = وهو جبريل = كريم، وقد أسند الله القول إلى جبريل، لأنه تلقى القرآن سماعا من الله، وبلغه تلقينا ومشافهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنه لبلاغه إياه بمثابة قوله فهو المظهر له حتى أنه لولاه لما عرف أحد القرآن، فصحت ثمة إضافته إليه، وقد ينسب كلام الغير إلى من تحمّله أو نقله. كمن تحمل رسالة من رسول، أو سفير وذلك كثير الوقوع فى العادة (1). ومما يدل على أن القرآن ليس من وضع غير الله، قوله تعالى بعده: {وَمََا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} (24) (التكوير: 24)، الضمير = هو = يعود على جبريل، والغيب هو القرآن، الذى كان غيبا قبل أن يعرّفه الله به، ويحمّله إياه ومعنى = بضنين = أى بممسك له وكاتم إياه، ثم إن كلمة رسول ذاتها، توحى بأن دور = جبريل = عليه السلام، كان دور السفير المكلّف لا المبدع المؤلّف، وأن الله أرسله بهذه الرسالة الخاتمة لا غير، فليس له إذن فضل إلا فضل النقل والتلقين. أضف إلى ذلك دلالة مواقع الإشارة فى الآيات التى بعدها: {وَمََا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطََانٍ رَجِيمٍ} (25) يعنى أن القرآن ليس من قول الشيطان الرجيم، أى المبعد عن رحمة الله، المطرود من حضرة قدسه الأعلى ومعنى كلام الله تعالى كما فى هذه الآية أن الشيطان لا يقدر على حمل القرآن، ولا يستطيع تبليغه فإن القرآن قاصم لظهور الشياطين. وإذا كان الله عبر هنا بلفظة = قول = التى قد يسهل على الجافى غير المنصف تحريفها عن معناها، فإن الله تعالى عبر عن ذلك بلفظة = تنزل = فى موضع آخر، والقرآن كالماس يجلّى بعضه بعضا، يقول تعالى: {وَمََا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيََاطِينُ (210) وَمََا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمََا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} (212) (الشعراء: 210: 212)، وقوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} (26) (التكوير: 26) يعنى أن جميع الطرق مسدودة أمامكم، إلا طريق التسليم بأن القرآن هو كلام الله بلغه ملاك كريم أمين غير متهم إلى رسول عظيم معصوم.
وفى هذه القرينة ننبه على لطيفة قرآنية تتجلى فى قول الله تعالى: = بقول شيطن = ولم يقل = بكلام شيطان = إذ أن هناك فرقا بين الكلام والقول، فقد أجمع المسلمون على أن
__________
(1) انظر: القاضى عبد الجبار وتنزيه القرآن عن المطاعن 452.(1/98)
يقولوا = القرآن كلام الله =، ولا يقال = القرآن قول الله =. يقول ابن جنى (ت: 392هـ) فى الخصائص فى تعليل ذلك: = وذلك أن هذا موضع متحجر لا يمكن تحريفه، ولا يسوغ تبديل شيء من حروفه، فعبر لذلك عنه أى القرآن بالكلام الذى لا يكون إلا أصواتا تامة مفيدة، وعبر به عن القول الذى لا يكون إلا أصواتا غير مفيدة، وآراء معتقدة =، ويقول: = واعلم أن = قلت = فى كلام العرب إنما وقعت على أن تحكى بها، وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاما لا قولا، ففرق بين الكلام والقول كما ترى = (1)
أما الآيات التى فهم منها الكاتب خطأ أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو المتحدث فيها، وأن القرآن بالتالى من اختراعه وتلفيقه فليست تعنى أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتب القرآن من عند نفسه، ولا أن هذه الآيات مقحمة على القرآن البتة إذ عند ما يقول الله على سبيل المثال: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نََاراً تَلَظََّى (14) لََا يَصْلََاهََا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلََّى} (16) (الليل: 14: 16)، لا يعنى ذلك أن محمدا هو قائل هذا الكلام، بل الكلام كلام الله تعالى، أجراه على لسان النبى صلى الله عليه وسلم، كما أجرى غيره فى القرآن على لسان الأنبياء والملائكة والصالحين، بل وعلى ألسنة الكافرين المعاندين وهذا أسلوب قرآنى وأسلوب فى الحديث أيضا يعرفه البشر.
تكلم السيوطى فى الإتقان عن هذه المسألة فقال: = إن من القرآن ما ورد على لسان غير الله كالنبى صلى الله عليه وسلم وجبريل والملائكة غير مصرح بإضافته إليهم، ولا إلى المحكى عنهم، ومنه قوله {قَدْ جََاءَكُمْ بَصََائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} (الأنعام: 104)، فإنه ورد على لسان النبى صلى الله عليه وسلم يبين هذا قوله فى آخر الآية: {وَمََا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}، وفى الآية التى تلا هذه الآية وما بعدها، نص على أن القرآن وحي من الله، أنزله على محمد، وفى قول الله: {وَمََا نَتَنَزَّلُ إِلََّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} (مريم: 64) وارد على لسان جبريل وقوله: {وَمََا مِنََّا إِلََّا لَهُ مَقََامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنََّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنََّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} (166) (الصافات: 164: 166) كلام أجراه الله على لسان الملائكة، وقوله: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} كلام أجراه على لسان العباد مع أنه يمكن تقدير القول هنا، على هذا النحو، أى يقولون إياك نعبد = (2).
__________
(1) الخصائص ج 1ص 2019.
(2) الإتقان ج 1ص 101.(1/99)
وللقاضى عبد الجبار المعتزلى أيضا توجيه قيّم لهذه الآية، إنه يؤكد، مع جماعة المفسرين، أن طلب العبادة والاستعانة لا يكون من الله لنفسه، ولكن معناه قولوا: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ} وخلو الصورة من الأمر فيه تقرب من الله تعالى لعباده وتقريب لهم (1). والآيات التى أشارت إلى الله بضمير الغائب مثل (ربك، وربكم، وربهم) ليس فيها ما يخرجها عن كونها قرآنا.
وهذا من أساليب القرآن المعجزة، يلوّن الله فيها الخطاب وينوع فى الأساليب بحيث تنجذب إليه النفوس، فلا تملّه، وتهفوا نحوه القلوب فلا تنصرف عنه.
ونلاحظ هنا أن الكاتب يقيس القرآن على منوال النقد الغربى، ويحكّم فيه المعايير النقدية التى طبّقت على كتب العهدين القديم والجديد فى العصر الحديث، متجاهلا الظروف والأوضاع المختلفة لكلّ من الكتابين فالقرآن مثلا هو كلام الله، تلقاه محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام عن رب العالمين وحفظه. وكتب فى حياته، وحفظته الأمة صغارا وكبارا، نساء ورجالا، عربا وغير عرب ودانت به وأحاطته بكل رعاية وعناية وأوسعته حفظا ودراية عكس التوراة، وكتب الأنبياء، والأناجيل التى ضاعت أصولها، وفقدت أعيانها ثم كتب بعد ذلك ما استنقذ منها أو قريب منه، بأيد مختلفة، وفى أزمنة مختلفة، وفى أماكن متفرقة وهذه الكتب، بوصفها الحالى، يمكن أن تخضع بسهولة، لمقياس النقد الحديث بل إنه ينبغى عرضها على تلك الموازين النقدية هذا صحيح بالنسبة لهذه الكتب ولكنه غير صحيح بالمرة بالنسبة للقرآن الذى حفظته الأمة، وتأسست به الملة، وقامت على قواعده الدولة، وحفظه العربى والعجمى فى لغته الأم = العربية =. وبالنسبة لتعليق الكاتب على الآيات التى تخير بأن الله لم يكلم رسله مباشرة، يدل على أنه لم يفهم معناها إذ أن كلمة = روح = فى الآية، تعنى القرآن، كما أشرنا إليه من قبل وقد عبر الله عن = القرآن = ب = الروح = لأنه يصل إلى الأرواح، ويتخلل القلوب، وأيضا فإن فيه مناسبة للقرينة، إذ الكلام عن لطيف الاتصال بين الله تعالى وملائكته ورسله، عن طريق الوحى، أو الخطاب الربانى فناسب أن يعبر عن = القرآن = ب = الروح = مراعاة للسياق اللفظى، والقرآن نفسه لا يدع لأحد مجالا للشك فى أنه كلام الله سبحانه وتعالى، وأنه نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بسفارة جبريل عليه السلام، والأحاديث كثيرة فى تأكيد هذا المعنى وفى طريقة تلقّى محمد صلى الله عليه وسلم للقرآن وكيفيته، كلام كثير للعلماء لا يتسع المقام لذكره هنا تفصيلا ولكننا نكتفى هنا بتقديم بعض الأمثلة.
__________
(1) القاضى عبد الجبار. تنزيه القرآن عن المطاعن ص 9.(1/100)
قال الطيبي = لعل نزول القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم، أن يتلقفه الملك من الله تعالى تلقفا روحانيا أو يحفظه من اللوح المحفوظ، فينزل به إلى الرسول ويلقيه إليه = (1).
وقال البيهقى فى معنى قوله: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (1) أى = إنا أسمعناه الملك وأفهمناه إياه وأنزلناه بما سمع = وكان جبريل عليه السلام يأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن أحيانا، فى مثل صلصلة الجرس لخفق أجنحته، ليكون أدعى إلى تهيئته صلى الله عليه وسلم بما يلقى إليه أو أن ينفخ الملك فى روعه أو أن يأتيه ملك الروح، فى صورة الرجل فيكلمه فى اليقظة أو فى المنام، فيعى عنه الرسول ما قال أو أن يكلمه الله فى اليقظة من وراء حجاب، أو بالكيفية التى يعلمها الله تعالى.
وبهذا يتبين أنه لا تعارض ولا اختلاف بين الآيات التى تتحدث عن الطريقة التى يوحى بها الله إلى الأنبياء ويكلمهم من خلالها، وبين الآية التى تنزّه الله تعالى عن المخاطبة بكيفية أو تحيّز (2). وعرفنا من أنواع التنزيل ومقامات الوحى أن الله يلقى إلى الملاك بالكلام ثم يلقيه الملاك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد يكلم الله الأنبياء من وراء حجاب، أو عن طريق النّفث فى الروع، أو الفؤاد وبهذا يتبين ضعف رأى الكاتب، وتهافت ما توصل إليه من نتائج بل لقد أثبتنا بالبراهين القاطعة، عكس ما قال إن الملائكة شهدت الوحى وأن جبريل بلغه عن الله منذ نزل، بنص قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) وفى القرآن شواهد كثيرة على ذلك منها، على سبيل المثال لا الحصر، قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلََائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهََا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} (4) (القدر: 4)، وقوله تعالى: {اللََّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلََائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النََّاسِ إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (75) (الحج: 75)، فالملائكة رسل إلى أنبياء الله وأنبياء الله رسل إلى الناس.
__________
(1) السيوطى: الإتقان ج 1ص 166.
(2) سيرة ابن هشام ج 1ص 221220، والإتقان ج 1ص 130129، والبخارى خلق أفعال العباد بعقائد السلف ص 187.(1/101)
الفصل الثاني القرآن ودعوى الانتحال من كتب اليهود والنصارى
قضية أخرى خطيرة يفجرها الكاتب وهى دعوى أن محمدا صلى الله عليه وسلم انتحل من كتب الأولين. وهذه دعوى قديمة قد أرجف بها المستشرقون وأوجفوا عليها بخيلهم ورجلهم (1)
ولكن الجديد إلى حد ما، فى كلام الكاتب، أنه يحاول انتزاع أدلة من القرآن نفسه، يؤيد بها زعمه بأن محمدا قد زوّر القرآن ولفّقه من مصادر يهودية، ونصرانية، وعربية جاهلية وغير ذلك لهذا السبب فإنه يفسر الآيات القرآنية تفسيرا غريبا وعجيبا ومربيا فى الوقت نفسه. ومما يدل على سوء قصده، تلك العبارة الافتتاحية التى قدم بها لهذا الموضوع) (وترجمتها = إن القرآن أيضا يتكلم عن معلمى محمد أو ملقنيه من البشر =، هكذا بهذه الصورة التقريرية الخادعة. وكأن هذا الأمر، من الحقائق المسلّمة، يعنى أن القرآن كله أو بعضه من تعليم بشر. ينطلق الكاتب من هذه الجملة التمهيدية التمويهية ليقول إن القرآن يتكلم عن الذين لقنوا محمدا القرآن من البشر أولا، فى قرائن تتضمن اتهامات وجّهت لمحمد من قبل خصومه، كما فى قوله تعالى: {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذََا إِلََّا إِفْكٌ افْتَرََاهُ وَأَعََانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جََاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقََالُوا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهََا فَهِيَ تُمْلى ََ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (5) (الفرقان: 4: 5)، يعلق الكاتب على هذه الآية بما يثير العجب، وبما لم يرد البتة ببال أحد، قائلا: = لم ينكر القرآن أن قوما آخرين قد أعانوا محمدا على كتابة
__________
(1)، 1964، 10 ولننظر ما يقوله شاخت فى الباب الثالث، وهو بعنوان = محمد والقرآن =: إن محمدا قد ظهر فى مكة كمصلح ديني، وأنه احتج بشدة على كفار مكة من أهل مكة واعتبروه كمجرد كاهن، أو عرف آخر، وأنه بسبب قوة شخصيته قد دعى إلى المدينة فى عام 622م، كحكم فى نزاع قبلى بين أهل المدينة. وأنه كالنبى قد أصبح قائدا ومشرعا يحكم مجتمعا جديدا على أساس دينى. وأن محمدا قد اقتبس من اليهود فى المدينة كثيرا من الأحكام. إن روايات جمع القرآن ملفقة لفقها الفقهاء وأصول الفقه وكذلك التشريعات الإسلامية منتحلة من القانون الرومانى، والقانون البيزنطى، وقوانين الكنائس الشرقية، ومن التعاليم التلمودية، وأقوال الأحبار، ومن القانون الساسانى. كل هذه القوانين والتعاليم والقواعد تشكّل منها القانون الدينى للإسلام. = (،.، 2120. 34)(1/103)
القرآن، وأن القرآن من أساطير الأولين طلب محمد كتابتها أو استنساخها، فكانت تملى عليه أول النهار وآخره = انظر كيف أخذ ويلش قول الخصوم، وهم كفار قريش، على أنه تقرير من الله الذى أنزل القرآن، تقرير صريح واعتراف واضح منه تعالى بأن محمدا قد استعان بالبشر فى كتابة القرآن ولسنا ندرى متى كان ذلك، ولا من هو يا ترى الذى فعل ذلك؟
تجاهل الكاتب متعمدا أو غير متعمد، قول الله تعالى فى أول السورة: {تَبََارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقََانَ عَلى ََ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعََالَمِينَ نَذِيراً} (1)، و = الفرقان = من أسماء = القرآن =، و = نزّل = بمعنى = أنزل منجما، وعلى التراخى = و = العبد = هو = محمد صلى الله عليه وسلم =، نبى الله الذى حقق صفة العبودية الكاملة لله تعالى، فاستحق أن يكون كاملا معصوما، يوحى إليه هذا القرآن الكامل في إعجازه. كذلك تجاهل ويلش قول الله بعده: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كََانَ غَفُوراً رَحِيماً} (6) (الفرقان: 6)، حيث أثبت أنه تعالى هو منزل القرآن الكريم على عبده محمد صلى الله عليه وسلم لا غيره، وقد جهل الكاتب أيضا أن الكفار وصفوا القرآن بالتنزيل كذلك فى السورة نفسها: {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلََا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً كَذََلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ وَرَتَّلْنََاهُ تَرْتِيلًا} (32) (الفرقان: 32)، فهذا اعتراض ضمنى منهم بأن القرآن منزل وأنهم سألوا فقط على سبيل التعنيت، لماذا لم ينزل القرآن جملة واحدة، كما نزلت الكتب قبله جملة واحدة، كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية، كما كانوا يسمعون من أهل الكتاب فردّ الله عليهم بأنه أنزله مفرقا، فى ثلاث وعشرين سنة، بحسب الوقائع، والحوادث، ومتطلبات الدعوة، والدولة الإسلامية وليثبت به قلب النبى صلى الله عليه وسلم، وقلوب المؤمنين وليثبت به أركان الدولة، ويحدد به معالم الأمة الإسلامية. وقد جمع الله تعالى للقرآن الصفتين معا. ففي الملأ الأعلى أنزله جملة واحدة من اللوح المحفوظ، إلى بيت العزة فى السماء الدنيا ثم أنزله بعد ذلك إلى الأرض منجما (1) فتم بذلك للقرآن شرف النزول جملة واحدة ثم النزول مفرقا على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يقل عن ذلك أهمية أن نذكر أن حياة
__________
(1) ابن كثير (2/ 632).(1/104)
اليهود، وكذلك النصارى كانت قلقة مضطربة، وكانوا مطاردين، ولم يتأت لهم استقرار، ولم تنشأ لهم دولة بل لقد كانوا يعيشون مستعمرين محاصرين، فلم يكن من المناسب أن تنزل عليهم الكتب منجمة، بخلاف القرآن، وبخلاف الأمة الإسلامية التى تم لها الاستقرار ونشأت لها دولة.
ونعود إلى ما زعمه ويلش فنتساءل كذلك كيف كان يكتب محمد ما يملى عليه، والتاريخ والقرآن والسنة كلها تسجل أنه كان أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولم تكن هناك فى مكة مدرسة، ولا جامعة، ولا حلقة، ولا إرسالية يتعلم فيها محمد ولو وجد شىء من ذلك فى مكة لزاحمه عليه أولاد الأغنياء والوجهاء من أهل مكة، الذين كانوا يسيطرون على كل شىء فيها فقد صحت لهم المنافسة فى قرض الشعر، والتّباري فى ارتجال الخطب، وعلى الزعامة، والرئاسة، وغير ذلك مما كان يعنيهم ويشغل بالهم ثم إنه إذا كان هناك فى مكة من يعلّم الناس تعليما خاصا يؤجر عليه، لعزّ ذلك على محمد ليتمه وفقره. ألم ترفضه مرضعات البوادى لهذا السبب؟ وهل كان فى إمكان محمد صلى الله عليه وسلم أن يستقلّ وحده بالمعلمين والمدرسين والقصاصين وأهل السير، دون أثرياء مكة، ووجهاء قريش؟
كلا والله ما هذا برأي وهل كانت هذه الأساطير، التى يدّعون عليه أنه اكتتبها، فى متناول يده وحده دون سائر الناس؟ وهل كانت تلك الأساطير مكتوبة أو محفوظة يرددها الناس كما كانوا يرددون التراث الشعبى مثلا؟ وهل عدمت يا ترى تلك الأساطير المزعومة من يهتم بنقلها وانتحالها والتباهى بها فى القوم؟ ولماذا لعمرو الحق، لم تكن هذه الأساطير تلقى رواجا بين العرب وتروى كالشعر والخطب فى سوق عكاظ؟!! ولماذا لم يدوّنها العرب كما دونوا المعلقات؟ لقد تناقض الكفار الذين زوّروا تلك التهمة ضد محمد صلى الله عليه وسلم ذلك لمحمد فى قولهم، وفى أوصافهم للقرآن ولمحمد صلى الله عليه وسلم فهم تارة يصفونه بالكذاب وهو أمينهم وأصدقهم وتارة يتهمونه بالجنون وهو أكثرهم عقلا، وبالسحر وهو أبعدهم عنه، وبالشاعرية، والكهانة وأحيانا أخرى يتعنتون معه يطلبون منه المستحيل، ولا يقبلون منه الممكن وإنّ من عرف حالهم وخبر دعاواهم، أيقن أنهم لم يكونوا يبحثون عن الحق المجرد، ولا يطلبون الصواب وإنما قصدوا بفعلهم هذا إلى التعنت وعمدوا إلى التشهير هذا مع أن للعرب أوصافا أطلقوها على القرآن تعتبر دررا فى ديوان
خطبهم وأقوالهم ثم إن بلغاءهم، بخلاف المستشرقين، قد اعتنقوا الإسلام فيما بعد، وآمنوا بالقرآن، وخضعوا لبلاغته، وتباروا فى محاكات أسلوبه وصياغته حتى أشربته قلوبهم، وتدارسته عقولهم، واتسمت به حياتهم، وانبعثت منه علومهم ومعارفهم وقيمهم وحضارتهم.(1/105)
كلا والله ما هذا برأي وهل كانت هذه الأساطير، التى يدّعون عليه أنه اكتتبها، فى متناول يده وحده دون سائر الناس؟ وهل كانت تلك الأساطير مكتوبة أو محفوظة يرددها الناس كما كانوا يرددون التراث الشعبى مثلا؟ وهل عدمت يا ترى تلك الأساطير المزعومة من يهتم بنقلها وانتحالها والتباهى بها فى القوم؟ ولماذا لعمرو الحق، لم تكن هذه الأساطير تلقى رواجا بين العرب وتروى كالشعر والخطب فى سوق عكاظ؟!! ولماذا لم يدوّنها العرب كما دونوا المعلقات؟ لقد تناقض الكفار الذين زوّروا تلك التهمة ضد محمد صلى الله عليه وسلم ذلك لمحمد فى قولهم، وفى أوصافهم للقرآن ولمحمد صلى الله عليه وسلم فهم تارة يصفونه بالكذاب وهو أمينهم وأصدقهم وتارة يتهمونه بالجنون وهو أكثرهم عقلا، وبالسحر وهو أبعدهم عنه، وبالشاعرية، والكهانة وأحيانا أخرى يتعنتون معه يطلبون منه المستحيل، ولا يقبلون منه الممكن وإنّ من عرف حالهم وخبر دعاواهم، أيقن أنهم لم يكونوا يبحثون عن الحق المجرد، ولا يطلبون الصواب وإنما قصدوا بفعلهم هذا إلى التعنت وعمدوا إلى التشهير هذا مع أن للعرب أوصافا أطلقوها على القرآن تعتبر دررا فى ديوان
خطبهم وأقوالهم ثم إن بلغاءهم، بخلاف المستشرقين، قد اعتنقوا الإسلام فيما بعد، وآمنوا بالقرآن، وخضعوا لبلاغته، وتباروا فى محاكات أسلوبه وصياغته حتى أشربته قلوبهم، وتدارسته عقولهم، واتسمت به حياتهم، وانبعثت منه علومهم ومعارفهم وقيمهم وحضارتهم.
يعرض الكاتب بعد ذلك لقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمََا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسََانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهََذََا لِسََانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (103) (النحل: 103).
تعليق الكاتب على هذه الآية هو كتعليقه على الآية السابقة في البطلان إذ أنه يزعم أن القرآن لم ينكر هذا الاتهام بل إنه يضيف إلى ذلك أن القرآن يصر فقط على أن ألفاظه (أى القرآن) وعباراته لم تأت من معلم بشر، بمعنى أن المعانى كانت قد ألقيت، أو اقترحت لمحمد وهو الذى صاغها وصبها فى قوالبها اللغوية. وكما هو واضح، يعتمد الكاتب فى تفسيره هذا الغريب، على كلمة = لسان = التى هى بمعنى اللغة. هذا مع أن القرآن ينفى نفيا قطعيا، إمكان التفاهم بين محمد العربى الذى لا يعرف غير لغة العرب، وبين الشخص الذى يدّعون أنه كان يعلمه، وذلك لاختلاف اللغتين، وليت شعرى كيف يستطيع الأعجمى، المغموز به، أن يصل إلى هذه الأفكار والمعانى الجمة والتامة والمتضاعفة فى الحسن والرواء، والتى تصل إلى درجة الشمول والإحاطة بكل أنواع العلوم، وكيف لمثل هذا الرجل الأعجمى الغمر أن يظل مغمورا ويعيش مدحورا ومطحونا، ولديه كل هذه العلوم المعجزة والمعارف المتنوعة؟ وكيف يجوز أن يجود شخص، بكل هذه الأفكار والمعانى والأبنية، لشخص لا يعرفه ولا ينتفع به؟
إننا لكى نحصل على علم كعلم القرآن أو قريب منه، نحتاج إلى عقول علماء أهل الدنيا معا إنسهم وجنهم، وليس إلى شخص واحد أعجمى اللسان، غلف البيان، لم يسجل له التاريخ أى شأن، ولا نعرف متى ولد، ولا كيف عاش، ولا متى مات بل إننا لا نعرف له اسما على وجه التحقيق ولا مهنة على وجه التدقيق فقد قال البعض إن اسمه = يعيش =، وآخرون قالوا بل هو = جير =، وفريق ثالث قال إن اسمه كان = بلعام = وقال البعض إنه كان حدادا أو بياعا وهكذا دواليك ثم إن الآية واضحة فى ردّ دعوى المشركين قديما، والمستشرقين حديثا، فى أنه لم تكن هناك لغة مشتركة يتفاهم من خلالها
محمد مع هذا الحداد المغمور قال الذين ادّعوا أن محمدا كان يزوره نعم قد يكون صحيحا وأن النبى صلى الله عليه وسلم زار شخصا ذا مهنة، وهذا من ضرورات العيش وقضاء المصالح بين الناس ولكن هل قابل محمد هذا الرجل وحده دون سائر أصحاب المهن الأخرى، ودون المحاويج، والضعاف الذين كان النبى صلى الله عليه وسلم يجبر خواطرهم، ويمسح آثار الذل عنهم؟ وهل هناك أدلة على علم هذا الرجل وثقافته، حتى ننسج حوله هذه الأسطورة العجيبة؟ يقول الإمام أبو سعيد الدارميّ (280هـ) فى كتابه = الرد على الجهمية =: (فنشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله اصطفاه لوحيه، وانتجبه لرسالته، واختاره من خلقه لخلقه، فأنزل عليه كلامه المبين وكتابه العزيز الذى: {لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (42) (فصلت: 42)، {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (الزمر: 28)، {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصََّالِحََاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: 9)، فيه نبأ الأولين، وخبر الآخرين، لا تنقضى عبره، ولا تفنى عجائبه، غير مخلوق، ولا منسوب إلى مخلوق {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى ََ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (الشعراء: 194193) {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}
(النمل: 16) من قال به صدق، ومن تمسك به هدى إلى صراط مستقيم ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:(1/106)
إننا لكى نحصل على علم كعلم القرآن أو قريب منه، نحتاج إلى عقول علماء أهل الدنيا معا إنسهم وجنهم، وليس إلى شخص واحد أعجمى اللسان، غلف البيان، لم يسجل له التاريخ أى شأن، ولا نعرف متى ولد، ولا كيف عاش، ولا متى مات بل إننا لا نعرف له اسما على وجه التحقيق ولا مهنة على وجه التدقيق فقد قال البعض إن اسمه = يعيش =، وآخرون قالوا بل هو = جير =، وفريق ثالث قال إن اسمه كان = بلعام = وقال البعض إنه كان حدادا أو بياعا وهكذا دواليك ثم إن الآية واضحة فى ردّ دعوى المشركين قديما، والمستشرقين حديثا، فى أنه لم تكن هناك لغة مشتركة يتفاهم من خلالها
محمد مع هذا الحداد المغمور قال الذين ادّعوا أن محمدا كان يزوره نعم قد يكون صحيحا وأن النبى صلى الله عليه وسلم زار شخصا ذا مهنة، وهذا من ضرورات العيش وقضاء المصالح بين الناس ولكن هل قابل محمد هذا الرجل وحده دون سائر أصحاب المهن الأخرى، ودون المحاويج، والضعاف الذين كان النبى صلى الله عليه وسلم يجبر خواطرهم، ويمسح آثار الذل عنهم؟ وهل هناك أدلة على علم هذا الرجل وثقافته، حتى ننسج حوله هذه الأسطورة العجيبة؟ يقول الإمام أبو سعيد الدارميّ (280هـ) فى كتابه = الرد على الجهمية =: (فنشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله اصطفاه لوحيه، وانتجبه لرسالته، واختاره من خلقه لخلقه، فأنزل عليه كلامه المبين وكتابه العزيز الذى: {لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (42) (فصلت: 42)، {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (الزمر: 28)، {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصََّالِحََاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: 9)، فيه نبأ الأولين، وخبر الآخرين، لا تنقضى عبره، ولا تفنى عجائبه، غير مخلوق، ولا منسوب إلى مخلوق {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى ََ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (الشعراء: 194193) {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}
(النمل: 16) من قال به صدق، ومن تمسك به هدى إلى صراط مستقيم ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:
{وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا} (106) (الإسراء: 106)، فقرأه كما أمر، ودعا إليه سرا وجهرا فلما سمع المشركون آيات مبينات قالوا ساحر وكاهن وشاعر ومعلم مجنون {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى ََ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هََذََا لَشَيْءٌ يُرََادُ (6) مََا سَمِعْنََا بِهََذََا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هََذََا إِلَّا اخْتِلََاقٌ} (7) (ص: 76)، وقالوا: {إِنْ هََذََا إِلََّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (25) (المدثر: 25)، وقالوا: {لَوْ نَشََاءُ لَقُلْنََا مِثْلَ هََذََا إِنْ هََذََا إِلََّا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (الأنفال: 31) وقالوا: {إِنْ هَذََا إِلََّا إِفْكٌ افْتَرََاهُ وَأَعََانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} (الفرقان: 4)، وقالوا كذلك: {أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهََا فَهِيَ تُمْلى ََ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (5) (الفرقان: 5)، {إِنَّمََا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} (النحل: 103) مخلوق بكلام مختلق. فكذّب الله عزّ وجلّ قولهم، وأبطل الله دعواهم، فقال تعالى: {فَقَدْ جََاؤُ ظُلْماً وَزُوراً}
(الفرقان: 4)، وقال تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كََانَ
غَفُوراً رَحِيماً} (6) (الفرقان: 6)، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى ََ لِلْمُسْلِمِينَ} (102) (النحل: 102)، وقال: {لِسََانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهََذََا لِسََانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (103) (النحل: 103) ثم بالغ في الدعوى فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى ََ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لََا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كََانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (88) (الإسراء: 88). ثم ندبهم جميعا إلى أن يأتوا بمثله تخريصا وتعلما (1) من الخطباء والشعراء وغيرهم، إن كانوا صادقين، فقال تبارك وتعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيََاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ}
(هود: 13)، وائتوا بسورة مثله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمََّا نَزَّلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدََاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النََّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النََّاسُ وَالْحِجََارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكََافِرِينَ} (24) (البقرة: 2423)، فلم يقدر الجن والإنس، عربها وعجمها من عبدة الأوثان، وعلماء أهل الكتابين، أن يأتوا بسورة ولا ببعض سورة ولو علموا أنهم قادرون عليها لدعوا شهداءهم إلى ذلك، وبذلوا فيها الرغائب والأموال وغيرها لخطبائهم وشعرائهم وأحبارهم وأساقفتهم وكهنتهم وسحرتهم، أن يأتوا بسورة مثلها تصديقا لما ادعوا من الزور تكذيبا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن يأتى المخلوق بمثل كلام الخالق، وكيف يقدر عليه، وقد قال الله تعالى: = ولن تفعلوا = فلن تفعلوا إلى يوم القيامة؟ فكما أنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11)، فليس ككلامه كلام = (2).(1/107)
{وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا} (106) (الإسراء: 106)، فقرأه كما أمر، ودعا إليه سرا وجهرا فلما سمع المشركون آيات مبينات قالوا ساحر وكاهن وشاعر ومعلم مجنون {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى ََ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هََذََا لَشَيْءٌ يُرََادُ (6) مََا سَمِعْنََا بِهََذََا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هََذََا إِلَّا اخْتِلََاقٌ} (7) (ص: 76)، وقالوا: {إِنْ هََذََا إِلََّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (25) (المدثر: 25)، وقالوا: {لَوْ نَشََاءُ لَقُلْنََا مِثْلَ هََذََا إِنْ هََذََا إِلََّا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (الأنفال: 31) وقالوا: {إِنْ هَذََا إِلََّا إِفْكٌ افْتَرََاهُ وَأَعََانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} (الفرقان: 4)، وقالوا كذلك: {أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهََا فَهِيَ تُمْلى ََ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (5) (الفرقان: 5)، {إِنَّمََا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} (النحل: 103) مخلوق بكلام مختلق. فكذّب الله عزّ وجلّ قولهم، وأبطل الله دعواهم، فقال تعالى: {فَقَدْ جََاؤُ ظُلْماً وَزُوراً}
(الفرقان: 4)، وقال تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كََانَ
غَفُوراً رَحِيماً} (6) (الفرقان: 6)، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى ََ لِلْمُسْلِمِينَ} (102) (النحل: 102)، وقال: {لِسََانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهََذََا لِسََانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (103) (النحل: 103) ثم بالغ في الدعوى فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى ََ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لََا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كََانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (88) (الإسراء: 88). ثم ندبهم جميعا إلى أن يأتوا بمثله تخريصا وتعلما (1) من الخطباء والشعراء وغيرهم، إن كانوا صادقين، فقال تبارك وتعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيََاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ}
(هود: 13)، وائتوا بسورة مثله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمََّا نَزَّلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدََاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النََّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النََّاسُ وَالْحِجََارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكََافِرِينَ} (24) (البقرة: 2423)، فلم يقدر الجن والإنس، عربها وعجمها من عبدة الأوثان، وعلماء أهل الكتابين، أن يأتوا بسورة ولا ببعض سورة ولو علموا أنهم قادرون عليها لدعوا شهداءهم إلى ذلك، وبذلوا فيها الرغائب والأموال وغيرها لخطبائهم وشعرائهم وأحبارهم وأساقفتهم وكهنتهم وسحرتهم، أن يأتوا بسورة مثلها تصديقا لما ادعوا من الزور تكذيبا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن يأتى المخلوق بمثل كلام الخالق، وكيف يقدر عليه، وقد قال الله تعالى: = ولن تفعلوا = فلن تفعلوا إلى يوم القيامة؟ فكما أنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11)، فليس ككلامه كلام = (2).
وقد فهم كثير من علماء الغرب ما للقرآن من عظمة وتفرد فى اللغات الإنسانية، على سبيل المثال فقد نقل سنكس عن مسيو بارتلمي سنتيكير قوله: = إن القرآن قد أبقى أجمل أثر للّغة التى أنزل بها، ولم أر ما يشبه ذلك فى جميع أدوار التاريخ الدينى للعالم الإنسانى، وهذا الأمر يفسر التأثير العظيم الذى أحدثه هذا الكتاب على العرب الذين اعتقدوا أن محمدا فى معارفه الساذجة (البسيطة) لا يستطيع أن يؤلف بنفسه هذا الكتاب، وأنه لا بد أن يكون قد أملاه عليه جبريل من عند الله =
__________
(1) (خرص وترخص أى كذب ورجل خراص أى كذاب، تخرص فلان على الباطل أي افتعله، ويجوز أن يكون الخراصون هم الذين إنما يظنون الشيء ولا يحقونه فيعملون بما لا يعلمون. وأصل الخرص التظنى فيما لا يستيقنه. (لسان العرب ج 7ص 21).
(2) أحمد بن حنبل وابن قتيبة وعثمان الدارمى عقائد السلف ص 257256.(1/108)
إن كتب اليهود والنصارى وما هو موجود من كتب الأديان الأخرى لم تحدث من التأثير ما أحدثه القرآن ولم ولن تجذب إلى نفسها من الخلق ما جذبه القرآن إلى لغته من شتى أجناس الأرض. إن قيم القرآن الأدبية والجمالية، والعلمية فائقة الحسن والتأثير، وتأثير القرآن على النفس البشرية باق وتام أبدا.
يستمر المستشرق ويلش فى عرض موضوعه، فيقول: = إن هناك آيات مدنية متعددة تعطى الانطباع بأن محمدا كان يحاول بهمة ودأب أن يحصل على معلومات من كتب اليهود المقدسة، مستشهدا على ذلك بما جاء فى آية: {يََا أَهْلَ الْكِتََابِ قَدْ جََاءَكُمْ رَسُولُنََا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمََّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتََابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} (المائدة: 15)، فهم ويلش من الفعل = تخفون = أن اليهود كانوا لم يمكّنوا محمدا من كتبهم ولقد فاته أن يفهم أن الآية لا تلوم اليهود، لأنهم أخفوا كتابهم عن محمد، ومنعوه أن ينقل منه بل إن الآية تتحدث على طريقة الخطاب القرآنى وتبين أن اليهود بدّلوا وحرّفوا كتبهم، وأخفوا منها وأظهروا، وأوّلوا نصوصها على وفق أهوائهم ونوازعهم الطائفية والعنصرية والآية تشير تحديدا إلى إخفائهم لآية الرجم، بالتحديد، كما جاء فى الحديث الذى أخرجه ابن جرير وغيره وفى الآية أن محمدا صلى الله عليه وسلم بين لهم فى القرآن أشياء كثيرة مما كانوا يتعمدون إخفاءها ولم يرد أن محمدا سأل اليهود أن يطلعوه على كتبهم البتة كيف وهو أمى لا يقرأ ولا يكتب؟ أضف إلى ذلك أن كتابهم كان بالعبرية، ولم يترجم منها شيء بعد إلى العربية كما هو معلوم لعلماء الأديان وكيف يقرأ محمد كتب النصارى ليفيد منها فى كتابة القرآن، وهو الذى أنكر أصول النصرانية، كالتثليث، والصلب، وعقيدة الفداء والكفارة؟، وكيف يقرأ محمد كتب اليهود وهو يحاجّهم ويكشف أمرهم تارة بالوحى، وأخرى بسنته واجتهاده صلى الله عليه وسلم. إن الله هو الذى طلب من اليهود على لسان محمد أن يأتوا بالتوراة إذا أمكنهم، وهذا من باب الإلزام والإفحام للخصم، حتى يكذّب الله دعواهم فى مسألة مخصوصة، تنازعوا فيها، وهى تحريم إسرائيل، وهو نبى الله يعقوب عليه السلام، أكل العرق، على نفسه، أو أكل ولد ما له عرق، وذلك لنذر كان نذره، إن شفاه الله من عرق النسا، الذى كان يزعجه ويقلقه ويؤرقه فلا ينام فحرم اليهود ذلك على أنفسهم اتباعا له، لا لنص ملزم فى التوراة؟، والآية التى عليها مدار الحديث هى: {كُلُّ الطَّعََامِ كََانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرََائِيلَ إِلََّا مََا حَرَّمَ إِسْرََائِيلُ عَلى ََ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرََاةُ قُلْ فَأْتُوا
بِالتَّوْرََاةِ فَاتْلُوهََا إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (آل عمران: 93). أما عن قوله تعالى: {وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قََالُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ عَلى ََ بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتََابَ الَّذِي جََاءَ بِهِ مُوسى ََ نُوراً وَهُدىً لِلنََّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرََاطِيسَ تُبْدُونَهََا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مََا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلََا آبََاؤُكُمْ قُلِ اللََّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهََذََا كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ مُبََارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ََ وَمَنْ حَوْلَهََا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى ََ صَلََاتِهِمْ يُحََافِظُونَ} (92) (الأنعام: 9291)، فمعنى الكلام فى هذا الموضع من القرآن أنهم استنكروا أن الله أنزل وحيا، والمستنكرون هم اليهود فأخبر الله تعالى أن هذا يتنافى مع صفته، وعظمته وأخبرهم فى صورة سؤال أن الذى أنزل على موسى الكتاب هو نفسه الذى أنزل على محمد القرآن وأنّكم إذا نفيتم نسبة القرآن إلى الله، وجب ضرورة أن تنفوا نسبة التوراة إليه تعالى وهذا إلزام قرآنى لهم. وأخبر القرآن كذلك أنهم يقطّعون التوراة قراطيس، أى أجزاء، وسجلات ينسخونها من الكتاب الذى كان بأيديهم، ويحرّفون المنقول ليوافق هواهم، وأحيانا يبقون الكلام، ويحرفون المعانى حسب ما يرون، ثم يدّعون بعد ذلك أن هذا من عند الله (1) والكلام هنا عن فعل اليهود مع نبى الله موسى، ومع التوراة التى جاء بها، وليس مع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا مع القرآن كما أنه لا يفهم من كلمة = تبدونها =، التى تعلق بها الكاتب وضرب الهواء بجناحيه، أنهم أبدوا التوراة لمحمد ينقل منها ما شاء بل إنهم كانوا يبدونها لأتباعهم هم أو للعامة منهم ونحو ذلك.(1/109)
يستمر المستشرق ويلش فى عرض موضوعه، فيقول: = إن هناك آيات مدنية متعددة تعطى الانطباع بأن محمدا كان يحاول بهمة ودأب أن يحصل على معلومات من كتب اليهود المقدسة، مستشهدا على ذلك بما جاء فى آية: {يََا أَهْلَ الْكِتََابِ قَدْ جََاءَكُمْ رَسُولُنََا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمََّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتََابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} (المائدة: 15)، فهم ويلش من الفعل = تخفون = أن اليهود كانوا لم يمكّنوا محمدا من كتبهم ولقد فاته أن يفهم أن الآية لا تلوم اليهود، لأنهم أخفوا كتابهم عن محمد، ومنعوه أن ينقل منه بل إن الآية تتحدث على طريقة الخطاب القرآنى وتبين أن اليهود بدّلوا وحرّفوا كتبهم، وأخفوا منها وأظهروا، وأوّلوا نصوصها على وفق أهوائهم ونوازعهم الطائفية والعنصرية والآية تشير تحديدا إلى إخفائهم لآية الرجم، بالتحديد، كما جاء فى الحديث الذى أخرجه ابن جرير وغيره وفى الآية أن محمدا صلى الله عليه وسلم بين لهم فى القرآن أشياء كثيرة مما كانوا يتعمدون إخفاءها ولم يرد أن محمدا سأل اليهود أن يطلعوه على كتبهم البتة كيف وهو أمى لا يقرأ ولا يكتب؟ أضف إلى ذلك أن كتابهم كان بالعبرية، ولم يترجم منها شيء بعد إلى العربية كما هو معلوم لعلماء الأديان وكيف يقرأ محمد كتب النصارى ليفيد منها فى كتابة القرآن، وهو الذى أنكر أصول النصرانية، كالتثليث، والصلب، وعقيدة الفداء والكفارة؟، وكيف يقرأ محمد كتب اليهود وهو يحاجّهم ويكشف أمرهم تارة بالوحى، وأخرى بسنته واجتهاده صلى الله عليه وسلم. إن الله هو الذى طلب من اليهود على لسان محمد أن يأتوا بالتوراة إذا أمكنهم، وهذا من باب الإلزام والإفحام للخصم، حتى يكذّب الله دعواهم فى مسألة مخصوصة، تنازعوا فيها، وهى تحريم إسرائيل، وهو نبى الله يعقوب عليه السلام، أكل العرق، على نفسه، أو أكل ولد ما له عرق، وذلك لنذر كان نذره، إن شفاه الله من عرق النسا، الذى كان يزعجه ويقلقه ويؤرقه فلا ينام فحرم اليهود ذلك على أنفسهم اتباعا له، لا لنص ملزم فى التوراة؟، والآية التى عليها مدار الحديث هى: {كُلُّ الطَّعََامِ كََانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرََائِيلَ إِلََّا مََا حَرَّمَ إِسْرََائِيلُ عَلى ََ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرََاةُ قُلْ فَأْتُوا
بِالتَّوْرََاةِ فَاتْلُوهََا إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (آل عمران: 93). أما عن قوله تعالى: {وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قََالُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ عَلى ََ بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتََابَ الَّذِي جََاءَ بِهِ مُوسى ََ نُوراً وَهُدىً لِلنََّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرََاطِيسَ تُبْدُونَهََا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مََا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلََا آبََاؤُكُمْ قُلِ اللََّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهََذََا كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ مُبََارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ََ وَمَنْ حَوْلَهََا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى ََ صَلََاتِهِمْ يُحََافِظُونَ} (92) (الأنعام: 9291)، فمعنى الكلام فى هذا الموضع من القرآن أنهم استنكروا أن الله أنزل وحيا، والمستنكرون هم اليهود فأخبر الله تعالى أن هذا يتنافى مع صفته، وعظمته وأخبرهم فى صورة سؤال أن الذى أنزل على موسى الكتاب هو نفسه الذى أنزل على محمد القرآن وأنّكم إذا نفيتم نسبة القرآن إلى الله، وجب ضرورة أن تنفوا نسبة التوراة إليه تعالى وهذا إلزام قرآنى لهم. وأخبر القرآن كذلك أنهم يقطّعون التوراة قراطيس، أى أجزاء، وسجلات ينسخونها من الكتاب الذى كان بأيديهم، ويحرّفون المنقول ليوافق هواهم، وأحيانا يبقون الكلام، ويحرفون المعانى حسب ما يرون، ثم يدّعون بعد ذلك أن هذا من عند الله (1) والكلام هنا عن فعل اليهود مع نبى الله موسى، ومع التوراة التى جاء بها، وليس مع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا مع القرآن كما أنه لا يفهم من كلمة = تبدونها =، التى تعلق بها الكاتب وضرب الهواء بجناحيه، أنهم أبدوا التوراة لمحمد ينقل منها ما شاء بل إنهم كانوا يبدونها لأتباعهم هم أو للعامة منهم ونحو ذلك.
استشهد الكاتب على المسألة نفسها أيضا بقول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتََابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هََذََا مِنْ عِنْدِ اللََّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمََّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمََّا يَكْسِبُونَ} (79) (البقرة: 79)، هذه الآية تصب الويل على أحبار اليهود، لتلاعبهم بكلام الله تعالى، واتجارهم بالدين، فقد كان منهم فريق يتكسب بالوحى، يكتب كتبا بيده، ثم يبيعها لبعض العرب أو غيرهم، على أنها كلام الله وهى فى الحقيقة كلامه هو، وذلك لأن التوراة كانت نسخة واحدة موضوعة تحت يد الكاهن الأكبر، لا تخرج للعامة أبدا ولا يمكّن أحد سواه من قراءتها فكان الأحبار يكتبون قليلا
__________
(1) انظر: ابن كثير. مختصر تفسير. ج 1ص 300، 498، 898.(1/110)
من كلام الله الذى تعلقوه، مع شىء كثير (1) من كلامهم الذى زوروه، زاعمين أن الكل هو كلامه عز وجل، فكذّبهم الله. وربما كان هذا العمل فى حد ذاته سببا من أسباب تحريف التوراة وتحريف كتب أنبياء اليهود أيضا، والبعد بها عن النص المنزّل من عند الله تعالى. ولسنا نستبعد أن مثل هذه النصوص، التى اختلط فيها كلام الله بغيره، من كلام البشر قد بقيت كلها أو بعضها، واستعملت فيما بعد، فى تجميع مادة كتب العهد القديم، التى هى بأيدى اليهود اليوم. وهذه الأعمال الخفية، لم تكن لتظهر بسهولة، لولا نزول القرآن الذى كشف عنها. ومما ينبغى التنبيه به أن الدراسات النقدية الحديثة تؤيد صدق كلام الله تعالى، بالنسبة لتحريف كتب اليهود والنصارى إذ أثبتت بالأدلة النصية، والبراهين العقلية، وبالقرائن التاريخية أن أياد كثيرة، وليست يد واحدة، قد عملت فى كتب العهد القديم وأن هذه الكتب تحتوى على كتابات وإشارات إلى تواريخ متقدمة ومتباعدة جدا فيما بينها، كلها تؤكد على أن أكثر من يد قد تناولتها وتعاونت على كتابتها وبالأدلة العلمية تأكّد أن هذه الكتب كانت قد وضعت فى تواريخ مختلفة، وفى أماكن متفرقة.
يشير الكاتب بعد ذلك إلى الآيات (البقرة: 77 (2)، 140 (3)، 174 (4)) و (آل عمران: 71 (5))، و (المائدة: 15 (6)) ثم يزعم أنه بقراءة هذه الآيات، يكون من السهل علينا أن نفهم أن محمدا قد تلقى قصصا ومعلومات أخرى من مصادر متعددة، من بينها كتب اليهود والنصارى وأن محمدا قد أعاد تشكيل هذه المعلومات، وصياغتها، وأدمجها فى القرآن أثناء عملية الإلهام (القرآن عند الكاتب أصبح إلهاما وليس وحيا!) يقول إن هذه النظرة تعد اليوم عند المسلمين غير أصولية، أو سلفية، ولكنها، على أى حال، ليست
__________
(1) انظر: = ابن حزم الأندلسى ونقده للتوراة وكتب اليهود الأخرى = (رسالة دكتوراه بالإنجليزية للدكتورة نور شيف عبد الرحيم رفعت إكستر انجلترا 1988).
(2) {أَوَلََا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ مََا يُسِرُّونَ وَمََا يُعْلِنُونَ} (77).
(3) {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْمََاعِيلَ وَإِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبََاطَ كََانُوا هُوداً أَوْ نَصََارى ََ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللََّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهََادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللََّهِ وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ} (140).
(4) {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ الْكِتََابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولََئِكَ مََا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النََّارَ وَلََا يُكَلِّمُهُمُ اللََّهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَلََا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} (174).
(5) {يََا أَهْلَ الْكِتََابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبََاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (71).
(6) {يََا أَهْلَ الْكِتََابِ قَدْ جََاءَكُمْ رَسُولُنََا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمََّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتََابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جََاءَكُمْ مِنَ اللََّهِ نُورٌ وَكِتََابٌ مُبِينٌ} (15).(1/111)
متعارضة مع بعض المسائل التى توجد فى مجموعة الأحاديث، والمصادر الإسلامية الأخرى.
وهذه الأصول المشتركة بين القرآن، وكتب اليهود والنصارى، قد حتّمت طرح السؤال بين الباحثين عن طبيعة الصلة بين القرآن وهذه الكتب واضح أن الكاتب يسير فى خط متعرج، وكثير النتوء والمسارب. فزعمه بأن ما قيل حل أخذ محمد من كتب اليهود والنصارى يعد اليوم غير أصولى، يوحى بأنه كان أصوليا، وموضع تسليم من قبل، وهذا محض افتراء فعقيدة المسلمين فى القرآن هى هى، بالأمس، واليوم، وإلى قيام الساعة ثم إن الأحاديث التى يحاول الكاتب أن ينتزع منها أدلة تؤكد، من وجهة نظرة، انتحال القرآن من كتب سابقة ليس فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ أىّ شىء من القرآن من غير الله تعالى، حتى ولا من عند نفسه فكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كلام الله. ثم إن إشارة الكاتب إلى وجود موضوعات متشابهة بين القرآن وكتب اليهود والنصارى، أمر لا ينكره المسلمون، بل يعتقدونه ويعتمدونه ضمن الإطار العام لعقيدتهم فى وحدة مصدر الأديان والرسالات الإلهية، ولا يرون فى ذلك غضاضة، ولكنهم لا يرون فى الوقت نفسه أن فى تلك المشابهات العليلة أي دلالة على أن محمدا صلى الله عليه وسلم انتحل أي شىء، أو تأثر بأى شىء من خارج الوحى. والذى ينبغى معرفته كذلك، أن هذه الأشياء المتشابهة بين كتب الله الثلاث لا تعدو أن تكون قصصا وحكاية لتاريخ الدعوة والأنبياء من لدن آدم حتى خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، أنزلها الله فى القرآن محضة صافية غير مشوبة بما علق بها فى كتب اليهود من تحريف ومغالطات وطعن فى شرف الأنبياء وعصمتهم.
إن موضوع الصلة بين القرآن وكتب اليهود والنصارى قد درس وعولج كثيرا من قبل المستشرقين والمسلمين وأهم كتاب تعرّض لهذا الموضوع من قبل المستشرقين، هو كتاب = إبراهام جيجر = اليهودى الألمانى، الذى اتسع خياله فصوّر النبى صلى الله عليه وسلم، وكأنه لم يكن له عمل البتة إلا النقل من كتب اليهود، التوراة، وكتب الأنبياء، والتلمود، والمشنا، والجمارا، كما أشرنا إليه من قبل. وقد بيّنا، فى دراسة لنا، تهافت جيجر وسطحيته، مع ترجمة لكتابه (هل أخذ محمد من كتب اليهود) إلى اللغة العربية، والتى نرجو أن ننشرها قريبا بإذن الله تعالى. ومن الكتب التى أفاضت فى موضوع الانتحال المزعوم هذا، كتاب = ويلهلم رودلف =، (صلة القرآن باليهودية والنصرانية)، مترجم إلى العربية وكتاب = هنرى دى كاسترى = (الإسلام سوانح وخواطر)، بترجمة فتحى زغلول باشا حيث نقل عن
بعض النصارى قوله إن محمدا إنما كتب القرآن بإملاء سرجنوس لأنه كان أميا مجردا من كل تربية = (1) ويشير كاسترى إلى كتاب آخر فى نقد القرآن، هو كتاب = القس مراشتى = (الرد على القرآن) (2). أما كاسترى نفسه فيقول = إن القرآن يستولى على الأفكار، ويأخذ بمجامع القلوب، ولقد نزل على محمد دليلا على صدق رسالته =.(1/112)
إن موضوع الصلة بين القرآن وكتب اليهود والنصارى قد درس وعولج كثيرا من قبل المستشرقين والمسلمين وأهم كتاب تعرّض لهذا الموضوع من قبل المستشرقين، هو كتاب = إبراهام جيجر = اليهودى الألمانى، الذى اتسع خياله فصوّر النبى صلى الله عليه وسلم، وكأنه لم يكن له عمل البتة إلا النقل من كتب اليهود، التوراة، وكتب الأنبياء، والتلمود، والمشنا، والجمارا، كما أشرنا إليه من قبل. وقد بيّنا، فى دراسة لنا، تهافت جيجر وسطحيته، مع ترجمة لكتابه (هل أخذ محمد من كتب اليهود) إلى اللغة العربية، والتى نرجو أن ننشرها قريبا بإذن الله تعالى. ومن الكتب التى أفاضت فى موضوع الانتحال المزعوم هذا، كتاب = ويلهلم رودلف =، (صلة القرآن باليهودية والنصرانية)، مترجم إلى العربية وكتاب = هنرى دى كاسترى = (الإسلام سوانح وخواطر)، بترجمة فتحى زغلول باشا حيث نقل عن
بعض النصارى قوله إن محمدا إنما كتب القرآن بإملاء سرجنوس لأنه كان أميا مجردا من كل تربية = (1) ويشير كاسترى إلى كتاب آخر فى نقد القرآن، هو كتاب = القس مراشتى = (الرد على القرآن) (2). أما كاسترى نفسه فيقول = إن القرآن يستولى على الأفكار، ويأخذ بمجامع القلوب، ولقد نزل على محمد دليلا على صدق رسالته =.
يذكر المستشرق ويلش أن هناك آيات مكية، وأخرى مدنية أحدث نزولا، تتحدث عن كتاب تدعوه كتاب الله، وتحدّد هؤلاء الذين نزل عليهم هذا الكتاب، كالرسل (البقرة: 213)، وذرية إبراهيم عليهم السلام (العنكبوت: 27)، وبنى إسرائيل (غافر: 53)، وموسى عليه السلام (البقرة: 53، 87والأنعام: 154)، يحيى أو يوحنا عليه السلام (مريم: 12)، السيد المسيح عليه السلام (مريم: 30)، وغيرها من الأمور المشتركة بين القرآن وكتب العهدين القديم والجديد والقرآن يسمّى اليهود والنصارى بأهل الكتاب، ويتحدث عنهم بأنهم الذين = أوتوا الكتاب = (البقرة: 101، 144، 145 آل عمران: 19، 20، 100النساء: 47، 133) وذكرهم القرآن كذلك بعبارة: الذين أوتوا الكتاب (البقرة: 121، الأنعام: 20، 114الرعد: 36)، ولا بد من التنبيه على أن هذه الكتب المذكورة قد نزلت على الأنبياء المعصومين، وإن جاءت بصيغة = آتيناهم = أو = أوتوا = إشارة إلى أقوام بعض الأنبياء، أو ذرياتهم، مثل ذرية إبراهيم وبنى إسرائيل
ويرى الكاتب أن لفظ = الأميين = المذكور فى القرآن، والذى ناقشه كثيرا، إنما جاء ليشير إلى هؤلاء الذين لم يؤتوا كتابا من قبل وهم العرب وذلك فى مقابل اليهود والنصارى، ومفرد = أميين = = أمى =، وقد أطلق اللفظ الأخير على محمد فى سورة (الأعراف: 157)، لهذا السبب نفسه، أى لكون محمد لم يعط كتابا، وليس لكونه عاجزا عن القراءة والكتابة =.
عجيب أمر المستشرق، وعجيب تفسيره وتعريفه لكلمة = أمّيّ = كإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم بخاصة. إن المستشرق ويلش يزعم مع بعض الكتّاب الغربيين الآخرين، بأن القرآن لا يحتوى على أية إشارة تفيد أن محمدا كان أمّيا، بمعنى أنه كان عاجزا عن القراءة والكتابة.
__________
(1) الإسلام سوانح وخواطر، مطبعة الشعب 1329هـ 1911م، ص 136.
(2) المصدر نفسه ص 93.(1/113)
ويتفق بل ووات على الزعم بأن محمدا كان قارئا كاتبا شأنه فى ذلك شأن تجار مكة، الذين كانت نسبة عدد المتعلمين فيهم لا بأس بها، هذا مع أن محمدا، لم يكن تاجرا، بالمعنى الدقيق للكلمة ولم تكن التجارة لتملأ حياته صلى الله عليه وسلم ولم يكن محمد معدودا من كبار التجار ولم يكن تجار مكة يعدّونه واحدا منهم أبدا، حتى عند ما استعملته السيدة خديجة فى التجارة، ورافق غلامها = ميسرة = فى قافلة إلى الشام ومارس المهنة بالفعل. ثم إن القراءة والكتابة لم تكن ضرورية فى هذه الأيام بالنسبة للتجار، ولم تكن كذلك شرطا لتأهيل التاجر، ولا ضرورة مفروضة على كل من أراد أن يغامر فى أعمال التجارة بل إنها ليست كذلك حتى فى وقتنا الحاضر إذ أن كثيرا من كبار التجار ومهرتهم، لا يحسنون القراءة والكتابة. ولو أن محمدا كان يكتب ويقرأ، لنقل إلينا التاريخ ذلك، ولما أخفاه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فالعلم شرف ما بعده شرف، ومحمد صلى الله عليه وسلم نفسه، هو الذى ارتفع بالعلم إلى درجة العبادة، وإلى حدّ جعل فيه العلم قاعدة الإيمان، وراعى العقيدة وحاميها، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الذى حثّ أتباعه على تعلم القراءة والكتابة وحثّهم على تعليم أبنائهم وبناتهم، وجعل العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
ونقول مرة أخرى إنه لو كان محمد صلى الله عليه وسلم قارئا وكاتبا لذكر ذلك معاصروه، ولصار محمد صلى الله عليه وسلم فى هذا الباب متميزا لندرة المتعلمين والقارئين والحاسبين بين قومه ثم إنه ليس من الضرورى أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم أميا حتى تصح نبوته وليست الأمّية كذلك ضرورية فى إثبات إعجاز القرآن، وفى التدليل على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم، فجميع الأنبياء السابقين كانوا يقرءون ويكتبون ناهيك بأن ما جاء فى القرآن من علوم ومعارف، تتعدى قدرات أكبر العلماء وأبلغ البلغاء.
يقول بل ووات أيضا: = إن المسلمين يعتقدون أن محمدا كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، وأن هذا يعزّز القول بإعجاز القرآن، وذلك لكونه قد جاء به أمّي =. ويزعم المستشرقين كذلك = لم تتفق كلمة علماء المسلمين الأوائل على أمية محمد وكان مما اختلفوا حوله تطبيق كلمة = أمّي = الواردة فى سورة (الأعراف: 158157)، على محمد صلى الله عليه وسلم حيث قالوا إن كلمة = أمّي = تعنى غير قارئ وغير كاتب =. وأشار بل ووات أيضا إلى ما جاء فى سورة (البقرة: 78)، لتأكيد هذا المعنى {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لََا يَعْلَمُونَ الْكِتََابَ إِلََّا أَمََانِيَّ}، ولكنهما يقدّمان فهما آخر، خاصا بهما، للآية فيقولان إنها تفيد أن المشار
إليهم فى الآية كانوا قارئين كاتبين، ولم يكونوا أميين، غير أنهم كانوا يقرءون على نحو ما، مستدلين بهذا على أن محمدا كان قارئا كاتبا، على نحو ما أيضا، ويتمسكان بما ورد فى الرواية الضعيفة من أن النبى صلى الله عليه وسلم كتب بنفسه بعض الكلمات فى وثيقة صلح الحديبية التى أبرمت عام 628ميلادية، بينه صلى الله عليه وسلم، وبين وفد مكة الذى بعثوا به إليه. والكاتبان يدركان، بلا شك، ضعف هذه الرواية، ومعارضتها بروايات أخرى، أقوى وأثبت منها ولكنهما يتجاهلان ذلك لأنه لا يخدم غرضهما.(1/114)
يقول بل ووات أيضا: = إن المسلمين يعتقدون أن محمدا كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، وأن هذا يعزّز القول بإعجاز القرآن، وذلك لكونه قد جاء به أمّي =. ويزعم المستشرقين كذلك = لم تتفق كلمة علماء المسلمين الأوائل على أمية محمد وكان مما اختلفوا حوله تطبيق كلمة = أمّي = الواردة فى سورة (الأعراف: 158157)، على محمد صلى الله عليه وسلم حيث قالوا إن كلمة = أمّي = تعنى غير قارئ وغير كاتب =. وأشار بل ووات أيضا إلى ما جاء فى سورة (البقرة: 78)، لتأكيد هذا المعنى {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لََا يَعْلَمُونَ الْكِتََابَ إِلََّا أَمََانِيَّ}، ولكنهما يقدّمان فهما آخر، خاصا بهما، للآية فيقولان إنها تفيد أن المشار
إليهم فى الآية كانوا قارئين كاتبين، ولم يكونوا أميين، غير أنهم كانوا يقرءون على نحو ما، مستدلين بهذا على أن محمدا كان قارئا كاتبا، على نحو ما أيضا، ويتمسكان بما ورد فى الرواية الضعيفة من أن النبى صلى الله عليه وسلم كتب بنفسه بعض الكلمات فى وثيقة صلح الحديبية التى أبرمت عام 628ميلادية، بينه صلى الله عليه وسلم، وبين وفد مكة الذى بعثوا به إليه. والكاتبان يدركان، بلا شك، ضعف هذه الرواية، ومعارضتها بروايات أخرى، أقوى وأثبت منها ولكنهما يتجاهلان ذلك لأنه لا يخدم غرضهما.
يضيف بل ووات إلى هذه الرواية الضعيفة ما ورد أن النبى صلى الله عليه وسلم كان قد كتب كتابا، فيما يبدو، بنفسه ثم طواه وسلمه لقائد سريته إلى نخلة، قبل غزوة بدر بشهرين، طالبا منه ألّا يقرأه إلا بعد مسيرة يومين، بعيدا عن المدينة. ولسنا نرى فى هذا دليلا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذى كان قد كتب الكاتب بيده ولو حدث ذلك لنقل إلينا صريحا ولتواتر العلم به، ولاحتفظ الصحابة بهذا الكتاب. إنه من الأجدر أن يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بكتابة الرسالة فى سرية تامة لأنها تحمل معلومات تتصل بشئون الدولة العسكرية، وفضّل النبى صلى الله عليه وسلم لذلك أن يسلمها بنفسه لقائد حملته فى هذا الوقت كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجمع حوله لفيفا من الكتّاب الذين يكتبون له.
ولمزيد التوضيح نذكر ما أورده السيوطى فى (الدر المنثور) فى تفسير (آية الأعراف: 157)، أن بعض السلف ومنهم الأعمش قالوا إن النبى صلى الله عليه وسلم لم يمت، إلا بعد أن عرف القراءة والكتابة، وهذا قول غريب، بل شاذ، إذ لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلم من بشر البتّة، بل من الله تعالى، ويظهر أن القائلين بهذا الكلام، وهو موقوف عليهم، ولا يصلح أن يكون حجة البتّة، رأوا أن معرفة القراءة والكتابة من كمالات النبوة، التى ينبغى أن لا تفوت النبى صلى الله عليه وسلم، وهو الكامل المعصوم (1).
وهذا التوجيه غير مقبول وغير مقنع فى الوقت نفسه فإن تعلم القراءة والكتابة ليس شرفا فى حد ذاته، وإنما لما يؤدّيان إليه من تحصيل العلوم والمعارف، وبما يمكّنان من نقلها إلى الغير، والنبى صلى الله عليه وسلم قد أعطاه الله تعالى علوم الأولين والآخرين، وقد انتشر علمه وهديه صلى الله عليه وسلم فى الآفاق وأوجد أمما من العلماء فى كل مجال من مجالات المعرفة الصالحة.
__________
(1) حول الخلاف فى موضوع أمية النبى صلى الله عليه وسلم انظر: الزرقانى مناهل العرفان فى علوم القرآن ج 1ص 365.(1/115)
لم يفت المستشرقين أن يعيدا قراءة روايات أحاديث بدء الوحى، لينتزعا منها دليلا على ثقافة محمد صلى الله عليه وسلم، فزعما، من وجه آخر، أنه بمراعاة الاعتبار العام للروايات ودلالاتها، وبناء على القصص المتشابهة بين القرآن والكتاب المقدس، وانطلاقا أيضا من تفسير كلمة = أمى = بمعنى عدم القدرة على القراءة والكتابة، يمكن أن يكون القول بأن محمدا لم يكن يقرأ ولا يكتب ولم يكن له اطلاع على كتب اليهود والنصارى صحيحا، وهذا على عكس ما زعمه ويلش وجمهور المستشرقين، كما ذكرناه مرارا فيما سبق، لكن بل ووات، على الرغم من هذا، يعرضان رأيا آخر له أيضا خطورته فى المسألة التى بين أيدينا إذ يزعمان = أن محمدا نعم كان أميا حقا، ولكنه كان مثقفا واسع الثقافة، بصيرا بأحوال العالم من حوله وعلماء التربية يقررون أنه ربما يوجد شخص متعلم يعرف القراءة والكتابة، وهو غبى مأفون، وآخر أمّي لا يعرف القراءة والكتابة، وهو على قدر عال من الثقافة، ويمتلك لديه ثروة هائلة من الآداب والمأثورات الشعبية، بل إن الذى يقرأ ويكتب ربما يضيّع على نفسه فرصة تحصيل مثل تلك الآثار العظيمة وذلك لانشغاله بتعلم هذه الأشياء البسيطة وسواء كان محمد أميا أم متعلما، فإنه كان، ولا شك، مثقفا بثقافة عصره، وعلى المستوى الذى وصل إليه أهل مكة =. يقول الكاتبان، وكأنهما وقعا على صيد ثمين، إن مثل هذه النقطة المهمة ينبغى أن تستعمل فى الحجاج والحوار مع المسلمين (1).
من هذا الكلام تتضح الأغراض التنصيرية من وراء الدراسات الاستشراقية بوجه عام، كما يتضح مقصد الكاتبين من محاولتيهما فى الوصول إلى تلك النتيجة الخاطئة، وهي أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان قد وصل إلى المستوى العلمى والثقافى الذى يمكّنه من كتابة القرآن واعتبار القرآن انعكاسا لثقافة محمد وصدى لتجاربه، تلك الثقافة التى جمع محمد أطرافها، فى زعمهم، من مظان شتى، ومن مواد متفرقة ومتنوعة، منها ما هو مأخوذ من كتب اليهود والنصارى التى انتقلت إليه الطريقة نفسها التى انتقلت بها الآداب والمأثورات الشعبية نفسها بزعمهم. وبهذا يكون قد تأكد من وجهة نظر المستشرقين أن الإسلام إنما هو خليط ومزيج ذكى لعناصر مختلفة ومتنوعة. والعجيب
__________
(1) بل ووات ص 37.(1/116)
أنهم لم يفكروا لماذا كان محمد وحده هو القادر على حفظ التراث والمأثورات الشعبية، ونظمها فى سلك واحد، سماه = القرآن = ونسأل أيضا لماذا كان فى مكة قرآن واحد، ومحمد واحد، ما دامت المسألة ترتكز على الجهود البشرية؟ إن هذا لأمر عجاب. إن القرآن ليس ثقافة ولا مأثورات شعبية ولا اقتباسات من كتب ولا انعكاسات لبيئة أو ثقافة معينة، وإنما هو كلام الله رب العالمين. ليس القرآن تجميعا لمواد غريبة متناقضة غير منسجمة ولكنه كلام الله الذى لا عوج فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ليس لأحد في القرآن آية ولا جزء آية.
وأما زعم المستشرقين بأن القرآن لا يتضمن كلمة = أمّي = بمعنى انعدام القدرة على القراءة والكتابة فزعم متهافت وتحريف لألفاظ اللغة عن معانيها، وتخصيص لمعانى الألفاظ بلا مبرر، إذ أن المعنى الأول لكلمة = أمّي = هو عجز الشخص عن القراءة والكتابة هذا أمر بديهى، ومن القواعد الأصولية المقررة أننا ينبغى ألا نخرج على ظاهر معنى اللفظة أو العبارة إلى غيره، إلا لضرورة توجب ذلك، شريطة أن تكون هذه الضرورة مؤيدة بالدليل. و = الأمي = بالمعنى الظاهر والمشهور مذكور فى القرآن بصورة واضحة. وأما قول اليهود {لَيْسَ عَلَيْنََا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (آل عمران: 75)، فيمكن أن تكون بمعنى الأمية الكتابية أيضا، وصف بها اليهود العرب باعتبار واقعهم من هذه الحيثية فقد كانوا أمة أمية، لا تحسب ولا تكتب، وكان اليهود يطلقون هذا الوصف على غيرهم من الأمم، إظهارا لتفوقهم عليهم بالكتب الإلهية التى نزلت عليهم، كما حكى عنهم القرآن قولهم وقول النصارى: {نَحْنُ أَبْنََاءُ اللََّهِ وَأَحِبََّاؤُهُ} (المائدة: 18)، وننبه على أن كلمة ()، التى يطلقها اليهود على الشعوب غير اليهودية، تأتى النسبة منها هكذا = أممي =، وليس = أمي = وعلى الرغم من هذا فإنه ليس هناك مانع فى أن تحتمل الكلمة معانى كثيرة تحددها القرائن.
يدعي ويلش، علاوة على ما سبق، أن تسمية = القرآن = ب = الكتاب = و = الوحي = إنما ظهرت فى السور المدنية، أو فى أشكال التعبير القرآنى فى السور المدنية وذلك عند ما دب النزاع بين محمد واليهود فى المدينة، وحدث التقاطع بينهما، ويئس محمد صلى الله عليه وسلم من انحياز
اليهود لدينه، وقع هذا فى وقت قريب من غزوة بدر (1) ونلاحظ أن كلام المستشرقين يخرج كثيرا على عرف البحث العلمى ومنهجه. إنهم يبنون أحيانا نتائج كثيرة غائمة على ظنيات وتخمينات واهمة وواهية وليس هكذا تورد الإبل عند الكلام عن كتاب المسلمين الذى يحوطهم ويحوطونه ويحفظهم ويحفظونه. إن القرآن منذ البداية يعى ذاته ويدرك أبعاد نفسه، والنبى محمد صلى الله عليه وسلم يعرف منذ بدء الوحى أن ما جاءه به جبريل عليه السلام كان وحيا من عند الله وقد تكلمت آيات مكية كثيرة ومتقدمة فى النزول عن القرآن ك = كتاب = و = وحي = و = تنزيل =، وأن المقاطعة أو النزاع الذى حدث بين النبى واليهود أو غيرهم، لم يؤثر البتّة فى بناء النص القرآنى لا فى الشكل ولا فى المحتوى. وكون القرآن قد اتخذ مواقف مع اليهود، أو كشف نواياهم ومخططاتهم، فإن هذا لا يعنى أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذى سجل ذلك فى القرآن وصاغه على هذا النحو. إن فى القرآن آيات مدنية تمجد التاريخ النبوى لليهود وآيات أخرى تذكر اليهود بعهودهم مع الله، وبما جاءتهم به رسل الله، وبالمعجزات التى جرت لهم على أيدى أنبيائهم فالقرآن كله ليس هجوما على اليهود، ولا صدى لمصادمات وقعت بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم كما يدعى هذا الكاتب وغيره من المستشرقين.(1/117)
يدعي ويلش، علاوة على ما سبق، أن تسمية = القرآن = ب = الكتاب = و = الوحي = إنما ظهرت فى السور المدنية، أو فى أشكال التعبير القرآنى فى السور المدنية وذلك عند ما دب النزاع بين محمد واليهود فى المدينة، وحدث التقاطع بينهما، ويئس محمد صلى الله عليه وسلم من انحياز
اليهود لدينه، وقع هذا فى وقت قريب من غزوة بدر (1) ونلاحظ أن كلام المستشرقين يخرج كثيرا على عرف البحث العلمى ومنهجه. إنهم يبنون أحيانا نتائج كثيرة غائمة على ظنيات وتخمينات واهمة وواهية وليس هكذا تورد الإبل عند الكلام عن كتاب المسلمين الذى يحوطهم ويحوطونه ويحفظهم ويحفظونه. إن القرآن منذ البداية يعى ذاته ويدرك أبعاد نفسه، والنبى محمد صلى الله عليه وسلم يعرف منذ بدء الوحى أن ما جاءه به جبريل عليه السلام كان وحيا من عند الله وقد تكلمت آيات مكية كثيرة ومتقدمة فى النزول عن القرآن ك = كتاب = و = وحي = و = تنزيل =، وأن المقاطعة أو النزاع الذى حدث بين النبى واليهود أو غيرهم، لم يؤثر البتّة فى بناء النص القرآنى لا فى الشكل ولا فى المحتوى. وكون القرآن قد اتخذ مواقف مع اليهود، أو كشف نواياهم ومخططاتهم، فإن هذا لا يعنى أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذى سجل ذلك فى القرآن وصاغه على هذا النحو. إن فى القرآن آيات مدنية تمجد التاريخ النبوى لليهود وآيات أخرى تذكر اليهود بعهودهم مع الله، وبما جاءتهم به رسل الله، وبالمعجزات التى جرت لهم على أيدى أنبيائهم فالقرآن كله ليس هجوما على اليهود، ولا صدى لمصادمات وقعت بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم كما يدعى هذا الكاتب وغيره من المستشرقين.
يزعم ويلش وأشياعه من المستشرقين، إضافة إلى ما سبق، بأن مواقف الصراع بين محمد واليهود جعلته يغيّر موقفه من كتبهم، إذ بعد أن وصفهم بأنهم = أهل كتاب =، وبأنهم = أوتوا الكتاب =، عاد فقال إنهم فقط = أوتوا نصيبا من الكتب =، وليس الكتاب كله، مشيرا فى هذا الصدد إلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتََابِ يُدْعَوْنَ إِلى ََ كِتََابِ اللََّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلََّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (آل عمران: 23) {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتََابِ يَشْتَرُونَ الضَّلََالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}
(النساء: 44)، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتََابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطََّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هََؤُلََاءِ أَهْدى ََ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} (النساء: 51) المراد = بالذين = فى الآيات هم أحبار اليهود بخاصة، وليس كل اليهود قال الله تعالى لعامة اليهود
__________
(1) مقدمة بل ووات للقرآن ص 33.(1/118)
ولغيرهم إن الأحبار قد حصّلوا نصيبا من التوراة قد يكون حفظا أو فهما، و = من = فى الآيات المذكورة إما أنها للتبعيض بمعنى أنّ ما كان مع هؤلاء المشار إليهم من التوراة، لم يكن هو كل التوراة وإما أنها للبيان بمعنى أنهم حصّلوا من جنس الكتب المنزلة، أو من اللوح المحفوظ، التوراة التى جاء بها موسى، وهى فى ذاتها نصيب عظيم (1) ولنا أن نفهم أيضا عبارة = أوتوا نصيبا من الكتب = على أنها إشارة كذلك إلى تحريف التوراة، وكتب الأنبياء. والتحريف معناه أن كتب اليهود والنصارى، التى بأيديهم، يختلط فيها الإلهى بغير الإلهى.
يغور الكاتب فى زعمه أكثر فأكثر، إذ يقول: إنه فى أواخر العهد المكى وأوائل العهد المدنى، نقل إلينا القرآن أن محمدا كان قد تحدّى بأن يأتى بكتاب يقرؤه الناس بأنفسهم، فعلى سبيل المثال، يقول القرآن: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى ََ فِي السَّمََاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتََّى تُنَزِّلَ عَلَيْنََا كِتََاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحََانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلََّا بَشَراً رَسُولًا} (93) (الإسراء: 93)، يضرب الكاتب هنا فى عماية بتجاهله للآيات القرآنية التى أشار إليها هو نفسه، والتى تتحدى الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، كله أو بعضه وأن الله سبحانه وتعالى قال فى مواضع كثيرة فى القرآن إنه صرّف في القرآن من كل مثل مقنع، وأقام فيه من الأدلة الكثيرة الدامغة، كما أظهر المعجزات بعضهم إلا فجورا وطغيانا، حتى لقد تركوا الممكن، وطلبوا المستحيل الذى لا يصلح دليلا على صحة الكتاب. والقرآن نفسه يعد أكبر دليل على صدق الذى جاء به، وهو محمد صلى الله عليه وسلم بل وعلى صدقه فى نفسه. قال الكافرون فى الآية نفسها التى أشار إليها المستشرق بطريقة تخدم غرضه إنهم لن يؤمنوا حتى يفجر لهم محمد ينبوعا فى الصحراء، أو ينشئ لهم جنة حافلة بالنخيل والكروم تجرى خلالها الأنهار وتضطرب فيها العيون بالماء، أو أن يسقط عليهم السماء كسفا أى قطعا كما توعدهم، أو يأتى لهم بالله والملائكة قبيلا، أو يبنى لنفسه بيتا من زخرف، أو يرقى فى السماء ويحضر لهم كتابا من
__________
(1) الزمخشرى. الكشاف ج 1ص 181.(1/119)
هناك يقرءونه بأنفسهم هذه المعاجز لو أرادها الله بالطبع لتحققت ووقعت. ففي المعجزات دلالات على صدق الأنبياء، الذين أرسلهم الله تعالى وأيدهم بها، وأمر الناس أن يصدقوهم، وتوعدهم على تكذيبهم للأنبياء، ولكن المعجزات لا تأتى وفق الإرادات والشهوات فالله يعلم أن الطالبين مشاغبون، ولن يهتدوا إذا أبدا.
وأما لفظة = كتاب = فى الآية التى يتعلق بها المستشرق، فليست تعنى = القرآن = وإنما هى إشارة إلى كتاب خاص سأل المعارضون محمدا صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم به من السماء، يحمل اسم المعارضين، كل واحد منهم على حدة، ويخاطبه باسمه خصّيصا، كبطاقة دعوة خاصة به، تقول له يا فلان بن فلان أنت مدعوّ لتصديق محمد، والإيمان بالإسلام: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى ََ صُحُفاً مُنَشَّرَةً} (52) (المدثر: 52) ثم إن الذين طلبوا من محمد صلى الله عليه وسلم هذه الأمور لا يمثّلون إلا أنفسهم، وهم أعدى أعدائه، وأشدهم عصبية عليه، وحسدا له، كعبد الله بن أمية وعتبة وشيبة ابني ربيعة (1).
جاء ذلك منهم بعد أن أخفقوا فى إغراء النبى صلى الله عليه وسلم بالمال، والجاه، والسلطان، ليتخلى عن دعوته، ويركن إليهم ولم يكن هؤلاء المعاندون من أهل الدليل ولا ممن يقتنعون بالحجج والبراهين. لقد قالوا ذلك وغير ذلك عنادا وإباء لا طلبا للدليل واليقين {وَقََالُوا لَوْلََا نُزِّلَ هََذَا الْقُرْآنُ عَلى ََ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (31) (الزخرف: 31)، {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلََا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً} (الفرقان: 32) يمضى الكاتب فى استعراضه للآيات فيشير إلى قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمََا أُنْزِلَ الْكِتََابُ عَلى ََ طََائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنََا وَإِنْ كُنََّا عَنْ دِرََاسَتِهِمْ لَغََافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنََّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتََابُ لَكُنََّا أَهْدى ََ مِنْهُمْ}
(الأنعام: 157156)، الطائفتان المشار إليهما فى الآية هما اليهود والنصارى، لأنهم كانوا يجاورون العرب، والعرب تعرفهم. يقول ويلش: = إن أتباع محمد قد اشتكوا من عدم وجود كتاب لديهم، كهذا الذى لدى اليهود والنصارى = والآية ليس فيها شكوى، ولا ما يشبه الشكوى وإنما فيها، لو أنصف الكاتب نفسه من نفسه، تعلّل وتحلّل. أراد الله تعالى بذلك أن يقطع أعذار المتعللين منهم، ليقيم عليهم الحجة كما فى قوله:
__________
(1) ابن عطية المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز ج 9ص 198196.(1/120)
{وَلَوْلََا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنََا لَوْلََا أَرْسَلْتَ إِلَيْنََا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيََاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (47) (القصص: 47)، وقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللََّهِ جَهْدَ أَيْمََانِهِمْ لَئِنْ جََاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى ََ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} (فاطر: 42)، وقوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يََا حَسْرَتى ََ عَلى ََ مََا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللََّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السََّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللََّهَ هَدََانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (57) (الزمر: 5756)، وقوله تعالى: {يََا أَهْلَ الْكِتََابِ قَدْ جََاءَكُمْ رَسُولُنََا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى ََ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مََا جََاءَنََا مِنْ بَشِيرٍ وَلََا نَذِيرٍ فَقَدْ جََاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (19) (المائدة: 19).
لما تعلل كفار مكة بأن كتب اليهود والنصارى لم تكن فى متناول أيديهم، ولم يكن فى إمكانهم بالتالى دراستها لأنها كانت مكتوبة بغير لغتهم، قال الله فيهم: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمََا أُنْزِلَ الْكِتََابُ عَلى ََ طََائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنََا وَإِنْ كُنََّا عَنْ دِرََاسَتِهِمْ لَغََافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنََّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتََابُ لَكُنََّا أَهْدى ََ مِنْهُمْ فَقَدْ جََاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيََاتِ اللََّهِ وَصَدَفَ عَنْهََا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيََاتِنََا سُوءَ الْعَذََابِ بِمََا كََانُوا يَصْدِفُونَ} (157) (الأنعام: 157156)، ألزمهم الله بهذا أن يأخذوا بالقرآن ويعملوا بما فيه، وتهدّدهم تعالى، على تركه، بأشد العذاب. ومعنى أن = تقولوا = لئلا تقولوا وتختلقوا الأعذار لتعنتكم، ومعنى = وإن كنا عن دراستهم لغافلين = أى ما كنا نفهم ما يقولون، لأنهم لا يتكلمون لغتنا، ونحن فى غفلة وشغل مع ذلك عما هم فيه، من شأن الدين والكتب. ومعنى = كذب بآيات الله = أى كذّب بالقرآن = وصدف عنها = أى صرف الناس عن اتباع آيات الله، وصدهم عن سبيل الهدى. هذه الآية واضحة فى جهل العرب بكتب اليهود، وباختلافهم معهم فى معنى اللسان لكن المستشرقين يتشبثون بما يرون هم وإن صادم الحقيقة. وقد عرض لنا القرآن تخليط المعارضين القائلين: {وَإِذََا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ وَالسََّاعَةُ لََا رَيْبَ فِيهََا قُلْتُمْ مََا نَدْرِي مَا السََّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلََّا ظَنًّا وَمََا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (32) (الجاثية: 32)، وقال أيضا عن عناد الكافرين: {وَلَوْ أَنَّنََا نَزَّلْنََا إِلَيْهِمُ الْمَلََائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ََ وَحَشَرْنََا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مََا كََانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (111) (الأنعام: 111)، {وَقََالُوا يََا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ
لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مََا تَأْتِينََا بِالْمَلََائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصََّادِقِينَ (7) مََا نُنَزِّلُ الْمَلََائِكَةَ إِلََّا بِالْحَقِّ وَمََا كََانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (9) (الحجر: 6: 9)، وأيضا قوله: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جََاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كََارِهُونَ} (70) (المؤمنون: 70) هذا هو المعنى الصحيح للآيات وهذا هو الغرض الصحيح منها.(1/121)
لما تعلل كفار مكة بأن كتب اليهود والنصارى لم تكن فى متناول أيديهم، ولم يكن فى إمكانهم بالتالى دراستها لأنها كانت مكتوبة بغير لغتهم، قال الله فيهم: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمََا أُنْزِلَ الْكِتََابُ عَلى ََ طََائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنََا وَإِنْ كُنََّا عَنْ دِرََاسَتِهِمْ لَغََافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنََّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتََابُ لَكُنََّا أَهْدى ََ مِنْهُمْ فَقَدْ جََاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيََاتِ اللََّهِ وَصَدَفَ عَنْهََا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيََاتِنََا سُوءَ الْعَذََابِ بِمََا كََانُوا يَصْدِفُونَ} (157) (الأنعام: 157156)، ألزمهم الله بهذا أن يأخذوا بالقرآن ويعملوا بما فيه، وتهدّدهم تعالى، على تركه، بأشد العذاب. ومعنى أن = تقولوا = لئلا تقولوا وتختلقوا الأعذار لتعنتكم، ومعنى = وإن كنا عن دراستهم لغافلين = أى ما كنا نفهم ما يقولون، لأنهم لا يتكلمون لغتنا، ونحن فى غفلة وشغل مع ذلك عما هم فيه، من شأن الدين والكتب. ومعنى = كذب بآيات الله = أى كذّب بالقرآن = وصدف عنها = أى صرف الناس عن اتباع آيات الله، وصدهم عن سبيل الهدى. هذه الآية واضحة فى جهل العرب بكتب اليهود، وباختلافهم معهم فى معنى اللسان لكن المستشرقين يتشبثون بما يرون هم وإن صادم الحقيقة. وقد عرض لنا القرآن تخليط المعارضين القائلين: {وَإِذََا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ وَالسََّاعَةُ لََا رَيْبَ فِيهََا قُلْتُمْ مََا نَدْرِي مَا السََّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلََّا ظَنًّا وَمََا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (32) (الجاثية: 32)، وقال أيضا عن عناد الكافرين: {وَلَوْ أَنَّنََا نَزَّلْنََا إِلَيْهِمُ الْمَلََائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ََ وَحَشَرْنََا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مََا كََانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (111) (الأنعام: 111)، {وَقََالُوا يََا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ
لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مََا تَأْتِينََا بِالْمَلََائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصََّادِقِينَ (7) مََا نُنَزِّلُ الْمَلََائِكَةَ إِلََّا بِالْحَقِّ وَمََا كََانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (9) (الحجر: 6: 9)، وأيضا قوله: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جََاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كََارِهُونَ} (70) (المؤمنون: 70) هذا هو المعنى الصحيح للآيات وهذا هو الغرض الصحيح منها.
وأما ما ادّعاه ويلش من أن محمدا قد بدأ يكتب القرآن، ويؤلف منه كتابا، استجابة لتحديات خصومه من كفار مكة، فأمر غريب، وعجيب حقا فقد رأينا أنه ليس فى أى من الآيات السابقة أو غيرها من الآيات أى إشارة إلى هذا المعنى البتّة وليس يقلّ عن هذا غرابة، ما ادعاه الكاتب من = أن الغرض من تأسيس دولة قوية، وأمة مستقلة فى المدينة، ومتميزة عن أهل الكتاب، كان أيضا من الأسباب التى تكمن وراء كتابة القرآن حيث كان القصد من كتابته أن يكون بمثابة القانون والدستور للدولة الإسلامية الجديدة =.
إن القرآن إنما نزل ليكون دستورا، وفرقانا، ومعيارا، يفرّق به المسلمون بين الحق والباطل، والنافع والضار، والخطأ والصواب، وليكون سلوكا لهم، ومنهج حياة يلتزمون به، ومصدرا للاعتقاد، والمعاملات، والعبادات، والأخلاق التى تقوم عليها حياتهم ويستمر بفضلها والعمل بها وجودهم.
يشير الكاتب بعد ذلك إلى قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرََاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنََّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقََانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيََاتِ اللََّهِ لَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ وَاللََّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقََامٍ} (4) (آل عمران: 43)، سمى الله تعالى = القرآن = هنا = فرقانا = إما لأنه يفرق بين الحق والباطل، والفضيلة والرذيلة، والتوحيد والشرك، والكفر والإيمان، والطاعة والمعصية، وبين أهل الجنة وأهل النار وإما لأن الله أنزله مفرقا على اعتبار حالة المنزّل عليه، وحالة المنزّل لهم وقد قال الله تعالى إنه أنزل الفرقان على موسى أو على موسى وهارون: {وَإِذْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ وَالْفُرْقََانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (53) (البقرة: 53)، {وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسى ََ وَهََارُونَ الْفُرْقََانَ وَضِيََاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} (48) (الأنبياء: 48)، ويظهر أن = الفرقان = فى هاتين الآيتين ليس اسما لكتاب، كما هو الحال بالنسبة للقرآن وإنما هو بمثابة الحكمة والقوة على التمييز، أو هو إشارة على المعجزة التى أعطاها الله لموسى وهارون، ليفرقا بها بين الحق والباطل، وبين سحر
السحرة وعمل الله تعالى، وبين دعوى الخلق ووعد الخالق وهكذا يكون لفظ = الفرقان = خاصا بالقرآن لأن التمييز، وتنصيب الأدلة والأعلام على الحق من أهم الخصائص التى تفرد بها القرآن. من هذا يتبين ضعف رأى الكاتب فى التعلق بالآيات القرآنية. فلقد كان القرآن معروفا للمسلمين والكفار، وما كان محمد صلى الله عليه وسلم ليسكت هذا الوقت الطويل، منذ بداية دعوته حتى قبيل غزوة بدر، وهو يتلقى من ربه الكلمات، والآيات، والسور، فلا يسمى = القرآن = كتابا، كما يزعم ويلش وليس من المعقول أن نتصور أن المسلمين كانوا يجهلون أن الله تعالى أنزل على محمد كتابا، فيه الهدى والنور، والفرقان اسمه = القرآن =.(1/122)
يشير الكاتب بعد ذلك إلى قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرََاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنََّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقََانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيََاتِ اللََّهِ لَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ وَاللََّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقََامٍ} (4) (آل عمران: 43)، سمى الله تعالى = القرآن = هنا = فرقانا = إما لأنه يفرق بين الحق والباطل، والفضيلة والرذيلة، والتوحيد والشرك، والكفر والإيمان، والطاعة والمعصية، وبين أهل الجنة وأهل النار وإما لأن الله أنزله مفرقا على اعتبار حالة المنزّل عليه، وحالة المنزّل لهم وقد قال الله تعالى إنه أنزل الفرقان على موسى أو على موسى وهارون: {وَإِذْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ وَالْفُرْقََانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (53) (البقرة: 53)، {وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسى ََ وَهََارُونَ الْفُرْقََانَ وَضِيََاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} (48) (الأنبياء: 48)، ويظهر أن = الفرقان = فى هاتين الآيتين ليس اسما لكتاب، كما هو الحال بالنسبة للقرآن وإنما هو بمثابة الحكمة والقوة على التمييز، أو هو إشارة على المعجزة التى أعطاها الله لموسى وهارون، ليفرقا بها بين الحق والباطل، وبين سحر
السحرة وعمل الله تعالى، وبين دعوى الخلق ووعد الخالق وهكذا يكون لفظ = الفرقان = خاصا بالقرآن لأن التمييز، وتنصيب الأدلة والأعلام على الحق من أهم الخصائص التى تفرد بها القرآن. من هذا يتبين ضعف رأى الكاتب فى التعلق بالآيات القرآنية. فلقد كان القرآن معروفا للمسلمين والكفار، وما كان محمد صلى الله عليه وسلم ليسكت هذا الوقت الطويل، منذ بداية دعوته حتى قبيل غزوة بدر، وهو يتلقى من ربه الكلمات، والآيات، والسور، فلا يسمى = القرآن = كتابا، كما يزعم ويلش وليس من المعقول أن نتصور أن المسلمين كانوا يجهلون أن الله تعالى أنزل على محمد كتابا، فيه الهدى والنور، والفرقان اسمه = القرآن =.
يزعم ويلش مرة أخرى = أن الدليل يؤكد أن محمدا كان قد فكر فى جمع القرآن إلا أن مسئولياته الضخمة كرجل دولة وقائد أمة كانت تتقدم وتتطور بسرعة هائلة، جعلته يرحل عن الدنيا دون أن يحقق الغرض ويكمل جمع القرآن =. ويضيف المستشرق نفسه قائلا = يبدو أنه من الصحيح أن محمدا كان قد ساهم فى جمع القرآن، ووجّه إلى كتابته، كما هو مؤيّد بنصوص الأحاديث، التى تخبرنا أنه كان يملى القرآن على كتّاب الوحى، ويعلمهم كيف يرتبون آيات الوحى وسوره. وأنه (أى محمد صلى الله عليه وسلم) كان أحيانا يضع آية جديدة فى سياق سورة قديمة = (1).
ويذكر المستشرق أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يقم بنفسه، فى الأغلب الأعم، بالكتابة الفعلية للقرآن وبالتحقيق العلمى له، بخاصة فى المدينة المنورة، حيث كان قد اتخذ كتّابا للوحي ليقوموا عنه بهذه المهام الشاقة ولكنه ليس من الممتنع فى نظر المستشرق أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يكتب الوحى بنفسه فى بعض الأحيان، ويصر الكاتب على أن محمدا كان قادرا على القراءة والكتابة، ولم يكن أميا البتّة ونلاحظ هنا تردد الكاتب بين النفى والإثبات، فمحمد صلى الله عليه وسلم لم يكتب القرآن بنفسه، وهو فى الوقت نفسه قد كتب بعض القرآن إن المستشرق يتخير من العبارات والأساليب، التى تجعل القارئ الغربى يندفع إلى الشك لأول وهلة فى القرآن، وبخاصة هؤلاء الذين ليست لهم معرفة تامة بهذا الكتاب فتصوير محمد صلى الله عليه وسلم على أنه رجل دولة، مشغول بشئونها، معنىّ بأمورها وأنه لم يتمكن بسبب ذلك من جمع القرآن فى حياته، وأنه ترك عملية الجمع كلها غالبا للصحابة، وعملية تحقيق النص القرآنى بأكملها إلى كتّاب الوحي، كل هذا كلام يقطر افتراء وتشكيكا فى
__________
(1). 141. 404،. 142
انظر: البخارى. فضائل القرآن. الباب الثانى. حديث رقم 2، أبو داود = الصلاة = ج 3ص 2، 59.(1/123)
القرآن. وبنفس الرؤية المضطربة، ينظر ويلش إلى قوله تعالى: {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذََا إِلََّا إِفْكٌ افْتَرََاهُ وَأَعََانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جََاؤُ ظُلْماً وَزُوراً} (4) (الفرقان: 4) إن الكاتب يبنى هنا، على رأى الخصوم، ويعتمد عليه اعتمادا جازما، ويهمل اعتقاد أهل العلم من المسلمين بل ويهمل الدليل الإلهى الدامغ، ويغفل رد القرآن نفسه على خصوم القرآن، وكأن الخصوم هم الطرف الأصدق فى القضية، وهذا تحيز بلا شك ومصادمة لأصول البحث العلمى.
نقول لو أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان قد كتب بعض آيات القرآن الكريم بيده الشريفة، لتسابق الصحابة إلى حفظها بعينها، وتوارثوها، ولبقيت مع ما بقى من آثاره صلى الله عليه وسلم، ولكنّ شيئا من ذلك لم يسجله كتّاب السيرة. ونجد من الواجب علينا، أن ننبه إلى عدم دقة الكاتب فى استعمال كلمة ()، ومعناها التحقيق بالنسبة للقرآن، والتى توحى بأن كتّاب الوحى من الصحابة كانوا يقومون بتنقيح النص، والتصرف فيه كما هو الحال بالنسبة لكتب اليهود والنصارى وهذا شىء مستبعد تماما بالنسبة للقرآن. لقد كان كتّاب الوحى يكتبون ما يسمعون من رسول الله مباشرة ثم يطلب منهم الرسول، أن يقرءوا عليه ما كتبوا، ليستوثق من ضبطهم، ويتأكد من سلامة كتابة النص القرآنى المكتوب من التحريف هذا بالإضافة إلى أن القرآن كان محفوظا فى الصدور، من الكبار والصغار، والرجال والنساء من المسلمين، كما أشرنا إليه من قبل.
إن الكاتب محكوم هنا بعقيدته وخبرته النقدية للكتاب المقدس متجاهلا للأسف الفروق الجوهرية بين الكتابين فالقرآن، بعكس كتب اليهود والنصارى، قد حفظت آياته لأول وهلة، وقد ثبت بالدليل القطعى بالنقل المتواتر أن الجمّ الغفير من المسلمين كانوا يحفظونه كله أو معظمه، فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم، وبعد مماته. ولقد انتشرت الكتاتيب، وانتشر المحفّظون فى كل مكان داخل الجزيرة العربية وخارجها وقد كان القرآن مبثوثا فى أيدى الناس دون تمييز، يحفظونه كما جاء به جبريل عن الله، وكما بلّغه محمد صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام بغير اختلاف، اللهم إلا فيما أملته لهجات القوم فى طريقة الأداء مما تخصصت فى عرضه كتب القراءات (1). هذا بخلاف التوراة وكتب الأنبياء والأناجيل التى
__________
(1) انظر محمد أبو ليلة رسالة دكتوراة (المملكة المتحدة اكستر 1984)، وكتاب تحت الطبع، وابن النديم كتاب الفهرست لبنان دار المعرفة ص 53.(1/124)
فقدت أعيانها، وثبت بالأدلة اليقينية وضعية الموجود منها، إلا ما حفظ الله تعالى فيها من كلامه القديم ليكون دليلا على إلهية الأصل، وحجة للمسلمين على تحريف هذا الأصل.
ولقد أصبح من المسلّم به لدى النقاد الغربيين المحدثين أن التوراة الحالية مثلا ليست هى التى نزلت على موسى عليه السلام وأنه عليه السلام لم يكتبها البتّة وأنها إنما كتبت بأيد مختلفة، وفى عصور مختلفة، وجهات مختلفة هذا ما تؤكده النصوص الحالية لهذه الكتب وليس حال الأناجيل فى وضعها الحالى بأفضل من حال التوراة وسائر كتب اليهود. ولذلك كانت عملية كتابة الأناجيل وغيرها تحتاج إلى تنقيح وترقيع، وتعديل وتدقيق، ومراجعة ومعارضة، وحذف وإضافة، بحسب أحوال المخطوطات المختلفة والنصوص المتباينة والترجمات الكثيرة التى ولّدت منها هذه الكتب التى بين أيديهم، هذا مع ضرورة الأخذ فى الاعتبار أنه لا يوجد إنجيل واحد فى لغته الأصلية والاختلافات الجوهرية بين الأناجيل تؤكد عدم سلامة الأصل الذى أخذت عنه. ناهيك بأن هذه الكتب لم يحفظها أهلها فى صدورهم كما حفظ المسلمون كتاب ربهم، وأحاديث نبيهم صلى الله عليه وسلم. ونذكّر بما قلناه فى موضع آخر من هذا الكتاب بأن من وجوه إعجاز القرآن كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله بحفظه.
يزعم الكاتب بإصرار أن القرآن نفسه هو الذى يشهد بأن = القرآن = قد تعرض للتغيير معتمدا فى ذلك على قوله تعالى: {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهََا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهََا أَوْ مِثْلِهََا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 106)، وقوله: {وَإِذََا بَدَّلْنََا آيَةً مَكََانَ آيَةٍ وَاللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا يُنَزِّلُ قََالُوا إِنَّمََا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} (101) (النحل: 101) آية أخرى يرى فيها المستشرق تبريرا لما وقع فى القرآن من تحريف وهي قوله تعالى:
{وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلََا نَبِيٍّ إِلََّا إِذََا تَمَنََّى أَلْقَى الشَّيْطََانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللََّهُ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللََّهُ آيََاتِهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (52) (الحج: 52) يدعى الكاتب أن هذه الآيات توحي بأنها وضعت للرد على اتهام القرآن بالتغيير والتبديل، وأن القرآن يقدم ثلاثة تفسيرات لهذه المسألة، يعنى التحريف من وجهة نظره، وقيل إن هذه التفسيرات:
أولا: أن محمدا نسي أجزاء من القرآن فى بعض الأحيان.
ثانيا: أن الشيطان قد وضع أو أقحم شيئا فى ثنايا الوحى أثناء قراءة محمد.
ثالثا: أن الله قد يستبدل آيات بأخرى خير منها أو مثلها، أو ينسي الرسول إياها.(1/125)
ثانيا: أن الشيطان قد وضع أو أقحم شيئا فى ثنايا الوحى أثناء قراءة محمد.
ثالثا: أن الله قد يستبدل آيات بأخرى خير منها أو مثلها، أو ينسي الرسول إياها.
وفي التعليق على هذه الآية نقول إنه ينبغي علينا أن نعرف أن المفسرين قد فسروا كلمة = تمنى = فى الآية بمعنى = قرأ =، وكلمة = أمنيته = بمعنى = قراءته =، واستشهد على ذلك بشعر جاهلى ذكر فيه هذا المعنى، ثم فسروا إلقاء الشيطان بأنه كان فى القرآن أثناء قراءة النبى صلى الله عليه وسلم. (1)
وهذا تفسير بعيد، وهو تأويل وليس بتفسير كما لاحظ ابن جرير الطبرى. إذ الأصح أن نأخذ = تمنى =، و = أمنيته = بمعناها الظاهر ولا نلجأ إلى المعنى البعيد، ومعنى = التمني = حديث النفس بما يكون وبما لا يكون والتّمنّي: السؤال للرب فى الحوائج. والتمني أن تشتهي حصول الأمر المرغوب فيه، وحديث النفس بذلك وتقول = تمنّيت الشيء = أي قدرته وأحببت أن يصير إليّ، من = المني = أي القدر. يقال = منى الله لك ما يسرك = أي قدر لك ما يسرك، و = المنى والمنيّة = الموت لأنه قدّر علينا. (2) وإذن فتفسير كلمة = تمنى = فى الآية السابقة بمعنى تشهى حصول الشيء ورغب فيه أقرب لغويا وأنسب دينيا من تفسيرها بمعنى = قرأ = التى هى من المعانى المتأخرة ليتمنى، وعلى هذا النحو ينبغى تفسير قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لََا يَعْلَمُونَ الْكِتََابَ إِلََّا أَمََانِيَّ} أي إلا كذبا وتظاهرا، أو العرب تقول = أنت إنما تمتني هذا القول = أي تختلقه نعم قال أبو إسحاق إن معنى = إلا أماني = يعنى إلا قراءة. وهو على هذا التفسير يعنى أيضا الكذب، لأن قراءتهم لكتبهم غير مصحوبة بالعمل، يكذبون بهذا على أنفسهم وعلى الناس.
وبعد هذا التوضيح نقول إن معنى قوله تعالى: = إلّا إذا تمنّى ألقى الشّيطان فى أمنيّته = أنّ أيّ نبي كان بلا شك يتمنى هداية قومه، ويحرص على ذلك جهده، وفى القرآن آيات توضح ذلك على سبيل المثال قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَلََا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرََاتٍ} (فاطر: 8)، وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بََاخِعٌ نَفْسَكَ عَلى ََ آثََارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهََذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (6) (الكهف: 6) ولأن التمني هو حديث النفس فإن الشيطان ربما
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2، ص 551550
(2) لسان العرب ج 15ص 292، 294(1/126)
وجد إلى النفس البشرية طريقا فدلف إليها يوسوس بهواجس اليأس والإحباط لصرف الرسل عن هداية البشر، فيأتى العون من الله تعالى لأنبيائه فينسخ أي يزيل هذه الهواجس التى ألقاها الشيطان فى طريق تمنيهم، ويحكم الله آياته بمعنى قوانينه وسننه التى لا تتخلف فى نصرة أهل الحق ودحر أهل الباطل، فينشط الأنبياء، وتزداد عزائمهم قوة، وخطاهم مضاء على صراط الحق، يؤيد هذا قوله تعالى: {حَتََّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جََاءَهُمْ نَصْرُنََا فَنُجِّيَ مَنْ نَشََاءُ وَلََا يُرَدُّ بَأْسُنََا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (110) (يوسف: 110) ومعنى = فظنّوا = أنهم قد كذبوا = أى أن أتباع الرسل قد استيأسوا من قومهم أن ينصروه، وأن المرسل إليهم قد ظنوا أن الرسل قد كذبوا فالظن لأتباع الرسل لا للرسل أنفسهم ومن هذا أيضا قوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتََّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى ََ نَصْرُ اللََّهِ أَلََا إِنَّ نَصْرَ اللََّهِ قَرِيبٌ} (214) (البقرة: 214).
وينبغى أن ننبه على ملحوظة مهمة فى قوله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلََا نَبِيٍّ إِلََّا إِذََا تَمَنََّى أَلْقَى الشَّيْطََانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللََّهُ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللََّهُ آيََاتِهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (52) (الحج: 52) وهو أن معنى الآية على توجيه المفسرين أن إلقاء الشيطان فى القراءة أثناء قراءة النبى صلى الله عليه وسلم غير خاص بمحمد صلى الله عليه وسلم بل عام وشامل لجميع الرسل والأنبياء بنص الآية، على أن المفسرين أو المؤرخين لم يقدم لنا ولو مثلا واحدا على إلقاء الشيطان فى أمنيات الأنبياء والرسل السابقين، بل كادوا أن يخصوا محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا وحده من دون الأنبياء والرسل، وهذا التخصيص لا مبرر له ولا سند أما إذا فسرنا = تمنى = بمعنى رغب وأراد فلن يكون ثمة مجال لهذا الإشكال، لأن جميع الأنبياء والرسل تمنوا الهداية لأقوامهم، وقد اعترض الشيطان أمنياتهم، ولكن الله تعالى أزال ذلك بشرح الصدر، وتقوية العزم وعلى هذا التوجيه يكون معنى قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقََاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} (الحج: 53). أما ما يلقيه الشيطان من وساوس ومثبطات فتنة و = الفتنة = الشيء المغري بفعل الشر، أو هو السبب إليه، والفتنة الحرب، وبينهم فتنة أي حرب وهم يتفاتنون أي يتحاربون والفتّان هو الشيطان، وجمعه فتّان، شياطين. (1)
__________
(1) الزمخشري. أساس البلاغة ص 604.(1/127)
ومما ينبغى ملاحظته أيضا أنه لا يوجد تحديد لنوع ما ألقاه الشيطان فى أمنيات الرسل فى الآية إذ لم ينص على أنه كلام محدد، أو أنه مجرد وساوس، على أن وساوس الشيطان إذا تمكنت من قلوب الأنبياء، وصاقبت (جاورت) الوحي فى صدورهم أضعف ذلك الثقة فيهم أما إذا كانت إلقاءات الشيطان مجرّد وساوس عارضة تلمع ثم تنطفئ وتنمحي، فإن ذلك جائز على الأنبياء وهو من عوارض البشرية الملازمة لهم.
وعلى هذا لا نرى أن الآية رقم (54) من سورة الحج لها تعلق من حيث المعنى بالآيات (5352) من السورة نفسها وإذن فإن قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللََّهَ لَهََادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (54) (الحج: 54) الكلام فى هذه الآية مستأنف، ولا تعلق له بالآيتين السابقتين التي لا ذكر فيهما للقرآن. وقد قلنا فيما سبق إن معنى {ثُمَّ يُحْكِمُ اللََّهُ آيََاتِهِ} أي بيناته، وسننه فى نصرة الحق وأهله، وهزيمة الباطل، وأشياعه.
أضف إلى ذلك أن الآيات من أول سورة الحج إلى الآية رقم (53) من السورة نفسها لا تحتوي على أية إشارة عن القرآن الكريم، وأن الآيات من رقم (39) إلى (53) وهى أقرب إلى موضوع الآيتين الخاصتين بالإلقاء (5352) كلها تتحدث عن صراع الأنبياء مع أقوامهم، وعن انتصار الحق فى النهاية جريا على سنة الله تعالى فى خلقه وهذا يعزز وجهة نظرنا فى تفسير معنى إلقاء الشيطان فى أمنيات أنبياء الرحمن صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ويلحق به أن سورة النجم التى زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها وأن الشيطان ألقى فى قراءته مكية وأن سورة الحج التى وردت فيها الآية السابقة، والتى فسرت على أنها خاصة بفقرات الغرانيق مدنية وليس من المعقول أن الله تعالى يترك عباده فى وهم الغرانيق دون أن يصحح موقفهم أو يزيل اللبس الاعتقادى عنهم.
ولفظ = آية = فى آية سورة البقرة فسر على أنه آية من القرآن، على أن القرآن لم يحدد لنا حجم الآيات أو الأجزاء التى بدلت بغيرها فى القرآن الكريم (1).
هذه حزمة جافة العيدان من الدعاوى حددناها وصورناها من كلام الكاتب مع تصرف يسير للغاية والآن نناقشه فى منهجه ونتائجه فيما يختص بهذه الآيات:
__________
(1) دائرة المعارف الإسلامية ص 404.(1/128)
أولا: دعواه بأن النبى صلى الله عليه وسلم كان قد شرع فى كتابة القرآن، لكن مشاغل الدولة كانت قد حالت بينه وبين تحقيق هذا الغرض بصورة كاملة، وأنه إنما ترك المهمة برمّتها لكتّاب الوحى كلام سقيم وغير مستقيم، فالنبى صلى الله عليه وسلم كان يحفظ القرآن الذى ينزل عليه، يصلى به ويحكم به، ويرتله، ويعلمه، ويدارسه، ويسمعه من غيره، ولم يشغله شىء البتّة عنه، لا الدولة ولا غيرها بل إن القرآن كان هو دستور الدولة وقانون حاكمها ورعاياها. وكيف ينشغل النبى صلى الله عليه وسلم عن القرآن، وبالقرآن عقدت نبوته، وتمت عصمته، وجرت معجزته، وتأسست دولته، واشتهرت أخلاقه، وطارت دعوته فى الخافقين، ودان الأبيض والأسود برسالته.
كان القرآن محفوظا فى حياته صلى الله عليه وسلم فى صدور الناس، ومكتوبا على ما تسنى لهم من مواد، كالصحف والجريد والظرر (الحجارة الصغيرة المدورة، جمع = ظرار =)، وفى اللخاف وعلى الخزف والحرير وقطع الأديم.
قال الحاكم فى المستدرك: = جمع القرآن ثلاث مرات، مرة بحضرة النبى صلى الله عليه وسلم =.
وأورد فى ذلك حديثا، أخرجه بسنده على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت قال: = كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع الحديث) (1).
وقال الإمام أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبى، فى كتاب = فهم السنن =:
= كتابة القرآن ليست محدثة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا فى الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت فى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء =.
وقال محمد بن إسحاق فى = الفهرست =: = وكان القرآن مكتوبا بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اللخاف والعسب وأكتاف الإبل = (2). روى العياشى من كبار محدثى الإمامية فى تفسيره قال على كرم الله وجهه: = إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانى إذا واريته فى حفرته،
__________
(1) الإتقان ج 1ص 168. ابن عطية المحرر الوجيز ج 1ص 53، 54، والزركشى. البرهان فى علوم القرآن ج 1ص 236 238وابن النديم. الفهرست ص 41.
(2) الفهرست ص 41.(1/129)
أن لا أخرج من بيتى حتى أؤلف كتاب الله (أى أجمعه) فإنه فى جرائد النخل، وفى أكتاف الإبل = (1).
وروى على بن إبراهيم القمى، من ثقات محدثى الإمامية، فى تفسيره، عن أبى بكر الحضرمى، عن أبى عبد الله جعفر بن محمد رضى الله عنهم قال: = إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال لى = يا علي إنّ القرآن خلف فراشى، فى الصّحف، والحرير، والقراطيس، فخذوه واجمعوه، ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التّوراة =. وانطلق عليّ رضي الله عنه، فجمعه فى ثوب أصفر، ثم ختم عليه =.
والروايات كثيرة فى أن وضع الآيات فى مواضعها فى القرآن كان بأمره صلى الله عليه وسلم، وأنها بتوقيفه صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الروايات ما يدل على أن آيات القرآن كتبت بين يديه وبأمره صلى الله عليه وسلم (2).
ومن هذا كله يتبين أن القرآن بأكمله قد كتب بأمر النبى صلى الله عليه وسلم، وبحضرته وظل مكتوبا حتى جاء أبو بكر فجمعه الجمع الأول من المواد المذكورة المتفرقة إلى الصحف ثم جاء عثمان فجمعه الجمع الثانى فى المصحف الأم كما سنبينه. ولم يجمعه النبى صلى الله عليه وسلم فى كتاب له دفتان، لأن الوحى كان لا يزال ينزل عليه بل إن فى جمع الصحابة للقرآن دليل على أنه كان مكتوبا على المواد التى ذكرناها سابقا وإلا لما كان لجمعهم معنى، إذ أن كلمة = جمع = فى حد ذاتها تعنى تجميع الأشياء المتفرقة وحصرها، ووضعها فى مكان واحد، أو نظمها فى سلك بعينه. وهذا ما تؤيده أحاديث جمع القرآن بصفة عامة، وتتواتر عليه الأدلة الكثيرة وأولها وأعلاها جميعا دليل القرآن فقد تضمن القرآن الوعد الإلهى بحفظ هذا الكتاب: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (الحجر: 9)، {لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42)، {إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}
(القيامة: 17).
واستشهاد المعارض بآية سورة البقرة {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهََا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهََا أَوْ مِثْلِهََا} (البقرة: 106) على حدوث تغيير فى القرآن، ضرب من التعميم والتعمية فى آن واحد، فالآية أولا تسند عملية النسخ إلى الله تعالى، لا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإذن فلا دخل له صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الزنجانى. تاريخ القرآن ص 19والزركشى. البرهان ج 1ص 238.
(2) انظر: أبو عبد الله الزنجانى. تاريخ القرآن. ص ص 5150.(1/130)
فى النسخ، أو الإنساء، كما لم يكن له دخل فى الوحى والتنزيل وهذا واضح فى الآية، إذ المتحدث هو الله، ويظاهر هذا المعنى ويؤكده ما أورده الله تعالى على لسان النبى صلى الله عليه وسلم فى القرآن: {وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُنََا بَيِّنََاتٍ قََالَ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هََذََا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مََا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقََاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلََّا مََا يُوحى ََ إِلَيَّ إِنِّي أَخََافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذََابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلََا أَدْرََاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلََا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيََاتِهِ إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} (17) (يونس: 15: 17).
فى هذا الموضع لما طلب الكفار من رسول الله أن يأتيهم بقرآن غير هذا القرآن الذى جاءهم به، أو يبدله، ويعدله، ليوافق هواهم، ويصادف رضاهم فى غير الحق، أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم إنه ليس له أن يتدخل، على أى نحو من الأنحاء، فى القرآن بل إنه متبع لما يوحى إليه ومبلغ له. وقول الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: = ما يكون لى أن أبدّله من تلقاىء نفسى = ما يوحى بأن إمكان تبديل القرآن إنما هو لله تعالى، وليس لمحمد صلى الله عليه وسلم وفى هذا تأكيد للمعنى الذى قلناه، بعبارة أخرى أن النسخ فى القرآن لله تعالى، وهو يختلف عن التحريف تماما، فالتحريف من فعل البشر، وتقحمهم على كلام الله عز وجل، والقرآن بهذا ينفى التبديل عن القرآن: {وَلََا مُبَدِّلَ لِكَلِمََاتِ اللََّهِ وَلَقَدْ جََاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (34) (الأنعام: 34)، ثم إن النسخ لا يخرج عن أن يكون نسخا لمأمور به، بمأمور به آخر، فأبدل أحدهما مكان الآخر، وكلاهما كلام الله تبارك وتعالى وحكمه (1).
والجمهور على أن النسخ يكون فى الأحكام، والأوامر، والنواهى، والأخبار التى تتضمن ذلك والنسخ يجيء بالرحمة، والتدرج بالعباد فى التكاليف، ومراعاة أحوالهم، فربما أنزل الله حكما ما، يصلح للجماعة المخاطبة به وقت التنزيل، ثم يرفعه الله تعالى بعد ذلك لعدم الحاجة إليه فالله تعالى مثلا يجرى اللبن فى ثدى الأم، ليغذى وليدها، فإذا كبر الولد، وصار مستغنيا عن لبن أمه، رفع الله هذا اللبن وهكذا. ونقطة أخرى مهمة ينبغى معرفتها، وهى أن النسخ واقع فى الموحى به، وليس فى المثبت فى أم الكتاب، والناسخ وهو
__________
(1) انظر: المحاسبى. العقل وفهم القرآن. تحقيق حسين القوتلى بيروت. دار الكندى ودار الفكر 1402هـ 1982م ص 65، ص 243.(1/131)
الله تعالى قد راعى الظروف والأحوال والحاجات بالنسبة للمكلفين، كما راعاها فى تنزيل القرآن منجما. وقد نسخ تعالى كذلك أحكاما وتكاليف كانت على أمم سابقة، وذلك من باب التخفيف على المسلمين.
والناسخ والمنسوخ فى القرآن يعتبر من موضوعات القرآن ومن تعاليمه سبحانه وتعالى والإيمان به واجب، كالإيمان بثبوت الأحكام القرآنية وثباتها، وبأن كل آية فى القرآن هى من كلام الله تعالى.
إن ما يشتمل عليه عليه القرآن من ناسخ ومنسوخ معروف لأهل العلم من المسلمين وهو قليل فى كتاب الله. وقد ارتبط النسخ بوقت تنزل القرآن، أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فغير جائز على الإطلاق (1)، ومن تحققت معرفته بالنسخ علم أن غالب ما وقع فى القرآن من المنسأ، وأن من هذا النسخ ما يرجع لبيان الحكم المجمل، أخّر بيانه لوقت الحاجة أو هو خطاب واحد توسطه خطاب آخر غيره أو هو خصوص من عموم أو حكم عام لخاص أو لمداخلة معنى فى معنى. وينبغى أن تعلم أن أنواع الخطاب فى القرآن كثيرة ومتنوعة، وربما خلط بعض الناس فى فهم النسخ، ونوع الخطاب، مقدرا من الأول ما هو من الأخير (2).
ومن المفيد أن نلفت النظر إلى ما فى قوله تعالى: {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهََا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهََا أَوْ مِثْلِهََا} من سرّ ينبغى ملاحظته، وهو أن الله تعالى لم يقل = ما ننسخ من القرآن = لأن القرآن لا ينسخ، وإنما ينسخ حكم فى آية بحكم آخر ما، وكلا الحكمين يشملهما كلامه عزّ وجل، كما أشرنا إليه فيما سبق. والقرآن ناسخ لما سبقه من كتب، ومهيمن عليها، وهو خاتمها ولا يأتى بعده ناسخ له أبدا.
والنسخ ثابت بالقرآن، كما فى الآية السابقة، وكما فى قوله تعالى: {وَإِذََا بَدَّلْنََا آيَةً مَكََانَ آيَةٍ وَاللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا يُنَزِّلُ} (النحل: 101). والعلم بالناسخ والمنسوخ واجب على كل مفسر وعالم بكتاب الله متصدر للفتوى ولا يجوز لأحد أن يفسر القرآن، أو أن يفتى إلا بعد أن يلم بهذا العلم. وقد قال الإمام على كرم الله وجهه لأحد القصّاص: = أتعرف الناسخ والمنسوخ = قال: = الله أعلم =، قال: = هلكت وأهلكت = (3).
__________
(1) انظر: البرهان 2/ 40.
(2) المصدر نفسه 2/ 43، 44.
(3) البرهان 2/ 28، 29.(1/132)
والكلام فى الناسخ والمنسوخ جد واسع ومتشعب وقد صنّف فيه جماعة من أهل العلم عظيمة (1). والنسخ بعلم الله تعالى الكلي، وليس فيه بداء، ولا هو فيه دليل على نقص علمه سبحانه وتعالى والمعترضون على النسخ من أهل الأديان، كاليهود والنصارى، لا يمكن أن يدللوا على استحالته عقليا بطريقة حاسمة. وأضف إلى ذلك أن كتبهم تحمل أدلة كثيرة على جواز النسخ وقد رد عليهم وناقشهم بعض أئمة المسلمين كابن حزم الأندلسى (2)، والشهرستانى (3)، وغيرهم والمقام لا يتسع للدخول فى محيط هذا الموضوع الواسع، وفيما سقناه كفاية.
ودعوى شخت وجولدزيهر بأن القول بالنسخ إنما استحدثه المتأخرون من الفقهاء، لإيجاد حلول لمشكلات ومعضلات فقهية، فقول جدّ مبتور وقد بيّنّا أن رأى الجمهور، بل الإجماع، على جواز وقوع النسخ فى الأحكام.
قصة الغرانيق
أشار الكاتب إلى قوله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلََا نَبِيٍّ إِلََّا إِذََا تَمَنََّى أَلْقَى الشَّيْطََانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللََّهُ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللََّهُ آيََاتِهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقََاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظََّالِمِينَ لَفِي شِقََاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللََّهَ لَهََادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (54) (الحج 52: 54).
وأشار أيضا إلى حكاية الغرانيق (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى)، وقال: إن هذه الآيات الخاصة بالغرانيق تعتبر موضع تسليم من الكتّاب الغربيين، الذين رأوا فيها دلائل تاريخية تبعدها عن أن تكون وضعية أو ملفقة. ولكن ويلش على الرغم من هذا يعتبر القصة ملفقة، وهى فى نظره من اختراع المفسرين، الذين ولدوها لتأييد نظريتهم فى القول بالناسخ والمنسوخ.
__________
(1) المصدر نفسه والموضع، والفهرست ص 56. والإمام الغزالي. المستصفى من علم الأصول. ت: إبراهيم محمد رمضان بيروت دار الأرقم ج 1، ص 317وما بعدها.
(2) انظر: كتابه الفصل فى الملل والنحل القاهرة، ط. صبيح الجزءين الأول والثاني، وكذلك رسالته فى = الرد على ابن النغريلة اليهودى = ط. القاهرة بتحقيق عباس إحسان.
(3) انظر: الشهرستانى الملل والنحل بهامش كتاب الفصل السابق، وانظر أيضا، السيوطى، الإتقان ج 1ص 7759.(1/133)
ويرى الكاتب أن الآيات (1: 20) من سورة النجم، والتى قبل إن فقرة الغرانيق تخللتها، والآيات الأخيرة من هذه السورة، لا تمثل وحدة واحدة كما تصور القصة، ثم إن آية السجدة التى يقال إنه صلى الله عليه وسلم سجد عندها، وسجد معه المسلمون والمشركون، متباعدة فى الذكر ولا تبعد أن تكون نزلت فى المدينة وليس فى مكة.
وفى هذه القرينة نشير إلى المستشرق = كيتى = حيث يرفض حكاية الغرانيق لضعف إسنادها. أما برتون، فيرى أنها من تلفيقات الفقهاء، كما أشرنا إليه من قبل ولكى يتضح خطأ المستشرقين بجلاء نذكر ما أورده المفسرون فى سبب نزول الآية قالوا إن النبى صلى الله عليه وسلم، وكان فى رمضان فى السنة الخامسة لنزول الوحى، لما رأى إعراض قومه عنه، وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به، تمنى فى نفسه أن يأتيهم من الله ما يقارب بينه وبين قومه، وذلك لحرصه صلى الله عليه وسلم على إيمانهم فجلس ذات يوم فى ناد من أندية قريش، كثير أهله، وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شىء ينفرهم منه، وتمنى ذلك فأنزل الله تعالى سورة النجم، حتى بلغ قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللََّاتَ وَالْعُزََّى (19) وَمَنََاةَ الثََّالِثَةَ الْأُخْرى ََ} (20) ألقى الشيطان على لسانه = تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى = فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قراءته، فقرأ السورة كلها فسجد وسجد المسلمون لسجوده وسجد جميع من فى المسجد من المشركين، فلم يبق فى المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد سوى الوليد بن المغيرة، وأبى أحيحة سعيد بن العاص إذ أخذ كل منهما حفنة من التراب من البطحاء، ورفعاها إلى جبهتيهما، وسجدا عليها، وذلك لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود. وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا من محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام فقال له: =ماذا صنعت، تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، وقلت ما لم أقل =، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا، وخاف من الله خوفا عظيما، حتى نزل قوله: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلََا نَبِيٍّ إِلََّا إِذََا تَمَنََّى أَلْقَى الشَّيْطََانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللََّهُ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللََّهُ آيََاتِهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (52) (الحج: 52).
بعد أن ساق ابن كثير هذه الرواية علق عليها بقوله: = هذه رواية عامة المفسرين الظاهريين، أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة، واحتجوا على ذلك بالقرآن والسنة وبالمعقول أما من القرآن فقول الله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنََا بَعْضَ الْأَقََاوِيلِ (44) لَأَخَذْنََا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنََا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمََا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حََاجِزِينَ} (47) (الحاقة: 44: 47). وبقوله تعالى: {قُلْ مََا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقََاءِ نَفْسِي}
(يونس: 15)، وقوله: {وَمََا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ََ} (3) (النجم: 3)، ومضمون هذه الآيات كلها، ينافى ما حمّله بعض المفسرين المتعجلين على سورة النجم بسبب دعوى الغرانيق. ولو كان النبى صلى الله عليه وسلم قد قرأ عقيب آية سورة النجم، هذه الكلمات المفتراة = تلك الغرانيق = لكان قد ظهر كذب الله تعالى فى الحال (1) تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.(1/134)
وفى هذه القرينة نشير إلى المستشرق = كيتى = حيث يرفض حكاية الغرانيق لضعف إسنادها. أما برتون، فيرى أنها من تلفيقات الفقهاء، كما أشرنا إليه من قبل ولكى يتضح خطأ المستشرقين بجلاء نذكر ما أورده المفسرون فى سبب نزول الآية قالوا إن النبى صلى الله عليه وسلم، وكان فى رمضان فى السنة الخامسة لنزول الوحى، لما رأى إعراض قومه عنه، وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به، تمنى فى نفسه أن يأتيهم من الله ما يقارب بينه وبين قومه، وذلك لحرصه صلى الله عليه وسلم على إيمانهم فجلس ذات يوم فى ناد من أندية قريش، كثير أهله، وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شىء ينفرهم منه، وتمنى ذلك فأنزل الله تعالى سورة النجم، حتى بلغ قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللََّاتَ وَالْعُزََّى (19) وَمَنََاةَ الثََّالِثَةَ الْأُخْرى ََ} (20) ألقى الشيطان على لسانه = تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى = فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قراءته، فقرأ السورة كلها فسجد وسجد المسلمون لسجوده وسجد جميع من فى المسجد من المشركين، فلم يبق فى المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد سوى الوليد بن المغيرة، وأبى أحيحة سعيد بن العاص إذ أخذ كل منهما حفنة من التراب من البطحاء، ورفعاها إلى جبهتيهما، وسجدا عليها، وذلك لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود. وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا من محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام فقال له: =ماذا صنعت، تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، وقلت ما لم أقل =، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا، وخاف من الله خوفا عظيما، حتى نزل قوله: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلََا نَبِيٍّ إِلََّا إِذََا تَمَنََّى أَلْقَى الشَّيْطََانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللََّهُ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللََّهُ آيََاتِهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (52) (الحج: 52).
بعد أن ساق ابن كثير هذه الرواية علق عليها بقوله: = هذه رواية عامة المفسرين الظاهريين، أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة، واحتجوا على ذلك بالقرآن والسنة وبالمعقول أما من القرآن فقول الله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنََا بَعْضَ الْأَقََاوِيلِ (44) لَأَخَذْنََا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنََا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمََا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حََاجِزِينَ} (47) (الحاقة: 44: 47). وبقوله تعالى: {قُلْ مََا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقََاءِ نَفْسِي}
(يونس: 15)، وقوله: {وَمََا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ََ} (3) (النجم: 3)، ومضمون هذه الآيات كلها، ينافى ما حمّله بعض المفسرين المتعجلين على سورة النجم بسبب دعوى الغرانيق. ولو كان النبى صلى الله عليه وسلم قد قرأ عقيب آية سورة النجم، هذه الكلمات المفتراة = تلك الغرانيق = لكان قد ظهر كذب الله تعالى فى الحال (1) تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
هذه القصة نقلها المؤرخون وكتّاب السيرة، واشتملت عليها كتب التفاسير، وتلقفها المستشرقون فيما بعد وكأنها = الدنميت = الذى سيفجرون به القرآن وللأسف نجد من المسلمين من يجزم بصحتها غافلا عمّا فيها من معارضة لقانون الوحي ولعصمة جميع الأنبياء.
ومن المهم أن نعرف أن حديث الغرانيق حديث منكر من جهة الرواية، ومن جهة الدراية لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة الصحيحة، ولا رواة ثقة بسند سليم متصل بل رواه جماعة بأسانيد ضعيفة واهية مقطوعة أو موضوعة، لا أصل لها، = وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم = (2)
وكان ينبغي أن يعرف هؤلاء المفسرون أن الاستدلال على امتناع تدخل الشيطان فى قراءة النبى صلى الله عليه وسلم أولى من محاولة تثبيت الرواية المتهافتة، والله تعالى يقول: {وَمََا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطََانٍ رَجِيمٍ} (25) (التكوير: 25) ويقول: {وَمََا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيََاطِينُ (210) وَمََا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمََا}
__________
(1) انظر: الفخر الرازى. مفاتيح الغيب تفسير سورة النجم. وإسماعيل حقى. روح البيان. بيروت دار إحياء التراث العربى 19851405م ج 6ص 49، وج 12ص 5، 51.
(2) انظر: القاضي عياض. الشفا ج 2ص 293289.(1/135)
{يَسْتَطِيعُونَ} (211) (الشعراء: 211210)، ويقول: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى ََ مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيََاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى ََ كُلِّ أَفََّاكٍ أَثِيمٍ} (222) (الشعراء: 222221).
إن القول بصحة خبر الغرانيق ينافى حفظ الله تعالى للقرآن وللنبى صلى الله عليه وسلم: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (9) (الحجر: 9)، والعجيب أن يقع هذا الإلقاء الشيطانى فى شهر رمضان، الذى تصفد فيه الشياطين، وفيه كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقى كثيرا بجبريل عليه السلام يدارسه القرآن.
والأعجب من ذلك أن الله تعالى ينفى فى سورة النجم الكذب والضلالة عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقسم على صدقه فيما بلغ عنه بالنجم إذا هوى، أى باختلال النظام الكونى المحكم كله وأن القرآن وحي أوحاه الله تعالى إليه. ثم يشير المستشرق بعد ذلك، وهذا مهم جدا، إلى حادثة المعراج وبالتضمين إلى حادثة الإسراء أيضا.
إنه حسب رواية المفسرين، التى اعتمد عليها المستشرقون، فإن حكاية الغرانيق قد وقعت فى السنة الخامسة من البعثة النبوية، مع أن السورة تتحدث عن معجزة الإسراء والمعراج، التى وقعت قبل ذلك، أي قبل الهجرة بعام وبالتالى يكون زعم المستشرق موير () وأمثاله، المبنيّ على الروايات الضعيفة، بأن المهاجرين إلى الحبشة قد عادوا إلى مكة عند ما سمعوا بالمصالحة بين محمد صلى الله عليه وسلم وكفار قريش، زعما لا أساس له وحتى لو كان تاريخ وضع هذه الحكاية الملفقة متزامنا مع عودة المسلمين المهاجرين من الحبشة، لما صلح ذلك أن يكون سببا فى حد ذاته لعودتهم من الحبشة وذلك لأن الروايات على اختلافها وهجنتها، تقول بأن فترة المصالحة المزعومة كانت قصيرة، عاد بعدها الموقف على ما هو عليه بين النبى صلى الله عليه وسلم والكفار وما كان للأخبار فى مقدور هذا الزمان أن تصل بهذه السرعة من مكة إلى الحبشة وما كان للمسلمين المهاجرين أن يعودوا قبل أن يتحققوا من صحتها وسلامتها قبل عودتهم وكيف بالله يصدقون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تصالح مع قريش على حساب الدّين، الذى خرجوا بسببه عن الأوطان والأهل والديار، بعد أن عذّبوا وأوذوا فى سبيل الله تعالى! الحقيقة أنهم عادوا عند ما سمعوا بإسلام عمر بن الخطاب وإعلانه بالتحدي لقريش واستمراره فى هذا التحدى. هذا هو الواقع وهذا هو الشيء المعقول والمقبول. ثم كيف يتمنى الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا ينزل الله عليه شيئا يفرق بينه وبين قومه
الكافرين بالله متى اجتمع بهم رسول صلى الله عليه وسلم، ومتى هادنهم، وهو الذى صك أسماعهم، وصدع فيهم بأمر الله تعالى، وهو القائل لعمه أبى طالب (يا عم، والله لو وضعوا الشمس فى يميني والقمر فى يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله، أو أهلك دونه) (1).(1/136)
إنه حسب رواية المفسرين، التى اعتمد عليها المستشرقون، فإن حكاية الغرانيق قد وقعت فى السنة الخامسة من البعثة النبوية، مع أن السورة تتحدث عن معجزة الإسراء والمعراج، التى وقعت قبل ذلك، أي قبل الهجرة بعام وبالتالى يكون زعم المستشرق موير () وأمثاله، المبنيّ على الروايات الضعيفة، بأن المهاجرين إلى الحبشة قد عادوا إلى مكة عند ما سمعوا بالمصالحة بين محمد صلى الله عليه وسلم وكفار قريش، زعما لا أساس له وحتى لو كان تاريخ وضع هذه الحكاية الملفقة متزامنا مع عودة المسلمين المهاجرين من الحبشة، لما صلح ذلك أن يكون سببا فى حد ذاته لعودتهم من الحبشة وذلك لأن الروايات على اختلافها وهجنتها، تقول بأن فترة المصالحة المزعومة كانت قصيرة، عاد بعدها الموقف على ما هو عليه بين النبى صلى الله عليه وسلم والكفار وما كان للأخبار فى مقدور هذا الزمان أن تصل بهذه السرعة من مكة إلى الحبشة وما كان للمسلمين المهاجرين أن يعودوا قبل أن يتحققوا من صحتها وسلامتها قبل عودتهم وكيف بالله يصدقون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تصالح مع قريش على حساب الدّين، الذى خرجوا بسببه عن الأوطان والأهل والديار، بعد أن عذّبوا وأوذوا فى سبيل الله تعالى! الحقيقة أنهم عادوا عند ما سمعوا بإسلام عمر بن الخطاب وإعلانه بالتحدي لقريش واستمراره فى هذا التحدى. هذا هو الواقع وهذا هو الشيء المعقول والمقبول. ثم كيف يتمنى الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا ينزل الله عليه شيئا يفرق بينه وبين قومه
الكافرين بالله متى اجتمع بهم رسول صلى الله عليه وسلم، ومتى هادنهم، وهو الذى صك أسماعهم، وصدع فيهم بأمر الله تعالى، وهو القائل لعمه أبى طالب (يا عم، والله لو وضعوا الشمس فى يميني والقمر فى يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله، أو أهلك دونه) (1).
= وقد ثبتت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله تعالى وهو كفر، أو يسور (يتسلط) عليه الشيطان ويشبّه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبى صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل عليه السلام، وذلك ممتنع فى حقه صلى الله عليه وسلم أو يقول النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا، وذلك كفر أو سهوا، وهو معصوم من هذا كله واستحالة جريان الكفر على قلب النبى صلى الله عليه وسلم أو لسانه لا عمدا، ولا سهوا أو أن يتشبه عليه ما يلقيه الملك مما يلقى الشيطان أو يكون للشيطان عليه سبيل أو أن يتقوّل على الله تعالى عمدا، ولا سهوا ما لم ينزل عليه = (2)
ناهيك بما فى الحكاية من تكلف فى المواقف واختلاف العبارات وغرابة فجميع المشركين يسجدون إلا اثنين منهما، يقبضان حفنة من تراب، ويسجدان عليها لضعفهما، مع أن السّجدة جاءت فى آخر السورة، وهم لا علم لهم بالسجود، وما كان لهم ليقلدوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما لا يعلمون، وأن يغيروا خطتهم هكذا سريعا لمجرد سماع بعض كلمات غير مفهومة تفصيلا وهو أمر يثقل على النفوس، وبخاصة النفوس الموقرة بالحقد والغيظ ومصادم كذلك لأحكام الطبائع والنفوس، وبخاصة العربية الجاهلية منها.
أضف إلى ذلك أن الحديث جدّ مشكل، وليس له فى الصحاح أصل ولا فرع، ولم يروه ثقة بسند متصل وإنما أولع به المفسرون والمؤرخون، المتيمون بكل غريب، المفتنون بكل سقيم وصحيح دون تمييز كما أوضحناه. إن هذا الدين قد ابتلى بأهل الأهواء، والملاحدة، والزنادقة الذين حاولوا أن يصلوا إلى تحريف القرآن وهيهات. ذكر القاضى عياض قول أبى بكر البزار أن هذا الحديث لم يرو عن النبى صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل وإنما عرف
__________
(1) ابن هشام سيرة ج 1ص 240.
(2) الشفا ج 2ص 294293(1/137)
عن الكلبى والكلبىّ ممن لا تجوز الرواية عنهم. وقد أجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم (1).
وسئل محمد بن إسحاق عن هذه القصة فقال هى من وضع الزنادقة وقد صنف فيها كتابا. وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى إن هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، وطعن فى روايتها.
وللإمام الرازي نظرات متعمقة ومستوعبة لشعاب هذه المسألة ذكرها في تفسيره = مفاتيح الغيب = في سياق تفسيره لقوله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلََا نَبِيٍّ إِلََّا إِذََا تَمَنََّى أَلْقَى الشَّيْطََانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآيات (الحج: 52: 54). (2)
وروى البخارى فى صحيحه أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن، ولم يذكر فيها حكاية الغرانيق. وروى هذا الحديث من عدة طرق وليس فيه ذكر الغرانيق.
وإن كنا نتردد فى قبول إمكان سجود المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى يقول: {فَمََا لَهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذََا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لََا يَسْجُدُونَ} (21) (الانشقاق: 2120). ويضيف القاضى عياض أن هذه القصة تستحيل نظرا وعرفا لأن الكلام لو صحت روايته لكان بعيد الالتئام متناقضا يمتزج فيه المدح بالذم، ضعيف النظم، مخلخل التركيب، ولما كان النبى صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين، وصناديد (شجعان) المشركين من يخفى عليه ذلك وهذا لا يخفى على أدنى متأمل، فكيف بمن رجح حكمه واتسع فى باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه!! ويضيف القاضى عياض دليلا عقليا وتاريخيا على ضعف القصة ووضعها السقيم أنه من عادة المنافقين ومعاندى المشركين، وضعفة القلوب، والجهلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل حادثة، وتعييرهم للمسلمين والشماتة بهم، الفينة بعد الفينة وارتد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة ولم يحك أنّ أحدا ارتد بعد تحت تأثير هذه الحكاية الضعيفة ولو صح وقوع هذه الحكاية لوجدت
__________
(1) انظر: القاضى عياض الشفا ج 2، ص 292291. وعبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبى. تفسير الثعالبى الموسوم بالجواهر فى تفسير القرآن. بيروت. مؤسسة الأعلمى للمطبوعات. بدون تاريخ. ج 3ص 84، 85.
(2) انظر الفخر الرازي. مفاتيح الغيب ج 7، ص 298وما بعدها. دار الغد / القاهرة 1999م(1/138)
قريش بها على المسلمين الصولة (القهر)، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا مكابرة فى قصة الإسراء حتى أن بعض ضعاف المسلمين ارتدوا.
وما جاءت به رواية الغرانيق الضعيفة يعدّ أشد وقعا وأثخن إيلاما لنفوس المؤمنين، فضلا على نفوس الضعاف المتشككين من حادثة الإسراء، ومع ذلك فإنه لم يرد فى هذه الرواية ما ورد فى رواية الإسراء أن أحدا ارتد. (1)
وقال ابن العربى (543468هـ) = إنه لو جاز للشيطان أن يتمثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، صورة أو صوتا، ما أمناه على آية، ولا عرفنا منه باطلا من حق. وإن الله قد عصم نبيه من الكفر والشرك فكيف يجريه الشيطان على لسانه = (2). ونقول بالإضافة إلى هذا الكلام، كيف يجهل النبى صلى الله عليه وسلم صوت جبريل، أو يشتبه عليه صوته بغيره، وبخاصة فى شهر رمضان حيث كان جبريل يعارضه بالقرآن مرتين وقد سمعه النبى صلى الله عليه وسلم مرارا وتكرارا. ثم كيف يتصور عاقل أن النبى صلى الله عليه وسلم يؤثر وصل قومه على وصل ربه. ومن الجدير بالذكر أن نعرف أن النص الموضوع نفسه يحمل الدليل على بطلانه إذ أنه روى بعدة أشكال مختلفة وهى على النحو التالى:
1= تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى =.
2= تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى ويروى لترتضى. (3)
3= الغرانيق العلى إن شفاعتهن ترتجى =.
4= إن شفاعتهن ترتجى = (بدون لفظة الغرانيق).
5= إنها لهى الغرانيق العلى =.
6= وإنهن لهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لهى التى ترتجى =.
__________
(1) الشفا ج 2ص 295294
(2) أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربى. أحكام القرآن. تحقيق محمد على البجاوى. بيروت. دار المعرفة، ودار الجيل 1407هـ / 1987م ج 2ص 1299وما بعدها.
(3) الشفا ج 2ص 298288.(1/139)
وهناك أشكال أخرى لهذه الكلمات المزعومة تغنى عنها هذه الستة وهذا الاختلاف فى رسم هذه العبارات المعدودة والمحدودة، لأكبر دليل على وضع هذه الحكاية.
وأخيرا نسأل أين هو حتى اسم = الغرانيق =، فيما يعرف من = أدب الفترة =، أو = الأدب الجاهلى =، شعره ونثره إن الكلمة لا وجود لها فى شعر العرب. ولا يعرف البتّة أن العرب سمّت آلهتها بهذا الاسم الغريب، كما لاحظ بحق الشيخ محمد عبده ولم يعرف أن العرب سمت الملائكة بالغرانيق كما زعم ابن الكلبى فى روايته الضعيفة المردودة، ولا يمكن أن يخاطب القرآن العرب بكلام غريب عليهم، وبخاصة ما يتصل بأكبر قضاياهم، وهى قضية الوثنية. يتبين من كل هذا أن حكاية الغرانيق مدسوسة على التفسير وعلى المحدثين، وهى من وضع زنديق مدلس عدو للدين والأنبياء. يقول القاضى عياض: = ولا شك فى إدخال بعض شياطين الإنس أو الجن هذا الحديث على بعض مغفّلى المحدثين ليلبس به على ضعفاء المسلمين = (1) وللأسف فقد تلقفها بعض المفسرين وبعض المحدثين وبعض من ينتسبون إلى العلم وجعل يتحايل على تأويلها وإثباتها والتوفيق بينها وبين الآيات، والأحاديث الواردة حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم فأساء بذلك إلى الدين وفتح بابا للملحدين أن يشككوا فى صحة القرآن وسلامة الإسلام. ومن هؤلاء ابن حجر العسقلاني حيث إنه قد دافع عنها وفند آراء القائلين ببطلانها وضعف آراءهم، وعضّد الروايات الواردة بها (2).
__________
(1) الشفا ج 2ص 295.
(2) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري ج 8، ص 439، 441440، دار المعرفة بيروت 1960م.(1/140)
الباب الثالث تاريخ القرآن بعد سنة 632م
تمهيد الفصل الأول جمع القرآن الفصل الثانى القراءات المتنوعة ومصاحف الصحابة الفصل الثالث كتابة = المصحف الإمام = واعتماد القراءات(1/141)
تمهيد الفصل الأول جمع القرآن الفصل الثانى القراءات المتنوعة ومصاحف الصحابة الفصل الثالث كتابة = المصحف الإمام = واعتماد القراءات
تمهيد
مرّ بنا أن القرآن كان محفوظا فى الصدور والسطور فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم، وكان النبى يأمر بحفظه وتلاوته ويبشر بالأجر الجزيل عليه وقد اتخذ صلى الله عليه وسلم كل الوسائل الممكنة لضبط القرآن وحفظه، فاتخذ عددا كبيرا من كتّاب الوحى، ونهى المسلمين عن أن يكتبوا شيئا غير القرآن، حتى لا يختلط القرآن بغيره، أو يصيبه تحريف ما، على أى نحو من الأنحاء. والأدلة على كتابة القرآن، والعناية به، كثيرة فى القرآن، وفى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى شواهد تاريخ الدعوة.
مهّد المستشرق بكلمة قبل الدخول فى تفاصيل الموضوع فقال: = إن تاريخ جمع القرآن بعد وفاة محمد، لا يزال غير واضح (طبعا بالنسبة له). وإن إعداد النسخة الرسمية أو القانونية للقرآن، قد مرّ بثلاث مراحل عبر تطورها، يصعب وضع تاريخ محدد لكل مرحلة منها. وإن الاعتقاد السائد بين المسلمين، هو أن القرآن كان محفوظا، بطريقة شفهية، ثم كتب أثناء حياة النبى صلوات الله وسلامه عليه، أو بعد موته بقليل، عند ما جمع ورتّب لأول مرة بواسطة الصحابة، ثم ظهرت النسخة الإمام أو المصحف الإمام فى عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه = يقول ويلش: = إن معظم المستشرقين يقبلون النقاط الأساسية لما يقوله المسلمون حول جمع القرآن ولكن يوجد الآن مشكلات أخرى تعترض وجهة النظر الإسلامية، هذا، بالإضافة إلى الصعوبات المعتادة فى تقييم المصادر الإسلامية، والتى نظمها علم مصطلح الحديث. ومن جانبنا فإننا نلاحظ أن مهمة إعادة كتابة تاريخ القرآن ليست سهلة بل هى أكثر تعقيدا فى الحقيقة، وذلك لأن المصادر القديمة تحتوى على آلاف من الأشكال النّصّية المختلفة، والتى لا توجد فى أي مخطوط يعرفه المستشرقون =.
ثم يقول: = إن المسلمين المتأخرين، باستثناء القليل منهم، قد أظهروا اهتماما يسيرا بمشكلة إعادة كتابة تاريخ المصحف =. واعتبر الكاتب أن أهم المصادر الغربية فى دراسة هذا الموضوع هو كتاب نولدكه (). وبخاصة الجزء الثانى منه (1919)، والذى حققه ونقحه إف. اسكواللى، والجزء الثالث (1938)، والذى حققه ونقحه ج. برجستراسر وبرتزل) ((1)(1/143)
مهّد المستشرق بكلمة قبل الدخول فى تفاصيل الموضوع فقال: = إن تاريخ جمع القرآن بعد وفاة محمد، لا يزال غير واضح (طبعا بالنسبة له). وإن إعداد النسخة الرسمية أو القانونية للقرآن، قد مرّ بثلاث مراحل عبر تطورها، يصعب وضع تاريخ محدد لكل مرحلة منها. وإن الاعتقاد السائد بين المسلمين، هو أن القرآن كان محفوظا، بطريقة شفهية، ثم كتب أثناء حياة النبى صلوات الله وسلامه عليه، أو بعد موته بقليل، عند ما جمع ورتّب لأول مرة بواسطة الصحابة، ثم ظهرت النسخة الإمام أو المصحف الإمام فى عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه = يقول ويلش: = إن معظم المستشرقين يقبلون النقاط الأساسية لما يقوله المسلمون حول جمع القرآن ولكن يوجد الآن مشكلات أخرى تعترض وجهة النظر الإسلامية، هذا، بالإضافة إلى الصعوبات المعتادة فى تقييم المصادر الإسلامية، والتى نظمها علم مصطلح الحديث. ومن جانبنا فإننا نلاحظ أن مهمة إعادة كتابة تاريخ القرآن ليست سهلة بل هى أكثر تعقيدا فى الحقيقة، وذلك لأن المصادر القديمة تحتوى على آلاف من الأشكال النّصّية المختلفة، والتى لا توجد فى أي مخطوط يعرفه المستشرقون =.
ثم يقول: = إن المسلمين المتأخرين، باستثناء القليل منهم، قد أظهروا اهتماما يسيرا بمشكلة إعادة كتابة تاريخ المصحف =. واعتبر الكاتب أن أهم المصادر الغربية فى دراسة هذا الموضوع هو كتاب نولدكه (). وبخاصة الجزء الثانى منه (1919)، والذى حققه ونقحه إف. اسكواللى، والجزء الثالث (1938)، والذى حققه ونقحه ج. برجستراسر وبرتزل) ((1)
__________
(1) انظر: دائرة المعارف ص 404عمود ب.(1/144)
الفصل الأول جمع القرآن
القرآن كتاب الله أنزله من عالم الغيب إلى عالم القلب، قلب جبريل عليه السلام فحفظه، ثم قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعاه وتثبت به، ثم قلب المؤمنين بعد أن طهرها الرحمن بالإيمان وهيأها لحفظه وإلى جانب القلوب الواعية حفظ الله تبارك وتعالى القرآن كتابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يكتب بأمره صلى الله عليه وسلم بأيدي الكتبة المؤمنين الذين اختارهم الله تعالى لكتابة وحيه على ما تسنّى من مواد آنذاك، وحفظها لتكون ظهيرا للقلوب والعقول التي كتب الله على صفحاتها آيات الذكر الحكيم، فصارت العناية بالنص القرآني مضاعفة، فقد سد بذلك جميع المنافذ في وجوه المحرفين المنحرفين عن منهج الله تعالى، المعادين لكلامه ورسله من أن تصل إليه أيديهم، أو تناله ألسنتهم بالتغيير أو التبديل أو بالإضافة والحذف، فالقرآن معصوم من ذلك إلى يوم القيامة.
ومن إعجاز القرآن كذلك عصمته من التحريف، وجمعه بهذه الطرق المختلفة حتى صار كتابا بين دفتين، وانتشرت منه الآلاف بل الملايين من النسخ بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، يقرأ من الألواح ومن الأرواح في لغته الأصلية اللغة العربية هذا على الرغم من أنه انتشر في بلاد كثيرة لا تتكلم العربية، فقد تحولت هذه الملايين التى تفوق الحصر إلى اللغة العربية تتعلمها من أجل القرآن، وحبّا فيه بل لقد حفظت القرآن فكان هو معينها على تعلمها ولقد حافظ المسلمون على كتاب ربهم حرصا منهم أن يصيبهم ما أصاب الكتب الإلهية السابقة من تحريف أو تصحيف، واستوى في الحفاظ على القرآن المسلم المعتاد والخليفة الآمر الناهي والرجل والمرأة، بل والطفل الغرير.
وسوف نتناول في هذا الفصل عملية جمع القرآن من المواد المفرقة حتى صار كتابا بين دفتين، مفنّدين في ذلك مزاعم المستشرقين ودعاوى العلمانيين من خصوم القرآن
إن أشهر الروايات أو = الحكايات =، كما يسميها المستشرق ويلش، التى تتحدث عن جمع القرآن فى كتاب رسمى، هى رواية البخارى التى تقرر أن أول جمع للقرآن كان فى عهد الخليفة الأول أبى بكر الصديق (634632)، يعنى أنها كتبت بعد سنتين من وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، وقبل أن نعرض وجهة نظر الكاتب فى هذه المسألة ونناقشه فيها، من الضرورى أن نورد أهم الروايات الخاصة بطريقة جمع القرآن (1).(1/145)
وسوف نتناول في هذا الفصل عملية جمع القرآن من المواد المفرقة حتى صار كتابا بين دفتين، مفنّدين في ذلك مزاعم المستشرقين ودعاوى العلمانيين من خصوم القرآن
إن أشهر الروايات أو = الحكايات =، كما يسميها المستشرق ويلش، التى تتحدث عن جمع القرآن فى كتاب رسمى، هى رواية البخارى التى تقرر أن أول جمع للقرآن كان فى عهد الخليفة الأول أبى بكر الصديق (634632)، يعنى أنها كتبت بعد سنتين من وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، وقبل أن نعرض وجهة نظر الكاتب فى هذه المسألة ونناقشه فيها، من الضرورى أن نورد أهم الروايات الخاصة بطريقة جمع القرآن (1).
من هذه الروايات الواردة فى طريقة جمع القرآن، كما فى = كتاب المصاحف = لابن أبى داود، وغيره هى تلك التي رواها عبد الله قال حدثنا عمرو بن على بن بحر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا إبراهيم بن سعد حدثنا الزهرى قال أخبرنى عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت حدثه، قال: أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، وكان عنده عمر، فقال:
إن هذا أتانى فقال إن القتل قد استحر بالقراء، وإنى أخشى أن يستحر القتل بالقرّاء فى سائر المواطن، فيذهب القرآن، وقد رأيت أن تجمعوه، فقلت لعمر كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر هو والله خير فلم يزل يراجعنى فى ذلك حتى شرح الله صدرى للذى شرح الله له صدره، ورأيت فيه الذى رأى فقال أبو بكر إنك شاب (أو رجل) عاقل، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نتّهمك، فاكتبه. قال فو الله لو كلفونى نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليّ منه، فقلت لهما كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر وعمر هو والله خير فلم يزل أبو بكر، وعمر يراجعاننى فى ذلك، حتى شرح الله صدرى للذى شرح له صدرهما، ورأيت فيه الذى رأيا فتتبعت القرآن أنسخه من الصحف والعسب واللخاف وصدور الرجال، حتى فقدت آية كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها: {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}
(التوبة: 128) فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت فأثبتّها فى سورتها. (قال أبو داود: اللخف الحجارة الرقاق) (2).
حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني بن السباق ثم أن زيد بن
__________
(1) البخارى فضائل القرآن، باب 3، ابن حجر فتح البارى 9/ 9.
(2) ص 6، 7. وانظر أيضا السيوطى = الإتقان = 1/ 166165(1/146)
ثابت الأنصاري رضي الله عنه وكان ممن يكتب الوحي قال أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه وإني لأرى أن تجمع القرآن قال أبو بكر قلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر هو والله خير فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري ورأيت الذي رأى عمر قال زيد بن ثابت وعمر عنده جالس لا يتكلم فقال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فو الله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر هو والله خير فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره: {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (129) (1)، وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن ثم أبي بكر حتى توفاه الله ثم عمر حتى توفاه الله ثم حفصة بنت عمر.
حدثنا عبد الله قال حدثنا على بن حرب قال حدثنا جعفر بن عون عن إبراهيم ابن إسماعيل الأنصارى عن الزهرى عن عبيد بن السباق عن زيد بن ثابت قال دعانى أبو بكر فقال إنك رجل شاب كنت تكتب الوحى بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم اجمع القرآن فاكتبه فو الله لو كلفونى نقل الجبال كان أيسر على من الذى كلفنى فجعلت أتتبع القرآن من صدور الرجال ومن العسب ومن الرقاع ومن الأضلاع ففقدت آية كنت أسمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أجدها عند أحد فوجدتها عند رجل من الأنصار
__________
(1) التوبة: 129128(1/147)
(الأحزاب: 23) {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ صَدَقُوا مََا عََاهَدُوا اللََّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى ََ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمََا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (23) فألحقتها فى سورتها من المصحف، فكانت الصحف عند أبى بكر حتى مات، ثم عند عمر حتى مات ثم عند حفصة.
حدثنا عبد الله قال حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا عثمان بن عمر قال حدثنا يونس عن الزهرى قال أخبرنى ابن السباق عن زيد بن ثابت قال وحدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا أبى عن ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت حدثه [وهذا حديث عثمان] قال أرسل إلى أبو بكر مقتل أهل اليمامة فأتيته وعنده عمر رضي الله عنه فقال أبو بكر إن عمر أتانى فقال: إن القتل قد استحر بأهل اليمامة من قرّاء القرآن وأنا أخشى أن يستحر القتل بالقراء فى المواطن فيذهب كثير من القرآن لا يوعى (أي لا يحفظ)، وإنى أرى أن تأمر بجمع القرآن فقلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو والله خير فلم يزل يراجعنى فى ذلك حتى شرح الله لذلك صدرى، ورأيت فيه الذى رأى عمر، قال زيد وعمر جالس عنده لا يتكلم فقال عمر: إنك شاب عاقل لا نتهمك وكنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتتبع هذا القرآن فاجمعه.
فو الله لو كلفونى نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل علىّ مما كان أمرونى به من جمع القرآن قلت وكيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولم يزل أبو بكر يراجعنى حتى شرح الله صدرى بالذى شرح له صدر أبى بكر وعمر فجمعت القرآن، أجمعه من الأكتاف والأقتاب والعسب وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة بن ثابت الأنصارى لما (لم) أجدها مع أحد غيره {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (129)، قال يعقوب فى حديثه فكانت الصحف عند أبى بكر حياته حتى مات ثم عند عمر حياته حتى مات ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.
حدثنا عبد الله قال حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو جعفر عن الربيع عن أبى العالية أنهم جمعوا القرآن فى مصحف فى خلافة أبى بكر فكان رجال يكتبون ويملى عليهم أبىّ بن كعب فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة: {وَإِذََا مََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى ََ بَعْضٍ هَلْ يَرََاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَفْقَهُونَ} (127)، (1) فظنوا أن هذا آخر ما أنزل من القرآن فقال أبىّ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنى بعدهن آيتين: {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (129)، قال فهذا آخر ما أنزل من القرآن، فختم الأمر بما فتح به، لقول الله جل ثناؤه: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلََّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (25) (الأنبياء: 25) حدثنا عبد الله قال حدثنا أبو الطاهر قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرنى مالك عن ابن شهاب عن سالم وخارجة أن أبا بكر الصديق كان جمع القرآن فى قراطيس وكان قد سأل زيد بن ثابت النظر فى ذلك فأبى حتى استعان عليه بعمر ففعل وكانت تلك الكتب عند أبى بكر حتى توفى ثم عند عمر حتى توفى ثم كانت عند حفصة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم فأرسل إليها عثمان فأبت أن تدفعها إليه حتى عاهدها ليردنّها إليها فبعثت بها إليه فنسخها عثمان فى هذه المصاحف ثم ردها إليها فلم تزل عندها، حتى أرسل مروان فأخذها فحرقها) (2) وذلك لأن المصاحف كانت قد نسخت وانتشرت.(1/148)
فو الله لو كلفونى نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل علىّ مما كان أمرونى به من جمع القرآن قلت وكيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولم يزل أبو بكر يراجعنى حتى شرح الله صدرى بالذى شرح له صدر أبى بكر وعمر فجمعت القرآن، أجمعه من الأكتاف والأقتاب والعسب وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة بن ثابت الأنصارى لما (لم) أجدها مع أحد غيره {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (129)، قال يعقوب فى حديثه فكانت الصحف عند أبى بكر حياته حتى مات ثم عند عمر حياته حتى مات ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.
حدثنا عبد الله قال حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو جعفر عن الربيع عن أبى العالية أنهم جمعوا القرآن فى مصحف فى خلافة أبى بكر فكان رجال يكتبون ويملى عليهم أبىّ بن كعب فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة: {وَإِذََا مََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى ََ بَعْضٍ هَلْ يَرََاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَفْقَهُونَ} (127)، (1) فظنوا أن هذا آخر ما أنزل من القرآن فقال أبىّ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنى بعدهن آيتين: {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (129)، قال فهذا آخر ما أنزل من القرآن، فختم الأمر بما فتح به، لقول الله جل ثناؤه: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلََّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (25) (الأنبياء: 25) حدثنا عبد الله قال حدثنا أبو الطاهر قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرنى مالك عن ابن شهاب عن سالم وخارجة أن أبا بكر الصديق كان جمع القرآن فى قراطيس وكان قد سأل زيد بن ثابت النظر فى ذلك فأبى حتى استعان عليه بعمر ففعل وكانت تلك الكتب عند أبى بكر حتى توفى ثم عند عمر حتى توفى ثم كانت عند حفصة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم فأرسل إليها عثمان فأبت أن تدفعها إليه حتى عاهدها ليردنّها إليها فبعثت بها إليه فنسخها عثمان فى هذه المصاحف ثم ردها إليها فلم تزل عندها، حتى أرسل مروان فأخذها فحرقها) (2) وذلك لأن المصاحف كانت قد نسخت وانتشرت.
يعلق ويلش على هذه الروايات بقوله إن المسلمين قبلوا هذه الروايات على أنها صحيحة تاريخيا، وأن ما فيها حق لا شك فيه، مع أن هناك مشكلات صبعة تحوط بها،
__________
(1) التوبة: 127
(2) الحافظ أبى بكر عبد الله بن أبى داود سليمان بن الأشعث السجستانى (ت: 316هـ) كتاب المصاحف تحقيق الدكتور آرثر جفرى ط أولى 1355هـ، 1936م المطبعة الرحمانية ص 95، والزركشى. البرهان فى علوم القرآن ج 1/ ص 232.(1/149)
حيث توجد روايات أخرى فى كتب الأحاديث المعتمدة تناقض موضوع هذا الحديث وهكذا فإن ويلش يرفض هذه الروايات ويعتبرها وضعية لأسباب قد توهّمها كما سنبينه.
يعوّل الكاتب كثيرا على الاختلاف بين الروايات فى حديث = جمع القرآن = ودون بذل أي محاولة أو جهد للجمع بينهما، أو حتى قراءتها قراءة نقدية فى ظل واقع القرآن وحياة النبى صلى الله عليه وسلم، وحرص الصحابة الشديد على حفظ كتاب الله تعالى أضف إلى ذلك أن الاختلاف بين هذه الروايات اختلاف ظاهرى أو شكلى يمكن إزالته، على سبيل المثال فإن تفسير الرواية التى أخرجها ابن أبى داود من طريق الحسن أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله، فقيل كانت مع فلان، قتل يوم اليمامة، فقال: إنّا لله، وأمر بجمع القرآن فكان أول من جمعه. قال السيوطى إسناده منقطع، والمراد بقوله: أول من جمعه، أى أشار بجمعه (1).
ومعنى منقطع الإسناد أى أنه موقوف على التابعى قولا له أو فعلا (2). وليس يطعن ذلك أو غيره فى شدة اهتمام المسلمين بجمع القرآن، أو فى أن أبا بكر رضى الله عنه كان أول من جمعه فى صحف. وكون عمر يسأل عن آية، معناه أنه كان يعرفها، وإلا كيف يسأل عنها بالتحديد، ويجاب عليها بالتحديد كذلك هذا ما يجب ملاحظته. ويمكن أن يقال أيضا إن سؤال عمر جاء أثناء جمع زيد للقرآن، حيث كان هو أحد الثلاثة الموكلين بالهمة موضع البحث، وإن سؤال عمر عن الآية كان من حيث كونها مكتوبة بحضرة النبى صلى الله عليه وسلم لا غير، وهذا تفسره الرواية التى أخرجها ابن أبى داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب. قال: قدم عمر، فقال: = من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأت به وكانوا يكتبون ذلك فى الصحف، والألواح، والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد له شاهدان = (3).
__________
(1) السيوطى. الإتقان 1/ 166، 170.
(2) السيوطى تدريب الراوى تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف القاهرة ج 1ص 194.
(3) السيوطى الإتقان 1/ 167166(1/150)
وهذا يدل على حيطة عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت الشديدتين بالقرآن حيث كانا لا يكتفيان بمجرد وجود الآية مكتوبة، حتى يشهد عليها من تلقاها سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغى أن ننسى أن زيدا كان يحفظ القرآن كله ولهذا السبب تم اختياره للقيام بجمع القرآن.
قال السخاوى فى جمال القراء فى طبيعة هذا الإشهاد: = يشهدان أن ذلك المكتوب كتب بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنه من الوجوه التى نزل بها القرآن =.
وقال أبو شامة (ت: 695): = إن غرضهم أن لا يكتبوا إلا من عين ما كتب بين يدى النبى صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ =. قال: = ولذلك قال زيد فى آخر سورة التوبة، لم أجدها مع غيره، بمعنى أنه لم يجدها مكتوبة مع غيره، لأنه كان لا يكتفى بالحفظ دون الكتابة =.
وإلّا لاستطاع زيد رضي الله عنه وحده أن يمليه كله من حفظه ومعنى هذا الكلام أن الشهادة كانت تكلّف لإثبات أن هذه الآية أو تلك كانت مما كتب فى حضرة النبى صلى الله عليه وسلم وهذا يعنى من جانب آخر أن الصحابة كانوا يجمعون على أن القرآن قد كتب كله بين يديه صلى الله عليه وسلم، وأنهم اجتهدوا غاية الاجتهاد فى ألا ينال القرآن تحريف ويعتبر حديث جمع أبى بكر للقرآن لأول مرة هو الأصل فى الباب، الذى ينبغى أن ترد إليه جميع الأقوال، وتصحح عليه كل الروايات.
أخرج ابن أبى أشتة فى = المصاحف = عن الليث بن سعد، قال: = أول من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشاهدى عدل = الحديث.
وقد مرّ بنا قول الحارث المحاسبى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة القرآن أولا بأول وأنه كان يستوثق بنفسه من سلامة نقل كتّاب الوحي وأن القرآن كان مكتوبا فى الرقاع والأكتاف والعسب وأن أبا بكر هو الذى أمر بنسخه من هذه المواد المتفرقة إلى الصحف فصار مجموعا.
وفى موطأ ابن وهب عن مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن عمر قال: جمع أبو بكر القرآن فى قراطيس وكان سأل زيد بن ثابت فى ذلك فأبى حتى استعان بعمر ففعل (1).
__________
(1) السيوطى. الإتقان. ص 168، والزركشي. البرهان 1/ 240233.(1/151)
وفى مغازى موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: = لما أصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر، وخاف أن يذهب من القرآن طائفة، فأقبل الناس بما كان معهم وعندهم حتى جمع على عهد أبى بكر فى الورق، فكان أبو بكر أول من جمع القرآن فى الصحف.
ويقرر ابن حجر أن جمع أبى بكر للقرآن مؤيد بالأخبار الصحيحة المترادفة (1).
وأما ما أورده ابن أبى أشتة فى كتاب = المصاحف = وهو غريب جدا (أن أول من جمع القرآن فى مصحف، هو سالم مولى أبى حذيفة، أقسم ألا يرتدى برداء حتى يجمعه فجمعه) الحديث، قال السيوطى إسناده منقطع أيضا، ومحمول على أنه كان أحد الجامعين بأمر أبى بكر، وربما كان سالم موكلا بجمع المواد التى كتب عليها القرآن على سبيل المثال، فدخل فى روع بعض الناس وهم فى طبيعة دوره (2) فقالوا إنه أول من جمع القرآن ونقل ابن أبي أشتة هذا القول دون تمحيص ومن الجدير بالإشارة إليه أن ابن أبى أشتة نقل إلينا رواية أخرى أوثق من تلك الرواية الغريبة، وهى ألصق بالحقيقة الثابتة حول جمع القرآن. هذه الرواية الأخيرة نقلها ابن أبى أشتة عن فقيه مصر، الليث بن سعد، تقول الرواية إن أول من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل = (3). ويشبه تلك الرواية ما ورد من أن عليّا كان أول من جمع القرآن ومعناها كسابقتها أن عليّا رضي الله عنه جمع القرآن كله يعني أنه حفظه بأكمله.
ومما نلفت النظر إليه أن ابن النديم قد أورد فى = الفهرست = هذا العنوان: (الجمّاع للقرآن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم) بمعنى حفاظه، وعدّ ابن النديم من هؤلاء الحفّاظ علي بن أبى طالب، وسعد بن عبيد بن النعمان بن عمرو بن زيد، وأبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبى بن كعب.
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) المصدر نفسه.
(3) الإتقان ج 1، ص 167166.(1/152)
وقد يكون جمع عليّ للقرآن، بمعنى كتابته فى صحف من حفظه، كأن يكون كتب نسخة بنفسه خاصة به فقد أورد ابن النديم أيضا عن على: = أنه رأى من الناس طيرة (1) عند وفاة النبى صلى الله عليه وسلم فأقسم أنه لا يضع عن ظهره رداءه حتى يجمع القرآن، فجلس فى بيته ثلاثة أيام، حتى جمع القرآن فهو أول مصحف جمع فيه القرآن من قلبه، وكان المصحف عند أهل جعفر ورأيت أنا فى زماننا عن أبى يعلى حمزة الحسنى رحمه الله مصحفا قد سقط منه أوراق بخط على بن أبى طالب يتوارثه بنو حسن على مر الزمان، = (2).
إذا اعتمدنا هذه الرواية يكون الإمام عليّ إذن، هو أول من جمع القرآن، بمعنى أنه كتبه لنفسه من حفظه، ويكون جمعه للقرآن فى صحف، هو أول جمع بالنسبة لعلىّ لا غير، وعلى أى حال، فإن هذا الخبر لا يعنى إطلاقا أن القرآن لم يجمع فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم. فقد مر بنا أن النبى صلى الله عليه وسلم أخبر أن القرآن المكتوب على الرقاع، واللخاف، والعظام، كان فى الرداء فى الحجرة التي كان النبى صلى الله عليه وسلم ينام فيها.
ونقل ابن النديم أيضا عن محمد بن إسحاق، أن محمد بن الحسين كان رجلا جمّاعا للكتب وقد وجد فى خزانته مصحفا بخط خالد بن أبى الهياج صاحب على رضي الله، ثم وصل هذا المصحف إلى أبى عبد الله بن حانى وبقى هذا المصحف محفوظا على الرغم من ضياع الكتب والوثائق المهمة والنادرة التى كانت فى خزانة محمد بن الحسين (3).
وقد أشرنا من قبل إلى أن لفظة = القرآن = تستعمل فى معنى = حفظ = وهى من قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (18) (القيامة: 1817).
__________
(1) الطيرة والطيرورة أى الخفة والطيش قال الكميت:
وحلمك عز إذا ما حلمت ... وطيرتك الصاب والحنظل
(ابن منظور لسان العرب بيروت دار صادر 19901410) ج 4ص 511510.
(2) ابن النديم الفهرست. ص 4241.
(3) الفهرست، ص 6160.(1/153)
وبهذا المعنى وردت كلمة = جمع = فى كلام عبد الله بن مسعود، قال: = من جمع القرآن فقد حمل أمرا عظيما، وقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه = فجمع هنا بمعنى حفظ ومنه قول السيوطى: = ظفرت بامرأة من الصحابيات جمعت القرآن = وهى، على ما أورد ابن سعد فى الطبقات، = ورقة بنت عبد الله بن الحارث =، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها ويسميها الشهيدة، وقد حفظت القرآن كله، وأمرها النبى صلى الله عليه وسلم أن تؤم أهل بيتها فى الصلاة (1). وأما بخصوص ما قيل من أن عثمان هو الذى جمع القرآن فصحيح لكن بشرطه، فعثمان رضي الله عنه جمع القرآن لكن بمعنى مختلف عن جمع أبى بكر له. لقد كان جمعه بغرض تجميع المسلمين على قراءة واحدة، وكان جمع القرآن على عهد عثمان هو الجمع الثالث، وليس الجمع الأول.
روى البخارى عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازى أهل الشام فى أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم فى القراءة، فقال لعثمان أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة رضي الله عنها أن أرسلى إلينا الصحف ننسخها فى المصاحف، ثم نردها إليك الحديث وشكّل عثمان جماعة تقوم بذلك، ووضع لها منهج العمل (2).
وهذا هو جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه وما تميز به، إنه جمع قراءة، كما ذكرنا، لا جمع صحف فقط فقد كان القرآن مجموعا محفوظا عند حفصة بنت الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فى صحف كانت تسمى الربعة (3) وفى حديث البخارى المذكور، ما يفيد شيوع القرآن بين الناس، وحفظ الأطفال له، وعناية الأمّة كلها به، وينبغى ألا يفوتنا ملاحظة انزعاج الخليفة عثمان رضي الله عنه ومبعوثه حذيفة بن اليمان، لتنازع الناس فى طريقة كتابة القرآن وطريقة قراءتهم له وفي هذه القرينة نذكر أنه كم هو عجيب أن
__________
(1) انظر الإتقان 1/ 204203.
(2) البخارى = فضائل القرآن =، والسيوطى = الإتقان = 1/ 169، والزركشي. البرهان 1/ 236.
(3) المصدر نفسه 170.(1/154)
يحفظ الأطفال، والصغار والنساء، والرجال، دستور الأمة الذى ينظم حياتها، ويعدّها لآخرتها، على هذا النحو. إن الدستور الإسلامى ليس من احتراف الكبار ولا من عمل المتخصصين فحسب شأنه شأن سائر الدساتير الأخرى، بل هو دستور متفرّد ومتغلغل.
وواضح من هذه الرواية وغيرها من الروايات الأخرى أن ظهور اللهجات والحروف فى قراءة الناس للقرآن كانت قد اتسعت باتساع أعداد المسلمين، وباتساع البلدان الإسلامية فى عصر الخليفة عثمان أكثر من اتساعها في عهد غيره من الخلفاء فقد أخرج ابن أبى أشتة، من طريق أيوب عن أبى قلابة قال: حدثنى رجل من بنى عامر يقال له أنس بن مالك قال: = اختلفوا فى القراءة على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون فبلغ ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: عندى تكذبون به وتلحنون فيه، فمن نأى عنى كان أشد تكذيبا وأكثر منكم لحنا، يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما فاجتمعوا فكتبوا. فكانوا إذا اختلفوا وتدارءوا فى آية قالوا هذه أقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلانا، فيرسل إليه وهو على رأس ثلاث من المدينة ويقال له كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كذا فيقول كذا وكذا، فيكتبونها، وقد تركوا لذلك مكانا =.
وفى رواية لابن أبى داود: = أن عدد الذى جمعهم عثمان لكتابة المصحف الإمام، كانوا اثنى عشر رجلا من قريش والأنصار، وأن عثمان كان يتعاهدهم (أى يتابعهم في عملهم) وأنهم كانوا يكتبون حسب العرضة الأخيرة =، أى آخر مرة راجع فيها النبى صلى الله عليه وسلم القرآن على جبريل عليه السلام (1).
وقال ابن التين وغيره فى الفرق بين جمع عثمان، وجمع من قبله: = الفرق بين جمع أبى بكر وجمع عثمان، أن جمع أبى بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شىء بذهاب جملته، لأنه لم يكن مجموعا، فجمعه فى صحائف مرتبا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبى صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان كان لمّا كثر الاختلاف فى وجوه القراءة حتى قرءوا بلغاتهم، لاتساع اللغات (اللهجات) فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخشى
__________
(1) ابن أبى داود كتاب المصاحف ص 9والسيوطى الاتقان 1/ 170.(1/155)
(أى عثمان) من تفاقم الأمر فى ذلك، فنسخ تلك الصحف فى مصحف واحد مرتبا لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجا بأنه نزل بلغتهم. وإن كان قد وسع فى قراءته بلغة غيرهم رفعا للحرج والمشقة فى ابتداء الأمر. فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت، فاقتصر على قراءة واحدة هى قراءة العرضة الأخيرة للقرآن ثم إن القراءات الأخرى لم تكن واجبة ولا ملزمة وإنما نزلت للتيسير (1). كان جمع عثمان إذا بغرض جمع الناس على قراءة واحدة حسما لمادة الخلاف بينهم. وفى النص الذى سقناه أن الناس كانوا قد اختلفوا فى القراءة لا فى القرآن، لأنهم كانوا يقرءون بالحروف المتعددة، وهى مما نزل به جبريل أيضا لتيسير حفظ القرآن فى أول الأمر، وكان قصد عثمان هو جمع الناس على القراءة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى العرضة الأخيرة وجمعهم على مصحف واحد، لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا منسوخ تلاوته مع مثبت، ولا تأويل ولا تفسير، وذلك لأن بعض من كانوا يكتبون القرآن كانوا يثبتون أيضا تفسير الآية بهامش صحفهم أو مصاحفهم، وذلك خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتى بعدهم.
ويزيدنا المحاسبى بيانا فى هذا الموضوع فيقول إنه لما خشى عثمان الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام فى حروف القراءات حمل الناس على قراءة واحدة بمعرفة من شهد التنزيل من المهاجرين والأنصار فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف (أى مصاحف بعض الصحابة التى كتبوها لأنفسهم) مكتوبة بوجوه من القراءات المعلقات على الحروف السبعة التى نزل بها القرآن. وقد قال على: = لو وليت لعملت بالمصاحف عمل عثمان بها = (2) وهو القائل أيضا: = أعظم الناس فى المصاحف أجرا = أبو بكر، رحمة الله على أبى بكر، أول من جمع كتاب الله (3). وأخرج ابن أبى داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة قال: قال على: = لا تقولوا فى عثمان إلا خيرا. فو الله ما فعل الذى فعل فى المصاحف إلا عن ملأ منا، قال ما تقولون فى هذه القراءة؟ فقد بلغنى أن بعضهم
__________
(1) ابن جرير الطبرى جامع البيان فى تفسير القرآن (بيروت دار المعرفة 1392هـ 1972م) ج 1والسيوطى الإتقان 1/ 140، 142.
(2) المصدر نفسه 172171.
(3) البخارى. خلق أفعال العباد ضمن عقائد السلف ص 178. والزرقانى. مناهل العرفان 1/ 253.(1/156)
يقول: إن قراءتي (وليس قرآنى) خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرا (لأنه يؤدى إلى الكفر بشيء من القرآن نزل به جبريل) قلنا فما ترى؟ قال: أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة، ولا اختلاف، قلنا نعم ما رأيت =. وقال على كرم الله وجهه: = لا تقولوا كان عثمان حرّاق المصاحف = (1) = وأما ما وردت به الروايات من أسماء متعددة بالنسبة لعملية جمع القرآن، فإنه يدل على أن عناية المسلمين قد بلغت الغاية القصوى بهذا الكتاب العظيم، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
ولا عبرة بعد ذلك بما روى بطريق الآحاد، إذا تضمّن ما يخالف الإجماع على حفظ القرآن وضبطه نصا، وقراءة. وأما ما دسّ على عثمان، وتلقفته الألسن والأقلام من أنه حرق المصاحف، أو أنه أمر بحرقها بعد أن وضع المصحف الإمام، وأنه أبطل القراءات الأخرى بعد أن ثبّت قراءة واحدة منها، فهو افتراء وضلالة إذ لم يكن عثمان خليفة إلا والجزيرة العربية كلها مملوءة بالمسلمين، والمصاحف منتشرة، والمساجد آهلة بالعبّاد والحفّاظ والقراء، يعلّمون الصبيان والنساء يصدق هذا أيضا على سائر حواضر الإسلام وقراه ومحالّه.
يتضح لنا من هذا أن جمع عثمان، وجمع أبى بكر قبله، كان معروفا لكل الصحابة وكان موضع التسليم منهم. ولو كان غير أبى بكر جمع القرآن، بالمعنى الذى سقناه، لظهر ذلك واشتهر بين الصحابة، وإذن فالتوفيق بين الروايات، وإزاحة ما يوهم الاختلاف بينها، هو السبيل الوحيد لإقرار المسألة أما أن يتخذ البعض من الخلاف الظاهرى والفوارق الشكلية بين الروايات طريقا إلى الطعن فيها بالكلية، وبالتالى التشكيك فى سلامة النص القرآنى، فهو أمر مستبعد نقلا وعقلا.
إن دعوى الكاتب إذن، بأن بعض المصادر الإسلامية تؤكد عدم وجود نسخة مجموعة معتمدة للقرآن قبل عثمان، خطأ ناتج عن سوء قراءة وسوء فهم لهذه المصادر.
__________
(1) السيوطى الإتقان 1/ 171170.(1/157)
أما المستشرقان كتانى وإسكواللى فيشككان فى صحة رواية واقعة اليمامة التى كانت سببا فى جمع القرآن قائلين بأن عدد الذين استشهدوا فى هذه الموقعة من الحفاظ الذين ذكرتهم المصادر قليل، وهذا يعنى أن خبر واقعة اليمامة لا يصلح أن يكون سببا لانزعاج الخليفة عمر، ودعوته لجمع القرآن. ولذلك فإن اسكواللى يذكر أن الذين استشهدوا من الحفاظ من الصحابة فى موقعة اليمامة كانوا اثنين فقط هذا على الرغم من أن بعض المصادر تحدد عددهم بأربعمائة وخمسين من جملة من قتلوا فى هذه الموقعة، وعددهم نحو الألف (1). وبينما تذكر بعض المصادر الأخرى أن عدد القراء الذين استشهدوا فى هذه المعركة كانوا سبعين شهيدا (2).
ومهما يكن الأمر فإنه ليس من المعقول أن نشكك فى صحة الرواية لمجرد الشك، أو لمجرد مقاضاة عصر وجيل باسم العقل، وباسم الشك العلمى، وليس من المعقول أيضا أن تقوم قائمة الصحابة وفيهم رئيس الدولة الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه المعروف بحكمته ورزانته، ويشفقون هذا الإشفاق على القرآن، لمجرد قتل اثنين من الحفاظ، وأن يبلغ الحال بأبى بكر أن يقول (إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإنى أخشى أن يستحر القتل فى المواطن، فيذهب كثير من القرآن (3). يقول الكاتب إن واقعة اليمامة لا يمكن وحدها أن تشكل قاعدة أو خطة جمع القرآن، ولكنها ربما تفيد فى معرفة أن بعض أجزاء من القرآن مما كتب فى حياة محمد صلى الله عليه وسلم وبقيت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم قد جمعت فى هذا الوقت.
وهذا خطأ بالطبع وتجاوز لظاهر النص، فمجموع الروايات التى نقلناها، وبالذات رواية البخارى، تقرر وبوضوح تام، أن القرآن كان مكتوبا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على مواد متفرقة وأن هذه المواد قد استخدمت فى الجمع الأول للقرآن على
__________
(1) الطبرى = تاريخ الطبرى =، حوادث سنتى 11، 12والزركشى، البرهان 2/ 233.
(2) الزرقانى. مناهل 1/ 250.
(3) البرهان 1/ 232.(1/158)
عهد أبى بكر الصديق رضى الله عنه. وقد نوهنا من قبل أن كلمة = جمع = تحمل فى طياتها الدليل على أن القرآن كان مكتوبا بالفعل على مواد متفرقة. ونزيد هنا ما رواه الحاكم فى المستدرك بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: = كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع = الحديث (1). يعنى نكتب ما نزل من الآيات المتفرقة ونضعها فى سورها، ثم نجمعها معا بإشارة النبى صلى الله عليه وسلم.
يعلق الكاتب على ما ورد فى هذه الرواية الخاصة بتكليف زيد بن ثابت بمهمة جمع القرآن واختياره دون غيره لمجرد أنه كان كاتب وحى النبى صلى الله عليه وسلم. فيقول إن هذا التوصيف لمؤهلات زيد، قد أدى دورا له مغزاه فى إخراج النص المعتمد أو الرسمى للقرآن. يحاول ويلش بهذا أن يقول إن الروايات الخاصة بمؤهلات زيد بن ثابت، إنما جاءت كمبرر لاختياره للقيام بمهمة جمع القرآن، وأنها قد وضعت أو لفّقت بغرض الترويج للنص.
ويزعم ويلش كذلك أن هناك من الأسباب والمبررات ما يجعلنا نشك فى صحة هذه الرواية من وجهة نظر تاريخية، ويرى ويلش أن الغرض من وضع هذه الحكاية، فى الأغلب الأعم، كان هو التعتيم على دور محمد صلى الله عليه وسلم والتعمية عليه فى إعداد نص مكتوب للقرآن، يعنى بيده الشريفة وبخطه صلى الله عليه وسلم وهو ما ناقشناه فيه من قبل، هذا أوّلا.
وأما ثانيا: يقول الكاتب فإن التقليل من دور عثمان بن عفان رضي الله عنه فى كتابة نص رسمى للقرآن، يعنى أن عثمان كان هو أول من جمع القرآن، وهذا إصرار عجيب من ويلش وإهدار لقيمة الروايات الكثيرة التى تصادم رأيه فى هذه المسألة.
وثالثا: يرى الكاتب فى هذه الرواية مجرد محاولة لإثبات أفضلية المصحف العثمانى أو أولويته على المصاحف التى كتبت قبله، والمصاحف الأخرى التى كانت مصاحبة له.
هذه اجتهادات ويلش، وليس يلام أحد على اجتهاده، وإنما يلام على إصراره بأن ما
__________
(1) الإتقان 1/ 164(1/159)
لديه هو الصواب، وأن ما عند غيره، هو بالضرورة، الخطأ، ويلام المرء كذلك على إهمال قيمة الأدلة العلمية، وإهدار مدلولاتها من أجل تأييد نتائج وضعت مسبقا.
إننا لا نشك فى صحة روايات جمع القرآن، لأن الأدلة على صحتها كثيرة ومتضافرة ووجود القرآن بنصه المنزل حتى اليوم خير شاهد على جهود المسلمين وجهادهم فى حفظ القرآن. = والحقّ يدفع ترّهات الباطل = (1).
ونعود مرة أخرى إلى هذه النقطة لنلقى بعض الضوء على دور عثمان بن عفان فى جمع القرآن. ذكرنا فيما سبق، أن القرآن كان مبثوثا فى الأمصار الإسلامية فى الجزيرة العربية، ومصر، والبحرين، وعمان، واليمن، والعراق، وبلاد فارس، وغيرها.
وكانت المصاحف موجودة بكثرة فى كل هذه البلاد وكان القراء يملئونها بأعداد لا يحصيها إلا الله تعالى (2) فلو قصد عثمان ما ادعوه، لما قدر عليه أصلا فقد كان فى هذه البلدان عند موت الخليفة عمر رضي الله عنه، مائة ألف مصحف وأما القول بأن عثمان جمع الناس على مصحف واحد، وأمر بحرق ما عداه من المصاحف، فباطل إنما كتب عثمان المصحف الإمام، بإقرار من جميع الصحابة لسدّ الباب على المحرّفين والمبطلين من أن يشككوا فى القرآن، وأيضا ليكون هذا المصحف بمثابة الحكم عند الخلاف والقاضى عند التنازع. وكانت القراءات المتعددة دائرة وسائرة بين المسلمين، وهى موجودة إلى اليوم، مضبوطة ومجموعة، وهى جزء من التنزيل بل إن القراءات الشاذة قد وجدت من يهتم بها ويجمعها (3)، حتى ما ينسب إلى الرافضة من الزعم بتحريف عثمان رضي الله عنه للقرآن قد لا يكون صحيحا. وعلى الرغم من أن الروافض ليسوا من فرق المسلمين، فإن هذا القول المنسوب إليهم يحتاج إلى إعادة نظر إذ يصر بعض علماء الشيعة على تبرئتهم من اتهام عثمان بتحريفه للمصحف، ويعلن بعض أعلام
__________
(1) شطرة من بيت ذكره ابن جنى فى الخصائص 1/ 337.
(2) انظر: ابن حزم الفصل فى الملل والنحل 2/ 79.
(3) الفصل 2/ 82وما بعدها.(1/160)
الشيعة اعتقادهم فى سلامة القرآن من التحريف بالزيادة أو النقصان وبأنه لم يتغير البتّة منذ نزل على محمد صلى الله عليه وسلم (1).
وإذا فخبر حرق عثمان لبعض المصاحف يمكن فهمه على أنه كان يقصد به مصاحف خاصة لبعض الصحابة ممن رأوا الاستغناء عنها، فأمر عثمان عندئذ بحرقها إكراما لكلام الله تعالى من أن تذروه الرياح، أو تدوسه الأقدام، أو يمتهن على أى نحو من الأنحاء.
وهب أن عثمان قد استطاع أن يحرق المصاحف فى موطن ما، فكيف بالمواطن الأخرى؟ وإذا كان عثمان قد استطاع حرق المصاحف، فهل كان يستطيع قتل الحفّاظ الذين حفظوا المصحف حرفا حرفا، وتعلموا قراءته وإعرابه وبلاغته وأحكامه الخ؟
ينبغى أن ننظر فيما ورد فى الرواية التى استشهد بها الكاتب، من أن عبد الله بن مسعود قد اعترض على فعل عثمان، وأنه أمر المسلمين فى الكوفة بإمساك مصاحفهم وهذا صحيح جاءت به بعض الروايات عن ابن مسعود، وقد كان هذا العمل اجتهادا منه لا طعنا فى عمل عثمان، ولا بتهمة للقرآن فقد ورد عنه أيضا رجوعه عن ذلك، ودخوله فى الإجماع بشأن توحيد القراءة، وجمعها فى مصحف إمام (2).
ودعوى أن مصحف عبد الله بن مسعود كان يختلف عن مصحف عثمان، فباطلة، إنما يضم مصحف عبد الله بن مسعود قراءته بلا شك، وقراءته بلا شك هى قراءة عاصم المشهورة عند جميع أهل الإسلام شرقا وغربا يقرأ بها المسلمون وهى مما صح تنزيله (3). بل إننا لنقرأ فى كتاب = المصاحف = لابن أبى داود (ت: 316هـ) فى الجزء الأول منه، هذا العنوان = رضاء عبد الله بن مسعود لجمع عثمان رضي الله عنه المصاحف =.
__________
(1) الطبرسى على الفضل بن الحسن مجمع البيان فى تفسير القرآن تحقيق السيد هاشم المحلاتى والسيد فضل الله الطباطبائى بيروت. دار المعرفة 1406هـ 1986م ج 1ص 110، وقارن بما أورده موسى جار الله فى الوشيعة فى نقد عقائد الشيعة. تحقيق جماعة من كبار العلماء القاهرة مكتبة الكليات الأزهرية 1984ص 116.
(2) الإتقان 1/ 204، وكتاب المصاحف لابن أبى داود ص 16، 17.
(3) ابن حزم الفصل فى الملل والنحل 2/ 79.(1/161)
ونقل بإسناده عن فلفلة الجعفى قال: = فزعت فيمن فزع إلى عبد الله (هو ابن مسعود) فى المصاحف فدخلنا عليه فقال رجل من القوم إنّا لم نأتك زائرين، ولكنا جئنا حين راعنا هذا الخبر. فقال = إن القرآن أنزل على نبيكم من سبعة أبواب، على سبعة أحرف (أو حروف) وإن الكتاب قبلكم كان ينزل (أو أنزل) من باب واحد على حرف واحد معناها واحد = (1).
ومعنى كلام ابن مسعود رضي الله عنه أن القرآن تتعدد قراءاته كما تتعدد أبواب إعجازه ومفاهيمه ولأن القرآن إنما جاء ليخاطب الناس جميعا على اختلاف ألسنتهم ولهجاتهم فناسب أن تتعدد وجوه قراءته، وأما الكتب السابقة على القرآن فكانت لأقوام خاصة من ذوي اللسان الواحد لا تتعداهم أصلا. وها هو عبد الله بن مسعود يقرر أيضا أن ما كان معه لم يكن قرآنا آخر، ولا وحيا غير الوحى الذى أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كان مجرد قراءة للقرآن نفسه قد تختلف فى بعض الحروف يقول: = لقد أخذت من في (فم) رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وإن زيدا بن ثابت لصبى من الصبيان = (2).
فقراءة زيد وقراءة عبد الله كلتاهما منزّلة وفى كل رواية جاءت باحتجاج عبد الله بن مسعود عن عدم ضم عثمان له إلى لجنة جمع القرآن، ذكرت فيها عبارة = من في رسول الله = ومعنى ذلك أن الاختلاف الواقع فى القراءات كان لمزيد الحرص على القرآن وليس هو بالاختلاف حول القرآن. وكان عبد الله جد حريص، وحرىّ به أن يكون كذلك، على تجريد المصحف ومن أقواله: = لا تخلطوا بكتاب الله ما ليس منه =، يقصد وضع أسماء السور وأرقامها، والإشارة إلى أجزاء القرآن فى نص المصحف (3).
وكان رضي الله عنه يملى المصحف كله من حفظه، شهد له بذلك الكبار (4).
__________
(1) الحافظ أبو بكر عبد الله بن أبى داود سليمان بن الأشعث السجستانى كتاب المصاحف. القاهرة المطبعة الرحمانية 1335هـ 1936م ص 18.
(2) المصدر نفسه ص 15.
(3) كتاب المصاحف 138.
(4) نفسه 37136.(1/162)
قال العلماء إن القرآن نزل بلغة قريش، التى هى اللسان العربى المبين الذى أشار إليه القرآن. قال ابن عبد البر فى التمهيد: = قول من قال نزل بلغة قريش معناه عندى الأغلب، لأن غير لغة قريش موجودة فى جميع القراءات من تخفيف الهمزة ونحوها، وقريش لا تهمز = (1) وقال الشيخ جمال الدين بن مالك: = أنزل الله القرآن بلغة الحجازيين إلا قليلا =.
وذكر ابن مالك من القرآن ما فيه بغير لهجة قريش. قال أبو شامة والباقلانى:
= لأن اللهجة الحجازية كانت أفصح لهجات العرب وقريش أفصح العرب جميعا وأدقها فى اختيار لغتها وأصفى العرب طبيعة وسليقة = (2). وكون القرآن يحتوى على بعض ألفاظ لغير قريش لا يعنى أنه لم ينزل بلسان قريش. وهكذا يكون حكم المستشرقين على الرواية بالوضع اعتساف وإحجاف وإهدار للأدلة وقرائن الأحوال ولنا وقفة أخرى مع الكاتب عند تعرضه للغة القرآن الكريم.
يستمر ويلش فى عرض رأى سكواللى فيقول: = إن الأسماء المعروضة فى الروايتين للقيام بمهمة جمع القرآن لا يمكن أن يكون أصحابها هم الذين رشحهم عثمان = ويتفق ويلش معنا فى رفض دعوى أن عثمان قد أمر بحرق جميع النسخ الأخرى للقرآن ويرى أنه من الصعب الاعتقاد بأن الاختلاف فى قراءة القرآن فى الصلاة، وتأثير ذلك على الغزاة كما فى رواية حذيفة بن اليمان كان هو الدافع من وراء جمع عثمان للقرآن.
ويزعم ويلش: أن كل هذه العناصر المذكورة فى القصة إنما تشير من بعيد، إلى أنه كان للقصة وضع تاريخى لاحق بعبارة أخرى أنها كانت محض روايات ملفقة وأن إقحام حفصة فى موضوع جمع القرآن إنما يمثل عنصرا ملفقا آخر فى رواية توثيق القرآن، إذ أنها أقحمت لمجرد الربط بين الروايات، وذلك لإيجاد علاقة بين هذه
__________
(1) الإتقان 2/ 103.
(2) بيانات مقاييس اللغة ص 23عبده الراجحى. اللهجات العربية فى القراءات القرآنية. مصر. دار المعارف 1969 ص 33. محمد أبو ليلة. النصرانية من وجهة نظر الإسلام (رسالة دكتوراه 1984) الباب الثانى.(1/163)
الروايات المختلفة لتقرير أن القرآن قد جمع فى عهد محمد صلى الله عليه وسلم، وأبى بكر رضي الله عنه، وبالتالى يتم التوصل إلى سلامة نقل القرآن بطريق السند المتصل كما يعتقد المسلمون.
ويزعم ويلش بالإضافة إلى ذلك، أن مصحف عثمان لم يكن بالنص الذى يخلو من الاختلاف والتنوع، حتى من حيث تناسق اللحن والشكل.
ويمضى ويلش فى استعراض آراء المستشرقين فيقول: = إن معظم الباحثين الغربيين قد قبلوا عنصرا آخر فى هذه الروايات مؤدّاه أن زيدا بن ثابت قد قام بدور فى وضع النص العثمانى للقرآن، ولكن من الصعب تحديد طبيعة هذا الدور الذى قام به زيد على أن هناك روايات أخرى تعطى مزيدا من الاحتمالات (1) فى إمكان تحديد هذا الدور وطبيعته =.
ويشتط برتون إلى حد اعتبار أن مجموع الروايات، الخاصة بجمع القرآن، من وضع الخيال، وأن دور زيد بن ثابت رضي الله عنه البارز فى هذه العملية إنما اخترع اختراعا، لأنه كان يكتب وهو شاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان من أواخر من مات من الصحابة إذ مات حوالى (245هـ 665م) رضوان الله عليه (2).
يلقى برتون بالكثير من الشكوك الخطيرة حول الدور الذى قام به زيد فى جمع القرآن، وفى كتابة المصحف العثمانى الذى يحلو للمستشرقين أن يطلقوا عليه ()، وتعني = النسخة الرسمية =. يشير الكاتب بهذا إلى ما ورد عن عثمان رضي الله عنه أنه حين عرض عليه المصحف قال: = أحسنتم وأجملتم، إن فى القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها = (3).
وإلى ما رواه عكرمة قال (لما كتبت المصحف عرضت على عثمان فوجد فيها حروفا من اللحن): = لا تغيروها فإن العرب ستغيرها، أو قال ستعربها بألسنتها لو كان الكاتب من ثقيف، والمملى من هزيل لم توجد هذه الحروف =.
__________
(1) .. 117 .. 120، 228
(2) الموضع نفسه وانظر مصدره. ابن أبى داود. كتاب المصاحف. ص 20وما بعدها.
(3) المصاحف ص 32.(1/164)
طار نقّاد الإسلام بهاتين الروايتين الضعيفتين كل مطير، واستنتجوا منهما ما شاء لهما الخيال أن يستنتجوا لقد رأوا فيهما اعترافا من قبل عثمان نفسه بأن رسم المصحف العثمانى ليس موضع ثقة، وأن الصحابة رضوان الله عليهم لم يجمعوا عليه، وأن ما تضمنه هذا المصحف لم يكن توقيفيا.
هذا مع أن الروايتين ضعيفتان من حيث الإسناد مضطربتان من حيث المتن. أما من حيث الإسناد، فقد قال الألوسي: = إن ذلك لم يصح عن عثمان أصلا ولسنا ندرى من قاله ومن تحمله =. وأما من جهة المتن، فإن فيهما تناقضا إذ كيف يقول عثمان أولا أحسنتم وأجملتم = ثم يقول = إن فى القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها = على الرواية الأولى، وكيف يقر ذلك عثمان ذو النورين المعروف بقوة فراسته، وهو إمام الأمة ومقدمها فى عمل المصحف الإمام. هذا مع أن الرواية الثانية تختلف عن الأولى في متنها، فقد زادت عليها فى مواضع ونقصت عنها فى أخرى، والموضوع واحد بعينه.
ولا ينبغى أن يفوتنا أن ننبه على أن ابن أبى داود السجستانى لم يترك هذه الرواية دون تعليق، إذ يقول: = هذا عندى، يعنى بلغتها، وإلا لو كان لحن لا يجوز فى كلام العرب جميعا، لما استجاز أن يبعث به إلى قوم يقرءونه = (1).
ثم إننا قد ذكرنا أن عثمان كان يشرف بنفسه على هذا العمل الجليل، ولم يكن هو بالذى يترك الكتّاب حتى يكملوا كتابة المصحف دون أن يفطن لهذا اللحن المزعوم.
على أننا واجدون رواية أخرى تؤكد شدة ضبط عثمان وحيطته فى رسم المصحف = أخرج أبو عبيد عن عبد الرحمن بن هانئ، مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف فأرسلنى بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها (لم يتسن) (2) وفيها (لا تبديل للخلق) (3)، وفيها (فأمهل الكافرين)
__________
(1) كتاب المصاحف ص 32.
(2) البقرة: 256.
(3) الروم: 30.(1/165)
{أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}، (1) فمحا أحد اللامين وكتب {لِخَلْقِ اللََّهِ}، ومحا (فأمهل) وكتب {فَمَهِّلِ} وكتب {لَمْ يَتَسَنَّهْ} فألحق فيها الهاء.
قال ابن الأنبارى = فكيف يدعى عليه أنه رأى فسادا فأمضاه؟، وهو يوقف على ما يكتب، ويرفع الخلاف بين الناسخين فيه فيحكم بالحق ويلزمهم إثبات الصواب وتقييده = (2).
ولو فرضنا صحة هاتين الروايتين لما جاز لأحد فى ظل الظروف العامة للموضوع ككل، أن يستنتج منهما وجود خطأ فى المصحف العثمانى وذلك لأن كلمة = لحن = و = لحون =، تفيد قراءة، وقراءات، ولغة، ولغات، يقال = لحون العرب = يعنى لغاتها ولهجاتها.
وقول عثمان رضي الله عنه السابق، إن صح عنه، إنما يفيد أن القرآن قد اشتمل على شىء من غير لغة قريش، مما يشق على غير القرشى، قراءته، لكن عثمان أمضى ذلك الشيء لأن العرب يمكن أن يتدربوا عليه ويمهروا فيه وتلين به ألسنتهم مع كثرة التلاوة.
ولزيادة التوضيح نعرض بعض الشواهد المهمة على صحة روايات جمع القرآن، وصحة موقف عثمان رضي الله عنه من كتابته قال رضي الله عنه فى تفنيد بعض مزاعم خصومه: = أما القرآن فمن عند الله إنما نهيتكم (أن تعددوا فى قراءته) لأنى خفت عليكم الاختلاف، فاقرءوا على أى حرف شئتم = (3) فهذا إقرار من عثمان بصحة القراءات، وثبات القرآن مع جميعها. وهذا هو على بن أبى طالب ينهى عن سوء فهم ما أداه عثمان من خدمة جليلة لكتاب الله تعالى وللأمة المسلمة، أعنى جمع القرآن فى قراءة واحدة إذ يقول: = فو الله ما فعل (أى عثمان) الذى فعل فى المصاحف إلا على ملأ منا جميعا =.
ثم يروى علىّ عن عثمان أنه سألهم: = ما تقولون فى هذه القراءة؟ فقد بلغنى أن
__________
(1) الطارق: 17
(2) الزرقانى. مناهل العرفان فى علوم القرآن 1/ 287386.
(3) كتاب المصاحف ص 36.(1/166)
بعضهم يقول إن قراءتى خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرا قلنا فما ترى؟ قال نجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة، ولا يكون اختلاف. قلنا نعم ما رأيت = (1).
إن جمع عثمان للمصحف يعد من أجل الأعمال فى تاريخ الإسلام بل إنه ليعد مأثرته الأولى بين مآثره الكثيرة والعظيمة رضي الله عنه.
جمع عثمان بن عفان كبار القراء، وأحضر الرّبعة أى المصحف أو الصحف التى كانت عند حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وأمر بكتابة المصحف، وكان إذا اختلف القراء فى شىء من حيث التقديم والتأخير، أمهلهم عثمان حتى ينظر آخرهم عهدا بالعرضة الأخيرة فيكتبوه على قوله (2).
ولزيادة التوضيح نقول إن الأمة قد أجمعت على صحة الرسم العثمانى، وعلى ضرورة العمل به، فعن أشهب، سئل مالك: = هل يكتب المصحف على ما أخذته الناس من الهجاء؟. فقال: = لا، إلا على الكتبة الأولى. = (3) ثم قال: = ولا مخالف له من علماء الأمة =. وسئل مالك أيضا عن الحروف فى القرآن الواو، والألف أترى أن يغيّر من المصحف إذا وجد فيه كذلك؟ قال: = لا =. قال أبو عمرو الدانى: = يعنى الواو فى = أولوا = وقال الإمام أحمد: = يحرم مخالفة مصحف الإمام فى = واو، أو ياء، أو ألف، أو غير ذلك =. وقال البيهقى فى شعب الإيمان: = من كتب مصحفا فينبغى أن يحافظ على الهجاء الذى كتبوا به هذه المصاحف، ولا يخالفهم فيه ولا يغير مما كتبوا شيئا فإنهم أكثر علما، وأصدق قلبا ولسانا، وأعظم أمانة منا فلا ينبغى أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم. = (4) وسوف يكون لنا كلام آخر يضاف إلى هذا الكلام عند الحديث عن لغة
__________
(1) المصاحف ص 22.
(2) نفسه 25.
(3) رواه الدانى فى المقنع ص 5.
(4) الإتقان 4/ 146، 147والبرهان 1/ 379.(1/167)
القرآن. يزعم برتون ومعه المستشرق شخت أن علمى الحديث والفقه قد أثّرا فى عملية تزايد عدد الروايات الخاصة بجمع القرآن كما يدّعى أن هذه الروايات كانت من صنع المحدثين والفقهاء صنعوها بغرض تأييد ما ذهبوا إليه من القول بالناسخ والمنسوخ.
من خلال هذا الاستعراض التحليلي للروايات ظهر أن برتون لم يستطع أن يسوق الأدلة على صحة رأيه، كما أنه لم يسلك طريقة مقنعة فى مناقشته للموضوع.
وبالرغم من هذا فإنه مما يحسب له أنه لم ينكر شخصية زيد بن ثابت نفسه كما فعل غيره من المستشرقين ولو فعل لما استكثرنا عليه ذلك.
إن روايات جمع القرآن كلها يربطها خيط واحد رفيع ومتين وهذا الخيط ينتهى بنا إلى الحقيقة الصارمة، وهى أن القرآن قد كتب فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم، وأن كل وسائل الحفظ والضبط الممكنة قد استخدمت لتأمين النص القرآنى، وسلامة نقله، وأنه جمع فى أول خلافة أبى بكر ثم فى خلافة عثمان رضي الله عنه.
ونتساءل مع مولانا محمد على، كيف يستمر القرآن بدون ترتيب سواء بالنسبة للآيات أو بالنسبة للسور فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم؟ إن القرآن لم يكن يتلى فقط فى الصلاة الجهرية والسرية، لكنه كان يحفظ فى الصدور، ويكرر المرة بعد المرة خوفا من التفلت والنسيان.
فإذا لم يكن القرآن بالترتيب الذى بين أيدينا الآن فكيف كان يقرأ فى الصلاة؟
وكيف كان يحكّم فى الأمور ويضمّن فى الخطب؟ إذا أمكن ذلك، وهو غير ممكن، إذن فكيف عبر الله عن القرآن بالكتاب؟ وقد كان أبو موسى وعبد الله بن مسعود وغيرهما يقرءونه آناء الليل وأطراف النهار، ويختمونه، ثم يعاودون قراءته من جديد وهكذا وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقرؤه لهم ويسمعه منهم وكان صلى الله عليه وسلم يقرؤه بترتيبه الذى بين أيدينا وكان صلى الله عليه وسلم يحدد السورة والآية فى السورة للصحابة. وإن أيّ خطأ يحدث فى
قراءة القرآن، مهما كان يسيرا، يلاحظ ويصوب إذا ما أحدثه إمام الجماعة فى الصلاة فى آية ما، فإنه يجد ممن يصلون وراءه فى الصفوف من ينبهه ويصوبه. هذا هو موقف المسلمين من القرآن حتى اليوم (1).(1/168)
وكيف كان يحكّم فى الأمور ويضمّن فى الخطب؟ إذا أمكن ذلك، وهو غير ممكن، إذن فكيف عبر الله عن القرآن بالكتاب؟ وقد كان أبو موسى وعبد الله بن مسعود وغيرهما يقرءونه آناء الليل وأطراف النهار، ويختمونه، ثم يعاودون قراءته من جديد وهكذا وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقرؤه لهم ويسمعه منهم وكان صلى الله عليه وسلم يقرؤه بترتيبه الذى بين أيدينا وكان صلى الله عليه وسلم يحدد السورة والآية فى السورة للصحابة. وإن أيّ خطأ يحدث فى
قراءة القرآن، مهما كان يسيرا، يلاحظ ويصوب إذا ما أحدثه إمام الجماعة فى الصلاة فى آية ما، فإنه يجد ممن يصلون وراءه فى الصفوف من ينبهه ويصوبه. هذا هو موقف المسلمين من القرآن حتى اليوم (1).
وذلك أن القرآن العظيم هو المعجزة الباقية والمبثوثة في العالمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تقف عليها الأجيال جيلا بعد جيل عيانا لا خبرا، استماعا لا سماعا إلى يوم القيامة. لم يحبس القرآن في خزانة أو يلف في الأضابير أو يحصر في معبد وإنما جعلت له الأرض كلها مسجدا ومعهدا يقرأ للدنيا كما يقرأ للآخرة. يقول صلى الله عليه وسلم: = ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة = رواه الشيخان، عن أبي هريرة.
__________
(1)،. 28(1/169)
الفصل الثاني القراءات المتنوعة ومصاحف الصحابة
القراءات القرآنية مثل القرآن نفسه تنزيل من الله العزيز الحميد نزل القرآن على سبعة أحرف لتيسير قراءته على الأمة كما قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (17) (القمر: 17).
عرّف الزركشى القرآن والقراءات بقوله: = (القرآن)، و (القراءات) حقيقتان متغايرتان. فالقرآن هو الوحي المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز، والقراءات اختلاف ألفاظ الوحي المذكور فى كتابة الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما (1). ولأن العرب كانوا يتكلمون بعدة لهجات، وبلغات متقاربة لكنها مختلفة من حيث الإمالة والنبر، أو الهمز، أو التليين والمد، وغير ذلك، فقد وسّع الله لهم أن يقرءوا القرآن، كلّ حسب ما نشأ فيه ودرج عليه، إذ لو كان كلّف أحدهم ترك لغته التى ألفها واعتادها لشقّ عليه ذلك والقرآن لم يأت بالحرج والمشقة بل إن الأمم الكثيرة التى دخلت فى الإسلام بعد ذلك، وكانت تتكلم بلغاتها القومية التي تختلف عن العربية في تراكيبها وصوتياتها، وكان يصعب عليها والأمر كذلك، نطق بعض الحروف العربية وهى تقرأ القرآن ولا يزال الأمر كذلك حتى اليوم. والمسلم مكلّف بقراءة القرآن والتعبد به فى لغته الأصلية وقراءة القرآن، والنظر فيه عبادة. وفى جواز قراءة القرآن باللهجات المختلفة دليل على عالمية الإسلام، وشمول دعوته وخاتميته.
روى الترمذى عن أبى بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقى جبريل فقال: = يا جبريل إنى بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير، والغلام والجارية، والرجل الذى لم يقرأ كتابا، فقال يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف = رواه الترمذى، وقال حسن صحيح. وقد تلقى العرب القرآن سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم الرجل الطاعن فى السن والمرأة والكهل والطفل الذى يصعب عليه التحول عن لغته (2)، فجاءت هذه
__________
(1) الزركشى البرهان ج 1ص 313وقارنه بما أورده السيوطى فى الإتقان ج 1ص 222.
(2) البرهان 1/ 227.(1/171)
الرحمة الإلهية كعلاج شاف وحض كاف على حفظ القرآن، وتأليف القلوب عليه. روى الحافظ أبو يعلى فى مسنده الكبير أن عثمان قال يوما وهو على المنبر: أذكّر الله رجلا سمع النبى صلى الله عليه وسلم قال: = إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف = لما قام، فقاموا حتى لم يحصوا، فشهدوا فقال عثمان: = وأنا أشهد معهم =.
فهذا الجم الغفير من الصحابة قد شهد على أن القراءات السبعة منزلة ومعنى شاف، أى موافق للذوق ومتناسق مع الميول ورغائب القلوب ومعنى كاف (1)، أى أن هذه الحروف تستوفى جميع لحون العرب ولهجاتها وتستوفي مخارج الحروف المختلفة. وفى حديث عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم الذى رواه البخارى ومسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أقرأ كلا منهما فقرأ بما تعلمه منه صلى الله عليه وسلم: = إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه = (2) لقد كان العربى يعتز بلغته ويلتصق بلهجته التى فى حجرها نشأ وبلبنها غذى وترعرع وعن طريقها عبر عن نفسه وتواصل مع غيره.
يقول ابن مهدية من قصيدة له:
ولا تاركا لحني لأحسن لحنهم * * * ولو دار صرف الدهر حيث يدور واللحن فى البيت معناه اللغة أو اللهجة (3).
ويتساءل أبو عبد الله الشجرى متعجبا: = أرأيت إنسانا يتكلم بما ليس فى لغته؟ = (4)
وهذا يدل إلى إعجاب كل قبيل بلغته وبلهجته، وبخاصة العرب الذين ضربوا المثل في الاعتزاز بلغتهم.
والعرب يطلقون اللغة وهم يعنون ما نعرفه نحن فى عصرنا الحديث باللهجة أو اللحن. وهم لم يستعملوا كلمة لهجة بالمعنى الاصطلاحي على الرغم من وجودها فى لغتهم (5).
ولذلك جاءت كتبهم فى هذا المجال تحمل هذه العناوين:
__________
(1) المصدر نفسه والموضع والزرقانى مناهل 1/ 39.
(2) المصدر نفسه ص 147وانظر أيضا أرثر جفرى. مقدمتان فى علوم القرآن. وهما مقدمة كتاب المبانى، ومقدمة ابن عطية. القاهرة الخانجى 1954، ص 219218.
(3) أبو الفتح عثمان بن جنى الخصائص تحقيق محمد على النجار القاهرة دار الكتب المصرية 1371/ 1952/ 239.
(4) المصدر نفسه ص 242.
(5) انظر: ابن منظور لسان العرب مادة لهج.(1/172)
كتاب اللغات لأبى عبيدة (ت 210هـ).
كتاب اللغات للأصمعي (ت 213هـ).
كتاب اللغات لأبى يزيد (ت 215هـ).
كتاب اللغات لابن دريد (ت 221هـ).
وهكذا، ولا يوجد كتاب عربى قديم يتخذ من كلمة لهجة عنوانا له (1).
ونعود إلى حديث الأحرف السبعة فنقول إن حديث القراءات يعنى ليقرأ كل منكم بحسب لغته وطريقة أدائه التى لقنها طفلا، واستقر عليها كبيرا. وهذا الحديث يجعل الأخذ بقراءة ما معينة دون غيرها أمرا اختياريا، أى أنه ليس واجبا أن نقرأ بكل الحروف، أو أن نلتزم بمجموعة السبع أو أن نحرّم قراءة بعينها مما تواترت روايته، ونصر على الأخذ بواحدة منها دون غيرها. إذا اتضح هذا، نقول إنه ينبغى أن نتبع ولا نبتدع فى اللحن والقراءة. حدث الأعمش عن حبيب عن أبى عبد الرحمن السلمى عن عبد الله بن مسعود إمام أهل الكوفة رضي الله عنه أنه قال: = اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم =، يعنى اتبعوا ما جاءكم عن القراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله قد كفاكم بما يسر لكم فى القراءة ورفع عنكم الحرج والمشقة.
وروى عنه أيضا قوله: = جردوا القرآن ولا تلبسوا به ما ليس منه = (2)، وحدثوا عن حذيفة رضي الله عنه قال: = اتقوا الله يا معشر القراء، وخذوا طريق من كان قبلكم فو الله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن تركتموهم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا =.
وعن الأعمش عن عاصم بن أبى النّجود عن زرّ عن عبد الله بن مسعود قال: قال لنا على بن أبى طالب رضي الله عنه: = إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرءوا القرآن كما علمتم = وقال عبد الله بن مسعود برواية شقيق بن سلمة: = إنى سمعت القراء فرأيتهم متقاربين فاقرءوا كما علمتم، وإياكم والتنطع والاختلاف، وإنما هو كقولك هلم وأقبل وتعال (3). وعلى هذا النهج جرى كبار القراء فى الحواضر الإسلامية.
وفى هذه الأقوال وغيرها دلالة واضحة على أن القراءات واردة عن
__________
(1) ابن النديم الفهرست مصر المطبعة الرحمانية 1348هـ ص 85.
(2) الحافظ أبو الخير محمد بن محمد الدمشقى الشهير بابن الجزرى (ت 833هـ) كتاب النشر فى القراءات العشر. تحقيق محمد الصباغ. القاهرة. المكتبة التجارية الكبرى ج 1ص 32.
(3) ابن مجاهد كتاب السبعة فى القراءات ص 4846، الإمام البخارى. خلق أفعال العباد. ضمن عقائد السلف ص 179والسيوطى الإتقان 1/ 131وما بعدها وعبده الراجحى اللهجات العربية فى القراءات القرآنية ص 83وما بعدها.(1/173)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يجوز بالتالى الخروج عنها أو الابتداع فيها وقد ذكرنا كلام ابن مسعود بشأن مصحف عثمان، الذى أشار إليه المستشرقون، وبيّنّا أن معارضة ابن مسعود لمصحف عثمان قد قبلها المستشرقون واعتمدوا عليها دون تفنيد ودون قراءة لها فى إطار السياق العام لروايات جمع المصحف. ويظهر من هذه الروايات أيضا كذب من زعم أن عبد الله بن مسعود كان يجيز قراءة القرآن بالمعنى، هذا محض افتراء (1) قال أبو شامة فى المرشد الوجيز عن بعض الشيوخ: = إن القرآن أنزل أولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التى جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم فى الألفاظ والإعراب، ولم يكلّف أحد منهم الانتقال عن لغته إلى لغة أخرى تجنبا للمشقة، ولما كان فيهم من الحمية، ولطلب تسهيل فهم المراد = (2)
وأوضح بعض الشيوخ المسألة أكثر بقوله: = إن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهى (أي) بأن أحد وجوه الكلمة بمرادفها فى لغته بل المرعي فى ذلك السماع من النبى صلى الله عليه وسلم =. يشير إلى ذلك قول كل من عمر وهشام فى حديث الباب = أقرأنى النبى صلى الله عليه وسلم = (3)، وكان عبد الله بن مسعود مبعوث عمر بن الخطاب إلى الكوفة يقرئهم بقراءته التى تعلمها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ أهل الكوفة القراءة عنه قبل أن يجمع عثمان والصحابة الناس على حرف واحد، وأخذها عنه خلق كثير حتى بعد وفاته، لم تزل فى صحابته من بعده يأخذها عنهم الناس كعلقمة بن قيس النخعى (ت: 62هـ)، والأسود بن يزيد (ت: 74هـ)، ومسروق بن الأجدع (ت: 63هـ)، وغيرهم (4).
واستمرت قراءة عبد الله بن مسعود في الكوفة لفترة، ولكنها انحسرت من حيث انتشرت قراءة المصحف العثمانى، إذ كان عثمان قد أرسل بأبى عبد الرحمن السلمى، واسمه عبد الله بن حبيب إلى الكوفة ليقرئ الناس فمكث فيهم يعلمهم القرآن أربعين سنة، وقد أشرنا إلى أن عثمان قد أرسل نسخة من المصحف الإمام إلى الكوفة.
ومما يدل على شيوع القراءة العثمانية ما رووه عن الأعمش قال: = أدركت أهل
__________
(1) ابن الجزري كتاب النشر ص 32.
(2) ص 16.
(3) السيوطى الإتقان 1/ 131وما بعدها، وعبده الراجحى اللهجات العربية فى القراءات القرآنية ص 83وما بعدها.
(4) ابن مجاهد السبعة فى القراءات ص 46، 67.(1/174)
الكوفة وما قراءة زيد (يعنى قراءة مصحف عثمان) فيهم إلا كقراءة عبد الله (ابن مسعود) فيكم اليوم، ما يقرأ بها إلا الرجل والرجلان = (1).
وما ساقوه من أخبار عن عبد الله بن مسعود بشأن موقفه من مصحف عثمان إنما فيه دليل على شدة تمسكه رضي الله عنه بقراءة تعلمها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا غير لأنه لم يكن قد وصل إلى علمه إجماع الصحابة على كتابة المصحف الإمام بحسب العرضة الأخيرة، أي قراءة النبى صلى الله عليه وسلم على جبريل فى آخر مرة قبل وفاته صلى الله عليه وسلم ولكنه لمّا عرف ذلك، رجع عن رأيه، ونزل على رأى جمهور الصحابة وذلك الرأي الذى سانده الإلهام ولم يخرج البتّة عن إطار الوحى، والذى كان ترجمة عملية لقوله تعالى:
{إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (9) (الحجر: 9). وليس يقدح تمسكه هذا فى تواتر القرآن، ولا فى صحة ما فعله عثمان رضي الله عنه وقد مرّ بنا كلام عبد الله بن مسعود فى تحريم الابتداع فى القراءة، وفى أن الخلاف بين المصاحف إنما كان خلافا يسيرا، وأنه كله وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس من فعل أحد غيره ولكى تتضح المسألة أكثر، نسوق هنا بعض الروايات التى بنوا عليها حكمهم، رووا أن شقيق بن سلمة قال:
خطبنا عبد الله بن مسعود على المنبر فقال: = ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة غلّوا مصاحفكم (أى أخفوها) حتى لا تحرقوها، وكيف تأمروننى أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت، وقد قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله =؟ رواه النسائى وأبو عوانة وابن أبى داود.
هذه الرواية فيها ما ينقضها من داخلها بل إن فيها ما يؤيد القضية العامة التى بين أيدينا. أولا: كيف يستشهد ابن مسعود بقوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمََا غَلَّ يَوْمَ الْقِيََامَةِ} (آل عمران: 161) فى غير موضعها، فالآية فيها ذم لا مدح، ونهى عن الغلول لا حث عليه، ومعنى الغلول، الخيانة، يقول الله تعالى: {وَمََا كََانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمََا غَلَّ يَوْمَ الْقِيََامَةِ ثُمَّ تُوَفََّى كُلُّ نَفْسٍ مََا كَسَبَتْ وَهُمْ لََا يُظْلَمُونَ} (161).
__________
(1) المصدر نفسه 67.(1/175)
هذا أولا وأما ثانيا فإن قوله = وقد قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله =، أو ما جاء فى الرواية الأخرى: = أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم = (1).
على أنه يمكن لنا أن نتساءل أيضا كيف يأمر ابن مسعود الناس هكذا بالإطلاق أن يحتفظوا بمصاحفهم، وهو بعد، لم يطالعها جميعا للتأكد من سلامتها، وبخاصة وأن ابن النديم يخبرنا أن محمدا بن إسحاق رأى عدة مصاحف ذكر نساخها أنها مصحف ابن مسعود، ليس فيها مصحفين متفقين، وأكثرها فى رق كثير النسخ (2).
أضف إلى ذلك رجوع ابن مسعود عن رأيه، واعتناقه لإجماع الصحابة على سلامة مصحف عثمان رضي الله عنه مصدرا وكتابة وما أورده صاحب = المبانى = من أن الصحابة كرهوا موقف ابن مسعود، على الرغم من إجماعهم على جودة ترتيله وحلاوة قراءته، وعتبوا عليه غضبه على عثمان وزيد بن ثابت رضى الله عنهم أجمعين، حتى لقد قيل إن عبد الله بن مسعود رجع عن رأيه وندم على ما قال واستحيا منه. روى أبو وائل هذه القصة ثم قال عقيبها، إن عبد الله استحيا مما قال، فقال: = ما أنا بخيرهم =، ثم نزل عن المنبر. وقالوا إن سبب عدم إثبات الفاتحة والمعوذتين فى مصحفة كان بسبب شهرتها وحفظ الكبير والصغير، والرجال والنساء لها، ولما كان سبب كتابة المصحف هو الخوف عليه من الضياع، لم يكتبهما ابن مسعود لذلك، علما بأنه وجد من بين من قرأ عليه من أثبت هذه السور فى مصحفه (3).
__________
(1) أو قوله: = والله لا أدفعه (يعنى مصحفه) أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم =. وحدث جرير عن الأعمش قال: قيل لعبد الله بن مسعود لم لم تكتب فاتحة الكتاب فى مصحفك؟ قال = لو كتبتها لكتبتها مع كل سورة = قال أبو بكر الأنبارى يعنى أن = ركعة سبيلها أن تفتتح بأم القرآن قبل السورة المتلوة بعدها، فقال = اختصرت بإسقاطها، ووثقت بحفظ المسلمين لها ولم أثبتها فى موضع فيلزمنى أن أكتبها مع كل سورة إذا كانت تتقدمها فى الصلاة = وقع هذا على سبيل الاجتهاد من ابن عمر ولا نقول مع ذلك أنه أصاب هو وأخطأ جمهور المهاجرين والأنصار. انظر تفسير القرطبى 1/ 99وكتاب المصاحف ص 13وما بعدها.
(2) الفهرست ص 40.
(3) انظر: جفرى مقدمتان فى علوم القرآن 93، 94.(1/176)
يقول ابن كثير: = مشهور عند كثير من القراء والفقهاء أن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين فى مصحفه فلعلّه لم يسمعهما من النبى صلى الله عليه وسلم. ولم يتواتر عنده ثم رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة فإن الصحابة رضوان الله عنهم أثبتوها فى المصاحف الأئمة وأنفذوها إلى الآفاق =.
وأما ما روى من أن ابن مسعود رفض أن يحرق مصحفه، فليس بقادح فى إجماع الصحابة على قراءة المصحف العثمانى التى أقر بصحتها ابن مسعود نفسه فيما بعد. ثم إن عثمان لم يأمر أحدا بحرق مصحفه أمر إلزام، ولا عاقب أحدا على مخالفة ذلك، وإلا لاختفت جميع المصاحف من الأمصار الإسلامية وهو ما لم يحدث البتّة على أن ابن النديم (ت: 987377) حدث بأنه رأى مصحفا، ينسب إلى ابن مسعود كتب منذ نحو من مائتي سنة فيه فاتحة الكتاب (1). كذلك يمكن توجيه اعتراض ابن مسعود وتمسكه بمصحفه على أنه كان فى بداية الأمر، فلما تبين له إجماع الصحابة نزل عن رأيه إلى رأيهم كما أوضحناه من قبل. ورأى العلماء قراءة مصحفه سدّا للذرائع، ولأنه كتب فيه أشياء لنفسه على سبيل التفسير (2) وما يقال بالنسبة لعبد الله بن مسعود يقال كذلك بالنسبة للصحابة الآخرين الذين ذكر المستشرقون أسماءهم وأشاروا إلى مصاحفهم والتى جمعها (3)
المستشرق جفري، ونشرها في كتاب مستقل هذا مع أن وجود مثل هذه المصاحف يدل من طريق قريب على اهتمام المسلمين بكتابة القرآن وتسجيل القراءات المتعددة له، وهو مما يحسب للمسلمين لا عليهم.
ونضيف إلى هذا أننا إذا جمعنا كل هذه الاختلافات الموجودة فى المصاحف السابقة على مصحف عثمان لاستطعنا بسهولة ويسر أن نوفق بينها وأن نستخلص منها جميعا مصحف عثمان، وأما ما تضمنته هذه المصاحف من خلافات يسيرة فتحمل على أنها قراءات مختلفة، حفظها أصحابها بعد أن سمعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الآحاد، أو أنها نتجت عن الاختلاف في طريقة الرسم والشكل والنقط، على أن القرآن كله كان محفوظا
__________
(1) الفهرست ص 40.
(2) ابن عطية المحرر الوجيز 1/ 48.
(3) انظر: دائرة المعارف الإسلامية (النص الإنجليزى ص 406وأرثر جفرى. كتاب المصاحف لابن أبى داود السجستانى ص 5، وما بعدها وكتاب المبانى (كتب سنة 450هـ) لمؤلف مجهول نشره أرثر جفرى مع مقدمة ابن عطية ص 20وما بعدها.(1/177)
فى الصدور وأنه كان يتلقى مشافهة، لا خلاف فى ذلك عند أحد. لقد وضع العلماء ضوابط لقبول القراءة، من أهمها تواتر الرواية، وصحة السند، وموافقتها للعربية.
قال ابن عبد البر فى معنى الحروف التى تنزل عليها القرآن: = إنها معان متفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا يكون فى شيء منها معنى وضده، ولا وجه يخالف معنى وجه خلافا ينفيه ويضاده كالرحمة التى هى خلاف العذاب وضده. =
وذكر أن أبى بن كعب كان يقرأ {كُلَّمََا أَضََاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} (البقرة: 20) = مروا فيه =، = سعوا فيه = وكان بين ابن مسعود يقرأ {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونََا} (الحديد: 13)، = أمهلونا =، = أخرونا =.
قال الطحاوى: = وإنما كان ذلك رخصة، كما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد لعدم علمهم بالكتابة، والضبط، وإتقان الحفظ، ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الكتابة والحفظ = وبه قال ابن عبد البر والباقلانى وآخرون. (1)
ومن أمثلة الخلاف بين المصاحف: = ملك وملك =، و = يخدعون ويخدعون =، و = أوصى ووصى = وغيره كثير فى القراءات المشهورة. وقراءة ابن مسعود و = الذّكر والأنثى = فى قوله: {وَمََا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ََ} (3) بحذف عبارة = ما خلق =.
وقراءة ابن عباس: (وكان وراءهم مّلك يأخذ كلّ سفينة = صالحة = غصبا) بإبدال كلمة = وراء =، وبزيادة كلمة = صالحة =، وهى زيادة تفسيرية لا قرآنية، ونحو ذلك، مما رواه الثقات.
وقراءة ابن مسعود = كالصوف المنفوش = بدل {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}، (فناداه جبريل) بدل = فنادته الملائكة =، وقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللََّهِ الْإِسْلََامُ} (آل عمران: 19) عند ابن مسعود (إن الحنيفية)، وقراءة سعد بن أبى وقاص: (وله أخ أو أخت = من أم =) (النساء: 12)، وقراءة عائشة وحفصة رضي الله عنها: {حََافِظُوا عَلَى الصَّلَوََاتِ وَالصَّلََاةِ الْوُسْطى ََ} = صلاة العصر = (البقرة: 238) (2)، وقراءة ابن عباس: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنََاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} = فى مواسم الحج = (البقرة: 198). (أخرجه البخارى).
__________
(1) السيوطى. الإتقان 1/ 134، 135.
(2) المصدر نفسه 1/ 228227.(1/178)
أمثال هذه الزيادات أدرجها أصحابها على أنها تفسير للآية لا قراءة مختلفة لها، ولذلك علق عمر بن الخطاب على الزيادة فى قراءة ابن الزبير فى قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} = ويستعينون بالله على ما أصابهم = (آل عمران: 104)، قائلا فما أدرى أكانت قراءته أم فسّر. أخرجه سعيد بن منصور ابن الأنبارى وجزم الأخير بأنه تفسير. ويؤكد ذلك ما ورد عن الحسن أنه كان يقرأ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلََّا وََارِدُهََا} = الورود: الدخول = (مريم: 71)، قال ابن الأنبارى قوله: = الورود الدخول =، تفسير من الحسن (وربما سمعه من النبى صلى الله عليه وسلم) لمعنى الورود، وغلط فيه بعض الرواة، فألحقه بالقرآن ذكر ابن الجزرى فى آخر كلامه (أنهم) = ربما كانوا يدخلون التفسير فى القراءة إيضاحا وبيانا، لأنهم محققون لما تلقوه عن النبى صلى الله عليه وسلم قرآنا، فهم آمنون من الالتباس وربما كان بعضهم يكتبه معه = (1). ولابن حيان فى = البحر = أنه = إذا كانت القراءة مخالفة لسواد المصحف فينبغى أن تحمل على التفسير = (2). ولذلك فلم يرد عن أحد منهم أنه كان يصلى بهذه القراءة، ولا أن قراءته كانت معروفة لغيره، شائعة بين عموم المسلمين، هذا أمر ينبغي أن يكون واضحا.
ولا يفوتنا أن ننبه كذلك على أنه لا يوجد دليل البتّة على أن مصحف عبد الله بن مسعود فى ترتيب السور الخاص به كان قد وضع بعد ظهور المصحف العثمانى كما يدعيه بعض المستشرقين (3).
زعم جولدزيهر أن هذه الخلافات البسيطة بين المصاحف قد وضعت بغرض لاهوتى، أو كلامى، أو غير ذلك يقول: = إن بعض هذه الاختلافات فى القراءة ترجع أسبابها إلى الخوف من أن تنسب إلى الله ورسوله عبارات، قد يلاحظ فيها بعض أصحاب وجهات النظر الخاصة ما يمس الذات الإلهية العالية، أو ذات الرسول، أو مما قد يرى إنه غير لائق بهذا المقام، ولهذا تغيرت القراءات من هذه الناحية بسبب الأفكار التنزيهية =. ساق جولدزيهر مثلا على ذلك من قوله تعالى:
__________
(1) الإتقان 1/ 216.
(2) دائرة المعارف الإسلامية ص 407.
(3) انظر: عبده الراجحى. اللهجات 178ودائرة المعارف الإسلامية ص 407.(1/179)
{بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} (12) (الصافات: 12) (1). إذ قرأها عامة أهل الكوفة وعامة قراء المدينة والبصرة، وهى قراءة ابن مسعود أيضا، {بَلْ عَجِبْتَ} بضم تاء عجبت، على معنى أن الله تعالى هو المتعجب.
وقرأ بعض قراء أهل الكوفة = بل عجبت = بفتح التاء فى عجبت. وهى على هذه القراءة الأخيرة، تنسب العجب إلى محمد صلى الله عليه وسلم، بمعنى بل عجبت أنت يا محمد، وأنهم يسخرون من القرآن. يزعم هذا المستشرق أن العلماء هم الذين اخترعوا هذه القراءة الأخيرة من عند أنفسهم فرارا من إسناد العجب الذى يتضمن معنى الغفلة وقلة العلم، إلى الله تعالى.
هذا مع أن القراءتين واردتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بأس على من قرأ بهما أو بأحدهما أضف إلى ذلك أن لفظ = العجب = نسب إلى الله تعالى فى السنة (2)، فعلى سبيل المثال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: = عجب الله من قوم يدخلون الجنة فى السلاسل = (3)، بمعنى أن الله تعالى يجرهم إلى الجنة بالسلاسل، أى للطفه تعالى، ورحمته بهم، فهو يكرههم على عمل الطاعات الموصلة إلى الجنة وقد أبطلنا دعوى الوضع فى القراءات أصلا، ودللنا عليه بما فيه الكفاية. قال الحافظ أبو عمرو الدانى فى كتابه = جامع البيان وأئمة القراء = لا تعتمد فى شىء من حروف القرآن على الأفشى فى اللغة والأقيس فى العربية بل على الأثبت فى الأثر، والأصح فى الراوي والرواية إذا ثبتت عندهم لا يردها قياس عربية ولا فشو لغة لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها = (4).
لم يفت المستشرقون أن يشيروا إلى بعض الزيادات الواردة فى مصحف أبى بن كعب، حيث جاءت فى بعض الأخبار أن عدد سور القرآن فى مصحف أبىّ، ست عشرة ومائة سورة لأنه كتب فى آخره سورتى الحفد (5)، والخلع.
أخرج أبو عبيد عن ابن سيرين، قال كتب أبى بن كعب فى مصحفه فاتحة الكتاب
__________
(1) جولد زيهر = المذاهب الإسلامية فى تفسير القرآن = ترجمة على حسن عبد القادر. القاهرة مطبعة العلوم 1944ص 20.
(2) الراجحى اللهجات ص 202.
(3) صحيح البخارى جهاد 144سنن أبى داود جهاد 114مسند أحمد 3: 2، 3، 6: 4، 448
(4) السيوطى الإتقان ج 1ص 211. والزرقانى مناهل العرفان ج 1ص 422.
(5) حفد حفد حفدا وحفدانا واحتفد: خفّ فى العمل وأسرع. وحفد يحفد حفدا: خدم قاله الأزهرى الحفد فى الخدمة والعمل الخفة. انظر ابن منظور. لسان العرب. ج 3ص 153.(1/180)
والمعوذتين، واللهم نستعينك، واللهم إياك نعبد وتركهن ابن مسعود وكتب عثمان منهن فاتحة الكتاب، والمعوذتين. ومن حديث عبد الله بن زرير الغافقى قال: قال لي عبد الملك بن مروان: = لقد علمت ما حملك على حب أبي تراب (يعني عليّا كرم الله وجهه)، إلا أنك أعرابي جاف، فقلت: = والله لقد جمعت القرآن من قبل أن يجتمع أبواك، ولقد علمنى على بن أبى طالب سورتين علمهما إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما علمتهما أنت ولا أبوك، (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثنى عليك، ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلى ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك بالكفار ملحق) =. (1)
وما قيل فى المعوذتين بالنسبة لعبد الله بن مسعود يقال فى الحفد والخلع اللتين كتبهما أبى بن كعب فى مصحفه.
يقول ابن قتيبة فى تأويل مشكل القرآن = لا نقول إن أبيّا رحمة الله عليه أصاب وحده، وأخطأ المهاجرون والأنصار كلهم رضوان الله عليهم، ولكن نقول ذهب أبيّ فى دعاء القنوت إلى أنه من القرآن، لأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به فى الصلاة دعاء دائما، فظن أنه من القرآن، وأقام على ظنه، ومخالفة الصحابة = (2).
وردّ الباقلانى أيضا نصّي الحفد والخلع المثبتتان فى مصحف أبيّ لأنه لم تقم الحجة بقرآنيتهما، بل هما ضرب من الدعاء، وأنهما لو كانا قرآنا لنقل نقل القرآن وحصل العلم بصحتها ونضيف إلى أن الفرق جد واضح بين الدعاء الذى ظن أبى أنه قرآن وبين القرآن فالاختلاف فى النظم والبلاغة وفى الوقع والأثر الروحانيين فى القلب بين هذا الدعاء وبين أدعية القرآن المعروفة لنا.
يزعم برتون بجرأة مزرية أن مصاحف الصحابة إنما هى فكرة ملفقة لتبرير عمل عثمان، ومصحف عثمان ملفّق أيضا لإخفاء حقيقة أن محمدا هو الذى كان جمع القرآن وحققه وكتبه بنفسه. وقد قام بهذا التلفيق فى نظره الفقهاء واللغويون (3)، لقد قال برتون
__________
(1) الإتقان 1/ 184و 185وابن النديم: الفهرست ص 40، 41.
(2) التبيان 4/ 85ومقدمة كتاب المبانى فى علوم القرآن ضمن مقدمتان فى علوم القرآن: تحقيق أرثر جفرى 85وما بعدها.
(3) انظر: دائرة المعارف الإسلامية ص 407عمود.(1/181)
من قبل = الفقهاء والمحدثون =، وهو هنا يقول = المحدثون = = واللغويون = ويغور المستشرق ونسبرا أكثر فى هذا التيه إذ يتفق مع رفيقه برتون فى القول بتلفيق فكرة المصاحف ولكنه يخالفه فى التعليل لهذا التلفيق الموهوم فيزعم أن الفكرة من وراء القول بوجود مثل هذه المصاحف هى محاولة من قبل المسلمين لإثبات تاريخ قديم لجمع القرآن، وكتابة المصحف الذى لم يكتب فى نظره حتى القرن الثالث الهجرى / التاسع الميلادى، وربما بعد ذلك. كلا الكاتبين لم يقدما، للأسف، أى دليل بل لم يستطيعا أن يصبغا كلامهما بصبغة عقلية تحسنه للعقل الواعي، أو حتى يصبغاه بصبغة خيالية ممتعة وإن دل كلامهما إلى شيء فإنه يدل على تحاملهما على الإسلام والمسلمين والتشكيك في أي عمل من شأنه أن يظهر عناية المسلمين بكتاب الله تعالى أو على ظهور المسلمين كقوة حضارية وعلمية فى التاريخ.
وقد فطن ويلش لهذه المغالطة التي وقع فيها صاحباه، فأخذ على صاحبيه التوسع فى الدعوى وإعواز الدليل (1). هذه المزاعم تذكرنا بما زعمه منجانا، فى مقال له عن = نقل القرآن = إذ زعم أن رواية جمع القرآن ليست تاريخية، ولا مؤيدة بالأدلة وإنما هى حكايات جاءت بها الأحاديث عن طريق النقل الشفهى. وأن ما عند النصارى فى مسألة جمع القرآن من أقوال هو الصحيح المؤيد بالشواهد التاريخية، وقد أجهد منجانا نفسه لإثبات ذلك من ناحيتين الأولى تجميع حكايات إسلامية تنص على أن القرآن لم يجمع إلا فى وقت متأخر جدا، بعد 238سنة من وفاة النبى صلى الله عليه وسلم (2).
نقل منجانا ما ورد من أن عبد الملك بن مروان كان يخاف الموت فى شهر رمضان قائلا في تعليل ذلك، فيه ولدت وفيه فطمت، وفيه جمعت القرآن وفيه اخترت خليفة (3).
فهم منجانا خطأ ولم يراجع نفسه في الخطأ أن كلمة = جمعت = تعني كتبت
__________
(1) المصدر السابق 408عمود.
(2) = =. 28مقال أعددناه ردا عليه وهو بصدد النشر.
(3) المصدر السابق ص 32.(1/182)
المصحف بعد أن لم يكن مكتوبا، والمعنى الصحيح الذي لا يوجد غيره هو أن كلمة = جمعت القرآن = هنا تعنى = حفظت القرآن =، وكلمة = رمضان = فى الرواية تدل على هذا المعنى بوضوح تام، إذ كان مما يتفاءل به أن يتمّ الإنسان حفظ القرآن أو يختمه فى شهر رمضان، ولا يمكن بحال أن تفسر كلمة = جمع = بغير هذا المعنى، فالقرآن كان مجموعا بالفعل في مصاحف تعد بالملايين، ومحفوظا فى صدور الملايين من الحفّاظ بالقطع وكيف يسوّغ الكاتب لنفسه تجاهل كل هذه الروايات والحقائق فى مقابل قول لأحد المسلمين حتى ولو افترضنا المستحيل وقلنا إن عبد الملك أراد بقوله ذلك المعنى الذى فهمه منجانا وبنى عليه رأيه الخطأ ولكنه للأسف فإن منجانا ومن لفّ لفيفه، محكومون بنتيجة مسبقة، وعنصرية مستحكمة.
وبنفس الدرجة من اعتساف القول، اعتماد منجانا على ما ورد فى بعض الأخبار الضعيفة من أن الحجّاج غيّر فى المصحف، كيف يستطيع الحجاج عمل ذلك داخل العراق وخارجه فى البلدان التى لم يمتد إليها سلطانه؟، وأين كان العلماء والحفاظ من ذلك؟ وإذا كان الحجاج قد استطاع تغيير النص المكتوب فهل كان يستطيع تغيير المحفوظ فى الصدور؟ عجبا! بل إنه أشد فى العجب شأنا أن الحجاج كان يحفظ القرآن وكان كثير التلاوة له شديد العناية به.
نعم لقد ذكر ابن أبى داود فى المصاحف أن الحجاج غيّر بعض الحروف أو العبارات المعدودة والتى كانت فى إطار القراءات القرآنية أيضا، هذا إذا صح النقل (1).
وأبعد من ذلك عن الحقيقة وروح البحث العلمى أن يحكم منجانا بعدم وجود القرآن ككتاب لسبب بسيط جدا عنده، وهو أن المؤرخين النصارى لم يشيروا إليه فى الوقت الذى أشاروا فيه إلى المسلمين أو الهاجريين (نسبة إلى أمهم هاجر) كما كانوا يسمونهم (2).
__________
(1) المصاحف ص 5049.
(2). 33وأيضا مقالته بدائرة معارف الدين والأخلاق ج ص 549(1/183)
وكان الأولى بمنجانا، لو أراد الإنصاف، أن يرمى بني دينه من النصارى بالجهل بالقرآن، أو بالتعصب عليه بإهمال ذكره، مع غزارة الأدلة على ذيوع أمر القرآن داخل الجزيرة وخارجها وذلك عن طريق الرسائل التى أرسلها النبى صلى الله عليه وسلم إلى الرؤساء والملوك، وعن طريق اتصال المسلمين بإمبراطور الحبشة، وبالروم، وبالحروب والوفود والبعوث التى خرجت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو حضرت إلى مسجده صلى الله عليه وسلم كوفد = نصارى نجران = وعن طريق انتشار الكتاتيب والمعلمين فى الأمصار، والتخوم الإسلامية، ثم عن طريق الترجمات القرآنية والجدل الدينى فيما بعد ولكن الكاتب يهدف من دراسته إلى شىء آخر غير طلب الحقيقة، لذلك فقد ولى ظهره لهذه الحقائق كلها. لقد تلقى المسلمون المصحف الإمام بالقبول، وأقبلوا عليه يقرءونه ويحفظونه ويعلمونه للناس فى كل مكان.
ولم يقرأ من المسلمين المصاحف الأخرى إلا المتخصصون من القراء والحفاظ، وكان المصحف العثمانى هو القاعدة والأساس عند وقوع أى اختلاف هذا ولم يمض طويل وقت على سيادة المصحف الإمام حتى تحول إليه أهل الكوفة، وتركوا قراءة عبد الله بن مسعود، بحيث صار لا يقرأ بها إلا الرجل والرجلان، كما مر بنا وأن أحدا من الصحابة لم يتابع ابن مسعود فى عدم كتابة الفاتحة والمعوذتين فى المصحف. هذا الأمر واضح ولا يقبل التعتيم الذى يحاوله المستشرق ويلش وغيره من المستشرقين.(1/184)
ولم يقرأ من المسلمين المصاحف الأخرى إلا المتخصصون من القراء والحفاظ، وكان المصحف العثمانى هو القاعدة والأساس عند وقوع أى اختلاف هذا ولم يمض طويل وقت على سيادة المصحف الإمام حتى تحول إليه أهل الكوفة، وتركوا قراءة عبد الله بن مسعود، بحيث صار لا يقرأ بها إلا الرجل والرجلان، كما مر بنا وأن أحدا من الصحابة لم يتابع ابن مسعود فى عدم كتابة الفاتحة والمعوذتين فى المصحف. هذا الأمر واضح ولا يقبل التعتيم الذى يحاوله المستشرق ويلش وغيره من المستشرقين.
الفصل الثالث كتابة = المصحف الإمام = واعتماد القراءات
يزعم الكاتب أنه منذ البداية كانت هناك اختلافات بين المصاحف الأئمة، ونسخ المصحف العثمانى حتى فى نسخة المدينة الأم كما أورده أبو عمر الدانى (444/ 1052) فى كتاب = المقنع =. أما نحن المسلمين فلا نقبل أى رواية على علاتها، مهما كان راويها، إن للمصحف الإمام رسما خاصا، وإن خالف قواعد الخط والكتابة التى تقررت فيما بعد، والرسم ليس توقيفا، وإنما إلهاما، وإلا لما اختلفت اللجنة التى شكّلها عثمان فى رسم كلمة = التابوت = هل يكتبونها بالتاء أم بالهاء إذ رفعوا الأمر إلى عثمان، فأمر بكتابتها بالتاء ولو كانت الكلمة واردة بهذا الرسم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توقف فيها زيد بسبب الاختلاف بين المصاحف فى الرسم، كما ألمحنا إليه.
ويرجع سبب اختلاف المصاحف فى الرسم إلى تنوع القراءات، وصوتيات اللغة واللهجات، وإجراء الوقف مجرى الوصل، أو العكس، أو إلى شكل الخط (1) ولنأخذ بعض الأمثلة من كتاب = المقنع = للدانى، وهو الذى أشار إليه الكاتب = كل ما فى كتاب الله عز وجل من ذكر للكلمة فى لفظ الواحد فهو بالهاء إلا حرفا واحدا فى قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى ََ} (الأعراف: 137)، فإن مصاحف أهل العراق اتفقت على رسمه بالتاء فأما فى: (وتمّت كلمت ربّك صدقا وعدلا) (الأنعام: 115). وفى: (يونس: 33) كذلك حقّت كلمت ربّك على الّذين فسقوا أنّهم لا يؤمنون (33)، وفي السورة نفسها:
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لََا يُؤْمِنُونَ} (96) (يونس: 96)، وفى قوله تعالى:
وكذلك حقّت كلمت ربّك على الّذين كفروا أنّهم أصحاب النّار (6) (غافر: 6)، فإنى وجدت الحرف الثانى من يونس فى مصاحف أهل العراق بالهاء (يعنى هكذا = كلمة =)، وما عداه بالتاء من غير ألف قبلها، وهذه المواضع الأربعة تقرأ بالجمع والإفراد =. وقال أيضا:
= وجدت فى مصاحف أهل المدينة والعراق {وَيَحْيى ََ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال: 42) بياء واحدة وذلك عندى على قراءة من أدغم (2) قام مقام: {وَمََا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} (يس: 35) =.
__________
(1) الدانى. المقنع 79وعبد الوهاب حمودة. القراءات واللهجات القاهرة النهضة المصرية 19481368ص 104
(2) الدانى. المقنع ص 50وأيضا ابن أبى داود. كتاب المصاحف ص 105وما بعدها.(1/185)
هذه أمثلة من الخلافات الكائنة بين المصاحف معروفة ومضبوطة ومخرجة، والمسلمون أنفسهم الذين يعتقدون فى إلهية كل حرف من حروف القرآن، هم الذين رصدوها وتتبعوها ووعوها تماما ولم يجدوا حرجا فى نقلها وتخريجها.
وقول الكاتب بأن الرسم العثمانى (1) كان غير واضح وأنه ترك للقارئ الحرية فى أن يضبط قراءته بنفسه لنفسه فكلام غير معقول وغير مقبول على الإطلاق وقد ذكرنا فيما سبق أن القرآن كان ولا يزال يؤخذ بالتلقى عن الشيوخ، ولا يعتمد فيه على الخط وحده. وبالتالى فزعم المستشرق بأن الأمر بالنسبة لوضع المصحف العثمانى لم يكن قد استقر بعد، وأن الخلافات بين المصاحف العثمانية كانت تتسع أكثر فأكثر بمرور الوقت، وأن قراءات أخرى جديدة بدأت تظهر فى العصر الأموى (13241هـ / 661 750م) وأن الحجّاج هو الذى وضع النقط، فتوسّع فى الكلام، وسوء فى التفسير، وتجاوز للحقائق. وأما عن القول بأن الحجاج بن يوسف قد غيّر الشكل، وأن المصحف العثمانى لم يكن منقوطا ولا مشكولا، فربما كان القصد من تركه هكذا هو بقاء الكلمة محتملة لأن تقرأ بالوجوه المحتملة للقراءة وقد جاء عن أبي علي الفارسي أنه قال = لما عمل أبو بكر بن السّراج كتاب الخط والهجاء قال لي: اكتب كتابنا هذا. قلت له: نعم، إلا أني آخذ بآخر حرف منه، قال: وما هو؟ قلت قوله: = ومن عرف صواب اللفظ عرف صواب الخط = (2)
وينبغى أن يكون واضحا غاية الوضوح أن الرسم القرآنى ليس توقيفيا إذ القرآن لم ينزل مكتوبا من عند الله وإنما تلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم سماعا من جبريل ثم أملاه من حفظه على كتّاب الوحي فكتبوه. وقد كان النبى أميا لا يستطيع أن يتبين رسم الكتابة. وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يطلب من كتّاب الوحى أن يعيدوا عليه ما كتبوه ليتأكد من صحة ما كتبوه، ولو كان الرسم أو الخط القرآنى مهما بهذه الدرجة، لطلب النبى صلى الله عليه وسلم من كتاب الوحى أن يتفقوا على الخط أو الرسم، هذا توجيه وتوجيه آخر محتمل أن الرسم العثماني ثابت بطريق التوقيف، أو يكون الاختلاف فى القراءات كله توقيفى أيضا وهذا هو السبب
__________
(1) دائرة المعارف ص 408.
(2) الزركشي. البرهان ج 1ص 377.(1/186)
فى اختلاف المصاحف العثمانية فيما بينها، إذ يمكن إرجاعها فى الأغلب إلى اختلاف القراءات المتلقاة عن النبى صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عمرو الدانى فى المقنع = فإن سأل سائل عن السبب الموجب لاختلاف مرسوم هذه الحروف الزوائد فى المصاحف قلت: السبب فى ذلك عندنا أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، لما جمع القرآن فى المصاحف ونسخها على صورة واحدة، وآثر فى رسمها لغة قريش دون غيرها، مما لا يصح ولا يثبت، نظرا للأمة، واحتياطا على أهل الملة، وثبت عنده أن هذه الحروف من عند الله عز وجل كذلك منزلة، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسموعة، وعلم أن جمعها فى مصحف واحد على تلك الحال غير متمكن إلا بإعادة الكلمة مرتين، وفى رسم ذلك كذلك من التخليط والتغيير للمرسوم ما لا خفاء به ففرقها فى المصاحف لذلك، فجاءت مثبتة فى بعضها، ومحذوفة فى بعضها، الآخر لكى تحفظها الأمة كما نزلت من عند الله عز وجل، وعلى ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا سبب اختلاف مرسومها فى مصاحف الأمصار (1).
وقد قلنا فى أكثر من مناسبة فى هذا الكتاب إن حفظ القرآن لا يعتمد على الخط وحده، وإنما على حفظ القلوب أيضا. يقول ابن الجزرى فى كتابه = النشر فى القراءات العشر =: = إن الاعتماد فى نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة = (2). واستشهد ابن الجزرى على ذلك بحديث مسلم (3): = أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته ألا إنّ ربّي أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم ممّا علّمني يومي هذا كلّ مال نحلته عبدا حلال وإنّي خلقت عبادي حنفاء كلّهم وإنّهم أتتهم الشّياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وإنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان وإنّ الله أمرني أن أحرّق قريشا فقلت ربّ إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة قال استخرجهم كما
__________
(1) المقنع 114
(2). 1/ 6.
(3) النووى على مسلم 1/ 198.(1/187)
استخرجوك واغزهم نغزك وأنفق فسننفق عليك وابعث جيشا نبعث خمسة مثله وقاتل بمن أطاعك من عصاك = ثم قال ابن الجزرى: = فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج فى حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرءونه فى كل حال، كما جاء فى صفة أمته = أناجيلهم فى صدورهم =، وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه، ولا يقرءونه كله إلا نظرا، لا عن ظهر، ولما خص الله تعالى بحفظه من شاء من أهله، أقام أئمة ثقات تجردوا لتصحيحه وبذلوا أنفسهم فى إتقانه، وتلقوه من النبى صلى الله عليه وسلم حرفا حرفا لم يهملوا منه حركة ولا سكونا، ولا إثباتا ولا حذفا، ولا دخل عليهم فى شىء منه شك ولا وهم، وكان منهم من حفظه كله، ومنهم من حفظ أكثره، ومنهم من حفظ بعضه كل ذلك فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم = (1).
وعند ما بدأ اختلاط العرب بالعجم يؤثر على فصاحة اللغة ويزحف إلى ألسنة قرّاء القرآن حتى لقد شق على بعض الناس أن يميزوا بعض الكلمات القرآنية غير المعجمة، هدى الله الخليفة، فأمر الحجّاج بأن يتولى عملية ضبط القرآن فكلف الحجاج رجلين ليقوما بهذه المهمة هما: نصر بن عاصم الليثى، ويحيى بن يعمر العدوانى من تلامذة أبى الأسود الدؤلى ولقد كان الرجلان آية فى العلم، والعمل، والصدق، والضبط، والأمانة، فقاما بهذه المهمة النبيلة خير قيام، وأراحا بذلك سواد قرّاء القرآن (2).
وفى هذا دليل أكيد على أنه لا يوجد فى عمل الحجاج ما يضاد صحة القرآن وليس فيه كذلك ما يخرم الثقة فى النص القرآني وليس فى عمل الحجاج البتّة ما يوهم بأن القرآن لم يجمع حتى هذا التاريخ أو أن الحجّاج غيّر فى القرآن شيئا كما حلى للمستشرقين أن يرددوه.
أشار الكاتب بعد ذلك إلى قول بعض المسلمين بضرورة الأخذ بالقراءة التى توافق قواعد اللغة فقط (3) وقد مر بنا رفض العلماء لمثل هذا الرأى على أساس أن القراءة توقيفية وأن الأخذ بها واجب سواء وافقت قواعد اللغة أم لم توافقها، المهم أن تكون
__________
(1) النشر 1/ 6والإمام البخارى خلق أفعال العباد 2/ 178ضمن كتاب عقائد السلف.
(2) ابن أبى داود كتاب المصاحف 118117، ابن النديم. الفهرست ابن خلدون المقدمة 3/ 1028والزركشى.
البرهان. ج 1ص 374وما بعدها والسيوطى الإتقان ج 1/ ص 222وما بعدها. وانظر الزرقانى، مناهل العرفان. 1/
407406.
(3) انظر: دائرة المعارف الإسلامية ص 409.(1/188)
صحت روايتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونضيف إلى ما سبق ذكره قول أبي البقاء فى كتاب اللباب: = ذهب جماعة من أهل اللغة إلى كتابة الكلمة على لفظها إلا فى خط المصحف فإنهم اتبعوا فى ذلك ما وجدوه فى (المصحف) الإمام والعمل الأول = (1)
وأما عن كلام الكاتب بالنسبة لعدد القراءات هل هى سبع أم أكثر من السبع فقد تعددت القراءات حتى قيل القراءات السبع، والقراءات العشر، والقراءات الأربع عشرة، وأشهرها القراءات السبع، وهى القراءة المنسوبة إلى الأئمة السبعة المشهورين وهم نافع، وعاصم، وحمزة، وعبد الله بن عامر (ت: 1181/ 673)، وعبد الله بن كثير (820/ 737)، وأبو عمرو بن العلاء (ت: 154/ 770)، والكسائى. والقراءات العشر تكون بزيادة أبى جعفر، ويعقوب، وخلف، على السبعة المذكورين والأربع عشرة بزيادة أربع على قراءات هؤلاء العشرة وهى قراءة الحسن البصرى، وابن محيصن، ويحيى اليزيدى والشنبوذى. وقد انتشرت هذه القراءات واشتهرت فى الأمصار الإسلامية على رأس المائتين، فكان لكل مصر قرّاؤه وقراءته. ولم تدون القراءات السبع إلا نحو نهاية القرن الثالث الهجرى، وقد جمع القراءات السبعة الإمام ابن مجاهد ببغداد. ثم زيدت هذه القراءات إلى الأربع عشرة ولا يمنع ذلك أنه كانت هناك قراءات أخرى كثيرة على هامش هذه القراءات لكنها كانت أقل شهرة ولم يأت القرن الخامس إلا وقد سادت القراءات السبعة (2).
وينبغى أن يكون واضحا أن اختيار قراءة ما لم يكن عشوائيا أو متروكا لمجرد اجتهادات الناس، هكذا بدون ضوابط كلا فقد وضع العلماء قاعدة على أساسها يقبلون أو يرفضون القراءة فقالوا = إن كل قراءة وافقت أحد المصاحف العثمانية، ولو تقديرا ووافقت العربية، ولو بوجه، وصح إسنادها ولو كان عمن فوق العشرة من القراء، فهى القراءة الصحيحة التى لا يجوز ردها، ولا يحل إنكارها بل هى من الأحرف السبعة التى نزل عليها القرآن = (3) ومهما يكن من أمر القراءات، فهى بمثابة اللهجات الكثيرة للغة الواحدة، أو هى بمثابة الفروع للأصل الواحد. والقراءة لا تقبل إلا بسند وتواتر كالأصل
__________
(1) البرهان 1/ 376
(2) انظر الفهرست ص 5042، وابن خلدون. المقدمة 3/ 1028، الزرقانى. مناهل 1/ 418416.
(3) الزرقانى. مناهل 1/ 418416.(1/189)
فى القرآن. وما لم يثبت إلا بطريق الآحاد فإنه مردود، وقد تعددت القراءات بتعدد الشيوخ الكبار ومن أخذ عنهم فى الأعصار المختلفة والأمصار المتعددة حتى إذا ما جاء القرن الثالث الهجرى تصدى ابن مجاهد لضبط ما رواه الثقات من القراءات وتمييزه عن غيره. وكان أبو بكر بن مجاهد هو أول من اختار القراءات السبع واقتصر عليها. وتحديد ابن مجاهد للقراءات بسبع، كان بغرض التوفيق بين عدد القراءات وعدد اللغات والأحرف التى نزل بها القرآن كما فى حديث: = أنزل القرآن على سبعة أحرف = (1).
وفعل ابن مجاهد ليس ملزما، بل لقد اتفق علماء السلف على أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة فى جميع أمصار المسلمين بل لكل واحد ما اختار منها (2).
ذكر أبو محمد مكى بن أبى طالب (3): أن العلماء أحصوا فى كتبهم أكثر من سبعين ممن هو أعلى رتبة، وأعظم مكانة من هؤلاء السبعة الدين احصاهم ابن مجاهد بل لقد أهمل بعض المعنيين بالقراءات ذكر بعض هؤلاء القراء السبعة. وإن كثرة القراءات وتعددها وانتشار القراء ووفرتهم، دليل واضح على ذيوع القرآن وانتشاره وعلى اهتمام المسلمين به إذ كان القرآن دائما موضع عناية العلماء ومشايخ الحفاظ والقراء، كما كان محل عناية المسلمين جميعا، عملا وتطبيقا، ومدارسة وتدبرا.
__________
(1) انظر: مقدمة المحرر الوجيز لابن عطية ضمن = مقدمتان فى علوم القرآن = ص 265وما بعدها.
(2) انظر: جامع البيان للطبرسى 1/ 106النشر فى القراءات العشر 1/ 133وأيضا عبده الراجحى اللهجات ص 74، 75.
(3) النشر فى القراءات العشر 1/ 63والراجحى. القرآن واللهجات 75وعبد الصبور شاهين. القراءة القرآنية فى ضوء علم اللغة الحديث. القاهرة. الخانجى 1966ص 70.(1/190)
الباب الرابع بنية القرآن
تمهيد الفصل الأول السور وأسماؤها الفصل الثانى الآيات الفصل الثالث البسملة الفصل الرابع الحروف المقطعة الفصل الخامس عناية المسلمين بالحروف المقطعة(1/191)
تمهيد الفصل الأول السور وأسماؤها الفصل الثانى الآيات الفصل الثالث البسملة الفصل الرابع الحروف المقطعة الفصل الخامس عناية المسلمين بالحروف المقطعة
تمهيد
فى هذا الباب يتعرض الكاتب لأسماء السور وحجم الآيات القرآنية وموقعها من السورة، وأيضا للسمات الأدبية التى تميزها يقول = إنه على الرغم من ورود اسم = آية = فى القرآن بالإفراد والجمع، إلا أنه ليس من الواضح، أن هذه اللفظة كانت تستعمل منذ البداية كإشارة إلى الجزء المحدد من القرآن كما هو معروف اليوم، لقد كانت هذه الكلمة تعنى المعجزة فى بداية الأمر ثم استخدمت فيما بعد للدلالة على الآية من القرآن =. يريد ويلش أن يقول إن محمدا أو الصحابة قد نقلوا الكلمة من معناها الأول إلى معنى آخر بهدف تحديد معالم القرآن الكريم، وأن محمدا أو أصحابه قد أخذوا المعنى الجديد للكلمة من كتب اليهود والنصارى. وتلاحظ هنا كما لاحظنا فى كل موضوع تناولنا فيه كلام المستشرقين أن الكاتب دائما جد حريص على إرضاء غروره العنصرى بجعل كتبه المقدسة هى المعيار، وهى الأصل الذى يقاس عليه. ويقول بعد ذلك متصلا = إن أول سورة فى القرآن هى فاتحة الكتاب، المكونة من سبع آيات، وهى عبارة عن دعاء من العبد لربه، وباستثناء سورتى يوسف ونوح فإن معظم سور القرآن تبدو وكأنها مكونة من مقاطع أو أجزاء مختلفة، متنافرة وغير مترابطة ولا يجمعها عنوان واحد ومحدد ولا نسق موضوعى بعينه، وإن سورتى يوسف ونوح مركبتان من عناصر مختلفة جمعت من عدة سور أخرى وإن بعض سور القرآن وبالتحديد الثلاثة الأخيرة منه تبدو وكأنها فقرات مقطوعة الصلة بباقى سور القرآن.
،،.)،. 2 .. 409،. 8 (.
ويشير ويلش فى هذا الصدد إلى سقوط المعوذتين من مصاحف بعض الصحابة وإلى سورتي الفيل ولإيلاف قريش اللتان عدتا سورة واحدة فى مصحف أبيّ.
إننا لا نتهم ويلش بالجهل أو الغفلة هنا وإنما نتهمه أكثر بالتعصب وذلك لأنه أخذ القول السابق فيما يخص مصحف أبى بن كعب من كتاب الإتقان للإمام السيوطى واقتصر عليه دون تفنيد أو اعتبار للروايات الأخرى الأشد وثوقا من هذه الرواية التى اهتبل بها.
أضف إلى ذلك أن الإمام السيوطى قد أورد هذا الخبر فى الكتاب نفسه وفى الموضع نفسه الذى اطلع عليه ويلش، لكن السيوطى قد استشهد على ردّ خبر مصحف أبى بالحديث
الذى أخرجه الطبرانى من حديث أم هانئ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فضّل الله قريشا بسبع = الحديث وفيه: = وإن الله أنزل فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها معهم غيرهم لإيلاف قريش = (1).(1/193)
أضف إلى ذلك أن الإمام السيوطى قد أورد هذا الخبر فى الكتاب نفسه وفى الموضع نفسه الذى اطلع عليه ويلش، لكن السيوطى قد استشهد على ردّ خبر مصحف أبى بالحديث
الذى أخرجه الطبرانى من حديث أم هانئ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فضّل الله قريشا بسبع = الحديث وفيه: = وإن الله أنزل فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها معهم غيرهم لإيلاف قريش = (1).
وهب أن واحدا من الصحابة فعل ذلك فى مصحفه الذى كتبه لنفسه بخاصة فهل يكون فعله حجة على جميع الصحابة وخرقا لإجماعهم؟. إذ كانوا قد أجمعوا على اعتماد مصحف عثمان رضى الله عنه لا غير والذى فيه المعوذتان وسورتا الفيل ولإيلاف قريش كسورتين منفصلتين.
وزعم ويلش كذلك أن سورتي العصر والكوثر قلقتان فى موضعيهما من المصحف وبعبارته هو:
). .،، (.،. (2)
ولسنا ندرى على أى أساس حكم ويلش بأن هاتين السورتين بالذات دون باقى السور القصار الأخرى قلقتان فى موضعيهما؟ إنه ربما حكم هذا الحكم لمّا لاحظ أن سورة العصر تشتمل على سطرين اثنين، وأنها تتوسط سورتين تشتمل كل منهما على أربعة سطور فحكم بظاهر المرسوم مع إهمال متعمد للحقائق المقررة. والكلام نفسه يقال فى تعليل رأى المستشرق بالنسبة لسورة الكوثر التى تشتمل هى الأخرى على سطرين، وتتوسط كذلك سورتين رباعية السطور، وليستا هما جاريتين فى موضعيهما على قاعدة ترتيب المصحف، من حيث عدد السطور أو الآيات ولو أننا طبقنا قاعدة أن سور القرآن مرتبة بحسب الطول والقصر فقط، كما يحاول المستشرق ويلش أن يقول، لحكمنا أن سورا كثيرة موضوعة، بناء على منطقه هذا، فى غير مواضعها وكان من الأنسب على هذا المنطق الخاص به ألا توضع الفاتحة فى أول المصحف، بل مع قصار السور أى فى آخر المصحف.
__________
(1) الإتقان ج 1ص 186.
(2) دائرة المعارف الإسلامية ج 2. ص 409وما بعدها.(1/194)
لقد نبهنا مرارا إلى أن ترتيب سور القرآن لم يكن اجتهاديا بل توقيفيا، لا دخل للعقل ولا للمنهجية البشرية فيه فللقرآن منهج ونسق خاصين به، بل إننى قد أغامر فأقول إن هذا الترتيب المعجز لسور القرآن يعتبر من قبيل المتشابه الذى يحتاج إلى إعمال الذهن للتوصل إلى العلاقات التى تجمع بين أجزاء القرآن من أوله إلى آخره والتى قد تبدو غير واضحة أحيانا. ليس فى القرآن خلل البتّة ولا عوج ولا اختلاف أبدا لا فى ترتيب السور ولا فى ترتيب الآيات.
لقد تكلم علماؤنا فى مناسبة الآيات والسور القرآنية، وأفرده جماعة منهم بالتأليف ربما كان من أولهم أبو جعفر بن الزبير شيخ أبى حيان الذى ألف كتابا سماه = البرهان فى مناسبة ترتيب سور القرآن =، وللشيخ برهان الدين البقاعى السورى (ت: 885هـ / 1480م)، كتاب بعنوان = نظم الدرر فى تناسب الآى والسور = كذلك ألف السيوطى كتاب = تناسق الدرر فى تناسب السور = وكما تكلم بعض المفسرين فى موضوع ترتيب السور والآيات يقول الفخر الرازى عند تفسيره لسورة البقرة على سبيل المثال:
= ومن تأمل فى لطائف نظم هذه السورة، وفى بدائع ترتيبها، علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه، وشرف معانيه، فهو أيضا معجز بسبب ترتيبه ونظم آياته، ولعل الذين قالوا: إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك، إلا أنى رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأسرار، وليس الأمر فى هذا الباب إلا كما قيل:
والنّجم تستصغر الأبصار صورته ... والذّنب للطّرف لا للنّجم في الصّغر
ويعرّف السيوطي المناسبة بقوله هي فى اللغة المشاكلة والمقاربة، ومرجعها فى الآيات ونحوها إلى معنى رابط بينهما، عام أو خاص، عقلى أو حسى أو خيالى، أو غير ذلك من أنواع العلاقات أو التلازم الذهنى، كالسبب والمسبب والعلة والمعلول، والضدين، ونحوه =.
ويبين فائدتها بقوله إنها: = جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء = (1).
أما الشيخ عز الدين بن عبد السلام فقد اعترض على القول بوجود مناسبة بين سور القرآن وآية واعتبر البحث فى ذلك تكلفا وذلك بحجة = أن ارتباط الكلام لا بدّ وأن يقع فى أمر متحد مرتبط أوله بآخره، والقرآن قد نزل فى نيف وعشرين سنة، وفي أحكام مختلفة، شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربطه بعضه ببعض. = وقد رد الشيخ ولى الدين
__________
(1) الإتقان ج 3ص 324323.(1/195)
الملوى على مثل هذا الاعتراض بقوله: = وفصل الخطاب أنها (أى السور والآيات) على حسب الوقائع تنزيلا، وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا، فالمصحف على وفق اللوح المحفوظ، مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، كما أنزل جملة إلى بيت العزة ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر، والذى ينبغى فى كل آية أن يبحث أول كل شىء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة ثم المستقبلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جم وهكذا فى السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سبقت له (1).
وهنا ينبغى أن ننبه على أن قول العز بن عبد السلام بأن ترتيب السور والآيات ليس بينها مناسبة نظرا لنزولها على التراخى واختصاص كل منها بأحكام مستقلة فهو قول لا نوافقه عليه فإن القرآن مصدره واحد، وهو على الرغم من تراخى فترات نزوله كتاب واحد ونظم واحد، ومع هذا فليس هناك ما يؤيد رأى المستشرقين، فى دعوى عدم ترابط سور القرآن وآياته، إذ أن فحوى كلام العز بن عبد السلام: أن القرآن ليس كتابا من صنف ما يؤلفه البشر، يعنى أن له مقدمة، وموضوعا، وخاتمة، وغير ذلك وإنما هو كتاب إلهى له نظامه الخاص ونظمه المعجز وترتيبه الفريد فالقرآن ينظم الآيات فى سلسلة نظم العقد للحبات المشعة، فإنها مهما تباعدت فى المسافات واختلفت فى الأحجام، تخضع لنظام جمالي واحد أو هو كماء المحيط مهما تباعدت مسافاته اتحدت صفاته وسماته.
أما مقصد المستشرقين فهو أنهم على عكس ذلك، يزعمون أن القرآن لا تجمع سوره وآياته أيّة رابطة أو مناسبة، وليس له نسق فكرى أو موضوعى متصل، وهم بذلك يريدون أن يصلوا إلى تأكيد وجهة نظرهم فى بشرية القرآن وتعدد مصادره التى نقل عنها، وهذا فوق أنه يصادم عقيدة المسلمين فى القرآن فإنه معارض بجميع الأدلة التى قدمناها وأقواها وأسماها دليل القرآن نفسه.
إن زعم المستشرق ويلش بأن آيات القرآن لا يربطها نسق فكرى واحد، لا أساس له من الصحة فآيات الذكر الحكيم متصلة، ومتواصلة فيما بينها، إنها بمثابة النجوم، لكل نجم نوره فى نفسه، ونوره الذى يمتزج بنور غيره من النجوم الأخرى، فإذا أنت نظرت إلى مجموع
__________
(1) المصدر نفسه والموضع وانظر الأمثلة على ما قلناه فى الإتقان وتفسير الفخر الرازى.(1/196)
هذه النجوم وجدت كل واحد منها قائما بنفسه مستقلا بذاته متميزا بألقه، ولكنك إذا نظرت إلى ذلك السّنا اللانهائي الذى يضم مجموع أنوار هذه النجوم وجدتها كلها، وكأنها برزت من هذا اللجين المترامى الأطراف، وانبثقت من هذا المحيط النورانى المتدفق.
إنه من الجلي أنه لا توجد سورة من سور القرآن يمكن أن تكون عن القرآن بمعزل، وليس فى القرآن البتّة تركيب اصطناعي، أو تصنيف بشرى ولا تجميع ولا تقطيع، بل وحدة وانسجام، وجمال وكمال، إن القرآن، كل القرآن صادر عن المنزّل العظيم، ودال على الله رب العالمين، الذى لا شريك له فى ملكه ولا فى كلمه يقول تعالى: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} (82) (النساء: 82) ويقول تبارك تعالى:
{وَلَقَدْ جِئْنََاهُمْ بِكِتََابٍ فَصَّلْنََاهُ عَلى ََ عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (52) (الأعراف: 52).
ويقول تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمََا كُنََّا غََائِبِينَ} (7) (الأعراف: 7) ويقول: {الر كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (1) (هود: 1)، ومعنى = فصّلت = أحكمت فى صورتها ومعناها بمقياس دقيق، وتركيب بديع مناسب لما فصلت له مناسبة الثوب للبدن، والأعضاء للجسم، والفصل هو موضع المفصل، وبين كل فصلين وصل، ومما قيل شعرا فى هذا المعنى: = وصلا وفصلا، وتجميعا ومفترقا، فتقا ورتقا وتأليفا لإنسان = ويقال: = عقد مفصل = أى جعل بين كل لؤلؤتين خرزة (1) ويقول تعالى: {بَلْ هُوَ آيََاتٌ بَيِّنََاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمََا يَجْحَدُ بِآيََاتِنََا إِلَّا الظََّالِمُونَ} (49) (العنكبوت: 49) ويقول:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمََّا جََاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتََابٌ عَزِيزٌ (41) لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (42) (فصلت: 4241).
__________
(1) انظر ابن كثير مختصر تفسير 2/ 210الراغب الأصفهانى. المفردات ص 638، 639وابن منظور. لسان العرب 11/ 520، 521.(1/197)
الفصل الأول السور وأسماؤها
وأما بالنسبة لتعدد المصاحف واختلافها فى ترتيب السور وأسمائها والتى أثارها الكاتب فنقول إن هذا الاختلاف راجع إلى أن الصحابة كانوا يكتبون مصاحف خاصة بهم يرتبونها حسب السماع أو على ما رأوه حسنا، وكان ذلك قبل جمع القرآن فى الصحف وقبل ظهور مصحف عثمان الذى التزم فيه ترتيب النبى صلى الله عليه وسلم للسور إذ الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات فى السور توقيفى (1) وفى كتب الأحاديث الكثير من الشواهد على ذلك، على سبيل المثال، فقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذى والنسائى وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى سورة الأنفال وهي من المثاني وإلى سورة براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر = بسم الله الرّحمن الرّحيم = فوضعتموها في السّبع الطّوال فما حملكم على ذلك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممّا يأتي عليه الزّمان وهو ينزل عليه من السّور ذوات العدد فكان إذا أنزل عليه الشّيء دعا بعض من يكتب له فيقول ضعوا هذه في السّورة الّتي يذكر فيها كذا وكذا، وإذا أنزلت عليه الآيات قال ضعوا هذه الآيات في السّورة التي يذكر فيها كذا وكذا وإذا أنزلت عليه الآية قال ضعوا هذه الآية في السّورة الّتي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت سورة الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت سورة براءة من أواخر ما أنزل من القرآن، قال فكانت قصّتها شبيها بقصّتها فظننّا أنّها منها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبيّن لنا أنّها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} ووضعتها في السّبع الطّوال = (2) واضح من هذا الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم كان هو الذى يرتب الآيات فى السورة ويبين كل شىء يختص بالقرآن إلا البسملة فيما يخص أول سورة براءة وأن عثمان لم يثبتها مخافة أن يكون قد ابتدع فى كتاب الله ما ليس منه ولو أن عثمان كان
__________
(1) السيوطى. الإتقان 1/ 172. الزركشى. البرهان 1/ 145وما بعدها وابن أبى داود. كتاب المصاحف. ص 31، 32.
(2) الإتقان 1/ 172وابن أبى داود كتاب المصاحف ص 31، 32وكلمة طول بمعنى طوال.(1/199)
ممن يعمل فى القرآن عقله أو هواه لوضع البسملة فى أول سورة براءة قياسا على جميع سور القرآن ولما وجد فى ذلك حرجا البتّة ولكنه التزم واتبع ولم يتأول، مما يدل على أن الأمر توقيفى لا اجتهادى، ويمكن أن يقال هنا إنه كان أمر ترتيب القرآن موضع اجتهاد وجرأة، لطرحها أو طرحها غيره من موضعها فى سورة النمل، لأنها لم ترد فى أول السورة كما هو الحال بالنسبة لسائر سور القرآن.
وقول النبى صلى الله عليه وسلم: = ضعوا هؤلاء الآيات فى السورة التى يذكر فيها كذا وكذا = فيه إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف اسم السورة حتى يأتيه بها جبريل عليه السلام بدليل أنه عينها ببعض محتوياتها لا باسمها، كما فى الحديث الذى رواه مسلم عن عمر قال: ما سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن شىء أكثر مما سألته عن الكلالة، حتى طعن بإصبعه فى صدرى وقال: يكفيك آية {يَسْتَفْتُونَكَ} التى فى آخر سورة النساء (الآية: 176)، فقد حدد النبى صلى الله عليه وسلم هنا السورة باسمها لا ببعض محتوياتها، وقربها للسامع بالإشارة إلى موضعها فى السورة على جهة التيسير.
ويمكن أن نقول إن ترك عثمان للبسملة فى أول سورة براءة، يعتبر سنة، إذ وافقه على ذلك جميع الصحابة الذين لا يجتمعون على ضلالة، وأعمال الخلفاء الراشدين وأقوالهم داخلة فى عموم سنة النبى صلى الله عليه وسلم بنص قوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى) ولعل النبى صلى الله عليه وسلم لم يبينها لحكمة وما كان لعثمان أن يضيف إلى القرآن ما ليس منه. قال البيهقى فى المدخل: = كان القرآن على عهده صلى الله عليه وسلم مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال، وبراءة لحديث عثمان السابق (1).
وقد وردت الآثار بتعزيز هذه المسألة فقد روى مسلم قول النبى صلى الله عليه وسلم: = اقرءوا الزهراوين، البقرة وآل عمران =، وكحديث سعيد بن خالد: = قرأ صلى الله عليه وسلم بالسبع الطول فى ركعة = رواه ابن أبى شيبة فى مصنفه وما رواه البخارى عن ابن مسعود أنه قال فى بنى إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: = إنهن من العتاق الأول وهن من تلادى = أى ذخائرى وعتادى، حيث ذكر النبى صلى الله عليه وسلم هذه السور نسقا كما هى فى ترتيب المصحف، وورد أنه صلى الله عليه وسلم سمى سورة الحمد بفاتحة الكتاب وهى كذلك موضوعة فى أول المصحف.
__________
(1) المصدر نفسه 178(1/200)
قال ابن الحصار: = ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحى = وقال الكرمانى:
= ترتيب السور هكذا هو عند الله فى اللوح المحفوظ، على هذا الترتيب = (1).
ويمكن أن نفيد من حديث تحزيب القرآن أى تقسيمه إلى أحزاب، الذى أخرجه أحمد وأبو داود عن أوس بن أبى أوس حذيفة الثقفى أن ترتيب السور والآيات كان توقيفيا (2).
ومن مؤكدات ذلك تحدى القرآن للكفار أن يأتوا بسورة من مثله أو بعشر سور مفتريات وهذا في حد ذاته يفيد تحديد السور وترتيبها أيضا. ودلل السيوطى على أن ترتيب السور كان توقيفيا بطريقة عقلية قال: = ومما يدل على أنه (أى القرآن) توقيفى كون الحواميم رتبت ولاء، وكذا الطواسين، ولم ترتب المسبحات ولاء، وفصل بين {طسم} الشعراء، و {طسم} القصص ب {طس} مع أنها أقصر منهما، ولو كان الترتيب اجتهاديا لذكرت المسبحات ولاء وأخرت {طس} (هى سورة النمل) عن القصص = وهذا يعنى أن جميع السور ترتيبها توقيفى إلا براءة والأنفال، وإليه مال السيوطى (3).
وقول الزركشى فى البرهان أن ترتيب سور القرآن لم يكن أمرا أوجبه الله تعالى بل كان أمرا راجعا إلى اجتهاد الصحابة واختيارهم، معارض بالأدلة الكثيرة التى قدمناها وهو معارض فى الوقت نفسه لروح القرآن وطبيعة نزوله على النبى صلى الله عليه وسلم وأما قول الزركشى فى تعليل رأيه هذا، أن المصحف لم يكتب (يعنى بهذا الترتيب) فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم لئلا يفضى ذلك إلى تغييره فى كل وقت، لأن الوحي كان لا يزال ينزل على النبى صلى الله عليه وسلم ولم يكن قد اكتمل بعد. نقول إن هذا التوجيه يمكن أن يستشهد به على جمع القرآن فى كتاب بعينه لا على ترتيب سوره وآياته.
وربما ظهر ذلك جليا إذا ذكرنا أن النبى صلى الله عليه وسلم قد عارض جبريل بالقرآن أى قرأه كله عليه مرتين فى شهر رمضان من السنة التى توفى فيها صلى الله عليه وسلم ومعنى ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم قد قرأ القرآن كما هو، وعلمه الصحابة بهذا الترتيب، الذى بين أيدينا لكن بعضهم كانوا قد
__________
(1) المصدر نفسه ج 1ص 174.
(2) السيوطى الإتقان ج 1ص 178، 179.
(3) المصدر نفسه ص 171.(1/201)
كتبوا لأنفسهم مصاحف التزموا فيها بترتيب النزول، كالإمام على، إذ أن مصحفه يحتوى على الترتيب التالى: = اقرأ، ثم المدثر، ثم المزمل، وهكذا وقع هذا من على وغيره قبل أن يعرف الترتيب التوقيفى للقرآن لكنه لما عرفه أخذ به مثل سائر الصحابة (1) رضوان الله عليهم. وبقيت المصاحف الأخرى مصحف عبد الله بن مسعود، ومصحف أبىّ، لمجرد البحث فى تاريخ القرآن.
ومن المفيد نقل هذا الاعتراض والرد عليه وهو لصاحب مقدمة كتاب المبانى = كيف صح قولكم أن القرآن مرتب فى اللوح المحفوظ على هذا الترتيب؟ وأن الصحابة لم ترتبه بأنفسها؟ وقد انتشرت الأخبار أن أول ما نزل على النبى صلى الله عليه وسلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1)، وقوله: {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (1). وقالوا: إننا وجدنا مصاحف عتقا مفرّقة فى البلاد منسوبة إلى عبد الله بن مسعود على خلاف هذا الترتيب الذى فى أيدينا فكيف يجوز مع هذا الخلاف الظاهر أن يدّعى أن هذا الترتيب متفق عليه؟
قلنا: إنه قد روينا فيما تقدم عن ابن عباس أنه قال فى قوله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (1)، يعنى أن الله عز وجل أنزله جملة إلى سماء الدنيا، ثم كان ينزل منها نجوما السورة بعد السورة، والآية بعد الآية على حسب الحاجة إليه وإلى معرفة أحكامه، وتعليمه، وترتيبه، ومعرفة موضع كلماته وسوره. ومثال هذا فى الشاهد أن تعلم المبتدئ، أنه يبتدئ بتلقينه من أول القرآن، وربما يبتدئ من آخره، وقد يبتدئ من وسطه سورا متفرقة من القرآن على حسب رغبة المبتدئ، وحرصه واحتياجه إلى تعلمه ثم لا تأمره بأن يحفظ على هذا الترتيب الذى لقّنه، بل تأمره أن يضع كل سورة منها فى موضعها عند الحفظ والجمع والدراسة والتلاوة. كذلك كان جبريل عليه السلام ينزل على النبى صلى الله عليه وسلم الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة على حسب الحاجة كما تقدم عن ابن عباس وأبى بن كعب. يدل على هذا الذى ذكرنا أن مصاحف كثيرة قد وجدت وهى متفقة غير مختلفة بحمد الله ومنّه.
ثم يسوق المؤلف رحمه الله رواية عن محمد بن كعب القرظى يقول فيها: = رأيت مصاحف ثلاثة: مصحفا فيه قراءة ابن مسعود، ومصحفا فيه قراءة أبىّ، ومصحفا فيه
__________
(1) الإتقان 1/ 176والبخارى. خلق أفعال العباد ضمن عقائد السلف ص 209.(1/202)
قراءة زيد فلم أجد فى كل منها ما يخالف بعضها بعضا = ثم يقول: = وهذه الحجج كلها نيرة دالة على صحة ما أنبأنا عنه، وبطلان ما ادعاه علينا المخالفون المعاندون =.
ثم يتصدى الشيخ لدعوى مخالفة مصحف أبيّ، بقوله: = إن هذا ربما كان بفعل فسّاق المسلمين الذين ربما كتبوا مثل هذه المصاحف وقدموها إلى الرؤساء والكبار المولعين بكل غريب وذلك بغرض التوصل إلى مالهم والانتفاع بتقريبهم إياهم = (1). وهذا الكلام من المحتمل وقوعه.
وقد ذكرنا من قبل أن أسماء سور القرآن توقيفية كذلك، كان ينزل بها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استعرضنا بعض الأحاديث التى ذكر فيها النبى صلى الله عليه وسلم بعض السور بأسمائها، ولا يعقل أن تنزل السور بغير = أسماء = كما يزعم المستشرق ويلش (2). وقد تكلم العلماء فى مناسبة اسم السورة مع الموضوع الذى تعالجه، فذكروا أن السورة ربما سميت باسم موضوع، أو حدث تكرر فيها فالبقرة، على سبيل المثال، سميت هكذا لقرينة ذكر قصة البقرة فيها وعجيب حكمتها (3)، وسميت سورة النساء بهذا الاسم لأنها تتحدث عن أحكام النساء بصفة عامة وعن المواريث وحظ النساء منها الذى أوجبه الله تعالى بعد أن لم يكن لهن فى الميراث شيئا قبل الإسلام والأنعام لما ورد فيها من أحكام الحيوان والذبائح وكون السورة تحمل أكثر من اسم أو وصف فليس هذا دليلا على أن هذه الأسماء من وضع الصحابة، وإلا فالقرآن نفسه يحمل أكثر من اسم، كما ذكرناه فى موضعه.
يدعى المستشرق بعد ذلك أن حجم الآية غير معروف، وأن الآيات، مثل السور، تختلف فيما بينها من حيث الطول والقصر ومن حيث الأسلوب فالآيات القصيرة، وهى السابقة من حيث التنزيل، تكون مسجوعة، وذات إيقاع قد يصل حتى إلى درجة الميزان الشعرى فى بعض المواضع، كما في قوله تعالى في سورة المدثر على سبيل المثال: {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيََابَكَ فَطَهِّرْ (4)}
__________
(1) أرثر جفرى. مقدمتان ص 46، 47.
(2) انظر: دائرة المعارف ص 410.
(3) الزركشى. البرهان 1/ 270.(1/203)
{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلََا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (7)، {وَالشَّمْسِ وَضُحََاهََا (1) وَالْقَمَرِ إِذََا تَلََاهََا (2) وَالنَّهََارِ إِذََا جَلََّاهََا (3) وَاللَّيْلِ إِذََا يَغْشََاهََا (4) وَالسَّمََاءِ وَمََا بَنََاهََا (5) وَالْأَرْضِ وَمََا طَحََاهََا (6) وَنَفْسٍ وَمََا سَوََّاهََا (7) فَأَلْهَمَهََا فُجُورَهََا وَتَقْوََاهََا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكََّاهََا (9) وَقَدْ خََابَ مَنْ دَسََّاهََا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوََاهََا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقََاهََا (12) فَقََالَ لَهُمْ رَسُولُ اللََّهِ نََاقَةَ اللََّهِ وَسُقْيََاهََا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهََا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوََّاهََا (14) وَلََا يَخََافُ عُقْبََاهََا} (15) هذا الإيقاع يتم عن طريق تكرار أشكال لغوية أو لفظية معينة، وليس عن طريق محاولة تطبيق الميزان الشعرى سواء عن طريق المقطع أو النبر. ومثل هذه الآيات تستعصى كلها دائما على الترجمة من وجهة نظر الكاتب (1). والحقيقة أن القرآن كله تصعب ترجمته لأن عبارته وأبنيته معجزة كمعانيه ومفاهيمه تماما وليست توجد لغة تتحمل معانى القرآن الكريم على وجه الكمال، كما سنبين فى الباب الخاص بترجمة القرآن.
__________
(1) دائرة المعارف 410.(1/204)
الفصل الثانى الآيات
يزعم الكاتب نفسه أننا بناء على التركيب الداخلى للقرآن، لا نستطيع أن نعرف متى تنتهى آية وتبدأ أخرى. ويقول إن بعض الآيات تنتهى بسجع غير منتظم أو شاذ وقد تأتى أحيانا موزونة، وإن مقدار الآية غير موضح بالمخطوطات القديمة للمصحف وإنها تختلف فيما بينها بدرجة ما حتى عند ما يشار إلى نهايات الآيات فيها.
وهذا فى نظر الكاتب ربما يعكس الاختلاف فى عملية النقل الشفهى للقرآن، والتى ترجع إلى التقسيمات الداخلية للنص فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم حيث ظهرت عدة اختلافات فى تقسيم الآيات وترقيمها داخل الأمة الإسلامية. يقصد ويلش بذلك الطعن فى صحة النص القرآنى وسلامته من التحريف مستشهدا على ذلك بما ورد فى بعض المصاحف من الاختلاف فى حجم بعض الآيات كما فى النسخة الهندية التى اعتمد عليها إم.
بيكثال والنسخة المعتمدة من الأزهر الشريف فى مصر.
مشيرا فى هذا السياق إلى أن بعض المصاحف تحسب البسملة آية وبعضها لا تحسبها، فمصحف القاهرة يعد البسملة آية رقم 1فى سورة الفاتحة، هذا المصحف متضارب فى عد الحروف المقطعة، إنه يعتبرها آيات مستقلة عدا {حم (1) عسق} (2) اللتين اعتبرتا آيتين، ثم يشير ويلش فى هذا الصدد إلى جوستاف فلوجل (1834م) الذى قدم نصا للقرآن مخالفا فى ترتيب سوره وأرقام آياته للمصحف العثمانى، ومخالفا كذلك للمحاولات الاستشراقية السابقة فى إعادة ترتيب المصحف. لقد غير فلوجل أرقام الآيات فى أكثر من نصف السور تقريبا ولم يعد البسملة والحروف المفرقة آيات مستقلة.
ومحاولة فلوجل هذه مرفوضة تماما وهى لا تخدم بل تهدم. إنه يحاول التشكيك
فى الترتيب التوقيفى للقرآن والذى استقر عليه إجماع الأمة. ولقد حاول السيد محمد الباقر أن ينشر كتابا مماثلا عنوانه = ترتيب سور القرآن الكريم حسب التبليغ الإلهى = وقد اعترض عليه سماحة مفتى لبنان. ونشرت مجلة رابطة العالم الإسلامى نص خطابه إلى وزارة الأنباء.(1/205)
ومحاولة فلوجل هذه مرفوضة تماما وهى لا تخدم بل تهدم. إنه يحاول التشكيك
فى الترتيب التوقيفى للقرآن والذى استقر عليه إجماع الأمة. ولقد حاول السيد محمد الباقر أن ينشر كتابا مماثلا عنوانه = ترتيب سور القرآن الكريم حسب التبليغ الإلهى = وقد اعترض عليه سماحة مفتى لبنان. ونشرت مجلة رابطة العالم الإسلامى نص خطابه إلى وزارة الأنباء.
ومما جاء فى نص اعتراض دار الإفتاء اللبنانية أن الكتاب المشار إليه (يحتوى على مغايرات للحقيقة التاريخية والعلمية) (1).
وقد تبنى بعض المترجمين الغربيين مثل بل، وآربرى، ترقيم فلوجل للآيات، وآخرون منهم تبنوا الترتيب الذى جرت عليه الطبعة المصرية للمصحف ولقد تخلى المستشرق الفرنسى ريجيس بلاشير وهو من المتحمسين لفلوجل، عن ترتيب هذا الأخير لآيات القرآن الكريم (2).
__________
(1) مجلة رابطة العالم الإسلامى. العدد السادس السنة السادسة شعبان 1388/ 15/ 7/ 1968أكتوبر ص 86وانظر أيضا:
د. محمد صالح البنداق. المستشرقون وترجمة القرآن. ص 113112. وقارن ترتيب فلوجل لآيات المصحف بما أورده صاحب مقدمة كتاب المبانى ضمن = مقدمتان فى علوم القرآن = ص 128تحقيق آرثر جفرى.
(2) محمد صالح البنداق المستشرقون وترجمة القرآن الكريم 115.(1/206)
الفصل الثالث البسملة
يناقش الكاتب بعد ذلك البسملة التى تتصدر كل سور القرآن إلا سورة براءة والتى تظهر أيضا فى سورة النمل كافتتاحية لرسالة سليمان عليه السلام إلى بلقيس ملكة سبأ مشيرا إلى الاختلاف بين المترجمين فى ترجمتها وإلى موقف المسلمين من الفاتحة، حيث اعتبر بعضهم البسملة كآية منزلة ووضعوها فى مقدمة كل سورة من سور القرآن مع أن أدلة القرآن نفسه تقرر غير ذلك. ويتتبع الكاتب ألفاظ البسملة فى القرآن يحللها ويعللها حتى يصل إلى أن لفظي {الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} لم يظهرا فى القرآن إلّا فى وقت متأخر جدا، ثم يشير أيضا إلى قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللََّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمََنَ} (الإسراء: 110) وإلى اعتراض وصف كفار مكة على لفظ = الرّحمن = كاسم لله: {وَإِذََا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمََنِ قََالُوا وَمَا الرَّحْمََنُ} (الفرقان: 60). ويزعم أن لفظ = الرّحمن = وهو فى الأصل أجنبي، لا يظهر وحده فى القرآن إلا نادرا جدّا وهو بهذا الوضع يفقد مغزاه كاسم علم على الله تعالى لأنه مرتبط دائما بالرحيم. أضف إلى ذلك أن الأصل العربى = رحم = يشكل دليلا آخر على ظهور البسملة على مراحل متعاقبة (1).
بعد أن بينّا أهم مزاعم ويلش حول البسملة نقول إنه يحتوى على بعض الأخطاء التى نبينها فيما يلى:
أولا: تعتبر الآية جزءا من السورة، وبالتالى من القرآن وهى معلومة ومحددة توقيفيا، ولا يدخل القياس فى تحديد مقدارها {الم} آية حيث وقعت من السور المفتتحة بها وهى ست = البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة = وكذلك {المص}
الأعراف آية، و {المر} لم تعد آية، و {الر} ليست بآية فى سورها الخمس، {طسم}
آية فى سورتيها (الشعراء، والقصص) و {طه} و {يس} آيتان، و {طس} ليست بآية،
__________
(1) دائرة المعارف الإسلامية 410(1/207)
و {حم} فى سورها كلها، {حم (1) عسق} (2) الشورى آيتان، {كهيعص} مريم آية واحدة، و {ص} و {ق}، و {ن} ثلاثتها لم تعد آية، هذا مذهب الكوفيين، لم يعدوا شيئا منها آية. ولو وكل الأمر إلى العقل والاختيار لما جاءت المسألة على هذا النحو.
ولما أجاز العقل أن تحسب {المص} والمشتملة على أربعة حروف آية، و {المر}
المشتملة على العدد نفسه من الحروف ليست آية.
و {الر} ثلاثية الحروف ليست بآية، و {طسم} والتى تحتوى على العدد نفسه من الحروف تعد آية. وهكذا وأن آية الدين فى سورة البقرة وهى أطول آية فى القرآن تعد آية وكلمة {مُدْهََامَّتََانِ} (64) (الرحمن: 64) آية ليس للعقل ولا للاجتهاد إذن هنا مجال وإنما هو التوقيف والتكليف. لذلك قال بعض العلماء = الصحيح أنها، أى الآية إنما تعلم بتوقيف من الشارع، لا مجال للقياس فيه كمعرفة السورة، فالآية طائفة حروف من القرآن علم بالتوقيف انقطاعها معنى عن الكلام الذى بعدها فى أول القرآن، وعن الكلام الذى قبلها فى آخر القرآن وعن الكلام الذى بعدها فى غيرهما، غير مشتمل على مثل ذلك = (1).
قال القاضى ابن العربى إن الفاتحة سبع آيات، وسورة الملك ثلاثون آية، وصح أنه قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران. قال: = وتعديد الآية من مفصلات القرآن، ومن آياته طويل وقصير، ومنه ما ينقطع، ومنه ما ينتهى إلى تمام الكلام، ومنه ما يكون فى أثنائه كقوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} على مذهب أهل المدينة، فإنهم يعدونها آية، وينبغى أن يعول فى ذلك على فعل السلف = (2).
هذا الكلام جد واضح وفيه رد على ما أثاره الكاتب حول الآيات من حيث حجمها وترتيبها، وحول البسملة كذلك، وكون بعض العلماء لا يعد البسملة آية لا ينفى كونها قرآنا منزلا، ثم إن الإجماع على أنها جزء من القرآن وأنها ثابتة فى مفتتح كل سورة إلا سورة براءة التى لم ينص عليها النبى صلى الله عليه وسلم، وتركت إما لكون السورتين اعتبرتا كالسورة الواحدة أو لأن سورة براءة جاءت برفع الأمان، والبسملة أمان، فلا مناسبة إذن للبسملة فتذكر فى أولها لكنها مع هذا جزء من القرآن، وآية من آياته من تركها فى
__________
(1) الزركشى. البرهان. 1/ 267266.
(2) المصدر نفسه 268وانظر: أيضا مقدمة ابن عطية لتفسيره المحرر الوجيز فى. مقدمتان 294287.(1/208)
الصلاة بطلت صلاته، وهى الفاصل بين السورتين، أجمع على ذلك المسلمون، سنة وشيعة = (1) روى أبو داود وغيره عن أم سلمة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ قطع قراءته آية، آية، يقول: {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}، ثم يقف {الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (2)، ثم يقف، {الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} (3)، ثم يقف = (2) وكون بعض المصاحف غيرت فى حجم بعض الآيات، فليس ذلك بحجة على القرآن = ولا يمس ذلك القرآن المحفوظ فى الصدور المحاط ببالغ العناية والدراية. وقد يعلل لذلك بأن المعنى فى الآيتين قد يتداخل، وقد تحل الآية الواحدة فى مقطعين إذا فصل أحدهما عن الآخر أدى معنى من المعانى المحتملة دون الإضرار بأصل القرآن. هذا من قبيل الرسم القرآنى لا غير ولعل هؤلاء الذين قالوا إن البسملة ليست آية فهموا من تكرارها فى أول كل سورة أنها وضعت هكذا لمجرد الافتتاح فهم مع ذلك لم ينكروا قرآنيتها وهذا وهم منهم، لأن هناك آيات أخرى كثيرة تتكرر فى القرآن مثل: {فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} ولا يقول أحد أنها ليست قرآنا.
وأما عن صيغة {الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} (3)، ودعوى الكاتب أنها دخلت القرآن متأخرة، وأنها لم تكن معروفة لمحمد صلى الله عليه وسلم فى أول الوحي فليس فيه دليل على تلفيق البسملة أو انتحال بعض ألفاظها من مصدر آخر، فالبسملة عضو حي وحيوي من القرآن وهى من مميزاته، وهى العلامة التى كان يعرف النبى صلى الله عليه وسلم من خلالها أول السورة وقول المالكية بأنها لم تتواتر فى جميع السور فهو محمول على الخطأ فى الرأى، وقد يكون هذا القول قد نسب خطأ إلى المالكية إذ البسملة موجودة فى كل مصاحف الصحابة، ومن جاء بعدهم (3).
وبالنسبة لعدد سور القرآن فقد استقر إجماع الأمة على أنها مائة وأربع عشرة سورة ولا معول على الزيادة التى فى مصحف أبي، فإنه قد وهم فى دعاء القنوت، فظنه قرآنا، حتى بلغ بعدد السور مائة وست عشرة وبهذا يفسر النقص الذى فى مصحف عبد الله بن مسعود أيضا، لأنه وهم هو الآخر فى المعوذتين فظنهما رقيتان لا سورتان، ولا
__________
(1) على الفضل بن الحسن الطبرسى. مجمع البيان فى تفسير القرآن تحقيق السيد هاشم المحلاتى والسيد فضل الله الطباطبائى. بيروت دار المعرفة 1406هـ، 1986م 1/ 112.
(2) الإتقان 2/ 243
(3) الزرقانى. مناهل 1/ 234.(1/209)
عبرة كذلك بقول أحدهم إن عدد السور مائة وثلاث عشرة بجعل الأنفال وبراءة سورة واحدة وغير ذلك مما هو أحادى المصدر موقوف على قائله وغير متواتر (1) وفى هذه القرينة وامتدادا لنفس الخط الهجومي على القرآن ينبغى أن نشير إلى باترشا كرون، وكوك وكتابهما = الهاجريّة = نسبة إلى السيدة هاجر أم النبى إسماعيل جد النبى محمد صلى الله عليه وسلم وهو كتاب إلحادي وهجومي غشوم.
يستنتج الكاتبان من الطريقة التى كتب بها القرآن فى زعمهما أن القرآن قد = لفّق = أو جمع من عدة أعمال هاجرية مبكرة يمكن إثباتها من عدة طرق، من خلال الإسلام نفسه.
يشير الكاتبان إلى قوله تعالى: {اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتََاباً مُتَشََابِهاً مَثََانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} (الزمر: 23). وإلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (87) (الحجر: 87). وقوله: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} (91) (الحجر: 91). كذلك يشير الكاتبان إلى إنكار الكفار لبعض ما أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم (الرعد: 36) ومن جانب آخر فقد كان هناك من المشركين من طالبوا بنزول القرآن جملة واحدة (الفرقان: 32) والذين طالبوا بتغيير الوحى يعنى القرآن أو تبديله (يونس: 16) وبلا شك فإن ما قصده الكاتبان من هذا الاستعراض الخبيث، هو التشكيك فى صحة القرآن والطعن فيه وليس الدراسة العلمية بحال من الأحوال.
ومن المضحك أن كرون وكوك يأخذان رأى الحبر بت هالى حجة على القرآن، فهو فى تقليدهما واجتهادهما، قد فرق بوضوح بين القرآن وسورة البقرة كمصدر للتشريع، ذكرها فى معرض رده على قول المسلمين أن النصارى يعبدون الصليب ولم يأمرهم المسيح عليه السلام بذلك وليس فى الإنجيل دعوة إليه البتّة (2).
ويشير كل من كرون وكوك إلى ليفوند الذى ادّعى النقل عن الإمبراطور ليو أن الحجّاج بن يوسف الثقفى قد أعدم الكتابات القديمة لأولاد هاجر، يعنى المسلمين وكتب
__________
(1) مجد الدين الفيروزآبادى (ت 810هـ). أسماء القرآن من بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز. تحقيق محمد على النجار. بيروت. المكتبة العلمية ج 1ص 97ومقدمة كتاب المبانى. أرثر جفرى مقدمتان فى علوم القرآن 95 96. لمعرفة عدد آى وحروف القرآن انظر: المصدر المذكور عاليه ص 243، وما بعدها وحروفه 300، 690حرفا والقرآن كله فى عدّ أهل مكة 6210آية ذكره الزعفرانى عن عكرمة وعن مجاهد أنه 30021.
(2) .. 14.(1/210)
كتابات أخرى من عند نفسه بثها فى الأرجاء لتحل محلها (1).
هذا هو السبب الأول فى عدم صحة القرآن فى نظر الناقدين الناقمين، والسبب الثانى فى إثبات عدم أصالة القرآن عندهما هو القرآن نفسه، فالشكل الأدبى للقرآن مهلهل، وكذلك السياق والنسق القرآنيين للآيات غير محكمين، ولا يربطه بهما نظام كلى عام، والقرآن كتاب غامض وغير منسق فى لغته وموضوعاته، إنه يتحدث بطريقة مملة آلية مجردة من الروح والجاذبية، إنه باهت، ولا يجمع بين آياته أى رابط، إنه يكرر نفسه كثيرا ودون فائدة أو ضرورة وهكذا يخلص الكاتبان المنحازان إلى القول بأن القرآن إنما هو نتاج مواد لفقتها أدمغة مختلفة، أو جمعتها الأيدى فى وقت لاحق وفى ظروف جد غامضة، ثم يضيف كرون وكوك إلى هذا التعسف، الذى هو كاف فى حد ذاته فى التدليل على تحاملهما على القرآن، عنصرا خياليا آخر، إذ يزعمان أن تحقيق النص القرآنى وتصنيف مادته كان ناقصا وعاجزا، وأنه بالنظر فى مادة القرآن ندرك أن ظهور هذا الكتاب فى التاريخ إنما جاء مفاجئا أو ينبغى أن يكون كذلك =.
وتزعم باتريشا وكوك مرة أخرى أنه ليس هناك دليل مباشر يتحدد بمقتضاه تاريخ كتابة القرآن (2).
ويزعمان كذلك ومعهما لينج دون مبالاة، أن الخلفاء الأمويين، أو حتى الخلفاء الذين جاءوا بعدهم، هم الذين قننوا القرآن أو جعلوه كتابا معتمدا. أما فيما يخص محمدا وأنشطته فكل ذلك خرافة، وأن محمدا لم يبشر بدين جديد هو الإسلام، وإنما ببدعة نصرانية أو يهودية (3).
كل هذه المزاعم المجردة لا يقبلها عقل منصف، وما هى إلا افتراضات وضلالات لا أصل لها ولا سناد تعتمد عليه، وإنما هى فقط دلالات نفسية على حقد كتّابها الدفين وضيقهم المرضى بالإسلام والقرآن والنبى صلى الله عليه وسلم. وأى فرق يا ترى على الرغم من امتداد القرون واتساع الحضارة وانتشار العمران وتقدم الإنسان بين هذا الكلام، وكلام الأعداء
__________
(1) المصدر نفسه ص 11، 19، 168.
(2) المصدر نفسه ص 18.
(3).،
. 1988. 9224(1/211)
الأولين فى القرآن لقد تشابهت قلوبهم فى الكفر والإلحاد.
فلقد هاجم ابن الراوندى (245هـ 259م) كتاب الله فقال = إن القرآن كلام غير حكيم وأن فيه تناقضا وخطأ وكلاما يستحيل = (1) ويقول: = إن فصاحة أكثم بن صيفى تفوق فصاحة القرآن = (2). وابن الراوندى من الزنادقة الغلاة الذين أفرزتهم الملحدة المناهضة للإسلام وأهداف الزنادقة الغلاة معروفة، فى الكيد لهذا الدين وأهله.
وهذه نفثة من كلام زعمائهم، أبو ميمون القداح = إنى أضيق بدين محمد وليس عندى من جيش أحارب أهله به، وليس لدى مال، ولكنى فى الحيلة طويل الباع بحيث إذا لقيت عونا من أحد قلبت دين محمد رأسا على عقب = (3).
هذا كلام عدو حاقد على دين الإسلام والمسلمين، عبّر من خلاله عن مدى حقده الأسود على الإسلام ولكنه بالغ أشد المبالغة فى زعمه بأنه بحيلته يمكن = أن يقلب دين محمد رأسا على عقب = وها هو الإسلام ساطعة براهينه على أنه لا هو، ولا من نشأ نشأته، ونزع منزعه استطاع أو يستطيع قلب الإسلام فوجود الإسلام من وجود الله رب العالمين وسيبقى القرآن وسيبقى الإسلام نورا مبينا، على الرغم من محاولات الأعداء: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللََّهِ بِأَفْوََاهِهِمْ وَيَأْبَى اللََّهُ إِلََّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكََافِرُونَ} (32) (التوبة: 32).
المهم أن كلام أعداء القرآن واحد فى كل عصر وفى كل مصر وغرضهم كذلك واحد هو سحق الإسلام وتحويل المسلمين عن دينهم. ولكن هيهات هيهات لما يحاولون.
ولا بد هنا من الإشارة إلى دعوى المستشرق نولدكه بأن أجزاء من القرآن قد ضاعت، وهذا ما أرجف به دائما المستشرقون، فالمستشرق الألمانى نولدكه يضع هذا العنوان الواضح فى كتابه = تاريخ القرآن = = الوحي الذى نزل على محمد ولم يحفظ فى
__________
(1) انظر: الخياط. الانتصار ص 12وأبو الفرج بن الجوزى المنتظم فى تاريخ الأمم حوادث 298هـ والإمام أحمد بن حنبل الرد على الزنادقة والجهمية ضمن عقائد السلف ص 53وما بعدها.
(2) عبد الرحمن بدوى. تاريخ الإلحاد فى الإسلام القاهرة مكتبة النهضة 1945ص 121وعبد الله سلوم السمرائى الغالية فى الحضارة الإسلامية. العراق. دار واسط للنشر بدون تاريخ ص 182.
(3) انظر: ابن النديم. الفهرست. الملحق ص ص 4، 5وأبو المعالى الحسينى بيان الأديان ص 41، 42والنقل عن السمرائى ص 180.(1/212)
القرآن = وهذا هو ما خرج به كاتب مادة القرآن بدائرة المعارف الإسلامية والذى نناقشه فى هذا البحث إذ يقول: = إنه مما لا شك فيه أن هناك فقرات من القرآن قد ضاعت =.
وهذا الزعم نفسه يكرره بألفاظ مختلفة كاتب مادة القرآن فى دائرة المعارف البريطانية الذى يقول بأن (القرآن غير كامل الأجزاء) والذى فتح الباب على مصراعيه لمثل هذه المزاعم وأعطى لأصحابها الفرصة للطعن فى القرآن بالإضافة إلى مواقفهم المتشددة ضد الإسلام، ما ورد فى بعض المصادر الإسلامية من روايات ضعيفة وأقوال غير محققة.
لقد ذهب علماء الشيعة وعامتهم للأسف هذا المذهب الباطل، فابن شاذان (ت:
260 - هـ) وهو صاحب = الرضا = عليه السلام، والشيعة تكثر النقل عنه، يضع هذا العنوان الفج = ذكر ما ذهب من القرآن = (1) وهو العنوان الذى وجده المستشرقون معبرا عما فى نفوسهم وموصلا إلى أغراضهم تماما.
قال المحدث النووى فى كتاب = فصل الخطاب = فى أول المقدمة الثالثة منه، وهو يسرد أسماء القائلين بضياع جزء من القرآن ووقوع التبديل والتغيير فيه = وممن ذهب إلى هذا القول الثقة الشيخ الجليل الأقدم فضل بن شاذان فى مواضع من كتاب الإيضاح.
ويظهر كتابه أن ضياع طائفة من القرآن من المسلمات عند العامة = (2) يعنى العامة من الشيعة لا غيرهم.
ويحتج ابن شاذان لمذهبه بما جاء فى الكتب من روايات ضعيفة وأقوال رديئة حول سقوط أجزاء من القرآن وضياعها، مما هو داخل فى باب الإسرائيليات فيروى أن عمر كان يرفض الآية إذا جاء بها رجل واحد سمعها من النبى صلى الله عليه وسلم، وكان يقبلها إذا جاء بها اثنان. وهذا كذب محض، فالقرآن كان محفوظا فى الصدور وإنما كان عمر يطلب شهادة عدلين على القرآن المكتوب، من باب الحيطة، وإلا فالقرآن كان من الشيوع بحيث لا يمكن أن تنخرم الثقة فيه.
وادعى ابن شاذان على أهل السنة أنهم كانوا يقولون إن عثمان بن عفان قد وضع صحيفة فيها القرآن ليكتبوا منها فجاءت شاة فأكلتها، فذهب من القرآن ما كان فى هذه
__________
(1) انظر: أبو الفضل بن شاذان الأزدى النيسابورى كتاب الإيضاح بيروت. مؤسسة الأعلمى 19821402ص 116112
(2) انظر: المصدر نفسه ص 112، 113وموسى جاد الله الوشيعة فى نقد عقائد الشيعة ص 116.(1/213)
الصحيفة. هذا الكلام من تلفيقات الزنادقة وفعل الملاحدة، أوردوه فى موضع آخر مسندا إلى السيدة عائشة التى زعموا أنها وضعت القرآن تحت السرير فجاءت داجن فأكلت الصحيفة فضاع ما فيها (1).
ثم إنه لم يكن مع عثمان صحف غير صحف حفصة التى كتب فيها القرآن على عهد أبى بكر، ثم طلبها عثمان منها عند كتابة المصحف الإمام، هذا ولم يرد بشأنها شىء كهذا الذى يدعيه ابن شاذان البتّة، بل إنه من المعروف أنهم نسخوا منها ثم ردوها إليها (2)
بأمر عثمان رضي الله عنه، وبقيت عندها حتى ماتت رضي الله عنها، فأرسل عثمان إلى عبد الله بن عمر فى طلبها إليه فأخذها وأحرقها وفى رواية فغسلها غسلا (3).
ثم أشار ابن شاذان إلى ما قيل من أن صدر سورة براءة قد ضاع ولذلك سقطت منه البسملة، وأنها وسورة الأحزاب كانت قريبة من سورة البقرة فى عدد آياتها فذهب منها مثل ما بقى فى أيدينا وأن سورة = لم يكن = أو = البينة = كانت فى حجم سورة البقرة.
وأن أبا موسى الأشعرى لمّا ولّاه عمر بن الخطاب البصرة جمع القرّاء، فكانوا ثلاثمائة رجل، فقال لهم: = أنتم قراء أهل البصرة =، قالوا = نعم =، قال = والله لقد كنا نقرأ سورة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنا نشبهها ببراءة تغليظا وتشديدا فنسيناها، غير أنى أحفظ حرفا واحدا منها أو حرفين (لو كان لابن آدم واديا من ذهب لابتغى إليه ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب) = (4) وقد عد بعض العلماء للأسف مثل هذا الكلام قرآنا منسوخا، ففتحوا من ثمّ بابا للشك فى القرآن والطعن فى مبدأ الإعجاز، وعدم إمكان المعارضة. وبمطالعة سريعة لما أورده البعض على أنه قرآن منسوخ يظهر الفرق الشاسع بين ما عدوه، خطأ، قرآنا، وبين القرآن المثبت فى المصحف المستقر، والمجموع فى الصدور، مع أن الفرق بين هذا المدعو قرآنا منسوخا وبين القرآن الذى هو كلام الله، هو كالفرق بين القرآن وبين سائر كلام البشر، وهذا الموضوع يحتاج منا إلى بعض البسط وبعض التحليل.
__________
(1) المصدر نفسه 114.
(2) انظر: كتاب المصاحف ص 20.
(3) مقدمتان فى علوم القرآن ص 22.
(4) ابن شاذان ص 114ومقدمتان فى علوم القرآن ص 8584.(1/214)
يلاحظ أولا على روايات القرآن المزعوم، الاضطراب، والوهن وضعف الرواة هذا بالإضافة إلى الاختلاف الواقع بين هؤلاء الذين أسندت إليهم هذه الأقوال من الصحابة (1)
ناهيك عن مخالفته فى نفسه لإجماع المسلمين حول مفهوم القرآن وطبيعته.
ولننظر الآن إلى حديث أبى بن كعب ووادى الذهب الذى رواه الإمام أحمد فى مسنده (فى الجزء الخامس منه) عن أبى بن كعب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: = إن الله أمرنى أن أقرأ عليك القرآن قال فقرأ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ} (سورة رقم 98فى المصحف وعدد آياتها ثمان)، فقرأ فيها (لو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه لسأل ثانيا فلو سأل ثانيا وأعطيه لسأل ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، وإن ذلك الدين القيم عند الله الحنيفية غير المشركة، ولا اليهودية، ولا النصرانية ومن يعمل خيرا فلن يكفره). وفى رواية البخارى (باب التفسير) أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأ عليه عنده سورة البينة فحسب فأما هذه الزيادة فليست عند البخارى.
وفى رواية الحاكم فى المستدرك = أن ذات الدين عند الله الحنيفية لا المشركة = وفى رواية = غير المشركة = بدلا من عبارة المسند = وإن ذلك الدين القيم غير المشركة ولا اليهودية =.
وفى جامع الأصول لابن الأثير الجزرى وردت الرواية بهذه الصيغة = إن الدين عند الله الحنيفية المسلمة، لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية = بإسقاط كلمة = المشركة = وزيادة كلمة = المجوسية = هذا بالإضافة إلى اختلاف العبارة فى هذه النصوص، وننبه على أن عبارة (إن الدين عند الله الحنيفية المسلمة) موافقة لقراءة عبد الله بن مسعود لقوله تعالى:
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللََّهِ الْإِسْلََامُ}. مما يدل على أنها جملة تفسيرية لمعنى كلمة = إسلام = وليست قرآنا.
وهناك رواية أوردها صاحب المسند عن أبى واقد الليثى قال كنا نأتى النبى صلى الله عليه وسلم فيحدثنا فقال ذات يوم إن الله عز وجل يقول: (إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولو كان لابن آدم واد (هكذا بالإطلاق) لأحب أن يكون له ثان، ولو كان له واديان
__________
(1) انظر مثلا ابن شاذان 14الذى اسند هذا القول إلى أبى موسى الأشعرى وقارنه بالرواية التى ساقها صاحب كتاب المبانى (مقدمتان فى علوم القرآن ص 84وغيره الذين أسندوها إلى أبى بن كعب.(1/215)
لأحب أن يكون لهما ثالثا. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب).
وجاء الحديث فى المسند (فى الجزء السادس منه) بشكل آخر روى الإمام أحمد عن مسروق قال قلت لعائشة: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول شيئا إذا دخل البيت قالت: كان إذا دخل البيت تمثل = لو كان لابن آدم واديا من مال لابتغى واديا ثانيا، ولو كان له واديان لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ فمه إلا التراب، وما جعلنا المال إلا لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ويتوب الله على من تاب =، قال الكرمانى = لابتغى لهما ثالثا = بزيادة = لهما = عجيبة هذه الرواية وعجيب شأنها هل ضاق القرآن بما فيه من حكم عالية حتى يتمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام الذى ليس قرآنا ولا يرقى أن يكون كذلك؟ وأين كان دعاء دخول المنزل الذى اعتاد النبى صلى الله عليه وسلم أن يقرأه كلما دخل بيته؟ هل شغله مثل هذا الكلام عنه؟ هذه لمحة على طريق استعراض الأحاديث الخاصة بدعوى ضياع أجزاء من القرآن ونعود مرة أخرى لنشير إلى رواية الإمام أحمد بإسناده عن جابر قال سئل جابر هل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واد من نخل تمنى مثله حتى يتمنى أودية، لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب). هذه الروايات وغيرها تختلف فى عدد الكلمات ونوعها وفى عدد الأودية وأنواعها وفى تحديد الشيء الذى لا يملؤه إلا التراب فى ابن آدم فقد جاءت بهذه العبارات المختلفة (ولا يملأ جوف ابن آدم) وفى رواية أخرى (ولا يسدّ) مكان (ولا يملأ).
وفى رواية (ولا يملأ عين ابن آدم) وفى غيرها (ولا يملأ نفس ابن آدم أيضا) وجاء الاختلاف أيضا فى نوع الدين حيث جاء فى بعضها (الحنيفية) وفى أخرى (المجوسية).
وفى بعض الروايات (إن الدين) مكان (ذات الدين) وقد اختلفوا أيضا فى تحديد نوع الوادى ففي بعضها هو (واد من الذهب) وفى أخرى (واد من مال)، وفى ثالثة (واد من النخل)، بهذا التفاوت الكبير فى قيمة ما يشتمل عليه الوادى. وهكذا وهذا يتنافى مع
طبيعة القرآن الذى يقول الله فيه: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} (82) (النساء: 82) (1).(1/216)
وفى بعض الروايات (إن الدين) مكان (ذات الدين) وقد اختلفوا أيضا فى تحديد نوع الوادى ففي بعضها هو (واد من الذهب) وفى أخرى (واد من مال)، وفى ثالثة (واد من النخل)، بهذا التفاوت الكبير فى قيمة ما يشتمل عليه الوادى. وهكذا وهذا يتنافى مع
طبيعة القرآن الذى يقول الله فيه: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} (82) (النساء: 82) (1).
نقول إن هذا الكلام الذى وردت به الروايات المختلفة لو جمعناه بحيث شكلنا منه نصا واحدا كان هذا النص متناقضا مضطربا، وقلقا شاذا، لا ينسجم فى نفسه كالقرآن، ولا ينسجم فى موضعه من سورة {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} فالسورة يبدو عليها أنها تامة فى معانيها ومبانيها، كاملة فى موضوعها ابتداء وانتهاء، لا تحتاج إلى مزيد من الألفاظ أو المعانى.
هذا فضلا عن أن الكلام الذى جاء بالحديث لا ينسجم مع المعانى الكلية للسورة فموضوع إنزال المال، وموضوع الطمع الإنساني، كل هذا، لا موضع له فى السورة ولا تمت بأدنى سبب إلى موضوع السورة، ثم إن عبارة القرآن {وَذََلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أرقى وأنصع وأبين وأوقع من العبارات الملفقة (الحنيفية المسلمة غير المشركة) ذلك الكلام الذى يتفصد سذاجة، وهو إلى التفسير البسيط أقرب منه حتى إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن عبارة (إنزال المال لإقام الصلاة) كما فى إحدى الروايات = وإيتاء الزكاة = كما فى الرواية الأخرى كلام ساذج فالمال لم ينزله الله تعالى، وليس فى القرآن شيء من ذلك البتة والذى جاء فى القرآن أن الله (يؤتى المال) والصواب أن الله ينزل الممول لا المال، وأن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والمال إنما جعل لعمارة الحياة وإقامة الدنيا والدين معا. وربما كان المال أكثر أهمية لإدارة شئون الدنيا، وأما الدين والصلاة فيقامان بالعمل الصالح لا بالمال بل إن المال إذا تجرد صاحبه من التقوى يقعد به عن الدين، ويثبطه عن الصلاة وعن سائر الفروض والتكاليف الشرعية.
والشيء نفسه يقال بالنسبة للزكاة فالمال لم ينزل ولم يؤت لإخراج الزكاة بل للعمل والاستثمار ثم إن إخراج الزكاة مترتب على نماء المال. والمال ينفق فى جميع أنواع البر والقربات وفى قضاء المصالح والحاجات، وليس فى إخراج الزكاة فقط وهذا هو أبيّ
__________
(1) أبو الفضل بن الحسن الطبرى مجمع البيان فى تفسير القرآن 1/ 21. ومقدمتان فى علوم القرآن ص 85. وعبد الوهاب حمودة القراءات واللهجات 78، 79.(1/217)
نفسه يسأل عن هذا الكلام فيقول: = فلا أدرى أشيء من القرآن هو أم لا = فهو لم يحققه (1).
وفى رواية أنس عن أبى قال: = كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت ألهاكم التكاثر = فهو هنا يقرر أن الأمر كان محمولا على الظن عنده، وليس على اليقين وأنه غير رأيه بعد نزول سورة {أَلْهََاكُمُ التَّكََاثُرُ}.
وربما ظن بعضهم أن هذا الكلام من القرآن لأن بعض معانيه جاءت فى القرآن، على سبيل المثال، ذم الحرص والجشع، وربما سمعه بعضهم من النبى صلى الله عليه وسلم عقيب قراءة سورة البينة، كما فى حديث أبيّ، فظنوه منها أو حسبوه قرآنا، ولم يرجعوا فى ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليصححوا موقفهم وظلوا هكذا حتى نزلت سورة {أَلْهََاكُمُ التَّكََاثُرُ} على منوال القرآن فبان لهم أن ما ظنوه قرآنا ليس بقرآن (2).
وأخيرا نقول إن تمنى الغنى لا يتعارض مع الدين ولا التقوى بل إن المسلم مطالب أن يسعى ويجتهد فى تحصيل المال ويتوسع فى الثراء ما أمكنه ولكن بالشروط والآداب التى حددها الإسلام فى حالة الكسب وفى حالة الإنفاق، والإنسان القادر يعمل كخليفة عن الله ليحصل رزقه ويعين غير القادرين على تحصيل أرزاقهم ويكفيهم باجتهاده ذل المتربة والمسألة التى لا يمكنهم دفعها باجتهادهم. وقد لا تتوفر لديهم أسباب الاجتهاد فى تحصيل وسائل العيش البتة.
وعلى هذا المحك نفسه نعرض ما يسمى بآية الرجم (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة) تسند الرواية التى جاءت بهذه العبارات إلى زيد بن ثابت، وهو من هو فى الحفظ والتثبت والثقة، يقول (كنا نقرأ آية الرجم) الخ وعن أبيّ أن سورة الأحزاب كانت تضاهى سورة البقرة، وهى أطول منها، وأن فيها أو فى أواخرها = آية الرجم = ونص الآية على هذه الرواية (الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة نكالا من الله والله عزيز حكيم).
هذا مع أن سورة الأحزاب كاملة وتنتهى نهاية طبيعية شأنها فى ذلك شأن أى سورة
__________
(1) ابن حجر العسقلانى فتح البارى 11/ 213.
(2) انظر: العينى على البخارى 23/ 47. النووى على مسلم 7/ 138. ومقدمتان فى علوم القرآن 85وعبد الوهاب حمودة القراءات واللهجات 78وما بعدها.(1/218)
أخرى من القرآن. ثم إن القول بأن آية الرجم كانت فى آخر السورة قول معلول وغير مقبول إذ تخلو السورة من ذكر الحدود، وتشتمل فقط على ذكر الآداب والأخلاق الخاصة بالنساء وعلى بعض الإشارات إلى قواعد الطلاق، ولو كانت هذه الآية جزءا من هذه السورة لوضعت فى سياق الحديث عن آداب النساء، والعلاقة بين الرجل والمرأة فى وسط السورة أو أولها لا فى آخرها أو كانت قد ذكرت فى سورة النور التى فرض فيها حد الجلد للزانى والزانية.
أضف إلى هذا الخلل اللغوى البين الخطأ والاضطراب فى النص المنقول من الآية المزعومة، فقد جاء فى رواية السيارى من الشيعة عن أبى عبد الله هذه الزيادة (بما قضيا من الشهوة) وفى رواية الموطأ والمستدرك ومسدد وابن سعد عن عمر (الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة)، وفى رواية أبى أمامة بن سهل أن خالته قالت = لقد أقرأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الرجم (الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة بما قضيا من اللذة).
هذا الاضطراب الشديد فى الروايات كفيل وحده بإسقاطها، هذا مع ملاحظة أن عبارة (بما قضيا من اللذة أو الشهوة) يبدو عليها أنها تفسيرية إلحاقية، ثم إن التلفظ بها هكذا غير لائق بمقام السيدة عائشة الدينى، وأمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما آخذين فى الاعتبار أن العقوبة إنما شرعت لانتهاك العرف وتعدى حدود الله لا بسبب الشهوة أو اللذة فى نفسها أخرج الحاكم وابن جرير وصححه أن عمر قال: لما نزلت (أى هذه الآية المزعومة) أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أكتبها، وفى نسخة كنز العمال = أكتبنيها =. فكأنه كره ذلك. وفى الإتقان بتخريج النسائى أن مروان قال لزيد بن ثابت ألا تكتبها فى المصحف قال ألا ترى أن شابين اثنين يرجمان؟ وقد ذكرنا ذلك لعمر فقال أنا أكفيكم فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب لى آية الرجم، فقال = لا تستطيع =، وفى رواية كنز العمال = لا أستطيع = وقال عمر: = ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وإن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم = كيف بتردد عمر فى هذا الشأن ويكون تعليقه على الآية هكذا حسب الرواية؟ ثم كيف يرفض النبى صلى الله عليه وسلم أن يمليها على عمر ليكتبها أو يأذن له فى كتابتها مع أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصا جد الحرص على كتابة ما ينزل عليه من الوحى؟ وكيف يجرؤ ابن الخطاب على الإدلاء بهذا التصريح الخطير بعد أن لم يأذن له
رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتابة الآية المزعومة فيقول حسبما أسندوه إليه (فى الموطأ، والمستدرك) أنه قال قبل موته بأقل من عشرين يوما: = لولا أن يقول الناس زاد عمر فى كتاب الله لكتبتها = وبرواية الترمذى عن سعيد بن المسيب عن عمر = رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجم أبو بكر ورجمت ولولا أنى أكره أن أزيد فى كتاب الله لكتبته فى المصحف =.(1/219)
هذا الاضطراب الشديد فى الروايات كفيل وحده بإسقاطها، هذا مع ملاحظة أن عبارة (بما قضيا من اللذة أو الشهوة) يبدو عليها أنها تفسيرية إلحاقية، ثم إن التلفظ بها هكذا غير لائق بمقام السيدة عائشة الدينى، وأمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما آخذين فى الاعتبار أن العقوبة إنما شرعت لانتهاك العرف وتعدى حدود الله لا بسبب الشهوة أو اللذة فى نفسها أخرج الحاكم وابن جرير وصححه أن عمر قال: لما نزلت (أى هذه الآية المزعومة) أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أكتبها، وفى نسخة كنز العمال = أكتبنيها =. فكأنه كره ذلك. وفى الإتقان بتخريج النسائى أن مروان قال لزيد بن ثابت ألا تكتبها فى المصحف قال ألا ترى أن شابين اثنين يرجمان؟ وقد ذكرنا ذلك لعمر فقال أنا أكفيكم فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب لى آية الرجم، فقال = لا تستطيع =، وفى رواية كنز العمال = لا أستطيع = وقال عمر: = ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وإن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم = كيف بتردد عمر فى هذا الشأن ويكون تعليقه على الآية هكذا حسب الرواية؟ ثم كيف يرفض النبى صلى الله عليه وسلم أن يمليها على عمر ليكتبها أو يأذن له فى كتابتها مع أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصا جد الحرص على كتابة ما ينزل عليه من الوحى؟ وكيف يجرؤ ابن الخطاب على الإدلاء بهذا التصريح الخطير بعد أن لم يأذن له
رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتابة الآية المزعومة فيقول حسبما أسندوه إليه (فى الموطأ، والمستدرك) أنه قال قبل موته بأقل من عشرين يوما: = لولا أن يقول الناس زاد عمر فى كتاب الله لكتبتها = وبرواية الترمذى عن سعيد بن المسيب عن عمر = رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجم أبو بكر ورجمت ولولا أنى أكره أن أزيد فى كتاب الله لكتبته فى المصحف =.
هذا مع أن القرآن كان قد استقر عليه الصحابة بالإجماع وكان عمر نفسه أحد الأعمدة المعدودة فى جمعه وحفظه. فهل كان عمر يعتقد فى قرآنيتها ومنعه الخوف فقط وهو الشجاع الجسور فى الله تعالى وفى الحق، أن يضمها لكلام الله فى المصحف؟ هذا غير معقول لو كان عمر يعتقد ذلك لعرضها على زيد بن ثابت أثناء جمع القرآن لا بعده، وكيف ينتظر خليفة المسلمين حتى يحضره الأجل فيصرح به مع أن روايات جمع القرآن تخلو من الإشارة إلى هذه الفقرة إلا ما كان من رواية النسائى المذكورة والتى لا ترقى إلى رتبة الدليل، هذا فضلا عما تتضمنه من إنكار قرآنية آية الرجم.
وكلام عمر يفيد بوضوح أنه كان متيقنا أن آية الرجم لم تكن من كلام الله بدليل قوله نصا = لولا أنى أكره أن أزيد فى كتاب الله لكتبته فى المصحف =. فآية الرجم إذن زائدة على كلام الله، وليست من كتاب الله بنص كلام عمر، وإذن فكيف توضع فى المصحف؟، ثم إن كلمة = لولا أن يقول الناس = فى الرواية الأولى و = لولا أنى أكره أن أزيد فى كتاب الله = فى الرواية الثانية متناقض، ففي الأولى كانت خشية الناس هى المانع وفى الثانية علق عمر الامتناع على كراهيته هو شخصيا للفعل أى أنه لم يبال بالناس، وهذا تناقض.
وعمر ولا شك يعلم علم اليقين ما قال الله عن محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنََا بَعْضَ الْأَقََاوِيلِ (44) لَأَخَذْنََا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنََا مِنْهُ الْوَتِينَ} (46)، وقول عمر: = لولا أن يقال زاد عمر فى المصحف لكتبتها =، كما زعم رواتها قد يوهم أيضا أنه لم ينسخ لفظها، وإلا فكيف يدخل عمر على القرآن ما ليس منه كما لاحظ بحق الدكتور مصطفى زيد (1) لماذا هذا التنطع من واضع الحديث، ألا تكفى السّنّة فى إثبات الرجم، كما يكفى القرآن فى إثبات الجلد، وفى تقبيح شأن الزانى والزانية والسنة هى أحد المصدرين الرئيسين
__________
(1) انظر: كتابه النسخ فى القرآن. دار الفكر. 19631383ج 1ص 282281.(1/220)
للتشريع الإسلامى، وليس كل ما سكت عنه القرآن ونطقت به السنة لا يؤخذ به ولا يثبت حكمه؟
على أنه يمكن أن يقال أيضا فى توجيه مثل هذه الروايات أن بعض الصحابة ربما سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تبارك وتعالى كذا، يقصد فى الحديث القدسى مثلا (1) فظنوه قرآنا، وكان ذلك فى أول الوحى وما قلناه فى آية الرجم وآية = وادى الذهب = ينطبق أيضا على ما جاءت به بعض الروايات الغريبة بشأن شهداء بئر معونة من الحفاظ فى السّنة الرابعة من الهجرة، وحزن النبى صلى الله عليه وسلم عليهم، وما وضع على ألسنتهم من هذا القول: = بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضى عنا ورضينا عنه = رواه البخارى ومسلم فى عدة مواضع باختلاف فى ألفاظ الحديث، وقال السهيلى فى = الروض الأنف = عدّ بعض العلماء أن مثل هذا الكلام كان قرآنا ثم نسخ. ولسنا ندرى إذا كان هذا الكلام قرآنا لماذا نسخ؟ هل كان النسخ لأن قرآنيته قد ذهبت؟ أم لأن الرأى اختلف فى قتلى بئر معونة، فلم يعد الله راضيا عنهم ولم يعودوا هم راضين عن الله؟ قال ابن عباس = فلا أدرى من القرآن هو أم لا =؟ وفى رواية زهير قال = فلا أدرى أمن القرآن هو أم لا = نقول: مثل هذا الكلام فيه تشويش وتهويش على القرآن ولولا أن الله تعالى تكفل بحفظه، واستقر ذلك فى أذهان الأمة وقلوب المسلمين قرونا، لأضرت مثل هذه الروايات المشبوهة بالقرآن، ومن ثم بالإسلام والمسلمين.
روى عن عائشة قولها: = وكان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات يحرمن = ورد هذا الحديث بعبارات مختلفة وقد رده علماء أفذاذ كالجصاص (2)، على سبيل المثال، وذلك لأسباب قوية ذكرها.
وأما حديث عائشة فغير جائز اعتقاد صحته على ما ورد، وذلك لأنها ذكرت أنه = كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات فنسخن بخمس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى وهن مما يتلى =.
كيف يجوز ذلك والنص على العشر أو الخمس، أعنى الناسخ والمنسوخ كلاهما ليس له وجود فى القرآن؟ وأهم من ذلك وأخطر على عصمة القرآن أن هذا الكلام يجيز
__________
(1) انظر الطبرسى. مجمع البيان 1/ 2018، وابن شاذان كتاب الإيضاح 112، ومصطفى زيد النسخ فى القرآن 1/ 281.
(2) انظر: كتاب الخصائص 2/ 125.(1/221)
النسخ بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم ولا أحد من المسلمين يقول بذلك أبدا، لأن الله وهو المشرع هو الذى ينسخ حكم نفسه أو أمره بحكم نفسه أو أمره ولا يكون هذا إلا فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم. ويذكر الطحاوى فى = مشكل الآثار = أن أحدا لم يورد هذا الحديث غير عبد الله بن أبى بكر وهو وهم منه (1) وبهذا يكون الطحاوى قد اقتلع بقوة الدليل هذه المشكلة من أساسها.
وعند الحارث بن أسد المحاسبى = أن كلام الله الذى جاء بالحكم الأول هو كلامه، (لا غير) وواجب على العباد أن يؤمنوا به أنه حق وأنه من القرآن، من كفر به فهو كافر ومن آمن به فهو مؤمن وأن عليهم ألا يخرجوا جميعا من حفظه، ولا يجوز له أن يسقط من القرآن، فلا يقرأ ولا يتلى، وإنما سقط فرض الآية، ولم يبطل النص. ولا يقول مؤمن: قد أبطل الله عز وجل الآيات التى كانت هذه الأحكام كلها فيها واجبات، فيكون كلاما باطلا. فالكلام الذى نسخ منه الحكم، والكلام الذى ثبت به الحكم الثانى كلام الله حق وصدق، لا باطل ولا كذب = (2).
وإذن فما نسب إلى السيدة عائشة من قولها = كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس معلومات، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ قرآنا =، غير صحيح على الإطلاق.
وفوق هذا كله، فإن مثل هذا الكلام ليس فيه نور القرآن ولا حلاوته ولا طلاوته، ثم إنه روى من طرق عدة، وباختلاف فى العبارات والروايات، وليس فى القرآن لا عشر رضعات، ولا خمس رضعات ثم ما الداعى أن يعطى الحكم فى القرآن ثم ينسخ، والنص نفسه محفوظ مع أن السنة لها القوة نفسها فى التحليل والتحريم كالقرآن؟ ثم إن تحديد عدد الرضعات بعدد معين، من التفصيلات التى اختصت بها السنة وليس القرآن. ولو فتحنا الباب أمام مثل هذه الدعاوى لأدخل على القرآن ما ليس منه وخرج منه ما هو منه على أنه لو كان مثل هذا الكلام قرآنا لأمكن معارضته والإتيان بمثله وقد جعل الله ذلك ممتنعا على الإنس والجن معا أو منفردين، يضاف إلى ذلك، أن آية الرضاعة المنسوبة إلى السيدة
__________
(1) الطحاوى مشكل الآثار 3/ 6والنووى على مسلم 10/ 29.
(2) العقل أو فهم القرآن ص ص 368367.(1/222)
عائشة لم تظهر فى صحفها ولم تحفظ فى مصحف أى من الصحابة كذلك (1) ولو كانت قرآنا لما تركت أبدا هذا مع مراعاة أن التفصيل فى قاعدة التحريم ليست من خصائص القرآن كما نوهنا فالله يقول: {وَأَخَوََاتُكُمْ مِنَ الرَّضََاعَةِ}، وللسنّة أن تبين بعد ذلك كم رضعة تحرّم.
ونحن مع صاحب = كشف الأسرار على أصول البزدوى = (ت: 909هـ) كما أشرنا إليه توا، فى أن حديث عائشة غير صحيح، ولا أصل له وبالتالى يزال الإشكال أصلا.
ومن المفيد أن نشير إلى رسالة = الهادى = إلى = الحق أبو الحسين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم الرسّى = (298220هـ 835/ 911م) التى هى بعنوان = الرد على من زعم أن القرآن قد ذهب بعضه = (2) وهو ما اهتبله المستشرقون لتأييد دعواهم فى تحريف القرآن، فقد نقلوا رواية أنس رضي الله عنه بشأن الرجل الذى كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ادعى أنه كان يكتب كلاما من عند نفسه مكان كلام الله حسبما كان يتراءى له. لقد نقلوا من الرواية ما يخدم غرضهم فى دعوى التحريف مع أن أصل الحديث يكذبهم ويدمغ باطلهم. وننقل هنا ما جاء فى كتب الحديث: = حدثنى محمد بن رافع، حدثنا أبو النضر، حدثنا سليمان (وهو ابن المغيرة) عن ثابت بن قيس، عن أنس بن مالك قال: كان منا رجل من بنى النجار قد قرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب، قال: فرفعوه. قالوا: كان هذا يكتب لمحمد، فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم فحفروا له، فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له، فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذا =. (3)
وعن حميد الطويل عن أنس أن رجلا كان يكتب للنبى صلى الله عليه وسلم، وكان قد قرأ سورة البقرة، وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ، فكان النبى صلى الله عليه وسلم يملى عليه = غفورا
__________
(1) انظر: ابن أبى داود كتاب المصاحف 8881.
(2) بالمتحف البريطانى فى الملحق 206مخطوطات شرقية 3798/ 20الأوراق 7369. تاريخ الخطوط 1172هـ.
وانظر: فهرس معهد المخطوطات العربية وفؤاد سزكين تاريخ التراث العربى الهيئة المصرية العامة للكتاب 1978/ 2/ 20.
(3) صحيح مسلم كتاب (صفات المنافقين) رقم (2781) دار إحياء الكتب ج 4(1/223)
رحيما =، فيقول: أكتب = عليما حكيما =؟ فيقول له النبى صلى الله عليه وسلم: = اكتب كيف شئت =، وعكس = عليما حكيما =، فيقول: أكتب = سميعا بصيرا =؟ فيقول له النبى صلى الله عليه وسلم: = اكتب ما شئت = فارتد ذلك الرجل عن الإسلام، ولحق بالمشركين، فقال أنا أعلمكم بمحمد، إني كنت لأكتب كيف شئت فمات ذلك الرجل فقال النبى: = إن الأرض لا تقبله =، قال أنس فحدثنى أبو طلحة أنه أتى الأرض التى مات فيها فوجده منبوذا، فقال أبو طلحة ما بال هذا الرجل؟ قالوا دفناه مرارا فلم تقبله الأرض (1).
وممن تحدوا القرآن ولم يمهلوا الوليد بن يزيد، وكان يسمى بخليع بنى مروان، قرأ ذات يوم قوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخََابَ كُلُّ جَبََّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرََائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى ََ مِنْ مََاءٍ صَدِيدٍ} (16) (إبراهيم: 1615)، فدعا بالمصحف فنصبه غرضا للنشاب (النبال) وأقبل يرميه وهو يقول:
أتوعد كل جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربّك يوم حشر ... فقل يا رب خرقنى الوليد
وذكر محمد بن يزيد المبرد (النحوى) أن الوليد ألحد فى شعر له، ذكر فيه النبى صلى الله عليه وسلم أن الوحي لم يأته عن ربه كذب وأخزاه الله من ذلك الشعر.
تلعب بالخلافة هاشمى ... بلا وحى أتاه ولا كتاب
فقل لله يمنعنى طعامى ... وقل لله يمنعنى شرابى (2)
وهكذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وصفه للقرآن = ما تحداه من جبار إلا قصمه الله =.
__________
(1) المصدر نفسه 295294. وكتاب المصاحف ص 3وعلاء الدين على المتقى بن حسام الدين الهندى البرهان فورى (ت:
975). كنز العمال فى سنن الأقوال والأفعال تحقيق الشيخ بكرى حياتى والشيخ صفوة السقا مؤسسة الرسالة ج 51/ 19951405ج 2ص 294. وحمودة. القراءات واللهجات ص 85.
(2) المسعودى أبو الحسن على بن الحسين. مروج الذهب ومعادن الجوهر تحقيق محمد محى الدين عبد الحميد (بيروت المكتبة العصرية (1408هـ 1988م) ج 3ص 229228.(1/224)
الفصل الرابع الحروف المقطعة
بعد هذا نعود مرة أخرى إلى موضوع الحروف المقطعة ونظرة المستشرقين إليها. يقول ويلش: = إن التاريخ لم يسجل لنا أي اختلاف فى طريقة النطق بالحروف المقطعة وإنه من الملاحظ أنها تستند على قاعدة صلبة من المعتقدات الإسلامية ومع هذا تبقى عدة تساؤلات غير مجاب عليها، ولكن يبدو أن مؤشر الدليل يتجه لتأييد لوث ونولدكه وإسكواللى، وألن جونس فى اعتبارهم الحروف المقطعة جزء من الوحي، ويبدو أن رأى بل كذلك صائب فى اعتبار الحروف والجمل التمهيدية فى القرآن جزء من النسخ المنقحة التى كتبت فى بداية العهد المدنى والتى أثبتت فى أوائل السور فى النسخ المكتوبة التى كان محمد صلى الله عليه وسلم يعدها بنفسه، وإنه ليس من غير المحتمل أن السور التى ذكرت فيها الحروف المفرقة كانت هى السور التى أعدها محمد صلى الله عليه وسلم لكتّاب الوحي، ومن وجهة نظرهم (أى هؤلاء المستشرقين الأربعة) فإن هذه الحروف لها أهميتها الكبرى فى فهم تاريخ النص القرآنى، وفى معرفة الترتيب الزمنى لهذا النص المقدس، والذى له أهميته هو أيضا فى فهم معانى هذه الحروف نفسها = (1).
هذه هى العبارات التى ختم بها الكاتب كلامه عن الحروف المقطعة. وسوف نتناول موضوع هذه الحروف بدراسة مفصلة هنا ثم نتبعها بالحديث عن مدى عناية المسلمين بدراسة هذه الحروف.
الحروف المقطعة من الأسرار العظيمة فى القرآن، فقد اعتبرها الإمام على كرّم الله وجهه، صفوة القرآن. وقال الشعبي: هى سر القرآن (2).
يقول الباقلانى: = وكثير من هذه السور أى التى تبدأ بالحروف المقطعة إذا تأملته فهو من أوله إلى آخره مبنيّ على لزوم حجة القرآن، والتنبيه على وجه معجزته = (3).
قال ابن عباس: = هى أقسام قيل أقسم الله تعالى بهذه الحروف لشرفها وفضلها لأنها مباني كتبه المنزلة، وأسمائه الحسنى وصفاته العليا = (4).
__________
(1) انظر: دائرة المعارف ص 414.
(2) الطبرسى. البيان 1/ 122.
(3) محمد الخليلى الشافعى فتاوى القاهرة مطبعة محمد أفندى شاهين 1284ص 27.
(4) إعجاز القرآن. ص 32وما بعدها.(1/225)
وعلى هذا يمكن أن نقول إن هذه الحروف المنزلة يصح أن نعتبرها دلالات على اللغة الإلهية الأم التى علمها الله تعالى لآدم عليه السلام، والتى تفرعت عنها جميع اللغات فى العالم، وكما أن آدم هو أصل الجنس البشرى، الذى اختلف لونه ولسانه، ولكنه ينتمي إلى أصل واحد هو آدم والحروف المقطعة وإن خفي عنا معناها، فإن كلّ حرف منها محمل بطاقة هائلة من المعانى الربانية والألطاف الروحانية، ولا يدركها، ولا يشعر بها إلا أولو النهى والبصائر تأتى هذه الحروف فى ابتداء تسع وعشرين سورة من سور القرآن بعد الفاتحة، وتسمى هذه الحروف أحيانا، بأوائل السور، وأحيانا بفواتح السور، وأخرى بالحروف المقطعة وذلك لأنها لا تأتى إلا فى أوائل السور فقط وقد عرفت هذه الحروف فى اللغات الأوروبية، بصفة عامة، بالحروف الغامضة أو الملغزة وهذا التعبير الأخير هو الذى اختاره الكاتب ويلش عنوانا لهذا الموضوع.
والحروف المقطعة متنوعة بين الحرف، والحرفين، والثلاث، والأربع، والخمس يقول ويلش = لأربعة عشر قرنا ظلت هذه الحروف موضع غموض وحيرة لعلماء المسلمين، إذ يرى بعض العلماء أن فيها اختصارا لعبارات ما، على سبيل المثال = الر =، اختصار للرحمن، = الم = للرحيم، = حم = للرحمن الرحيم، = ص = صادي يا محمد، = يس = يا سيد المرسلين الخ.
وروى عكرمة وغيره عن ابن عباس أن = الر =، و = حم =، و = ن = معا رموز لقوله:
= الرحمن =، استعرض الكاتب آراء العلماء الاجتهادية فى معنى هذه الحروف، كما أوردها السيوطى واعتمد ويلش ما قرره الأخير بأن علم هذه الحروف غير معروف حق المعرفة إلا لله تعالى. وسوف نستعرض هذه الآراء وغيرها مما لم يقف عليه الكاتب من أسرارها ومعانيها، أو ما رأى هو الاستغناء عنه على الرغم من أهميته للبحث.
ومن المفيد أن نشير هنا إلى أن فواتح السور قد كتبت على صورة الحروف أنفسها، لا على صورة النطق بها، فلم تكتب مثلا = ن = صوتيا هكذا = نون = ولم تكتب = الم = بحسب نطقنا لها = ألف لام ميم = وقطعت {حم (1) عسق} (2) ولم تقطع {المص}
و {كهيعص} (1) وذلك إما لسر يعلمه الله، وإما لشهرتها وقراءتها توقيفا.
__________
(1) الإتقان ج 4ص 158(1/226)
يعرض المستشرق ويلش للكتاب المحدثين من المسلمين ليتعرف على آرائهم فى تفسير الحروف المقطعة ويقرر أنهم على الرغم من تسليمهم بما انتهى إليه السيوطى وجمهور علماء المسلمين من تفويض العلم الكامل بأسرار هذه الحروف إلى الله تعالى، فإنهم حاولوا اكتشاف أسرارها، فأمير على، كمثال على ذلك، يرى أن جميع هذه الحروف بمثابة النداء على النبى صلى الله عليه وسلم (1) والتأهيل له لتلقى ما يرد بعدها من الوحى.
وعلى النصوح الطاهر يزعم أن هناك علاقة عددية أو حسابية بين عدد آى السور المبدوءة بالحروف المقطعة، وبين القيمة العددية لهذه الحروف ولكى يصل هذا الأخير إلى غرضه نراه يتسور على القرآن ويستنتج أمورا غريبة وعجيبة لم تخف على المستشرق نفسه بل ولم تسلم من اعتراضه.
على سبيل المثال فإن الطاهر يدعي أن سورة الأعراف وهى رقم 7فى المصحف وآياتها تبلغ 206آية، كانت فى الأصل تضم 161آية فقط وذلك لأن هذا الرقم هو الذى يوافق القيمة العددية للحروف (أل م ص) المذكورة فى بداية السورة (40301 16190).
ولسنا ندرى على أيّ أساس بنى الطاهر زعمه هذا؟ ومن أى طريق جلب هذا العار على نفسه، هذا فضلا عن مصادمة آرائه للدين، الذى يفترض أنه يدين به، اللهم إلا إذا كان شيعيا غاليا، أو بهائيا قاليا، أو أحمديا غاويا ولقد أجمع العلماء على أن الأعراف من السور الطول وأنها هكذا منذ نزلت، بالنسبة لعدد آياتها، وبالنسبة لترتيبها فى المصحف، وليس فى سورة الأعراف منسوخ البتّة. وعلى هذا الخط المعوج نفسه، راح هذا الكاتب يضم سورة لسورة وآيات لآيات حتى يجعلها صالحة لتأييد فكرته الرعناء فى التوافق بين القيمة العددية للحروف، وعدد آيات السورة، وكما يذكر المستشرق، فإنه لم يستطع، ولو فى حالة واحدة، أن يؤيد زعمه فى اتفاق القيمة العددية للحروف مع العدد الحقيقى لآى أى سورة على ما هو موجود فى المصحف الذى بين أيدينا.
ويرى المستشرق أن هذا دليل على النظرة العشوائية من قبل بعض الكتاب للحروف المقطعة، وتنكب الطريق لتفسيرها.
__________
(1) راجع مصادر ويلش فى آخر البحث.(1/227)
إن الكاتب منصف فى عرضه وفى ردّه هنا، ولكننا بتسليط بعض الضوء على ما بين السطور اكتشفنا أن الكاتب يريد أن يعطى القارئ انطباعا مؤداه أن القرآن كتاب طلاسم غير مفهوم للمسلمين قديمهم وحديثهم وهذا الفكرة فى حد ذاتها تمثل عصب الدراسات الاستشراقية بوجه عام وأمر المستشرقين فى هذا أغرب مما يتعجب منه، فالقرآن قد أوجد أمة عظيمة وشكّلها تشكيلا فريدا، وقاد مسيرتها إلى القوة، والخير، والعدل، والمجد، والحضارة ومن القرآن انبعثت علوم المسلمين ومعارفهم وبهذه الآيات الإلهية حكموا وسادوا، وتعلموا وعلموا، وأسسوا قواعد المنهج والعلوم التجريبية. ومهما يكن الأمر فإن الغموض الذى يحيط بالحروف المفرقة لا يترتب عليه ضياع تكليف شرعى، أو إسقاط قاعدة عقدية يكون الجهل بها ضارا بالمكلّفين، أو مثارا لتشككهم فى الدين.
وهنا نتناول آراء المستشرقين ومن نهج نهجهم فى طبيعة الحروف المقطعة وأسرارها إن مقولة المستشرق = لوث = فى أن الحروف المقطعة قد تأثرت فى أصل وضعها = بالكبالا = (التصوف اليهودى) يعد أكثر عشوائية ذهنية من مقالة الطاهر الآنفة الذكر، ما للقرآن والكبالا؟ ما علاقة الحروف المقطعة باليهود، وأين يا ترى هو الدليل على هذه الدعاوى العريضة؟ إن هذه الحروف جزء من الوحى، ومعانيها المحددة كانت وستظل موضع خلاف بين علماء المسلمين فهى من أسرار القرآن ومتشابهه، ولنا أن نجتهد فى التعرف على معانيها ولكننا لا نقطع أبدا بأن ما توصلنا إليه باجتهادنا أو توصل إليه غيرنا هو مراد الله تعالى منها على القطع على أنه من اللافت للنظر حقا، أن هذه الحروف موزعة على تسع وعشرين سورة، سبعا وعشرين منها مكية، واثنين فقط مدنية، بخلاف ما زعم = لوث =. هذه السور منها الطويل، ومنها القصير، ومنها المتوسط ومنها المذكور فى أول القرآن والمذكور فى وسطه والمذكور فى آخره ومن العجيب أننا لم نجد أحدا من المسلمين ولا نقاد القرآن قبل لوث زعم هذا الزعم. وقد أنصف حقا إف. إسكواللى فى رفضه لرأى لوث ووصفه له بأنه عشوائي جدا. لكنه مع ذلك قد أثنى على طريقته ومنهجه فى البحث فى كتابه = تاريخ الآداب أو العلوم = حتى سنة 1919، ورفض إسكواللى بالتالى تفسير نولدكه الأخير للحروف المقطعة، والمبنى أساسا على رأى لوث السابق واعتبر إسكواللى بحق أن رأى نولدكه يحوطه الشك.
وعلى الرغم من هذا فإن إسكواللى يرى أن هذه الحروف لها معانى رمزية لا تزال لها صلة على نحو ما بتنقيح السور القرآنية التى تتصدرها، وإسكواللى، ولكنه هو الآخر مخطئ فى زعمه بأن الحروف لها علاقة ما بتنقيح السور القرآنية إنه للأسف رفض الرأى الذى وصفه بالعشوائية فى الوقت الذى تبنى هو رأيا أكثر عشوائية وأشد فحشا منه، إنه للأسف أوسع فى الدعوى، وأمعن فى البعد عن الدليل. ترى من نقح القرآن وهو كلام الله المنزل بحروفه ومعانيه وترتيب سوره وآياته؟ ومتى وقع هذا التنقيح ومن هم الشهود عليه؟. إن هذا الزعم جد ممعن فى الغرابة، وهل تنقيح القرآن يتم بوضع مجموعة من الحروف الهجائية فى أوائل بعض السور لا كلها هذه الحروف لا يقطع أحد من علماء المسلمين بحقيقة معانيها على وجه الدقة واليقين. ويفوض جمهور علماء الأمة علم معانيها إلى الله تعالى؟(1/228)
وهنا نتناول آراء المستشرقين ومن نهج نهجهم فى طبيعة الحروف المقطعة وأسرارها إن مقولة المستشرق = لوث = فى أن الحروف المقطعة قد تأثرت فى أصل وضعها = بالكبالا = (التصوف اليهودى) يعد أكثر عشوائية ذهنية من مقالة الطاهر الآنفة الذكر، ما للقرآن والكبالا؟ ما علاقة الحروف المقطعة باليهود، وأين يا ترى هو الدليل على هذه الدعاوى العريضة؟ إن هذه الحروف جزء من الوحى، ومعانيها المحددة كانت وستظل موضع خلاف بين علماء المسلمين فهى من أسرار القرآن ومتشابهه، ولنا أن نجتهد فى التعرف على معانيها ولكننا لا نقطع أبدا بأن ما توصلنا إليه باجتهادنا أو توصل إليه غيرنا هو مراد الله تعالى منها على القطع على أنه من اللافت للنظر حقا، أن هذه الحروف موزعة على تسع وعشرين سورة، سبعا وعشرين منها مكية، واثنين فقط مدنية، بخلاف ما زعم = لوث =. هذه السور منها الطويل، ومنها القصير، ومنها المتوسط ومنها المذكور فى أول القرآن والمذكور فى وسطه والمذكور فى آخره ومن العجيب أننا لم نجد أحدا من المسلمين ولا نقاد القرآن قبل لوث زعم هذا الزعم. وقد أنصف حقا إف. إسكواللى فى رفضه لرأى لوث ووصفه له بأنه عشوائي جدا. لكنه مع ذلك قد أثنى على طريقته ومنهجه فى البحث فى كتابه = تاريخ الآداب أو العلوم = حتى سنة 1919، ورفض إسكواللى بالتالى تفسير نولدكه الأخير للحروف المقطعة، والمبنى أساسا على رأى لوث السابق واعتبر إسكواللى بحق أن رأى نولدكه يحوطه الشك.
وعلى الرغم من هذا فإن إسكواللى يرى أن هذه الحروف لها معانى رمزية لا تزال لها صلة على نحو ما بتنقيح السور القرآنية التى تتصدرها، وإسكواللى، ولكنه هو الآخر مخطئ فى زعمه بأن الحروف لها علاقة ما بتنقيح السور القرآنية إنه للأسف رفض الرأى الذى وصفه بالعشوائية فى الوقت الذى تبنى هو رأيا أكثر عشوائية وأشد فحشا منه، إنه للأسف أوسع فى الدعوى، وأمعن فى البعد عن الدليل. ترى من نقح القرآن وهو كلام الله المنزل بحروفه ومعانيه وترتيب سوره وآياته؟ ومتى وقع هذا التنقيح ومن هم الشهود عليه؟. إن هذا الزعم جد ممعن فى الغرابة، وهل تنقيح القرآن يتم بوضع مجموعة من الحروف الهجائية فى أوائل بعض السور لا كلها هذه الحروف لا يقطع أحد من علماء المسلمين بحقيقة معانيها على وجه الدقة واليقين. ويفوض جمهور علماء الأمة علم معانيها إلى الله تعالى؟
كيف ساغ للمستشرق هذا الادعاء بالنسبة للقرآن وكيف اعتبر أن تصدير بعض سور القرآن بالحروف المقطعة التى يزعم أنها غير مفهومة المعنى تنقيحا؟ وما رأى المستشرق فى السور التى تخلو من مثل هذه الحروف؟ هل تركت غير منقحة؟ أم نقحت بطريقة أخرى لم يعرفها المستشرقون أو عرفوها ولم يفصحوا عنها؟! لقد اطّرح المستشرقون كل ما توصل إليه المسلمون باجتهادهم فى فهم معانى الحروف المقطعة، وافترضوا هم مفاهيم من وحى خيالهم لا تمتّ إلى القرآن بأدنى صلة. إنهم لم يقتنعوا بطبيعة التركيب القرآني الذى يقتضى نفسه من وجهة نظرنا على الأقل وجود الحروف المقطعة قبل الآية أو الآيات التى تليها، ولم يكتفوا كذلك بأقوال الصحابة أو بأقوال أهل العلم فيها بل اخترعوا تفسيرات من عند أنفسهم رضوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعتوا.
قال المستشرق بعد أن عدّد آراء المسلمين فى تفسير معانى هذه الحروف، بأنها ليست جزءا من القرآن وإنما هى رموز وإشارات حروفية إلى أصحاب تلك النسخ من القرآن، ومنذ أن قدم نولدكه هذا الزعم حاول عدد كبير من المستشرقين تدعيمه والتدليل عليه، فهم يقولون إن هذه الحروف إنما هى إشارات ورموز كانت تومئ إلى أسماء أصحاب هذه النسخ من المصاحف التى جمعها زيد بن ثابت فيما بعد واستعملها فى إخراج نسخته التى كلف بجمعها، فمثلا = أل = رمز للزبير بن العوام، و = أل م ر = للمغيرة (ابن شعبة)، و = حم = لعبد الرحمن ويزعم نولدكه بأن هذه الحروف المقطعة وجدت طريقها إلى القرآن بمحض الصدفة، بمعنى أنهم ضموها إلى القرآن ظنا منهم أنها جزء من التنزيل. هذا الرأى تبناه
هيرشفيلد ونشره فى كتاب له. ولكن صاحب الرأى الأول أعنى نولدكه لم يلبث أن غير رأيه وتبنى رأيا آخر بدلا منه كما سنذكره فيما بعد. ولكن قبل أن نطرح الرأى الآخر مشفوعا بمحاولة صاحبه فى التدليل عليه نود أن نبين تهافت رأى نولدكه وهيرشفيلد، إنهما يدعيان أن هذه الحروف يرمز بها إلى أسماء الأشخاص الذين كانوا يمتلكون المخطوطات التى اعتمد عليها زيد بن ثابت فى جمع القرآن.(1/229)
قال المستشرق بعد أن عدّد آراء المسلمين فى تفسير معانى هذه الحروف، بأنها ليست جزءا من القرآن وإنما هى رموز وإشارات حروفية إلى أصحاب تلك النسخ من القرآن، ومنذ أن قدم نولدكه هذا الزعم حاول عدد كبير من المستشرقين تدعيمه والتدليل عليه، فهم يقولون إن هذه الحروف إنما هى إشارات ورموز كانت تومئ إلى أسماء أصحاب هذه النسخ من المصاحف التى جمعها زيد بن ثابت فيما بعد واستعملها فى إخراج نسخته التى كلف بجمعها، فمثلا = أل = رمز للزبير بن العوام، و = أل م ر = للمغيرة (ابن شعبة)، و = حم = لعبد الرحمن ويزعم نولدكه بأن هذه الحروف المقطعة وجدت طريقها إلى القرآن بمحض الصدفة، بمعنى أنهم ضموها إلى القرآن ظنا منهم أنها جزء من التنزيل. هذا الرأى تبناه
هيرشفيلد ونشره فى كتاب له. ولكن صاحب الرأى الأول أعنى نولدكه لم يلبث أن غير رأيه وتبنى رأيا آخر بدلا منه كما سنذكره فيما بعد. ولكن قبل أن نطرح الرأى الآخر مشفوعا بمحاولة صاحبه فى التدليل عليه نود أن نبين تهافت رأى نولدكه وهيرشفيلد، إنهما يدعيان أن هذه الحروف يرمز بها إلى أسماء الأشخاص الذين كانوا يمتلكون المخطوطات التى اعتمد عليها زيد بن ثابت فى جمع القرآن.
وهذا مردود لعدة أمور، منها:
أولا: أن زيدا كان يجمع القرآن ليس من نسخ كاملة، وإنما من مواد مختلفة كالعظام والجريد واللخاف والقباطى إلخ فأى ورقة أو أى جريدة أو أى عظمة يا ترى كانت تحمل هذه الحروف؟
ثانيا: إننا لم نسمع عن شىء كهذا من قبل ولا قرأناه فى المصادر التى بين أيدينا التى حملت إلينا التفاصيل المتصلة بجمع القرآن، حتى تلك الروايات الضعيفة التي أولع جامعوها بإثبات بعض الروايات الغريبة والمتناقضة لم تذكر شيئا كذلك لا تصريحا ولا تلميحا.
ثالثا: لماذا وضعت هذه الحروف فى أوائل هذه السور المعروفة بعينها وليس فى غيرها؟
ولماذا كانت لهذا العدد من السور بالتحديد؟ ولماذا لم تأت فى سورة متتالية وليست متقطعة؟
رابعا: وليس أقل أهمية من ذلك أن وضع الحروف المقطعة بهيئاتها التى هى عليها لا يتطابق مع الأسماء التى اقترحها المستشرق؟ فمثلا = الزبير = لا يرمز له ب = الر =، كذلك الحال بالنسبة للأسماء الأخرى التى حملها عليها، والحروف التى اقترحها لها، لذلك وجدنا ويلش يضع حرف () بين قوسين هكذا بدلا من حرف () الذى وضعه نولدكه وهيرشفيلد فى دعوى أن الحروف = الر = ترمز إلى = الزبير = ثم إن الأسماء التى اقترحها المستشرقون لم تكن معروفة بحيازة مصاحف. هذا فى الوقت الذى أهمل فيه هؤلاء المستشرقون ذكر أشهر المصحفيين والقرآنيين كعبد الله بن مسعود وعلي بن أبى طالب وأبي بن كعب وغيرهم.
خامسا: ليس من عادة العرب استعمال مثل هذه الطريقة فى توثيق أشعارهم أو خطبهم.
لقد تبين من هذا العرض عدم فاعلية سلاح الاستشراق فى معركته ضد القرآن لذا فقد فكر ويلش فى أن يستعمل سلاحا آخر غيره. وعلى الرغم من ضعف نظرية نولدكه، فإنها للأسف قد وجدت ترحيبا كبيرا فى الأوساط الاستشراقية وظلت هى السائدة فى الكتابات
الغربية لوقت طويل، ولقد تبنى هذا التفسير الخاطئ للحروف المقطعة هيرشفيلد.(1/230)
لقد تبين من هذا العرض عدم فاعلية سلاح الاستشراق فى معركته ضد القرآن لذا فقد فكر ويلش فى أن يستعمل سلاحا آخر غيره. وعلى الرغم من ضعف نظرية نولدكه، فإنها للأسف قد وجدت ترحيبا كبيرا فى الأوساط الاستشراقية وظلت هى السائدة فى الكتابات
الغربية لوقت طويل، ولقد تبنى هذا التفسير الخاطئ للحروف المقطعة هيرشفيلد.
فى الكتاب (بحوث جديدة ص 143141) () إذ اعتبر كل حرف من هذه الحروف رمزا لاسم الشخص الذى كان يمتلك المخطوطة، والعجيب مع ذلك أن المستشرقين يصرون على أن القرآن لم يكتب فى حياة محمد صلى الله عليه وسلم. على أي حال فقد لاحظ هيرشفيلد تهافت نظريته، والخلل الذى يكمن في جرثومتها عند ما قال: = إننا إذا قلنا بأن هذه الحروف ترجع إلى محمد نفسه، وجب أن نسلم بأنه، أى محمد، لا بدّ وأن يكون قد شارك بقسط كبير فى ترتيب السور، وهذا يتناقض مع كل ما نعرف عن جمع القرآن =.
لم يمض وقت طويل على تفسير هيرشفيلد وتعليله الذى ضمنه كتابا له، حتى أعلن أستاذه صاحب النظرية، أعنى نولدكه، تخلّيه عن زعمه فى تفسير الحروف المقطعة، وتبنّى موقفا آخر مغايرا تماما لرأيه الأول، وذلك عند ما نشر. مقاله عن الطبرى كمفسر (1). ومن وجهة نظر لوث، فإن هذه الحروف تظهر فقط فى أواخر العهد المكى، وبداية العهد المدنى، عند ما كان محمد يقترب من اليهودية. وفى بعض الحالات تضمنت بعض الآيات القرآنية إشارات إلى الحروف المقطعة رموز كبالية هذه الرموز ربما أخذت شكل كلمات وعبارات أساسية حقيقة، تصدرت بعض سور القرآن.
كان هذا الرأى كافيا فى جعل نولدكه يتخلى عن نظريته بالنسبة لدلالة الحروف المفرقة أو صفتها، وقبول هذا الاعتقاد السائد والمدعم بالأدلة فى أن هذه الحروف تعد جزءا من الوحى، وأنها من ثم تحمل معانى خاصة هى أبعد بكثير من أن تكون معانى صوفية أو باطنية فقط.
فى هذه القرينة نقول إن الكبالا معناها فى العبرية التلقى أو التحصيل وتعنى اصطلاحا مجموع الفلسفة الصوفية والروحية لليهود. ولسنا نرى أي علاقة بين الكبالا وبين الحروف المقطعة.
__________
(1). 81. 18 .. 603 ..(1/231)
الفصل الخامس عناية علماء المسلمين بالحروف المقطعة
أعطى اللغويون العظام أهمية كبيرة للحروف فقد وضع الخليل بن أحمد وابن السكيت والرازى كتبا فى أسرارها وأهميتها (1) وابن جنى فى سر صناعة الإعراب وابن الأنبارى له = زينة الفضلاء فى الفرق بين الضاد والظاء = حققه رمضان عبد التواب فى معنى الحروف.
لقد ذكرت هذه الحروف فى أوائل تسع وعشرين سورة هى البقرة، وآل عمران، والأعراف، ويونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، ومريم، وطه، والشعراء، والنمل، والقصص، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة، ويس، وص، وغافر، وحم (السجدة)، والشورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف، و = ق =، و = ن = كلها سبعة وسبعون حرفا. الذى لم يتكرر منها حرفان = ك = و = ن =، والذى تكرر مرتين أربعة = ع، ق، هـ، ي =، والذى تكرر ثلاث مرات حرف واحد = ص =، والذى تكرر أربع مرات حرف واحد = ط =، والذى تكرر خمس مرات هو حرف واحد = س =، والذى تكرر ست مرات حرف واحد = ر =، والذى تكرر سبع مرات حرف واحد = ح =، والذى تكرر ثلاث عشرة مرة حرفان الحرف = أ = والحرف = ل =، والذى تكرر سبع عشرة مرة حرف واحد = م =.
والمنقوط منها ثلاثة: = ق، ن، ي = وغير المنقوط أحد عشر: = أ، ح، ر، س، ص، ط، ع، ك، ل، م، هـ =.
مدار الكل نصف حروف المعجم أربعة عشر = أ، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، هـ، ى = وعدد سورها عدد حروف المعجم.
وتشتمل الحروف المقطعة على نصف الحروف المهموسة وهى = ص، ك، هـ، س، ح =.
ومن المجهورة تشتمل على نصفها: = أ، ل، م، ر، ع، ط، ق، ي، ن =.
__________
(1) حول الحروف انظر. ثلاث كتب فى الحروف للخليل بن أحمد وابن السكيت والرازى. تحقيق د. رمضان عبد التواب القاهرة والرياض. الخانجى والرفاعى 19821402.(1/233)
ومن الشديدة نصفها: = أ، ل، م، ر، ك، هـ، ي، س، ح، ن = ومن المستعلية نصفها وهى: = ق، ص، ط =.
ومن المنخفضة نصفها = أ، ل، م، ر، ك، هـ، س، س، ح، ن =.
ومن حروف القلقلة نصفها: = ق، ط =.
ويلاحظ أن هذه الحروف من حيث العدد تضم، الواحدان، والثنائى، والثلاثى والرباعى والخماسى، وهى كالآتى على الترتيب:
ص، ق، ن.
طه طس، يسن حم، حم، حم، حم، حم، [9].
الم الم الم الم الم الم، الر الر الر الر الر، طسم، طسم [13].
والرباعى: المص، المر [2].
والخماسى: ك هـ ى ع ص ح م ع س ق.
سبعة من هذه الحروف المقطعة تعد آية وهى:
كهيعص، المص، الم، طسم، طه، يسن، حم.
ومجموعها فى القرآن ثمان عشرة آية.
وستة من هذه الحروف آية: المر، الر، طس، ص، ق، ن.
وواحدة فقط من هذه المجموعة تعد آيتان وهى حم، عسق وعند الرازى أنه يمكن تخريج كلام مفهوم ومعلوم من هذه الحروف (1). وعدد الحروف المقطعة 693حرفا. وقد استنتج بعضهم من هذا العدد مدة بقاء الأمة الإسلامية (2) ولكن مثل هذا الكلام لا طائل تحته، ولا دليل عليه، ولم يعط القرآن ولا السنة قيمة لمثل هذه الشطحات وقد استعمل بعض الشعراء هذه الحروف المقطعة فى أشعارهم من هذا قول شريح:
يذكرنى حميما والرمح شاجر ... فهلا تلاحم والرمح شاجر (3)
__________
(1) انظر: تفسير الرازى تفسير أول سورة البقرة ج 1والمصدر السابق ص 159.
(2) المصدر نفسه 159.
(3) ابن منظور. لسان العرب ج 1ص 38وج 3ص 356.(1/234)
وأنشد أبو عبيدة:
إذا اجتمعوا علي ألف وواو ... وياء هاج بينهموا قتال (1)
ومن المفيد ذكره فى قرينة الحروف المقطعة، الإشارة إلى ما أثاره خصوم اللغة العربية فى تركيا، بشأن الحروف العربية التى كانت مستخدمة فى الكتابة باللغة التركية فى تركيا.
ففي هذا البلد المسلم مثلا ثار جدل حول الأبجدية، إذ ادعى أعداء اللغة العربية أنها غير صالحة للتقدم، وأن طريقة كتابة حروفها صعبة، وأنها بالتالى، هى السبب فى أمية الفلاح التركى وتأخره ناسين كما يقول الأمير شكيب أرسلان أن سبب تأخر الفلاح هو الظلم الاجتماعي والانحطاط الاقتصادي (2) بل إننا نقول إن الظلم الاجتماعي هو سبب تأخر مجتمعات المسلمين جميعا، وليس المجتمع التركى وحده. ورد أنصار اللّغة العربية بأنها أوفق من اللغة التركية وغيرها، فإن شكل حروفها يمكن للبصر أن يميزه بسهولة وذلك بمجرد وقوع العين عليها، ثم إنها مريحة للناظر، وأصح للنظر عند القراءة والكتابة من الحروف اللاتينية.
وأخيرا نقول إن للحروف المقطعة فى القرآن الكريم أسرارا ومعانى، لا يعرفها على الوجه الأكمل سوى الله تعالى، وهذه الحروف ليست مجموعة من الحروف الجامدة ضم بعضها إلى بعض لغير معنى، ولغير غاية، إنها ليست شكلا بلا جوهر أو رسما بلا معلم. إن القرآن الكريم، كتاب علم من أوله إلى آخره، والحروف المقطعة، التى وضعت على هذا النحو فى أوائل بعض السور لها معان كسائر آيات القرآن بلا شك ولو أنها وضعت كرمز صامت، أو شكل خال من المعنى لما تنوعت من الحرف إلى الحرفين، إلى الثلاثة، والأربعة، والخمسة، ولما لازمت أوائل السور التى أنزلها الله تعالى فيما أنزل من القرآن، ولما أعطى الله تعالى بعض الإشارات إلى معانيها فى الآيات التى تليها، وترك للعقل أن يبحث ويتأمل، وما ذلك إلّا لأن القرآن قد استهدف العقل الغافل فنبهه واستثاره ليتفكر ويتدبر فى القرآن ومادته من حروف وكلمات ومعان، وبيان ونظم، وفى الكون ومادته، من سماء وأرض وأنهار وبحار ومعادن وزروع وإنسان وحيوان، وطير، وهام.
__________
(1) نسبه المبرد فى المقتضب لأبى النجم (1/ 37) ونسبه صاحب مجاز القرآن لكعب بن جرير (انظر: لسان العرب مادة حمم).
(2) انظر: لوثروب ستودارد. حاضر العالم الإسلامى. ترجمة عجاج نويهض. مع تعليقات لأمير البيان شكيب أرسلان بيروت. دار الفكر 19721394ج 2ص 392.(1/235)
الباب الخامس الحوادث والمناسبات التاريخية فى النص القرآنى
تمهيد الفصل الأول الإشارات القرآنية فى القرآن الفصل الثانى التأريخ الإسلامي المعتمد للقرآن الفصل الثالث التأريخ الغربى الحديث لسور القرآن وآياته(1/237)
تمهيد الفصل الأول الإشارات القرآنية فى القرآن الفصل الثانى التأريخ الإسلامي المعتمد للقرآن الفصل الثالث التأريخ الغربى الحديث لسور القرآن وآياته
تمهيد
فى هذا الموضوع من البحث يستعرض الكاتب سلسلة الأحداث التاريخية والتسلسل الزمنى لآيات القرآن كما وردت فى الكتاب العزيز نصا أو إشارة وكما فهمها علماء الإسلام والمستشرقون.
يقول ويلش: = هذا الموضوع صعب وشائك ولا يمكن أن نخرج منه بقائمة مفصلة ودقيقة لأوقات النزول، وتواريخ الآيات والسور وذلك لأن القرآن ليس كتاب تاريخ أو سجلا يوميا للإحداث التى شاهدت نزوله =. هذا الجانب من العلم التفصيلي يطلب من السّنة لا من القرآن، إذ يكمن اهتمام القرآن فى الحوادث نفسها التى تؤثر فى البشر وبالأفعال والأقوال البشرية التى تؤثر فى التاريخ بمعناه الدقيق.
توجد فى القرآن إشارات عامة أو خاصة إلى أحداث تاريخية معروفة سواء كانت قد وقعت فى الماضى، أو فى حاضر القرآن، ولكن يظل القرآن مع هذا، كتاب عقيدة وشريعة، وقواعد وسلوك، وأخلاق ومعاملات، ودستور واجتماع، واقتصاد وعلاقات وصلات إنسانية على مستوى الجماعة المؤمنة والدولة الإسلامية الكبرى، وكذلك على مستوى الإنسانية كلها والمجتمع الدولى بأكمله وذلك لأن القرآن يتوجه بخطابه ودعوته إلى عموم البشر من حيث البلاغ، وإلى عموم جماعة المؤمنين من حيث التكليف.
ليس فى القرآن تلك التفاصيل التاريخية المذكورة فى كتب اليهود، والتى جعلتها لا تعدو غالبا أن تكون كتبا قومية أو سجلا يوميا لشعب معين، تحمل تواريخه، وأسماء قبائله وتحركاتهم فى حلّهم وترحالهم وحروبهم وصراعاتهم أراد اليهود الذين كتبوا هذه الكتب أن يجعلوا تاريخ اليهود كله، تاريخا دينيا يحصر اهتمام الله فيهم وحدهم، وتصور الله تعالى أنه لا يقيم أى علاقة بعباده إلّا على أساس علاقتهم باليهود إلخ ولما كانت كتب اليهود كذلك فإنها عند ما خضعت للفحص النقدى والمراجعة التاريخية ظهرت فيها الأخطاء والمخالفات والتناقضات العديدة. ولقد أخطأ المستشرقون خطأ ذريعا عند ما استعملوا المعايير النقدية التى طبقوها على كتب العهد القديم، والعهد الجديد نفسها، على القرآن متجاهلين كل هذه الخصائص التى تميز القرآن عن جميع هذه الكتب، والتى ألمحنا إليها هنا وهناك فى ثنايا هذا الكتاب.
ينبغى أن ندرك تماما أن ميزان البهار لا يصلح فى تقدير قيمة النّضار. ذكر القرآن الكريم أن الله أنزل هذا الوحى على محمد صلى الله عليه وسلم مفرقا ليكون أدعى لتثبيته صلى الله عليه وسلم بدوام تلقيه
وتعزيته وتسليته صلى الله عليه وسلم: {وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا} (46) (الإسراء: 106)، {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلََا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً كَذََلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ وَرَتَّلْنََاهُ تَرْتِيلًا} (32) (الفرقان: 32)، ومعنى لنثبت به فؤادك أى نقويه به، أو نمكن القرآن فى قلبك فلا يتفلّت منه.(1/239)
ينبغى أن ندرك تماما أن ميزان البهار لا يصلح فى تقدير قيمة النّضار. ذكر القرآن الكريم أن الله أنزل هذا الوحى على محمد صلى الله عليه وسلم مفرقا ليكون أدعى لتثبيته صلى الله عليه وسلم بدوام تلقيه
وتعزيته وتسليته صلى الله عليه وسلم: {وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا} (46) (الإسراء: 106)، {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلََا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً كَذََلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ وَرَتَّلْنََاهُ تَرْتِيلًا} (32) (الفرقان: 32)، ومعنى لنثبت به فؤادك أى نقويه به، أو نمكن القرآن فى قلبك فلا يتفلّت منه.
ولكن ينبغى أن نعرف أن القرآن ليس كتاب مناسبات، وأن آياته لا ترتبط بأحوال محمد النفسية والعملية، أو بظروف الدعوة وبموقف الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين أو من المجتمع الجاهلي بأسره كما يحاول أن يقرره المستشرقون. القرآن ليس كتاب مناسبات أو وقائع بل هو كلام الله القديم الذى جاء لإصلاح الإنسان وصلاح العالم، وهو أوسع من أن تحده مناسبة أو يحيط به ظرف، فكل المناسبات والظروف والأحوال تنتهى، والقرآن باق أبدا ما بقيت السماوات والأرض، حكم عدل وشاهد أمين على التاريخ والإنسان معا، إنه إذن ليس من عمل محمد، ولا هو صورة نفسية له صلى الله عليه وسلم ولا صدى للبيئة التى عاش فيها صلى الله عليه وسلم (1) وليس هو منتج ثقافيّ ولا مرآة عصر أو مصر بعينه، كما يزعم المستشرقون والمتحررون من المسلمين ممن وهموا أنهم يجددون، وهم فى الحقيقة مقلدون دوارون فى فلك الغربيين.
اهتم المسلمون، لا محالة، برصد بعض المناسبات القرآنية ودراستها، وتكلم علماؤهم عما نزل من القرآن بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء، وما نزل بالمدينة، وما نزل بمكة وله حكم المدنى والعكس، وما نزل بمكة فى أهل المدينة، والعكس، وما نزل بالجحفة، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالمدينة، وما نزل ليلا وما نزل نهارا، وما نزل صيفا، وما نزل شتاء، وما نزل والنبى صلى الله عليه وسلم فى فراشه، أو فى أسفاره وتكلموا كذلك فى ترتيب السور، وعن أسباب النزول العامة والخاصة، وعن أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن، وهكذا (2).
__________
(1) انظر على سبيل المثال أ. منجانا = القرآن = فى دائرة معارف الدين والأخلاق 10/ 539. يزعم هذا المستشرق أن القرآن ما هو إلا انعكاس لحالات الحب والبغض وسائر الانفعالات الحادة التى كان يعانى منها محمد.
(2) انظر على سبيل المثال أ. منجانا = القرآن = فى دائرة معارف الدين والأخلاق 10/ 539. يزعم هذا المستشرق أن القرآن ما هو إلا انعكاس لحالات الحب والبغض وسائر الانفعالات الحادة التى كان يعانى منها محمد. انظر فى ذلك السيوطى الإتقان 1/ 320وما بعدها.(1/240)
الفصل الأول الإشارات التاريخية فى القرآن
بعد هذا التمهيد ننتقل إلى ما قاله الكاتب فى هذا الموضوع، يقرر ويلش: = أن القرآن يتجاوب باطراد وثبات، وفى حالات كثيرة بوضوح مع الموقف التاريخى لمحمد صلى الله عليه وسلم يمده بالشجاعة فى أوقات المحنة والاضطهاد، يجيب على أسئلة أتباعه وخصومه على السواء، يعلق على حوادث معاصرة، يقدم العقائد والقواعد الأساسية للجماعة المسلمة والتى لم تظهر فى القرآن وفق نظام التسلسل التاريخى للأحداث أو التشريعات، وإنما فى أوقات متراخية وعلى مراحل غير واضحة دائما (من حيث ظرفها الزمنى). إذ أن هناك تعارض وعدم اتساق ظاهرين، فى عرض مجموعة العقائد، ومجموعة التشريعات القرآنية كلتيهما على أن العقائد والتشريعات تغير وتبدل أحيانا فى القرآن، وذلك لمجرد المجاراة لموقف جديد، لذا وجب أن نعرف التواريخ التقريبية أو الأوضاع التاريخية لبعض الآيات، أو على الأقل معرفة التسلسل الزمنى لآيات أخرى إذا كان فهمها فهما كاملا أمرا ممكنا = إن هذه المشكلة، أى مشكلة التعرف على تواريخ الآيات أدركها علماء المسلمين المتقدمين وأولوها أهمية كبرى وتكلموا فيها فى القرون القليلة الأولى من بداية الإسلام حتى ظهر واستقر ذلك النظام الصارم (إلى حد بعيد) لتاريخ القرآن وحصل على موافقة أو رضا الأصولية =.
ويستمر ويلش فى عرض وجهة نظره قائلا: = يرجع الفضل فى تطوير هذه الدراسة فى العصر الحديث إلى الباحثين الغربيين الذين لم يستطيعوا بدورهم أن يصلوا من خلال دراساتهم إلى درجة الإجماع فى وضع نسق تاريخى ثابت للقرآن أو حتى إلى احتمالات يمكن معها وضع مثل هذا النسق =.
نتفق مع الكاتب فى هذا التقرير، بشكل عام إذ أننا لا يمكن أن نتجاهل ما قام به المستشرقون من جهود فى جمع المخطوطات وتصنيفها أو تحقيقها ودراستها، ولا
دورهم كذلك فى البحث فى تاريخ القرآن، ولكننا نتحفظ على هذا الكلام من حيث النتائج التى يسعى ويلش إلى تقريرها من خلال هذه المقدمات. وقد تكلمنا ببعض التفصيل عن طبيعة القرآن، فى موضع آخر من هذا الكتاب وقلنا إنه ليس كتابا تاريخيا، وإنه يختلف عن كتب اليهود والنصارى التى اهتمت بالتأريخ ورصد الوقائع التاريخية التى ثبت خطؤها بالدراسة والبحث فى العصر الوسيط على أيدى علماء الدين المقارن المسلمين وعلى أيدى المفكرين الأحرار فى الغرب فى العصر الحديث.(1/241)
نتفق مع الكاتب فى هذا التقرير، بشكل عام إذ أننا لا يمكن أن نتجاهل ما قام به المستشرقون من جهود فى جمع المخطوطات وتصنيفها أو تحقيقها ودراستها، ولا
دورهم كذلك فى البحث فى تاريخ القرآن، ولكننا نتحفظ على هذا الكلام من حيث النتائج التى يسعى ويلش إلى تقريرها من خلال هذه المقدمات. وقد تكلمنا ببعض التفصيل عن طبيعة القرآن، فى موضع آخر من هذا الكتاب وقلنا إنه ليس كتابا تاريخيا، وإنه يختلف عن كتب اليهود والنصارى التى اهتمت بالتأريخ ورصد الوقائع التاريخية التى ثبت خطؤها بالدراسة والبحث فى العصر الوسيط على أيدى علماء الدين المقارن المسلمين وعلى أيدى المفكرين الأحرار فى الغرب فى العصر الحديث.
حقّا إن فى القرآن إشارات تاريخية، على سبيل المثال، الحرب بين الروم والفرس، قصص الأنبياء وأخبار الأمم السابقة، اضطهاد المسلمين فى مكة، موقف قريش من الدعوة، وطعنهم فى القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، الحديث عن الهجرة، تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام بمكة، غزوة بدر، غزوة الأحزاب، موقعة حنين وغير ذلك.
كما يتضمن القرآن إشارات تاريخية أخرى كثيرة تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بالدعوة أو بالأمة الإسلامية وشئونها المختلفة. ومثل هذه الحوادث وبخاصة ما وقع منها قبل الهجرة، أى فى العهد المكى يصعب إن لم يتعذر وضع تاريخ محدد لها إلا أن هذه الأحداث لم تقصد لذاتها، وإنما لما وراءها من عبر ونذر، ولما تنطق من عظمة منشئ الدول ومزيلها، ومقلب التاريخ، ومصرف الأحوال.(1/242)
كما يتضمن القرآن إشارات تاريخية أخرى كثيرة تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بالدعوة أو بالأمة الإسلامية وشئونها المختلفة. ومثل هذه الحوادث وبخاصة ما وقع منها قبل الهجرة، أى فى العهد المكى يصعب إن لم يتعذر وضع تاريخ محدد لها إلا أن هذه الأحداث لم تقصد لذاتها، وإنما لما وراءها من عبر ونذر، ولما تنطق من عظمة منشئ الدول ومزيلها، ومقلب التاريخ، ومصرف الأحوال.
الفصل الثانى التأريخ الإسلامى المعتمد للقرآن
يستعرض الكاتب بعد ذلك وجهة النظر الإسلامية فى التأريخ للآيات، مدعيا أن عددا من الآيات القرآنية، قد وظف لتأييد حوادث خاصة فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم، وبخاصة فيما يتصل بحياته فى مكة، على سبيل المثال سورة = عبس وتولى = فإنها نزلت عند ما كان النبى صلى الله عليه وسلم يدعو كبار المشركين، وجاءه آنذاك ابن أم مكتوم يريد أن يتعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه هنيهة، حرصا على استمالة قلوب المدعوين من الكفار. وسورة = ألم نشرح =، على أنها إشارة إلى حادثة شق صدره صلى الله عليه وسلم التى يعتبرها الكاتب أسطورة، وأول سورة الإسراء أو بنى إسرائيل التى تحمل الإشارة إلى حادثة تاريخية مهمة هى حادثة الإسراء والمعراج.
وآية المجادلة أو المحاورة نزلت فى واقعة خاصة بخولة بنت ثعلبة، وزوجها أوس بن الصامت (1). يعتبر الكاتب أن تحميل مثل هذه الحوادث على القرآن غير واقعي، ويزعم أن أقوال علماء أسباب النزول فيها متعارضة، على سبيل المثال فى تحديد أول الآيات وآخرها نزولا، إذ أن بعضهم يقول: = إن أول ما نزل من القرآن هى الآيات الأولى من سورة {اقْرَأْ} وبعضهم يقول إنها هى {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} مع أن إجماع المسلمين على أن = اقرأ = هى أول ما نزل من القرآن على أنه يمكن أن يكون قصد القائلين بأن سورة المدثر هى أول ما نزل يعنى بالأمر بالتبليغ، لأن اقرأ لم يطلب فيها من النبى صلى الله عليه وسلم غير القراءة (2).
يزعم الكاتب أيضا أن بعض الحوادث القرآنية ربما كان لها قيمة تاريخية، ولكن مع هذا ينبغى أن نشك فيما يحاك حولها من تفصيلات، ولقد اختلطت (هذا من وجهة نظره هو لا غير) الحوادث التى لها قيمة تاريخية أو شبه تاريخية بالحوادث الخيالية أو الأسطورية بدرجة لا يمكن التمييز بينها.
ويقول: = ولأن المسلمين يعتقدون أن القرآن هو مصدر التشريع الأول فقد قام اعتقادهم هذا بدور مهم فى ترتيب الآيات والسور زمنيا، وبخاصة عند ما قال الفقهاء بنظرية الناسخ والمنسوخ. وكمثال جوهري على ذلك، ما جاء فى السورة الخامسة
__________
(1) انظر: السيوطى. أسباب النزول ص 206.
(2) انظر: الزركشى. البرهان 1/ 193والسيوطى. الاتقان 1/ 2725.(1/243)
(المائدة: 90) بخصوص الخمر: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصََابُ وَالْأَزْلََامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطََانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (90)، والتى تكلمت بلهجة حادة عن الخمر ومن ثم قررت تحريمها. ولقد فسرها العلماء على أنها ناسخة للآية 219من السورة الثانية (البقرة): {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنََافِعُ لِلنََّاسِ وَإِثْمُهُمََا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمََا}، والآية 43من السورة الرابعة النساء: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَقْرَبُوا الصَّلََاةَ وَأَنْتُمْ سُكََارى ََ حَتََّى تَعْلَمُوا مََا تَقُولُونَ} = فكان منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى أن لا يقربن الصلاة سكران = (1).
ولقد نسج الفقهاء والمفسرون على نظرية النسخ كثيرا من مسائلهم مع أن النسخ لا دليل عليه ولم يذكر فى القرآن إلا فى موضع واحد: {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهََا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهََا أَوْ مِثْلِهََا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (106) (البقرة: 106).
ولقد ازدادت عملية الترتيب الزمنى للقرآن تعقيدا عند ما زعم علماء المسلمين أن السور الحالية كانت هى الوحدات الأصلية للوحى، يعنى أنه باستثناء بعض الآيات فى السور كانت كل سورة قد نزلت مرة واحدة وفى فترة وجيزة بعد نهاية السورة السابقة عليها (2). هذا الادعاء ساعد على تصنيف السور إلى مكية ومدنية (أى ما نزل قبل الهجرة وما نزل بعدها) =. وهنا نتوقف مع الكاتب هنيهة لننشر السر الذى طواه فى كلامه بالنسبة للناسخ والمنسوخ فى آيات الخمر)، والخمر مأخوذ من خمر إذا ستر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: = خمروا الآنية وأوكوا الأسقية = الحديث أخرجه البخارى ومسلم واللفظ للبخاري ومنه خمار المرأة وهو ساترها والخمر ما واراك من شجر ونحوه.
ويقال دخل فلان فى غمار الناس وخمارهم، يعنى استتر وخفى مكانه. وهى خمر لأنها تستر وتغطى على عقل الإنسان وحكمته، وعلى فضائله ومصالحه. وكل ما أسكر وأثر على العقل، وأخرج الإنسان عن سواء الفطرة، محرم شرعا قال صلى الله عليه وسلم: = كل مسكر
__________
(1) انظر: أبو جعفر النحاس. الناسخ والمنسوخ. القاهرة الأنوار المحمدية ص 45وما بعدها. والمحاسبى. العقل وفهم القرآن 458456.
(2) انظر: دائرة المعارف 416.(1/244)
خمر وكل خمر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام = رواه أصحاب السنن.
وروى مسلم = كل مسكر خمر وكل خمر حرام = وقد بين ابن عطية التدرج الزمنى فى تحريم الخمر = وروى أن آية البقرة هى أول آية تتطرق إلى تحريم الخمر ثم جاءت الآية الرابعة من سورة النساء {لََا تَقْرَبُوا الصَّلََاةَ وَأَنْتُمْ سُكََارى ََ}، ثم آية سورة المائدة: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصََابُ وَالْأَزْلََامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطََانِ فَاجْتَنِبُوهُ} الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عقيبها = حرمت الخمر = (1) وعن عثمان بن عفان عن أبيه: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} قال: نسختها آية {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَقْرَبُوا الصَّلََاةَ وَأَنْتُمْ سُكََارى ََ} يعنى لا تقربوا المساجد وأنتم على هذه الحالة ثم أنزل: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَقْرَبُوا الصَّلََاةَ وَأَنْتُمْ سُكََارى ََ} (النحل: 67)، ثم نزلت: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصََابُ وَالْأَزْلََامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطََانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (90) (المائدة: 90).
ومن حديث عمر = اللهم بيّن لنا فى الخمر =، فنزلت: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} فقرئت عليه، فقال: = اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا فإنها تذهب العقل والمال فنزلت = {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}، فقال عمر: انتهينا =.
بعد أن ساق النحاس هذا وغيره قال = فهذا يدل أن الآية ناسخة = (2).
إن الترتيب النسقى للقرآن، ومعرفة أسباب نزول الآيات وأماكنها، معروف فى الأغلب ولقد اهتم المسلمون برصده وتسجيله، صحيح إنه لا يمكن أن نضع قائمة دقيقة للقرآن آية آية وسورة سورة، ولكننا فى الوقت نفسه، وفى ظل ما لدينا من معلومات وإشارات نستطيع أن نتعرف على ثبت تاريخى كاف لآيات القرآن. وقد قلنا إن القرآن ليس كتاب تاريخ ولا هو من وضع بشر ولا هو بمثابة السجل اليومى لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أو حياة الأمة، وأحوال المجتمع، وإنما هو رسالة ربانية، جاءت إلى العالم من وراء الزمان والمكان، لإصلاح أهل الزمان والمكان.
ألا يكفى أن يعرف المسلمون المكى والمدني، وما نزل بين مكة والمدينة، وما نزل
__________
(1) ابن عطية. المحرر الوجيز 2/ 231، 232.
(2) الناسخ والمنسوخ 4745.(1/245)
نهارا وما نزل ليلا، وما نزل صيفا وما نزل شتاء، وما نزل أولا وما نزل وسطا، وآخرا وأسماء من نزل فيهم القرآن، رجالا ونساء، وكذلك الآيات المكية فى السورة المدنية، والآيات المدنية فى السورة المكية وليس يقدح فى ذلك كون بعض الصحابة كابن عباس وغيره، اختلفوا فى تحديد أماكن نزول بعض السور هل هى مكية أو مدنية؟.
ومن بعض الأمثلة، التى سنطرحها هنا مع التعليق عليها، يتبين مبالغة الكاتب فى تفسير الاختلاف بين الصحابة والعلماء فى وجهات النظر فيما يخص تأريخ القرآن.
روى عن أبى هريرة بإسناد جيد أن سورة الفاتحة نزلت بالمدينة وقال غيره إنها نزلت بمكة. وقد أزاح العلماء هذا الاختلاف بقولهم إنها نزلت مرتين لشرفها، مرة بمكة ومرة بالمدينة، وزعم النحاس أن سورة النساء مكية وهذا غير صحيح لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات من سورة طويلة نزل معظمها بالمدينة أن تكون بأكملها مكية. وقد رجّح العلماء أن ما نزل بعد الهجرة فهو مدنى. ويقول السيوطي إن من راجع أسباب نزول آيات سورة النساء تأكد له ذلك ومن البراهين على نزول سورة النساء بالمدينة ما أخرجه البخارى عن عائشة قالت: = ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده =، ودخول عائشة عليه صلى الله عليه وسلم كان بعد الهجرة اتفاقا، وقيل: إن سورة النساء نزلت عند الهجرة = (1)
والخلاف فى تحديد مكان نزول الآية، لا يعدو أن يكون بمثابة رأيين، وردا عن ابن عباس يرجح الموافق منهما لباقى الآثار، وبالتالى يزول الخلاف.
أشار الكاتب إلى الاختلاف اليسير الواقع بين المصاحف فى ترتيب السور وقد تكلمنا عنه باستفاضة فى موضع سابق، فليراجع هناك.
__________
(1) انظر: الإتقان 1/ 31.(1/246)
الفصل الثالث التأريخ الغربى الحديث لسور القرآن وآياته
يقول ويلش: منذ منتصف القرن التاسع عشر والباحثون الغربيون يطبقون طرقا نقدية على القرآن تختلف فيما بينها فى الدرجة. وقد توصلوا من خلال هذه الدراسات النقدية إلى نظم أو ترتيبات زمنية مقترحة، منها هذا الترتيب الذى يمكن أن يطلق عليه = المدرسة ذات الأربع فترات = الذى أسسه المستشرق جوستاف ويل فى كتابه:
() (18781844) حيث استخدم ويل ثلاثة معايير فى وضع ترتيب زمنى لسور القرآن (1):
أولا الإشارات التاريخية لحوادث عرفت من مصادر أخرى.
ثانيا طبيعة الوحى الذى يعكس موقف محمد ومبادئه الصغيرة.
ثالثا المظهر أو الشكل الخارجي للوحي (2).
وينبغى أن يلاحظ أن أهم ما ساهم به جوستاف ويل فى تطوير هذا الموضوع وإبرازه هو تقسيمه للسور المكية إلى ثلاث مجموعات وهكذا قد استكمل عدد الأربعة عهود التى ثم فيها نزول القرآن من وجهة نظره.
وقبل أن نعرض قائمة جوستاف ويل، والتي تابعه فيها نولدكه، فيما يخص التقسيم الثلاثى لسور العهد المكي، ينبغى أن نلفت النظر إلى أن هذا التقسيم قد اقترحه أبو القاسم محمد بن حبيب النيسابوري حيث يقول فى كتابه = التنبيه إلى فضل علوم القرآن =: = من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة ابتداء، ووسطا، وانتهاء، وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدنى، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة فى أهل المدينة، وما نزل بالمدينة فى أهل مكة، ثم ما يشبه نزول المكي فى المدني، وما يشبه نزول المدنى فى المكى = وذكر النيسابوري خمسة وعشرين وجها،
__________
(1) انظر: جوستاف ويل. النقد التاريخى للقرآن ص 54والنقل عن مادة قرآن. دائرة المعارف الإسلامية: 416
(2) انظر كتابه ص 54وما بعدها.(1/247)
ثم قال: = من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم فى كتاب الله تعالى = (1) يتبين من هذا أن جوستاف ويل ونولدكه لم يأتيا بجديد فى هذا الصدد أمّا القائمة فهى كالتالي:
أولا من بداية الدعوة حتى وقت الهجرة إلى الحبشة حوالى سنة 615م.
ثانيا عودة محمد صلى الله عليه وسلم من الطائف حوالى 620م.
ثالثا والهجرة النبوية إلى المدينة فى سبتمبر 622م.
هذا الترتيب الزمنى الذى قدمه جوستاف ويل، تبناه كل من ثيودور نولدكه فى سنة 1860م، وإف إسكواللى فى 1909م، فى كتابيهما عن القرآن، مع إدخال شيء من التعديل عليه (2) فقد رتب ويل السور المكية المبكرة، والتى لاحظ أن آياتها تميل إلى القصر وتتميز بجمال الجرس والوقع، وأنها فى نظره تشبه سجع الكهان، ويتقدمها عادة قسم، واللغة كما قيل تتميز بالصور الخيالية والقوى التأثيرية.
ولقد اعتمد ويل على أقوال علماء الإسلام فى حكمه على الآيات المكية كما بيناه فى المثال السابق، حيث جمع السور التى من هذا النوع، وضمها معا ورتبها ترتيبا زمنيا، راعى فيه الترتيب الإسلامى فيما يخص سورة اقرأ، والمدثر، ثم المزمل، بشكل عام ثم عرض بعد ذلك السور رقم 106، 111، 53إلخ بهذا الترتيب على أن نولدكه يتفق معه فى الأولى والثانية (اقرأ والمدثر)، لكنه يخالفه فى ترتيب السور الأخرى هكذا رقم 111، 106، 108إلخ فهو هنا قد وضع السورة رقم 106بعد السورة رقم 111، والسورة 108بعد السورة 106، فى الترتيب وهكذا دواليك. وعلى سبيل المقارنة نشير إلى ترتيب عكرمة والحسن بن أبى الحسن الذى جاء على هذا النحو: اقرأ، ن، المزمل، المدثر، تبت يدا الخ، وسورة لإيلاف قريش، على سبيل المثال، تأخذ فى ترتيب جوستاف ويل رقم 28عند عكرمة والحسن بن أبى الحسن (3).
__________
(1) الزركشى. البرهان فى علوم القرآن 1/ 192
(2) انظر: مقدمة بلاشير على ترجمته الفرنسية للقرآن فى عام 19501949ص 66وويلش بدائرة المعارف الإسلامية ص 416.
(3) انظر: السيوطى. الإتقان 1/ 2725ومقدمتان فى علوم القرآن ص 168وقارن بما ساقه ويلش عن جوستاف ويل فى دائرة المعارف الإسلامية ص 416.(1/248)
أما سور الفترة الثانية أو المرحلة المكية المتوسطة فتتميز سورها بأنها أطول من سور الفترة الأولى، ومع كونها تميل إلى الشكل النثري فى تركيبها فإنها لا تخلو تماما من القيم الشعرية. يعتبر ويل أن سور هذه الفترة تقف وسطا بين سور المرحلة الأولى والمرحلة الثالثة من العهد المكى، وهى تتميز أيضا بالحديث عن الله وصفاته وبخاصة صفة الرحمة (الرحمن الرحيم)، وبالوصف الحى للجنة والنار، وقصص العذاب التى كتبت بطريقة بارزة كالكتابة بحروف مائلة أو فى جمل اعتراضية (1).
وأما سور الفترة الثالثة من فترات العهد المكى حسب تقسيم جوستاف ويل فإنها أطول من حيث الحجم وأكثر نثرية من حيث الشكل، من آيات الفترتين السابقتين، أضف إلى ذلك أن = القوة الشعرية = قد اختفت منها تماما، وفى هذه السور يتخذ الوحى شكل الحديث أو الموعظة، وتتكرر قصص الأنبياء، وقصص العقوبات فى هذه السور بتفاصيل أطول كثيرا مما هى فى غيرها. ويضيف = نولدكه = بطريقة تأكيدية إلى هذا القول عملية تغيير الألفاظ والمصطلحات فى هذه السور مع الاحتفاظ بالشكل نفسه بين سور آخر العهد المكى وسور العهد المدنى (2).
لا ضير فى أن يجتهد الباحثون الغربيون من أجل وضع ثبت تاريخى مفصل، ما أمكن، لسور القرآن الكريم. وإذا كان المسلمون أنفسهم لم يحاولوا هذا الشيء نفسه بهذا الشكل المحدد، فإنهم ربما رأوا أن القرآن لا يخضع فى نزوله بالضرورة للحوادث التاريخية، ولكن مكمن الخطورة فى محاولة المستشرقين يتمثل فى الإيحاء تصريحا أو تلميحا بأن القرآن خاضع لحوادث التاريخ، وأنه من ثم مرآة للحياة العربية وترجمان عن شخصية محمد النبى صلى الله عليه وسلم الذى هو فى اعتقادهم مؤلف القرآن، وصاحبه، وهذا غير معقول وغير مقبول بالمرة.
وقد سقط فى هذه الهوة كتّاب مسلمون للأسف فى طور مراهقتهم الفكرية كالدكتور طه حسين مثلا كما يتجلى فى كتابه = فى الشعر الجاهلي = (3) الذى نرى أنه طبّق الشك فيه على الشعر الجاهلى فيما لا شك فيه، محاولا أن يسقط أدب فترة كاملة من حساب
__________
(1) انظر دائرة المعارف ص 416وما بعدها.
(2) انظر على سبيل المثال السور 7، 72، 35، 37، 28، 17، 20، 11، 12، 16.
(3) أحدث كتاب طه حسين هذا سخط واعتراض علماء مصر ومن أبرز من رد عليه مصطفى صادق الرافعى فى كتابه تحت راية القرآن. القاهرة. المكتبة التجارية 19631383(1/249)
التاريخ لا لشيء إلا ليكون مجدّدا، غفر الله له.
وزعم المستشرق = ويل = بأن العهد المكى تتميز آياته بالسجع، ليس صحيحا والصحيح أن السجع إنما هو طريقة من طرق الأداء القرآنى بشكل عام والقرآن نزل بلغة العرب، وعلى عرفهم فى اللغة وعادتهم فى التذوق الأدبى، حتى لقد كان الفصيح منهم لا يكون كلامه كله مسجوعا، لما فى ذلك من أمارات التكلف والاستكراه لاستماع طول الكلام، فلم يرد كله مسجوعا جريا منهم على عرفهم فى الطبيعة الغالبة من كلامهم. ولم يخل القرآن كذلك من السجع لأنه يحسن فى بعض الكلام (1).
وقد تحفّظ بعض العلماء فى إطلاق هذه التسمية أعنى = سجع = على القرآن فسموها = فواصل = تفاديا لتسمية الفواصل القرآنية بالأسجاع. قال الرماني فى إعجاز القرآن إن الأشعرية يمنعون أن يقال: فى القرآن سجع وفرقوا بين السجع والفاصلة، بأن السجع هو الذى يقصد فى نفسه، ثم يحال المعنى عليه، والفواصل هى التى تتبع المعانى، وغلّط الخفاجىّ الأشعرية فى هذا القول فى كتابه = سر الفصاحة =، وذلك لأن ما يمكن أن يقال فى السجع، يقال أيضا فى الفواصل، وعلى أية حال فالتكلف فى كلا الاثنين عيب، والقرآن خال من كل عيب. وواضح أن حجة الرافضين لتسمية ما فى القرآن من توافق آخر الكلمات سجعا، هو رغبتهم فى تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروى عن الكهان (2).
ولما ألف السيوطى كتابه الضخم = معترك الأقران فى إعجاز القرآن = ضمنه وجوه الإعجاز فى الكتاب العزيز، وكان أول وجه للإعجاز ذكره السيوطى، = هو كثرة علوم القرآن ومعارفه التى لم يجمعها كتاب واحد قط والوجه الثانى: كونه محفوظا ضد الزيادة والنقصان ممنوعا من التبديل والتغيير على تطاول الأزمان، بخلاف سائر الكتب المقدسة.
والثالث من وجوه الإعجاز فى القرآن: الذى هو من صميم موضوعنا = حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحتها، ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة لعادة العرب، الذين هم فرسان الكلام
__________
(1) السيوطى. معترك الأقران فى إعجاز القرآن بيروت. دار الكتب العلمية 1408هـ / 1968، 1/ 26.
(2) المصدر نفسه 1/ 26وأيضا الباقلانى. إعجاز القرآن ص 75.(1/250)
وأرباب هذا الشأن، فجاء نظمه العجيب وأسلوبه الغريب، مخالفا لأساليب كلام العرب ومنهاج نظمها ونثرها، الذى جرت عليه، ووقفت عليه مقاطع آياته، وانتهت إليه فواصل كلماته، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له = (1).
وعلى أى حال فإن هناك على خريطة الدراسات الاستشراقية لموضوع الترتيب الزمنى للقرآن ثلاثة أنظمة تاريخية أخرى طرحها المستشرقون على امتداد العشر سنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر على سبيل المثال جرم وكتابه = محمد 18951892م = (2)، السير وليم موير فى كتاب = القرآن، كتابته وتعاليمه = 18961847م =. ثم = بل = و = وات = اللذان درسا القرآن آية آية ليكتشفا أن ما توصلت إليه الدراسات الغربية القديمة، فيما يخص جدولة القرآن زمنيا، كانت غير كافية وإنّ وضع السور فى هذه الجداول، يعد أكثر تعقيدا، وذلك لأن النص القرآني كان قد خضع لتغييرات كثيرة فى زعمهما. هذه التغييرات التى تعرض لها القرآن حدثت بواقع الرغبة فى توسيع النص، أو تغيير مواضع بعض الآيات بغرض وضع مادة جديدة، تراعى الإيقاع أو الجرس فى النص القرآنى إلخ.
ويزعم المستشرق = بل = أن عملية تحقيق النص القرآنى قد أقحمت وثائق نصية مكتوبة أخرى فى القرآن، تم ذلك أثناء حياة محمد صلى الله عليه وسلم وبإشرافه، ومع أننا نختلف مع = بل = و = وات = فى اجتهاداتهما غير الصائبة فى دعوى إقحام نصوص جديدة على النص القرآنى بغرض تطويله أو توسيعه فإننا نلاحظ أنهما لم يأتيا بجديد ولا أمكنهما كذلك، وضع ثبت تاريخي لسور القرآن.
ولذلك فقد أساء فهمها الكتّاب اللاحقون بل تجاهلوهما، وربما رجع ذلك إلى ملحوظات = بل = بالذات وتعليقاته الكثيرة على ترجمته للقرآن التى لم تنشر بعد، والتى لم تجد حتى من العلماء من يقدمها أو يعرف ما بها. وعلى أى حال فإن وات يختلف مع بل فى حكمه بأن القرآن مفكك السور والآيات وأنه يعوزه الترابط (3).
ومن الأخطاء الشنيعة التى وقع فيها = بل = تسرعه فى استبعاد بعض الآيات أو
__________
(1) انظر: معترك الأقران 1/ 12، 22، ودائرة المعارف الإسلامية 417.
(2) الكتاب 2/ 25وما بعدها.
(3) انظر: دائرة المعارف. 418417.(1/251)
الفقرات القرآنية التى لم تخضع لمعياره، بحجه أنها كانت = مسودات = أو = كتابات أوّليّة =، وجدت طريقها إلى القرآن بطريق الخطأ، هذا حكم متعسف ليس عليه دليل ولا يقبله العقل السليم. وقد تكلمنا من قبل عن تشدد الصحابة فى جمع المصحف وتجميع مواده من الصحف والصدور، واتفاقهم جميعا على سلامة هذا الجمع، وليس من الهيّن أن يدعى الكاتب أن ذلك الخطأ قد ارتكب فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحفظ ما يوحى إليه، ثم يدعو بالكتبة ويملى عليهم، ثم يطلب منهم أن يقرءوا عليه ما أملاه عليهم ليتأكد من سلامة النقل، ثم ما يلبث المنزل من الآيات أن يجد مكانه الآمن فى صدور الرجال من حفظة القرآن.
بالإضافة إلى ما ذكرناه نلفت النظر أيضا إلى أن بل قد أخطأ فى فهم بعض السور، أو الأشكال الأدبية فى القرآن كما سنذكره فيما بعد. وعلى الرغم من هذا فإن = ويلش = يعتبر = بل = رائدا فى هذا الحقل من الدراسة وذلك بسبب محاولته أن يتعرف على كل المواضع التى يمكن القول بانقطاع السياق فيها فى النص القرآنى.
وهذا ليس صحيحا على الجملة فإن معظم ما عينه بل من المواضع المقترحة كأمثلة على انقطاع السياق فى القرآن كنص، ليست حقيقية أو على الأقل، فإنها غير نهائية فى حكمها وأن بعض هذه الفرضيات التى قدّمها بل لا يمكن تحصيلها أو إثباتها عن طريق البحوث المستقبلية، ومع هذا فقد وجد من يؤيد النتائج الهشة التى توصل إليها هذا المستشرق من أمثال ك. وجتن دونك فى كتابه (الصوم فى القرآن) ليدن 1968 (1)، وولتش فى كتابه = الله والآلهة الأخرى = (2).
ويقول ويلش إن هناك مواضع كثيرة للاختلاف، نختلف فيها مع بل وإسكواللى ولكننا نستطيع أن نقرر مع قليل من الشك أنه يمكن القول بأن بل مصيب فى استنتاجه، الذى توصل إليه، وهو أن القرآن يضم مقطوعات أو آيات نزلت فى تواريخ مختلفة
__________
(1) انظر: الدائرة 418.
(2) انظر: كتاب وجتن دونك ص 8147. انظر: دائرة المعارف ص 418.(1/252)
جمعت ووضعت معا لتكوّن السور بوضعها الحالى فى المصحف، وبغض النظر عن الدافع من وراء هذا القول، فإن المسلمين لم ينكروا وجود آيات مدنية فى سور مكية أو العكس، كما قرره العلماء المهتمون بالقرآن وعلومه. ونكرر أنه ليس من خطة القرآن قط الالتزام بالترتيب الزمنى للآيات والسور، فالآية أو السورة، وإن نزلت فى وقت معين، وفى مناسبة بعينها فإن موضوعها بلا شك يتعدى الوقت والمناسبة الخاصة التى نزلت من أجلها، إنها تغطى بخطابها ومفهومها ودعوتها، الزمن كله، وتستغرق جميع المناسبات إلى يوم الدين.
على أن بل، وبعد أن استعرض محاولات موير، وجريم، وهيرشفيلد، وريجيس بلاشير، اعترف أنه من الممكن الشك فى إمكانية ترتيب كامل للقرآن بحسب النزول (1)
وأنه أفضل ما يمكن التوصل إليه من قرار بشأن وضع ترتيب تاريخي للقرآن هو عرض مبادئ عامة، ووضع تصور يمكن أن يدمج فيه نظم القرآن. ويقول بل إنه فى غياب المرجعية التاريخية للأحداث، فإن الأسلوب يمكن أن يكون معيارا مفيدا لتحديد تاريخ تقريبي، لكنه يعود فيعترف بأن هذا المعيار صعب استعماله، ويبدو أن بل لم يقتنع بعدم جدوى محاولته فى التعرف على ترتيب تاريخي لسور القرآن من جهة الأسلوب، فذهب ينظر من جهة تركيب الجمل ولكنه هنا أيضا لم يجد الطريق معبرا على طول الخط، إذ أن الجمل القرآنية تشتمل على متماثلات، ومتغايرات، يمكن أن تقود إلى نتائج خاطئة.
وينبغي أن نعرف أن القرآن كتاب فريد ليس من تأليف بشر يمكن أن نتتبع أسلوبه، وجمله، ومضامينه لنتعرف من خلالها على تاريخ كل عمل وظروفه على حدة، فى ضوء حياة صاحبه وأحواله. إن القرآن كالمجرة يبدو فى نفسه كلّا منسجما، وإن كان يحوى أجزاء فى داخله، كل جزء منها لم يميزه فى محيطه اللجيني المترامي.
والعجيب أن بل بالرغم من هذا الإخفاق الذي مني به يعود فيجازف بالقول بأن الآيات الأولى لسورتي العلق، وسورة القلم ليست مما نزل فى الوقت الذي يقول به المسلمون، أي فى أول فترات نزول الوحي، يقول: = إن طريقة الحديث فى هاتين السورتين
__________
(1) مقدمة بل ووات ص 103.(1/253)
تتفق أكثر مع المفهوم اللاحق لبعثة النبي أكثر ما تتفق مع التصورات البدائية لمحمد، حيث إنه لم يكن عنده فى البداية أية فكرة عن الملائكة =.
يقول عبد الرحمن بدوى فى الرد على هذا الكلام: = هذا خطأ محض لأن عقيدة الألوهية قبل الإسلام كانت تتركز حول الملائكة = (1). من الواضح أن بل، انطلاقا من العقيدة الاستشراقية فى أن القرآن من وضع محمد صلى الله عليه وسلم يستكثر أن يكون أول الوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم دعوة إلى العلم وتمجيدا للّسان (اقرأ)، والقلم (علم بالقلم) وربط الدعوة إلى العلم بالنظر فى أهل الخلق، خلق الإنسان وهذه الآيات نفسها تثبت عالمية الإسلام منذ البداية، فالآيات الأولى تخاطب الإنسان وتدعوه إلى القلم والنظر وتربطه بالمربى الأعلى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}.
حاول المستشرقون أن يشككوا فى التقسيم الإسلامى المعروف للسور القرآنية، أعنى إلى مكى ومدني فهم يزعمون أن هناك عدة أحداث ووقائع وصراعات يمكن بمعرفتها إعادة ترتيب القرآن، من سلسلة هذه الحوادث، على سبيل المثال، فإنهم يعدون غزوة بدر (أو الجهاد)، دعوة محمد لمقاطعة اليهود، وهكذا ومن الواضح الجلي أن المستشرقين يغرضون دائما إلى إخضاع النص القرآنى لأحوال محمد وصراعاته ومواقفه، وكأن القرآن هو التصوير الأدبي والانعكاس المباشر لحياته صلى الله عليه وسلم ومواقفه النفسية والعملية وقد بينا بكل وضوح عوار هذا المذهب من قبل ولا داعى لتكراره هنا.
__________
(1) عبد الرحمن بدوى دفاع عن القرآن ضد منتقديه القاهرة، الدار العالمية للكتب والنشر 1999ص 126125.(1/254)
الباب السادس لغة القرآن وأسلوبه
الفصل الأول لغة القرآن الفصل الثانى الألفاظ الأعجمية فى القرآن الفصل الثالث الأسجاع والفواصل المتكررة فى القرآن الفصل الرابع الشكل التخطيطى للقرآن والقصص التى يتضمنها(1/255)
الفصل الأول لغة القرآن الفصل الثانى الألفاظ الأعجمية فى القرآن الفصل الثالث الأسجاع والفواصل المتكررة فى القرآن الفصل الرابع الشكل التخطيطى للقرآن والقصص التى يتضمنها
الفصل الأول لغة القرآن
ينتقل الكاتب إلى موضوع آخر شديد الأهمية والحساسية فى آن واحد، ألا وهو لغة القرآن وأسلوبه. ولغة القرآن هنا تعني اللهجة العربية التى كتب بها القرآن، جريا على عادة علماء اللغة الأقدمين فى تسمية اللهجة أو اللحن لغة وأسلوب القرآن يعني طريقته ومنهجه فى سوق الكلام، ونظم العبارات، وتركيب الألفاظ، واختيار المعانى المناسبة للموضوع. يعتقد المسلمون جميعا اعتقادا جازما أن القرآن نزل بلسان عربى مبين، وأن لغة القرآن وأسلوبه ومعانيه ومبانيه معجزة كالقرآن فى علومه ومعارفه، وفى الآثار التى يحدثها فى النفس ويثيرها فى الضمير، إنه ليس فى مقدور البشر الإتيان، بمثل هذا الكتاب كله أو بعضه وقد تحداهم الله تعالى جماعات، أو فرادى، إنسا وجنّا أن يأتوا بمثله فسمعوا التحدى وتكرر عليهم النداء به والدعوة إليه، فلم ينهضوا إلى تحقيقه، وهم أهل الفصاحة وأهل البيان والاستثارة وأبناء اللغة، وفيهم أساطين البلاغة وفطاحل الشعراء والخطباء والحكماء، من العرب ومن الوثنيين واليهود والنصارى العرب على السواء ممن مهروا بالعربية وأبدعوا فيها شعرا ونثرا وقد عرف الجميع بما فيهم الجن القرآن فاستسهلوا حرب النبى صلى الله عليه وسلم والتشهير به ومكايدته، وضحوا بالدماء والثروات، ولم يلجئوا إلى قبول التحدى، أو حتى يفتحوا له بابا أو يبدءوا فيه لمجرد المحاولة بل إن من خاطر منهم بادّعاء النبوة ومحاكاة كتاب الله كمسيلمة الكذاب، لم يكن معروفا بينهم بالبلاغة، أو مشتهرا عندهم بالإبداع الأدبى، ولم يعدّوا هذا الذى قاله إلا أضحوكات وهزليات كلها رثاثة وغثاثة ولقد قال أبو بكر الصديق بالفطرة لأصحاب مسيلمة الكذاب عند ما سمع هذيانه:
= ويحكم أين يذهب بعقولكم؟ إن هذا كلاما لا يخرج من إل = يعنى من إله أو رب = (1).
فكيف يكون هذا وحيا أو إلهاما؟ =. قال أبو بكر ذلك بفطرته، ومن وحى حسه اللغوى والدينى. يقول الباقلانى = وصاحب العقل لا يشتبه عليه سخف كلام مسيلمة = (2).
__________
(1) انظر ابن تيمية، رسائل وفتاوى تحقيق محمد رشيد رضا ومحمد البلتاجى. القاهرة. مكتبة وهبة 1412هـ 1992ج 3 ص 176172.
(2) الباقلانى إعجاز القرآن ص 174.(1/257)
وبمراجعة بسيطة واستعراض سريع لما خرج من هذا المتنبئ الكذاب من روث وخبث نتبين أنه كان صريع هوس وضحية لوث، وأنه لو كان ما هذى به مسيلمة بليغا لكان ذلك كافيا فى التدليل على انحطاط اللغة العربية وتأخرها وتأخر أهلها، وبوارهم اللغوي والفكري ولو أن العرب كانوا قد استجادوا ما قاله الكذاب لجمعوه وكتبوه فى الأباطى، وعلقوه فى جوف الكعبة مع ما استجادوا ما قاله الكذاب لجمعوه وكتبوه فى الأباطى، وعلقوه فى جوف الكعبة مع استجادوه وعلقوه من قصائد كبار شعرائهم، فكتبوه وعلقوه بالكعبة ولكن مسيلمة لم يجد لكلامه تاليا ولا راويا ولولا أن بعض المسلمين سجله ليكون آية على مصير المدعين لما اهتم به أحد ولما سمع به حاضر وباد من العالمين.
وكما يقول مصطفى صادق الرافعى فى نقد أحد الكتاب المعاصرين له: = وتلك سنّة لن تخطئها فى أعداء الإسلام إذا أنت استعرضتهم وميزتهم فلا تتبدل ولا تتغير، ولولا ذلك لما هلكوا وبقى الدين، ولا ذهبت كتبهم وبقى القرآن = (1).
يشير ويلش إلى قول علماء المسلمين بأن القرآن مكتوب باللغة التى كان النبى صلى الله عليه وسلم يتكلمها، يعنى لسان قريش أو لهجتها، والتى كانت هى اللغة التقليدية الممتازة لكتابة الشعر على عصر محمد صلى الله عليه وسلم وأن الشعر كان قد تملك ناصية اللغة الصافية والراقية، لغة البدو أو الأعراب، ولتدعيم وجهة النظر هذه تأسست النظرية التى هى لاهوتية أو عقائدية أكثر منها لغوية، حول القرآن، والتى تقرر بوضوح أن القرآن نزل بلسان عربى مبين (2).
هذا اللسان العربى المبين فسّر على أنه لسان قريش، ويقصد المستشرق من هذا أن يشكك فى طبيعة اللهجة التى كتب بها القرآن، وفى كونها لهجة قريش وهو ما حاول تأسيسه المستشرقون الذين ساهموا فى الدراسات القرآنية بوجه عام، ولقد بنى هؤلاء تشكيكهم على روايات أوردها المفسرون وكتاب علوم القرآن والتي جاء فيها أن هذا القرآن الكريم لم يقتصر على لهجة قريش فحسب، وإنما دخلت فى لغته لهجات عربية أخرى بل لقد دخلت فيه ألفاظ غير عربية أيضا.
فابن النقيب يصرح بأن القرآن قد = احتوى على جميع لغات العرب وأنه نزل فيه
__________
(1) تحت راية القرآن. القاهرة. المكتبة التجارية الكبرى 1383هـ 1963م، ص 262.
(2) انظر (النحل: 103، الشعراء: 195، فصلت: 44).(1/258)
بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شىء كثير = (1) وبالنسبة للمفردات غير العربية فى القرآن، فإننا سنعالجها قريبا فى هذه الدراسة وبحسب موقعها فى ترتيب المستشرق ويلش للموضوعات.
ينبغى أن يكون واضحا أن أساس لغة القرآن هى لغة قريش وأهل منطقة الحجاز وهى أنقى وأرقى، وأصفى وأوفى من جميع لغات العرب وقد كانت هذه اللغة أكثر انتشارا من لغات العرب أو لهجاتهم جميعا كما أنها كانت هى اللغة التى يتكلم بها النبى صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعرف سائر لغات العرب الأخرى كما وردت به الآثار.
يقول القاضي عياض إن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كل أمة منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها فى منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه فى غير موطن عن شرح كلامه، وتفسير قوله. وينقل لنا القاضى عياض نص كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى همذان = قبيلة يمنية = إن لكم فراعها ووهاطها وعزازها تأكلون علافها، وترعون عضاءها، لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثلب والتابّ والفصيل، والفارض الداجن، والكبش الحواري، وعليهم فيها الصالغ والقارح =، وقوله صلى الله عليه وسلم لنهد: = اللهم بارك لهم فى محضها ومخضها ومذقها، وابعث راعيها فى الدثر، وافجر له الثمد، وبارك لهم فى المال والولد. من أقام الصلاة كان مسلما، ومن آتى الزكاة كان محسنا، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصا، لكم يا بنى نهد ودائع الشريك، ووضائع الملك، لا تلطط فى الزكاة، ولا تلحد فى الحياة، ولا تتثاقل عن الصلاة. = (2)
ونحن لا نمنع وجود ألفاظ غير قرشية فى كتاب الله، فلغة القرآن واسعة لا يحيط بها إلا نبى،
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) فراعها: ما ارتفع عن الأرض. هاطها: الأرض المطمئنة. عزازها: ما خشن وجمد منها. علافها: ما تأكله الماشية.
عفاءها: ما ليس لأحد فيه ملك. الدفء: نتاج الابل وألبانها. والأظهر أنه كناية عن النعام. صرامهم: نخيلهم. سلموا:
استسلموا. بالميثاق: الإسلام. الثلب: بكسر المثلثة: الهرم من الإبل. الناب: أنثى الإبل التى طال نابها. الفصيل: ولد الإبل الذي فصل عن أمه. الفرض: المسن من الإبل أو البقرة. الداجن: ما يألف البيوت ولا يذهب إلى المرعى. الكبش الحواري: الذي يتخذ من جلده نطع (فراشا) أو الجلد الأحمر وقيل الأبيض. الصالغ: ما دخل فى السنة السادسة من البقر والغنم. القارح: ما دخل من الخيل فى السنة الخامسة. نهد: قبيلة باليمن أرسلت وفدها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم برئاسة طهفة النهدى. محضها: لبنها الذى لم يخالط الماء. مخضها: ما مخض من لبنها وأخذ زبدة. مذقها: ما خلط من لبنها بالماء. الدثر:
المال الكثير. الثمد: الماء القليل. ودائع: جمع وديع أي العهد والميثاق. وضائع: الوظائف. تلطط: تمنع. تلحد: تميل.
انظر الشفا: 1/ 167، 168.(1/259)
ولكن ينبغى أن يسبقها فى الذهن أن لغة قريش كانت هى الأساس فى تشكيل النص القرآنى، وذلك لما اختصت به من كمال وجمال، وجلال بالمقارنة إلى غيرها، وقد أثنى كثير من العلماء على لهجة قريش (1) بل ربما بالغوا فى الثناء عليها لأنها كانت لغة النبى صلى الله عليه وسلم.
فقد ورد عن عثمان أنه قال للرهط القرشيين الثلاثة الذين انتدبهم لكتابة القرآن وهم: زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن الزبير. أنهم = إذا اختلفوا مع زيد بن ثابت فى شىء من القرآن أن يكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا = (2).
ومن رواية ابن التين ندرك أن عثمان كان قد اقتصر فى جمع القرآن من سائر اللغات، على لغة قريش، محتجا على ذلك بأنه نزل بلغتهم. وإن كان قد وسّع فى قراءته بلغة غيرهم، رفعا للحرج والمشقة فى ابتداء الأمر فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت، فاقتصر على لغة واحدة هى لغة قريش = (3).
ووردت روايات أخرى فيها أقوال لعثمان، تقضى بأن القرآن نزل على وجوه لحون أو لهجات أخرى فى القرآن (4).
وذكر أبو منصور محمد بن أحمد الأزهرى (ت: 370هـ) فى التهذيب قولا آخر مؤداه أن القرآن نزل على سبع لغات وبعضه نزل بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة تميم وبعضه بلغة أزد وربيعة وبعض منه بلغة هوازن وسعد بن بكر وكذلك سائر اللغات. وعزز الأزهرى ذلك محتجا عليه بقول عثمان حين أمر الرهط الثلاثة بكتب المصاحف: = وما اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش، فإن أكثر ما نزل بلسانهم =.
اختاره الأزهرى وصححه البيهقى فى شعب الإيمان (5) ولما اختلف كتاب المصحف فى كلمة = تابوت = هو = التابوة = أو = التابوت = احتكموا إلى عثمان رضي الله عنه فقال: اكتبوها
__________
(1) مقدمة ابن عطية على المحرر الوجيز 277.
(2) انظر السيوطى. الإتقان 1/ 169وابن أبى داود. كتاب المصاحف ص 19وانظر: أيضا مناقشتنا لهذه الرواية وردنا على المستشرقين فى الباب الأول من رسالتنا للدكتوراه المشار إليها سابقا.
(3) الإتقان 1/ 171.
(4) الزركشى. البرهان فى علوم القرآن 1/ 217.
(5) المصدر نفسه 1/ 218.(1/260)
= التابوت = فإنما نزل القرآن على لسان قريش (1). وهذا فى حد ذاته يدل على كون الكلمة عربية فى أصل وضعها.
وكلام عثمان الذى جاءت به هذه الرواية يفيد أن معظم القرآن، لا كله، نزل بلغة قريش بخلاف الرواية الأولى التى أوردناها عنه، والتى تقرر أن القرآن كله نزل بلهجة قريش، الشيء نفسه يؤكده ابن قتيبة وغيره ممن قالوا إن القرآن لم ينزل إلا بهذه اللغة لقوله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ رَسُولٍ إِلََّا بِلِسََانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) وقد أسندوا أيضا قولا ثالثا إلى عثمان وهو قوله: = نزل القرآن بلغة مضر = (2).
وهذه الرواية الأخيرة، معارضة بما سبق أن ذكرناه من قول عثمان إن القرآن = نزل بلغة قريش = وهى أقوى لأنها من رواية ثقاة أهل المدينة.
وقال فريق آخر من العلماء: = أصل ذلك أن لغة القرآن وقاعدته لسان قريش، ثم بنو سعد لأن النبى صلى الله عليه وسلم استرضع فيهم، ونشأ وترعرع وهو مخالط فى اللسان لهم، وهذيلا، وثقيفا، وخزاعة وأسدا أو ضبة وحلفاءها لقربهم من مكة وتكرارهم عليها = وقد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف لغات العرب ويخاطبهم ويحاورهم بها، وضربنا على ذلك الأمثال.
وفى الإتقان للإمام السيوطى باب بعنوان = فيما وقع (أى فى القرآن) بغير لغة الحجاز = (3)
ومن الثبت الذى قدمه السيوطى (4) يمكن أن نستخلص أن فى القرآن ألفاظا من جميع لغات العرب، لذلك كان الجميع يفهم ما فى القرآن. ومن القراء من ذكروا ذلك أيضا فى معرض شرح حديث = أنزل القرآن على سبعة أحرف =. لكنهم اختلفوا فى تحديد معنى السبع المشار إليها فى هذا الحديث كما اختلفوا فى تعيين السبعة حروف ما هى؟ وهل هى لهجات أم قراءات؟ وباستعراض ما اعتبره بعض العلماء من الحروف السبعة، واستعراض روايات الباب نجد أنفسنا مطمئنين إلى القول بأن القرآن لم ينص على لهجة بعينها لا لهجة قريش ولا غيرها (5).
__________
(1) أبو عمرو بن سعيد الدانى (ت 444هـ) = المقنع فى معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار مع كتاب النقط = تحقيق محمد أحمد دهمان. دمشق. دار الفكر ط 1/ 1404ص 4.
(2) انظر: المصدر نفسه ص 219.
(3) انظر السيوطى. الإتقان: 2/ 10489، 220.
(4) المصدر نفسه 19، 20.
(5) الإتقان 1/ 256.(1/261)
بل لقد أطلق القرآن القول فى وصف لغة القرآن بأنها = بلسان عربى مبين = ومن التضييق أن نقول إن اللسان العربى المبين هو لهجة قريش، أو بالتعبير القديم لغة قريش مع ملاحظة أن القرآن قد استعمل لفظة = لسان =، ولم يستعمل لفظة = لغة = التى هى بمعنى اللهجة فى تعبيراتنا الحديثة. واللسان يعنى مجموع هذه اللهجات، والتى كان يعرفها العرب على اختلاف قبائلهم.
وقد ساهمت كل اللغات أو اللهجات العربية وأكثرها نصيبا لغة قريش فى تشكيل ألفاظ القرآن ومفرداته التى جاءت فى أحسن أسلوب وأسمى بيان وأحكم بناء. وإضافة إلى ذلك يمكن أن نقول إن عبارة: {بِلِسََانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} وصف للقرآن على معنى التركيب الإلهى له الذى ميزه عن سائر أنظمة كلام البشر وتراكيبه. وليس وصفا للغة العربية نفسها.
ناهيك بأن اللهجات العربية كانت مستعملة فى شئون الحياة العامة أيضا إلى جانب اللغة الواحدة التى كانت تجمع العرب جميعا على الأدب والشعر والحكمة، ولم يكن الأدب والإبداع الأدبى فى الجزيرة العربية مقصورا على شعراء قريش وخطبائها وحدهم فالشاعر العربى كان يكتب للعرب جميعا، وكذلك الخطيب وصاحب الأقاصيص كلهم لهج بهذه اللغة الواحدة وأسمع وأمتع قومه بها.
والذى نريد أن يعرفه الكاتب الغربى وغيره من المستشرقين هو أن القرآن يمثل ذروة البيان فى اللغة العربية، وأنه جاء للعرب بما يفهمون، وخاطبهم بما يعرفون وبه يحسون سواء على وجه التفصيل أو الإجمال أو التقريب، أو التمثيل، وأن لغة القرآن عربية فائقة ورائقة.
وأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بهذا اللسان المبين وأنه لم يكن يتكلم لهجة محلية إلا مع أهلها، كما ذكرنا من قبل، ولم يكن صلى الله عليه وسلم كذلك يتكلم بلغة مخلطة أو مهجورة، وأن الصحابة لم يكونوا بالذين يخطئون فى إعراب الكلمات كما زعم ويلش بل إنهم على العكس من ذلك تماما فإنهم يعتبرون حجة فى اللغة وقولهم هو القول الفصل عند الاختلاف على شىء منها.
يذكر الكاتب أن نظرية (هكذا يسميها) = اللسان العربى المبين = كإشارة إلى لهجة قريش قد هاجمها كارل فولرز فى سلسلة من المقالات المدعومة بالأدلة والتى ظهرت ابتداء من 1894م ميلادية وانتهت بعمله الكلاسيكى:
) 1906)
فى هذه البحوث ادعى فولرز أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يقرأ الأجزاء الأولى من القرآن فى بداية الوحى بلهجة عربية عامية، وبدون إعراب، وهكذا خالف محمد بين القرآن وبين الشعر الذى كان يكتب بالعربية الفصحى الممتازة، وبالتالى فإن القرآن الذى بين أيدينا الآن ليس هو القرآن الذى كان يقرؤه محمد بل هو من صنع اللغويين وتلفيقاتهم، ومن صنع اللاحقين لهم، كذلك فعل هؤلاء الذين حالوا كتابة الوحى باللغة العربية الفصحى، بالطبع ليضمنوا له البقاء ويخلعوا عليه أزهى رواء، ويمضى فولرز فى زعمه قدما فيقول = إن اللغة الأصلية التى نزل بها القرآن بقيت فقط فى بعض الأشكال أو الأنواع الإملائية الغريبة والقليلة كحذف الألف، على سبيل المثال، من بعض الكلمات أو زيادتها عليها والتى بقيت فى القراءات الشاذة =!!.(1/262)
) 1906)
فى هذه البحوث ادعى فولرز أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يقرأ الأجزاء الأولى من القرآن فى بداية الوحى بلهجة عربية عامية، وبدون إعراب، وهكذا خالف محمد بين القرآن وبين الشعر الذى كان يكتب بالعربية الفصحى الممتازة، وبالتالى فإن القرآن الذى بين أيدينا الآن ليس هو القرآن الذى كان يقرؤه محمد بل هو من صنع اللغويين وتلفيقاتهم، ومن صنع اللاحقين لهم، كذلك فعل هؤلاء الذين حالوا كتابة الوحى باللغة العربية الفصحى، بالطبع ليضمنوا له البقاء ويخلعوا عليه أزهى رواء، ويمضى فولرز فى زعمه قدما فيقول = إن اللغة الأصلية التى نزل بها القرآن بقيت فقط فى بعض الأشكال أو الأنواع الإملائية الغريبة والقليلة كحذف الألف، على سبيل المثال، من بعض الكلمات أو زيادتها عليها والتى بقيت فى القراءات الشاذة =!!.
عجيب أمر فولرز إنه يجعل من نفسه قاضيا ومحاميا فى قضية لا يعرفها، ولا يلم بها ولا بلغتها، إلماما كافيا. ويبدو أن هذا المستشرق مغرم بقلب الحقائق، فمحمد صلى الله عليه وسلم خير من نطق بالضاد وتربى بين أعزة أهلها وتغرب طفلا فى سبيلها، يتكلم العامية ولا يفقه فصحى العربية!!. والوحى المتحدى به والذى عرف قدره الكافرون به ودانوا لفصاحته كان مكتوبا باللغة العامية!!. وأن اللغويين الذين كانوا لا هم لهم إلا معرفة القواعد ودراستها هم الذين يكتبون القرآن بالفصحى فى زعم هذا المستشرق فولرز وأى عربى يا ترى كان أفصح من محمد بن عبد الله؟ وبماذا تحدى الله العرب، إنسا وجنا أن يأتوا بمثل هذا القرآن؟ هل كان الله يتحداهم أن يأتوا بقرآن عامي؟ وماذا يقول الكاتب فى هذه الأعمال التى تضم أدلة كالتلال والجبال منها الأدلة العقلية والنقلية المتواترة بلا انقطاع فى سمو لغة القرآن وإعجاز القرآن فى معانيه ومراميه، فى نظمه وبلاغته، فى علومه ومعارفه التى لا تنفد على كثرة الرد.
وهل فى العجب من مجال أوسع من أن يجعل فولرز القراءات الشاذة هى أصل القرآن؟ مع أن العلماء قد اختلفوا فى شأنها اختلافا كبيرا واعتبروها رواية آحاد لا يؤخذ بها ولا يحكم بقرآنيتها، وفى هذه القرينة لا يفوتنا أن نسأل فولرز، أيّ لغة عامية كانت تستعمل فى مكة؟ والعرب لم يكونوا يعرفون ما نسميه نحن فى عصرنا الحديث بالعامية التى روّج لها الاستعمار وأجناده فى بلادنا، لضرب اللغة العربية والوحدة اللغوية بين العرب
للتفريق بينهم وعزلهم عن ماضيهم، وتمهيد لفرض اللغات الغربية والنماذج الغربية عليهم.(1/263)
وهل فى العجب من مجال أوسع من أن يجعل فولرز القراءات الشاذة هى أصل القرآن؟ مع أن العلماء قد اختلفوا فى شأنها اختلافا كبيرا واعتبروها رواية آحاد لا يؤخذ بها ولا يحكم بقرآنيتها، وفى هذه القرينة لا يفوتنا أن نسأل فولرز، أيّ لغة عامية كانت تستعمل فى مكة؟ والعرب لم يكونوا يعرفون ما نسميه نحن فى عصرنا الحديث بالعامية التى روّج لها الاستعمار وأجناده فى بلادنا، لضرب اللغة العربية والوحدة اللغوية بين العرب
للتفريق بينهم وعزلهم عن ماضيهم، وتمهيد لفرض اللغات الغربية والنماذج الغربية عليهم.
ولكي نستوفى ردّنا على مزاعم فولرز لا ينبغى أن نغفل التنبيه على ما قاله بالنسبة للرسم العثمانى وعلى الطريقة الإملائية التى تميز بها. أفرد هذا الموضوع بالتصنيف جماعة من المسلمين، من المتقدمين، ومن المتأخرين منهم أبو عمرو الدانى، وأبو العباس المراكشى المعروف بابن البنا (721هـ)، ألف الأخير كتابا سماه = عنوان الدليل فى مرسوم خط التنزيل = بيّن فيه أن الأحرف التى كتب بها القرآن، إنما اختلف حالها فى الخط بحسب اختلاف أحوال معانى كلماتها. ويفهم من كلام ابن أبى أشتة على ما نقله السيوطى فى الإتقان أن آدم كان هو أول من وضع الخط العربى والرسم الإملائي الذى استعمل فى كتابة المصحف.
وأخرج ابن أبى أشتة من طريق عكرمة عن أبى عباس قال: = أول من وضع الكتاب العربى إسماعيل، وضع الكتاب كله على لفظه ومنطقه، ثم جعله كتابا واحدا، مثل الموصول، حتى فرق بينه ولده من بعده. وذهب ابن فارس إلى أن الخط توقيفى، لقوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسََانَ مََا لَمْ يَعْلَمْ} (5) (العلق: 54). وقوله تعالى:
{ن وَالْقَلَمِ وَمََا يَسْطُرُونَ} (1) (القلم: 21) قال: = إن هذه الحروف داخلة فى الأسماء التى علم الله تعالى آدم = (1)
ويخبرنا السيوطى أنه ألف كتابا مفردا فى الأبجدية (2)، من المعروف أن خط المصحف الإمام قد خالف الحروف الهجائية فى بعض الحروف. وقد اتفق علماء الأمة على ضرورة الالتزام بالرسم العثمانى فى كتابة المصحف، وعدم الأخذ بما استحدثه الناس فى طريقة الكتابة.
ومن أمثلة ما اختص به المصحف الإمام من الرسم، حذف الألف من ياء النداء نحو: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ}، {يََا آدَمُ}، {يََا رَبِّ}، {يََا عِبََادِيَ}، {أُولََئِكَ}، {لََكِنْ}، {خَلََائِفَ}، (خلف)، وفى كل كلمة زائدة على ثلاثة حروف مثل: (صلحا)، {خِلََالَكُمْ}، وتحذف الألف من (ملك)، و {ذُرِّيَّةً ضِعََافاً}.
__________
(1) كتاب فقه اللغة، والإتقان 4/ 148، 149.
(2) المصدر السابق 149.(1/264)
ويمكن أن يكون الاختلاف بالحذف كحذف الواو من: {وَيَدْعُ}، و {وَيَمْحُ}، {سَنَدْعُ الزَّبََانِيَةَ}، وهذا الحذف له سرّه وهو كما يقول المراكشى فيه تنبيه على سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل، وشدة وقوع المنفعل المتأثر به فى الوجود، أما {وَيَدْعُ الْإِنْسََانُ بِالشَّرِّ دُعََاءَهُ بِالْخَيْرِ} فيدل على أنه سهل عليه، ويسارع فيه كما يسارع فى الخير بل إثبات الشر إليه من جهة ذاته أقرب إليه من الخير. وأما {وَيَمْحُ اللََّهُ الْبََاطِلَ}
فللإشارة إلى سرعة ذهابه، واضمحلاله، كما فى قوله تعالى: {وَقُلْ جََاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبََاطِلُ إِنَّ الْبََاطِلَ كََانَ زَهُوقاً} (81) (الإسراء: 81)، و = زهق = معناه اضمحل بسرعة وأما قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُ الدََّاعِ إِلى ََ شَيْءٍ نُكُرٍ} ففيه إشارة إلى سرعة الدعاء عند شدة الخوف والاضطراب، وسرعة إجابة المدعوين وحذفت الواو من {سَنَدْعُ الزَّبََانِيَةَ}
فللإشارة إلى سرعة الاستجابة من قبل الله تعالى وسرعة تنفيذ أمر الله من جهة الزبانية، أى ملائكة العذاب، وشدة البطش وزيدت ألف بعد الواو، كما فى: {مُلََاقُوا رَبِّهِمْ}، و {أُولُوا الْأَلْبََابِ}، و {تَفْتَؤُا}، و {مِائَةَ}، و {مِائَتَيْنِ}، و {الظُّنُونَا}، و {الرَّسُولَا}، {وَجِيءَ}، و (نبئ) قال المراكشى: زيدت هذه الأحرف فى هذه الكلمات:
(وجاى)، و (نبئ) ونحوها، للتهويل والتفخيم، والتهديد، والوعيد كما زيدت فى (بأييد) في قوله تعالى: (والسّماء بنيناها بأييد) تعظيما لقوة الله تعالى التى بنى بها السماء التى لا تشابهها قوة (1).
وتكتب ألف الصلاة فى المصحف = واوا = للتفخيم وتكتب كذلك فى {الصَّلََاةَ}، كما زيدت في {الزَّكََاةَ}، و {الْحَيََاةِ}، {الرِّبَوا} بشرط أن تكون غير مضافات (2).
بيّنّا بالأمثلة الواضحة ما يختص به الرسم العثماني فى المصحف الإمام، وبينا أنه توقيفى لا سبيل إلى الخروج عنه وأنه ليس مجرد اختلاف فى الرسم الهجائي فحسب بل إنه يحمل بعض المعانى والإشارات بحسب القرائن والمناسبات.
__________
(1) الإتقان 4/ 149: 151
(2) المصدر السابق 154(1/265)
بعد هذا التوضيح ننظر فى دعوى أخرى أثارها المستشرق = فولرز = ضمن مزاعمه بالنسبة لمرسوم المصحف الإمام، إذ يقول إن عملية الزيادة أو النقصان بالنسبة لبعض الحروف فى بعض كلمات القرآن الكريم تظهر فقط فى القراءة الشاذة فإنه قول سطحي مجاف للحقيقة فإن هناك بعض الكلمات بالرسم العثمانى جاءت موافقة لقراءة شاذة (أى غير متواترة) من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشََابَهَ عَلَيْنََا} (البقرة: 70)، {أَوَكُلَّمََا عََاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} (البقرة: 100)، {فَلَقََاتَلُوكُمْ} (النساء: 90)، {وَكُلَّ إِنسََانٍ أَلْزَمْنََاهُ طََائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (الإسراء: 13)، {تُسََاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا} (مريم: 25)، {وَفِصََالُهُ فِي عََامَيْنِ} (لقمان: 14)، {عََالِيَهُمْ ثِيََابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ}
(الإنسان: 21) {خِتََامُهُ مِسْكٌ} (المطففين: 26) (1)
وقد قدمنا أمثله كثيرة لهذه الاختلافات فى رسم المصحف العثمانى، وإذن فإن القراءة الشاذة ليست هى وحدها التى حفظت لنا هذه الاختلافات الإملائية فى رسم الكلمة القرآنية فى المصحف الإمام، كما زعم الكاتب المذكور.
إن رأي فولرز فيه مجازفة شديدة وتجرؤ على العلم عجيب وتعنت فى قلب الحقائق مريب، وعدوان على التاريخ صارخ، ولسنا نأبه بمن لا يحترم للبحث العلمى أصوله ومناهجه. وعلى أى حال فقد أدرك معاصرو فولرز من المستشرقين المعنيين بالدراسات القرآنية تفاهة آرائه وتجردها من الدليل، ومن حسن التعليل وعلى الرغم من أنها قد قوبلت بمناقشات كثيرة فإنها لم تصادف تأييدا داخل ألمانيا نفسها، ولكنها للأسف قد وجدت بعض التأييد خارج حدود ألمانيا، ووراء كل زاعق ناعق.
هذا باستثناء بعض المقالات التى كتبها بول كال () الذى تمخض اجتهاده عن دعوى أخرى عجيبة هى أن القرآن كان يقرأ دون التزام بالإعراب حتى القرن الثانى للهجرة، وهذا عنده دليل على أن القرآن كان يقرأ بالعامية، ولكن نظرية كال قد أخفقت تماما كنظرية سلفه فولرز حتى فى إقناع الكتاب الغربيين أنفسهم.
إن مناقشة نظرية فولرز جاءت بشكل تفصيلي فى استعراض د. جيتر، ونولدكه وقد حازت للأسف على قبول الباحثين الغربيين بشكل عام، حيث زعم إسكواللى أن لغة
__________
(1) المصدر السابق 158(1/266)
القرآن لم تكن مستعملة من أى من القبائل العربية ولكنها كانت إلى حد ما صناعية ملفقة مفهومة فقط لأهل منطقة الحجاز، ومن ناحية أخرى فإنه مما أصبح موضع اتفاق أن اللغة العربية الفصحى أو العربية = الكلاسيكية = المستعملة على عصر محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن هى لغة الشعراء أو اللهجة أو اللغة الخاصة بقبيلة ما بعينها، ولكنها كانت لغة أدبية خالصة تستعملها جميع القبائل. ولسنا ندرى ما هو المانع يا ترى من وجود هذه اللغة العربية الفصحى الممتازة على عهد محمد صلى الله عليه وسلم ووجود اللهجات المتعددة الأخرى التى تختص بها كل قبيلة على حدة؟ كما أوضحنا من قبل.
وما أرى هؤلاء المستشرقين يرمون إلا فى عماية، لا يفرقون بين ذهب وحطب ولا نضار ولا غبار، والله لو أنهم يكتبون هذه المعلومات ويقررون هذه النتائج فى أمر يهمهم أو يخدم ثقافتهم وحضارتهم لما قبل العامة فضلا عن أهل العلم منهم ذلك ولردوه عليهم ولرموهم بالجهل والسذاجة والفجاجة.
أما عن إعراب القرآن فقد بدأت حركة الإعراب فى القرآن بتنقيط المصحف على يد أبى الأسود الدؤلى (1) = وإن حس العرب بالإعراب وإكرامهم له دعاهم أن يضبطوا بالنقط آخر الكلمات فى القرآن حين يكتبونه وإن ممارسة النحاة لهذا الضبط هدتهم إلى كشف علل الإعراب فكان علم النحو =.
أشار = عبد العال سالم مكرم = فى دراسته عن علم النحو والقرآن إلى رأى كارل فولرز الذى زعم فيه = أن القرآن قد نزل فى الأصل بلهجة محلية (التعبير الأكثر دقة = عامية =) من اللهجات العربية وأنه لم يكن معربا ثم أدخل الإعراب عليه على وفق قواعد لغة الشعر = كما نقلنا ذلك عنه (2).
ردد هذا الرأى من المستشرقين كال، وحاييم رين، وقد زاد الأمر اشتباها على المستشرقين عثور كال على مخطوطين فى لندن ورد فيهما أحاديث تحث على ضرور الالتزام بقواعد الإعراب فى قراءة الكتاب العزيز، استدل منهما الكاتب على أن الناس لم
__________
(1) انظر الفهرست ص ص 6560وطه الراوى. الخليل بن أحمد مقال بمجلة الرسالة. السنة الحادية عشر. ص 550 وعبد العال سالم مكرم. القرآن وأثره فى الدراسات النحوية القاهرة. دار المعارف 1968ص 267وأيضا محمد خلف الله أحمد. الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة (مجموعة بحوث مقدمة إلى مؤتمر برنستون للثقافة الإسلامية. القاهرة. مكتبة النهضة المصرية ص 328.
(2) عبد العال سالم مكرم. القرآن وأثره فى الدراسات النحوية ص 267.(1/267)
يكونوا يلتزمون بالإعراب فى قراءتهم للقرآن فى بادئ الأمر ثم روعى ذلك نزولا على قواعد النطق المضبوطة فى الشعر التى دونها علم النحو فيما بعد (1).
على عكس ما يزعمه كال، ومن نهج نهجه من المستشرقين يقول = فيوهان فك = لقد احتفظت العربية الفصحى فى ظاهرة التصرف فى الإعراب بسمة من أقدم السمات اللغوية التى فقدتها جميع اللغات السامية =. وإن أشعار عرب البادية من قبل العهد الإسلامى ومن بعده ترينا علامات الإعراب مطردة، كاملة السلطان =.
ويقول أيضا والنقل عن مكرم: = أما أن أقدم أثر من آثار النثر العربى وهو القرآن وقد حافظ أيضا على غاية التصرف الإعرابي فهذا أمر إن لم يكن من الوضوح والجلاء بدرجة الشعر الذى لا تترك أساليب العروض والقافية مجالا للشك فى إعراب كلماته، إلا أن موقع كلام القرآن الاختيارية لا تترك أثرا للشك فيه كذلك = (2).
نعم إن هناك أحاديث وآثارا تحض على تعلم إعراب القرآن منها ما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: = أعربوا القرآن = (3) وهذا الحديث يقرر أن عملية إعراب القرآن بالمعنى الذى فهمه المستشرقين فولرز وكال كانت مبكرة ومواكبة لنزول القرآن وتعنى كذلك أن الإعراب قديم فى العربية وإلا لما فهم المخاطبون معناه، ولما سألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كانوا قد فعلوا ذلك لوصل إلينا.
وقال عمر بن الخطاب = تعلموا إعراب القرآن كما تتعلمون حفظه = (4) وأخرج من حديث ابن عمر مرفوعا: = من قرأ القرآن فأعربه، كان له بكل حرف عشرون حسنة، ومن قرأه بغير إعراب كان له بكل حرف عشر حسنات =.
يقول السيوطى فى الإتقان = المراد بإعرابه معرفة معانى ألفاظه وليس المراد به الإعراب المصطلح عليه عند النحاة وهو ما يقابل اللحن، لأن القراءة مع فقده ليست قراءة ولا ثواب فيها = (5) ومعنى الإعراب هنا الإبانة والتوضيح وهو ضد الهجنة والعجمة أى
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) المصدر نفسه: 268.
(3) نص الحديث (أعربوا القرآن واتبعوا غرائبه) كنز العمال 2781، 2806، 2872، مشكاة الأنوار: 2165.
(4) كتاب الزينة فى الألفاظ الإسلامية 118117.
(5) السيوطى الإتقان 2/ 5.(1/268)
استغلاق الكلام وصعوبة فهمه. وقد كان بعض العرب يستجيد اللحن من نسائه، يقول مالك بن أسماء:
منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وأحلى الحديث ما كان لحنا (1)
ومعنى الإعراب المقصود مرة أخرى هو الإفصاح، روى عن أبى بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: = قريش هم أوسط العرب فى العرب دارا، وأحسنهم جوارا وأعربهم ألسنة = (2).
قال الأزهرى من أئمة اللغة = الإعراب والتعريب معناهما واحد، وهو الإبانة يقال أعرب عنه لسانه، وعرّب أى أبان وأفصح عما فى نفسه وأعرب عن الشخص أى تولى البيان عنه وعرب عنه أى تكلم بحجته، روى عن النبى صلى الله عليه وسلم قوله: = الثيب تعرب عن نفسها = أى تفصح. وفى حديث آخر = الثيب يعرب عنها لسانها، والبكر تستأمر فى نفسها =. وفى الحديث = فإنما كان يعرب عما فى قلبه لسانه =. ومنه حديث التّيمى: = كانوا يستحبون أن يلقنوا الصبى حين يعرب أن يقول: لا إله إلا الله سبع مرات =، ومعنى حين يعرّب أى ينطق ويتكلم. وفى حديث السقيفة: = أعربهم أحسابا = أى أبينهم وأوضحهم.
وأعرب الكلام وأعرب به أى بينه، أنشد أبو زياد:
وإني لأكنى عن قذور بغيرها ... وأعرب أحيانا بها فأصارح
وقال عقال وعرّبه كأعربه وأعرب بحجته أى أظهرها لم يتق أحدا فيها، قال الكميت شاعر آل البيت:
وجدنا لكم، فى آل حم، آية ... تأولها منا تقي معرب
التّقي الذى يتوقى ويحذر ويتذرع بالتقية والمعرّب الذى يصدع بالحق ولا يتوقى خصومه. والخطاب فى هذا البيت لبنى هاشم حين ظهروا على بنى أمية.
ومن بيت للخولانى (كمقالة التمتام ليس بمعرب) (3) و = عرّب منطقة = بتشديد الراء أى هذّبه وأخلاه من اللحن.
__________
(1) الجاحظ. البيان والتبيين. تحقيق عبد السلام هارون. القاهرة 1/ 82.
(2) ابن منظور. لسان العرب. مادة عرب 1/ 588وانظر: أيضا المسائل الخلافية فى النحو للعيرى محفوظ بدار الكتب المصرية رقم 12والنقل عن عبد العال مكرم 268والجرجانى الشافية. ضمن ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن ص 137136.
(3) لسان العرب 1/ 589.(1/269)
والإعراب الذى هو النحو إنما هو الإبانة عن المعانى بالألفاظ وأعرب كلامه إذا استعمل فيه قواعد النحو، ولم يلحن فى الإعراب ومن الكلام = معرب ومبني = والإعراب كعلم قد ظهر فيما بعد. وليس يعنى ظهور علم النحو ومنه الإعراب فى مرحلة متأخرة، خلو القرآن واللغة العربية منه. إن اللغة العربية سليقة ولم يكن بين العرب من يلحن فيها، بمعنى الخطأ فى نطق الألفاظ والعبارات، ولم يكن لأحد منهم لهجة عامية وأخرى فصحى، كتلك اللهجات العامية أو العمياء التى انطلقت شرارتها فيما بعد، عند احتكاك العرب بغير العرب، إذ أن العرب لم تعرف اللحن إلا بعد دخول الموالى فى الإسلام، وتأثر بعض المخالطين لهم من العرب بلكنتهم ولحونهم ثم ازداد ذلك مع اتساع الفتوحات الإسلامية ودخول الكثير من غير العرب فى الإسلام، واندماجهم مع العرب (1) وبخاصة استعمالهم للغة العربية التى هى لغة القرآن والسنة، مما جعل وضع علم النحو ضرورة للحفاظ على صفاء اللغة كلغة. أما القرآن فكان يقرأ هكذا تلقينا، سواء قبل وضع علم النحو والإعراب أم بعده (2) وكان الصحابة رضوان الله عليهم يعرفون غريب القرآن عن طريق إعرابه.
ودعوى المستشرقين ومن تأثر بهم من بنى قومنا، أن الصحابة كانوا يلحنون فى القرآن، ولا يهتدون لإعرابه فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم، دعوى جاهلة وباطلة قال: عمر وأبو بكر = حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه = (3). وقد تكلم العلماء فى إعراب القرآن، ووضعوا فيه آثارا عظيمة أهمها = إعراب القرآن = للزجاج (ت: 311هـ)، و = إعراب القرآن = للنحاس (ت: 338هـ)، و = إعراب القرآن = لابن خالويه ومما ينبغى معرفته أيضا أن كون القرآن كان مجردا من النقط والشكل، لا يدل على الجهل بالإعراب ولا بالقرآن أبدا.
إن علماء المسلمين كما حثوا على إعراب القرآن لمعرفة معانيه وللتوصل إلى أسراره المذكورة، حثوا أيضا على تجويد القرآن، وتجويد كتابته، وتفخيم خطه لإظهار جلالته وسموه، شكلا وموضوعا.
قال البيهقى: = من آداب القرآن أن يفخم، فيكتب مفرجا بأحسن خط، فلا يصغر ولا تقرمط حروفه (أى لا يقارب بينها)، ولا يخلط به ما ليس منه =.
وقال النووى: = نقط المصحف وشكله مستحب، لأنه صيانة له من اللحن والتحريف =.
__________
(1) البيان والتبيين ج 1ص 21.
(2) رسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/ 188نفسه يقول ابن تيمية = والمكتوب فى مصاحف هو كلام الله القرآن العربى الذى أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم سواء كتب ونقط ولفظ أو بغير شكل =.
(3) انظر ابن الجزرى. كتاب النشر فى القراءات العشر 1/ 32.(1/270)
وقد منع الدّاني أن ينقط المصحف بالسواد لأنه يغير رسم الكلمة ولم يستجز كذلك جمع قراءات شتى فى مصحف واحد بألوان مختلفة، لأنه من أعظم التخليط والتغيير للمرسوم.
وقال الجرجانى إنه من المذموم كتابة تفسير كلمات القرآن بين أسطره. (1)
وهذا يبين مدى عناية المسلمين بالقرآن من الجهتين، الصوتية والإملائية.
روى عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن على جبريل عليه السلام فى كل عام مرة قال فقرأ عليه القرآن فى العام الذى قبض فيه النبى صلى الله عليه وسلم مرتين فشهد عبد الله بن مسعود ما نسخ منه وما بدل فقراءة عبد الله الأخيرة اختلفت لذلك أما سائر الصحابة فقد كتبوا فى هذه المصاحف ما تحققوا أنه قرآن، وما علموه استوفى شروط النقل عن النبى صلى الله عليه وسلم.
لذلك اختلفت المصاحف بعض الاختلاف إذ لو سقطت العرضة الأخيرة لم تختلف المصاحف. يقول السيوطى بأن القراءات التى تواترت عن عثمان وعن ابن مسعود وأبى وغيرهم من الصحابة لم يكن بينهم فيها إلا الخلاف اليسير المحفوظ بين القراء. ثم إن الصحابة لما كتبوا المصاحف جردوها من النقط والشكل ليحمله المعنى، ما لم يكن فى العرضة الأخيرة. فعلوا ذلك لتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوين شبيها بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المعقولين المفهومين. لأن الصحابة تلقوا القرآن لفظا ومعنى عن النبى صلى الله عليه وسلم وما كانوا ليسقطوا شيئا منه البتّة (2).
__________
(1) الإتقان 4/ 162، 190.
(2) الإتقان 1/ 33.(1/271)
الفصل الثانى الألفاظ الأعجمية فى القرآن
على سبيل التمهيد لهذا لموضوع، نقول:
يرجع الكلام فى موضوع القرآن والألفاظ الأعجمية إلى القرن الأول الهجري، السابع الميلادي حيث اختلف الفقهاء والمفسرون وعلماء اللغة حول هذه المسألة فقال فريق منهم بناء على الآيات الصريحة فى القرآن بأنه لا يوجد ألفاظ غير عربية فى الكتاب الكريم من هؤلاء العلماء الفقيه الأصولي الإمام محمد بن إدريس الشافعي (204هـ / 820م)، وإمام فقه اللغة أبو عبيدة (210هـ / 285م)، والمفسر والمؤرخ الكبير ابن جرير الطبري (310هـ / 923م)، والفقيه الأشعرى والمتكلم أبو بكر بن الطيب الباقلانى صاحب كتاب المجاز القرآن وكتاب التمهيد، واللغوى الأشهر ابن فارس صاحب معجم مقاييس اللغة (395هـ / 1005م) بنى هؤلاء العلماء رفضهم لوجود ألفاظ أعجمية فى القرآن على قوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيًّا} (يوسف: 2)، وقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنََاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقََالُوا لَوْلََا فُصِّلَتْ آيََاتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (فصلت: 44) (1)، والآية الأخيرة فى أنه لا يجوز خلط ما هو عجمي وعربي فى القرآن.
وقد استنكر أبو عبيدة بشدة أن يكون فى القرآن العربي ألفاظا غير عربية يقول:
= إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أنه فيه غير العربية فقد أعظم القول، ومن زعم أنه كذا بالنّبطيّة فقد أكبر القول =، كما شدد الإمام الشافعي النكير على القائلين بذلك، كما علل ابن فارس رفضه لمقولة وجود ألفاظ أعجمية فى القرآن بسعة اللغة العربية واكتفائها بذاتها عن أي لغة أخرى، وبعدم معرفة العرب باللغات فكيف إذن يأتيهم القرآن بما لا يفهمون دون ما ضرورة. وأما الفريق القائل بوجود بعض الألفاظ الأعجمية فى القرآن فإنه يعتمد على وجود ألفاظ يبدو على ظاهرها أنها غير عربية.
ربما التقطتها العرب فى بعض أسفارها من أهل اللغات الأخرى أو بحكم احتكاكها بغير العرب على أي نحو، ثم تبنتها واستعملتها فى لغتها قبل نزول القرآن، فأصبحت من ثم عربية ومن هؤلاء القائلين بالألفاظ الأعجمية ابن عباس (ت: 68هـ / 688م)، وتلميذه عكرمة (ت: 105هـ / 723م)، وأبو موسى الأشعرى (ت: 42هـ / 662م).
__________
(1) الإتقان 1/ 105(1/273)
وقد قدم هؤلاء العلماء قائمة بالألفاظ التى عدوها أعجمية فى القرآن. ومما يثير العجب أن ابن عباس وعكرمة وأبو موسى الأشعرى لم يكونوا يعرفون لغة غير العربية، ولم يعرف عنهم أنهم درسوا لغات أخرى، ولا مانع عندنا أن يكونوا قد سألوا فى ذلك من يعرف هذه اللغات التى ذكروها.
أما بالنسبة للمستشرقين، فقد عني بالكتابة فى هذا الموضوع دفوراك: = حول الكلمة الأجنبية فى القرآن = صدر في فيينا 1885، و = مساهمة حول مشكلة الكلمات الأجنبية فى القرآن = ميونخ 1884وس. فرانكل: = المفردات العربية القديمة الأصلية والمحولة عن الأصل فى القرآن = ليدن 1880= الكلمات الأجنبية الآرامية فى اللغة العربية = ليدن 1886. = الخليط فى القرآن = مجلة () 56، 71وجريم = حول بعض أنواع الكلمات المسندة إلى جنوب الجزيرة العربية فى القرآن =، 16، 1912. آرثر جيفرى: = الكلمات الأجنبية فى القرآن = نشره المعهد الشرقى بارود 1/ 1938و. منجانا: = التأثير السريانى على أسلوب القرآن = نشره رينالدز فى عام 1927 (1)
ومما يلفت النظر فى عنوان مقالة منجانا أنه استعمل كلمة = أسلوب القرآن = بدلا من ألفاظ القرآن، وهذا يعنى أن القرآن لم يكتف فيه باستخدام ألفاظ غير عربية بل دخله أيضا أساليب غير عربية وهذا الكلام لا مبرر له ولا شاهد عليه يؤيده، فالقرآن كلام الله تعالى وليس من صنع البشر ولا من أساليبهم.
تناول ويلش فى هذا الموضع دعوى أن القرآن يحتوى على ألفاظ غير عربية وهذه دعوى قديمة قدم القرآن نفسه، فهى من الدعاوى التى أثارها خصوم الإسلام الأولين ضد القرآن الكريم وسجلها الكتاب العزيز مصحوبة بالرد عليها يقول تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنََاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقََالُوا لَوْلََا فُصِّلَتْ آيََاتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (فصلت: 44).
يقول ابن عطية فى التعليق على هذه الآية: إنها نزلت بسبب تخليط قريش فى أقوالهم من أجل الحروف التى وقعت فى القرآن وهى مما عرب من كلام العجم كالسجين، والإستبرق ونحوه فقال ولو جعلنا هذا القرآن أعجميا لا يبين لقالوا واعترضوا لولا بينت آياته (2).
__________
(1) عبد الرحمن بدوى. دفاع عن القرآن ص 145، 146
(2) المحرر الوجيز 13/ 125.(1/274)
يفهم من عبارة ابن عطية أنه كان ممن يجزم بوجود ألفاظ أعجمية فى القرآن الكريم، هذا أولا، وأما ثانيا فإن قول خصوم القرآن بأن بعض كلماته أعجمية لا دليل عليه، وذلك لأنهم لم يكونوا من أهل اللغات، ولا لهم اطلاع على آداب الأغيار حتى يكونوا مؤهلين لإطلاق مثل هذا الحكم، ولا كان محمد كذلك ممن يعرف لغات أجنبية حتى توجه له مثل هذه التهمة، إن هناك أدلة من الشعر العربى على وجود مثل هذه الألفاظ التى تعلقوا بها فى اللغة العربية فلماذا إذن لم يوجهوا الاعتراض نفسه للشعراء الذين استعملوها قبل نزول القرآن، إذا كانت المسألة مسألة غيرة على اللغة أو ادعاء عدم فهم بعض مفردات القرآن؟
واضح من كلام ابن عطية ومن الإحصاء الذى قدمه السيوطى فى الإتقان أن القرآن، إذا صحت دعوى الأخذ من لغات أخرى، إنما استعمل ألفاظا، مجرد ألفاظ، من بعض اللغات غير العربية والتى كانت مستعملة بلا شك بين العرب، ولو اعتمدنا ما سجله علماء المسلمين أنفسهم من ألفاظ غير عربية لما تجاوزت هذه الألفاظ المائة. وهذه نسبة ضئيلة جدا إذا قورنت بمجموع ألفاظ القرآن البالغة 97439لفظة. وقد بالغ المستشرقون كثيرا فى الحكم على كثير من ألفاظ القرآن بأنها أعجمية، وذلك لمجرد وجود تشابه حرفى أو صوتى بين بعض ألفاظ القرآن وألفاظ لغات أخرى، حتى لقد جعلوا كلمة الإسلام نفسها آرامية مشتقة () والتى تعنى فى أصل وضعها السلام أو تحقيق السلام. كما زعموا أن محمدا لحرصه على تميز رسالته عن اليهودية والنصرانية قد أعطى للكلمة معنى آخر، قالوا ذلك انطلاقا من دعوى أعجمية بعض ألفاظ القرآن التى روج لها خصوم الوحى بمكة، ورد القرآن عليهم فى ذلك كما مر بنا ولأن بعض الروايات جاءت بأقوال لبعض الصحابة تفيد وجود بعض ألفاظ غير عربية فى القرآن، اجتهد علماء المسلمين فى دراسة مفردات الكتاب العزيز وتتبع غرائبها ومصادرها سواء من حيث لهجات العرب أو من حيث لغات الشعوب غير العربية فقد ألف السيوطى كتابا بعنوان = المهذب فيما وقع فى القرآن من المعرب = اختصره فى كتابه = الإتقان فى علوم القرآن = (1).
ومن قبله كتب أبو حاتم الرازى كتاب = الزينة فى الألفاظ الإسلامية =، وألف الجواليقى كتاب = المعرّب =. وقد استفاد السيوطى من هذين الكتابين كثيرا فى = الإتقان =
__________
(1) انظر 2/ 150120.(1/275)
وألف الراغب الأصفهانى كتاب = المفردات = كذلك ألف العلماء فى غريب القرآن ويقصد بغريب القرآن تلك الألفاظ أو التراكيب التى تحتاج إلى إعمال الذهن والغوص على المعنى البعيد، كما جاء فى الحديث عن أبى هريرة: = أعربوا القرآن، والتمسوا غرائبه = ومن أشهر المؤلفين فى ألفاظ غريب القرآن أبو عبيدة والعزيزى الذى عكف على تأليف كتابه مع شيخه، ابن الأنبارى خمس عشرة سنة (1).
بدأ الكاتب حديثه بالإشارة إلى آراء العلماء المسلمين فى موضوع اشتمال القرآن على ألفاظ غير عربية، حيث انقسم علماء المسلمين فى هذا الصدد إلى فريقين: الأول ينكر إنكارا جازما أن يكون فى القرآن ألفاظ غير عربية، ومنهم الإمام الشافعى الذى ينتصر للغة العربية ويعتبرها أوسع اللغات التى لا يمكن أن يحيط بها إلا نبي مرسل، ويقول = إن القرآن يدل على أنه ليس فيه من غير لغة العرب وأن القائلين بهذا وجدوا من يتلقّفه عنهم = (2).
ومن هذا الفريق أبو عبيدة والقاضى أبو بكر وابن فارس، وشاهد هؤلاء العلماء على عربية القرآن الخالصة قوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيًّا} (يوسف: 2) وغيرها من الآيات التى أشرنا إليها فى مواضع أخرى من هذا البحث ولا داعى لتكرارها.
شدد هؤلاء العلماء فى النكير على من قال إن فى القرآن ألفاظا أعجمية، ووجّه ابن جرير ما ورد عن ابن عباس وغيره من ردّ بعض ألفاظ القرآن إلى أصول فارسية أو حبشية أو نبطية أو نحوها بأن هذا إنما وقع فيه الاتفاق بين اللغات، فتكلمت بلفظه بعض الشعوب.
وعلل غير الطبري اشتراك بعض اللغات فى بعض الألفاظ مع العربية بأن العرب العاربة التى نزل القرآن بلغتهم كانوا يحتكون ببعض الشعوب غير العربية فى أشعارهم وربما خالطوا بعضهم فعلقوا من لغاتهم ألفاظا غيروا بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها فى أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربى الفصيح، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل القرآن.
وفريق ثالث يقول إن كل ألفاظ القرآن عربية صرفة ولكن ربما غابت بعض
__________
(1) السيوطى. الإتقان 2/ 3وما بعدها.
(2) انظر: الرسالة 2726.(1/276)
معانيها أو بعض أصولها عن بعض العلماء فابن عباس وهو من هو فى تفسير القرآن قد خفى عليه معنى بعض الكلمات مثل = فاطر = و = فاتح = كما خفيت كلمة = أبّا = عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
نقول إن ابن عباس وعمر بن الخطاب ربما تطلبا معنى زائدا فى اللفظة لكنهما كانا يعرفان بلا شك المعنى اللغوى العام للكلمة والذى يعرفه أهل اللغة. وفى قرينة هذا الكلام نجد من المفيد أن نشير إلى قول ابن جنى فى تفسير قوله تعالى: {قََالُوا يََا مُوسى ََ إِمََّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمََّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} (115) (الأعراف: 115) إنا نعلم أن السحرة لم يكونوا أهل لسان (أى أهل بلاغة) فنذهب بهم هذا المذهب = أى فى البلاغة لقولهم = إما أن تلقي = بدلا من = إما أن نلقي =، ثم قال = بأن جميع ما ورد فى القرآن حكاية عن أهل اللسان غير العربى لم تجر على لغة المعجم إنما هو معرب عن معانيهم وليس بحقيقة ألفاظهم (1). ويعلل القائلون بوجود ألفاظ غير عربية فى القرآن الكريم بقولهم إن ذلك لا يصادم قوله تعالى:
{قُرْآناً عَرَبِيًّا} (يوسف: 2) وقوله: {بِلِسََانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (195) (الشعراء: 195)، وقوله:
{وَهََذََا لِسََانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (103) (النحل: 103)، وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنََاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقََالُوا لَوْلََا فُصِّلَتْ آيََاتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (فصلت: 44)، وذلك لأن وجود كلمات يسيرة غير عربية فى القرآن لا يجعله غير عربى، كما أن القصيدة الفارسية لا تخرج عن كونها كذلك لوجود لفظة أو لفظتين عربيتين فيها.
ولقد ذهب بعض العلماء إلى أوسع من ذلك حيث يقول ميسرة التابعى الجليل فيما أخرجه ابن جرير أن = فى القرآن من كل لسان =. وروى مثل هذا الكلام ابن جبير ووهب بن منبه، وحجة هذين الأخيرين أن القرآن قد حوى علوم الأولين والآخرين وأخبار كل شيء، وكان ولا بدّ أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن لتتم له هذه الإحاطة لذلك اختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأقربها إلى استعمالات العرب.
وصرح ابن النقيب بأن اشتمال القرآن على ألفاظ غير عربية يعتبر من خصائصه التى تميزه على سائر الكتب المنزلة حيث كانت هذه الكتب تنزل بلغة واحدة هى لغة المخاطبين لكن القرآن قد احتوى على جميع لهجات العرب ولغات غير العرب كالروم والفرس والأحباش وغيرهم.
ونرى أن أصحاب هذا الرأى قد توسعوا وبالغوا فيه فجعلوا القرآن معرضا للغات وهو ما لا نتفق معهم فيه، فالقرآن إذا عرض على غير العرب لم يفهموه ولم يستطيعوا أن
__________
(1) السيوطى (ت 911هـ) معترك الأقران فى إعجاز القرآن 1/ 10.(1/277)
يتبينوا حتى معانى بعض ألفاظه بما فيها تلك الألفاظ التى يدعى أنها غير عربية. وكون القرآن حاويا لكل شيء لا يستدعى اشتماله على ألفاظ غير عربية وإلا لوجب أن يضم أيضا ألفاظا هندية وصينية وغيرها مما قد يعد بالآلاف من لغات العالم ولهجاته.
ثم إن اللفظ القرآنى فى بعض الحالات يعتبر لفظا متحولا بمعنى أنه يحمل معنى جديدا ويعطى مفهوما جديدا بحسب السياق فى الآية أو مجموعة الآيات.
إن هذا الأمر على فرض وقوعه لا يحتاج فى نظرنا إلى مثل هذه التعليلات فالله أعلم حيث يجعل رسالته، وحيث يختار لغة هذه الرسالة. ويذهب الخوئى أيضا إلى وجود ألفاظ غير عربية فى القرآن، ويرد على القائلين بأن الألفاظ الأعجمية ليست فى فصاحة الألفاظ العربية، قائلا بأنه إذا اجتمع فصحاء العالم ورغبوا فى أن يستبدلوا لفظ = إستبرق = بكلمة أخرى لكاعوا وما استطاعوا وذلك لأنه ألطف فى موضعه وأخف وأرق فى أذن سامعه. وليس فى لغة العرب ما يقوم مقام لفظه، ولو عبرنا عنه بالكلمات بدل اللفظ الواحد ذهبت عنه الفصاحة جملة، لأن الثياب المصنوعة من الحرير عرفها العرب من الفرس. ولم يكونوا يعرفونها ولا يصنعونها ولا وضعوا للديباج الثخين اسما، وإنما عربوا ما سمعوا من العجم، واستغنوا به عن الوضع لقلة وجوده عندهم وندرة جريانه على ألسنتهم (1). ومن المهم أن نلفت النظر إلى أن كلمة = إستبرق = اسم لمادة معينة ويقابلها لفظة حرير فى اللغة العربية وقد استعملها القرآن أيضا فى وصف لباس أهل الجنة فى قوله تعالى: {وَلِبََاسُهُمْ فِيهََا حَرِيرٌ} (23) (الحج: 23)، إلا أن العرب قد تركوا كلمة = إستبرق = على ما هى عليه فى أصلها كدلالة على نوع خاص من الحرير وهذا لا يعنى خلو العربية من مثلها.
وبعد أن استعرض أبو عبيد القاسم بن سلام أقوال العلماء فى المسألة توسط فى الأمر فقال إن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء (يعنى بعضهم)، لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال إنها عربية فهو صادق ومن قال أعجمية فصادق أخذ بهذا القول الجواليقى فى = المعرب =، وابن الجوزى فى = المدهش =، وآخرون غيرهم (2).
__________
(1) الإتقان ج 107، 108ووردت كلمة إستبرق فى قوله تعالى: {أُولََئِكَ لَهُمْ جَنََّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهََارُ يُحَلَّوْنَ فِيهََا مِنْ أَسََاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيََاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} (الكهف: 31).
(2) السيوطى. الإتقان 2/ 108.(1/278)
ومهما قيل فإن القرآن لا يمكن أن يفهم إلا من جهة لغة العرب ولا سبيل إلى طلب فهمه من غير هذه الجهة، وكونه يشتمل على ألفاظ أعجمية أو لا يشتمل أمر ينبغي أن لا نتوقف عنده، وبخاصة إذا كان العرب قد تكلمت بهذه الألفاظ وجرت فى خطابها وفهمت معناها وصيرتها من كلامها من قبل أن ينزل القرآن الذى جاء كله على أساليب العرب ومعانيهم وقواعد لغتهم (1).
على أنه يمكن القول بالإضافة إلى ما سبق، أن هذه الألفاظ المشتركة بين العربية وبعض اللغات الأخرى من غير العربية إنما جاءت من اللغة الأولى التى علمها الله تعالى لآدم عليه السلام كما فى قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا} (البقرة: 31) يتضح هذا غاية الوضوح إذا عرفنا أن الألفاظ العربية فى القرآن والتى قال البعض بأعجميتها كلها أسماء أشياء أو أشخاص، وإنه من المحتمل والمعقول أيضا أن تكون هذه الأسماء أو الألفاظ عربية فى الأصل ثم انتقلت منها إلى هذه اللغات ثم عادت فيما بعد إلى أصلها.
والعجيب أن بعض الروايات ترد علينا بالحكاية عن توقف ابن عباس فى معنى لفظة ما. وفى الوقت نفسه تجيء روايات أخرى عنه بتفسير هذه اللفظة بعينها، ومسائل نافع بن الأزرق خير شاهد على ذلك.
وقبل أن نأخذ أمثلة من هذه الألفاظ التى قيل بأنها أعجمية نحب أن نذكر أن علماء المسلمين قد وصلوا بهذه الألفاظ إلى نحو مائة وتسع عشرة كلمة، وقد عدها الزركشى خمسة وعشرين لفظا، وأمّا اللغات التى جاءت منها هذه الألفاظ فهى اليونانية، والفارسية، والعبرية، والأمهرية، والهندية، والقبطية وعدّ السيوطى مائة وتسع عشرة كلمة ولكن المستشرق ويلش يصل بها إلى مائتين وخمسة وسبعين لفظا! نستعرض الآن بعض الألفاظ التى يقال أنها أعجمية. ثم نبين بالدليل وجودها فى اللغة العربية قبل نزول القرآن واستعمال الشعراء والأدباء لها.
لفظة = آية = على سبيل المثال التى ردها المستشرق إلى أصل غير عربى كما مر بنا استعملها النابغة الذبيانى فى شعره، يقول من قصيدة له.
توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع (2)
وكلمة = حنانا = تعرفها العرب استعملها ورقة بن نوفل بمعنى = البركة أو الرمز
__________
(1) الشاطبى. الموافقات 2/ 49، 50.
(2) شيخ رضى الدين بن الحسن الأسترآباذي النحوى (ت: 686) شرح شافية ابن الحاجب. مع شرح شواهده لعبد القادر البغدادى صاحب خزانة الأدب تحقيق محمد نور الحسن ومحمد الزفزاف ومحمد محى الدين عبد الحميد دار الفكر 19751395ص 108.(1/279)
الطيب = حدّث ابن إسحاق عن هشام عن عروة عن أبيه قال: = كان ورقة بن نوفل يمر ببلال وهو يعذب، ويقول أحد، أحد، فيقول = أحد = والله يا بلال ثم يقبل على أمية بن خلف، ومن يصنع ذلك به من بنى جمح فيقول، أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتّخذنه حنانا = (1).
وليس يعترض على ذلك بأن ورقة كان نصرانيا وربما كان يعرف لغة غير العربية فأخذ منها هذه اللفظة إذ أنه لم يرد البتّة أن ورقة كان يعرف لغة غير اللغة العربية. وعلى فرض معرفته، وهو افتراض بعيد للغة غير عربية، فإن ذلك لم يشتهر عنه ثم إنه كان يتكلم مع عرب لا يفهمون غير لغتهم والمرء إنما يتكلم ليفهم، واللغة إذا لم تستعمل ماتت واندثرت، سواء بالنسبة للفرد أو الأمة.
والحنان هو العطف والرحمة قال عكرمة = وحنانا من لدنا = أى رحمة من عندنا وقال مجاهد هو تعظيم من الله عزّ وجل. حنانك حنانيك والعرب تقول = وحنانك يا رب وحنانيك = وهما لغتان من حنانيك. قال الكميت:
حنانيك رب الناس من أن يغرني ... كما غرهم شرب الحياة المنضب
وقال أبو عبيدة {وَحَنََاناً مِنْ لَدُنََّا} أى رحمة من لدنا وأنشد لامرئ القيس:
ويمنحها بنو شمجى بن جرم ... معيزهم حنانك ذا الحنان
ومن شعر الطرماح أو طرفة بن العبد:
ويؤذيهم على فتاء سنى ... حنانك يا ذا الحنان
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض (2)
والوارد منها عن ابن عباس روايتان قال فى إحداهما لا أدرى وفى الأخرى أنها بمعنى الرحمة. وأوردوا عنه أنه كان يقول: = كل القرآن أعلمه إلا أربعا {غِسْلِينٍ} (3)، و {وَحَنََاناً} (4)، و (أواه) (5)، و {الرَّقِيمِ} (6). وتوقّف ابن عباس فى معانى هذه الكلمات ربما كان فى أول الأمر، وربما كان ذلك احتياطا زائدا منه لئلا يقع فى محظور أو يقول
__________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 277ومعنى قول ورقة = لأتخذنه حنانا = أى لأتبركن بقبره إذا مات شهيدا.
(2) ابن أبى حاتم. كتاب الزينة 1/ 121.
(3) الحاقة: 36.
(4) مريم: 13.
(5) التوبة: 114، هود: 75.
(6) الكهف: 9.(1/280)
شيئا بخلاف مراد الله تبارك وتعالى كما ذكرنا من قبل، هذا مع أنه فسرها على ما جاء فى إحدى الروايتين وينبغى أن نأخذ فى الاعتبار أن توقّف ابن عباس فيها ليس معناه أن الكلمة غير عربية فقد أورد ابن الصلاح فى مقدمته بإسناده عن على كرم الله وجهه أنه سئل عن معنى = الحنان المنان =، فقال: = الحنان من يقبل على من أعرض عنه، والمنّان الذى يبدأ بالنوال = (1) وأثبت علماء اللغة أن للفظة = حنان = وجود فى اللغة العربية والسريانية والعربية الجنوبية القديمة (2).
كلمة = تحت = قالوا هى بالنبطية بمعنى بطنى ولما وجدوا الكلمة بهذا المعنى تنطبق أكثر على الآية {فَنََادََاهََا مِنْ تَحْتِهََا} أى من داخل بطنها تكلفوا القول بأن الكلمة نبطية وقالوا أن الذى ناداها هو عيسى عليه السلام وهو فى بطنها، وبالتالى صرفوا هذا الكلام عن جبريل عليه السلام، ومن هنا قالوا إن مريم لم تكن نبية ولم يخاطبها جبريل وفى هذا تكلف أيضا.
ففي السورة نفسها أن جبريل كما كان يخاطب الأنبياء بالوحي، تمثّل لمريم بشرا سويّا وكلّمها وبشّرها وراجعته وطمأنها ثم إن كلمة = تحت = إذا فسرت ببطن لا يستقيم المعنى، إذ لم يعرف أن المسيح تكلم وهو فى بطن أمه، والذى يثبته له القرآن وكذلك السنة هو معجزة الكلام فى المهد، لا فى البطن. ومما تفيد معرفته فى هذه القرينة، أن النصارى لا يعتقدون فى أن المسيح تكلم فى المهد، كما جاء فى القرآن، ويقولون إنه لا يوجد شىء يثبت ذلك فى كتبهم، مع أن كتبهم لا تحتوى إلا على القليل من حياة المسيح عليه السلام، وهذا القليل لا يمكن أن يثبت فى حد ذاته الوجود التاريخى للمسيح، لذلك فقد شكك كثير من الكتاب الغربيين فى وجود السيد المسيح عليه السلام.
وهذا ما يقرره ابن عباس. ثم إن كلمة = تحت = لا تفيد غير الجهة التى هى أسفل والمنادى الذى كان ينادى على مريم أنه كان إما هو الملاك جبريل والذى كان فى مكان أخفض من مكانها (3) أو كان عيسى عليه السلام هو الذى ناداها يطمئنها، وهذا غير ممتنع وقوعه قبل معجزة المهد إذ أن إشارة مريم، عند تعبير أهلها لها، كانت إلى عيسى، وفى كلام عيسى فى المهد ما يوحى بأن حادثة مماثلة قد وقعت للطفل، وقد كانت مريم متأكدة أنه عند ما أشارت لهم إليه انه سينطق ببراءتها كما نطق بتسليتها.
أما كلمة {قِطَّنََا} (ص: 16) فقد عدها القاسم أبو عبيد بن سلام نبطية وهى
__________
(1) انظر ص 544. وانظر ابن عطية المحرر الوجيز 9/ 437والإتقان 1/ 85وديوان طرفة قافية الضاد.
(2) انظر عبد الصبور شاهين القراءات القرآنية ص 351.
(3) المحرر الوجيز 9/ 457.(1/281)
عربية استشهد عليها ابن عباس بقول الأعشى شعرا:
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بنعمته يعطى القطوط ويطلق (1)
فقد جاءت الكلمة بصيغة الجمع فى شعر الأعشى ومعنى ذلك أنها عربية أصيلة.
وكلمة = سنا = فى قوله تعالى: {يَكََادُ سَنََا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصََارِ} (43) (النور: 43)، قال ابن عباس هى فى العربية بمعنى الضوء واستشهد على ذلك بشعر أبى سفيان بن الحارث:
يدعو إلى الحق لا يبغى به حولا ... يجلو بضوء سناه داجى الظلم (2)
وعلى الرغم من هذا فقد عدّها ابن حجر فى منظومته من الألفاظ غير العربية (3).
وكلمة {أَلِيمٌ} قال ابن الجوزى معناها بالزنجية موجع وقال شيزلة هو بهذا المعنى فى العبرانية، وقال ابن عباس هى عربية مستشهدا بقول الشاعر:
نام من كان خليا من ألم ... وبقيت الليل طولا لم أنم (4)
وكلمة {وَزَرَ} فى قوله تعالى: {كَلََّا لََا وَزَرَ} (11) (القيامة: 11) عربية ليس إلا، استشهد ابن عباس على عربيتها بقول الشاعر:
ما فى السماء من الرحمن مرتمز ... إلا إليه وما فى الأرض من وزر
والوزر الملجأ على أى نحو كان قال ابن الجوزى فى فنون الأفنان من المعرب لفظه.
وقال الواسطى معنى {رَمْزاً} فى قوله تعالى: {قََالَ آيَتُكَ أَلََّا تُكَلِّمَ النََّاسَ ثَلََاثَةَ أَيََّامٍ إِلََّا رَمْزاً} (آل عمران: 41) تحريك الشفتين بالعبرية (5) وذكر عن ابن عباس أنه بمعنى الإيماء فى العربية، وهو أدق تأدية فى اللغة العربية فى المعنى، لأن الإشارة تكون بالشفتين وباليد ونحو ذلك، بحسب اصطلاح الناس وتعارفهم فيما بينهم ولعل الواسطى تكلّف رد الكلمة إلى العبرية، لأنها جاءت فى الحديث عن نبى الله زكريا الذى كان يعمل بين اليهود، فظن لذلك أن الكلمة عبرية.
ومن الألفاظ التى قيل فيها أيضا أنّها غير عربية {آنٍ} (6)
__________
(1) ديوان الأعشى قافية القاف وكتاب الزينة 63.
(2) الزينة 63.
(3) الإتقان 2/ 113
(4) كتاب الزينة 64.
(5) ابن الجوزى. فنون الأفنان ص 11.
(6) الرحمن: 44.(1/282)
و {آنِيَةٍ} (1) و (إنه) (2).
ذكر أبو القاسم أن لفظ = إناه = معناه الشيء الذى انتهى حره وقال ابن عباس اللفظة عربية بمعنى كل ما انتهى طبخه وحره واستدل عليه من شعر العرب بقول النابغة:
ويخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجون آن (3)
وكلمة = القسط = و = قسطاس = التى أوردها السيوطى بين الكلمات التى قيل إنها أعجمية، وقال إن معناها العدل بالرومية (4) نرى أنها عربية وقد استعملها أبو طالب قبل الإسلام فى شعر له (5) وفى هذه القرينة نذكر أن فولر () قد اقترح أن الكلمة مأخوذة من أصل يوناني، وهما مشتقان من كلمة = = (، 63) واقترح منجانا () أنها مشتقة من الكلمة اليونانية = = بمعنى مكيال وقد خطّأ عبد الرحمن بدوي هذين المستشرقين فيما ذهبا إليه وقال الأصح هو أن الكلمتين مشتقتان من الأصل اللاتينى () (العادل أو العدالة) (6).
وهكذا يقال فى هذه الألفاظ التى يقال أنها غير عربية مثل = درست = و = نور = مثل على أنه يمكن أن نفسر هذا التشابه بين بعض الألفاظ القرآنية والألفاظ الأعجمية، بأن هذه الألفاظ ربما وصلت إلى اللغة العربية من وقت طويل حتى استحالت بالتقادم والشيوع والاستعمال عربية وإذا فقول القرآن عن نفسه أنه نزل بلسان عربى مبين صادق كل الصدق. وحقيق على كل دارس منصف، أن لا يقول فى القرآن غير ما قال القرآن فى لغته وعن نفسه.
ويمكن كذلك أن يقال إن ما فى القرآن مما يظن أعجميته قد يكون مما تشابه فى اللغات كما يقع التشابه بين المخلوقات، ويجب أن يكون واضحا هنا أن القرآن لم ينقل فقرات وتراكيب أو أساليب لغة أخرى وإنما نقل مجرد ألفاظ إذا صح ذلك وقد رأينا أن هذه الألفاظ كلها يمكن بسهولة أن ترد إلى مصدرها فى اللغة العربية وأن الذين قالوا أن فى القرآن من كل اللغات ربما قصدوا بذلك اللهجات العربية وقد بينا أن العرب يسمون اللهجة باسم اللغة.
وربما كان قول القرآن {ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}، وقول بعضهم بأن فى القرآن أعجمى
__________
(1) الغاشية: 5
(2) الأحزاب: 53
(3) ديوان النابغة قافية النون.
(4) الإتقان 2/ 115.
(5) انظر: سيرة ابن هشام 1/ 226، 249.
(6) دفاع عن القرآن 148147(1/283)
أنهم عنوا بذلك أن القرآن كان يشتمل على الغريب غير المفهوم بداهة على سبيل المثال فإن كلمة تحت استعملت فى مواضع أخرى فى القرآن، وليس فى سورة مريم فقط وهى فى كل هذه المواضع تحمل معنى يخالف معنى الكلمة فى النبطية. ثم إن علماء اللغات الذين لاحظوا هذا التماثل الحرفى أو الصوتى بين الكلمتين لم يقدموا لنا دليلا على جواز استعارة العربية لهذه الكلمة أو تلك، وتبقى نقطة أخرى مهمة ينبغى أن لا تفوتنا ونحن على طريق الخروج من هذا الموضوع وهى أنه، كيف يجوز لنا أن نفسر كلمة = تحت = بمعنيين مختلفين، وهما مذكورتان فى آية واحدة وسياق واحد وقرينة واحدة:
{فَنََادََاهََا مِنْ تَحْتِهََا أَلََّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} (24) (مريم: 24).
فكلمة = تحت = فى الآية تفيد التحتية فى المكان فى كلا الموضعين وهو كقوله تعالى حكاية عن فرعون: {وَهََذِهِ الْأَنْهََارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} (الزخرف: 51).
وكلمة = عير = قالوا هى الحمار فى العبرية وهى فى العربية الجمل، والقرآن أدق فى استعمال كلمة = عير =، إذ استعملها بمعنى الجمل، وهو ما يناسب الإسرائيليين البدو الرّحّل أما كلمة = حمار = التى فضلها كتّاب العهد القديم كبديل للكلمة = عير = فخطأ تاريخى لأن = الحمار = حيوان حضرى، وليس هو من حيوانات الصحراء (1).
وكلمة = يم = ليست إلا عربية من = يمّمت، وتيمّمت = أى قصدت (2) ومنها = التيمم =، وأطلق اليم على الجهة والناحية واليمّة بمعنى الناحية، وربما سمى النيل باليم لهذا المعنى لأن المصريين كانوا يسكنون على ضفافه، ويؤمونه أى يقصدونه دائما، فمنه ماؤهم، ومنه زرعهم، ومنه مرعاهم وبعض طعامهم وكل مظاهر حياتهم إنما ارتبطت بالنيل ودارت حوله ولعل ذلك مما اتفقت فى جرسه أو بعض حروفه بعض اللغات الإنسانية فكلمة = = = بارك = مثلا تعنى حديقة، أو موقف للسيارات فى الإنجليزية وهى فى العربية تعنى برك الجمال، أو المكان الذى تبرك فيه الجمال وكلمة () تعنى = قريب = فى اللغة الإنجليزية، وهى لو كتبت حسب رسمها الصوتى بالحروف العربية، تعنى عبودية أو ضغط، يقال خلع نير الاستعمار وكلمة = = = جب = بضم الجيم القحطانية تعنى = بئر = فى العربية، ولكنها تعنى = وظيفة = بالإنجليزية وكلمة = = = فان = تعنى فى العربية زائل أو منته، وفى الإنجليزية تعنى صوتيا = مروحة = وكلمة = = = كل = معناها فى الإنجليزية = اقتل =، وفى العربية = فوض أمرك إلى الله = وهذا كثير لو تتبع فى اللغات الأخرى.
__________
(1) ابن حيان. البحر المحيط ج 5ص 326.
(2) الراغب. مفردات 893.(1/284)
الفصل الثالث الأسجاع والفواصل المتكررة فى القرآن
تعرض ويلش هنا لنهايات الآيات القرآنية أو مقاطعها لما لها من وظيفة حيوية فى إبراز الشكل الخارجى للعبارة القرآنية، وهذه الظاهرة كما لاحظ الكاتب بحق من الخصائص المميزة للأسلوب القرآنى، وهى ترتبط ارتباطا وثيقا بطبيعة القرآن الشفهية والاستعمال الشعائرى أو النسكى، للقرآن. إن أواخر الآيات تأتى دائما مسجوعة.
ويضيف الكاتب = إنه لا توجد أى محاولة من جهة (واضع القرآن) لالتزام الصفة الشعرية من الوزن والقافية، فبعض قصار السور، ومقاطع من السور الطول تحتوى بقدر كاف على سجع متصل، هذا فى حالة عدم مراعاة حركات الإعراب عند نطق الكلمات التى تتفق أواخر حروفها =. يعنى الكاتب بهذا أنه إذا سكّنت أواخر هذه الكلمات كما هو الحال عند قراءة سورة الكوثر مثلا على هذا النحو: {إِنََّا أَعْطَيْنََاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شََانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (3) بتسكين الراءات الثلاث ظهر عندئذ السجع، أما إذا أجرينا فيها عملية الإعراب وقرأناها هكذا: {إِنََّا أَعْطَيْنََاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شََانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (3) بفتح الراء الأولى وتسكين الثانية وضم الثالثة اختفى هذا السجع. وكما فى سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ (1) اللََّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (4) فإننا لو نطقنا الكلمات أحد، الصمد، وأحد الأخيرة جريا على القاعدة السابقة لاختفى السجع أيضا.
والكلام نفسه يقال فى الآيات الخمس والخمسين التى هى مجموع سورة القمر والتى تنتهي كلها إما ب = راء = مفردة أو راء مضعفة =.
ويلاحظ الكاتب أيضا أن معظم أسجاع القرآن تختم ب = إين = أو = أون = كما فى = نستعين =، = وعالمون = أو = عالمين = و = يحافظون = بالتبادل.
وتتبع الكاتب ويلش أشكال السجع فى الكلمات القرآنية فوجد أن معظمها يسير على النحو الذى أشرنا إليه توا، ثم إن منه ما ينتهي بالجرس = ان = وهو ما يتكرر فى سورة
آيتين آيتين كما فى سورة الرحمن: {خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ صَلْصََالٍ كَالْفَخََّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مََارِجٍ مِنْ نََارٍ (15) فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} (16) (14: 16) {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيََانِ (19) بَيْنَهُمََا بَرْزَخٌ لََا يَبْغِيََانِ (20) فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} (21) (19: 21).(1/285)
وتتبع الكاتب ويلش أشكال السجع فى الكلمات القرآنية فوجد أن معظمها يسير على النحو الذى أشرنا إليه توا، ثم إن منه ما ينتهي بالجرس = ان = وهو ما يتكرر فى سورة
آيتين آيتين كما فى سورة الرحمن: {خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ صَلْصََالٍ كَالْفَخََّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مََارِجٍ مِنْ نََارٍ (15) فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} (16) (14: 16) {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيََانِ (19) بَيْنَهُمََا بَرْزَخٌ لََا يَبْغِيََانِ (20) فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} (21) (19: 21).
ويعتبر الكاتب عبارة = فبأى ءالاء ربّكما تكذّبان = التى يتكرر بعضها عقب العدد نفسه من الآيات، أو أقل، أو أكثر، = بالقرار = أو = الجملة المترددة =، ومن هذا النوع عبارة:
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} التي تكررت بالطريقة نفسها تقريبا فى سورة المرسلات. ويرى أن هذه الجملة المترددة ليس لها إلا صلة ضئيلة، بالمعنى المذكور فى الآيات الأخرى، إلى حد أنه من الصعب أن نحكم بأن الآية التالية يجب أن تقرأ كمقدمة أو كنتيجة لما سبقها.
بعد هذا التلخيص الموجز لكلام المستشرق ويلش نعرض باختصار شديد أيضا لآراء علماء المسلمين حتى نوضح ما أبهمه، ونصحح ما أخطأ فيه أو ضل فى شعابه ووهم فى شكل أو جوهر خطابه.
قال السيوطى فى تعريف الفاصلة: = الفاصلة كلمة آخر الآية كقافية الشعر، وقرينة السجع = (1).
وقال أبو عثمان الدانى (ت: 444هـ) = كلمة آخر الجملة =.
وقال القاضى أبو بكر: = الفواصل حروف متشابكة فى المقاطع يقع بها إفهام المعانى =.
وذكر الجعبرى (إبراهيم بن عمر ت: 732هـ) أن الفواصل تعرف بطريقين توقيفى وسماعى، أما الأول فما ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم وقف عليه فهذا بالتحقيق فاصلة، وأما الثانى ففيما وصله النبى صلى الله عليه وسلم دائما، وما وقف عليه مرة ووصله أخرى جاز أن يكون الوقف فيه لتعريف الفاصلة، أو لتعريف الوقف التام أو للاستراحة.
وأما القياس فما ألحق من المحتمل غير المنصوص بالمنصوص لمناسبة (2).
__________
(1) الإتقان 1/ 290.
(2) المصدر نفسه 291.(1/286)
وأما السجع فمعناه عند أهل اللغة = موالاة الكلام على حد واحد = (1) وقال ابن دريد: سجعت الحمامة أى ردّدت صوتها وانشد.
طربت فأبكتك الحمام السواجع ... تميل بها صحوا غصون نوائع
ومعنى = نوائع = موائل (2).
اعترض القاضى أبو بكر الباقلانى على القائلين بالسجع فى القرآن محتجا عليهم بأنه لو كان القرآن سجعا لكان غير خارج عن أساليب كلام العرب ولو كان مثلها ومعدودا فيها لم يقع بذلك إعجاز، ولو جاز أن يقال القرآن سجع معجز لجاز لهم أن يقولوا هو شعر معجز، كيف والسجع كان من صناعة الكهان وقد نفاه الله تعالى هو والشعر عن النبى صلى الله عليه وسلم وعن القرآن، وقد رده النبى صلى الله عليه وسلم ولم يستحسنه من القوم إذ قال:
= أسجع كسجع الجاهلية = أو = أسجاعة كسجاعة الجاهلية = فى رواية أخرى.
يقول الباقلانى = إن الذى يعتبره هؤلاء سجعا ليس بسجع. وإنما هو شىء على مثاله، لأن السجع من الكلام يكون فيه المعنى تابعا للفظ الذى يؤدى السجع، والقرآن ليس كذلك لأن اللفظ يقع فيه تابعا للمعنى = (3).
ويضيف الباقلانى إنه لو كان الذى فى القرآن سجعا لكان مذموما مرذولا لأن السجع له منهج مرتب محفوظ وطريق مضبوط إذا أخل به المتحدث اختل كلامه واعتل حديثه، وجانب الفصاحة، ويكون حينئذ خروج عن قاعدة السجع كخروج الشعر على حكم الوزن والقافية.
والمراجع لما يعتبر سجعا فى القرآن من وجهة نظر القاضى يجده كلاما متقارب الفواصل، متقارب المقاطع، بعضها يمتد حتى يتضاعف طوله إلى درجة تجعل الفاصلة موافقة للوزن الأول بعد كلام طويل وهذا غير مقبول عند السجاعين، ولا هو محمود منهم. ثم يرد القاضى على المعارضين استشهادهم بأن القرآن يقدم موسى على هارون فى موضع ويقدم الثانى على الأول فى موضع آخر مراعاة للسجع وتساوى مقاطع
__________
(1) المصدر نفسه 292، 293والتاج 5/ 375والجمهرة 2/ 93والباقلانى إعجاز القرآن 83.
(2) السيوطى الإتقان 1/ 293.
(3) الباقلانى إعجاز القرآن 83، 84.(1/287)
الكلام. فيقول = إن إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة، تؤدى معنى واحدا من الأمر الصعب الذى تظهر به الفصاحة وتتبين به البلاغة = (1).
ونحن مع الباقلانى فى حرصه على تفرد القرآن فى المفاهيم والأساليب وفى الشكل وعلى إبعاد أى فكرة قد توحى بصناعته أو التقدم عليه فى القيمة الأدبية أو المماثلة له وننفى مع القاضى أن يكون الله تعالى قد ذكر موسى أولا فى موضع، وهارون سابقا عليه فى موضع آخر بغرض المحافظة على وضع السجع من الكلام فقط ولكننا لا يمكن أن ننفى السجع عن القرآن، أو نثبته ونسميه بغير اسمه، لأن السجع من ذخائر اللغة العربية وسماتها الصوتية، وهو دليل على سعة هذه اللغة ووفرة ألفاظها وتضاعف مفرداتها ثم إنه لا تكاد لغة من لغات العالم تهمل هذا الجانب الجمالى الظاهرى فى الكلام تحت أى اعتبار فالسجع منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، يحمد السجع إذا أدى المعنى ولم يجئ متكلفا، ولا مبالغا فيه، أو مقصودا لذاته ويذم إذا كان لمجرد التلاعب بالألفاظ أو التشدق بالعبارات وإذا كان القرآن قد نفى عن نفسه أن يكون من قبيل كلام الكهان، وأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يطب له سماع كلام الذين خاطبوه بشأن الطفل القتيل لما فيه من سجع، وأنه صلى الله عليه وسلم شبهه بسجع الكهان، فليس معنى هذا أن السجع كله مذموم وأن ذمه يكون هكذا مقصودا لذاته على الإطلاق وإنه لمن الرشد أن لا نعمم اعتراض النبى صلى الله عليه وسلم على المتكلمين بالسجع بحضرته إذ قد يكون السبب خاصا بهؤلاء المتحدثين ويكون اعتراضه عليه السلام بسبب عدم وضوحهم وعدم مراعاتهم لمقتضى الحال أو لتشرفهم بحضرة النبى صلى الله عليه وسلم. وأيّا كان الأمر فإن الفواصل السجعية فى القرآن من تمام جمال كلام الله تعالى، وقد نوع الله عز وجل فى نهاياتها ومقاديرها بطريقة إعجازية جعلت السجع محمودا، بل تكاد الطريقة القرآنية فى استعمال السجع تختلف عما تواضع العرب عليه واستنوه فى كلامهم ولقد كان السجع القرآنى ولا يزال عاملا مهما من عوامل حفظ القرآن الكريم، وتيسير ذكره، وتحبيب قراءته إلى القلوب وسماعه إلى الآذان والوجدان.
__________
(1) الباقلانى. إعجاز القرآن 87.(1/288)
قال أهل البديع: أحسن السجع ونحوه ما تساوت قرائنه، (اقرأ الطور: 21)، ويليه ما طالت قرينته الثانية (النجم: 21والحاقة: 3: 32).
وقال ابن الأثير: الأحسن فى الثانية المساواة وإلا فأطول قليلا وفى الثالثة أن تكون أطول.
وقال بعضهم أحسن السجع ما كان قصيرا لدلالته على قوة المنشئ، وأقله كلمتان نحو قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيََابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلََا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (7) {وَالْمُرْسَلََاتِ عُرْفاً (1) فَالْعََاصِفََاتِ عَصْفاً (2) وَالنََّاشِرََاتِ نَشْراً (3) فَالْفََارِقََاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِيََاتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً} (6) {وَالذََّارِيََاتِ ذَرْواً (1) فَالْحََامِلََاتِ وِقْراً (2) فَالْجََارِيََاتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّمََاتِ أَمْراً} (4) {وَالْعََادِيََاتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِيََاتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيرََاتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} (5) والطويل ما زاد عن العشر كمعظم الآيات وما بينهما متوسط كآيات سورة القمر. وكل هذا أخذوه من القرآن وقاسوه عليه.
أما عن تقديم هارون على موسى فى بعض المواضع فسببه والله أعلم أن السحرة أرادوا أن يقولوا لفرعون إن الله هو الذى ربّى موسى، لا أنت بدليل مساواة هارون أخيه له فى الأدب والقيام بواجب الحق، وفى حسن السمت وهارون لم يدخل قصرك، ولم يدرج فى عشك هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإنك يا فرعون قد ركزت فى عدائك وتعديك على موسى فاتهمته بعمل السحر، وتعلم السحر وتعليمه ولسنا نرى نحن فى فعله إلا قوة الله تعالى، تتحدى قوى البشر، وتبطل ما تعلمناه واعتمدنا عليه من سحر مصطنع، أخضعنا لك به رقاب العباد، وزينا لهم به أقوالك وأفعالك حتى قلت أنا ربكم الأعلى، وما علمت لكم من إله غيري.
وقد أخضعنا الله لقوته التى ظهرت على يد هارون الذى لم تحسن به ظنا وأهملته فى كل أحاديثك، وعلى يد موسى الذى صورته ساحرا قديرا ماهرا ينازعك الملك والسلطان فناسب لذلك تقديم هارون على موسى فى هذا الموضع بالذات.
وقد يكون السحرة أرادوا تكريم هارون فى موقف من مواقف التحدى بين المؤمنين من جانب وفرعون وحاشيته من جانب آخر.
وذكر الزمخشرى فى الكشاف القديم أن الفواصل لا تكون جميلة لمجرد الإتقان اللفظي فى أواخر الكلمات، لكنها تكون كذلك ببقاء المعاني على سردها، حسب المنهج الذى يقتضيه حسن النظم والتئامه، أما إذا أهملت المعانى وانصب الاهتمام على الألفاظ فقط فلا يكون ذلك من ضروب البلاغة فى شىء (1).(1/289)
وقد يكون السحرة أرادوا تكريم هارون فى موقف من مواقف التحدى بين المؤمنين من جانب وفرعون وحاشيته من جانب آخر.
وذكر الزمخشرى فى الكشاف القديم أن الفواصل لا تكون جميلة لمجرد الإتقان اللفظي فى أواخر الكلمات، لكنها تكون كذلك ببقاء المعاني على سردها، حسب المنهج الذى يقتضيه حسن النظم والتئامه، أما إذا أهملت المعانى وانصب الاهتمام على الألفاظ فقط فلا يكون ذلك من ضروب البلاغة فى شىء (1).
ولذلك يقول الزمخشرى إن تغيير نسق الكلام لا يكون لمراعاة السجعة وإنما يكون التغيير لها ولشيء غيرها يصاحبها، وقد يكون الأخير هو المراد لذاته وهو ما ذكره أيضا ابن الصائغ، الذى يقول: = إن التقديم فى {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (4) (البقرة: 4) ليس لمجرد الفاصلة بل لرعاية الاختصاص = (2).
ونلاحظ أن الفواصل قد تبنى على الوقف مع عدم إعمال عوامل الإعراب وهو ما أشرنا إليه من قبل، ولهذا ساغ مقابلة المرفوع بالمجرور وبالعكس كما فى قوله: {إِنََّا خَلَقْنََاهُمْ مِنْ طِينٍ لََازِبٍ} (11) (الصافات: 11) مع قوله قبلها: {دُحُوراً وَلَهُمْ عَذََابٌ وََاصِبٌ} (9)، {إِلََّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهََابٌ ثََاقِبٌ} (10).
ومن أنواع السجع، وهو كثير فى القرآن، ختم الفواصل بحروف المد واللين فى إلحاق النون قال سيبويه وحكمة ذلك، وجود التمكن من التطريب عند قراءة القرآن والتطريب عند قراءة القرآن أعون على حفظه والتأثر به. وإن الممعن فى قراءة المشايخ من أصحاب الأصوات الحسنة يحس وكأن الله تعالى، قد وضع شيئا من إعجاز القرآن فى أصواتهم، فهم يستولون به على الألباب بمجرد قراءتهم ويمكن أن نسمى هذا بالإعجاز الصوتي أو النغمي للقرآن الكريم وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع القرآن الكريم من غيره ربما لهذا السبب كما أثنى صلى الله عليه وسلم على الصحابة الذين مهروا بقراءة القرآن الكريم وجودوا فى أدائه، وزينوه تطريبا وتثويبا (أي طربوا ورجعوا فيه) (3).
وحروف الفواصل إما متماثلة كما فى قوله: {وَالطُّورِ (1) وَكِتََابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} (6) (الطور: 1: 6).
__________
(1) الإتقان 1/ 314.
(2) المصدر نفسه 1/ 314.
(3) انظر بحثنا عن القرآن الكريم بجريدة = المسلمون = الدولية الصادرة في لندن عام 1986صفحة الدراسة.(1/290)
وإما متقاربة كما فى آيات سورة الفاتحة: {الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ (3) مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (4) وفى سورة ق: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (1).
قال الإمام فخر الدين وغيره إن فواصل القرآن كلها منحصرة فى هذين النوعين أعنى المتماثلة والمتقاربة (1).
أما بالنسبة لأحكام الآى أو السبب الذى من أجله جاء التسجيع فى أواخر الكلمات فإن شمس الدين ابن الصائغ الحنبلى المعروف بابن الغرس (ت: 776هـ) قد ألف فيه كتابا سماه = إحكام الراى فى أحكام الآى = ذكره حاجى خليفة فى كشف الظنون، وأخذ منه السيوطى فى الإتقان (2). ومن خلال هذا الكتاب الأخير اطلعنا على أقوال ابن الغرس.
يرى الشيخ ابن الصائغ أن مخالفة أصول اللغة من زيادة حرف أو حذف ياء الفعل غير المجزوم أو تقديم العامل على المعمول، أو إيراد أحد القسمين غير مطابق للآخر فى القرآن، لا بد له من مناسبة أو علة، هذا أمر تتطلبه اللغة العربية وقد تتبع ابن الصائغ مثل هذه الأحكام فى القرآن فوجدها نيفا وأربعين حكما.
على سبيل المثال لا الحصر، تقديم المعمول على العامل فى قوله: {أَهََؤُلََاءِ إِيََّاكُمْ كََانُوا يَعْبُدُونَ} (40) (سبأ: 40) أو على معمول آخر الأصل فيه التقديم كما فى قوله:
{لِنُرِيَكَ مِنْ آيََاتِنَا الْكُبْرى ََ} (23) (طه: 23) إذا أعربت = الكبرى = مفعولا = لنرى =.
أو تقديم خبر كان على اسمها، نحو: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (4) (الإخلاص: 4).
تقديم المتأخر فى الزمان على المتقدم فيه، مثاله: {فَلِلََّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى ََ} (النجم: 25).
جاءت لمناسبة السجعات قبلها وبعدها ومنها تقديم الضمير على ما يفسره مثاله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ََ} (67) (طه: 67).
حذف ياء المنقوص المعرف، نحو: {الْكَبِيرُ الْمُتَعََالِ} (الرعد: 9) {يَوْمَ التَّنََادِ}
(غافر: 32).
__________
(1) المصدر نفسه 1/ 314، 315.
(2). 1/ 296، 302.(1/291)
حذف ياء الفعل غير المجزوم كما فى قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذََا يَسْرِ} (4) (الفجر: 4).
حذف ياء الإضافة كما فى قوله تعالى: {فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي وَنُذُرِ} (16) (القمر: 16) {فَكَيْفَ كََانَ عِقََابِ} (32) (الرعد: 32).
زيادة حرف المد مثل: {الظُّنُونَا} (الأحزاب: 10)، {الرَّسُولَا} (الأحزاب: 66) {السَّبِيلَا} (الأحزاب: 67)، وصرف ما لا ينصرف نحو: {قَوََارِيرَا (15) قَوََارِيرَا}
(الإنسان: 1615) وإيثار تأنيث اسم الجنى كقوله تعالى: {أَعْجََازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}
(القمر: 20) أو إيثار تأنيثه كقوله تعالى: {أَعْجََازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (الحاقة: 7).
إيثار أغرب اللفظتين فى قوله تعالى: {قِسْمَةٌ ضِيزى ََ} (النجم: 22) ولم يقل جائرة، وقوله: {لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} (الهمزة: 4)، ولم يقل النار أو جهنم أو سقر أو لظى أو هاوية مثلا، كما ذكر ذلك فى سور أخرى لمناسبة الفواصل والأسجاع.
ومنه الاستغناء بالإفراد عن التثنية نحو قوله تعالى: {فَلََا يُخْرِجَنَّكُمََا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ََ}
(طه: 117) والمقصود فتشقيا والكلام لآدم وحواء وهما فى الشقاء فى الدنيا شريكان ولكننا نقول بالنسبة لهذه النقطة الأخيرة إن الجمع بين آدم وحواء فى الخروج من الجنة متساو فى الخروج عن النعيم وحياة الراحة والخلود إلى حياة التعب والمشاق وإفراد آدم بالشقاء فى قوله = فتشقى = معنى أكبر من مراعاة السجعة، والمعنى المقصود من وجهة نظرنا أن آدم لما سمع لحواء وتأثر بقولها وأكل من الشجرة كان عليه أن يتحمل عبء العمل الشاق وحده فى الدنيا، هذا بالإضافة إلى أن الله كلف الرجل بالمغامرة وتحمل الصعاب والمشاق فى سبيل توفير ضرورات الحياة فشقاء العمل لتحصيل الرزق مسئولية آدم لذا ناسب أن يقول = فتشقى = وليس فتشقيا، وإن كانت حواء تشقى مع آدم من لون آخر لكن هذا هو المعنى المراد والله أعلم بالصواب.
ومنه الاستغناء بالتثنية عن الإفراد كقوله تعالى: {وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ}
(الرحمن: 46)، قال الفراء = جنة واحدة وثناها لأجل الفاصلة = وهذا التوجيه يحيك فى صدرى منه شىء إذ لا يمكن جعل الشيء الواحد اثنين من أجل الفاصلة، هذا سبب واه وكيف والمتحدث هو رب العالمين، إن المقصود هنا = جنتان = وقد أكد القرآن هذا
العدد فى الآيات التالية التى اتصل فيها الحديث عن أوصاف جنتين لا جنة واحدة {ذَوََاتََا أَفْنََانٍ} {فِيهِمََا عَيْنََانِ تَجْرِيََانِ} {فِيهِمََا مِنْ كُلِّ فََاكِهَةٍ زَوْجََانِ} {وَمِنْ دُونِهِمََا جَنَّتََانِ}
{مُدْهََامَّتََانِ} {فِيهِمََا عَيْنََانِ نَضََّاخَتََانِ} فالحديث كله فى سورة الرحمن عن جنتين وجنتين دون الجنتين.(1/292)
ومنه الاستغناء بالتثنية عن الإفراد كقوله تعالى: {وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ}
(الرحمن: 46)، قال الفراء = جنة واحدة وثناها لأجل الفاصلة = وهذا التوجيه يحيك فى صدرى منه شىء إذ لا يمكن جعل الشيء الواحد اثنين من أجل الفاصلة، هذا سبب واه وكيف والمتحدث هو رب العالمين، إن المقصود هنا = جنتان = وقد أكد القرآن هذا
العدد فى الآيات التالية التى اتصل فيها الحديث عن أوصاف جنتين لا جنة واحدة {ذَوََاتََا أَفْنََانٍ} {فِيهِمََا عَيْنََانِ تَجْرِيََانِ} {فِيهِمََا مِنْ كُلِّ فََاكِهَةٍ زَوْجََانِ} {وَمِنْ دُونِهِمََا جَنَّتََانِ}
{مُدْهََامَّتََانِ} {فِيهِمََا عَيْنََانِ نَضََّاخَتََانِ} فالحديث كله فى سورة الرحمن عن جنتين وجنتين دون الجنتين.
ولولا أن الله فصّل فى وصف الجنتين بما يتناسب مع أوصاف جنة الخلد، لقلنا أن إحدى الجنتين تكون فى الدنيا إذ فى هذه الدار جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الخلد، وهى جنة الرضا ونعيم الحب لذات الله والإخلاص فى العمل الذى أمر به رب العالمين، وهناك جنة البرزخ وهكذا، ولأمر ما ثنّى الله تعالى الجنة هنا فى قرينة ذكر الرحمن والتذكير بآلائه ونعمائه وأيضا فى قرينة الخوف من مقامه: {وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ} (46) والخوف يوصل أصحابه إلى أعلى الدرجات ويتحفهم بجنتين تقابلان الخوف والرجاء فى النفس، والخوف والرجاء هما الجناحان الموصلان إلى حضرة القدس وإلى النعيم المقيم. وليس معنى = مقام ربه = أن الله مقاما وموضعا كما للعبد، وإنما هو مقام طاعته وموضع حرمته.
على أن هناك لطيفة يمكن أن نتعرف بها على السبب الذى من أجله قال الله فى سورة الرحمن {وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ} (46) وفى سورة النازعات: {وَأَمََّا مَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ََ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ََ} (41) (4140)، نقول ليس السبب فى الإفراد هنا والتثنية هناك، هو مجرد التزام السجع فقط ولكننا إذا أمعنا النظر فى الآيتين وفى السياق الذى ذكرت فيه كل آية، اتضح لنا السبب، فآية النازعات أفردت الجنة، لأن الآية التى قبلها أفردت النار {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ََ} (39).
أما قوله تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهََا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} (44) (الرحمن: 44) فإن فيه ما يوحي بالاثنينية فجهنم شىء والحميم الآن، أي الماء المشتعل، شىء آخر. وإن كانا من جنس واحد، والغرض منهما واحد لذلك ناسب أن يقول جنتان وهما أيضا من جنس واحد وذلك للمقابلة بين = حميم ءان = و = جنّتان =.
أضف إلى ذلك ظهور كلمة = زوجان = أو ما فى معناها فى أغلب آيات السورة
على سبيل المثال = الشمس والقمر =، = النجم والشجر =، = فاكهة والنخل =، و = الحب ذو العصف والريحان =، = الإنسان والجان =، = صلصال كالفخار ومارج من نار =، = المشرقين والمغربين =، = البحرين =، = السماوات والأرض =، = الثقلان =، = الجن والإنس =، = شواظ من نار ونحاس =، = النواصى والأقدام =، = جنتان ذوات أفنان =، = عينان تجريان =، = من كل فاكهة زوجان =، = وجنى الجنتين دان =، = الياقوت والمرجان =، = اللؤلؤ والمرجان =.(1/293)
أضف إلى ذلك ظهور كلمة = زوجان = أو ما فى معناها فى أغلب آيات السورة
على سبيل المثال = الشمس والقمر =، = النجم والشجر =، = فاكهة والنخل =، و = الحب ذو العصف والريحان =، = الإنسان والجان =، = صلصال كالفخار ومارج من نار =، = المشرقين والمغربين =، = البحرين =، = السماوات والأرض =، = الثقلان =، = الجن والإنس =، = شواظ من نار ونحاس =، = النواصى والأقدام =، = جنتان ذوات أفنان =، = عينان تجريان =، = من كل فاكهة زوجان =، = وجنى الجنتين دان =، = الياقوت والمرجان =، = اللؤلؤ والمرجان =.
هذه الصيغة الثنائية اللغوية التى تتميز بها = سورة الرحمن = قد أحدثت ثنائية عقلية ووجدانية مماثلة فى الإنسان نفسه، ملكت عليه فكره واستبدت بمشاعره، وجعلته يتصور الأضداد والمتقابلات والمتعادلات، والمتكاملات فى هذا الوجود، جعلته يفقه سر الاثنينية الوجودية، والاثنينية فى الخلق والخلق، ويستبطن قدرة الله وحكمته فى هذه المخلوقات وفى طريقة إيجاد الكائنات والقدرة على التنويع فى الحادثات، ودلالة الكل على الخالق المدير تبارك وتعالى. إن ذلك كله إنما يتجلى بأكبر قسط وأوفاه فى السر المعنوى الذى أودعه الله تعالى فى الأبنية والتراكيب القرآنية، وبما نفخ الله فيها من روحه، حتى سمت جمالا، وفاقت جلالا، وتمت كمالا ولا ننسى أن هناك فى القرآن بعض المحاورات أو القصص التى تكاد تخلو من السجع أو إيقاع الفواصل، ومع هذا فقد وصلت إلى الكمال اللفظى والمعنوى وبلغت الدرجة نفسها من التأثير والقوة.
وكلامنا هذا يتفق فى جوهره مع ما ذكره ابن قتيبة فى اعتراضه على توجيه الفراء المذكور (1).
على أن ابن الصائغ قد نقل عن الفراء أيضا أن الله أراد = جنات = فأطلق الاثنين على الجمع لأجل الفاصلة لكن يرد على ذلك ما أوردناه فى الرد على قوله بالجنة الواحدة.
ومن أنواع الفواصل ما أثبت فيه = ها = السكت كقوله تعالى: {مََا أَغْنى ََ عَنِّي مََالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطََانِيَهْ} (29) (الحاقة: 2928).
__________
(1) انظر: الإتقان 1/ 299.(1/294)
والجمع بين المجرورات: {ثُمَّ لََا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنََا بِهِ تَبِيعاً} (69) (الإسراء: 69) (1)
فإن الأحسن الفصل بينها، إلا أن مراعاة الفاصلة اقتضت عدمه وتأخير = تبيعا =. ومعنى = تبيعا = أى ناصرا يتتبعنا فيمنعكم أو ينتصر لكم منا (2). لا بدّ إذن أن هناك معنى يتجاوز فى سموه مجرد مراعاة الجمال الظاهرى للعبارة القرآنية، ولعل ابن الصائغ وهم فى الآية، فلم يفطن للضمير = نا = الفاصل بين حرفى الجر = على = والياء فى = به =.
ثم إن فى المتابعة بين ذكر عبارة = لكم = و = علينا = وتأخير = به = العائد على النصير المتوهّم، بلاغة ما بعدها بلاغة إذ أنه يحمل فى طيّاته ما يناسب الكلام فى موقف التحدى، والمقارنة بين قوة الله، والقوة المزعومة لغير الله وأيضا فإن فى تأخير حرف الجر ومتعلقه ما فيه من اللفت إلى ضآلة شأن كل ما عدا الله تعالى، ولذلك ذكره تعالى بالضمير أيضا وشدد فى تنكير أمره.
ومن أنواع الفواصل أيضا تغيير بنية الكلمة كما فى قوله: {وَطُورِ سِينِينَ} (2) (التين: 1). والأصل سينا أو سيناء (3). على أن هذا قد يكون اسما آخر للجبل نفسه أو هو مما كانت تسميه به بعض القبائل أو الشعوب المحيطة به. وعلى أية حال فهذا من مشكل القرآن ذكره الأخفش وقال: {وَطُورِ سِينِينَ} (2) واحدها السنينة (4).
وأخيرا نقول إن القرآن يحتوى على ما اصطلح على تسميته بالسجع إلا أن استعمال هذه الأسجاع فى القرآن لم يكن هو الغاية فى حد ذاته، وجمال القرآن لم يأت لكون الكثير من آياته جاءت مسجوعة ولكن جماله ينبثق من كونه كلام رب العالمين، زيّنه الذى زيّن السماء الدنيا بزينة الكواكب، وأودع فيه من الأسرار الكثيرة اللغوية، والبيانية، والعلمية كما أودع فى هذا الكون من أسرار ومعاجز ونظّمه الذى نظّم السماوات سبعا طباقا، ما ترى فيها من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير، طبق بنفسك ذات المنهاج
__________
(1) كتبت هذه الآية خطأ فى الإتقان هكذا: (ثم لا تجد لك به علينا تبيعا)، والصواب كما في المصحف: {ثُمَّ لََا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنََا بِهِ تَبِيعاً} (69)
(2) المصدر نفسه 1/ 301.
(3) المصدر نفسه 1/ 301.
(4) انظر: معانى القرآن. بيروت. عالم الكتب 1405هـ 1985م ج 2ص 740وابن حيان البحر المحيط 8/ 490.(1/295)
وقلب بصرك وبصيرتك فى القرآن ثم أمعن فيه النظر ثانية وثالثة، وفكر هل ترى فيه من خلل، أو تطلع منه على علة أو زلة. ليس جمال القرآن إذا فى الأسجاع أو الأوزان التى تمثل القشرة أو الغلاف الخارجى للقرآن فحسب، وإنما فى الروح التى تتخلل ثناياه تخللا طبيعيا لا تكلف فيه (1). إن كل كلمة فى القرآن تعرج بروحك إلى الجمال الإلهى الذى انبثقت عنه وتنزلت من عنده، وتسمو بسرّك إلى ربك، فتطلع هناك من أقرب الحضرات على مجالس أنوار القدس الأعلى فى مملكة الآيات النورانية ذات الجلال الأبدى والكمال السرمدى.
إن جمال القرآن جمال روحانى، ومعرفي لدنّي، وحسنه حسن إلهى علوى، يسمو على كل أنواع الجمال إنه أسمى من الأسجاع، وأدق من الأوزان الشعرية، وأروع من المحسنات البديعية، وأوقع فى النفس من فعل القوافى، وأنصع فى الناظرين من الدرر الخوافى. إنه أرق من النسيم، وآنق من رواء السّوسن، وأصفى من ماء السماء، وأنفذ تأثيرا من شذا الريحان، وأجلى فى الأبصار والبصائر من نور البدر التمام وفوق كل ذلك ودونه، فإن القرآن يحتوى على ذلك الجمال الإلهى الخالد والسر السرمدى الباقى، الذى يعانقه ولا يفارقه، ويلازمه ولا يخاصمه. ولو أن الأسجاع تأتى بهذا الإبداع، لجاز أن يقاس القرآن بأسجاع خطباء العرب وكهانها، أو بتخليطات الأنبياء الأدعياء الكذبة كمسيلمة الكذاب، وكهؤلاء الذين كانوا يقلدون السجاعين، فيرصفون كلاما طنانا يتوهمون أنه آية فى الصنعة وغاية فى البدعة وأنه من جنس ما جاء به محمد بن عبد الله فما كان لهم إلا الهوان على مر الزمان، وما كان لكلامهم من حظ غير النسيان لقد ذهب كل كلامهم الأجوف وبقى القرآن آية فى الكلام، ومعجزة فى عالم اللغات، وإماما فى العلوم والآداب، والأخلاق والمعاملات، وفى السياسة والاجتماع وهاد لأهل الدنيا إلى الحياة الطيبة لأهل الدنيا الحافلة بالأمن والأمان والقيم الفاضلة الراسخة، وبالسعادة الدائمة فى الحياة الآخرة.
__________
(1) انظر: للجرجانى دلائل الإعجاز ص 37.(1/296)
الفصل الرابع الشكل التخطيطى للقرآن والقصص التى يتضمنها
بعد أن ناقش ويلش الفاصلة أو الجملة المتكررة فى القرآن كما عرضناه وحللناه، يتناول هنا النظام الداخلى للنص القرآنى، وقصص الأنبياء فى الكتاب فيلاحظ عليها ما يلى:
أولا تكرار بعض الجمل بعينها مما أجراه القرآن على ألسنة الأنبياء.
ثانيا تكرار هذه القصص فى السور المختلفة ببعض الاختلافات بالزيادة أو النقصان.
من النوع الأول يشير ويلش إلى القصص الخمس التى تدور موضوعاتها حول عقاب الله لبعض الأمم الماضية، كما وردت فى سورة الشعراء، حيث يستعمل القرآن فى المواضع الخمسة الجملة التمهيدية نفسها، إلى جانب الفواصل أو المقاطع المسجوعة: {إِذْ قََالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلََا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللََّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمََا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلََّا عَلى ََ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (109) (الشعراء: 106: 109)، والفرق الوحيد فى الأربع صيغ الباقية يتمثل فى أشخاص هؤلاء الذين توجّه إليهم الخطاب الإلهى، كعاد، وثمود، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة.
وكتعليق سريع على هذه النقطة نقول إنه لا ضير فى تكرار جمل بعينها على ألسنة الأنبياء، فدعوات الأنبياء كلها واحدة وبخاصة دعوتهم إلى الله، وإلى الوحدانية وأصول الاعتقادات والنبوات وإرشاد الناس إلى التقوى ومكارم الأخلاق وتعريف النبى بنفسه وبمنهجه كمبلغ عن الله، وغايته ومقصده، وبتجرده وإخلاصه، فمنهج يتفق فيه جميع الأنبياء ولهذا جاء كلامهم بالعبارات نفسها تقريبا.
يشير الكاتب بعد ذلك إلى سورة (الأعراف) ويقول إن نظاما جديدا قد ظهر هنا فى إيراد القصة إذ أن حوالى ثلثى العبارات أو المعلومات التى أجريت على لسان نوح عليه السلام قد أجراها القرآن هى نفسها على لسان هود: {لَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ فَقََالَ يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ مََا لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخََافُ عَلَيْكُمْ عَذََابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قََالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ}
{إِنََّا لَنَرََاكَ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ (60) قََالَ يََا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلََالَةٌ وَلََكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسََالََاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللََّهِ مََا لََا تَعْلَمُونَ} (62) (الأعراف: 59: 62) وقارن ذلك بهذه الآيات: {وَإِلى ََ عََادٍ أَخََاهُمْ هُوداً قََالَ يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ مََا لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ أَفَلََا تَتَّقُونَ (65) قََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنََّا لَنَرََاكَ فِي سَفََاهَةٍ وَإِنََّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكََاذِبِينَ (66) قََالَ يََا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفََاهَةٌ وَلََكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسََالََاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نََاصِحٌ أَمِينٌ} (68) (الأعراف: 65: 72).(1/297)
يشير الكاتب بعد ذلك إلى سورة (الأعراف) ويقول إن نظاما جديدا قد ظهر هنا فى إيراد القصة إذ أن حوالى ثلثى العبارات أو المعلومات التى أجريت على لسان نوح عليه السلام قد أجراها القرآن هى نفسها على لسان هود: {لَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ فَقََالَ يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ مََا لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخََافُ عَلَيْكُمْ عَذََابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قََالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ}
{إِنََّا لَنَرََاكَ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ (60) قََالَ يََا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلََالَةٌ وَلََكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسََالََاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللََّهِ مََا لََا تَعْلَمُونَ} (62) (الأعراف: 59: 62) وقارن ذلك بهذه الآيات: {وَإِلى ََ عََادٍ أَخََاهُمْ هُوداً قََالَ يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ مََا لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ أَفَلََا تَتَّقُونَ (65) قََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنََّا لَنَرََاكَ فِي سَفََاهَةٍ وَإِنََّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكََاذِبِينَ (66) قََالَ يََا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفََاهَةٌ وَلََكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسََالََاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نََاصِحٌ أَمِينٌ} (68) (الأعراف: 65: 72).
ولقد تكرر هذا الكلام نفسه مع الأنبياء صالح، ولوط وشعيب، وإلى جانب هذا توجد مجموعات أخرى لروايات متوازية أو متساوية فى القرآن تحتوى على نمط معين من هذين النمطين للشكل التخطيطى للقرآن.
إن اتساع مدى التكرار بين هذه القصص المتقاربة أو المتشابهة أمر له دلالاته المهمة فى فهم طبيعة هذه القصص وهدفها، بمعنى أن الله لم يقصد بهذه القصص الإخبار عن أحداث تاريخية.
وهناك ظاهرة أخرى تفهم من هذه المجموعة من قصص العقاب الإلهى للأمم السابقة، وهذه الظاهرة تتمثل فى التطور المعقد للأحداث الكثيرة فى العلاقة المتغيرة التى تجمع بينها وبين أحداث القصص الأخرى فى القرآن الكريم حيث توجد قصص أخرى كثيرة تتكرر بصور مختلفة فى سورتين أو أكثر من القرآن. والعجيب أن المستشرقين بل ووات يتفقان مع ويلش فى تسمية هذه المجموعة = بقصص العقوبات أو العقاب = وكأنّ العقاب فيها مقصود لذاته لتخويف الناس وإرهابهم، وكأنها لا تحتوى على أى شىء آخر سوى أنها تروى ما حل بالأقوام الماضية من عقاب الله وجهل هؤلاء الثلاثة أو تجاهلوا الغرض الحقيقى من وراء حكاية هذه القصص فى القرآن الكريم وكأنّي بهم يلمحون إلى ما صرح به غيرهم من المنصّرين وبعض المستشرقين، وهو أن الإسلام يصوّر الله على أنه إله جبار، وقهار، محب للقتل والترويع والانتقام، بخلاف ما تصوره به النصرانية من المحبة والرحمة والفداء وقد فندنا هذه المزاعم فى بحث آخر لنا والمقام هنا يضيق عن التوسع فى هذا الموضوع.
أما المقصد الأسمى لقص أحوال الأمم السابقة وما نزل بهم من عقاب الله تعالى،
فهو مقصد تربوى تعليمى. والقصة من أسس الدعوة فى المنهج القرآنى وكل قصة فى القرآن تحتوى على علاج نفسى قوى ومؤثّر، لأمراض نفسية واجتماعية ودينية خطيرة، يعانى منها الإنسان أى إنسان فى أى مكان وأى زمان.(1/298)
أما المقصد الأسمى لقص أحوال الأمم السابقة وما نزل بهم من عقاب الله تعالى،
فهو مقصد تربوى تعليمى. والقصة من أسس الدعوة فى المنهج القرآنى وكل قصة فى القرآن تحتوى على علاج نفسى قوى ومؤثّر، لأمراض نفسية واجتماعية ودينية خطيرة، يعانى منها الإنسان أى إنسان فى أى مكان وأى زمان.
أشار الكاتب بعد ذلك إلى قصص نوح، وهود، وصالح، ولوط، وإبراهيم، وحكاية زيارة الملائكة له، وقصة آدم وخلق الكون، وسقوط إبليس، وحكاية يحيى أو يوحنا، والمسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، وقصة ميلادهما الإعجازي، وإلى قصة شعيب حمى موسى عليه السلام الذى قيل إنه جثرو، وقصة موسى وهارون التى جاء ذكرها فى مواضع متفرقة فى القرآن وباختلافات متفاوتة فى العبارة يعتبر الكاتب أن بعض هذه القصص تاريخية، أى أنها تحتوى على أحداث ووقائع لها وجود تاريخى، هذا بينما يوجد نوع آخر من النص القرآنى لا يراد به أكثر من مجرد السرد التاريخى، وقد أشرنا إليه بالفعل فى مقدمة هذه المسألة. يقول ويلش: = إن مجموعة القصص غير التاريخية (كتبت خطأ بالموسوعة () والصواب () هذه المجموعة تمثل أو تحمل الطابع نفسه الذى أسماه بل = عصر القرآن = بينما تمثل القصص أو الأخبار التاريخية = فترة الكتاب أو الكتابة =، تلك الفترة التى نرى أن قصصا ما، قد جمعت فيها وضم بعضها إلى بعض لتشكل فى مجموعها رواية طويلة ذات حلقات إخبارية، لتؤسس هى بدورها بداية نشأة التاريخ الدينى للمسلمين والذى يرجع فى بدايته إلى بداية خلق الكون وظهور الخليقة =.
قبل مناقشة هذا الكلام ينبغى أن يكون واضحا فى الأذهان أن قصص الأنبياء فى القرآن، سواء منها القصيرة أو الطويلة، المقصود منها العبرة وإبراز دور القدوة الطبية وأهميتها، وحكاية التاريخ الدينى للعالم، كما جاءت فى القرآن المعرفة الأكيدة والمتواصلة لقصة الصراع بين الخير والشر، والإيمان والكفر، والحق والباطل، والشك واليقين والهدى والضلال، والتواضع والاستكبار، كما أنها تظهر قوة الحق وصلابته فى مواجهة الباطل وأهله ودور الأنبياء وأتباعهم فى التصدى للباطل والانتصار للحق.
إن هذه القصص القرآنية جاءت لتعريف محمد الأمى صلى الله عليه وسلم بسلسلة الأنبياء السابقين وما جرى لهم مع أممهم ليثبت الله بذلك فؤاده. ويهدئ روعه، فيشتد بذلك عزم النبى صلى الله عليه وسلم
ويقوى فى مواجهة الباطل وأهله، وحتى يعرف أنه ليس وحيدا فى ساحة الدفاع عن الحق والدفاع عن الخلق. ولكي يعرف أيضا أنّ النبوة لا ترتبط بالقومية، ولا تنعزل عن التيار العام والمتدفق للفضل الإلهى الذى يؤتيه الله لمن شاء من عباده.(1/299)
إن هذه القصص القرآنية جاءت لتعريف محمد الأمى صلى الله عليه وسلم بسلسلة الأنبياء السابقين وما جرى لهم مع أممهم ليثبت الله بذلك فؤاده. ويهدئ روعه، فيشتد بذلك عزم النبى صلى الله عليه وسلم
ويقوى فى مواجهة الباطل وأهله، وحتى يعرف أنه ليس وحيدا فى ساحة الدفاع عن الحق والدفاع عن الخلق. ولكي يعرف أيضا أنّ النبوة لا ترتبط بالقومية، ولا تنعزل عن التيار العام والمتدفق للفضل الإلهى الذى يؤتيه الله لمن شاء من عباده.
وفى هذه القرينة نقول إن هذه القصص القرآنية تحتوى على دروس وعظات كثيرة تفيد فى معالجة القضايا الحاضرة والمتجددة للبشرية، كما أنها تصل الماضى بالحاضر وتربط بين الأجيال الحاضرة والغابرة برباط دينى وحضارى عظيمين متينين.
وليست هذه القصص ملفقة أو مصممة لتأدية هذا الغرض النفسى البحت، كما يزعم المستشرقون، كلّا فالأنبياء المذكورون فى القرآن لهم وجودهم التاريخى وأماكن عملهم معروفة وأصول دعواتهم معلومة وليس يشك فى ذلك إلا ملحد كافر بالدين، وإذا كان القرآن قد ركز على الجوانب الخلقية فى حياة الأنبياء فهذا ليس معناه إهمال الجانب التاريخى أو الحوادث التاريخية فى حياتهم وحياة أممهم. وينبغى أن نلاحظ نقطة أخرى مهمة وهى أن هذا التقارب الشديد الذى قد يصل إلى حد التماثل التام فى عبارات بعض الأنبياء لا يدل على الخلط أو التكرار أو إجراء الكلام نفسه على ألسنة شخصيات مختلفة مما قد يوهم أنها من صنع الخيال، هذا غير جائز البتّة، فإن تكرار القصة بعينها فى القرآن الكريم، مرة مختصرة ومرة موسعة، ومرة منشورة وأخرى مطوية له غرضه التعليمى والتهذيبى والتذوقى هذا إلى جانب الغرض التاريخى. إن هذا التكرار أشبه بتكرار الصباح بعد المساء وبتعاقب الفصول المختلفة الصيف والشتاء والربيع والخريف، وكتكرار نور القمر وضوء الشمس على العيون الناظرة. ووجه الحق لقد اعتبر القرآن فى هذا اللون من القصص أذواق المخاطبين المختلفة وطباعهم المتباينة وقواهم ومداركهم العقلية والنفسية المتفاوتة فيما بينها، فقدم لكل ما ينشده، ويؤثره ويتأثر به، ويؤثر فيه قيل لمحمد بن سعيد ما هذا الترديد للقصص فى القرآن؟ قال: = ليكون لمن قرأ ما تيسر منه حظ فى الاعتبار = (1).
فمن الناس من يفضل القصة القصيرة ومنهم المغرم بالأحداث الطويلة والمتشعبة، ثم إن القصص القرآنى قد توزع فى سور كثيرة وذلك حتى يجد من يقرأ بعض القرآن
__________
(1) ابن عطية المحرر الوجيز 1/ 15.(1/300)
النموذج القرآنى كاملا فيما قرأ القصة، والأمر والنهى، والترغيب والترهيب، والدعوة وما ذكر لأول مرة وما ثنى الله ذكره. وهكذا. قيل لجعفر بن محمد الصادق لم صار الشعر والخطب يمل ما أعيد منها، والقرآن لا يمل؟ فقال: لأن القرآن حجة على أهل الدهر الثانى كما أنه حجة على أهل الدهر الأول، فكل طائفة تتلقاه غضا جديدا ولأن كل امرئ فى نفسه متى أعاده وفكر فيه، تلقى منه فى كل مرة علوما غضة، وليس هذا كله فى الشعر والخطب = (1).
يزعم بل بأن فترة نزول القرآن، ويعنى بها العهد المكى، جاءت القصص فيها غير تاريخية، وذلك لأن محمدا، من وجهة نظره، لم يكن قد احتك باليهود بعد وأخذ عنهم، وهذا زعم باطل فسورة يوسف، وهى من أطول قصص القرآن وأبلغها، مكية إلا الآيات (1، 2، 3، 7) فمدنية وسورة مريم مكية وتحمل قصة العذراء ويحيى والمسيح وإبراهيم وسورة طه وفيها قصة موسى مفصلة هى أيضا مكية والشعراء، والنمل، والقصص كلها سور مكيات، وكلها تحمل تفاصيل دقيقة عن أنبياء الرحمن عليهم السلام.
وزعم بل أيضا بالنسبة لما أسماه ب = فترة الكتاب = يعنى تسمية القرآن = كتابا = أنه إنما كان تقليدا لليهود وكتبهم كما ذكرناه فى قرينة لحديث عن أسماء القرآن وأبطلناه بالدليل. ويزعم هذا الكاتب أيضا أن محمدا قد جمع هذه القصص القصيرة التى كتبت فى العهد المكى وشكل منها هذه القصص الطوال بغرض صنع بداية لتاريخ فقهى أو دينى متميز للمسلمين يبتدئ من أول الخليقة.
لقد أخطأ الكاتب هنا وأساء فى الوقت نفسه لم يكن جمع القصص من عمل محمد ولا من أغراضه البتّة، وإن قصص القرآن قصيرها وطويلها، وحى منزل من عند الله تعالى، وما كان محمد البتّة بالمؤرخ ولا بالقصاص ولا بالرواية لقصص الآخرين.
ليس فى هذا الكلام جديد إلا فى الشكل والرواء، أما جوهره فقديم. قاله خصوم القرآن، كما سجله القرآن نفسه، وقاله بعض اليهود والنصارى من بعد كما نقله علماء المسلمين كابن حزم الأندلسى، وابن تيمية، وابن كمونة والسموأل بن عدى كما سيتبينه القارئ فى مواضعه من هذا البحث (2).
__________
(1) المصدر نفسه والموضع.
(2) المصدر السابق.(1/301)
تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القصص من الله تعالى على فترات وحسب قياسات وتقديرات إلهية بحتة. وهذا أمر واضح فى القرآن نفسه، وتتميز قصص القرآن بالإمتاع والإشباع وإثارة العقل فى غير سرف وإطلاق للفكر دون شطط، ولقد أورد القرآن قصص الأنبياء مصفاة من العكر والقذر اللذين علقا بها فى كتب اليهود نتيجة التحريف الذى أصابها والتبديل الذى شوهها وخدش طابعها الإلهى.
القرآن ليس كتابا تاريخيا يعنى فقط بما يعنى به المؤرخون من أحداث ووقائع وأسباب ومسببات ومقدمات ونتائج، ولكنه مع ذلك إذا قدم معلومات تاريخية قدمها صحيحة وفاصلة ومن أصدق من الله قيلا، {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمََا أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ هََذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغََافِلِينَ} (3) (يوسف: 3).
{ذََلِكَ مِنْ أَنْبََاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمََا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (102) (يوسف: 102).
{ذََلِكَ مِنْ أَنْبََاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمََا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلََامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمََا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (44) (آل عمران: 44).
{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (176) (الأعراف: 176).
فالقصص القرآني وحي من عند الله تعالى حق، جاء بحق من عند الحق لتأسيس الحق والعدل على الأرض.(1/302)
فالقصص القرآني وحي من عند الله تعالى حق، جاء بحق من عند الحق لتأسيس الحق والعدل على الأرض.
الباب السابع الأشكال الأدبية والموضوعات الرئيسة للقرآن
تمهيد الفصل الأول صيغ القسم فى القرآن الفصل الثانى آيات الإعجاز العلمى فى القرآن الفصل الثالث آيات الأمر بصيغة = قل = الفصل الرابع الأمثال فى القرآن الفصل الخامس آيات الأحكام فى القرآن الفصل السادس آيات العبادات والشعائر الفصل السابع موضوعات قرآنية أخرى(1/303)
تمهيد الفصل الأول صيغ القسم فى القرآن الفصل الثانى آيات الإعجاز العلمى فى القرآن الفصل الثالث آيات الأمر بصيغة = قل = الفصل الرابع الأمثال فى القرآن الفصل الخامس آيات الأحكام فى القرآن الفصل السادس آيات العبادات والشعائر الفصل السابع موضوعات قرآنية أخرى
تمهيد
نقول فى التمهيد لكلام المستشرق ويلش فى هذا الموضوع إن للقرآن نظامه الخاص وتركيبه المنفرد، وأساليبه العجيبة وموضوعاته الرائعة والمتنوعة وإنما يعرف قيمة القرآن وفضله من كثر فيه إمعانه وازدادت فيه معارفه، واتسع علمه، وتثقف بالعربية لسانه، وفهم مذاهب العرب ولهجاتها ومواقع كلامها ورموزها وإشاراتها، وافتنانها فى الأساليب، وما اختص الله به لغتها دون جميع لغات العالمين من فضل، فإنه ليس فى جميع لغات الأمم، أمة أوتيت من العارضة (قوة الكلام والقدرة على تنقيحه) والبيان، واتساع المجال، ما أوتيته العرب خصّيصى من الله لما أرهصه (أثبت به) من الرسول صلى الله عليه وسلم، وأراده من إقامة الدليل على نبوته بالكتاب، فجعله علما، كما جعل علم كل نبي من المرسلين من أشبه الأمور بما فى زمانه المبعوث فيه (1).
وكتاب المسلمين قاطع وكلمتهم متفقة على أن القرآن معجز وأنه بعد أن تحدى الله تعالى به الإنس والجن فعجزوا، ولا يزالون، لا يمكن لأحد من البشر أن يأتى بمثله ولا جذله. تأليف القرآن ونظمه مستحيل من العباد كاستحالة الجواهر أن تصير أعراضا، أو الأعراض جواهرا، كان القرآن ولا يزال هو دليل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومصدر دعوته، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يعلن أن الله خصه بهذا القرآن وأظهر ذلك لقومه واضحا، وأن جبريل عليه السلام كان ينزل عليه به وذلك معلوم ضرورة، ولا يمكن لأحد دفعه، وهذا غاية التحدى فى المعنى، وفيه حث واستثارة على إظهار معارضته إن كانت مقدورة لأحد، وأيضا فإن النبى صلى الله عليه وسلم ادعى النبوة ودعا الناس إلى تصديقه، ونبذ ما هم عليه من دين ألفوه وعادات اعتادوها وآثروها، ومن ادعى ذلك ودعا إليه الناس وجب بحكم العقل والمنطق أن يقدم لهم دليلا على صحة دعواه حتى يفحصوه ويتأملوه، قبلوه أو ردوه، وكان القرآن هو حجة النبى صلى الله عليه وسلم ودليله الدائم والباقى، وقد تحداهم به ودعاهم إلى معارضته لا خائفا من بلغائهم ولا
__________
(1) ابن قتيبة. تأويل مشكل القرآن تحقيق السيد أحمد صقر. القاهرة. دار التراث 19731393ص 12.(1/305)
متحفظا من استنهاض همم فصحائهم مع أن العرب أهل تحدّ وعصبية، فلم يعارض القرآن أحد منهم، ولو عارض هذا الكتاب معارض لنقل إلينا كما نقل القرآن نفسه، وكما نقلت مواقف الكفار وأقوالهم ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كما نقل إلينا كلام مسيلمة والأسود العنسى وطليحة مع ركاكته وسخافته، وقصوره البالغ عن مواجهة القرآن فضلا عن معارضته، ولا يمكن أن يقال إن القادرين على المعارضة من العرب كانوا قد امتنعوا منها خوفا على أنفسهم من بطش محمد وأتباعه، فإن العرب لم يكونوا يخافون أحدا أو يخفون عداءهم خوفا من أحد بل لقد واجهوا محمدا وطاردوه وعذبوا أتباعه وشردوا بهم كما لا يمكن أن يقال إن الذين كانوا أهلا لمعارضة القرآن قد تواطئوا مع محمد، فهذا افتراض ساقط لم يصل إلينا مثله، فإن العرب جميعا عامهم وخاصهم قد تواطئوا لا مع محمد صلى الله عليه وسلم بل ضده، ولم تجتمع العرب جميعا على شىء البتّة كما اجتمعوا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ومناهضته والطعن فيما جاء به عن الله. ولقد كان البلغاء والفصحاء العرب أكثر من أن يحصوا كالأعشى الكبير وهو من الطبقة الأولى ومثله ممن مات على كفره، وكعب بن زهير وهو فى آخر العمر وهو فى الطبقة الثانية وقد أسلم واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم بعد عداوة لدود ولجاجة عنود ولقد كان لبيد والنابغة الجعدى من أهل الطبقة الثالثة، وقد أسلموا بعد زمن طويل، ولو تواطأ هؤلاء الأقربون مع محمد صلى الله عليه وسلم فكيف بفصحاء العرب الآخرين المنبثين فى الأنحاء المختلفة والأرجاء المتعددة بل كيف يتأتى ذلك من بلغاء اليهود وشعراء النصرانية المناوئين (1).
ثم لأي شىء كان تواطؤهم، ألمال محمد الفقير؟ أم لقوته التى لم تكن لتحمى أصحابه المعذبين فى مكة.؟ أم لأنهم وجدوا أن فى القرآن ما أعجبهم وأطربهم وألزمهم الحجة وألجأهم إلى التسليم فسكتوا (2) وكتموا وهل يسمى ذلك تواطأ مع محمد أم تواطأ
__________
(1) انظر: أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابى (388319هـ) بيان إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن. دار المعارف 1956ص 35.
(2) فى ثنايا كلامنا تخللت عبارات من كلام الشيخ محمد بن الحسن الطبرسى ت: 460هـ النجف 1399هـ 1979م ص 269وما بعدها.(1/306)
مع النفس من أجل الحق وتوطينا لها على الصدق؟! وإذا قيل إنهم لم يعارضوه لرأى كان أقوى فى نفوسهم وأجدى لهم فى تقديرهم وهو مناجزتهم إياه الحرب والسعي فى هلاكه ليستريحوا منه، وكراهة منهم للدخول معه فى حوار يقتضى طول الكلام فيتمادى الزمان وتكثر دعاوى الفريقين، ويخفى موضع الفضل بين الكلامين أو ربما اشتد النزاع وانحاز المحكمون فرأوا لهذا أن يجهزوا عليه وعلى دعوته بالقوة التى كانت فى أيديهم، نقول ما هذا برأى يمكن أن يصدر عنهم أو يتخيّل منهم، فقد تحداهم القرآن لا أن يأتوا بمثله كله وإنما ببعضه، حتى ولو بسورة منه، فاختصر لهم الطريق وقرب لهم الهدف، بل لقد تحداهم الله بما يستثير حماستهم ويلهب عصبيتهم فلم ينتهضوا للتحدى، وكان شعراؤهم وخطباؤهم إذا استثيروا أتوا بالبدائع والروائع، وكان ذلك منهم طبعا وخليقة ولقد بلغ شعراء شعر النقائض فى ذلك الشأو البعيد وحازوا فيه قصب السبق.
ذكر أبو حيان التوحيدى أن بندار الفارسى سئل عن موضع الإعجاز فى القرآن فقال: = هذه مسألة فيها حيف على المعنى وذلك أنه شبيه بقولكم موضع الإنسان من الإنسان، بل متى أشرت إلى جملته فقدت حقيقته ودللت على ذاته، كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شىء منه إلا وكان ذلك المعنى آية فى نفسه، ومعجزة لمحاوله، وأهدى لقائله، وليس فى طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله فى كتابه، ولذلك حارت العقول، وتاهت البصائر عنده = (1).
تجادل الجبائى وهو من علماء النظر مع ابن الراوندى الزنديق (2) فى نظم القرآن وأسلوب القرآن وليس فى هذا فقط سر إعجاز القرآن من حيث النظم والأسلوب، والسبب فى تركيز الجبائى على هذه المعانى فقط هو أنه اعتبر حال المخاطب، فهو لا يقدر
__________
(1) السيوطى معترك الأقران فى إعجاز القرآن 1/ 10، 11، وانظر: الجرجانى دلائل الإعجاز ص 37والزرقانى مناهل العرفان فى علوم القرآن 2/ 355.
(2) توفى ابن الراوندى على أرجح الأقوال سنة 293هـ ويتوقع أنه من أصل فارسى، ولد فى أوائل القرن الثالث الهجرى ونشأ فى بغداد، وكان من أتباع بشر بن المعتمر فى أول أمره وكان مثله معتزليا، ولكنه لما أظهر كفرياته طردته المعتزلة فلجأ إلى الشيعة فلم يجد فيهم ظهرا يحميه أو نصيرا يؤويه فانتهى أمره إلى الزندقة والإلحاد مقتفيا أثر ابن عيسى الوراق الزنديق.
لجأ هذا الكافر إلى ابن لاوى اليهودى وألف بمشورته كتبه التى يطعن فيها فى الإسلام والقرآن ويروج فيها لإلحاده. يقال إن الفاقة والشعور بالمهانة كانا من وراء إلحاده.(1/307)
على أن يدعى فى المعارضة أكثر من محاكاة القشرة الخارجية للقرآن أما ما حواه القرآن من علوم ومعارف فليس يستطيعها إنسان البتّة، بل ولا مجموع العالمين، فى الأولين والآخرين. ومع هذا فقد أعلن الزنديق ابن الراوندى عجزه وسلم بإعجاز القرآن كما صرح به للجبائى (1). وإذا صح هذا الخبر فإن القول باحتمال توبته ورجوعه يصبح ممكنا، ولكنه على أى حال فإن ابن الراوندى كان مريضا عقليا، ومصابا بأزمة نفسية حادة أفقدته الثقة فى نفسه، وبالتالى فى دينه، فراح يطعن فى القرآن والنبى صلى الله عليه وسلم والأنبياء ويجدف على الله بكلام ككلام الممرورين، وهكذا ينبغى أن نأخذ كتاباته على أنها أعراض أمراض ليس فيها علم يستفاد، ولا فكر يستجاد، هذا مع ما قيل من أنه فزع من دعواه، وعاد لدينه الذى قلاه، ومات على الإيمان بإعجاز القرآن وقد زعموا أيضا أن ابن المقفع حاول معارضة القرآن وعاناه مدة ثم استحيا من إظهار ما لفّقه فمزّقه.
وقد رمي ابن المقفع كذلك فى دينه واتّهم فى عقيدته، وأيا كان الأمر فهذه هى أثاره، = كليلة ودمنة = والأدب الكبير والأدب الصغير خذها فاقرأها وأمعن النظر فيها وتأملها، ثم انظر فى القرآن، وقارن، فسوف تجدها لا تصل فى بلاغتها وفصاحتها إلى ما تصل إليه ذبالة شمعة تحت ضوء الشمس الساطعة فى رائعة النهار بالنسبة للقرآن.
ولقد زعم بعض المرجفين أن أبا الطيب المتنبئ (ت: 354هـ) قد حاول معارضة القرآن ونحن لم نطلع للمتنبي على كلام فى معارضة القرآن لا شعرا ولا نثرا، أما عن ادعاء أبي الطيب النبوة فهو أمر محتمل، إذ أن له أشعارا تدل على رقة دينه، وتجرؤه على الأنبياء، على سبيل المثال قوله فى مدح سيف الدولة:
إن كان مثلك كان أو هو كائن ... فبرئت حينئذ من الإسلام
ولقد اجتمع للمتنبي مع ضعف الوازع الدينى وجوده فى بيئة كانت تتلاطم فيها الأفكار الطائفية للشيعة القرامطة، والإسماعيلية، وآراء الفلاسفة والملاحدة، هذا فضلا عن التيارات السياسية. (2)
__________
(1) انظر عبد الرحمن العباسى. معاهد التنصيص القاهرة. بولاق 1274هـ 1/ 76والخياط. كتاب الانتصار مقدمة الناشر ص 2، 3.
(2) انظر عباس محمود العقاد. مطالعات فى الكتب والحياة. القاهرة. دار المعارف ط 4، 1987ص 125121.(1/308)
وقيل أيضا أن أبا العلاء المعرى (ت: 449هـ)، قد حاول ذلك، ولكن لا يوجد لدينا دليل يؤكده. ومن المفيد فى هذه القرينة، أن نقتبس كلام مصطفى صادق الرافعى، بشأن تحدى القرآن لخصوم القرآن الذى يقول فيه: = المعارضة نصف الحق وإن هى لم تكن حقا لأنها تبينه وتجلوه وتقطع عنه الألسنة وتنفى عنه الظنة، ومن هنا يظهر لك السر المعجز الغريب البالغ منتهى الدقة فى القرآن الكريم، فإن هذا الكتاب من دون الكتب السماوية والأرضية هو وحده الذى انفرد بتحدى الخلق وإثبات هذا التحدى فيه وبذلك قرر أسمى قواعد الحق الإنسانى ووضع الأساس الدستورى الحر لإيجاد المعارضة وحمايتها، وأقام البرهان لمن آمنوا على من كفروا، وكان العجز عنه حجة دامغة معها من القوة كالذى مع الحجة الأخرى فى إعجازه، فسما بالحجتين جميعا وذلك هو المبدأ الذى لا استقلال ولا حرية بغيره، وما الصواب إذا حققت إلّا انتصار فى معركة الآراء، ولا الخطأ إلا اندحار فيها لا أقل ولا أكثر وبهذا وحده يقوم الميزان العقلى فى هذه الإنسانية = (1).
ويقول ابن قتيبة فى تحليل مفهوم البلاغة القرآنية: = والخطيب إذا ارتجل كلاما فى نكاح أو حمالة (دية، أو غرامة) أو تحريض، أو صلح، أو ما أشبه ذلك، لم يأت به من واد واحد بل يفتن، فيختصر تارة، إرادة التخفيف، ويطيل تارة، إرادة الإفهام، ويكرر أخرى، إرادة التوكيد، ويخفى بعض معانيه، حتى يغمض على أكثر السامعين، ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجمين، ويشير إلى الشيء، ويكنى عن الشيء وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال وقدر الحفل، وكثرة الحشد وجلالة اللقاء. ثم لا يأتى بالكلام كله مهذبا كل التهذيب، ومصفى كل التصفية. بل تجده يمزج ويشوب (يخلط) ليدل بالناقص على الوافر، وبالغث على الثمين، ولو جعله كله نجرا (لونا) واحدا لبخسه بهاءه وسلبه ماءه. ومثال ذلك الشهاب من القبس تبرزه للشعاع، والكوكبان يقترنان، فينقص النوران، والسّخاب (القلادة) ينظم بالياقوت والمرجان والعقيق والعقيان ولا يحمل كله
__________
(1) تحت راية القرآن ص 213.(1/309)
جنسا واحدا من الرفيع الثمين، ولا النفيس المصون = (1).
بعد هذه المقدمة اللازمة نعود إلى ويلش لنرى كيف عرض هذا الموضوع وكيف عالجه، يقول إن طبيعة ترتيب القرآن وطريقته تجعل من الصعب علينا أن نضع أشكاله الأدبية فى نظام محدد، أو نصنفه موضوعيا من حيث المواد الرئيسة التى يتضمنها، وأى محاولة لتصنيف أجزاء القرآن بحسب المعيار الفنى المتعارف عليه للأشكال الأدبية يعنى الأسطورة، الخرافة، الرواية الملحمة، القصة القصيرة، المثل أو الحكاية الخ، سوف تنهار سريعا. أمثلة قليلة يمكن أن نعرضها هنا، ولكنها فى مجموعها لا تمثل إلا نسبة ضئيلة من النص القرآنى، لأن هذه النماذج كانت قد استعملت إلى حد كبير جدا لتعزيز أسلوب القرآن ودعوته، وبالتالى فهى كأشكال أو موضوعات متميزة فى تركيبها وسياقها، لها مغزى ضئيل. وفى سياق حديثه عن النص القرآنى يشير الكاتب بعد ذلك إلى المستشرقين بل، ووات اللذان يقولان ما دام القرآن قد نفى عن محمد أن يكون شاعرا، وما دامت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كنبي هى نقل تعاليم الله لمعاصريه (فى الحقيقة لهم ولغيرهم إلى قيام الساعة) ينبغى علينا أن نبحث عن أشكال تعليمية وعظيمة أكثر منها شعرية أو فنية فى القرآن (2).
نتوقف هنا لنقول شيئا بالنسبة لكلام ويلش ومن أخذ عنهم وتأثر بهم، إنه يزعم أن تصنيف القرآن موضوعيا أمر صعب وهذا باطل. نعم إن للقرآن أسلوبه الخالص ومنهجه الخاص الذى يميزه عن الكتب الأخرى والذى يجعله بحق معجزا، ولكن هذا الأسلوب وهذا المنهج القرآنى له فى الوقت نفسه، نظامه المحكم والصارم وإن بدا أنه لا يخضع لقاعدة الوحدة الفنية للشكل الأدبى المعتاد للبشر، وذلك لسبب بسيط هو أن القرآن ليس تأليفا بشريا ولا عملا إنسانيا البتّة حتى يخضع الخضوع التام للقواعد والمعايير الأدبية الإنسانية المتعارف عليها، ومع ذلك فإنه يمكن أن تصنف موضوعات القرآن
__________
(1) ابن قتيبة. تأويل مشكل القرآن ص 12، 13وأيضا الباقلانى. إعجاز القرآن 131.
(2) بل ووات 75 ..(1/310)
تصنيفا موضوعيا بسهولة، والقرآن فى عصرنا الحاضر يدرس من هذه الناحية تحت ما يسمى ب = التفسير الموضوعي = فهناك آيات تتحدث عن الله، ذاته وصفاته، ووحدانيته، وعجائبه فى الكون، عن الإيمان والكفر، والنفاق، وعن أركان الإسلام الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وسائر الفروض والتكاليف الشرعية وفيه آيات تتحدث عن الإعجاز العلمى، وعن مكانة العلم والعلماء، كما أنه يشتمل على آيات التدبر والتأمل والنظر، والأخلاق والفضائل، والمعاملات، والبيع والشراء والتجارة، ويتضمن القرآن كذلك آيات حول القرآن نفسه نزوله وأحكامه وفى الكتب السابقة وأهل الكتاب والكفار والمشركين والمنافقين وفى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته وهجرته وعن الجهاد ومنهج الدعوة إلى الله وعن السلام والحرب، والأخوة الإنسانية والأخوة الإيمانية وعن الزواج والطلاق والعدة، والنفقة وتربية الأولاد، وعن المرأة والأسرة وما يتعلق بهما. عن قصة الخلق وقصص الأنبياء وفيه كذلك الأمثال والقصص والمواعظ والآيات التى تتحدث عن الخير والشر، والشك واليقين والخوف والرجاء، وعن الحياة، والموت، والبعث والحساب والعقاب، والجنة والنار بل وعن أحاديث القلوب، وخلجات النفوس، عن المخلصين والمنافقين، والطائعين والعصاة والأتقياء والفسقة إلخ.
وبالنسبة لما يقوله بل بخصوص طبيعة القرآن فإننا نوافقه فى أن القرآن قد نفى أن يكون محمد شاعرا، ولكنا نختلف معه فيما ذهب إليه من أن طبيعة القرآن تعليمية وليست أدبية ولا فنية بحتة فى أشكالها المختلفة، نقول إن هذا تعميم فى الحكم وهو خطأ منهجي كبير إذ أنه يجرد القرآن من أعظم وجه من وجوه إعجازه وأجلاه، وهو الشكل الأدبي والتركيب الإبداعي العجيب، وهو أمر مرفوض عقلا واعتقادا.(1/311)
وبالنسبة لما يقوله بل بخصوص طبيعة القرآن فإننا نوافقه فى أن القرآن قد نفى أن يكون محمد شاعرا، ولكنا نختلف معه فيما ذهب إليه من أن طبيعة القرآن تعليمية وليست أدبية ولا فنية بحتة فى أشكالها المختلفة، نقول إن هذا تعميم فى الحكم وهو خطأ منهجي كبير إذ أنه يجرد القرآن من أعظم وجه من وجوه إعجازه وأجلاه، وهو الشكل الأدبي والتركيب الإبداعي العجيب، وهو أمر مرفوض عقلا واعتقادا.
الفصل الأول صيغ القسم فى القرآن
يتناول المستشرق ويلش موضوع الأقسام فى القرآن وهو من الموضوعات المهمة والحساسة، وقبل أن نعرض لآرائه، نقدم نبذة مختصرة للأقسام القرآنية تكون بمثابة القاعدة والمعيار للمناقشة. اهتمت كتب التفسير بهذا الموضوع فى الموضع والقرائن المتفرقة التى ذكرت فيها الأقسام، وقد أفرده الإمام ابن القيم الحنبلى (ت: 751هـ) بمؤلف سماه = التبيان فى أقسام القرآن =.
وينبغى أن نعرف أن القصد من = القسم = فى القرآن هو تحقيق الخبر وتوكيده، والأقسام تختلف فى صيغها ومواضعها فى القرآن الكريم، وكما سنرى فإنها ليست قاصرة على السور القصيرة ولا السورة المنزلة فى بداية الوحى. والقسم لا يكون إلا باسم معظم أو بشيء عظّمه الخالق تبارك وتعالى ودل على نفسه به فيكون القسم من ثم تأكيدا للكلام وعقدا للبر والصلة بين الحالف والمحلوف له، وحرصا من الله على هداية خلقه بكل سبيل لأن من حلف لك وهو أقوى منك وأجل وأعظم وهو مالك رقبتك، ومنه مبتداك ومنتهاك، فقد عظم قدرك ورفعك فوق مكانتك. وإن فى القسم كذلك تنبيه على فضل المقسم به، وخطر المقسم عليه فقد أقسم الله تعالى بنفسه فى سبعة مواضع من القرآن، قوله تعالى: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ}
(يونس: 53) ويونس ليست سورة قصيرة ولا هى من أوائل ما نزل من القرآن وهذا مما يحسن التنبيه عليه لتعلقه بزعم الكاتب، كما سنرى قريبا، وقوله: {قُلْ بَلى ََ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (التغابن: 7) وهذه السورة كلها مدنية والمقسم عليه فى السورتين هو البعث أو المعاد وهو أمر واضح كل الوضوح، وقوله: {فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيََاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} (68) (مريم: 68) وهذه السورة مكية ولكنها ليست من أوائل ما نزل من القرآن أيضا، وهى واضحة من حيث الموضوع الذى هو الحشر والإعادة الذى ينازع فيه الكفار والملاحدة فى كل عصر وفى كل مصر، وقوله تعالى: {فَلََا وَرَبِّكَ لََا يُؤْمِنُونَ حَتََّى يُحَكِّمُوكَ فِيمََا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لََا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمََّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (65) (النساء: 65) وهذه السورة كلها مدنية، وقوله تعالى: {فَلََا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشََارِقِ وَالْمَغََارِبِ إِنََّا لَقََادِرُونَ (40) عَلى ََ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ
وَمََا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (41) (المعارج: 4140) ثم إن تعبير = قصص العقوبات = الذى اختاره المعارض تعبير انحيازي، إذ أنه يوحي للقارئ بأن قصص القرآن إنما جاءت للتخويف والردع وهذا فى حد ذاته يصور الإسلام على أنه دين العنف والقسوة وهذا محض افتراء وجهل بالقرآن وبرسالة الإسلام جملة.(1/313)
وينبغى أن نعرف أن القصد من = القسم = فى القرآن هو تحقيق الخبر وتوكيده، والأقسام تختلف فى صيغها ومواضعها فى القرآن الكريم، وكما سنرى فإنها ليست قاصرة على السور القصيرة ولا السورة المنزلة فى بداية الوحى. والقسم لا يكون إلا باسم معظم أو بشيء عظّمه الخالق تبارك وتعالى ودل على نفسه به فيكون القسم من ثم تأكيدا للكلام وعقدا للبر والصلة بين الحالف والمحلوف له، وحرصا من الله على هداية خلقه بكل سبيل لأن من حلف لك وهو أقوى منك وأجل وأعظم وهو مالك رقبتك، ومنه مبتداك ومنتهاك، فقد عظم قدرك ورفعك فوق مكانتك. وإن فى القسم كذلك تنبيه على فضل المقسم به، وخطر المقسم عليه فقد أقسم الله تعالى بنفسه فى سبعة مواضع من القرآن، قوله تعالى: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ}
(يونس: 53) ويونس ليست سورة قصيرة ولا هى من أوائل ما نزل من القرآن وهذا مما يحسن التنبيه عليه لتعلقه بزعم الكاتب، كما سنرى قريبا، وقوله: {قُلْ بَلى ََ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (التغابن: 7) وهذه السورة كلها مدنية والمقسم عليه فى السورتين هو البعث أو المعاد وهو أمر واضح كل الوضوح، وقوله: {فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيََاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} (68) (مريم: 68) وهذه السورة مكية ولكنها ليست من أوائل ما نزل من القرآن أيضا، وهى واضحة من حيث الموضوع الذى هو الحشر والإعادة الذى ينازع فيه الكفار والملاحدة فى كل عصر وفى كل مصر، وقوله تعالى: {فَلََا وَرَبِّكَ لََا يُؤْمِنُونَ حَتََّى يُحَكِّمُوكَ فِيمََا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لََا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمََّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (65) (النساء: 65) وهذه السورة كلها مدنية، وقوله تعالى: {فَلََا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشََارِقِ وَالْمَغََارِبِ إِنََّا لَقََادِرُونَ (40) عَلى ََ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ
وَمََا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (41) (المعارج: 4140) ثم إن تعبير = قصص العقوبات = الذى اختاره المعارض تعبير انحيازي، إذ أنه يوحي للقارئ بأن قصص القرآن إنما جاءت للتخويف والردع وهذا فى حد ذاته يصور الإسلام على أنه دين العنف والقسوة وهذا محض افتراء وجهل بالقرآن وبرسالة الإسلام جملة.
ونضيف إلى هذه الأقسام السبعة قوله تعالى: {فَوَ رَبِّ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مََا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (23) (الذاريات: 23) وقد ضم بعضهم ما تضمن لفظ الشهادة فى القرآن لهذه الأقسام كما جاء فى فى قوله تعالى: {وَاللََّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنََافِقِينَ لَكََاذِبُونَ} (1) (المنافقون: 1) (1) وذلك لأن الشهادة إنما سبقت لتوكيد الخبر وهو عمل القسم، لذا سمى قسما، وهذه الأقسام انعقدت بذات الله تعالى فى ستة مواضع منها توجه القسم لرسول صلى الله عليه وسلم، وفى السابعة جاء القسم مباشرة من الله تعالى. والمقسوم عليه فى ستة مواضع هو البعث والنشور، وواحد منها لتأكيد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وضرورة قبول حكمه والنزول على قضائه (كما فى النساء: 65) وباقى صور القسم الأخرى، أقسم الله عز وجل فيها بمخلوقاته، ويجب أن يكون معلوما أن الله أن يعظم ما شاء ومن شاء من خلقه وأن يقسم بما شاء منها ولكن ليس لأحد من البشر أن يقسم بغير الله تعالى كما قال الحسن رضي الله عنه وقال ابن أبى الأصبع فى = أسرار الفواتح = فى تعليل القسم بالمخلوقات، = القسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع =.
يقول ابن عطية أن الله أقسم ببعض مخلوقاته (تنبيها منه وتشريفا، وليكون ذلك سبب النظر فيها والاعتبار بها وذلك يؤول إلى التوحيد والمعرفة بحقوق الله تعالى (2).
قال أبو القاسم القشيري: القسم بالشيء لا يخرج عن وجهين إما لفضيلة أو لمنفعة فالفضيلة كقوله: {وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهََذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} (3) والمنفعة نحو قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} (1)، ونستدرك على إمامنا الجليل، إن المنفعة والفضيلة قد توجدان معا فى الشيء المقسم به نفسه كما فى القسم بالطور وهو الجبل المعروف فقد اجتمعت فيه الفضيلة والمنفعة معا أقسم الله به لفضله على الجبال فهو مهبط وحى الله، ولأن له دورا فى حفظ توازن الأرض والاحتواء على بعض المعادن والمواد النافعة، ونلفت النظر هنا إلى نقطة مهمة وهى أن القسم
__________
(1) السيوطى. الإتقان. 4/ 46.
(2) المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز 14/ 47.(1/314)
قد يكون مطويا فى الكلام معلوما من قرينة الخطاب كما فى قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلََّا وََارِدُهََا} (مريم: 71). إذ تقديره: = والله =. وقد تأتى اللام فى الكلام لتدل على القسم كما في: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوََالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (آل عمران: 186).
يتضح من هذا أن الله تعالى يقسم إما بذاته لإثبات غرض عظيم الشأن كالبعث والجزاء وإما بإحدى مخلوقاته لعظم قدرها وعظيم فائدتها. وأن الله تعالى لم يقسم فى القرآن بحياة أحد من عباده إلا بحياة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لإظهار فضله وتعريف الناس بقدره عند الله تعالى ومكانته لديه عز وجل يقول سبحانه وتعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (72) (الحجر: 72)، ومعنى لعمرك أى وحياتك وعمرك فى هذه الدنيا، ومعنى السكرة الضلالة والحيرة، ويعمهون، أى يترددون عميا لاهين.
ومن لطائف القسم قوله تعالى: {وَالضُّحى ََ (1) وَاللَّيْلِ إِذََا سَجى ََ (2) مََا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمََا قَلى ََ} (3) (الضحى: 1: 3) أقسم بآيتين عظيمتين من خلقه وأمعن فى مطابقة هذا القسم لواقع عالم رسول الله صلى الله عليه وسلم الداخلى فعبر تعالى بالضحى والليل يعنى ببداية النور وطلعة الليل بنور الوحى الذى احتبس ثم انبجس وهو نور الوحى الذى عاد ظهوره للنبى صلى الله عليه وسلم بعد فترة واحتباس، وحيرة والتباس، حتى قال أعداؤه شامتين ودّع محمدا ربّه، فأقسم الله تعالى بإشراق نور الصبح اللائح بعد ظلمة الليل الدامس، على نور الوحى الذى عاود النبى صلى الله عليه وسلم بعد انقطاع وفترة. وكما هو واضح فإن أدوات القسم تتنوع بين الواو والفاء والتاء (1) وبين صيغ = لا أقسم =، وأساليب توجيه اللوم وصب الويل والثبور كما أشار إليه الكاتب نفسه.
بعد أن أوضحنا موضوع الأقسام القرآنية من الوجهة الإسلامية، نرى الآن ماذا يقول المستشرق ويلش فيها يزعم ويلش أن هذه الأقسام لا تظهر إلا فى السور القصار، والتى نزلت فى بدء الوحى، أو فى مرحلة قريبة من هذا التوقيت، بوجه خاص، ويرى كذلك أن هذه الأقسام من الغموض بحيث يصعب التوصل إلى معرفة معانيها أو كشف غوامضها وأسرارها، لهذا غامر الكاتب بالمنهج العلمى فادعى أنها سجع كسجع الكهان الذى كانت العرب تلهج به. ونذكّر القارئ بما سبق أن قلناه سابقا من أن السور التى فيها: أقسام تتنوع فى الطول والقصر، وفى أوقات ومواطن النزول وأنها واضحة المعانى ليس فيها غموض ولا تسجيع ولا شيء البتّة مما يشبه سجع الكهان، بل ولا يوجد شىء فى القرآن كله من هذا النوع كما أوضحناه فى موضعه وقرينته.
__________
(1) الإتقان 4/ 51.(1/315)
يختتم المؤلف كلامه عن الأقسام القرآنية بقوله: = فى الحقيقة أن القرآن نفسه يؤكد أن محمدا كان قد اتهم بأنه كاهن ()، وهذا يجعلنا نقترح أن معاصريه قد رأوا أن هناك مشابهة بين ما قاله وما قد سمعوه هم من الكهان = (1). ونسأل أين هم هؤلاء القائلين بأن القرآن كهانة وما هى أسماؤهم ومؤهلاتهم؟ وماذا عما قاله غيرهم فى إعجاز القرآن ومخالفته لمعهود ما يصدر عنه الكهان والرجاز والسجاعون والشعراء والخطباء؟ لماذا اعتمد الكاتب شهادة الطاعنين رغم الجهالة التى تحوطها وتحوطهم، وأغفل شهادة فحول اللغة والبيان المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم بتبريز القرآن على كل ما عداه مما أنتجته عقول البشر فى كل زمان ومكان؟؟ وماذا عن شهادة هذا الناقد الحبر الوليد بن المغيرة عند ما التقى برسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه بعض آيات من القرآن فقال فيما قال: = فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر منى، لا برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذى يقول شيئا من هذا، وو الله إن لقوله الذى يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته = (2). هذا هو قول الناقد العربى البصير، فى القرآن وهو بحق صدق كله.
نعم إن الوليد لما أحس بغضب قومه عاد فقال لهم على ما حكاه القرآن = إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر =، بالله عليك هل يستطيع السحرة معاناة الشعر وتدبيج النثر الصالح وهم بمنأى عن الناس، لا يأنسون إليهم، بل إلى الشياطين؟ ولا يكتبون إن هم كتبوا إلا طلاسم وألغازا، وأحاجى لا تقرأ بل ولا يطلع عليها غيرهم، فكلام السحرة وتعاويذهم يطلب لها الخلوات والخرائب والمواضع النجسة. وهذه كتب السحرة لا يزال بعضها يتداول إلى اليوم فهل يروق لعاقل أن ينسب شيئا منها إلى القرآن؟ وهل يمكن لأحد أن يشتبه عليه الوحى الذى جاء به محمد بقول الكاهن أو الساحر؟ أضف إلى ذلك أن السحرة لا يعملون إلا للتكسب والارتزاق هذا هو داؤهم ودأبهم وديدنهم، كما حكاه القرآن عنهم، وهو بلا شك واقعهم بالأمس واليوم: {فَلَمََّا جََاءَ السَّحَرَةُ قََالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنََا لَأَجْراً إِنْ كُنََّا نَحْنُ الْغََالِبِينَ (41) قََالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (42) (الشعراء: 4241).
إن السحرة يسعون دائما إلى الكسب الحرام وإلى تقويض العمران والتفريق بين الأزواج والخلان، والتسلط على الأموال والأنفس والثمرات، فهل وجد واجد عيبا من هذه العيوب أو رذيلة من هذه الرذائل فى شخص محمد صلى الله عليه وسلم وهل طلب محمد على ما دعا الناس إليه أجرا؟ وبعد ذلك كله فإن القرآن لا يحتوى إلا على ما يطهر النفوس ويصفى القلوب والضمائر، ويقوى الإيمان ويدعو إلى التمسك بالفضائل ومكارم الأخلاق.
__________
(1) دائرة المعارف الإسلامية ص 421وانظر كتابنا. محمد بين الحقيقة والافتراء فى الرد على الكاتب اليهودى الفرنسى مكسيم رودينسون. القاهرة دار النشر للجامعات 1999م.
(2) الإتقان 2/ 5.(1/316)
الفصل الثانى آيات الإعجاز العلمى فى القرآن
لاحظ ويلش أن هناك آيات مكية تتحدث عن آيات الله فى الكون، فى السماء والأرض، وفى الإنسان، والحيوان، والعقل والفكر والنظر، وعن بعض الظواهر الطبيعية، كالشمس والقمر والنار والرعد والبرق والزلزال والمطر والسحاب والماء وعن الجبال والأنهار والزرع والطير والحيوان الخ، وعن اختلاف الليل والنهار وجريان الريح، وعن خلق الإنسان ومراحل خلقه وعن اللقاح والتكاثر. والأمثلة على ذلك كثيرة بل تكاد تستغرق معظم آيات القرآن يقول تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسََانُ إِلى ََ طَعََامِهِ (24) أَنََّا صَبَبْنَا الْمََاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنََا فِيهََا حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا (29) وَحَدََائِقَ غُلْباً (30) وَفََاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتََاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعََامِكُمْ} (32) (عبس: 24: 32)، {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسََاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنََاهُ النَّجْدَيْنِ} (10) (البلد: 8: 10)، هذه لغة إلهية سامية يدعو الله بها عباده إليه عن طريق التأمل والتفكر فى هذه المخلوقات التى تحمل الدلائل والبراهين الكافية والشافية على وجوده ووحدانيته وعظمته وأزليته وأبديته وقيوميته {انْظُرُوا إِلى ََ ثَمَرِهِ إِذََا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} (الأنعام: 99)، {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ كََانَتََا رَتْقاً فَفَتَقْنََاهُمََا وَجَعَلْنََا مِنَ الْمََاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلََا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنََا فِي الْأَرْضِ رَوََاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنََا فِيهََا فِجََاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمََاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيََاتِهََا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (33) (الأنبياء: 30: 33)، {يََا أَيُّهَا النََّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبََاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبََابُ شَيْئاً لََا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطََّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (73) (الحج: 73)، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ سُلََالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنََاهُ نُطْفَةً فِي قَرََارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظََاماً فَكَسَوْنَا الْعِظََامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنََاهُ خَلْقاً آخَرَ}
{فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذََلِكَ لَمَيِّتُونَ} (15) (المؤمنون: 12: 15)، {وَمِنْ آيََاتِهِ خَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَثَّ فِيهِمََا مِنْ دََابَّةٍ وَهُوَ عَلى ََ جَمْعِهِمْ إِذََا يَشََاءُ قَدِيرٌ} (29) (الشورى: 29)، {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهََارَ فَإِذََا هُمْ مُظْلِمُونَ} (37) (يس: 37)، {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كََانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثََارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهََا أَكْثَرَ مِمََّا عَمَرُوهََا وَجََاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ فَمََا كََانَ اللََّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلََكِنْ كََانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (9) (الروم: 9) {فَسُبْحََانَ اللََّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا وَكَذََلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ إِذََا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهََا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيََاتِهِ خَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوََانِكُمْ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِلْعََالِمِينَ (22) وَمِنْ آيََاتِهِ مَنََامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَابْتِغََاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيََاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (24) (الروم: 2417)، {وَمََا خَلَقْنَا السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا لََاعِبِينَ} (38) (الدخان: 38) {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسََانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مََاءٍ دََافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرََائِبِ} (7) (الطارق: 5: 7)، {وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذََاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمََا هُوَ بِالْهَزْلِ} (14) (الطارق: 11: 14) {يََا أَيُّهَا الْإِنْسََانُ مََا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوََّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مََا شََاءَ رَكَّبَكَ} (8) (الانفطار: 6: 8) (1).(1/317)
لاحظ ويلش أن هناك آيات مكية تتحدث عن آيات الله فى الكون، فى السماء والأرض، وفى الإنسان، والحيوان، والعقل والفكر والنظر، وعن بعض الظواهر الطبيعية، كالشمس والقمر والنار والرعد والبرق والزلزال والمطر والسحاب والماء وعن الجبال والأنهار والزرع والطير والحيوان الخ، وعن اختلاف الليل والنهار وجريان الريح، وعن خلق الإنسان ومراحل خلقه وعن اللقاح والتكاثر. والأمثلة على ذلك كثيرة بل تكاد تستغرق معظم آيات القرآن يقول تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسََانُ إِلى ََ طَعََامِهِ (24) أَنََّا صَبَبْنَا الْمََاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنََا فِيهََا حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا (29) وَحَدََائِقَ غُلْباً (30) وَفََاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتََاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعََامِكُمْ} (32) (عبس: 24: 32)، {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسََاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنََاهُ النَّجْدَيْنِ} (10) (البلد: 8: 10)، هذه لغة إلهية سامية يدعو الله بها عباده إليه عن طريق التأمل والتفكر فى هذه المخلوقات التى تحمل الدلائل والبراهين الكافية والشافية على وجوده ووحدانيته وعظمته وأزليته وأبديته وقيوميته {انْظُرُوا إِلى ََ ثَمَرِهِ إِذََا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} (الأنعام: 99)، {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ كََانَتََا رَتْقاً فَفَتَقْنََاهُمََا وَجَعَلْنََا مِنَ الْمََاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلََا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنََا فِي الْأَرْضِ رَوََاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنََا فِيهََا فِجََاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمََاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيََاتِهََا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (33) (الأنبياء: 30: 33)، {يََا أَيُّهَا النََّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبََاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبََابُ شَيْئاً لََا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطََّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (73) (الحج: 73)، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ سُلََالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنََاهُ نُطْفَةً فِي قَرََارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظََاماً فَكَسَوْنَا الْعِظََامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنََاهُ خَلْقاً آخَرَ}
{فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذََلِكَ لَمَيِّتُونَ} (15) (المؤمنون: 12: 15)، {وَمِنْ آيََاتِهِ خَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَثَّ فِيهِمََا مِنْ دََابَّةٍ وَهُوَ عَلى ََ جَمْعِهِمْ إِذََا يَشََاءُ قَدِيرٌ} (29) (الشورى: 29)، {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهََارَ فَإِذََا هُمْ مُظْلِمُونَ} (37) (يس: 37)، {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كََانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثََارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهََا أَكْثَرَ مِمََّا عَمَرُوهََا وَجََاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ فَمََا كََانَ اللََّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلََكِنْ كََانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (9) (الروم: 9) {فَسُبْحََانَ اللََّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا وَكَذََلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ إِذََا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهََا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيََاتِهِ خَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوََانِكُمْ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِلْعََالِمِينَ (22) وَمِنْ آيََاتِهِ مَنََامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَابْتِغََاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيََاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (24) (الروم: 2417)، {وَمََا خَلَقْنَا السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا لََاعِبِينَ} (38) (الدخان: 38) {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسََانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مََاءٍ دََافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرََائِبِ} (7) (الطارق: 5: 7)، {وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذََاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمََا هُوَ بِالْهَزْلِ} (14) (الطارق: 11: 14) {يََا أَيُّهَا الْإِنْسََانُ مََا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوََّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مََا شََاءَ رَكَّبَكَ} (8) (الانفطار: 6: 8) (1).
توقف الكاتب عند هذا الحد أعنى مجرد الرصد لبعض آيات الأنفس والآفاق دون أن ينوّه بعظمة الإسلام فى جانب احترام العقل، والحض على التفكير والتدبر والبحث
__________
(1) وانظر أيضا الآيات الروم 28، 46، 51غافر 61، 64، 82، فصلت: 9: 12، 32، الشورى: 10: 12، 31:
33 - الزخرف: 1311سبأ 9النبأ 6: 16النحل 3: 17.(1/318)
والاكتشاف وهو مما تميز به القرآن الكريم عن جميع الكتب المقدسة فى العالم.
ولم يلفت نظره كذلك تلك الحقائق العلمية الباهرة التى جاءت فى القرآن، وعرفها المسلمون إجمالا، أو على سبيل التعريف، وذلك قبل أن يتوصل إليها العلماء المحدثون منذ وقت يعدّ بالعقود، وليس بالقرون، على سبيل المثال المراحل التى يمر بها الحيوان المنوي من النطفة، إلى المضغة، إلى العلقة، إلى تكوين العظام، إلى كسوة العظام لحما، ثم نفخ الروح فيه، وطروء الحياة عليه، وانفصال الأرض عن السماء، ووصف السماء بأنها ذات الرجع، والأرض بأنها ذات الصدع، يعني التشققات التى تكون تحت مياه المحيطات والبحار وتمتد بعشرات، بل بمئات الآلاف من الأمتار، ويصل عمقها إلى مسافة تتراوح ما بين الستين إلى المائة والخمسين من الكيلومترات، وكيف تتصل هذه الصدوع بعضها ببعض برغم تباعدها وتشابكها، وكأنها صدع واحد متمدد ومنتشر ولذلك عبر عنها الله تعالى بالمفرد (الصدع) ولم يقل = والأرض ذات الصدوع = ولولا هذه الصدوع لما صلحت الحياة على الأرض ولما ثبتت الكرة الأرضية.
هذه الحقائق العلمية التى جاء بها القرآن لأكبر برهان، وأدمغ حجة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أن القرآن كتاب الله تعالى، إذ كيف يتأتى لمحمد أو لأي بشر فى زمانه، بل وبعد زمانه، أن يظهر هذه الحقائق العلمية الباهرة التى احتاجت من الإنسان أن يدرس ويتعلم ويجرب ويخترع الآلات وينفق الأموال الطائلة لكي يصل إلى اكتشافها ونضيف أن القرآن لو كان من صنع محمد لاستطاع من هو مثله أو من هو قريب منه أن يأتي بمثل هذا القرآن وهذا لم يحدث البتة، وانطلاقا من الحقائق القرآنية، والأوامر الإلهية بالنظر والتدبر فى الملكوتات فى عالم المادة وفى عالم الروح، انطلق المسلمون إلى التعلم وإلى النظر حتى ساروا أئمة فى العلوم الدينية والعلوم الإنسانية وفى العلوم التطبيقية، سواء بسواء، لم يكتفوا بعلومهم بل رحلوا إلى مختلفة البقاع لتحصيل علوم الأمم الأخرى، كما استجلب خلفاؤهم المخطوطات المختلفة فى سائر العلوم وفى الفلسفة وفى غير ذلك.
وقد أعطى المسلمون للعالم فى جميع صنوف المعرفة أضعاف ما أخذوه من بعض الأمم وهذه الحقيقة عادت اليوم من المسلّمات بين علماء الشرق والغرب فعلى سبيل المثال، يقول = جوستاف لوبون = الذى ألف كتابا كبير الحجم بعنوان = حضارة العرب =
= ويعزى إلى بيكون على العموم أنه أول من أقام التجربة، والملاحظة، اللتين هما أساس المناهج العلمية الحديثة، مقام الأستاذ ولكنه يجب أن تعترف قبل كل شيء بأن ذلك كله من عمل العرب وحدهم =.(1/319)
وقد أعطى المسلمون للعالم فى جميع صنوف المعرفة أضعاف ما أخذوه من بعض الأمم وهذه الحقيقة عادت اليوم من المسلّمات بين علماء الشرق والغرب فعلى سبيل المثال، يقول = جوستاف لوبون = الذى ألف كتابا كبير الحجم بعنوان = حضارة العرب =
= ويعزى إلى بيكون على العموم أنه أول من أقام التجربة، والملاحظة، اللتين هما أساس المناهج العلمية الحديثة، مقام الأستاذ ولكنه يجب أن تعترف قبل كل شيء بأن ذلك كله من عمل العرب وحدهم =.
ويقول همبولد: = إن ما قام على التجربة والملاحظة هو أرفع درجة فى العلوم أن العرب ارتفعوا فى علومهم إلى هذه الدرجة التى كان يشغلها القدماء = (1)
يقول المفكر الفرنسي المسلم جرينييه، الذى كان عضوا بمجلس النواب الفرنسي، عن سبب إسلامه: = إني تتبعت كل الآيات القرآنية التى لها ارتباط بالعلوم الطيبة والصحية والطبيعية والتي درستها من صغري وأعلمها جيدا، فوجدت هذه الآيات منطبقة كل الانطباق على معارفنا الحديثة، فأسلمت لأني تيقنت أن محمدا صلى الله عليه وسلم أتى بالحق الصراح من قبل ألف سنة، من قبل أن يكون معلم أو مدرس من البشر ولو أن كل صاحب فن من الفنون أو علم من العلوم قارن كل الآيات القرآنية المرتبطة بما تعلم جيدا، كما قارنت أنا لأسلم بلا شك، إن كان عاقلا خاليا من الأغراض =. (2)
ويقول الفنان الفرنسي ألفونس إيتنين دينيه 1861م: = إن العرب هم الذين يرجع إليهم الفضل على سادات أوربا وفرسانها فى القرون الوسطى، فى تعديل عاداتهم الخشنة، وتلطيفها، ثم تعليمهم رقة العاطفة وتهذيب نفوسهم ويخطئ من يظن أن هذا راجع إلى المسيحية وحدها، على الرغم مما فيها من المزايا والفضل، ثم يقول إنهم يفخرون بالعالم = بستور = الفرنسي، ويجعلونه درة فى تاج الحضارة الحديثة ولكن فاتهم أن جابر بن حيان، وأبو بكر الرازي لا يقلان عنه فى مرتبة العلماء والمفكرين، فهما المؤسسان الحقيقيان لعلم الكيمياء بفضل ما كشفاه من طرق التقطير، ومن الكحول، ومن حمض الكبريتيك = (3)
ويقول باسنتا كومر بوس فى كتابه = = = المحمدية = (4): = لم يكن هناك مجال لأي تزييف أو خداع يمليه
__________
(1) أوربا والاسلام ص 147146
(2) السيد محمود سالم. مجلة المنار مجلد 14ص 518، والنقل عن عبد الحليم محمود. أوربا والإسلام. (القاهرة دار المعارف 1993) ص 87، 88.
(3) أوربا والإسلام. للإمام الدكتور الشيخ عبد الحليم محمود.
(4) (كالكانا م 1931ص 4)(1/320)
الشعور الديني ليدخل على القرآن ما ليس منه البتة. وإن القرآن ليتميز بهذا عن سائر الكتب الدينية المهمة فى العصور القديمة. وإنه لشيء مستغرق بالغرابة أن شخصا أمينا لا يستطيع أن يقرأ أو يكتب يمكنه أن يكتب أعظم كتاب فى اللغة الإنسانية =.
ويؤكد ما سبق = هاري جاي لوردمان = فى كتابه = نحو فهم صحيح للإسلام = نيويورك 1948ص 3: = إن المعلومات الصحيحة فى القرآن والنبوءات الصادقة التي يحتوي عليها بما لا يدع مجالا للشك أن محمدا لم يكن ليتوصل إليها نفسه. ولو كان القرآن من وضع محمد لاستطاع غيره من البشر أن ينافسه فى ذلك وهو شيء لم يحدث = (1)
إذا تأملنا هذه الآيات وغيرها كثير مما هو مثلها، من حيث الموضوع والغاية، وقسمناها إلى مجموعات بحسب موضوعاتها نلاحظ أنها تأتى أحيانا إما مسبوقة بعبارات تمهيدية كما فى سورة النحل (47، 65، 67) أو تختم بسلسلة من الآيات، وربما تواردت عدة آيات قرآنية على وصف معجزة كونية واحدة بالدعوة إلى التفكر والتدبر كما فى (سورة النحل مثلا الآيتين 10، 13) وقد تأتى على هذه الأنحاء: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (11) (النحل: 11)، أو {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (13) (النحل: 13)، وأحيانا تبدأ بصيغة = أفلم = كقوله تعالى:
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمََاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنََاهََا وَزَيَّنََّاهََا وَمََا لَهََا مِنْ فُرُوجٍ} (6) (ق: 6)، وكلمة = آية = ترد بمعنى آية قرآنية وآية كونية، وقد بينا معنى اللفظة بالمفهوم الأول فى قرينة حديثنا عن القرآن، والآية هنا بمعنى الظاهرة أو الخلق العجيب أو الصنع الإلهى المعجز، فالقرآن معجز بآياته من حيث المعانى والكلمات، والكون معجز بظواهره الطبيعية وأسراره الكونية من حيث التسوية والإيجاد إن القرآن فى أصل تركيبه معجز باهر وفى ما تنطوى عليه آياته معجزات كثيرة ذاخرة ومتجددة. وقد درس العلماء المسلمون الأوائل موضوع الإعجاز العلمى فى هذا الكتاب المبين فركزوا أولا على جانب الإعجاز اللغوى، وقد أبدع فى هذا الجانب المفسرون، والبلاغيون كالباقلانى والجرجانى والزمخشري، وبمضى الأيام والسنين، وعكوف المسلمين على دراسة القرآن، والتمعن فى أسراره تكشفت لهم وجوه جديدة من الإعجاز حتى أن أبا بكر بن العربى يرى أن فى القرآن معجزات بعدد آياته مضروبة فى
__________
(1)،.،.(1/321)
أربع، لأن كل آية عنده لها حدّ ومطلع وظاهر وباطن.
وقد تكلم السيوطى فى كتابه = معترك الأقران = فى الباب الأول منه فذكر أن القرآن يحتوى على ثلاثين نوعا من الإعجاز العلمى، وقد قرر السيوطى والشاطبي فى = الموافقات = أن الإعجاز فى القرآن لا يقتصر على الجوانب البلاغية أو اللغوية فحسب، وإنما يشتمل أيضا على الجوانب العلمية الأخرى، يعنى العلوم التى كانت سائدة على عصرهم.
وذكر كلاهما أن فى القرآن مسائل طبية وإشارات هندسية، وجبر وحساب وعدد، وفلك، وتجارة، وجزارة، وطبخ وحياكة، وصباغة. كما أنه يشتمل على كثير من علوم الأوائل، يعنون بذلك علوم اليونان تلك العلوم التى لم تكن ترجمت إلى اللغة العربية إلا بعد قرون من نزول القرآن، وعلى الرغم من هذا فإن الشاطبى يقرر أن القرآن لم يخاطب العرب بغير ما كانوا يفهمونه من المعارف البسيطة فهم أمة أمية لا إلمام لها بالعلوم المتعمقة والفلسفات المتشعبة. وإننا لنعجب من كلام هذا الإمام الأصولى الكبير وهو من علماء الأندلس التى كانت منارة أوربا والعالم كله فى العلوم والحضارة كيف يقول الإمام إن القرآن لم يجئ للعرب بغير ما يفهمونه والقرآن إنما جاء بأصول العلوم كلها، وبقاعدة العلم الركينة من البحث والنظر والمنهج العلمى، وقد جاء للعالم كله، وليس للعرب وحدهم بل لقد جاء لكل زمان، وليس لزمان بعينه، ولكل مكان، وليس لمكان بذاته.
ولا يفوتنا أن ننوه هنا بالبحوث القيمة الكثيرة التى قدمها علماء مسلمون وغير مسلمين عن الإعجاز العلمى للقرآن الكريم، وقد استمعت إلى أمثلة كثيرة منها فى مؤتمر الإعجاز العلمى للقرآن، وفى المؤتمر الكبير الذى عقد بمدينة باندونج بأندونيسيا فى صيف 1994. وهناك لجنة خاصة بالإعجاز العلمي فى القرآن ضمن لجان رابطة العالم الإسلامي، ولجنة مصرية للإعجاز العلمي بالقاهرة تضم أساتذة في جميع التخصصات، وتنظم هذه الجمعية محاضرات نصف شهرية، تقدم الجديد فى موضوع الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، وتعمل على طبعه ونشره، وقد منحت شهادات جامعية أيضا فى هذا المجال.(1/322)
ولا يفوتنا أن ننوه هنا بالبحوث القيمة الكثيرة التى قدمها علماء مسلمون وغير مسلمين عن الإعجاز العلمى للقرآن الكريم، وقد استمعت إلى أمثلة كثيرة منها فى مؤتمر الإعجاز العلمى للقرآن، وفى المؤتمر الكبير الذى عقد بمدينة باندونج بأندونيسيا فى صيف 1994. وهناك لجنة خاصة بالإعجاز العلمي فى القرآن ضمن لجان رابطة العالم الإسلامي، ولجنة مصرية للإعجاز العلمي بالقاهرة تضم أساتذة في جميع التخصصات، وتنظم هذه الجمعية محاضرات نصف شهرية، تقدم الجديد فى موضوع الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، وتعمل على طبعه ونشره، وقد منحت شهادات جامعية أيضا فى هذا المجال.
الفصل الثالث آيات الأمر بصيغة = قل =
هذا جانب من البحث جيد تتبع فيه ويلش الآيات القرآنية التى افتتحت بصيغة فعل الأمر = قل = أو = قولوا = الخ، وهى منتشرة فى ثنايا القرآن كله، وآيات هذا النوع تأتى إما بتقرير أمر ما، من خلال عبارات قصيرة، أو ببيان مسألة ما بيانا قاطعا وأحيانا تأتى بالأمر للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقدم الإجابة على سؤال وجه بالفعل إليه صلى الله عليه وسلم أو يحتمل أن يوجه إليه، على سبيل المثال قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوََاقِيتُ لِلنََّاسِ وَالْحَجِّ}
(البقرة: 189) (1)، وقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللََّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلََالَةِ} (النساء: 176)، وقوله:
{يَسْئَلُونَكَ مََا ذََا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبََاتُ} (المائدة: 4)، وقوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمََا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلََّا قَلِيلًا} (85) (الإسراء: 85)، وقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ مََا لََا يَضُرُّهُمْ وَلََا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هََؤُلََاءِ شُفَعََاؤُنََا عِنْدَ اللََّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللََّهَ بِمََا لََا يَعْلَمُ فِي السَّمََاوََاتِ وَلََا فِي الْأَرْضِ سُبْحََانَهُ وَتَعََالى ََ عَمََّا يُشْرِكُونَ} (18) (يونس: 18)، وقوله: {يَسْئَلُكَ النََّاسُ عَنِ السََّاعَةِ قُلْ إِنَّمََا عِلْمُهََا عِنْدَ اللََّهِ وَمََا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السََّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} (63) (الأحزاب: 63)، وقوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السََّاعَةِ أَيََّانَ مُرْسََاهََا} (42) (النازعات: 42)، الفتوى فى الحلال والحرام، لله رب العالمين أصلا، وهكذا الحال بالنسبة لمجموع آيات = قل = التى نزلت بالتشريع دائما، وأعطت الإجابة على الأسئلة الخاصة بالحلال والحرام بطريقة مباشرة.
وينبغى أن يكون واضحا أن الكلام الذى يعقب فعل الأمر = قل = إنما هو كلام الله تعالى وإن أمر محمد بقوله وأجراه الله على لسانه، فلا محل إذا لتوهم الكاتب بأنه من كلام محمد صلى الله عليه وسلم كما حاول أن يبثه من خلال تعليقه على آيات (20: 28) من سورة الجن.
وقد زعم كاتب مجهول على شبكة المعلومات الدولية أن الفعل = قل = إلحاقي أضافه المسلمون ليوهموا أن القرآن وحي، وليس من عمل محمد صلى الله عليه وسلم ويلاحظ أن الأمر بعبارة = قل = أو = قولا أو = قلن = أو = قولى = يأتى فى القرآن أيضا مشفوعا بالتوجيه إلى السلوك الفاضل، أو الأمر بلزومه إن كان موجودا بالفعل: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً} (32) (الأحزاب: 32)، {فَلََا تَقُلْ لَهُمََا أُفٍّ وَلََا تَنْهَرْهُمََا وَقُلْ لَهُمََا قَوْلًا كَرِيماً} (23) (الإسراء: 23)، {وَإِمََّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ}
__________
(1) وعن صيغة = قل = فى القرآن انظر أيضا البقرة 217، 219، 222.(1/323)
{ابْتِغََاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهََا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً} (28) (الإسراء: 28)، {قََالَتِ الْأَعْرََابُ آمَنََّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلََكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنََا} (الحجرات: 14)، {فَإِمََّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمََنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} (26) (مريم: 26)، {فَقُولََا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ََ} (44) (طه: 44)، {فَأْتِيََاهُ فَقُولََا إِنََّا رَسُولََا رَبِّكَ} (طه: 47) {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (114) (طه: 114)، {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطََاناً نَصِيراً} (80) (الإسراء: 80)، {قُلْ يََا أَهْلَ الْكِتََابِ تَعََالَوْا إِلى ََ كَلِمَةٍ سَوََاءٍ بَيْنَنََا وَبَيْنَكُمْ أَلََّا نَعْبُدَ إِلَّا اللََّهَ وَلََا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلََا يَتَّخِذَ بَعْضُنََا بَعْضاً أَرْبََاباً مِنْ دُونِ اللََّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنََّا مُسْلِمُونَ} (64) (آل عمران: 64).
كل هذه الصيغ والأشكال، سواء جاءت مباشرة عن الله أم جرت على لسان النبى صلى الله عليه وسلم أو وردت كأمر أو كإجابة عن سؤال كل ذلك هو كلام الله تبارك وتعالى، وكله قرآن، لا شك البتة فى شيء من هذا.
يقول الإمام البيهقى: = والإيمان بالقرآن يتشعب شعبا: فأولها وأهمها أنه: بأنه كلام الله تبارك وتعالى وليس هو كلام محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من وضعه ولا من وضع جبريل عليه السلام وثانيها:
الاعتراف بأن القرآن معجزة النظم لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله أو ببعض ما يماثله لم يقدروا عليه أبدا والثالثة: اعتقاد أن جميع القرآن الذى توفى النبى صلى الله عليه وسلم عنه هو الذى فى مصاحف المسلمين لم يفت منه شيء، ولم يضع بنسيان ناس، ولا ضلال صحيفة، ولا موت قارئ، ولا كتمان كاتم، ولم يحرّف منه شيء، ولم يزد فيه حرف، ولم ينقص منه حرف = (1). وعن عمر رضي الله عنه: = القرآن كلام الله عز وجل =.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: = لو أن قلوبنا طهرت، لما شبعنا من كلام الله تعالى =.
وعن على بن أبى طالب رضي الله عنه قال: = ما حكّمت مخلوقا إنما حكمت القرآن =.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: = أنه صلى على جنازة فقال رجل: اللهم رب القرآن العظيم اغفر له فقال ابن عباس: = ثكلتك أمك! إن القرآن منه. إن القرآن منه = (2).
__________
(1) الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى. شعب الإيمان. تحقيق أبى هاجر محمد السعيد بسيونى زغلول بيروت دار الكتب العلمية ط أولى 1410هـ 1990م 1/ 185.
(2) المصدر نفسه.(1/324)
الفصل الرابع الأمثال فى القرآن
الأمثال من الوسائل القرآنية فى إيصال التعاليم الإلهية والدروس الربانية إلى قلوب المخاطبين بالقرآن، وتجسيد المعانى اللطيفة المراد غرسها فى النفوس أو تقريبها للأذهان، وقبل أن نعرض لكلام الكاتب فى هذا الصدد، نود أن نعرف المثال أو المثل ما هو! أصل المثل من المثول يعنى الانتصاب والاستواء والممثل، المصور على مثال غيره.
يقال مثل الشيء، أي انتصب أو تصور ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: = من أحب أن تمثل له الرجال فليتبوأ مقعده من النار = (1)، والتمثال الشيء المصور على هيئة مخصوصة، سمى كذلك لأنه يتمثل للعين أو يمثل شيئا ما ويكون على مثاله، فهو ليس أصلا، أو يقال تمثّل كذا أى تصوره فى ذهنه، أو ظهر له على شكل كذا قال تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهََا بَشَراً سَوِيًّا} (17) (مريم: 17) أى بدا لها الملاك جبريل عليه السلام كذلك على هذه الصورة البشرية، ولو جاءها على أصل خلقته الملائكية لما تحملت رؤيته، وتمثل البيت من الشعر أى أنشده فى موقف يشبه الموقف الذى قيل فيه هذا البيت. وامتثل لكذا أى خضع له، وامتثل مثال فلان، احتذى حذوه، والتزم طريقه وسلكها وتبعها فلم يحد عنها (2).
ومثل الشيء صفته قاله الجوهرى وقال ابن سيدة وقوله عز وجل: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} (محمد: 15) أي صفتها، وقد تعنى خبرها وحكايتها أو تمثيلها.
ومثل يمثل يعنى زال عن موضعه، وبمعنى ذهب أيضا، ومثّل بالرجل يمثل مثلا ومثلة، كلاهما نكّل به، وهو المثلة والمثلة بفتح الثاء وتسكينها وهى فى قوله تعالى:
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلََاتُ} (الرعد: 6) ومعناها يستعجلونك بالعقاب الذى تهددناهم به وتوعدناهم عليه ولم نعاجلهم به، وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية فلم يعتبروا بهم، وكأن المثل مأخوذ من المثل لأنه إذا شنّع فى عقوبته جعله مثلا وعلما.
ومنه مثّل بفلان أى عبث بجثته وشوهها وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: = نهى أن يمثّل بالدواب وأن تؤكل الممثول بها = (3). وامتثل منه اقتص، والمثال القصاص.
والمثال الفراش فى الحديث أنه دخل على سعد وفى البيت مثال رث أى فراش
__________
(1) الترمذى. أدب 13وهو بلفظ = من سره أن يتمثل له الرجال قياما = الحديث
(2) ومنه شعرا: رباع لها مذ أورق العود عنده ... خماشات ذحل ما يراد امتثالها
قاله ذو الرمة فى وصف الحمار والأتن [لسان العرب 11/ 614].
(3) الحديث بتغيير لفظى يسير ابن ماجة ذبائح وفى مسند أحمد (2) 15613798.(1/325)
خلق قديم. وروى عن أم موسى، أم ولد الحسن بن على، قالت زوّج على بن أبى طالب شابين وابني منهما فاشترى لكل واحد منهما مثالين، أى فراشين من الصوف الملونة، وفى حديث عكرمة: أن رجلا من أهل الجنة كان مستلقيا على مثله أى فرشه جمع فراش (1).
والأمثل يعبر به عن الشخص الشبيه بالأفاضل، والأقرب إلى الخير، وأماثل القوم كناية عن خيارهم ومنه قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلََّا يَوْماً} (104) (طه: 104) {وَيَذْهَبََا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى ََ} (63) (طه: 63). والطريقة المثلى أى الطريق الأفضل والسلوك الأقوم.
= والمثل عبارة عن قول فى شىء يشبه قولا فى شىء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر، وبصورة أوضح = (2).
قال الزمخشرى: = التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعانى، وإدناء المتوهم من الشاهد، فإن كان المتمثل له عظيما، كان المتمثل به مثله، وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك =.
وعند الأصفهانى أنّ ضرب الأمثال عند العرب يؤدى دورا مهما = فى إبراز خفيات الدقائق، ورفع الأستار عن الحقائق، إنها تريك المتخيل فى صورة المتحقق، والمتوهم فى معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد، وفى ضرب الأمثال تبكيت للخصم الشديد الخصومة، وقمع لسورة الجامح الأبى، فإنه أى المثل يؤثر فى القلوب ما لا يؤثر فى وصف الشيء فى نفسه، ولذلك أكثر الله تعالى من ذكره فى كتابه، وفى سائر كتبه تعالى ومن سور الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال، وفشت أى الأمثال فى كلام النبى صلى الله عليه وسلم، وكلام الأنبياء = (3).
ونلفت النظر هنا إلى خطأ وقع فى كلام الأصفهانى، فى قوله: = إن فى الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال = وهذا ليس صحيحا فكتاب الأمثال من كتب العهد القديم، وهو منسوب إلى سليمان الحكيم، أو هكذا ينسب إليه، وعلى الرغم من هذا فإن العلامة الأصبهانى لم يخطئ كثيرا وربما كان الصواب معه إذ يمكن أن يكون قد عنى أن الأناجيل تحتوى على كثير من الأمثال ولعله أشار بالتحديد إلى الإصحاح الثالث عشر من إنجيل متى الذى كلم فيه المسيح تلامذته بأمثال كما ورد فى الإصحاح نفسه.
ونعود إلى سياقنا الأول فنقول الأمثال من خصائص القرآن ومن أهم وسائله فى تعليم الدين والتبصير بعواقب الأمور وفى تحليل نفسية الإنسان وطبيعة المجتمع، وحركة التاريخ الدينى والإنسانى وقد ورد ذكر المثل فى القرآن فى قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثََالُ نَضْرِبُهََا لِلنََّاسِ وَمََا}
__________
(1) المصدر نفسه 11/ 616615.
(2) الراغب الأصفهانى. مفردات: 759.
(3) الإتقان فى علوم القرآن 4/ 39.(1/326)
{يَعْقِلُهََا إِلَّا الْعََالِمُونَ} (43) (العنكبوت: 43)، وفى قوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنََا لِلنََّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (27) (الزمر: 27).
وسوف تمر بنا آيات كثيرة يظهر فيها المثل القصير، والمثل الطويل، والمثل الواقعى، والمثل ممكن الوقوع، والمثل التاريخى، والمثل التعليمى التربوي، والمنتزع من البيئة، والمثل المفرد، والمركب، والبسيط والمعقد فى تركيبه والمثل الظاهر الصريح، والكامن المستور الذى لم يصرح فيه باسم المثل، وهكذا.
أخرج البيهقى عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: = إن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فاعلموا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال =.
ينص هذا الحديث على أن القرآن جاء بالشريعة الوافية، وأن فيه المحكم المفهوم بذاته، والمتشابه الذى يحتاج إلى العلم الراسخ والاجتهاد الخالص والتوسع فى الفهم والإدراك لتحصيل معناه والوقوف عند حده (1). يقول أبو الحسن الماوردى (على بن محمد بن حبيب 450هـ). من أعظم علم القرآن علم أمثاله، والناس فى غفلة عنه لاشتغالهم بالأمثال (أى بالجانب الأدبى، والحكائى فيها) وإغفالهم المثلات (يعنى العبر والعواقب)، والمثل بلا ممثل كالفرس بلا لجام، والناقة بلا زمام) (2). وقد شدد الإمام الشافعى رضي الله عنه فى وجوب تعلم الأمثال على المجتهد (3).
بعد هذا التعريف الوافى بالمثل، ننظر فيما كتبه ويلش عن أمثال القرآن فنجده ينوه سلفا بالأمثال الكثيرة فى القرآن الكريم ويذكر أن لفظة = مثل = تستعمل هنا بمعناها العام لتضم أى نوع من القصص والحوادث الحقيقية أو الخيالية، وعلى هذا الأساس فإنه يمكن اعتبار أجزاء كثيرة من القرآن أمثالا، وعلى الرغم من وجود إشارات تاريخية متعددة ضمن هذه الحوادث فإن معظم الأمثال القرآنية تعتبر نسخا مكررة من القصص السائدة التى يمكن أن تصادف فى ثقافات شعوب الشرق الأدنى، والتى تبناها القرآن ليعزز بها نظرته للعالم ويثري بها تعاليمه الدينية ويذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك فيقول إن العديد من الأساطير والأفكار الأسطورية لها وجود واضح فى القرآن، فعلى سبيل المثال، مسألة خلق العالم فى ستة أيام، والعرش الذى من فوقه يحكم الكون، قد ذكرت عدة مرات فى هذا الكتاب أى القرآن من هذه الآيات قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللََّهُ الَّذِي خَلَقَ}
__________
(1) الإتقان 4/ 38، والبرهان 1/ 486.
(2) المصدر نفسه والموضع.
(3) نفسه.(1/327)
{السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيََّامٍ ثُمَّ اسْتَوى ََ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهََارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرََاتٍ بِأَمْرِهِ أَلََا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبََارَكَ اللََّهُ رَبُّ الْعََالَمِينَ} (54) (الأعراف: 54).
{اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلََّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمََا خَلْفَهُمْ وَلََا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلََّا بِمََا شََاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَلََا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمََا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (255) (البقرة: 255).
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}
(التوبة: 129).
{اللََّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمََاوََاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهََا ثُمَّ اسْتَوى ََ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيََاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقََاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (2) (الرعد: 2).
{الرَّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ََ} (5) (طه: 5).
نلاحظ أن الكاتب أراد بطول تحليقه حول آيات العرش وكأنه وهو كذلك يريد أن يقول إن تصوير الله جالسا على عرش يفعل كذا وكذا شأن ملوك الأرض خرافة أو أسطورة وهذا تعسف من الكاتب فى الحكم على شيء لم يفهمه، فضلا عن أن يحسه.
إن آية الكرسى هى أعظم آية فى القرآن، وهى ملاك القرآن وسنامه، وفيها أسرار تغنى وتربي وتحفظ وتشفي، وترقّى والمسلمون إذ يعتقدون فى أن لله عرشا، وأنه، سبحانه وتعالى، على العرش استوى، فإنهم لا يشبّهون، ولا يكيّفون، ولا يمثّلون ولا يعطّلون تعالى الله عن كل ذلك علوا كبيرا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (11) (الشورى: 11) قال الإمام مالك لما سئل عن الاستواء: = الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة = (1).
على العكس تماما من كلام ويلش لقد جاء القرآن سيفا مسلطا على الأساطير والخرافات والأوهام والترهات التى غطت على العقل، وجمّدت طاقة الفكر عند الإنسان لقد جاء القرآن بالوحدانية المطلقة وبعقيدة التوحيد الصرف، وبتنزيه الذات الإلهية عن
__________
(1) انظر ابن عطية. المحرر الوجيز 10/ 4، وأيضا أبو الحسن الأشعرى (324هـ / 939م) الإبانة عن أصول الديانة تحقيق فوقية حسين. القاهرة. دار الأنصار 1397هـ 1977، 2/ 116والإمام أحمد بن حنبل كتاب الرد على الزنادقة والجهمية هى 9492والإمام أبو سعيد الدارمى. كتاب الرد على الجهمية ص 263. والإمام عثمان بن سعيد الدارمى كتاب الرد على المريسى العنيد ص 381.(1/328)
مشابهة الحوادث، كما قرر القرآن عصمة الأنبياء، وسلامة الكتاب العزيز من التحريف، وجاء القرآن كذلك بالقول الفصل فى عملية الخلق والتدبير، والقضاء والتقدير، فقد احترم الإسلام العقل فخاطبه بأرقى لغة، وحاوره بأبلغ أسلوب وأعمقه، وجادله بالتى هى أحسن وحاجه بالبراهين، ولم يكلفه المستحيل ولم يقبل منه الشطح الباطل أو التعطيل الكاذب أو الاستغراق فى الخيال والأوهام والبعد عن الواقع المعاش. لقد جعل الإسلام استنباط العقل السليم دليلا صالحا وبرهانا واضحا وحجة قاطعة إلى جانب الوحى، كما جعل العقل مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب. فمن أين يا ترى تأتى تلك الخرافات إلى القرآن؟ وأين موضعها يا ترى من كتاب اعتبر العلم آيته والعقل قاعدته وحجته وأعلن أن طلب العلم فريضة، وساوى بين مداد العلماء ودماء الشهداء، وحذر من اتباع الظن أو القول بغير علم أو التصديق دون برهان أو التسليم بشيء دون حجة.
إن هذا الموضوع واسع لا يمكن أن تستوفيه هذه الدراسة ولكننا سوف نقدم فيه قولا مختصرا نرد به على الكاتب، ونبين للقارئ كذلك خطأه فيما ذهب إليه إننا لن نحتج على الكاتب بما جاء فى كتبهم اليهودية والنصرانية من تجسيد وتشبيه وصل إلى حد إثبات الجسم والجهة والمساحة والذراع والإصبع، والعين والحدقة، والنقلة والحركة لله تعالى، وإلى تمثيل الجسم والجهة والمساحة والذراع والإصبع، والعين والحدقة، والنقلة والحركة لله تعالى، وإلى تمثيل الله بالشيخ العجوز، وبالنار الحطوم وغير ذلك مما تكتظ به كتب اليهود، ولن نحتج عليه كذلك بما ورد فى كتب النصارى من تثليث الذات الواحدة أى جعل الله ثلاثة، أب وابن وروح قدس، ولا بخرافة التجسد، وابن الله الوحيد، ولا بما يعتقدون من نزول الله وتجسده وتحمله للسب واللعن والبصق، وبموته على الصليب ثم قيامته من بين الأموات وأكله وشربه بعد قيامته ثم صعوده وجلوسه على يمين الرب (1)، وغير ذلك الأنماط الخرافية والأسطورية القديمة التي هي ظاهرة مشتركة بين النصرانية وديانات مصر القديمة وديانات الهند. وما قلناه فى موضوع الله والعرش والتدبير نقوله أيضا بالنسبة لقصص الأنبياء وقصة الطوفان والخلق، ومعصية إبليس وطرده من الجنة وفى خروج آدم وحواء منها، تلك القصص التى أشار إليها ويلش نفسه.
من بين ما اعتبره المعارض من قبيل الخرافات قذف الشياطين التى حاولت استراق السمع كما جاء فى قوله تعالى: {وَحَفِظْنََاهََا مِنْ كُلِّ شَيْطََانٍ رَجِيمٍ (17) إِلََّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهََابٌ مُبِينٌ} (18) (الحجر: 1817) بشأن ضرب الشياطين.
إذ يعتبر أن هذا العمل خرافة هذا مع أن العلم الحديث قد أثبت حركة النيازك وسقوطها وانفجار بعض الكواكب فى الفضاء، وعلى أية حال فإن الله سبحانه وتعالى قد
__________
(1) انظر ابن حزم كتاب الفصل الجزءين الأول والثانى وكتابنا = النصرانية من وجهة النظر الإسلامية = بالإنجليزية، رسالة دكتوراة بالإنجليزية، إكستر، انجلترا 1984، والقرآن والأناجيل للمؤلف. دار الفلاح. القاهرة. 1998م(1/329)
رتب لكل فعل يتجاوز مداه أو يخرج عن مداره لونا من رد الفعل يكون له بمثابة العقوبة أو الحاجز والمانع ضد الخروج عن المنهج أو التمرد على النظام.
أشار الكاتب إلى سورة يوسف عليه السلام، والتى ورد فيها أطول قصة فى القرآن قصة يوسف عليه السلام حيث تستغرق القصة الآيات (1: 101) من السورة، والتى يمكن أن يطلق عليها = قصة قصيرة = وهى أكثر قصص القرآن شبها بما أورده الكتاب المقدس عن يوسف عليه السلام.
هذا صحيح على وجه الإجمال إلا أننا نرفض زعم الكاتب بأن = القصة تحتوى على دليل يبين أنها خضعت للتعديل أو التغيير، وأن الكلام الذى فى أول السورة يبدو عليه وكأنه مقدمتان منفصلتان للسورة = (1).
يقصد الكاتب بهذا أن الآيات من قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ الْمُبِينِ} (1) إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغََافِلِينَ} (3) تعتبر مقدمة أولى للسورة وأن الآيات (4: 6) تعتبر مقدمة ثانية لها وأن القصة الحقيقة أو الأصلية تبدأ من قوله تعالى:
{لَقَدْ كََانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيََاتٌ لِلسََّائِلِينَ} (7) من الآية السابقة إلى الآية (101) من السورة وحتى نهاية القصة. وهذا زعم من يصر على اكتشاف أخطاء ومخالفات فى القرآن بأية طريقة كانت، فإن لم يجدها فى الواقع توهمها فى الخيال، ولو أن القرآن كان نصا مجهولا لا نعلم عنه شيئا البتّة ثم اكتشفناه وأخضعناه للفحص والتحليل العلميين أو حتى عرضناه للفرض والتخمين لربما ساغ مثل هذا الافتراض الذى تخيله الكاتب من عند نفسه ثم نسبه إلى القرآن ولكن القرآن لحسن الحظ كتاب منقول نقل تواتر، محفوظ حفظا إلهيا وإنسانيا بالغ العناية وجميع المخطوطات التى لدينا، وكل الحفاظ وعلماء القرآن والقراءات يجمعون على أن سورة يوسف تامة وكاملة كما هى موجودة الآن فى المصحف لم يدخل عليها ما ليس منها وكذلك لم يسقط منها شىء البتة، كما أن السياق القرآنى ذاته وتسلسل أحداث القصة يرفضان رياضة التخمين هذه التى يمارسها ويلش هذا مع وجوب العلم بأن السورة أو القصة القرآنية ليست رواية إنسانية بمعنى أنه لا بد أن يكون لها مقدمة وخاتمة وعقدة وحبكة بالضوابط نفسها، والمعابير النقدية والأدبية البشرية.
وينبغى أن نراعى أننا لا نقول = مقدمة سورة البقرة =، وإنما نقول = افتتاحية = أو = مفتتح = أو = أول السورة = وهكذا، ولو كان المسلمون هم الذين يضعون ويرفعون ويثبتون ويمحون فى القرآن لأثبتوا البسملة فى أول براءة (سورة التوبة)، ولما وضعوها فى سورة النمل، ثم إن سورة طه والقصص تقدم قصة موسى بالطريقة نفسها التى قدم بها القرآن قصة يوسف عليهم أجمعين السلام، فلماذا خص ويلش سورة يوسف بالذات بهذا التفسير التخمينى؟!!
__________
(1) الصحيح أن سورة يوسف لا تتحدث كلها عن قصة يوسف بل إن القصة تستغرق 101من مجموع آيات السورة البالغة 111آية.(1/330)
يستمر المستشرق ويلش فى استعراضه لأمثال القرآن أو قصصه، فيشير إلى ما جاء عن النبيين يحيى وعيسى عليهما السلام، وبخاصة قصة الميلاد والبشارة وكلام جبريل عليه السلام، ما يلفت النظر إلى أن هذه المشابهة تتجلى بين حكاية القرآن وحكاية إنجيل لوقا بوجه خاص، وقد أثبتنا فى بحث آخر لنا بشرية المسيح عليه السلام، من خلال الألفاظ والعبارات المتشابهة بين القرآن وإنجيل لوقا، وليس من غرضنا هنا الدخول فى هذه التفاصيل، ولكننا نقول إن الكاتب الذى لم يستطع لا هو ولا أحد من المستشرق أن يثبتوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد تلقى شيئا من كتبهم، أو أن كتبهم هذه كانت قد ترجمت إلى العربية حتى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. وتمشيا مع خطه المعوج، يزعم المستشرق أن نقاط الخلاف بين القرآن وكتب النصارى تتضمن أدلة على تطور الأفكار فى القرآن كيف يصح ذلك مع أن العبارات التى يشير إليها ويلش هنا خرساء لا تعبر عن هذا تماما، وكل الأدلة التى أهمل ذكرها تأخذ بخناقه وتكذبه. إن التطور فى أى عمل أدبى يأتى على مراحل ولا بد، هذه المراحل يجب أن تكون محددة ومعلومة، فأين يا ترى هذه الأدلة التى تبرهن على وجود هذه المراحل التى مرت بها قصتى يوحنا والمسيح فى القرآن؟
وكيف ينفرد الكاتب بهذه المعلومات الخطيرة التى لم تصل إلى علم أحد من العالمين بالقرآن ولا خطرت على قلب خصم آخر معاند للكتاب العزيز. هذا على أن القرآن لا يحتوى على أفكار متطورة، ولكنه يحتوى على مبادئ وتعاليم إلهية ثابتة.
وأما ما وجد فى القرآن مشابها من قريب أو من بعيد لما يسمونه بإنجيل الصبوة أو الأناجيل الشفهية غير المعتمدة من الكنيسة، فليس يصلح أن يكون حجة لهم بل هو فى حقيقة الأمر حجة عليهم، فإذا كانوا لم يستطيعوا أن يثبتوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم اطلع على كتبهم القانونية المعتمدة فكيف يمكنهم أن يثبتوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد طالع هذه الكتب التى كانت مطاردة منهم ومجهولة من العامة والخاصة من بينهم؟ ونسألهم فى إطار هذه القرينة لم لا تكون مثل هذه الأناجيل هى الأقرب إلى إنجيل المسيح من الأناجيل التى بين أيديكم؟ وعلى أى أساس يا ترى كان رفضكم لها؟ إن ما فيها مما يوافق القرآن هو بلا شك أثر من آثار الوحي السابق الذى جاء به المسيح عليه السلام وأبقاه الله تعالى ليكون حجة للمسلمين عليهم، فموضوعات كخدمة مريم فى المعبد وطريقة تربيتها كما جاءت فى القرآن حق لا مرية فيه وكلام المسيح فى المهد إخبارا بوحي لا شك فى ذلك، وهو غير موجود عندكم وهل تنكرون أن كلاما كثيرا مما قاله المسيح قد فقد وضاع، وأن الأناجيل الحالية لم تحتفظ من أقواله عليه السلام إلا باليسير، وأن ما أضيف إليها واختلط بها كثير، وأن الاختلافات والتناقضات حتى فى سلسلة نسب المسيح تحتم عليكم قبول ما قلناه، وهو ما انتهت إليه دراسات نقاد الكتاب المقدس فى الغرب ناهيك عن الإشارة إلى سقوط سلسلة النسب المزعومة هذه من بعض الأناجيل.
على هذا المحك يجب أن نعرض الدعاوى، وبهذا المعيار ينبغى أن نقيس الكلام ونصدر الأحكام، ولكننا لضيق المقام نكتفى فى هذا المجال بما قلناه وأوضحناه سواء بالنسبة لقصص الأنبياء والشخصيات وغيرهم من القصص الأخرى الواردة القرآن الكريم، وفى كتب اليهود والنصارى.(1/331)
وأما ما وجد فى القرآن مشابها من قريب أو من بعيد لما يسمونه بإنجيل الصبوة أو الأناجيل الشفهية غير المعتمدة من الكنيسة، فليس يصلح أن يكون حجة لهم بل هو فى حقيقة الأمر حجة عليهم، فإذا كانوا لم يستطيعوا أن يثبتوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم اطلع على كتبهم القانونية المعتمدة فكيف يمكنهم أن يثبتوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد طالع هذه الكتب التى كانت مطاردة منهم ومجهولة من العامة والخاصة من بينهم؟ ونسألهم فى إطار هذه القرينة لم لا تكون مثل هذه الأناجيل هى الأقرب إلى إنجيل المسيح من الأناجيل التى بين أيديكم؟ وعلى أى أساس يا ترى كان رفضكم لها؟ إن ما فيها مما يوافق القرآن هو بلا شك أثر من آثار الوحي السابق الذى جاء به المسيح عليه السلام وأبقاه الله تعالى ليكون حجة للمسلمين عليهم، فموضوعات كخدمة مريم فى المعبد وطريقة تربيتها كما جاءت فى القرآن حق لا مرية فيه وكلام المسيح فى المهد إخبارا بوحي لا شك فى ذلك، وهو غير موجود عندكم وهل تنكرون أن كلاما كثيرا مما قاله المسيح قد فقد وضاع، وأن الأناجيل الحالية لم تحتفظ من أقواله عليه السلام إلا باليسير، وأن ما أضيف إليها واختلط بها كثير، وأن الاختلافات والتناقضات حتى فى سلسلة نسب المسيح تحتم عليكم قبول ما قلناه، وهو ما انتهت إليه دراسات نقاد الكتاب المقدس فى الغرب ناهيك عن الإشارة إلى سقوط سلسلة النسب المزعومة هذه من بعض الأناجيل.
على هذا المحك يجب أن نعرض الدعاوى، وبهذا المعيار ينبغى أن نقيس الكلام ونصدر الأحكام، ولكننا لضيق المقام نكتفى فى هذا المجال بما قلناه وأوضحناه سواء بالنسبة لقصص الأنبياء والشخصيات وغيرهم من القصص الأخرى الواردة القرآن الكريم، وفى كتب اليهود والنصارى.
بعد أن فندنا مزاعم ويلش حول القصص القرآنى، نسوق هنا بعض الأمثلة للقصص والأمثال وما يجرى مجرى المثل الواردة ذكرها فى القرآن الكريم.
فمن أمثلة القرآن، قصة أصحاب الأيكة، وقصة أصحاب الكهف، وقصة الرجلين اللذين تحاورا فى شأن كثرة المال وعزة النفر كما وردت فى سورة الكهف وأيضا قصة أصحاب الجنة كما فى سورة القلم.
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً فَلَمََّا أَضََاءَتْ مََا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمََاتٍ لََا يُبْصِرُونَ} (17) (البقرة: 17)، {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمََا لََا يَسْمَعُ إِلََّا دُعََاءً وَنِدََاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لََا يَعْقِلُونَ} (171) (البقرة: 171)، {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنََابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللََّهُ يُضََاعِفُ لِمَنْ يَشََاءُ وَاللََّهُ وََاسِعٌ عَلِيمٌ} (261) (البقرة: 261)، {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمُ ابْتِغََاءَ مَرْضََاتِ اللََّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصََابَهََا وََابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهََا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهََا وََابِلٌ فَطَلٌّ وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (265) (البقرة: 265).
{أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَسََالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهََا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رََابِياً وَمِمََّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النََّارِ ابْتِغََاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتََاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذََلِكَ يَضْرِبُ اللََّهُ الْحَقَّ وَالْبََاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفََاءً وَأَمََّا مََا يَنْفَعُ النََّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذََلِكَ يَضْرِبُ اللََّهُ الْأَمْثََالَ} (17) (الرعد: 17) مثل إلهي مضروب فى حقيقة الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة.
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبََاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لََا يَخْرُجُ إِلََّا نَكِداً كَذََلِكَ نُصَرِّفُ الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} (58) (الأعراف: 58). مثل على أهمية الأصل وحسن النية أو الخبث وسوء الطوية.
{ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لََا يَقْدِرُ عَلى ََ شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنََاهُ مِنََّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً} (النحل: 75) {مَثَلُ مََا يُنْفِقُونَ فِي هََذِهِ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا كَمَثَلِ رِيحٍ
فِيهََا صِرٌّ أَصََابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمََا ظَلَمَهُمُ اللََّهُ وَلََكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (117) (آل عمران: 117). مثل فى التوحيد والشرك والمصالح والمضار المترتبة على كلّ.(1/332)
{ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لََا يَقْدِرُ عَلى ََ شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنََاهُ مِنََّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً} (النحل: 75) {مَثَلُ مََا يُنْفِقُونَ فِي هََذِهِ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا كَمَثَلِ رِيحٍ
فِيهََا صِرٌّ أَصََابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمََا ظَلَمَهُمُ اللََّهُ وَلََكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (117) (آل عمران: 117). مثل فى التوحيد والشرك والمصالح والمضار المترتبة على كلّ.
والمنفق فيما حرم محروم، وماله الذي ينفقه فى هذه الحياة الدنيا، على مظاهر الحياة الدينية هو الريح الضارة التي ستدمر كل ما لديه، تهلكه هو نفسه فى النهاية.
عقد جعفر بن شمس الخلافة فى كتاب الآداب بابا فى = ألفاظ من القرآن جارية مجرى المثل = نأخذ منها على سبيل المثال: {لَيْسَ لَهََا مِنْ دُونِ اللََّهِ كََاشِفَةٌ} (58) (النجم: 58).
{لَنْ تَنََالُوا الْبِرَّ حَتََّى تُنْفِقُوا مِمََّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92).
{الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} (يوسف: 51).
{وَضَرَبَ لَنََا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قََالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظََامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (يس: 78).
{قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيََانِ} (يوسف: 41).
{أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} (هود: 81).
{لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (67) (الأنعام: 67).
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى ََ شََاكِلَتِهِ} (الإسراء: 84).
{مََا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (التوبة: 91).
{وَلَوْ عَلِمَ اللََّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ} (الأنفال: 23) وهكذا (1).
فالأمثال كما هو واضح، وسيلة قرآنية فى نقل رسالة الله تعالى إلى عباده، وأداة ربانية لتربية نفوسهم وتهذيب طباعهم، وتصفية أعمالهم ونياتهم لله عز وجل، وهدايتهم إلى طريق الحق والرشاد.
__________
(1) الإتقان 4/ 32/ 45.(1/333)
الفصل الخامس آيات الأحكام فى القرآن
انتقل الكاتب إلى موضوع آخر حساس من موضوعات القرآن، هو آيات الأوامر والنواهى، وآيات الأخلاق والسلوك وهذا الموضوع يمثل مع الآيات الخاصة بالاعتقاد مجموعة من التكاليف والتعاليم الخلقية والقيمية متميزة تتوزعها الآيات القرآنية كالأمر بالإيمان وبإقامة الصلاة وأداء الزكاة والصيام والحج، وباقى الفروض الدينية التى تعاقب نزولها فى تاريخ الدعوة ومن وجهة نظر ويلش، فإن هذه الوصايا والتعاليم الخلقية لا تمثل نظاما خلقيا متكاملا فى كل شىء يحتوى على ما يهم المجتمع ويعالج قضاياه كلها وهذا فهم قاصر لحرف القرآن وروحه معا وذلك لأن القرآن هو مصدر المسلمين علومهم وسلوكهم، دنيا ودين، وأنه جامع لكل محاسن الأخلاق وفضائل الأعمال، وأن الفروض الدينية فى الإسلام لا تنفصل أبدا عن المبادئ الخلقية والأعمال السلوكية، إذ أن كل فرض يأمرنا الله بأدائه إنما يحمل قيمة خلقية وتربوية واجتماعية سامية لا بد من ظهور أثرها على العابد وعلى أهله ومجتمعه وإلا لما كان لعبادته معنى أى معنى.
إذا تبين هذا عرفنا أن التكاليف الشرعية والتعاليم الخلقية مما يحتوى عليه القرآن لها نظامها الخاص الذى يتبع نظام القرآن العام ويتسق معه تماما، وليس من المستساغ إذن أن يزعم المستشرق ويلش بأن التكاليف الشرعية والتعاليم الخلقية لا يجمعها نظام ولا يشدها رباط واحد، وأنها لا تمثل فى نفسها نظاما متكاملا، فعلى العكس من ذلك تماما فإن آيات القرآن كلها يتصل بعضها ببعض، وآيات الأخلاق والسلوك فى القرآن الكريم أكثر من أن تحصى ولنكتفى هنا فى إعطاء بعض الأمثلة يقول تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مََا لََا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللََّهِ أَنْ تَقُولُوا مََا لََا تَفْعَلُونَ} (3) (الصف: 32)، فيها نهي عن النفاق والرياء، وقوله تعالى: {وَلََا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ََ أَلََّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ} (المائدة: 8) فيها إلزام المرء نفسه بالعدل حتى تجاه من يكرهه ولا يحبه. إن آيات الأخلاق والسلوك فى القرآن أكثر من أن تحصى وأوسع من أن تستقصى ويكفينا منها ما يضيء الطريق للتعرف على غيرها: {ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدََاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) (فصلت: 34).(1/335)
إذا تبين هذا عرفنا أن التكاليف الشرعية والتعاليم الخلقية مما يحتوى عليه القرآن لها نظامها الخاص الذى يتبع نظام القرآن العام ويتسق معه تماما، وليس من المستساغ إذن أن يزعم المستشرق ويلش بأن التكاليف الشرعية والتعاليم الخلقية لا يجمعها نظام ولا يشدها رباط واحد، وأنها لا تمثل فى نفسها نظاما متكاملا، فعلى العكس من ذلك تماما فإن آيات القرآن كلها يتصل بعضها ببعض، وآيات الأخلاق والسلوك فى القرآن الكريم أكثر من أن تحصى ولنكتفى هنا فى إعطاء بعض الأمثلة يقول تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مََا لََا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللََّهِ أَنْ تَقُولُوا مََا لََا تَفْعَلُونَ} (3) (الصف: 32)، فيها نهي عن النفاق والرياء، وقوله تعالى: {وَلََا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ََ أَلََّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ} (المائدة: 8) فيها إلزام المرء نفسه بالعدل حتى تجاه من يكرهه ولا يحبه. إن آيات الأخلاق والسلوك فى القرآن أكثر من أن تحصى وأوسع من أن تستقصى ويكفينا منها ما يضيء الطريق للتعرف على غيرها: {ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدََاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) (فصلت: 34).
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمََا يَصِفُونَ} (96) (المؤمنون: 96).
{قُلْ تَعََالَوْا أَتْلُ مََا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلََّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوََالِدَيْنِ إِحْسََاناً وَلََا تَقْتُلُوا أَوْلََادَكُمْ مِنْ إِمْلََاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيََّاهُمْ وَلََا تَقْرَبُوا الْفَوََاحِشَ مََا ظَهَرَ مِنْهََا وَمََا بَطَنَ وَلََا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللََّهُ إِلََّا بِالْحَقِّ ذََلِكُمْ وَصََّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلََا تَقْرَبُوا مََالَ الْيَتِيمِ إِلََّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتََّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزََانَ بِالْقِسْطِ لََا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا وَإِذََا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كََانَ ذََا قُرْبى ََ وَبِعَهْدِ اللََّهِ أَوْفُوا ذََلِكُمْ وَصََّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هََذََا صِرََاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلََا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذََلِكُمْ وَصََّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (153) (الأنعام: 151: 153).
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرََّاءِ وَالضَّرََّاءِ وَالْكََاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعََافِينَ عَنِ النََّاسِ وَاللََّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (134) (آل عمران: 134)، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجََاهِلِينَ} (199) (الأعراف: 199)، {وَلََا تَقْرَبُوا الزِّنى ََ إِنَّهُ كََانَ فََاحِشَةً وَسََاءَ سَبِيلًا} (32) (الإسراء: 32)، {وَلََا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللََّهُ إِلََّا بِالْحَقِّ} (الإسراء: 33)، {وَقَضى ََ رَبُّكَ أَلََّا تَعْبُدُوا إِلََّا إِيََّاهُ وَبِالْوََالِدَيْنِ إِحْسََاناً إِمََّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمََا أَوْ كِلََاهُمََا فَلََا تَقُلْ لَهُمََا أُفٍّ وَلََا تَنْهَرْهُمََا وَقُلْ لَهُمََا قَوْلًا كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمََا جَنََاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمََا كَمََا رَبَّيََانِي صَغِيراً} (24) (الإسراء: 23)، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلََاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهََا لََا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعََاقِبَةُ لِلتَّقْوى ََ} (132) (طه: 132)، {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتََالُوا عَلَى النََّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذََا كََالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (3) (المطففين: 1: 3).
أحكام وتعاليم تتقاصر دونها كلمات البشر.(1/336)
أحكام وتعاليم تتقاصر دونها كلمات البشر.
الفصل السادس آيات العبادات والشعائر
ينتقل المستشرق ويلش بعد استعراضه لآيات الأحكام إلى نقطة أخرى فى هذا الباب، وهى الخاصة بآيات العبادات والشعائر الدينية فى القرآن الكريم فيقول: = بينما يقرأ القرآن كله بطريقة طقسية شعائرية فإنه توجد أجزاء خاصة منه تتميز بالصيغة الطقسية (أى تلك التى تقرأ فى الطقوس والتراتيل الدينية وسورة الفاتحة بالذات من بين سور القرآن هي التي ينطبق عليها هذا الوصف الطقس إلى حد بعيد، حيث إنها تستخدم فى كل صلاة، وهى تشتمل على سبع آيات، وتقرأ مرتين على الأقل فى كل صلاة، هل كانت سورة الفاتحة جزء من القرآن على عهد محمد (صلى الله عليه وسلم) أم لا؟ هذا أمر لا يمكن القطع به، إن الصلاة بمعنى الدعاء تبدو فى غير موضعها فى نصّ، كسورة الفاتحة إذ أن الله لا يتحدث فيها وحده بل يتحدث معه آخرون فى النص نفسه وأفضل مثل على الصيغ الطقسية فى القرآن ذلك الدعاء الوارد فى آخر سورة البقرة: {رَبَّنََا لََا تُؤََاخِذْنََا إِنْ نَسِينََا أَوْ أَخْطَأْنََا رَبَّنََا وَلََا تَحْمِلْ عَلَيْنََا إِصْراً كَمََا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنََا رَبَّنََا وَلََا تُحَمِّلْنََا مََا لََا طََاقَةَ لَنََا بِهِ وَاعْفُ عَنََّا وَاغْفِرْ لَنََا وَارْحَمْنََا أَنْتَ مَوْلََانََا فَانْصُرْنََا عَلَى الْقَوْمِ الْكََافِرِينَ} (286) (البقرة: 286) وهكذا يصف ويلش القرآن وبخاصة سورة الفاتحة بأنه كتاب طقوس وتراتيل دينية وهذا وصف كنسي لا يليق بالقرآن فالقرآن ليس فيه طقوس ولا شعائر، فالقرآن كما أنه كتاب يتعبد بتلاوته فإنه كتاب يتعبد بالعمل به كذلك، وهو يقرأ فى الصلاة وغير الصلاة كما أنه ليس كتاب عبادة فحسب بل إنه أيضا كتاب عقائد ومعاملات وأخلاق وسياسة واجتماع واقتصاد إلخ.
وإذا كان القرآن هو عماد الصلاة، والصلاة هى عماد الدين فإن القرآن والصلاة هما عمادا الحياة الإسلامية وجوهر وجود الإنسان المسلم في هذا الكون.
وأما تشكيك الكاتب فى أن سورة الفاتحة كانت جزءا من القرآن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم فليس له محل وليس عليه دليل، بل إنه خارج عن حدود الاقناع الشعبى، فالفاتحة أو سورة الحمد بضعة من القرآن، وهى معروفة بأنها فاتحة الكتاب وقد انعقد
إجماع المسلمين على قرآنية سورة الفاتحة، وبأنه لا تقبل البتّة فى الإسلام صلاة بغير قراءة سورة الفاتحة. (1) بل إنها لفضلها قد نزلت مرتين على رسول صلى الله عليه وسلم وجمهور المسلمين على أنها هى المرادة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (87) (الحجر: 87)، فهى السبع المثانى وهى من القرآن العظيم سميت بذلك لأنها تثنى فى كل ركعة. ولأنها مثنوية الغرض، من حيث انها تقرأ للدنيا كما تقرأ للدين.(1/337)
وأما تشكيك الكاتب فى أن سورة الفاتحة كانت جزءا من القرآن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم فليس له محل وليس عليه دليل، بل إنه خارج عن حدود الاقناع الشعبى، فالفاتحة أو سورة الحمد بضعة من القرآن، وهى معروفة بأنها فاتحة الكتاب وقد انعقد
إجماع المسلمين على قرآنية سورة الفاتحة، وبأنه لا تقبل البتّة فى الإسلام صلاة بغير قراءة سورة الفاتحة. (1) بل إنها لفضلها قد نزلت مرتين على رسول صلى الله عليه وسلم وجمهور المسلمين على أنها هى المرادة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (87) (الحجر: 87)، فهى السبع المثانى وهى من القرآن العظيم سميت بذلك لأنها تثنى فى كل ركعة. ولأنها مثنوية الغرض، من حيث انها تقرأ للدنيا كما تقرأ للدين.
وزعم ويلش بوجود شخصين يتحدثان أحدهما إلى الآخر فى سورة الفاتحة أضعف من أن يخدم قضيته أو يؤيد دعواه ودعوى المستشرقين فى بشرية القرآن، وفى تعدد مصادره، لقد قلنا مرارا فى هذا البحث أن القرآن كله كلام الله وأنه ليس لبشر ولا لملك فيه كلام البتّة لا حرف ولا لفظ ولا عبارة، وهذا صحيح عند ما يسند فيه الكلام أحيانا إلى الملك أو النبى أو الأشخاص المحكى عنهم فى القرآن.
إن ويلش يشكك هنا فى أصالة سورة الفاتحة، وفى آيات العبادات والشعائر فى القرآن كما يشكك فى القرآن كله: إن آفة الدارس الغربى والمثقف الغربى تتجلى فى نكران الآخر والتشكيك فى قيمة ما لديه من علوم وحضارة وفى اعتبار النموذج الغربى هو الأفضل وهو المحك والمعيار لكل ما عداه من النماذج الأخرى.
يمضى ويلش فى هذا الاتجاه فيستعرض بعض آيات الدعاء والرجاء وآيات التنزيه للذات الإلهية عن مشابهة الحوادث فيعتبر بعضها، كآية الكرسى على سبيل المثال، خرافة، كما أنه يزعم أن صيغ الأدعية القرآنية يختلط فيها كلام الله تعالى بكلام البشر، وقد بينا خطأ هذه المقولة الواهية فى أكثر من موضع فى هذا الكتاب.
فسورة الفاتحة وحدها هى التى يجب قراءتها فى كل صلاة، والقرآن يتضمن الكثير من الأدعية بصفة عامة والدعاء فى الإسلام مخ العبادة وقد أمر الله تعالى عباده أن يدعوه ووعدهم بالاستجابة.
ويتضمن القرآن دعوات دعا بها أنبياء الله كما ورد عن يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحََادِيثِ فََاطِرَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصََّالِحِينَ} (101) (يوسف: 101)، هذا دعاء قدم له
__________
(1) انظر ابن عطية، المحرر الوجيز 1/ 96.(1/338)
يوسف بالإقرار بالخالقية والولاية لله عز وجل وبقطع الأسرار عن الأغيار وبأنه لا يعرف له وليّا فى الدارين إلا هو سبحانه وتعالى وقيل فى الآية: إنه لما علم نبى الله يوسف أنه ليس بعد الكمال إلا الزوال، سأل الله تعالى أن يتوفاه وقيل: من أمارات الاشتياق تمنى الموت على بساط العوافى لم يتمنّ يوسف الموت عند ما ألقى به فى غيابة الجب، ولم يقل توفنى مسلما، كذلك، عند ما بيع كالعبيد أو عند ما حبس فى السجن بضع سنين لكنه لما تم له الملك، واستقام له الأمر، ولقى الأهل ورفعهم معه على العرش، اشتاق للقاء الله فقال: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصََّالِحِينَ} (1)، لأنه ليس بعد الكمال إلا الزوال والارتحال.
وقال سليمان عليه السلام: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى ََ وََالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صََالِحاً تَرْضََاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبََادِكَ الصََّالِحِينَ} (19) (النمل: 19) جاء هذا الدعاء على لسان نبى الله سليمان عليه السلام وكان دعاء امرأة فرعون: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظََّالِمِينَ} (11) (التحريم: 11) فالدعاء إذن طريقة من طرق الاتصال بالله تعالى، ومخاطبته عز وجل فى السر والعلن، واللجوء إليه عند نزول الحاجة أو المصيبة أو المرض أو عند الاضطراب النفسى، واستحكام اليأس، وعند قلة ذات اليد.
يقول تعالى: {وَإِذََا سَأَلَكَ عِبََادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدََّاعِ إِذََا دَعََانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (186) (البقرة: 186) {وَلََا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلََاحِهََا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللََّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (56) (الأعراف: 56).
__________
(1) الإمام عبد الكريم القشيرى. لطائف الإشارات: القاهرة. الهيئة العامة للكتاب 11981/ 210.(1/339)
الفصل السابع موضوعات قرآنية أخرى
وفى فقرة صغيرة فى هذا الباب أشار ويلش إلى موضوعات أخرى يحتوى عليها القرآن مثل آيات التعزية والتسلية لقلب محمد صلى الله عليه وسلم والتى أعطته قوة وثقة فى نصر الله تعالى له ولدينه وأمته، حتى صبر لحكم الله وفاز أخيرا بنصره ورضاه.
ويشير الكاتب كذلك إلى ما جاء فى القرآن من آيات تتحدث عن الموت وعن يوم القيامة وتصوير القرآن للحياة الآخرة ومواقف الحساب والعقاب ومشاهد الجنة والنار، وتلك الآيات تخاطب المؤمنين بخاصة والناس كافة بمثل هذه الصيغ: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ} {يََا بَنِي آدَمَ} {يََا أَيُّهَا الْإِنْسََانُ} إلخ.
حقا لقد تكلم القرآن عن الدار الآخرة كما تكلم عن الدار الدنيا وبنفس التأكيدات والإلزامات والحجج البينات، بل إن الحديث عن الآخرة قد ارتبط ارتباطا وثيقا وملازما بالحديث عن شئون الدنيا فى السياق القرآنى وذلك لأن الناس بطبيعتهم ميالون إلى حب الدنيا والانهماك فى ملاذها ومتعها، وقليل ما هم هؤلاء الذين يؤثرون الآخرة على الدنيا والباقى على الفاني والرخيص العاجل ذى القيمة الآجل. لقد أنكرت اليهودية الوضعية الحياة الآخرة وجهل اليهود بالتالى البعث والنشور والحساب والعقاب والجنة والنار، وآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، والآخرة خير وأبقى. وصاروا يهتبلون الحياة المادية فهم كما وصفهم الله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النََّاسِ عَلى ََ حَيََاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمََا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذََابِ أَنْ يُعَمَّرَ} (البقرة: 96).
وفى كتب اليهود ما يدل على = أن الناس كالعشب، إذا ماتوا نسوا = كما فى (المزمور 103: 1613)، = كما يترأف الأب على البنين يترأف الرب على خائفيه لأنه يعرف جبلتنا يذكر أننا تراب نحن. الإنسان مثل العشب أيامه كزهر الحقل كذلك يزهر
لأن ريحا تعبر عليه فلا يكون ولا يعرف موضعه بعد = (1). وجاء فى سفر أيوب (14: 131): = الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعبا يخرج كالزهر ثم ينحسم ويبرح كالظل ولا يقف. إن للشجرة رجاء إن قطعت تخلف أيضا ولا تعدم خبرا عيبها.(1/341)
وفى كتب اليهود ما يدل على = أن الناس كالعشب، إذا ماتوا نسوا = كما فى (المزمور 103: 1613)، = كما يترأف الأب على البنين يترأف الرب على خائفيه لأنه يعرف جبلتنا يذكر أننا تراب نحن. الإنسان مثل العشب أيامه كزهر الحقل كذلك يزهر
لأن ريحا تعبر عليه فلا يكون ولا يعرف موضعه بعد = (1). وجاء فى سفر أيوب (14: 131): = الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعبا يخرج كالزهر ثم ينحسم ويبرح كالظل ولا يقف. إن للشجرة رجاء إن قطعت تخلف أيضا ولا تعدم خبرا عيبها.
ولو قدم فى الأرض أصلها ومات فى التراب جزعها، فمن رائحة الماء تفرخ وتنبت فروعا كالغرس. أما الرجل فيموت ويبلى. الإنسان يسلم الروح فأين هو قد تنفد المياه من البحيرة، والنهر ينشف ويجف. والإنسان يضطجع ولا يقوم. ولا يستيقظون حتى لا تبقى السماوات ولا ينتبهون من نومهم =.
وحتى عند ما اتضحت فكرة البعث عند بعض طوائف اليهود كالربانيين الذين عرفوا باعتقادهم فى البعث فإنهم قد ربطوا البعث عادة بوقت ظهور المسيح المنتظر، مما يجعله أقرب فى مفهومه إلى بعث مادي من نوع خاص على هذه الأرض منه إلى البعث بمعناه القرآنى وأحيانا ما يقصر اليهود البعث، أى العودة إلى الحياة مرة أخرى، على الصالحين دون الأشرار، أو على اليهود دون غيرهم وهم يعتقدون أيضا بما يمكن أن نسميه بالبعث القومى وليس بعث الأشخاص (2) بالمعنى الذى يعرفه المسلم.
ومن بعد اليهود جاء النصارى فأثبتوا البعث لكنهم قصروه على البعث الروحانى لا الجسمانى وأنكروا النعيم والعذاب الحسيين على الرغم مما فى كتبهم من بعض العبارات التى تؤكد هذه المعانى (3) التى جاء بها الإسلام.
كذلك أنكر الفلاسفة الماديون والحسيون البعث والنشور فلم يروا وراء هذا العالم المحسوس عالما آخر، ولا بعد هذه الحياة الواقعة حياة أخرى. وكان الدهريون يرددون ما قاله القرآن عنهم: {وَقََالُوا مََا هِيَ إِلََّا حَيََاتُنَا الدُّنْيََا نَمُوتُ وَنَحْيََا وَمََا يُهْلِكُنََا إِلَّا الدَّهْرُ}
(الجاثية: 24) والدهر هنا بمعنى الزمان.
__________
(1)،،). (.،
8891.: 762.
(2). .. .. (
)،،، 8391 (. 155.
(3).، 5. 07.(1/342)
وقد أنكر البعث والحياة الآخرة أصحاب الديانات المادية والملل الوثنية كعبّاد الأوثان وعبّاد الظواهر الطبيعية والأسلاف والطواطم. من أجل ذلك جاء الحديث عن الآخرة معادلا للحديث عن الدنيا وموازيا له تقريبا فى السياق القرآن، وجاءت كذلك آيات القرآن الخاصة بما وراء الحياة الحاضرة جد مفصّلات وغاية فى البيان والإيضاح. فإذا تكلم القرآن عن الغيب مثلا صوره لك وكأنه عالم الشهود، وإذا تكلم عن الجنة جعلت تحس وجودها وتتنسم ريحها وتتصور رواءها وبهاءها وتتمثل حسنها وجمالها وإذا تكلم القرآن من ناحية أخرى عن النار خلت نفسك تحس بلظاها وتلمس حرها وأذاها حتى لتكاد نارها تشوى جلدة وجهك وتنال لحمك وعظمك وتجعل دمك يجرى فى عروقك كأنه المهل أو الحميم الآن. ولقد رد القرآن من خلال هذه الأوصاف والمشاهد الحياة الآخرة إلى وعى الناس وإدراكهم وقرب منهم ما غاب عنهم وألزمهم الحجة فيما أنكرته عقولهم وغفلت عنه قلوبهم، وجحدته نفوسهم ولقد جعل القرآن المعجز عالم الشهادة وعالم الغيب سواء فى حس المؤمن الصادق فصار المؤمن الحق يعمل لدنياه، كأنه يعيش فيها أبدا، ويعمل لآخرته كأنه سيموت غدا، ويتحول عنها.(1/343)
وقد أنكر البعث والحياة الآخرة أصحاب الديانات المادية والملل الوثنية كعبّاد الأوثان وعبّاد الظواهر الطبيعية والأسلاف والطواطم. من أجل ذلك جاء الحديث عن الآخرة معادلا للحديث عن الدنيا وموازيا له تقريبا فى السياق القرآن، وجاءت كذلك آيات القرآن الخاصة بما وراء الحياة الحاضرة جد مفصّلات وغاية فى البيان والإيضاح. فإذا تكلم القرآن عن الغيب مثلا صوره لك وكأنه عالم الشهود، وإذا تكلم عن الجنة جعلت تحس وجودها وتتنسم ريحها وتتصور رواءها وبهاءها وتتمثل حسنها وجمالها وإذا تكلم القرآن من ناحية أخرى عن النار خلت نفسك تحس بلظاها وتلمس حرها وأذاها حتى لتكاد نارها تشوى جلدة وجهك وتنال لحمك وعظمك وتجعل دمك يجرى فى عروقك كأنه المهل أو الحميم الآن. ولقد رد القرآن من خلال هذه الأوصاف والمشاهد الحياة الآخرة إلى وعى الناس وإدراكهم وقرب منهم ما غاب عنهم وألزمهم الحجة فيما أنكرته عقولهم وغفلت عنه قلوبهم، وجحدته نفوسهم ولقد جعل القرآن المعجز عالم الشهادة وعالم الغيب سواء فى حس المؤمن الصادق فصار المؤمن الحق يعمل لدنياه، كأنه يعيش فيها أبدا، ويعمل لآخرته كأنه سيموت غدا، ويتحول عنها.
الباب الثامن القرآن فى حياة المسلمين وفكرهم(1/345)
الباب الثامن القرآن فى حياة المسلمين وفكرهم (1)
يرى ويلش أن القرآن بالنسبة للمسلمين، يعتبر شيئا أبعد بكثير جدا من أن يكون مجرد كتاب مقدس، أو نص أدبي ديني، بالمفهوم الغربى المعتاد ولكننا مع هذا لا نوافقه البتّة على أن اهتمام المسلمين، بالقرآن جعلهم يكتفون بتناقله شفهيا فحسب طوال حياة النبى صلى الله عليه وسلم. فالقرآن بخلاف ما يدّعي هذا الكاتب كان يتناقل شفهيا وكتابيا بعناية وضبط بالغين. وقد سبق أن عرضنا لهذه الدعوى، وناقشناه وعارضناه فيها بالدليل الدامغ، وأثبتنا للقارئ بكل وضوح سلامة النص القرآنى من كل دخيل، واستحالة تحريفه بأي وجه من وجوه التحريف والتبديل فقد كان مكتوبا محفوظا فى صدور المسلمين، كبارا وصغارا، نساء ورجالا، فى حياته صلى الله عليه وسلم، ومحفوظا عمليّا كذلك فى أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وأخلاق أصحابه الأولين الذين كانوا قرآنيين سمتا وسلوكا فقد اهتموا بالقرآن، وجعلوا فيه وجدهم ووكدهم، وضبطوا حياتهم على أحكامه، وترنموا به ليلهم ونهارهم، قرءوه مرارا فى صلواتهم وعباداتهم، وتلوه سرا وجهرا فى جماعة أو مع أنفسهم، وحكّموه فى قضاياهم، وفى خصوماتهم، ومناكحهم، وجنائزهم، وتعليمهم، ومدارستهم، ومحاوراتهم وقدموا فى كل ما كتبوه دليل القرآن على دليل العقل وينبغى أن يكون معلوما أن كون الصحابة تلقوا القرآن واهتموا به وحفظوه لا يعنى مطلقا أن القرآن لم يكن مكتوبا ولا مجموعا فى الصحف هذا ما لا يتصوره عاقل.
إن جميع المنافذ إلى الطعن فى جمع القرآن مسدودة فى وجه الكاتب، وفى وجه المستشرقين والمستغربين من المسلمين وقد أثبتنا أن المصحف كان مكتوبا على صحف، وأباطى، وعظام، وجلود، وجريد نخل، وعلى الأحجار المستدقة المستطيلة، وغيرها، فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم ثم نقل إلى الصحف فى عهد أبى بكر، ثم ضبطت الكتابة والقراءة على مثال قراءته صلى الله عليه وسلم فى العرضة الأخيرة فى مصحف عثمان هذا من المقرر الثابت.
__________
(1) هذا الموضوع لا يحتمل التقسيم إلى فصول كالأبواب السابقة، نظرا لوحدة موضوعه.(1/347)
ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى موضوع آخر له أهميته وأثره فى التاريخ الإسلامى، وفى تشكيل العقلية الجدلية أو الفلسفية عند المسلمين، ذلك هو موضوع = تأثير القرآن فى علم الكلام الإسلامى وتوجيهه له = والقرآن فى الحقيقة وواقع الأمر يمثل قاعدة الاعتقاد والتشريع والأخلاق الإسلامية ومصدرها وهو كذلك يمثل القاعدة والسناد للعقلية الإسلامية، وهو ينبوع العلوم والمعارف الإسلامية، وأسّ حضارة العرب والمسلمين ورأسها.
فالعرب لم يكونوا من أهل الجدل ولا من أهل الفلسفة والنظر، ولم تقم بينهم كذلك مدارس فكرية ولا مذاهب عقائدية، ولا تيارات سياسية، ولا خصومات عقلية مذهبية قائمة على البحث والتفكر والتقعيد والتنظير، والرد والمعارضة. ولقد استمر العرب على هذا الحال حتى جاء القرآن فأعاد صياغة العقلية العربية، ورأب صدعها، وعدّل اتجاهها، ووسع آفاقها، وجبر عجزها، وفتح أمامها عوالم جديدة، وأمدها بفيوضات من العلوم والآداب لم تكن تعرفها، ولا تصوّب النظر إليها، ولا تبلغها مطيها. لقد أوجد القرآن لنفسه المؤيدين له والمعارضين وبين التأييد والمعارضة، تتفتح أزهار الأفكار وتنطلق الآراء من أكمامها، وتتلاقح العقول وتفيض العلوم وتبرز المعارف. وتاريخ الفكر الإنساني كله لا يعدو أن يكون كذلك تاريخا للاحتكاك بين المؤيد والمعارض، بين المؤمن المسلم والجاحد الشاك، بين الباحث الوقاف على الحق والملحد المندفع إلى الإلحاد والكفر، مع اللجاجة إلى غير مدى وعلى غير هدى. القرآن هو مصدر علم الكلام الإسلامى ومركز عصبه وإذا رحنا نتلمس مصادر أخرى لهذا العلم المهم، والذى ولّد هو بدوره علوما أخرى مهمة كذلك، كنا كمن يبحث عن اللآلئ فى رمال الصحراء وعن النخيل فى قاع المحيط. القرآن هو أصل علم الكلام، وهو أيضا أهم موضوعاته فالمتكلمون قد أمعنوا فيما احتوى عليه القرآن من العقائد والنبوات، ومن الوحدانية والتّنزيه المطلق للذات، وصفات الله تعالى، والنبوة، وعصمة الأنبياء، والوحى، وطرق الخطاب الإلهى، والقضاء والقدر، والخير والشر، والجبر والاختيار، والكبائر والصغائر، والثواب والعقاب إلى آخر ما هنالك من الموضوعات التى جاء بها القرآن. لم يجد علماء الكلام مندوحة فى أن يبحثوا فى الأصل ذاته أعنى القرآن وذلك باعتبار تعلقه بصفة الكلام فاختلفوا لما نظروا، هل
لله صفات، وهل الصفات بمعنى الذات أم هى زائدة عليها وهل هى ملازمة أم مفارقة؟(1/348)
فالعرب لم يكونوا من أهل الجدل ولا من أهل الفلسفة والنظر، ولم تقم بينهم كذلك مدارس فكرية ولا مذاهب عقائدية، ولا تيارات سياسية، ولا خصومات عقلية مذهبية قائمة على البحث والتفكر والتقعيد والتنظير، والرد والمعارضة. ولقد استمر العرب على هذا الحال حتى جاء القرآن فأعاد صياغة العقلية العربية، ورأب صدعها، وعدّل اتجاهها، ووسع آفاقها، وجبر عجزها، وفتح أمامها عوالم جديدة، وأمدها بفيوضات من العلوم والآداب لم تكن تعرفها، ولا تصوّب النظر إليها، ولا تبلغها مطيها. لقد أوجد القرآن لنفسه المؤيدين له والمعارضين وبين التأييد والمعارضة، تتفتح أزهار الأفكار وتنطلق الآراء من أكمامها، وتتلاقح العقول وتفيض العلوم وتبرز المعارف. وتاريخ الفكر الإنساني كله لا يعدو أن يكون كذلك تاريخا للاحتكاك بين المؤيد والمعارض، بين المؤمن المسلم والجاحد الشاك، بين الباحث الوقاف على الحق والملحد المندفع إلى الإلحاد والكفر، مع اللجاجة إلى غير مدى وعلى غير هدى. القرآن هو مصدر علم الكلام الإسلامى ومركز عصبه وإذا رحنا نتلمس مصادر أخرى لهذا العلم المهم، والذى ولّد هو بدوره علوما أخرى مهمة كذلك، كنا كمن يبحث عن اللآلئ فى رمال الصحراء وعن النخيل فى قاع المحيط. القرآن هو أصل علم الكلام، وهو أيضا أهم موضوعاته فالمتكلمون قد أمعنوا فيما احتوى عليه القرآن من العقائد والنبوات، ومن الوحدانية والتّنزيه المطلق للذات، وصفات الله تعالى، والنبوة، وعصمة الأنبياء، والوحى، وطرق الخطاب الإلهى، والقضاء والقدر، والخير والشر، والجبر والاختيار، والكبائر والصغائر، والثواب والعقاب إلى آخر ما هنالك من الموضوعات التى جاء بها القرآن. لم يجد علماء الكلام مندوحة فى أن يبحثوا فى الأصل ذاته أعنى القرآن وذلك باعتبار تعلقه بصفة الكلام فاختلفوا لما نظروا، هل
لله صفات، وهل الصفات بمعنى الذات أم هى زائدة عليها وهل هى ملازمة أم مفارقة؟
وهل كلام الله قديم؟ وهل القرآن باعتباره كلام الله مخلوق أم غير مخلوق؟ وكان أول من قال = القرآن مخلوق = هو الجعد بن درهم، مؤدب مروان بن الحكم آخر خلفاء بنى أمية، وكان زنديقا فاحش الرأى قبيح اللسان، وصاحبه الجهم بن صفوان، وهو من الزنادقة أيضا، وقد أثارت آراؤه الفتنة بين المسلمين، فى خلافة الرشيد، حتى قتله خالد القسري، بأمر هشام بن عبد الملك عام 118هـ ويرجع تاريخ القول بخلق القرآن أصلا إلى لبيد بن الأعصم اليهودى الذى كان يقول: = إن التوراة مخلوقة، فالقرآن كذلك مخلوق = (1).
وأول من عرف بالقول بأن كلام الله تعالى قديم، هو عبد الله بن سعيد بن كلاب ثم افترق أصحابه، فمنهم من قال كلام الله معنى واحدا قائما بذات الله تعالى، ومعنى القرآن كله وكتب الأنبياء السابقين هو ذلك المعنى الواحد الذى لا يتعدد ولا يتبعض وهذا كلام فاسد، لا يقوم عليه دليل نقلي أو عقلي إذا كان كلام الله واحدا كما يزعم الكافر، فكيف إذن صار بعضه توراة، والبعض الآخر صحفا وزبور ومزامير وإنجيلا وقرآنا؟ وكيف تنوع فيه الخطاب بين الأمر والنهى، والجواز والوجوب، والصلاة والزكاة والصوم والحج، والأفعال والصفات، وأوصاف الجنة والنار، والتقوى والنفاق، والكفر والإيمان، والزواج والطلاق، والمتعة والنفقة، والمدح والقدح، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب، والقصة والمثال، والناسخ، والمحكم والمتشابه (2). إن اعتقاد السلف فى القرآن أنه كلام الله، وما يسمعه الناس بآذانهم، ويقرءونه بأصواتهم، ويكتبونه بأيديهم فى قراطيسهم وبأحبارهم، وما بين اللوحين كلام الله تعالى، وكلام الله غير مخلوق.
والله سبحانه وتعالى يقول: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (22) (البروج: 2221). فرق الله تعالى بين القرآن واللوح، وهكذا فالقرطاس، واللوح الذى يكتب عليه القرآن، والمداد الذى يكتب به، كلها أدوات مخلوقة كائنة فى زمان ومكان معينين. وكذلك صوت قارئ القرآن هو مخلوق، وصادر عنه من فمه وحنجرته ورئته.
ويتضح هذا من قول رسول الله = زينوا القرآن بأصواتكم =. فنسب الأصوات إلينا لا
__________
(1) انظر مصطفى صادق الرافعى. إعجاز القرآن والبلاغة النبوية دار الفكر العربى 1926ص 143.
(2) انظر: الإمام بن تيمية. رسائل وفتاوى. ط. الرياض ص 3/ 28، 29.(1/349)
القرآن، وهذا التفريق له معناه، إذ القرآن كلام البارئ، والصوت صوت القارئ ومنه قول أبى موسى الأشعرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد استمع ذات ليلة إليه وهو يقرأ القرآن فى بيته، وأبو موسى لا يدرى، فلما أخبره النبى صلى الله عليه وسلم قال: = لو علمت أنك تسمع (أى قراءتي للقرآن) لحبرته لك تحبيرا =. أى زينته واجتهدت فى تجويده والتغنى به (1). أما القرآن نظمه، ونقطه وحروفه، فكلام الله غير مخلوق هذا هو اعتقاد المسلمين فى القرآن، كما لاحظ الكاتب بحق. كان علماء الكلام وهذا أمر طبيعى جدا قد بدءوا يناقشون مسألة طبيعة القرآن، هل هو قديم باعتباره كلام الله تعالى الذى نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم؟ أم هو مخلوق، باعتبار دخوله عالم الكون والفساد؟ بدأ ذلك النقاش، إبان خلافة هارون الرشيد، واشتد الجدل فيه، فى خلافة المأمون العباسى وبعده، حيث أعلن المأمون فى 212هـ / 833م، تحت تأثير آراء المعتزلة الذين قالوا بأن القرآن مخلوق، وليس قديما وكان هدف المأمون من وراء هذا التصريح، فى الأغلب، سياسيا لا دينيا. ولذلك فقد صار مجالا للجدل الشديد، إذ هبّ الفقهاء، على عكس ما قدّر المأمون ودبّر فأنكروا القول بخلق القرآن، وقادوا حملة حامية ضده، وصلت إلى حد تكفير كل من قال بخلق القرآن هذا مع أن المسألة لم تعد أن تكون نقاشا عقليا، وعملا فكريا، لا يذهب البتّة بعقيدة معتقديه.
بدأت المحنة منذ عام 218هـ / 833م، واستمرت عشرين عاما، وكان بطلها ومجاهدها الأول من العلماء، هو الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه فقد وقف فى وجه الخصوم لم ينحن، ولم ينثن وقد انفض الناس عنه، خوفا أو تقية وقد عبر الإمام أحمد عن هذا بقوله، رواية عن ابنه عبد الله: = الحمد لله الذى جعل فى كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون فى الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة
__________
(1) المصدر نفسه 29، 30.(1/350)
الكتاب، يقولون على الله، وفى الله، وفى كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم = (1). فى هذه الأثناء كان القول بخلق القرآن حتما مقضيا، فرضته السياسة العليا للخلافة، فقد أوجبت أن يعترف به كلّ من يعمل فى الخلافة، أو يتصل بها بسبب، وكان خصوم العقيدة السلفية، يروّجون الفكرة بأن الله لم يتكلم وكان أهل السنة يصفون هؤلاء بالجهمية.
يقول الإمام أحمد بن حنبل فى معنى قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذََا هَوى ََ} (النجم: 1) = إن قريشا قالوا: إن القرآن شعر وقالوا: أساطير الأولين وقالوا: أضغاث أحلام وقالوا تقوّله محمد من تلقاء نفسه وقالوا: تعلمه من غيره فأقسم الله تعالى بالنجم إذا هوى، يعنى القرآن الجزء إذا نزل، أو الكوكب إذا سقط، فقال: {وَالنَّجْمِ إِذََا هَوى ََ (1) مََا ضَلَّ صََاحِبُكُمْ}، يعنى محمدا، {وَمََا غَوى ََ (2) وَمََا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ََ} يقول: إن محمدا لم يقل هذا القرآن من تلقاء نفسه: {إِنْ هُوَ} يعني: ما القرآن، {إِلََّا وَحْيٌ يُوحى ََ}، فأبطل الله أن يكون القرآن شيئا غير الوحى، لقوله: {إِنْ هُوَ}، تقول: ما هو {إِلََّا وَحْيٌ يُوحى ََ} ثم قال: {عَلَّمَهُ}، يعنى علّم محمدا جبريل صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى، وهو: {شَدِيدُ الْقُوى ََ (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ََ}، إلى قوله تعالى: {فَأَوْحى ََ إِلى ََ عَبْدِهِ مََا أَوْحى ََ} (10) فسمى الله القرآن وحيا، ولم يسمّه خلقا أو مخلوقا (2).
وردّا على اعتراض الجهم بن صفوان فى تعلقه بلفظة (شيء) باعتبارها إشارة إلى كل مخلوق، وما دام الله قد خلق كل شيء، فالقرآن مخلوق باعتباره داخل فى عموم الأشياء المخلوقة قال: فلم لا يكون القرآن مع الأشياء المخلوقة، وقد أقررتم أى أنتم أهل السنة أنه شيء. يقول الإمام أحمد: = فلعمري، لقد ادعى أمرا أمكنه فيه الدعوى، ولبس على الناس بما ادعى، فقلنا: إن الله فى القرآن لم يسم كلامه شيئا، إنما سمى شيئا الذى كان يقوله، ألم تسمع إلى قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمََا قَوْلُنََا لِشَيْءٍ إِذََا أَرَدْنََاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (40) (النحل: 40) فالشيء ليس هو قوله إنما الشيء الذى كان بقوله
__________
(1) الرد على الزنادقة والجهمية ضمن كتاب عقائد السلف ص 54.
(2) المصدر السابق.(1/351)
وفى آية أخرى: {إِنَّمََا أَمْرُهُ إِذََا أَرََادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (82) (يس: 82)، فالشيء ليس هو أمره، إنما الشيء الذى كان بأمره. ومن الأعلام والدلالات أنه لا يعنى كلامه مع الأشياء المخلوقة، قال الله للريح التى أرسلها على عاد قوم هود عليه السلام: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهََا} (الأحقاف: 25)، وقد أتت تلك الريح على أشياء لم تدمرها، منازلهم، ومساكنهم، ولم تدمرها، وقال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}، فكذلك إذا قال: {خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}
(الأنعام: 102) لا يعنى نفسه، ولا علمه، ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة (1). وإلا لجاز أن نقول: إن القرآن دمرته هذه الريح باعتباره شيء على قولهم السقيم المرذول.
قال أبو حامد الأسفرايني: = مذهبي ومذهب الشافعى وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل مسموعا من الله، والنبى صلى الله عليه وسلم سمعه منه، والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذى نتلوه نحن بألسنتنا، وفيما بين الدفتين، وما فى صدورنا مسموعا ومكتوبا ومحفوظا، وكل حرف منه، كالباء، والتاء، كله كلام الله غير مخلوق ومن قال = مخلوق = فهو كافر، عليه لعائن الله والناس أجمعين = (2) وعند الحنابلة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وكلام له حرف، وهو منزل من السماء، والمكتوب فى المصحف كلام قديم، وكذا المقروء والمسموع، ولا فرق بين القراءة والمقروء. ونقول إضافة إلى ذلك إن القرآن لو كان حادثا غير قديم لأمكن للإنسان الحادث أن يأتى بمثله، وهو ما نفاه القرآن نفسه عن القرآن. وذكر الإمام أبو حنيفة (ت:
150/ 717هـ) فى كتاب = الفقه الأكبر = أن: = القرآن كلام الله تعالى، فى المصاحف مكتوب، وفى القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبى صلى الله عليه وسلم منزل ولفظنا بالقرآن = مخلوق = وكتابتنا له = مخلوقة =، وقراءتنا له مخلوقة، والقرآن غير مخلوق وما ذكر الله تعالى فى القرآن حكاية عن موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعن فرعون، وإبليس فإن ذلك كله إخبار عنهم، وكلام الله تعالى غير مخلوق، وكلام موسى
__________
(1) انظر كتاب الرد على الزنادقة والجهمية ضمن كتاب عقائد السلف للأئمة أحمد بن حنبل والبخارى وابن قتيبة وعثمان الدارمى ص 75، 76.
(2) ابن تيمية. رسائل وفتاوى 3/ 32، 33، وانظر أيضا الوهان محمد بن محمد الغزالى وإحياء علوم الدين، بيروت دار الكتب العلمية 1412هـ 1992م.(1/352)
وغيره من المخلوقين مخلوق، والقرآن كلام الله تعالى، فهو قديم لا كلامهم. = (1)
هذا الكلام دامغ لدعوى خصوم أبى حنيفة البطالين الذين رموه بفرية القول بخلق القرآن وهو منها براء. وفى هذا النص أيضا تكذيب لدعوى المستشرق = ونسينك = الذى زعم متابعة لخصوم أبى حنيفة أن الإمام الورع، كان يقول بخلق القرآن (2) ينبغى هنا أن نصحح عبارة ويلش الخاصة ب = كتاب الفقه الأكبر = إذ قد فهم خطأ أن = ونسينك = هو الذى أسماه هكذا أى = الفقه الأكبر = كما توحى به عبارته، وهذا خطأ فالتسمية ليست لونسينك وإنما لمؤلف الكتاب نفسه، على أى حال، فقد نقل الكاتب عن ونسينك قوله بأن هذا الكلام لم يرق للإمام ابن تيمية، ولكن قبل أن نعرض موقف ابن تيمية من هذه القضية نشير إلى ما أورده فخر الإسلام عن أبى يوسف تلميذ أبى حنيفة قال: = قد صح عن أبى يوسف أنه قال: = ناظرت أبا حنيفة فى مسألة خلق القرآن فاتفق رأيي ورأيه على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر وصح هذا القول عن محمد رحمه الله = (3).
أما عن ابن تيمية فإنه يقول = إن قول القائلين بخلق القرآن خطأ ومحرم وزعم فاحش بإجماع المسلمين، وهو منكر من القول وزور، ويجب النهى عنه، وينبغى على الولاة معاقبة من يقول بذلك فإن هذا القول مخالف للعقل والنقل والدين مناقض للكتاب والسنة وإجماع المؤمنين والقول به بدعة شنيعة لم يقلها البتّة أحد علماء المسلمين، ولا من علماء السنة، ولا من علماء البدعة، ولا يقولها عاقل يفهم ما يقول =. وبعد كلام طويل، قال الإمام ابن تيمية: = ومن المشهور فى كتاب = صريح السنة = لمحمد بن جرير الطبري، وهو متواتر عنه، لما ذكر الكلام فى أبواب السنة قال: = وأما القول فى ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر نعلمه عن صحابى مضى، ولا عن تابعى قفا، إلا عمن فى قوله الشفا والغنى، وفى اتباعه الرشد والهدى، ومن قام مقام الأئمة الأول أبى عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل. قال ابن جرير: سمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يحكون عنه أنه كان يقول: من قال لفظى بالقرآن مخلوق فهو جهمى، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع. قال ابن جرير:
القول فى ذلك عندنا لا يجوز أن يقول أحد غير قوله، إذ لم يكتبه إمام قائم به سواه، وفيه
__________
(1) انظر على سامى النشار. نشأة الفكر الفلسفى فى الإسلام الإسكندرية 1386/ 11966/ 237، 238.
(2) انظر: دائرة المعارف النص الإنجليزى 240
(3) الفقه الأكبر وشرحه ص 48، 49.(1/353)
كفاية لكل متبع، وقناعة لكل مقتنع، وهو الإمام المتبع (1).
وأفحش ما فى كلام الكاتب هنا هو تفسيره الخاطئ لكلام ابن تيمية وتحميله عليه ما ليس له ولا ينسجم البتّة مع عقيدته ومنهجه، حيث يزعم أن شيخ الإسلام يقرر أنه قبل أحمد بن حنبل لم يكن أحد يتكلم فى موضوع القرآن من حيث كونه مخلوقا أو غير مخلوق، إلى هذا الحد، فالكلام مستقيم فى نصه، ولكنه ملتو بلا شك ومعوج فى تفسيره، إذ يدعى ويلش أنه بينما قرر علماء السلف الصالح، ومنهم ابن حنبل، كون القرآن غير مخلوق، لم يثبتوا له الأبدية أو السرمدية!! كيف؟، وقد أجمع المسلمون على أن القرآن، هو كلام الله القديم فهو إذن أزلى سرمدى، هذا لا يحتاج إلى إثبات أو توقيف، وكون السلف قد سكتوا عن الخوض فى هذه المسألة حتى جاء الإمام أحمد بن حنبل فانتهض للقائلين بها، لا يعنى ما قصده المستشرق بالقطع وإنما كان سكوتهم سكوت اعتقاد وتسليم، إذ لم يكن هناك من الأسباب ما يضطرهم إلى الخوض فيه. ثم إن هذا السكوت لا يخدم غرض الكاتب كلا، ولا يعينه على تقرير النتيجة التى يحاولها أبدا، ثم إن عبارة = غير مخلوق = لم ترد بنصها فى محصل عقائد أهل السنة والجماعة إلا بعد محنة القول بخلق القرآن (2). وبغضّ النظر عن مدى صدق ونسينك فى تحديد تاريخ إطلاق عبارة = غير مخلوق = على القرآن فإن مجمل القرآن نفسه يفيد أنه غير مخلوق وغير قابل للمحاكاة. والآيات فى تأكيد ذلك كثيرة.
ينقل الكاتب أيضا، بالإضافة إلى النقطة السابقة، عن بعض المستشرقين وهو =. = بالتحديد من كتابه أصول الجدل حول مسألة خلق القرآن ومقال مونتجمرى وات = .. = المبكرة فى موضوع خلق القرآن يزعم المستشرقون أن عبارة اللوح المحفوظ وعبارة = أم الكتاب = لم تظهر ضمن النصوص الجدلية التى أنتجتها مجادلات علماء الكلام المسلمين إلا فى وقت لاحق، وبعد محنة القول بخلق القرآن، وقد فندنا هذا الزعم ودحضناه، على أن عدم استخدام عبارة = خلق القرآن = قبل المحنة لا يستدعى بالضرورة أن المسلمين كانوا لا يعتقدون بقدم القرآن، فاللغة العربية كانت
__________
(1) ابن تيمية. رسائل وفتاوى 3/ 5، وقارن بما جاء فى كتاب الرد على الزنادقة والجهمية لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل. ضمن عقائد السلف ص 7975.
(2). 103، 127، 103، 172، 189.(1/354)
معروفة قبل معرفة قواعدها، وكذلك الشعر عرف وسار ودار قبل معرفة علم العروض.
ومهما يكن الأمر، فإن هذه المحنة قد عادت على الأمة بنتيجة إيجابية تتمثل فى التمسك الأشد وبالإيمان الأقوى بالإمامة الرشيدة لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل رضي الله عنه، كما أنها أنتجت للأمة على الجانب الآخر آدابا سامقة، وعلوما رفيعة، وفلسفات عميقة، وتأملات منتجة، وأفكارا ولودا، أثرت الجانب الفكرى للإسلام وأسست له صرحا عاليا فى مجال العلم والجدل والمنهجية والتنظير والتقعيد على كل الجوانب وفى كل الاتجاهات، وتعد تلك المحنة بحق أمارة على حيوية هذا الدين وعلى قدرته الفائقة فى استنهاض العقول وإثارة الأذهان مع رسوخ العقيدة وتنامى الإيمان. فالإسلام مهما تكاثرت ثماره وامتدت فروعه، ومهما حطت الطيور على أغصانه لا ينكسر جذعه، ولا يهتز ساقه، ولا يذبل عوده بل يزداد أعلاه سموقا وجنى ونضارة، ويزداد أسفله بالاحتكاك كذلك قوة ورسوخا وصلابة. وهذه هى عظمة القرآن، ولولا المحنة لما كان علم الكلام، ولما استوى للمسلمين حركة فكرية على قدمين. وعلم الكلام ليس بأقل أهمية من علم الفقه أو الأصول، وبخاصة عند مقارعة أهل الحضارات المادية وأصحاب الميول العقلية والاتجاهات الجدلية والفلسفية من أهل الأديان والحضارات الأخرى، ومع من كان طبعه كطبعهم وشربه كشربهم ومن تقلد طريقتهم وتشبه بهم.
يقول الإمام الغزالى عن علم الكلام: = وإنما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة، وحراستها عن تشويش أهل البدعة = (1) وينبغى علينا أن نحمل ما ورد عن بعض السلف فى ذم علم الكلام، على أنه كان نتيجة لما اقترن به أحيانا من مساوئ الجدل والخصومات، والمحن والتهم بين المتجادلين. وأيضا لما صاحب كثيرا من المتكلمين من قلة الورع، والتعصب الأعمى، والاستغناء بالتقعر فى البحث، والنظر عن العمل، والتأدب بأدب الإسلام، وترجمة القرآن إلى واقع ملموس فى حياة المسلمين.
__________
(1) المنقذ من الضلال القاهرة. دار المعارف ص 331. تحقيق الإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود ص 331. وقد حققناه وترجمناه إلى الإنجليزية انظر: أيضا ابن عساكر تبيين كذب المفترى ص 330.(1/355)
الباب التاسع ترجمة القرآن
الفصل الأول رأي علماء السلف فى الترجمة الفصل الثانى الترجمات المختلفة للقرآن الكريم(1/357)
الفصل الأول رأي علماء السلف فى الترجمة الفصل الثانى الترجمات المختلفة للقرآن الكريم
الفصل الأول رأى علماء السلف فى ترجمة القرآن
إذا كان القرآن معجزة فى لغته، لم يستطع أحد من أرباب البيان وأحبار اللغة العربية، نثرها وشعرها أن يأتوا بمثله، كله أو بعضه. فكيف إذن نتوقع أن ينقل القرآن إلى لغة أخرى، أى لغة كانت. إن العرب يعتزون بلغتهم، ويحتفون بها، إلى درجة يمكن معها القول بأن تاريخهم كله، وحضارتهم كلها، قامت على أساس لغوى أدبى، وكما أن الله اختار محمدا من بين خيرة الناس، اختار الله تعالى اللغة العربية كذلك من بين أحسن اللغات الإنسانية ليضمنها معانى القرآن، ويحملها مفاهيم الوحى، ومضامين الرسالة الإلهية الخالدة، ويجعلها فى الوقت نفسه رابطة أهل الإيمان وجامعة أهل القرآن.
يقول الوزير أحمد بن سعيد بن حزم والد إمام أهل الأندلس على بن حزم وشيخه:
= إنى لأعجب ممن يلحن فى مخاطبة أو يجيء بلفظة قلقة فى مكاتبة، لأنه ينبغى له إذا شك فى شىء يتركه، ويطلب غيره، فالكلام أوسع من هذا (1) ويقول الباقلانى: = إنا لا نجد فى القدر الذى نعرفه من الألسنة للشيء الواحد من الأسماء ما نعرف من اللغة (أي العربية)، وكذلك لا نعرف فيها الكلمة الواحدة تتناول المعانى الكثيرة على ما تتناوله العربية، وكذلك التصرف فى الاستعارات والإشارات، ووجوه الاستعمالات البديعة = (2).
والكلام فى سعة لغة العرب، ووفرة مفرداتها وعجيب توليداتها، وترامى آفاقها، محل إجماع بين أئمة هذه اللغة، والمنصفين من أهل اللغات الأخرى ممن درسوا العربية.
ولذلك كان من الطبيعى أن يبقى القرآن محفوظا ومدروسا فى لغته التى تحددت له بطريق الوحى، والقرآن ذاته يعي جيدا عظمة ذاته، وعلو رتبة لغته على سائر اللغات، وقد وردت بسمو جماله وشموخ إعجازه الآيات الكثيرة. ولقد أقبل الناس على القرآن يحفظونه، ويدرسونه، ويعملون به، يرتلونه فى صلواتهم ومناسباتهم الدينية، وفى مجامعهم
__________
(1) أبو عبد الله الحميدى (488هـ) جذوة المقتبس القاهرة دار المعرفة 1966ص 126
(2) الباقلانى. إعجاز القرآن ص 55.(1/359)
ومحالهم ومحافلهم، ويستنبطون منه الأحكام، ويستخرجون من بطون آياته الترياق الشافى، والنور الهادى والروح والراحة، والعزة والحمية وظل القرآن هكذا عربيا مبينا لم يستشعر النبى الحاجة إلى ترجمة معانيه، حتى بعد دخول أهل اللغات غير العربية فى الإسلام، وحتى أننا لنجده صلى الله عليه وسلم وهو يوجه برسائله إلى ملوك ورؤساء الأرض يوجهها بلغة عربية خالصة لم يتجه صلى الله عليه وسلم إلى الترجمة، هذا على الرغم من عموم رسالته، وحرصه الشديد صلى الله عليه وسلم على هداية البشر، ومداومة قرع أبواب قلوبهم للولوج إليها وتوجيهها إلى طريق الله رب العالمين وقد كان الصحابة يحضون على تعلم اللغة العربية. فمن كلام عمر فى هذا الصدد: = يا أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم فى جاهليتكم، فإن فيه تفسير كتابكم = وكتب إلى أبى موسى الأشعرى: = أما بعد فتفقهوا فى السنة، وتفقهوا فى العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربى = وفى رواية = تعلموا العربية فإنها من دينكم = قال ابن تيمية: = هذا الذى أمر به عمر رضي الله عنه من فقه العربية وفقه الشريعة يجمعها ما يحتاج إليه لأن الدين فيه أقوال وأعمال فقهية الشريعة هي الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو فقه أعماله =، وقال ابن تيمية أيضا: = إن تعلم اللغة العربية من الدين، والمعرفة وحي (1) وإنه لمن علم اليقين أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يعرف أن كتبا إلهية سابقة، قد نزلت بلغات أخرى، لغة القوم الذين بعث فيهم أصحاب الرسالات، والتي ترجمت فيما بعد إلى لغات أخرى، فلم يعب النبى صلى الله عليه وسلم ذلك عليهم، ولا حاول أن يقلدهم فيه ومن المعروف أيضا أن النبى صلى الله عليه وسلم قد أمر ثابت بن زيد أن يتعلم لغة يهود ليترجم له عنها، ويترجم عنه لأصحابها.
أضف إلى ذلك أن الله تعالى قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العالمين: {وَمََا أَرْسَلْنََاكَ إِلََّا رَحْمَةً لِلْعََالَمِينَ} (107) (الأنبياء: 107)، {قُلْ يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللََّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}
(الأعراف: 158) ولفظ = النّاس = فى الآية يعم جميع الخلق ويضمهم والمعروف بداهة أن الناس، فيهم العربى والعجمى الذى لا يفهم خطاب القرآن. أرسل النبى صلى الله عليه وسلم بالوفود والجيوش لتبليغ الدعوة واقتحام مناطق الكفر، وفتح البلدان لنور الرحمن، ومع هذا لم يأمر النبى صلى الله عليه وسلم البتّة بترجمة القرآن إلى لغات هذه الشعوب، لأجل هذا انتشر الإسلام وأقبل الناس على اللغة العربية يدرسونها ويمهرون فيها حتى صاروا فى معرفتها من ذوى الإمامة
__________
(1) ابن تيمية. اقتضاء الصراط المستقيم الرياض مطابع المجد التجارية ص 162، 163.(1/360)
والمشيخة، هذا على الرغم من اختلاف اللسان وتباين اللغات واللهجات وهذه الظاهرة فى ذاتها دليل على عظمة القرآن، ودليل على كونه معجزة الله الخالدة. إن القرآن هو الكتاب الوحيد من بين الكتب المقدسة الذى حافظ على اللغة التى نزل بها، ولم يتخل البتّة عن الحلل التى كساه إياها رب العالمين وخلعها عليه أحكم الحاكمين، ولا يزال القرآن على الرغم من وجود الترجمات الكثيرة إلى الآن يقرأ بلغته الأصلية فى كل بلاد المعمورة، فى الجامع والجامعة ولا يزال النص العربى للقرآن هو الأصل الذى يرجع إليه عند الاختلاف.
وقد ظهر دين الإسلام على جميع الأديان، وظهرت اللغة العربية على سائر اللغات التى فى العالم من أجل أن القرآن أكرم كتاب أنزله الله تعالى، وأشرف كلام أحكمه، وأنه لا يقدر أحد من الأمم على اختلافهم فى لغاتهم أن يحيله عما هو به من اللغة العربية إلى لغة غيرها لأنه لا يمكن أن ينقل البتة إلى لغة على ما هو به من الاختصار والإيجاز وعلى ما فيه من أسرار وإعجاز. (1)
هذه المعانى التى أشرنا إليها توضّح بجلاء خطأ الكاتب فى دعواه بأن القرآن نزل للعرب بخاصة وأنه من ثم لم يكن من أهداف صاحب الدعوة أن ينقله أو يبلغه إلى غير العرب، ولكنه (أى النبي) صلى الله عليه وسلم بعد أن فكر فى التوسع، وفى نشر الإسلام بين غير العرب، كما يزعم الكاتب، جاء بفكرة عموم الدعوة. إن هذا القول يظهر اجتهاد ويلش فى البعد عن الحقيقة لا فى التوصل إليها ولو أن الرغبة في نشر القرآن جاءت كرد فعل للفتوحات فقط، كما يزعم، لكان ذلك أدعى إلى ترجمته ليبلغه بسهولة إلى الخلق ويوصله إليهم إذ ما الحكمة فى أن ينتظر الفاتحون المنتصرون ويصبروا حتى يتعلم الصغير والكبير، والرجل والمرأة، اللغة العربية كي يتمكنوا من معرفة القرآن والإسلام، ويتفقهوا فى الدين ثم يترجم لهم القرآن بعد ذلك إلى لغاتهم؟!! ومن بدائه الأمور، فإن تعلم لغة ما، لا يفرض على أحد بالسيف، وتعلم اللغة والمهارة فيها، لا يكون عنوة أبدا ولو أن البلاد التى دخل أهلها الإسلام كانت تكره هذا الدين لكرهت اللغة العربية التى جاءهم بها هذا الدين أيضا، ولانصرفت عنها وثبطت
__________
(1) انظر رسائل إخوان الصفا. بيروت. دار صادر. 3/ 165164.(1/361)
الناس دونها ولكن العكس هو الصحيح. لقد دخل الناس فى الإسلام أفواجا، وأقبلوا على القرآن حفظا ودراسة وتبنوا لغة القرآن بشمولها واتساعها فى أحاديثهم، ومعاملاتهم، وفى تقييد أفكارهم، وضبط علومهم وثقافاتهم وآدابهم فى التعبير عن آلامهم وآمالهم وأفراحهم وأتراحهم، وتخلوا طواعية عن لغات أوطانهم التي نشئوا عليها، وترعرعوا فى أحضانها، وتقلبوا فى فيحائها، ورضعوا أفاويقها، وحرّ لبانها، ويمكن لنا أن نفسر هذا التحول إلى اللغة العربية بأنه كان ترجمة عملية لقوة إيمان الذين دخلوا فى الإسلام من غير العرب، وشدة قبولهم لما جاء فى القرآن حول القرآن، ولما وجدوا فى القرآن من كلام لا عهد للإنسان به من أخيه الإنسان، وبخاصة أنه كانت لبعض هذه الشعوب كتبا مقدسة كاليهود والنصارى والمجوس وغيرهم. بل كان منهم من يعتقدون بأن كتب أنبيائهم معجزة، كالمجوس الذين اعتقدوا أن كتاب زرادشت، وكتاب مانى معجزان (1) لذا فقد أقبل المؤمنون من غير العرب مطمئنين على لغة القرآن يتعلمونها ويتقنونها ولم يفكروا البتّة فى نقل القرآن إلى لغاتهم ربما لأنهم قد لاحظوا فوق ما قلناه عن القرآن عجز لغاتهم عن تحمل معانى كلام الله تعالى.
وأمّا ما قيل من أن بعض الفرس كتبوا إلى سلمان الفارسي أن يترجم لهم الفاتحة إلى الفارسية ليصلّوا بها حتى تلين ألسنتهم، فكتبها لهم، فرواية ضعيفة لا يعول عليها. ثم إن الفاتحة عبارة عن أدعية جميلة تهفوا لها الأسماع وتهش لها النفوس وتطير نحوها القلوب، وملايين أطفال المسلمين يحفظونها برغم صعوبة الكلام عليهم إذا عانوا غيرها من الحديث، وإذن فالحاجة إلى ترجمتها لم تكن ماسة حتى يكتبوا إلى بلال يطلبون ترجمتها (2).
وحتى لو أخذنا الرواية مأخذ القبول على ريب منا، فإنه قد ورد أن بلالا لم يترجم الفاتحة كلها، وأنه تعزر عليه نقل {الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} وجاء فى كتاب النفحة القدسية أن سلمان ترجم لهم البسملة فقط. وهذا يعنى أيضا، إذا صح أن سلمان لم يستطع أن يترجم الفاتحة وأنه رفض ذلك.
__________
(1) الباقلانى. إعجاز القرآن ص 55
(2) انظر مجلة الأزهر 1903، ومحمد فريد وجدى = الأدلة العلمية على ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية = ملحق بالجزء الثانى من مجلة الأزهر 1355ط 2، ص 64.(1/362)
وذكر الشيخ رشيد رضا أن هذا الأثر إذا أريد به أن سلمان كتب لهم ترجمة الفاتحة بلغة الفرس فكيف يكون ذلك وسيلة للين ألسنتهم (كما فى الأثر)، وهم لم يقرءوا الفاتحة إلا بلغتهم، وأما إذا أريد به أنهم طلبوا من سلمان كتابتها بالخط الفارسى، فالخط الفارسى قريب من العربى ولا دخل له أيضا بلين الألسنة والصواب أن الأثر غير صحيح (1). يبدو أن الشيخ رشيد رضا فهم لين الألسنة على غير وجهها وبالتالى عليه ضعّف هذا الأثر، ونحن معه فى أن الأثر ضعيف ومردود، ولكننا نخالفه فى فهم عبارة = حتى تلين ألسنتنا =، إذ المقصود بها، حتى نتعلم العربية، ويسهل علينا النطق بها، من خلال تعلمنا لها لا من خلال قراءة الفاتحة بالفارسية، كما فهم الشيخ رضا.
وكما تعذر على الناس الإتيان بمثل القرآن، كله أو بعضه أو حتى سورة منه، تعذر عليهم أيضا ترجمته، وتحويل معانيه عن ألفاظها التى قدّت لها وصيغت من أجلها.
حاول كثير من الناس أن يترجم معانى القرآن، فاستحال عليهم نقله وتعذرت ترجمته، فترجموا منه شيئا يسيرا مثل: {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}، و (سورة الفاتحة)، كما أشرنا إليه، على استخراج شديد، ونقل بعيد، وشدة ومعاناة حتى لقد قال بعض العلماء باللغة: = لو أن الناس عمدوا أن ينقلوا قول الله عز وجل: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (45) (القمر: 45)، أو قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللََّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}
(المائدة: 54)، أو قوله تعالى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى ََ سَوََاءٍ} (الأنفال: 58) لا يمكن نقله على هذا الاختصار، حتى يوسع الكلام فيه، ويكثر القول فيه بما يخرجه عن معناه، ويسلب بهاءه، ومثل هذه الألفاظ كثيرة لا تنقل من لغة العرب إلى سائر اللغات، ولا توجد لها ترجمة. هذا كلام الشيخ أبى حاتم أحمد بن حمدان الرازى (ت: 322هـ) فى كتاب = الزينة فى الكلمات الإسلامية العربية = (2). ونقل الرازى عن محمد بن عبد الله العتبى قال عليّ كرم الله وجهه: = كلام العرب كالميزان الذى يعرف به الزيادة والنقصان، وهو أعزب من الماء، وأرق من الهواء، إن فسرته بذاته استصعب، وإن فسرته بغير معناه استحال فالعرب أشجار، وكلامهم ثمار، يثمرون والناس يجتنون، بقولهم يقولون، وإلى علمهم يصيرون =.
__________
(1) انظر محمد مصطفى الشاطر. القول السديد فى حكم ترجمة القرآن المجيد. طبعة حجازى 1355، 1936، ص 125، 124.
(2) الكتاب من جزءين متوسطين حققه حسين بن فيض الله الهمدانى اليعبرى الحرازى القاهرة 1958انظر 1/ ص 66وما بعدها.(1/363)
يقول أبو حاتم الرازى فعلى هذا لغة العرب ممتنعة على سائر اللغات، واللغات كلها منقادة لها، وأقبلت الأمم كلها إليها يتعلمونها، رغبة فيها، وحرصا عليها، ومحبة لها وفضلا أبانه الله فيها للناس ليبين لهم فضل محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء (1).
ويقول أبو الفتح عثمان بن جنى بعد كلام: = على ما أودعته هذه اللغة الشريفة، من خصائص الحكمة ونيطت به من علائق الإتقان والصنعة. (2) ويقول فى الفرق بين الكلام والقول: = إن إجماع الناس على أن يقولوا إن القرآن كلام الله، ولا يقال القرآن قول الله وذلك أن هذا موضع متحجّر (ثابت راسخ) لا يمكن تحريفه، ولا يسوغ تبديل شىء من حروفه، فعبر لذلك عنه بالكلام الذى لا يكون إلّا أصواتا غير مفيدة، وآراء معتقدة = (3)
لا بد وأن تكون هناك محاولات لترجمة بعض آيات القرآن قام بها بعض أفراد إما من أهل الأديان الأخرى، أو من الناطقين بلغتين سواء من العرب الذين اختلطوا بالعجم، أو من بين هؤلاء العجم الذين عاشوا وسط العرب، ولكن هذه المحاولات لم تصلنا ربما لأنها لم تفلح فى نقل معانى القرآن، أو لأن أصحابها لم يجدوا لها مكانا بين الجموع التى أقبلت على تعلم العربية، وحفظ القرآن بلغته الأصلية، فلم تكن هناك ثمّة حاجة إلى ترجمة القرآن إلى لغات أخرى، والذى نلاحظه أن فكرة ترجمة القرآن لم تأت بغرض الترجمة لذاتها ولا بغرض نشر الإسلام، الذى هو فى حد ذاته أول الأغراض وأسماها، وإنما جاءت لتجيب على سؤال فقهى، هل تجوز الصلاة بقرآن مترجم؟! وبخاصة إذا كان المصلي عاجزا عجزا تاما عن قراءة الفاتحة أمّ القرآن؟ والإجماع منعقد على عدم جواز القراءة فى الصلاة بقرآن مترجم.
جاء فى شرح النووى على مسلم (4/ 106): = وتحرم قراءة الفاتحة بالعجمية ولا تصح الصلاة بها سواء أعرف العربية أم لا = وقال الزركشى فى البحر المحيط = لا تجوز ترجمة القرآن بالفارسية ولا بغيرها بل تجب قراءته على الهيئة التى يتعلق بها الإعجاز لتقصير
__________
(1) المصدر نفسه 1/ 62، 63.
(2) الخصائص 1/ 1.
(3) المصدر نفسه ص 19.(1/364)
الترجمة عنه، ولتقصير غيره من الألسن عن البيان الذى خص به دون سائر الألسن = (1)
وفى المجموع نقرأ = أما الفاتحة وغيرها من القرآن، فلا يجوز ترجمته بالعجمية بلا خلاف لأنه يذهب الإعجاز = (2)
ويقول السيوطى فى الإتقان (3): = ولا يجوز قراءة القرآن بالعجمية مطلقا، سواء أحسن العربية أم لا، فى الصلاة أم خارجها، وعن أبى حنيفة أنه يجوز مطلقا، وعن أبى يوسف ومحمد (أنها تجوز) لمن لا يحسن العربية لكن فى بيانات شارح البزدوى أن أبا حنيفة رجع عن ذلك، ووجه المنع أنه يذهب إعجازه المقصود منه =.
وفى مذهب أبى حنيفة أيضا، وهو مذهب الشافعية أنه لا تجوز قراءة القرآن بغير لسان العرب، سواء أمكنه القراءة بالعربية أم لا، وسواء كان فى صلاة أم فى غيرها، فإن أتى بترجمته فى صلاة بدلا عنها سقطت صلاته سواء كان يحسن القراءة بالعربية أم لا، وبه قال جماهير العلماء ومنهم مالك وأحمد وأبو داود.
وعن القفال الكبير الفقيه الشافعى (ت 315هـ) = إن القراءة الفارسية لا تتصور، قيل له فإذن لا يقدر أحد أن يفسر القرآن قال: ليس كذلك، لأن هناك يجوز أن يأتى ببعض مراد الله ويعجز عن البعض، أما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية فلا يمكن أن يأتى بجميع مراد الله تعالى لأن الترجمة عبارة عن إبدال لفظة بلفظة تقوم مقامها، وذلك غير ممكن، بخلاف التفسير =.
وكلام الإمام القفال صحيح فى مجمله ولكننا معه فى تعريف الترجمة، بأنها = مجرد إبدال لفظة بلفظة تقوم مقامها = فهذا لون من الترجمة الحرفية الجامدة التى قد تكون مستحيلة لأنه ليس بالضرورة أن تكون الألفاظ فى لغة ما لها، ما يقابلها فى لغة ما أخرى، فقد لا نجد كلمة إنجليزية مثلا تقابل من كل الوجوه كلمة عربية.
الترجمة فن وهى نقل معان ومفاهيم أكثر منها ألفاظا وعبارات، وقد تنحط الترجمة عن الأصل، وقد تساويه، أو تتفوق عليه، بحيث يصعب التفريق بين المنقول إليه والمنقول عنه وهذا يتوقف على مهارة المترجم وتمكنه، وإخلاصه أيضا. الترجمة إبداع وليست
__________
(1) المجموع 3/ 299.
(2) المصدر نفسه 2/ 307.
(3) المصدر نفسه 2/ 105وما بعدها.(1/365)
مجرد نقل كلمات أو رصف عبارات، والذى يخشى من الترجمة هو ضياع المعانى والصور والظلال والتصورات أثناء رحلة النص من لغة إلى أخرى، ومهما كانت الترجمة من الدقة والأمانة فإنها تصيب النص بشيء من التغيير، والمترجم ولا بد واضع فيها نفسه، ومسقط فيها من نفثه، وكلما كان النص أرقى فى لغته كلما صعبت ترجمته، وبخاصة النصوص التى تحتوى على قيمة جمالية كبرى كالذى تحمله الفواصل والمقاطع، كما فى حالة الشعر على سبيل المثال فقد منع الجاحظ أو استبعد أن تنقل معانيه إلى لغة أخرى، دون أن نضحى بالكثير من معانيه وآثاره فى النفس والحس، إننا يمكن أن نشبه الترجمة بعملية مضغ الطعام ليأكله من ليس له أسنان يمضغ بها، إن المتناول للطعام على هذا النحو يفقد بلا شك الكثير من نكهة الطعام ومذاقه، وقد يصاب بالأمراض إذا كان ماضغ الطعام مصابا معلولا.
وإن مما يقوّي كلامنا هذا ما جاء عن الفقهاء فى تحريم قراءة القرآن بالمعنى، ولما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: = اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الكتابين وأهل الفسق، فإنه سيجيء أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم =. أخرجه الطبرانى والبيهقى.
فالمسلم منهيّ عن قراءة القرآن بغير لحون العرب، فما بالك بقراءته مترجما، ولكل لغة طريقة فى النطق وأسلوب فى التعبير، والترجمة ما هي إلا تعبير عن لغة بلغة أخرى.
وعند المالكية أن الصلاة لا تجوز بغير القرآن العربى. وفى حاشية الدسوقى على شرح الدردير للمالكية (1)، أنه لا يجوز قراءة القرآن بغير العربية فإن عجز عن النطق بها خلف من يحسنها، وإذا لم يجد إماما سقطت عنه الفاتحة. وقال إنه يجب على كل مكلف أن يتعلم الفاتحة بالعربية وأن يبذل وسعه فى ذلك ويجتهد فى تعلمها وما زاد عنها إلى أن يحول الموت دون ذلك، وهو بحال الاجتهاد فيعذر إذن (2) ومن المفيد أن نشير إلى أن الإمام مالك رضي الله عنه يتشدد فى ضرورة الالتزام حتى بشكل الكتابة والخط فى كتابة القرآن. وجاء فى المغنى (3) أن الحنابلة لا يجيزون القراءة بغير العربية ولا إبدال لفظ بلفظ عربى سواء أحسن
__________
(1) انظر: 1/ 232، 236. وأيضا تفسير القرطبى 1/ 126.
(2) النقل بتصرف من محمد مصطفى الشاطر. القول السديد. 48، 49.
(3) ابن قدامة المغنى 1/ 536.(1/366)
قراءتها بالعربية أم لم يحسن ثم قال: = فإن لم يحسن القراءة بالعربية لزمه التعلم فإن لم يفعل مع القدرة عليه لم تصلح صلاته = قال الإمام الغزالى (1) بعد أن ذكر ضرورة التزام النسق القرآنى ووجوب عدم الجمع بين متفرقه أو التفريق بين مجتمعه: = فكيف يسلط العوام فى مثل ذلك على التصرف بالجمع والتفريق، والتأويل والتفسير، وأنواع التغيير، ولأجل هذه الدقائق بالغ السلف فى الجمود والاقتصار على موارد التوقيف، كما ورد على الوجه الذى ورد، باللفظ الذى ورد، والحق ما قالوه، والصواب ما رأوه = وهو إذ يوصى بالإمساك عن الخوض فى الأخبار الموهمة بالتشبيه يقول = فإنه لا يتصرف فى تلك الألفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخرى والزيادة فيه والنقصان منه والجمع والتفريق بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ، وعلى ذلك الوجه من الإيراد والإعراب والتصريف والصيغة = (2).
ومذهب ابن حزم الظاهرى الأندلسى = أن من قرأ أمّ القرآن، أو شيئا من القرآن فى صلاته مترجما بغير العربية أو بألفاظ عربية غير الألفاظ التى أنزل الله عامدا لذلك أو قدم كلمة أو أخّر عامدا لذلك بطلت صلاته، وهو فاسق، لأن الله تعالى يقول: {قُرْآناً عَرَبِيًّا} (يوسف: 2) وغير العربى ليس عربيا، فليس قرآنا، وإحالة عربية القرآن تحريف لكلام الله تعالى، وقد ذم الله تعالى قوما فعلوا ذلك فقال: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوََاضِعِهِ} (المائدة: 13)، ومن كان لا يحسن العربية، فليذكر الله تعالى بلغته لقول الله تعالى: {لََا يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا} (البقرة: 286) ولا يحل له أن يقرأ أمّ القرآن، ولا شيئا من القرآن مترجما، على أنه الذى افترض عليه أن يقرأه لأنه غير الذى افترض عليه كما ذكرنا فيكون مفتريا على الله تعالى = (3).
يتضح من هذا النص أن ابن حزم، وهو من هو، فى علمه، ومعرفته، ومتانة دينه، وسعة أفقه، يعتبر الترجمة تحريفا للقرآن، ويمنع أن تسمى الترجمة قرآنا، ويرفض حتى أن تضمن بعض معانى القرآن ألفاظا عربية غير ألفاظ القرآن ثم تسمى قرآنا، وابن حزم خبير
__________
(1) إلجام العوام ص 77.
(2) المصدر نفسه 54.
(3) المحلى ط. القاهرة تحقيق زيدان 2/ 5.(1/367)
بسقطات المترجمين، وما فعلته أيدى المترجمين فى كتب اليهود والنصارى، فهو كثيرا ما يشير فى كتاب = الفصل = أو فى غيره من كتبه الأخرى إلى أخطاء المترجمين وقلة إلمامهم باللغة العربية وضعف إدراكهم لأسرارها. ومن المفيد جدا أن نلفت النظر إلى عبارة ابن حزم (من قدّم كلمة أو أخّر أخرى يعنى فى النص القرآنى بطلت صلاته) والترجمة بلا شك يقع فيها التقديم والتأخير، وغير ذلك هذا أمر بدهى (1).
أما بالنسبة للأحناف، فإن النصوص فى الفقه الحنفى كثيرة فى التدليل على منع كتابة المصحف بالفارسية، ومداومة قراءة القرآن بغير العربية وإن من فعل ذلك فهو مجنون أو زنديق. وللشيخ أبى الحسن المرغينانى فى كتابه = التجنيس =: = ويمنع من كتابة القرآن بالفارسية لأنه يؤدى إلى الإخلال بحفظ القرآن لأننا أمرنا بحفظ النظم، والمعنى وأنه دلالة على النبوة، ولأنه ربما يؤدى إلى التهاون بأمر القرآن (2).
على أننا لا نكتم القارئ قيلا إذا ذكرنا أن فى تركيز الفقهاء على الترجمة إلى الفارسية بخاصة من بين لغات الشعوب الأخرى التى دخلت فى الإسلام كالعبرية، واللاتينية والسريانية، والهيروغليفية، وغيرها، ما يدل على أن فى المسألة سرا وهو محاولة إظهار تفوق اللغة الفارسية أو إثبات كفاءتها وحدها أمام العربية، ولعل فى كلام الإمام الألوسي ما يدعم إحساسنا العلمى هذا قال: = اشتهر عن الإمام أبي حنيفة أنه أجاز القرآن فى الصلاة بالفارسية وغيرها =. وروى عنه تخصيص الجواز بالفارسية لأنها أشرف اللغات بعد العربية (3).
فى ظل هذه الأدلة والبراهين نتبين أنه لم تكن هناك حاجة إلى ترجمة القرآن، وأن الإسلام قد ظل يفتح البلاد ويدعو العباد بقرآن عربى اللسان، عربى الخط والبيان حتى فى العصر الذهبى للترجمة فى الدولة العباسية، عند ما عنيت الدولة بترجمة الذخائر من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية لم تظهر الدعوة إلى ترجمة القرآن، ولا حاول أحد المترجمين المحترفين ذلك لا بدافع من النفس ولا بتكليف من الغير. واستمر الحال على ذلك حتى بدأ المنصّرون، والمستشرقون يطلعون على القرآن ويتعلمون لغته، ويعالجون ترجمته أو قل
__________
(1) المحلى تحقيق أحمد محمد شاكر دار الفكر 2/ 5.
(2) النفحة القدسية: 11والنقل عن الشاطر 53
(3) النقل عن الشاطر: 55(1/368)
يقصدون إلى تشويهه عن طريق تقديمه إلى شعوبهم بلغة تصرف قلوبهم وعقولهم عنه، وتعزز حملاتهم الكلامية الصليبية ضده، وضد النبى صلى الله عليه وسلم الذى جاء به عن الله عزّ وجلّ فجاءت هذه الترجمات بكلام لا يعرفه أهل القرآن، وحتى هذا الوقت لم ينهض المسلمون لترجمة القرآن، وإنما جاءت ردودهم فى شكل جدليات ومعارضات وردود تضمنت أشياء من سوء فهم المنصرين للقرآن، وتغيّر الحال رويدا رويدا بالنسبة لمسألة ترجمة القرآن عند ما بدأ المنصرون ينظمون أنفسهم فى شكل جمعيات وجماعات، وعند ما أسسوا إرسالياتهم واقتحموا أوطان المسلمين وبخاصة إبان احتلال الأراضى الإسلامية ومحاربة لغة العرب، والدين، والاستعانة بالحكام الموالين للاستعمار لضرب القوى الدينية، ومحاربة الروح الإسلامية والأشكال والعوائد والطرز العربية، وبالأخص محاربة اللغة العربية الحاكمة، وبث الدعاية لإحياء اللغات القومية للشعوب الإسلامية، واستنهاض القوى المعادية للإسلام التى كانت تسعى جاهدة لإحياء التراث القومى وإحلاله محل التراث الإسلامي، الروحى والعلمى والحضارى.
من هنا بدأ تعلم العربية ينحسر، واستشعر المسلمون الخطر على القرآن فحاولوا عندئذ أن تكون لديهم ترجمات أمينة بأقلام إسلامية رشيدة لمعانى القرآن تساعد المسلمين غير الناطقين باللغة العربية، وتسعفهم على الاتصال بكتاب ربهم، هذا إلى جانب معرفة الكثير منهم القرآن الكريم فى لغته الأم، والذى لم يختف حتى الآن من المساجد والمراكز والمدارس والجامعات فى العالم الإسلامى، وفى كل مكان من أنحاء المعمورة ومع ذلك فقد نشأ خلاف حاد بين علماء الإسلام فى البلدان الإسلامية المختلفة حول جواز الترجمة وشروطها كما كان الحال فى الماضي فقد أصدر الأزهر فتوى فى ذلك أباح فيها ترجمة القرآن وبين فى فتواه معنى الترجمة المقصودة وشروطها المطلوبة وهدفها المنشود.
ولا نستطيع فى هذا المقام المحدود أن نتتبع كلام العلماء في هذا الموضوع بالتفصيل ولكن من المفيد أن نذكر أنه فى عام 1932بدأ بعض الأتراك (بضغط من زعماء التحديث) يجربون الصلاة باللغة التركية، ويقرءون القرآن بهذه اللغة، وقد أحدثت هذه المحاولة المغرضة جدلا واسعا، وحادا فى أوساط المسلمين فى البلدان الإسلامية المختلفة وقد ادعى أنصار التجديد والتغريب فى تركيا أن الأتراك لا يفهمون القرآن بالعربية لذا
وجب أن يصلوا بالتركية، وقرروا بمكر عمل ترجمة تركية للقرآن لا تضم معها الأصل العربى. ورد المحافظون على ذلك من جانب آخر بأنه لا مانع من ترجمة القرآن لكنهم منعوا الصلاة بالنص المترجم، وقالوا إن الترجمة تخل بالأصل وتذهب بجماله.(1/369)
ولا نستطيع فى هذا المقام المحدود أن نتتبع كلام العلماء في هذا الموضوع بالتفصيل ولكن من المفيد أن نذكر أنه فى عام 1932بدأ بعض الأتراك (بضغط من زعماء التحديث) يجربون الصلاة باللغة التركية، ويقرءون القرآن بهذه اللغة، وقد أحدثت هذه المحاولة المغرضة جدلا واسعا، وحادا فى أوساط المسلمين فى البلدان الإسلامية المختلفة وقد ادعى أنصار التجديد والتغريب فى تركيا أن الأتراك لا يفهمون القرآن بالعربية لذا
وجب أن يصلوا بالتركية، وقرروا بمكر عمل ترجمة تركية للقرآن لا تضم معها الأصل العربى. ورد المحافظون على ذلك من جانب آخر بأنه لا مانع من ترجمة القرآن لكنهم منعوا الصلاة بالنص المترجم، وقالوا إن الترجمة تخل بالأصل وتذهب بجماله.
والصلاة بالقرآن المترجم، بدعة سيئة بلا شك، لما تؤدى إليه من هجر القرآن المنزل واتباع ترجمة لا يمكن، مهما اجتهد المترجمون، أن تقترب من النص القرآنى العربى، فضلا عن إمكان إخراجها بألفاظ وأشكال وتراكيب معجزة تستوعبه.
وبنى المؤيدون للصلاة بالترجمة رأيهم هذا على رأى أبى حنيفة، الذى أباح فيه الصلاة على هذا النحو مع أن الإمام أبا حنيفة لو صح عنه النقل، فقد قصر الإباحة على الحالات التى يعجز فيها المسلم عن أداء الصلاة بالعربية، وحددها بمدة واشترط إلى جانب ذلك أن يجتهد المرء فى تعلم القرآن باللغة العربية، وأن يبذل الجهد والوسع فى ذلك.
نقل الأمير شكيب أرسلان فى = حاضر العالم الإسلامى =، عن ابن خلكان أن السلطان محمود بن سبكتكين جمع مجموعة من العلماء، وطلب إلى كل واحد منهم أن يصلى على مذهب صاحبه، وأن يقارنوا بين مذهب الشافعى وأبى حنيفة، فتقدم القفال المروزى بصلاة الشافعى فأحسن فيها على مذهبه، ثم توضأ وصلى بصلاة الحنيفة، وتساهل فى الطهارة، وقرأ آية من القرآن بالفارسية، ثم قال هذه صلاة أبى حنيفة، فطلب السلطان كتب أبى حنيفة، فأحضرت فقرأ منها ما يتعلق بالصلاة فوجده موافقا لما فعله القفال (1).
ونرى أن هذه الحكاية موضوعة أساسا بغرض تدعيم القول بجواز الصلاة بالفارسية من خلال رأى أبى حنيفة، وإظهار أن السلطان نفسه لم يوافق على هذا، مما يدل على شيوع الجدل حول موضوع الترجمة بين علماء المسلمين.
وقد طعن ناقل هذه الحكاية فى ابن خلكان ووصفه بالتعصب للشافعى على أبى حنيفة (2). هذا مع أن الشافعى كان يكبر الإمام أبا حنيفة ويذب عنه.
وقد تضمنت فتوى الشيخ المراغى شيخ الأزهر الأسبق، فتوى شمس الأئمة السرخسى وأصل هذه المسألة أن المصلي إذا قرأ فى صلاته بالفارسية جاز عند أبى حنيفة
__________
(1) حاضر العالم الإسلامى 1/ 206.
(2) المصدر نفسه.(1/370)
رحمه الله ولكنه يكره عند الصاحبين، فقد نقل عنهما أنه لا يجوز للشخص أن يصلى بالترجمة إذا كان يحسن العربية، وإذا كان لا يحسنها فإنه لا يجوز له. قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: = القرآن معجز، والإعجاز فى النظم والمعنى، فإذا قدر أن يقرأ فى الصلاة بالعربية فلا يتأتى له ذلك، وإذا عجز عن النظم، أتى بما يقدر عليه، وهو فى هذا، يكون حاله كحال من عجز فى الركوع أو السجود، فيصلى بالإيماء =.
ونقل الشيخ عن = شرح الكنز = للزيلعى قوله: = وأما القراءة بالفارسية فجائزة فى قول أبى حنيفة =. وقال أبو يوسف ومحمد = لا يجوز (له أن يصلى بغير العربية) إذا كان يحسن العربية، لأن القرآن اسم لمنظوم عربى =. وللإمام أبى حنيفة على ما جاء بالفتوى أن قول الله تعالى: {إِنَّ هََذََا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ََ (18) صُحُفِ إِبْرََاهِيمَ وَمُوسى ََ} (19) (الأعلى: 1918)، وصحف إبراهيم كانت بالسريانية، وصحف موسى كانت بالعبرانية، فدل على كون ذلك قرآنا.
ويقول: = ويجوز (له أن يصلى بغير العربية) بأي لسان كان، وهو الصحيح، لأن (الوحي) المنزل وهو المعنى عنده، لا يختلف باختلاف اللغات = تقول نعم، نزل وحى بالسريانية وبالعبرانية وبغيرها من لسان أمم الأنبياء لكننا لا نسلم بأن الموحى به هو المعانى فقط، وأن المعانى لا تختلف باختلاف اللغات، لأن ذلك يوحي بأن ألفاظ الوحى من فعل الأنبياء أو تأليفهم، والمعلوم الاعتقادى أن القرآن بألفاظه ومعانيه من الله تعالى، وأن كل ما فى القرآن، وحى منزل، وقد وقع الإعجاز والتحدى بالألفاظ والمعانى معا، والقول بأن المعانى لا تختلف باختلاف اللغات، قول واسع يحتاج إلى تقييد وتضييق، إذ يمكن أن تختلف المعانى باختلاف الألفاظ التى تحملها والأساليب التى تعبر عنها، واللغات كالناس، طبقات ودرجات وقد أوردنا فيما سبق أن الإمام أبا حنيفة قد رجع عن قوله فى جواز الصلاة بالترجمة. والكلام فى هذا الموضوع يطول.
اختلف علماء المسلمين بين مؤيد ومعارض، وبين متشدد ومتساهل، مما أخر دخول المسلمين مجال ترجمة القرآن على الرغم من خبرتهم التاريخية فى الترجمة إلا أن هذا التأخير كان لصالح القرآن نفسه ولصالح اللغة العربية، التى أقبلت الأمم الداخلة فى الإسلام على تعلمها وحفظ كتابها والوقوف على علومها المتنوعة وعرفنا كذلك أن الفقهاء
وعلماء الأمة قد اختلفوا حول موضوع ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى ثم استقر الرأى أخيرا على جواز ترجمة المعانى أو بعضها، لتكون عونا للمسلمين من غير العرب على فهم دينهم وكتابهم، وحتى يحال بينهم وبين مطالعة الترجمات الخاطئة والمغرضة التى يقوم بها المستشرقون والمنصرون، وغيرهم ممن هو على شاكلتهم فى المنهج والقصد، أقر ذلك الأزهر الشريف وهيئة كبار العلماء كما يتبين من فتوى فضيلة شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغى التى تضمنتها رسالته إلى على ماهر باشا رئيس وزراء مصر آنذاك، والمؤرخة فى 23محرم 1355هـ 15إبريل 1936م، والتى جاء فى آخرها = لذلك أقترح أن يقرر مجلس الوزراء ترجمة معانى القرآن الكريم ترجمة رسمية على أن تقوم بذلك مشيخة الأزهر بمساعدة وزارة المعارف. وأن يقرر مجلس الوزراء الاعتماد اللازم لذلك المشروع الجليل = وقد تم فعلا تشكيل لجنة لذلك كما نتبينه من تصريح الأمير محمد على الوصي على عرش مصر فى ذلك الحين لجريدة الأهرام فى 24محرم 1355هـ 16إبريل 1936 (1).(1/371)
اختلف علماء المسلمين بين مؤيد ومعارض، وبين متشدد ومتساهل، مما أخر دخول المسلمين مجال ترجمة القرآن على الرغم من خبرتهم التاريخية فى الترجمة إلا أن هذا التأخير كان لصالح القرآن نفسه ولصالح اللغة العربية، التى أقبلت الأمم الداخلة فى الإسلام على تعلمها وحفظ كتابها والوقوف على علومها المتنوعة وعرفنا كذلك أن الفقهاء
وعلماء الأمة قد اختلفوا حول موضوع ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى ثم استقر الرأى أخيرا على جواز ترجمة المعانى أو بعضها، لتكون عونا للمسلمين من غير العرب على فهم دينهم وكتابهم، وحتى يحال بينهم وبين مطالعة الترجمات الخاطئة والمغرضة التى يقوم بها المستشرقون والمنصرون، وغيرهم ممن هو على شاكلتهم فى المنهج والقصد، أقر ذلك الأزهر الشريف وهيئة كبار العلماء كما يتبين من فتوى فضيلة شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغى التى تضمنتها رسالته إلى على ماهر باشا رئيس وزراء مصر آنذاك، والمؤرخة فى 23محرم 1355هـ 15إبريل 1936م، والتى جاء فى آخرها = لذلك أقترح أن يقرر مجلس الوزراء ترجمة معانى القرآن الكريم ترجمة رسمية على أن تقوم بذلك مشيخة الأزهر بمساعدة وزارة المعارف. وأن يقرر مجلس الوزراء الاعتماد اللازم لذلك المشروع الجليل = وقد تم فعلا تشكيل لجنة لذلك كما نتبينه من تصريح الأمير محمد على الوصي على عرش مصر فى ذلك الحين لجريدة الأهرام فى 24محرم 1355هـ 16إبريل 1936 (1).
ولكننا نقول إن العلماء، المحمودة آثارهم، قد اختلفوا فى شأن الترجمة، والمراجع لأقوالهم يمكن أن يخرج بنتيجة مهمة وهى أن الذين قالوا بجواز الترجمة، وضعوا لها الشروط اللازمة واحتاطوا لها، وجعلوها من باب الضرورات التى تباح فى ظروف معينة، وأوقات خاصة، وإن هؤلاء الذين منعوا من الترجمة منعا باتا كانوا حريصين على سلامة النص القرآنى من التحريف، وعن تدخّل الإنسان فى لفظه أو عبارته، بأى شكل من الأشكال، ولأى غرض من الأغراض وهذا المنع يكون أوجب، إذا كان المترجم غير مسلم لا يراعي حرمة القرآن، ولا يفهم سر العربية ويضاف إلى هذه الأسباب أن الترجمات قد تفتح الأبواب لصرف الناس عن حفظ القرآن ودراسته باللغة التى اختارها الله تعالى ومن المسلّم به بين الخبراء فى الترجمة، أنه لا توجد ترجمة البتّة يمكن أن تعكس الأصل كما تنعكس الصورة فى المرآة، ومن هنا كان اختلاف الترجمات، وكانت حاجة المترجمين إلى الهوامش، التى يوضحون فيها ما غمض عليهم أو صعب عليهم ترجمته ولذلك نجد بعض المترجمين يعللون لاختيارهم للفظة دون أخرى وهكذا.
__________
(1) انظر: د. محمد صالح البنداق. المستشرقون وترجمة القرآن الكريم ص 8483.(1/372)
والقول الذى نراه فاصلا فى موضوع الترجمة، هو أن ترجمة القرآن خطر لا بد منه وذلك لأننا حتى الآن، لا نجد ترجمة صحيحة أو خالية من الأخطاء والمخالفات بل إننا لا نجد ترجمة لهذا الكتاب المعجز تصل فى البلاغة حتى إلى بلاغة الكتب الأدبية فى اللغة المترجم إليها، على سبيل المثال فإن ابن اللغة الإنجليزية أو القارئ المجيد لها، قد يجد متعة أكثر وراحة أوفر فى قراءة أحد نصوص مسرحيات شكسبير أو قصائد ت. إس اليوت وروث أو غيرها، من قراءة ترجمة يوسف على، أو ترجمة آربرى للقرآن هذا مع أن القرآن فى لغته العربية أبلغ وأرقى وأدق وأعمق من كتب الأدباء الموهوبين من البشر وليس يوجد كتاب فى العربية يفضله مسلم البتّة على قراءة القرآن.
أضف إلى ذلك أنه لا توجد ضوابط محددة لترجمة القرآن الكريم وهذا ليس من النادر فقد اطلعنا على ترجمات قدمها مسلمون، تنطوى على أخطاء كثيرة تسيء إلى القرآن وربما لم يكن هذا غرضهم، ولكنهم مع ذلك ملومون لأن القرآن لا يخدم بمجرد النوايا الصالحة، أو الدعاوى العريضة فقد يتعرض للترجمة من ليس لها بكفء مما قد يسهل إدخال التحريف فى الترجمة وهذا يفسح المجال لترويجها بين الأمم الأخرى التى يرجى اعتناقها للإسلام، فتكون الترجمة إذن صارفة عن الإسلام بدل أن تكون داعية إليه محببة فيه.
وفى عصرنا الحالى اتسعت ترجمات القرآن فى اللغات المختلفة وبمراجعة سريعة لهذه الترجمات لاحظنا أن بعضها يضع صورا غير لائقة على الغلاف، مما يتنافى مع روح القرآن ويصادم تعاليمه التى تحرم الرسوم والتصاوير وبعض هذه الترجمات يضع اسم محمد صلى الله عليه وسلم مع الترجمة، كأن يكتب قرآن محمد مثلا، مما يوحي أن محمدا هو مؤلف هذا الكتاب وبعض المترجمين يكتب مقدمات إضافية عن القرآن يضمنها كل سمومه ويشربها كل أحقاده، يصور للقارئ أنه بصدد قراءة كتاب مؤلفه بشر، هذا الكتاب متناقض وغير موثق، كتاب ملفق منتحل من اليهودية والنصرانية ومصادر أخرى، وأن تعاليمه وحشية همجية تنافى العمران وتضاد المدنية وبعض المترجمين يلفق فى مقدمة ترجمته الحانقة، الأكاذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل اليهودى العراقى داود مثلا، وغيره إذ قدم هذا المترجم الأخير ثبتا تاريخيا يصور من خلاله محمدا بأحط صفات الوحشية، وبالعداء
الدموى لليهود وللأسف فإن هذه الترجمة قد طبعت ووزعت بالآلاف ولا زالت تطبع وتوزع، وتقوم على نشرها دار بنجون من كبريات دور النشر فى بريطانيا وفى العالم ناهيك بما فى هذه الترجمة، وقريناتها من أخطاء ومغالطات واعتساف وإجحاف.(1/373)
وفى عصرنا الحالى اتسعت ترجمات القرآن فى اللغات المختلفة وبمراجعة سريعة لهذه الترجمات لاحظنا أن بعضها يضع صورا غير لائقة على الغلاف، مما يتنافى مع روح القرآن ويصادم تعاليمه التى تحرم الرسوم والتصاوير وبعض هذه الترجمات يضع اسم محمد صلى الله عليه وسلم مع الترجمة، كأن يكتب قرآن محمد مثلا، مما يوحي أن محمدا هو مؤلف هذا الكتاب وبعض المترجمين يكتب مقدمات إضافية عن القرآن يضمنها كل سمومه ويشربها كل أحقاده، يصور للقارئ أنه بصدد قراءة كتاب مؤلفه بشر، هذا الكتاب متناقض وغير موثق، كتاب ملفق منتحل من اليهودية والنصرانية ومصادر أخرى، وأن تعاليمه وحشية همجية تنافى العمران وتضاد المدنية وبعض المترجمين يلفق فى مقدمة ترجمته الحانقة، الأكاذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل اليهودى العراقى داود مثلا، وغيره إذ قدم هذا المترجم الأخير ثبتا تاريخيا يصور من خلاله محمدا بأحط صفات الوحشية، وبالعداء
الدموى لليهود وللأسف فإن هذه الترجمة قد طبعت ووزعت بالآلاف ولا زالت تطبع وتوزع، وتقوم على نشرها دار بنجون من كبريات دور النشر فى بريطانيا وفى العالم ناهيك بما فى هذه الترجمة، وقريناتها من أخطاء ومغالطات واعتساف وإجحاف.
وهذه ترجمة ريجيس بلاشير (19731900) الذى كان عضوا فى المجمع الفرنسى الأعلى بباريس والمجمع العلمى بدمشق، وأستاذا فى معهد الدراسات المغربية فى الرباط ترجم بلاشير القرآن إلى الفرنسية، ونشره فى ثلاثة أجزاء فى الأعوام من 1947 إلى 1952، وفى هذه الترجمة فعل بلاشير ما لم يستطع أحد أن يفعله بالنسبة للنص العربى إذ دس آية الغرانيق المزعومة ضمن آيات سورة النجم، وهذه خيانة علمية، كفيلة وحدها أن تسقط اسمه من ديوان الكتاب الباحثين. كيف اعتبر بلاشير هذه العبارات قرآنا وقد ذكرنا أن نص عبارة آية الغرانيق قد ورد بعدة صيغ، ولا ندرى كيف سوغ هذا المستشرق لنفسه أن يتخير منها صيغة واحدة بعينها ويهمل الصيغ الأخرى. أما كان يكفى بلا شير عجزه فى فهم أسرار اللغة العربية واللغة القرآنية بالذات، وقصوره البيّن عن فهم دقائق التعبير القرآنى ونقله ولو بصورة تقريبية إلى اللغة الفرنسية حتى يضيف إليه من وحي عناده لكنه آثر عرض الحياة الدنيا على عرض الحقائق العليا، والالتزام بالمنهج العلمى الصحيح.
وفى الطبعة الأولى للترجمة الفرنسية التزم بلاشير بالترتيب الزمنى للسور والآيات، الذى أخذه عن سلفه من المستشرقين كما أشرنا إليه، لكنه لما لم يلق قبولا من الباحثين، عاد بلا شير فتبنى الترتيب الأصلى للمصحف فى طبعة أخرى لترجمته كانت أوسع انتشارا من الأولى. ظهرت الترجمة الأخيرة فى جزءين، فى عام (1949و 1950)، وفى 1239 صفحة من حيث الحجم (1) فى المدخل أو الترجمة دس بلا شير الكثير من الأساطير حول القرآن إنه بالطبع ينطلق من مقولة استشراقية خاطئة، هى بشرية القرآن ثم إنه يزعم أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن حريصا على كتابة القرآن عند ما كان ينزل عليه والسبب فى ذلك عند المستشرق المحلل، أن خوفه صلى الله عليه وسلم كان شديدا عند نزول القرآن عليه لأول مرة مما جعل من الصعب عليه كتابة القرآن، هذا أولا، وأما ثانيا: فلأن المسلمين كانوا فى صراع دائم مع
__________
(1) عبد الرحمن بدوى. موسوعة المستشرقين وانظر: نذير حمدان. مستشرقون 151.(1/374)
يهود المدينة الذين كانوا يسيطرون على وسائل الكتابة، والنتيجة العبقرية التى ينتهى إليها بلاشير، ويطير بها فرحا ونجحا هى أن القرآن لم يكتب بأكمله فى عهد الرسول مما تسبب فى ضياع أجزاء منه، وهذه الأجزاء لم تستطع صدور الحفّاظ أن تحميها من الضياع كذلك.
وراح بلاشير يعلل لدعواه هذه بأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يهتم بتسجيل القرآن وقت نزوله، فقدم عدة افتراضات لا وجود لها، إلا فى أمّ رأسه هو منها أن العربى بطبيعته لا يفكر إلا فى اللحظة الحاضرة ولا يهتم بالمستقبل أبدا، وأنه يترك الأمور هكذا تجرى على عواهنها دون تدخل منه أو اعتراض. من الواضح إذا أن بلاشير يقوم بمحاولة يائسة لتقرير نتيجة غير معقولة بالمرة.
ولكى نوضح للقارئ عجيب أمر بلاشير أكثر وأكثر، نقول إن خوف محمد صلى الله عليه وسلم عند ما واجه جبريل عليه السلام لأول مرة لم يمنعه من حفظ ما سمعه منه، ولا من استعادته وإلقائه كما هو على زوجته الطاهرة خديجة رضي الله تعالى عنها، لقد كان القرآن يكتب فى مكة كما كان يكتب فى المدينة، وكان المسلمون يتسابقون إلى حفظه ومذاكرته أينما كانوا وحيثما كانوا كما ذكرناه فى موضعه.
ولو تكلمنا من طريق العلم الذى يحاوله ويخطئه بلاشير وأترابه، لقلنا إن خوف محمد صلى الله عليه وسلم وجلال الخبرة التى كان يمر بها عند تلقى الوحى، ووضوح الأمر له، بأن ما كان يتلقاه هو كلام الله تعالى، كفيل وحده بحثه على كتابة ما كان يسمعه من جبريل والاحتفاظ به، لا الخوف من تسجيله كما توهم بلاشير. أما زعم المترجم الفرنسى بأن اليهود كانوا يحتكرون أدوات الكتابة مما عاق دون كتابة القرآن، فكلام لا يتناسب مع طبيعة أهل ذلك العصر وظروفه أبدا ولا مع البيئة والمجتمع الذى يتكلم بلاشير عنهما كذلك، كيف يحتكر اليهود أدوات الكتابة؟ وأى دليل تاريخى على وجود هذا الاحتكار؟
هذا مع ضرورة استحضار هذه الحقيقة فى الذهن وهى أن أدوات الكتابة كانت بسيطة لا تعدو أن تكون لخاف النخيل، وجذوعه، والحجارة المستدقة، وجريد النخل، بالله عليك أيها القارئ من يستطيع احتكار هذه الأشياء، يهودا كانوا أو غير يهود.
إن وجود هذا العدد من كتّاب الوحي حول الرسول صلى الله عليه وسلم بكذب دعوى بلاشير التى لا أساس لها، ولا يستسيغها عقل سليم. أما زعمه بأن العرب لا يهتمون بالمستقبل فهو من باب البث الاستعماري من قبيل الحرب الباردة إنه يحاول بعد أن خنقته الأدلة، أن يؤصل دعوى أرباب نعمته من المستعمرين فى الحطّ من العقلية العربية، واللغة العربية، فيعود بدعوى الاتكالية والقدرية إلى نبى المسلمين نفسه صلوات الله وسلامه عليه وهو سيد العاملين ومشيّد أرقى حضارة فى العالمين.(1/375)
هذا مع ضرورة استحضار هذه الحقيقة فى الذهن وهى أن أدوات الكتابة كانت بسيطة لا تعدو أن تكون لخاف النخيل، وجذوعه، والحجارة المستدقة، وجريد النخل، بالله عليك أيها القارئ من يستطيع احتكار هذه الأشياء، يهودا كانوا أو غير يهود.
إن وجود هذا العدد من كتّاب الوحي حول الرسول صلى الله عليه وسلم بكذب دعوى بلاشير التى لا أساس لها، ولا يستسيغها عقل سليم. أما زعمه بأن العرب لا يهتمون بالمستقبل فهو من باب البث الاستعماري من قبيل الحرب الباردة إنه يحاول بعد أن خنقته الأدلة، أن يؤصل دعوى أرباب نعمته من المستعمرين فى الحطّ من العقلية العربية، واللغة العربية، فيعود بدعوى الاتكالية والقدرية إلى نبى المسلمين نفسه صلوات الله وسلامه عليه وهو سيد العاملين ومشيّد أرقى حضارة فى العالمين.
ونقول فى سياق الرد عليه أيضا، إذا كان العرب لا يهتمون بالعمل للمستقبل، ويتركون الأمور تسير هكذا على القدر، فمن هم الذين، يا ترى، قد حفظوا القرآن، وحافظوا عليه، وكتبوه، وجمعوه، وبثوه فى الآفاق، وعلموه الناس؟ ومن هم هؤلاء الذين فتحوا الممالك، وأقاموا المدائن، وأسسوا دور العلم والعبادة، وعبّدوا الطرق، وبنوا المستشفيات، وأنشئوا الجامعات والأساطيل، ونشروا العلوم والمعارف، وأقاموا الحضارة وأرسوا قواعدها على الإيمان بالله الواحد، وعلى القرآن الزاخر بالقيم والأخلاق، وتركوا هذه الذخائر من المخطوطات التي تغطي كل مجالات العلوم والمعارف وتلك المساجد والقصور فى مشارق الأرض ومغاربها، خير شاهد على فضلهم وتفوقهم وسبقهم؟
لقد تعلم المسلمون وتهذبوا وتحضروا، بينما كانت أوربا لا تزال تضرب فى بيداء الجهالة والوحشية والبربرية بجران. هذا ما يقرره المنصفون من الأوربيين أنفسهم. وإن الحضارة التى نعم بها بلاشير وتاه على المسلمين بمعطياتها لم تكن لتبرز إلى الوجود لولا ظهور أمة التوحيد بتعاليم نبى الرحمة. إن محمد صلى الله عليه وسلم كان يحسب لكل شىء حسابه، ويضع كل شيء فى موضعه الصحيح، وإن الإسلام بحملته إنما جاء لتعديل الحاضر الوبيء، وتهيئة المستقبل الصالح للأمة المؤمنة دينا ودنيا لإنقاذ البشرية كلها.
إن أخطاء المترجمين الغربيين ومقدماتهم وتعليقاتهم على هذه الترجمات إنما هى تجسيد حي لموقفهم المنحاز ضد القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم إما، جهلا وإما تحريفا، يترجمون العبارة القرآنية واللفظ القرآنى بألفاظ وعبارات تنحط بالعبارة عن رتبتها البلاغية الإعجازية وتنزل بها إلى مستوى بشري عادي، أو قريبا منه، من حيث الأسلوب والمعنى.
فعلى سبيل المثال ترجم بعضهم قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ} (العصر: 1) هكذا ()، بما يجعل القسم الإلهى بفترة زمنية محدودة من فترات النهار وهو غير المقصود من كلمة العصر التى تستغرق الزمن كله أو الفترة العظيمة منه، وترجموا آية {اقْرَأْ} هكذا () وتجنبوا كلمة ()، وذلك لأن الكلمة الأولى تعنى اقرأ من شىء معد من قبل وهو مما يتسق مع دعواهم فى بشرية القرآن واستلاله من مصادر بشرية أقدم منه.(1/376)
إن أخطاء المترجمين الغربيين ومقدماتهم وتعليقاتهم على هذه الترجمات إنما هى تجسيد حي لموقفهم المنحاز ضد القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم إما، جهلا وإما تحريفا، يترجمون العبارة القرآنية واللفظ القرآنى بألفاظ وعبارات تنحط بالعبارة عن رتبتها البلاغية الإعجازية وتنزل بها إلى مستوى بشري عادي، أو قريبا منه، من حيث الأسلوب والمعنى.
فعلى سبيل المثال ترجم بعضهم قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ} (العصر: 1) هكذا ()، بما يجعل القسم الإلهى بفترة زمنية محدودة من فترات النهار وهو غير المقصود من كلمة العصر التى تستغرق الزمن كله أو الفترة العظيمة منه، وترجموا آية {اقْرَأْ} هكذا () وتجنبوا كلمة ()، وذلك لأن الكلمة الأولى تعنى اقرأ من شىء معد من قبل وهو مما يتسق مع دعواهم فى بشرية القرآن واستلاله من مصادر بشرية أقدم منه.
وترجم أحدهم {فُرُوجَهُمْ} (النور: 30)، {فُرُوجَهُنَّ} (النور: 31)، بما يعنى = أجزاءهم أو أجزاء أجسامهن الخاصة =.
وترجم ماكس هاننج لفظة الإبل فى قوله تعالى: {أَفَلََا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (17)، بالسحاب وترجموا ألفاظا وعبارات مثل قوله: {هُنَّ لِبََاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبََاسٌ لَهُنَّ} (البقرة: 187)، وقوله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبََاساً} (10) (النبأ: 10) وهما من بلاغات القرآن العالية، ترجموها ترجمة حرفية تذهب ببلاغة القرآن. كما ترجم جورج سيل كلمة {بَغِيًّا} (مريم: 20) بكلمة () وهى أقبح كلمة فى اللغة الإنجليزية فى هذا السياق، وكان من الأفضل أن تستعمل ()، وهى التى استعملها آربرى، ويوسف على فى ترجمتيهما، ولعله مما سهل على سيل () استخدام هذه اللفظة النابية وجودها فى كتب العهد القديم والجديد (1).
نتناول هنا أسباب إباحة بعض ما تحتمله عبارات القرآن إلى اللغات الأخرى.
وردت رسالة من مسلمي جزائر جاوا (أكبر جزر إندونسيا) إلى الشيخ محمد نصيف العالم المكى تقول ما نقله ملخصا السيد محمد فريد وجدى: = إن التعليم الشائع بين سكان تلك البلاد يقوم باللغات الإفرنجية، وفى مدارس لا تعلم اللغة العربية، ولذلك يقرأ المسلمون وأولادهم فى تلك المدارس القرآن الكريم فى تراجم قام بها مترجمون غير موثوق بأمانتهم، بل إن بعض هذه التراجم كان لها أثر فى إفساد عقائدهم، لأن بعض القائمين بها كانوا من المنصرين، أو من أتباع مذهب الأحمدية (القاديانية) فى الهند، والذين يقرءون القرآن الكريم
__________
(1) انظر ترجمة سيل ص 209.(1/377)
فى هذه التراجم لا يعرفون ذلك، ويعتقدون أن هذا هو القرآن الصحيح =. ثم يمضى كاتب الرسالة فيقول: = إنه لما وقف على خطورة مثل هذه الترجمات بدأ يوعى الناس ضدها، وينهاهم عن قراءتها، ثم طالب بعمل ترجمة أمينة، يقرّها علماء المسلمين مع إلحاق تفسيرات وتعليقات توضيحية بها، تبين صعوبة ترجمة القرآن واستحالة الإحاطة بمعانيه (كلها) على أى لغة إنسانية أخرى غير العربية =، وقال صاحب الرسالة أيضا: = إن مثل هذه الترجمة تفيد فى بيان الإسلام وآداب القرآن وأحكامه وفى إبلاغ الدعوة المحمدية إليهم بلغتهم = (1)، وفعلا لم يستطع المبشرون أن يحرفوا النص العربى للقرآن، لكنهم استطاعوا أن يحرفوا فى معانيه عند الترجمة.
وقد قلنا فى بحث آخر لنا إن الترجمة أو الترجمات الأوربية للقرآن والمقدمات التى كتبت عليها مسئولة إلى حد كبير عن غرس جرثومة العداء الدينى والثقافى للعرب وللمسلمين فى نفوس الأوربيين، وهى فى تقديرنا أيضا مصدر من مصادر الإفراز المظلم للعقلية الأوربية فيما يتصل بموقفهم من الإسلام والقرآن، ومثل هذه الترجمات قد شكلت القاعدة التى انطلق منها الاستشراق والتنصير وهى سبب من الأسباب التى وطّأت الطريق للخارجين على الإسلام من القاديانية والبهائية وجرأتهم على أن يحرفوا فى معانى القرآن لتلائم معتقداتهم الباطلة. ولهذا وقف علماؤنا ضد الترجمة على أى نحو كانت.
وينبغى أن يكون واضحا أنه لو بدأت الترجمة مبكرة للقرآن لأضر ذلك بالقرآن ضررا شديدا، ولصرف الناس عن تعلمه وفتح الطريق أمام الملحدين للطعن فيه وتحريف كلمه، ولأضر ذلك باللغة العربية أيما ضرر وعلى الرغم من هذه المخاطر كلها نقول ونكرر إن الترجمة خطر لا بدّ منه، وبخاصة فى صد هذه الهجمات العلمانية الشرسة، ومواجهة الصراع اللغوى والحضارى والثقافى والدينى الحديث بتقنياته وآلياته المعقدة والتى تسيطر على عالمنا المعاصر، لا بد أن تكون لدينا ترجمات صحيحة لمعاني القرآن فشعوب العالم اليوم يدرس بعضها، ويتحسس بعضها أخبار بعض بصورة أوسع وربما ألذع وأفجع من ذى قبل، وليس من المعقول ولا من المقبول شرعا أن نضع القرآن فى سياج أو جراب، وليس من السهل علينا أيضا منع أحد من ترجمته. فالحاجة إذن ماسّة إلى الترجمة
__________
(1) محمد فريد وجدى. الأدلة العلمية على جواز ترجمة القرآن ص 10.(1/378)
والترجمة الأمينة للقرآن تدرس الآن فى أقسام اللغة العربية بالجامعات الأوربية والأمريكية واليوم وقد اتسع نطاق الترجمات بكل أنواعها فى العالم كله فإنه ينبغى علينا كمسلمين أن نقدم الترجمة الأفضل، وأن نتابع التراجم المختلفة للكتاب العزيز ما أمكن، وننبه على أخطائها ومخالفاتها للنص إن وجدت، أو بالأحرى إن تعمّدت وأن ننبه كذلك على أن القرآن نفسه غير قابل للترجمة للأسباب التى قد بيناها، وأن ما فى أيدي الناس من تراجم إنما هى نوع من التفسير أو التقريب لبعض معانيه بلغة أجنبية، وهذه الترجمات لا يطلق عليها قرآن بأي حال من الأحوال، اللهم إلا على سبيل المجاز فقط، وإلا فالقرآن لا يمكن أن يكون غير عربى لأن الله يقول: {وَكَذََلِكَ أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} (طه: 113)، {بِلِسََانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (195) (الشعراء: 195) فقد قيّد الله تعالى القرآن بأنه عربى فنفى عنه بالتالى أن يكون أعجميا، {وَلَوْ جَعَلْنََاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقََالُوا لَوْلََا فُصِّلَتْ آيََاتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}
(فصلت: 44) وإن القرآن يمثل قيمة للغة العربية في كل العصور، ولا توجد لغة أخرى كان يمكن أن تتحمله أو تجود بمثله.(1/379)
والترجمة الأمينة للقرآن تدرس الآن فى أقسام اللغة العربية بالجامعات الأوربية والأمريكية واليوم وقد اتسع نطاق الترجمات بكل أنواعها فى العالم كله فإنه ينبغى علينا كمسلمين أن نقدم الترجمة الأفضل، وأن نتابع التراجم المختلفة للكتاب العزيز ما أمكن، وننبه على أخطائها ومخالفاتها للنص إن وجدت، أو بالأحرى إن تعمّدت وأن ننبه كذلك على أن القرآن نفسه غير قابل للترجمة للأسباب التى قد بيناها، وأن ما فى أيدي الناس من تراجم إنما هى نوع من التفسير أو التقريب لبعض معانيه بلغة أجنبية، وهذه الترجمات لا يطلق عليها قرآن بأي حال من الأحوال، اللهم إلا على سبيل المجاز فقط، وإلا فالقرآن لا يمكن أن يكون غير عربى لأن الله يقول: {وَكَذََلِكَ أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} (طه: 113)، {بِلِسََانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (195) (الشعراء: 195) فقد قيّد الله تعالى القرآن بأنه عربى فنفى عنه بالتالى أن يكون أعجميا، {وَلَوْ جَعَلْنََاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقََالُوا لَوْلََا فُصِّلَتْ آيََاتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}
(فصلت: 44) وإن القرآن يمثل قيمة للغة العربية في كل العصور، ولا توجد لغة أخرى كان يمكن أن تتحمله أو تجود بمثله.
الفصل الثاني الترجمات المختلفة للقرآن الكريم
ترجم القرآن إلى كل اللغات الآسيوية والأوربية وإلى بعض اللغات واللهجات الإفريقية، ويدّعي البعض أن أول ترجمة للقرآن إلى اللغة الفارسية قام بها سلمان الفارسى، وهذا زعم لا أساس له إذ لم يكن للصحابى الجليل أن يقدم على ترجمة القرآن كله، دون مشورة الصحابة وهو يعرف أن مجرد جمعه وضبط حرفه، على عهد الصحابيين الجليلين أبى بكر وعثمان رضي الله عنهما كان موضع أخذ وردّ وقبول ومعارضة بين الصحابة وقد ذكرنا سابقا أن سلمان رضي الله عنه قد سئل أن يترجم الفاتحة فقط، ليستعين بها بعض الفرس على الصلاة، ومع ذلك فإن الشك يحوط بهذه الرواية، وإننا لنعجب أن يطلب منه تفسير الفاتحة ليصلى بها المسلمون من الفرس، ثم يتطوع هو فيترجم القرآن كله، دون ضرورة ملزمة أو حاجة ملحة ولو أن سلمان كان قد فعل ذلك لبعض الفرس، وهم أهل عصبية، لعضوا على هذا الترجمة بالنواجذ إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث البتّة ولو سن سلمان ذلك لقلده صحابة آخرون فترجموا لإخوانهم فى اللغة، ولكنا وجدنا بالتالى ترجمات سريانية وعبرية ولاتينية وإغريقية، وهيروغليفية، وهكذا إنه لا يوجد أى دليل على ذلك وما قلناه عن الترجمة الفارسية المزعومة يصدق أيضا على الترجمة البربرية التى ذكر كاتب المقال أنها تمت فى عام 127هـ / 745744م والترجمة السندية التى وضع لها تاريخ هو 270هـ / 884883م وهما كالترجمة الفارسية المزعومة غير موجودتين ولا دليل عليهما.
توجد بعض الترجمات التى وصلت إلينا باللغة الفارسية، وأقدم هذه الترجمات هى ترجمة تفسير الطبرى (ت: 310هـ / 923م) والتى ترجمها صاحبها لأبى صالح منصور بن نوح السامانى، حاكم ترانسو كسانيا وخراسان (366365هـ / 976961م)، وتاريخ هذه الترجمة غير معروف بالتحديد، ولكن من المقدمة يستفاد أن أبا صالح قد جمع العلماء وسألهم رأيهم فى مشروعية ترجمة القرآن إلى الفارسية، وجاء رأيهم بإمكان الترجمة، بشرط أن يجتمع لها العلماء الأكفياء. ونزيد نحن على هذا الشرط، أنهم يجب أن
يكونوا من المسلّمين بأسرار اللغتين وأن يكون عملهم جماعيا.(1/381)
توجد بعض الترجمات التى وصلت إلينا باللغة الفارسية، وأقدم هذه الترجمات هى ترجمة تفسير الطبرى (ت: 310هـ / 923م) والتى ترجمها صاحبها لأبى صالح منصور بن نوح السامانى، حاكم ترانسو كسانيا وخراسان (366365هـ / 976961م)، وتاريخ هذه الترجمة غير معروف بالتحديد، ولكن من المقدمة يستفاد أن أبا صالح قد جمع العلماء وسألهم رأيهم فى مشروعية ترجمة القرآن إلى الفارسية، وجاء رأيهم بإمكان الترجمة، بشرط أن يجتمع لها العلماء الأكفياء. ونزيد نحن على هذا الشرط، أنهم يجب أن
يكونوا من المسلّمين بأسرار اللغتين وأن يكون عملهم جماعيا.
وقد ذكر ستوزى أنه توجد عدة مخطوطات لهذه الترجمة أقدمها مخطوط = رامبور =، والمؤرخ فى (600هـ / 12041203). وقيل إن ترجمة فارسية يرجع تاريخها إلى عام 311هـ.
وتوجد ترجمة فارسية أخرى للقرآن بخط رومانى وفى تاريخ أبعد من هذا التاريخ كثيرا. ظهرت بعض ترجمات أخرى للقرآن وتفسيره، كتبها ونسخها شخص يسمى محمد بن أبى الفتح عام 1231628م وهذه المخطوطة محفوظة بلمبرج، وقد اطلع عليها ( .. ) براون.
وسجل المستشرق ستوزى المذكور ثمان وأربعين ترجمة للقرآن والتفسير، وفى ملحق خاص قدم المستشرق نفسه عناوين أصلية وفرعية لأربع وسبعين ترجمة، وثمانية مجموعات مختارة لتفسيرات متنوعة، مجهولة المصدر كما أشار أيضا إلى عدة ترجمات فارسية وهندية لا تحمل أسماء أصحابها ويقول مولانا محمد على القادياني أن الشيخ ساعدى ترجم القرآن إلى الفارسية وتقول بعض المصادر بوجود ترجمة فارسية للقرآن الكريم تمت من خلال ترجمة مختصرة لتفسير ابن جرير الطبري حوالى عام 311هـ، فى عهد الملك أبى صالح منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن إسماعيل السامانى غير أن هذا التفسير لم يعثر عليه إلى الآن. كما توجد نسخة لترجمة بالتركية الشرقية تمت فى عام 734هـ فى متحف الآثار التركية الإسلامية باستنبول (1).
كانت ترجمة تفسير الطبرى إلى الفارسية هى مصدر الترجمة الأولى للقرآن إلى اللغة التركية، وقد ادعى توجان أن الترجمتين كانتا متعاصرتين، ولكن عنان يؤرخ للترجمة التركية بالنصف الأول من القرن الخامس الهجرى، الحادى عشر الميلادى ويقال إنه توجد سبعين ترجمة باللغة التركية بدأت تخرج للنور على الأقل فى القرن الرابع الهجرى، الحادى عشر الميلادى، واستمرت هذه الترجمات سالمة حتى وصلت إلينا فى مئات من المخطوطات، تحتفظ بها مكتبات تركيا والتى كتبت بعدة لغات طورانية، شرقية وغربية وغيرها.
__________
(1) حسن المعايرجي. الهيئة العالمية للقرآن الكريم / الدوحة 1991ص 20.(1/382)
يقول الفيكونت دو طرازى فى دراسته المهمة عن القرآن إنه اطلع على ترجمة سريانية للقرآن كاملة ويتوقع طرازى أن الذى ترجم هذه النسخة القديمة هو باسيل مطران الرها، من أعلام عصره فى الأدب والبلاغة ويقول إن هذه المخطوطة النادرة قد أفلتت من الضياع أثناء النكبة الخطيرة التى حلت بمدينة الرها في عام 1145م يوم اكتسحها زنكتتى ملك الموصل (591542هـ) (1).
وإذا كنا قد تكلمنا عن الترجمات الكاملة للقرآن فى اللغات المختلفة، فإنه ينبغى هنا أن نشير إلى وجود ترجمات لبعض آيات من القرآن قام بها مترجمون غير مسلمين وبخاصة من القساوسة السريان حيث تضم مكتبة مانشستر البريطانية، والمتحف البريطانى بلندن مجموعة من المخطوطات باللغة السريانية يرجع تاريخها إلى عهد هشام بن عبد الملك (2). وفى كتب المحاورات والجدل الدينى توجد كذلك بعض الآيات التى ترجمت ترجمة خاطئة، فعلى سبيل المثال محاورة البطريرك تيمثو السريانى مع الخليفة العباسى المهدى (3).
كما أن المطالع لكتاب = علم الكلام الإسلامى والمسيحي = لمؤلفه سويتمان (بالإنجليزية) يجد فيه بلا شك أمثلة كثيرة من هذه الأخطاء المتعمدة فى أغلب الأحوال.
وقد انتشرت الترجمات العديدة الآن بكل اللغات، بل وبالعديد من اللهجات والواجب على أهل العلم والولاية أن يتابعوا هذه الترجمات، ويقرءوها بعناية، ليقروا الصالح منها حتى يقفوا لخصوم القرآن بالمرصاد حفاظا على قدسية هذا الكتاب الكريم.
الترجمات الأوروبية
انبرى المبشرون والمستشرقون بتوجيه كنسي لترجمة القرآن، وكان الغرض من ترجمته فى الأصل هو تحريفه وتشويه معانيه، وتقبيحه فى أعين عوامهم، خوفا من أن يتأثروا بالإسلام الذى كان ينتشر بسرعة فائقة فى أوساط أهل الأديان الأخرى وبخاصة النصارى منهم.
__________
(1) وانظر: مجلة المجمع العلمى العربى بدمشق مجلد 9السنة 363هـ 1944م الصفحات 416/ 488والدكتور / محمد صالح البنداق. المستشرقون وترجمة القرآن بيروت. دار الآفاق 19831403م ص 97، 98.
(2) المصدر نفسه 97.
(3) انظر: رسالتنا للدكتوراه = النصرانية من وجهة نظر الإسلام = بالإنجليزية باب التثليث.(1/383)
وكان من الواضح تماما لخصوم الإسلام فى القديم والحديث أن القرآن هو قلب الوجود الإسلامى، وسر تفوقه وتميزه على الأديان الأخرى، وأنه لا يمكن القضاء على الإسلام والمسلمين ما لم يتم القضاء على القرآن.
اتجهت أنظار المستشرقين والمستغربين من ثم صوب القرآن، يدرسونه، ويترجمونه من لغته الأصلية، أو من الترجمة اللاتينية فيما بعد، إلى سائر اللغات الأوربية واللغات الأجنبية الأخرى.
لذلك خرجت أول ترجمة للقرآن من ديركلونى بجنوب فرنسا، بتوجيه رئيس الدير الراهب بطرس المبجل وإشرافه، وكان ذلك سنة 1143ميلادية، قام بالترجمة راهب إنجليزي اسمه روبرت كيتون الرتينى، بالتعاون مع الراهب الألماني هرمان الدالماتي، وشخص مسلم مجهول اسمه محمد، اشترك مع هذه اللجنة بمساعدتها فى فهم النص العربى (1) خوفا على جماهير النصرانية من أن تتأثر بالقرآن وتتحول إلى الإسلام بدلا من أن تعاديه، أو على الأقل تتحير وتتشكك فى دينها.
ولقد ظلت هذه الترجمة بالفعل حبيسة الدير حتى عام 1543، وظلت كذلك قرابة الخمسمائة عام، حتى نشرها ثيودور ببلياندر فى مدينة بال بسويسرا. كانت هذه الترجمة سيئة للغاية لم يلتزم فيها المترجم الأصول العلمية للترجمة أو الأمانة والدقة في النقل هذا بالإضافة إلى سوء فهمه للغة العربية وجهله بعلوم القرآن ومتطلبات تفسيره إذ الترجمة فرع عن التفسير، وليس يقل عن ذلك فى الأهمية سوء نية المترجم ومصادرته على المطلوب، وليس أدل على سوء نيته وقصده من هذا الكلام الذى كتبه هو بنفسه في ذكر أسباب عمل هذه الترجمة يقول: = لقد كشفت بيدى قانون المدعو محمدا، ويسرت فهمه، وضممته إلى كنوز اللغة الرومانية لمعرفة أسس هذا القانون، حتى تتجلى أنوار الرب (المسيح) على البشرية ويعرف الناس حجر الأساس يسوع =. وكتب فى الشكر والثناء على بطرس المحترم صاحب مشروع الترجمة: = لقد رأت كنيسة سحلوني فى بطرسها ما رآه السيد المسيح فى رفيقه بطرس، ويحب أن يشكر (أي بطرس) لتعريض مبادئ الإسلام للضوء بعد ما سمح الدارسون في الكنيسة لهذا الكفر أن يتسع ويتضخم وينتشر لمدة
__________
(1) دائرة المعارف وعبد الرحمن بدوى. موسوعة المستشرقين ص 68، 69.(1/384)
خمسمائة وسبعة وثلاثين عاما. وقد وضحت فى ترجمتي، في أي مستنقع آسن يعشعش مذهب السراسين (أي المسلمين) متمثلا فى عمل جنديّ المشاة يشق الطريق لغيره. لقد قشعت الدخان الذى أطلقه محمد، لعلك تطفئه بنفخاتك (يا بطرس الكلوني). (1)
توالت الترجمات الأوربية للقرآن بعد ذلك، وظهرت العشرات منها فى أوروبا، وكانت هذه الترجمات بالطبع مشوشة ومشوهة، وكان غرضها جميعا هو الإساءة إلى الإسلام. وكما هو متوقع، فإن هذه الترجمات السيئة قد قامت بدور كبير فى زيادة حدة العداء بين جماهير النصارى وبين المسلمين والإسلام، ولقد أفرخت بالفعل أدبا أوربيا أو بالأحرى صليبيا معاديا للإسلام، كان هو الذى شكل العقلية الأوربية المتعصبة، التى لا تزال حتى اليوم، ترى فى الإسلام عدوا متربصا، وترى فى المسلمين خطرا زاحفا، وشرا يتحتم اقتلاعه. وكان من جراء هذا الفهم العشوائى والعدائى للإسلام، أن طالعنا بعض الأوربيين بمثل هذه المقولات العشوائية = صراع الحضارات =، = نهاية التاريخ =، = الزحف الأخضر = وأمثال هذه المقولات التى تزيد عالمنا المعاصر تمزقا وتوترا.
ذكر جبيبون أن ترجمة سافارى، ومقدمته (17881758) قد اعتمدنا على ترجمتى جورج سيل ومارّاكسى، وذلك لأنه لم يكن يجيد فهم العربية على الرغم من إقامته فى مصر مدة طويلة وإلمامه باللهجة المصرية أثناء إقامته.
أما جورج سيل (16971736) فيعتبر أول إنجليزي دارس للغة العربية ومترجم للقرآن من غير رجال الدين، على غير العادة، فقد كان أبوه تاجرا، لا صلة له بالتنصير وكان جورج سيل نفسه يشتغل بالمحاماة، ومن المفيد أن نعرف أن سيل تعلم اللغة العربية كهواية لا غير، حتى وصل فيها إلى درجة عالية من الإتقان، هكذا زعموا هذا الإتقان للغة العربية جعل رجال الدين يستعينون به على ترجمة العهد الجديد الذى سبق أن ترجمه لهم مسيحي سريانى. وهذا فى حد ذاته يدل على عدم صلاحية الترجمة السريانية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنه يبين بوضوح عدم وجود ترجمة عربية للعهد الجديد، حتى هذا التاريخ المشار إليه، وهذا فى حد ذاته يكذّب دعوى اقتباس محمد صلى الله عليه وسلم أو انتحاله من كتب النصارى.
__________
(1) حسن المعايرجي. الهيئة العالمية للقرآن الكريم 44، 45(1/385)
يعتبر عام (1734) فى تقدير كتّاب الغرب، بداية لمعرفة جديدة وأكيدة بالإسلام.
ولقد مثلت ترجمة جورج سيل القاعدة العريضة للترجمات والبحوث اللاحقة، فى مجال الدراسات الإسلامية باللغات الأوربية حتى القرن التاسع عشر. زعم سيل أنه إلى جانب معرفته باللغة العربية قد اعتمد على بعض كتب التفسير الإسلامية العربية، وعلى ترجمة القس الإيطالى لودوفيكو مارّاكسى التى نشرت فى بادو عام 1698وقبل أن نلقى بعض الضوء على ترجمة ماراكسى ينبغى أن نوضح أن سيل لم يعترف بفضل الأخير عليه كما ينبغى، وأنه قد تبين من مجموعة المخطوطات العربية والتركية والفارسية التى ضمتها مكتبته الخاصة والتى انتقلت فيما بعد إلى مكتبة بودلى بأكسفورد، ليس فيها أيا من هذه التفاسير الإسلامية العربية، التى أشار إليها المترجم، اللهم إلا تفسير البيضاوى الذى يشير إليه سيل كثيرا فى تعليقاته على بعض آيات القرآن. كتب القسيس الإيطالي مقدمة شغبية حانقة ضد الإسلام نشرها مع الترجمة المشار إليها، والتى سبق أن نشرها باللغة اللاتينية مع النص العربى فى روما سنة 1691م. كان غرض القسيس الإيطالي هو هدم الإسلام، بحسب تخيله، عن طريق هذه الترجمة، والهجوم غير العلمى على الإسلام، الذى ألحقه بمقدمته من أجل أن يصل إلى غرضه المحموم فى تشويه الإسلام. عكف مارّاكسى على دراسة العربية والمصادر الإسلامية أربعين عاما من عمره (1). قد يكون فى هذا الكلام مبالغة ولكنه على أى حال يدل بوضوح على مدى العداء الذى كان يكنه رجال الكنيسة الكاثوليكية للإسلام.
فى هذه القرينة لا يفوتنا أن ننبه على نقطة مهمة، وهى أن اهتمام رجال الدين المسيحى بدراسة الإسلام قد سبق، بلا شك، اهتمامهم بدراسة أى دين آخر، وذلك لأنهم رأوا فى الإسلام خطرا على ديانتهم، وعلى شعوبهم، لم يروه فى أي ديانة أخرى، كما رأوا أنه يتغلغل فى نفوس معتنقيه، لا يفرق بين ما هو دنيوى وما هو دينى، إنه ليس دين جوانع أو صوامع أو معابد، بل هو دين يشمل الحياة كلها لذلك فقد جندوا كل طاقاتهم وحشدوا كل إمكاناتهم للإطاحة بنفوذ هذا الدين. أو على الأقل إضعافه فى نفوس
__________
(1) انظر: عبد الرحمن بدوى. موسوعة المستشرقين والمصادر التى ذيل بها المؤلف كلامه عن سيل ص 251.(1/386)
المسلمين، وتشويهه لدى جماهيرهم النصرانية، حفاظا على كتابهم المقدس، وللحفاظ أيضا على نزعة التسامي التى تزكيها الكنيسة فى نفوس أتباعها.
لم يدرس الغرب الإسلام من منطلق علمي بل من منطلق نقدى وهجومى، لهذا السبب لم تتحسن نظرتهم بالنسبة للمسلمين على الرغم من القرون المديدة التى استولوا فيها على مصادر الإسلام ودرسوها وكتبوا فيها المصنفات العديدة وكمثال على ذلك فإنه فى الفترة ما بين 11851810م قد نشر ما يربو على الألف صفحة من الكتابات التى تدور حول الإسلام أو تتعلق بالعرب بشكل عام (1) وهذا الكم من الكتابات لم يساعد الغرب على أن يعدل موقفه من الإسلام والمسلمين.
الترجمات الإيطالية
كانت ترجمة = أندريا أرّيفابيني = للقرآن إلى اللغة الإيطالية، هى أول ترجمة إلى اللغات الأوربية الحديثة. وقد ظهرت هذه الترجمة فى فينيسيا عام 1547م.
وعلى الرغم من ادعاء المترجم الإيطالى بأنه اعتمد فى ترجمته على الأصل العربى فإن الدراسات أثبتت أنه لم يعتمد إلا على ترجمة سلفه كيتون المشار إليها سابقا، وأن ترجمته لم تخرج عن كونها صياغة مختلفة بعض الشيء لترجمة الأخير. بعد هذه الترجمة توالت ترجمات إيطالية أخرى ليس من غرضنا تتبعها هنا.
الترجمات الألمانية
وعلى أى حال فقد كانت هذه الترجمة الإيطالية هى النص الذى اعتمد عليه المنصر الألمانى شولومون إسكويجر فى ترجمته للقرآن إلى اللغة الألمانية ومن هذه الترجمة الألمانية أخذت الترجمة الهولندية التى ظهرت فى عام 1641م.
وقد ظهرت ترجمة ألمانية أخرى اعتمد فيها مترجمها، على ترجمة رينيكس اللاتينية والتى ظهرت عام 1721م. وكانت هذه هى الترجمة اللاتينية الثانية بعد الأولى التى أشرنا إليها. وهناك ترجمات ألمانية أخرى جاءت تباعا، ليس هنا محل عرضها أو مناقشتها.
__________
(1) انظر: فيكتور شوفان بيليوجرافيا الكتب العربية أو الكتب التى تتصل بالعرب فى أوربا المسيحية بين سنتى 1810 1185م المجلدات 129. ليبذج 19091907م.(1/387)
الترجمات الفرنسية
أما بالنسبة لفرنسا واللغة الفرنسية، فقد ظهرت أول ترجمة فرنسية للقرآن على يد أندرى ديورير وقد طبعت هذه الترجمة عدة مرات فى الفترة ما بين 17751647م وقد تضمنت كل طبعة من طبعات هذه الترجمة ما أسماه المترجم = مختصر حول ديانة الأتراك = يعنى الإسلام. فالمترجم يجعل الإسلام دينا للأتراك وحدهم وكأن الأتراك هم صانعوا هذا الدين، أو كأن لهم إسلاما خاصا يختلف عن إسلام باقى الشعوب الإسلامية، بالإضافة إلى هذا، فإن التعبير = ديانة الأتراك = يوحى بالتعصب الصليبى السياسي ضد الإسلام والمسلمين. وما قلناه بالنسبة للترجمات السابقة، ينطبق أيضا على الترجمة إلى هذه اللغة، فالأمر فيها لم يتوقف عنده ترجمة واحدة بل تعداه إلى العديد من الترجمات التى توالت تباعا.
الترجمات الإنجليزية
لقد دفعت الترجمة الفرنسية بأول ترجمة للقرآن إلى الإنجليزية الحديثة إلى الظهور على يد إلكسندر روس، وترجمات أخرى هولندية، وألمانية، وروسية كذلك، وتتسم هذه الترجمة بالمبالغة والتلاعب بالنص وتحريف معناه (1). اتسع نطاق ترجمة معانى القرآن الكريم فى الغرب حتى أصبحنا نجد فى اللغة الواحدة عشرات الترجمات، والملاحظ أن هذه الترجمات يقوم بها أفراد لا هيئات عكس ما هو عليه الحال بالنسبة للكتاب المقدس تصطبغ كل ترجمة بأفكار صاحبها ومعتقداته، أو بالأحرى هدفه الذى دفع به إلى هذا الميدان وهذه الترجمات كلها تنطلق من نقطة واحدة وتسعى لهدف واحد، إذ يتفق جميع المترجمين غير المسلمين جميعا على بشرية القرآن، وبالتالى تعدد مصادره.
أما بالنسبة للترجمات التى تحمل أسماء إسلامية فإنها تتنوع بين الفكر الطائفي، والمنحرف، وبين الجهل بأسرار اللغة العربية، وبالعلوم الشرعية، وعلوم القرآن.
__________
(1). ..
1960 .. ..(1/388)
من هذه الترجمات، ترجمة عبد الله يوسف على، وهو من مسلمى طائفة البهرة بالهند، حفظ القرآن صغيرا، وتعلم اللغة العربية، والإنجليزية، وآدابها، ومهر فيها وكانت صلته بالتعليم العلماني فى مرحلة مبكرة من حياته وقد كان هو نفسه ينادي بتعميم التعليم العلماني بين المسلمين، وباحتذاء مثل الدول الغربية فى ذلك صرح بذلك في خطبة ألقاها في غرفة الصالة البيضاء، ونشرت له هذا التصريح مجلة التايمز البريطانية، في عددها الصادر 24يناير 1907م.
هذه الترجمة على الرغم من شيوعها، وعلى الرغم من قيام مجمع الملك فهد بإجراء بعض التنقيحات عليها، فإنها لا تخلو من الأخطاء والأفكار الطائفية ومن الأفكار التى تأثر صاحبها فيها بعلم الكلام المسيحي كما أنها فى الوقت نفسه تشتمل على بعض الأخطاء المطبعية.
ومن أمثلة هذه الأخطاء التى تشتمل عليها ترجمة عبد الله يوسف علي من النوعين السابقين:
* * إصراره على تفسير آيات الجنة والنار تفسيرا رمزيا، وعلى تفسير النعيم الأخروي في الجنة بأنه نعيم روحاني لا حسي جسدي، وهذا هو مذهب الباطنية الإسماعيلية، ومذهب إخوان الصفا.
* * تفسيره للمعجزة بالمعنى الرمزي لا بالمعنى الذى تكلم عنه القرآن، وأجمع عليه المسلمون.
* * توسعه في معنى الإيمان بحيث لا يتطلب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم أو هكذا يمكن أن يفهم من سياق ترجمته وتعليقاته.
* * ترجمته كلمة = الغيب = فى القرآن بما يبعدها عن مقصود الله، متأثرا فى هذا بالعقائد النصرانية وبالمعتقدات الباطنية، وذلك عند ترجمته لقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفََاتِحُ الْغَيْبِ لََا يَعْلَمُهََا إِلََّا هُوَ} (الأنعام: 59) ()، و = الغيب = ما غاب عن حاسة الإنسان وعقله ولا طريق إلى معرفته إلا بخبر الأنبياء، لا بالعلوم والتجارب، ولا بالآيات، ولا بالأجهزة، وهو ما لا تعبر عنه كلمة المأخوذة نصا من الأمانة = النصرانية.
* * وهو يترجم كلمة = جنة = المذكورة فى القرآن: = = التى تعنى حديقة، مجرد حديقة فى بيت.(1/389)
* * ترجمته كلمة = الغيب = فى القرآن بما يبعدها عن مقصود الله، متأثرا فى هذا بالعقائد النصرانية وبالمعتقدات الباطنية، وذلك عند ترجمته لقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفََاتِحُ الْغَيْبِ لََا يَعْلَمُهََا إِلََّا هُوَ} (الأنعام: 59) ()، و = الغيب = ما غاب عن حاسة الإنسان وعقله ولا طريق إلى معرفته إلا بخبر الأنبياء، لا بالعلوم والتجارب، ولا بالآيات، ولا بالأجهزة، وهو ما لا تعبر عنه كلمة المأخوذة نصا من الأمانة = النصرانية.
* * وهو يترجم كلمة = جنة = المذكورة فى القرآن: = = التى تعنى حديقة، مجرد حديقة فى بيت.
* * ومن الأخطاء المطبعية ما جاء فى مقدمة المترجم = يوسف على = لسورة الحجر:
= .. = هذه هى السورة الأخيرة فى سلسلة السور الست المفتتحة ب = الم = والصواب = الر = وقد فات المترجم أيضا أن يشير إلى ما خالفت فيه سورة الرعد فى هذه السلسلة إذ أنها مفتتحة ب = المر =.
وفى تعليق على آية سورة السجدة رقم 12كتبت كلمة () خطأ هكذا () (التعليق رقم 642).
هذه أمثلة قليلة قدمناها هنا وقد قدمنا أمثلة أخرى في بحث لنا عن = ترجمة النص الدينى = نحن بصدد نشره بإذن الله تعالى. وأحيل القارئ إلى رسالة الدكتوراة التى أعدها تلميذنا الباحث الدكتور عبد الجليل حسن علي سالم الديب إلى كلية أصول الدين والدعوة الإسلامية، بطنطا (1420هـ / 1998)، بإشرافنا، وعنوان الرسالة = ترجمة عبد الله يوسف علي دراسة نقدية = وهي أول رسالة علمية فى هذا الباب فيما نعلم.
وترجمة محمد أسد هى ترجمة جيدة ولكنها أقرب إلى موضوع الكتابة عن القرآن منها إلى الترجمة، كما أن المترجم يحرص دائما على تفسير السمعيات، والغيبيات تفسيرا حسيا تبعده عن المقصود من هذه الآيات والذى اتفقت عليه الأمة.
وترجمة مولانا محمد علي الأحمدي اللاهوري الصادرة في عام 1917م بانجلترا والتى استطاعت للأسف أن تتسرب إلى مصر فإنها لا تعدو أن تكون تفسيرا قاديانيا للقرآن الكريم وترويجا للمعتقدات القاديانية الخارجة عن نطاق الإسلام، جملة وتفصيلا، من هذه المعتقدات المرفوضة:
1 - القول بنسخ القرآن.
2 - إبطال عقيدة ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم والقول بنبوة، بل بإلهية الكافر غلام أحمد رأس الفرقة الخارجة.
3 - تمجد الترجمة القيم الغريبة، وتكاد تحل العلم المادي محل الدين.
4 - تفسر الألفاظ والجمل القرآنية بنفس الطريقة التى يفسر بها اليهود والنصارى كتبهم.
وقد قالت مشيخة الأزهر كلمتها فى هذه الترجمة وقررت اللجنة التى شكلها مجمع البحوث لفحص هذه الترجمة، أنها ترجمة يقصد بها تحريف القرآن، وتضليل المسلمين، والدعوة إلى بدعة جديدة مخالفة لإجماع المسلمين، كبدعة الأحمدية القاديانية، التى ادعى زعيمها غلام أحمد القاديانى استمرار الوحي، وأنه هو المسيح المنتظر، وأنه نسخ بعض أحكام القرآن (يعنى الجهاد، ومقاومة الاستعمار) وقد وصفت مجلة المنار فرقة القاديانية، بأنها: = فرقة مسيحية الإسلام = كتبت ذلك المجلة فى عام 1925على أثر رفض الأزهر لهذه الترجمة الطائفية.(1/390)
4 - تفسر الألفاظ والجمل القرآنية بنفس الطريقة التى يفسر بها اليهود والنصارى كتبهم.
وقد قالت مشيخة الأزهر كلمتها فى هذه الترجمة وقررت اللجنة التى شكلها مجمع البحوث لفحص هذه الترجمة، أنها ترجمة يقصد بها تحريف القرآن، وتضليل المسلمين، والدعوة إلى بدعة جديدة مخالفة لإجماع المسلمين، كبدعة الأحمدية القاديانية، التى ادعى زعيمها غلام أحمد القاديانى استمرار الوحي، وأنه هو المسيح المنتظر، وأنه نسخ بعض أحكام القرآن (يعنى الجهاد، ومقاومة الاستعمار) وقد وصفت مجلة المنار فرقة القاديانية، بأنها: = فرقة مسيحية الإسلام = كتبت ذلك المجلة فى عام 1925على أثر رفض الأزهر لهذه الترجمة الطائفية.
وجهود القاديانيين وأموالهم لا تزال توجه ضد القرآن، فهم قد نشروا وينشرون العديد من ترجماتهم المناوئة للقرآن فى أمريكا وفى الدول الأوروبية، وفى إفريقيا، وآسيا ويكفى أن نقول إن أول ترجمة للقرآن باللغة الدنمركية، وهي الترجمة الرائجة فى الدانمارك هي ترجمة قاديانية أنجزها عبد السلام صادق مادسن دنمركي الأصل، اعتنق الإسلام على الطريقة القاديانية صدرت الترجمة فى كوبنهاجن عام 1966، 1967بعنوان ()، فى ثلاثة أجزاء من القطع الصغير وتقع فى 1268صفحة وأعيد طبعها فى عام 1980بمقدمة لرئيس البعثة الإسلامية الأحمدية الإسكندنافية ومما يؤسف له أن هذه الترجمة الطائفية، قد أعيد طباعتها للمرة الثالثة بعد تسع سنوات في عام 1989م فى مجلد واحد. وقد طبعت هذه المرة بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس الديانة القاديانية، الهالكة الذى احتفل به القاديانيون بمدينة تورنتو فى كندا وفى هذا الحفل أقيم معرض لترجمات القرآن ضم هذا المعرض 52ترجمة باللغات المختلفة. وقد ترجم القاديانيون القرآن إلى اللغة الألبانية، وهم الآن ينشطون مسلمي البلقان، محاولين بكل الطرق أن يصلوا إلى الحكم فى ألبانيا، لإقامة دولة قاديانية بها وهم لا يزالون يعملون على تحقيقها.
وقد تنبه علماء إفريقيا لخطورة القاديانية على الإسلام فقد قام الرئيس عيدى أمين بجمع الترجمات القاديانية وحرقها جميعا. (1)
وقد أشرنا إلى ترجمة الكافر رشاد خليفة البهائي التى حشاها بالأفكار البهائية الإلحادية التى تصطدم بلا شك مع مبادئ الإسلام الحنيف. ويقال مثل هذا بالنسبة للترجمة
__________
(1) حسن المعايرجي. الهيئة العامة للقرآن ص 92(1/391)
القاديانية الأثيمة لهذا الكتاب العزيز التى نشرها المدعو الشيخ مبارك أحمدى فى نيروبي فى عامي 1953، 1971م. أتبعت هذه الترجمة بترجمة قاديانية أخرى، ولكن بلغة اللوجندا، لغة مسلمى جنوبي وشرقي أوغندا.
وفى هذه القرينة نلفت النظر إلى الشاعر الإنجليزي السير ريتشارد لورتن، الذى حاول أن ينظم القرآن شعرا (18901821) فقد نشرت مجلة إدنبرة عام 1866م، محاولته لنقل معانى القرآن شعرا (1)، وعلى الرغم من جمال اللغة الشعرية التى استخدمها الشاعر الإنجليزى فى تفسير سورة الضحى، فإن القرآن لا يمكن أن ينظم وقد نفى عن نفسه أن يكون شعرا، وعن مبلّغه أن يكون شاعرا فأوصاف الشعر منفية عن القرآن، وليس فى القرآن شعر أصلا. وأما ما زعمه بعض المتجرئين من وجود شعر فى القرآن، فباطل لأنه لو كان القرآن شعرا، لسهل على العرب محاكاته والإتيان بمثله، فقد كان فى الشعر مجال تنافسهم، ومعقد فخارهم وسجل مآثرهم. أما إذا وجدت بعض العبارات القرآنية الموزونة بالاتفاق فليس يعنى هذا أن فى القرآن شعرا، إذ أن مثل هذه العبارات القليلة الموزونة لم تكتب على منوال الشعر، ولم تشذ البتّة عن منهج الوحى من حيث اللغة والأسلوب والموضوع، ومن حيث التوجه والغاية، ثم إن وجود بعض التفعيلات فى كتاب كبير بحجم القرآن لا يجيز تسميته بالشعر أبدا (2).
وفى هذه القرينة نشير إلى ترجمة القرآن ترجمة شعرية كاملة للقرآن وهى بين أيدينا الآن نفحصها وهى للأستاذ فضل الله نكاين وهو إيراني الأصل ولد فى طهران عام 1938كان يعمل محاضرا بجامعة كمبردج وعمل كذلك فى محطة .. البريطانية وعنوان الترجمة وهى أول ترجمة شعرية كاملة للقرآن والترجمة من منشورات دار دونللى والأنباء بشيكاغو لعام 2000، ومما جاء فى تقريظ الترجمة أنها سوف تكشف سر تأثير القرآن على عقول المسلمين وقلوبهم، السر أو الأسرار التى جعلت الطفل المسلم الصغير يحفظ القرآن ويقرؤه كله من ذاكرته، لا يسقط منه كلمة أو حرف، إن هذه الترجمة إضافة حقيقية للأدب العالمى، وهى إضافة لها
__________
(1) انظر: ترجمته لسورة الضحى على سبيل المثال فى د. محمد صالح البنداق المستشرقون وترجمة القرآن. ص 129.
(2) انظر: الباقلانى (أبو بكر بن الطيب ت 403هـ) إعجاز القرآن تحقيق محمد شريف سكر. بيروت دار إحياء العلوم ص 9389.(1/392)
مغزاها للوعي الدينى على مستوى المعمورة، وهى رائعة الألفية الثالثة، وتقع هذه الترجمة فى 1084صفحة من القطع الكبير، وهى لا تشتمل على النص العربى كترجمة عبد الله يوسف على وبيكثال وغيرهما.
وفى تقديمه للترجمة أشار المترجم إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (17) (القمر: 17)، ثم أتبعها بهذه الشواهد التى اقتبسها من أقوال المترجمين للقرآن، على سبيل المثال بيكثال = السيمفونية = = المعزوفة = النجية التى تخاطب الروح والتى يحرك فيها كل نغم فيها قلب الإنسان، ويسيل دموعه ويوصله إلى حد الانجذاب أو الحب المضنى، إن القرآن لا يمكن أن يترجم هذا اعتقاد سلف العلماء من المسلمين، وهى نفسها وجهة نظر المترجم (يعنى نفسه) =. (1)
ويقول آربرى: = إن بلاغة القرآن، وإيقاعه فى اللغة التى كتب بها القرآن (اللغة العربية) لها مميزاتها الخاصة إنها قوية للغاية ومحركة للمشاعر والخواطر لأعلى درجة، هذه الدرجة تجعل أي ترجمة، والتى هى عادة محكومة بطبائع الأشياء ككل عمل إنساني، تبدو كنسخة هزيلة للروعة المشعة، وللجمال المتألق والنفّاذ، للأصل العربى للقرآن إن القرآن ليس نثرا ولا شعرا فى طبيعته لكنه مزيج فذّ من الاثنين. (2)
ويقول جونز فى تقديمه لترجمة روديل (لندن 1994): = كثير من روعة الأصل يفقد فى الترجمة، وحقا ما يعتقده المسلمون من أن القرآن لا يترجم = = القرآن هو أقدم وإلى حدّ كبير هو أول الأعمال العربية الممتازة، وهو الأثر الأدبى الفائق فى مجاله لكل الحدود =. (3) ونرى من اللازم أن نلفت النظر إلى أن القرآن ليس من الأعمال العربية بل هو وحي نزل باللغة العربية، وليس هو بالكتاب الذى يصنف بين الكتب العربية، إنه نمط وحده، ومثل فريد لا يكرر.
ثم يشير الكاتب إلى بعض الكتّاب الغربيين الذين حكموا على القرآن من خلال الترجمات فقط، على سبيل المثال المؤرخ والفيلسوف الإنجليزي توماس
__________
(1) انظر النص الإنجليزي (من مقدمة بيكثال ط 1957).
(2) من مقدمة أربى لترجمته ط 1962.
(3) داود من مقدمة ترجمته (لندن 1974)(1/393)
كارلايل (17951881م) الذى وصف القرآن بأنه كتاب معقد وممل ومليء بالتكرار والحشو. وقد سبقت الإشارة إلى كلام كارليل فى هذا الكتاب.
ثم يستشهد فضل الله لكاين بكلام أرفنج (منشورات أمانا. فيرمونت 1985) والذى يؤيد به بطريقة غير مباشرة إقدامه على هذه الترجمة الشعرية للقرآن. يقول أرفنج فى التعليق على كلام عبد الله يوسف على = إنني أتمنى أن يتهيأ مترجم يستطيع أن يوفى لهذه العبارات المحكمة والرائعة حقها كما هى فى الأصل =. يقول أرفنج = إن الترجمات التى لا تنفخ روح الجلال والجمال فى قلوب المستمعين (ليست بترجمات) فإن روحا شعرية ربما تأتى لنا فيما بعد الصياغة النبيلة والجديدة التى نحن فى حاجة إليها =.
ثم يعود فضل الله إلى بيكثال فيثبت له نصا آخر يتحدث عن الإعجاز اللغوي والبلاغي فى القرآن مركزا على القوة الأدبية الفذة للقرآن والتى يفوق قوة الشعر والنثر المعروفين (صفحات 11).
بعد هذا ذكر المترجم أنه أنفق عشر سنوات فى ترجمته وأنه حاول ألا يخرج بأي شكل عن المعنى القرآني وكضمان لهذا الهدف فإنه أكثر من الرجوع إلى المصادر العربية والفارسية وبالذات فى تفسير القرآن وأنه اجتهد قدر طاقته ألا يدع لأي تفسير طائفي أن يتسرب إلى ترجمته، إنه استوحى الكتاب الكريم وحده أولا وأخيرا.
المترجم يستحق منّا كلمة شكر وتقدير على الجهد المضنى الذى بذله فى إعداد هذه الترجمة، وعلى تغلبه على عقيدته الشيعية واستلهام القرآن وحده فى فهم القرآن ونقل ما استطاع فهمه من كلماته إلى اللغة الانجليزية، ومما للمترجم علينا من حقّ أيضا أن نشكره على رجوعه إلى المصادر التفسيرية باللغة العربية واللغة الفارسية، ومما لاحظناه أن المترجم يبدي التوقير المأمور به شرعا عند الإشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما كون المترجم قد بلغ الغاية المرضية أم لا فهذا شيء آخر يقال بعد دراسة ممعنة، ومراجعة منصفة تستوجب وقتا أطول ومساحة أوسع، ونحن نتعهد بذلك فى عمل خاص.
ولكننا فى الوقت نفسه نعرض الرأى فيما قرأناه من أمثلة.
1) إن عبارة {الَّذِينَ كَفَرُوا} (البقرة: 6) ترجمها = = فلفظة = كفروا = ترجمت بلفظة = = والتى معناها معترضين وكلمة معترضين عامة ليس لها ما يقيدها فى النص الإنجليزي أعنى معترضين على ماذا؟(1/394)
ولكننا فى الوقت نفسه نعرض الرأى فيما قرأناه من أمثلة.
1) إن عبارة {الَّذِينَ كَفَرُوا} (البقرة: 6) ترجمها = = فلفظة = كفروا = ترجمت بلفظة = = والتى معناها معترضين وكلمة معترضين عامة ليس لها ما يقيدها فى النص الإنجليزي أعنى معترضين على ماذا؟
2) وعبارة {وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (7) (البقرة: 7) ترجمها هكذا:
! والتي تعني إذا أعيد ترجمتها إلى العربية = لهم مقبرة عذاب أو عذاب القبر لهم =.
فالترجمة قد خصصت وفى القبر أما العذاب العظيم نفسه فهو فى الآخرة وهذا ما يفهم من الآية. (انظر تفسير ابن عطية ص 158).
الآية 28من سورة مريم (يا أخت هارون) أسقط منها عبارة (يا أخت هارون)، واستبدلها بالمقصود منها = = ومعناها (أيتها الصالحة أو الفاضلة)، وقد اجتهد المترجم فى هذا الاختيار دون أي قصد سيئ فانه أشار فى الهامش إلى أن العرب قد هجروا مثل هذا التعبير (يا أخ العرب، يا أخت فلان إلخ) بل إنه قد هجر أيضا فى لغات العالم وأشار إلى نقد المستشرقين للقرآن وزعمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم (باعتباره عندهم هو كاتب القرآن) قد خلط بين المريمين، مريم أم المسيح، ومريم أخت هارون وموسى، وذكر أن مريم أم المسيح واليزابيث أم يحيى، كلتاهما من السلالة الهارونية وهذا ما أراد القرآن أن يثبته، وعلى الرغم من هذا فقد كان من الأفضل دينيا ومنهجيا أن يلتزم المترجم بلفظ القرآن مع بقاء الهامش التوضيحى الذى أثبته لأن عبارة (يا أخت هارون) لم تهجر ولن تهجر فى القرآن البتة، وإن هجرت فى الاستعمال العربى اليومى. وهى كلمة تبرز المعنى الذى اضطر المترجم إلى التنبيه عليه فى الهامش بأجلى مما قاله.
ملحوظة أخرى ينبغى أن ننبه عليها وهى ترجمته للفظة {الْمَهْدِ} فى قوله تعالى: {فَأَشََارَتْ إِلَيْهِ قََالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كََانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} (19) بلفظة () التى تعنى فى المقام الأول = مزود، معلف، كوخ صغير، زريبة للحيوان = ثم = سرير طفل =، وهو غير ما يثيره لفظة {الْمَهْدِ} فى القرآن، وكلمة = المزود = هي المذكورة فى (إنجيل لوقا 2: 12) والكلمة ترجمتها في () بكلمة = = وهكذا ترجمتها نسخة (1961).
والأقرب إلى لفظ القرآن وإلى البيئة القرآنية للحدث ككل، أن تترجم بكلمة مهد. ومع هذا فلا ضير على اختيار المترجم إذا اختار اللفظ المفضول وترك الفاضل.(1/395)
ملحوظة أخرى ينبغى أن ننبه عليها وهى ترجمته للفظة {الْمَهْدِ} فى قوله تعالى: {فَأَشََارَتْ إِلَيْهِ قََالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كََانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} (19) بلفظة () التى تعنى فى المقام الأول = مزود، معلف، كوخ صغير، زريبة للحيوان = ثم = سرير طفل =، وهو غير ما يثيره لفظة {الْمَهْدِ} فى القرآن، وكلمة = المزود = هي المذكورة فى (إنجيل لوقا 2: 12) والكلمة ترجمتها في () بكلمة = = وهكذا ترجمتها نسخة (1961).
والأقرب إلى لفظ القرآن وإلى البيئة القرآنية للحدث ككل، أن تترجم بكلمة مهد. ومع هذا فلا ضير على اختيار المترجم إذا اختار اللفظ المفضول وترك الفاضل.
ومن مقتضيات الإنصاف أن نقول إن الكاتب قد التزم بالمعانى القرآنية تماما فيما يخص المسيح عليه السلام وأوضح تماما أن التوحيد هو دين الأنبياء جميعا، وتعليقة على آية 34 وما بعدها يؤكد سلامة عقيدته ومحبته للقرآن. (انظر: ص 480) من اللغات غير الإسلامية التى ترجم إليها القرآن، اللغة السريانية، كما أشرنا من قبل، وينبغى أن ننبه هنا على أن الترجمة السريانية ناقصة، ولا توجد معلومات مؤكدة عن وجود ترجمة سريانية كاملة. تضم مكتبة مانشستر ومكتبة جامعة هارفارد نسخا من هذه الترجمات نقلت معانى القرآن إلى اللغة العبرية حيث توجد مخطوطات لترجمات عبرية بجامعة أكسفورد، وكامبردج وفى مكتبة الكونجرس الأمريكية. وقد أخذت أول ترجمتين عبريتين عن الترجمة الإيطالية التى قام بها أرّيفابيني، وأخذت الترجمة الثالثة عن الترجمة الهولاندية التى اضطلع بها جليز ميكر. وقد سبقت كل هذه الترجمات تلك الترجمة العبرية التى قام بها هرمان ريكين دروف، فى مدينة ليبزج عام 1857م.
الترجمات الروسية
يبدو أن أول ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة الروسية ترجع إلى عصر بطرس الأكبر، حيث ظهرت هذه الترجمة فى عام 1716م ذكر ذلك المستشرق الروسي أغناطيوس كرتشكوفسكى فى مقدمة ترجمته الروسية للقرآن، التى ظهرت فى عام 19511883 وكانت هذه الترجمة سيئة لأنها لم تعتمد على اللغة العربية، بل على ترجمة فرنسية رديئة أخرجها دورييه عام 1647وكانت بعنوان: () (قرآن محمد) وقام بالترجمة الروسية المشار إليها بطرس فاسليفيتس بوسينيكوف، أستاذ بجامعة بادو، وظهرت ترجمات روسية أخرى منها ترجمة أكاديمية العلوم بليننجراد عام 1914وترجمة فيريوفكين فى عام 17951732م، وقد صورت الترجمة الإمبراطورة كاترين الثانية فى عام 1790م وترجمة إلكسندر ألكس كالميكوف، وقد اعتمد فى ترجمتها على ترجمة جورج سيل.
هذه الترجمات نسجت كلها على منوال ترجمات أخرى غير الروسية ولذلك لم تأت هذه الترجمات مصقولة وأمينة فى نقل المعانى القرآنية، والروح القرآنى ولكنها، على أي حال، وبغض النظر عن الدوافع من ورائها، قد ساهمت فى تعريف الكاتب والقارئ الروسي غير المسلم بالإسلام.(1/396)
يبدو أن أول ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة الروسية ترجع إلى عصر بطرس الأكبر، حيث ظهرت هذه الترجمة فى عام 1716م ذكر ذلك المستشرق الروسي أغناطيوس كرتشكوفسكى فى مقدمة ترجمته الروسية للقرآن، التى ظهرت فى عام 19511883 وكانت هذه الترجمة سيئة لأنها لم تعتمد على اللغة العربية، بل على ترجمة فرنسية رديئة أخرجها دورييه عام 1647وكانت بعنوان: () (قرآن محمد) وقام بالترجمة الروسية المشار إليها بطرس فاسليفيتس بوسينيكوف، أستاذ بجامعة بادو، وظهرت ترجمات روسية أخرى منها ترجمة أكاديمية العلوم بليننجراد عام 1914وترجمة فيريوفكين فى عام 17951732م، وقد صورت الترجمة الإمبراطورة كاترين الثانية فى عام 1790م وترجمة إلكسندر ألكس كالميكوف، وقد اعتمد فى ترجمتها على ترجمة جورج سيل.
هذه الترجمات نسجت كلها على منوال ترجمات أخرى غير الروسية ولذلك لم تأت هذه الترجمات مصقولة وأمينة فى نقل المعانى القرآنية، والروح القرآنى ولكنها، على أي حال، وبغض النظر عن الدوافع من ورائها، قد ساهمت فى تعريف الكاتب والقارئ الروسي غير المسلم بالإسلام.
أما أول ترجمة روسية عن اللغة العربية مباشرة، فتحمل اسم الجنرال العسكري بوغوسلافسكي (18931826) وقد ظلت هذه الترجمة مخطوطة، لأن الكنيسة قد منعت طبعها.
وفى عام 1905صدرت فى موسكو ترجمة جزئية لإجناز كراتشكوفسكى وفى عام 1963ظهرت ترجمة أخرى للمترجم نفسه، اعتمد فيها على طبعة المستشرق الألمانى فلوجل للقرآن الكريم، وتبنّى ترقيم فلوجل للآيات. وهناك ترجمات روسية أخرى بأقلام مترجمين مسلمين. وبعد سقوط الشيوعية بدأت تظهر بعض الترجمات الأخرى للقرآن الكريم.
الترجمات الأوردية والجنوب شرق أسيوية
ترجمت معانى القرآن إلى اللغة الأوردية فى الهند وباكستان، وأقدم ترجمة معروفة لنا هى تلك التى قام بها شاه عبد القادر، وشاه رفيع الدين، عمّا العلامة والواعظ الشهير محمد إسماعيل شهيد ويضم كتالوج المتحف البريطانى الهندوستانى عددا غير محدود من أمثال هذه الترجمات، وتضم هذه المجموعة الضخمة من الترجمات بعض ترجمات قام بها نصارى معاونون للاستعمار البريطانى، بالطبع، فقد كتب المنصرون ترجماتهم بحروف رومانية.
وقد أصدر أخيرا مجمع الملك فهد ترجمة أوردية جيدة للقرآن الكريم، وذلك ضمن جهوده العظيمة فى خدمة القرآن الكريم والدعوة الإسلامية.
ترجم القرآن كذلك إلى لغات هند وآرية أخرى، وإلى لغات درافيرية فهناك نسخ باللغة الأسامية، والبنجابية، وقد نشرت مجلة العالم الإسلامى التنصيرية سنة 1915 (بالمجلد الخامس ص 254، 255) أمثلة من ترجمة المنصر جولدساك (1908).
ومن هذه الترجمات ما جاء بالجزراتية، والهندى، والكشميرى، والمراثى، والأوريا،
والبنجابى، والسنسكريتى، والسندي (1).(1/397)
ومن هذه الترجمات ما جاء بالجزراتية، والهندى، والكشميرى، والمراثى، والأوريا،
والبنجابى، والسنسكريتى، والسندي (1).
وفى بلدان جنوب شرق آسيا ظهرت ترجمات لمعانى القرآن الكريم باللغات القومية، واللغات المحلية فقد ترجم القرآن إلى اللغة الإندونيسية، وبعض لغات هذا البلد المسلم الشاسع، المحلية، مثل سندنيس، وحافانيس مكاسّارس، وبوجنيز.
كما ترجم القرآن كذلك إلى الملايو، ولغات آسيوية أخرى كثيرة (2) على سبيل المثال فقد ظهرت ترجمات لبعض أجزاء القرآن إلى اللغة الصينية، وربما رجعت أقدم ترجمة صينية إلى سنة 1800م. وقد جند رجل الأعمال اليابانى سالوما، الذى اعتنق الإسلام، نفسه لهذا الغرض، وشجع عمل ترجمة صينية للقرآن، وكان ذلك حوالى عام 1925ولا زالت الترجمات تتتابع.
أما الترجمة اليابانية فقد قام بها توشهكو أزوتسو، وصدرت هذه الترجمة فى عدة طبعات فى الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن العشرين.
والمسلمون فى اليابان يعدون بالآلاف، ولهم مساجدهم القليلة، وأماكن تجمعهم.
والإسلام فى حاجة ماسة إلى مزيد العناية فى اليابان. وشعب اليابان طيب وألوف.
ترجمات معانى القرآن باللغات الإفريقية
أشار ويلش إلى ثلاث ترجمات للقرآن باللغة السواحيلية أولى هذه الترجمات الثلاث، ترجمة جودفرى ديل، الذى كان له نشاط تنصيرى واسع فى وسط إفريقيا، وقد نشرت هذه الترجمة هيئة فى لندن عام 1923م، وهذه الهيئة متخصصة فى نشر المسيحية، عقيدة وتراثا.
تضم ترجمة ديل أكثر من سبعمائة تعليق تفسيري للمترجم، أو لزميله ج. برونفيلر، وهذه الترجمة لا بد وأن تكون تنصيرية، فى لحمتها، وسداها فقد كان المنصرون يضعون هذه الترجمات كأشراك خداعية لاصطياد عوام المسلمين، حيث يطلعونهم أولا على الموضوعات التى يتفق فيها القرآن مع بعض الأناجيل بصفة عامة، ثم يقولون لهم على سبيل الاستدراج، هذا هو كتابكم قد اعترف بكتابنا وأخذ منه، فالواجب عليكم إذن الإيمان
__________
(1) المصدر السابق ص 430
(2) انظر: المصدر نفسه ود. صالح البنداق، المستشرقون ص ص 188184.(1/398)
بكتبنا هذه فإذا ما سلّم لهم المخاطب فى هذا، انتقلوا به إلى مرحلة أخرى من الخطة، حتى يشككوه، فإذا ما تشكك سهل عليهم انتزاعه من الإسلام وهكذا، ومما يتصل بهذه النقطة ويوضحها أكثر أن نشير إلى طبعة المجمع المعين ببريطانيا لنشر الكتب المقدسة فى داخل إنجلترا وفى خارجها، حيث نشروا هذه النسخة العربية بأسلوب حاكوا فيه طريقة القرآن الكريم لاجتذاب المسلمين الهنود للنصرانية (المطبعة الهندية 1816م) وقد أشرنا سلفا إلى الترجمة الأحمدية التى نشرها الشيخ مبارك فى نيروبى فى عام 1971، 1953. وقد نشر أرنست دامان تعليقا على الترجمة السواحيلية الأحمدية فى ثلاث وخمسين صفحة فى مجلة المستشرقين الألمان (1).
وقدم العالم السني، الشافعي المذهب، عبد الله صالح الفارسى، ترجمته للقرآن فى زانزيبار فى الفترة ما بين (19611956م) فى مجلد واحد فى بانجلور (1949) والمؤسسة الإسلامية فى نيروبى عام 1956م.
وتوجد كذلك ترجمات لمعانى القرآن بلغات إفريقية أخرى، نذكر منها إجمالا، اللغات الحبشية، والصومالية، الأمهرية، برنو، بمبرا، هسوسة، فلانا، ديولا، زولو، ساراكولا، سواحيلي، سونرائى، سوسية، كريئول، كونوكولى، لوغاندى، ملغاش، ولوف، يروبا (2).
هذا بالإضافة إلى الترجمات التى ظهرت فى لغات أوروبية واستهدفت الأفارقة المسلمين، على وجه التحديد يضاف إلى ذلك الترجمات القاديانية، سواء باللغة الإنجليزية أم باللغات الإفريقية فقد ترجم القاديانيون القرآن، ونشروه مع النص العربى فى ثلاثين لغة إفريقية هذا إلى جانب التفاسير الأخرى للقرآن بهذه اللغات، والتى تربوا على المائة، بحسب التقدير الذى توصل إليه الدكتور المعايرجي من خلال المصادر التى اطلع عليها (3).
وفى خاتمة الكلام عن الترجمات نقول إن الترجمة إلى اللغات الأوروبية بدأت برجال الدين المسيحي، وكانت فى الأصل لأغراض تنصيرية خالصة، ثم تطورت بتطور
__________
(1) المجلدين 84و 85لعام 19311930ص 15، 68. ونامق كامل. الفهرست العام لمجلة جمعية الاستشراق الألمانية () ص 104.
(2) انظر: دائرة المعارف الإسلامية موضوع البحث ص 431430وصالح البنداق. المستشرقون وترجمة القرآن، 184: 188.
(3) الهيئة العامة للقرآن ص 99: 101.(1/399)
وسائل الاتصال بين المسلمين والنصارى، وبعد اكتشاف الكثير من المصادر الإسلامية، وانتشار العلم والتنوير بين الأوروبيين، فأصبحت خليطا من العلم والدعاية التنصيرية معا ومهما يكن الأمر، فإن الترجمات ما هى إلا عوامل مساعدة على فهم بعض معانى القرآن الكريم وذلك بقدر ما أوتي المترجم من علم، ومن موهبة وخبرة وفقه باللغتين اللتين يتعامل معهما لا كلها ولكنها لا تغنى البتّة عن قراءة القرآن العربى المعجز فى لغته، والتى لا يمكن ترجمة معانيه كاملة إلى أى لغة من اللغات بل إنه لا يمكنه كتابة مثله فى اللغة العربية نفسها.
وقد مرّ بنا أن القرآن هو الكتاب الوحيد من بين الكتب المقدسة، الذى ظل يقرأ بلغته الأصلية فى كل مكان نزل فيه وهذا فى حد ذاته يضيف إلى معجزة القرآن بعدا آخر، كما أنه يحمل دليلا زائدا على إلهية مصدر القرآن، وعالمية دعوته وموافقته للفطرة الإنسانية.
وفى خاتمة كلامنا عن الترجمات نقول إن الشعوب الإفريقية المسلمة لم تكن فى حاجة إلى ترجمة القرآن لصلتها المباشرة وحبها الأكيد له، فقد حفظ الأفارقة القرآن فى لغته العربية، وأحبوا العربية وتعلموها حبا فى القرآن، وفى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فعلت كل الشعوب الإسلامية.
والسبب فى ظهور الترجمات الإفريقية التى ترجع بداية إلى القرن الماضى هو الاستعمار الذى كان يحاصر اللغة العربية، ومحاولته الدءوب لعزل الأفارقة عن اللغة العربية، وعن القرآن. لقد فرض الاستعمار لغته على شعوب القارة وبالتالي عمل المنصرون وأعوانهم على تقديم ترجمات مشوهة تسيء إلى الإسلام، وتصرف الناس عنه وجميع الترجمات الإفريقية للقرآن والتى واكبت الاستعمار والتنصير فى إفريقيا تشبه تلك الترجمات القديمة التى قام بها رجال الكنيسة بغرض الهجوم على الإسلام، وتنفير شعوبهم منه وكل هذه الترجمات تحمل الطابع المسيحي.
نضيف إلى ذلك أن ترجمات القرآن الكريم التى ظهرت فى إفريقيا لم تقتصر على اللغات المحلية بل كان منها ما هو باللغة الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية، والألمانية، والبرتغالية، والأمريكانية (لغة البيض الذين استوطنوا جنوب إفريقيا).(1/400)
نضيف إلى ذلك أن ترجمات القرآن الكريم التى ظهرت فى إفريقيا لم تقتصر على اللغات المحلية بل كان منها ما هو باللغة الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية، والألمانية، والبرتغالية، والأمريكانية (لغة البيض الذين استوطنوا جنوب إفريقيا).
الخاتمة خلاصة القول فى آراء المستشرقين ومواقفهم من القرآن
فى هذا الموضع نجمل ما قد فصلناه فى ثنايا هذا الكتاب من استعراض لآراء المستشرقين وطعونهم ضد القرآن الكريم منذ صدور أول ترجمة له فى الغرب، وحتى ظهور الكتابات والدراسات المختلفة المعنية بالقرآن الكريم من قبل المستشرقين، وبخاصة ما ورد فى دائرة المعارف الإسلامية باللغة الإنجليزية الصادرة عن دار بريل للنشر بليدن فى 1913 1938م، والطبعة الجديدة الصادرة عن الدار نفسها بالاشتراك مع دار لوزاك للنشر بلندن عام 1960م، وكذلك المصادر التى اعتمدت عليها سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وقد أضفنا فى هذه الخاتمة ما رأيناه مناسبا لسياق الموضوع أو متصلا به مما لم نكن قد أوردناه فى أي من أبواب هذا الكتاب أو فصوله.
استخدم المستشرقون الأوائل على وجه العموم خطة عملية فى تناولهم للإسلام تهدف إلى تشويه صورته والتشكيك فى مصداقيته، فاستهدفوا أولا القرآن الكريم باعتباره قاعدة الإسلام الكبرى الذى اجتمع عليه العرب وأحبوه ودانوا الله بحبه، وعكفوا على تلاوته وحفظه وتدبره، ولأنه الكتاب الذى أحبه العرب ممن دخلوا فى الإسلام وتعلموا لغة القرآن ومهروا فيها وصاروا أئمة فى علوم القرآن وأعلاما فى العلوم الإنسانية.
اتجه المستشرقون أولا إلى ترجمة القرآن الكريم بهدف تحريف كلمه، وتصحيف معانيه بحيث تخدم أغراضهم فى الحط من الإسلام، ولهذا استخدموا هذه الترجمات بطرق مغرضة للوصول إلى أهداف محددة، وملتوية بعيدة عن النص فى لغته وفحواه.
من هذه الطرق:
انتقاد الأحاديث النبوية الصحيحة.
اعتمادهم على الكثير من مادة أدب السيرة النبوية والمغازي غير الصحيحة.
اعتمادهم على الأحاديث الضعيفة، والحكايات التاريخية الملفقة، والروايات المتعارضة فى ظاهرها دون بذل أي جهد للتوفيق بينها فى إطار الروايات الصحيحة والمسلمات الإسلامية، ونحو ذلك.
وقد قادتهم أو ساعدتهم هذه الخطة المسبقة إلى تقرير نتائج غير صحيحة علميا، وأحيانا كثيرة، غير مقبولة عقليا وليس لها أدنى ارتباط بمقدماتها، فزعموا على سبيل المثال
أن القرآن كتاب بشرى، ألّفه النبى صلى الله عليه وسلم. لذلك جاءت ترجماتهم الأولى للقرآن تحمل هذا العنوان = قرآن محمد = وفى سبيل تحقيق هذا الغرض وإبرازه، راحوا يتنكبون كل طريق على غير هدى، ليثبتوا أن محمدا قد استعار من الكتب اليهودية والنصرانية عند كتابة القرآن وقاسوا القرآن خطأ على كتب العهد القديم والعهد الجديد، والتى جمعت من هنا وهناك، فى أحقاب زمنية جد متباعدة، كما أكده النقاد الغربيون أنفسهم بالنسبة للكتاب المقدس والذى سبق إليه علماء مسلمون كبار فى دراسة الأديان المقارنة من أمثال النوبختى، والجاحظ، وابن حزم الأندلسى، والقرطبي، وحجة الإسلام الغزالى، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم والقرافي وغيرهم.(1/401)
وقد قادتهم أو ساعدتهم هذه الخطة المسبقة إلى تقرير نتائج غير صحيحة علميا، وأحيانا كثيرة، غير مقبولة عقليا وليس لها أدنى ارتباط بمقدماتها، فزعموا على سبيل المثال
أن القرآن كتاب بشرى، ألّفه النبى صلى الله عليه وسلم. لذلك جاءت ترجماتهم الأولى للقرآن تحمل هذا العنوان = قرآن محمد = وفى سبيل تحقيق هذا الغرض وإبرازه، راحوا يتنكبون كل طريق على غير هدى، ليثبتوا أن محمدا قد استعار من الكتب اليهودية والنصرانية عند كتابة القرآن وقاسوا القرآن خطأ على كتب العهد القديم والعهد الجديد، والتى جمعت من هنا وهناك، فى أحقاب زمنية جد متباعدة، كما أكده النقاد الغربيون أنفسهم بالنسبة للكتاب المقدس والذى سبق إليه علماء مسلمون كبار فى دراسة الأديان المقارنة من أمثال النوبختى، والجاحظ، وابن حزم الأندلسى، والقرطبي، وحجة الإسلام الغزالى، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم والقرافي وغيرهم.
ناهيك بالإساءات البالغة التى وجهها هؤلاء الغربيون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انتقدوا حياته الخاصة والعامة، ورماه رجال الكنيسة المتعصبون بأدوائهم فزعموا أنه كان شهوانيا، ومغرما بالنساء، ومزواجا وزعموا كذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان مصابا بمرض الصرع، والهلوسة، والوهم، والهستيريا إلخ وأنه ألف بنفسه الآيات القرآنية التى رأى فيها راحته النفسية، وسلواه الروحية وتحقيق طموحاته فى الحياة، وزعموا كذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان سيئ الطبع قاسى القلب، يغدر ويفجر بأصحابه، وغير ذلك من الأوصاف التى تكذّبها حياته صلى الله عليه وسلم وسيرته، وشهادته معاصريه، ومنهم أعداؤه.
وهذه الأكاذيب ما كان ينبغى أن تحاك حول رجل قد بلغ القمة بفضائله، وتجرده فى كل أعماله وأقواله صلى الله عليه وسلم وبحبه للإنسانية، وفتح أعين الناس على العدل والحق والخير، وغيّر وجه التاريخ، وعدّل مسيرته وو الله لو لم يكن هذا الرجل نبيا أو رسولا لكان أجدر بنا أن نجلّه ونتبعه، ونؤثره، ونقدمه على كل عظيم. فما بالك وأدلة السمع، والفؤاد، والعقل، والتاريخ، والسيرة، والآثار الحية الباقية على الدهور قد تضافرت جميعا على صدق نبوته، وثبوت عصمته، وصحة رسالته، وسمو أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
كل هذه الأكاذيب حاكوها بقصد الطعن فى النبى، كمبلغ للقرآن، وحتى لا يكون محمد صلى الله عليه وسلم أهلا للثقة، ولا جديرا بالرسالة. ولذلك لما لم تفلح أكاذيبهم، ولما لم يتوصلوا إلى أغراضهم بالألسنة والأقلام، شهروا السيوف، وحملوا الصلبان ضد المسلمين، وزحفوا عليهم فى ديارهم، من كل حدب فى أوروبا ينسلون، يقاتلونهم ويحتلون أرضهم ويعبثون بمقدساتهم.
بل لقد كان الاستشراق والتنصير بمثابة الحرب الباردة ضد المسلمين، وكان من المستشرقين من عمل مع قوات الاحتلال البريطانى، وتجسس لحسابهم كالمستشرق = بالمر = (18821840)، ومما ينبغى ذكره أن بالمر ترجم قصائد البهاء زهير ثم ترجم القرآن فيما بعد إلى اللغة الإنجليزية، ونشرت ترجمته للقرآن ضمن سلسلة كتب الشرق المقدسة التى كان = ماكس ميلر = يتولى إصدارها. عمل هذا المستشرق جاسوسا للاستعمار البريطانى فى المنطقة العربية، وبالأخص فى صحراء سيناء، ليؤلب زعماء القبائل هناك ضد أحمد باشا عرابي، ويجمعهم على نصرة بريطانيا ضد ألمانيا، وقد كان مصيره القتل ومما ينبغى ذكره أيضا أنه كان من هؤلاء المستشرقين الكبار أعضاء فى مجامع لغوية وعلمية، عربية وإسلامية، وكذلك كان منهم أساتذة فى جامعات مصرية وعربية أخرى، ينشرون أفكارهم المعادية للإسلام بين المسلمين، تحت ستار البحث العلمى ومن هؤلاء، المستشرق الألمانى الكبير فنسنك (19391882م) الذى طرد من مجمع اللغة العربية بمصر بسبب كتابة: = العقيدة الإسلامية نشأتها وتطورها = والذى ردّ فيه الإسلام إلى أصول شرقية، وجاهلية. ومما هو جدير بالذكر أن فنسنك من المشاركين فى إعداد المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوى (1)، ولكن هذا العمل العملاق يستحق عليه الشكر هو وكل من ساهم معه فى سبيل إخراجه.(1/402)
كل هذه الأكاذيب حاكوها بقصد الطعن فى النبى، كمبلغ للقرآن، وحتى لا يكون محمد صلى الله عليه وسلم أهلا للثقة، ولا جديرا بالرسالة. ولذلك لما لم تفلح أكاذيبهم، ولما لم يتوصلوا إلى أغراضهم بالألسنة والأقلام، شهروا السيوف، وحملوا الصلبان ضد المسلمين، وزحفوا عليهم فى ديارهم، من كل حدب فى أوروبا ينسلون، يقاتلونهم ويحتلون أرضهم ويعبثون بمقدساتهم.
بل لقد كان الاستشراق والتنصير بمثابة الحرب الباردة ضد المسلمين، وكان من المستشرقين من عمل مع قوات الاحتلال البريطانى، وتجسس لحسابهم كالمستشرق = بالمر = (18821840)، ومما ينبغى ذكره أن بالمر ترجم قصائد البهاء زهير ثم ترجم القرآن فيما بعد إلى اللغة الإنجليزية، ونشرت ترجمته للقرآن ضمن سلسلة كتب الشرق المقدسة التى كان = ماكس ميلر = يتولى إصدارها. عمل هذا المستشرق جاسوسا للاستعمار البريطانى فى المنطقة العربية، وبالأخص فى صحراء سيناء، ليؤلب زعماء القبائل هناك ضد أحمد باشا عرابي، ويجمعهم على نصرة بريطانيا ضد ألمانيا، وقد كان مصيره القتل ومما ينبغى ذكره أيضا أنه كان من هؤلاء المستشرقين الكبار أعضاء فى مجامع لغوية وعلمية، عربية وإسلامية، وكذلك كان منهم أساتذة فى جامعات مصرية وعربية أخرى، ينشرون أفكارهم المعادية للإسلام بين المسلمين، تحت ستار البحث العلمى ومن هؤلاء، المستشرق الألمانى الكبير فنسنك (19391882م) الذى طرد من مجمع اللغة العربية بمصر بسبب كتابة: = العقيدة الإسلامية نشأتها وتطورها = والذى ردّ فيه الإسلام إلى أصول شرقية، وجاهلية. ومما هو جدير بالذكر أن فنسنك من المشاركين فى إعداد المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوى (1)، ولكن هذا العمل العملاق يستحق عليه الشكر هو وكل من ساهم معه فى سبيل إخراجه.
وعلى القائمة يوجد اسم المستشرق الإنجليزي = جب = (19711895م) الذى حاك كثيرا من الافتراءات والترهات حول القرآن الكريم، إذ قد ادعى أنه من صنعة محمد، جريا على الأصولية العدائية للمستشرقين، هذا هو ما ينضح به كتاب () المحمدية (يعنى، الإسلام) والمستشرق الألمانى فيشر (1865 1949م) طرد من عضوية المجمع اللغوى سنة 1945م لأنه كتب رسالة بعنوان = آية مقحمة فى القرآن =، كما ادعى أن الاسم = محمد =، كان يستعمل بين البيزنطيين قبل الإسلام وليس أقل غرابة ولا أبعد فى المبالغة من زعمه أن سكان مكة، والمدينة، وأجزاء من الأماكن المحيطة بهما، قد تخلوا عن استعمال الإعراب فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم وبعده. هذه المقولة المزعومة تخفى وراءها غرضا آخر غير مجرد الدراسة، وهو الطعن فى القرآن كما تبين للقارئ فى مواضع كثيرة من هذا الكتاب.
__________
(1) انظر: نذير حمدان. مستشرقون. السعودية. مكتبة الصديق 1408هـ 1988م ص 216.(1/403)
ومن البارزين فى مجال الحرابة ضد القرآن المستشرق الفرنسى بلاشير (19701900م) الذى اقتفى آثار سلفيه، فلوجل، ونولدكه، فى طريقة ترتيب القرآن حسب النزول يزعم بلاشير أن فقرة = الغرانيق = المزعومة من صميم القرآن، وأن القرآن قد تعرضت أجزاء منه للضياع سواء المحفوظ منها فى الذواكر، أم المسطور منها فى الدفاتر.
ولسنا ندرى على أي أساس بنى بلاشير زعمه في ضياع أجزاء من القرآن. وعلى أي أساس ساغ له هذا القول. ويردد بلاشير دعوى المستشرق اليهودى إبراهام جيجر وغيره، بأن القرآن مأخوذ من مصادر يهودية ونصرانية، مشيرين بالذات إلى إنجيل الصبوة الذى لا يعترفون به ضمن الأناجيل المعتمدة كنسيا وذلك لمجرد وجود بعض النقاط المتشابهة بينه وبين القرآن (1) وهذا زيف وحيف، أنّى لمحمد بهذا الإنجيل، وغيره من الأناجيل، التى لم تكن قد نقلت إلى العربية، بل لم تكن فى متناول أيدي عامة النصارى أنفسهم.
يلحق بهؤلاء ألفريد جيوم الذى حصل على عضوية المجمع العلمى العربى بدمشق عام 1948م، والمجمع العراقى سنة 1949م. فقد قامت دراسات جيوم كلها على أساس بشرية القرآن وانتحال محمد مادة القرآن من اليهودية والنصرانية وأخطر ما كتب هذا المستشرق كتابيه = حياة محمد = (أكسفورد: 1956م)، و = الإسلام = سنة 1954م.
وأغرب دعوى قال بها جيوم هى زعمه بأن = الإسلام ابن وقته =، يعنى أن محمدا صلوات الله عليه وسلامه، لم يبعث إلا لعرب زمانه، وليس لكل العرب فى كل زمان ومكان وفحوى هذا الكلام أن الإسلام غير قابل للتطبيق بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم وأن دين الإسلام إنما أسسه محمد صلى الله عليه وسلم لمواجهة مشكلات وأمور محلية خاصة، خضعت لظروف معينة، انتهت بوفاته صلى الله عليه وسلم. والبديل عن الإسلام فى غاية ما ينتهى إليه كلام جيوم هو ضرورة تخلى المسلمين عن الإسلام، وطرح الانتماء إليه وتبنى النموذج الغربى، فى الديانة والحضارة. لم يعبأ المستشرق جيوم بالآيات الكثيرة والمتنوعة ولا بالأحاديث الكثيرة والواضحة كذلك فى تقرير عالمية الإسلام وشمول دعوته لكل أفراد النوع ومناحى الحياة لكل العقول ولكل البيئات. ونقول بأبلغ صيغ التأكيد إن القرآن لا تتسع له المجتمعات الضيقة المحاصرة، ولا الشعوب المتقاعسة المكبلة بأسباب الجهل والكسل والجمود واليأس.
والمستشرق الفرنسى جون بيرك عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة أيضا، ممن اعتنق
__________
(1) المصدر نفسه ص 218، 232.(1/404)
عقيدة سلفه من المستشرقين، والمنصرين فى القول ببشرية المصدر القرآنى. وقد وجهت الدكتورة زينب عبد العزيز حملة ضده، وأفلحت فى تنبيه الأزهر، وأعلام الفكر فى مصر إلى موقفه من كتاب الله تعالى.
أما الكاتب الأمريكى ولفسون صاحب كتاب = فلسفة علم الكلام =، فيزعم أن القرآن متناقض وبخاصة فى مسألة = القضاء والقدر =، وهو بهذا لم يتهم القرآن بالتناقض، وإنما لنفسه اتهم بسوء الفهم والتعجل فى إصدار الأحكام، وأكد التهمة على نفسه فى ذلك. ليس فى القرآن تناقض، ولا عوج، وإنما فيه معالجة حكيمة لجوانب النفس البشرية والحياة الإنسانية، وذلك فى إطار القدرة والعناية الإلهيتين والتدبير الربانى، ولقد ساءني كثيرا أن ولفسون قد ترجم الآية الثانية من سورة الحديد: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} هكذا (،)، فترجم كلمة = ويميت = بكلمة () أى يقتل (1) وهذا بعيد جدا عن المعنى المراد، ومصادم لوضع اللفظ فى قرينة الآية، ومجموعة الآيات المجاورة كذلك. والترجمة الصحيحة لكلمة = ويميت = على النحو التالى:
= () =. وإذا نظرنا إلى ترجمة إدوارد بالمر (18821840) الإنجليزي، وجدناها تلتزم بالحرف أكثر مما تلتزم بالمعنى، ولاحظنا أيضا أن المترجم قد ضل فى شعاب القرآن الكريم وأنه قد جمع إلى عدم الإيمان بالإسلام عدم الإلمام بأسرار اللغة العربية فاجتمعت فيه السوأتان معا، سوأة عدم الاعتقاد، وسوأة عدم الفهم الصحيح.
يقول بالمر عن أسلوب القرآن ولغته: = إن لغته نبيلة وقوية، لكنها ليست أنيقة ولا متألقة أدبيا، ولا بد أنها قد أثارت دهشة سامعى محمد (صلى الله عليه وسلم) وإعجابهم من ناحية الطريقة التى أدخلت فى أذهانهم حقائق عظيمة عبّر محمد (صلى الله عليه وسلم) عنها بلغة الحياة اليومية وليس فى الأسلوب القرآني، ولا فى الألفاظ شىء عتيق، وليس فى كلام القرآن جمال، ولا خيالات لطيفة، ولا محسنات شعرية بديعة لم يكن النبى يتكلم بفصاحة بل بلغة خشنة، شديدة ومعتادة والتحسين الخطابى الوحيد الذى سمح محمد لنفسه به، هو أنه جعل
__________
(1).،
، 1967. 600،، 1990
. 99.(1/405)
فواصله (أى القرآن)، وكلماته ذوات إيقاع متفاوت الوزن. وجعل معظم عباراته مسجوعة وهذا أمر كان، ولا يزال طبيعيا، عند كل خطيب عربى، وهو نتيجة ضرورية لتركيب اللغة العربية = يرمي المترجم من خلال هذا الزعم أن القرآن غير خارق وغير معجز، وإنما هو من جنس كلام العرب، وبالتالى من مقدوراتهم الأدبية.
وهو بهذا ينفى عن القرآن أهم صفاته، وهى البلاغة العالية والبيان السامى ويقطع كأسلافه بأن القرآن من عمل محمد صلى الله عليه وسلم ومن تصميمه. ويعتبر هذا المستشرق أن الفواصل والأسجاع القرآنية = نتيجة ضرورية لتركيب اللغة العربية =، وقد تكلمنا عن الفواصل، والأسجاع فى قرينة لغة القرآن ولكننا نلفت النظر هنا إلى ادعاء بالمر بأن الأسجاع من ضرورات اللغة، هذا إطلاق متعسف، وتحكّم بالباطل.
السجع طريقة من طرق التعبير وليس ضرورة من ضرورات اللغة البتّة والفرق بين الطريقة والضرورة كبير، كما ذكرنا من قبل. أضف إلى ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكتب القرآن، ولم يختر هو ألفاظه وتراكيبه وإنما تلقاه بجملته من جبريل، الذى تلقاه بجملته عن الله تبارك وتعالى. والفرق بين القرآن وبين حديثه صلى الله عليه وسلم، كالفرق بين لغة البشر ولغة القرآن الذى هو كلام الله رب العالمين.
ولكى نعرف مدى غلو هذا المستشرق فى طعنه فى القرآن يبقى أن ندقق النظر فى عبارته الفجّة، وهو يقرر طريقته فى الترجمة قائلا: = لقد ترجمت كل جملة بالقدر من الحرفية، الذى يسمح به الاختلاف بين اللغتين (العربية والإنجليزية)، وترجمته كلمة بكلمة كلما كان ذلك ممكنا. ولكنه عند ما يكون التعبير خشنا أو مبتذلا فى العربية لم أتردد فى نقله، بلغة إنجليزية مماثلة، حتى لو كان النقل الحرفي يصدم القارئ = (1).
القرآن ليس فيه تعبير خشن أو مبتذل البتّة، وإنما المبتذل كلام بالمر، ودعاواه الفارغة، وشدة تحامله على القرآن، وتجمله لنقاد الإسلام. هذا غيض من فيض يمكن أن يقال حول ترجمة بالمر، ومقدمته على هذه الترجمة.
والآن نلقى بعض الضوء على ترجمة آرثر جون أربرى (مستشرق إنجليزي 19691905) وهو أديب ذواقة واسع الاطلاع. عنى آربرى بترجمة القرآن الكريم، فأصدر فى أوائل الخمسينات ترجمة لمختارات من آيات القرآن، صدّرها بمقدمة طويلة،
__________
(1) مقدمة ترجمة بالمر والنقل عن عبد الرحمن بدوى. موسوعة المستشرقين ص 4544.(1/406)
وكان عنوان هذه المختارات = القرآن المقدس =، نشرت فى المجلد التاسع من سلسلة = الكلاسيكيات الأخلاقية والدينية للشرق والغرب = التى كان يشرف هو عليها منذ عام (1950). وفى (1955م) أصدر المستشرق نفسه ترجمة كاملة لمعانى القرآن فى مجلدين ثم فى مجلد واحد بالقطع الصغير، عنوانه هو) (القرآن مفسرا أو ترجمة تفسيرية للقرآن (1).
لم يراع المترجم حرفية تسلسل الآيات، ولا بنائها اللغوى وإنما راعى اختيار أحسن الأساليب فى اللغة الإنجليزية ملائمة للتعابير القرآنية ولذلك جاءت ترجمته فى ثوب لغوى آنق، وبيان أنصع وأمتع من ترجمات غيره، وإن كان لنا على ترجمته كلام نقوله فى غير هذا الموضع، فى بحث خاص عن ترجمة النص الديني دراسة مقارنة. وفى الجملة فإن ترجمة آربرى لا تخلو من أخطاء، ومخالفات.
وسوف ندخر الكلام هنا عن ترجمة رودويل الإنجليزية للسبب نفسه، ونكتفى بمجرد الإشارة إليها هنا، ولا يفوتنا ونحن نستعرض أهم ترجمات القرآن ومقدمات المستشرقين ودراساتهم حوله، أن ننوه بجهود المستشرق الألمانى = فلوجل = ( .. ) (18021870) فى وضع معجم مفهرس لألفاظ القرآن، والذى أفاد منه بلا شك الباحثون جميعا فى الشرق والغرب وإن كنا لا نوافق فلوجل فى طبعته للقرآن (الطبعة الأولى 1834، والطبعة الثانية 1842م) والتى خالف فى ترقيمها المصحف العثمانى، كما ذكرناه سابقا.
وليس يجمل بنا أن نتجاوز التنويه بموقف الفيلسوف الإنجليزي = توماس كارليل = كأحد المعتدلين من عباقرة الغرب، الذى عبّر فى كتابه = البطولة وعبادة الأبطال = ترجمة محمد السباعى، عن سخطه من اتهام بنى قومه للنبى محمد صلى الله عليه وسلم بالكذب والخداع ويعتبر هذا الفيلسوف محمدا صلى الله عليه وسلم بطلا صادقا، ومؤسسا لأمة كبيرة وعظيمة، يقول: = لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدن من أبناء هذا العصر أن يصغى إلى ما يدعيه المدعون من أن دين الإسلام كذب، وأن محمدا خداع مزور، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإن الرسالة التى أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثنا عشر قرنا (أكثر من أربعة عشر قرنا
__________
(1) انظر: بدوى. موسوعة المستشرقين ص 87.(1/407)
الآن) لنحو مائتي مليون (بزيادة بليون نسمة الآن) من الناس أمثالنا، خلقهم الله الذى خلقنا، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التى عاش بها ومات عليها هذه الملايين فائتة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة؟! أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدا ولو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج، ويصادفان منهم هذا التصديق والقبول، فما الناس إلا حمقى ومجانين، وما الحياة إلا سخف وعبث وضلال، كان الأولى بها ألا تخلق، هل رأيتم قط معشر الناس أن رجلا يستطيع أن يوجد دينا وينشره؟ عجب والله!! إن الرجل الكاذب لا يقدر أن يبنى بيتا من الطوب وعلى ذلك فلسنا نعد محمدا رجلا كاذبا متصنعا يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغيته أو يطمح إلى درجة ملك، أو غير ذلك من الحقائر والصغائر، وما الرسالة التى أداها إلا حقا صريحا، وما كانت كلمته إلا صوتا صادقا صادرا من العالم المجهول كلّا! ما محمد بالكاذب ولا بالملفق، وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة، فإذا هو شهاب قد أضاء العالم أجمع، ذلك أمر الله =
ولتوماس كارلايل كلام كثير صادق فى وصف النبي صلى الله عليه وسلم فى بلاغه عن الله تعالى، وفى نفسه كإنسان عظيم، ورسول كريم إلا أن كارلايل قد خانته عبقريته فجعلته يخطئ خطأ ذريعا يقاس حجمه بحجمه كفيلسوف عظيم، وذلك عند ما حكم على كتاب لا يفهمه، ولا اتصال له به فى لغته الأصلية أعنى القرآن الكريم بعدم البلاغة، وبالتشويش فى الفكرة والموضوع، وبالتكرار الممل، وغير ذلك مما يتنافى مع مطلق حسن الألفاظ والمعانى القرآنية هذا مع أن القرآن الكريم كان هو خلق النبى صلى الله عليه وسلم، وكان هو أساس دعوته ودولته، وكان هو المنهج الذى سار عليه صلى الله عليه وسلم فى حياته وألزم بالسير عليه أمته من بعده.
ولقد خانت كارلايل عبقريته وشجاعته الأدبية مرة أخرى عند ما أعلن بصراحة مكشوفة، وكأنه يعتذر إلى بنى قومه عن بعض الإنصاف الذى أولاه محمدا صلى الله عليه وسلم، بأنه إنما صرح بقوله هذا لأنه = لم يعد هناك خوف من أن يصير أحد من النصارى محمديا (1) (يعنى مسلما) =. وكلامه هذا يذكرنا مع الفارق بموقف الكنيسة من أول ترجمة للقرآن، إذ لم تسمح بنشرها خوفا من أن تؤثر على جماهير النصرانية.
__________
(1) انظر ..(1/408)
إنه على الرغم من وضوح عقيدتنا، وسمو قيمنا، وعالمية دعوتنا، وقيامها على أسس راسخة، من الإيمان بالله وبجميع الرسل والأنبياء، وبوحدة الجنس البشرى، وعلى الرحمة والتواصى بالحق والخير، والعدل وبالتعاون على البر والتقوى، فإن تأثير الاستشراق والحركات التنصيرية قد وصلت سمومها وجراثيمها إلى نقطة الخطورة فى جسم الأمة وعقلية بعض أبنائها سواء بطريقة مباشرة أم بطريقة غير مباشرة.
لقد أحدثت الآراء الاستشراقية بعض الخلل فى بنائنا الاجتماعي، وهزة فى كياننا الانتمائى والتواصلي، حتى إنه ليمكن أن نرجع الكثير من أسباب الخلاف بين مثقفينا وبين بعض فئات مجتمعنا إلى هذه الأسلحة الجرثومية التى تصدر إلى بلاد المسلمين، وتصب فى عقول أبنائنا هذه السموم الفتاكة الموجهة إلينا المغلفة تغليفا جيدا، والمزودة بنشرات من المعلومات المضللة، التى قد يحملها سماسرة منا أذكياء، يروجون لها ويستميتون فى الدعوة إليها والدفاع عنها.
يقول الشيخ أبو الحسن الندوى فى كتابه = الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية فى الأقطار الإسلامية: = المستشرقون وعلماء الغرب الذين كرسوا حياتهم على دراسة العلوم الإسلامية ويملكون إعجاب الأوساط العلمية فى الشرق والغرب وإجلالها وتقديرها، ويقام لآرائهم ونظرياتهم فى البحوث الإسلامية فى الشرق وزن كبير، أثاروا فى قلوب قادة العالم الإسلامى اليوم وزعمائه ممن تثقفوا فى مراكز الغرب الثقافية الكبرى، أو درسوا الإسلام بلغات الغرب شبهات حول الإسلام والمصادر الإسلامية، وأحدثوا فى نفوسهم يأسا من مستقبل الإسلام، ومقتا على حاضره وسوء ظن بماضيه، كما أن لهم إسهاما كبيرا فى الحث على نعرة = إصلاح الديانة = و = إصلاح القانون الإسلامى =، والمستشرقون يركزون كل جهودهم ومساعيهم على تعرف مواضع الضعف وتمثيلها فى صورة مهولة مروعة، وإنهم ينظرون إليها عن طريق الآلة المكبرة، ويعرضونها كذلك للقراء حتى يروا الذرة جبلا، والنقطة بحرا، والفسيلة نخلة، وقد ظهرت حذاقتهم، وبان ذكاؤهم فى تشويه صورة الإسلام =.
= وقليل من هؤلاء المستشرقين يدسون فى كتاباتهم مقدارا خاصا من = السم =، ويحترسون فى ذلك، فلا يزيد على النسبة المميتة لديهم حتى لا يستوحش القارئ، ولا يثير ذلك فيه الحذر، ولا يضعف ثقته بنزاهة المؤلف، إن كتابات هؤلاء أشد خطرا على القارئ من كتابات المؤلفين الذين يكاشفون بالعداء، ويشحنون كتبهم بالكذب والافتراء،
ويصعب على رجل متوسط فى عقليته أن يخرج منها، أو ينتهى من قراءتها دون الخضوع لها. ولسنا الآن بصدد استعراض وإيضاح تحريفاتهم وأخطائهم الفنية ودجلهم وتلبيسهم، فإنه لا شك موضوع علمى مهم، وخدمة دينية عظيمة تحتاج إلى مجمع علمى عظيم = (1).(1/409)
= وقليل من هؤلاء المستشرقين يدسون فى كتاباتهم مقدارا خاصا من = السم =، ويحترسون فى ذلك، فلا يزيد على النسبة المميتة لديهم حتى لا يستوحش القارئ، ولا يثير ذلك فيه الحذر، ولا يضعف ثقته بنزاهة المؤلف، إن كتابات هؤلاء أشد خطرا على القارئ من كتابات المؤلفين الذين يكاشفون بالعداء، ويشحنون كتبهم بالكذب والافتراء،
ويصعب على رجل متوسط فى عقليته أن يخرج منها، أو ينتهى من قراءتها دون الخضوع لها. ولسنا الآن بصدد استعراض وإيضاح تحريفاتهم وأخطائهم الفنية ودجلهم وتلبيسهم، فإنه لا شك موضوع علمى مهم، وخدمة دينية عظيمة تحتاج إلى مجمع علمى عظيم = (1).
اطلعنا من خلال هذا الكتاب أيضا على ما أثاره مستشرقون متحيرون، من أمثال شخت وبرتون حول الأحاديث، وكيف أنهم اتهموا الفقهاء بالوضع والتلفيق للأحاديث النبوية، بغية تأييد أفكارهم والانتصار لآرائهم واتجاهاتهم، وجهل أو تجاهل هؤلاء المستشرقون ما أسسه المسلمون من علم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، وعلم الرواية والدراية، وكذلك جهلوا الضوابط والمعايير الصارمة التى وضعها المحدّثون، وتشددوا فى تطبيقها على الأحاديث بحيث ميزوا الصحيح منها، من الضعيف، والثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم، من الموضوع، مما هو مفصل فى كتب مصطلح الحديث وعلومه.
ولقد حلى لبرتون ورفقائه فى المهنة، أن يشككوا فى روايات جمع القرآن وبخاصة ما اتصل منها بزيد بن ثابت، الذى ائتمنه الصحابة على عملية جمع القرآن، لمؤهلات توفرت له، وثقة تحققت فيه من قبل كبار الصحابة، الذين تعاقبوا على الخلافة الراشدة.
يقولون إن الفقهاء قد ولّدوا أحاديث ليؤيدوا بها مذهبهم فى جمع القرآن، وصحة أقوالهم فى الناسخ والمنسوخ، هذا مع أن القرآن كان مجموعا فى الصدور والسطور على عهد النبى صلى الله عليه وسلم، كما برهنّا عليه فى هذا الكتاب، بما لا يدع مجالا للشك. لقد وجد المستشرقون والمنصرون مرتعا خصبا لخيالهم، فى اختلاف مصاحف الصحابة رضوان الله عليهم، مع أن هذه الاختلافات يسيرة، ومرجعها كلها فى الأغلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى الوحى الذى جاء به جبريل عليه السلام. ومع هذا فقد استقر رأى الصحابة جميعا، بما فيهم أصحاب هذه المصاحف، على المصحف الذى جمع بأمر عثمان رضى الله عنه، وفق العرضة الأخيرة للقرآن الكريم.
ولقد بقيت مصاحف الصحابة مدة طويلة بأعيانها، ثم بقيت محتوياتها فى كتب القراءات، وكتب علوم القرآن وفى التفاسير، مما يكذّب دعوى الغالية والزنادقة، فى أن عثمان قد أحرق المصاحف، أو أحدث أمرا فى كتاب الله تعالى. لقد بنى هؤلاء النقاد أحكامهم المتعسفة على روايات ضعيفة ساقطة، وأقوال طائفية لا يقام لها وزن عند
__________
(1) الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية فى الأقطار الإسلامية ص 176، 179الطبعة الثانية 1388هـ 1968م الكويت.(1/410)
المنصفين، ولا يعتد بها باحث نزيه. شكك المستشرقون فى القراءات القرآنية واعتبروها أدلة على تحريف القرآن، وفى سبيل ذلك ولّوا ظهورهم للأحاديث الكثيرة، التى تقرر أن القرآن نزل على سبعة أحرف، وذلك تيسيرا على الأمة، وتسهيلا على أصحاب اللهجات المختلفة أن يحفظوا القرآن، إذ القرآن لم يكن كتابا خاصا بطبقة معينة، ولا لمرحلة عمرية محددة، ولم يكن مخصصا كذلك للدراسة والبحث فحسب، وإنما كان ولا يزال كتاب دين ودنيا معا يقرؤه الكبير والصغير، والأمى والمتعلم، والرجل والمرأة، والبدوى والحضرى، والعربى والعجمى، وهكذا منذ نزوله وإلى قيام الساعة، وبعد أن استقر القرآن، وأعربت عنه الألسنة بسهولة ويسر، جمع فى مصحف إمام، حسب العرضة الأخيرة، والتى هى بأيدى الناس اليوم، فى الشرق والغرب.
تناول المستشرقون الحروف المقطعة فى القرآن، وانتهوا من دراستهم لها على أنها كانت رموزا على أسماء أصحاب المصاحف، لكنها اعتبرت بطريق الخطأ قرآنا، ثم أضيفت فيما بعد إلى المصحف، وقدموا فى ذلك تبريرات غير معقولة البتّة هذا مع العلم بأن أسماء الصحابة التى اقترحوها، لا تطابق أبدا أيّا من هذه الحروف المقطعة التى زعموا أنها رموزا عليهم. وأبعد من هذه الدعوى فى الإفك، ما زعمه بعض الغربيين من أن المسلمين قد أضافوا فعل الأمر = قل = ليوهموا أن المتحدّث هو الله، والمتحدّث إليه هو محمد صلى الله عليه وسلم وبهذا يتوصلون إلى القول بأن القرآن كلام الله تعالى، وليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد درسنا هذه الحروف وبيّنا أنها جزء من القرآن وسر من أسراره التى استأثر الله تعالى بعلمها، لغاية يعلمها. إن القرآن مثل الكون يحتوى على أشياء، قد نراها ونحسها، ولكننا لا نقف على دقيق سرها أو حقيقة أمرها، وليس كل ما يجهل ينكر.
درس المستشرقون أسماء القرآن ولغته ليصلوا منها إلى الطعن فى أصالته، وفى إعجازه البيانى كما أوضحناه فيما سبق، ودرسوا كذلك القصص، والأمثال، والأقسام فى القرآن، ليعززوا نتائجهم المسبقة وأحكامهم المعدة سلفا، بأن القرآن من وضع محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه منتحل من النصرانية واليهودية، وبعض القصص القديمة التى تلقاها محمد صلى الله عليه وسلم شفاها، ونسج منها هذا القرآن الذى عزاه فيما بعد إلى الله عزّ وجل، وهذا إفك افتروه، وأعانهم عليه عصابة من أبناء أمتنا المتحيرين، من الذين شكك بعضهم فى مصادر الشعر الجاهلى، وجعل القرآن مرآة لتنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، واعتبر أحدهم القصص فى القرآن فنّا أدبيّا كأى فن
من الفنون، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم فنان والأدهى من ذلك ما نادى به أحدهم بمعاملة القرآن نقديّا كنص أدبي مثل سائر النصوص، وقبول تفكيكه وتحليله بغرض دراسته.(1/411)
درس المستشرقون أسماء القرآن ولغته ليصلوا منها إلى الطعن فى أصالته، وفى إعجازه البيانى كما أوضحناه فيما سبق، ودرسوا كذلك القصص، والأمثال، والأقسام فى القرآن، ليعززوا نتائجهم المسبقة وأحكامهم المعدة سلفا، بأن القرآن من وضع محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه منتحل من النصرانية واليهودية، وبعض القصص القديمة التى تلقاها محمد صلى الله عليه وسلم شفاها، ونسج منها هذا القرآن الذى عزاه فيما بعد إلى الله عزّ وجل، وهذا إفك افتروه، وأعانهم عليه عصابة من أبناء أمتنا المتحيرين، من الذين شكك بعضهم فى مصادر الشعر الجاهلى، وجعل القرآن مرآة لتنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، واعتبر أحدهم القصص فى القرآن فنّا أدبيّا كأى فن
من الفنون، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم فنان والأدهى من ذلك ما نادى به أحدهم بمعاملة القرآن نقديّا كنص أدبي مثل سائر النصوص، وقبول تفكيكه وتحليله بغرض دراسته.
إن مثل هؤلاء الكتاب والمستغربين يعتبرون حمّالين لآراء الغير لا باحثين، مروجين لا مؤصلين، مستوردين لا مبتكرين والعجيب أن أمثال هؤلاء الكتّاب يعتبرون أنفسهم مجددين لا مقلدين، وتلك لعمرى ثالثة الأثافى.
لقد استهوت المعابير النقدية الغربية، نقّادنا الحيارى، فتلقفوها دون وعي، وراحوا يطبقونها بعمه على القرآن الكريم، متجاهلين هم وأئمتهم من المستشرقين اختلاف الظروف والأحوال والاهتمامات بين القرآن ومجموع كتب العهدين القديم والجديد. ولأن هذه المعابير قد قادت أصحابها إلى الشك فى كتبهم وعقائدهم، فلا بد أن تقود دراساتهم أيضا إلى الشك فى القرآن والسنة.
وختاما فإنّ هذا الدراسة التى يشتمل عليها هذا الكتاب إنما أبتغي بها وجه الله تعالى، ورضاه فى الدنيا والآخرة وإنى لأرجو أن أكون قد وفيت الموضوع حقه من العرض والتحليل والموضوعية فى إبداء الرأي، والتوصل إلى النتائج المترتبة على الدراسة ولقد بذلت جهدا عظيما، وقمت بمحاولة ربما تكون جديدة كل الجدة فى دراسة آراء المستشرقين على اختلاف مذاهبهم فيما يخص القرآن الكريم، ابتداء من العصر الجاهلي للاستشراق وحتى وقتنا الحاضر كما أرجو أن يكون هذا الكتاب قد حقق غرض كاتبه من إظهار الحق وتعرية الباطل وفى التنبيه على خطورة ما يصدّر إلينا من أفكار، وآراء، باسم البحث العلمى، والتفكير المستنير، وفى التحذير كذلك من خطورة الإهمال فى التصدي لمثل هذه الحملات المنظمة والواضحة فى الخطة والغاية.
والله ولى التوفيق، وهو نعم المولى ونعم النصير.(1/412)