مقدمة الطبعة الثالثة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد:
فهذه هي الطبعة الثالثة من كتاب «قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية» الذي دبّجه يراع فضيلة العلّامة الدكتور فضل حسن عبّاس أمتع الله المسلمين ببقائه، بعد أن مضى على طبعتيه الأولى والثانية عقد من الزمان.
وإذ تأخذ دار الفتح بعمّان على عاتقها نشر الدراسات الجادّة والمؤلفات التي تخدم فكر الأمّة وفقهها وتراثها تقدّم اليوم هذه الطبعة الجديدة من كتاب «قضايا قرآنية» في حلّة قشيبة، مصحّحا منقّحا مضبوطا بإشراف المؤلف حفظه الله وإذنه، مع ملحق يحوي ترجمة علمية دقيقة لنصّ الموسوعة البريطانية في أحدث إصداراتها (1999م)، وسيلاحظ القارئ شيئا من التباين في بعض المواضع بين هذه الترجمة وبين الترجمة القديمة، ولتعذّر إعادة صياغة الكتاب بناء على الترجمة الحديثة أبقينا نصّ الكتاب كما هو مع إلحاق الترجمة الجديدة، لا سيّما وأنّ الأفكار محلّ النقد لم تتأثر بذلك التباين.
ونضرع إلى الله تعالى في الختام أن يحفظ فضيلة المؤلّف ويعمّ النفع بعلومه، وأن يسدّد خطانا لخدمة العلم والدين، إنه وليّ ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.
عمان الأردن 13جمادى الأولى 1421هـ
قسم الدراسات والنشر بدار الفتح(1/5)
مقدّمة الطبعة الأولى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، اللهم صلّ وسلّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد:
فلقد أنزل الله هذا القرآن هدى للناس ورحمة: {كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النََّاسَ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 1]، {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنََاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105]، {وَمََا أَرْسَلْنََاكَ إِلََّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الفرقان: 56]، {وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]، فهو حق في مصدره: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنََاهُ،} وهو حق في أحكامه وتشريعاته وقضاياه وقصصه: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} {ذََلِكَ الْكِتََابُ لََا رَيْبَ فِيهِ}
[البقرة: 2].
ولكن مع هذا كله فإن كثيرا من الناس قد يخفى عليهم الحق، ولقد شغل القرآن قلوبا وعقولا على اختلاف أزمنتها وأمكنتها، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، وتلك سنة الله في الحياة.
لقد أثيرت حول هذا القرآن الكريم شبهات، ونسجت أقاويل، وكتبت في ذلك أسفار، ولكننا مع هذا كله ما كنا نظن أن تكون مثل هذه الشبهات في موسوعات كانت أول سماتها العلم والمعرفة وكان آخر ما يدور في خلدنا أن تكون الموسوعة العلمية بعيدة عن المنهجية والموضوعية.
وهذه الدراسة التي نقدمها للناس على اختلاف ثقافاتهم ومذاهبهم تتصل بإحدى هذه الموسوعات وأكثرها شهرة، وهي الموسوعة البريطانية) (
ولقد دهشت كثيرا حينما اطلعت على بعض القضايا القرآنية في الموسوعة، ودفعني حب الحق والدفاع عنه أن أدرس عن كثب ما جاء تحت مادة (قرآن)، ورأيت بعد دراسة هادئة أن هناك قضايا كثيرة بحاجة إلى مناقشة، ونرجو أن يجد القراء في هذه الدراسة ما يتفق مع المنهج العلمي والموضوعية القائمة على أسس متينة من دقة البحث وتجنب العصبية وإبعاد الهوى.(1/7)
وهذه الدراسة التي نقدمها للناس على اختلاف ثقافاتهم ومذاهبهم تتصل بإحدى هذه الموسوعات وأكثرها شهرة، وهي الموسوعة البريطانية) (
ولقد دهشت كثيرا حينما اطلعت على بعض القضايا القرآنية في الموسوعة، ودفعني حب الحق والدفاع عنه أن أدرس عن كثب ما جاء تحت مادة (قرآن)، ورأيت بعد دراسة هادئة أن هناك قضايا كثيرة بحاجة إلى مناقشة، ونرجو أن يجد القراء في هذه الدراسة ما يتفق مع المنهج العلمي والموضوعية القائمة على أسس متينة من دقة البحث وتجنب العصبية وإبعاد الهوى.
جاءت مادة (قرآن) في الموسوعة البريطانية في الجزء الخامس عشر، صفحة 345341، ومن حق القارئ أن يتساءل: أكانت هذه الصفحات الأربع بحاجة إلى مثل هذا الكتاب في مساحته وحجمه؟ وهو تساؤل وجيه، ذلك أنه ما كان يدور بخلدي أن تكون مناقشة هذه الصفحات القليلة تستحق أكثر من بحث صغير، ولكن حينما بدأت بمناقشة هذه المادة وجدت أن كل جملة يمكن أن تشكل قضية ذات خطر وأهمية، وسيجد القارئ مصداقية ذلك كله.
ولقد جعلت الموسوعة عناوين جانبية، وهذه العناوين هي:
1 - تعريف القرآن.
2 - شكل القرآن ومضمونه.
3 - محتوياته.
4 - مصير الإنسان.
5 - أصول القرآن طبقا للمسلمين.
6 - أصوله في رأي المستشرقين.
7 - التفسير.
8 - التراجم.
وكانت خطتنا في هذا الكتاب أن نجعل كل عنوان من هذه العناوين فصلا مستقلا، ونقسم كل فصل إلى قضايا وجزئيات نتحدث عن كل قضية على حدة، ولقد حاولت الإيجاز ما استطعت، وسيجد القارئ في هذه الدراسة متعة علمية
وفكرية، لأنه ينتقل فيها من موضوع إلى موضوع، وكلها موضوعات ذات قيمة وشأن. وإن نظرة إلى موضوعات الكتاب في فهرسته كفيلة أن تطلع القارئ على هذه الحقيقة. وقد التزمت المنهجية الهادئة رغم ما في الموضوع من إثارات. ولا أود أن أطيل في هذه المقدمة، ولكني أدع للقارئ الحكم.(1/8)
وكانت خطتنا في هذا الكتاب أن نجعل كل عنوان من هذه العناوين فصلا مستقلا، ونقسم كل فصل إلى قضايا وجزئيات نتحدث عن كل قضية على حدة، ولقد حاولت الإيجاز ما استطعت، وسيجد القارئ في هذه الدراسة متعة علمية
وفكرية، لأنه ينتقل فيها من موضوع إلى موضوع، وكلها موضوعات ذات قيمة وشأن. وإن نظرة إلى موضوعات الكتاب في فهرسته كفيلة أن تطلع القارئ على هذه الحقيقة. وقد التزمت المنهجية الهادئة رغم ما في الموضوع من إثارات. ولا أود أن أطيل في هذه المقدمة، ولكني أدع للقارئ الحكم.
وقد قدمت بين يدي هذه الدراسة تمهيدا موجزا ضمنته بعض المسائل المهمة. والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه وأن يأجرني ووالديّ، وأن ينفع به إنه سميع قريب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدكتور فضل حسن عباس
غرة ربيع الأول سنة 1407هـ(1/9)
تمهيد
الأمر الطبعيّ الذي يفترض أن لا يكون غيره، أن يصير أقرب الناس إلى الإسلام، وأبعدهم عن تشويه حقائقه أهل الكتاب، يهودا ونصارى ذلك لأن الإسلام في مصدريه الرئيسين: الكتاب والسنة مع تقريره لوحدة البشر كانت له أحكام خاصة يخص بها أهل الكتاب دون غيرهم من الأمم الوثنية، وأصحاب الديانات الكثيرة المتعددة، وتتجلى هذه الأحكام في كثير من الميزات التي جعلت لأهل الكتاب، ونحن لا نود في هذا التمهيد أن نستقصي هذه الأحكام، لكننا نكتفي بالإشارة إلى شيء منها لنقيم البرهان ونعطي الدليل على مصداقية الإسلام في نظرته إلى أهل الكتاب.
فمن هذه الميزات ما نجده من إحكام الصلات بين المسلمين وبين أولئك الناس:
أولا: لقد حرم الإسلام على المسلم أن يتزوج المشركات والكافرات، سواء كنّ من الوثنيين وعباد الأصنام أم من ذوي الديانات المتعددة كالبوذية وغيرها. فهو يحرم على المسلم أن يتزوج وثنية ولو كانت من أعرق القبائل العربية، وكان الزوج عربيا يمت لها بصلة. إن مثل هذا الزواج محكوم عليه بالبطلان وعدم الصحة ولو كان الزوجان عربيين ما دامت المرأة لا زالت على وثنيتها، ولقد أمر القرآن صراحة بأن يفصل مثل ذلك الزواج، جاء في القرآن الكريم {وَلََا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوََافِرِ} [الممتحنة: 10]، وجاء في القرآن {وَلََا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكََاتِ حَتََّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221].(1/11)
ولكنه مع ذلك كله أباح التزوج من الفتاة الكتابية، يهودية أو نصرانية، شريطة أن يكون هذا الزواج مبنيا على أسس من العفة والعدالة، مع بقاء هذه المرأة على دينها ومنحها حرية العبادة، قال تعالى: {وَالْمُحْصَنََاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذََا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسََافِحِينَ وَلََا مُتَّخِذِي أَخْدََانٍ} [المائدة: 5].
ثانيا: حرم الإسلام على المسلمين أن يأكلوا ذبائح غير المسلمين كذلك ولو كانوا إخوانهم ومن أقرب الناس إليهم، ولكنه مع ذلك استثنى أهل الكتاب، قال تعالى: {وَطَعََامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعََامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5].
ولا يرتاب أحد في أنّ قضيتي الزواج والطعام من أكثر الأمور التي تمتّن الصلات بين الناس، الصلات القريبة المباشرة التي يكون لها من توثيق الروابط، وتحديد الصلات، وتمتين العلاقات ما يدعم أواصر المودة، ويجعل هؤلاء مع أولئك أكثر انسجاما وأكثر بعدا عما يفصل بين الناس من أوهام وحواجز، ويجعل هذه الجسور ليسهل تلاقيهم فيما بينهم.
ثالثا: قرر الإسلام أن الجهاد هو الفيصل بينه وبين خصومه الذين يناصبونه العداء، ولكنه في هذه كذلك أمر المسلمين أن يفرقوا بين الكتابيين وغيرهم، فغيرهم من عبّاد الأوثان أو الكواكب أو الملائكة إن لم يسلموا فلا يقبل منهم شيء أيّا كان، والحرب هي التي تفصل وتحسم المواقف. أما الكتابيون من يهود ونصارى فلقد كانت لهم معاملات خاصة فيمكن أن تبقى لهم حريتهم الدينية، ولا يرغمون على الحرب إلا إذا أرادوها هم، ولكن عليهم أن يساهموا ببعض إمكاناتهم اليسيرة لما تقدمه لهم الدولة الإسلامية من مرافق حياتية، ولهم حريتهم التي لا ينبغي أن يعتدي عليها أحد، على أن لا تكون هناك أمور تعسفية يقصد منها الإغاظة والاستفزاز.
رابعا: لقد جاء في القرآن الكريم صريحا آيات كثيرة تأمر المسلمين بالبر والقسط، وتحثهم على العدل مع أولئك النّاس حتّى لو كانوا يبغضونهم بغضا
شديدا. أما السنة ففيها كثير جدا من الوصية بأولئك الناس، والوعيد الشديد من الرسول عليه وآله الصلاة والسلام لمن آذاهم، ولم تقف هذه الوصايا عند الحدود النظرية، بل تجاوزتها إلى التصرف العملي، من عيادة مريض، وإكرام ضيف، وإحسان وفادة، وتشييع جنازة، وتعزية مصاب، وصلة رحم، ومواساة بائس، هذه أمثلة عملية كثيرة موجودة في تصرفات المسلمين ابتداء من زعيمهم رسول الله محمد عليه وآله الصلاة والسلام ومن بعده خلفائه وغيرهم.(1/12)
رابعا: لقد جاء في القرآن الكريم صريحا آيات كثيرة تأمر المسلمين بالبر والقسط، وتحثهم على العدل مع أولئك النّاس حتّى لو كانوا يبغضونهم بغضا
شديدا. أما السنة ففيها كثير جدا من الوصية بأولئك الناس، والوعيد الشديد من الرسول عليه وآله الصلاة والسلام لمن آذاهم، ولم تقف هذه الوصايا عند الحدود النظرية، بل تجاوزتها إلى التصرف العملي، من عيادة مريض، وإكرام ضيف، وإحسان وفادة، وتشييع جنازة، وتعزية مصاب، وصلة رحم، ومواساة بائس، هذه أمثلة عملية كثيرة موجودة في تصرفات المسلمين ابتداء من زعيمهم رسول الله محمد عليه وآله الصلاة والسلام ومن بعده خلفائه وغيرهم.
ولقد شهد التاريخ بأن الخلفاء على اختلاف أعصارهم وأمصارهم كانوا يكرمون هؤلاء جميعا، وأن العلماء كانوا يحثون المسلمين أن يؤدوا الحقوق لهؤلاء الناس، بل كتب بعض العلماء كتبا في هذا الموضوع.
وكان من الواجب أن تحفظ هذه للإسلام، {هَلْ جَزََاءُ الْإِحْسََانِ إِلَّا الْإِحْسََانُ}
وإذا كان الجزاء من جنس العمل، فلقد كان الإسلام يستحق من أولئك الناس الاحترام والإجلال، ولكن الذي حدث كان على النقيض من ذلك تماما، كما يشهد الواقع والتاريخ.
أما التاريخ فهو خير شاهد على هذا النكران للجميل، فلقد صور الإسلام صورة مشوهة انحرف فيها مصوروها عن كل صدق وحق، لقد صور نبي الإسلام صورا لا تليق بهذه المواقف النبيلة الجليلة التي وقفها من أهل الكتاب، صورة تأنف منها النفس السويّة.
يقول درمنغام: «لما نشبت الحرب بين الإسلام والمسيحية اتسعت هوة الخلاف وسوء الفهم بطبيعة الحال، وازدادت حدة، ويجب أن يعترف بأن الغربيين كانوا السابقين إلى أكبر الخلاف. فمن المجادلين البيزنطيين الذين أوقروا الإسلام احتقارا من غير أن يكلفوا أنفسهم فيما خلا جان دامسيان مئونة دراسته، ولم يحارب الكتّاب والنظّامون (يعني الشعراء) مسلمي الأندلس إلا بأسخف المثالب، فقد زعموا محمدا لص نياق (أي إبل)، وزعموه متهالكا
على اللهو، وزعموه ساحرا، وزعموه رئيس عصابة من قطاع الطرق، بل زعموه قسا رومانيا مغيظا أن لم ينتخب لكرسي البابوية وحسبه بعضهم إلها زائفا «يقرّب له عبّاده الضحايا البشرية» وإن جبير دنوجن نفسه وهو رجل جد ليذكر أن محمدا مات في نوبة سكر بين كذا، وأن جسده وجد ملقى على كوم من الروث وقد أكلت منه الخنازير، وذلك ليفسر السبب الذي من أجله حرم الخمر وحرّم لحم ذلك الحيوان وذهبت الأغنيات إلى حدّ أن جعلت محمدا صنما من ذهب، وجعلت المساجد الإسلامية برابي (معابد أصنام)، ملأى بالتماثيل والصور. وقد تحدث واضع أغنية أنطاكية حديث من رأى صنم ماهوم مصنوعا من ذهب ومن فضة خالصين، وقد جلس فوق فيل على مقعد من الفسيفساء، وأما أغنية رولان التي تصور فرسان شارلمان يحطمون الأوثان الإسلامية فتزعم أن مسلمي الأندلس يعبدون ثالوثا مكونا من ترفاجان وماهوم (ويعنون به محمدا عليه السلام) وأبولون. وتحسب «قصة محمد» أن الإسلام يبيح للمرأة تعدد الأزواج. وقد ظلت حياة الأحقاد والخرافات قويّة متشبثة بالحياة، فمنذ رودلف دلوهيم إلى وقتنا الحاضر قام نيكولا، دكيز، وفيفس، ومراتشي، وهو تنجر، ويلياتلار، وبريد، وغيرهم، فوصفوا محمدا بأنه دجّال، والإسلام بأنه مجموعة من الهرطقات (الكفر) كلها، وأنه من عمل الشيطان، والمسلمين بأنهم وحوش، والقرآن بأنه نسيج من السخافات» (1).(1/13)
يقول درمنغام: «لما نشبت الحرب بين الإسلام والمسيحية اتسعت هوة الخلاف وسوء الفهم بطبيعة الحال، وازدادت حدة، ويجب أن يعترف بأن الغربيين كانوا السابقين إلى أكبر الخلاف. فمن المجادلين البيزنطيين الذين أوقروا الإسلام احتقارا من غير أن يكلفوا أنفسهم فيما خلا جان دامسيان مئونة دراسته، ولم يحارب الكتّاب والنظّامون (يعني الشعراء) مسلمي الأندلس إلا بأسخف المثالب، فقد زعموا محمدا لص نياق (أي إبل)، وزعموه متهالكا
على اللهو، وزعموه ساحرا، وزعموه رئيس عصابة من قطاع الطرق، بل زعموه قسا رومانيا مغيظا أن لم ينتخب لكرسي البابوية وحسبه بعضهم إلها زائفا «يقرّب له عبّاده الضحايا البشرية» وإن جبير دنوجن نفسه وهو رجل جد ليذكر أن محمدا مات في نوبة سكر بين كذا، وأن جسده وجد ملقى على كوم من الروث وقد أكلت منه الخنازير، وذلك ليفسر السبب الذي من أجله حرم الخمر وحرّم لحم ذلك الحيوان وذهبت الأغنيات إلى حدّ أن جعلت محمدا صنما من ذهب، وجعلت المساجد الإسلامية برابي (معابد أصنام)، ملأى بالتماثيل والصور. وقد تحدث واضع أغنية أنطاكية حديث من رأى صنم ماهوم مصنوعا من ذهب ومن فضة خالصين، وقد جلس فوق فيل على مقعد من الفسيفساء، وأما أغنية رولان التي تصور فرسان شارلمان يحطمون الأوثان الإسلامية فتزعم أن مسلمي الأندلس يعبدون ثالوثا مكونا من ترفاجان وماهوم (ويعنون به محمدا عليه السلام) وأبولون. وتحسب «قصة محمد» أن الإسلام يبيح للمرأة تعدد الأزواج. وقد ظلت حياة الأحقاد والخرافات قويّة متشبثة بالحياة، فمنذ رودلف دلوهيم إلى وقتنا الحاضر قام نيكولا، دكيز، وفيفس، ومراتشي، وهو تنجر، ويلياتلار، وبريد، وغيرهم، فوصفوا محمدا بأنه دجّال، والإسلام بأنه مجموعة من الهرطقات (الكفر) كلها، وأنه من عمل الشيطان، والمسلمين بأنهم وحوش، والقرآن بأنه نسيج من السخافات» (1).
وهذا كاتب آخر هو موريس بوكاي يقول: «فإذا أردنا اليوم أن نقدم لأيّة مواجهة بين الإسلام والمعارف فإنه يبدو لنا ضروريا ولازما أن نقدم عن الإسلام لمحة عامة، ذلك الإسلام الذي طالما أسيء فهمه في بلادنا».
إن الأحكام المغلوطة تماما التي تصدر في الغرب عن الإسلام ناتجة عن الجهل حينا وعن التسفيه العامد حينا آخر، ولكن أخطر الأباطيل المنتشرة تلك
__________
(1) «الوحي المحمدي» ص 70عن «الإسلام سوانح وخواطر» لدرمنغام، ترجمة أحمد فتحي زغلول.(1/14)
التي تخص الأمور الفعلية، وإذا كنا نستطيع أن نغفر لأخطاء خاصة بالتقدير فإننا لا نستطيع أن نغفر لتقديم الوقائع بشكل ينافي الحقيقة. بل إننا لنصاب بالذهول عند ما نقرأ في أكثر المؤلفات جدية أكاذيب صارخة برغم أن مؤلفي هذه المؤلفات هم بالمبدإ مؤلفون أكفاء. وإليكم مثالا على ذلك: في دائرة المعارف (أونيفر ساليس) الجزء السادس تحت عنوان «الأناجيل» نجد إشارة لاختلاف الأناجيل عن القرآن، يقول المؤلف: «إن المبشرين لا يدّعون كما يفعل القرآن نقل سيرة ذاتية أملاها الله بشكل معجز على محمد» صلّى الله عليه وسلّم، وحقيقة الأمر ألّا صلة هناك بين القرآن وما يسميه المؤلف بالسيرة الذاتية، والقرآن رسالة، ولو كان المؤلف قد استعان حتى بأسوإ ترجمة للقرآن لثبت له ذلك. إن الدعوى التي تنافي الواقع هي الأخرى تماما مثل الدعوى التي تعرّف الإنجيل بأنه سيرة ذاتية لبشر، إن المسئول عن هذه الأكذوبة الخاصة بالقرآن أستاذ بجامعة اليسوعيين اللاهوتية بمدينة ليون. إن نشر أكاذيب من هذا النوع يساهم في إعطاء صورة زائفة عن القرآن والإسلام (1).
وإنما اخترنا النقل عن هذين الكاتبين الفرنسيين لأن الكنيسة الكاثوليكية بخاصة كان لها أكثر من غيرها القيام بهذا الدور.
ولعل مما يوضح الصورة ويجلوها بشكل لا يقبل النقاش هذه الوثيقة التي صدرت عن سكرتارية الفاتيكان لشئون غير المسيحيين، وعنوانها: (توجيهات لإقامة حوار بين المسيحيين والمسلمين).
«إنها وثيقة شديدة الدلالة على المواقف الجديدة التي تبنيت إزاء الإسلام، ففي الطبعة الثالثة عام 1970من هذه الدراسة تطالب هذه التوجيهات ب «مراجعة مواقفنا إزاء الإسلام وبنقد أحكامنا المسبقة» و «علينا أن نهتم أولا
__________
(1) «الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة» ص 135.(1/15)
بأن نغير تدريجيا من عقلية إخواننا المسيحيين، فذلك يهم قبل كل شيء»، و «يجب التخلي عن الصورة البالية التي ورّثنا الماضي إياها، أو شوهتها الفريات والأحكام المسبقة»، كما «يجب الاعتراف بالمظالم التي ارتكبها الغرب المسيحي في حق المسلمين»، بهذا الشكل تقوم وثيقة الفاتيكان التي تحتوي على مائة وخمسين صفحة تقريبا ببسط ودحض نظرات المسيحيين الكلاسيكيين عن الإسلام، كما أنها تقدم عرضا لما عليه الإسلام في الواقع.
وتحت عنوان: (أن نتحرز من أكثر أحكامنا المسبقة جسامة) وجه أيضا مؤلفو هذه الوثيقة الدعوة التالية إلى المسيحيين: «هنا أيضا علينا أن نتطهر وبعمق من عقلياتنا، ونقول ذلك ونحن نفكر بالذات في بعض الأحكام المجهزة التي كثيرا ما نصدرها باستخفاف على الإسلام، ويبدو لنا مهما وأساسيا أن نكف عن أن ننمي في مكنون قلوبنا النظرات المتسرعة بل التحكمية، تلك التي لا يتعرف فيها المسلم المخلص على نفسه» (1).
ثم عرضت الوثيقة بعض القضايا التي كان فيها التجني على الإسلام في أبشع صورة، وهذه القضايا منها أمور عقدية ومنها أمور مسلكية عملية، فمن الأمور العقدية ما اتّهم به المسلمون من أن الله الذي يعبدونه هو إله خاص بهم، وليس هو الذي يعرفه أهل الكتاب، فليس هو إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وموسى وعيسى، ليس هو رب العالمين، وتنبه الوثيقة إلى أن هذا اتهام عار عن الصحة، فالله الذي يعبده المسلمون هو الله الذي يعبده غيرهم، هو رب إبراهيم وموسى وعيسى وهو ما يعبر عنه بالفرنسية.
أما الأمور المسلكية العملية التي أشارت إليها وثيقة الفاتيكان فمنها جبريّة الإسلام، ويعنون بها أن الإسلام يقرر الجبرية في كل شيء، فينفي عن المسلمين
__________
(1) «الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة» ص 136.(1/16)
حرية الاختيار في أي شيء، فالإنسان كالريشة في الهواء لا يملك لنفسه شيئا، وهذا ناشئ طبعا عن تفسير بعض الآيات تفسيرا خاطئا، وسيمر معنا نقاش هذه القضية في الموسوعة البريطانية. لقد ردت الوثيقة هذه التهمة وبينت أنها لا تقوم على أساس.
ومن القضايا التي عرضت لها كذلك قضية تتعلق بالأخلاق الإسلامية، وهي أن الأخلاق الإسلامية غير كافية لإنشاء مجتمع فاضل لأنها لا تقوم على الحب، بل تقوم على الكراهية والقهر، ويفسرون الجهاد في سبيل الله (بالحرب المقدسة)، ويعنون بها هذه الحرب التي يفرضها الإسلام كما يدعون على الناس رغبة في إراقة الدماء. تعالج الوثيقة هذه التهمة. وليت شعري أين الأخلاق الإسلامية التي تسوّي بين الناس وتحرم الظلم مما جاء في العهد القديم!
ومن القضايا التي عالجتها الوثيقة كذلك جمود الإسلام، فلقد توارثت الأمم الأوروبية عن الكنيسة أن الإسلام دين جامد، يظل أبناؤه في أتّون الظلام حربا على كل تقدم وازدهار، وليت شعري كذلك أين هذا من الحق والحقيقة! لقد ردت الوثيقة كل هذه التهم، وطلبت التعامل مع المسلمين ومع الإسلام بأسلوب بعيد عن هذا الحقد المتوارث.
إن هذه الوثيقة في نظرنا تشكل منعطفا هو من الأهمية بمكان، ذلك لأنها هي التي تثبت التجني على الإسلام، والافتراءات على المسلمين، ولكنها في الوقت نفسه تفتح بابا تشرق منه شمس الحقيقة لكل ذوي النيات الحسنة، والذي نرجوه أن لا تغيّب هذه الوثيقة في غياهب السراديب وأن لا تدفن تحت الأرض، وأن لا يحال بينها وبين الناس، ذلكم هو التاريخ وما قاله من كلمات، أحببنا أن لا نقول نحن منها كلمة واحدة، وإنما ندعها لهؤلاء الذين نقلنا عنهم من غير المسلمين.(1/17)
قلت إن الإسلام لم يقابل بما يستحقه من جزاء، وقلت إن التاريخ والواقع شاهدان على ذلك، وقد تحدثت عن لمحات من التاريخ، أما الواقع فلا يقل مرارة وقتاما، ووحشة وظلاما، بل هو في الحقيقة يزيد بحيث يجلّ الوصف، هذا الواقع نجده متمثلا في الصحافة تارة، حيث الموضوعات والتحقيقات الصحفية التي لا همّ لكاتبيها إلا النيل من المسلمين ووصفهم بشرّ الصفات وأبشعها، وتصويرهم بصورة الإرهابي تارة والوحش أخرى، وهي تحذّر المسئولين وتنبههم للخطر الداهم من هؤلاء المسلمين، بل تحرم عليهم أن يزاولوا حقوقهم ضمن تخصّصاتهم التي يحسنونها.
كما يتمثل هذا الواقع في تصريحات السياسيين من ذوي المناصب الحساسة فقد: «دعا مستشار الإدارة الأميركية للشئون الاستراتيجية والعسكرية، إدوارد لوتواك في الأمس بشكل واضح إلى اعتقال جميع العرب في أوروبا، وغزو ليبيا من البحر بواسطة مشاة البحرية الأميركيين وتحريض أوروبا وإيطاليا على شن حملة صليبية جديدة ضد العرب والمسلمين. وانتقد لوتواك بشكل عنيف قصف طرابلس وبن غازي، لأن العمليات الجوية غير مجدية في هذه الأحوال بحجة أن القصف الجوي يأتي ردا على قصف مماثل لسفن أو طائرات أو أهداف، وليس على إرسال مخربين على حد زعمه ليقتلوا ويخربوا في أوروبا.
وقال لوتراك في مقابلة أجرتها معه مجلة «اسبرسو» الإيطالية: عملية مثل قصف طرابلس غير ناجحة واعتبرها فاشلة، ومضى يقول: «كان من الأجدر القيام بعملية غزو مباشر تشارك فيها قوات إنزال، لمهاجمة معسكرات التدريب، والقضاء على منبع الإرهاب في ليبيا، والخطوة الثانية أو البديل الثاني كان ضرورة إلقاء القبض على العقيد القذافي شخصيا، أما قصف طرابلس فكان عملا غير مباشر، القصد منه بث الرعب لدى القذافي».
وكشف لوتراك عن طبيعة التفكير الرسمي الأميركي تجاه العرب والمسلمين حين قال: «البحر الأبيض المتوسط هو حد فاصل بين حضارتين، هناك الساحل
المسيحي الذي يجيز الاختلافات في وجهات النظر والساحل الإسلامي الذي يبرز فيه كل من يهاجم الحضارة الغربية ويكتسب اعترافا من الجميع».(1/18)
وكشف لوتراك عن طبيعة التفكير الرسمي الأميركي تجاه العرب والمسلمين حين قال: «البحر الأبيض المتوسط هو حد فاصل بين حضارتين، هناك الساحل
المسيحي الذي يجيز الاختلافات في وجهات النظر والساحل الإسلامي الذي يبرز فيه كل من يهاجم الحضارة الغربية ويكتسب اعترافا من الجميع».
وعاد لوتواك الذي يزعم أنه أستاذ تاريخ عسكري إلى عهد الحضور الإسلامي في إسبانيا وإيطاليا ليحرّض الإيطاليين على العرب ويذكّرهم بأيام القرصنة البحرية في المتوسط، وأردف قائلا: «أمامكم في جنوب أوروبا بديل واحد، إما أن تغلقوا حدودكم على العرب بشكل كامل، أو تستسلموا على أساس الواقع أمام القرصنة الجديدة عليكم أن تراقبوا بشدة كل حركات العرب دون استثناء، عليكم أن لا تعتبروا مثلا حامل جواز السفر المصري وكأنه مواطن من الدانمارك، عليكم أن تناضلوا ضد القراصنة الجدد العرب وأن لا تسمحوا لهم بحرية حركة واحدة على أراضيكم كما فعلت دوقية توسكانا وإنجلترا في الماضي إذا لم تقوموا بشن حملة صليبية جديدة ستكون لديكم الفوضى العارمة. أوروبا الجنوبية أي: إيطاليا وإسبانيا وفرنسا واليونان، ستضعف اقتصاديا من وراء القراصنة الجدد وها هو مدخول السياحة لديكم يخسر بلايين الدولارات، وتخاطرون الآن بأن تتحول بلدانكم إلى صحاري».
وهاجم لوتواك بشكل سافر الدول العربية المعتدلة والصديقة للولايات المتحدة، وأوضح أن العربي كذاب ولو صدق: «لا يهم ما يقوله العرب بصوت خافت لساستنا في أميركا، المهم هو ما يقولونه علنا أمام الناس».
وأوضح لوتواك خطط أميركا تجاه ليبيا، ومن ثمّ تجاه العرب، واستعداد واشنطن لتدمير المدن العربية، بقوله: «أعتقد أن الولايات المتحدة مستعدة لغزو طرابلس بواسطة المارينز واعتقال القذافي، وفي حال مواجهة أية مقاومة، فهي مستعدة لتدمير مدينة طرابلس، وإلا لا بديل عن هذا الحل، ولا حل غير ذلك».
وقال: «إن البديل فقط أن تنعزل واشنطن وتتقوقع على نفسها ولا تكترث بأوروبا، وأن تعود أوروبا مكانا للقراصنة الجدد تماما كما كانت مكانا للقراصنة القدماء».(1/19)
وقال مراقبون عرب هنا إن القراءة المتمعنة لهذه الكلمات والمعرفة الواعية لشخصية لوتواك هذا توضح بأن الولايات المتحدة أو غيرها لن تتراجع يوما عن تدمير أي بلد عربي بقنبلة نووية صغيرة متى اقتضت الظروف ذلك لأن من يقسم العالم إلى مسيحي ومسلم على عتبة القرن الحادي والعشرين ويتهم أمة كاملة بالقرصنة ويدعو علنا من موقع القرار إلى تدمير مدينة عربية عن بكرة أبيها قد ينفذ هذه التهديدات يوما ما أمام الكسل العام الذي يرتع في أرجاء الوطن العربي منذ عدوان 1967م.
وأعربوا عن أسفهم لأن لوتواك هذا يكون الضيف الأول في الندوات العربية الأوروبية مثل ندوة ريميني للحوار، ويتقاضى مبالغ محترمة ليبث سمومه ضد العرب، وينتقل في عواصم عربية متى أراد وكيفما أراد، وتواكبه الآن سيدة تدعى أوريانا فالاكشي التي خصصت صفحات كاملة للحديث مع أرييل شارون إبان الغزو الإجرامي للبنان، والتي بدأت منذ يوم الأحد بإعادة نشر مقابلات أجرتها مع زعماء عرب لتحرض الإيطاليين على العرب، وقالت إنها تتمنى أن ترى العقيد القذافي معلقا من قدميه وميتا كما شاهدت موسوليني، ولم توقر العرب والمسلمين مدعية أنها كانت من نساء المقاومة هنا مع أن الذين يعرفونها جيدا يؤكدون أنها لم تقاوم سوى بالكلام، واستغلت طوال عمرها مآسي ودماء الشعوب لتبرز صحفيا وتزيد من رصيدها المصرفي على حساب أيتام وأرامل حروب العالم الثالث من فيتنام حتى لبنان.
وأشاروا إلى أن كلمات لوتواك تلتقي مع دعوات فالاتشي في أسوأ حملة يتعرض لها العرب منذ عشرين عاما في كل أنحاء أوروبا» (1).
__________
(1) صحيفة الرأي الأردنية عدد 5778، تاريخ 22/ 4/ 1986م تحت عنوان «تصريحات غير عادية لمسئول أميركي مطلوب حملة صليبية جديدة ضد العرب والمسلمين».(1/20)
كما يتمثل هذا الواقع بما يلاقيه أبناء الشعوب المسلمة في آسيا وإفريقيا، وما تقوم به الدوائر بوساطة التبشير الديني تارة، وما يسمى بالغزو الثقافي أخرى، ولعل أقرب مثل لذلك هذا الشعب الفلسطيني الذي لم يكتفوا بتشريده وإبعاده عن وطنه، بل حرموا عليه أن يدّعي أن له حقا، لأن فلسطين حق لليهود، منحهم إياه العهد القديم والجديد، والويل كل الويل لمن ادعى غير ذلك، إنه أرهابيّ إذن ولا بد أن يحرض العالم كله على ملاحقة هؤلاء في كل مكان، ولماذا نبعد كثيرا؟ وهذه المأساة اللاإنسانية لا زالت الدماء فيها لم تجف، مأساة المسلمين فلسطينيين، ولبنانيين، وسوريين، ومصريين، التي عرفت بمأساة صبرا وشاتيلا، والتي ذهب ضحيتها أعداد لم يتم إحصاؤها بعد.
يقول مراسل ال «واشنطن بوست» جوناثان رندل في كتاب «حرب الألف سنة حتى آخر مسيحي»:
«استخدم المسيحيون في وحشيتهم القنابل اليدوية، السكاكين، الفئوس المسدسات، البنادق، وبعض قطع المدفعية، وقطعوا في بعض الأحيان أثداء النساء، وحفروا صلبانا في الأجساد، بقروا بطون الحوامل، حتى الأطفال قطعوهم إربا، وجدت أطراف طفل مقطعة وموضوعة حول رأسه، لغموا العديد من الجثث، حتى بات من الصعوبة والخطورة مسها أو دفنها، قبل أن تتوقف اللجان المختصة عن إحصاء الجثث تحت الشمس المشرقة يتعذر فورا تمييز الأجسام قدّرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر عدد الضحايا بثلاثمائة وثلاث عشرة ضحية. منظمة الدفاع المدني أضافت إليها ثلاثا وأربعين ضحية جديدة، ثم مائة وستا وأربعين أخرى تعرف عليها أفراد من عائلاتها، هذا عدا المقابر الجماعية التي لم تنبش. بعد أشهر من المأساة كان كثير من الفلسطينين يؤكد أن عدد الضحايا والمفقودين حوالي ثلاثة آلاف شخص. في غياب الإحصاءات الدقيقة، تشير بعض التقديرات الموثوقة أن عدد الفلسطينيين يشكل واقعيا ثلث الضحايا مصادر أخرى تقول إن اللبنانيين الشيعة يشكلون ثلثا آخر حتى
النصف أما الباقون فهم مصريون وسوريون (مسلمون) ومن مختلف الجنسيات العربية، البعض الآخر يحصي 999من سكان المخيم لم يعثر عليهم، ثلثهم من اللبنانيين (المسلمين). إن استعمال الجرافات لمحاصرة اللاجئين في مخابئهم وإخفاء الأدلة يبين مدى بربرية الهجوم، والخوف من اكتشاف آثار الجريمة.(1/21)
«استخدم المسيحيون في وحشيتهم القنابل اليدوية، السكاكين، الفئوس المسدسات، البنادق، وبعض قطع المدفعية، وقطعوا في بعض الأحيان أثداء النساء، وحفروا صلبانا في الأجساد، بقروا بطون الحوامل، حتى الأطفال قطعوهم إربا، وجدت أطراف طفل مقطعة وموضوعة حول رأسه، لغموا العديد من الجثث، حتى بات من الصعوبة والخطورة مسها أو دفنها، قبل أن تتوقف اللجان المختصة عن إحصاء الجثث تحت الشمس المشرقة يتعذر فورا تمييز الأجسام قدّرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر عدد الضحايا بثلاثمائة وثلاث عشرة ضحية. منظمة الدفاع المدني أضافت إليها ثلاثا وأربعين ضحية جديدة، ثم مائة وستا وأربعين أخرى تعرف عليها أفراد من عائلاتها، هذا عدا المقابر الجماعية التي لم تنبش. بعد أشهر من المأساة كان كثير من الفلسطينين يؤكد أن عدد الضحايا والمفقودين حوالي ثلاثة آلاف شخص. في غياب الإحصاءات الدقيقة، تشير بعض التقديرات الموثوقة أن عدد الفلسطينيين يشكل واقعيا ثلث الضحايا مصادر أخرى تقول إن اللبنانيين الشيعة يشكلون ثلثا آخر حتى
النصف أما الباقون فهم مصريون وسوريون (مسلمون) ومن مختلف الجنسيات العربية، البعض الآخر يحصي 999من سكان المخيم لم يعثر عليهم، ثلثهم من اللبنانيين (المسلمين). إن استعمال الجرافات لمحاصرة اللاجئين في مخابئهم وإخفاء الأدلة يبين مدى بربرية الهجوم، والخوف من اكتشاف آثار الجريمة.
بعد أشهر روى لي أحد القتلة بطريقة مثيرة كيفية مشاركته في المجزرة، فقرأ يومياته بصوت عال: «أطلقنا عليهم النار أمام الجدران، ذبحناهم في عتمة الليل». كم من الفلسطينيين قضى نحبه في هذا الهجوم؟ أجاب مسئوله الذي يستمع إلينا: «ستعرف ذلك يوما ما، إذا حفروا نفقا للمترو في بيروت»، ملمحا إلى أن عدد الضحايا أكبر بكثير مما أعلنته الأرقام الرسمية» (1).
ولا نود أن نسترسل في ذكر هذه المآسي والمظالم حتى لا نخرج عن بحثنا، ومع ذلك كله، ومع هذا التعسف الذي لقيه الإسلام والمسلمون، فإن الإسلام سيظل يمتاز بروعة التسامح التي عرف بها، وسيظل القرآن كتاب الإنسانية وكتاب الحياة للأحياء {هُدىً لِلنََّاسِ وَبَيِّنََاتٍ مِنَ الْهُدى ََ وَالْفُرْقََانِ}
[البقرة: 185]، ينهى عن التعصب، ويثير في الإنسان المشاعر الكريمة، ويدعو الناس للتسابق في الخير، ولكنه مع ذلك ينهى عن التخاذل والضعف.
وكتابنا الذي نقدمه للقراء اليوم، والذي التزمنا فيه المنهجية والموضوعية والدقة والإنصاف، والذي عرضنا فيه موضوعات أملتها الحاجة نرجو أن يكون لبنة في صرح الحق، كما نرجو أن يهيأ له من يترجمه إلى لغة الموسوعة الرئيسة اللغة الإنجليزية، وأن يجد القارئ فيه جلال الحق، وجمال الصورة، وجودة العرض، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) «حرب الألف سنة»، جوناثان رندل ص 29.(1/22)
الفصل الأول تعريف القرآن
ما جاء في دائرة المعارف تحت هذا العنوان ومناقشته في قضايا جاء في دائرة المعارف: «القرآن هو كتاب المسلمين المقدس، ويعدّه المؤمنون كلمة الحق من ربهم، وأنه كتاب أوحي به إلى النبي محمد، وجمع في كتاب بعد مماته، ويعتقدون أيضا أنه كتاب أزليّ، وأنه أوجد في اللوح المحفوظ، ومن المحتمل أن كلمة قرآن مشتقة من كلمة قرأ، وهي كلمة سريانية في أصلها، وهو قريانة أي: القرأة حيث كانت تستعمل في الكنيسة السريانية.
إن القرآن ينظر إليه كمرجع أساسي للفصل في المسائل التي تتعلق بالأمور التشريعية والأمور الدينية، ولا يقبل بأيّ حال من الأحوال الطعن فيما يقول.
كما أن اللغة العربية التي صيغ بها تعد بأنها لا يمكن التفوق عليها في نقائها وجمالها وأسلوبها الرائع، وإنه لا مجال لتقليده، حيث إن هذا هو الجنون بعينه». اهـ.
هذا هو الفصل الأول في دائرة المعارف البريطانية، وإننا بإزاء قضايا ثلاث لا بد أن نبحثها في هذا الفصل:
القضية الأولى: تتعلق بجمع القرآن.
القضية الثانية: تتعلق بمحاكاة القرآن والإتيان بمثله.
القضية الثالثة: تتعلق بأصل هذه الكلمة ومادتها.(1/23)
القضية الأولى: جمع القرآن:
قولهم: «إنّ القرآن جمع بعد ممات النبيّ صلّى الله عليه وسلّم»، وهذه مسألة حريّ بنا أن نبين فيها القول بإيجاز، ولكن غير مخل.
من المعلوم بداهة أن الآيات كانت تنزل على سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان يقرؤها على أصحابه رضوان الله عليهم، وكان الصحابة يتلقونها فيتلقفونها بالحفظ، يساعدهم على هذا الحفظ:
1 - حبهم للقرآن وشغفهم به.
2 - بيئتهم الطبيعية والجغرافية.
3 - فطرتهم السليمة التي هيّئ لهم بها ذاكرة حافظة.
4 - حياتهم التي لم يكن فيها شيء من التعقيد.
ومع هذا كله فإن من المعلوم بداهة كذلك أن سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان له كتّاب عرفوا بكتّاب الوحي، فكانوا يكتبون بأمر النبي عليه وآله الصلاة والسلام، والنبي يبين لهم الموضع الذي يضعون فيه هذه الآيات. وعلى هذا فليس هناك آية من القرآن الكريم، لم تكن مكتوبة في زمنه عليه وآله الصلاة والسلام، ولكن الذي حدث فيما بعد أن أراد عمر رضي الله عنه جمع القرآن، وطلب ذلك من أبي بكر رضي الله عنه، وذلك بعد اشتداد المعارك، وبخاصة بعد معركة اليمامة التي استشهد فيها كثير من حفظة القرآن، واستجاب أبو بكر بعد نقاش وتحاور فجمع القرآن. ولكن هذا الجمع كانت غايته أن يحفظ القرآن كما هو الآن في المصحف، وأن تجمع الرقاع التي كتب عليها القرآن، ذلك أنه كان في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم مجموعا على رقاع متفرقة هنا وهناك، أما في عهد أبي بكر رضي الله عنه فقد جمعت كلها ليضمها سجل واحد، فكان الجمع في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الجمع الأول، في رقاع مختلفة متفرقة، وكان الجمع في عهد أبي بكر هو
الجمع الثاني، بضم هذه الرقاع في سجل واحد ثم كان الجمع الثالث في عهد عثمان رضي الله عنه، حيث جمع الناس على مصحف واحد.(1/24)
ومع هذا كله فإن من المعلوم بداهة كذلك أن سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان له كتّاب عرفوا بكتّاب الوحي، فكانوا يكتبون بأمر النبي عليه وآله الصلاة والسلام، والنبي يبين لهم الموضع الذي يضعون فيه هذه الآيات. وعلى هذا فليس هناك آية من القرآن الكريم، لم تكن مكتوبة في زمنه عليه وآله الصلاة والسلام، ولكن الذي حدث فيما بعد أن أراد عمر رضي الله عنه جمع القرآن، وطلب ذلك من أبي بكر رضي الله عنه، وذلك بعد اشتداد المعارك، وبخاصة بعد معركة اليمامة التي استشهد فيها كثير من حفظة القرآن، واستجاب أبو بكر بعد نقاش وتحاور فجمع القرآن. ولكن هذا الجمع كانت غايته أن يحفظ القرآن كما هو الآن في المصحف، وأن تجمع الرقاع التي كتب عليها القرآن، ذلك أنه كان في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم مجموعا على رقاع متفرقة هنا وهناك، أما في عهد أبي بكر رضي الله عنه فقد جمعت كلها ليضمها سجل واحد، فكان الجمع في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الجمع الأول، في رقاع مختلفة متفرقة، وكان الجمع في عهد أبي بكر هو
الجمع الثاني، بضم هذه الرقاع في سجل واحد ثم كان الجمع الثالث في عهد عثمان رضي الله عنه، حيث جمع الناس على مصحف واحد.
ونحن لا نود التفصيل، فهذا باب يتسع القول فيه، وسيأتي له مزيد بحث فيما بعد إن شاء الله.
القضية الثانية: محاكاة القرآن والإتيان بمثله:
جاء في آخر هذه القضية في دائرة المعارف البريطانية بأنه لا مجال لتقليد القرآن، «فتقليده هو الجنون عينه»، وتوضيحا لهذا الأمر نقول:
إن الله شاء أن تكون معجزة النبي الكريم هذا القرآن، ولقد تحدى القرآن الناس في أكثر من موضع، قال تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34]، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيََاتٍ} [هود: 13]، وقال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38]، وقال في آية أخرى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمََّا نَزَّلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]، ولكل من هذه المراحل في التحدي طبيعتها وظرفها، مما لا مجال لذكر شرحه هنا.
ولكن العرب مع ذلك وغيرهم لم يأتوا بشيء من ذلك كله، وهذا يدلنا على أن هذا التحدي مبني على أساس من الثقة والطمأنينة، وليس كلاما مبنيا على الوهم والادّعاء، ولقد أرخى القرآن العنان لأولئك جميعا، ليجربوا المرة بعد المرة، وليبذلوا ما شاءوا من المحاولات، وليستعينوا بمن يشاءون كذلك.
القضية الثالثة: أصل كلمة قرآن:
وهو الادعاء بأن مادة قرآن من المحتمل بأن تكون مشتقة من كلمة قرأ (وهي كلمة سريانية في أصلها)، وهو «قريانة» أي: القرأة، حيث كانت تستعمل في الكنيسة السريانية.(1/25)
وما جاء في دائرة المعارف الإنجليزية يردده مستشرق آخر، ولكنه فرنسي (1)، وهذا يحملنا على الاستنتاج بأن المصادر الغربية على اختلاف أقاليمها وأزمنتها تلقت هذه الأقوال عن مصدر واحد دون تحر عن الحقيقة أو بحث علمي قائم على خطوات منهجية.
وليست كلمة قرآن وحدها هي التي ادعي بأنها دخيلة على العربية من أصل سرياني، ولكن هناك كلمات كثيرة هي من لب العربية وأساسها، زعموا أنها غير عربية كذلك، ككلمتي الإيمان والصلاة، حيث زعمت دائرة المعارف نفسها كما سيأتي معنا أن الأولى عبرية أو آرامية، وأن الثانية آرامية، وكذلك كلمة قلم، حيث ادعي أنها من أصل يوناني، وكلمة صراط وكلمة سورة، حيث ادعي أنها مشتقة من العبرية الحديثة (2) بل ذهبوا إلى ما هو أعجب من ذلك كله، فادعوا أن سدرة المنتهى ليست عربية كذلك، فقد زعم الأب انستاس الكرملي أن سدرة المنتهى التي وردت في سورة النجم من أصل لاتيني، وقد تبعه حسن سالم في هذا الزعم كما جاء في مجلة «المصور» القاهرية في 17كانون الأول 1967م، العدد 2723 (3)، وهذه لعمر الحق هزيمة أشد من هزيمة حزيران في السنة نفسها.
ونحن إذ نردّ هذا الزعم، لا نرده جزافا ولا عصبية، فنحن في بحثنا هذا ملتزمون بالمنهج العلمي القائم على أسس منهجية، وهدفنا ورجاؤنا إن شاء الله أن يترجم هذا الكتاب، وبخاصة للإنجليزية لغة دائرة المعارف، التي نناقشها في هذه الأبحاث.
__________
(1) هوريجي بلاشير، ولد سنة 1900.
(2) «المستشرقون والدراسات القرآنية»، د. محمد حسين علي ص 34.
(3) «دفاع عن الفصحى»، أحمد عبد الغفور عطار، ص 35.(1/26)
وعلى هذا الأساس نرجو أن يتبين القارئ ما يلي:
لقد حافظ العرب على لغتهم بكل ما منحوه من براعة وقوة، وتتمثل هذه المحافظة بوسيلتين اثنتين:
إحداهما: أن نحافظ على هذه اللغة، وذلك بالعناية بمفرداتها عناية تامة، وهذه الوسيلة هدفها وغايتها أن نردّ على أولئك الذين يريدون أن يجردوا العربية من كثير من المعاني، وكثير من الألفاظ كذلك، فيدّعون أن كثيرا من الكلمات العربية، كالإيمان والصلاة، حتى كلمتي قرآن وقلم، كل هذه ليست في أصلها عربية ولكي يكون الرد محكما على أولئك لا بد أن ندرس المفردات العربية كما قلت بحيث نقف مع الكلمة فنبحث عن اشتقاقها، والكلمات التي تمت إليها بقربى وصلة (1)، وسنجد أن كل ما ادعي أنه غير عربي لا يستند إلى أساس، ولا يملك أصحابه دليلا عليه.
أما الوسيلة الثانية: فهدفها وغايتها أن لا يتسرب إلى العربية ما هو بعيد عنها، وأجنبي منها.
وهكذا نجد أن هاتين الوسيلتين مع اختلافهما، إلا أنهما تلتقيان على هدف واحد، هو المحافظة على هذه اللغة سواء أكانت تلك المحافظة من حيث ردّ الشبهات عن الكلمات العربية، والزعم بأنها ليست كذلك في أساسها، وهذا شأن الوسيلة الأولى، أم من حيث المحافظة على طابع العربية وإحاطتها بسياج محكم، وضوابط تحول بين العربية وبين أي كلمة غريبة دخيلة، وهذا شأن الوسيلة الثانية. وهكذا يضمن العرب بهذه الضوابط أن «لا يدخل الحمار حلبة الكميت، ولا ينتسب أعجمي لآل البيت». والذي يعنينا الآن الوسيلة الأولى.
__________
(1) فعلى سبيل المثال إذا أردنا معرفة كلمة فلح، فإننا ندرس الكلمات التي تمت لها بقربى كقلح وفلج وسنجد أن هذه الكلمات كلها تدل على معنى الشق، وكلمة نفخ، وما يشبهها كنفق ونفط ونفح ونفر سنجدها تدل على الخروج.(1/27)
قال عباس العقاد:
«فإذا التبس علينا أمر كلمة من الكلمات، فلم نعلم في ظاهر الأمر أهي من الألفاظ الأصيلة أو من الدخيل عليها فلدينا هذا المقياس الحاضر نقيس به دلالة الكلمة، ونردها إلى حياة العرب وإلى المعهود من تعبيرها عن معالم تلك الحياة، فلا يطول بنا العناء في الرجوع بها إلى أصل معقول نطمئن إليه.
قيل مثلا إن كلمة «القلم» مأخوذة من «كلموس» اليونانية ولا يعزى الاستناد في هذا القول إلى مرجع من مراجع التاريخ المحقق غير مجرد الظن القائم على التشابه في مخارج اللفظين وهو لا يدل على السابق إلى وضع الكلمة من اللغتين.
ولكننا نستطيع أن نرد الكلمة إلى القلم أو التقليم من القلامة في اللغة العربية، فنرى أنها أصيلة في هذه اللغة بهذا المعنى، ونتقصى المادة فنعلم أنها لا تنقل بجملتها من لغة إلى لغة.
فمادة القاف والميم وما يتوسطهما مطردة في الدلالة على الشق والقطع، ومنها قحم وقرم وقسم وقصم وقضم وقطم وقلم، وهي آخرها في ترتيب الأبجدية.
ونعود إلى الشيء الذي (يقلم) فنعلم أن القناة والقصبة والريشة مما يقلمه العرب ويتخذونه من لفظ أصيل في لغة العرب لا ينقلونه من لفظ آخر في لغة أجنبية» (1).
وما ذكره الأستاذ العقاد رحمه الله منسجم مع المنهج المنطقي، والمنطق العلمي، ويمكننا أن نقف مع بعض الكلمات التي ادعي أنها غير عربية، وسنرى أنها عربية الأصالة والأصل.
__________
(1) «اللغة الشاعرة» ص 6830.(1/28)
فالقاف والراء والحرف المعتل كما يقول ابن فارس (1) أصل يدل على الجمع، ومنه القرية لتجمع الناس فيها، والقرو هو حوض ترده الإبل يجتمع الماء فيه، والقرء وهو تجمع الدم، يقال أقرأت المرأة، إذا تجمع دمها في جوفها فلم ترخه، وفي الشعر العربي:
هجانِ اللونِ لم تقرأ جنينا
أي: لم تضم في رحمها ولدا قط، ويقال للتي لم تحمل: «ما قرأت سلى قط»، ومنه القرآن، لأنه يحمل ويجمع.
وإذا تركنا هذه الكلمة فإننا سنجد أن القاف والراء أيا كان ثالثهما يدلّ على الجمع كذلك، خذ مثلا مادة (قرب) فإنه ضد البعد وفيه معنى الاجتماع، ومنه (القرت)، وهو تجمع الدم ويبوس بعضه على بعض، و (القرد) يدل على تجمع وتقطع، والقرد: ما تمعط من الصوف والوبر وتلبد بعضه على بعض. ومنه (القرز)، وهو قبضك التراب وغيره بأطراف أصابعك، ففيه معنى الجمع كما ترى.
وكذلك (القرش)، وهو الجمع والكسب والضم، يقال تقرش القوم إذا تجمعوا. ومنه (القرص)، وهو الغمز والقبض بالأصابع، وأخيرا فهذه مادة (قرن) واقترن، ومعنى الجمع فيها ظاهر ملحوظ.
أفبعد هذا كله يمكن أن يدعي مدع ويزعم زاعم بأن مادة قرآن مأخوذة من أصل سرياني أو من أي أصل آخر؟! ما أظن أن بعضنا يرضى مثل ذلك القول.
وهب أن كلمة في السريانية جاءت مشابهة لهذه الكلمة، أفلا يمكن أن يدّعى أن كلمة السريانية هي المأخوذة عن العربية؟! ولم لا تكون هناك كلمات
__________
(1) «معجم مقاييس اللغة» (1: 78).(1/29)
متشابهة في لغات متعددة، ومن يدري أي الوضعين كان أسبق من الآخر كما مر فيما نقلناه عن الأستاذ العقاد.
أما كلمة (آمن)، وما ادعي من أنها عبرية أو آرامية، فإذا رجعنا إلى أصلها اللغوي ومشتقاتها من الأمن والأمانة والإيمان فإننا ندرك أنها عربية لا تشوبها شائبة فإذا أخذنا ما يشبه هذه المادة كالأمر والأمل وهو التثبت، وجدنا أن الأصول الثلاثية لمادة الهمزة والميم أصول بينها وشائج قربى، وصلة نسب، أما مادة (صلاة) فالأمر فيها أوضح من سابقتيها. قال الزمخشري:
«والصلاة: فعلة من صلى، كالزكاة من زكى، وكتابتها بالواو على لفظ المفخم وحقيقة صلى: حرّك الصلوين والصلا وسط الظهر من الإنسان لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده. ونظيره كفر اليهودي إذا طأطأ رأسه وانحنى عند تعظيم صاحبه، لأنه ينثني على الكاذتين وهو ما نشأ من اللحم في أعالي الفخذ وهما الكافرتان، وقيل للداعي: مصلّ تشبيها في تخشعه بالراكع والساجد» (1).
وقد أطلت في هذه المسألة حتى لا يبقى أدنى ريب لمرتاب، ولكي يقاس على هذه الكلمات غيرها بالمنهج الذي اتبعناه وسلكناه.
* * * __________
(1) «الكشاف» (1: 40).(1/30)
الفصل الثاني شكل ومضمون القرآن
ما جاء في الموسوعة والردّ عليه في عشر قضايا جاء في دائرة المعارف: «إن القرآن بطوله يمكن مقارنته تقريبا مع العهد الجديد بطوله. ومن أجل سهولة تلاوته فقد قسم إلى ثلاثين جزءا لتتلاءم مع عدد أيام شهر رمضان، حيث يتلى جزء واحد لكل يوم من أيامه. كما أن القرآن قسم إلى 114فصلا، وكل فصل أطلق عليه سورة، حيث تتفاوت هذه السور في طولها، وباستثناء السورة الأولى وهي ما تسمى بالفاتحة والتي تعدّ أدعية قصيرة، فإن السور نظمت حسب طولها وقصرها، بحيث أن السورة رقم (2) هي أطول السور، وأن آخر ثلاث سور هي أقصرها. وبما أن أطول السور نزلت في النصف الثاني لرسالة محمد، فقد رتبت بحيث جاءت الأولى في الكتاب، والسور التي أنزلت في بداية رسالته جاءت في الجزء الأخير من الكتاب.
إن السورة تحتوي على العناصر الآتية:
(1) العنوان: وهذا مشتق من كلمة واضحة جلية في السورة مثل: البقرة، النحل، الشعراء، حيث لا يدل العنوان على محتويات تلك السورة.
(2) البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم.
(3) نوع السورة إن كانت مدنية أو مكية.
(4) عدد الآيات الموجودة في السورة.(1/31)
(5) في بعض السور بعض الحروف مثل: الم، وطه، ويس، حيث معنى هذه الحروف لم يشرح بشكل مرض، أو هو يدل على اختصار لكلمات، أو إن له أهمية سحرية.
إن جمل القرآن تسمى آيات، جمع آية، وهي تختلف بطولها. إن أقصر الآيات نزلت في السور الأولى حيث إن الأسلوب جاء نثرا مقفى أو ما يسميه العرب بالسجع، وقد استعمل هذا الأسلوب سابقا من قبل الكهنة ومن قبل المنجمين. فالسور الأولى تتصف آياتها بالقصر وبقوتها الشعرية وبتعبيرها الحيوي، أما السور الأخيرة فجاءت آياتها طويلة مفصلة، ومعقدة نثرية في مظهرها ولغتها، بحيث إنه أصبح من الصعب التمييز أين تنتهي الآية، مما تسبب عنه اختلاف في ترقيم الآيات. إن القرآن يبدو أنه كلام الله حيث إنه يبدأ بالحديث عن نفسه بكلمة الجمع «نحن»، إلا أن النبي عند ما يخاطب أتباعه فإنه يخاطبهم بصيغة الأمر «قل»، وبهذا يؤكد أنه يتكلم بوحي سماوي.
وهنالك أسلوب دراماتيكي في المخاطبة حيث إن خصوم النبي بينوا اعتراضهم ووجهة نظرهم، ثم يرد النبي على خصومه بحجج قوية مناوئة لهم. كما أن الآيات القصصية موجزة ومقتضبة، إلا أن قصص الأنبياء والأشخاص المذكورين في التوراة ينوه بها، وكما أن السامعين والمخاطبين يعرفونها إلا أن الغاية من سرد القصص يعود إلى العبر التي تستفاد منها وليس لمجرد ذكر القصة، وإذا دققنا النظر في بعض السور القليلة نجد أنها متشابهة جدا في أسلوبها ومضمونها.
إن أطول هذه السور التي تتحدث عن موضوع واحد هي سورة (12)، والتي تسرد قصة يوسف، وهي تضيف إلى المعلومات التي وردت في الكتب الدينية تفصيلات خرافية معظمها جاءت من مصادر يهودية. أما باقي السور الطويلة فهي تتناول موضوعات مختلفة تتحدث عن مواضيع مختلفة من السورة.
وكأن القرآن يعطي للقارئ انطباعا بأنه مجرد إنشاء جاء بطريقة عشوائية، ويؤكد
صحة ذلك طريقة ختم هذه الآيات بآيات مثل: {إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ،} {أَنَّ اللََّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ،} {إِنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ،} وأن هذه الأخيرة لا علاقة لها مع ما قبلها وأنها وضعت فقط لتتميم السجع والقافية، وكثيرا ما يؤكد أن محمدا جاء لشعبه بقرآن عربي، أي كتاب بلغتهم على غرار الكتب التي جاءت لليهودية والمسيحية. إن الأغلبية الساحقة من الكلمات هي من أصل عربي، إلا أن هنالك كلمات مستعارة من أصل أجنبي مثل اليهودية والمسيحية، ومثال على ذلك كلمة الإنجيل فهي يونانية، وكلمة توراة فهي يهودية، وكلمة إبليس يونانية، وكلمة آمنا من أصل عبراني أو آرامي، وكلمة صلاة من أصل آرامي. إن مثل هذه الاستعارة الكلامية من لغات أخرى تبعث الشكوك في نفس المسلمين أنّ قرآنهم نزل بلسان عربي فصيح». اهـ.(1/32)
وكأن القرآن يعطي للقارئ انطباعا بأنه مجرد إنشاء جاء بطريقة عشوائية، ويؤكد
صحة ذلك طريقة ختم هذه الآيات بآيات مثل: {إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ،} {أَنَّ اللََّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ،} {إِنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ،} وأن هذه الأخيرة لا علاقة لها مع ما قبلها وأنها وضعت فقط لتتميم السجع والقافية، وكثيرا ما يؤكد أن محمدا جاء لشعبه بقرآن عربي، أي كتاب بلغتهم على غرار الكتب التي جاءت لليهودية والمسيحية. إن الأغلبية الساحقة من الكلمات هي من أصل عربي، إلا أن هنالك كلمات مستعارة من أصل أجنبي مثل اليهودية والمسيحية، ومثال على ذلك كلمة الإنجيل فهي يونانية، وكلمة توراة فهي يهودية، وكلمة إبليس يونانية، وكلمة آمنا من أصل عبراني أو آرامي، وكلمة صلاة من أصل آرامي. إن مثل هذه الاستعارة الكلامية من لغات أخرى تبعث الشكوك في نفس المسلمين أنّ قرآنهم نزل بلسان عربي فصيح». اهـ.
هذا الفصل هو من أخطر ما جاء في دائرة المعارف، فهو يدل على عدم التروي، بل على تجنب المنهجية الصحيحة، وربما على المغالطة المتعمدة، وذلك ما سنبرهن عليه. وهو من أكثر الفصول كذلك اشتمالا على قضايا متعددة متنوعة، كل قضية منها تشكل موضوعا خاصا، وسنحاول تيسيرا على القارئ أن نأخذ كل قضية على حدة، ونؤثر أن نسير مع الترتيب نفسه الذي اتبعته دائرة المعارف.
القضية الأولى: حديثهم عن القرآن بأنه من حيث الحجم والكم يمكن قياسه بالعهد الجديد على وجه التقريب.
وتلك لا تعنينا كثيرا، فسواء قيس من هذه الحيثية بالعهد الجديد أم القديم فذلك أمر لا يتعلق بجوهر الموضوع ذلك أن طبيعة نظم القرآن تمتاز أول ما تمتاز شأن اللغة العربية كلها بالإيجاز، إلا أن الذي يعنينا من هذه القضية الأولى قول دائرة المعارف: «إن القرآن الكريم من أجل سهولة تلاوته قسم
ثلاثين جزءا لتتلاءم مع عدد أيام شهر رمضان»، ولقد كان ريجي بلاشير أكثر حصافة، وأدق حكما، حينما قال:(1/33)
وتلك لا تعنينا كثيرا، فسواء قيس من هذه الحيثية بالعهد الجديد أم القديم فذلك أمر لا يتعلق بجوهر الموضوع ذلك أن طبيعة نظم القرآن تمتاز أول ما تمتاز شأن اللغة العربية كلها بالإيجاز، إلا أن الذي يعنينا من هذه القضية الأولى قول دائرة المعارف: «إن القرآن الكريم من أجل سهولة تلاوته قسم
ثلاثين جزءا لتتلاءم مع عدد أيام شهر رمضان»، ولقد كان ريجي بلاشير أكثر حصافة، وأدق حكما، حينما قال:
«وقد قسم القرآن فيما بعد لمجرد الباعث العملي، وتسهيلا لتلاوته بمناسبة الاحتفالات الدينية، إلى ثلاثين جزءا لا علاقة بينها وبين التقسيم إلى سور».
وإذا كنا نأخذ على الكاتب ما توهمه من صلة بين تقسيم القرآن إلى ثلاثين جزءا وبين المناسبات الدينية التي يعني بها في أغلب الظن شهر رمضان، كما جاء في دائرة المعارف، إلا أنه أشار إلى أن هذا التقسيم كان متأخرا، وذلك ما تشير إليه كلمة: «فيما بعد».
أما ما جاء في دائرة المعارف فقد كان بعيدا عن الحقيقة وعن الدقة والموضوعية، فتقسيم القرآن إلى ثلاثين جزءا كان إجراء متأخرا كثيرا عن نزول القرآن وفرضية رمضان ونافلة التراويح فيه، كان كل ذلك في عهد الرسول عليه وآله الصلاة والسلام، ولا ريب أن المسلمين كانوا يحفظون القرآن، ولا يجدون في ذلك صعوبة ولا عسرا قبل أن يجزّأ القرآن إلى أجزاء، وكانوا لا ريب كذلك يصلون التراويح، وهي النافلة الرمضانية، قبل أن يجزّأ القرآن كذلك.
إن ربط التجزئة بشهر رمضان كما تقول دائرة المعارف أو بالمواسم الدينية كما يقول بلاشير بعيد كل البعد عن رتبة الحقيقة وعن مجال المنطق والتطبيق العملي، بل عن الروح لهذا الدين كذلك، فالشكلية لم تكن في يوم ما من جوهر هذا الدين ولبه وأساسه، إن قضية التجزئة والتقسيم إلى أجزاء وأحزاب وأرباع وغير ذلك من المصطلحات كانت عملا متأخرا حتى عن شكل القرآن وتنقيطه، ثم إنه لا يوجد نص ما من كتاب وسنّة يحث المسلمين على قراءة جزء معين، أو كمية معينة في رمضان أو في غيره، وإنما تترك مثل هذه الأمور لظرف القارئ وظروف المصلين، ولا نود أن نطيل في هذه القضية، فالأمر فيها أيسر من أن نحتاج فيه إلى شرح وتفصيل.(1/34)
القضية الثانية: ترتيب السور القرآنية:
قول الموسوعة: «كما أن القرآن قسم إلى 114فصلا، كل فصل أطلق عليه سورة، حيث تتفاوت هذه السور في طولها، وباستثناء السورة الأولى وهي ما تسمى بالفاتحة التي تعد أدعية قصيرة فإن السورة نظمت حسب طولها وقصرها، بحيث أن السورة رقم (2) هي أطول السور وأن آخر ثلاث سور هي أقصرها، وبما أن أطول السور نزلت في النصف الثاني لرسالة محمد فقد رتبت بحيث جاءت الأولى في الكتاب، والسور التي أنزلت في بداية رسالته جاءت في الجزء الأخير من الكتاب». اهـ.
إن ترتيب السور في كتاب الله تعالى ليس ناشئا عن الطول والقصر، باستثناء السورة الأولى كما تدعي دائرة المعارف، وهي سورة فاتحة الكتاب التي تعدّ أدعية كما يقولون.
ونحب أن نقول:
اولا: فاتحة الكتاب ليست ادعية فحسب
أولا: إن فاتحة الكتاب لا تعد أدعية فحسب، والمتأمل للسورة الكريمة لا يجدها كما قالوا، ففيها ذكر الله والثناء عليه بما هو أهله، فهو يستحق الحمد لأنه رب العالمين أي: المربي لهذه الكائنات جميعا، جمادها وحيوانها، علويها وسفليها، أرضيها وسماويها، وذلك بما يفيض عليها من رحمته، وكما له الشأن في هذه الحياة فهو المتصرف كذلك في يوم الدين، يوم الجزاء الأخروي، لذا فإن أحدا غيره لا يستحق أن يعبد، وأن أحدا غيره سبحانه لا يستحق أن يستعان به: {الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ (2) الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ (3) مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 52]. إلى غير ما هنالك من أسرار وأحكام وقيم يمكن أن تؤخذ من ألفاظ الآيات، أو من ضم بعضها إلى بعض، وبعد هذه المعاني جميعا يأتي دور الدعاء: {اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرََاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضََّالِّينَ} [الفاتحة: 76].(1/35)
ولقد جاء في الحديث الشريف عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي يرويه عن ربه: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال:
{الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ:} قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: {مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجّدني عبدي، فإذا قال: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ}
قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرََاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضََّالِّينَ}
قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل» (1).
فإطلاق القول بأن سورة الفاتحة تعدّ أدعية تعوزه الدقة.
ثانيا: ترتيب سور القرآن ليس له علاقة بطولها وقصرها
ثانيا: ترتيب السور ليس للطول والقصر فيه شأن، وليس صحيحا أن ما نزل في النصف الثاني في المدينة من رسالة النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم كان أطول ولذا وضع في أول القرآن، وأن ما نزل في النصف الأول في مكة كان أقصر، ووضع آخرا، إن كتاب دائرة المعارف البريطانية نظروا إلى السورة الثانية وهي سورة البقرة فوجدوها أطول سورة، ونظروا إلى السور الأخيرة وهي الإخلاص والمعوذتين فقالوا إنها أقصر السور، وهذا الحكم خطير، لأنّ أي حكم لا ينبغي أن يبنى على مثال واحد، وبخاصة في قضية لا يصعب فيها الاستقراء والاستقصاء، ثم إن هذه السورة الأخيرة ليست هي أقصر السور كما سنعلم وسنتبين التهافت الظاهر فيما جاء في دائرة المعارف.
فهناك سور مكية تعدّ من طوال السور، وذلك كسورتي الأنعام والأعراف، السور السادسة والسابعة، بينما نجد سورا مدنية قصيرة قصرا ملحوظا كسورة النصر، وهناك سور مكية كثيرة أكثر طولا من سور مدنية كثيرة، فمثلا سورة يونس وهود ويوسف، والأنعام والأعراف كما قلنا من قبل مكية، وسورة
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الصلاة من «صحيحه»، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة رقم 38.(1/36)
سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم القتال والفتح والحجرات، والمجادلة والحشر والممتحنة، والصف والجمعة والمنافقون، والتغابن والطلاق والتحريم: سور مدنية، وهي لا شك أقصر من السور المكية التي ذكرناها من قبل. هذه واحدة.
أما الثانية: وهي التي تتعلق بالترتيب فالأمر فيها أظهر من سابقتها، فسورة الأنفال وهي السورة الثامنة أقصر من سورة براءة وهي السورة التاسعة، وسورة الحجر وهي السورة الخامسة عشرة أقصر من سورة النحل وهي السورة السادسة عشرة، وسورة السجدة وهي السورة الثانية والثلاثون أقصر من سورة الأحزاب وهي السورة الثالثة والثلاثون، وسورة الكوثر أقصر من المعوذتين، ثم إن هناك سورا مدنية كسورة النور، جاءت في وسط سور مكية، وكذلك سورة الأحزاب وسورة النصر، كما أن سورتي الأنعام والأعراف المكيتين جاءتا في وسط سور مدنية.
والحق أن ترتيب السور في كتاب الله تعالى، فضلا عن أنه أمر توقيفي، جاء بتعليم من النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه مع ذلك سرّ من أسرار إعجاز هذا القرآن، فمجيء السورة بعد سابقتها دالّ على ارتباط وصلة وإحكام ما بين السورتين، وقد يكون ذلك من حيث الموضوع، وقد يكون من حيث اللفظ، وقد يكون من الحيثيتين مجتمعتين، وهكذا نجد أنّ كل سورة ترتبط بما قبلها من جهة معينة، وهذا يدل على إحكام وتلاحم واتساق بين سور القرآن جميعها.
فإذا كانت سورة النور المدنية ترتبط بسورة المؤمنون من هذه الحيثية، فإن سورة الفرقان المكية ترتبط بسورة النور التي قبلها من حيث إن كلّا منهما كان تبرئة للنبي صلّى الله عليه وسلّم من التهم والافتراءات، إلا أن سورة النور كانت تبرئة للسيدة عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وسورة الفرقان كانت تبرئة للنبي صلّى الله عليه وسلّم من حيث ما ادعى عليه الطاعنون في رسالته.
وهكذا نجد أن كل سورة ترتبط بما قبلها من جهة، وترتبط بها ما بعدها من جهة أخرى، ليكون هذا التلاحم والإحكام سمة من سمات هذا القرآن، لا
تنفصل عنه ولا تنفصم، ولكن الذي لا ينظر نظرة إمعان ولا يقف من الأمور موقف الجدّ يظل بعيدا عن حقائق الأشياء، بعيدا عن الإلمام بطبيعتها.(1/37)
وهكذا نجد أن كل سورة ترتبط بما قبلها من جهة، وترتبط بها ما بعدها من جهة أخرى، ليكون هذا التلاحم والإحكام سمة من سمات هذا القرآن، لا
تنفصل عنه ولا تنفصم، ولكن الذي لا ينظر نظرة إمعان ولا يقف من الأمور موقف الجدّ يظل بعيدا عن حقائق الأشياء، بعيدا عن الإلمام بطبيعتها.
ترتيب سور القرآن إذن ليس خاضعا لطولها وقصرها، ولا لمكيها ومدنيها كما جاء في دائرة المعارف وإنما له سماته وصفاته وأسراره وحكمه (1).
القضية الثالثة: عناصر السورة:
قول الموسوعة: «إن السورة تحتوي على العناصر الآتية:
(1) العنوان، وهذا مشتق من كلمة واضحة جلية في السورة مثل: البقرة، والنحل، والشعراء، حيث لا يدل العنوان على محتويات تلك السورة.
(2) البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم.
(3) نوع السورة إن كانت مكية أو مدنية.
(4) عدد الآيات الموجودة في السورة.
(5) في بعض السور بعض الحروف مثل: الم وطه ويس، حيث إن معنى هذه الحروف لم يشرح بشكل مرض، أو هو يدل على اختصار لكلمات، أو ان له أهمية سحرية».
لقد خلطت دائرة المعارف بين ما هو أصيل في السور القرآنية، وبين العناوين الأخرى التي استحدثت فيما بعد، وبخاصة بعد وجود المطابع، فذكرت أن من عناصر السورة اسمها ووجود بسم الله الرحمن الرحيم في أولها، وهذا أمر طبيعي به تتمايز السور، فلا بدّ من اسم تمتاز به عن غيرها.
أما بسم الله الرحمن الرحيم، فقد تكون آية من كل سورة وقد تكون وضعت للفصل، وذلك ما فصله الفقهاء في كتبهم، ولكن نوع السورة أي:
__________
(1) راجع للتوسّع كتابنا «إتقان البرهان في علوم القرآن».(1/38)
كونها مكية أو مدنية، وعدد آياتها، ليسا عنصرين من عناصر السورة، وإنما ذكرت هذه الأمور وغيرها فيما بعد، فعلى حين نجد في بعض المصاحف ذكر هذين الأمرين فحسب، فإننا نجد في مصاحف أخرى ذكر شيء آخر، وهو تاريخ نزول السورة، فيقولون: نزلت بعد سورة كذا، وكل هذه الأمور ليست من العناصر الأولى للسورة، ولكنها ذكرت للتوضيح وزيادة البيان.
قولهم: «إن العنوان لا يدل على محتوى السورة»:
أما القول بأن العنوان لا يدل على محتويات السورة فهو بحاجة إلى بيان أن أسماء السور توقيفية أي: لا مجال فيها لاجتهاد، ولا يمنع هذا من أن هناك أسماء كانت توقيفية استنبطها العلماء من موضوع السورة، كتسمية سورة النحل بسورة النعم وذلك لما ذكر فيها من نعم الله الكثيرة على الناس، بل السورة كلها حديث عن هذه النعم، وتسمية سورة الحجرات بسورة الآداب وذلك لأنها اشتملت في معظمها على توجيهات وآداب لا بد منها للأفراد والجماعات، لكن أسماء السور المكتوبة في المصحف هي توقيفية لا شك، ويدل على ذلك أحاديث كثيرة.
وإذا كانت عناوين هذه السور لا تدل لأول وهلة على محتويات هذه السور فمما لا ريب فيه أن عنوان السورة إنما يشير إلى قضية بارزة فيها، بل إلى قضية عمودية يمكن أن تدور جميع موضوعات السورة حولها، فسورة براءة مثلا كانت في معظمها حديثا عن المشركين والمنافقين، الذين لا بد أن يتبرأ منهم المسلمون، وذلك للأسباب الكثيرة التي ذكرتها السورة الكريمة، وسورة نوح كانت كلها حديثا عنه مع قومه عليه السلام، وسورة الجن كذلك كانت حديثا عن الجنّ.
وهناك سور كثيرة مثل هذه السور يمكن أن يدل العنوان على محتواها.(1/39)
أما ما يجده بعض الناس من عناوين لبعض السور لا تدل على موضوعاتها فإن ذلك يحتاج منهم إلى إنعام نظر وإجالة فكر، وعلى تسليم ذلك في بعض السور، إلا أن من المؤكد أن هذا العنوان إنما يشير إلى ناحية ونقطة لا بد من إبرازها في السورة، ولا بد من التأكيد عليها كذلك، لأنها من الأهمية بمكان.
فسورة البقرة مثلا أشارت إلى قصة البقرة وما حدث فيها مع موسى عليه السلام وبني إسرائيل، وهي قصة أراد أن يبرزها القرآن في هذه السورة لأكثر من سبب، ومن هذه الأسباب:
1 - أنها لم تذكر في كتب بني إسرائيل.
2 - إنها تظهر نفسية القوم، واستعصاؤهم على أنبيائهم.
3 - وأخيرا لا آخرا فإن في ذكرها تعريفا للمسلمين بطبيعة جيرانهم، الذين سيتعاملون معهم في حاضرهم ومستقبلهم.
وسورة آل عمران إذا أمعنا النظر وجدنا أن عمود السورة وجوهرها يقوم في أكثر أجزائها على الحديث عن آل عمران، مريم والمسيح عليهما السلام، وسورة النساء كانت أبرز موضوعاتها النساء وحقوقهن أيّا كانت هذه الحقوق.
وكذلك نقول في سورة المائدة والأنعام والأعراف والأنفال، كل عنوان، وهو ما يعرف باسم السورة، يقصد منه إبراز جانب مهم تحدث عنه هذا الاسم، فسورة الأنعام مثلا أكثر السور التي تحدثت عن الأطعمة والذبائح وما يباح منها للمسلمين وما لا يباح.
وهكذا فإن اسم السورة العنوان لم يأت عبثا، ولم يشر إلى جزئيات جانبية، أو مسائل فرعية، بل على العكس من ذلك فهو إما أن يدل على موضوعات السورة تمام الدلالة، وإما أن يشير إلى جوانب بارزة عنى القرآن وقصد إلى إظهارها وإبرازها، وقد مثلنا لكل من النوعين، مثلنا للنوع الأول
بسورة براءة ونوح والجن، ونزيد هنا سورة النساء ويوسف والأنبياء والقصص، ونمثل للنوع الثاني بسورة الإسراء والكهف ومريم والنمل ولقمان.(1/40)
وهكذا فإن اسم السورة العنوان لم يأت عبثا، ولم يشر إلى جزئيات جانبية، أو مسائل فرعية، بل على العكس من ذلك فهو إما أن يدل على موضوعات السورة تمام الدلالة، وإما أن يشير إلى جوانب بارزة عنى القرآن وقصد إلى إظهارها وإبرازها، وقد مثلنا لكل من النوعين، مثلنا للنوع الأول
بسورة براءة ونوح والجن، ونزيد هنا سورة النساء ويوسف والأنبياء والقصص، ونمثل للنوع الثاني بسورة الإسراء والكهف ومريم والنمل ولقمان.
قضية الحروف المقطعة:
بقي في هذه القضية الحروف المقطعة في أوائل بعض السور، التي لم يشرح معناها بشكل مرض! كما جاء في دائرة المعارف، أو هو اختصار لكلمات، أو أن له أهمية سحرية! فنحب أن نبادرك القول هنا أيها القارئ بأن هذه الحروف المقطعة قد نالت من الشرح والعناية ما تستحق، وهي شروح مرضية مقبولة ذلك أن حرية الفهم لهذا الكتاب ما دامت بعيدة عن الشطط والوهم مفتحة الأبواب ولذا اختلف الناس في فهم هذه الأحرف، فمنهم من رأى أنها سر من أسرار هذا الكتاب، والقرآن كتاب سماوي لا بد أن تكون له أسرار، كأي كتاب سماوي. وآخرون رأوا أنها أسماء للسور القرآنية، وذهب قوم إلى أنها إشارة إلى بعض أسماء الله وصفاته، وكثيرون رأوا أن هذه الحروف جاءت للتحدي والإيقاظ، أما الإيقاظ فلأن العرب لم يتعودوا مثل هذا في كلامهم من قبل، فليس في كلامهم، شعرا ولا نثرا، مثل هذه الحروف المقطعة على هذا النظام، فوجودها في القرآن الكريم من شأنه أن ينبههم ويزيد في إيقاظهم حينما يسمعون شيئا لا قبل لهم به، وتلك قضية نفسية مسلمة لا محل فيها لارتياب، وأما التحدي فلأن كلام العرب مكون من هذه الحروف نفسها، فحينما تبدأ بعض السور بها، فهو تحدّ يقال فيه للعرب: لم عجزتم عن أن تأتوا بهذا القرآن مع أنه مكون من مادة الحروف التي تتكلمون بها، وهذه هي حروفه التي يتكون منها: (الم، ص، ق)، وهي حروفكم نفسها، فلم العجز إذن؟! ويستدل هؤلاء بأنه جاء عقب هذه الحروف في غالب السور ذكر الكتاب، كما في سورة البقرة: {الم (1) ذََلِكَ الْكِتََابُ} [البقرة: 21]، وفي سورة إبراهيم:
{الر كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النََّاسَ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى ََ صِرََاطِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1]، وهذا لا ينافي كون هذه الحروف أسماء للسور، وهو الرأي السابق. وهذا الرأي هو الذي ارتضاه المحققون من العلماء، فليست القضية إذن قضية شرح غير مرض، أو قضية أهمية سحرية.(1/41)
{الر كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النََّاسَ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى ََ صِرََاطِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1]، وهذا لا ينافي كون هذه الحروف أسماء للسور، وهو الرأي السابق. وهذا الرأي هو الذي ارتضاه المحققون من العلماء، فليست القضية إذن قضية شرح غير مرض، أو قضية أهمية سحرية.
وعلى كل حال، فإن القول في هذه الحروف اتسع فيه كثير من الناس، وسلكوا فيه مسالك قد تكون غير مأمونة، حينما أخذوا منه بعض الحسابات التي تعرف بحساب (الجمّل)، ولا نود أن ننقل هذه الأقوال ونردها، فليس هذا غرضنا في هذه المباحث. ونرشد إلى ما جاء في تفسيري الزمخشري والرازي من الأقدمين، و «المنار» و «الجواهر» من تفاسير المحدثين.
القضية الرابعة: الآيات القرآنية وأسلوبها:
قول الموسوعة: «إن جمل القرآن تسمى آيات، جمع آية، وهذه تختلف في طولها، إن أقصر الآيات نزلت في السور الأولى حيث إن أسلوب الوحي المحمدي جاء نثرا مقفى أو ما يسميه العرب بالسجع، وقد استعمل هذا الأسلوب سابقا من قبل الكهنة ومن قبل المنجمين، فالسور الأولى تتصف آياتها بالقصر وبقوتها الشعرية وبتعبيرها الحيوي، أما السور الأخيرة فجاءت آياتها طويلة، مفصلة ومعقدة نثرية في مظهرها ولغتها، مما تسبب عنه اختلاف في ترقيم الآيات».
نتحدث في هذه القضية عن:
1 - الأسلوب المكي والمدني.
2 - صلة هذا الأسلوب بأسلوب الكهان والمنجمين.
3 - الآيات طولا وقصرا.
فنقول وبالله التوفيق:(1/42)
أولا: الأسلوب المكي والمدني:
التفرقة بين الأسلوب المكي والمدني أمر كانت له أبعاده ومقدماته ونتائجه، وهي قضية طالما عرض لها رجال التبشير والاستشراق على السواء، ورددها بعدهم المتأثرون بهم، وكنا نود أن تتخذ دائرة المعارف منهجا أقرب إلى الموضوعية والعلم، والنزاهة والإنصاف.
إن الغاية من تقسيم القرآن إلى أسلوبين هدفها إثبات أن هذا القرآن كان خاضعا للبيئات المختلفة، فهو في مكة كان ذا أسلوب شعريّ يتفق مع لغة القوم وثقافتهم العربية المحدودة، ولكنه في البيئة المدنية كان متأثرا بأهل الكتاب الذين كانوا هناك من اليهود، والذين كان لهم من الثقافة ما لم يكن للعرب في مكة، كما أن لأهل مكة من السليقة اللغوية ما لم يكن لهؤلاء، وعلى هذا فالقرآن كان يخضع لأمزجة مختلفة، وثقافات متغيرة، فليس نسقا واحدا، فآياته في مكة قصيرة ذات أسلوب وإيحاء قوي، ولكنها في المدينة كانت طويلة ذات أسلوب معقد، وهذه والحق يقال فرية لا تقوم على أساس من منطق، بيان ذلك:
إن القرآن المكي كان يعالج موضوعات معينة هدفها تثبيت عقيدة الألوهية، وما يتبعها من شئون الرسالة والنبوة، وأنباء اليوم الآخر، وما يمكن أن ينمّي ذلك من أخلاق فاضلة، ولكي يتم التأثير جاءت القصص تحدّث عن الأولين، وما كان من شأنهم، لا من حيث الإيمان فحسب، ولكن من حيث الأمور المسلكية كذلك، كتطفيف المكيال والميزان، وتعظيم الناس من حيث أنسابهم وأموالهم، وفعل بعض الفواحش. وكل هذه من مقتضيات التربية، التي يهدف لها القرآن المكي، ولكن طبيعة الأحداث تحتم أن يكون للقرآن المدني هدف آخر، فالجماعة المسلمة لا بد لها من نظام شامل كي تحفظ نفسها من المنزلقات، وهذا النظام الشامل لا بد أن يشمل مناحي الحياة جميعها، فعلاقة
الأفراد بعضهم مع بعض، وعلاقة الجماعة بغيرها من الناس، كل ذلك كان الهدف الذي يوجه إليه القرآن ويبين أسسه ويرسي قواعده.(1/43)
إن القرآن المكي كان يعالج موضوعات معينة هدفها تثبيت عقيدة الألوهية، وما يتبعها من شئون الرسالة والنبوة، وأنباء اليوم الآخر، وما يمكن أن ينمّي ذلك من أخلاق فاضلة، ولكي يتم التأثير جاءت القصص تحدّث عن الأولين، وما كان من شأنهم، لا من حيث الإيمان فحسب، ولكن من حيث الأمور المسلكية كذلك، كتطفيف المكيال والميزان، وتعظيم الناس من حيث أنسابهم وأموالهم، وفعل بعض الفواحش. وكل هذه من مقتضيات التربية، التي يهدف لها القرآن المكي، ولكن طبيعة الأحداث تحتم أن يكون للقرآن المدني هدف آخر، فالجماعة المسلمة لا بد لها من نظام شامل كي تحفظ نفسها من المنزلقات، وهذا النظام الشامل لا بد أن يشمل مناحي الحياة جميعها، فعلاقة
الأفراد بعضهم مع بعض، وعلاقة الجماعة بغيرها من الناس، كل ذلك كان الهدف الذي يوجه إليه القرآن ويبين أسسه ويرسي قواعده.
ولكن اختلاف الموضوع قد ينتج عنه اختلاف الأسلوب من حيثية معينة، اللهم إلا حيثية الجودة وحسن الصياغة، ولنتصور أستاذا يحاضر في أدب المسرح، أو في أهداف الشعر، أو في أسلوب القصة، وآخر يتحدث في قضية من قضايا العلم كالطب والكيمياء، أو قوانين فيزيائية، وقد أعطي كل منهما القدرة على الشرح، وروعة الأسلوب، وحسن المحاضرة، إن عاقلا لا يمكن أن يفرق بين هذين الأستاذين بأن الأول كان سهل الأسلوب ميسرة وبأن الثاني كان معقدا ركيكا، بل إن كليهما رائع في شرحه، موفق في عرضه، ولكن طبيعة الموضوع المتحدث عنه هي التي تختلف من واحد لآخر، وهكذا أسلوب القرآن مكيه ومدنيه.
إن أي باحث منصف يتدبر آيات القرآن على اختلاف تنزلاتها سيجد أن الأسلوبين سواء، لا يختلف أحدهما من حيث الجودة عن صاحبه، إن آية الدّين في سورة البقرة [آية 282]، وآيات المواريث في سورة النساء [الآيات 11، 12] وقضايا العقود في سورة المائدة، وأحكام الآداب في سورة الحجرات، وآيات الجهاد في سورة براءة [الآيات 291]: كلها مدنية لا تختلف من حيث أسلوبها وجودتها عن آي القصص في سورة الشعراء، أو عن قواعد الوحدانية في سورة النمل، أو عن قضايا الأخلاق في سورة الإسراء، اللهم إلا أنّ طبيعة الموضوع نفسه تقتضي شيئا من التغير في العرض، ولكن هذا التغير كما قلت، بعيد كل البعد عن صلب الأساسيات الأولى، من جودة النظم، وروعة الأسلوب وعلو شأنه، وبديع الصنعة، والتناهي في البلاغة، وتلك قضية يدركها كل من كان له أدنى اطلاع، وأدنى معرفة بالأساليب مقبولها ومردودها على السواء، وسيأتيك مزيد في بحث هذه القضية في موضع آخر إن شاء الله.(1/44)
ثانيا: صلة هذا الأسلوب بأسلوب الكهان:
إن كون أسلوب القرآن مشابها لأساليب الكهنة والمنجمين من قبل أمر لم يقبله العرب الذين لم يكونوا أقل حقدا ولا أقل كراهية للإسلام ممن جاء بعدهم بعامة ومن كتّاب الموسوعة بخاصة، وها هو الوليد وعتبة بن ربيعة وغيرهما يردون بكل حزم، ويرفضون بكل إنصاف، أن يكون أسلوب القرآن مشابها لأسلوب الكهان وسجعهم، ولقد روت لنا كتب الأدب والتاريخ شيئا من هذا السجع، أعني سجع الكهان والمنجمين، وهذه الأخبار على كثرتها لا يرتاب منصف أعطي حظا يسيرا من التمييز بأن أسلوب القرآن ونظمه لا يجوز أبدا أن نقارنه بما جاء عن أولئك الكهان ولذا فلقد كانت جرأة العرب على وصف القرآن بأنه شعر أكثر من جرأتهم على وصفه بأنه سجع كاهن وذلك لأن للشعر تأثيرا على النفس، ولكن سجع الكهان لم يجد من آذان العرب وقلوبهم هذا التأثير الذي كان للشعر، ويدلنا على ذلك أن الآيات التي نفت الشعر عن القرآن أكثر بكثير من تلك التي نفت عنه أنه قول كاهن، قال سبحانه: {فَلََا أُقْسِمُ بِمََا تُبْصِرُونَ (38) وَمََا لََا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمََا هُوَ بِقَوْلِ شََاعِرٍ قَلِيلًا مََا تُؤْمِنُونَ (41) وَلََا بِقَوْلِ كََاهِنٍ قَلِيلًا مََا تَذَكَّرُونَ} (42) [الحاقة: 4238].
والنبي صلّى الله عليه وسلّم يزجر هذا الذي حاول أن يقلد الكهان في قوله: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل (1)؟ فمثل ذلك يطل (2)، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما هذا من إخوان الكهان. من أجل سجعه الذي سجع» (3).
__________
(1) ولا استهل: ولا صاح عند الولادة ليعرف به أنه مات بعد أن كان حيا.
(2) يطل، أي يهدر ولا يضمن.
(3) رواه الإمام مسلم، كتاب القسامة، باب (11) دية الجنين، حديث 1681.(1/45)
ولكن المستشرقين ورجال الكنيسة فيما مضى كان جهدهم وهمهم أن يوجهوا إلى هذا القرآن كل مطعن بقطع النظر عن المقاييس النقدية، والأسس المنطقية، والمنهج العلمي، وهذا الذي كنا نودّ أن لا تقتفي أثرهم فيه دائرة المعارف، فكم بذلوا من محاولات ليثبتوا أن أسلوب القرآن شبيه بسجع الكهان تارة، وأنه مقتبس من الحكايات الشعبية تارة، أو مأخوذ عن أهل الكتاب تارة ثالثة، أو أن كثيرا من آياته مقتبسة من الشعر الجاهلي تارة رابعة.
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد عليه الرحمة:
«وقد تصدت منهم لهذا البحث الذي نحن فيه عن اللغة قبل نزول القرآن طائفة تقتحم هذه المباحث وهي أجهل بآلاتها من عامة الأميين، فالدكتور سنكلر تسديل صاحب كتاب «مصادر الإسلام» يروي شبهات الناقدين للقرآن الكريم، ومنها هذه الأبيات:
دنت الساعة وانشقّ القمر ... عن غزال صاد قلبي ونفر
أحور قد حرت في أوصافه ... ناعس الطرف بعينيه حور
مرّ يوم العيد في زينته ... فرماني فتعاطى فعقر
بسهام من لحاظ فاتك ... تركتني كهشيم المحتظر
ويتخذ منها قرينة على اقتباس القرآن بعض الآيات من أشعار الجاهليين».
ويضيف الدكتور العلامة إلى هذه الأبيات أبياتا أخرى كقول القائل:
أقبل والعشّاق من خلفه ... كأنهم من حدب ينسلون
وجاء يوم العيد في زينة ... لمثل ذا فليعمل العاملون
قال الدكتور: «ومن الحكايات المتداولة في عصرنا الحاضر أنه لما كانت فاطمة بنت محمد تتلو هذه الآية وهي: {اقْتَرَبَتِ السََّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1]، سمعتها بنت امرئ القيس وقالت لها: إن هذه القطعة من قصائد أبي أخذها
والدك وادعى أن الله أنزلها عليه. ومع أنه يمكن أن تكون هذه الرواية كاذبة لأن امرأ القيس توفي سنة 540م، ولم يولد محمد إلا في سنة الفيل أي: سنة 570م، فلا ينكر أن هذه الأبيات المذكورة واردة في سورة القمر، وفي سورة الضحى، وفي سورة الأنبياء، وفي سورة الصافات، وغاية الأمر أنه يوجد اختلاف طفيف في اللفظ وليس في المعنى، فورد في القرآن: اقتربت، وفي القصيدة: دنت، ومن البين الواضح أنه يوجد مناسبة ومشابهة بين هذه الأبيات وبين تلك الآيات الواردة في القرآن فإذا ثبت أن هذه الأبيات هي لامرئ القيس حقيقة فحينئذ يصعب على المسلم توضيح كيفية ورودها في القرآن، لأنه يتعذر على الإنسان أن يعتقد أن أبيات شاعر وثني كانت مسطورة في اللوح المحفوظ قبل إنشاء العالم».(1/46)
أقبل والعشّاق من خلفه ... كأنهم من حدب ينسلون
وجاء يوم العيد في زينة ... لمثل ذا فليعمل العاملون
قال الدكتور: «ومن الحكايات المتداولة في عصرنا الحاضر أنه لما كانت فاطمة بنت محمد تتلو هذه الآية وهي: {اقْتَرَبَتِ السََّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1]، سمعتها بنت امرئ القيس وقالت لها: إن هذه القطعة من قصائد أبي أخذها
والدك وادعى أن الله أنزلها عليه. ومع أنه يمكن أن تكون هذه الرواية كاذبة لأن امرأ القيس توفي سنة 540م، ولم يولد محمد إلا في سنة الفيل أي: سنة 570م، فلا ينكر أن هذه الأبيات المذكورة واردة في سورة القمر، وفي سورة الضحى، وفي سورة الأنبياء، وفي سورة الصافات، وغاية الأمر أنه يوجد اختلاف طفيف في اللفظ وليس في المعنى، فورد في القرآن: اقتربت، وفي القصيدة: دنت، ومن البين الواضح أنه يوجد مناسبة ومشابهة بين هذه الأبيات وبين تلك الآيات الواردة في القرآن فإذا ثبت أن هذه الأبيات هي لامرئ القيس حقيقة فحينئذ يصعب على المسلم توضيح كيفية ورودها في القرآن، لأنه يتعذر على الإنسان أن يعتقد أن أبيات شاعر وثني كانت مسطورة في اللوح المحفوظ قبل إنشاء العالم».
ثم قال الدكتور يطالب العلماء المسلمين، مع المعترضين والمشتبهين بأن يقيموا الدليل على أن هذه الآيات مأخوذة ومقتبسة من القرآن وأنها ليست من نظم امرئ القيس الذي توفي قبل مولد محمد بثلاثين سنة: «ولكن يصعب علينا أن نصدق بأن ناظم هذه القصيدة بلغ إلى هذا الحد من التهتك والاستخفاف والجرأة في أي زمن من الأزمان بعد تأسيس مملكة الإسلام التي كانت متسعة الأطراف والأكناف حتى يقتبس آيات من القرآن ويستعملها في مثل هذا الموضوع».
ثم يختم الدكتور كلامه في هذه الشبهات مصطنعا الحذر والحيطة لئلا يثبت نظم هذه الأبيات بعد الإسلام فتسقط الشبهة كلها فيقول: «إن هذه الأبيات ليست كل ما يعترض به المعترضون، لأن ما تقدم من الأسانيد كاف عندهم لتأييد هذه القضية»، ص 2925من الترجمة العربية.
وأيسر ما يبدو من جهل هؤلاء الخابطين في أمر اللغة العربية قبل الإسلام وعلاقتها بلغة القرآن الكريم أنهم يحسبون أن علماء المسلمين يلقون في بحث تلك الأبيات وجبا لينكروا نسبتها إلى الجاهلية، ولا يلهمهم الذوق الأدبي
أن نظرة واحدة كافية لليقين بإدحاض نسبتها إلى امرئ القيس أو غيره من شعراء الجاهلية.(1/47)
وأيسر ما يبدو من جهل هؤلاء الخابطين في أمر اللغة العربية قبل الإسلام وعلاقتها بلغة القرآن الكريم أنهم يحسبون أن علماء المسلمين يلقون في بحث تلك الأبيات وجبا لينكروا نسبتها إلى الجاهلية، ولا يلهمهم الذوق الأدبي
أن نظرة واحدة كافية لليقين بإدحاض نسبتها إلى امرئ القيس أو غيره من شعراء الجاهلية.
وهذه النظرة الكافية هي التي تعني الناقدين المستشرقين، وهي أصل وثيق من أصول النقد يعول عليه الناظر في الأدب كل التعويل، ولا يقدح فيه أن يتسع للجدل وأن يجوز عليه الخطأ في القليل دون الكثير.
كذلك يتسع بسبيل الجدل في إنكار خبرة الخبير بكتابة الخطوط، وكذلك يجوز الخطأ في محاكاة كلمة أو بضع كلمات ولا يجوز في السطور والصفحات.
فإذا نظر خبير الخطوط في صفحة من الصفحات فقد تعنيه نظرة في الحكم عليها بالصحة أو التزييف، وربما جاز عليه أمر الكلمة والكلمات، إذا لم يكن أمامه غير هذه الكلمة أو هذه الكلمات للمقابلة والمضاهاة، ولكنه إذا حصل على تلك الكلمة مكتوبة عشر مرات أو عشرين مرة لم يكن من اليسير أن ينخدع فيها كما ينخدع في الكلمة المفردة بغير تكرار، وعلى هذا المنوال يبدو الصحيح والزيف في الشعر الأصيل والشعر المدخول، وقد يجوز التزوير في الشطرة الواحدة أو البيت الواحد إذا امتنعت المقارنة بينه وبين أمثاله من تلفيق صاحب التزوير، ولكنه لا يجوز إذا كرر المزور الأبيات ومثلت للناظر الناقد طريقته في تزوير هذه الأبيات المتفرقات
أما المستحيل، أو شبيه المستحيل، فهو تزوير أدب كامل ينسب إلى الجاهلية ويصطبغ في جملته بالصبغة التي تشتمل على تباين القائلين والشعراء، فإذا جمعنا الشعر المنسوب إلى الجاهلية كله في ديوان واحد فمن المستحيل أو شبيه المستحيل أن نجمع ديوانا يماثله ولا يخالفه من كلام العباسيين أو كلام الأمويين المتأخرين، وإذا قل الفارق بين الشعر المخضرم والشعر الأموي الأول والشعر الجاهلي، وعلى صحة القرابة بينه وبين الشعر الذي لم يفترق عنه افتراقا بعيدا بزمانه وثقافة قائليه وبيئاتهم في المعيشة ومناسبات التعبير: فلا يتشابه
الشعر الجاهلي بالمخضرم إن لم يكن بينهما ميزان مشترك، مع انتمائه إلى عشرات الشعراء الجاهليين والمخضرمين.(1/48)
أما المستحيل، أو شبيه المستحيل، فهو تزوير أدب كامل ينسب إلى الجاهلية ويصطبغ في جملته بالصبغة التي تشتمل على تباين القائلين والشعراء، فإذا جمعنا الشعر المنسوب إلى الجاهلية كله في ديوان واحد فمن المستحيل أو شبيه المستحيل أن نجمع ديوانا يماثله ولا يخالفه من كلام العباسيين أو كلام الأمويين المتأخرين، وإذا قل الفارق بين الشعر المخضرم والشعر الأموي الأول والشعر الجاهلي، وعلى صحة القرابة بينه وبين الشعر الذي لم يفترق عنه افتراقا بعيدا بزمانه وثقافة قائليه وبيئاتهم في المعيشة ومناسبات التعبير: فلا يتشابه
الشعر الجاهلي بالمخضرم إن لم يكن بينهما ميزان مشترك، مع انتمائه إلى عشرات الشعراء الجاهليين والمخضرمين.
إن الملامح الشخصية التي تميز الفرزدق والأخطل وجرير لم يكن لها ثبوت الفوارق التي تميز بين امرئ القيس وعمرو بن كلثوم وزهير، فمن يرى أن خلق دواوين الفرزدق والأخطل وجرير في وسع راوية واحد فقد سهل عليه أن ينسب شعر الجاهليين جميعا إلى راوية أو رواة، ولكنه يذهب في الحالين مذهبا لا سند له ولا سابقة من مثله في آداب الأمم، ولا نصيب له من الذوق الأدبي غير النبو والاستغراب.
وربما كان سنكلر تسديل الذي مثلنا به لجهل المستشرقين باللغة والذوق الأدبي وشواهد التضمين والاقتباس مثلا صارخا كما يقال في التعبير الحديث، ولكن المثل الصارخ هو الذي يبرز الحقيقة مستعصية على اللبس والمكابرة ويحيط بما دونه من الأمثلة التي تتردد بين الشك واليقين، وقد أتينا على طائفة منها لا تتخلف عن المثل الصارخ بشوط بعيدة.
على أن موازين النقد الذي اشتغل به هذا النفر من المستشرقين لا تسلم على هينة من جراء أخطائهم، لأنهم ضللوا أناسا من تلاميذهم فاتبعوهم في أكثر الأخطاء التي كانوا يقعون فيها من جراء عجزهم عن النفاذ إلى حقائق التاريخ وأسرار البلاغة العربية، ولا بد من مراجعة طويلة يستعان فيها بموازين البحث العلمي على تصحيح تلك الأخطاء» (1).
ولقد آثرت أن أنقل هذا الكلام على طوله لما له من فائدة من جهة، ولتعلقه بموضوعنا تعلقا مباشرا من جهة ثانية، ولأنه كلام بحّاثة لا يجهل أحد سعة اطلاعه ونزاهته في بحثه من جهة ثالثة.
__________
(1) «اللغة الشاعرة» ص 132127.(1/49)
ثالثا: أمر الآيات القرآنية طولا وقصرا:
ذكرت دائرة المعارف: «أن السور الأولى تتصف آياتها بالقصر وبقوتها الشعرية وبتعبيرها الحيوي، أما السور الأخيرة فجاءت آياتها طويلة مفصلة، ومعقدة نثرية في مظهرها ولغتها، بحيث إنه أصبح من الصعب التمييز أين تنتهي الآية، مما تسبب عنه اختلاف في ترقيم الآيات».
أما قضية الأسلوب فقد تحدثنا عنه في الأمر السابق، وأما كون الآيات المدنية جاءت طويلة معقدة يصعب تمييز بعضها عن بعض، فذلك ما سنتحدث عنه.
وبادئ بدء نبين أن أمر الآيات توقيفي، أي لم يترك لحرية القارئ، فالرسول الكريم عليه وآله الصلاة والسلام هو الذي كان يبين شأنه نهاية كل آية، فقد نقل صاحب «الإتقان» عن ابن العربي قوله:
«ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الفاتحة سبع آيات، وسورة الملك ثلاثون آية، وصح أنه قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران. قال: وفي آياته طويل وقصير، ومنه ما ينقطع ومنه ما ينتهي إلى تمام الكلام، ومنه ما يكون في أثنائه كقوله:
{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} على مذهب أهل المدينة فإنهم يعدونها آية، وينبغي أن يعول في ذلك على فعل السلف» (1).
أما سبب اختلافهم في عدّ الآيات فليس كما جاء في دائرة المعارف من أن الآيات المدنية كانت نثرا معقدا، فلم يعرف أين تنتهي الآية، وإنما سبب الاختلاف يرجع إلى أن سيدنا محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقف على آخر الآي، فإذا علم آخر الآي كان يصلها فيما بعدها في بعض الأحيان، فبعضهم كان يظن أنها ليست رأس آية، أما العالمون والعارفون فلم يؤثر هذا الوصل على ما علموه، والآيات التي اختلف فيها في القرآن كله نيّف وثلاثون آية فحسب.
__________
(1) يراجع النوع التاسع عشر في «الإتقان» ص 231.(1/50)
ومما يدلنا على بطلان ما ادعته دائرة المعارف أن الاختلاف ليس في السور المدنية وحدها، وهي التي ادعي أن آياتها كانت نثرا معقدا فلم يعرف أين تنتهي الآية، إنما اختلافهم في العدد كان في السور المكية والمدنية على السواء، وكان في السور ذوات الآيات الطويلة والقصيرة على السواء كذلك، والسور التي اختلف في عدّ الآية فيها تنيف على السبعين، ليس فيها من السور المدنية إلا بضع عشرة سورة، ويبقى ما ينيف على الستين من السور المكية (1).
وعلى هذا فإن ما ادعته دائرة المعارف من أن أسلوب السور المدنية وطول آياتها هو السبب في عسر معرفة نهاية الآية: بعيد عن الحق، مجانب للصواب، ثم إن معرفة الآيات، كما قلنا من قبل، ليست قضية اجتهادية، ترجع إلى رأي القارئ واختياره، وإنما هي أمور مبينة منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم.
ولكي نكون ميدانيين في دراستنا نذكر بعض الأمثلة الموجزة، وسنختار سورتين مدنيتين هما الزهراوان: البقرة وآل عمران، وهما من السور الطوال، وسورتين قصيرتين، ونذكر مواضع الاختلاف في عدد آيات هذه السور، لندرك أن الأمر بعيد كل البعد عما عللت به دائرة المعارف سبب هذا الاختلاف.
(1) سورة البقرة: وهي أطول سور القرآن كما نعلم، والخلاف في عد آيها ينحصر في أحد عشر موضعا:
الموضع الأول: {الم،} (1) فلقد عدّها بعض القراء آية مستقلة، وهم الكوفيون، ولكن غيرهم لم يعدّها آية بل جعلها جزءا من آية.
الموضع الثاني: قوله سبحانه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزََادَهُمُ اللََّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} [آية: 10] فلقد عدّها بعضهم آية، ولكن أكثرهم لم يعدّها آية وإنما رأس
__________
(1) يراجع النوع التاسع في «الإتقان» ص 231.(1/51)
الآية عنده {وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ بِمََا كََانُوا يَكْذِبُونَ،} (10) وهؤلاء جعلوا رأس الآية عند قوله تعالى: {إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ،} (11) وهذا هو الموضع الثالث. وخلاصة هذا أن الشامي عدّ قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} آية، ولم يعدّ: {قََالُوا إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ،} (11) وغيره ذهب عكس ذلك.
الموضع الرابع: قوله تعالى: {أُولََئِكَ مََا كََانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهََا إِلََّا خََائِفِينَ}
[آية: 114]، جعلها بعضهم رأس آية، وهو البصريّ، وذهب الأكثرون إلى أنها ليست كذلك، وإنما الآية تنتهي عند قوله تعالى: {لَهُمْ فِي الدُّنْيََا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (114).
الموضع الخامس: قوله سبحانه: {وَمََا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللََّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزََّادِ التَّقْوى ََ وَاتَّقُونِ يََا أُولِي الْأَلْبََابِ،} (197) فلقد عدّها الأكثرون آية، وتركها بعضهم فلم يجعلها رأس آية.
الموضع السادس: قوله تعالى: {فَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنََا آتِنََا فِي الدُّنْيََا وَمََا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلََاقٍ،} (200) فلقد عدّها الأكثرون آية، ولكن بعضهم لم يجعلها رأس آية، وجعل رأس الآية عند قوله سبحانه: {وَقِنََا عَذََابَ النََّارِ} (201) وذهب الأكثرون إلى أنها ليست كذلك، وإنما الآية تنتهي عند قوله تعالى: {فَإِنَّ اللََّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (215).
الموضع السابع: قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مََا ذََا يُنْفِقُونَ} [آية: 215]، فلقد عدّها بعضهم رأس آية، ووصلها بعضهم فلم يجعلها رأس آية.
الموضع الثامن: قوله تعالى: {كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمُ الْآيََاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ،} (219) فلقد وقف بعضهم عند قوله تعالى: {تَتَفَكَّرُونَ} وعدّها رأس آية، ووصلها بعضهم فلم يجعلها كذلك.(1/52)
الموضع التاسع: قوله تعالى: {وَلََكِنْ لََا تُوََاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلََّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً} [آية: 235]، فلقد عدّها بعضهم رأس آية، وجعلها آخرون جزءا تتم به الآية بعدها.
الموضع العاشر: قوله سبحانه في آية الكرسي: {اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آية: 255]، فقد عدّ بعضهم هذه الجملة الكريمة وحدها آية، وذهب آخرون إلى أن الآية تنتهي عند قوله سبحانه: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (255).
الموضع الحادي عشر: قوله تعالى: {اللََّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ} [آية: 257]، فلقد جعل بعضهم هذه آية مستقلة، وما بعدها وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} آية أخرى. وذهب آخرون إلى أنها جزء من آية، وإنما تنتهي الآية عند قوله سبحانه: {أُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} (257).
(2) سورة آل عمران: والخلاف في هذه السورة في سبعة مواضع:
الموضع الأول: اختلافهم في {الم} (1) كما جاء في سورة البقرة.
الموضع الثاني: قوله سبحانه: {وَأَنْزَلَ التَّوْرََاةَ وَالْإِنْجِيلَ،} (3) عدّها الأكثرون آية، ولكن بعضهم وهو الشامي لم يجعلها آية، ولكنه جعلها جزءا من آية.
الموضع الثالث: قوله: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقََانَ} [آية: 4]، عدّها غير الكوفي آية، ولكن الكوفي جعلها جزءا من آية.
الموضع الرابع: قوله تعالى عن المسيح: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرََاةَ وَالْإِنْجِيلَ،} (48) فلقد انفرد الكوفي في عدّ هذه آية، وذهب غيره إلى أن هذه جزء من آية.(1/53)
الموضع الخامس: قوله تعالى: {وَرَسُولًا إِلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ} [آية: 49]، فلقد عدّها بعضهم آية، وهما الحمصي والبصري، وذهب الأكثرون إلى أنها ليست آية مستقلة.
الموضع السادس: قوله سبحانه: {لَنْ تَنََالُوا الْبِرَّ حَتََّى تُنْفِقُوا مِمََّا تُحِبُّونَ} [آية:
92]، عدّها بعضهم رأس آية، وذهب آخرون إلى أن الآية تنتهي عند قوله: {عَلِيمٌ.}
الموضع السابع: قوله سبحانه: {فِيهِ آيََاتٌ بَيِّنََاتٌ مَقََامُ إِبْرََاهِيمَ} [آية: 97]، عدّها بعضهم آية، وذهب الأكثرون إلى أن الآية تنتهي عند قوله سبحانه: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللََّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعََالَمِينَ} (97).
هاتان سورتان مدنيتان، وقد آن الأوان أن نأتي لسورتين مكيتين، ولتكونا من أقصر السور، وهما سورتا: قريش والماعون، ففي سورة قريش عدّ بعضهم قوله سبحانه: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} [قريش: 4] آية، و {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (4) آية أخرى، وذهب آخرون إلى أن قوله سبحانه: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (4) آية واحدة.
أما سورة الماعون فلقد عدّ بعضهم قوله سبحانه: {الَّذِينَ هُمْ يُرََاؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمََاعُونَ} (7) آية ثانية، وذهب الأكثرون إلى أنهما آية واحدة، وليستا بآيتين (1).
* استنتاج: نستنتج بعد هذه الدراسة العملية:
1 - أن الخلاف في عدّ الآيات لم يكن في السور المدنية فحسب، أو الطويلة كذلك، بل كان في السور المكية والمدنية، والطويلة والقصيرة على السواء.
__________
(1) راجع كتاب «نفائس البيان» للشيخ عبد الفتاح القاضي.(1/54)
2 - إذا استعرضنا مواضع الخلاف بإمعان فسندرك بكل يقين لأول وهلة أن الخلاف في عدّ الآيات لم يكن ناشئا عن تعقيدها، وصعوبة معرفة نهايتها وإنما هو ناشئ عما ذكرناه من قبل من وقوف النبي صلّى الله عليه وسلّم عند هذه الكلمات في بعض الحالات فيعدّها بعضهم رأس آية.
ومن الواجب أن ننبه هنا إلى أن القرآن الكريم كان طريق تلقّيه المشافهة، فالصحابي يقرأ تماما كما سمع من الرسول عليه وآله الصلاة والسلام، مراعيا الحركة والوقف والجرس الصوتي وكيفية نطق الحروف، وهكذا يأخذ عن هذا الصحابي من جاء بعده من تلامذته، وهذا من الأدلة على سلامة هذا القرآن، ودليل صدق على رسالة من جاء به.
تلك هي قضية الآي وسبب اختلافهم في عددها، نرجو أن تكون واضحة، وأن يجد فيها المنصفون حقيقة تزيل من نفوسهم كل وهم وكل لبس، وتصحح ما قيل في هذا الموضوع الذي ذكرته دائرة المعارف البريطانية.
القضية الخامسة: بعض الكلمات القرآنية ليست هي الدليل على الوحي:
قول الموسوعة: «إن القرآن يبدو أنه كلام الله، حيث إنه يبدأ بالحديث عن نفسه بكلمة الجمع «نحن»، إلا أن النبي عند ما يخاطب أتباعه، فإنه يخاطبهم بصيغة الأمر «قل»، وبهذا يؤكد أنه يتكلم بوحي سماوي. وهنالك أسلوب دراماتيكي في المخاطبة، حيث إن خصوم النبي بينوا اعتراضهم ووجهة نظرهم ثم يرد النبي على خصومه بحجج قوية مناوئة لهم».
قضية الوحي من القضايا الخطيرة، وقد أخذ الحديث فيها دورا بين المؤمنين والملحدين، وإن كانت وسائل العلم الحديث تصلح حججا للمؤمنين بالرسالات السماوية، ولعلنا في هذا الكتاب يكون لنا شرف المساهمة بنصيب من الحديث عن هذه القضية الخطيرة.(1/55)
إلا أن الذي نركز عليه في هذه القضية هو أن ثبوت الوحي القرآني لا يرجع إلى كلمات معينة مثل كلمة (نحن) و (قل) إنّما كون القرآن وحيا قضية ترجع إلى لفظ القرآن ومعناه، اللفظ بمقياسه الجماليّ والأدبيّ، والمعنى بحقائقه الدينية والأخلاقية.
انا ونحن ودلالتهما
فإذا نظرنا إلى القرآن الكريم وتصفحنا آياته جيدا وجدنا أن كلمة (نحن) لم تأت في أول القرآن نزولا، وكذلك كلمة (قل)، وإنما جاءت هاتان الكلمتان متأخرتين، فالآيات الأولى التي نزلت من القرآن، وهي من سورة العلق، والمدثر و (ن) وغيرها مما جاء بعدها على الترتيب، كانت خالية من كلمتي (نحن) و (قل).
وذوو البصيرة بالأسلوب العربي بعامة، والقرآني بخاصة يدركون الحكمة من هاتين الكلمتين: (نحن) و (قل)، أما (نحن)، ومثله (نا) في مثل: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ} فله في العربية دلالتان:
إحداهما: دلالته على الجمع، كما يقول مسلم: «نحن المسلمين نحب الخير»، أو: «إنا نحب الخير».
الدلالة الثانية: دلالته على العظمة، وهو ما تشير إليه آيات القرآن. وإنما يجاء بهذا الضمير في مواضع خاصة، وهي المواضع التي يتوهم بعض الناس أن لغير الله تدخلا فيها وقدرة عليها، وإليكم أمثلة على ذلك:
قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، وقال تعالى:
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف: 13]. وقد يجمع بين هذين الضميرين (نا) و (نحن): {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (9) [الحجر: 9]، وقال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنََا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} [الزخرف: 32].
فالناظر في هذه الآيات جميعها يدرك أن كلمة (نحن) إنما جاءت بهذا الأسلوب وفي هذه القضايا ردا على الذين يتخيلون أن القصص القرآني أو أن
إنزال القرآن يمكن أن يكون فيه نصيب لغير الله، كما في الآيات الثلاث الأولى، أما الآية الرابعة فجاءت تبين للناس بأن أمر الرزق والمعيشة إنما هو شأن من شئون الله وحده، لا كما كانوا يتوهمون من أن ذلك راجع إلى أسباب عرقية وقبلية.(1/56)
فالناظر في هذه الآيات جميعها يدرك أن كلمة (نحن) إنما جاءت بهذا الأسلوب وفي هذه القضايا ردا على الذين يتخيلون أن القصص القرآني أو أن
إنزال القرآن يمكن أن يكون فيه نصيب لغير الله، كما في الآيات الثلاث الأولى، أما الآية الرابعة فجاءت تبين للناس بأن أمر الرزق والمعيشة إنما هو شأن من شئون الله وحده، لا كما كانوا يتوهمون من أن ذلك راجع إلى أسباب عرقية وقبلية.
وهكذا نجد أن كلمة (نحن) في آيات الله سبحانه، جاءت لتؤدي رسالتها وغرضها البياني، ولم تأت دليلا على أن القرآن وحي من الله.
كلمة قل
أما كلمة (قل) فالمتدبر لآي القرآن وأسلوبه يجد أنها تأتي حينما تدعو الحاجة إليها، وذلك حينما يكون الأسلوب أسلوبا تلقينيا، سواء أكان هذا التلقين تعليميا أم ردا على شبهات وذلك كما في السور الأخيرة الثلاث، الإخلاص والمعوذتين، وكما في الآيات التالية: {قُلْ أَغَيْرَ اللََّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام:
14]، {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهََادَةً قُلِ اللََّهُ} [الأنعام: 19]، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللََّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصََارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى ََ قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلََهٌ غَيْرُ اللََّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام: 46]، {قُلْ إِنَّنِي هَدََانِي رَبِّي إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرََاهِيمَ حَنِيفاً وَمََا كََانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلََاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيََايَ وَمَمََاتِي لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ (162) لََا شَرِيكَ لَهُ وَبِذََلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللََّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 163161].
والمتأمل في هذه الآيات الكريمة لا يرتاب في أنها جاءت في سياق خاص تلقينا وتعليما.
وندرك مما سبق أن كلمتي (نحن) و (قل) لم تأتيا لإثبات أن القرآن وحي سماوي من عند الله، فلم نجدهما في السور الأولى التي أنزلت، وإنما جاءت كل منهما في أسلوب خاص يدل على حكمة معينة كما بينّاه من قبل.
قول الموسوعة ان اسلوب القرآن دراماتيكى
بقي في هذه القضية ما جاء من أن أسلوب القرآن أسلوب دراماتيكي، حيث تبين آراء خصوم النبي ويردّ النبي بحجج قوية مناوئة لهم.(1/57)
ولكي نفهم الأمر على حقيقته لا بدّ أن ندرك أمورا ثلاثة، وهي:
أولا: القضايا التي عرض لها القرآن.
ثانيا: الأسلوب الذي عرضت فيه هذه القضايا.
ثالثا: الأدلة والبراهين التي جاء بها القرآن.
فقد يتحدث القرآن عن التوحيد، أو عن الرسالة، أو عن اليوم الآخر، ولكن الأسلوب الذي يتحدث فيه عن هذه الأشياء ليس واحدا، فقد يكون أسلوب القصة، أو المحاورة، أو التقرير، أو التقريع، أو الترغيب. أما الأدلة، فقد تكون منتزعة من النفس، أو من الكون، أو من المشاهدات التي يشاهدها كل واحد من الناس.
ولقد بلغ القرآن الذروة في تقرير حجج خصومه بكل دقة وأمانة، وردها بأبلغ ردّ وأوفاه، ولكن ليس الرسول عليه وعلى آله الصلاة والسلام هو الذي كان يردّ على هؤلاء الخصوم، بل يصرح القرآن في أكثر من موضع بأن الرسول لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، بل لا يستطيع أن يأتي بشيء من عنده، وإنما ذلك كله رحمة من الله، والآيات الكثيرة تشهد على ذلك: {قُلْ لََا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلََا ضَرًّا إِلََّا مََا شََاءَ اللََّهُ} [الأعراف: 188]، {قُلْ لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ}
[يونس: 16]، {وَمََا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى ََ إِلَيْكَ الْكِتََابُ إِلََّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}
[القصص: 86]، فليس الرسول هو الذي كان يردّ إذن، إنما القرآن الذي أوحاه الله هو الذي يعرض هذه القضايا جميعها.
ثم إن أسلوب القرآن ليس سواء، يتصف بالعنف دائما، فقد تكون سمات الهدوء مهيمنة على هذا الأسلوب، والحق أن السياق الذي تجيء الآيات فيه يحدد نوع الأسلوب، وذلك أمر طبعيّ، فالترغيب والترهيب أساسان من أسس التربية ولنستمع إلى هذا الأسلوب الهادئ الهادف:
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ قَدْ جََاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَكََانَ اللََّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يََا أَهْلَ الْكِتََابِ لََا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلََا
تَقُولُوا عَلَى اللََّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللََّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقََاهََا إِلى ََ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللََّهِ وَرُسُلِهِ وَلََا تَقُولُوا ثَلََاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللََّهُ إِلََهٌ وََاحِدٌ سُبْحََانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَكَفى ََ بِاللََّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلََّهِ وَلَا الْمَلََائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبََادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} (172) [النساء: 172170].(1/58)
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ قَدْ جََاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَكََانَ اللََّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يََا أَهْلَ الْكِتََابِ لََا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلََا
تَقُولُوا عَلَى اللََّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللََّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقََاهََا إِلى ََ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللََّهِ وَرُسُلِهِ وَلََا تَقُولُوا ثَلََاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللََّهُ إِلََهٌ وََاحِدٌ سُبْحََانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَكَفى ََ بِاللََّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلََّهِ وَلَا الْمَلََائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبََادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} (172) [النساء: 172170].
أرأيت إلى هذا الأسلوب، الذي يمتاز بسمتي الهدوء والإقناع، وهذه ظاهرة أسلوبية في كتاب الله تعالى، ندركها في القرآن كله مكيه ومدنيه على السواء. ولنقرأ هذه الآيات:
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَنْبَتْنََا بِهِ حَدََائِقَ ذََاتَ بَهْجَةٍ مََا كََانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهََا أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرََاراً وَجَعَلَ خِلََالَهََا أَنْهََاراً وَجَعَلَ لَهََا رَوََاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حََاجِزاً أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذََا دَعََاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفََاءَ الْأَرْضِ أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ قَلِيلًا مََا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمََاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيََاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ تَعََالَى اللََّهُ عَمََّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ قُلْ هََاتُوا بُرْهََانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (64) [النمل: 6460].
القضية السادسة: أسلوب القصة في القرآن:
جاء في الموسوعة: «كما أن الآيات القصصية موجزة ومقتضبة إلا أن قصص الأنبياء وأشخاص الكتاب المقدس تلمح وكأنها معروفة للسامعين.
والتركيز فيها ليس على السرد القصصي ولكن على العبرة المأخوذ منها. وعند التحليل الدقيق يظهر أن قليلا من السور يجمع على أنها متطابقة في المحتوى والأسلوب وأطول نص يتكلم عن موضوع واحد هو سورة رقم 12والتي تروي قصة سيدنا يوسف».(1/59)
منزلة القصة مو مساحتها فى القرآن
تحتل القصة من القرآن الكريم مكانا ومكانة فمن حيث المكانة والمنزلة نجدها من الأساليب الرئيسة التي ركز عليها القرآن، وبخاصة حينما اشتدت الخصومة بين المؤمنين والكافرين، لذلك لم نجد للقصة في السور الأولى إلا إشارات خاطفة موجزة، فلقد جاءت القصة حينما كانت تدعو إليها الحاجة، وتحتمها ظروف الدعوة الجديدة ذلك لأن المؤمنين كانوا بحاجة إلى أن يرسخ الإيمان في قلوبهم ويزدادوا ثباتا على الحق، كما أن خصومهم كانوا بحاجة إلى أن يذكروا بسنن الله في الكون والمجتمعات البشرية المتلاحقة، فكانت القصة تؤدي هذين الغرضين: تثبيت المؤمنين، وتذكير خصومهم بالمصير المحتوم.
ومن هذين الهدفين، فإن للقصة أهدافا تربوية وأخلاقية، وبخاصة في طابعها البياني الأدبي، ولقد ظهر للقصة فيما بعد أهداف علمية وكونية، كل هذا من حيث ما للقصة من مكانة في كتاب الله.
وأما من حيث المكان والمساحة فكان نصيب القصة يساوي ربع القرآن الكريم أو يزيد قليلا، فإذا افترضنا طبعة للمصحف تقع في أربعمائة صحيفة، فإن نصيب القصة مائة صحيفة أو تزيد قليلا.
الهدف من القصص
ولقد كانت العبرة هي الغاية من القصص القرآني حقا، وليس السرد التاريخي، {لَقَدْ كََانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبََابِ} [يوسف: 111]، ومن هنا ربما كان القصص القرآني موجزا من هذه الحيثية، حيث لم تذكر فيه كثير من التفصيلات والجزئيات التي تخلو عن العبرة، كبعض الأسماء والألوان والأمكنة والأوصاف، ولكن ليس معنى هذا أن آيات القصص موجزة وقصيرة دائما فقد نجد الآيات القصيرة والطويلة والمتوسطة، ولنأخذ مثالا على ذلك القصص الذي ذكر في سورة الأعراف، فسنجد فيه بعض الآيات الطويلة والمتوسطة، ومثالا على ذلك:
1 {* وَوََاعَدْنََا مُوسى ََ ثَلََاثِينَ لَيْلَةً} [آية: 142].
2 {وَلَمََّا جََاءَ مُوسى ََ لِمِيقََاتِنََا} [آية: 143].
3 {وَاخْتََارَ مُوسى ََ قَوْمَهُ} [آية: 155].(1/60)
ومثالا آخر من سورة الشعراء، وسنجد الآيات القصيرة، فطبيعة السورة نفسها هي التي ينتج عنها الطول والقصر، وليست القصة هي التي ينتج عنها ذلك أعني أن القصة لا تستدعي أن تكون آياتها قصيرة دائما، بل ذلك يرجع إلى السورة والسياق اللذين ذكرت فيهما القصة القرآنية.
مسالتان مهمتان
بقي في هذه القضية مسألتان مهمتان:
الأولى: أن القصص القرآني ليس صورة عما ذكر في التوراة،
لا من حيث الإجمال ولا من حيث التفصيل، فهناك قصص ذكر في الكتب السابقة لم يذكر في القرآن، وآخر ذكر في القرآن ولم يذكر في الكتب السابقة، أما ما ذكر في القرآن والكتب السابقة معا وهذا الذي يعنينا فإننا نجده ليس سواء كذلك، فهناك مواضع الاتفاق التي اتفقت فيها الكتب السابقة مع القرآن، ولكن هناك مواضع كثيرة اختلف فيها القرآن عما جاء في الكتب السابقة، ولا يعنينا الآن أحقيّة هذا أو ذاك، فتلك قضية نتحدث عنها فيما بعد إن شاء الله.
ولكن الذي نود أن ننبه إليه هو ما جاء في دائرة المعارف من أن القصة التي كان يستمع لها العرب من القرآن كان يبدو وكأنهم يعرفونها، إن هذه مسألة تحتاج إلى تأن في البحث.
إذا كان العرب يعرفون هذا القصص فما هي الحكمة من سرده لهم؟ وإذا لم يجدوا فيه جديدا، فهل سيجدون فيه قولا سديدا؟ نحن لا ننكر أن العرب بطبيعة بيئتهم، وبيئتهم الطبيعية والاجتماعية كذلك، ما فيها من جوار لبعض البلاد وما لهم من اختلاط ببعض معتنقي الشرائع كانت لهم معرفة مجملة ببعض قضايا التاريخ المسموع غير الموثق، والذي كان فيه لعامل الأسطورة والخيال نصيب كبير.
أما القصة بتفصيلاتها وأحداثها وجزئياتها وحقائقها كما جاءت في القرآن الكريم فذلك أمر لم يكونوا يقينا يعرفونه، والقرآن نفسه يحل هذه المسألة
ويبين وجه الحق في آيات كثيرة منه، فهو يمتن على المسلمين بقوله:(1/61)
أما القصة بتفصيلاتها وأحداثها وجزئياتها وحقائقها كما جاءت في القرآن الكريم فذلك أمر لم يكونوا يقينا يعرفونه، والقرآن نفسه يحل هذه المسألة
ويبين وجه الحق في آيات كثيرة منه، فهو يمتن على المسلمين بقوله:
{وَيُعَلِّمُكُمْ مََا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (151) [البقرة: 151]، وهو يرد على أهل مكة وعلى غيرهم ويلزمهم، ويقيم عليهم الحجة بقوله: {وَعُلِّمْتُمْ مََا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلََا آبََاؤُكُمْ}
[الأنعام: 91]، ويقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم: {تِلْكَ مِنْ أَنْبََاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهََا إِلَيْكَ مََا كُنْتَ تَعْلَمُهََا أَنْتَ وَلََا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هََذََا} [هود: 49]، والآيات التي تدور حول هذا المعنى وتدل عليه كثيرة، فلو أن العرب كانوا على معرفة وعلم بهذا القصص، لقالوا: هذه بضاعتنا ردت إلينا.
ودليل آخر على أن العرب كانوا يجدون الجديد في هذا القصص أن بعضهم كالنضر بن الحارث وغيره كان يأتي ببعض الحكايات والخرافات المعروفة عن الفرس والروم، وعند العرب أنفسهم، ليشغل أهل مكة بها عن القرآن واستماعه، ونزل فيه قول الله تعالى: {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ} [لقمان: 6].
فلو لم يجد العرب جديدا في هذا القصص ما كانوا بحاجة إلى ذلك كله، بل إن قصص القرآن التي تتعلق بأهل الكتاب كان أهل الكتاب أنفسهم يجدون فيها جديدا، كما سنفصل ذلك فيما بعد.
إن الادّعاء بأن للعرب معرفة بالقصص القرآني قضية خطيرة تأثر بها عن حسن قصد أو سوء نية بعض الكتّاب، بعضهم من أجل أن يثبت الحضارة العربية قبل الإسلام، وبعضهم من أجل أن يثبت ضآلة ما جاء به القرآن، ولكننا تحاكمنا كما رأيت أيها القارئ إلى القرآن نفسه، فلم نقل بهوى ولم نحكم عصبية، ولم نصدر عن ظن، فالظن لا يغني من الحق شيئا.
المسألة الثانية: مسالة التشابه بين السور القرآنية
: ما جاء في دائرة المعارف عن التشابه بين بعض السور القرآنية من حيث الأسلوب والمضمون، وربما كان لمن كتبوا هذه المادة العذر، فالذي يتلو القرآن الكريم، ويمر ببعض القصص، ويجد أنها قد اشتركت في
ذكر بعض الأحداث أو بعض الألفاظ يظن أن ذلك نوع من التكرار، وأنه تشابه من حيث اللفظ والمعنى، وبناء عليه فلم لا يغني بعضه عن بعض.(1/62)
: ما جاء في دائرة المعارف عن التشابه بين بعض السور القرآنية من حيث الأسلوب والمضمون، وربما كان لمن كتبوا هذه المادة العذر، فالذي يتلو القرآن الكريم، ويمر ببعض القصص، ويجد أنها قد اشتركت في
ذكر بعض الأحداث أو بعض الألفاظ يظن أن ذلك نوع من التكرار، وأنه تشابه من حيث اللفظ والمعنى، وبناء عليه فلم لا يغني بعضه عن بعض.
والحق أننا لا نجد في هذا القرآن كلمة في جملة، أو جملة في آية، أو آية في سورة، أو قصة في موضع يمكن أن تكون جاءت بدون معنى وهدف، وبالتالي يمكن أن يغني عنها غيرها، وهذه قضية مسلمة بدهية عند حذاق العلماء.
إننا لو أخذنا قصة آدم أبي البشر، وقصة نوح الأب الثاني للبشر، وقصة إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام وعلى أنبياء الله جميعا، فإننا لن نجد قصة في سورة تشبه ما جاء في غيرها من السور، انظر مثلا قصة إبراهيم في سورة البقرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرََاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [آية: 258]، وقوله: {وَإِذْ قََالَ إِبْرََاهِيمُ رَبِّ} [آية: 260]، وقصة إبراهيم في سورة الأنعام: {* وَإِذْ قََالَ إِبْرََاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الآيات: 8374]، وقصة إبراهيم في سورة هود: {وَلَقَدْ جََاءَتْ رُسُلُنََا إِبْرََاهِيمَ بِالْبُشْرى ََ} [الآيات: 7669]، وقصة إبراهيم في سورة الأنبياء [الآيات:
7315]، وقصة إبراهيم في سورة الشعراء [الآيات: 8969]، وأخيرا لا آخرا قصة إبراهيم في سورة الصافات [الآيات: 11383]، فسنجد أن كل سورة تحدثت عن موضوع لا نجده في السورة الأخرى، صحيح أن هناك أحداثا قد تذكر في أكثر من قصة، وما ذلك إلا لأنها أحداث رئيسة أساسية جيء بها ليبنى عليها غيرها من الأحكام والنتائج. ذلك هو شأن القصص في القرآن (1).
أما غير القصص فالأمر فيه أكثر ظهورا وأشد وضوحا، فنحن لا نجد سورتين تشابهتا أسلوبا ومضمونا لفظا ومعنى، إنما نجد كل سورة من سور القرآن، إن أنعمنا النظر في آياتها لفظا ومعنى، نجدها ذات شخصية مستقلة، ولها صبغتها الخاصة في الموضوع الذي تحدثت عنه. صحيح أننا قد نجد سورا
__________
(1) انظر التفصيل في كتابنا «القصص القرآني، إيحاؤه ونفحاته».(1/63)
متعددة تحدثت عن الألوهية أو الرسالة أو البعث، ولكن في الحقيقة كل سورة لها حديثها الخاص عن هذه الأمور من زاوية معينة.
خذ مثلا سورة النبأ، تحدثت عن أدلة البعث ففصلت بعض التفصيل: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهََاداً} (6) [الآيات: 166]، على حين نرى سورة النازعات تجمل ما يفصل في سورة النبأ، ولكنها تفصل ما أجمل فيها، وهو الحديث عن صفات الناس التي تؤهلهم للجنة والنار: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسََانُ مََا سَعى ََ} (35) [الآيات: 4135].
وقضية التشابه في القرآن من القضايا التي تحتاج إلى تفصيل لأن هذا التشابه أو التكرار، كما يسميه بعضهم، قد يكون فيما يبدو لبعض الناس في القصة أو في بعض الموضوعات كآيات العقيدة، أو في بعض الألفاظ والجمل.
ولكن الذي يقف من هذه القضية موقف الدرس والتأمل يجد الأمر غير ما ظنه أولئك.
ولقد كتبت بحثا في دعوى التكرار في القرآن، ونشر في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية التي تصدر في الكويت، وكانت الخلاصة فيه أن التشابه في بعض القضايا القرآنية لا يعني أن أحد القولين المتشابهين يسدّ عن غيره، وما أشبهه بتشابه أصابع اليد، أو ببعض الأجهزة والأعصاب التي خلقها الله تعالى في جسم الإنسان والتي لا يغني أحدها عن غيره. وتتمة الموضوع في البحث المشار إليه، وقد طبع مستقلا.
القضية السابعة: قصة يوسف عليه السلام:
جاء في دائرة المعارف: «إن أطول هذه السور التي تتحدث عن موضوع واحد هي السورة (12) والتي تسرد قصة يوسف، وهي تضيف إلى المعلومات التي وردت في الكتب الدينية تفصيلات خرافية معظمها جاءت من مصادر يهودية».
أحبّ أن أؤكد هنا أمرين اثنين أشرت لهما من قبل:(1/64)
الأمر الأول: أننا نسير في بحثنا هذا على منهج علمي نزيه مجرد بعيد عن كل المؤثرات، اللهم إلا ما يحتمله حماس لفطرة سليمة، أو انتصار لحق ظاهر، أو ردّ فرية ظاهرة البطلان، وأننا ندع القرآن نفسه يحاجّ عن حقائقه، ويدافع عن موضوعاته وسوره.
الأمر الثاني: أن القصص القرآني بعضه يشترك القرآن فيه مع الكتب السابقة، وبعضه ليس كذلك، وأن القسم الأول ليس متحدا اتحادا تاما بين القرآن وتلك الكتب، ومن هذا القسم قصة يوسف عليه السلام، التي تدّعي دائرة المعارف فيها دعويين اثنتين:
إحداهما: أن ما جاء في القرآن من سورة يوسف هو نفسه ما جاء في التوراة.
ثانيهما: أنّ في القرآن زيادات خرافية أخذت من أخبار يهودية، ولعلهم يعنون بها القصص والحكايات التي يتناقلها الأفراد بعضهم عن بعض، ولذا فسيكون الحديث في مقامين اثنين:
أحدهما: المقارنة بين التوراة والقرآن في هذه القصة.
الثاني: الأمور التي تفرد بها القرآن الكريم وحده.
أولا: المقارنة بين القرآن والتوراة في قصة يوسف:
سنفيد في هذه المقارنة مما ذكره المفكر الكبير، والكاتب المسلم الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله في كتابه «الظاهرة القرآنية» (1)، فلقد ذكر النصوص التي جاءت في التوراة، والآيات في سورة يوسف، وما تفرد كل منهما به على حدة، ثم سجل بعض النتائج لهذه المقارنة، وسنلم بخلاصة ما ذكره عن تلك المقارنة وذلك الاستنتاج.
__________
(1) «الظاهرة القرآنية» ص 294290.(1/65)
رقم الآية: الرواية القرآنية: الرواية الكتابية: ملاحظات
31: مدخل يضع القصة في إطار الظاهرة القرآنية: مدخل يضع القصة في الإطار العائلي: اختلاف
64: رؤيا واحدة ليوسف: رؤييان ليوسف: اختلاف
157: ذهاب يوسف بموافقة يعقوب عقب التأمر عليه: ذهاب يوسف بأمر يعقوب: اختلاف
1816: ارتياب يعقوب في أولاده وأهله عقب المؤامرة: سرعة تصديق يعقوب ويأسه عقب المؤامرة: اختلاف
2019: بيع يوسف ووصوله إلى مصر: نفس الرواية: القرآن يؤكد أكثر تدخل إرادة الله
24: هم يوسف بالمعصية وبرهان الله له: لم يرد:
25: القميص تقدّه المرأة: القميص تأخذه المرأة:
2927: إدانة خلقية من الزوج لزوجته: غضب الزوج على يوسف: اختلاف
3130: فضيحة في المدينة واجتماع النسوة: لم يرد:
34: دعاء يوسف أمام إلحاح المرأة: لم يرد: النبي يتحدث أكثر في القرآن
4036: وعظ يوسف لأصحابه: لم يرد:
41: تعبير الرؤيين يطلب من يوسف: تعبير الرؤيين يتقدم به يوسف: اختلاف
4842: حل نفسي لعقدة السجن باعتراف المرأة: حل سياسي مترتب على رؤيا فرعون: الروح تتكلم أكثر في القرآن
49: تكهن بعام الرخاء والنجاة: لم يرد:
53: وعظ في حضرة الملك: لم يرد: شخصية النبي أكثر ظهورا في القرآن
54: ردّ اعتبار يوسف: مهمة معهود بها إلى يوسف: عدالة في القرآن وسياسة في التوراة
55: يوسف يطلب مسئولية الخازن: مسئولية الخازن تعرض عليه: اختلاف
57: اهتمام بالآخرة: لم يرد: الدين يتكلم أكثر في القرآن
6763: بواعث العودة إلى مصر: مسعى أبناء يعقوب لديه: بواعث العودة إلى مصر: أمر يعقوب الذي يبدو كأنما ترك شمعون لمصيره: الاتهام بالجاسوسية، اعتقال شمعون غير وارد في القرآن
6968: وصولهم إلى مصر وتأمر يوسف: نفس الصورة:
7970: رحيل إخوة يوسف واعتقال بنيامين: مع بعض التصرف:
80: تشاور الأخوة: لم يرد:
8781: عودة الأبناء إلى يعقوب الذي يستعين بالأمل والمصابرة: لم يرد:
88: عودة إلى مصر لدى يوسف: لم يرد:
9289: مشهد الحل بعفو يوسف عن إخوته: حل الموقف بانفعال يوسف: اختلاف
93: إرسال قميص يوسف إلى أبيه: لم يرد:
9594: وجدان يعقوب: لم يرد:
9996: شفاء يعقوب ودعاؤه وعفوه عن بنيه: لم يرد:
101: ختام يوسف للقصة بحمد الله والثناء عليه: لم يرد: المعالم الروحية في القرآن(1/66)
والذي ذكره الأستاذ الكاتب رحمه الله قد فاته فيه بعض الحقائق سهوا، وسننبهك لها:
1 - منها ما ذكرته التوراة من كراهية إخوة يوسف له، لأنه أخبر أباهم عنهم بريبة شنيعة، أما القرآن فبين أن سبب هذه الكراهية هو حسدهم له.
2 - ومنها كذلك أمر الشاهد الذي كان من أهل المرأة، والذي كانت شهادته تبرئة ليوسف، وهو ما أشار إليه القرآن بقوله: {وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ أَهْلِهََا إِنْ كََانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكََاذِبِينَ (26) وَإِنْ كََانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصََّادِقِينَ (27) فَلَمََّا رَأى ََ قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قََالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (28).
أما الاستنتاجات التي استنتجها الكاتب فهي ما ننقله لك، قال رحمه الله:
«في هاتين الروايتين اللتين فرغنا من عرضهما يمكننا أن نقارن بعض العناصر المتشابهة بطريقة تبرز لنا الطابع الخاص بالقرآن، ثم إنه يلزمنا أن نبحث قضية هذا التشابه بين الكتابين، وهو أمر جد مفيد لموضوعنا.
إن مدى التاريخ واحد تماما في كلتا الروايتين، ومع ذلك فإن مجرد التأمل السريع يمكن أن يكشف لنا عن عناصر خاصة تميز كلتيهما على حدة، فرواية القرآن تنغمر باستمرار في مناخ روحاني، نشعر به في مواقف وكلام الشخصيات التي تحرك المشهد القرآني، فهناك قدر كبير من حرارة الروح في كلمات يعقوب ومشاعره في القرآن، فهو نبي أكثر منه أبا، وتبرز هذه الصفة على الأخص في طريقته في التعبير عن يأسه عند ما يعلم باختفاء يوسف، كما تتجلى في طريقته في تصوير أمله حين يدفع بنيه إلى أن يتحسسوا من يوسف وأخيه. وامرأة العزيز نفسها تتحدث في رواية القرآن بلغة ضمير إنساني وخزه الندم، وأرغمته طهارة الضحية ونزاهتها على الاستسلام للحق، فإذا بالخاطئة تعترف في النهاية بغلطتها، وتقر بخطيئتها. وفي السجن يتحدث يوسف بلغة روحية محلقة، سواء
مع صاحبيه أم مع السجان، فهو يتحدث كنبي يؤدي رسالته إلى كل نفس يرجو خلاصها.(1/67)
إن مدى التاريخ واحد تماما في كلتا الروايتين، ومع ذلك فإن مجرد التأمل السريع يمكن أن يكشف لنا عن عناصر خاصة تميز كلتيهما على حدة، فرواية القرآن تنغمر باستمرار في مناخ روحاني، نشعر به في مواقف وكلام الشخصيات التي تحرك المشهد القرآني، فهناك قدر كبير من حرارة الروح في كلمات يعقوب ومشاعره في القرآن، فهو نبي أكثر منه أبا، وتبرز هذه الصفة على الأخص في طريقته في التعبير عن يأسه عند ما يعلم باختفاء يوسف، كما تتجلى في طريقته في تصوير أمله حين يدفع بنيه إلى أن يتحسسوا من يوسف وأخيه. وامرأة العزيز نفسها تتحدث في رواية القرآن بلغة ضمير إنساني وخزه الندم، وأرغمته طهارة الضحية ونزاهتها على الاستسلام للحق، فإذا بالخاطئة تعترف في النهاية بغلطتها، وتقر بخطيئتها. وفي السجن يتحدث يوسف بلغة روحية محلقة، سواء
مع صاحبيه أم مع السجان، فهو يتحدث كنبي يؤدي رسالته إلى كل نفس يرجو خلاصها.
وفي مقابل ذلك نجد الرواية الكتابية تبالغ بعض الشيء في وصف الشخصيات المصرية الوثنية بالطبع بأوصاف عبرانية، فالسجان يتحدث كموحد. وفي القسم الخاص بتعبير الرؤيا في القصة يرتسم رمز المجاعة في صورة أقل إجادة، فعبارة التوراة هي: (فابتلعت السنابل الجياد)، أما في الرواية القرآنية فإنها تعقبها فحسب.
والرواية الكتابية تكشف أيضا عن أخطاء تاريخية تثبت صفة (الوضع التاريخي) للفقرة التي نناقشها، فمثلا فقرة: «لأن المصريين لا يجوز لهم أن يأكلوا مع العبرانيين لأنه رجس عند المصريين» يمكننا التأكيد بأنها من وضع النساخ الميالين إلى أن يذكروا فترة المحن التي أصابت بني إسرائيل في مصر، وهي بعد زمن يوسف عليه السلام.
وفي رواية التوراة استخدم إخوة يوسف في سفرهم (حميرا) بدلا من {الْعِيرُ} في رواية القرآن، على حين أن استخدام الحمير لا يمكن أن يتسنى للعبرانيين إلا بعد استقرارهم في وادي النيل، بعد ما صاروا حضريين، إذ الحمار حيوان حضري عاجز في كل حالة عن أن يجتاز مسافات صحراوية شاسعة لكي يجيء من فلسطين، وفضلا عن ذلك فإن ذرية إبراهيم ويوسف كانوا يعيشون في حالة الرعاة، رعاة الأغنام والمواشي.
وأخيرا فإن (حل) عقدة القصة يحمل طابع السرد التاريخي في الرواية الكتابية، حيث يشتمل في الفصول الأخيرة التي آثرنا حذفها كيما نتجنب الإطالة المملة على تفاصيل مادية عن استقرار العبرانيين في مصر.
أما في القرآن فإن هذا الحل يدور حول الطابع المميز للشخصية المحورية:
يوسف الذي يختم هذا الختام المنتصر: {يََا أَبَتِ هََذََا تَأْوِيلُ رُءْيََايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهََا رَبِّي
حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجََاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطََانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمََا يَشََاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ»} (100) (1).(1/68)
يوسف الذي يختم هذا الختام المنتصر: {يََا أَبَتِ هََذََا تَأْوِيلُ رُءْيََايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهََا رَبِّي
حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجََاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطََانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمََا يَشََاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ»} (100) (1).
ويقيني أن ما ذكره الكاتب: كاف لإعطاء قناعات عما يتمتع به القرآن من منطق العلم، وسموّ الخلق، ودقة تتفق مع واقع التاريخ.
ثانيا: الأمور التي تفرد بها القرآن:
ولقد آن لنا أن نتحدث عن المقام الثاني، ونعني بها هذه الأمور التي تفرد بها القرآن عن التوراة، لنرى أين هي من الأشياء الخرافية التي نقلت عن اليهود على حد زعم دائرة المعارف، مع أن كثيرا منها بعيد عن أسلوب الحكاية وعناصرها، وهي بحق قضايا ذات أثر تربوي في حياة الإنسان.
1 - وأول ما يقابلنا في سورة يوسف درس تربوي للأجيال جميعا، وهو ما ينتج عن تفضيل الآباء بعض أبنائهم على بعض، وهي قضية عالجتها السنة المطهرة، وقد بينت سورة يوسف ما لذلك من أثر يمكن أن تعاني منه الأسرة، فماذا في ذلك من خرافة يا ترى؟!
2 - كذلك تفرد القرآن بخوف يعقوب على يوسف أن يذهب مع إخوته، ولذا لم يرسله معهم حينما طلبوه أول مرة.
3 - ولقد تفرد القرآن كذلك بارتياب يعقوب بما ذكره أبناؤه حينما جاءوا على قميص يوسف بدم كذب {قََالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللََّهُ الْمُسْتَعََانُ عَلى ََ مََا تَصِفُونَ} [آية: 18] فماذا في هذا أو ذاك من خرافة يا ترى؟!
4 - كما تفرد القرآن بهمّ يوسف، وهو ما كان يجول في خاطره كشاب سويّ، إذ من الطبعيّ أن يفكر من هو في مثل يوسف في أمر الشهوة، ما دامت
__________
(1) «الظاهرة القرآنية» لمالك بن نبي، ص 294292.(1/69)
بنيته صحيحة، وحياة الرغد مهيأة له، ولكنه مع ذلك استطاع أن يكبح جماح هذه الشهوة، وقد رأى برهان ربّه وهو ما أودعه الله في نفسه من خشية لله، وبغض للخيانة، لأن الله أراد أن يصرف عنه السوء والفحشاء:
{إِنَّهُ مِنْ عِبََادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (24)، وهو بحق درس سجله القرآن الكريم ليفيد منه كل أولئك الذين سنحت لهم الفرض فتسنى لهم فعل الشهوة، فيذكروا ما كان من يوسف عليه السلام، فماذا في ذلك من خرافة يا ترى؟!
5 - ولقد تفرد القرآن كذلك بقدّ قميص يوسف، والذي ذكرته التوراة هو أخذ القميص، ولا شك أنّ قضية ورواية القدّ هي التي تتفق مع منطق الأحداث، وما كان من ذلكم الرجل الحصيف العقل، النافذ البصيرة، السليم المنطق، المستقيم الفكر، وهو من ذوي المرأة وقرابتها، حينما شهد شهادته التي تدل على تلك الصفات التي ذكرناها. وهو درس يمكن أن يفيد منه رجال الأمن وجماعات القضاء في استنتاج الأحكام لما يعرض لهم من قضايا، فهل تلك خرافة يا ترى؟!
6 - ومما تفرد به القرآن خبر النسوة، وقد تسرّب الخبر ورشحت بعض أحداثه إليهن، وهذه قضية اجتماعية، فأخبار مثل هؤلاء في كل زمان ومكان سريعة التسرب، سريعة الرشح، يفتح الناس آذانهم لها، فكان من خبرهن بعد ما رأينا أن أصابتهن الدهشة فجرحن أيديهن، أفينكر علم الاجتماع وعلم النفس مثل هذه القضية؟!
7 - ومما تفرد به القرآن الكريم تضرع يوسف لربه أن يصرف عنه كيد النسوة حتى لا يصبو إليهن ويكون من الجاهلين، وما ذلك إلا لأنه بشر، فيستجيب له ربه، فيصرف عنه كيدهن، فماذا في ذلك من خرافة؟!
8 - ومما انفرد به القرآن هذه الدعوة التي كان يحمل يوسف لواءها، وهي رسالة التوحيد، وها هو قبل أن يجيب صاحبي السجن يعظهما: {أَأَرْبََابٌ
مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللََّهُ الْوََاحِدُ الْقَهََّارُ} (39)، ويعترف بأن ما عنده إنما هو من تعليم ربه له: {ذََلِكُمََا مِمََّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لََا يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كََافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبََائِي إِبْرََاهِيمَ وَإِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ مََا كََانَ لَنََا أَنْ نُشْرِكَ بِاللََّهِ مِنْ شَيْءٍ ذََلِكَ مِنْ فَضْلِ اللََّهِ عَلَيْنََا وَعَلَى النََّاسِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَشْكُرُونَ} (38)، أليس ذلك هو الذي يتلاءم مع شرف النبوة ومنزلة الرسالة؟!(1/70)
8 - ومما انفرد به القرآن هذه الدعوة التي كان يحمل يوسف لواءها، وهي رسالة التوحيد، وها هو قبل أن يجيب صاحبي السجن يعظهما: {أَأَرْبََابٌ
مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللََّهُ الْوََاحِدُ الْقَهََّارُ} (39)، ويعترف بأن ما عنده إنما هو من تعليم ربه له: {ذََلِكُمََا مِمََّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لََا يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كََافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبََائِي إِبْرََاهِيمَ وَإِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ مََا كََانَ لَنََا أَنْ نُشْرِكَ بِاللََّهِ مِنْ شَيْءٍ ذََلِكَ مِنْ فَضْلِ اللََّهِ عَلَيْنََا وَعَلَى النََّاسِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَشْكُرُونَ} (38)، أليس ذلك هو الذي يتلاءم مع شرف النبوة ومنزلة الرسالة؟!
9 - ومما تفرد به القرآن عدم تلبية يوسف نداء الملك حينما طلبه أول مرة، فأبى يوسف حتى تسأل النسوة عن شأنه، وتسأل النسوة ويبرئن يوسف: {قُلْنَ حََاشَ لِلََّهِ مََا عَلِمْنََا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ،} وتعترف امرأة العزيز بالحقيقة: {أَنَا رََاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصََّادِقِينَ} (51)، أيمكن أن يكون ذلك خبر خرافة ونسج حكايات يتناقلها جهلة القصاص؟ أم أنه سرّ كشف لثامه القرآن وحده؟! أليست تلك حصافة من يوسف تدل على رفعة نفس، واعتزاز بالكرامة، ثم ماذا كانت نتيجة هذه الحكمة التي ألهمها عليه السلام؟ لقد كبر في عين الملك ولذا نجد القرآن يصرح بهذا ويشير إليه، فبعد اعتراف النسوة ببراءة يوسف يقول الملك {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [آية: 54]، وهذه الجملة {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} لم يقلها الملك أول مرة في الآية، وإنما قالها في هذه المرة الثانية فحسب، حينما رأى من يوسف هذا الاعتزاز بكرامته وهذا الصدق مع نفسه. ولقد سجل الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم كما جاء في السنة المطهرة: «رحم الله أخي يوسف، لو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي» (1)، وهذا تقدير من النبي سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم لما كان من يوسف عليه السلام.
__________
(1) وأخرجه البخاري كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {* لَقَدْ كََانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيََاتٌ لِلسََّائِلِينَ} (7)، حديث رقم 3207، وأخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة، حديث رقم 238.(1/71)
10 - ومما تفرد به القرآن رجوع إخوة يوسف في المرة الثانية لأبيهم، وقول أبيهم لهم: تحسسوا من يوسف وأخيه، ولا غرو من ذلك ولا عجب، فلقد كان الرجل نبيا، يلهم الكلمة التي يقولها.
11 - ومما تفرد به القرآن هذا الدرس الذي أعطاه يوسف لإخوته ولغيرهم، وسيظل درسا يفيد منه كل أولئك الذين يعرضون للأخطار، وتحيط بهم المصاعب، وتظللهم الكروب، هذا الدرس الذي هو بحق خير علاج لأمراض الحياة الاجتماعية، ونعني به قول يوسف عليه السّلام: {قََالَ أَنَا يُوسُفُ وَهََذََا أَخِي قَدْ مَنَّ اللََّهُ عَلَيْنََا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللََّهَ لََا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (90).
وهكذا يعلم إخوته وغيرهم أن الذي يكون مع الله لا يخذله الله بقوله:
{قَدْ مَنَّ اللََّهُ عَلَيْنََا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللََّهَ لََا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ،}
وقوله: {لََا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [الآية: 92]، وهذه الكلمة نفسها قالها النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: «ما تظنون أني فاعل بكم»، قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: «لا أقول اليوم إلا كما قال أخي يوسف: {لََا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ.»}
12 - ومما تفرد به القرآن ما كان من يعقوب حينما ألقوا القميص على وجهه فارتد بصيرا، وهي قضية أترك لعلماء النفس وعلماء الطب على السواء أن يقولوا فيها قولتهم. ولا ننسى أنها من نبي لنبي، لا من الأب لابنه، إنّ الطب النفسي في أيامنا يذكر مثل هذه، وما يزيد عليها كذلك.
13 - ومما تفرد به القرآن هذا الفضل الذي اعترف به يوسف لخالقه وربه، وهذا الأدب الذي أظهره يوسف، وهذا السموّ في الصفح وهو يقول: {يََا أَبَتِ هََذََا تَأْوِيلُ رُءْيََايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهََا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} فهو ينسب الإحسان إلى ربه {وَجََاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطََانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} هذا الأدب الجم، فقد نسب ما كان من إخوته إلى نزغ الشيطان،
حتى يذهب عنهم الضيق النفسي {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمََا يَشََاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحََادِيثِ فََاطِرَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصََّالِحِينَ} (101).(1/72)
13 - ومما تفرد به القرآن هذا الفضل الذي اعترف به يوسف لخالقه وربه، وهذا الأدب الذي أظهره يوسف، وهذا السموّ في الصفح وهو يقول: {يََا أَبَتِ هََذََا تَأْوِيلُ رُءْيََايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهََا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} فهو ينسب الإحسان إلى ربه {وَجََاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطََانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} هذا الأدب الجم، فقد نسب ما كان من إخوته إلى نزغ الشيطان،
حتى يذهب عنهم الضيق النفسي {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمََا يَشََاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحََادِيثِ فََاطِرَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصََّالِحِينَ} (101).
أين الخرافة في هذا كله!
إن قصة يوسف في القرآن الكريم لخير دليل على حقيقة هذا القرآن، وعلى صدق النبي الأمي، ولهذا يقول وما أروع مجيء الآية التالية بعد انتهاء قصة يوسف تؤكد تلك الحقيقة: {ذََلِكَ مِنْ أَنْبََاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمََا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (102).
إننا نود من كل المنصفين أن يقفوا مع أحداث قصة يوسف وحقائقها ليوازنوا بين هذه الأحداث والحقائق، وبين ما ذكرته دائرة المعارف، وإننا على يقين من أن طلاب الحق لن يخفى عنهم نوره.
القضية الثامنة: تناسق الموضوعات في السورة القرآنية:
جاء في الموسوعة: «أما باقي السور الطويلة فهي تتناول مواضيع مختلفة تتحدث عنها مواضع مختلفة من السورة، وكأن القرآن يعطي للقارئ انطباعا بأنه مجرد إنشاء جاء بطريقة عشوائية، ويؤكد صحة ذلك طريقة ختم هذه الآيات بآيات مثل: {إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ،} {إِنَّ اللََّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ،} {إِنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ} وأن هذه الأخيرة لا علاقة لها مع ما قبلها وإنما وضعت فقط لتتميم السجع والقافية».
هذه الفقرة التي نقلناها عن دائرة المعارف، تستحق منا أن نفرد لها قضيتين اثنتين، كل منهما حريّة ببحث هادئ هادف منصف.
أولاهما: وهي القضية الثامنة، تتصل بالسورة القرآنية وما فيها من موضوعات.(1/73)
أما ثانيتهما: وهي القضية التاسعة فسنتحدث فيها عن الفاصلة القرآنية إن شاء الله. ولنبدأ الحديث عن القضية الثامنة:
ولعل من المفيد هنا أن نبدأ القول بأن ما جاء في دائرة المعارف من أن السور الطوال ذوات موضوعات متعددة مشتتة ليس بينها صلة، لا تجمعها رابطة ولا وشيجة من وشائج القربى، وأن الطابع الذي يعطيه القرآن هو مجرد إنشاء جاء بطريقة عشوائية. أقول: إن ما جاء في دائرة المعارف لم يعد أن يكون تكرارا ونقلا لما قاله بعض المستشرقين والمبشرين، ونرجو أن نحتفظ بمنهجيتنا التي وعدنا بها في هذا الكتاب، وأن نحافظ ما استطعنا على الأناة والصبر والحلم التي لا بدّ منها للباحث الذي يتوخى النزاهة في بحثه، ونؤثر أن نبحث في أسلوب القرآن وخصائصه الأدبية أولا، ثم نتحدث عن السورة في موضوعاتها ثانيا.
أولا: أسلوب القرآن وخصائصه الأدبية:
ومن نافلة القول أن نذكر أن القرآن الكريم نزل في أمة كان الكلام بضاعتها المفضلة وتجارتها الرائجة، فإذا كانت الأمم تقيم أسواقا للسلع والمنتجات بيعا وشراء فلقد كانت هذه الأمة العربية تقيم أسواقا ولكن ليس لهذا، إنما هي أسواق يتبارى فيها الخطباء والشعراء.
ومن نافلة القول كذلك أن الكلام كان عندهم من أكثر الأجناس التي يقع فيها التفاضل، وهم يدركون هذا بأذواقهم، ويحسونه بفطرتهم قبل فطنتهم.
ومن نافلة القول ثالثا أنهم رغم كفرهم بهذا القرآن، وعدم إيمانهم برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، إلا أن القرآن كان له على نفوسهم تأثير وهيمنة وسلطان، وتلك قضية بدهية سجلها القرآن نفسه وهي من الأمور التي لا يتأتى فيها ريبة أو مرية، وما ذلك التأثير والسلطان، إلا لأنهم وجدوا فطرتهم اللغوية وطبيعتهم الأدبية في هذا القرآن، وجدوا فيه، مع أنه أقل نظما من الشعر، إقناعا، وهيبة، وإمتاعا،
وهزة لم يجدوها في الشعر، وجدوه خاليا من خشانة البداوة، ومن طراوة أهل الحضر، ولما خشوا منه التأثير عليهم، قال بعضهم لبعض: {لََا تَسْمَعُوا لِهََذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (26) [فصلت: 26].(1/74)
ومن نافلة القول ثالثا أنهم رغم كفرهم بهذا القرآن، وعدم إيمانهم برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، إلا أن القرآن كان له على نفوسهم تأثير وهيمنة وسلطان، وتلك قضية بدهية سجلها القرآن نفسه وهي من الأمور التي لا يتأتى فيها ريبة أو مرية، وما ذلك التأثير والسلطان، إلا لأنهم وجدوا فطرتهم اللغوية وطبيعتهم الأدبية في هذا القرآن، وجدوا فيه، مع أنه أقل نظما من الشعر، إقناعا، وهيبة، وإمتاعا،
وهزة لم يجدوها في الشعر، وجدوه خاليا من خشانة البداوة، ومن طراوة أهل الحضر، ولما خشوا منه التأثير عليهم، قال بعضهم لبعض: {لََا تَسْمَعُوا لِهََذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (26) [فصلت: 26].
ومع ذلك كله نجد من يماري في هذه البدهية كما جاء في دائرة المعارف، وليست وحدها كما قلت، يقول المستشرق دوزي (ت 1884) عن القرآن الكريم: (إنه كتاب ذو ذوق رديء للغاية، ولا جديد فيه إلا القليل، وفيه إطناب بالغ، ومملّ إلى حدّ بعيد) (1)، فأين ما يقوله هؤلاء مع ما قاله الوليد، مع أنهم يلتقون في الكفر بهذا القرآن، ولا يشك أحد أن الوليد كان أرفع منهم ذوقا، وأرهف حسا، بل لا مجال للمقارنة بينهم.
أما الإطناب فمع أن العربية لغة الإيجاز، وهذا ما يجعلها ذات تميز عن اللغات الأوروبية، فلقد كان القرآن الكريم آية في الإيجاز يعطي أكبر قسط من المعنى بأقل قدر من اللفظ.
وأما الادعاء بأن القرآن ممل، فمع أن قضية الملالة والسآمة، أو الرغبة والإقبال أمور نسبية، إلا أننا نرى أننا لسنا بحاجة إلى إقامة دليل واحد على بعد هذا القول عن الحقيقة، فالقرآن هو الكتاب الذي لا تملّه الأسماع ولا تعافه النفوس لأنها تجد فيها أنسها. وإذا كان هذا شأن المؤمنين بالقرآن فإن كثيرين من غيرهم سواء كان هؤلاء من التواقين للمعرفة أم من المحبين للجمال، يجدون في هذا القرآن متعة وحلاوة.
ونتساءل هنا، ترى ومع البون الشاسع والفرق البعيد لو أن عسكريا من الفئة الحاكمة في الأرجنتين طلع على الناس بموضوع عرض فيه لكتابة شكسبير وإنتاجه ووصفه بالسخف والركاكة والسذاجة وضعف الأسلوب؟ وماذا لو أن
__________
(1) «الاستشراق والخلفية الفكرية» ص 94، د. محمد حمدي زقزوق.(1/75)
أحد اليوغسلاف أو غيرهم ادّعى أن (جوتا) ليس عنده إلا هزل من القول؟ وماذا لو أن أحدا من ساحل العاج اتهم ديكارت بالخرافة والجنون؟ وما هو موقف الإنجليز والألمان والفرنسيين، بل ما موقف الأدباء والشعراء والفلاسفة كذلك من غير هذه الشعوب؟ لا شك أن ذلك سيثير السخرية والضحك.
أقول هذا مع الفارق الكبير والبون الشاسع كما قلت، وأين ذلك كله من كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لو أن أولئك أرادوا المراء في أحكام القرآن التشريعية وقيمه الخلقية وعقائده وقواعده لأمكن لبعضهم أن يجد لهم عذرا لأن تلك أمور مشتركة بين الناس جميعا، ولكان جديرا بهم أن يناقشوا فيما يقولون، وأن يبين لهم وجه الحق إن كانوا من ذوي الحق لكن مما يتنافى مع النزاهة والروح العلمية أن يعرض أولئك للغة القرآن وأسلوبه وبيانه، وروعة إيجازه، ودلائل إعجازه.
يقول أستاذنا الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله:
«أما ما يبدو أنه فوق طاقة البشر حقا في الأسلوب القرآني فهو أنه لا يخضع للقوانين النفسية التي بمقتضاها نرى العقل والعاطفة لا يعملان إلا بالتبادل وبنسب عكسية بحيث يؤدي ظهور إحدى القوتين إلى اختفاء الأخرى.
ففي القرآن لا نرى إلا تعاونا دائما في جميع الموضوعات التي يتناولها بين هاتين النزعتين المتنافرتين. وبالإضافة إلى الموسيقى الخالدة التي تعلو الأسلوب المتنوع نرى أن الكلمات ذاتها بمعناها المجازي سواء أكانت وصفا أم استدلالا أم سنّ قاعدة في القانون أو في الأخلاق تسعى بقوة وتجمع في نفس الوقت بين التعليم والإقناع والتأثير، وتمنح القلب والعقل نصيبه المنشود.
وعلاوة على ذلك فإن هذا الكلام الرباني وهو يؤثر على هذا النحو في قوانا المختلفة يحتفظ دائما وفي أي موضع بهيبة مدهشة وبجلالة قوية لا تتأرجح ولا تضطرب.(1/76)
وربما لا يكون هناك ما يدعو للوقوف طويلا أمام هذا الوصف التجريدي الذي ليس له معنى ولا قيمة إلا بمراجعة مضمونه على النص القرآني، وهو العمل الذي قمنا به في كتاب آخر (1) ولا ينبغي أن نكرره هنا. فالعربي الأصيل الذي تسري في دمه غريزة اللغة ليس في حاجة إلى هذا التحليل لكي يقدر بنفسه طابع النص القرآني الفريد. وما يستفاد من هذه الدراسة البطيئة المنطقية يدركه هو بفطنته وفطرته، فهو يشعر بالقرآن وكأنه آت من السماء، ينفذ إلى القلوب ويبهر الأبصار. ولقد أدرك الكفار هذا التأثير في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، واختلفوا في التماس التفسير والتعليل له، إذ وجدوه ظاهرة غريبة إلى درجة أن أطلقوا عليه (سحرا) حتى في عصرنا الحاضر، ورغم بعد الزمن واختلاط الأجناس وانحراف فطرة اللغة نجد العرب على اختلاف دياناتهم يعترفون بالسمو والجلال والهيبة التي ينفرد بها النص القرآني لا بالنسبة للأدب العربي بوجه عام، ولكن حتى بالنسبة لأحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذاته المعروفة ببلاغتها الرفيعة» (2).
ثانيا: السورة في موضوعاتها:
أما ما يتصل بموضوعات السورة القرآنية، وهو ليس بعيدا عن بحثنا الأول بل هو من صلبه داخل في دائرته، قد يكون من الصعوبة بمكان أن يتصور أحد الأفارقة أو أحد الأسيويين الذين عاشوا في ظل الاستعمار إن كان له ظل أن يتصوروا المشاعر والدوافع التي تدور في خلد المستعمرين، أن يتصوروا ذلك تصورا تاما. وقد يكون من الصعب كذلك أن نحمل شعبا ما على أن ينسجم انسجاما تاما مع أدب شعب آخر، كما أن من الصعب أن نحمل الشرقيين ليجدوا في الموسيقى الغربية ما يجده الغربيون أنفسهم، ولكن مع بدهية هذه الأشياء كيف يكون الحال لو أن أحد هؤلاء الشرقيين وصف موسيقى بيتهوفن
__________
(1) وهو كتاب «النبأ العظيم».
(2) «مدخل إلى القرآن الكريم» ص 117.(1/77)
بأنها نغمات نشاز! تخلو مقطوعاتها وسيمفونياتها من الروابط والصلات! وإنما هي مقطعة الأوصال مفرقة الأجزاء! يقيننا أنه لو حدث ذلك لكان مثارة للسخرية، أو من دواعي الإشفاق، وبخاصة عند أولئك الذين يتذوقون هذه الموسيقى ويعجبون بها، ويعرفون السلم والأصول التي بنيت عليها.
صحيح أن الناس يختلفون في مشاربهم، ولكن هناك قواعد عامة تظل هي المقياس الصحيح. إننا نقدّر أدب شكسبير حتى لو لم نكن نتذوقه من لغته نفسها، والقرآن الكريم معجز في حقائقه العلمية والتاريخية ومعجز في بيانه كذلك وهذا البيان لا يقف عند الجملة والفقرة والآية، بل يظهر في ترتيب السورة ونسقها كذلك، وهذا أمر فطن إليه الأئمة منذ القدم لذلك كانت لهم عناية في كشف اللثام عن متانة الترابط وإحكام الصلة بين أجزاء كل سورة من سور القرآن.
ولكن كثيرا من المستشرقين، وأخذت عنهم مع كل أسف دائرة المعارف، حكموا على السور القرآنية حكما فطيرا خاليا من التأمل، وقد يكون لهم عذر لجهلهم باللغة العربية، ولكن لا يمكن أن يكون لهم عذر في هذا الحكم البعيد عن مواطن الإنصاف.
لقد نظروا للسورة الواحدة فوجدوها تتحدث عن العقيدة والقصة وقضايا الأخلاق فظنوا أن هذه الموضوعات المتفرقة لا يجمعها إطار واحد، وكان الإنصاف يتطلب ترويا وإجالة فكر. ولقد حاولوا تعليل هذه القضية التي أقنعوا أنفسهم بها، وهي عدم الترابط بين أجزاء السورة، بعلل مختلفة، فرجعها بعضهم إلى سذاجة الأسلوب وركاكته، ورجعها بعضهم لغرض مقصود وهو عدم الملالة والسآمة، ورجعها آخرون إلى ركاكة في المعنى، وآخرون حملوا ذلك الخطأ للصحابة رضوان الله عليهم بأنهم لم يحسنوا ترتيب الموضوعات في السورة الواحدة. والمنطق العلمي يأبى ذلك كله.(1/78)
إن تناسق الموضوعات في كل سورة من سور القرآن قضية مدهشة حقا، وبخاصة إذا عرفنا أن سور القرآن نزلت نجوما متفرقة، فسورة البقرة نزلت في عشرة سنين، فاستوعبت الزمن المدني كله، حتى كثير من السور القصيرة كان بين الجزء والجزء الآخر منها أعوام عديدة، ومع ذلك حينما ننظر في السورة نجدها تكوّن وحدة موضوعية، متصلة الأجزاء محكمة الحلقات، وهذه ميزة يتفرد بها القرآن الكريم وحده.
ولعل من الصعوبة هنا أن نقوم بدراسة عملية ميدانية لبعض السور لنثبت هذه الحقيقة، ولكن من الإنصاف أن لا نتعجل حكما ما، قبل أن نلمّ بجميع أطرافه، وهذا الذي كنا نوده من دائرة المعارف. ولكثير من الأئمة جهود مشكورة، نذكر منها ما قام به الدكتور محمد عبد الله دراز في تحليل سورة البقرة وبيان الاتساق بين أجزائها وما فيها من وحدة الموضوعية في كتابه «النبأ العظيم»، ولقد عقدت فصلا في كتابي «إعجاز القرآن» درست فيه عدة سور من القرآن الكريم على هذا الأساس، وخلصت إلى ما فيها من نظام بديع ووحدة تامة، وهذه السور كان بعضها مكيا وبعضها مدنيا، وما ذلك إلا لندرك أن القرآن مكيّه ومدنيّه سواء.
القضية التاسعة: الفاصلة القرآنية:
تعريف الفاصلة
يقصد بالفاصلة القرآنية ذلك اللفظ الذي ختمت به الآية، فكما سموا ما ختم به بيت الشعر قافية أطلقوا على ما ختمت به الآية الكريمة فاصلة.
وقد ذكر الجاحظ في «البيان والتبيين» (2: 269): «حدثوا أن رجلا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله غفور رحيم، فقال أعرابي: لا يكون، وفي رواية أخرى أنه قال: إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم، لا يذكر الغفران عند الزلل، لأنه إغراء عليه».(1/79)
وروي أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: {وَحَمَلْنََاهُ عَلى ََ ذََاتِ أَلْوََاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنََا جَزََاءً لِمَنْ كََانَ كُفِرَ} (14) بفتح الكاف، فقال الأعرابي: لا يكون، فقرأها عليه بضم الكاف وكسر الفاء (1)، فقال الأعرابي: يكون (2).
هذا ما ذكره الأعرابي بطبعه وسليقته وسجيته، ولكننا وجدنا أناسا في القرن العشرين، وقفوا غير هذا الموقف، نحن لا ننكر على الناس أن لا يعلموا كل شيء، ولكننا ننكر أن يدّعوا علم كل شيء، نحن لا نعجب ولا نستهجن أن يردّ الحق خصوم ألدّاء عرفوا بتعصبهم وتحيزهم، نحن لن نفاجئ إن سمعنا من مبشر حاقد، أو مستشرق جاحد، إن سمعنا من هذا أو ذاك طعنا على كتاب الله ودين الله، لكن الذي كنت لا أوده أنا وأنت أيها القارئ معا أن نجد مصدرا من مصادر المعرفة طالما روّج له أصحابه وأحاطوه بهالات فخمة من الإجلال والتبجيل، وسوروه بأسوار البحث العلمي والنزاهة، وألبسوه لباس الحقيقة، بل عدوه حصنا من حصون المعرفة، أن نجد من وصفوه بهذه الصفات بعيدا عن ذلك كله، بل هو فوق ذلك ممعن في الافتراء، بعيد عن النزاهة في البحث، مناف لقواعد العدل وأسس المنطق تلك هي دائرة المعارف البريطانية، التي استدلت كما عرفت على أن القرآن مجرد إنشاء جاء بطريقة عشوائية، استدلت على هذه الدعوى بالفواصل القرآنية، حيث جاء فيها: «وكان القرآن يعطي للقارئ انطباعا بأنه مجرد إنشاء جاء بطريقة عشوائية، ويؤكد صحة ذلك طريقة ختم هذه الآيات، بآيات مثل: {إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ،} {إِنَّ اللََّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ،}
__________
(1) قال الزمخشري: (كفر) هو نوح عليه السّلام، وجعله مكفورا لأن النبي نعمة مكفورة.
قال الله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََاكَ إِلََّا رَحْمَةً لِلْعََالَمِينَ} (107) [الأنبياء: 107]، فنوح عليه السّلام نعمة مكفورة. ومن هذا المعنى يحكى أن رجلا قال للرشيد: الحمد لله عليك، فقال:
ما معنى هذا الكلام؟ قال: أنت نعمة حمدت الله عليها. «الكشاف» (4: 435).
(2) «البيان والتبيين» (3: 174).(1/80)
{إِنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ،} وأن هذه الأخيرة لا علاقة لها مع ما قبلها، وإنها وضعت فقط لتتميم السجع والقافية».
ما أشبه هذا القول بمن يدّعي أن النظام في هذا العالم كان على غير حكمة وتقدير، فوجود الشمس أبعد من القمر عن الأرض، ونسبة اليابسة أقل من نسبة الماء في هذه الأرض، وقصر النهار وطول الليل في فصل الشتاء، وعكس ذلك في الصيف، ووجود العينين في الوجه، ووضع اليدين في المكان الذي وضعتا فيه، ووجود بعض الأعصاب والأجهزة في الإنسان، واختلاف الأكسجين في أعلى طبقات الجو منه على ظاهر الأرض، كل أولئك أمور لا حكمة فيها، ولا ضرورة لها، إنما هي أمور جاءت هكذا، فهي ألصق بالفوضى وأبعد ما تكون عن الدقة. إي والله إن ذاك القول وهذا سواء ذلك أن الدقة هي الفاصلة القرآنية والترتيب المحكم، والنظام البديع، لا يقل عما في هذا الكون، فخالق الكون ومنزل القرآن هو الله، الذي أتقن كل شيء، وكان حريا بأولئك أن لا يصدروا أحكاما على ما لا يعلمون، وهذا ما تقتضيه بدهيات البحث العلمي.
ونقول لأولئك أولا: إن إنكار ضوء الشمس وسطوعها لا يضيرها، ولو أن الأمر كما قالوا لما وجدت فاصلتان متحدتان ومتجاورتان في كتاب الله، فإذا كانت القضية قضية سجع وختم للكلام بطريقة عشوائية وجل القرآن عن ذلك لكان من السهل أن تختم كل آية بما لا يشبه ما ختمت به صاحبتها التي ذكرت معها، ولكننا نجد كثيرا من الآيات المتجاورات ختمت كل منهما بما ختمت به الأخرى، وعلى سبيل المثال لا الحصر:
(1) هاتان الآيتان من سورة البقرة آية الدين ختمت بقوله سبحانه: {وَاللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ،} (282) والآية التي تليها ختمت بقوله سبحانه: {وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (283).
(2) وآيتان في سورة النحل: {مََا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمََا عِنْدَ اللََّهِ بََاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صََالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ََ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيََاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} (97).(1/81)
(2) وآيتان في سورة النحل: {مََا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمََا عِنْدَ اللََّهِ بََاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صََالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ََ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيََاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} (97).
(3) آيتا النور: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ،} ختمت بقوله سبحانه: {كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمُ الْآيََاتِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (58)، والتي تليها ختمت بقوله تعالى: {كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمْ آيََاتِهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (59).
(4) آيتا النساء: {مََا يَفْعَلُ اللََّهُ بِعَذََابِكُمْ} والتي بعدها ختمت بقوله تعالى:
{عَلِيماً} [الآيتان: 147، 148].
(5) آيتا الحديد: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً وَإِبْرََاهِيمَ} والتي تليها ختمت كل منهما بقوله سبحانه: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فََاسِقُونَ} [الآيتان: 26، 27].
كان من الممكن أن تختم كل واحدة من هذه الآيات بغير ما ختمت به الأخرى، ففي آية البقرة يمكن أن يقال بدل «عليم»: «خبير»، وفي آية النساء يمكن أن يقال بدل «عليما»: «بصيرا»، وفي آية النحل يمكن أن يقال بدل «يعملون»: «يفعلون»، وفي آية النور يمكن أن يقال: «عزيز حكيم»، وفي آية الحديد يمكن أن يقال: «كافرون»، ولكن الأمر ليس كذلك، وإنما هو خاضع لنظام دقيق، للحرف فيه رسالته وغرضه، فما بالك بالكلمة والجملة.
إن الفاصلة القرآنية جاءت متسقة متناسبة كل التناسب مع معنى الآية وموضوعها وسياقها الذي تتحدث فيه وغرضها الذي جاءت من أجله، وإليك البيان:
فواصل قرآنية لا تحتاج الى بيان وكثير فكر
بعض الفواصل القرآنية لا يحتاج الأمر فيها إلى بيان وكثير فكر وكبير عناء، بل يمكن للقارئ أن يدرك هذه الفاصلة من السياق نفسه، فمثلا: {إِذْ قََالَ لَهُ قَوْمُهُ لََا تَفْرَحْ إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (76) [القصص: 76]، {وَلََا تَبْغِ الْفَسََادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77) [القصص: 77]، {ثُمَّ أَنْشَأْنََاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ
الْخََالِقِينَ} (14) [المؤمنون: 14]، {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنََّا بِاللََّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمََا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (8) [البقرة: 8]، ومن هذا القبيل الفاصلة التي مثلوا بها وقالوا إنها منقطعة عما قبلها: {وَاللََّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ:} (216)(1/82)
بعض الفواصل القرآنية لا يحتاج الأمر فيها إلى بيان وكثير فكر وكبير عناء، بل يمكن للقارئ أن يدرك هذه الفاصلة من السياق نفسه، فمثلا: {إِذْ قََالَ لَهُ قَوْمُهُ لََا تَفْرَحْ إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (76) [القصص: 76]، {وَلََا تَبْغِ الْفَسََادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77) [القصص: 77]، {ثُمَّ أَنْشَأْنََاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ
الْخََالِقِينَ} (14) [المؤمنون: 14]، {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنََّا بِاللََّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمََا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (8) [البقرة: 8]، ومن هذا القبيل الفاصلة التي مثلوا بها وقالوا إنها منقطعة عما قبلها: {وَاللََّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ:} (216)
(1) فقد جاءت هذه الآية مثلا في سورة البقرة (1) في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتََالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى ََ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى ََ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللََّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ} (216) [البقرة: 216]، أي منصف بل أي عاقل يدّعي أن هذه الفاصلة غير متصلة بما قبلها؟! بل أي فاصلة يمكن أن تصلح بدل هذه الفاصلة؟! يخاطب الله المؤمنين وقد كتب عليهم القتال والجهاد، ويبين أن أمر المستقبل لا يدركونه هم، فربما يكرهون شيئا يكون فيه خيرهم، وربما يحبون شيئا يكون في نهايته شرا لهم ووبالا عليهم، إن الله وحده هو الذي يعلم ذلك، أي فاصلة تصلح لهذه الآية غير التي ختمت بها: {وَاللََّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ}!
(2) وفي السورة نفسها تذكر الآيات بعض أحكام الطلاق، وتنهى أولياء النساء أن يمنعونهن من الرجوع إلى أزواجهن إذا ترضوا بينهم بالمعروف، فيبين لهم أن ذلك يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وأن ذلكم هو أزكى لهم وأطهر، وتختم الآية: {وَاللََّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ} (216)، قل لي بربك: أي فاصلة يمكن أن تصلح لهذه الآية الكريمة؟ وهؤلاء الإخوة والآباء يريدون أن يمنعوا أخواتهم أو بناتهم من الرجوع إلى أزواجهن، وإنما يريدون ذلك أنفة واستجابة لدواعي الحميّة، أو انتقاما من أولئك الأزواج من غير تفكير في النتائج والعواقب التي يمكن أن تنتج عن مثل هذا
__________
(1) في أول السورة نقرأ قوله تعالى في خطاب الملائكة، وقد قال لهم الله: {وَإِذْ قََالَ رَبُّكَ لِلْمَلََائِكَةِ إِنِّي جََاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قََالُوا أَتَجْعَلُ فِيهََا مَنْ يُفْسِدُ فِيهََا} ويقول الله لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مََا لََا تَعْلَمُونَ} (30) وهذه الفاصلة في موضعها لا يصلح غيرها فيه.(1/83)
التصرف الخاطئ، ما نظن أن هناك فاصلة ترجع أولئك الأولياء لرشدهم وتخوفهم من عواقب تصرفاتهم أجدى وأولى مما ختمت به الآية الكريمة.
(3) وفي سورة آل عمران ينعى القرآن على أهل الكتاب الذين يحاجّون في إبراهيم عليه السّلام: {وَمََا أُنْزِلَتِ التَّوْرََاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلََّا مِنْ بَعْدِهِ} [آية: 65] فما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا، فكيف يكون كذلك واليهودية والنصرانية متأخرتان في الوجود.
وإذا كانوا يحاجون في بعض القضايا التي يعلمونها فلم يحاجون فيما ليس لهم به علم: {هََا أَنْتُمْ هََؤُلََاءِ حََاجَجْتُمْ فِيمََا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمََا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللََّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ} (66) [آية: 66]،بماذا يمكن أن تختم هذه الآية يا ترى إن لم تختم بهذه الفاصلة، وأي تحذير هو أعظم من هذا التحذير، بل وأي إقناع هو أقوى وأصح من هذا الإقناع؟!
(4) وفي سورة النحل جاء قوله سبحانه: {فَلََا تَضْرِبُوا لِلََّهِ الْأَمْثََالَ إِنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ،} (74) وأظن أن أمر هذه الآية ظاهر لا يحتاج إلى أي تعليق.
(5) في سورة النور: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفََاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ وَاللََّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ،} (19) أليس في هذه الآية تطمين للمؤمنين الذين أشيعت الفاحشة فيهم وأراد بعضهم أن ينال منهم؟ أليس في ذلك تطمين لهم بأن ذلك خير كما جاء في آية سابقة لهذه الآية: {لََا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [آية: 11]؟!، ثم أليس فيه تهديد لأولئك الذين يشيعون الفواحش بما هيأه الله لهم من خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة؟!
هذه هي الآيات التي ختمت بهذه الفواصلة، قل لي بربك بعد هذا، أي فاصلة تلك التي أقحمت إقحاما ولا نجد فيها إحكاما في هذه الآيات الخمس؟! ولكنه الهوى والحقد، وممن؟ ممن يدّعون المعرفة مع كل أسف.(1/84)
هذا نوع من الفواصل القرآنية الأمر فيه ظاهر كما قلت، وهناك نوع آخر بحاجة إلى نوع من الفكر، وسيجد الفكر فيه ضالته، وكلا النوعين من مظاهر الإعجاز وآيات البيان. ولنمثل لك من النوع الثاني بما يسمح به المقام، ولا نود أن نطيل عليك:
فواصل قرآنية تحتاج الى بيان وكثير فكر
(1) اقرأ هاتين الآيتين من سورة السجدة: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنََا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسََاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ أَفَلََا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا نَسُوقُ الْمََاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعََامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلََا يُبْصِرُونَ،} (27) ولن يحتاج منك الأمر إلى كثير تأمل تحدثت الآية الأولى عن القرون المهلكة من قبل هؤلاء، هو حديث عن التاريخ إذن، وتحدثت الآية الثانية عما يشاهدونه على هذه الأرض كيف ينزل عليها الماء فتنبت الزرع، متاعا لهم ولأنعامهم، وأمر التاريخ لا ريب يسمع سماعا، ولكن ما يشاهدونه يبصرونه إبصارا، قل لي بربك: أي دقة تلك التي في الآيتين الكريمتين! {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعََالَمِينَ.}
(2) في سورة العنكبوت نقرأ هذه الآيات: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْلِيََاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ} (41) وبعد هذه الآية نقرأ قول الله: {وَتِلْكَ الْأَمْثََالُ نَضْرِبُهََا لِلنََّاسِ وَمََا يَعْقِلُهََا إِلَّا الْعََالِمُونَ،} (43) وفكّر فيما عرفه الناس من أمر العنكبوت اليوم، من حيث قوة خيوطه، ومن حيث الفوضى الأسرية إن صحّ التعبير والتمزق العائلي وعدم النظام، فلقد قالوا إن خيوط العنكبوت أقوى من خيوط الحرير، ولكن الفوضى تدب في بيته، فربما أكلت الأنثى زوجها، وبالتالي فالفوضى التي تدب في بيت العنكبوت لا مثيل لها البتة في بيت آخر، إلا أن تكون في أمتنا العنكبوتية في عصرها الحاضر لا في عصورها الماضية، أليس ذلك يحتاج إلى علم {لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ،}
{وَمََا يَعْقِلُهََا إِلَّا الْعََالِمُونَ،} (43) فانظر كيف ختمت الفاصلة بذكر العالمين، لأن قضية العنكبوت لا يدركها إلا أولئك.(1/85)
(2) في سورة العنكبوت نقرأ هذه الآيات: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْلِيََاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ} (41) وبعد هذه الآية نقرأ قول الله: {وَتِلْكَ الْأَمْثََالُ نَضْرِبُهََا لِلنََّاسِ وَمََا يَعْقِلُهََا إِلَّا الْعََالِمُونَ،} (43) وفكّر فيما عرفه الناس من أمر العنكبوت اليوم، من حيث قوة خيوطه، ومن حيث الفوضى الأسرية إن صحّ التعبير والتمزق العائلي وعدم النظام، فلقد قالوا إن خيوط العنكبوت أقوى من خيوط الحرير، ولكن الفوضى تدب في بيته، فربما أكلت الأنثى زوجها، وبالتالي فالفوضى التي تدب في بيت العنكبوت لا مثيل لها البتة في بيت آخر، إلا أن تكون في أمتنا العنكبوتية في عصرها الحاضر لا في عصورها الماضية، أليس ذلك يحتاج إلى علم {لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ،}
{وَمََا يَعْقِلُهََا إِلَّا الْعََالِمُونَ،} (43) فانظر كيف ختمت الفاصلة بذكر العالمين، لأن قضية العنكبوت لا يدركها إلا أولئك.
(3) واقرأ هاتين الآيتين في سورة المائدة {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثََاقَهُ الَّذِي وََاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنََا وَأَطَعْنََا وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ (7) يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوََّامِينَ لِلََّهِ شُهَدََاءَ بِالْقِسْطِ وَلََا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ََ أَلََّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ} (8) [المائدة: 87].
تحدثت الآية الأولى عن الميثاق الذي أخذه الله عليهم، وهو أن يتقوه ويعبدوه، وتلك قضية خاصة بكل فرد، ترجع إلى ما في قلبه وإلى باطنه، ولذا ختمت {إِنَّ اللََّهَ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ.} أما الثانية فقد أمر فيها المؤمنين بالعدل مع أعدائهم، وتلك قضية ظاهرة يطلع عليها الناس، ولذا ختمت بقوله: {خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ.}
(4) ولقد نبه الزمخشري وغيره من الأئمة، إلى ما في قوله سبحانه {وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ لََا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قََالُوا إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلََكِنْ لََا يَشْعُرُونَ} (12) [البقرة: 1211]، {وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمََا آمَنَ النََّاسُ قََالُوا أَنُؤْمِنُ كَمََا آمَنَ السُّفَهََاءُ أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهََاءُ وَلََكِنْ لََا يَعْلَمُونَ} (13) فلما كانت الآية الأولى تتحدث عن الفساد في الأرض، وتلك قضية تتعلق بالحواس الظاهرة، ختمت بقوله: {وَلََكِنْ لََا يَشْعُرُونَ} لأن المشاعر هي الحواس، ولما كانت القضية الثانية تتعلق بالسفه، وهو الجهل، ناسب أن تختم بالعلم.
قال الزمخشري رحمه الله: «فإن قلت: فلم فصلت هذه الآية ب {لََا يَعْلَمُونَ} والتي قبلها ب {لََا يَشْعُرُونَ؟} قلت لأنّ أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق، وهم على الباطل، يحتاج إلى نظر واستدلال حتى
يكتسب الناظر المعرفة، وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدّي إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دنيوي مبني على العادات، معلوم عند الناس، خصوصا عند العرب في جاهليتهم وما كان قائما بينهم من التغاير والتناحر والتحارب والتحازب، فهو كالمحسّ المشاهد ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل، فكان ذكر العلم معه أحسن طباقا له، مساق هذه الآية نجد ما سيقت له أوّل قصة المنافقين، فليس بتكرير، لأن تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم، وهذه في بيان ما كانوا يعملون عليه من المؤمنين من التكذيب لهم والاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وإيهامهم أنهم معهم، فإذا فارقوهم إلى شطار دينهم صدقوهم ما في قلوبهم» (1).(1/86)
قال الزمخشري رحمه الله: «فإن قلت: فلم فصلت هذه الآية ب {لََا يَعْلَمُونَ} والتي قبلها ب {لََا يَشْعُرُونَ؟} قلت لأنّ أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق، وهم على الباطل، يحتاج إلى نظر واستدلال حتى
يكتسب الناظر المعرفة، وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدّي إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دنيوي مبني على العادات، معلوم عند الناس، خصوصا عند العرب في جاهليتهم وما كان قائما بينهم من التغاير والتناحر والتحارب والتحازب، فهو كالمحسّ المشاهد ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل، فكان ذكر العلم معه أحسن طباقا له، مساق هذه الآية نجد ما سيقت له أوّل قصة المنافقين، فليس بتكرير، لأن تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم، وهذه في بيان ما كانوا يعملون عليه من المؤمنين من التكذيب لهم والاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وإيهامهم أنهم معهم، فإذا فارقوهم إلى شطار دينهم صدقوهم ما في قلوبهم» (1).
(5) كما نبهوا إلى هذه الآيات في سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهََا فِي ظُلُمََاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَخْرَجْنََا بِهِ نَبََاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنََا مِنْهُ خَضِراً،} وختمت الآية بقوله:
{إِنَّ فِي ذََلِكُمْ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (99)، فلما كانت قضية النجوم مما يعلمه العرب ويمكن أن تعرفه الأمم الساذجة كذلك ختمت بقوله: {يَعْلَمُونَ،}
ولما كانت قضية النفوس دقيقة لا يطلع عليها إلا الخاصة ختمت بقوله تعالى: {يَفْقَهُونَ،} لأن الفقه أخص من العلم، فهو العلم بدقائق الأمور. ولما كانت الآية الثالثة تظهر فيها دلائل القدرة الإلهية ختمت بقوله سبحانه: {يُؤْمِنُونَ.}
(6) وهذه آية النور: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافََّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلََاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللََّهُ عَلِيمٌ بِمََا يَفْعَلُونَ} (41) [آية: 41] والفعل يختلف عن العمل فالعمل يكون مقصودا لصاحبه، ولكن الفعل قد يكون كذلك وقد
__________
(1) «الكشّاف» (1: 65).(1/87)
لا يكون، فختمت الآية الكريمة، التي تتحدث عن الطير وغيره، بقوله:
{يَفْعَلُونَ،} لأن هذا التسبيح أمر جبليّ فيهم.
(7) وهاتان آيتان في سورة القصص: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللََّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ مَنْ إِلََهٌ غَيْرُ اللََّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيََاءٍ أَفَلََا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللََّهُ عَلَيْكُمُ النَّهََارَ سَرْمَداً إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ مَنْ إِلََهٌ غَيْرُ اللََّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلََا تُبْصِرُونَ،} (72) حيث ختمت آية النهار بالبصر وذلك لأن النهار هو ظرف لأعمال الناس وتصرفاتهم، وختمت آية الليل بالسمع لأن المراد به سمع تدبر، ولأن دوام الليل فيه إعمال حاسة السمع أكثر من إعمال حاسة البصر، إذ الليل غالبا هو محل السمر والسهر، وتلكم قضية سمع أكثر منها قضية بصر.
(8) ومن هذا كلمة التفكر، فلقد ذكرت هذه الكلمة كثيرا في كتاب الله تعالى، ولكن المواضع التي ذكرت فيها جميعا نجدها قضايا معقدة لا يسهل إدراكها وتصورها على كل فرد، بل هي في أمسّ الحاجة إلى قدرات عقلية ومعرفة وعلم، فكثيرا ما ترد في قضايا التناسل، وإخراج شيء من شيء، وتداخل الأشياء بعضها في بعض: {وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهََا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهََا رَوََاسِيَ وَأَنْهََاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ جَعَلَ فِيهََا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهََارَ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3]، {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهََا شَرََابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوََانُهُ فِيهِ شِفََاءٌ لِلنََّاسِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 69].
وقد ترد صيغة التفكر في معرض الاستنتاج والمقارنة بين الأشياء، ومعرض المثل، كما نرى ذلك في آيتي البقرة، آية الخمر والميسر اللذين فيهما إثم كبير ومنافع، وإثمهما أكبر من نفعهما، وكذلك الآية التي ضربت مثلا لمن عمل
بالطاعات ثم تركها وهو أشد ما يكون حاجة إليها: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنََابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ لَهُ فِيهََا مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ وَأَصََابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفََاءُ فَأَصََابَهََا إِعْصََارٌ فِيهِ نََارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمُ الْآيََاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 266].(1/88)
وقد ترد صيغة التفكر في معرض الاستنتاج والمقارنة بين الأشياء، ومعرض المثل، كما نرى ذلك في آيتي البقرة، آية الخمر والميسر اللذين فيهما إثم كبير ومنافع، وإثمهما أكبر من نفعهما، وكذلك الآية التي ضربت مثلا لمن عمل
بالطاعات ثم تركها وهو أشد ما يكون حاجة إليها: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنََابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ لَهُ فِيهََا مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ وَأَصََابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفََاءُ فَأَصََابَهََا إِعْصََارٌ فِيهِ نََارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمُ الْآيََاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 266].
كلمة التفكر إذن جاءت في هذه المواضع: آية الزوجية وما أودعه الله بين الزوجين، آية الأرض وما فيها من رواسي وأنهار، ونظام الزوجية في النبات، وفي كل شيء {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهََارَ،} وفي آية الإنبات من الماء الواحد أشياء مختلفة، وفي آية النحل وما تأكله من الثمرات المختلفة، وكيف يتحول ذلك إلى شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس. كذلك جاءت كلمة التفكر في معرض التمييز بين الأشياء والمقارنة بين إيجابياتها وسلبياتها، وحسناتها وسيئاتها، وذلك يظهر في آية الخمر والميسر، وفي ذلك المثل الذي ضربه الله تبارك وتعالى في قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} والذي جاء في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما حينما سأله عمر رضي الله عنه فقال: «ضربت مثلا لمن عمل بالطاعات فلما كبر سنه وكان أحوج ما يكون إلى الحسنة اجتالته الشياطين عن الحق» (1)، إن مثل هذا حري بالتفكر.
أما كلمة التذكر، فنجدها في مواضع تتسق معها، نقرأ مثلا قول الله تعالى:
{وَمََا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوََانُهُ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}
[النحل: 13]، إن اختلاف ألوان النبات أمر لا يحتاج إلى كثير تفكير ولا كبير عناء، وإنما يحتاج إلى الذاكرة وحدها فحسب، وأما قوله سبحانه وتعالى:
{إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِلْعََالِمِينَ} بجمع عالم، فقد جاءت في حديث خلق السموات والأرض واختلاف الألسنة والألوان، قال تعالى: {وَمِنْ آيََاتِهِ خَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوََانِكُمْ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِلْعََالِمِينَ} [الروم: 22]، ولا شك
__________
(1) انظر: صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة: باب قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ}.(1/89)
أن هذه القضايا أعني خلق السموات والأرض واختلاف الناس ألسنة وألوانا لا يفيها التذكر حقها، ولا بد فيها من علم ومعرفة.
وقد جاءت كلمة عالمين في موضعين في كتاب الله تعالى، في الآية التي معنا، وفي قوله سبحانه: {وَتِلْكَ الْأَمْثََالُ نَضْرِبُهََا لِلنََّاسِ وَمََا يَعْقِلُهََا إِلَّا الْعََالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، وهذه الآية جاءت بعد المثل الذي ضربه الله تعالى لمن يتخذ أولياء من دون الله كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، وتلك قضية لعمر الحق تحتاج أكثر ما تحتاج إلى الدراسة والعلم، وذلك كثير في كتاب الله تعالى.
(9) وفي سورة المجادلة جاء قول الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيََامُ شَهْرَيْنِ مُتَتََابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسََّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعََامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذََلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللََّهِ وَلِلْكََافِرِينَ عَذََابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمََا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنََا آيََاتٍ بَيِّنََاتٍ وَلِلْكََافِرِينَ عَذََابٌ مُهِينٌ} (5) [المجادلة: 54].
فالآية الأولى جاءت للحث على تنفيذ حدود الله تبارك وتعالى وإخراج الكفارات، أما الآية الثانية فقد ذكرت في سياق أولئك الذين لا يقومون بتعطيل الحدود فقط، بل يستبدلون بها غيرها مستهينين بها، ساخرين منها، وشتان بين الفريقين، لذا ختمت كل آية بما يستحقه كل منهما فالذي يترك الحدود لشهوة في نفسه يستحق العذاب الموجع الأليم، أما الذي يتركها استهانة بها، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، كما نجد اليوم في مجتمعاتنا، فأولئك يستحقون مع الألم الإهانة، لأن الجزاء من جنس العمل. ومثل هذا ما جاء جزاء للذين يؤذون الله ورسوله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللََّهُ فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذََاباً مُهِيناً} [الأحزاب: 57].
ومما يدل على إحكام الفاصلة في كتاب الله تعالى إحكاما فيه دقة الصنعة وإحكام الروعة أننا نجد هذا القرآن على طوله وكثرة آياته، فهي تربو على ستة
آلاف آية، تذكر فيه الفاصلة مرة واحدة أو مرتين، ولو كانت القضية كما جاء في دائرة المعارف قضية ختم عشوائي هدفه الكلام دون أن يكون له غاية لوجدنا أن هذه الفاصلة لم يكن حريا بها أن تذكر في القرآن كله مرة واحدة أو مرتين، بل وضعت مرة في كل مائتي آية، أو ثلاثمائة آية على الأقل. أما مجيئها كذلك فأمر يدعو إلى الدهشة ويبعث على التفكير، هذه واحدة.(1/90)
ومما يدل على إحكام الفاصلة في كتاب الله تعالى إحكاما فيه دقة الصنعة وإحكام الروعة أننا نجد هذا القرآن على طوله وكثرة آياته، فهي تربو على ستة
آلاف آية، تذكر فيه الفاصلة مرة واحدة أو مرتين، ولو كانت القضية كما جاء في دائرة المعارف قضية ختم عشوائي هدفه الكلام دون أن يكون له غاية لوجدنا أن هذه الفاصلة لم يكن حريا بها أن تذكر في القرآن كله مرة واحدة أو مرتين، بل وضعت مرة في كل مائتي آية، أو ثلاثمائة آية على الأقل. أما مجيئها كذلك فأمر يدعو إلى الدهشة ويبعث على التفكير، هذه واحدة.
ختم بعض الفواصل باسماء الله واختلافها تقديما وتاخيرا
أما الثانية: فلقد ختمت كثير من الفواصل بأسماء الله تبارك وتعالى، إلا أن هذه الأسماء قدّم بعضها تارة وأخر أخرى، مثال ذلك:
1 - ذكر في آيات كثيرة: {إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ،} {وَاللََّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.} وهذا أمر طبعيّ لأن المغفرة هي ستر الذنب، وأما الرحمة فهي تفضل وإنعام من الله، ولا ريب أن ستر الذنب ينبغي أن يكون أولا، فالتخلية مقدمة على التحلية، كما يقولون، إن الإنسان يزيل ما عليه من درن ثم يتزين. ولكننا نجد آية واحدة في كتاب الله تعالى قدمت فيها الرحمة على المغفرة، وهي قوله سبحانه: {يَعْلَمُ مََا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمََا يَخْرُجُ مِنْهََا وَمََا يَنْزِلُ مِنَ السَّمََاءِ وَمََا يَعْرُجُ فِيهََا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2]، وإذا تساءلنا عن سبب هذه الفاصلة التي لم يوجد غيرها في القرآن وجدنا أن سياق الآيات نفسها حتم ذلك، فالفواصل الأولى كلها كان يتقدمها ما يشعر بالذنب والخطأ أو التقصير، لذا كانت المغفرة أولا، ولكن هذه الآية هنا آية سبأ لم يتقدم فيها شيء من هذا، وإنما كل الذي ذكر هو حمد الله الذي له ما في السموات والأرض، والذي يعلم ما في باطن الأرض وما يخرج منها، ويعلم داخلها وخارجها، ويعلم ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وفي هذا من مصالح الناس الكثير، وهو لا يعدو أن يكون رحمة الله تبارك وتعالى، لذلك قدمت الرحمة على المغفرة.
وشبيه بهذا تقديم المغفرة على الحلم في مثل قوله سبحانه: {وَاللََّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225]، فقد قدمت المغفرة على الحلم وسياق هذه الآيات يحتم
ذلك ونذكر على سبيل المثال للتدبر قول الله تعالى: {لََا يُؤََاخِذُكُمُ اللََّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمََانِكُمْ وَلََكِنْ يُؤََاخِذُكُمْ بِمََا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللََّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225]، فإن كسب القلب وإصراره على الخطأ وتعمد الذنب يحتاج إلى مغفرة أولا، وإلى حلم ثانيا.(1/91)
وشبيه بهذا تقديم المغفرة على الحلم في مثل قوله سبحانه: {وَاللََّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225]، فقد قدمت المغفرة على الحلم وسياق هذه الآيات يحتم
ذلك ونذكر على سبيل المثال للتدبر قول الله تعالى: {لََا يُؤََاخِذُكُمُ اللََّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمََانِكُمْ وَلََكِنْ يُؤََاخِذُكُمْ بِمََا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللََّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225]، فإن كسب القلب وإصراره على الخطأ وتعمد الذنب يحتاج إلى مغفرة أولا، وإلى حلم ثانيا.
فانظر كيف غوير بين الرحمة والحلم، فجاء كل في الموضع المناسب له.
وقد يتقدم الحلم على المغفرة، وإذا نظرنا إلى الآيات التي جاءت كذلك رأينا فيها دقة الصنع، كما قلت، وإحكام الربط، فلقد تقدم الحلم على المغفرة في آيتين، نذكر منهما واحدة ونرشدك إلى الثانية لتتأملها.
قوله تعالى في سورة فاطر: {وَلَئِنْ زََالَتََا إِنْ أَمْسَكَهُمََا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كََانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الآية: 41]، امتن الله على الخلق جميعا، بأنه يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا لا يمسكهما أحد بعد الله تبارك وتعالى، وقد سير سبحانه هذا العالم على نظام بديع بحيث لا يتصادم نجمان أو يقع أحد هذه الأجسام العلوية على الأرض، وذلك مع كثرة المعاصي التي يفعلها الخلق، أليس ذلك حلما عظيما من الله رب العالمين! ولذلك قدم الحلم في الآية الكريمة.
والآية الثانية في سورة الإسراء: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمََاوََاتُ السَّبْعُ} [آية: 25].
2 - ومن هذا العلم والحكمة، فكثير من الآيات ختمت ببيان أن الله عليم حكيم، ولكن بعضها جاء على عكس ذلك فقدمت فيه الحكمة على العلم، ففي قصة إبراهيم عليه السّلام في سورة الذاريات حينما بشر بالغلام وعجبت امرأته، وتساءلت كيف تلد وهي عجوز عقيم، قيل لها: {قََالُوا كَذََلِكَ قََالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ،} (30) وفي قصة إبراهيم كذلك في سورة الأنعام وقد أعطاه الله الحجة على قومه جاء قوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (128) ونظن أن تقديم الحكمة هنا أمر يستدعي الإعجاب والخشوع والإجلال.(1/92)
وعلى هذا يبين أن أمر الفاصلة برهان صدق على هذا القرآن، وأنه لا ريب فيه من رب العالمين، وليس كما جاء في الموسوعة البريطانية من أنها جعلت ختم الآيات الفاصلة دليلا على أن القرآن مجرد إنشاء ذي أسلوب عشوائي لا غرض له إلا أن يأتي بما يختم به الآيات، دون هدف أو حكمة! سبحانك هذا بهتان عظيم.
القضية العاشرة: التعريب:
نحب أن نقرر أولا أن الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم إنما نزل عليه هذا القرآن لا لشعبه فحسب، وإنما هو للناس عامة، وذلك بمبادئه التشريعية والأخلاقية، وحقائقه التاريخية والعلمية، والقرآن نفسه يؤكد هذه الحقيقة إذا أنعمنا النظر في الآيات، فحينما كان الحديث عن التوراة بين القرآن أنها خاصة ببني إسرائيل وحدهم، وليست كتابا عاما للناس جميعا، ولكن الأمر كان على عكس ذلك تماما حينما كان الحديث عن القرآن، يقول الله تعالى: {وَآتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ وَجَعَلْنََاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرََائِيلَ} [الإسراء: 2]، أما في شأن القرآن، فنقرأ قوله سبحانه:
{شَهْرُ رَمَضََانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنََّاسِ} [البقرة: 185].
هل فى القرآن الفاظ غير عربيه
أما قضية الألفاظ التي ليست عربية في كتاب الله فتلك بحاجة إلى بحث وتحقيق، ولقد كانت للعلماء قديما وحديثا عناية تامة بهذه القضية، وبعد أن توسعت دائرة البحث اللغوي، ونعني به علم اللغات وبخاصة بعد اكتشاف الآثار الكثيرة ودراسة الظواهر والعلاقات بين فئات اللغات المتعددة وما بينها من تشابه وتشابك، أقول: بعد هذا كله لم تعد هناك مشكلة تستعصي على البحث، أو لغز يصعب حلّه.
درس علماء المسلمين هذه القضية، فمنهم من رأى أن في القرآن كلمات هي في أصلها غير عربية، ولكن القرآن لم يستعملها وهي كذلك لأن هذه
الكلمات قبل نزول القرآن بأزمنة انتقلت إلى العرب، فأجرى عليها العرب تعديلات تتفق مع قواعدهم ومقاييسهم اللغوية، وأخضعوها لمنطقهم اللغوي، فأصبحت منسجمة في أوزانها ونطقها مع القواعد والمقاييس العربية، وهذه كلمات قليلة بالطبع، لا كما يصورها بعض الكاتبين.(1/93)
درس علماء المسلمين هذه القضية، فمنهم من رأى أن في القرآن كلمات هي في أصلها غير عربية، ولكن القرآن لم يستعملها وهي كذلك لأن هذه
الكلمات قبل نزول القرآن بأزمنة انتقلت إلى العرب، فأجرى عليها العرب تعديلات تتفق مع قواعدهم ومقاييسهم اللغوية، وأخضعوها لمنطقهم اللغوي، فأصبحت منسجمة في أوزانها ونطقها مع القواعد والمقاييس العربية، وهذه كلمات قليلة بالطبع، لا كما يصورها بعض الكاتبين.
وخلاصة هذا القول أن ورود هذه الكلمات في القرآن الكريم لم يكن إلا بعد استعمال العرب لها ردحا من الزمن، وبعد أن قاموا بتشذيبها وتهذيبها بالصبغة العربية الخالصة.
ولكن المحققين من الأئمة ذهبوا غير هذا المذهب ولم يرضهم هذا الرأي، فقرروا أن هذه الكلمات ليست إلا كلمات عربية في أصلها ونشأتها، وورودها في لغات غير العربية ليست دليلا على أنها أجنبية، فهناك تشابه في كثير من الكلمات وبخاصة في اللغات السامية، فإذا كانت هذه الكلمات ذكرت في لغات متعددة فلا يدل هذا على أنها بعيدة من العربية، وقد نرجح هذا القول حينما نعلم أن جرس الكلمات في العربية يختلف عنه في اللغات الأخر.
وهذا القول نص عليه ابن جرير الطبري شيخ المفسرين في مقدمة «تفسيره»، ودافع عنه بقوة منطقية، وهو ما ارتضاه كثير من الباحثين المنصفين المحدثين.
إن تشابه الكلمات وبخاصة الساميّة منها من الأمور البدهية، يقول ابن الأثير في «المثل السائر» وهو يتحدث عن اللغة العربية وما لها من ميزات وخصائص:
«وحضر عندي في بعض الأيام رجل من اليهود، وكنت إذ ذاك بالديار المصرية، وكان لليهود في هذا الرجل اعتقاد لمكان علمه في دينهم وغيره، وكان لعمري كذلك، فجرى ذكر اللغات وأن اللغة العربية هي سيدة اللغات، وأنها أشرفهن مكانا وأحسنهن وضعا، فقال ذلك الرجل: كيف لا تكون كذلك وقد جاءت آخرا فنفت القبيح من اللغات قبلها وأخذت الحسن، ثم إن واضعها تصرّف في جميع اللغات السالفة، فاختصر ما اختصر، وخفف ما خفف، فمن
ذلك اسم الجمل، فإنه عندنا في اللسان العبراني «كويل» ممالا على وزن فوعيل، فجاء واضع اللغة العربية وحذف منها الثقيل المستبشع، وقال: جمل، فصار خفيفا حسنا، وكذلك فعل في كذا وكذا، وذكر أشياء كثيرة، ولقد صدق في الذي ذكره، وهو كلام عالم به» (1).(1/94)
«وحضر عندي في بعض الأيام رجل من اليهود، وكنت إذ ذاك بالديار المصرية، وكان لليهود في هذا الرجل اعتقاد لمكان علمه في دينهم وغيره، وكان لعمري كذلك، فجرى ذكر اللغات وأن اللغة العربية هي سيدة اللغات، وأنها أشرفهن مكانا وأحسنهن وضعا، فقال ذلك الرجل: كيف لا تكون كذلك وقد جاءت آخرا فنفت القبيح من اللغات قبلها وأخذت الحسن، ثم إن واضعها تصرّف في جميع اللغات السالفة، فاختصر ما اختصر، وخفف ما خفف، فمن
ذلك اسم الجمل، فإنه عندنا في اللسان العبراني «كويل» ممالا على وزن فوعيل، فجاء واضع اللغة العربية وحذف منها الثقيل المستبشع، وقال: جمل، فصار خفيفا حسنا، وكذلك فعل في كذا وكذا، وذكر أشياء كثيرة، ولقد صدق في الذي ذكره، وهو كلام عالم به» (1).
أما قضية الأعلام، سواء أكانت أعلاما لأشخاص، كأسماء بعض الأنبياء وغيرهم، أم لكتب كالتوراة والإنجيل، فلا تصلح دليلا على اشتمال القرآن على كلمات غير عربية، إذ إن أمر الأعلام من الأمور الواضحة البينة، فالأعلام سواء مهما تباعدت المسافات والأزمنة وتنوعت اللغات، ومع ذلك، فلقد تصرفت العربية في هذه الأعلام تصرفا يتفق مع طبيعتها وخصائصها.
أما لفظة إبليس، فمع أنه علم من هذه الأعلام، ومع ذلك يذهب كثير من العلماء إلى أن أصل اشتقاقه عربي، ويترجح ذلك عندنا لورود المادة في العربية، فلقد جاء في القرآن الكريم: {أَخَذْنََاهُمْ بَغْتَةً فَإِذََا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] أي آيسون انقطع رجاؤهم.
وأما كلمتا الإيمان والصلاة، فلقد تحدثنا عنهما في الفصل الأول عند الحديث عن مادة (قرآن).
لا يرتاب فى فصاحة وروعة الالفاظ القرآنية
بقيت كلمة أخيرة تستحق منا العجب والإشفاق، إن أحدا من المسلمين أيا كانت ثقافته لا يساوره الشك مطلقا في روعة القرآن وإعجازه، ففصاحة القرآن لا تقف عند الكلمات فحسب، فهناك الأسلوب والتراكيب فضلا عن الموضوعات ذات السمو في المعنى والجدّة في الأحكام. إننا لن نجد أمة تقدس كتابها ولكن لا عن عاطفة هو جاء كهذه الأمة، حتى أولئك الذين يرون أن هناك ألفاظا معربة في القرآن الكريم يقفون موقف الإعجاب بحماس لا يقل عن
__________
(1) «المثل السائر» لابن الأثير (1: 198).(1/95)
غيرهم، بل موقف البرهنة وإقامة الحجج على فصاحة هذا القرآن، فهذه الكلمات بعد أن هذبها العرب أولا، إن كانت غير عربية، أضفى عليها القرآن روعة جمال وهيبة جلال، وانتزع منها وأزال عنها أي مظهر من مظاهر العجمة.
ولقد كنا نود أن لا يصل الأمر إلى هذا الحدّ الذي يراد فيه للحقيقة أن تنطمس ببهرج الادعاء وغبار التهم ونخالة الشائعات، {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}
[الزمر: 28]، وكل ما عدا ذلك فهو شطط ولجج.
ولقد كان العرب الذين نزل فيهم أولى الناس أن يثيروا مثل هذه الشبهات، ولكنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك. ولقد قال القرآن نفسه {وَلَوْ جَعَلْنََاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقََالُوا لَوْلََا فُصِّلَتْ آيََاتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44].
إن هذه القضية لا يوجد لها أثر ما في نفوس المسلمين والمنصفين من غيرهم كذلك.
* * *
الفصل الثالث محتويات القرآن ما جاء في الموسوعة وردّه في اثنتي عشرة قضية(1/96)
* * *
الفصل الثالث محتويات القرآن ما جاء في الموسوعة وردّه في اثنتي عشرة قضية
جاء في الموسوعة: «يصعب جدا تصنيف محتويات القرآن، حيث إنه إذا صنفت محتوياته حسب الفترة الزمنية فإن هذا يؤدي إلى تناقض، حيث إن الموضوع المعالج لبعض المواد يختلف باختلاف الفترة الزمنية.
إن السور الأولى للقرآن تركز على أن الله هو خالق هذا الكون، وأن نعمه على الجنس البشري يستحق منهم الثناء والحمد عليها، وأن الله يجازي أو يعاقب الناس على حسب موقفهم نحوه، كما أن هنالك وصفا لحساب الناس، حيث بعضهم ينال نعيم الجنة وآخرون يعذبون في نار جهنم، ومن الغريب والعجيب حقا أنه ليس هنالك إشارة إلى وحدانية الخالق في الفصول الأولى من القرآن.
وهنالك مصدر يقول إن محمدا اعترف بالسلطة النسبية لثلاثة آلهة هم اللات ومناة والعزى، ولكنه عاد وألغى ذلك في وقت لاحق. كما أن هنالك بعض الإشارات إلى تغيير الطقوس الدينية للصلاة.
إلا أن السور التي جاءت مؤخرا تؤكد على مبدأ وحدانية الخالق، كما أنها تسفه الآلهة والأصنام التي يعبدها العرب، والإشارة في هذه السور إلى يوم البعث والجنة والنار أقل ذكرا وأقصر في التعبير عنها، كما أن هنالك تنديدا لعبدة الأصنام وللجاحدين والكافرين برسالة محمد، كما أن هنالك إشارة في هذه السور إلى الأنبياء الذين أنذروا شعوبهم وقوبلوا بالاستنكار فحلّت بهم المصائب العنيفة عقابا لهم. إنّ فشل الأنبياء في إقناع شعوبهم يعكس أيضا
تجربة محمد وفشله في تبليغ دعوته. إن محمدا ما هو إلا حلقة في سلسلة من رسل جاءت قبله لتنذر شعوبها عن يوم الحساب، فجاء هو كآخر حلقة في هذه السلسلة، كما جاء «ماني» في القرن الثالث بعد الميلاد كمصلح إيراني جاء كآخر حلقة في سلسلة من الأنبياء من قبله.(1/97)
إلا أن السور التي جاءت مؤخرا تؤكد على مبدأ وحدانية الخالق، كما أنها تسفه الآلهة والأصنام التي يعبدها العرب، والإشارة في هذه السور إلى يوم البعث والجنة والنار أقل ذكرا وأقصر في التعبير عنها، كما أن هنالك تنديدا لعبدة الأصنام وللجاحدين والكافرين برسالة محمد، كما أن هنالك إشارة في هذه السور إلى الأنبياء الذين أنذروا شعوبهم وقوبلوا بالاستنكار فحلّت بهم المصائب العنيفة عقابا لهم. إنّ فشل الأنبياء في إقناع شعوبهم يعكس أيضا
تجربة محمد وفشله في تبليغ دعوته. إن محمدا ما هو إلا حلقة في سلسلة من رسل جاءت قبله لتنذر شعوبها عن يوم الحساب، فجاء هو كآخر حلقة في هذه السلسلة، كما جاء «ماني» في القرن الثالث بعد الميلاد كمصلح إيراني جاء كآخر حلقة في سلسلة من الأنبياء من قبله.
ومن الجدير بالذكر أن بعض الأنبياء المشار إليهم في القرآن هم أنفسهم مشار إليهم في التوراة والإنجيل، مثال على ذلك نوح وموسى وإبراهيم وعيسى، وآخرون يظهر أن أسماءهم مشتقة من أصل عربي كهود وصالح، كما أن هناك ذكرا لأسماء مثل مريم وزكريا ويوحنا المعمدان وداود وسليمان ويعقوب.
وفي نهاية الفترة التي قضاها الرسول في مكة بدأ يظهر التغير في أسلوب القرآن، إذ بدأت الآيات تطول ولغتها العنيفة تتحول إلى أسلوب نثري لطيف، ثم هنالك أمثلة تضرب مثل المطر الذي يحيي الأرض بعد موتها تماما كما يحيي الله الأموات يوم القيامة، ثم هنالك قصة البحارة الذين أخذوا على حين غرة برياح عاصفة ثم دعوا الله أن ينقذهم ثم نسوه بمجرد أن أنقذهم، وبذلك إشارة إلى التقلب في طبيعة البشر.
كما أن هنالك آيات أوحي بها سابقا ثم تعاد كما هي مع إضافات قليلة في التوضيح والبيان. إن قدرة الخالق ومعجزاته وحكمته في الخلق هي الفكرة التي ركز عليها بكل ما أوتيت الآيات من بيان، إلا أن العنصر الوصفي لنهاية هذا العالم لم يركز عليها، بل إن التركيز كان على أن ذلك يتم بتدخل الإله العادل.
إن الإشارة إلى الأنبياء السابقين قد ركز عليها أكثر في تلك الحقبة، إلا أن ذكر عيسى قد جاء بصورة أقل، وقد ركز كثيرا على وحدانية الخالق، كما أن الآلهة التي يعبدونها من غير الله لن تكون قادرة على حماية عابديها يوم القيامة». اهـ.
في هذا الفصل، وتحت هذا العنوان الذي عنونت له الموسوعة البريطانية (محتويات القرآن) سنتحدث إن شاء الله عن القضايا التالية:(1/98)
القضية الأولى: موضوعات القرآن والفترة الزمنية.
القضية الثانية: الثواب والعقاب.
القضية الثالثة: الوحدانية.
القضية الرابعة: الغرانيق.
القضية الخامسة: الصلاة في العهدين المكي والمدني.
القضية السادسة: موضوعات السور المتأخرة.
القضية السابعة: وظيفة الأنبياء.
القضية الثامنة: المقارنة بين الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم وبين ماني.
القضية التاسعة: أسلوب القرآن.
القضية العاشرة: تعدد النزول.
القضية الحادية عشرة: نهاية العالم.
القضية الثانية عشرة: هدف القصص القرآني.
القضية الأولى: موضوعات القرآن والفترة الزمنية:
تذكر الموسوعة أنه: «يصعب جدا تصنيف محتويات القرآن، حيث إنه إذا صنفت محتوياته حسب الفترة الزمنية فإن هذا يؤدي إلى تناقض، حيث إن الموضوع المعالج لبعض المواد يختلف باختلاف الفترة الزمنية».
ونود في هذه القضية أن نتحدث:
أولا: عن موضوعات القرآن.
ثانيا: اختلاف هذه الموضوعات في أثناء الفترة الزمنية التي نزل فيها، حيث إن المستشرقين مولعون بتقسيم الزمن الذي نزل فيه القرآن إلى فترات متعددة، وسيأتي لهذه القضية حديث خاص فيما بعد إن شاء الله.(1/99)
أولا: موضوعات القرآن:
إن القرآن كتاب سماوي جاء يؤكد أنه كتاب الإسلام الذي أنزل على قلب رسول الإسلام: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعََالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى ََ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (194) [الشعراء: 194192]، كما جاء يؤكد أن فيه الهداية للطريق الأقوم:
{إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وهو محفوظ من كل شائبة تغير: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} [الحجر: 9]، وأخيرا لا آخرا بيّن فيه أنه مشتمل على كل المبادئ العامة والشئون التي لا بد منها لهذا الإنسان: {مََا فَرَّطْنََا فِي الْكِتََابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
ونتيجة لهذه المقدمات يمكننا أن نستنتج بطمأنينة أن موضوعات القرآن هي الموضوعات التربوية التي لا يستغني عنها الإنسان:
1 - لجسمه وروحه وفكره.
2 - في المحيط الفردي والأسرة والمجتمع والدولة والعالم أي: القضايا الفردية والأسرية والاجتماعية والدولية.
3 - لشئون الدنيا والآخرة.
وإذن فموضوعات القرآن العامة التي تنتظم فكر الإنسان وسلوكه لا بدّ من أن تنتظم العقائد والعبادات والتشريع والأخلاق وما يتصل بذلك من حقائق الكون وسنن الاجتماع وقضايا التاريخ.
أما إذا أريد لهذه الموضوعات أن تصنف تصنيفا خاصا فذلك أمر لا استحالة فيه ولا صعوبة، وهناك دراسات موضوعية كثيرة عرفت في العصر الحديث باسم التفسير الموضوعي للقرآن، وهو أن يؤخذ كل موضوع على حدة، فيؤخذ موضوع العقائد مثلا: الإلهيات، الرسالة، النبوة، السمعيات، وكل من هذه الموضوعات الرئيسة يشتمل على أمور كثيرة متعددة، ويؤخذ
موضوع الأحكام، وسنجد فيه كذلك أمورا كثيرة. وهكذا تدرس القصة والأرض والسماء والحيوان والبحار والكواكب، وهكذا تؤخذ قضايا الإنسان والأخلاق.(1/100)
أما إذا أريد لهذه الموضوعات أن تصنف تصنيفا خاصا فذلك أمر لا استحالة فيه ولا صعوبة، وهناك دراسات موضوعية كثيرة عرفت في العصر الحديث باسم التفسير الموضوعي للقرآن، وهو أن يؤخذ كل موضوع على حدة، فيؤخذ موضوع العقائد مثلا: الإلهيات، الرسالة، النبوة، السمعيات، وكل من هذه الموضوعات الرئيسة يشتمل على أمور كثيرة متعددة، ويؤخذ
موضوع الأحكام، وسنجد فيه كذلك أمورا كثيرة. وهكذا تدرس القصة والأرض والسماء والحيوان والبحار والكواكب، وهكذا تؤخذ قضايا الإنسان والأخلاق.
وهذا التفصيل لا شك فيه مسائل وأمور وموضوعات كثيرة أذكر لك واحدا منها، وهو الخاص بالأحكام، كما فهرس له في بعض الكتب الخاصة بهذا الشأن:
الإجارة، الاجتهاد، الإرث، الاستئذان، الأسرى، الإيلاء، الأيمان، البيع، البيعة، التحية، الجار، الجزية، الجهاد، الحج، الحدّ، الحرم، الحضانة، الحكم والخلافة والولاية، الحمل، الحيض، الخمر، الدية، الذكاة، الرضاع، الدين، الربا، الرق، الرهن، الزكاة، الزنا، السرقة، الشعر، الشهادة والإقرار، الشهيد، الصدقة، الصيد، الصلاة والمساجد، الصلح، الضمان، الطلاق، الطهارة، الظن، الظهار، الاعتكاف، العدة، الحمل والفصال، العلم، العهد والعقد، العين، الغنائم، القرعة، القصاص، القضاء، قطع السبيل، الكذب، الكفالة، كنز المال، اللواط، ما حرم الله، المراهنة، المشاورة، المكره، المهر، النكاح، النذر، النسب، النسيء، النفقة، الهبة، الوصية، الوضوء، الوقف، الوكالة، اليتيم، اليمين، أحكام متفرقة (التصوير، الخنثى، السحر، السلف، الغناء واللهو، الفرار من الطاعون، المساجد وأحكامها، من عادات الجاهلية النظر إلى ما لا يحل شرعا)، الهجرة (1).
وكل عنوان من هذه العناوين يمكن أن يدخل تحته مسائل متعددة، وهكذا يمكننا أن نصنف الموضوعات الرئيسة، ولماذا نبعد كثيرا وهذا هو المستشرق الفرنسي (جولاپوم) يظهر كتابا وهو «تفصيل آيات القرآن»، يتحدث فيه عن الموضوعات القرآنية، وقد استدرك عليه (ادوارد فوتيه)، وترجمه إلى العربية الأستاذ الفاضل محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله.
__________
(1) انظر «أحكام القرآن» لابن العربي المالكي الجزء الرابع (فهرس مرجع الأحكام).(1/101)
إن تصنيف موضوعات القرآن كما جاءت فيه الآيات يحتاج إلى دقة ومعرفة سواء أنظرنا إلى القرآن من حيث ترتيب نزوله أم من حيث ما هو عليه الآن في المصحف.
وهنا خطأ فني وقعت فيه الموسوعة، وهو غير الخطأ العلمي، وهو ما ذكروه من أن صعوبة التصنيف ترجع إلى اختلاف الموضوع الواحد اختلافا ناشئا عن الأزمنة المتفرقة التي ذكر فيها هذا الموضوع وهذه قصة ليس لها دخل في صعوبة التصنيف، فما دام الموضوع واحدا فيمكن أن يذكر بخصائصه التي تحدثت عنها كل فترة على حدة، فأنا يمكن أن أذكر إذا كنت مولعا بالشعر في بدء حياتي، ثم خفّ هذا الولع وحلّ محله الضجر والسآمة، أن أذكر هذا تحت عنوان (الشعر) وأذكر حالات الاختلاف بين كل فترة وفترة. وهكذا لو افترضنا أي موضوع من موضوعات القرآن، وليكن الحديث عن الصلاة أو الخلق أو الجهاد، فيمكن أن يوضع هذا الموضوع وأن توضع تحته عناوين رئيسة تتناسب مع الفترات الزمنية المتعاقبة. ومن هنا قلنا إن هذا خطأ فني، أما الخطأ العلمي فهو موضوعنا الثاني الذي نتحدث عنه في هذه القضية.
ثانيا: اختلاف الموضوعات في الفترة الزمنية التي نزل فيها:
من الأمور البدهية أن العاقل الفاضل من بني البشر لا يحب أن يكون متناقضا في عمله أو فكره أو مسلكياته على تعدد جهاتها، ولقد حدثنا القرآن عن هذا الكون الذي خلقه الله بأنه منسجم مع هذه القاعدة السليمة: {مََا تَرى ََ فِي خَلْقِ الرَّحْمََنِ مِنْ تَفََاوُتٍ} [الملك: 3]، ومن حسن الحظ أن القرآن الكريم حدثنا عن نفسه: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} [النساء:
82]، وفي آية أخرى: {لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}
[فصلت: 42] هذا ما قاله الله سبحانه، وهذا ما تيقنه الباحثون المنصفون،
مسلمون وغيرهم. وكنا نودّ أن تذكر الموسوعة شيئا من هذا الاختلاف في الموضوعات التي اختلفت حسب الفترة الزمنية.(1/102)
82]، وفي آية أخرى: {لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}
[فصلت: 42] هذا ما قاله الله سبحانه، وهذا ما تيقنه الباحثون المنصفون،
مسلمون وغيرهم. وكنا نودّ أن تذكر الموسوعة شيئا من هذا الاختلاف في الموضوعات التي اختلفت حسب الفترة الزمنية.
إن الهدف من أقوالهم هذه هو أن القرآن لم يكن على وتيرة واحدة وإنما هو نتيجة لتفاعلات كثيرة في حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهذا ما جعله يتناقض، ونحن ندّعي أن القرآن وحي أنزله الله الذي يعلم السر في السموات والأرض.
وعلى كل حال فهذا القرآن أمامنا في رقّ منشور لكل ذي لبّ وبصيرة، ويمكننا أن نبحثه آية آية لنرى أي تناقض وأي اختلاف ذلك الذي تأثر بالفترة الزمنية. إن المبادئ الأخلاقية في القرآن واحدة يمكن أن ينشأ منها دستور أخلاقي (1)، أما قصص الأنبياء عليهم السلام وأخبار التاريخ فهي واحدة في القرآن كله، فهم الصفوة المختارة من البشر، وأخبارهم مع أقوالهم كانت تذكر في سور كثيرة، يذكر في كل سورة ما يناسب موضوعها من هذه الأخبار والأنباء.
أما قضايا العقيدة فهي أشد ما تكون تماسكا، وأكثر ما تكون تكاملا في القرآن كله، فما جاء عن الله وصفاته واليوم الآخر ليس فيه رائحة تناقض، أو أي إشكال. وهكذا نقول في القضايا القرآنية جميعها، وأين هذا مما نجده في الكتب السابقة، وليس هذا موضوع حديثنا بالطبع، وإن كنا نحيل القارئ على كتاب «الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة» لموريس بوكاي، وقد نتبرع نحن محاولين أن نفتش عن بعض هذه المواضع التي نقلتها الموسوعة عن المستشرقين فنفترض أن هذا التناقض قد يبدو في قضايا قرآنية خاصة.
1 - الحديث عن اليوم الآخر: حيث ذكر أن الجبال تارة تكون كالعهن المنفوش، وتارة تبس بسّا، وتارة تكون سرابا، وتنسف نسفا، وأن السماء تكون
__________
(1) وهذا ما فعله أستاذنا الفاضل العلامة الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله في كتابه «الدستور الأخلاقي في القرآن».(1/103)
كالمهل تارة، وتفتح أبوابها تارة، وتبدّل تارة ثالثة، فإذا وافق افتراضنا هذا ما عنته الموسوعة ومصادرها، فإن هذا بعيد كل البعد لأن الآيات تتحدث عن حالات كثيرة يحدث فيها هذا التغيير للكون، فهو تغيير له مراحل متعددة، والسور القرآنية تتحدث كل واحدة منها عن مرحلة من هذه المراحل.
2 - قد يكون الهدف من ذلك آيات الصبر والتحمل التي كانت في العهد المكي، وآيات الجهاد التي كانت في العهد المدني، وهذا ليس أقل من سابقه بعدا عن التناقض، فتلك حالات متعددة تنشأ كل حالة منها عن الظرف الذي يعيشه المسلمون.
3 - وربما ولا زلنا نفترض نحن ما حملهم على هذا القول يقصدون من هذا التناقض ما كان من نسخ في بعض الأحكام، وهذه الأحكام التي نسخت مع قلتها، فالآيات المنسوخة لا تزيد على بضع آيات في القرآن كله، ومع ذلك فإن هذا النسخ الذي كان له حكمه ومسوّغاته وكان يتدرج تدرجا تربويا في تربية المسلمين، لا يمكن أن يدّعي مدّع بأنه دليل التناقض.
والحق أننا لم نجد أي شيء نفترضه يمكن أن يكون فيه حجة لهذا القول، ولا نود أن نشعب القول في هذه القضية الظاهرة، فالقرآن كله وحدة تامة يكمل بعضه بعضا، ويفسر بعضه بعضا، وهو كذلك في كل ما عرض له من موضوعات.
وأذكر هنا أن هنالك دعوى للمستشرقين تفرق بين حديث القرآن عن اليهود في العهد المكي، وبين حديثه عنهم في العهد المدني، وبين الحديث عن الصفح في العهد المكي والحديث عن الجهاد والشدة في العهد المدني، وهي تفرقة في الحقيقة لا تقوم على أساس من المنطق، فاليهود لم يتغير حديث القرآن عنهم في جميع الآيات مكيها ومدنيها، وها هو ينكر عليهم اختلافهم وبغيهم في آيات مكية كثيرة: آية الجاثية: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلََّا مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَهُمُ الْعِلْمُ} [الجاثية: 17]، وآية يونس: {وَلَقَدْ بَوَّأْنََا بَنِي إِسْرََائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 93]، كما ندد بهم في
جرائمهم التي ارتكبوها مع النصارى والتي جاءت في سورة البروج: {قُتِلَ أَصْحََابُ الْأُخْدُودِ} [الآيات: 84].(1/104)
وأذكر هنا أن هنالك دعوى للمستشرقين تفرق بين حديث القرآن عن اليهود في العهد المكي، وبين حديثه عنهم في العهد المدني، وبين الحديث عن الصفح في العهد المكي والحديث عن الجهاد والشدة في العهد المدني، وهي تفرقة في الحقيقة لا تقوم على أساس من المنطق، فاليهود لم يتغير حديث القرآن عنهم في جميع الآيات مكيها ومدنيها، وها هو ينكر عليهم اختلافهم وبغيهم في آيات مكية كثيرة: آية الجاثية: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلََّا مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَهُمُ الْعِلْمُ} [الجاثية: 17]، وآية يونس: {وَلَقَدْ بَوَّأْنََا بَنِي إِسْرََائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 93]، كما ندد بهم في
جرائمهم التي ارتكبوها مع النصارى والتي جاءت في سورة البروج: {قُتِلَ أَصْحََابُ الْأُخْدُودِ} [الآيات: 84].
وأما الرحمة والصفح فهي من أحلى مظاهر العهد المدني، ويكفي أن نقرأ:
{وَلََا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2] وهذا في شأن الوثنيين بالطبع، لأنهم هم الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام، وأن نقرأ ما يماثل هذا في شأن اليهود: {وَلََا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ََ أَلََّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ} [المائدة: 8]، وأن نقرأ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13]، {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتََّى يَأْتِيَ اللََّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109]، وهما آيتان مدنيتان باتفاق.
ذلكم هو القرآن في موضوعاته مكيّها ومدنيّها، وفي حال الضعف وحال القوة، في حال العسر واليسر، في حال الاستضعاف والتمكّن، {كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1].
ونختم هذه القضية بحديث روي عن ابن عباس، فقد سأله رجل: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، قال: ما هي؟ قال: {فَلََا أَنْسََابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلََا يَتَسََاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ يَتَسََاءَلُونَ} [الصافات: 27]، وقال: {وَلََا يَكْتُمُونَ اللََّهَ حَدِيثاً} [النساء: 42] وقال: {وَاللََّهِ رَبِّنََا مََا كُنََّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:
23] وقد كتموا في هذه الآية. وفي النازعات: {أَمِ السَّمََاءُ بَنََاهََا (27) رَفَعَ سَمْكَهََا فَسَوََّاهََا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهََا وَأَخْرَجَ ضُحََاهََا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذََلِكَ دَحََاهََا} (30) [الآيات: 3027] فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض. ثم خلق الأرض قبل السماء (1). وقال: {وَكََانَ اللََّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب: 5]، وقال: {وَكََانَ اللََّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح: 7]، وقال:
__________
(1) إشارة لما جاء في آيات فصلت: {* قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:
9].(1/105)
{وَكََانَ اللََّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 134]، فكأنه كان ثم مضى. قال ابن عباس:
{فَلََا أَنْسََابَ بَيْنَهُمْ} في النفخة الأولى ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الأخرى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ يَتَسََاءَلُونَ.} وأما قوله:
{وَاللََّهِ رَبِّنََا مََا كُنََّا مُشْرِكِينَ،} {وَلََا يَكْتُمُونَ اللََّهَ حَدِيثاً} فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، فيقول المشرك: تعالوا فنقول ما كنا مشركين فيختم على أفواههم، فتنطق جوارحهم بأعمالهم، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديث عنده {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كََانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2]. وخلق الأرض في يومين ثم استوى إلى السماء فسواهنّ سبع سماوات في يومين آخرين، ثم دحى الأرض أي:
بسطها، وأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والأشجار والأكمام وما بينهما في يومين آخرين كذلك، فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلا من عند الله».
القضية الثانية: الثواب والعقاب:
جاء في الموسوعة: «إن السور الأولى للقرآن تركز على أن الله هو خالق هذا الكون، وأن نعمه على الجنس البشري يستحق منهم الثناء والحمد عليها، وأن الله يجازي أو يعاقب الناس على حسب موقفهم نحوه، كما أن هنالك وصفا لحساب الناس، حيث بعضهم ينال نعيم الجنة وآخرون يعذبون في نار جهنم».
هذه القضية تستوجب منا أن نتحدث عن موضوعين رئيسين:
الموضوع الأول
: وهو ألصق بالتاريخ، وهو ما ذكر في الموسوعة من أن السور الأولى للقرآن تركز على أن الله هو خالق هذا الكون وأن نعمه على الجنس البشري يستحق منهم الثناء والحمد عليها، وهذا هو القرآن بين أيدينا، وقضية الخلق لم تخص بها السور الأولى دون غيرها، وهذه السور المدنية،
ومن قبلها التي نزلت في آخر العهد المكي تتحدث كلها عن الخلق حديثا منظما مرتب الأجزاء متسقا مع العلم والتربية على السواء (1).(1/106)
: وهو ألصق بالتاريخ، وهو ما ذكر في الموسوعة من أن السور الأولى للقرآن تركز على أن الله هو خالق هذا الكون وأن نعمه على الجنس البشري يستحق منهم الثناء والحمد عليها، وهذا هو القرآن بين أيدينا، وقضية الخلق لم تخص بها السور الأولى دون غيرها، وهذه السور المدنية،
ومن قبلها التي نزلت في آخر العهد المكي تتحدث كلها عن الخلق حديثا منظما مرتب الأجزاء متسقا مع العلم والتربية على السواء (1).
ففي سورة البقرة نقرأ قول الله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} إلخ [الآيات:
2221]، ونقرأ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [آية: 29]، ونقرأ:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمََا يَنْفَعُ النََّاسَ وَمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ مََاءٍ فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا وَبَثَّ فِيهََا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيََاحِ وَالسَّحََابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].
ولكن هنا قضية لا بد أن ننبه لها، ولعل هذا هو الذي أوقع الموسوعة ومن أخذت عنهم في هذا الخطأ، ونعني بها أن قضية الخلق لم تذكر لذاتها، فخلق الله للعالم قضية فطرية لا ينازع فيها إلا أولئك الذين انحرفوا عن الجادّة، وها هم العرب كما حدثنا القرآن في جاهليتهم يعترفون بهذه القضية البدهية: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللََّهُ} [الزمر: 38]. وإنما كانت تذكر قضية الخلق وما يعقبها من نعم لإثبات التوحيد، إثبات وحدانية الله تبارك وتعالى، ولا شك أن الناس كانوا في العهد المكي أكثر حاجة إلى هذه منهم في العهد المدني، ولا شك أن هذه الحاجة كانت ملحة، كانت قضية الخلق إذن تذكر كما قلنا لإثبات الوحدانية، وقد تذكر ثانية للاستدلال بها على أمر البعث، فإن الذي خلق الخلق أول مرة لا يعجز أن يعيدهم مرة أخرى، وهذه قضية قد ترسخت في النفوس في العهد المدني، ولكن عالمية القرآن تجعله يذكر هذه المبادئ العامة كلما دعت لذلك حاجة.
وعلى هذا الأساس فليست السور الأولى هي التي تحدثت عن خلق الله ونعمه على الإنسان، وإنما هذه طبيعة القرآن من أوله إلى آخره، وقد ذكرنا
__________
(1) راجع بحثنا «دعوى التكرار في القرآن».(1/107)
بعض الآيات الدالة على هذا، واكتفينا بها دون غيرها. وذكرنا السبب الذي من أجله كانت تذكر آيات الخلق، وعلى هذا الأساس يمكن أن ندرك الحكمة من ذكر موضوعات معينة في السور المدنية وأخرى في السور المكية. هذا هو الموضوع الأول، الذي هو ألصق بالتاريخ كما قلنا من قبل.
وأما
الموضوع الثاني
: فهو ألصق ما يكون بالمباحث الخلقية، فلقد ذكر في الموسوعة: «وإن الله يجازي أو يعاقب الناس على حسب موقفهم نحوه، كما أن هنالك وصف لحساب الناس حيث بعضهم ينال نعيم الجنة وآخرون يعذبون في نار جهنم».
وهذا موضوع مع أنه خاص بالله وحده فهو الذي له ملك السموات والأرض، يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء، إلا أن ما جاء في القرآن الكريم بلغ من السمو مبلغا يدعو إلى الإعجاب، ففي القرآن الكريم حديث عن صفات الله سبحانه بأنه شديد العقاب وسريع الحساب، ولكنه مع ذلك: العفو الغفور، والغفور الرحيم، والحليم الذي لا يتعجل عذاب الناس: {وَلَوْ يُؤََاخِذُ اللََّهُ النََّاسَ بِمََا كَسَبُوا مََا تَرَكَ عَلى ََ ظَهْرِهََا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45]، وأنه خلق السموات والأرض بالحق، وأن الناس عنده سواء لا أنساب بينهم، أكرمهم أتقاهم، وأحبهم إليه سبحانه أنفعهم للناس، ولم يخص جنسا من البشر بالقرب منه دون جنس آخر، فليس هناك شعب مختار وأحباء اختارهم الله دون غيرهم.
ومع ذلك كله فهو الحكم العدل، فلم يدع الثواب والعقاب لأماني الناس وادعاءاتهم، {لَيْسَ بِأَمََانِيِّكُمْ وَلََا أَمََانِيِّ أَهْلِ الْكِتََابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}
[النساء: 123] هذه واحدة.
أما الثانية: فالثواب والعقاب والإكرام والإهانة ليست كما أوهمته الموسوعة البريطانية أن هذه الأمور ترجع إلى موقف الناس من الله، موقفا مجردا. ولقد جلّى القرآن هذه القضية تجلية تامة في مواضع كثيرة، وبينتها السنّة المطهرة بيانا
وافيا، فطاعة الإنسان وعبادته لن تنفع الله شيئا، وعصيانه وجحوده وكفره لن يضر الله شيئا {لَنْ يَنََالَ اللََّهَ لُحُومُهََا وَلََا دِمََاؤُهََا وَلََكِنْ يَنََالُهُ التَّقْوى ََ مِنْكُمْ} [الحج: 37]، {مََا يَفْعَلُ اللََّهُ بِعَذََابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147].(1/108)
أما الثانية: فالثواب والعقاب والإكرام والإهانة ليست كما أوهمته الموسوعة البريطانية أن هذه الأمور ترجع إلى موقف الناس من الله، موقفا مجردا. ولقد جلّى القرآن هذه القضية تجلية تامة في مواضع كثيرة، وبينتها السنّة المطهرة بيانا
وافيا، فطاعة الإنسان وعبادته لن تنفع الله شيئا، وعصيانه وجحوده وكفره لن يضر الله شيئا {لَنْ يَنََالَ اللََّهَ لُحُومُهََا وَلََا دِمََاؤُهََا وَلََكِنْ يَنََالُهُ التَّقْوى ََ مِنْكُمْ} [الحج: 37]، {مََا يَفْعَلُ اللََّهُ بِعَذََابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147].
وهذا المعنى وضحه النبي صلّى الله عليه وسلّم وبينه فيما يرويه عن ربه «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» (1).
وحينما نقف مع آي القرآن الكريم ابتداء من دعوة الأنبياء عليهم السلام إلى التشريعات العملية التي أمر بها المسلمون، فسنجد لأول وهلة أن قضية الإيمان التجريدي المجرد عن المسلكيات لا يغني صاحبه شيئا، وها هم الأنبياء عليهم السلام كما يحدثنا القرآن عنهم، نجد أن دعوتهم لا تقف عند الإيمان المجرد وحده، بل من صلبها وأساسياتها هذه المسلكيات، فنوح عليه السّلام يأمر قومه
__________
(1) رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم 2577.(1/109)
بعبادة الله وحده، كما يأمرهم بنبذ هذا النظام الطبقي الذي يتولد عنه شعور بالفروق بين أبناء المجتمع الواحد. أما هود فيأمر قومه بعد أمرهم بالعبادة بعدم التفاخر بهذه القوة المادية، وشعيب يأمر قومه أن لا يبخسوا الناس أشياءهم، وأن يوفوا المكيال والميزان، وهكذا لو استعرضنا سيرة الأنبياء جميعا لوجدنا هذه القضية بينة المعالم.
فإذا جئنا لما يخص هذه الأمة وجدنا القرآن في سوره مكيها ومدنيها على السواء لا يذكر الإيمان المجرد وحده، ففي السور المكية على سبيل المثال نقرأ هذه السورة: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسََانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَتَوََاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوََاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) [العصر: 31]، بل لقد بينت هذه السور المكية أن صفات الذي يكذب بالدين أنه يدعّ اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، بل تهددت بالويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، والذين يراءون في أعمالهم ويمنعون خيرهم عن الناس.
ونجد في هذه السور المكية كذلك أن اقتحام العقبة الكأداء وهي التي تحول بين الإنسان وبين رضوان الله، اقتحام هذه العقبة لا يكون بالإيمان وحده، وإنما يكون بتحرير الرقيق من العبودية، وببذل المال للقريب المحتاج، وإطعام الجائع مع الإيمان، ولا بد مع الإيمان كذلك من أن يكون عنصر خير يفعل الخير ويوصي به كذلك: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعََامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذََا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذََا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كََانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوََاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوََاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ} (18) [البلد: 1811].
فإذا ما نظرنا في القرآن المدني وجدنا هذه الحقيقة تزداد وضوحا، فالمتقون الذين يستحقون الجنة، هم الذين ينفقون في السراء والضراء ويكظمون الغيظ فينسون أحقادهم ويعفون عمن أساء إليهم: {* وَسََارِعُوا إِلى ََ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133].(1/110)
والمؤمنون لن يتم لهم إيمانهم إلا إذا تركوا السخرية والغيبة والتجسس والغمز واللمز، وشعور التفاخر على غيرهم، كما جاء في سورة الحجرات [الآيات: 11، 12]. ولقد بين الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن امرأة دخلت النار بسبب هرة حبستها، وأن رجلا دخل الجنة بسبب كلب أسقاه بعد ظمأ.
والقرآن صريح كل الصراحة في أن العبادات من صلاة وصوم وغيرهما هدفها أن تكوّن مجتمعا متعاطفا رحيما، بعيدا عن كل أخلاق السوء وصفات الشر، فلا حسد ولا بغضاء ولا فحشاء ولا منكر، {إِنَّ الصَّلََاةَ تَنْهى ََ عَنِ الْفَحْشََاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
وإذن فإن ما جاء في الموسوعة من أن القرآن يقرر بأن الله يجازي الناس على حسب موقفهم نحوه، قول تعوزه الدقة، وينقصه الإنصاف، إن القرآن لا يجعل من الدين قواعد مجردة بعيدة عن حياة الناس ودنياهم، بل يقينا أنه ليس هناك كتاب كالقرآن بين أن قضية الدين لا تتمّ إلا بدائرتين اثنتين، إحداهما تكمّل الأخرى، وهما دائرة الدنيا ودائرة الآخرة.
وقضية نعيم الجنة وعقاب جهنم فضلا عن أنها ليست في القرآن وحده، وعن أنها تنسجم مع المناهج التربوية ترغيبا وترهيبا، فإنها مع ذلك كله ليست خاضعة للإيمان المجرد كما قلت من قبل، لأن التدين لا يكون إلا بصلات وروابط ثلاث:
أولاها: صلة الإنسان بربه وخالقه.
ثانيها: تهذيبه لنفسه.
ثالثها: صلته بالناس، يحب لهم ما يحبه لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه.
ولا ننسى أخيرا أن القرآن لا يفرق في هذا الإحسان بين الناس، كما نجد ذلك عند بعض الأمم، فالبشر في القرآن سواء، وإذا كان الإحسان للحيوان
كما رأينا من قبل سببا في الجنة أو النار، فكيف الإحسان إلى الإنسان، ولهذا فالبرّ والخير يجب أن نسعد بهما كل محتاج إليهما أيّا كان دينه، وأيّا كان لونه وجنسه.(1/111)
ولا ننسى أخيرا أن القرآن لا يفرق في هذا الإحسان بين الناس، كما نجد ذلك عند بعض الأمم، فالبشر في القرآن سواء، وإذا كان الإحسان للحيوان
كما رأينا من قبل سببا في الجنة أو النار، فكيف الإحسان إلى الإنسان، ولهذا فالبرّ والخير يجب أن نسعد بهما كل محتاج إليهما أيّا كان دينه، وأيّا كان لونه وجنسه.
إن مجازاة الله للإنسان كما جاء في القرآن ناشئة بعد الإيمان عما يقدمه الإنسان من خير.
القضية الثالثة: الوحدانية:
قول الموسوعة: «ومن الغريب والعجيب حقا أنه ليس هنالك إشارة إلى وحدانية الخالق في الفصول الأولى من القرآن».
هذا هو الغريب والعجيب، بل هذا هو الأغرب والأعجب أن يدّعى أن كتاب التوحيد ودين التوحيد لم تكن الإشارة فيه للتوحيد إلا في وقت متأخر، وهذا القول بالطبع لم تتفرد به الموسوعة البريطانية، وإنما يظهر أنه قول توارثوه المتأخر عن المتقدم، واللاحق عن السابق، يقول بلاشير ص 51: «ولقد يجدر بالذكر أن نصوص هذه الفترة الأولى لم تسلّط الأضواء على إثبات عقيدة أساسية في الإسلام، ألا وهي وحدانية الله، بل يبدو أن سورة النجم [195] تحتوي على آثار تردد في شجب عبادة ثلاث من ربات المكيين، لكنما النص في وضعه الحالي ظل يحتمل تصحيحا تخمينيا، إلا أن الوحدانية الإلهية سرعان ما تثبت قاطعة وبدون تردد في سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ}
الخ» (1).
ولعل الهدف من هذه الإثارات كلها أن يثبتوا أن قضية التوحيد إنما أفادها النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما بعد ممن اتصل بهم من الكتابيين وغيرهم ممن يسمون بالحنفاء،
__________
(1) «القرآن، نزوله تدوينه ترجمته وتأثيره» ص 51.(1/112)
وهذا بالطبع يفتح الباب للتقول على هذا القرآن إذا سلمت هذه المقدمات، وهيهات كما سنرى.
ومن الإنصاف أن نقرر هنا أن ما حبب لهم وزين لهم هذا القول ظنهم بأن قضية التوحيد لا بدّ فيها من ذكر هذه المادة نفسها: مادة الوحدانية، وعلى هذا فلم يجدوا أن مادة (توحيد)، أو (واحد) أو (أحد) جاء لها ذكر في السور الأولى، فخلصوا من ذلك إلى ما أرادوه من نتائج تتفق مع رغبتهم، وبالتالي مع ما يريدونه من نتائج، وكان من واجبهم وبخاصة الباحثين والعلماء أن يسلكوا المسلك العلمي في بحث هذه القضية، فالنبي الكريم جاء برسالة، ثم دعا الناس إليها بعد ذلك، وهنا ينبغي أن نتساءل: ترى ما الذي دعا الناس إليه بادئ بدء؟ أكان يدعوهم إلى الصلاة والصيام والزكاة؟ أكان يدعوهم إلى إعطاء النساء حقوقهن أم إلى البر مع أهل الكتاب؟ كل ذلك لم يكن بالطبع لأن تلك القضايا والتشريعات إنما كانت فيما بعد، ولماذا حملوا عليه لأول وهلة يا ترى ومن أول يوم دعاهم فيه؟ ألأنه قال لهم: أكرموا جيرانكم؟ أم لأنه قال لهم: لا تظلموا الفقراء؟ أم لأنه قال لهم: دعوا الزنا؟ لا يدّعي عاقل أن معارضة النبي صلّى الله عليه وسلّم وهذا الموقف السلبي منه ومن دينه ومن المؤمنين به، كان لهذه القضايا، فلا يقبل ذو مسحة من عقل أن يثور على رجل يدعو لهذه المكارم!
ونتساءل لماذا هذا العداء إذن؟ ربما لأنه جاء يأمرهم بصلة الرحم والوفاء بالعهد وإيتاء ذي القربى؟ يقينا أن ذلك لم يكن، إذن لماذا؟
ومن الإنصاف أن نقول هنا وقد أخذنا على عاتقنا في هذا الكتاب أن نكون موضوعيين منهجيين، حتى لو كانت الحجج تبدو لأول وهلة وكأنها علينا لا لنا ولذا فنحن نفترض لمن يخالفنا، نفترض له الحجج وندله عليها، أقول:
من الإنصاف أن نفترض هذا الفرض: لماذا لا تكون معارضتهم وعداؤهم لهذا النبي حسدا؟ فهم إنما عادوه وعارضوه لأمر شخصيّ. ونحن إذ يمكننا أن نسلم
هذا ولا ننكره لكن سيظل الإشكال باقيا: هل يعقل أن يجيء صاحب دعوة ويقول: أنا رسول، ويكتفي بهذا؟ من البدهي: لا لأن كلمة رسول كما تتطلب مرسلا إليهم فإنها تحتاج كذلك إلى شيء مرسل به، فما هو الذي أرسل به يا ترى؟ إذ لا يعقل أن يأتي رسول بدون رسالة!(1/113)
من الإنصاف أن نفترض هذا الفرض: لماذا لا تكون معارضتهم وعداؤهم لهذا النبي حسدا؟ فهم إنما عادوه وعارضوه لأمر شخصيّ. ونحن إذ يمكننا أن نسلم
هذا ولا ننكره لكن سيظل الإشكال باقيا: هل يعقل أن يجيء صاحب دعوة ويقول: أنا رسول، ويكتفي بهذا؟ من البدهي: لا لأن كلمة رسول كما تتطلب مرسلا إليهم فإنها تحتاج كذلك إلى شيء مرسل به، فما هو الذي أرسل به يا ترى؟ إذ لا يعقل أن يأتي رسول بدون رسالة!
ويقيننا أن القرآن يتكفل بالإجابة عن هذا كله، فإن أول كلمة صدع بها النبي عليه وآله الصلاة والسلام كانت الدعوة إلى التوحيد، والقرآن كما قلت يجيبنا عن ذلك كله، وهو يبين لنا سبب ثورتهم وعدائهم وخصومتهم {وَعَجِبُوا أَنْ جََاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقََالَ الْكََافِرُونَ هََذََا سََاحِرٌ كَذََّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلََهاً وََاحِداً إِنَّ هََذََا لَشَيْءٌ عُجََابٌ} (5) [ص: 54].
امور لا بدّ منها
ومن المفيد في قضيتنا هذه أن نسجل الأمور التالية:
أولا
نفور النبى قبل رسالة الاسلام
: من المعلوم بدهيا أن سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان ينفر من الأصنام ومن تعدد الآلهة، فلم تثبت عنه عبادة صنم قبل رسالته، وإذا كان قبل الرسالة كذلك فكيف يكون الحال بعد الرسالة يا ترى! وأن الأصل الذي كان يشغله إنما هو قضية التوحيد قبل كل شيء، ذلك الأمر الذي يحيّره فيتعبد به، وذلك ما امتن الله عليه به {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ََ} [الضحى: 7] أي: حائرا تبحث عن الحق فهداك إليه.
ثانيا
تقرير مبدا الوحدانية دون ورود هذه المادة
: إن الروعة في أسلوب القرآن، وهي التي أدهشت العرب الذين سمعوه أول مرة، وهي لا تزال كذلك تستدعي الإعجاب من كل منصف، أقول إن الروعة في هذا الأسلوب هي أنه ليس كما تعوده الناس من كتب القوانين وأنظمتها يتبع حالة واحدة وطريقا واحدا فيما أحل أو حرم، أو فيما أمر به أو نهى عنه، بل اتبع لذلك أساليب شتى، فإذا نظرنا إلى ما حرمه القرآن فإننا لا نجده تلازمه هذه الصيغة صيغة التحريم، فلم يقل: حرمت عليكم السرقة، أو الكذب، أو السخرية من الناس، أو اغتصاب أموالهم. ومع أن هذه الأمور لا
يرتاب أحد في تحريمها، لكنه سلك طرقا وأساليب متعددة تدل على هذا التحريم (1).(1/114)
: إن الروعة في أسلوب القرآن، وهي التي أدهشت العرب الذين سمعوه أول مرة، وهي لا تزال كذلك تستدعي الإعجاب من كل منصف، أقول إن الروعة في هذا الأسلوب هي أنه ليس كما تعوده الناس من كتب القوانين وأنظمتها يتبع حالة واحدة وطريقا واحدا فيما أحل أو حرم، أو فيما أمر به أو نهى عنه، بل اتبع لذلك أساليب شتى، فإذا نظرنا إلى ما حرمه القرآن فإننا لا نجده تلازمه هذه الصيغة صيغة التحريم، فلم يقل: حرمت عليكم السرقة، أو الكذب، أو السخرية من الناس، أو اغتصاب أموالهم. ومع أن هذه الأمور لا
يرتاب أحد في تحريمها، لكنه سلك طرقا وأساليب متعددة تدل على هذا التحريم (1).
وكذلك يقال فيما أوجبه على الناس، فلم يكن عنوان الوجوب في كل هذه التشريعات، وعلى هذا الأساس جاء أمر الوحدانية، فقضية الوحدانية إذن لا تحتاج إلى أن تذكر هذه الكلمة بمادتها ومشتقاتها، وإنما يمكن أن تذكر أساليب متعددة يفهمها كل أولئك الذين يستمعون إلى هذه الأساليب، ويكونون على معرفة بها.
وإذا وقفنا مع الآيات الأولى التي نزلت، فإننا نجد في كل نص ما يثبت هذه الوحدانية بمضمونها إن لم يكن بمادتها، فالنص الأول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {عَلَّمَ الْإِنْسََانَ مََا لَمْ يَعْلَمْ،} والنص الثاني {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (3) [المدثر: 31] والنص الثالث {مََا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2] والنص الرابع: {مََا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمََا قَلى ََ} [الضحى: 3]، كل هذه النصوص تعطي المستمع لأول وهلة انطباعا عن طبيعة هذا الدين، بل تؤكد له جوهر هذه الرسالة، ولهذا نجد هذه العبارة تكاد تكون في كل نص: (ربك)، اسم الرب مضافا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى هذا أنه رب واحد، وأهل مكة أدركوا هذه الحقيقة، وهم الذين كانت لهم آلهة كثيرة.
ونزيد هذه القضية إيضاحا، فسورة الفاتحة يجمع الباحثون على أنها من أوائل السور نزولا، بل يذهب بعضهم إلى أنها أول سورة نزلت، وهي سورة تثبت الوحدانية في كل آية من آياتها إثباتا قاطعا حازما حاسما، فالحمد لله وحده، لأنه رب العالمين، والعالم كل ما سوى الله مما هو علامة ودليل على وجود الله
__________
(1) كصيغة النهي: «لا تفعل»، أو وصفه بوصف تنفر منه النفوس، أو بيان أن الله لا يحبه.
انظر آية الربا في سورة البقرة [الآية: 275]، وسورة الحجرات [الآية: 12]، وغيرهما مثل:
{إِنَّهُ لََا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.(1/115)
سبحانه، فهو رب العالمين جميعا والعوالم كلها، أرضيها وسماويها، وهو وحده الذي يهب الرحمة، وهو وحده المتصرف بيوم الدين، أي الآخرة، وفي هذه الآية: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) حسم لكل ذي ريب لأن معنى هذه الآية كما يفهمها العربي لأول مرة بطبيعته وفطرته، ويفهمها من جاء بعدهم بفطنته ودرسه، أي لا نعبد غيرك ولا نستعين بسواك، فليست هذه الآية تثبت العبادة لله والاستعانة به فحسب، وإنما تنفي العبادة والاستعانة عن غيره. وهذا الفهم جاء من خصائص الأسلوب العربي، وهو تقديم المفعول (إياك) على الفعلين (نعبد) و (نستعين).
إن قواعد النقد العربي والبلاغة العربية، التي تدرك بالفطرة عند العرب الذين نزل فيهم القرآن، وتحتاج إلى نوع معرفة عند الناس فيما بعد، تبين لنا هذه الحقيقة، وهي أن تقديم المفعول يدل على الاختصاص، فإذا قلت مثلا «أحب فن الرسم»، فأنا هنا قد قدمت الفعل، فمعنى هذه العبارة إنني أحب الرسم، وليس معناها إنني لا أحب غيره، فقد أحب مع الرسم الشعر والرياضة، ولكن حينما أقول: «فن الرسم أحب» وأقدم المفعول، فليس معنى هذا أنني أحب فن الرسم، فحسب كما جاء في العبارة الأولى، وإنما إضافة لهذا المعنى الأول، هناك معنى آخر، وهو أنني أخصّه بالحب أكثر من غيره. وهكذا {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ،} فلو قال: (نعبدك ونستعين) لكان دالا على العبادة والاستعانة فحسب، دون أن يعرض لآلهة أخر، ولكن {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} فيها شيء زائد، وهو أننا لا نعبد إلا أنت ولا نستعين بغيرك، فأنت الواحد الذي تستحق العبادة وجدير أن يستعان بك.
أليست هذه حجة ساطعة لإثبات الوحدانية؟ فكيف يقال: إن أمر الوحدانية إنما جاء متأخرا في القرآن، ثم كلمة (لا إله إلا الله) ليس فيها مادة الوحدانية، ولكن أليس معناها ومضمونها الدعوة إلى الوحدانية، وهذه أول كلمة صدع بها النبي صلّى الله عليه وسلّم كما تقول حقائق التاريخ.(1/116)
ولقد سجل القرآن هذا: {إِنَّهُمْ كََانُوا إِذََا قِيلَ لَهُمْ لََا إِلََهَ إِلَّا اللََّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنََّا لَتََارِكُوا آلِهَتِنََا لِشََاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جََاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (37) [الصافات: 3735].
والتهمة بالجنون تهمة قديمة، كانت منذ اللحظة الأولى التي دعا فيها النبي قومه، ودليل ذلك سورة (ن): {مََا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (2) [القلم: 2]، فهم يجمعون على أنها من أول الآيات نزولا، وأرجح الأقوال أنها نزلت بعد آيات العلق والمدثر. هذا الجنون إذن ما كان إلا من أجل دعوتهم أن يتركوا آلهتهم ويتبعوا إلها واحدا، أفيقال بعد ذلك إن دعوة التوحيد كانت متأخرة في القرآن؟!
ثالثا
مبدا الوحدانية قديم منذ اول رسول
: لا ندري كيف تقبل هذه الدعوى وهي ما ورثته الموسوعة ونقلته عمن سبقها من المستشرقين وغيرهم، لا أدري كيف يتفق هذا القول مع ما جاء في القرآن من ذكر المرسلين عليهم الصلاة والسلام، وها هو القرآن يحدثنا عن كل واحد منهم بأنه كان يدعو قومه إلى عبادة الله الواحد {يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ مََا لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65]، هذه هي دعوة الرسل جميعا، منذ نوح عليه السّلام أول هؤلاء الرسل إلى أقوامهم، والنبي ليس بدعا من الرسل كما جاء في القرآن الكريم: {قُلْ مََا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9]، ودعوة الأنبياء في هذا الأصل واحدة: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلََا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، فكيف تذكر هذه الدعوة دعوة الأنبياء للتوحيد مبكرة في القرآن وتكون دعوة النبي إلى التوحيد متأخرة!
رابعا
كل سورة من السور الاولى تدعو الى التوحيد
: إن أي سورة من السور الأولى تدعو إلى التوحيد بكل جزء من أجزائها، وليس كما قال بلاشير من أن أول سورة هي {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ،} فإن هذه السورة سورة الإخلاص لم تأت للحديث عن الوحدانية بادئ بدء، وإنما جاءت كما تقول الروايات إجابة عن سؤال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «صف لنا ربك».
وهذا ما يدل عليه محتوى السورة، سورة الإخلاص.
إذن ليست هي أول سورة جاءت تقرر الوحدانية، فالوحدانية مقررة من قبل، ولكنها جاءت ردا على تساؤل وتصحيحا لتصور خاطئ، ونظم السورة ومحتواها دالان على هذا.(1/117)
خامسا
التفريق بين طبيعة التوحيد والادلة على الوحدانية
: حري بنا أن نفرق بين أمرين اثنين: بين طبيعة التوحيد والدعوة إليه، وبين البراهين على الوحدانية، فأما قضية التوحيد والدعوة إليه فتلك قضية كانت معلومة منذ اليوم الأول، وما حوربت دعوة النبي إلا من أجل ذلك كما بيّنا من قبل، وأما البراهين على التوحيد فهذه يمكن أن يكون قد تأخر نزولها وذلك حينما حمي الوطيس وقويت المشادة بين المسلمين وخصومهم، فجاءت تلك البراهين ملزمة لأولئك الخصوم، ملزمة لهم بالحجج الدامغة.
وبراهين التوحيد في كتاب الله كثيرة، مثل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
[الشورى: 11]، {مَا اتَّخَذَ اللََّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمََا كََانَ مَعَهُ مِنْ إِلََهٍ} [المؤمنون: 91]، {لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا} [الأنبياء: 22]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تحدثت عن الوحدانية.
تلك هي قضية الوحدانية، وأرجو بعد هذا البيان أن تكون قد تحددت معالم الحق، وأن تزول كل شبهة، والحق أحق أن يتبع.
القضية الرابعة: قصة الغرانيق:
قول الموسوعة: «وهنالك مصدر يقول إن محمدا اعترف بالسلطة النسبية لثلاثة آلهة هم اللات ومناة والعزى، ولكنه عاد وألغى ذلك في وقت لاحق».
تعرف هذه القضية بمسألة الغرانيق، وملخص القضية أن الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ سورة النجم عند الكعبة، فلما بلغ قوله سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمُ اللََّاتَ وَالْعُزََّى (19) وَمَنََاةَ الثََّالِثَةَ الْأُخْرى ََ} (20) [آية: 2019] قال بعد ذلك: «وإنها لهي الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى»، ففرح المشركون بهذا الوصف لهذه الأصنام الثلاثة اللات والعزى ومناة، ووصفها بالغرانيق العلى، وبأن شفاعتهن ترتجى، فلما بلغ آخر السورة وهي آية فيها سجدة سجد، فسجد المؤمنون والمشركون معه جميعا.(1/118)
وهذه الرواية يجعلونها تفسيرا لقوله سبحانه: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلََا نَبِيٍّ إِلََّا إِذََا تَمَنََّى أَلْقَى الشَّيْطََانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللََّهُ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللََّهُ آيََاتِهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (52) [الحج: 52]. ولقد وقف الأئمة قديما وحديثا من هذه القضية موقف التمحيص، وبينوا فسادها وبطلانها من جهة النقل ومن جهة العقل (1):
بيان عدم صحتها من جهة العقل والنقل
أما النقل فإنها لم ترو في كتب السنة المعتدّ بها بأسانيد صحيحة أو مقبولة، ولا عبرة إن نقلها بعض القصّاص والمفسرون الذين يولعون بنقل الأقاصيص والحكايات الغريبة دون تمحيص أو تثبّت. وأما من جهة العقل:
فأولا: إن هذا لو صح لتمسك به المشركون أعداء الإسلام في ذلك الوقت، ولكان له ردة فعل سيئة عند بعض المسلمين، وكلنا يعلم نتيجة ما كان في حادثة الإسراء، حيث ارتد بعض ضعاف العقيدة، وكلنا يعلم ما كان عند تحويل القبلة، كيف استغلت هذه القضية استغلالا غير شريف ولا نزيه.
ثانيا: إن كلمة الغرانيق مما لم يستعمله العرب وصفا لآلهتهم شعرا أو نثرا مما يجعلنا نجزم أن هذه الفرية لفقت فيما بعد.
ثالثا: إن ما قبل هذه السورة وما بعدها فيه موقف حازم من قضية الأصنام ومن أنها تخلق مجردة من الحياة، {أَمْوََاتٌ غَيْرُ أَحْيََاءٍ} فأي عاقل، بل أيّ عقل يمكن أن يصدق بهذه الحكاية التي ردت بحزم في جميع آي القرآن.
رابعا: إن شخصية النبي عليه وآله أفضل الصلاة وأتم التسليم كانت شخصية متوازنة كل التوازن، وبخاصة في قضايا الوحي، وها هي الروايات الكثيرة تحدث أنه كانت تعرض عليه الحادثة من الحوادث فلا يقطع فيها
__________
(1) راجع ما كتبه الشيخ محمد عبده والسيد رشيد في تفسير الفاتحة وست سور، في مجلة المنار ص 156.(1/119)
برأي حتى ينزل الوحي، وإذا حدث أن اجتهد في بعض هذه الحوادث ينزل الوحي ليصحح له ويبين وجه الحق، كما رأينا ذلك في قصة خولة بنت حكيم وقد ظاهر منها زوجها، فجاءت تسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم وتجادله فيقول: ما أظنك إلا قد حرمت عليه، فتنزل الآيات فيها البشرى لخولة وزوجها (1).
خامسا: هذه العبارة، أعني عبارة الغرانيق، إما أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم قد قالها بالفعل، وإما أن يكون الشيطان هو الذي نطق بها كما تحكي الروايات، وكلا الروايتين مرفوض ومردود، أما الأول فلأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نفسه يصرح في مواضع كثيرة من القرآن بأنه لا يملك لنفسه شيئا، وبأنه لو شاء الله ما تلا شيئا من هذا القرآن {قُلْ لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} [يونس: 16]، بل إن القرآن نفسه يقرر دون استحياء من النبي {وَاللََّهُ لََا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53] بأن هذا القرآن إنما هو رحمة وفضل من الله، وأنهم يكادون يفتنونه عن بعض ما أوحي إليه، ولكن الله يثبته {وَإِنْ كََادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73]. بل يذهب القرآن إلى أكثر من هذا {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنََا بَعْضَ الْأَقََاوِيلِ (44) لَأَخَذْنََا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنََا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمََا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حََاجِزِينَ} (47) [الحاقة: 4744].
أما الاحتمال الثاني فهو أكثر ما يكون بعدا عن المنطق والواقع، فالقرآن بعيد عن أن يحوم حوله شيطان، فالقارئ أول ما يقرأ القرآن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وهم لا يستطيعون ذلك أبدا، والقرآن يبين هذه الحقيقة واضحة: {وَمََا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيََاطِينُ (210) وَمََا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمََا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} (212) [الشعراء: 212210]، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يتصور، بل كيف يصح أن يأتوا بشيء منه في حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يتلوه؟ يقينا إن شياطين الجنّ لا يستطيعون ذلك، ومع ذلك فإن شياطين الإنس قد اختلقوه وافتروه، والشيطان كما نعلم لا يستطيع أن يتمثل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم كما جاء في الأحاديث
__________
(1) ينظر ما قيل في سبب نزول أوائل سورة المجادلة.(1/120)
الصحيحة فإذا كان الشيطان لا يستطيع أن يتمثل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فكيف يمكن أن يحاكيه ويقلده في صوته ونبرته.
قصة الغرانيق منافية للعصمة
وأخيرا، فإن هذه الأحدوثة لم تعرف إلا متأخرة، ولذا فنحن نجزم كما جزم الأئمة بأنها من وضع الزنادقة في عصر متأخر، إن ما ادعوه مناف كل المنافاة لعصمة الأنبياء، والعصمة من المبادئ البدهية التي يتفق عليها العقل والنقل على السواء. ثم هي كذلك مختلفة الاختلاف كله عن البيان القرآني، يدلنا على ذلك تلك الروايات الظالمة المضطربة لهذه الفرية فتارة يقولون:
(وهي الغرانيق العلى)، وتارة: (الغرانقة العلى)، وتارة: (شفاعتهن لترتجى)، وتارة (ترتجى)، ولا ندري كيف يمكن أن يجمع بين قوله: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ََ (22) إِنْ هِيَ إِلََّا أَسْمََاءٌ سَمَّيْتُمُوهََا} [النجم: 2322] وبين هذه الفرية؟! فكيف ترتجى شفاعة هذه الأحجار وما هي إلا أسماء بدون مسميات ما أنزل الله بها من سلطان!
ثم إن التهمة التي أرادوا أن يلفقوها ليستدلوا على صحة مدعاهم تهمة باطلة خبيثة لا يستطيعها شياطين الجنّ، فانبرى لها شياطين الإنس، وكأني بهؤلاء يصدق عليهم قول القائل، بل هو قولهم الذي يردده كل منهم.
وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى ... بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده ... طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
وتتلخص هذه التهمة بأنهم فسروا قوله سبحانه: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلََا نَبِيٍّ إِلََّا إِذََا تَمَنََّى أَلْقَى الشَّيْطََانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللََّهُ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللََّهُ آيََاتِهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52]، فسروا التمني في هذه الآيات بالقراءة، وقالوا: هذه الآية جاءت تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم، يقال له: لست وحدك الذي يلقي الشيطان في قراءته، بل هو شأن الأنبياء من قبلك، فلا تحزن إن ألقى الشيطان في قراءتك حكاية الغرانيق! ومع بطلان هذا القول كما بيناه من قبل فإن التمني
في الآية الكريمة محمول على حقيقته اللغوية أي: كل نبي إذا أحب وطلب أن يؤمن الناس به ألقى الشيطان في طريق هذه الأمنيات وساوسه في قلوب الناس، فيزيل الله وساوسه من قلوب المؤمنين ويحكم الله آياته في قلوبهم، وتظل هذه الوساوس فتنة للذين في قلوبهم مرض.(1/121)
وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى ... بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده ... طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
وتتلخص هذه التهمة بأنهم فسروا قوله سبحانه: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلََا نَبِيٍّ إِلََّا إِذََا تَمَنََّى أَلْقَى الشَّيْطََانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللََّهُ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللََّهُ آيََاتِهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52]، فسروا التمني في هذه الآيات بالقراءة، وقالوا: هذه الآية جاءت تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم، يقال له: لست وحدك الذي يلقي الشيطان في قراءته، بل هو شأن الأنبياء من قبلك، فلا تحزن إن ألقى الشيطان في قراءتك حكاية الغرانيق! ومع بطلان هذا القول كما بيناه من قبل فإن التمني
في الآية الكريمة محمول على حقيقته اللغوية أي: كل نبي إذا أحب وطلب أن يؤمن الناس به ألقى الشيطان في طريق هذه الأمنيات وساوسه في قلوب الناس، فيزيل الله وساوسه من قلوب المؤمنين ويحكم الله آياته في قلوبهم، وتظل هذه الوساوس فتنة للذين في قلوبهم مرض.
تلك هي قضية الغرانيق يردها كل أولئك الذين عرفوا القرآن وعرفوا النبي صلّى الله عليه وسلّم معرفة تقوم على أساس من الإنصاف والنزاهة.
القضية الخامسة: الصلاة في العهدين المكي والمدني:
ادعاؤهم ان غير الصلاة كذلك طرا عليه تغير
قول الموسوعة: «كما أن هنالك بعض الإشارات إلى تغيير الطقوس الدينية للصلاة».
ليست الصلاة وحدها هي التي طرأ عليها تغيير بين العهد المكي والمدني كما جاء في الموسوعة البريطانية، ولكن هناك قضايا كثيرة لا تخص الشريعة وحدها، بل تشمل العقيدة كذلك، ادّعي أنها مثل الصلاة طرأ عليها تغيير، وحدث لها تعديل وتبديل ما بين العهدين المكي والمدني، فمن حيث العقيدة:
إنّ فكرة القرآن عن الله في مكة تختلف تماما عنها في المدينة، ففي مكة كانت صفات الرحمة وما يتصل بها من مغفرة وعفو هي الطابع المميز لذات الله في مكة، أما في المدينة، فأصبحنا نرى ونستمع إلى صفات أخر، هي صفات القوة والجبروت والشدة والبطش!
وأما من حيث القصص والأساطير: ففي مكة كانت الأساطير اليهودية والنصرانية الساذجة هي السمة البارزة في القرآن، وكان القرآن يحاول إقناع قارئيه بأنه يشبه الكتب التي قبله، أما في القرآن المدني فلقد تركزت القصص بحيث تتفق مع ما يرضي اليهود، فتحدثت عن إبراهيم وإسماعيل، وصلة العرب باليهود، والتقائهم بإبراهيم أبا!(1/122)
وأما من حيث الأمور التشريعية: فلها شواهد كثيرة، فلقد تأثر الإسلام باليهودية في شأن الطلاق، وفي تعظيم يوم عاشوراء، وفي التوجه إلى بيت المقدس، ولكن لما اشتدت الخصومة بين المسلمين واليهود حدث تغير ورجوع عن بعض هذه الأحكام، فتحولت القبلة إلى الكعبة، ولا ننسى أن الصلاة نفسها تغيرت إلى حدّ كبير ما بين مكة والمدينة، فبينما كانت الصلاة بادئ بدء في مكة مرتين أضيف لها في المدينة صلاة ثالثة وهي صلاة العصر، لتتفق مع الطقوس اليهودية!
ولا نود أن نسترسل في الحديث عن هذه الادّعاءات التي لا نظن أنها تشرف أصحابها، ولن نجد عناء وصعوبة في ردّها، ولسنا نحن الذين نردّ، وإنما القرآن بحججه وواقعه، لكل ذي بصر وبصيرة هو الذي يردّ ذلك كله، فمن حيث القضايا العقدية التي تتعلق بصفات الله، فها هي السور المكية باعتراف كل أولئك الذين نقلت عنهم الموسوعة البريطانية، بل باعتراف (نولدكه) الذي أخذ عنه كثير من المستشرقين ترتيب السور القرآنية، أقول هذه السور جميعها التي يعترف أولئك بمكيتها نجد فيها بيان صفات الله تبارك وتعالى القوي (1)، شديد العقاب، وسريع العقاب (2)، وسريع الحساب (3)، وشديد البطش (4)، إلى جانب صفات الرحمة والمغفرة.
__________
(1) في سورة غافر: {* أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ كََانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كََانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثََاراً فِي الْأَرْضِ} {إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقََابِ} (22) [الآيتان: 2221].
(2) في سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلََائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجََاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مََا آتََاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقََابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (165) [آية: 165]. وفي سورة الأعراف: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذََابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقََابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (167) [آية: 167].
(3) في قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللََّهِ مَوْلََاهُمُ الْحَقِّ أَلََا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحََاسِبِينَ} (62) [الأنعام: 62].
وفي قوله {لِيَجْزِيَ اللََّهُ كُلَّ نَفْسٍ مََا كَسَبَتْ إِنَّ اللََّهَ سَرِيعُ الْحِسََابِ} (51) [إبراهيم: 51].
(4) في قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} (12) [البروج: 12].(1/123)
العقيدة والقصص
وأما من حيث القصص فقصة نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويوسف وهارون وأيوب ويونس وداود وسليمان، مما ذكر في كتب اليهود والنصارى كل أولئك ذكرت في العهد المكي، مع تعديلات أساسية، وتصويبات جوهرية ليس محل الحديث عنها الآن.
والحق أن العهد المدني لم يكن فيه من القصص إلا النزر القليل اليسير مما يتفق مع توجيه المؤمنين في بناء مجتمعهم الجديد، فالحديث عن إبراهيم كان في مكة، وأما في المدينة فقد كان منه طرف يسير، وكان مقدمة للآيات التي ذكرت تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة (1)، ومن أكثر من العرب صلة بإبراهيم! ألم يكونوا يعلقون له الصور على جدران الكعبة التي يقدسونها في جاهليتهم؟! والقرآن المكي كان كثيرا ما يلقي اللوم والمؤاخذة على أهل الكتابين السابقين، ولا يقبل منهم الادّعاء بأنهم ألصق الناس بإبراهيم، وكان هذا في معرض الرد على العرب، عبدة الأصنام كذلك. نقرأ هذا في السور المكية {قُلْ إِنَّنِي هَدََانِي رَبِّي} الخ الآيات [الأنعام: 163161]، {إِنَّ إِبْرََاهِيمَ كََانَ أُمَّةً} إلخ الآيات [النحل: 122120].
صوم يوم عاشورا وتحويل القبلة
أما قضية عاشوراء، فيظهر أن يوم عاشوراء كان معلوما في الجاهلية، ومع ذلك فهناك قضية لا بدّ من التنبيه إليها، وهي أن الرسول عليه وآله الصلاة والسلام كان يبني هذه الأمة بناء محكما حتى لا تذوب، ولا تتلاشى شخصيتها في غيرها، وحتى لا تكون إمّعة، فإذا كان قد حبب صوم عاشوراء، والصوم عبادة ليست وقفا على أمة دون أمة، والحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها التقطها، ولكن الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم مع ذلك حبب للمسلمين أن يصوموا مع هذا اليوم يوما آخر حتى تكون لهم شخصيتهم المستقلة في عبادتهم، كذلك تحويل القبلة، كان التوجه بادئ بدء إلى بيت المقدس، وذلك كي يربط المسلمين بمهد الأنبياء السابقين، فيكون القبلة الأولى للمسلمين.
__________
(1) انظر قوله: {* وَإِذِ ابْتَلى ََ إِبْرََاهِيمَ رَبُّهُ} الخ [البقرة: 124].(1/124)
وهنا قضية من الأهمية بمكان لا بد من الإشارة إليها، والتعويل عليها في بيان خطأ أولئك الذين ادّعوا تأثر القرآن من حيث الزمن والبيئة. إن توجه المسلمين لبيت المقدس كان في مكة منذ أن فرضت الصلاة، ولا يرتاب أحد في أنها فرضت في مكة، وكان المسلمون يتوجهون إلى بيت المقدس، وهذه قضية لها دلالاتها، فلم يكن التوجه لبيت المقدس إرضاء لليهود، كما لم يكن تأثرا بهم كذلك، ولو كان القرآن والإسلام يخضع للأمزجة لكان الأولى والمعقول أن يكون التوجه في مكة للكعبة نفسها، إرضاء للمجتمع المكي الجاهلي، لكي يتألف القرآن قلوب أولئك المكيين، التوجه إلى بيت المقدس إذن كان في مكة نفسها، في المجتمع الذي لم يكن لليهود فيه أي تأثير.
أما تحول القبلة إلى الكعبة فلم يكن كذلك خاضعا لأمر مزاجي، ولم يكن هدفه إرضاء فئة معينة، أو التنكر لفئة معينة، فلم يكن التحول إلى الكعبة نكاية في اليهود، كما يدّعي المدّعون فمن المعلوم أن تحويل القبلة كان بعد الهجرة بستة عشر شهرا، أي في شعبان من السنة الثانية للهجرة سنة 623م، ولم يكن هناك بين المسلمين واليهود أي نوع من العداء، بل يفترض أن سماءهم كانت مقمرة ساطعة صافية، ولو من جانب المسلمين.
توجّه المسلمين إلى بيت المقدس في صلاتهم إذن كان في مكة ولم يكن إرضاء لليهود، وتحويل القبلة إلى الكعبة لم يكن كذلك لترسيخ العداوة لأولئك اليهود.
إن التشريعات الإسلامية وأحكام القرآن لا تخضع البتة لمؤثرات انفعالية وتغيرات مزاجية.
الصلاة
بقيت قضية الصلاة، فهل صحيح بأن هذه الصلاة، وهي الركن الجوهري للإسلام بعد الشهادتين، هل نالها التغيير كذلك؟ فهي في المدينة غيرها في مكة، ففي مكة كانت مرتين، وأصبحت في المدينة ثلاثا، حيث فرضت صلاة العصر؟
إن الثابت تاريخيا أن الصلاة منذ اللحظة الأولى التي فرضت فيها، كانت خمس صلوات، بل إن أحاديث المعراج الصحيحة تجمع على أن موسى عليه السلام في هذه الليلة طلب من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يسأل الله التخفيف لأن موسى عليه السلام اختبر بني إسرائيل فوجدهم يضعفون، وكان يريدها أقل من خمس صلوات، ولكن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «استحييت من ربي» (1).(1/125)
بقيت قضية الصلاة، فهل صحيح بأن هذه الصلاة، وهي الركن الجوهري للإسلام بعد الشهادتين، هل نالها التغيير كذلك؟ فهي في المدينة غيرها في مكة، ففي مكة كانت مرتين، وأصبحت في المدينة ثلاثا، حيث فرضت صلاة العصر؟
إن الثابت تاريخيا أن الصلاة منذ اللحظة الأولى التي فرضت فيها، كانت خمس صلوات، بل إن أحاديث المعراج الصحيحة تجمع على أن موسى عليه السلام في هذه الليلة طلب من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يسأل الله التخفيف لأن موسى عليه السلام اختبر بني إسرائيل فوجدهم يضعفون، وكان يريدها أقل من خمس صلوات، ولكن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «استحييت من ربي» (1).
وتجمع الروايات على أن الصلوات كانت خمسا، بل الآيات القرآنية المكية فيها هذه الإشارات: {فَسُبْحََانَ اللََّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 1817]، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهََا وَمِنْ آنََاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرََافَ النَّهََارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ََ} [طه: 130]، {أَقِمِ الصَّلََاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى ََ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كََانَ مَشْهُوداً} (78) [الإسراء: 78].
بل إنه قد نص في هذه الآيات المكية على تخصيص وقت العصر، نقرأ:
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسََانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) [العصر: 21]، وهو وقت الأصيل، قال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (25) [الإنسان: 25].
يقول الأستاذ محمد عبد الله دراز رحمه الله: «أما عدد الصلوات فنقرر أنه لا يوجد في جميع المراجع والمؤلفات الإسلامية التي اطّلعنا عليها أية إشارة إلى مثل هذا التطور، ومن المؤسف حقا أن النقاد الغربيين لا يدلوننا على الوثائق التي استقوا منها هذه الفكرة الغريبة، فطبقا لجميع الحقائق التي في متناول أيدينا فإن عدد هذه الصلوات خمس منذ أول لحظة شرعت فيها الصلاة بمكة، هكذا حددها الرسول عليه السلام، وأوضح تفاصيلها بكل دقة، ويشير
__________
(1) حديث المعراج فيه إشارات روحية ورموز لأمور حياتية وعقدية يجدها من تأمل هذا الحديث، ولا يمكننا أن نفصل فيه الآن القول، لأن هذا ليس غرضنا، وقد وفّق الله سبحانه لوضع كتاب خاص في ذلك أسميناه «المنهاج، نفحات من الإسراء والمعراج»، وقد طبع ولله الحمد.(1/126)
القرآن إلى ذلك بإيجاز في عدة مواضع، ومن المحتمل أن يكون قد تسرب هذا الفهم الخاطئ إلى ذهن الكتّاب الغربيين بسبب سوء تفسير عبارة الدلوك الواردة في سورة الإسراء» (1).
وهذا الذي افترضه أستاذنا الفاضل رحمه الله وهو أنه قد نتج هذا الخطأ من سوء فهم الآية الكريمة {أَقِمِ الصَّلََاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} لا دلالة فيه على ما ذهبوا إليه، ومن الممكن أن أفترض احتمالا آخر ولعله أقرب من سابقه، وهو ما جاء عن السيدة عائشة رضي الله عنها من أن الصلاة فرضت ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، ثم أقرت أربعا في الحضر وركعتين في السفر (2). ومع أن هذا احتمال بعيد كذلك فإن كلا الاحتمالين، ما ذكره أستاذنا الفاضل أو ما ذكرته أنا، لا يمكن أن يؤديا إلى هذا الفهم، مما يجعلنا نرجح ترجيحا هو أقرب إلى اليقين بأن مثل هذه القضايا لا يؤتى بها ولا تذكر على أسس منهجية علمية، ولم تكن ناتجة عن سوء في الفهم، بل عن تحريف متعمد، ومعذرة فأرجو أن لا يظن بنا أننا نقول هذا القول تجريحا، بل نحن نملك عليه الكثير من الأدلة، ويكفي أن نشير إلى بعضها:
شبهات اثارها المستشرقون
1 - ذكرت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى ََ حَرَجٌ وَلََا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلََا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}
في سورتين من كتاب الله، في سورة الفتح [آية: 17]، وقد جاءت في سياق الجهاد يقينا، وفي سورة النور [آية: 61]: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى ََ حَرَجٌ وَلََا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلََا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلََا عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبََائِكُمْ.} ولقد اختلف المفسرون في سبب نزولها، أهي في سياق الجهاد كآية الفتح، أم في سياق أمور حياتية أخرى كالأكل الذي تحدثت عنه الآية الكريمة، فلقد جاء بعد هذه العبارة: {وَلََا عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ}
__________
(1) «مدخل إلى القرآن الكريم» ص 158.
(2) رواه البخاري في كتاب الصلاة.(1/127)
{بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبََائِكُمْ.} وقد ذكر القاضي البيضاوي في تفسيره هذين الرأيين، فذكر أولا الرأي الذي يقول إن الآية نزلت في سياق الأكل، ثم ذكر الرأي الثاني الذي يقول إن الآية نزلت في سياق الجهاد بصيغة (قيل) الدالة على التضعيف فقال: «وقيل: نفي للحرج عنهم في القعود عن الجهاد وهو لا يلائم ما قبله وما بعده» (1).
وعبارة البيضاوي لا يشك أحد في أنها تتحدث عن التفسير وسبب النزول، فهو يقول: إن القول على أن الآية نزلت في الجهاد لا يلائم ما قبل الآية وما بعدها، فإن ما قبل هذه الآية يتحدث عن قضية العورات والزينة، وهي نفسها تتحدث عن الأكل ودخول البيوت، فحملها على الجهاد لا يعين عليه السياق.
وهذه العبارة لا تتعرض للآية نفسها من قريب ولا بعيد، ولكن أحد المستشرقين حمل قول البيضاوي حملا عجيبا غريبا، فادعى أن معناها أن وجود هذا الجزء من الآية هنا {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى ََ حَرَجٌ وَلََا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلََا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} لا ينسجم مع ما قبله ومع ما بعده، وعليه فإن هذا الجزء من الآية مقحم هنا! وهو من خطأ النساخ وليس له محل في هذه السورة! أفيمكن أن يكون هذا الادعاء ناشئا عن جهل وعدم معرفة؟ وعبارة البيضاوي صريحة واضحة، ولكنهم حملوها فوق ما تحتمل، وادعوا أن رأيهم الذي قالوه ليس من عند أنفسهم، وإنما هو رأي إمام مفسر من أئمة المسلمين ومفسري القرآن، وبدهي بأنه لا البيضاوي ولا أي مسلم أو منصف من غير المسلمين كذلك يقبل مثل هذا القول (2).
2 - كان ابن شهاب الزهري رحمه الله يكره للناس في زمنه أن يكتبوا الأحاديث، وذلك حتى لا يعتمدوا على الكتابة، بل كان يريد لهم التعويل على ذاكرتهم،
__________
(1) تفسير البيضاوي (2: 67).
(2) انظر: «فصل الخطاب في سلامة القرآن» ص 55.(1/128)
ولكن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك ألح على الزهري أن يكتب لابنه بعض الأحاديث كي يختبر حفظه، فما كان من الزهري بعد أن أملى على ابن الخليفة ما أملى، ما كان منه إلا أن أملى هذه الأحاديث على الناس كذلك، بعد أن كره لهم كتابتها، وما ذلك إلا لتكون المساواة بين الناس، وهذه إن دلت على شيء فإنها تدل على أمانة الزهري. قال الزهري: «أيها الناس إنا كنا قد منعناكم أمرا قد بذلناه الآن لهؤلاء، وإن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة الأحاديث فتعالوا حتى أحدثكم بها».
هذه كلمة الزهري لا تحتمل شيئا من نقد أو طعن على الزهري أو على الخلفاء، ولكن ماذا فعل جولدزيهر؟ لم يفعل شيئا إلا أنه حذف كلمة (أل)، فصارت الجملة هكذا: «إن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة أحاديث»، وفسرها بأنهم أكرهوه على كتابة أحاديث تتعلق بالأقصى، وهذا كله من أجل أن يتفق مع يهوديته، والفرق بين العبارتين شاسع، فالعبارة الأولى تدل على أمانة الزهري وإنصافه وصدقه، والعبارة الثانية تدل على عكس ذلك تماما. وتذكرني هذه بقرار مجلس الأمن (242) حيث جاءت فيه عبارة: «خروج اليهود من الأراضي المحتلة»، ولكنهم حذفوا (أل)، فصارت هكذا: «من أراضي محتلة»!
وأكتفي بهاتين الحادثتين، وهما تدلان دلالة واضحة على أن هذا التحريف لم يكن سببه جهلا وعدم معرفة، أو تعقيدا في النص، إنما هو أمر متعمد، كذلك قضية الصلاة، وكونها في المدينة تغيرت عما كانت عليه في مكة، وهذه قضية يطول الحديث فيها ويتشعب، لذلك آثرنا أن نكتفي بما ذكرناه.
القضية السادسة: موضوعات السور المتأخرة:
قول الموسوعة: «إلا أن السور التي جاءت مؤخرا تؤكد على مبدأ وحدانية الخالق، كما أنها تسفه الآلهة والأصنام التي يعبدها العرب، والإشارة في هذه السور إلى يوم البعث والجنة والنار أقل ذكرا وأقصر في التعبير عنها. وكما أن
هنالك تنديدا بعبدة الأصنام وللجاحدين والكافرين برسالة محمد، كما أن هنالك إشارة في هذه السور إلى الأنبياء الذين أنذروا شعوبهم وقوبلوا بالاستنكار فحلت بهم المصائب العنيفة عقابا لهم». اهـ.(1/129)
قول الموسوعة: «إلا أن السور التي جاءت مؤخرا تؤكد على مبدأ وحدانية الخالق، كما أنها تسفه الآلهة والأصنام التي يعبدها العرب، والإشارة في هذه السور إلى يوم البعث والجنة والنار أقل ذكرا وأقصر في التعبير عنها. وكما أن
هنالك تنديدا بعبدة الأصنام وللجاحدين والكافرين برسالة محمد، كما أن هنالك إشارة في هذه السور إلى الأنبياء الذين أنذروا شعوبهم وقوبلوا بالاستنكار فحلت بهم المصائب العنيفة عقابا لهم». اهـ.
موضوع السور من الموضوعات التي تركز عليها الموسوعة البريطانية، وهذا ناشئ عن الروح العامة للمستشرقين وللكنيسة على السواء، فهناك غاية تبذل لها كل المحاولات لتكون قناعة عند الآخرين، وهي أن موضوعات السور القرآنية إنما هي خاضعة للظروف الزمنية، وللبيئات المختلفة، فموضوع السور الأولى يختلف عن موضوع السور الأخيرة، ولقد عرضنا لشيء من هذا في القضايا السابقة، وكان من الممكن أن نجعل ذلك كله في قضية واحدة، إلا أنّا آثرنا التفصيل.
موضوعات السور المتاخرة
موضوع السور المتأخرة كما جاء في هذه الفقرة هو أنها:
1 - تؤكد مبدأ وحدانية الخالق سبحانه.
2 - كما تؤكد تسفيه آلهة العرب وأصنامهم وتندد بعبدة الأصنام كذلك.
3 - يذكر فيها حديث الأنبياء مع شعوبهم الذين أرسلوا إليهم.
4 - يقل فيها ذكر الجنة والنار واليوم الآخر.
أما قضية التوحيد فلقد تحدثنا عنها من قبل في موضوع خاص، وبينا بما لا يقبل الريب أن مبدأ التوحيد كان منذ اللحظة الأولى لرسالة النبي عليه وآله الصلاة والسلام، ولا فرق فيه بين أول سور القرآن وآخرها.
ولا شك أنه إذا ثبت أن قضية التوحيد كانت كذلك، وهي كذلك، فإن من بدهيات العقل أن من لوازم التوحيد التنديد بالأصنام، والنعي واللوم على من يعبدونها كذلك، وإذن فالتنديد بالأصنام وعبدتها لم يكن في السور المتأخرة أكثر منه في السور المتقدمة، فالخالق هو الله وحده، كما جاء في سورة العلق، والذي ينبغي أن يكبر ويعظم وحده هو الله كما جاء في سورة المدثر.(1/130)
ولا نود أن نبسط القول في قضية بدهية، فإذا أثبتنا أن توحيد الخالق كان في الآيات الأولى فلسنا بحاجة أن نثبت أن التنديد بالأصنام وتسفيهها وتسفيه عابديها كان في هذه المرحلة كذلك، لأنهما أمران متلازمان لا يفصل العقل أحدهما عن الآخر.
أما ذكر القصص في هذه السور فهي قضية تحتاج منا إلى كلمة موجزة:
إن نظام القصص في القرآن نظام محكم بديع يخضع لعوامل بيانية من جهة وتربوية ونفسية من جهة أخرى. وهذا النظام لا يكاد يتخلف في قصة ما، وهو نظام ذو مراحل ثلاث:
الأولى: الإجمال والإشارة، وهي ذكر القصص في القرآن الكريم ذكرا مجملا يبدأ بإشارات موجزة، ثم تطول شيئا فشيئا.
الثانية: تفصيل الوقائع والأحداث أي: ذكر القصص ذكرا تفصيليا.
الثالثة: الغاية والنتيجة، وهي مرحلة الخلاصة والاستنتاج، حيث تذكر خلاصة للقصة، وربما تكون فيها بعض الزيادة التي لم تذكر في حالة التفصيل.
وهذا النظام القصصي في القرآن الكريم يظهر ظهورا تاما، وبخاصة إذا درسنا فيه القصة دراسة موضوعية حسب الزمن الذي نزلت فيه، لا من حيث ترتيب السور في المصحف، وهذه الدراسة تطلعنا على كثير من الأسرار، ومن أبرزها: نفي التكرار عن القصص القرآني (1).
بقيت قضية اليوم الآخر والجنة والنار، فهل ذكرها في هذه السور الأخيرة أقل من ذكرها في السور الأولى كما جاء في الموسوعة البريطانية؟ يقيننا أننا حينما نرجع إلى آي القرآن وسوره الأولى والأخيرة كذلك، فسنجد أن القرآن
__________
(1) راجع كتابنا «القصص القرآني، إيحاؤه ونفحاته».(1/131)
ركز كثيرا على قضية البعث واليوم الآخر تركيزا مبثوثا في سوره جميعا، أولها وآخرها، مكيها ومدنيها، ولكنه ليس ذكرا عشوائيا، بل هو تركيز موضوعي بعيد عن شائبة التكرار، خال من عيب اللغو (1).
وهكذا إذن يمكننا أن نستخلص ما يلي:
إن موضوعات السور القرآنية تتسق بعضها مع بعض، فهناك موضوعات عامة تتعلق بالعقيدة والأخلاق وما يتصل بها من وسائل، وهناك موضوعات خاصة يتعلق بعضها بالأحكام، أسرية ومدنية وجنائية، ويتعلق بعضها بمحاجّة عبدة الأصنام وذكر الأمم السابقة والموضوعات الأولى العامة نجد التركيز عليها في القرآن كله، أما الموضوعات الخاصة، فقضايا الأحكام نجد التركيز عليها في السور المدنية وذلك لأنها تلح عليها حاجات المجتمع المسلم، أما الموضوعات الأخرى، وهي ما يتعلق بالأصنام والقصص، فتكون أكثر ما تكون في السور المكية أولها وآخرها وذلك لأن الحاجة تلح عليها في ذلك المجتمع المكي، وليست الموضوعات القرآنية خاضعة لغير هذا الترتيب، لا كما زعمته الموسوعة البريطانية.
القضية السابعة: وظيفة الأنبياء:
قول الموسوعة: «إن فشل الأنبياء في إقناع شعوبهم يعكس أيضا تجربة محمد وفشله في تبليغ دعوته». اهـ.
إن القرآن الكريم يرفع من قدر الأنبياء، ويحلهم المكانة التي تليق بهم، فهم رسل الله اختارهم لتبليغ رسالته، ودعوتهم لأقوامهم مثل يحتذيه المصلحون ورجال التربية والتعليم والأخلاق.
__________
(1) راجع بحثنا «قضية التكرار في القرآن».(1/132)
وإذا كان الكثيرون منهم لم يستجب لهم أقوامهم، فإن ذلك لا يعود إلى إخفاقهم في تبليغ الرسالة، ولا إلى تقصير ناشئ عن خطأ في تبليغ الرسالة، أو اعوجاج في الطريقة المتبعة، وعليه فإن هذا الإخفاق لم ينشأ عن عيب تربوي في شخصية الداعي ومنهجيته، وإنما نشأ عن عناد وإصرار على الخطأ عند بعض أولئك المدعوّين. وهذه طبيعة ليست عند أولئك فحسب، ولكن هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم ليسوا إلا مثلا للإنسانية كلها، في جميع ظروفها وعصورها، فدعاة الخير في كل زمان يجدون المعارضة، ويلقون المشقة، ويقابلون في طريقهم صعوبات كثيرة.
هذه سنة من سنن الله في المجتمع البشري، والقرآن حينما يذكر الأنبياء عليهم السلام، فهو يقصد تثبيت النبي من جهة، والإشادة بالمؤمنين كي لا يؤثر فيهم ما يلقونه من خصومهم من جهة ثانية، وتحذير أولئك المعاندين من جهة ثالثة. ولكننا نجد فروقا بين النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام جميعا، فالأنبياء كانت تنتهي دعواتهم بإرسال العذاب على المكذبين من أقوامهم، وهكذا يسدل الستار على كل قصة من هذا القصص، فيهلك المكذبون وينجي الله النبي ومن معه، ولا يحدثنا القرآن شيئا بعد ذلك عن أولئك الذين نجوا من العذاب.
ولكن الأمر ليس كذلك في رسالة الرسول عليه وآله الصلاة والسلام، إنما كان هناك وعد بالنصر والغلبة والاستخلاف للمؤمنين به، ولقد صدق الله وعده.
وعلى هذا فليس هناك إخفاق (1) كما جاء في الموسوعة.
وهناك فروق شاسعة من حيث النتائج بين الأنبياء السابقين وبين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع أنهم جميعا إخوة، فالرسول أمر بالجهاد ووعده
__________
(1) آثرنا كلمة إخفاق لأنها أصح من كلمة فشل.(1/133)
الله باستخلاف المؤمنين معه، والتمكين لهم في الأرض، وما ذلك إلا لأن طبيعة هذا الدين تختلف عن طبيعة غيره من الديانات السابقة، فهو دين الإنسانية كلها.
وهذه الفروق والمقارنات يمكن أن نفيد منها في القضية الثامنة، بل الأمر في القضية الثامنة أكثر بعدا وأبعد مقارنة كما سنعلم ذلك.
القضية الثامنة: المقارنة بين الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبين ماني:
«إن محمدا ما هو إلا حلقة في سلسلة من رسل جاءت قبله لتنذر شعوبا عن يوم الحساب، فجاء هو كآخر حلقة في هذه السلسلة كما جاء (ماني) في القرن الثالث بعد الميلاد كمصلح إيراني جاء كآخر حلقة في سلسلة من الأنبياء من قبله، ومن الجدير بالذكر أن بعض الأنبياء المشار إليهم في القرآن هم نفسهم مشار إليهم في التوراة والإنجيل مثال على ذلك نوح وموسى وإبراهيم وعيسى، وآخرون يظهر أن أسماءهم مشتقة من أصل عربي كهود وصالح، كما أن هنالك ذكر لأسماء مثل مريم وزكريا ويوحنا المعمدان وداود وسليمان ويعقوب».
صحيح أن النبي عليه وآله الصلاة والسلام إنما هو واحد في موكب أولئك البررة رسل الله {لََا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] وصحيح كذلك أن كثيرا من هؤلاء الأنبياء عليهم السلام الذين ذكروا في القرآن، قد ذكروا في التوراة كذلك، وهذا أمر طبعي فهم جميعا رسل الله أرسلهم الله لسعادة البشرية، وكل منهم يكمل ما بدأه من أرسل قبله {* شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مََا وَصََّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ وَمََا وَصَّيْنََا بِهِ إِبْرََاهِيمَ وَمُوسى ََ وَعِيسى ََ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلََا تَتَفَرَّقُوا} [الشورى: 13] {* إِنََّا أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ كَمََا أَوْحَيْنََا إِلى ََ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنََا إِلى ََ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْمََاعِيلَ وَإِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبََاطِ وَعِيسى ََ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهََارُونَ وَسُلَيْمََانَ وَآتَيْنََا دََاوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنََاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ}
{تَكْلِيماً (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلََّا يَكُونَ لِلنََّاسِ عَلَى اللََّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكََانَ اللََّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (165) [النساء: 165163].(1/134)
صحيح أن النبي عليه وآله الصلاة والسلام إنما هو واحد في موكب أولئك البررة رسل الله {لََا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] وصحيح كذلك أن كثيرا من هؤلاء الأنبياء عليهم السلام الذين ذكروا في القرآن، قد ذكروا في التوراة كذلك، وهذا أمر طبعي فهم جميعا رسل الله أرسلهم الله لسعادة البشرية، وكل منهم يكمل ما بدأه من أرسل قبله {* شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مََا وَصََّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ وَمََا وَصَّيْنََا بِهِ إِبْرََاهِيمَ وَمُوسى ََ وَعِيسى ََ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلََا تَتَفَرَّقُوا} [الشورى: 13] {* إِنََّا أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ كَمََا أَوْحَيْنََا إِلى ََ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنََا إِلى ََ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْمََاعِيلَ وَإِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبََاطِ وَعِيسى ََ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهََارُونَ وَسُلَيْمََانَ وَآتَيْنََا دََاوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنََاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ}
{تَكْلِيماً (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلََّا يَكُونَ لِلنََّاسِ عَلَى اللََّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكََانَ اللََّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (165) [النساء: 165163].
والرسول الكريم بيّن هذه القضية في أحاديث كثيرة، فهو يقول: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها وأجملها وترك فيها موضع لبنة لم يضعها فجعل الناس يطوفون بالبنيان، ويعجبون منه ويقولون، لو تم موضع هذه اللبنة، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة» (1).
ثناء القرآن على الانبياء السابقين
وإذا استعرضنا القرآن والسنة فإننا لا نجد إلا ثناء على الأنبياء، يتفق مع جلالة قدرهم، فأخبار الأنبياء في القرآن تشبه بستانا ليس فيه إلا الزهرة الزكية، والثمرة الشهية، فليس فيه شوك ولا عوسج ولا نبتة تقذى بها العين، أو يزكم بها الأنف، ولكننا مع ذلك نجد فروقا تكثر حينا وتقل أحيانا بين ما جاء عن أولئك في القرآن وفي الكتب السابقة عليه إذ أنّ نهج القرآن في ذكر هؤلاء الصفوة المختارة نهج خاص كما عرفنا من قبل، وكما سنعرفه فيما بعد.
مانى ومكان ظهوره
ولكن الذي يجب أن ننبه إليه هنا، هي هذه المقارنة بين النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم وبين ماني الذي ظهر في بلاد الفرس، فإذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، فلا تصح مقارنته بماني الذي ادّعى أنه في آخر سلسلة أولئك المصلحين من الفرس.
ونحن نعلم أن ما جاء به ماني كان مزيجا من المجوسية والنصرانية (2)، ثم إن ماني ظهر في الفرس وللفرس. وليس من غرضنا أن نتحدث عن طبيعة المبادئ التي جاء بها، ولكن النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم إنما أرسل للناس كافة، ثم لماذا نبعد كثيرا ونحن الآن في أواخر القرن العشرين، وهذا الدين الذي جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم، رغم كل ما يبذل في صدّ الناس عنه، ومع كل ما
__________
(1) رواه البخاري كتاب المناقب باب خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلّم (3: 1300).
(2) «الملل والنحل» للشهرستاني (2: 81).(1/135)
يكاد له ولأهله، ورغم الضغوط الداخلية والخارجية، رغم كل ذلك فهو يفرض وجوده على العقول التي تبحث عن الحق، والقلوب التي تهش للنور، وأين هذا كله مما جاء من ماني، وما جاء به؟، وها هو الواقع يؤكد صدق ما جاء به الرسول الكريم عليه وآله الصلاة والسلام، فمع كثرة أولئك الذين ادعوا النبوة بعده، إلا أن أحدا منهم لم يثبت على ما ادّعاه، بل يصير أضحوكة يتندّر بها الناس، وليس ذلك بالطبع إلا لصدق الرسالة وصدق الرسول.
القضية التاسعة: أسلوب القرآن:
قول الموسوعة: «وفي نهاية الفترة التي قضاها الرسول في مكة بدأ يظهر التغير في أسلوب القرآن، إذ بدأت الآيات تطول، ولغتها العنيفة تتحول إلى أسلوب نثري لطيف ثم هنالك أمثلة تضرب على المطر الذي يحيي الأرض بعد موتها تماما، كما يحيي الله الأموات يوم القيامة. ثم هنالك قصة البحارة الذين أخذوا على حين غرّة برياح عاصفة، ثم دعوا الله أن ينقذهم ثم نسوه بمجرد أن أنقذهم وفي ذلك إشارة إلى التقلب في طبيعة البشر». اهـ.
دعوى التغاير فى الاسلوبين المكى والمدنى
إن دعوى التغاير بين الأسلوب المكي والمدني ليست جديدة، ولم تنفرد بها الموسوعة كذلك، وإنما هي كغيرها من هذه القضايا التي أثيرت حول القرآن، ولقد مر بنا طرف من هذا من قبل في القضية الخامسة والحقيقة أنه قد تأثر بهذه القضية بعض الكتّاب الذين تتلمذوا على أيدي المستشرقين وبخاصة في أوائل هذا القرن، وعلى التحديد في العشرينات، كما فعل طه حسين، فانبرى كثير من علماء المسلمين للردّ على ما جاء به (1).
لقد قلت من قبل: إن أسلوب القرآن من الناحية البلاغية، وعلوّ شأنه من حيث النظم لم يتغير في مراحل نزوله كلها، ولكن طبيعة الموضوع الذي يعرض
__________
(1) الشيخ محمد الخضر حسين، محمد عرفة، محمد الغمراوي، مصطفى صادق الرافعي.(1/136)
له القرآن قد تتطلب بعض التغيرات العرضية لا الجوهرية، فأسلوب القصة بالطبع لا ينبغي أن يكون كأسلوب آيات التشريع، وأسلوب الوعد يختلف عن أسلوب الوعيد، ولكن هذا الاختلاف لا يتطرق إلى الجودة والسمو، ولقد بينت ذلك في القضية الأولى من هذا الفصل، ولا أرى ضرورة لإعادة مثل هذا القول.
أما الأمثلة التي تضرب في القرآن فإنا نجدها مبثوثة في السور المكية والمدنية على السواء (1).
الامثال فى القرآن
والأمثال في القرآن كثيرة، ومع أنها من وسائل الإيضاح والإقناع إلا أنها مع ذلك ليست قضية شكلية، بل نجد أن مضامين هذه الأمثال فيها من الحقائق العلمية الكونية الكثير الكثير، كما لها كذلك من الإقناع والتأثير، إنها بحق تقنع العقل وتمتع العاطفة على السواء.
أما قصة البحارة هذه فإنما هي أمثلة منتزعة من واقع البشر، وليست قصة تعني حادثة معينة أو أشخاصا معينين، كقصص الأنبياء عليهم السلام بل هي أمثلة جيء بها لبيان طبيعة البشر والدلالة على ضعفهم وتقلب أحوالهم هذا من جهة، ومن جهة أخرى لبيان الفطرة التي فطر عليها هذا الإنسان، وهي فطرة التدين التي انحرف عنها كثيرون بحكم عوامل متعددة ترجع إلى الهوى،
__________
(1) انظر قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا كَمََاءٍ أَنْزَلْنََاهُ مِنَ السَّمََاءِ} [الكهف: 45]، {إِنَّمََا مَثَلُ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا كَمََاءٍ أَنْزَلْنََاهُ مِنَ السَّمََاءِ} [يونس: 24]، {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيََاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتََّى إِذََا أَقَلَّتْ سَحََاباً ثِقََالًا سُقْنََاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنََا بِهِ الْمََاءَ فَأَخْرَجْنََا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ كَذََلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى ََ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (57) [الأعراف: 57]، {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمََالُهُمْ كَرَمََادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} [إبراهيم: 18]، {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْلِيََاءَ} [العنكبوت: 41]. وهذه سور مكية. وانظر: {* اللََّهُ نُورُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور: 35]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمََالُهُمْ كَسَرََابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 4039]، {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمََا لََا يَسْمَعُ} [البقرة: 171]، {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنََابِلَ} [البقرة: 261]. وهذه سور مدنية.(1/137)
ونزوات النفس، ونزغات الشيطان، وهيمنة المادة، فالهدف من هذه الأمثلة حث للإنسان أن يرجع إلى فطرته السليمة حتى يستقيم في مسلكه، ويرشد في فكره، ويسمو في روحه.
ولا شك أن العقل السليم يمكن أن يهدي الإنسان في هذا المضمار، إلا أن هداية الدين تظل هي الهداية المثلى، والأكثر كمالا، والأقوم نهجا. هذا ما يقصده القرآن من هذه الأمثلة، فليست قصة من القصص كما قلت من قبل، بل هي من الأمثلة التي ليست في بعض القرآن دون بعضه الآخر.
القضية العاشرة: تعدد النزول:
قول الموسوعة: «ثم إن هنالك آيات أوحي بها سابقا ثم تعاد كما هي مع إضافة قليلة في التوضيح والبيان».
القول بالتكرار
لقد تحدثنا عن هذا عند حديثنا عن التكرار، وبيّنا هناك أن ما يتوهم بأنه تكرار في كتاب الله، حينما ننعم النظر فيه، فإننا نجده ليس كذلك، وتعدد النزول على الرغم من أن بعض العلماء لا يرى به بأسا، إلا أن الذي يبدو لنا بعد نظر ثاقب أن ليس الأمر كذلك، فليس هناك داع لأن تنزل الآية أكثر من مرة واحدة، والروايات التي اعتمد عليها أولئك العلماء يمكن أن تناقش.
ولكن الذي تعنيه الموسوعة هنا، هو أن هناك آيات تعدد نزولها، مع ما بينها من تشابه، ولقد أثبتنا في بحث التكرار أن كل آية أو جملة، أو قصة يبدو لأول وهلة أن بينها وبين ما يشابهها شبهة تكرار، أمر غير مقبول بعد إجالة الفكر، ولعل أقوى سند للقائلين بالتكرار هو ما يجدونه في بعض القصص القرآني.
ونحن بالطبع لا تسمح لنا طبيعة هذا البحث أن نفصّل في هذه القضية تفصيلا، إلا أننا ننقل هنا كلمة لأحد العلماء الذين يشهد لهم بسعة المعرفة،
وطول الباع، وتنوع الثقافة، ذلكم هو الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين، شيخ جامع الأزهر الأسبق حيث يقول:(1/138)
ونحن بالطبع لا تسمح لنا طبيعة هذا البحث أن نفصّل في هذه القضية تفصيلا، إلا أننا ننقل هنا كلمة لأحد العلماء الذين يشهد لهم بسعة المعرفة،
وطول الباع، وتنوع الثقافة، ذلكم هو الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين، شيخ جامع الأزهر الأسبق حيث يقول:
«إنه لا تكرار في القصص القرآني، وإنما كل قصة في سورة، فيها من المعاني والحكم ما لا يوجد في سورة أخرى، وسياق السور وظرفها يحددان موضع العبرة من القصة، فليس من السهل أن يقال: في كل سورة جاءت فيها قصة موسى مع فرعون إنها قصة واحدة، بل الواجب أن ندرس القصة في كل سورة، ليتبين السياق الذي جاءت من أجله، والعبرة التي هدفت لها، والحكمة التي قصدت منها».
ويمثل الشيخ بقصة آدم عليه السّلام ويقول: «إنها وردت في ست سور، في البقرة والأعراف والحجر والإسراء وطه (1)، ففي سورة البقرة وردت القصة في سياق تذكير الناس بنعمة الله، والعجب أنهم يكفرون به، فكانت القصة تدور على هذا التذكير من جعل آدم خليفة، وتعليمه الأسماء كلها.
وفي سورة الأعراف، وردت هذه القصة في سياق أن الناس قليلا ما يشكرون الله، الذي مكنهم في الأرض، وجعل لهم فيها معايش، ولذلك أسهبت القصة في موقف إبليس من الإنسان.
وفي سورة الحجر وردت القصة في سياق خلق الإنسان من طين، والجن من نار، فليست مادة أفضل من مادة، وهذا ما ركزت عليه القصة.
أما سورة الإسراء، فقد وردت قصة آدم في سياق فتنة الناس، ولذلك كان الإسهاب فيها في واقعة حسد إبليس وعدائه لآدم وذريته» (2).
__________
(1) ولم يذكر سورة (ص).
(2) مجلة لواء الإسلام، العدد السابع، السنة الرابعة ص 554537.(1/139)
وهذه الدراسة يمكن أن نجريها على كل قصة أو موضوع أو جملة يظن تكرارها (1).
القضية الحادية عشرة: نهاية العالم:
قول الموسوعة: «إن قدرة الخالق ومعجزاته وحكمته في الخلق هي الفكرة التي ركز عليها بكل ما أوتيت الآيات من بيان. إلا أن العنصر الوصفي لنهاية هذا العالم لم يركز عليها كيف، بل إن التركيز كان على أن ذلك يتم بتدخل من الإله العادل». اهـ.
إن هذه الحقبة التي تشير إليها الموسوعة، وهي الفترة التي قضاها الرسول في مكة، كانت تعالج لا شك قضية العقيدة، وهي من أخطر القضايا في أي دين وأيّ مبدأ كذلك، وهذا يتطلب بالطبع أمرين اثنين: إقامة الأدلة أولا، ورد الشبهات ثانيا.
اقامة الادلة على العقيدة ورد الشبهات
أما إقامة الأدلة فالعجيب في هذا القرآن أن أدلته لم تكن من تلك الأدلة الجافة التجريدية، التي عهدناها عند الفلاسفة الميتافيزيقيين، ولم تكن كذلك من تلك الأدلة الخطابية أو الشعرية التي تعوّل على تضخيم العبارة، وإثارة العاطفة بعيدا عن مجال الفكر، ولكنها والحق يقال إذا تدبرت كانت أدلة لا تغفل العقل ولا تهمل الوجدان فهي لا تقسم الإنسان إلى مناطق مختلفة، منطقة للعقل، وأخرى للإحساس، ونظرة في بعض هذه الأدلة يدرك القارئ مصداقية هذا القول (2).
__________
(1) اقرأ كتابنا «القصص القرآني، إيحاؤه ونفحاته» وبحثنا «قضية التكرار في القرآن».
(2) انظر: {«أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسََانُ أَنََّا خَلَقْنََاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} [يس: 77]، {يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} [الحج: 5]، {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ} الخ [النمل: 60].(1/140)
وكذلك رد الشبهات: لم يكن ذا طابع صاخب، بل كان مهذّب اللفظ، قوي المعنى، لذلك كانت الآيات في هذه الفترة تركز على قضية العقيدة كما قلت، ولكن لا يظنن أحد أن روعة الأدلة إقناعا وإمتاعا، وإحكام ردّ الشبهات كان في هذه الفترة فحسب، بل إن القرآن كله كان له هذا الطابع أيّا كانت الفترة التي نزلت فيها الآيات، وأيّا كان الموضوع الذي يعالجه ويريد تثبيته في النفوس.
إن القرآن كتاب دين جاء ينشئ أجيالا إنسانية متعاقبة، ولا بد من أن يكون فيه هذا الطابع المرن الذي لا يرضي إنسان القرن السادس الميلادي فحسب، بل يجد فيه إنسان القرن العشرين وما بعده كذلك، ما ينشده لصلاحه، وما يبتغيه لخيره.
قضية اليوم الآخر
أما قضية اليوم الآخر، وعدم التركيز على العنصر الوصفي لهذا اليوم، فهي قضية لا يمكننا أن نسلمها، ولا يمكن أن نسلم بصحتها ذلك لأن الآيات التي تحدثت عن اليوم الآخر، استفاض الحديث فيها عن طبيعة هذا اليوم وأوصافه، وما يحدث فيه من ظواهر، وهذا بالطبع غير الأدلة على مجيء هذا اليوم، وغير ما أعدّ للناس فيه كذلك، ونحن نفهم أن العنصر الوصفي هو إعطاء فكرة تامة عن الشيء المتحدث عنه.
ولكن تبقى هناك قضية ذات أهمية وهو أن اليوم الآخر الساعة من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله، ولا يجلّيها لوقتها إلّا هو، وعلى هذا فليس من الحكمة أن يبين للناس أكثر مما يحتاجون إليه، وما تقوم به الحجة عليهم.
القضية الثانية عشرة: هدف القصص القرآني:
قول الموسوعة: «إن الإشارة إلى الأنبياء السابقين قد ركز عليها أكثر في تلك الحقبة، إلا أن ذكر عيسى قد جاء بصورة أقل وقد ركز كثيرا على وحدانية الخالق، كما أن الآلهة التي يعبدونها من غير الله لن تكون قادرة على حماية عابديها يوم القيامة». اهـ.(1/141)
تناولت من قبل موضوع قصص الأنبياء في القضية السادسة، والطريقة المثلى التي سلكها القرآن، وبينت الأطوار الثلاثة، والمراحل في سرد هذا القصص فليس من الحكمة أن نكثر من القول دون طائل.
وقد تكلمت كذلك فيما مضى عن قضية الوحدانية، وبينت أنه لم يركز عليها في هذه الحقبة الأخيرة من العهد المكي فحسب، فلا داعي لإعادة القول في هذه المسألة كذلك.
إلا أن المسألة التي لا بد أن نعرض لها في هذه القضية، هي التي تتعلق بذكر سيدنا عيسى عليه السلام، وأنه لم يذكر كثيرا في هذه الفترة، كما ذكر غيره من الأنبياء وتحقيقا للحق نبيّن ما يلي:
القصص القرآني رغم أن هناك هدفا عاما وحكمة مشتركة من هذا القصص إلا أن هناك فوارق يدركها الدارسون ذلك أن بعض هذا القصص كان يتعلق بالدعوة تعلقا مباشرا، وهي تلك القصص التي كانت تحكي لنا دعوة الأنبياء لأقوامهم، وموقف أقوامهم منهم، وما لاقاه هؤلاء الأنبياء، وما بذلوه من جهد، وما استقبلوا به من معارضة هذا النوع الذي يتعلق بالدعوة تعلقا مباشرا، اقتضت طبيعة الرسالة المحمدية أن يذكر هذا القصص في سور كثيرة، ولا أقول أن يكرر، ففي كل سورة يذكر مشهد من مشاهد القصة لا يوجد في غيرها غالبا، وهكذا كان يذكر في كل سورة من مشاهد القصة ما يتناسب مع موضوعها وشخصيتها. فقصة نوح مثلا ذكرت في سورة هود [الآيات: 4925]، وسورة نوح، وسورة الشعراء [الآيات: 122106] وسورة القمر [الآيات: 179]، وغيرها. ولكن المتأمل يدرك لأول وهلة أن هذه القصة ليست سواء في هذه السور جميعا، بل كل سورة تذكر فيها مشاهد معينة من تلك القصة غير التي ذكرت في سورة أخرى. إن قصة نوح في سورة نوح فيها من المشاهد والأحداث والمواقف ما ليس في سورة هود، وكذلك يقال في كل قصة وكل سورة. هذا هو النوع الأول من القصص القرآني.(1/142)
وهو الذي يتعلق بالدعوة تعلقا مباشرا كما قلت، وهناك نوع آخر له أهدافه التربوية والاجتماعية، والنفسية، والفكرية، وهذا النوع يختلف عن سابقه لأنه لا يحكي هذه المشادة بين الأنبياء وبين أقوامهم، وإنما يتحدث لنا عن قضايا ذات أثر آخر، ويظهر هذا النوع في قصة يوسف، وقصة داود وسليمان، وقصة عيسى، عليهم السلام، ولذا فإنا نجد هذا النوع من القصص لم يذكر كالنوع الأول، ذلك لأن الحكمة لا تقتضي ذكره كثيرا، فالنوع الأول كما قلت تعددت مشاهده في سور كثيرة، أما هذا النوع الآخر فلقد كان ذكره لأهداف متعددة كما قلت من قبل ولذا يبدو لأول وهلة أنه لم يركز عليه كثيرا، ولكن الأمر ليس كذلك فليس الأمر متعلقا بالكثرة والقلة، أو بالتركيز وعدمه، وإنما هو أمر الحكمة التي ليس فيها إسراف. فكون قصة عيسى ذكرت أقل من غيرها، ليس الأمر لأنه لم يركز على هذه القصة في القرآن، ولكن الأمر على العكس من ذلك تماما، فإن هذه القصة قد ذكرت ذكرا يفي بالحاجة، ويتم به الهدف والقصد. فقصة يوسف مثلا ذكرت مرة واحدة، وقصة داود وسليمان ذكرت في سورة الأنبياء وسورة النمل وسورة سبأ وسورة ص، وكانت كل سورة تذكر حدثا يتلاءم مع موضوعها لا يوجد في غيرها كذلك قصة عيسى عليه السلام ذكرت في سورة مريم المكية، وفي سورة آل عمران المدنية، وطرف في سورة النساء، وكانت كل سورة تذكر ما يتلاءم مع موضوعها كذلك.
إن أمر القصص في القرآن يحتاج إلى دراسة ودراية ودربة، ونرجو أن نكون قد أعطينا فكرة تامة في كتابنا «القصص القرآني إيحاؤه ونفحاته»، كما نرجو أن يكون ما ذكرناه هنا على ما فيه من إيجاز موفيا بالغرض الذي قصدناه من أجله، ولله الحمد في الأولى والآخرة.
* * *
الفصل الرابع مصير الإنسان ما جاء في الموسوعة وردّه في خمس قضايا(1/143)
* * *
الفصل الرابع مصير الإنسان ما جاء في الموسوعة وردّه في خمس قضايا
جاء في الموسوعة تحت هذا العنوان: «إن مصير الإنسان كله بيد خالقه، كما أن إيمانه وكفره يعتمدان على إرادة خالقه فالآية تقول: إنهم لا يؤمنون إلا إذا شاء الله، كما أنه ليس هنالك حرية الإرادة للإنسان. ولا يلام الرسول على كفرهم لأن الأمر كله سيعود إلى خالقهم الذي قدر لهم ذلك أزليا، إلا أن هنالك بعض الآيات التي تركت للإنسان بعض الحرية أن يستمع لما يقوله النبي، وهو بعدها يقوم باختيار طريق الحق أو الضلال، فدور محمد كنذير لهم قد أكد في الآيات.
إن تعاليم محمد تؤكد أن الوحي قد نزل على رسل من قبله فإبراهيم يبدو وكأنه مؤسس الدعوة إلى الوحدانية بالخالق ثم جاء بعده محمد كوارث له لهذه الدعوة. وهنالك محاولات وجهود واضحة لإيجاد روابط بين الإسلام واليهودية التي سبقته.
إن أسلوب الآيات التي نزلت في المدينة تشبه أسلوبها في مكة قبيل الهجرة وهي تركز على تكوين مجتمع إسلامي حديث يحرض فيه المؤمنين على القتال، ويلوم فيه المتقاعسين. وفي هذه الفترة نظمت العلاقة بين المؤمنين وبين الرسول في طريقة التحدث له، كما نزلت الشرائع تنظم الميراث والزواج وتنظم الطقوس الدينية للصوم والحج.(1/145)
كما أنه في هذه الفترة نمت العداوة بين اليهود والمسلمين حيث اتهم اليهود بأنهم غيروا المخطوطات وهجروا التعاليم الدينية لإبراهيم مؤسس الكعبة.
وإن الوحي في هذه الحقبة أجاب على أسئلة كثيرة، كما أنه تعرض لمسائل شخصية بين محمد ومعاصريه، ومما لا شك فيه أن محمدا كان مخلصا في دعوته وموصلا لكل كلمة استلمها من الحق». اهـ.
القضية الأولى: حرية الإرادة:
جاء في الموسوعة: «إن مصير الإنسان كله بيد خالقه، كما أن إيمانه وكفره يعتمدان على إرادة خالقه فالآية تقول: إنهم لا يؤمنون إلا إذا شاء الله، كما أنه ليس هنالك حرية الإرادة للإنسان. ولا يلام الرسول على كفرهم لأن الأمر كله سيعود إلى خالقهم الذي قدّر لهم أزليا، إلا أن هنالك بعض الآيات التي تركت للإنسان بعض الحرية أن يستمع لما يقوله النبي، وهو بعدها يقوم باختيار طريق الحق أو الضلال، فدور محمد كنذير لهم قد أكد في الآيات».
إن قضية القضاء والقدر، أو الجبر والاختيار، وحرية الإرادة أو قهرها، وكون الإنسان مسيرا أو مخيرا، إن هذه المسألة ليست وليدة الآيات القرآنية، وليست ناشئة عن ظهور الإسلام، أي أنها مشكلة قديمة ظهرت في الفلسفات الإلهية قبل الإسلام، وهي في الديانات السماوية كاليهودية والنصرانية، بل نجد لها أثرا في الديانات الشرقية القديمة.
وعلى هذا فليس القرآن سبب تعقيد هذه القضية، بل على العكس من ذلك سنجد ما جاء به القرآن والسنّة كان أقرب لحل هذه القضية المعقدة مما ذكر من قبل.(1/146)
أصل المسألة:
يبدو أن أصل المسألة يرجع إلى صعوبة التوفيق بين عمل الخالق، وطبيعة المخلوق، فإذا كان الله هو المهيمن على كل شيء، والخالق لكل شيء، والعليم بكل شيء علما أزليا قديما، فمعنى ذلك أنه يعلم ما سيفعله كل واحد من البشر حتى قبل أن يخلقهم، وعلى هذا الأساس فالبشر لا يعملون إلا ما قدّر لهم أن يعملوه، فدائرة أعمالهم وتصرفاتهم لا تخرج بحال ما عن الدائرة الأزلية المتعلق بها علم الله تبارك وتعالى، وإذن فليس للإنسان حريّة فيما يفعل أو يترك، وفيما يحب أو يكره، وفي إيمان أو كفر.
كيف عالج القرآن هذه المسألة:
هذا هو أصل هذه المسألة المعقدة بإيجاز، ولكن كيف عالجها القرآن؟
إن المتدبر لآي الكتاب الكريم منذ نزول أول آية، يدرك أن القرآن فتح الباب على مصراعيه لهذا الإنسان، ليدخل إلى ما يمكنه للرقي إلى درجات الخير، وامتنّ عليه بما منحه ما لم يمنح مخلوقا آخر من قدرة على النظر، وذلك بما وهبه من آلات الفكر، وهذا يظهر جليا في أكثر آي القرآن {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} [يوسف: 109]، {أَفَلََا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (17) [الغاشية: 17]، {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 8]، {* قُلْ إِنَّمََا أَعِظُكُمْ بِوََاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلََّهِ مَثْنى ََ وَفُرََادى ََ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ: 46]، والآيات في ذلك كثيرة جدا لا يمكننا إحصاؤها وحصرها ولا شك أن الحكمة من هذا النظر في هذه الآيات جميعها ليس إلّا اختيار الطريق الأمثل.
والحق أن القرآن منح الحرية كل الحرية لهؤلاء الذين يستمعون إليه، ولم يمنعهم شيئا من هذه الحرية، كما أنه لم يمنحهم بعضها فحسب كما في الموسوعة {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لََا تُؤْمِنُوا} [الإسراء: 107]، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شََاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شََاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، بل هذا هو مبدأ الرسالات السماوية جميعها، وقد حدثنا القرآن عن نوح عليه السلام، وهو يبين لقومه، إن عميت عليهم رسالته، فإنهم لن يرغموا على الإيمان به مكرهين {أَنُلْزِمُكُمُوهََا وَأَنْتُمْ لَهََا كََارِهُونَ} (28) [هود: 28]، يعني لا يمكن أن نلزمكم بها وأن نحملكم على الإيمان بهذه الرسالة ما دمتم لها كارهين.(1/147)
والحق أن القرآن منح الحرية كل الحرية لهؤلاء الذين يستمعون إليه، ولم يمنعهم شيئا من هذه الحرية، كما أنه لم يمنحهم بعضها فحسب كما في الموسوعة {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لََا تُؤْمِنُوا} [الإسراء: 107]، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شََاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شََاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، بل هذا هو مبدأ الرسالات السماوية جميعها، وقد حدثنا القرآن عن نوح عليه السلام، وهو يبين لقومه، إن عميت عليهم رسالته، فإنهم لن يرغموا على الإيمان به مكرهين {أَنُلْزِمُكُمُوهََا وَأَنْتُمْ لَهََا كََارِهُونَ} (28) [هود: 28]، يعني لا يمكن أن نلزمكم بها وأن نحملكم على الإيمان بهذه الرسالة ما دمتم لها كارهين.
بل إن القرآن الكريم في أكثر من آية حدثنا عن أقوام احتجوا على كفرهم بأن الله شاء لهم هذا الكفر، واحتجوا على عدم إيمانهم بأن الله لم يشأ لهم هذا الإيمان، وبعد أن نقل القرآن أقوالهم هذه وما احتجوا به، نقضها جميعا نقضا يباركه العقل ويهش له المنطق {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا أَشْرَكْنََا وَلََا آبََاؤُنََا وَلََا حَرَّمْنََا مِنْ شَيْءٍ كَذََلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتََّى ذََاقُوا بَأْسَنََا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنََا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلََّا تَخْرُصُونَ} (148) [الأنعام:
148]، وهكذا رأينا أن القرآن كذبهم فيما قالوه وادعوه، وحجته قوية دامغة، ومنطقه بارع قويم، وهو يقول لهم: {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنََا}، هل عندكم من علم من عقل أو نقل من أن الله لم يرد لكم الإيمان ولم يشأ لكم الخير؟ إنّ هذا ظن وتخريص كذب، والظن لا يغني من الحق شيئا.
ونزيد الأمر وضوحا، فنقول: إن المتدبر لآيات القرآن يدرك من الآيات الكثيرة، بأن الله لا يظلم الناس شيئا، فجل الله عن شهوة الظلم، وهو بالتالي لم يحملهم على المعصية، ولم يأمرهم بها فهو سبحانه لا يأمر بالفحشاء، وإنما يأمر بالقسط ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فهم الذين يختارون الضلالة على الهدى، وهم الذين يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وهم الذين يشترون الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فليس الله بادئ بدء هو الذي أزاغ قلوبهم، وأعمى بصائرهم، وأصم أسماعهم، وأشقاهم. وسنبرهن لذلك كله من كتاب الله يقول القرآن {وَحَسِبُوا أَلََّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا} [المائدة: 71] بصيغة بناء الفعل للمعلوم كما يقول أصحاب النحو العربي ولم يقل (أعميناهم وصموا)
بضم الصاد والفرق بينهما ظاهر، فالذي جاء به القرآن معناه: إنهم هم الذين اختاروا العمى والصمم.(1/148)
ونزيد الأمر وضوحا، فنقول: إن المتدبر لآيات القرآن يدرك من الآيات الكثيرة، بأن الله لا يظلم الناس شيئا، فجل الله عن شهوة الظلم، وهو بالتالي لم يحملهم على المعصية، ولم يأمرهم بها فهو سبحانه لا يأمر بالفحشاء، وإنما يأمر بالقسط ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فهم الذين يختارون الضلالة على الهدى، وهم الذين يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وهم الذين يشترون الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فليس الله بادئ بدء هو الذي أزاغ قلوبهم، وأعمى بصائرهم، وأصم أسماعهم، وأشقاهم. وسنبرهن لذلك كله من كتاب الله يقول القرآن {وَحَسِبُوا أَلََّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا} [المائدة: 71] بصيغة بناء الفعل للمعلوم كما يقول أصحاب النحو العربي ولم يقل (أعميناهم وصموا)
بضم الصاد والفرق بينهما ظاهر، فالذي جاء به القرآن معناه: إنهم هم الذين اختاروا العمى والصمم.
وفي آية أخرى {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النََّارِ} [هود: 106] بفتح الشين لا بضمها، والفرق بينهما ظاهر، فعبارة القرآن معناها: إنهم هم الذين اختاروا الشقاء لأنفسهم، وفي آية أخرى: {قََالُوا رَبَّنََا غَلَبَتْ عَلَيْنََا شِقْوَتُنََا} [المؤمنون: 106].
وهذه آية تحسم الأمر حسما: {فَلَمََّا زََاغُوا أَزََاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] وهكذا تبين الآية الكريمة أنهم قد اختاروا الزيغ والضلال والانحراف، وكان ذلك فسادا في طبيعتهم، وانحرافا عن الفطرة السوية التي فطرهم الله عليها، فلما كانوا كذلك أزاغ الله قلوبهم.
والقرآن في هذا المبدأ متمشّ مع أصح القواعد العقلية والبراهين المنطقية، وربما يقال: ولكن أما كان الله قادرا أن يرغمهم على الإيمان وسلوك الطريق السوي؟ نقول: بلى إنه على كل شيء قدير، ولكن ماذا يبقى من حكمة الخلق، ونحن نرى أن أمر التفاضل بين الناس في الحياة، من الأمور التي تستقيم بها الحياة؟ ولو أن الناس كانوا على وتيرة واحدة ما كان هذا التنافس في التقدم والرقي. إن الله قادر على أن يغير طبيعة أولئك المنحرفين، ليجعلها مماثلة لطبيعة أولئك الأخيار، أصحاب السلوك السويّ، ولكن أليس في ذلك خروج عن العدل المطلق؟ وما هو موقفنا من أستاذ يعطي الطالب المهمل الكسول ما يعطيه للطالب الجادّ الذكي؟ هل نحكم له بالخيرية والفضل والمنهجية التربوية.
والذي يمكن أن يغير طبيعة الأشرار ليرغمهم على الخير، يمكن أن يغير طبيعة الأخيار ليرغمهم على الشر والانحراف. والمدرس الذي يمنح المهملين الأغبياء ما يمنحه للجادين الأذكياء يمكن أن يدور بخلده أن يفعل عكس ذلك، فيجعل نتيجة الجادين الأخيار كنتيجة غيرهم من المقصرين، فإن قانون العدالة واحد، لا يختلف بين هذه وتلك، وعلى هذا فقد منح القرآن حرية الإرادة والاختيار {لََا إِكْرََاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256].(1/149)
هذا هو حل اللغز لهذه القضية المعقدة، التي بحثت كثيرا قبل القرآن، وقبل ظهور الإسلام، وعلى هذا فيمكننا أن نفهم النصوص الأخرى التي تبين أن المشيئة لله وحده، ولا أقول تسلب الإنسان حريته، كما جاء في الموسوعة، فهناك فرق بعيد جدا بين أن نفهم من القرآن أنه يثبت المشيئة لله وحده، وبين أن نفهم منه أنه يسلب الحرية عن الإنسان كل السلب.
ونحن إذا استعرضنا هذه الآيات وجدناها جاءت في سياق التثبيت للنبي عليه وآله الصلاة والسلام، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتألم لعدم إيمان قومه، لأنه يريد لهم الخير، لا لأن إيمانهم سيجلب للنبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم مكاسب مادية ومعنوية وإنما لخيرهم وخير البشرية معهم، فكان القرآن يسلّيه ويثبته بأن لا يحزن، فإنهم جبلوا على الشر، ولو شاء الله هدايتهم لفعل، ولكن حاشاه أن يخرق أسوار العدالة وهو الحكم العدل.
والمتأمل للآيات يجد مصداقية الذي قلت، ويكفي أن نذكر ببعض هذه الآيات {وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النََّاسَ حَتََّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (99) [يونس: 99]، {وَمََا كََانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لََا يَعْقِلُونَ} (100) [يونس: 100]، {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لََا تُسْمِعُ الْمَوْتى ََ وَلََا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعََاءَ إِذََا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمََا أَنْتَ بِهََادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلََالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلََّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيََاتِنََا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} (81) [النمل: 8179]، وهكذا إذا تدبرنا الآيات فسنجد أن أكثرها يتحدث عن حرية الإنسان واختياره أو أن بعضها يتحدث عن مشيئة الله، وأن هذه الفئة الثانية لا تنافي الآيات الأولى، وأن السياق الذي جاءت فيه كان تسلية وتثبيتا للنبي الكريم، وأن علم الله الأزلي لا يمكن أن يكون حجة للناس في سلوك طريق الضلال، بل إنّ علماء الكلام المسلمين ذهبوا إلى حدّ من الجرأة والصراحة فقرروا أن هذا الإنسان إنما يحاسب على كسبه، وأنه هو الذي ينشئ هذا الكسب ويختاره.(1/150)
وهكذا نجد القرآن يضع الحلول لهذه القضية الفلسفية المعقدة، ولا نستطيع أن نفصل في هذه القضية أكثر مما قلناه لأن هذه القضية تحتاج إلى بحث مستقل وسفر خاص.
على أن قضية الجبرية لم تتفرد بها الموسوعة، وقد أشرنا لذلك في التمهيد حينما تحدثنا عن وثيقة الفاتيكان.
القضية الثانية: شرعة التوحيد منذ آدم:
جاء في الموسوعة: «إن تعاليم محمد تؤكد بأن الوحي قد نزل على رسل من قبله، فإبراهيم يبدو وكأنه مؤسس الدعوة إلى الوحدانية بالخالق ثم جاء بعده محمد كوارث له لهذه الدعوة».
رسالة الأنبياء هي رسالة الخير، وهي رسالة المنهج القويم، الذي يستقيم به أمر البشرية جمعاء، والرسول الكريم سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم ليس بدعا من الرسل، وإذا كانت رسالة الرسل تقوم على الوحي، فإن هذا الوحي لهم جميعا، وهذا ما نطق به القرآن في مواضع كثيرة: {كَذََلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللََّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3) [الشورى: 3]، وقد ذكرنا بعض هذه الآيات من قبل في القضية الثامنة من الفصل الثالث.
إلا أننا نود أن نركز في هذه القضية على مسألتين خطيرتين:
الأولى: الصلة بين إبراهيم والنبي صلّى الله عليه وسلّم:
ما جاء عن الصلة بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبيه إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم، وبأن إبراهيم يبدو وكأنه مؤسس الدعوة إلى توحيد الخالق: ونبين هنا أن الصلة بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين أبيه إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم صلة ركز عليها القرآن كثيرا، ولكن هذا التركيز كانت له أسبابه الداعية إليه، ومسوّغاته الملحة، وظروفه التي تحتمه وتقتضيه، وإليكم بيان ذلك:(1/151)
المجتمع الذي وجد فيه النبي عليه وآله الصلاة والسلام في مكة والمدينة على السواء، كان سكانه في غالبيتهم إما من العرب، الذين كانوا يفخرون بالانتساب إلى إبراهيم عليه السلام، وكان هؤلاء يتجمعون أكثر ما يتجمعون في مكة وما حولها، وإما من أهل الكتاب وبخاصة اليهود الذين يدّعون ويفخرون كذلك بانتسابهم إلى إبراهيم، ولكن كلّا من الفريقين انحرف عن تراث الأب ودعوته فالعرب الذين ينتسبون إلى إبراهيم عليه السلام نجد القرآن يذكرهم دائما ناعيا عليهم صنيعهم الذي هم فيه، منددا بهم فكيف يدّعون الانتساب إلى إبراهيم عليه السلام، وإبراهيم عليه السلام تحمّل كثيرا من الأذى وهو يدعو أباه وقومه إلى التوحيد (1) وينهاهم عن عبادة الأصنام، ونلاحظ أن كثيرا من السور المكية ركزت كثيرا على هذه القضية لأن الهدف منها الردّ على هؤلاء العرب تارة، والإهابة بهم تارة أخرى، فكيف ينتسبون لإبراهيم عليه السلام، وها هي الأصنام تملأ البيت الذي بناه لله خالصا ليقيم فيه شعائر التوحيد، هذا من حيث المجتمع المكي.
أما من حيث المجتمع المدني في المدينة فكان الرد فيه كذلك على هؤلاء الكتابيين الذين يفخرون بالصلة لإبراهيم عليه السلام، من حيث الدين أو النسب، فصفات إبراهيم عليه السلام كانت كلها صفات فاضلة خيرة، وعبادته كانت التوحيد الخالص، والتوراة إنما أنزلت من بعده، فلماذا يدّعى على إبراهيم عليه السلام ما ليس له، وما هو بعيد عنه وبريء منه، والآيات المدنية تركز كثيرا على هذه القضية: {يََا أَهْلَ الْكِتََابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرََاهِيمَ} [آل عمران:
6965]، {* كُلُّ الطَّعََامِ كََانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرََائِيلَ إِلََّا مََا حَرَّمَ إِسْرََائِيلُ عَلى ََ نَفْسِهِ} [آل عمران: 93]، {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْمََاعِيلَ} [البقرة: 140].
__________
(1) انظر قوله تعالى: {وَإِذْ قََالَ إِبْرََاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} [الزخرف: 26].(1/152)
وعلى هذا فإن هذه الوشائج بين إبراهيم والنبي عليهما السلام، بين الأب والابن، كان أمرا لا بدّ منه لما ذكرناه من هذه الظروف في المجتمعين المكي والمدني.
ولكن ما يستحق أن نقف عنده في هذه المسألة طويلا ونرى أنه بحاجة إلى بيان هو ما جاء في الموسوعة من أن إبراهيم عليه السلام يبدو وكأنه مؤسس الدعوة إلى وحدانية الخالق، وهذا في الحقيقة هو ما ينكره القرآن ويرفضه رفضا حازما، فتوحيد الخالق سبحانه قضية من القضايا الفطرية التي فطر عليها الخلق قبل خلق الإنسان، بل قامت عليها السماوات والأرض، وها هم الملائكة قبل أن يخلق آدم كما جاء في القرآن يقولون: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}
[البقرة: 30]، وهذا إبليس رغم جحوده وكفره لا ينازع في هذه الوحدانية: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى ََ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص: 79]، وخلق الله آدم وكان مفطورا على التوحيد:
{رَبَّنََا ظَلَمْنََا أَنْفُسَنََا} [الأعراف: 23] ومنذ الجيل الأول كانت عقيدة التوحيد الأساس الذي تنبثق عنه المبادئ جميعا، وأول نبي أرسل إلى قوم هو نوح عليه السلام، وهو قبل إبراهيم عليه السلام بأزمنة كثيرة، ودعوته كان أساسها التوحيد:
{اعْبُدُوا اللََّهَ مََا لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، {أَلََّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللََّهَ} [هود: 2، 26]، ويبين لهم أن آلهتهم التي يعبدون (ودّا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا) قد أضلت كثيرا وزادتهم ضلالا، وأنهم خرجوا عن الفطرة السوية، ويحدثنا القرآن بعد نوح عليه السلام عن هود عليه السلام، وهو يدعو قومه إلى الوحدانية كذلك، كذلك صالح عليه السلام بعد هود عليه السلام، ويجيء إبراهيم عليه السلام داعيا إلى هذه الوحدانية.
ثم هذه الصلة بين إبراهيم عليه السلام وبين هذه الأمة، الأمة المسلمة، صلة مبنية على التوحيد كذلك: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرََاهِيمَ هُوَ سَمََّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ}
[الحج: 78]، قضية التوحيد إذن قضية عميقة، لا أقول عمق البشرية، ولكن عمق الخلق، والقرآن في أكثر من سورة وقد حدثنا عن الأنبياء عليهم السلام
نجده يعقب على ذلك بقوله: {إِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (92) [الأنبياء: 92]، وفي آية أخرى: {وَإِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (52) [المؤمنون: 52]، وانظر ما تقدم في آيات الوحدانية: {* شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مََا وَصََّى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13].(1/153)
ثم هذه الصلة بين إبراهيم عليه السلام وبين هذه الأمة، الأمة المسلمة، صلة مبنية على التوحيد كذلك: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرََاهِيمَ هُوَ سَمََّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ}
[الحج: 78]، قضية التوحيد إذن قضية عميقة، لا أقول عمق البشرية، ولكن عمق الخلق، والقرآن في أكثر من سورة وقد حدثنا عن الأنبياء عليهم السلام
نجده يعقب على ذلك بقوله: {إِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (92) [الأنبياء: 92]، وفي آية أخرى: {وَإِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (52) [المؤمنون: 52]، وانظر ما تقدم في آيات الوحدانية: {* شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مََا وَصََّى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13].
وعلى هذا فإن ما جاء في القرآن يصحح ما ذهب إليه كثير من علماء الأديان، الذين يعتقدون أن قضية التوحيد جاءت في مرحلة متأخرة جاءت بعد مرحلة الخرافة والتعدد، والقرآن لا شك أدق وصفا، وأثبت قولا، وأصح حكما، وأصدق حديثا، لأن مصدره لا يحتمل الأمور الظنية. إن إبراهيم عليه السلام كان في تلك القافلة الخيرة، قافلة التوحيد، التي كان فيها قبله صفوة مختارة وبعده صفوة مختارة، وها هو دعاؤه: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصََّالِحِينَ} (83) [الشعراء: 83]، ولا شك أن الصالحين الذين سأل الله أن يلحقه بهم كانوا متقدمين عليه زمنا. هذه المسألة الأولى في هذه القضية.
الثانية: محاولات الربط بين الإسلام واليهودية:
أما المسألة الثانية فهي ما ذكرته الموسوعة من أن هناك محاولات وجهودا واضحة لإيجاد روابط بين الإسلام واليهودية التي سبقته، وإحقاقا للحق نذكر أن طبيعة الإسلام وحرصه على هداية الناس، ونظرته إليهم على السواء دون تفريق بين جنس وجنس ولغة ولغة، إن هذه النظرة السوية للناس جميعا على ما بينهم من اختلاف في الأعصار والأمصار جعلته يبذل كل محاولة لإيجاد الروابط وإحكام الصلات بينه وبينهم جميعا، وبخاصة أولئك الذين ينتمون إلى ديانات سماوية، الذين تذوقوا طعم الهداية، وعرفوا قدر الرسل.
إن من أبسط الأمور وأقربها إلى البديهة أن ينظر الإسلام إلى هؤلاء نظرة مميزة عن نظرته إلى غير أولئك من الوثنيين (1)، ولعل خير برهان على هذا ما
__________
(1) بيّنا هذا مفصلا في التمهيد فارجع إليه إن شئت.(1/154)
سجلته لنا سورة الروم في أولها، وقد كان الوثنيون في مكة يفرحون بانتصار الفرس، ويحبون أن تكون لهم الغلبة، وكان المسلمون يودون أن ينتصر الروم الكتابيون، ونزلت السورة الكريمة {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلََّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (4) [الروم: 41].
وعلى هذا الأساس ما فتئ الإسلام وما برح يتقرب إلى أولئك الكتابيين، ولكن هذا التقرب لم يكن لهدف شخصي فلم يكن هذا التقرب من أجل حماية ينشدها عند هؤلاء الكتابيين ليدافعوا عنه في حالة ضعفه، وليردوا عنه ظلم الوثنيين، وكما أنه لم يكن من أجل هذه الحماية المادية، فلم يكن من أجل هدف معنوي كذلك، فهو لا يطمع بما عند هؤلاء لينقل عنه أو يقبس منه، فلم يكن هناك ما يمكن أن يعوّل عليه. أما عند النصارى الذين كانت قد مزقتهم الحروب والإحن والخلافات المذهبية والمحن فلم يكن عندهم ما هو حريّ بأن يؤخذ.
وأما عند اليهود فلم يكن بأحسن حظا مما عند النصارى، وبخاصة أن يهود يثرب كان جلّ ما عندهم مبنيا على الحكايات والأقاصيص والخرافات، فإذا أضفنا إلى هذا ما كانوا يتصفون به من أخلاقيات مرفوضة أدركنا أن توثيق صلة القرآن بهم لم تكن من أجل مصلحة خاصة يبتغيها القرآن، ونجد أن القرآن في العصر المكي كان كثير النعي واللوم والتنديد بأولئك اليهود، لأنهم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم (1)، والقرآن يقص عليهم هذا الذي فيه يختلفون (2): {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتََابَ الَّذِي جََاءَ بِهِ مُوسى ََ نُوراً وَهُدىً لِلنََّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرََاطِيسَ تُبْدُونَهََا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مََا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلََا آبََاؤُكُمْ} [الأنعام: 91].
__________
(1) قال تعالى: {وَآتَيْنََاهُمْ بَيِّنََاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلََّا مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ}
[الجاثية: 17].
(2) قال تعالى: {إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (76) [النمل: 76].(1/155)
إن توثيق صلة الإسلام بكل من حوله بعامة وبأهل الكتاب بخاصة كان ينبثق من طبيعة الإسلام نفسه الذي يرى أنه جاء لخير الناس جميعا وذلك ما أشار إليه القرآن أو بينته السنة كذلك ففي حديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «مثلي كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها، فجعل الرجل يزعهنّ ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها» (1).
هذا هو موقف الإسلام، ولكن أليس من الإنصاف أن نعرض لموقف الآخرين منه؟ ومما يخجل حقا أن نجد حرص الإسلام على توثيق صلته بأهل الكتاب، يقابل بالنكران والجحود وبالتجني على الحقائق كذلك، وها هو التاريخ يحدثنا حديثا يصدقه القرآن، والقرآن يحدثنا حديثا يصدقه التاريخ، فها هو أحد رؤساء اليهود، وقد ذهب إلى مكة ليستعدي المجتمع الوثني على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإلى هنا يمكن أن يكون الأمر مقبولا، فالخصم يمكن أن يتعاون مع أيّ أحد ليتغلب على خصمه، حتى مع الشيطان كما قال تشرشل في الحرب العالمية الثانية وإن كان هذا مبدأ لا يقره الإسلام نفسه، ولكن الذي لا يقبل:
التنكر للحقيقة والتجني على التاريخ، فقد سألت قريش هذا الزعيم اليهودي:
أيهما أصح دينا، وأثبت على الحق، أنحن أم محمد، سألوه لأنهم يعرفونه من أهل الكتاب الذين لا تخفى عليهم مثل هذه القضايا، وكان من الممكن أن يجيبهم بما هو الحق، فإن لم يعترف بالإسلام، فهو معترف بأن هؤلاء وثنيين، كان اليهود يقولون عنهم وهو كذلك بالطبع {لَيْسَ عَلَيْنََا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]، وإن لم يرد أن يصارحهم بالحقيقة، فمن الممكن أن يعمّي في الإجابة، ولكن لم يكن هذا ولا ذاك، بل قال لهم: أنتم أصح دينا، وأقوم طريقة، وأهدى سبيلا، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتََابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ}
__________
(1) رواه البخاري كتاب الرقاق باب الانتهاء عن المعاصي (5: 2379)، حديث رقم 6483.(1/156)
{وَالطََّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هََؤُلََاءِ أَهْدى ََ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] فأين هذه الإساءة من ذلك الإحسان؟
وأخيرا فإن ما جاء في الموسوعة، من أن الإسلام حاول توثيق صلاته باليهودية يمكن أن يكون له وجه مقبول، ولكن ليس باليهودية وحدها، وإنما بكل ما حوله لأن طبيعته تقتضي ذلك. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذه الصلة لم تكن لمنفعة خاصة أو غرض شخصي، أو لكسب علم، أو إفادة من نص عند أولئك. وها هو القرآن خير شاهد على أنه في كثير من الآيات جاء يصحح لأولئك أخطاءهم، يشهد لذلك مثل قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرََاةِ فَاتْلُوهََا إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} [آل عمران: 93]، {إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76].
ولا نود أن نسترسل فنذكر أن كثيرا من أخبار الأنبياء عليهم السلام عند أولئك جاء القرآن ليخلصها من الشوائب الكثيرة، وليصحح خطأ، أو يكمل نقصا، أو يسدّ ثغرة. لقد حاول الإسلام أن يتعايش مع أولئك الجيران، وطبيعة العرب المحافظة على الجوار، فجاء الإسلام ونمّى هذه المكرمة لذلك عقد الرسول بينه وبينهم عقودا ومواثيق، وكان من الممكن أن يوفوا بها، وأن يعيشوا مع الدين الجديد آمنين على كل شيء، ولكنهم أبوا ذلك.
أما موقف القرآن منهم فلم يتغير، في العهد المدني، بل في العهد المكي كذلك، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.
القضية الثالثة: القتال في الإسلام:
جاء في الموسوعة: «إن أسلوب الآيات التي نزلت في المدينة يشبه أسلوبها في مكة قبيل الهجرة، وهي تركز على تكوين مجتمع إسلامي حديث يحرض فيه المؤمنين على القتال، ويلوم فيه المتقاعسين. وفي هذه الفترة نظمت العلاقة بين
المؤمنين وبين الرسول في طريقة التحدث له، كما نزلت الشرائع تنظم الميراث والزواج، وتنظم الطقوس الدينية للصوم والحج».(1/157)
جاء في الموسوعة: «إن أسلوب الآيات التي نزلت في المدينة يشبه أسلوبها في مكة قبيل الهجرة، وهي تركز على تكوين مجتمع إسلامي حديث يحرض فيه المؤمنين على القتال، ويلوم فيه المتقاعسين. وفي هذه الفترة نظمت العلاقة بين
المؤمنين وبين الرسول في طريقة التحدث له، كما نزلت الشرائع تنظم الميراث والزواج، وتنظم الطقوس الدينية للصوم والحج».
قلت أكثر من مرة: إنّ أسلوب القرآن من حيث روعة البيان، ورفعة البلاغة، وجودة الصياغة، مكيّه ومدنيّه سواء، ولكن هناك موضوعات حريّ أن تكون في مكة، وأخرى جدير أن تكون في المدينة.
والحقيقة أن الموضوعات المكية تكاد تكون متقاربة أكثر من التقارب بين الموضوعات المكية في الفترة الأخيرة، والموضوعات المدنية، ذلك لأن الطبيعة والبيئة والظروف تحتم ذلك، فآيات الأحكام جميعها، ومنها الجهاد بالطبع، كانت جلها في المدينة، أما التحريض على الجهاد ولوم المتقاعسين، فتلك قضية شغلت الكاتبين مسلمين وغير مسلمين، قديما وحديثا. وليس من غرضنا أن نسترسل في الحديث عنها هنا، إلا أننا نكتفي بالقول:
إننا إذا استعرضنا أول آيتين في الجهاد، وتدبرناهما تدبرا جيدا، أدركنا دون عناء أو إعياء، أن هذا الجهاد، كان مفروضا على أصحاب الدين الجديد، حتى لا يبتلعهم خصومهم الكثيرون، ويزيلوا كل أثر لهم من الحياة، ونحن نرى حتى في هذا القرن أن حروبا تقام من أجل توسع شعب على حساب شعب آخر. هاتان الآيتان اللتان أشرت لهما من قبل. تقول أولاهما:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقََاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] يقاتلون ببناء الفعل للمفعول كما يقول علماء النحو العربي أي يقاتلهم غيرهم، هؤلاء المسلمون الذين يقاتلهم الناس، ويريدون لهم التلاشي من الوجود، هؤلاء أذن لهم بأن يردوا الاعتداء عن أنفسهم.
أما الآية الثانية فهي قوله سبحانه: {وَقََاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ الَّذِينَ يُقََاتِلُونَكُمْ}
[البقرة: 190] ويقيني أن معنى هذه الآية ليس فيه غموض ولا لبس ولا خفاء.
لقد أخرج المسلمون من ديارهم، وصودرت أموالهم وحيل بينهم وبين ذويهم،
ولم يكتف خصومهم بهذا، بل أرادوا أن يتبعوهم إلى البلد الذي هاجروا إليه ليقتلعوا جذورهم هناك، متعاونين هم واليهود في المدينة، أكان من الواجب يا ترى أم من المنطق أن يرفع المسلمون أيديهم بالرايات البيضاء، وأن يسمحوا للغزاة أن يبقروا بطون النساء، فإن لم يفعلوا ذلك كانوا إرهابيين، تروقهم إراقة الدماء؟!(1/158)
لقد أخرج المسلمون من ديارهم، وصودرت أموالهم وحيل بينهم وبين ذويهم،
ولم يكتف خصومهم بهذا، بل أرادوا أن يتبعوهم إلى البلد الذي هاجروا إليه ليقتلعوا جذورهم هناك، متعاونين هم واليهود في المدينة، أكان من الواجب يا ترى أم من المنطق أن يرفع المسلمون أيديهم بالرايات البيضاء، وأن يسمحوا للغزاة أن يبقروا بطون النساء، فإن لم يفعلوا ذلك كانوا إرهابيين، تروقهم إراقة الدماء؟!
والغريب الذي يستحق العجب أن الذي ينكرونه على الإسلام هو الجهاد، مع أن الجهاد في الإسلام لم يكن فيه تعسف، ولم يكن ليحرم أصحابهم من حقوقهم في بلادهم، ولم يكن ليسرق خيراتهم، أقول: إن الذين ينكرون على الإسلام هذا يعطون أنفسهم ومواطنيهم الحق باستعمار الشعوب، واستعباد الناس لأسباب جغرافية وغير جغرافية، ولعله ليس بعيدا ذلك اليوم الذي يستيقظ فيه الضمير العربي ليدرك أولئك أن الدم الذي يسري في عروقهم، ويجري في أبدانهم، وأن لحم أجسامهم إنما نبت أكثر ما نبت من خيرات البلاد المستضعفة المستعمرة، ومن عرق هذه الشعوب الكادحة.
إن الجهاد في الإسلام ضرورة ملحة، وأنا لا أريد أن أعرض لقضية طالما بحثها الكثيرون، فسواء كان الجهاد دفاعيا أم غير دفاعي فإنه شرع للدفاع عن النفس والعقيدة، لذلك أحب المسلمون هذا الجهاد، ولم يتقاعس إلا أولئك المنافقون الذين لم تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم (1).
يقول أحمد شوقي (2):
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا ... لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم
جهل، وتضليل أحلام، وسفسطة ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
__________
(1) ولقد أشرنا لهذه القضية في التمهيد الذي عرضنا فيه لوثيقة الفاتيكان.
(2) «الشوقيات» (1: 201).(1/159)
لما أتى لك عفوا كل ذي حسب ... تكفّل السيف بالجهّال والعمم
والشر إن تلقه بالخير ضقت به ... ذرعا وإن تلقه بالشرّ ينحسم
سل المسيحية الغراء: كم شربت ... بالصّاب من شهوات الظالم الغلم
طريدة الشرك يؤذيها ويوسعها ... في كل حين قتالا ساطع الحدم
لولا حماة لما هبوا لنصرتها ... بالسيف، ما انتفعت بالرفق والرّحم
والقرآن المدني نظم شئون الأسرة، وشئون المسلمين في جميع مناحي الحياة، لا فيما بينهم فحسب، ولكن فيما بينهم وبين غيرهم كذلك، وفيه الأحكام والشعائر ونحن لا نسميها طقوسا التي تدل على إحكام هذا الدين، وشموله، وكونه عالميا من جهة، وربانيا من جهة أخرى.
القضية الرابعة: موقف الإسلام من اليهود:
جاء في الموسوعة: «كما أنه في هذه الفترة نمت العداوة بين اليهود والمسلمين حيث اتهم اليهود بأنهم غيروا في المخطوطات وهجروا التعاليم الدينية لإبراهيم مؤسس الكعبة».
العداء بين الاسلام واليهودية
لقد تحدثت من قبل عن صلة الإسلام باليهود، وبينت أن هذه الصلة في كل مراحلها قوة وضعفا وإيجابا وسلبا، لم تكن خاضعة لأمور مزاجية، ولا لمواقف معينة، فالقرآن يسجل للحياة وللأحياء جميعا.
والواقع أن استحكام العداء في هذه الفترة بين المسلمين وبين اليهود كما تقول الموسوعة مسألة لا بد لها من بحث وتحقيق، إن الذي يستمع إلى عبارة الموسوعة، وإلى ما قبلها من العبارات يظن أن القرآن وقف من اليهود هذا الموقف لأنهم رفضوا الإيمان به، أو لأنهم ناصبوا المسلمين العداء، ومع أن هذا أمر لا ضير فيه ويكاد يكون منسجما مع واقع الحال، ومع الطرح الصحيح للحقائق. ولكن مع ذلك فلقد ظل القرآن محتفظا بسموه ورزانته ونزاهته في
أحكامه، وإنسانيته في تشريعاته. فلم يذكر كثيرا مما فعله اليهود وخرجوا به عن الجادّة المستقيمة.(1/160)
والواقع أن استحكام العداء في هذه الفترة بين المسلمين وبين اليهود كما تقول الموسوعة مسألة لا بد لها من بحث وتحقيق، إن الذي يستمع إلى عبارة الموسوعة، وإلى ما قبلها من العبارات يظن أن القرآن وقف من اليهود هذا الموقف لأنهم رفضوا الإيمان به، أو لأنهم ناصبوا المسلمين العداء، ومع أن هذا أمر لا ضير فيه ويكاد يكون منسجما مع واقع الحال، ومع الطرح الصحيح للحقائق. ولكن مع ذلك فلقد ظل القرآن محتفظا بسموه ورزانته ونزاهته في
أحكامه، وإنسانيته في تشريعاته. فلم يذكر كثيرا مما فعله اليهود وخرجوا به عن الجادّة المستقيمة.
موقف القرآن من اليهود منذ الفترة المكية
والحقيقة أن نظرة القرآن لليهود لم تتغير لأنه كتاب الله، والله لا يحابي أحدا من خلقه، وإذا نحن تدبرنا حديث القرآن في العهد المكي وجدناه يفصل لنا كثيرا عن صفاتهم، كصفة الاختلاف، ونبذ العلم، وجحد النعم، والانحراف عن عقيدة التوحيد، والتنكر للأنبياء، كل هذا نجده في القرآن المكي مبثوثا في سور متعددة.
ففي سورة الأنعام المكية يبين القرآن ما حرّم عليهم، وأن هذا التحريم إنما كان جزاء لهم على بغيهم {وَعَلَى الَّذِينَ هََادُوا حَرَّمْنََا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [آية:
146]، ثم يقول الله بعد ذلك في الآية نفسها {ذََلِكَ جَزَيْنََاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنََّا لَصََادِقُونَ}
[آية: 146].
وفي سورة الأعراف يحدثنا القرآن الكريم حديثا مستفيضا عنهم {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كََانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشََارِقَ الْأَرْضِ وَمَغََارِبَهَا} {إِنََّا لََا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} (170) [الآيات: 170137] وفي هذه الآيات يبين القرآن انحرافهم عن العقيدة، حتى في الوقت الذي لم تجف أرجلهم فيه من الماء بعد إغراق فرعون، حينما مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم، وكان من الإنصاف والواجب أن يحاربوهم، وإلا فليعظوهم، وهذا أقل ما يمكن. ولكنهم قالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، كما حدثنا القرآن في هذه الآيات عن اتخاذهم العجل وحدثنا كذلك عن تبديلهم قولا غير الذي قيل لهم، كما حدثنا عن اعتدائهم في السبت، وحدثنا عن نسيانهم ما ذكروا به، وعن عتوهم، كما حدثنا عما تأذن به ربنا ليبعثن عليهم من يسومهم سوء العذاب وحدثنا كذلك عن تقطيعهم في الأرض، وعن أخذهم العرض الأدنى، وركونهم إلى الدنيا، وعن نبذهم الميثاق الذي أخذه الله عليهم.(1/161)
وفي سورة طه حدثنا كذلك عن كثير من هذه الأعمال والجرائم {يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنََاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} {إِنَّمََا إِلََهُكُمُ اللََّهُ الَّذِي لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} (98) [الآيات: 9880]. ولا نود أن نسترسل فهناك آيات كثيرة في سور متعددة، ربما مر معنا من قبل كثير منها كسورة البروج وآيات الجاثية وآية يونس وآية النحل: {إِنَّمََا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ فِيمََا كََانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الآية: 124]، وآية النمل: {إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الآية: 76].
القول إذن بأن العداء استحكم في العهد المدني بين المسلمين وبين اليهود مجانب للصواب، كل ما كان في العهد المدني أن اليهود حينما نقضوا المواثيق والمعاهدات، وحاولوا أن يكونوا أحلافا مع العرب وغيرهم للقضاء على الإسلام، وبدءوا يطعنون في رسالة النبي عليه وآله الصلاة والسلام، كان لزاما أن ينبه القرآن المسلمين إلى أخطارهم ودسائسهم، حتى في هذه الأثناء.
وفي هذه الحقبة المدنية نلحظ قضية حرية أن تسجل للقرآن، أن يسجلها المنصفون جميعا، وهي أن القرآن الكريم لم يعمم في ذمه لهؤلاء، بل كان يفرق بين فئتين: فئة خيّرة، وفئة دون ذلك، نقرأ هذا مثلا في قوله: {* لَيْسُوا سَوََاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ أُمَّةٌ قََائِمَةٌ يَتْلُونَ آيََاتِ اللََّهِ آنََاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:
113]، وفي قوله تعالى: {وَلََا تَزََالُ تَطَّلِعُ عَلى ََ خََائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلََّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13].
وفي هذه الحقبة المدنية كذلك رأينا القرآن يأمر المؤمنين أن يتحروا العدل مع أولئك، ولا يحملنّ المؤمنين بغضهم لليهود على عدم العدل، بل لا بد من العدل مهما كانت أعمالهم {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوََّامِينَ لِلََّهِ شُهَدََاءَ بِالْقِسْطِ وَلََا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ََ أَلََّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ} [المائدة: 8].
ويظهر هذا جليا في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وها هو يعنف بلالا رضي الله عنه، وقد مر ومعه امرأتان من اليهود، على قتلى قومهما في خيبر
فيقول له النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنزعت الرحمة من قلبك، كيف تمر بهما على قتلى قومهما». إن أخلاقية القرآن وعدالته قضية تستحق الإعجاب والتقدير.(1/162)
ويظهر هذا جليا في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وها هو يعنف بلالا رضي الله عنه، وقد مر ومعه امرأتان من اليهود، على قتلى قومهما في خيبر
فيقول له النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنزعت الرحمة من قلبك، كيف تمر بهما على قتلى قومهما». إن أخلاقية القرآن وعدالته قضية تستحق الإعجاب والتقدير.
القضية الخامسة: الوحي والقضايا الشخصية بالرسول صلّى الله عليه وسلّم:
جاء في الموسوعة: «إن الوحي في هذه الحقبة أجاب على أسئلة كثيرة، كما أنه تعرض لمسائل شخصية بين محمد ومعاصريه، ومما لا شك فيه أن محمدا كان مخلصا في دعوته، وموصلا لكل كلمة استلمها من الحق». اهـ.
اخلاص النبى فى تبليغ دعوته
إننا إذ نشكر للموسوعة اعترافها بإخلاص النبي عليه وآله الصلاة والسلام في تبليغ دعوته، إلا أننا نود فقط أن ننبه إلى أمر في هذه القضية نجده ذا أهمية وهو ما ذكرته الموسوعة من أن القرآن كان يتعرض لمسائل شخصية بين النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعاصريه، ووجه الحق في هذه القضية أن القرآن الكريم كان يعرض المسائل التي تتصل بشئون المسلمين.
ومن هنا فإننا نجد كثيرا من القضايا الشخصية الخاصة بشأن الرسول عليه وآله الصلاة والسلام مع أهميتها لا يتحدث عنها القرآن وهذا ليس في العهد المدني فحسب، بل في العهد المكي كذلك، ففي هذا العهد تمر بالرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم أحداث جسام، يموت عمه أبو طالب الذي كان يناصره، ويذب عنه، ويقيه أذى المشركين، وتموت زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها وهي التي كانت تواسيه، وتسرّي عنه ومع ذلك وجدنا القرآن لا يتحدث عن شيء من ذلك كله.
وفي العهد المدني تمر به عليه وآله الصلاة والسلام أحداث متعددة، يموت ابنه إبراهيم عليه السلام، وهو الابن الوحيد له، ولو أن القرآن كتاب شخصي للرسول فيه شيء من التصرف، لتحدث القرآن عن هذه القضية مواسيا الرسول الكريم. وها هو يتزوج السيدة عائشة في المدينة وغيرها، ولكن القرآن الكريم لا يذكر شيئا من ذلك. لقد ذكر زواجه من السيدة زينب رضي الله عنها
مثلا، ولكنّ ذكره لهذه الحادثة كان له صلة بالتشريع، وكان ذكرها ماسّا للجماعة المسلمة.(1/163)
وفي العهد المدني تمر به عليه وآله الصلاة والسلام أحداث متعددة، يموت ابنه إبراهيم عليه السلام، وهو الابن الوحيد له، ولو أن القرآن كتاب شخصي للرسول فيه شيء من التصرف، لتحدث القرآن عن هذه القضية مواسيا الرسول الكريم. وها هو يتزوج السيدة عائشة في المدينة وغيرها، ولكن القرآن الكريم لا يذكر شيئا من ذلك. لقد ذكر زواجه من السيدة زينب رضي الله عنها
مثلا، ولكنّ ذكره لهذه الحادثة كان له صلة بالتشريع، وكان ذكرها ماسّا للجماعة المسلمة.
ومن أراد التوسع في هذا فكتب السيرة ممتلئة بالأحداث الكثيرة، وقد تكون ذات أهميّة للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وليست فقط تتعلق بالأفراح والأحزان، ومع ذلك سكت عنها القرآن.
ونستنتج من ذلك كله أن ما حدثنا القرآن عنه من أحداث ذات صلة بالرسول الكريم عليه وآله الصلاة والسلام، كان من ذلك النوع الذي له أهمية في القضايا العامّة، ويبنى عليه حكم يتصل بالمسلمين، سواء أكان ذلك في محيطهم الخاص بهم أم كان بينهم وبين غيرهم من الجماعات المتعددة، وتلك يعلم الله من أعظم الحجج على ربانية هذا الكتاب الخالد.
* * *
الفصل الخامس أصول القرآن طبقا للمسلمين ما جاء في الموسوعة وردّه في قضيّتين(1/164)
* * *
الفصل الخامس أصول القرآن طبقا للمسلمين ما جاء في الموسوعة وردّه في قضيّتين
جاء في الموسوعة: «إن المسلمين يعتقدون أن القرآن نزل على محمد منجما في مدة تزيد على عشرين عاما، وفي كل مرة كان ينزل الوحي على محمد كان يقال بأنه يصاب بغيبوبة أو نشوة، وخلالها ينزل عليه جبريل الملك لتبليغه بالوحي، وعند ما كان محمد يعود إلى وعيه ويصحو كان يتلو كلمات الوحي، إلى الأشخاص الموجودين حوله. وهناك آيات كثيرة وأحاديث حول مناسبات نزول سورة أو جزء منها لذا فنزول القرآن له علاقة وثيقة مع الأحداث التي حدثت في حياة النبي.
كما أن الطبعة العثمانية من القرآن قسمت سور القرآن إلى مكية ومدنية بالنسبة لنزولها في مكة أو المدينة، ومن الواضح أن هنالك العديد من الذين حفظوا ما أنزل على النبي في صدورهم، وبالإضافة إلى أن الرسول أمر بكتابة القرآن على الورق والحجارة وعسف النخيل وقطع من الجلد، كما أنه يعتقد أن الرسول قد أشار لأتباعه المكان الذي يجب أن توضع فيه هذه الآيات في كل سورة. وبعد موت الرسول وخصوصا بعد معركة اليمامة التي استشهد فيها كثير من حفظة القرآن مما أثار المخاوف من أن هذا القرآن سيختفي إن لم يجمع لذا فقد تقرر جمعه من صدور الحفاظ (الذاكرة)، ومن جميع المصادر التي سجل فيها، لذا فقد قام الصحابي زيد بن ثابت بهذه المهمة حيث جمع ما جمع من القرآن وسجله على صحائف وسلمه إلى الخليفة عمر وبعد موت عمر تسلمت
المهمة ابنته حفصة، ويبدو أن نسخا من القرآن قد كتبت بعد هذه الفترة، وظهرت طبعات مختلفة في مختلف أقطاب الإمبراطورية الإسلامية، إلا أن عثمان خشي من القراءات المتعددة فعهد إلى زيد بن ثابت وبعض الرجال المتعلمين ليقوم بعملية التمحيص، باستعمال صحائف حفصة ومقارنتها بما هو مكتوب أو محفوظ في الصدور.(1/165)
كما أن الطبعة العثمانية من القرآن قسمت سور القرآن إلى مكية ومدنية بالنسبة لنزولها في مكة أو المدينة، ومن الواضح أن هنالك العديد من الذين حفظوا ما أنزل على النبي في صدورهم، وبالإضافة إلى أن الرسول أمر بكتابة القرآن على الورق والحجارة وعسف النخيل وقطع من الجلد، كما أنه يعتقد أن الرسول قد أشار لأتباعه المكان الذي يجب أن توضع فيه هذه الآيات في كل سورة. وبعد موت الرسول وخصوصا بعد معركة اليمامة التي استشهد فيها كثير من حفظة القرآن مما أثار المخاوف من أن هذا القرآن سيختفي إن لم يجمع لذا فقد تقرر جمعه من صدور الحفاظ (الذاكرة)، ومن جميع المصادر التي سجل فيها، لذا فقد قام الصحابي زيد بن ثابت بهذه المهمة حيث جمع ما جمع من القرآن وسجله على صحائف وسلمه إلى الخليفة عمر وبعد موت عمر تسلمت
المهمة ابنته حفصة، ويبدو أن نسخا من القرآن قد كتبت بعد هذه الفترة، وظهرت طبعات مختلفة في مختلف أقطاب الإمبراطورية الإسلامية، إلا أن عثمان خشي من القراءات المتعددة فعهد إلى زيد بن ثابت وبعض الرجال المتعلمين ليقوم بعملية التمحيص، باستعمال صحائف حفصة ومقارنتها بما هو مكتوب أو محفوظ في الصدور.
وفي حالة الخلاف في اللفظ فإن لهجة قريش قبيلة الرسول كانت هي المعتمدة لحسم هذا الخلاف، وهكذا ظهر مصحف عثمان وهو المصحف المعتمد في رسميته حديثا.
إن طريقة نزول القرآن على محمد قد ذكرت في القرآن فمنها أن الله خاطب محمدا بشكل إيحائي ومن وراء حجاب، أو بوساطة مراسل على صورة ملاك، لهذا جاءت كلمة وحي لتدل على إيحاء من الله لرسوله على غرار الأنبياء الذين أوحي لهم. كما أن القرآن يستعمل اصطلاحا بأن القرآن نزل على الرسول، فهذه الطريقة تدل على نوع من الخيال دون أن يكون هنالك صورة مرافقة لتوصيل هذا الخيال.
وأما الطريقة الثالثة في إيصال القرآن فهي عن طريق ملاك دون أن يذكر أن اسمه كان جبرائيل».
القضية الأولى: جمع القرآن:
لا نرى من الضرورة إطالة القول في هذه القضية إلا أن هناك بعض الأمور يحسن أن نمر بها مرورا سريعا:
الوحى من الامور المسلمة عند الجميع
أولا: إن أمر الوحي من الأمور التي يسلم بها المؤمنون جميعا على اختلاف دياناتهم ولذا فنحن لا نود مناقشتها من حيث الإمكان والوقوع، لكن الذي لا بد من الإشارة إليه هنا، ما جاء في الموسوعة من أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان
يصاب بغيبوبة ونشوة، حينما كان يعود لوعيه ويصحو كان يتلو ما أنزل عليه لأصحابه.(1/166)
أولا: إن أمر الوحي من الأمور التي يسلم بها المؤمنون جميعا على اختلاف دياناتهم ولذا فنحن لا نود مناقشتها من حيث الإمكان والوقوع، لكن الذي لا بد من الإشارة إليه هنا، ما جاء في الموسوعة من أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان
يصاب بغيبوبة ونشوة، حينما كان يعود لوعيه ويصحو كان يتلو ما أنزل عليه لأصحابه.
إن بعض المستشرقين كان يصف حالة الوحي بأنها نوع من الصرع، والصرع كما نعلم مرض خلقي يصاب من ابتلوا به بنوبات، يكون النسيان من أبرز سماتها وصفاتها، وهذا كان بعيدا عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كل البعد، وها هو عليه وآله الصلاة والسلام شديد التذكر، فحينما أسر بعض المشركين وجيء للنبي صلّى الله عليه وسلّم بقلادة كانت لخديجة رضي الله عنها وأعطتها لابنتها التي كان زوجها أسيرا، فأثرت هذه في نفسية الرسول، وقد ذكر خديجة رضي الله عنها، وعرف الصحابة أن النبي يود لو أن فك أسر هذا الرجل، ففعلوا ذلك.
وأنا لا أريد بالطبع أن أحمّل الموسوعة هذا القول فنحن قد أخذنا على عاتقنا في هذا البحث أن نكون منصفين ومنهجيين، ولكن الذي نود أن نصححه هنا هو أن حالة الوحي لم تكن حالة غيبوبة يفقد النبي عليه وآله الصلاة والسلام فيها وعيه ورشده كما جاء في الموسوعة ولكنه عليه وآله الصلاة والسلام حينما كان يأتيه الوحي كان يتهيأ له ليتلقى ما يقول، وكان في وعيه التام، بعيدا عن حالات الغيبوبة والإغماء.
ونذكر هنا حديث بدء الوحي الذي أخرجه الإمام البخاري عن عائشة: أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول».
قالت عائشة رضي الله عنها: «ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا» (1).
__________
(1) رواه البخاري كتاب بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم (1: 2).(1/167)
ونحن قد يشغل أحدنا اليوم بشيء ذي أهمية فيفرغ له كل قلبه وفؤاده وفكره، وتوجهاته، فما بالك بالوحي الذي ينزل بأمور تشريعية، وبقرآن سيظل المعجزة على مدى الدهر.
إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفقد وعيه ولم يصبه إغماء، وعلى هذا فعبارة الموسوعة إن أحسنّا الظن عبارة غير متمشية مع المنطق والحق، أو على الأقل هي عبارة غير دقيقة من حيث التعبير.
ما يفعله النبى بعد نزول الوحى
ثانيا: إن النبي عليه وآله الصلاة والسلام، حينما كان ينتهي الوحي من رسالته كان يقوم بأمرين اثنين:
الأمر الأول: إنه يتلو ما أنزل عليه على الصحابة رضي الله عنه. قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدوي النحل فأنزل عليه يوما فمكث ساعة فسري عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا. ثم قال: أنزل على عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حتى ختم عشر آيات» (1).
الأمر الثاني: إنه كان يملي ذلك على كتبة الوحي، وهكذا كانت الكتابة مصاحبة للتلاوة في كل نجم ينزل على الرسول الكريم.
وضع المصحف عند حفصة ليس مهمة او عملا رسميا
ثالثا: جاء في الموسوعة: «إن الصحف بقيت عند عمر ثم تسلمت المهمة بعده حفصة رضي الله عنها»، وحقيقة الأمر أن الصحف التي جمع فيها القرآن كانت عند أبي بكر رضي الله عنه، ثم عند عمر رضي الله عنه، ولما توفي رضي الله عنه، وضعت الصحف عند ابنته حفصة رضي الله عنها، فليس هناك مهمة أو عمل رسمي أوكل إلى حفصة رضي الله عنها. كل ما في الأمر أنها أمانة مباركة وتراث مقدس
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب تفسير القرآن، سورة المؤمنون، حديث رقم 3172.(1/168)
كان يشرف به أولئك الذين يحفظونه في بيوتهم ولذا فإن عثمان رضي الله عنه لما أراد أن يجمع الناس على مصحف واحد بعث إلى حفصة رضي الله عنها، يطلب الصحف، وتعهد أن يرجعها إليها بعد أن يفرغ من كتابة المصحف، وهذا الذي كان. وتلك جزئية ليست جوهرية، ولكن من الخير أن ننبه لها.
ما يذكر فى المصحف من كون السور مكية او مدنية ليس من صلب القرآن
رابعا: إن ذكر الطبعة هنا وما كان يذكر فيها من كون السورة مكية أو مدنية، أو غير ذلك من عدد آياتها، كل هذا ليس من صلب القرآن، فلم يكن في المصحف الأول الذي جمع في عهد أبي بكر رضي الله عنه، كما لم يكن في المصاحف التي نسخها عثمان رضي الله عنه لكن ذلك كان متأخرا حيث رأى بعض العلماء فيما بعد أن يكتبوا ما يتصل بالسورة من عدد آياتها أولا، ثم أمكية هي أم مدنية ثانيا، ومتى نزلت ثالثا.
وكل مسلم أيّا كان مستوى علمه وثقافته يدرك أن هذه ليست من صلب القرآن وليست من قضاياه الجوهرية، ونحن نرى اليوم المصحف في بعض طبعاته الجديدة لم تذكر فيه هذه الأمور (1).
القضية الثانية: أنواع الوحي:
جاء في الموسوعة: «إن طريقة نزول القرآن على محمد قد ذكرت في القرآن، فمنها أن الله خاطب محمدا بشكل إيحائي ومن وراء حجاب، أو بوساطة مراسل على صورة ملاك. ولهذا جاءت كلمة وحي لتدل على إيحاء من الله لرسوله على غرار الأنبياء الذين أوحي لهم. كما أن القرآن يستعمل اصطلاحا بأن القرآن نزل على الرسول، فهذه الطريقة تدل على نوع من الخيال دون أن يكون هنالك صورة مرافقة لتوصيل هذا الخيال.
__________
(1) انظر مثلا طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في السعودية (مصحف المدينة النبوية).(1/169)
وأما الطريقة الثالثة في إيصال القرآن فهي عن طريق ملاك دون أن يذكر أن اسمه كان جبرائيل».
في هذه القضية أمران أدقهما وأشقهما الأمر الأول ذلك لأنه يتعلق بأنواع الوحي، وكان ما قرر في الموسوعة خطأ بني عليه خطأ آخر وسنبين ذلك مستعينين بالله، متمسكين بالمنهجية التي التزمناها في هذا الكتاب.
تقرر الموسوعة بأنّ الله خاطب النبي الكريم بشكل إيحائي أو من وراء حجاب، أو بوساطة رسول، وهذه قضية لا بد من بيان وجه الحق فيها، ويقيننا أن الخطأ في هذه القضية، إنما نتج عن سوء فهم لتفسير الآية الكريمة، {* وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلََّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مََا يَشََاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51].
ولا بد أن نبين تفسير الآية الكريمة أولا: يبين الله سبحانه أن تكليمه لأنبيائه عليهم السلام، وتبليغ هؤلاء الرسل رسالات الله لا يخرج عن واحدة من طرق ثلاثة:
طرق الوحى
الطريقة الأولى: هي طريقة الوحي، والمقصود هنا الإلقاء في القلب، وهو أن يلقي الله في قلب النبي الذي اختاره ما يشاء من الأحكام والمعاني.
الطريقة الثانية: أن يكلم الله الرسول الذي أرسله من وراء حجاب، وتتمثل هذه الطريقة بسماع النبي المرسل صوتا دون أن يرى صاحب هذا الصوت، فيسمع النبي المرسل هذا الكلام، كلام الله من وراء جبل أو شجرة أو شيء آخر وذلك ما كان لموسى عليه السلام، ولهذا سمي موسى كليم الله، وجاء في القرآن {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً} [النساء: 164].
الطريقة الثالثة: وهي أكثر هذه الطريق شيوعا، أن يرسل الله ملكا فيوحي بإذنه ما يشاء لهذا النبي.(1/170)
وإنما جاء خطأ الموسوعة في هذه القضية لأنهم ظنوا أن هذه الآية خاصة بالرسول عليه وآله الصلاة والسلام، وأن أنواع الوحي الثلاثة التي ذكرت في الآية كلها إنما قصد بها النبي وحده والأمر بالطبع ليس كذلك، فالآية تقول {* وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ} ومعنى هذا: أن أي بشر أرسله الله كان وصول الرسالة الإلهية إليه لا يخرج عن واحدة من هذه الطرق الثلاث، فبعضهم يلهمه الله ما يشاء أي يلقي في قلبه ما يريده الله، وبعضهم يسمع كلام الله من وراء حجاب، وبعضهم يأتيه الوحي بوساطة الملك، وهذه الطريقة الأخيرة وحدها التي نزل بها القرآن، فالقرآن الكريم لم يتلق منه شيء ولو آية واحدة بالطريقة الأولى، ولا بالطريقة الثانية، وإنما كان القرآن كله بوساطة الملك. قال تعالى:
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعََالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى ََ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسََانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (195) [الشعراء: 195192]. وفي آية أخرى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى ََ لِلْمُسْلِمِينَ} (102) [النحل: 102]، وفي آية أخرى: {قُلْ مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى ََ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللََّهِ} [البقرة: 97] والآيات التي تدل على هذا كثيرة ليس غرضنا أن نستقصيها.
ولكن الذي نريد أن نصل إليه، هو أن القرآن الكريم لم يوح إلى النبي عليه وآله الصلاة والسلام بالطريقة الأولى، وهي الإلهام ولا بالطريقة الثانية وهي التكليم من وراء حجاب. وإنما هاتان الطريقتان هما من طرق الوحي لأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام. وربما يكون النبي عليه وآله الصلاة والسلام ألهم بعض الأمور، ولكن غير القرآن، فالقرآن كله لم ينزل إلا بالطريقة الثالثة، وهذا أمر متيقن لا مجال فيه لارتياب أو محاورة.
وهذا الخطأ في الموسوعة جرّ إلى خطأ آخر، وهذا أمر طبعيّ أن ينتج عن الخطأ خطأ آخر، وهو ما قررته الموسوعة بأن القرآن «يستعمل اصطلاحا بأن القرآن نزل على الرسول، فهذه الطريقة تدل على نوع من الخيال دون أن يكون هنالك صورة مرافقة لتوصيل هذا الخيال».(1/171)
إنهم فهموا أن الإنزال ليس بوساطة ملك، وفسروا الإنزال تفسيرا حرفيا، ولهذا قالوا ما قالوه ولو أنهم فهموا الآية على حقيقتها ما وقعوا فيما وقعوا فيه ونحب أن نزيد الأمر بيانا، وهو أن كثيرا من علماء المسلمين يفسر الإنزال بالإعلام، فمعنى إنزال الله القرآن إعلام نبيه به، وهذا التفسير لا نرى ضرورة لشرحه وتفصيله.
وعلى كل حال فإن التعبير ب (الإنزال) لم يكن للقرآن وحده، وإنما كان عاما للكتب السماوية جميعها، قال تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنَا التَّوْرََاةَ فِيهََا هُدىً وَنُورٌ}
[المائدة: 44]، وقال سبحانه: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فِيهِ} [المائدة: 47]، فالقرآن إذن لم يكن بدعا من الكتب السماوية، ولكن الذي يوقع في مثل هذه الأخطاء سوء الفهم للنص المفسّر. هذا هو الأمر الأول.
أما الأمر الثاني: فهو ما جاء في الموسوعة من أنّ الطريقة الثالثة كانت بوساطة الملك دون أن يذكر أن اسمه جبريل، وهذا أمر يستدعي الاستغراب والعجب، فهناك آيات كثيرة دلت على أن الملك هو جبريل عليه السلام، سواء أكان ذلك باسمه أم بوصفه ولقد مرت معنا من قبل الآية الكريمة: {قُلْ مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى ََ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللََّهِ} [البقرة: 97]، فهذه الآية ذكر فيها جبريل صراحة كما رأينا، وهناك آيات كثيرة ذكر فيها بوصفه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193]، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [النحل: 102]، والروح هو جبريل لا يختلف في ذلك اثنان، وهذه القضية كانت ناتجة عن سوء فهم، كما في الأمر الأول، وعن غفلة، كما في الأمر الثاني.
ونرجو أن يكون بياننا كافيا شافيا، والحق أحقّ أن يتبع.
* * *
الفصل السادس أصول القرآن في رأي المستشرقين ما جاء في الموسوعة وردّه في أربع قضايا:(1/172)
* * *
الفصل السادس أصول القرآن في رأي المستشرقين ما جاء في الموسوعة وردّه في أربع قضايا:
جاء في الموسوعة: «إن التوقيت الزمني لنزول السور هي أكثر المشكلات التي يدور حولها الجدل، فالمناسبات المبينة حاليا التي نزل بها الوحي بأجزاء من سورة لا يمكن ضبطها دائما. وإن المستشرقين قد عمدوا إلى طريقة الأسلوب ومحتويات السورة ليقرروا نظاما نسبيا للسورة والأجزاء من السورة.
فمثلا ثيودور نشر كتابا بعنوان تاريخ القرآن سنة 1860، حيث نظم فيه السور إلى أربع مجموعات معتمدا في ذلك على ثلاث فترات زمنية في مكة وفترة رابعة في المدينة.
إلا أن المسلمين تختلف وجهة نظرهم عن ذلك فهم يعتقدون أن محمدا استلم كل كلمة في القرآن مباشرة من ربه، فالقرآن يرفض بعنف الاتهامات التي تشير بأن النبي حصل على القرآن من مصادر أخرى غير الخالق.
إن المستشرقين الذين قاموا بتحليل محتويات القرآن استخلصوا بأن كثيرا من المادة القصصية، والمذكور فيها أشخاص وحوادث في التوراة هي غير مشتقة من التوراة بل من مصادر نصرانية ويهودية متأخرة، كما أن أوصاف يوم القيامة والجنة هي موضوعات تتفق مع تعاليم الكنيسة السريانية المعاصرة. وإن اعتماد محمد على نقل هذه المعلومات لم يكن اعتمادا حرفيا، بل أخذ من آثار شفهية، ويظهر أن حفظ القرآن في الصدور وكتابته كانت الطريقة المعتادة لحفظه وضبطه من الضياع، وكان يكتب في بعض المناسبات فقط.(1/173)
إن طبعة القرآن العربية لم تكن كاملة وذلك لوجود حروف ساكنة متعددة تثير كثيرا من البلبلة في الفهم كما لم يكن هنالك طريقة بوساطتها يتبين أن حروف العلة من الممكن أن تميز بين معان مختلفة ومتأصلة في مجموعة خاصة من الحروف الساكنة. ولتكون الطبعة صحيحة لا بد من حفظها في الصدور دون كتابتها، إلا أن هذه الطريقة أثارت اختلافا نتيجة لتعدد القراءات. إلا أنه أخيرا أدخلت الحروف المتشابهة في الشكل وحروف العلة الطويلة، دلّ عليها بالحرف ألف بدل ا، وواو بدل و، ويا بدل ي، كما أن إشارات حروف العلة وضعت فوق أو تحت الحرف حيث أعطت لونا خاصا لا علاقة له بلب القرآن». اهـ.
لعل هذا الموضوع وما يشتمل عليه من قضايا متعددة هو أخطر الموضوعات التي عرضت لها الموسوعة، فمع خطورة الموضوعات السابقة التي تحدثنا عنها، إلا أننا نعترف بأن هذا الموضوع ربما كان أكثر خطرا ذلك أن القضايا التي عرضت في هذا الفصل قضايا جوهرية تمس مباشرة صلب القرآن وعموده الفقري.
وهذه القضايا يمكن أن نرتبها كما يلي:
القضية الأولى: ترتيب القرآن.
القضية الثانية: مصدر القرآن.
القضية الثالثة: جوهر القرآن.
القضية الرابعة: القراءات القرآنية.
مقدمة لا بد منها:
ولكن قبل هذه القضايا الأربع حريّ بنا أن نشير إلى قضية تكون بمثابة مقدمة للقضايا الأربع التي تحدثنا عنها، ونعني بهذه القضية هذا العنوان الذي جاء في الموسوعة (رأي المستشرقين) ذلك أن هذا العنوان يعطي انطباعا
للقارئ بأن كل الذي تقدم عن القرآن كان بعيدا عن التأثر بالمستشرقين، وكانت تقريراته ومسائله مستقلة استقلالا ذاتيا لم يتأثر فيه كتّاب الموسوعة بما قاله المستشرقون.(1/174)
ولكن قبل هذه القضايا الأربع حريّ بنا أن نشير إلى قضية تكون بمثابة مقدمة للقضايا الأربع التي تحدثنا عنها، ونعني بهذه القضية هذا العنوان الذي جاء في الموسوعة (رأي المستشرقين) ذلك أن هذا العنوان يعطي انطباعا
للقارئ بأن كل الذي تقدم عن القرآن كان بعيدا عن التأثر بالمستشرقين، وكانت تقريراته ومسائله مستقلة استقلالا ذاتيا لم يتأثر فيه كتّاب الموسوعة بما قاله المستشرقون.
ولكننا بعد أن درسنا هذه الموضوعات لا نعدو الحقيقة ونحن نحكم حكما قاطعا، بأن هذه الموضوعات جميعا ابتداء من القضية الأولى في الفصل الأول ومرورا بجميع القضايا في الفصول كلها، لم تكن إلا تردادا لما قاله المستشرقون ونقلا لما قرروه يكاد يكون حرفيا في كثير من موضوعاته، وقد أشرنا إلى بعض هذه الموضوعات من قبل، فدعوى التشكيك في عربية بعض الكلمات كالقرآن والصلاة والإيمان، ودعوى العشوائية في أسلوب القرآن، ودعوى عدم الإشارة إلى التوحيد في السور المتقدمة، ودعوى التقرب إلى اليهود في المدينة، ودعوى الاختلاف في بعض العبادات بعامة والصلاة بخاصة بين العهدين المكي والمدني، ودعوى التغاير بين الأسلوبين المكي والمدني، ودعوى الجبر وعدم حرية الإرادة، ودعوى الاعتراف بسلطة لبعض الأصنام (الغرانيق) وغير هذه الدعاوى مما عرضنا له في الموسوعة من قبل، كل هذه الدعاوى لم تكن سوى إعادة لما سجله المستشرقون على اختلاف بلادهم وأزمنتهم.
وإننا نحيل القارئ على أي كتاب من كتب هؤلاء وسيجد مصداقية ما قلناه هنا (1)، وعلى هذا فلا نرى معنى لهذا العنوان هنا (رأي المستشرق).
هذه هي المقدمة التي أحببت أن أبدأ بها هذا الفصل لما لها من الضرورة القصوى، والحاجة الماسّة، ولنرجع إلى القضايا الرئيسة الأساسية في هذا الفصل.
__________
(1) على سبيل المثال كتاب «القرآن» لبلاشير.(1/175)
القضية الأولى: ترتيب القرآن:
جاء في الموسوعة: «إن التوقيت الزمني لنزول السور هي أكثر المشكلات التي يدور حولها الجدل، فالمناسبات المبينة حاليا التي نزل بها الوحي بأجزاء معينة لا يمكن ضبطها دائما، إن المستشرقين قد عمدوا إلى طريقة الأسلوب ومحتويات السورة ليقرروا نظاما نسبيا للسورة والأجزاء من السورة. فمثلا ثيودور نشر كتابا بعنوان تاريخ القرآن سنة 1860حيث نظم فيه السور إلى أربع مجموعات معتمدا في ذلك على ثلاث فترات زمنية في مكة وفترة رابعة في المدينة».
منهج المسلمين في بحث القضية:
لقد شغلت هذه القضية علماء المسلمين ابتداء من عصر الصحابة رضوان الله عليهم، ولا عجب في ذلك أن يخصّوها بجهد عظيم وبحث جاد لأنها تتصل اتصالا مباشرا بأقدس كتاب حرص المسلمون أن يدفعوا عنه كل شبهة، ولكن بحثهم لم يكن مبنيا على العاطفة الجامحة الهوجاء، إنما كان مبنيا على أسس من المنطق العقلي والدليل النقلي، وهذه سمة البحث الدقيق عند المسلمين في جميع مقرراتهم ويمكن أن نلخصها في هذه الجملة القصيرة: «إن كنت ناقلا فالصحة أو مدعيا فالدليل»، ومعنى هذه العبارة القصيرة: إن كان الذي تريد تقريره وذكره قضية تتعلق بالسماع والنقل، فلا بد أن يكون نقلك صحيحا، ومعنى صحة النقل: أن تكون الرواية التي تريد نقلها خاضعة للدراسة المنهجية وهي عدالة وثقة أولئك الذين نقلت عنهم هذه الرواية على اختلاف طبقاتهم وأزمنتهم، وهذا هو المنهج الذي اتبعه المسلمون، وهو منهج خاضع لقواعد نقدية، ومنهج قويم سيظل مجال فخر للمسلمين، وسيظل أرقى وأقوم مما يمكن أن تصل إليه المناهج العلمية الحديثة. أما إذا كان الذي نريد تقريره أمرا عقليا، وقضية فكرية فلا بد من أن نقيم عليها الدليل الواضح، والبرهان
الساطع، والحجة المقنعة، هذه هي العبارة الموجزة للمنهج الإسلامي في مقرراته النقلية والعقلية: (إن كنت ناقلا فالصحة أو مدعيا فالدليل).(1/176)
لقد شغلت هذه القضية علماء المسلمين ابتداء من عصر الصحابة رضوان الله عليهم، ولا عجب في ذلك أن يخصّوها بجهد عظيم وبحث جاد لأنها تتصل اتصالا مباشرا بأقدس كتاب حرص المسلمون أن يدفعوا عنه كل شبهة، ولكن بحثهم لم يكن مبنيا على العاطفة الجامحة الهوجاء، إنما كان مبنيا على أسس من المنطق العقلي والدليل النقلي، وهذه سمة البحث الدقيق عند المسلمين في جميع مقرراتهم ويمكن أن نلخصها في هذه الجملة القصيرة: «إن كنت ناقلا فالصحة أو مدعيا فالدليل»، ومعنى هذه العبارة القصيرة: إن كان الذي تريد تقريره وذكره قضية تتعلق بالسماع والنقل، فلا بد أن يكون نقلك صحيحا، ومعنى صحة النقل: أن تكون الرواية التي تريد نقلها خاضعة للدراسة المنهجية وهي عدالة وثقة أولئك الذين نقلت عنهم هذه الرواية على اختلاف طبقاتهم وأزمنتهم، وهذا هو المنهج الذي اتبعه المسلمون، وهو منهج خاضع لقواعد نقدية، ومنهج قويم سيظل مجال فخر للمسلمين، وسيظل أرقى وأقوم مما يمكن أن تصل إليه المناهج العلمية الحديثة. أما إذا كان الذي نريد تقريره أمرا عقليا، وقضية فكرية فلا بد من أن نقيم عليها الدليل الواضح، والبرهان
الساطع، والحجة المقنعة، هذه هي العبارة الموجزة للمنهج الإسلامي في مقرراته النقلية والعقلية: (إن كنت ناقلا فالصحة أو مدعيا فالدليل).
وعلى هذا الأساس كانت عناية المسلمين بترتيب القرآن، كانوا يعتمدون على الروايات، ولكن بعد نخالتها وتمييز غثها من سمينها، فيذهب الزبد جفاء، ويطرح الضعيف والموضوع، وتؤخذ الرواية الصحيحة التي تثبت بعد درس وتمحيص.
ولقد بذل المسلمون هذه المحاولات في أحاديث الرسول الكريم عليه وآله الصلاة والسلام، فكيف إذا كانت هذه الروايات تتصل بكتاب الله، إنها أكثر خطرا وأعظم حاجة لزيادة البحث والاستقصاء.
أسباب خطأ المستشرقين:
ولكن المستشرقين وقد اعتمدوا في كثير مما قرروه على جهود علماء المسلمين السابقين كانت لهم أخطاؤهم التي تنشأ عن عدم التمييز بين الروايات تارة والجهل باللغة تارة أخرى، أو عن أهداف نفسية ودينية تارة ثالثة، والمستشرقون مدينون في هذا الترتيب لنولدكه الذي أفاد كثيرا في ترتيبه (1) من أبي القاسم عمر بن محمد بن عبد الكافي (2).
يقول الدكتور عبد الصبور شاهين:
«وآفة المستشرقين أنهم يسوقون مجرد الاحتمالات العقلية مساق الحقائق المسلمة، ويقيسون الماضي الذي لم يكن جزءا من تاريخهم، وبالتالي لم يكن من مكونات ضمائرهم بمقياس حاضرهم مع تباين المكان، والزمان، والعقلية
__________
(1) «تاريخ القرآن» بالألمانية.
(2) «تاريخ القرآن» للزنجاني ص 92.(1/177)
والروح، وآية ذلك أنهم يغضون أبصارهم عن الطابع الميتافيزقي الذي نشأت في ظله أحداث التاريخ القرآني على عهد النبوة، ويرفضون مناهج المسلمين في نقد الأخبار ورواتها، وبحسبنا أن نقرأ عبارة (آرثر جفري) في مقدمته لكتاب المصاحف، يصف منهج أهل التنقيب، يعني باحثي المستشرقين، قال: «وأما أهل التنقيب فطريقتهم في البحث أن يجمعوا الآراء والظنون والأوهام والتصورات بأجمعها، ليستنتجوا بالفحص والاكتشاف، ما كان مطابقا للمكان والزمان وظروف الأحوال، معتبرين المتن دون الإسناد» إلخ.
ثم قال في وصف رد الفعل الذي قوبل به كتاب المستشرق الألماني نولدكه (تاريخ القرآن»:
«ولما ظهرت الطبعة الأولى من كتاب نولدكه تجنى عليه بعض أصحاب النقل في الشرق واتهموه بالطعن في الدين، وزعموا أن الذين يتتبعون هذه الطريقة ليسوا خالين من المحاباة في أبحاثهم، مع أن إنصافهم وصدق نيتهم وعدم محاباتهم ظاهر، ويتبين من كتبهم أنهم لا يرمون إلا الكشف عن الحق، وكان عيبهم الوحيد في أعين أهل النقل أنهم يعتبرون المتن دون الإسناد، ويختارون من آراء القدماء ما يطابق ظروف الأحوال من أسانيد، متواترة كانت أم ضعيفة، فكثيرا ما تناقض نتائج أبحاثهم بهذه الطريقة تعليم أهل النقل الذي قد عرف بين العلماء من زمن بعيد، ولو أن هؤلاء المستشرقين قيدوا محاولاتهم بمناهج النقد الإسلامية، في انتقاء الأخبار والرواة لما خالفت أحكامهم أحكامنا ولكتبوا للقرآن تاريخا نموذجيا، فيه الكثير من الصواب والقليل من الزلل، ولو أن كتابنا اتبعوا طريقتهم في البحث والافتراض، والبرهنة والاستنتاج، مع التزامهم بالمناهج الأصلية في نقد الروايات والرواة لبلغوا في فهم هذا التاريخ مبلغا بعيدا» (1).
__________
(1) «تاريخ القرآن» ص 7.(1/178)
ونحن إن نشكر للدكتور عبد الصبور ما نقلناه عنه إلا أننا لا نرتاب وأظنه كذلك معنا بأن كثيرا من المستشرقين آفتهم واحدة، وهي أنهم كتبوا ما كتبوا، وهناك أهداف تمليها عليهم ظروف خاصة، ونحن قد برهنا على شيء من هذا في الفصول السابقة، وإنما قلت أكثر المستشرقين لأن الأمر لا يخلو ممن كان الحق لهم هدفا، وهؤلاء قد يخطئون، وشتان بين خطأ بذل صاحبه جهدا للوصول إلى الحق، ولكن أخطأه التوفيق فيما طلب، وبين خطأ متعمد ناتج عن سبق إصرار. يقول الأستاذ محمود شاكر في مقدمته لكتاب «الظاهرة» لمالك ابن نبي والذي ترجمه مشكورا الدكتور عبد الصبور:
«سلاح الاستشراق سلاح لم يدرسه المسلمون بعد، ولم يتتبعوا تاريخه، ولم يكشفوا عن مكايده وأضاليله، ولم يقفوا على الخفي من أسرار مكره، ولم يستقصوا أثره في نواحي حياتهم الثقافية، بل في أكثر نواحي حياتهم الإنسانية
كيف؟ بل كان الأمر عكس ما كان ينبغي أن يكون، فهم يتدارسون ما يلقيه إليهم على أنه علم يتزوده المتعلم، وثقافة تتشربها النفوس، ونظر تقتفيه العقول، حتى كان ما قال مالك: «إن الأعمال الأدبية لهؤلاء المستشرقين، قد بلغت درجة خطيرة من الإشعاع لا نكاد نتصورها، وتفصيل أثر هذا الإشعاع في تاريخنا الحديث، وفي سياستنا وفي عقائدنا، وفي كتبنا وفي أدياننا وفي أخلاقنا، وفي مدارسنا وفي صحافتنا وفي كل أقوالنا وأعمالنا شيء، لا يكاد يحيط به أحد.
وهذا الإشعاع كما سماه مالك، كان من أعظم الأسباب وأبعدها خطرا في العقل الحديث، الذي يريد أن يدرك دلائل إعجاز القرآن إدراكا يرضي عنه ويطمئن إليه. وهو الذي أوقع الشك في الأصول القديمة التي قامت عليها أدلة إعجاز القرآن، بل أكبر من ذلك، فإنه قد أتى أساليب غاية في الدهاء والخفاء، أفضت إلى تدمير الوسائل الصحيحة التي ينبغي أن يتذرع بها كل من درس
نصا أدبيا، حتى يتاح له أن يحكم على جودته أو رداءته فضلا عن بلاغته وإعجازه» (1).(1/179)
وهذا الإشعاع كما سماه مالك، كان من أعظم الأسباب وأبعدها خطرا في العقل الحديث، الذي يريد أن يدرك دلائل إعجاز القرآن إدراكا يرضي عنه ويطمئن إليه. وهو الذي أوقع الشك في الأصول القديمة التي قامت عليها أدلة إعجاز القرآن، بل أكبر من ذلك، فإنه قد أتى أساليب غاية في الدهاء والخفاء، أفضت إلى تدمير الوسائل الصحيحة التي ينبغي أن يتذرع بها كل من درس
نصا أدبيا، حتى يتاح له أن يحكم على جودته أو رداءته فضلا عن بلاغته وإعجازه» (1).
ولنعد إلى حديثنا عن ترتيب القرآن، ومع ما ذكرناه ونقلناه عن المستشرقين في هذه القضية، فإن مما يظهر للدارس هذه الاختلافات فيما بينهم التي تكثر حينا وتقل حينا آخر، صحيح أن هناك أمورا مشتركة بينهم، ولكن مع ذلك فبعضهم يأخذ على عاتقه اعتقاد الروايات، وبعضهم لا يقيم لها وزنا، وبعضهم يقسم القرآن من حيث ترتيبه إلى ست مراحل، وبعضهم إلى أربع. وهؤلاء يختلفون فيما بينهم كذلك، وهذا أمر طبعيّ لأن كل دراسة لا تقوم على أسس متينة تظل عرضة للتغيير والتهور في الحكم وعدم الجدّية في البحث، وأنقل هنا ما كتبه الدكتور صبحي الصالح رحمه الله:
«ومن الغريب حقا أن يظن المستشرقون أن في وسعهم ترتيب القرآن زمنيا وهم يجحدون كل أثر للرواية الصحيحة في هذا الترتيب. ولو كانوا يتشددون في الروايات فلا يقبلون منها إلا المسندة الصحيحة لهان الأمر، فإن علماء الإسلام أنفسهم كانوا ولا يزالون يرفضون الأخذ بالروايات الضعيفة في المكي والمدني وغيرهما من الموضوعات التي تلقي الضياء ساطعا على تتبع مراحل الوحي القرآني، وترتيب سوره وآياته، وتدرج تعاليمه وإرشاداته، على أن بين المستشرقين من حاول أن يبحث هذا الموضوع على صعيد لا يختلف كثيرا عن صعيدنا، كالأستاذ غريم. الذي اعتمد على الروايات والأسانيد الإسلامية في ترتيب سور القرآن، ويؤخذ عليه مع ذلك أمران: أما أحدهما فعدم تمحيصه صحيح تلك الروايات وسقيمها وعجزه كسائر المستشرقين عن هذا التمحيص، ولذلك لم يبال بترتيب القرآن على أساس واه من الأسانيد الضعيفة أحيانا والباطلة أحيانا أخرى، وأما الآخر فهو تخليه عن
__________
(1) مقدمة «الظاهرة القرآنية» ص 12.(1/180)
المنهج الذي اشترطه على نفسه من احترام الروايات ليصدر في نهاية المطاف في مواطن مختلفة عن رأي المستشرق نولدكه في وصف المراحل المتعاقبة على الوحي القرآني.
والواقع أن المستشرق نولدكه كان مقتنعا بضرورة ترتيب القرآن زمنيا على غير الطريقة الإسلامية، وقد رسم لنفسه منهجا جديدا تأثر به كثيرون، فأصبح موضوع هذا الترتيب يشغل أذهان المستشرقين جميعا، ويعلقون عليه أخطر النتائج في عالم الدراسات القرآنية.
وقد ظهرت في أوروبة في منتصف القرن التاسع عشر محاولات لترتيب سور القرآن ودراسة مراحله التاريخية، منها محاولة موير الذي قسم المراحل القرآنية إلى ست، خمس في مكة وسادستها في المدينة. واعتمد فيها إلى حد غير قليل على سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأسانيدها بعد دراستها دراسة نقدية حشد لها الكثير من معلوماته التاريخية، ولكنه وقع مع ذلك في أخطاء عديدة وأخذ بروايات واهية، والمقارنة في هذا المجال بينه وبين غريم ستظل ممكنة ميسورة.
ومنها محاولة ويل التي بدأها سنة 1844م ولم تتخذ صورتها النهائية إلا سنة 1872، ولا يقيم فيها وزنا للروايات والأسانيد الإسلامية، لذلك كانت في نظر بلاشير (الطريقة الوحيدة المثمرة حقا) وكانت من قبله في نظر نولدكه نقطة الانطلاق في إجراء محاولة لترتيب القرآن، فبها أخذ، وعلى كثير من أسسها بنى دراسته.
وكان ويل قد قسم المراحل القرآنية إلى أربع: ثلاث في مكة ورابعة في المدينة، فتابعه على ذلك نولدكه سنة 1860عند ما ظهر كتابه عن «تاريخ القرآن» للمرة الأولى، مع إجراء بعض التعديلات الطفيفة في محتويات كل مرحلة على حدة، ثم تابعه مرة ثانية مع نظائر هذه التعديلات عند ما شاركه
شفالي في نشر الكتاب منقحا مزيدا. وقد تأثر بهذه الطريقة كل من بل. ورودويل وبلاشير» (1).(1/181)
وكان ويل قد قسم المراحل القرآنية إلى أربع: ثلاث في مكة ورابعة في المدينة، فتابعه على ذلك نولدكه سنة 1860عند ما ظهر كتابه عن «تاريخ القرآن» للمرة الأولى، مع إجراء بعض التعديلات الطفيفة في محتويات كل مرحلة على حدة، ثم تابعه مرة ثانية مع نظائر هذه التعديلات عند ما شاركه
شفالي في نشر الكتاب منقحا مزيدا. وقد تأثر بهذه الطريقة كل من بل. ورودويل وبلاشير» (1).
ومن ذلك كله يسهل على القارئ أن يتصور المآخذ الكثيرة الناتجة عن ترتيب أولئك المستشرقين للمراحل القرآنية، وبين أيدينا كتاب لبلاشير، يمكن أن نجد فيه صورة لهذه المآخذ، حيث قسم بلاشير القرآن من حيث ترتيبه إلى أربع مراحل، ثلاثا في مكة، وواحدة في المدينة، وها هو يبين لنا سمات المرحلة الأولى يقول:
«كان محمدا مضطربا مترددا في قواه، قريبا من اليأس أمام ضخامة رسالته (سورة المدثر، والضحى، والانشراح)، ثم تلا ذلك مجموعة أشد إيحاء إذ أنها تعد ثلاثا وعشرين سورة فتوضح لنا التجربة الأولى للنبي الجديد أنه ما يزال تحت وطأة النداء الإلهي، يلازم خياله تصوره للكارثة الأرضية التي ستقضي على العالم، وتصوره للحساب الأخير. إن الساعة لقريبة ولا تحديد للوقت الذي ستقع فيه على البشر وإن هلعا عظيما سيصيب الآثمين والموسرين {يَوْمَ تَكُونُ السَّمََاءُ كَالْمُهْلِ} (8) [المعارج: 148]، والأرض سترتعد هي أيضا وسيقتلع الأموات من سباتهم وتكون ساعة الحساب {إِذََا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة]، ولقد نجد في هذه النصوص ذاتها موضوعا آخر من مواضيع التبشير تكشف كثرة وروده ما يكفي من دلالة على الأهمية التي يتخذها في عمل محمد النضالي. لا شك أن الله يوصف بقدرته الكلية وتنزهه، لكنه ليس مع ذلك صانعا عديم الشفقة، إنه خالق يظهر حدبه على البشر بعطاياه واهتمامه بتزويد العالم بحلاه ولا يقل أهمية في سور هذه الفترة ظهور موضوع آخر كان ملحقا للتذكير بالساعة، إنه التصريح بسمو المهمة التي كلف بها محمد لكن مجموعة أخرى من الموضوعات توسع أيضا وتشهد لتغير في الموقف نحو المعارضين المكيين، لا
__________
(1) «مباحث في علوم القرآن» الدكتور صبحي الصالح رحمه الله ص 196193.(1/182)
شك أن هؤلاء جعلوا النبي يشعر بصعوبة كل اتفاق، فإن الحرب الكلامية في وجههم ازدادت خشونة ونفاذ صبر وفي الوقت ذاته يزداد الحض على التوبة اتقادا، كذلك إدانة الأغنياء والأمر بالصدقة.
إن المنزلات الملتقاة طيلة هذه الفترة المكية الأولى تتميز بوحدة الأسلوب وتتألف الآيات على العموم من ستة إلى عشرة مقاطع صوتية، والسجعات تتتابع غالبا على قافية واحدة شديدة الوقع. وبعض السور تبنى آياتها على شكل أدوار مع لازمة (تردد مرتين أو ثلاث مرات «المرسلات»، وغالبا ما تفتتح السور بعبارات قسم بالنجوم أو بالجبال المقدسة فتؤلف عندئذ صيغا من الكلام السحري، وكل هذه النصوص تتميز بطابعها الغنائي وسياقها المذهل).
أما عن الفترة الثانية من الدعوة في مكة فيقول: «إنا نتبين في هذه النصوص كثرة استعمال اسم الرحمن إلى جانب أسماء أخرى تطلق عادة على الإله إن دور المنذر الذي أنيط بمحمد يصبح موضوعا لعدة تذكيرات أما الكافرون فإن القرآن لم يقتصر فيما يتعلق بهم على وصف نتائج الاختيار بين الصراط المستقيم وغير المستقيم. بل إن جهنم تغدو وعيدا موعودا للمشركين المكيين الذي صمّوا آذانهم في وجه دعوة محمد.
ولكي تبلغ الدعوة غايتها كانت ترجع إلى قصص أو أساطير معروفة في الجزيرة العربية. إن الإطار الذي اعتمد في ذلك كان متسقا تماما، فبعد استهلال قصير على العموم يتناول التوبة أو فرائض الإيمان، تأتي قصة تتعلق بقبيلة أو بشعب أضله ترفه فرده عن عبادة الإله الأعلى. أما أسماء هذه الشعوب فهي قليلة وتتكرر بلا ملل، إنهم قوم عاد من جنوب الجزيرة العربية، وثمود من وادي القرى شمالي الجزيرة العربية، وثمود من وادي القرى شمالي المدينة، والعمالقة، وشعب لوط، والمصريون وفرعون، وأخيرا معاصر ونوح في قدم الزمان. وقد أرسل الله إلى كل من هذه الأمم الملحدة نبيا تماثل سيرته سيرة
محمد، فإن هودا وصالحا وموسى وإبراهيم ونوحا قبل الطوفان مثل محمد قد تألموا من الهزء وعانوا مما وجهه إليهم مناوءوهم من الإهانة والتهديد (القمر، والصافات، ونوح، والشعراء، والحجر، والأنبياء) هكذا يعالج هنا موضوع النبي المبشر في الصحراء كما نرى، بالاستناد إلى قصص قومية وإلى قصص مأخوذة من التوراة. أما مع القصص التوراتية فلم يكن من التوازي بد، والقرآن يتبع عن كثب الديباجة التوراتية عامة، إلا أن اللغة تضفي على الرواية ميزة غريبة بسياقها المكثف وباهتمامها بالإيحاء أكثر من اهتمامها بالوصف. وفي هذه النبويات تكثر القصص عن موسى بصورة محسوسة، في حين أن مركزا مهما قد جعل لعيسى ومريم (سورة مريم) رغم ما تتميز به هاتان الشخصيتان هنا في بعض النقاط الأساسية، عن الصورة التي قدمتها لنا عنهما الأناجيل الأربعة. أما القالب العربي الذي اتخذته شخصية إبراهيم، فهو أجدر أيضا بالملاحظة، لقد بقي إبراهيم في احتمال ذلك الوقت مثل الأنبياء الآخرين، كان يعظ صما، وكان حزنه أشد عمقا بمقدار ما كان يصطدم بزيغ والده نفسه».(1/183)
ولكي تبلغ الدعوة غايتها كانت ترجع إلى قصص أو أساطير معروفة في الجزيرة العربية. إن الإطار الذي اعتمد في ذلك كان متسقا تماما، فبعد استهلال قصير على العموم يتناول التوبة أو فرائض الإيمان، تأتي قصة تتعلق بقبيلة أو بشعب أضله ترفه فرده عن عبادة الإله الأعلى. أما أسماء هذه الشعوب فهي قليلة وتتكرر بلا ملل، إنهم قوم عاد من جنوب الجزيرة العربية، وثمود من وادي القرى شمالي الجزيرة العربية، وثمود من وادي القرى شمالي المدينة، والعمالقة، وشعب لوط، والمصريون وفرعون، وأخيرا معاصر ونوح في قدم الزمان. وقد أرسل الله إلى كل من هذه الأمم الملحدة نبيا تماثل سيرته سيرة
محمد، فإن هودا وصالحا وموسى وإبراهيم ونوحا قبل الطوفان مثل محمد قد تألموا من الهزء وعانوا مما وجهه إليهم مناوءوهم من الإهانة والتهديد (القمر، والصافات، ونوح، والشعراء، والحجر، والأنبياء) هكذا يعالج هنا موضوع النبي المبشر في الصحراء كما نرى، بالاستناد إلى قصص قومية وإلى قصص مأخوذة من التوراة. أما مع القصص التوراتية فلم يكن من التوازي بد، والقرآن يتبع عن كثب الديباجة التوراتية عامة، إلا أن اللغة تضفي على الرواية ميزة غريبة بسياقها المكثف وباهتمامها بالإيحاء أكثر من اهتمامها بالوصف. وفي هذه النبويات تكثر القصص عن موسى بصورة محسوسة، في حين أن مركزا مهما قد جعل لعيسى ومريم (سورة مريم) رغم ما تتميز به هاتان الشخصيتان هنا في بعض النقاط الأساسية، عن الصورة التي قدمتها لنا عنهما الأناجيل الأربعة. أما القالب العربي الذي اتخذته شخصية إبراهيم، فهو أجدر أيضا بالملاحظة، لقد بقي إبراهيم في احتمال ذلك الوقت مثل الأنبياء الآخرين، كان يعظ صما، وكان حزنه أشد عمقا بمقدار ما كان يصطدم بزيغ والده نفسه».
«أما من حيث الأسلوب فإن منزلات الفترة الثانية تختلف اختلافا جذريا عن منزلات الفترة السابقة، فلم تطل الآيات فقط لكن سياقها العام ما عاد يكشف نفس الزخم الباطن أو ينطوي على نفس القوة المذهلة. إن النبي الملهم تهيمن عليه إرادة النضال في وجه خصوم يشعر بأنهم لن ينثنوا إن الواقع الذي يبرز ذلك باستمرار هو أن القوافي تنتهي في أكثر الأحيان على سجعات، وإن التنوع في هذه السجعات محدود».
أما المرحلة الثالثة فيقول بلاشير:
«هي امتداد، لسور الفترة السابقة، ولا شيء في هاتين المجموعتين من النصوص يشير إلى تجديد أساسي لا في الموضوعات ولا حتى في طريقة معالجتها لكن هذا الشعور بالاستمرار لا يجب أن يمنعنا من أن نميز فروقا دقيقة
في التفاصيل فغالبا ما تقدم هذه السور نماذج عن المنزلات المتلقاة بعد سنة 622م، أدرجت في ترتيبات منزلة خلال السنتين أو السنوات الثلاث الأخيرة من التبشير في مكة» (1). انتهى.(1/184)
«هي امتداد، لسور الفترة السابقة، ولا شيء في هاتين المجموعتين من النصوص يشير إلى تجديد أساسي لا في الموضوعات ولا حتى في طريقة معالجتها لكن هذا الشعور بالاستمرار لا يجب أن يمنعنا من أن نميز فروقا دقيقة
في التفاصيل فغالبا ما تقدم هذه السور نماذج عن المنزلات المتلقاة بعد سنة 622م، أدرجت في ترتيبات منزلة خلال السنتين أو السنوات الثلاث الأخيرة من التبشير في مكة» (1). انتهى.
مناقشة لما ذكره:
ونظرة عجلى نجد أن هذا الاستنتاج يصطدم مع مسلمات كثيرة، فمن حيث الأسلوب والجرس نجد أن هناك سورا متشابهة في هذه المراحل الثلاث، ومن حيث الموضوع نجد أن بلاشير يركز في المرحلة الأولى كما رأينا على قضية الساعة وما يحدث للكون، إلا أن هذا الموضوع لم يكن أكثر من غيره من موضوعات كثيرة في هذه المرحلة فهناك مثلا:
(1) قضية خلق الإنسان التي أشير إليها في هذه المرحلة في آيات متعددة، كل آية تتحدث عن قضية مستقلة ولا مجال هنا للتفصيل.
(2) هناك قضية التعليم بالقلم، تعليم الإنسان ما لم يعلم.
(3) هناك قضايا الأخلاق، ما يحمد منها وما يذم، يظهر هذا في سورة المدثر {وَلََا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} (6) وفي سورة القلم {وَلََا تُطِعْ كُلَّ حَلََّافٍ مَهِينٍ} (10).
(4) هناك قضية العقيدة وأبرزها الوحدانية كما ذكرنا في محله.
(5) هناك قضية تكريم الإنسان وخلقه في أحسن تقويم، والإشارة إلى النفس الإنسانية.
ثم إن القصص التي ذكرها في المرحلة الثانية نجد لها جذورا وأصولا في المرحلة الأولى كذلك، ولا نود أن نعلق هنا على ما قال من أن هذا القصص من الأساطير المعروفة عند العرب، فسيأتي لذلك موضوعه الخاص به إن شاء الله.
__________
(1) «القرآن، نزوله وتدوينه وترجمته وتأثيره» لبلاشير ص 5845.(1/185)
إن أمر الترتيب الذي ذكره المستشرقون ستظل فيه ثغرات كثيرة لا تجد لها ما يملؤها، وستظل فيه أسئلة كثيرة، لا تجد لها إجابتها المنطقية، وستظل فيه ألغاز عديدة لا تجد حلا.
ثم إن تقسيم العهد المكي إلى مراحل ثلاث ليس له ما يسوّغه لا من المنطق ولا من التاريخ، على أن أخطاء المستشرقين لم تقف عند تقريرهم للعهد المكي فحسب، بل تجاوزتها إلى العهد المدني كذلك، ومما يدل على ذلك ما ذكره بلاشير وهو يتحدث عن العهد المدني، من أن هناك بعض السور القرآنية ليس فيها ترابط تام بين موضوعاتها، ويمثل لذلك بسورة النور، مع أن كل سورة لها شخصيتها وموضوعاتها المترابطة كما بين ذلك علماء المسلمين بيانا لا يعتمد على العاطفة ولا الهوى، وأهل مكة أدرى بشعابها كما يقولون.
لقد ذكر الأئمة ميزات كل من القرآن المكي والمدني وبينوا ذلك بيانا شافيا كافيا يعتمد على صحة النقل في الرواية، وقوة الحجة العقلية، والدليل المنطقي.
إن ترتيب الموضوعات في السورة الواحدة من القضايا التي عنى بها كثير من المفسرين والعلماء قديما وحديثا، ومن هؤلاء الفخر الرازي وابن العربي، والبقاعي في تفسيره: «نظم الدرر في تناسب الآي والسور»، ومن العلماء المحدثين، الإمام محمد عبده، والدكتور محمد عبد الله دراز، رحمهم الله جميعا.
نحن لا نحجر على أي باحث في بحث، كل الذي نريده أن تقوم هذه الأبحاث على أسس متينة، وذلك يحتاج بالطبع إلى: معرفة تامة وعامة كذلك للغة التي نزل بها القرآن أولا، وللظروف النفسية والاجتماعية ثانيا، وتمييز الروايات الصحيحة من الفاسدة ثالثا، وللتخلي عن مسلمات خاضعة لأغراض وأهواء عرقية ودينية رابعا، فإذا وجدت هذه الأسباب أمكننا أن نصل إلى بحث
نزيه وجيه، وإلى نتائج جريئة، ونعترف أن بعض أولئك الباحثين وقد اجتمعت لهم هذه الأسباب قد وصلوا إلى هذه النتائج فغيروا كثيرا من معتقداتهم (1).(1/186)
نحن لا نحجر على أي باحث في بحث، كل الذي نريده أن تقوم هذه الأبحاث على أسس متينة، وذلك يحتاج بالطبع إلى: معرفة تامة وعامة كذلك للغة التي نزل بها القرآن أولا، وللظروف النفسية والاجتماعية ثانيا، وتمييز الروايات الصحيحة من الفاسدة ثالثا، وللتخلي عن مسلمات خاضعة لأغراض وأهواء عرقية ودينية رابعا، فإذا وجدت هذه الأسباب أمكننا أن نصل إلى بحث
نزيه وجيه، وإلى نتائج جريئة، ونعترف أن بعض أولئك الباحثين وقد اجتمعت لهم هذه الأسباب قد وصلوا إلى هذه النتائج فغيروا كثيرا من معتقداتهم (1).
خطأ تقسيم القرآن إلى مراحل:
إن تقسيم القرآن إلى مراحل كما أراد المستشرقون أمر يصطدم مع واقع الأحداث، ومسلمات العقل، وصحيح الرواية ذلك أن المدة التي جهر بها النبي عليه وآله الصلاة والسلام بالدعوة إلى الله، منذ أن نزل عليه قوله سبحانه {قُمْ فَأَنْذِرْ} (2) [المدثر: 2] كانت متشابهة، دون أن يكون بينها خلافات جوهرية رئيسة، ولو أن هؤلاء المستشرقين أفادوا مما قرره علماء المسلمين من الاعتماد على صحيح الروايات، ودرسوا القضايا القرآنية دراسة موضوعية لوصلوا إلى نتائج غاية في الدقة والإبداع والروعة. ولنعط أمثلة على ذلك:
هناك موضوع العقيدة، والخلق، والإنسان، والأخلاق، فإذا أخذنا موضوع العقيدة مثلا فدرسنا الآيات التي تتحدث عن الله سبحانه وتعالى، لوجدنا أن هذه الآيات تقرر هذه المسائل تقريرا تربويا، فهي تذكر الدعاوى أولا، ثم تقيم عليها الأدلة ثانيا، على تعدد مصادر هذه الأدلة، ومثل هذه الدراسة ستجعلنا ندرك ضحالة المقولة التي كاد يجمع عليها المستشرقون، وهي أن قضية التوحيد كان القرآن خال منها في سوره الأولى، وهكذا يمكن أن ندرس قضية الخلق، وكيف تطور فيها القرآن، وكيف تطورت هي كما جاء في الآيات القرآنية.
وهكذا إذا أخذنا موضوع الرسالة على ضوء هذه الدراسة الموضوعية، كيف بدأت بعد المرحلة الأولى من مراحل الوحي {قُمْ فَأَنْذِرْ} وكيف كان هذا الإنذار خاصا، ثم أصبح يتطور ويتسع، وما هي الشبه الأولى التي قوبلت بها هذه
__________
(1) ومن الأمثلة على ذلك موريس بوكاي في كتابه «دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة».(1/187)
الرسالة، وكيف ردت، وما هي الأدلة التي قامت على صحتها. إنّ مثل هذه الدراسة الموضوعية لو اتبعت حسب ما قرره المسلمون من ترتيب للسور القرآنية لكانت لها نتائج مذهلة من حيث الصحة في هذا التدرج التربوي والعلمي والتاريخي (1).
القضية الثانية: مصدر القرآن:
جاء في الموسوعة: «إلا أن المسلمين تختلف نظرتهم عن ذلك، فهم يعتقدون أن محمدا استلم كل كلمة في القرآن مباشرة من ربه، فالقرآن يرفض بعنف الاتهامات التي تشير إلى أن النبي حصل على القرآن من مصادر أخرى غير الخالق.
إن المستشرقين الذين قاموا بتحليل محتويات القرآن استخلصوا بأن كثيرا من المادة القصصية والمذكور فيها أشخاص وحوادث في التوراة، هي غير مشتقة من التوراة بل من مصادر نصرانية ويهودية متأخرة. كما أن أوصاف يوم القيامة والجنة هي موضوعات تتفق مع تعاليم الكنيسة السريانية المعاصرة. وأن اعتماد محمد على نقل هذه المعلومات لم يكن اعتمادا حرفيا، بل أخذ من آثار شفهية».
رغم ما في هذا الكلام من إثارة، وبعد عن الصواب، وطمس للحقيقة، وتجن على الأحداث، أقول: رغم كل هذا إلا أننا سنظل ملتزمين بمنهجيتنا الهادئة الهادفة، والتي كان ينبغي أن تكون هادرة، ولكن إذا كانت الحقيقة هادمة للأباطيل سواء كانت هادئة أو هادرة، فلنبق على ما ألزمنا أنفسنا به.
إن هذه القضية إذا أريد بها بحث يتسم بالعمق، ويتصف بالشمول، ويلم بالقضية من جميع أطرافها، فإنه بحاجة إلى كتاب خاصّ لا إلى قضية في فصل، ولكننا سنحاول مع اعترافنا بصعوبة المحاولة، وهذه الصعوبة ليست ناشئة عن
__________
(1) لأستاذنا الشيخ الدكتور محمد السماحي دراسة لبعض الموضوعات انظرها في كتابه «مذكرات في التفسير الموضوعي».(1/188)
صعوبة الردّ ومنهجية النقد، بل هي ناشئة عن احتواء هذا الموضوع المتشعب في صفحات قليلة تمليها طبيعة البحث، ويحتمها ظرفه. فنحن نعالج قضايا كثيرة كان لزاما علينا أن لا نخرج عن الإطار الذي وضعناه من قبل، وهو أن لا نسترسل فكرا وقلما. فنقول وبالله التوفيق:
دراسة مصدر القرآن تحتّم على كل باحث غايته الإنصاف، أن يلمّ بجميع الاحتمالات التي يمكن أن تكون مصدرا لهذا القرآن، هذا القرآن إما أن يكون من عند الله وحيا أوحاه الله بوساطة الروح الأمين جبريل، حيث نزل به على قلب الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، وإما أن لا يكون كذلك. وهنا لا بد من افتراض أمرين: فإما أن يكون النبي اكتسبه من غيره، وإما أن يكون ناتجا عن تأملاته الشخصية، وخواطره الفكرية، وسبحاته الروحية.
الافتراض الأول: اكتسابه من غيره:
وحريّ أن نبحث هذين الافتراضين الأخيرين، فالافتراض الأول أن يكون القرآن اكتسبه النبي من آخرين، واكتتبه من غيره من الناس، وهذا الافتراض سيحملنا على التطواف في مناطق كثيرة جغرافية وثقافية ودينية، ترى من أين اكتسب هذا القرآن؟ من أي بيئة من هذه البيئات الثلاث التي أشرنا إليها؟ ولعل أول ما يقع في النفس ويخطر في البال أن يكون المجتمع الذي عاش فيه النبي هو المصدر لهذا القرآن، فإن لم يكن، فهناك احتمال آخر وهو: أن يكون هذا القرآن مكتسبا من بعض اليهود والنصارى الذين هيئت لهم فرص العمل في المجتمع المكي. وهناك احتمال ثالث يقول: لم لم تكن التوراة والإنجيل الأساس لهذا القرآن؟ فإذا خرجنا من هذه البيئة جغرافيا، وجدنا احتمالا رابعا يدّعي: أن الرسول أفاد هذا القرآن في كثير من نصوصه وقضاياه من تلك الرحلات التي كان يقوم بها تجاريا إلى الشام مرة وإلى اليمن أخرى، وقد كان هناك نصارى في هذين البلدين. وهناك احتمال خامس يدّعي: أنّ هذا القرآن
تأثر ببيئة ثقافية أخرى، وهي البيئة الشرقية، فأخذ من الزرادشتية أو الصابئة كثيرا من قضاياه وأحكامه، وهذه الافتراضات كلها في مكة بالطبع.(1/189)
وحريّ أن نبحث هذين الافتراضين الأخيرين، فالافتراض الأول أن يكون القرآن اكتسبه النبي من آخرين، واكتتبه من غيره من الناس، وهذا الافتراض سيحملنا على التطواف في مناطق كثيرة جغرافية وثقافية ودينية، ترى من أين اكتسب هذا القرآن؟ من أي بيئة من هذه البيئات الثلاث التي أشرنا إليها؟ ولعل أول ما يقع في النفس ويخطر في البال أن يكون المجتمع الذي عاش فيه النبي هو المصدر لهذا القرآن، فإن لم يكن، فهناك احتمال آخر وهو: أن يكون هذا القرآن مكتسبا من بعض اليهود والنصارى الذين هيئت لهم فرص العمل في المجتمع المكي. وهناك احتمال ثالث يقول: لم لم تكن التوراة والإنجيل الأساس لهذا القرآن؟ فإذا خرجنا من هذه البيئة جغرافيا، وجدنا احتمالا رابعا يدّعي: أن الرسول أفاد هذا القرآن في كثير من نصوصه وقضاياه من تلك الرحلات التي كان يقوم بها تجاريا إلى الشام مرة وإلى اليمن أخرى، وقد كان هناك نصارى في هذين البلدين. وهناك احتمال خامس يدّعي: أنّ هذا القرآن
تأثر ببيئة ثقافية أخرى، وهي البيئة الشرقية، فأخذ من الزرادشتية أو الصابئة كثيرا من قضاياه وأحكامه، وهذه الافتراضات كلها في مكة بالطبع.
أما في المدينة فلماذا لا يكون القرآن قد تأثر في كثير من تشريعاته بما أخذه عن اليهود هناك، وهذا الاحتمال يبرهن عليه مدّعوه بأن هنالك قضايا كثيرة سواء منها ما يتصل بالأحكام والتشريعات، أم بشخصية الرسول قد طرأ عليها تغير ملموس محسوس في المدينة.
تلك هي الاحتمالات الناشئة عن هذا الفرض وهو أن القرآن اكتتبه النبي واكتسبه من غيره وسنجد أن العرب في جاهليتهم يلتقون مع المستشرقين، وربما كان العكس أكثر صحة، وهو أنّ هؤلاء المستشرقين رغم ثقافاتهم يلتقون مع العرب الذين ناصبوا القرآن العداء، إلا أنه والحق يقال رغم أن هؤلاء المستشرقين أكثر ثقافة، فإن هؤلاء العرب في جاهليتهم كانوا أكثر دقة وإنصافا.
وعلى سبيل المثال، فلقد كان العرب وهم الذين يعايشون النبي الكريم، يعرفون عنه أكثر مما يعرفه المستشرقون والمبشرون، ولقد نقل القرآن لنا بأمانة ما قالوه، {وَقََالُوا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهََا فَهِيَ تُمْلى ََ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كََانَ غَفُوراً رَحِيماً} (6) [الفرقان: 65] هكذا قالوا: «اكتتبها» ولم يقولوا: «كتبها»، وما أعظم الفرق بين الكلمتين، فاكتتبها تعني أنه طلب من غيره أن يكتبها له، وكتبها ليست كذلك. هذا ما قاله العرب في جاهليتهم.
أما ما قاله كثير من المستشرقين فكان بعيدا عن الواقع، فلقد قالوا إن النبي هو الذي كان يكتب هذه القضايا، وحاولوا أن يثبتوا ذلك، فزعموا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكتب، واستدلوا لذلك بما كان في مرضه عليه الصلاة والسلام، حينما طلب أن يكتب للمسلمين كتابا، وهذا منطق غريب إن جاز أن نسميه منطقا، فنحن نعلم أن الرؤساء ومن ماثلهم لا يتولون الكتابة بأنفسهم، فضلا عن أن
النبي صلّى الله عليه وسلّم كان في مرض يعيقه في كثير من الأحيان حتى عن أن يؤدي الصلاة إماما للمسلمين، ولكن المستشرقين يأبون إلا أن يذكروا كل ما يجول في خواطرهم، ويوحي به بعضهم إلى بعض، ولنرجع إلى هذه الاحتمالات التي تحدثنا عنها من قبل:(1/190)
أما ما قاله كثير من المستشرقين فكان بعيدا عن الواقع، فلقد قالوا إن النبي هو الذي كان يكتب هذه القضايا، وحاولوا أن يثبتوا ذلك، فزعموا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكتب، واستدلوا لذلك بما كان في مرضه عليه الصلاة والسلام، حينما طلب أن يكتب للمسلمين كتابا، وهذا منطق غريب إن جاز أن نسميه منطقا، فنحن نعلم أن الرؤساء ومن ماثلهم لا يتولون الكتابة بأنفسهم، فضلا عن أن
النبي صلّى الله عليه وسلّم كان في مرض يعيقه في كثير من الأحيان حتى عن أن يؤدي الصلاة إماما للمسلمين، ولكن المستشرقين يأبون إلا أن يذكروا كل ما يجول في خواطرهم، ويوحي به بعضهم إلى بعض، ولنرجع إلى هذه الاحتمالات التي تحدثنا عنها من قبل:
1 - في مكة: الاحتمال الأول:
أن يكون المجتمع الذي عاش فيه النبي عليه وآله الصلاة والسلام هو مصدر القرآن، وهذا يتطلب منا دراسة لهذا المجتمع من حيث العقائد والأخلاق والاهتمامات والمشاغل والظروف، وهذه الدراسة ينبغي أن تكون دراسة متأنية مستمدة من حقائق الواقع والتاريخ، ليست مبنية على رأي فطير خال عن الموضوعية، فكيف كان هذا المجتمع؟
قبل أن نجيب نحن، نحب أن نعرض لرأي مستشرق فرنسي، عرف في الأوساط الثقافية والعلمية بعقليته، ومنهجيته، ولكن هذه العقلية والمنهجية، يظهر أنها تهيمن على صاحبها حينما يكون الأمر بعيدا عن الإسلام والمسلمين، فإذا كان الأمر يتصل بالإسلام والمسلمين، وجدنا كل ذلك يتلاشى، ذلكم العالم هو إرنست رنان، حيث يصور المجتمع العربي، بصورة يتمناها أبناء العصر الحديث، فالمجتمع العربي كما يصوره رنان لم يعرف الخرافات كما عرفتها المجتمعات الأخرى، بل كان مجتمعا موحدا يعبد الله الواحد، ثم إنه كان يصدر عن عقيدة التوحيد في كل تصرفاته وأخلاقه، فلقد كان الدين شغله الشاغل، ولقد كان هذا المجتمع ممتلئ حماسة لقضايا الدين، ولا عجب في ذلك، فهو مجتمع التقت فيه الحضارات والديانات جميعها، وعلى هذا فإن النبي الكريم لم يأت بجديد لهذا المجتمع، بل كان كل ما جاء به منتزعا من هذا المجتمع، ومنبثقا عن مقرراته. وهذا ما يريد أن يصل إليه رنان، ولكن هل هذه الصورة التي ذكرها رنان، هي الصورة الحقيقية لهذا المجتمع؟(1/191)
ولماذا نبعد كثيرا، والقرآن نفسه يحدثنا عن سمات هذا المجتمع الدينية والخلقية، ثم أليس أهل المجتمع أنفسهم أعرف وأصدق من رنان؟! ثم أليس الذين كانوا يعاصرون هؤلاء العرب كانوا أصدق وأعرف من رنان كذلك؟! القرآن إذن والمجتمع نفسه ومن يعاصرون هذا المجتمع، كل أولئك يقولون غير ما يقوله رنان.
أأما القرآن ففي آيات كثيرة ومواضع متعددة يبين أحوال هذا المجتمع ناعيا عليهم، معنفا لهم، منددا بهم، لنستمع إليه في القضايا الدينية أولا:
{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لََا يَخْلُقُ أَفَلََا تَذَكَّرُونَ} (17) [النحل: 17]، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ عِبََادٌ أَمْثََالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهََا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهََا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهََا أَمْ لَهُمْ آذََانٌ يَسْمَعُونَ بِهََا} [الأعراف: 195194]، {أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (60) [النمل:
60]، {أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} (61) [النمل: 61]، {أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ قَلِيلًا مََا تَذَكَّرُونَ} (62) [النمل: 62]، {أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ تَعََالَى اللََّهُ عَمََّا يُشْرِكُونَ} (63) [النمل: 63]، {أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ قُلْ هََاتُوا بُرْهََانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (64) [النمل: 64]، {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ لََا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوََاتٌ غَيْرُ أَحْيََاءٍ} [النحل: 2120]، {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلََهاً وََاحِداً إِنَّ هََذََا لَشَيْءٌ عُجََابٌ} (5) [ص: 5].
ونحن لا نود أن نستقصي الآيات، فليس هذا من غرضنا هنا، ولكن هذه الآيات وغيرها تثبت بما لا مجال فيه لريب، بأن دعوى رنان من أن هذا المجتمع كان موحدا إنما هي خيال المريض.
أما في المجال الخلقي فنقرأ قول الله:
{وَإِذََا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ََ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوََارى ََ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مََا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى ََ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرََابِ أَلََا سََاءَ مََا يَحْكُمُونَ} (59) [النحل: 5958].(1/192)
ونقرأ في أمر تحرير الرقيق: {وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ} (13) [البلد:
1312]، {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].
ونقرأ في قضايا أخرى: {وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (9) [التكوير:
98] كما نقرأ {وَلََا تَقْتُلُوا أَوْلََادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلََاقٍ} [الإسراء: 31]، {وَلََا تَقْرَبُوا الزِّنى ََ}
[الإسراء: 32]، {وَالَّذِينَ لََا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72]، {وَلََا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} (26) [الإسراء: 26].
حتى في العهد المدني نجد صورة لأخلاق المجتمع العربي {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسََاءَ كَرْهاً} [النساء: 19] {وَلََا تَنْكِحُوا مََا نَكَحَ آبََاؤُكُمْ مِنَ النِّسََاءِ} [النساء: 22]، {وَلِلنِّسََاءِ نَصِيبٌ مِمََّا تَرَكَ الْوََالِدََانِ وَالْأَقْرَبُونَ}
[النساء: 7]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين لنا بوضوح وجلاء، أن القضية الخلقية لم تكن في هذا المجتمع أحسن حظا من القضية الدينية.
ب أما عن اهتمامات هذا المجتمع فنرجح أن الدين كان أقل تلك الاهتمامات وبرهان ذلك ما نجده في أشعار هؤلاء وقد كان الشعر أقدس شيء عندهم، وبخاصة الشعراء المحلقين المفلقين، فإننا لن نجد في أسفارهم أثرا للحياة والاهتمامات الدينية، بل هذه أسواقهم كانت بلا شك تعكس الصورة الصادقة عنهم، ولم نر هذه الأسواق تحفل من قريب أو بعيد بالقضايا الدينية، اللهم إلا في بعض التصرفات الخاصة.
وإذا تركنا هذه الأسواق وهي مجتمعاتهم الكبيرة إلى مجتمعاتهم الصغيرة وجدنا أن هذه المجتمعات لم تكن تحفل بالقضايا الدينية ومسائل العقيدة، يذكر التاريخ بأنّ النضر بن الحارث، وقد كان من الألداء في الجاهلية للإسلام، كان يريد أن يصدّ الناس عن سماع القرآن، بما يقرؤه لهم، وكان من المفترض أن يتحلقوا حوله ليقرأ لهم من بعض الكتب الدينية المعروفة عند الأمم، ولكنه كان لا يفعل شيئا لهم من هذا بل كان يقص عليهم أخبار الفرس
وحكايات أبطالهم، ويعبر القرآن عن هذا بقوله: {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6].(1/193)
وإذا تركنا هذه الأسواق وهي مجتمعاتهم الكبيرة إلى مجتمعاتهم الصغيرة وجدنا أن هذه المجتمعات لم تكن تحفل بالقضايا الدينية ومسائل العقيدة، يذكر التاريخ بأنّ النضر بن الحارث، وقد كان من الألداء في الجاهلية للإسلام، كان يريد أن يصدّ الناس عن سماع القرآن، بما يقرؤه لهم، وكان من المفترض أن يتحلقوا حوله ليقرأ لهم من بعض الكتب الدينية المعروفة عند الأمم، ولكنه كان لا يفعل شيئا لهم من هذا بل كان يقص عليهم أخبار الفرس
وحكايات أبطالهم، ويعبر القرآن عن هذا بقوله: {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6].
لقد كان المجتمع العربي تسوده روح القبيلة، لذلك كان فخرهم بهذه القبيلة، وما هو ضروري لها من مال وولد، حتى لقد كانت القبيلة تهيمن عليهم في كل شيء يقول قائلهم:
وهل أنا إلّا من غزيّة إن غوت ... غويت وإن ترشد غزيّة أرشد
وكان دستورهم هذا القول المشهور: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، وبقي كذلك حتى جاء الإسلام فعدّله بما يتفق مع العدالة الجديدة والروح الجديدة للدين الجديد، حيث بين الرسول عليه وآله الصلاة والسلام وقد سئل: «ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟» فقال: «تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره» (1). ويحكي لنا القرآن فخرهم هذا: {وَقََالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوََالًا وَأَوْلََاداً وَمََا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35]، وفي آية أخرى: {وَقََالُوا لَوْلََا نُزِّلَ هََذَا الْقُرْآنُ عَلى ََ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
وهكذا ندرك أن المجتمع الذي عاش فيه النبي عليه وآله الصلاة والسلام كان في غفلة عن التصورات القرآنية الجديدة، فضلا عن أن يعطيها ويمنحها، وها هو وقف في طريقها يصدّ الناس عنها: {لََا تَسْمَعُوا لِهََذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] وكثيرا ما يقولون: {إِنََّا وَجَدْنََا آبََاءَنََا عَلى ََ أُمَّةٍ} [الزخرف:
22]، فلو كانت معطيات القرآن مكتسبة منهم لقالوا (هذه بضاعتنا ردت إلينا).
ج وأما معاصرو هذا المجتمع فلم تكن نظرتهم بأدق من نظرة العرب إلى أنفسهم، فلقد كانوا يصفونهم بالأميين، ليس هذا فحسب بل يستبيحون حقوقهم، والقرآن يحدثنا عن اليهود حينما قالوا: {لَيْسَ عَلَيْنََا فِي الْأُمِّيِّينَ}
__________
(1) رواه البخاري في «صحيحه» في كتاب الإكراه، باب يمين الرجل لصاحبه: (7: 6551).(1/194)
{سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]، ولم تكن نظرة الفرس والروم إلى العرب، بأحسن من نظرة اليهود كذلك، وها هم يستعدون بعضهم على بعض، ويضربون بعضهم ببعض، ولذلك كانوا يسخرون منهم وهم يدّعون أنهم سينتصرون عليهم بعد أن جاء الإسلام، لأنهم كانوا يعرفون العرب قبل الإسلام.
إذن شهادة القرآن وشهادة المجتمع العربي، وشهادة أولئك الذين يجاورون هذا المجتمع، كلها ترد بحزم ومنطق دعوى رينان. وهنا يمكن أن يطرح سؤال خلاصته: صحيح أن المجتمع بحالته العامة وبأغلبيته كان كذلك، ولكن لا يستطيع أحد أن ينكر أنه كان هناك من يسمون الحنفاء يعيشون في هذا المجتمع، وكانوا يتمردون على عبادة الأصنام، وبعض الأعراف الجاهلية.
ولقد اشتهرت لهم أشعار كانوا يتحدثون فيها عن قضايا الدين واليوم الآخر والجنة والنار، فلم لا يكون أولئك مصدرا للقرآن أخذ عنهم وتأثر بهم وقبس منهم، ورجع إليهم؟ وللإجابة عن هذا التساؤل نقول: نعم كان هناك من يسمون حنفاء يدّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام، ولكن من حقّنا أن نتساءل:
ماذا كان تأثير هؤلاء في المجتمع الجاهلي؟ وما هي القواعد والعقائد التي أرسوها في هذا المجتمع؟ وهل سجل التاريخ والواقع معركة كلاميّة فضلا عن معركة حربية كانت بين هؤلاء الحنفاء وبين غيرهم من أبناء المجتمع الجاهلي؟
لا ريب ذلك كله لم يكن منه شيء، ثم إن واحدا من هؤلاء الحنفاء لم يدّع الإلهام فضلا عن الوحي.
أما أشعارهم التي كانت تتحدث عن بعض العقائد فإن ذلك كله لا يحمل شبهة، فضلا عن دليل، بأن القرآن قد أفاد من هؤلاء:
أما أولا: فليس القرآن كله إخبارا عن اليوم الآخر، أو بعض قضايا الألوهية، وإنما فيه الأحكام والتشريعات التي لا نجد لها أثرا في أشعار هؤلاء.(1/195)
وأما ثانيا: فلأن هذه الأشعار إذا خضعت للنقد فسيظهر أن كثيرا منها سيتطرق إليه الشك، بل سنجد أن هذه الأشعار هي التي تأثرت بالقرآن، كما تأثرت به العصور التالية فيما بعد.
وأما ثالثا: وهو ما يعوّل عليه كثيرون من شعر أمية بن أبي الصلت، فإن أمية مع أنه لم يدّع النبوة فإن شعره كان مزيجا مما أخذ من القرآن وغيره، وهذا ما لاحظه (هوارت) فقد لاحظ أن أمية عند ما يتكلم عن وصف النار يقلد أسلوب التوراة، وعند ما يشرع في وصف الجنة يستخدم عبارات القرآن، وعند ما يقص التاريخ الديني يلجأ أحيانا إلى الأسطورة الشعبية، وإلى ما يشبه الأساطير الميثولوجية (أو أساطير الآلهة اليونانية) حيث يتمثل الشخص أحيانا في صورة إنسان، وأحيانا في صورة حيوان أو نبات (1).
وأما رابعا: فلقد كان العرب يرصدون النبي في كل كلمة وموقف وكانوا سيجدون خير فرصة سانحة لهم للتشهير لو وجدوا جزئية واحدة تدل على هذا التأثر.
فإذا تركنا الحنفاء جانبا وجدنا أن من الممكن أن ينشأ سؤال آخر، لقد كان هناك من يسمون الصابئة في المجتمع الجاهلي، ولقد أشار إليهم القرآن في أكثر من آية، فلم لا يكون القرآن قد أفاد من هؤلاء؟ والجواب عن هذا التساؤل أيسر من سابقه، فالصابئة كانوا يحجون إلى حران في العراق بدل الكعبة، وكانوا يعبدون النجوم والكواكب وكانت طقوسهم الدينية عند طلوع الشمس وعند زوالها وغروبها، وهي الأوقات التي حرم الإسلام العبادة فيها، وكانوا يبيحون الزواج من بعض المحارم، ومن هؤلاء عقائدهم وعباداتهم يبعد كل البعد أن يقبس القرآن منهم شيئا. وبعد فالمجتمع بكل عناصره وفئاته لا يصلح أن يكون مصدرا لهذا القرآن الذي جاء يصحح له قواعده وعقائده، ولا بد أن نبحث عن احتمال آخر.
__________
(1) «مدخل إلى القرآن الكريم» للدكتور محمد عبد الله دراز ص 144.(1/196)
الاحتمال الثاني: أن يكون هذا القرآن مكتسبا من اليهود والنصارى الذين هيئت لهم فرص العمل في المجتمع المكي، وهذا الاحتمال رده القرآن، فهؤلاء الذين اضطرتهم ظروف الحياة للعمل في مكة ليقوموا ببعض الحرف، أيعقل أن يكونوا هم مصدر القرآن؟! إن أبسط قواعد المنطق تجيب بالسلب فهل ثبت أن الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم كان كثير التردد على هؤلاء، وأوقاته كلها كانت بين رحلة لتجارة، أو رعي لغنم، أو جلوس مع قوم لما تتطلبه الأمور الحياتية واليومية؟ وكان في مدته الأخيرة قبل النبوة يخلو بنفسه، وكثيرا ما يتردد على غار حراء يقضي فيه الليالي ذوات العدد، وعلى هذا فلم يكن يملك من الوقت ليكثر التردد على هؤلاء الحرفيين وهم قلة. ثم إنّ قريشا كان يمكن أن تأخذ من هؤلاء ما ترد به على النبي صلّى الله عليه وسلّم، لو كان عند هؤلاء شيء يؤخذ. والقرآن كما قلت يحسم الأمر في هذا الاحتمال، فالقرآن الذي أدهش العرب أسلوبا، وأعجزهم نظما، يستحيل بداهة أن يوحي به هؤلاء الذين لا يحسنون النطق بالعربية، فضلا عن أن يجيدوا التعبير فيها. يقول القرآن {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمََا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسََانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهََذََا لِسََانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (103) [النحل: 103].
وعلى هذا فهذا احتمال لا يثبت أمام أبسط القواعد العقلية، وأيسر مسلمات المنطق.
الاحتمال الثالث: لم لم تكن التوراة والإنجيل الأساس لهذا القرآن؟
وهذا الاحتمال حينما ننظر فيه نظرة عاجلة نجده لا يقوى على الثبات، فهذان الكتابان من المعلوم أنهما لم يترجما إلى العربية، إلا بعد قرون من بعثة النبي الكريم عليه وآله الصلاة والسلام، هذا أولا.(1/197)
وأما ثانيا: فلقد جاء هذا القرآن يختلف في كثير من مسائله وقضاياه ومقرراته، وأحكامه وتصوراته عما قرر في هذين الكتابين، صحيح كانت هناك قضايا مشتركة، وهذا أمر بدهي لا بد منه، فالقرآن كتاب سماوي جاء لإرساء كثير من المقررات الدينية وترسيخها في النفوس، ولا بد أن تكون هناك جوانب مشتركة بينه وبين هذه الكتب، ونحن نرى أن كتب الأدب على اختلاف لغاتها وأعصارها وأمصارها نجد بينها سمات مشتركة، وكذلك كتب الاقتصاد، رغم اختلاف أصحابها وتعدد مذاهبهم بين اقتصاد حرّ وغير حرّ، ولكن هناك سمات مشتركة بين هذه المباحث.
والناظر في القرآن الكريم يجد اختلافات جوهرية في قضايا كثيرة: في قضية الخلق. وفي القصص وما يتفرع منها كالطوفان، وفي قضايا التشريع ففي قضايا الخلق مثلا نجد أن الأصول التي اتفقت عليها التوراة والقرآن أقل من القضايا المختلف فيها. يقول موريس بوكاي:
«يدعي كثير من المؤلفين الأوروبيين أن رواية القرآن عن الخلق قريبة إلى حد كبير من رواية التوراة، وينشرحون لتقديم الروايتين بالتوازي. إني أعتقد أن هذا مفهوم خاطئ فهناك اختلافات جلية، ففيما يتعلق بمسائل ليست ثانوية مطلقا من وجهة النظر العلمية نكتشف في القرآن دعاوى لا يجدى البحث عن معادل لها في التوراة. كما أن التوراة من ناحية أخرى. تحتوي على معالجات تفصيلية لا معادل لها في القرآن» (1).
وفي مسألة الطوفان نجد ما يذكره القرآن مختلفا اختلافا تاما عما ذكرته التوراة، «فعلى حين تتحدث التوراة عن طوفان عالمي لعقاب كل البشرية الكافرة، يشير القرآن على العكس إلى عقوبات عديدة نزلت على جماعات
__________
(1) «الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة» ص 157.(1/198)
محددة جدا فالقرآن يقدم كارثة الطوفان باعتبارها عقابا نزل بشكل خاص على شعب نوح، وهذا يشكل الفرق الأول أما الفرق الثاني فهو أن القرآن على عكس التوراة لا يحدد زمن الطوفان، ولا يعطي أية إشارة عن مدة الكارثة نفسها والقرآن يحدد بشكل صريح محتوى سفينة نوح فقد أعطى الله أمرا لنوح بأن يضع في السفينة كل ما سيعيش بعد الطوفان، بالإضافة إلى الأسرة التي قطع منها الابن الملعون، ولا تشير التوراة إلى هؤلاء من بين ركاب السفينة وإنما تقدم ثلاث روايات عن محتوى السفينة» (1).
بل في قضية غرق فرعون نجد القرآن يذكر جديدا لم تعرض له التوراة البتة، وهذا «فيما نراه في مشهد عبور إسرائيل البحر الأحمر حيث غرق فرعون وجنوده كما روى سفر الهجرة، ولكن رواية القرآن تكمل هذا العرض بتفصيل غير متوقع، وهو أيضا غير عادي، أعني النجاة البدنية لفرعون الذي أفلت بأعجوبة من الغرق {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً»} (2).
أما في قضايا التشريع والمسئولية الأخلاقية، فما أعظم الفرق، والحق أن البون شاسع تماما بين مبادئ القرآن وبين غيره، وننقل هنا كلاما طيبا لأستاذنا الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله، ونؤثر أن ننقله بنصه على طوله لما له من فائدة في موضوعنا الذي نتحدث عنه يقول:
«فإذا كان هدفه القرآن الأول هو أن يحافظ على التراث الأخلاقي الذي نزلت به الكتب المقدسة السابقة ويؤيده، فإن له رسالة أخرى لا تقل عنه أهمية وقدسية، ألا وهي إتمام وإنهاء الصرح الإلهي الذي بناه الرسل والأنبياء على مر العصور، يقول الرسول الكريم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، ويقول:
__________
(1) «الكتب المقدسة» موريس بوكاي ص 246.
(2) «الظاهرة القرآنية» ص 203.(1/199)
«مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى بيتا»، أو كما يقول القرآن ذاته إن هدفه أن يوضح للناس أقوم الطرق في السلوك والاعتقاد.
ما هو الجديد والتقدمي إذن في تعاليم القرآن الأخلاقية؟ هذا هو ما سنوضحه في ملاحظات مختصرة تهم كل باحث منصف.
1 - في مجال الفضيلة الشخصية: في هذا المجال الفردي نجد على الأقل قاعدة جديدة ومبدءا جديدا في القرآن فالقاعدة الجديدة هي تحريم الخمر، والقضاء على مصادرها بمنع تناول أي مشروب مسكر (1).
وأما المبدأ الجديد الذي نقصده هنا فهو «النية» باعتبارها لب العمل الأخلاقي، فلكي يحمس موسى قومه كان يغريهم بآمال أرض الميعاد، وبالنصر على الأعداء، وبالبركة والرخاء في كل شئون الحياة الدنيا، وجاء المسيح لكي يفتتح عهدا جديدا في الدعوة الدينية، فيوضح لنا الإنجيل أن النعيم والسعادة الموعودة ليست في هذه الدنيا، فآمال النفوس وطموح الأرواح عليها منذ ذلك الحين أن تنصرف عن الحياة الدنيوية وتتجه إلى السماء، وأخيرا يأتي القرآن الكريم وإذا هو بمنهجه البناء يجمع بين هذين الوعدين ويوفق بينهما، لا باعتبارهما الباعث المحرك للإنسان وإنما باعتبار أن الهدف الذي ينبغي على الإنسان الفاضل أن يقصده ليس في ملكوت السماء ولا في ملك الدنيا، إنما هو أعلى من هذا كله، إنه في الخير المطلق أي في ابتغاء وجه الله تعالى الذي يجب استحضاره في القلب عند أداء العمل الإنساني بتنفيذ أوامره (2).
__________
(1) {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصََابُ وَالْأَزْلََامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطََانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (90) [المائدة: 90].
(2) {وَمََا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمََا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغََاءَ وَجْهِ اللََّهِ} [البقرة: 272]، {وَمََا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ََ (19) إِلَّا ابْتِغََاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ََ} (20) [الليل: 2019].(1/200)
2 - الفضيلة في العلاقات بين الأفراد: وها هو تقدم آخر يرتبط بالقاعدة الأخلاقية التي تحدد علاقاتنا بإخوتنا، فبأحكام التوراة وأحكام الإنجيل استقامت شجرة الفضيلة وبزغت فروعها وأوراقها، أما في المجال القرآني فإن هذه الشجرة الخضراء سوف تزهر وتؤتي ثمارها فبالإضافة إلى كنز العدل والمحبة الذي عنى القرآن بحفظه، أوجد فصلا رائعا فيما يمكن تسميته بالحضارة الأخلاقية. إنه تقنين حقيقي في الأدب (1)
والذوق الاجتماعي (2) والتحشم في المظهر (3).
3، 4الفضائل الجماعية والفضائل العامة: ونقطة بارزة في القانون الأخلاقي في الديانة الموسوية، ألا وهي هذا الحاجز العالي والقائم بين الإسرائيلي وغير الإسرائيلي فأي خير يسديه الإسرائيلي إذا لم يكن مقتصرا على شعبه، ينبغي ألا يتعدى وطنه ولا يشمل الغريب المقيم معه «للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا» (تثنيه:
23: 20) «الأجنبي تطالب وأما ما كان لك عند أخيك فتبرئه يدك منه» (تثنيه:
15: 3) «وإذا افتقر أخوك عندك وبيع لك فلا تستعبده استعباد عبد» (لاويين:
25: 39) «ولا تتسلط عليه بعنف وأما عبيدك وإماؤك الذين يكونون لك فمن الشعوب الذين حولكم وأيضا من أبناء المستوطنين النازلين عندكم منهم تقتنون» (لاويين: 25: 4543).
أما قانون الأخلاق المسيحي فله الفضل في إسقاط هذا الحاجز الذي كان يفصل بين الإنسان وأخيه الإنسان: «لأنه إذا أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر
__________
(1) {وَإِذََا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهََا} [النساء: 86]، وانظر سورة النور آية 2827، وآية 5958، وآية 6261، وسورة الحجرات آية 2، وسورة المجادلة آية 8، 9، 11.
(2) {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12].
(3) {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنََاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصََارِهِنَّ} [النور: 31]، الأحزاب 32، 33.(1/201)
لكم؟ وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل تصنعون؟» (متى 5: 4746)، ولكن في مقابل ذلك لا نجد هنا هذا الالتحام الاجتماعي وهذا الشعور بالمسئولية الجماعية الذي تتضمنه النصوص العبرية مثل: هذه الكلمات «قصها على أولادك» (تثنية 6: 7) «فتنزعون الشر من بينكم» (تثنيه 13: 5) «فتحفظون جميع فرائضي وجميع أحكامي وتعلمونها لكي لا تقذفكم الأرض» (لاويين:
20: 22)، والفضيلة الاجتماعية المسيحية كما تقدمها الأناجيل، تتعلق بالعلاقات بين الأفراد أكثر من دلالتها على الروح الجماعية بصفة أساسية، فقد كانت الروح الجماعية في الماضي تستهدف غرضين: صالح الجماعة من ناحية، وتمييزها عن صالح الغير من ناحية أخرى، ولكن المحبة المسيحية بامتدادها خارج الحدود الإقليمية وبرغبتها في احتواء الإنسانية كلها، قد أحسنت صنعا بإبطال هذا الطابع العنصري، واستبداله بأخوة عالمية، ولكنها لم تركز اهتمامها بالقدر الكافي لتقوية الرابطة المقدسة للجماعة بصفة خاصة.
ألا يمكن في الوقت الذي نراعي فيه عمليا وقلبيا محبة عالمية أن تخلق في ظل هذه الأسرة العالمية الكبرى أسرة أصغر وأكثر ترابطا، وأكثر إدراكا لكيانها، وكأنها مجموعة من الخلايا تكوّن كيانا عضويا داخل الجسم الكبير؟
إن هذا الجمع الموفق بين الفضيلة العامة والفضيلة الجماعية هو الذي أبرمه القرآن الكريم، إذ يعلمنا في الواقع أن خارج الأخوة في الله توجد الأخوة في آدم (1)، إن اختلاف المشاعر الدينية لا يجوز أن يحول بيننا وبين أن نبادل إخواننا في الإنسانية المحبة والإحسان (2) وإن قسوة الكفار علينا لا ينبغي أن تدفعنا إلى العدوان ولا لأن نكون غير مقسطين في معاملتهم (3)، ولقد حرّم على
__________
(1) {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] {يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنََّا خَلَقْنََاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ََ} [الحجرات: 13].
(2) {لََا يَنْهََاكُمُ اللََّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقََاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8].
(3) {وَلََا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ََ أَلََّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8].(1/202)
المؤمنين أن يتعاملوا بالربا مع أي إنسان (1) وبيّن أن التقي العادل في محيط الجماعة الإسلامية هو كذلك خارجها (2)، وإذا كان على المسلم في بعض الظروف أن يبدي عناية خاصة في فك أسر إخوانه (3)، فإن عتق العبيد بوجه عام يعتبر إما التزاما عليه (4) وإما عملا يستحق التقدير، ويحث القرآن عليه (5) دائما.
5 - الفضيلة في المعاملات: «نضيف إلى كل ما تقدم فصلا آخر في الأخلاق الإسلامية جديدا كل الجدة. لأن اليهودية والمسيحية في وقت تأسيسها لم تتح لهم الفرصة لإقامة علاقات مع دول معادية، فدعوة عيسى السلمية المحلية كانت تناقضها في اتجاه مضاد الحروب التي قادها موسى ضد الأمم المجاورة والتي انتهت بالقضاء عليها بسرعة، ولقد اختلف الوضع تماما بالنسبة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم خلال العشر سنوات التي كان فيها على علاقات دائمة مع أمم وديانات مختلفة، تارة مسالمة وتارة معادية.
إن هذه الظروف الخاصة التي جعلت المرشد الروحي والأخلاقي صلّى الله عليه وسلّم سياسيا وقائدا، اقتضت تشريعا أخلاقيا لظروف السلم والحرب تضمن القرآن مبادئه الأساسية، ومن هذه المبادئ أن الحرب الشرعية لا تقوم إلا من أجل دفع العدوان (6) ويجب أن تتوقف بمجرد انتهائه (7). وهناك بعد ذلك المبدأ الذي
__________
(1) {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَذَرُوا مََا بَقِيَ مِنَ الرِّبََا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (278) [البقرة: 278].
(2) {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قََالُوا لَيْسَ عَلَيْنََا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 7675].
(3) {وَمََا لَكُمْ لََا تُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجََالِ وَالنِّسََاءِ وَالْوِلْدََانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنََا أَخْرِجْنََا مِنْ هََذِهِ الْقَرْيَةِ الظََّالِمِ أَهْلُهََا} [النساء: 75].
(4) {* إِنَّمَا الصَّدَقََاتُ} {وَفِي الرِّقََابِ} {فَرِيضَةً مِنَ اللََّهِ} [التوبة: 60].
(5) {وَفِي الرِّقََابِ} [البقرة: 177]، {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13].
(6) {وَقََاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ الَّذِينَ يُقََاتِلُونَكُمْ وَلََا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190].
(7) {* وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهََا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ} [الأنفال: 61].(1/203)
يحترم المواثيق المبرمة مع العدو مهما كانت فرص عقدها غير متكافئة، فالمعاهدة الموقعة بين الأطراف واجبة الاحترام حتى لو كانت في غير صالحنا (1)، وحتى إذا بدأ العدو في نقض اتفاقه، فلا يحق لنا أن نهاجمه على غرة، بل يجب أولا إعلانه بإلغاء عهده معنا بطريقة واضحة، بحيث يتيسر له العلم بقرارنا (2) (3)، هذا بخلاف القواعد التي حددتها السنة والتي نجحت إن لم يكن في القضاء على هذه الآفة فعلى الأقل في التخفيف من نتائجها القاسية» (4).
وهكذا فمع تفرد القرآن بقضايا كثيرة إلا أننا نجد القضايا المشتركة بينهما فيها كثير من أوجه الخلاف، وليس غرضي هنا بالطبع المقارنة بين ما جاء في القرآن وفي التوراة من حيث موافقة العلم وشهادة التاريخ لأن ذلك ليس من صميم هذا البحث، فهناك كتب كثيرة تحدثت عن تلك القضايا، وفصلت في تلك المسائل تفصيلا شافيا كافيا.
الاحتمال الرابع: أن يكون اكتسبه من رحلاته إلى الشام واليمن: وهذا ما ذهب إليه جولدزيهر، ولا شك أن هؤلاء الذين كان يلاقيهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في أسفارهم لم يكونوا إلا من العرب المتنصّرين فمن الثابت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يذهب أبعد من سوق حباشا في تهامة، وسوق غراش في اليمن، أما بصرى الشام
__________
(1) {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللََّهِ إِذََا عََاهَدْتُمْ وَلََا تَنْقُضُوا الْأَيْمََانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهََا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللََّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ مََا تَفْعَلُونَ} (91) [النحل: 9291].
(2) {وَإِمََّا تَخََافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيََانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى ََ سَوََاءٍ} [الأنفال: 58].
(3) ولقد أخطأ جولدزيهر عند ترجمة هذه الآية وكذلك كازموسكي وأيضا سفاري فترجموها بمعنى (عامله بمثل معاملته الخائنة) وهذا يتناقض مع نهاية نفس الآية: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ الْخََائِنِينَ} (58).
(4) «مدخل إلى القرآن الكريم» د. محمد عبد الله دراز ص 113106.(1/204)
فلقد ذهب لها بادئ بدء في صغر سنه، وكان أكثر الذين يلاقيهم في طريقه من العرب، وهؤلاء العرب كانوا بين عابدي وثن، وبين معتنقي النصرانية، وعباد الأوثان ليس عندهم ما يزيد على مجتمع مكة، وعلى هذا فمعرفتهم عن الدين والأنبياء معرفة محدودة ساذجة، وقد أشرنا في بعض قضايا هذا الكتاب من قبل، بأن القصص القرآني، لم يكن للعرب معرفة فيه، اللهم إلا معرفة إجمالية لبعض هذا القصص، وذكرنا هناك شواهد من القرآن نفسه ولو كان في صحة هذه الشواهد أدنى ارتياب لوجدنا من ينكر هذا على القرآن، نجد هذا في مثل قوله سبحانه: {ذََلِكَ مِنْ أَنْبََاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمََا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلََامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]، {تِلْكَ مِنْ أَنْبََاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهََا إِلَيْكَ مََا كُنْتَ تَعْلَمُهََا أَنْتَ وَلََا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هََذََا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
أما العرب الذين اعتنقوا النصرانية، فلم يكن عندهم على الأرجح شيء أكثر من إخوانهم الوثنيين، ولهذا يقول سيدنا عليّ عن نصارى تغلب: لم يأخذوا من النصرانية إلا شرب الخمر، ولو ذهبنا إلى أبعد الاحتمالات وافترضنا أصعب الفروض وأبعدها فإننا لن نجد عند هؤلاء ما يعطونه مهما كان قدره وقيمته.
لقد كان هؤلاء لا يلوون على شيء، اللهم إلا حكايات وخرافات وأباطيل وأساطير جاء القرآن يندد بها ويعنف عليها. يقول ج. سال: «إذا قرأنا التاريخ الكنسي بعناية، فسنرى أن العالم المسيحي قد تعرض منذ القرن الثالث لمسخ صورته، بسبب أطماع رجال الدين، والانشقاق بينهم، والخلافات على أتفه المسائل، والمشاجرات التي لا تنتهي، والتي كان الانقسام يتزايد بشأنها، وكان المسيحيون في تحفزهم لإرضاء شهواتهم واستخدام كل أنواع الخبث والحقد والقسوة. قد انتهوا تقريبا إلى طرد المسيحية ذاتها من الوجود، بفعل جدالهم المستمر حول طريقة فهمها. وفي هذه العصور المظلمة بالذات ظهرت، بل وثبتت أغلب أنواع الخرافات والفساد ولقد وجدت الكنيسة الشرقية نفسها بعد مجمع «نيقية» ممزقة بسبب الخلافات بين أنصار أريوس وسابليوس
ونسطور، ويوتيخيوس، ولقد رأى رجال الدين أن يمنح ضباط الجيش بعض الحماية، وبهذه الحجة كان العدل يباع علنا مما شجع كل نوع من أنواع الفساد والرشوة. أما بالنسبة للكنيسة الغربية فقد بلغ الخلاف بين دماز وأرزيسيان على كرسي الأسقفية بروما في شدته حد اللجوء إلى العنف والقتل. لقد قامت هذه الانشقاقات أساسا نتيجة أخطاء الأباطرة ولا سيما الامبراطور قسطنس. وزادت حدة في ظل حكم جستنيان، الذي اعتقد أنه ليس هناك أي جرم في قتل أي رجل يخالفه في فهم العقيدة، هذا الفساد في الأخلاق وفي العقيدة الذي ساد بين الأمراء وبين رجال الدين، استتبع بالضرورة فساد الشعب عامة. حتى أصبح شغل الناس الشاغل على اختلافهم هو جمع المال بأية وسيلة مهما كانت لإنفاقه بعد ذلك في الترف والرذيلة.(1/205)
لقد كان هؤلاء لا يلوون على شيء، اللهم إلا حكايات وخرافات وأباطيل وأساطير جاء القرآن يندد بها ويعنف عليها. يقول ج. سال: «إذا قرأنا التاريخ الكنسي بعناية، فسنرى أن العالم المسيحي قد تعرض منذ القرن الثالث لمسخ صورته، بسبب أطماع رجال الدين، والانشقاق بينهم، والخلافات على أتفه المسائل، والمشاجرات التي لا تنتهي، والتي كان الانقسام يتزايد بشأنها، وكان المسيحيون في تحفزهم لإرضاء شهواتهم واستخدام كل أنواع الخبث والحقد والقسوة. قد انتهوا تقريبا إلى طرد المسيحية ذاتها من الوجود، بفعل جدالهم المستمر حول طريقة فهمها. وفي هذه العصور المظلمة بالذات ظهرت، بل وثبتت أغلب أنواع الخرافات والفساد ولقد وجدت الكنيسة الشرقية نفسها بعد مجمع «نيقية» ممزقة بسبب الخلافات بين أنصار أريوس وسابليوس
ونسطور، ويوتيخيوس، ولقد رأى رجال الدين أن يمنح ضباط الجيش بعض الحماية، وبهذه الحجة كان العدل يباع علنا مما شجع كل نوع من أنواع الفساد والرشوة. أما بالنسبة للكنيسة الغربية فقد بلغ الخلاف بين دماز وأرزيسيان على كرسي الأسقفية بروما في شدته حد اللجوء إلى العنف والقتل. لقد قامت هذه الانشقاقات أساسا نتيجة أخطاء الأباطرة ولا سيما الامبراطور قسطنس. وزادت حدة في ظل حكم جستنيان، الذي اعتقد أنه ليس هناك أي جرم في قتل أي رجل يخالفه في فهم العقيدة، هذا الفساد في الأخلاق وفي العقيدة الذي ساد بين الأمراء وبين رجال الدين، استتبع بالضرورة فساد الشعب عامة. حتى أصبح شغل الناس الشاغل على اختلافهم هو جمع المال بأية وسيلة مهما كانت لإنفاقه بعد ذلك في الترف والرذيلة.
ولقد كتب تايلور في كتابه «المسيحية القديمة» (1: 266) يقول: «إن ما قابله محمد وأتباعه في كل اتجاه لم يكن إلا خرافات منفرة، ووثنية منحطة ومخجلة، ومذاهب كنسية مغرورة، وطقوسا دينية منحلة وصبيانية، بحيث شعر العرب ذوو العقول النّيرة بأنهم رسل من قبل الله، مكلفين بإصلاح ما ألم بالعالم من فساد»، وعند ما وصف راهب مؤرخ الآلام والعذاب الذي أوقعه الفرس بشعب فلسطين في زمن محمد لم يتردد في أن يقرر أن الله لم يصب المسيحيين هناك بقسوة الزنادقة الظلمة إلا بسبب ظلمهم وشرورهم. وعند ما أراد موشايم وصف هذا العصر، رسم صورة للمقارنة أبرز فيها التعارض بين المسيحيين الأوائل والأواخر، وخرج بأن الديانة الحقيقية في القرن السابع كانت مدفونة تحت أكوام من الخرافات والأوهام السخيفة، حتى أنه لم يكن في مقدورها أن ترفع رأسها.
وكأن هذه الصفحات قد كتبت لتفسر الآية القرآنية الوجيزة من سورة المائدة: {وَمِنَ الَّذِينَ قََالُوا إِنََّا نَصََارى ََ أَخَذْنََا مِيثََاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمََّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنََا بَيْنَهُمُ الْعَدََاوَةَ وَالْبَغْضََاءَ إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللََّهُ بِمََا كََانُوا}
{يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14]، فهذه الآية الكريمة تشير مجرد إشارة إلى البعد الماديّ الذي كان بين المسيحية والمسيحيين في عصر الرسول، وتعلن أن الانشقاق الناتج من هذا البعد سيمتد إلى يوم القيامة (1).(1/206)
وكأن هذه الصفحات قد كتبت لتفسر الآية القرآنية الوجيزة من سورة المائدة: {وَمِنَ الَّذِينَ قََالُوا إِنََّا نَصََارى ََ أَخَذْنََا مِيثََاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمََّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنََا بَيْنَهُمُ الْعَدََاوَةَ وَالْبَغْضََاءَ إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللََّهُ بِمََا كََانُوا}
{يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14]، فهذه الآية الكريمة تشير مجرد إشارة إلى البعد الماديّ الذي كان بين المسيحية والمسيحيين في عصر الرسول، وتعلن أن الانشقاق الناتج من هذا البعد سيمتد إلى يوم القيامة (1).
الاحتمال الخامس: أن يكون متأثرا بالبيئة الشرقية: الزرادشتية أو الصابئة: أما الصابئة فقد تحدثنا عنهم من قبل عند الحديث عن الاحتمال الأول وأما الزرادشتية فإنه مجرد تمحل وتكلف وشطط أن يدّعى أن القرآن اكتسب منها شيئا لمجرد اتفاق في جزئية أو جزئيتين. يقول أستاذنا محمد عبد الله دراز رحمه الله: «لقد ذهب الدكتور سنكلير تسدال () إلى حد الادعاء بأن بعض المبادئ الإسلامية مستقاة من الزرادشتية. وخصص فصلا كاملا لعناصر هذا المذهب الذي يرى أنها موجودة في القرآن والسنة. ومن غير مناقشة مصدر أو حتى تشابه الأفكار التي أوردها تحت هذا العنوان نلاحظ فيما عدا فكرة الحور أنها لا تنسب إلى القرآن وإنما إلى بعض الأثر المشكوك فيه. إنها فكرة النور «نور محمد»، وفكرة «عزرائيل» ملك الموت وفكرة «السراط» جسر جهنم الخ» (2).
2 - في المدينة:
تلك هي الفروض المحتملة، أن يكون أحدها مصدرا للقرآن في العهد المكي، ولكنها لم تقو على الوقوف أمام حقائق الواقع وحوادث التاريخ، وأحكام العقل، أفنجد شيئا من ذلك في العهد المدني يا ترى؟
وبادئ بدء نقرر أنّ القرآن كان قد نزل أكثره في مكة، ولما هاجر النبي إلى المدينة كان كل القصص القرآني الذي يوجد بينه وبين التوراة شبه ما، قد
__________
(1) «مدخل إلى القرآن الكريم» د. محمد عبد الله دراز ص 138136.
(2) «مدخل إلى القرآن الكريم» هامش ص 139.(1/207)
نزل في مكة، فلا يمكن أن يقال إذن إن القصص القرآني الذي نجد شبيها له في التوراة قد اقتبسه الرسول صلّى الله عليه وسلّم من اليهود في المدينة، إذ هناك إجماع لا يقبل الشك على أن ذلك كان في مكة، ولم يكن منه شيء في المدينة إلا ما يتفق مع ظرف المسلمين في موطنهم الجديد.
أما غير القصص من أحكام وأخلاقيات، فلقد جاء القرآن يعنف صراحة أولئك الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، فهم يضاهون قول الذين كفروا من قبل، وهم سمّاعون للكذب أكّالون للسحت: {* يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبََارِ وَالرُّهْبََانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوََالَ النََّاسِ بِالْبََاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ}
[التوبة: 34]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرََاةِ فَاتْلُوهََا إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (93) [آل عمران: 93].
أما ما ادّعي من أن هناك تغيرا في الأحكام وفي بعض العبادات كالصلاة، فقد تحدثنا عنه من قبل في بعض قضايا هذا الكتاب، فلا نرى ضرورة للحديث عنه ثانية.
الافتراض الثاني: أن يكون ناتجا عن تأملاته الشخصية:
وبعد هذا التطواف فإن هذا القرآن لم يكن مكتتبا ولا مكتسبا من فرد أو جماعة أو بيئة ثقافية أو دينية، بقي الافتراض الثاني وهو أن يكون هذا القرآن ناتجا عن تأملات الرسول صلّى الله عليه وسلّم الشخصية، وخواطره الفكرية، وسبحاته الروحية.
وهذا الافتراض لن نتعب أنفسنا في رده، ولن نطيل على القارئ كذلك.
وإذا كان الناس يختلفون حول القرآن، فإننا لن نجد اختلافا حول شخصية الرسول صلّى الله عليه وسلّم، كيف، وهؤلاء الذين ناصبوه العداء لم يجدوا أي مطعن شخصي يمكن أن يوجهوه إليه، فهو الصادق الأمين، وهو الجواد الشجاع، وخير ما يمثل لنا صفاته هذه الكلمات التي قالتها السيدة خديجة قبل أن تعلم أنه رسول الله «والله إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم،
وتعين على نوائب الحق» (1)، ولقد كان هرقل ذكيا كل الذكاء حينما سأل تجار مكة وهم في بلاد الشام، ولم يكونوا من المؤمنين به، حينما سألهم عن أخلاقه، فما استطاعوا أن يجدوا مطعنا، فاستنتج من ذلك بفكره الحصيف هذه النتيجة «ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله».(1/208)
وإذا كان الناس يختلفون حول القرآن، فإننا لن نجد اختلافا حول شخصية الرسول صلّى الله عليه وسلّم، كيف، وهؤلاء الذين ناصبوه العداء لم يجدوا أي مطعن شخصي يمكن أن يوجهوه إليه، فهو الصادق الأمين، وهو الجواد الشجاع، وخير ما يمثل لنا صفاته هذه الكلمات التي قالتها السيدة خديجة قبل أن تعلم أنه رسول الله «والله إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم،
وتعين على نوائب الحق» (1)، ولقد كان هرقل ذكيا كل الذكاء حينما سأل تجار مكة وهم في بلاد الشام، ولم يكونوا من المؤمنين به، حينما سألهم عن أخلاقه، فما استطاعوا أن يجدوا مطعنا، فاستنتج من ذلك بفكره الحصيف هذه النتيجة «ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله».
ثم إن التأملات الشخصية لا تطلع صاحبها على أخبار الماضي وقضايا المستقبل، إن هذا الافتراض يصعب على عاقل أن يتصوره.
ثم إن هناك شيئا آخر يجمل أن نشير إليه وهو أننا حينما نتدبر القرآن نجد أمرا هو من الأهمية بمكان في ردّ هذا الافتراض، وهو ما نجده في القرآن من تصحيح لأحكام كثيرة، أو عتاب على حوادث وقعت من الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم نجد هذا مثلا في قصة المجادلة وقد مرت معنا من قبل كما نجدها في إذنه للمنافقين (2)، وفي صلاته عليهم (3) وفي موقفه من أسرى بدر (4) وفي تحريمه بعض الأطعمة على نفسه: {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مََا أَحَلَّ اللََّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضََاتَ أَزْوََاجِكَ وَاللََّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1].
هذا كله في المدينة، أما في مكة فنجد مثل ذلك في قصة ابن أم كلثوم:
{عَبَسَ وَتَوَلََّى (1) أَنْ جََاءَهُ الْأَعْمى ََ} (2) [عبس: 21]، وفي مثل قوله سبحانه: {وَلََا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدََاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52]، وفي قوله: {وَإِنْ كََادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ} [الإسراء: 73]، {وَلَوْلََا أَنْ ثَبَّتْنََاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) إِذاً لَأَذَقْنََاكَ ضِعْفَ الْحَيََاةِ وَضِعْفَ الْمَمََاتِ} [الإسراء: 7574].
__________
(1) رواه البخاري كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم (1: 3).
(2) في قوله تعالى: {عَفَا اللََّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَكَ} [التوبة: 43].
(3) قوله تعالى: {وَلََا تُصَلِّ عَلى ََ أَحَدٍ مِنْهُمْ مََاتَ أَبَداً وَلََا تَقُمْ عَلى ََ قَبْرِهِ} [التوبة: 84].
(4) قوله تعالى: {مََا كََانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ََ حَتََّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67].(1/209)
وهذا كثير حتى روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله حينما صحح له الوحي بعض الأحكام: «أردنا أمرا، وأراد الله أمرا، والذي أراده الله خير» (1)، أفبعد ذلك كله يمكن أن تكون نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم مصدر القرآن!
خلاصة لهذه القضية:
ويجمل بنا الآن بعد هذا التطواف في هذه القضية الخطيرة (2) الشأن أن نلخص خلاصة لها فنقول:
1 - إن القصص القرآني قد ذكر بعضه في الكتابين السابقين، وبخاصة التوراة، ولكن هذا الذكر لا يدل على اتحاد أو تشابه تام، بل هناك فروق جوهرية أشرنا إلى بعضها من قبل، وهذه الفروق تارة تكون في تغيير في الحدث نفسه، كما في قضية الطوفان والخلق ووسائل الانتقال التي استعملها إخوة يوسف في رحيلهم من الشام إلى مصر وفي مسألة غرق فرعون، وقد تكون أحداثا زائدة على ما جاء في التوراة نفسها كمناجاة نوح عليه السلام لابنه، والحوار بين إبراهيم عليه السلام وبين أبيه وقومه في أمر الكواكب، وأمر الشاهد في قضية يوسف عليه السلام، وشأن البقرة في حديث موسى عليه وعليهم جميعا السلام.
2 - إن هناك قصصا قرآنيا خلت منه التوراة تماما، وهذا القصص كان بعيدا عن أوساط الكنيسة السريانية، وكان للعرب فيه بعض المعرفة الإجمالية، لأنه يتعلق بهم بيئة ووراثة، فهو إخبار عن أمم عربية مضت، وكانت تسكن المواطن العربية، وهذه المعرفة قد عفا عليها الزمن وأحاطها طول الأمد بحكايات من نسيج الخرافة والوهم، فجاء القرآن الكريم يفصل فيها حقائق
__________
(1) انظر «تفسير الطبري» (5: 168).
(2) يراجع «الوحي المحمدي» ص 87.(1/210)
وحوادث بعيدة كل البعد عن خيال الخرافة، وخرافة الخيال، وهذا اللون من القصص الذي لم تذكره التوراة كما كان بعيدا عن الكنيسة السريانية، كان بعيدا كذلك عن اليهود، والنصارى غير السريان (1).
3 - إن أخبار القيامة والجنة في القرآن الكريم قد تتشابه في بعض الجزئيات والأحداث مع ما بقي من الكتب السماوية عند أصحابها، ولكن لا يستطيع منصف أيا كان اتجاهه، أن يدّعي ادعاء مقبولا بأن هذه الأحداث نفسها التي عبر عنها القرآن بأسلوبه، وأعطى منها معلومات كثيرة، كانت تتردد فيه.
إن أخبار البعث والنشور في القرآن وما يتبعها من تصوير وتجسيم هي مما انفرد به القرآن، اللهم إلا في بعض الجزئيات التي تشترك فيها الديانات السماوية جميعا، ولقد تقدم لنا من قبل ما قاله هوارت في نقد شعر أمية بن أبي الصلت.
4 - لقد فصلنا من قبل في الدعوى القائلة إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ هذه الأحداث عن طريق الأخبار الشفهية، وقلنا إن ذلك لا يتفق مع حال النبي صلّى الله عليه وسلّم أولا، ولا مع حال الذين أخذ عنهم ثانيا، ولا مع طبيعة الوحي الذي جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم ثالثا، وما أصدق هذه المقولة البدهية: (فاقد الشيء لا يعطيه) (2).
5 - إن القرآن الكريم لا يشتمل على القصص وحده، ولا على أخبار يوم القيامة فحسب، فهناك القضايا التشريعية والخلقية، والإشارة إلى حقائق كونية وأمور عقدية كانت بلا ريب في مساحتها أضعاف الأخبار القصصية، وهذه بالطبع لم تكن مستقاة من أخبار شفهية ولا كتابية كذلك، ولم يكن
__________
(1) وقد أفدنا كثيرا مما كتبه الأستاذ محمد عبد الله دراز في كتابه «مدخل إلى القرآن الكريم»، وقد عرض لهذه القضية نفسها في كتاب أوسع من كتابه هذا وهو «النبأ العظيم».
(2) يراجع كتاب موريس بوكاي.(1/211)
باستطاعة الرسول الأمي صلّى الله عليه وسلّم أن يأتي بها كذلك من عند نفسه. هذه القضايا نجدها في تنظيمات الإرث والقصاص، وشئون العبادة، وأطوار خلق الإنسان، وبعض أطوار النبات والحيوان وكلها من الأمور التي إن درست بتجرد لا يشك ولا يرتاب أحد بأصالتها وكونها أخبارا سماوية بعيدة عن طوق البشر.
هذان افتراضان نرجو أن نكون قد استوعبنا القول فيهما وأكرر هنا ما قلته في هذه القضية وهي أنها بحاجة إلى كتاب خاص وسفر مستقل، فنرجو أن نكون قد وفقنا الله فيما قلناه على قلته وإيجازه، وإذا لم يكن واحد من هذين الافتراضين مقبولا فلم يبق إلا شيء واحد، وهو أن يكون هذا القرآن وحيا أوحاه الله للنبي عليه وآله الصلاة والسلام وصدق الله العظيم: {وَكَذََلِكَ أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنََا مََا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتََابُ وَلَا الْإِيمََانُ وَلََكِنْ جَعَلْنََاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشََاءُ مِنْ عِبََادِنََا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (52) [الشورى: 52].
القضية الثالثة: جوهر القرآن:
جاء في الموسوعة: «إن حفظ القرآن في الصدور وكتابته كانت الطريقة المعتادة لحفظه وضبطه من الضياع، وكانت تكتب في بعض المناسبات فقط».
دعوى وجود نقص وتحريف فى القرآن
كنا نؤثر أن نجعل هذه القضية جزءا من القضية السابقة، ولكننا عدلنا عن هذا الترتيب لأسباب رئيسة تتعلق بخطورة الموضوع، ذلك أن هذه القضية تتعلق بجوهر القرآن وكماله وتمام نصّه، والمستشرقون ومنهم الذين كتبوا هذا الموضوع في الموسوعة ينزو بهم الخيال بل تحتم عليهم أغراض نفسية متكئين على بعض الأخبار غير الصحيحة ولا الموثقة تارة، وعلى استنتاجات غير سديدة تارة أخرى يطيب لهم أن يتهموا القرآن في جوهره، فيدّعون أن النص الموجود في مصاحف المسلمين نص غير كامل، ويزعمون للبرهنة على ذلك أن الشيعة هم الذين يقررون هذه القضية الخطيرة، وأن أهل السنة يتهمون الشيعة كذلك.(1/212)
ويؤلمنا أن نقول إن هذا محض افتراء، فنحن نعلم أن الإسلام ابتلى كغيره بأعداء حاولوا تشويه حقائقه وطمس معالمه، ولكن لحسن الحظ فقد قيض الله لهذا الإسلام من ينفي عنه زيغ المبطلين، وتأويل المنحرفين، وزيف الجاهلين، وأهواء الضالين، قال صلّى الله عليه وسلّم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» (1). وقد بين هؤلاء الأئمة منزلة هذه الفرق المتعددة من الإسلام، وأهل السنة والشيعة، وإن اختلفوا في بعض الفروع، إلا أن هذه الأصول، وفي مقدمتها قدسية القرآن وسلامته من التحريف لا يرتاب فيها أحد منهم، بل لا يسمحون لأحد أن يحوم حولها بشائبة شبهة، أو بشرذمة من شك، وحينما نقول الشيعة فلا ريب أن هذه الكلمة تصدق على الشيعة الإمامية، وهم أكثر الفرق الشيعية عددا، كما تصدق على الشيعة الزيدية. إن هؤلاء وأولئك من الشيعة لا يرضون أن توجه مثل هذه التهم الجائرة إلى القرآن، وأئمتهم وعلماؤهم ليسوا أقل حرصا على هذا القرآن من غيرهم، ولكنها طريقة الاستعمار الذي عرفناه وذقنا منه ليس الأمرين فحسب، بل كل مرّ بجناحيه: الاستشراق والتبشير، يحاول دائما أن يوقع بين أبناء الأمة الواحدة والدين الواحد.
إن خلو القرآن من الزيادة والنقص والتحريف لا يشك فيها مسلم ولا يرتاب حتى لو لم يكن متدينا، بل كلهم يعترفون أن القرآن هو الوثيقة الربانية الوحيدة، ولكن نولدكه يأبى إلا أن يذهب هذا المذهب، فقد نقل عنه هذا في دائرة المعارف الإسلامية. ومن هؤلاء بول يقول في «دائرة المعارف الألمانية»:
«وقد أثيرت تهمة التحريف فيما وقع من جدل بين الفرق الإسلامية المختلفة.
فالشيعة يصرون عادة على أن أهل السنة قد حذفوا وأثبتوا آيات في القرآن بغية
__________
(1) أخرجه من عدة طرق ابن عبد البر في «التمهيد» (1: 59) وفي «جامع بيان العلم وفضله»، والخطيب في «الرحلة في طلب الحديث» وفي «الجامع»، وغيرهم.(1/213)
محو أو تفنيد ما جاء فيه من الشواهد معززا لمذهبهم، وقد كال أهل السنة بطبيعة الحال نفس التهمة للشيعة»، وهذا كلام ساقط كما أشرنا إليه من قبل.
ولقد كنا نود من هذا وذاك وغيرهما أن يأتوا بدليل واحد على هذا النقص، أو تلك الزيادة إن وجدت وهذا هو القرآن منذ أن أنزل غضا طريا، لا يزال يحفظه المسلمون في صدورهم، في كل جيل من الأجيال، لم يخل جيل من هؤلاء الحفاظ، ولعل خير دليل على هذا، هذا الجيل في عصرنا، عصرنا الذي أثقلته المادة بزخمها وضجيجها، عصرنا الذي توالت المحن فيه على هذه الأمة، في الثقافة والفكر والسياسة والحرب، ومع ذلك نجد الحفاظ لهذا الكتاب من الكثرة بحيث لا يكادون يحصون وهكذا الأجيال السابقة الممتدة عبر التاريخ إلى الزمن الذي نزل فيه القرآن.
والمسلمون يملكون الوثائق التي لا تقبل التشكيك، وما أظن هذا يخفى على المستشرقين، ومن هذه الوثائق، هذه الإجازات التي يجيز بها الشيوخ طلابهم الذي قرءوا عليهم، وهذه الإجازات يتناقلها هؤلاء كابرا عن كابر، وكاتب هذه السطور قد شرفه الله تعالى بواحدة من هذه الإجازات، حيث قرأت على شيخي الشيخ محمد سليمان، وكان عالما فذا في علم القراءات من أئمة هذا العلم، قضى حياته في التدريس والتعليم، وكان في آخر حياته شيخا لمقرأة مسجد سيدنا الإمام الحسين بن علي عليهم سلام الله، شرّفني الله بالقراءة على هذا الشيخ رحمه الله، حيث منحني إجازة سجل فيها شيوخه الذين أخذ عنهم، ولا شك أنه تلقى مثل هذه الإجازة عن شيخه كذلك، وشيخه تلقاها عن شيخه بأسانيد موثقة من حيث الواقع والتاريخ، والإجازة وشحت بما يقرب من ثلاثين شيخا بين شيخي وبين الرسول عليه وآله الصلاة والسلام.
نحن نرضى بأن نجابه بالحجج المنطقية، ولا نخشى هذه الحجج إن وجدت، ولكننا على يقين من أن الذين ذهبوا إلى هذه المزاعم لا يستطيعون أن
يدخلوها أروقة العلم، ولا أي سجل من السجلات المنهجية، يقول الأستاذ موريس بوكاي في كتابه «القرآن والكتب المقدسة»:(1/214)
نحن نرضى بأن نجابه بالحجج المنطقية، ولا نخشى هذه الحجج إن وجدت، ولكننا على يقين من أن الذين ذهبوا إلى هذه المزاعم لا يستطيعون أن
يدخلوها أروقة العلم، ولا أي سجل من السجلات المنهجية، يقول الأستاذ موريس بوكاي في كتابه «القرآن والكتب المقدسة»:
«يقول الأستاذ حميد الله، توجد اليوم بطشقند وإستامبول نسخ تنسب إلى عثمان، وإذا نحينا جانبا ما قد يكون من أخطاء النسخ، فإن أقدم الوثائق المعروفة في أيامنا والتي وجدت في كل العالم الإسلامي تطابق كل منها الأخرى تماما.
كذلك الأمر أيضا بالنسبة للمخطوطات التي في حوزتنا في أوروبا [توجد بالمكتبة الوطنية بباريس قطع يرجع تاريخها، حسب تقدير الخبراء، إلى القرنين الثامن والتاسع الميلاديين أي إلى القرنين الثاني والثالث من الهجرة]. إن هذا الحشد من النصوص القديمة المعروفة متطابق كله فيما عدا بعض النقاط الطفيفة جدا التي لا تغير شيئا من المعنى العام للنص، برغم أن السياق قد يقبل أحيانا أكثر من إمكانية للقراءة، وذلك يرجع إلى أن الكتابة القديمة أبسط من الكتابة الحالية» (1).
القرآن محفوظ على مدى الزمن
وهذا تصديق للآية الكريمة: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} [الحجر: 9].
إن القرآن كما يقول بعض العلماء المنصفين من الأوروبيين، إن جرّد من الشكل والتنقيط وبعض التعليقات عند أول كل سورة من كونها مكية أو مدنية ومن ذكر عدد آياتها، يكون تماما هو القرآن الذي أنزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
وعلى هذا فإن ما جاء في الموسوعة من أن القرآن كان يكتب بعضه في بعض المناسبات قول ينقصه التوثيق، وتعوزه الأدلة، وهناك مصدران كما قلنا من قبل لا يتطرق إليهما شك: مصدر الحفظ في الصدور، ومصدر الكتابة في السطور، وسيظل كذلك مهما كانت المحاولات المبذولة، والحجج السقيمة المعلولة، وسيظل هذا الدين محفوظا في كتابه، وصدق الله: {وَإِنَّهُ لَكِتََابٌ عَزِيزٌ (41) لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (42) [فصلت: 4241].
__________
(1) «الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة» ص 156.(1/215)
القضية الرابعة: القراءات:
جاء في الموسوعة: «إن طبعة القرآن العربية لم تكن كاملة، وذلك لوجود حروف ساكنة متعددة تثير كثيرا من البلبلة في الفهم، كما لم يكن هنالك طريقة بواسطتها تتبين أن حروف العلة من الممكن أن تميز بين معاني مختلفة ومتأصلة في مجموعة خاصة من الحروف الساكنة. ولتكون الطبعة صحيحة لا بد من حفظها في الصدور دون كتابتها، إلا أن هذه الطريقة أثارت اختلافا نتيجة لتعدد القراءات، إلا أنه أخيرا أدخلت تحسينات على الطبعة العربية حيث أدخلت إشارات لتميز الحروف المتشابهة في الشكل، وحروف العلة الطويلة دلل عليها بالحرف (ألف) بدل آ، و (واو) بدل (يو)، و (ياء) بدل (ي)، كما إن إشارات حروف العلة وضعت فوق أو تحت الحرف حيث أعطيت لونا خاصا لا علاقة له بلب القرآن».
هذه القضية، لعلها آخر قضية في خطورتها تواجهنا في هذا البحث، ذلك لأنها تتعلق بموضوع خطير، وهو موضوع القراءات، وقضية القراءات هي من أكثر القضايا التي ظن المستشرقون وغيرهم من المبشرين والملاحدة أن يلجوا منها ويجدوا فيها ما يمكنهم من الوصول إلى أهدافهم من النيل من هذا القرآن، واختراق أسوار هيبته عند المسلمين، والذي تولى كبره من بين هؤلاء جميعا جولدزيهر، وذلك فيما سجله في كتابه «مذاهب التفسير الإسلامي»، وقد سلك لهدفه مسالك متعددة منها:
1 - اعتماده على روايات ضعيفة شاذة لا تصح.
2 - ومنها إرخاء العنان لقلمه وفكره ليستنتج ما شاء ويكتب ما شاء دون نظر إلى الأسس الصحيحة والمنهج العلمي.
3 - ومنها عدم التمييز بين القراءة الصحيحة وغيرها.
ولقد ردّ عليه وعلى غيره أئمة ثقات، ومن هؤلاء أستاذنا الشيخ عبد الفتاح القاضي رحمه الله، والذي أخذنا منه كثيرا في هذه القضية، وقبل أن ندخل في
صلب الموضوع الذي تحدثت عنه الموسوعة نشعر أنه لا بد لنا أولا من أن نذكر بإيجاز بعض المقدمات.(1/216)
ولقد ردّ عليه وعلى غيره أئمة ثقات، ومن هؤلاء أستاذنا الشيخ عبد الفتاح القاضي رحمه الله، والذي أخذنا منه كثيرا في هذه القضية، وقبل أن ندخل في
صلب الموضوع الذي تحدثت عنه الموسوعة نشعر أنه لا بد لنا أولا من أن نذكر بإيجاز بعض المقدمات.
المقدمة الأولى:
لقد ثبت بما لا يقبل الريب في السنة الصحيحة المتواترة أن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها كاف شاف، يقرأ بها من علمها وأن هذه الأحرف كانت تتلقى مشافهة من الرسول عليه وآله الصلاة والسلام، وهذا التلقّي كان يحرص عليه كل صحابيّ، وكما ثبت أن هذه الأحرف إنما تعني اختلافا في الألفاظ وأن بعض الصحابة كان يتلقّى ما لم يكن قد تلقّاه غيره مع اتحادهم في اللهجة والموطن، فعمر بن الخطاب ينكر على هشام بن حكيم حينما سمعه يقرأ سورة الفرقان، وكلاهما قريشيّ وقد حدث هذا لبعض الصحابة رضوان الله عليهم غير هذين الصحابيين.
وبالجملة فإن نزول القرآن على سبعة أحرف لم ينكره أحد ممن يعتد به من المسلمين. وما زعمه جولدزيهر من أن الإمام الجليل أبا عبيد القاسم بن سلام، وغيره من المتكلمين قد طعنوا في هذا الحديث زعم غير صحيح.
المقدمة الثانية:
إن هذا الاختلاف في الأحرف السبعة لم يكن اختلاف تضاد بمعنى أنه ليس هناك حرف يناقض الحرف الآخر، فليست هناك قراءة تثبت وقراءة تنفي، وليست هناك قراءة تثبت حكما أو عقيدة وأخرى تنهى عنها، وليس هناك حرف يقرر مبدءا أخلاقيا أو قضية تاريخية وحرف آخر ينقض شيئا من هذا، وإنما كان هذا الاختلاف بين الأحرف دليل إعجاز هذا القرآن ومتانة هذه اللغة (1).
__________
(1) انظر «إعجاز القرآن» للرافعي.(1/217)
وإذا نظرنا إلى هذه الاختلافات بين الأحرف السبعة نجدها لا تخرج عن أحوال ثلاثة:
1 - أن يكون الاختلاف في اللفظ فحسب، والمعنى واحد لا يتغير وذلك ككلمتي (الصراط) و (السراط)، و (المرفق) بكسر الميم وفتح الفاء، و (المرفق) بفتح الميم وكسر الفاء و (يحسب) بكسر السين وفتحها، وهذا كثير.
2 - أن يختلف المعنيان ولكن يمكن أن يجمع بينهما وذلك مثل قوله تعالى:
{وَلََا يُضَارَّ كََاتِبٌ وَلََا شَهِيدٌ} [البقرة: 282]، بفتح الراء و (ولا يضار) بضمها، ف (لا) ناهية على القراءة الأولى، و (يضارّ): مجزوم وحرك بالفتح لكونه مضعفا، و (لا) نافية على القراءة الثانية و (يضار) فعل مضارع مرفوع، ومع أن كل قراءة تعطي معنى خاصا، إلا أنه يمكن الجمع بين هذين المعنيين إذ المقصود منهما عدم إلحاق الضرر بالكاتب ولا الشهيد.
وقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193] فنزل فعل ماض والروح فاعل.
وهناك قراءة أخرى {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} فنزّل فعل مشدد والفاعل هو الله تعالى لأن الآية التي قبلها: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعََالَمِينَ} [الشعراء: 192] فالفاعل يعود على رب العالمين والروح مفعول به، فالقراءة الأولى تخبرنا أنه نزل به جبريل، فجبريل هو النازل بالقرآن، والثانية تبين أن الله نزّل به جبريل، وهذان المعنيان يمكن أن يجمع بينهما لأن مؤداهما واحد.
ومثل قوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كََانَ حَيًّا} [يس: 70]، وهناك قراءة بالتاء: لتنذر من كان حيا فقراءة الياء تحدثنا عن الرسول بضمير الغيبة لأن الآية التي قبلها {وَمََا عَلَّمْنََاهُ الشِّعْرَ وَمََا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلََّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69] والآية الثانية المقصود بها الرسول ولكن بضمير المخاطب، ولكل من القراءتين غرض بياني، وليس غرضنا أن نتحدث عنه الآن ومؤدى القراءتين واحد. وكذلك قوله:
{أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف: 18] بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين
وهناك قراءة ثانية (ينشأ) بفتح الياء وسكون النون وتخفيف الشين، ومن اليسير أن يجمع بين القراءتين.(1/218)
{أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف: 18] بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين
وهناك قراءة ثانية (ينشأ) بفتح الياء وسكون النون وتخفيف الشين، ومن اليسير أن يجمع بين القراءتين.
3 - أن تختلف القراءتان من حيث المعنى فيكون لكل قراءة معنى خاص بها ولا يمكن الجمع بين المعنيين، ولكن ليس بين المعنيين تضاد ولا تناقض، ونمثل لذلك:
أقوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطََانُ عَنْهََا فَأَخْرَجَهُمََا مِمََّا كََانََا فِيهِ} [البقرة: 36]، وهناك قراءة أخرى: فأزالهما، القراءة الأولى معناها أن الشيطان أوقعهما بالزلة والخطيئة، والقراءة الثانية معناها أن الشيطان أزاحهما وأبعدهما، فهذان معنيان متغايران، لكن أحدهما لا يتناقض مع الآخر.
ب قال تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظََامِ كَيْفَ نُنْشِزُهََا} [البقرة: 259]، وفي قراءة أخرى: ننشرها بالراء، ومعنى القراءة الأولى نضم بعضها إلى بعض ومعنى القراءة الثانية نحييها بعد الموت، وهما معنيان وإن كانا مختلفين، لكن أحدهما يكمل الآخر.
ج قال تعالى: {وَإِنْ كََانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبََالُ} [إبراهيم: 46] بنصب الفعل المضارع بعد اللام المكسورة، وفي قراءة: {وَإِنْ كََانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبََالُ} برفع الفعل المضارع بعد اللام المفتوحة. و (إن) في القراءة الأولى نافية بمعنى ما، (واللام) ناصبة للفعل المضارع، والمعنى على هذه القراءة: وما كان مكر هؤلاء المعرضين المعاندين لتزول منه الجبال، والمقصود بالجبال حينئذ هذه القواعد الراسخة من العقيدة، وهؤلاء المؤمنون الثابتون على الحق فاستعمال الجبال هنا استعمال مجازي فمحصل المعنى إذن: مهما كان مكر أولئك قويا ومدروسا وعنيفا إلا أنه مع شدته ما كان ليؤثر فيكم أيها المؤمنون، وما كان ليمحو هذا الدين أو يؤثر في هذه العقيدة أو يصد معتنقيها عن الحق.(1/219)
أما القراءة الثانية فتوجيهها هكذا: (إن) مخففة من الثقيلة أي من إنّ، (واللام) هي الفارقة بين (إن) المخففة و (إن) النافية، وهذا معلوم في النحو العربي فلكي يفرقوا بين (إن) النافية والمخففة يأتون بهذه اللام لتدل على أن (إن) مخففة وليست نافية، ومعنى الآية إذن وإنّ مكرهم لتزول منه الجبال، أي إن مكرهم بقوته وشدته تزول منه الجبال، والمقصود هنا بالجبال، الجبال المعروفة حقيقة، والمقصود تصوير شدة مكرهم بأن الجبال تكاد تنقلع منه، ولكنه مع ذلك لن يؤثر عليكم أيها المؤمنون.
فنحن نرى أن كلّا من القراءتين لها معنى خاص، ولا نستطيع أن نجعل القراءتين ذواتي معنى واحد، ولكن هذين المعنيين مع تغايرهما إلا أنهما ليس بينهما تضاد ولا تناقض، بل كل يشير إلى قضية ذات شأن، فالمعنى الأول هدفه بيان ثبات العقيدة في قلوب المؤمنين، وثبات المؤمنين، على هذه العقيدة، وغاية المعنى الثاني أن مكرهم تكاد الجبال تقتلع منه، وهكذا تعطي كل من القراءتين معنى جميلا جليلا.
المقدمة الثالثة:
إذا كانت القراءات الناشئة عن الأحرف السبعة تتلقى مشافهة فإنّ معنى هذا أنها كلها قرآن ما دام قد ثبت لها التواتر، وإذن فليس لأحد من الناس أيّا كانت منزلته وعلمه أن يجتهد في شيء منها ليغير أو يبدل حرفا أو كلمة، وهذا معنى قولهم: (القراءة سنة متبعة) وليست السنّة هنا بمعنى النافلة، بل معنى ذلك أنها طريقة ثابتة لا مجال فيها للرأي ولا للاجتهاد. وعلى هذا ندرك فساد ما ذهب إليه جولدزيهر حينما ادّعى أن العلماء جعلوا هذه القراءات خاضعة لاجتهادهم وتفكيرهم حتى يكون لها معنى مقبول وقد ضرب لذلك أمثلة تدلّ على واحد من أمرين: إما الجهل أو التجني، وسنثبت ذلك ببعض الأمثلة التي ذكرها:(1/220)
1 - في سورة البقرة جاء قوله سبحانه حديثا عن بني إسرائيل: {فَتُوبُوا إِلى ََ بََارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [آية: 54] يقول جولدزيهر: إن بعضهم رأى أن قتل النفس أمر غير مقصود، فغيّر هذه القراءة، حتى لا تتعارض مع المعقول، فقرأها فأقيلوا أنفسكم من الإقالة.
2 - في سورة آل عمران نقرأ قوله سبحانه: {شَهِدَ اللََّهُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ وَالْمَلََائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قََائِماً بِالْقِسْطِ} [آية: 18] يقول جولدزيهر: إن بعضهم رأى أن هذا المعنى غير مقبول وهو أن يشهد الله بأنه لا إله إلّا هو، وأن يذكر مع الملائكة وأولي العلم، فغيّر هذه القراءة فصارت هكذا: شهداء الله.
3 - في سورة العنكبوت نقرأ قوله سبحانه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللََّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكََاذِبِينَ} (3) [آية: 3] يقول جولدزيهر: لقد رأى بعضهم أن هذه القراءة لا تليق بحق الله تعالى، لأنها تدل على أن الله لم يكن يعلم من قبل الصادقين والكاذبين، وإنما علم ذلك فيما بعد، ومن أجل هذا قرئت الآية هكذا فليعلمنّ الله بضم الياء وكسر اللام أي ليخبرنّ الله الصادقين والكاذبين إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا نريد أن نوسع مساحة الكتاب بها.
ويكفي هنا أن نرد هذا كله بجملة واحدة، وهي أن كل هذه القراءات التي ذكرها جولدزيهر لم يصح منها شيء، فلم يقرأ أحد من المسلمين أقيلوا أنفسكم، ولم يقرأ أحد من المسلمين كذلك شهداء الله، وأما الآية الثالثة فلا توجد حتى في القراءة الشاذة، ولكن رواها بعضهم عن سيدنا عليّ ولم تثبت نسبتها إليه، وهكذا نجد أن ما ذكره هذا المستشرق ليس له أساس يستند إليه.
المقدمة الرابعة:
إذا كانت القراءة لا تخضع لاجتهاد الناس لتوافق المعنى الذي يريدون، فإنها كذلك لا تخضع لمذاهب النحويين واللغويين، ونثبت ذلك بما يلي:(1/221)
1 - جاء في «البحر المحيط» عند قوله تعالى: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ} [الإسراء:
106]، اتفق القراء على ضم الميم في كلمة مكث مع أنه يجوز لغة فتحها.
2 - قوله تعالى: {إِنَّمََا صَنَعُوا كَيْدُ سََاحِرٍ} [طه: 69] برفع كيد، قال الفرّاء: ولو قرأ قارئ (كيد) بالنصب لكان صوابا إذا جعلت إنّ وما حرفا واحدا، ولكن لم يقرأ به واحد من القراء العشرة، ولا من الأربعة الذين فوق العشرة.
بيان ذلك أن الآية جاءت هكذا إنما صنعوا كيد ساحر برفع كيد، وعلى هذه القراءة تكون (ما) بمعنى الذي، وهي اسم إن في محل نصب، وكيد خبرها، والمعنى: أن الذي صنعوه كيد ساحر، ويجوز من حيث اللغة أن تكون (إنما) أداة حصر و (صنعوا) فعل ماض (والواو) فاعل، و (كيد) مفعول به، والمعنى ما صنعوا إلا كيد ساحر، ولكن القراءة التي صحت هي القراءة الأولى، فلا يجوز أن يعدل عنها.
3 - ثبت عن أبي عمرو بن العلاء البصري، وهو من القراء السبعة أنه أدغم الراء باللام في قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ} مع أن مثل هذا ليس من مذهب البصريين، ولكن فعل أبي عمرو ليس خاضعا لمذهب نحوي، إنما هي ناتجة عن قراءة تلقّاها مشافهة.
4 - قال الكسائي وهو من أئمة النحو الكوفيين في معنى قوله: {وَيْكَأَنَّهُ لََا يُفْلِحُ الْكََافِرُونَ} [القصص: 82] أصل التركيب ويلك أنه لا يفلح الكافرون فحذفت اللام تخفيفا، فويلك كلمة على حدة، وأنه كلمة أخرى، وعلى هذا المذهب ينبغي أن يقف الكسائي على الكاف في قوله «ويك» لأن هذا هو مذهبه اللغوي، ولكن قراءته ليست كذلك، بل هو يقف على الياء ويبدأ (كأنه لا يفلح الكافرون). قال الزركشي في «البرهان» معلقا على هذه المسألة: «وأما الوقوف فأبو عمرو ويعقوب يقفان على الكاف على موافقة مذهب الكوفيين، والكسائي يقف على الياء وهو مذهب البصريين وهذا
يدل على أنهم لم يأخذوا قراءتهم من نحوهم، وإنما أخذوها نقلا، وإن خالف مذهبهم في النحو» (1).(1/222)
4 - قال الكسائي وهو من أئمة النحو الكوفيين في معنى قوله: {وَيْكَأَنَّهُ لََا يُفْلِحُ الْكََافِرُونَ} [القصص: 82] أصل التركيب ويلك أنه لا يفلح الكافرون فحذفت اللام تخفيفا، فويلك كلمة على حدة، وأنه كلمة أخرى، وعلى هذا المذهب ينبغي أن يقف الكسائي على الكاف في قوله «ويك» لأن هذا هو مذهبه اللغوي، ولكن قراءته ليست كذلك، بل هو يقف على الياء ويبدأ (كأنه لا يفلح الكافرون). قال الزركشي في «البرهان» معلقا على هذه المسألة: «وأما الوقوف فأبو عمرو ويعقوب يقفان على الكاف على موافقة مذهب الكوفيين، والكسائي يقف على الياء وهو مذهب البصريين وهذا
يدل على أنهم لم يأخذوا قراءتهم من نحوهم، وإنما أخذوها نقلا، وإن خالف مذهبهم في النحو» (1).
ويشبه هذا هاتان الكلمات وهما كلمتا الرضاعة وكلتا، فأما الرضاعة فيجيز الكسائي فتح الراء وكسرها، هذا من حيث مذهبه اللغوي، ولكنه قارئا لم يجز إلا الفتح.
وأما كلمة كلتا فيرى أن ألفها ألف تثنية خلافا للبصريين الذين يرون أن ألفها ألف تأنيث، وإذا كانت ألف تثنية، فإنها لا تمال، ولكنه قارئا يميلها. وهذه كلها أدلة دامغة على أن القراءة لم تخضع للمذاهب اللغوية والقواعد النحوية.
اتباع الموسوعة فيما ذكرته لأقوال جولدزيهر:
قضية القراءات إذن ليست خاضعة لاجتهاد أحد حسب ما يمليه عليه فهمه أو مذهبه العقدي أو اللغوي، إنما هي ناشئة عن السماع والتلقّي.
وبعد هذه المقدمات نعود إلى غرضنا الرئيس، وهو مناقشة ما جاء في الموسوعة، فنعلن ابتداء أن ما جاء في الموسوعة ليس سوى ترداد لآراء جولدزيهر وغيره من المستشرقين، وخلاصة ما قال هؤلاء وأولئك أن الاختلاف في القراءات نشأ في معظمه عن خط المصحف ذلك لأن هذا الخط لم يكن فيه تنقيط ولا شكل، فكانت كثير من الكلمات تتشابه فتقرأ على وجوه متعددة.
وننقل لك ما قاله جولدزيهر لنرى مدى التشابه بل التطابق بينه وبين ما جاء في الموسوعة فيقول:
«وترجع نشأة قسم كبير من هذه الاختلافات إلى خصوصية الخط العربي الذي يقدم هيكله المرسوم مقادير صوتية مختلفة، تبعا لاختلاف النقاط
__________
(1) «البرهان» للزركشي (4: 444).(1/223)
الموضوعة فوق هذا الهيكل أو تحته، وعدد تلك النقاط، بل كذلك في حالة تساوي المقادير الصوتية يدعو اختلاف الحركات الذي لا يوجد في الكتابة العربية الأصيلة ما يحدده إلى اختلاف مواقع الإعراب للكلمة، وبهذا إلى اختلاف دلالتها، وإذا فاختلاف تحلية هيكل الرسم بالنقط واختلاف الحركات في المحصول الموحد الغالب من الحروف الصامتة، كانا هما السبب الأول في نشأة حركة اختلاف القراءات، في نص لم يكن منقوطا أصلا أو لم تتحر الدقة في نقطه أو تحريكه.
ثم ضرب أمثلة للقراءات المختلفة التي نشأت من خلو المصاحف من النقط:
1 - في سورة الأعراف جاء قوله سبحانه: {وَنََادى ََ أَصْحََابُ الْأَعْرََافِ رِجََالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمََاهُمْ قََالُوا مََا أَغْنى ََ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمََا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} (48) [آية: 48]، ولما لم يكن هناك تنقيط أبدل بعضهم الباء بالثاء، فقرأها تستكثرون.
2 - في سورة البقرة قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلى ََ بََارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [آية: 54] قرأها بعضهم: (فأقيلوا)، فأبدل التاء بالياء التحتية.
3 - في سورة التوبة قوله تعالى: {وَمََا كََانَ اسْتِغْفََارُ إِبْرََاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلََّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهََا إِيََّاهُ} [آية: 114]، قرأها بعضها: (وعدها أباه) بفتح الهمزة والباء بدلا من الياء.
4 - قوله تعالى في سورة الفتح: {إِنََّا أَرْسَلْنََاكَ شََاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (9) [الآيات: 98]، قرأها بعضهم تعززوه فأبدل الراء الثانية بالزاي.
واخترنا هذه الأمثلة لأن هذه القراءات التي ذكرها جميعا، والتي قال إنها ناشئة عن عدم التنقيط جميعها قراءات لا تصح عند المسلمين.(1/224)
مناقشة لهذا القول:
أولا: إن الخط العربي الذي لم يكن فيه شكل للكلمات ولا تنقيط للحروف، ليس له دخل من قريب أو بعيد في اختلاف القراءات، ولذلك نجد سيدنا عثمان رضي الله عنه حينما كتب المصاحف وأرسلها إلى الأمصار، لم يعتمد على إرسال المصاحف وحدها، وإنما أرسل مع كل مصحف مقرئا يقرئ الناس، حتى يتلقوا القراءة من أفواه الأئمة، فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدينة، وبعث عبد الله بن السائب إلى مكة، والمغيرة بن شهاب إلى الشام، وعامر بن عبد قيس إلى البصرة، وأبا عبد الرحمن السلمي إلى الكوفة.
وهذا دليل قوي وحجة دامغة على أن أمر الرسم ليس وحده هو الذي يرجع إليه في تصحيح القراءة.
ثانيا: ليس كل ما احتمله رسم المصحف تصح القراءة به، بيان ذلك: أن ما وافق رسم المصحف وتواتر أو صح سنده ونقله عن العدول، واستفاض واشتهر بين الناس هو الذي تجوز القراءة به، أما ما وافق رسم المصحف، ولم يثبت سنده فإنه لا تجوز القراءة به البتة، مثال ذلك قراءة: (وعدها أباه) بدل {إِيََّاهُ} [التوبة: 114]، (وكان عبدا لله وجيها) بدل: {عِنْدَ اللََّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:
69]، (ولله ميزاب السماوات والأرض) بدل: {مِيرََاثُ} [آل عمران: 180]. وإذن فهناك كلمات يحتملها الرسم ولكن لا يجوز قراءتها بإجماع المسلمين.
ثالثا: في القرآن الكريم كلمات كثيرة رسمها واحد، ولكن القراء اختلفوا في قراءة بعضها فحسب، وسنذكر عدة أمثلة حتى لا تبقى شبهة لمن في قلبه أدنى شك.
أكلمة (مالك): وردت كلمة مالك بدون ألف، وعلى سبيل المثال نذكر الكلمات التالية:
1 - في سورة الفاتحة: ملك يوم الدّين (4).(1/225)
2 - في سورة آل عمران: قل اللهمّ ملك الملك.
3 - في سورة الناس: {مَلِكِ النََّاسِ} (2).
رسم هذه الكلمات واحد لا اختلاف فيه، ولكن القراء اختلفوا في الآية الأولى من سورة الفاتحة فبعضهم قرأها مالك وبعضهم قرأ ملك، ولكنهم اتفقوا في آية آل عمران حيث قرءوها بالألف لم يخالف منهم أحد. أما آية الناس فقد اتفقوا على قراءتها بدون ألف. ترى لو كان اختلاف القراءات ناشئا عن التنقيط أكانوا يختلفون في موضع واحد ويتفقون على ما سواه؟ إن المنطق يقضي أن يختلفوا في هذه المواضع جميعا، لأن الرسم يحتمل كلتا القراءتين، ولكن اختلافهم في موضع واحد يدل دلالة واضحة، على أن الرسم ليس كل شيء، إنما هو التلقّي مشافهة، والتواتر اللذان تثبت بهما القراءة.
ب جاءت كلمة: (غشاوة) في أكثر من آية في كتاب الله:
1 - في سورة البقرة: {خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ}
[البقرة: 7].
2 - في سورة الجاثية نقرأ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلََهَهُ هَوََاهُ وَأَضَلَّهُ اللََّهُ عَلى ََ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى ََ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى ََ بَصَرِهِ غِشََاوَةً} [آية: 23]، ورسم هذه الكلمة في المصحف واحد بدون ألف، ولكن القراء جميعا اتفقوا على آية البقرة فقرءوها بالألف، واختلفوا في آية الجاثية فقرأها بعضهم كآية البقرة، وقرأها آخرون: «غشوة» بفتح الغين وسكون الشين.
ج وردت كلمة: (الصاعقة) في:
1 - سورة البقرة: {فَأَخَذَتْكُمُ الصََّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آية: 55].
2 - وسورة النساء: {فَأَخَذَتْهُمُ الصََّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [آية: 153].
3، 4وسورة فصلت: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صََاعِقَةً مِثْلَ صََاعِقَةِ عََادٍ وَثَمُودَ}
[آية: 13].(1/226)
5 - في سورة فصلت: {فَأَخَذَتْهُمْ صََاعِقَةُ الْعَذََابِ الْهُونِ بِمََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} [آية:
17].
6 - في سورة الذاريات: {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصََّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [آية:
44].
والرسم في هذه المواضع واحد، ولقد اتفق القراء على المواضع الخمسة الأولى فقرءوها بإثبات ألف بعد الصاد، ولكنهم اختلفوا في الآية الأخيرة فقرأها بعضهم بحذف الألف: أي الصعقة. أفيمكن أن يقال إن اختلاف القراءات راجع لخصيصة الخط العربي؟
د وردت كلمة (كرها) في كتاب الله في آيات كثيرة في مثل قوله سبحانه:
{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [آل عمران: 83]، وقوله:
{لََا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسََاءَ كَرْهاً} [النساء: 19]، وفي سورة التوبة آية 53، والرعد 15، وفصلت 11، والأحقاف 15، فاتفق القراء على قراءة بعض هذه الآيات بضم الكاف، واختلفوا في قراءة بعضها الآخر، فبعضهم ضم الكاف وبعضهم فتحها.
هـ وهذه كلمة: (يحزن)، فقد ثبت أن الإمام نافعا قرأها بضم الياء وكسر الزاي في مثل قوله تعالى: {فَلََا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يس: 76] وفي سورة الأنعام: [آية: 33] وسورة المجادلة: [آية: 10]، واستثنى ما جاء في سورة الأنبياء {لََا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [آية: 103] فقرأها بفتح الياء وضم الزاي، أما الإمام جعفر فقرأها في سورة الأنبياء بضم الياء وكسر الزاي، وفي المواضع الأخرى بفتح الياء وضم الزاي.
وكلمة: (مدخلا) في سورة النساء: آية 31، وفي سورة الحج: آية 59، وفي سورة الإسراء: آية 80، فقد اختلف القراء في قراءة مدخلا في سورتي النساء والحج، فبعضهم قرأها بضم الميم في الموضعين، وبعضهم قرأها بفتح الميم، ولكنهم اتفقوا على قراءتها في سورة الإسراء بضم الميم.(1/227)
ز كلمة: (تخرجون) وردت في سورة الأعراف: آية 25، وفي سورة الروم:
آية 19، وفي سورة الزخرف: آية 11، وفي سورة الجاثية: آية 35 واختلف في قراءتها في هذه المواضع، فبعضهم قرأها بضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول، وبعضهم قرأها بفتح التاء وضم الراء على البناء للفاعل. ولكنهم اتفقوا على قراءتها في سورة الروم: آية: 25بفتح التاء وضم الراء على البناء للفاعل.
ح كلمة: (الرشد)، وردت في سورة الأعراف: آية 146، وفي سورة الكهف:
آية 66، واختلف في قراءتها في هذين الموضعين، فقرأها بعضهم بضم الراء وسكون الشين، وقرأها بعضهم بفتح الراء والشين. أما في سورة الكهف: آية 10، وآية 24، وسورة الجن: آية 10، وآية 14، وآية 21 فاتفقوا على قراءتها بفتح الراء والشين، واتفقوا على قراءتها في سورة الجن: آية 2: {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} بضم الراء وسكون الشين (1).
وهذا كثير في كتاب الله تعالى، والموضوع يحتاج إلى كتاب مستقل، وقد ألّفت فيه كتب كثيرة، منها ما أشرنا إليه من قبل: «القراءات في نظر المستشرقين والملحدين» للشيخ عبد الفتاح القاضي، ومنها: «رسم المصحف العثماني وأوهام المستشرقين في قراءات القرآن» للدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي.
وكنت أود أن أسترسل في هذا الموضوع بأكثر مما ذكرت إلا أن طبيعة عملنا في هذا الكتاب لا تسمح لنا بذلك.
وأختتم هذا الموضوع بما نقل عن كثير من الأئمة: كيف تفرقون بين بعض الكلمات، والرسم يحتملها؟ ويجيب هؤلاء بأن القراءة سنة متبعة تخضع للنقل والمشافهة لا للرسم وحده.
__________
(1) راجع كتاب «القراءات في نظر المستشرقين» لعبد الفتاح القاضي ص 52.(1/228)
الفصل السابع التّفسير ما جاء في الموسوعة وردّه في أربع قضايا
جاء في الموسوعة: «كان القراء هم المختصون بنصوص القرآن، وكانوا بنفس الوقت علماء فقه اللغة، ومن كثرة تعاملهم مع لغة القرآن فقد نمت من هنا أصول قواعد اللغة العربية، حيث ظهرت مدرستان إحداهما في البصرة التي وضعت قواعد اللغة والأخرى في الكوفة والتي اهتمت بالشواذ، ثم خرجوا بنظرية أن القراءة التي لا تعتمد على مصحف عثمان فهي مرفوضة وأن القراءة يؤخذ بها إن اعتمدت على قارئ مشهور ومعروف.
لقد كان هنالك شكّ في الطبيعة الحقيقية للقرآن من قبل المعتزلة والذين حاولوا أن يطعموا مبادئ إغريقية من عقلانية الإغريق في الأفكار الإسلامية.
فمسألة أن القرآن أزليّ كانت من النقاط الأساسية. إن المعتزلة أرادوا أن يتجنبوا أي شيء يعتدي على وحدانية الخالق، لذا فقد أنكروا المبدأ الذي يقول بأن القرآن لم يكن مخلوقا وأنه أزلي لأن هذا يعني أن شيئا آخر بالإضافة إلى الخالق الأزلي موجود أزليا، ويخلق شيئا أزليا مما يسبب ازدواجية لا تقبل المصالحة، لذا فقد أكد المعتزلة بأن القرآن خلق من قبل الخالق، إلا أن مبدأ المعتزلة رفض من قبل المسلمين المتشددين، لذا فقد ظهرت أحزاب ذات نزعات عقائدية وطلب هؤلاء جميعا أن يفسر القرآن لأنه المرجع الوحيد في الأمور التشريعية والدينية، لذا فقد ظهر علم التفسير للقرآن حيث استعملت مصادر متعددة لتوضيح آيات القرآن، كما أخذ بالاعتبار المناسبة التي نزلت بها الآية وحديث
الرسول عن توضيح الآيات، وأيّ تفسير لا يسنده حديث الرسول رفض رفضا باتا. كما أن علم قواعد اللغة العربية ألقى كثيرا من الضوء على علم التفسير.(1/229)
فمسألة أن القرآن أزليّ كانت من النقاط الأساسية. إن المعتزلة أرادوا أن يتجنبوا أي شيء يعتدي على وحدانية الخالق، لذا فقد أنكروا المبدأ الذي يقول بأن القرآن لم يكن مخلوقا وأنه أزلي لأن هذا يعني أن شيئا آخر بالإضافة إلى الخالق الأزلي موجود أزليا، ويخلق شيئا أزليا مما يسبب ازدواجية لا تقبل المصالحة، لذا فقد أكد المعتزلة بأن القرآن خلق من قبل الخالق، إلا أن مبدأ المعتزلة رفض من قبل المسلمين المتشددين، لذا فقد ظهرت أحزاب ذات نزعات عقائدية وطلب هؤلاء جميعا أن يفسر القرآن لأنه المرجع الوحيد في الأمور التشريعية والدينية، لذا فقد ظهر علم التفسير للقرآن حيث استعملت مصادر متعددة لتوضيح آيات القرآن، كما أخذ بالاعتبار المناسبة التي نزلت بها الآية وحديث
الرسول عن توضيح الآيات، وأيّ تفسير لا يسنده حديث الرسول رفض رفضا باتا. كما أن علم قواعد اللغة العربية ألقى كثيرا من الضوء على علم التفسير.
كما استعمل أيضا الشعر العربي لتوضيح التركيب والقواعد لمعنى الآيات.
إن فهم القرآن لتطبيقه على الحياة الواقعة نمت جنبا إلى جنب مع تطور قواعد اللغة العربية لذا فقد ظهرت مؤلفات في علم التفسير منها «تفسير الطبري» ما بين (923839) الذي كان كتابه دائرة معارف فخمة في علم تفسير القرآن لخص كل ما ظهر في هذا المجال، كما جاء كتاب «الكشاف» للزمخشري (11431075) الذي طبقت شهرته الآفاق بالرغم من أن مؤلفه كان من المعتزلة، وافتتح كتابه بكلمة: «الحمد والشكر لله الذي خلق القرآن»، ثم «تفسير البيضاوي» الذي يعد تلخيصا ل «الكشاف».
إلا أن علم التفسير أخذ أهمية في العصر الحديث وبنهاية القرن التاسع عشر، فقد حاول المستجدون أن ينعشوا الإسلام من كبوته وأن يوفقوا بينه وبين ما يصلح من العلم الغربي الحديث، وأن يعودوا إلى عصر النقاء والطهر الذي كان على زمن الأجداد والسلف الصالح، فالقرآن لا يجب أن يشك فيه، ففيه الصدق المطلق.
لقد ظهر أناس أمثال محمد عبده مؤسس الاتجاه الحديث في مصر والذي أخذ يفسر القرآن في صحيفة «المنار» على مدى بضعة سنين ثم جمعت هذه كلها في كتاب من قبل رشيد رضا أحد أتباعه السوريين، إن محمد عبده يقبل أن القرآن هو الكلمة الموحى بها من الحق حرفيا ولا يقبل أن يتهمه أحد بالكذب، وقد حاول أن يوضح أن نتائج العلم الحديث، وكثير من النظريات الحديثة كلها موجود في القرآن سابقا وهذا تحقق غالبا بوساطة تفسيرات ملتوية، مثل سورة الجن التي فسرت بأنها ميكروبات تسبب الأمراض، كذلك {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللََّهِ وَاللََّهُ مَعَ الصََّابِرِينَ} [البقرة: 249] فسرت بأنها تصديق
لنظرية دارون في تنازع البقاء، وأن البقاء للأصلح، وكذلك استعملت تفاسير رمزية إذا كانت تخدم غرض المؤلف وسار على نفس النهج بعض المفسرين المحدثين.(1/230)
لقد ظهر أناس أمثال محمد عبده مؤسس الاتجاه الحديث في مصر والذي أخذ يفسر القرآن في صحيفة «المنار» على مدى بضعة سنين ثم جمعت هذه كلها في كتاب من قبل رشيد رضا أحد أتباعه السوريين، إن محمد عبده يقبل أن القرآن هو الكلمة الموحى بها من الحق حرفيا ولا يقبل أن يتهمه أحد بالكذب، وقد حاول أن يوضح أن نتائج العلم الحديث، وكثير من النظريات الحديثة كلها موجود في القرآن سابقا وهذا تحقق غالبا بوساطة تفسيرات ملتوية، مثل سورة الجن التي فسرت بأنها ميكروبات تسبب الأمراض، كذلك {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللََّهِ وَاللََّهُ مَعَ الصََّابِرِينَ} [البقرة: 249] فسرت بأنها تصديق
لنظرية دارون في تنازع البقاء، وأن البقاء للأصلح، وكذلك استعملت تفاسير رمزية إذا كانت تخدم غرض المؤلف وسار على نفس النهج بعض المفسرين المحدثين.
إن القرآن هو كلمة الله وليس فيه مجال للانتقاد والطعن، ولا يحتوي أي غلطة، ولا يمكن التفوق عليه بتاتا بأي اختراع مهما كان.
إن هنالك هنديا كان يشغل وزير التعليم وهو مسلم قد اقترح على أنه يجب فهم خلفية الظروف والبيئة التي كان يعيش فيها المسلمون، ثم دراسة الثقافة واللغة في تلك الحقبة لتساعد على تفسير القرآن، كما أن دراسة الظروف التاريخية في تلك الحقبة تسهل من فهمه لأولئك الذين نزل عليهم القرآن». اهـ.
في هذا الفصل أكثر من قضية تستدعي أن نقف عندها محاولين أن نبرز الحقائق الأساسية بعد مناقشة وتمحيص، وإن كنا نعترف أنه ليس في هذه القضايا من الخطورة ما وجدناه في القضايا السابقة.
القضية الأولى: القرآن والقراءات:
جاء في الموسوعة: «كان القراء هم المختصون بنصوص القرآن، وكانوا بنفس الوقت علماء فقه اللغة، ومن كثرة تعاملهم مع لغة القرآن، فقد نمت من هنا أصول قواعد اللغة العربية، حيث ظهرت مدرستان إحداهما في البصرة التي وضعت قواعد اللغة، والأخرى في الكوفة والتي اهتمت بالشواذ، ثم خرجوا بنظرية أن القراءة التي لا تعتمد على مصحف عثمان فهي قراءة مرفوضة، وأن القراءة يؤخذ بها إن اعتمدت على قارئ مشهور ومعروف». اهـ.
حينما نزل القرآن كان المسلمون جميعا يوجهون له عنايتهم، ويبذلون في حفظه ما استطاعوا من جهد، ويتسابقون ويتنافسون في ذلك وهذا يكاد يكون من الأمور البدهية، كان كل مسلم يستمع القرآن يفرغ له قلبه، ويردده لسانه،
وكان الرسول الكريم عليه وآله الصلاة والسلام يوجههم هذا التوجيه، حتى لا يشغلوا عن القرآن بشيء، لذا ورد النهي عن كتابة الحديث، وهذا النهي لم يكن كما يظن بعض الناس خشية أن يختلط القرآن بالحديث، فإن أسلوب القرآن أسلوب فريد لا يشبهه أسلوب البشر ولو كان أسلوب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فشتان بين الأسلوبين، ولكن النهي عن كتابة الحديث إنما كان هدفه أن لا ينشغل عن القرآن بشاغل.(1/231)
حينما نزل القرآن كان المسلمون جميعا يوجهون له عنايتهم، ويبذلون في حفظه ما استطاعوا من جهد، ويتسابقون ويتنافسون في ذلك وهذا يكاد يكون من الأمور البدهية، كان كل مسلم يستمع القرآن يفرغ له قلبه، ويردده لسانه،
وكان الرسول الكريم عليه وآله الصلاة والسلام يوجههم هذا التوجيه، حتى لا يشغلوا عن القرآن بشيء، لذا ورد النهي عن كتابة الحديث، وهذا النهي لم يكن كما يظن بعض الناس خشية أن يختلط القرآن بالحديث، فإن أسلوب القرآن أسلوب فريد لا يشبهه أسلوب البشر ولو كان أسلوب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فشتان بين الأسلوبين، ولكن النهي عن كتابة الحديث إنما كان هدفه أن لا ينشغل عن القرآن بشاغل.
وعلى هذا فلم يكن في العصر الذي نزل فيه القرآن قراء عنوا أكثر من غيرهم، بل المسلمون جميعا كانوا كذلك. برهان ذلك: أن عصر النبي عليه وآله الصلاة والسلام وعصر الصحابة كذلك اشتهر فيه علماء كان لكل تخصصه فهناك من اشتهروا بكثرة الرواية فسموا المكثرين، والمكثرون هم الذين روى كل واحد منهم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثر من ألف حديث، وهم سبعة، واشتهر أناس بالفتيا والفقه وسموا الفقهاء وهم سبعة كذلك، أما التفسير فقد اشتهر فيه عشرة من الصحابة، ولم يقل أحد: إن القرآن وقراءته اشتهر فيه فلان، نعم ورد «أقرؤكم أبيّ»، ولكن كان هناك زيد وعبد الله بن مسعود، كان هناك كتبة الوحي، وهؤلاء لم يشتهروا بأنهم أكثر الناس عناية بالقرآن.
ويعد العصر الأول، عصر الصحابة رضوان الله عليهم واتساع الرقعة الإسلامية، ودخول كثير في دين الله، وبخاصة من غير العرب كان لا بد من التصدي لإقراء هؤلاء، وكانت المساجد هي المدارس ودور العلم، وعرف هؤلاء بالقراء، وكان هؤلاء القراء يقرءون الناس حسب القراءة التي تلقوها، وكانت صحة القراءة تعتمد أول ما تعتمد على التواتر وصحة النقل، بيان ذلك:
أن مصحف عثمان رضي الله عنه يرى جمهور العلماء أنه اشتمل على الأحرف السبعة، فبعض هذه الأحرف كان يحتمله الرسم مثل تبينوا وتثبتوا، بشرا ونشرا، {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيََاحَ بُشْراً} [الأعراف: 57]، وفي قراءة نشرا،
ومثل {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} [يونس: 22]، وفي قراءة (ينشركم)، ومثل: (مالك) و (ملك). أما ما لا يحتمله الرسم من الأحرف السبعة فكان يكتب في كل مصحف حرفا، مثال ذلك: {وَقََالُوا اتَّخَذَ اللََّهُ وَلَداً} [البقرة: 116] هناك قراءة:(1/232)
أن مصحف عثمان رضي الله عنه يرى جمهور العلماء أنه اشتمل على الأحرف السبعة، فبعض هذه الأحرف كان يحتمله الرسم مثل تبينوا وتثبتوا، بشرا ونشرا، {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيََاحَ بُشْراً} [الأعراف: 57]، وفي قراءة نشرا،
ومثل {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} [يونس: 22]، وفي قراءة (ينشركم)، ومثل: (مالك) و (ملك). أما ما لا يحتمله الرسم من الأحرف السبعة فكان يكتب في كل مصحف حرفا، مثال ذلك: {وَقََالُوا اتَّخَذَ اللََّهُ وَلَداً} [البقرة: 116] هناك قراءة:
(وقالوا)، ففي بعض المصاحف كتب: (قالوا)، وفي بعضها كتبت القراءة الثانية: (وقالوا). ومثل هذا أيضا: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ} [التوبة: 72]، وفي قراءة: (تجري تحتها الأنهار)، ففي بعض المصاحف كتبت الآية بدون حرف الجر: (من)، وفي بعض المصاحف كتب هذا الحرف.
رأى جمهور والطبرى فى الاحرف السبعة
وخلاصة هذا القول الذي ذهب إليه جمهور العلماء، أن مصحف عثمان رضي الله عنه الذي كتبه وأرسله إلى الأمصار، كان يشتمل على الأحرف السبعة إلا أن بعض هذه الأحرف كان مما يحتمله الرسم، وكان بعضها الآخر وهو ما لا يحتمله الرسم موزعا على المصاحف التي أرسلت إلى الأمصار، كما مر.
وقد خالف الإمام الطبري الجمهور، وقال إن مصحف عثمان إنما كتب فيه حرف واحد فقط، وإن هذه القراءات الصحيحة ناشئة عن هذا الحرف ولعل من أسباب الخلاف بين هذين الرأيين ما فسر به السبعة أحرف، فالجمهور يرون أن الأحرف السبعة إنما هي تغيرات في الكلمات شكلا وإعرابا وتقديما وتأخيرا، وإفرادا وجمعا، وإمالة وحذفا، ويرى الطبري أنها ليست كذلك، وإنما هي لغات، ولا يضيرنا هذا الخلاف، فالكل مجمعون على صحة مصحف عثمان من جهة، وعلى صحة القراءات التي ثبتت من جهة أخرى.
وما جاء في الموسوعة من نظرية أن القراءة التي لا تعتمد على مصحف عثمان مرفوضة، وأن القراءة يؤخذ بها إن اعتمدت على قارئ مشهور معروف لا ينبغي أن نأخذه على إطلاقه وعلاته، بل هو بحاجة إلى تعديل وتقويم وتصحيح. صحيح أن الاعتماد على الخط في الرسم العثماني أمر غير منكور وصحيح أن القراءة ينبغي أن تكون على قارئ مشهور معروف ولكن هذا لا
يكفي عند العلماء لكي تكون القراءة مقبولة بل لا بد من التواتر وصحة الإسناد، فموافقة خط المصحف وشهرة القارئ لا يمنحان القراءة القبول والصحة، ما لم يكن هناك صحة إسناد، وهذا ما ذهب إليه الأئمة، قال الإمام أبو شامة عند الكلام على (لؤلؤا) في قوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهََا مِنْ أَسََاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً}
[الحج: 23] وفي قوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهََا مِنْ أَسََاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [فاطر: 33] قال:(1/233)
وما جاء في الموسوعة من نظرية أن القراءة التي لا تعتمد على مصحف عثمان مرفوضة، وأن القراءة يؤخذ بها إن اعتمدت على قارئ مشهور معروف لا ينبغي أن نأخذه على إطلاقه وعلاته، بل هو بحاجة إلى تعديل وتقويم وتصحيح. صحيح أن الاعتماد على الخط في الرسم العثماني أمر غير منكور وصحيح أن القراءة ينبغي أن تكون على قارئ مشهور معروف ولكن هذا لا
يكفي عند العلماء لكي تكون القراءة مقبولة بل لا بد من التواتر وصحة الإسناد، فموافقة خط المصحف وشهرة القارئ لا يمنحان القراءة القبول والصحة، ما لم يكن هناك صحة إسناد، وهذا ما ذهب إليه الأئمة، قال الإمام أبو شامة عند الكلام على (لؤلؤا) في قوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهََا مِنْ أَسََاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً}
[الحج: 23] وفي قوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهََا مِنْ أَسََاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [فاطر: 33] قال:
«ورسم بالألف في الحج خاصة دون فاطر، والقراءة نقل فما وافق منها ظاهر الخط كان أقوى وليس اتباع الخط بمجرده واجبا ما لم يعضده نقل، فإن وافق فبها ونعمت، ذلك نور على نور وقال الشيخ السخاوي تلميذ الإمام الشاطبي: وهذا الموضع أدل دليل على اتباع النقل في القراءة، لأنهم لو اتبعوا الخط، وكانت القراءة إنما هي مستندة إليه لقرءوا هنا في سورة الحج بالألف، وفي الملائكة (فاطر) بالخفض، وقال الإمام أبو عبيد: «ولولا الكراهة لخلاف الناس لكان اتباع الخط أحب إليّ، فيكون في الحج بالنصب وفي فاطر بالخفض» (1).
وبيان هذا أن كلمة (لؤلؤا) وردت في سورة الحج: {إِنَّ اللََّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ يُحَلَّوْنَ فِيهََا مِنْ أَسََاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [آية: 23] وهذه رسمت بالألف، ووردت كلمة (لؤلؤا) في سورة فاطر: {جَنََّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهََا يُحَلَّوْنَ فِيهََا مِنْ أَسََاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [آية: 33] ورسمت
__________
(1) «إبراز المعاني من حرز الأماني» للإمام أبي شامة المقدسي ص 406. وفيما ذكره أبو شامة كلام يحتاج الى بيان ذلك أن الالف من (لؤلؤ) وقع الخلاف في إثباتها وحذفها في كلام حاصله ما ذكره الشيخ على محمد الضباع في كتابه سمير الطالبين حيث قال:
«وزاد بعض كتاب المصاحف ألفا في (لؤلؤ) في حالتي الرفع والحجر ونقله الداني عن المدينة، وذكر الشيخان في هذه المسألة كلاما طويلا حاصله أن المصاحف اتفقت على الألف في الإنسان وكذا الحج إلا في قول عن البصري، وكذا حرف فاطر إلا المكية والشامية، واختلفت في الطور والرحمن والواقعة واختار أبو داود الحذف في الطور والواقعة» ص 75. فكلام أبي شامة مبني على هذا الخلاف.(1/234)
(لؤلؤا) هنا بدون ألف، ومقتضى هذا الرسم أن تقرأ كلمة (لؤلؤ) في سورة الحج بالنصب، وأن تقرأ في سورة فاطر بالجر، والرسم يعين على ذلك لأنه بدون ألف، واللغة تعين على ذلك، فيمكن أن تعطف كلمة (لؤلؤ) على كلمة (ذهب)، فتكون هناك أساور من ذهب وأساور من لؤلؤ، ويمكن أن تعطف على كلمة (أساور) ويكون المعنى أنهم يحلون من أساور ومن لؤلؤ، وكلمتا (لؤلؤ) و (أساور) مجرورتان. قراءة كلمة (لؤلؤ) بالجر إذن يعين عليها الرسم لأنها بدون ألف وهي صحيحة لغة، ومع ذلك كله فلم تقرأ بالجر وإنما قرئت منصوبة كآية الحج، وهذا من أقوى الأدلة على أن صحة القراءة المعول فيها على صحة السند والتواتر أكثر من الرسم وغيره. هذا ما أردت أن أقوم به عبارة الموسوعة.
قال ابن الجزري: «كل قراءة وافقت العربية مطلقا، ووافقت أحد المصاحف العثمانية، ولو تقديرا، وتواتر نقلها، هذه هي القراءة المتواترة المقطوع بها، ومعنى العربية مطلقا أي بوجه من الإعراب، نحو قراءة حمزة: (والأرحام)، بالجر، وقراءة أبي جعفر: (ليجزى قوما).
ومعنى أحد المصاحف العثمانية واحد من المصاحف التي وجهها الخليفة عثمان إلى الأمصار، كقراءة ابن كثير في الموضع الأخير من سورة التوبة: (تجري من تحتها الأنهار) بزيادة (من)، فإنها لا توجد إلا في المصحف المكي.
ومعنى ولو تقديرا ما يحتمله رسم المصحف كقراءة من قرأ: {مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} بالألف، فإنها كتبت بغير الألف في جميع المصاحف، فاحتملت الكتابة أن تكون (مالك) بالألف، وفعل بها كما فعل باسم الفاعل من قوله:
(قادر صالح) ونحو ذلك مما حذفت منه الألف للاختصار، وهو موافق للرسم تقديرا، ونعني بالتواتر ما رواه جماعة عن جماعة كذا إلى منتهى السند، وهو يفيد العلم من غير تعيين عدد على الصحيح.(1/235)
والذي جمع في زماننا هذه الأركان الثلاثة هو قراءات الأئمة العشرة التي أجمع الناس على تلقيها بالقبول، وهم: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف، أخذها الخلف عن السلف إلى أن وصلت إلى زماننا، فقراءة أحدهم كقراءة الباقين في كونها مقطوعا بها» (1).
أما مدرستا البصرة والكوفة فمع كونهما امتدادا طبيعيا لسنّة التطور، إلا أن لكل من المدرستين أصولها، ولكن سواء أكانت هذه المدرسة أم تلك فإنهما بمعزل عن التأثير على قراءات القرآن، وقد تقدم لنا في القضية السابقة أن الكسائي القارئ وهو كوفي كانت قراءته تخالف مذهبه، وضربنا لذلك أمثلة متعددة، وأن أبا عمرو البصري كان كذلك.
وعلى هذا فالتشاد المذهبي في النحو، والاختلاف في قضايا اللغة لا يمكن أن يكون له تأثير على القراءات المتواترة الصحيحة، نعم قد يكون لذلك دخل في تفسير كلمة أو فهم آية يمكن أن يراها كل واحد كما ظهر له، أما القراءات فتبقى بمعزل عن ذلك كله.
القضية الثانية القرآن والمعتزلة:
جاء في الموسوعة: «لقد كان هناك شك في الطبيعة الحقيقية للقرآن من قبل المعتزلة، والذين حاولوا أن يطعموا مبادئ إغريقية من عقلانية الإغريق في الأفكار الإسلامية. فمسألة أن القرآن أزلي كانت من النقاط الأساسية.
إن المعتزلة أرادوا أن يتجنبوا أي شيء يعتدي على وحدانية الخالق، لذا فقد أنكروا المبدأ الذي يقول بأن القرآن لم يكن مخلوقا وأنه أزليّ لأن هذا
__________
(1) «منجد المقرئين ومرشد الطالبين» ص 15.(1/236)
يعني أن شيئا آخر بالإضافة إلى الخالق الأزلي موجود أزليا ويخلق شيئا أزليا مما يسبب ازدواجية لا تقبل المصالحة، لذا فقد أكد المعتزلة بأنّ القرآن خلق من قبل الخالق، إلا أنّ مبدأ المعتزلة رفض من قبل المسلمين المتشددين، لذا فقد ظهرت أحزاب ذات نزعات عقائدية وطلب هؤلاء جميعا أن يفسر القرآن لأنه المرجع الوحيد في الأمور التشريعية والدينية».
هذه القضية لا بد أن تقف فيها على بعض الحقائق:
الحقيقة الأولى:
أن المعتزلة مسلمون، ومن هنا فلا يمكن أن نقول إنهم يشكون في طبيعة القرآن، لقد كان المعتزلة في طليعة المسلمين الذين دافعوا عن بيان القرآن وبلاغته وإعجازه، والجاحظ خير أنموذج لهذا الدفاع، ومن بعد الجاحظ جاء القاضي عبد الجبار، وبين هذين الإمامين كان الرماني والجبّائيان، ومن بعدهم الزمخشري، لقد كان إيمانهم بالقرآن عظيما لا يقل عن إيمان غيرهم.
الحقيقة الثانية:
لقد شاعت مقولة افتتان المعتزلة بالفلسفة الأرسطية والمنطق، حتى لقد كادت تصبح هذه المقولة حقيقة من الحقائق، والمتبصر في الأمر، والواقف على أصول المسائل سيثبت له عكس هذه المقولة، صحيح أن المعتزلة كانوا يبوءون العقل منزلة عالية وقد أعطوا حظا من الحجاج، ولكن ليس معنى هذا أن الفلسفة اليونانية كانت سلاحهم في معاركهم، وزادهم في مناقشتهم، بل نحن نملك الأدلة على عكس ذلك تماما، وما نظن أن المجال يسمح لنا بتفصيل ذلك المقام وشرحه (1).
__________
(1) يراجع كتاب الدكتور علي سامي النشار: «مناهج البحث عند مفكري الإسلام».(1/237)
لقد كان المعتزلة يقفون من هذه الفلسفة وبخاصة الأرسطية موقف الناقد الساخط، والحق أن فلسفة أرسطو ومنطقه لم يصبح ذا شأن في الثقافة الإسلامية، إلا في قرن متأخر وذلك على يد إمام الحرمين الجويني، وتلميذه حجة الإسلام الغزالي في القرن الخامس الهجري، ومن قبل هذا القرن كان لعلماء أصول الدين المتكلمين ولعلماء أصول الفقه منهج بعيد عن منطق أرسطو وفرفريوس، ولم يشذ المعتزلة عن ذلك، ومناظرات أبي العباس الناشئ وهو معتزلي خير دليل على ما قلناه.
إن ظهور المعتزلة لم يكن ناشئا إلا عن وجهة نظر دينية صرفة، بعيدة عن التأثر بالفلسفة أيّا كان انتماؤها، وأيا كانت أروقتها.
الحقيقة الثالثة:
إن قضية خلق القرآن، رغم ما كان لها من دور، ورغم ما أثير حولها من ضجيج، إلا أنها لم تعد قضية ذات شأن، فهي مسألة كما يرى المحققون لا تعدو أن تكون خلافا لفظيا أكثر منه حقيقيا. إن المعتزلة وغيرهم من المسلمين مجمعون على أن الألفاظ حادثة، إلا أن الأشاعرة أثبتوا لله كلاما نفسيا، ونفاه المعتزلة، ومن هنا نشأ هذا الخلاف في خلق القرآن، وليس معنى كون القرآن مخلوقا أنه ليست له هذه القدسية، وليس معجزا.
إن المعتزلة ينكرون الصفات فعلا بحجة أنها لو كانت موجودة فإنها ينبغي أن تكون قديمة، فالموصوف القديم لا يجوز أن تكون له صفة حادثة، والمحذور الذي ينشأ عن هذا تعدد القدماء، وقد رد عليهم خصومهم من أهل السنة بأن المحذور تعدد الذوات وليس تعدد الصفات، ولكن ليس معنى هذا أن المعتزلة ينكرون أن الله عالم قدير مريد حي سميع بصير متكلم، بل هم يعترفون بذلك كله، ولكنهم يقولون هو عالم بذاته، قادر بذاته الخ.(1/238)
وعلى كل حال فاختلافهم في خلق القرآن لا يؤثر من قريب أو بعيد، ولا يتصل اتصالا مباشرا أو غير مباشر، ولا يغير كثيرا أو قليلا من قدسية القرآن وإعجازه وسمو تشريعاته عند أحد من المسلمين معتزليا كان أم غير معتزلي، برهان ذلك:
أنّ الإمام الزمخشري رحمه الله وتفسيره «الكشاف» الذي تقول الموسوعة بأنه بدأه ب: «الحمد والشكر لله الذي خلق القرآن» وليست هذه العبارة بهذا النص فالمسلمون يجلّون هذا الإمام المعتزلي ويرجعون إلى «كشافه»، وقد أخذ كثير من المفسرين عنه وخالفوه في قضايا الاعتزال، ولكن هذا لم يقلل من شأنه، ولم يغير من شأوه حتى يومنا هذا.
القضية الثالثة: عناصر التفسير:
جاء في الموسوعة: «لذا فقد ظهر علم التفسير للقرآن حيث استعملت مصادر متعددة لتوضيح آيات القرآن، كما أخذ بالاعتبار المناسبة التي نزلت بها الآية وحديث الرسول عن توضيح الآيات، وأي تفسير لا يسنده حديث الرسول رفض رفضا باتا، كما أن علم قواعد اللغة العربية ألقى كثيرا من الضوء على علم التفسير.
كما استعمل أيضا الشعر العربي لتوضيح التركيب والقواعد لمعنى الآيات.
إن فهم القرآن لتطبيقه على الحياة الواقعة نمت جنبا إلى جنب مع تطور قواعد اللغة العربية، لذا فقد ظهرت مؤلفات في علم التفسير منها «تفسير الطبري» ما بين (923839) الذي كان كتابه دائرة معارف فخمة في علم تفسير القرآن، لخص كل ما ظهر في هذا المجال كما جاء كتاب «الكشاف» للزمخشري (11431075) الذي طبقت شهرته الآفاق بالرغم من أن مؤلفه كان من المعتزلة، وافتتح كتابه بكلمة: (الحمد والشكر لله الذي خلق القرآن) ثم، تفسير البيضاوي الذي يعدّ تلخيصا للكشاف».(1/239)
لقد ذكر العلماء قواعد للتفسير وشروطا للمفسر، ومن البدهي أن تكون معرفة أسباب النزول، والعلم بالناسخ والمنسوخ، ومعرفة ما نزل أولا وما نزل فيما بعد، والمكي والمدني من الأمور الضرورية لتفسير الكتاب الخالد، كما أن المعرفة باللغة على اختلاف علومها وأقسامها من الأمور الضرورية كذلك للمفسر، ولا بد من هذا وذاك، من معرفة الآثار الصحيحة عن الرسول الكريم التي وردت في تفسير بعض الآيات، كما أن سياق الآيات يلقي ضوءا ذا أهمية قصوى على معرفة معناه، فمثلا لا يجوز أن أفسر آية جاءت في سياق الحديث عن الآخرة تفسيرا بعيدا عن سياق الآيات، وهذه أمور معلومة عند علماء المسلمين.
وهنا أمران لا بد من التنبيه لهما:
الأمر الأول:
إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يفسر القرآن كله، وذلك لأنه أراد من المسلمين أن يتدبروا القرآن، وأن يجتهدوا في تفسيره، في نطاق القواعد الآنفة الذكر، وهي موافقة السياق واللغة والمأثور، وهناك آيات كثيرة جدا لم يرد في تفسيرها حديث صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومع ذلك فلقد فسرها العلماء، وأتوا على كل كلمة، بل على كل حرف فيها، فقول الموسوعة: إن كل تفسير لا يسنده تفسير الرسول رفض رفضا باتا مرفوض رفضا باتا.
لقد دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم لابن عباس أن يعلمه الله التأويل، وكان من بعده أئمة اشتهروا بعلمهم ومعرفتهم، وبآرائهم السديدة في تفسير كتاب الله. هذا هو الأمر الأول، وهو خطير كما رأينا حيث يستحق أن ننبه إليه.
الأمر الثاني:
أما الأمر الثاني فلا يقل عن سابقه خطورة، وهذا الأمر هو ما جاء في الموسوعة من ذكر تفسير الطبري كأول تفسير للقرآن، هذه قضية يلح عليها كثير
من المستشرقين ومن الذين كتبوا في الدراسات القرآنية محاولين أن يلبسوها ثوب الحقيقة، وهي أن الطبري كان أول مفسر للقرآن، ولم تكن قبله تفاسير ذات شأن.(1/240)
أما الأمر الثاني فلا يقل عن سابقه خطورة، وهذا الأمر هو ما جاء في الموسوعة من ذكر تفسير الطبري كأول تفسير للقرآن، هذه قضية يلح عليها كثير
من المستشرقين ومن الذين كتبوا في الدراسات القرآنية محاولين أن يلبسوها ثوب الحقيقة، وهي أن الطبري كان أول مفسر للقرآن، ولم تكن قبله تفاسير ذات شأن.
ونحب أن نبين هنا أن تفسير القرآن بدأ من عصر النبي عليه وآله الصلاة والسلام، فكان النبي يفسر ما تدعو له الحاجة، لأن القرآن كتاب عربي من جهة، وكتاب سماوي من جهة ثانية، وإذا كان العرب الذين نزل فيهم يفهمونه من الجهة الأولى، فإن الجهة الثانية وهي كون الكتاب سماويا تحتاج إلى أن يفهموا بعض المصطلحات، وبعد النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت هناك تفاسير للصحابة كابن عباس وعبد الله بن مسعود وغيرهما، وكذلك في عهد التابعين كمجاهد وقتادة وسعيد ابن جبير وغيرهم كثير، وفي العصر الذي جاء بعدهم عصر تابعي التابعين.
صحيح أن التدوين بدأ في القرن الثاني الهجري، وهناك كتب دونت في هذا القرن وفي الذي يليه، وهذه الكتب لها أكثر من طابع، فهناك الكتب التي اتخذت طابع الرواية كتفسير عبد الرزاق وغيره، وهناك كتب اتخذت طابع اللغة كتفسير أبي عبيدة، والفراء «معاني القرآن» وعلى الأرجح أن هذين التفسيرين تمّا في آخر القرن الثاني الهجري، ومن قبل الطبري كان يحيى بن سلام.
المهم أن تفسير الطبري لم يكن أول تفسير عرف في تاريخ القرآن، والطبري ينقل كثيرا عمن قبله، صحيح أن تفسير الطبري هو أول تفسير موسوعي وصل إلينا، ولكن هذا لا يعني أنه كان أول تفسير عرف، والحق أن الطبري كان موسوعة فذة فاشتمل تفسيره على كثير من الأصول التي كانت فيما بعد مدارس للمفسرين.
وجاء الزمخشري من بعد فانتحى ناحية بيانية، وبعد ذلك جاء الإمام الرازي في «تفسيره الكبير»، وجاء البيضاوي فاعتمد على تفسير الزمخشري وتفسير الرازي معا، وتعددت التفاسير، وتعددت المدارس التفسيرية كذلك، فهناك التفسير الفقهي واللغوي والعقدي والمأثور، ولم يذو التفسير في عصر من العصور، حتى تلك التي تسمى عصور التخلف، فهناك التفسيرات المشتهرة لأبي حيّان، وابن كثير، والسمين الحلبي، والبقاعي، ومن جاء بعدهم مثل أبي السعود، حتى
القرن الثالث عشر الهجري، رأينا فيه موسوعة تفسيرية رائعة، ونعني به تفسير «روح المعاني» للعلامة الألوسي، وهناك تفاسير ذات شهرة علمية وفوائد جمة للشيعة الإمامية كتفسير «مجمع البيان» للطبرسي ولغيرهم، ولو أردنا أن نستعرض القرون كل قرن على حدة فإننا لا نجد قرنا أو عصرا من هذه القرون والعصور إلا كان يظهر فيه أكثر من تفسير لأكثر من مدرسة، وهذا ما تحتمه طبيعة القرآن، وقدسيته عند المسلمين، ومع كثرة هذه التفاسير فالنص القرآني لا يزال ثريا معطاء.(1/241)
وجاء الزمخشري من بعد فانتحى ناحية بيانية، وبعد ذلك جاء الإمام الرازي في «تفسيره الكبير»، وجاء البيضاوي فاعتمد على تفسير الزمخشري وتفسير الرازي معا، وتعددت التفاسير، وتعددت المدارس التفسيرية كذلك، فهناك التفسير الفقهي واللغوي والعقدي والمأثور، ولم يذو التفسير في عصر من العصور، حتى تلك التي تسمى عصور التخلف، فهناك التفسيرات المشتهرة لأبي حيّان، وابن كثير، والسمين الحلبي، والبقاعي، ومن جاء بعدهم مثل أبي السعود، حتى
القرن الثالث عشر الهجري، رأينا فيه موسوعة تفسيرية رائعة، ونعني به تفسير «روح المعاني» للعلامة الألوسي، وهناك تفاسير ذات شهرة علمية وفوائد جمة للشيعة الإمامية كتفسير «مجمع البيان» للطبرسي ولغيرهم، ولو أردنا أن نستعرض القرون كل قرن على حدة فإننا لا نجد قرنا أو عصرا من هذه القرون والعصور إلا كان يظهر فيه أكثر من تفسير لأكثر من مدرسة، وهذا ما تحتمه طبيعة القرآن، وقدسيته عند المسلمين، ومع كثرة هذه التفاسير فالنص القرآني لا يزال ثريا معطاء.
القضية الرابعة: التفسير في العصر الحديث:
جاء في الموسوعة: «إلا أن علم التفسير أخذ أهمية في العصر الحديث وبنهاية القرن التاسع عشر فقد حاول المستجدون أن ينعشوا الإسلام من كبوته وأن يوفقوا بينه وبين ما يصلح من العلم الغربي الحديث، وأن يعودوا إلى عصر النقاء والطهر الذي كان على زمن الأجداد والسلف الصالح، فالقرآن لا يجب أن يشك فيه، ففيه الصدق المطلق. لقد ظهر أناس أمثال محمد عبده مؤسس الاتجاه الحديث في مصر والذي أخذ يفسر القرآن في صحيفة «المنار» على مدى بضعة سنين، ثم جمعت هذه كلها في كتاب من قبل رشيد رضا أحد أتباعه السوريين.
إن محمد عبده يقبل أن القرآن هو الكلمة الموحى بها من الحق حرفيا ولا يقبل أن يتهمه أحد بالكذب، وقد حاول أن يوضح أن نتائج العلم الحديث وكثير من النظريات الحديثة كلها موجود في القرآن سابقا، وهذا تحقق غالبا بوساطة تفسيرات ملتوية مثل سورة الجن التي فسرت بأنها ميكروبات تسبب الأمراض، كذلك: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللََّهِ وَاللََّهُ مَعَ الصََّابِرِينَ} (249) [البقرة: 249] فسرت بأنها تصديق لنظرية دارون في تنازع البقاء، وأن البقاء للأصلح وكذلك استعملت تفاسير رمزية إذا كانت تخدم غرض المؤلف وسار على نفس المنهج بعض المفسرين المحدثين. إن القرآن هو كلمة الله وليس فيه مجال للانتقاد والطعن ولا يحتوي أي غلطة ولا يمكن التفوق عليه بتاتا مهما كان.(1/242)
إن هنالك هنديا كان يشغل وزير التعليم وهو مسلم قد اقترح على أنه يجب فهم خلفية الظروف والبيئة التي كان يعيش فيها المسلمون ثم دراسة الثقافة واللغة في تلك الحقبة لتساعد على تفسير القرآن، كما أن دراسة الظروف التاريخية في تلك الحقبة تسهل من فهمه لأولئك الذين نزل عليهم القرآن». اهـ.
كان العصر الحديث وقد اتصل فيه الشرق المستعمر بالغرب المستعمر يلقي مفاهيم جديدة، ويطرح موضوعات متعددة تشكل عبئا على عاتق العلماء ذلك أن الاستعمار بجناحيه التبشير والاستشراق يبذل محاولات كثيرة هدفها قطع الصلة بين المسلمين وبين تراثهم، وبخاصة القرآن والسنة، وقد حبّذ لذلك كثيرا ممن تشربوا ثقافته، وفتنوا بقوته، وما أعظم الفرق بين نفسيتين: نفسية الضعيف المستهدف، ونفسية القوي المستبد، وكان هذا يتطلب من ذوي الغيرة أن ينبهوا المسلمين إلى هذه المخاطر لذلك قام هؤلاء العلماء كي ينبهوا المسلمين إلى هذه المخاطر، وليذكروهم أن في دينهم بعامة وكتابهم بخاصة أسس المدينة الفاضلة.
الاسلام لا يكبو ولا يخبو
كانت مهمة هؤلاء أن يوقظوا المسلمين وليس كما قالت الموسوعة لينعشوا الإسلام من كبوته، فالإسلام في مثله ومبادئه لا يكبو ولا يخبو، وكان في مقدمة هؤلاء الإمام محمد عبده رحمه لله، فقد حاول أن يفسر القرآن تفسيرا يوافق أسلوبه روح العصر، وينسجم مع المثقفين الجدد، ولكن الشيخ لم يحاول يوما ما أن يتكلف ليثبت أن المخترعات الحديثة، والنظريات الجديدة موجودة كلها في القرآن ذلك أمر لم يكن من منهج الشيخ، وإنما كان كل همه وهم رجال مدرسته من بعده أن ينبهوا المسلمين إلى سنن الله في هذا المجتمع البشري، والتي شرحها القرآن شرحا وافيا، صحيح بذلت بعض المحاولات فيما بعد لتفسير القرآن تفسيرا علميا، ولقد وقفت مدرسة الشيخ من هذه المحاولات موقف المنكر والمستنكر في الغالب، يظهر لنا ذلك في موقف الشيخ رشيد رضا صاحب «المنار» من تفسيرات الشيخ طنطاوي جوهري رحمهما الله.(1/243)
الامام محمد عبده وتفسيره للجن
لقد حاول الشيخ محمد عبده ومدرسته، أن يبينوا للمسلمين أن القرآن كتاب هداية، ولا يمنع هذا أن تكون فيه إشارات علمية تنسجم مع حقائق العلم الثابتة، ولكن دون تكلف ودون التواء.
أما ما جاء في الموسوعة من تفسير الجن بالميكروبات، ومن تفسير قوله:
{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللََّهِ} بنظرية داروين فهو قول تعوزه الدقة، ويتطلب مناقشة وتصحيحا.
فأولا: إن أمر الجن لا يرتاب فيه مسلم، فهناك عالم الإنس وعالم الجنّ، وكل ما قاله الشيخ إننا لا يجب أن ننكر وجود الجن ونجحد الاعتراف بهذا العالم الخفي عنا لعدم رؤيتنا له، ومثّل لذلك بالميكروبات، فإنها رغم وجودها منذ القدم إلا أنها لم تكتشف إلا في عصر متأخر، أيكون عدم معرفة الناس لها قبل اكتشافها دليلا على عدم وجودها؟! هذا ما أراد أن يقوله الشيخ، وهو كما يظهر لنا إقامة للحجة والدليل على وجود الجنّ، وليس معناه أن الشيخ يفسر الجن بالميكروب.
وأما ثانيا: فإن الشيخ لم يفسر قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللََّهِ} بنظرية داروين، وهذا لم يخطر ببال الشيخ أبدا، ولم يخطر ببال غيره كذلك، كل الذي قاله الشيخ رشيد رضا في «تفسير المنار» عند تفسير قوله سبحانه: {وَلَوْلََا دَفْعُ اللََّهِ النََّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}
[البقرة: 251]، وهي تلي الآية السابقة قال: «دفع الله الناس بعضهم ببعض من السنة العامة وهو ما يعبر عنه علماء الحكمة في هذا العصر بتنازع البقاء، ويقولون إن الحرب طبيعة في البشر لأنها من فروع سنة تنازع البقاء العامة.
وأنت ترى أن قوله تعالى: {وَلَوْلََا دَفْعُ اللََّهِ النََّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} ليس نصا فيما يكون بالحرب والقتال خاصة، بل هو عام لكل لنوع من أنواع التنازع بين الناس الذي يقتضي المدافعة والمغالبة، ويظن بعض المتطفلين على علم السنن في الاجتماع البشري أن تنازع البقاء الذي يقولون إنه
سنة عامة هو من أثرة الماديين في هذا العصر، وإنه جور وظلم هم الواضعون له والحاكمون به، وإنه مخالف لهدى الدين، ولو عرف من يقولون هذا معنى الإنسان أو لو عرفوا أنفسهم، أو لو فهموا هذه الآية وما في معناها من سورة الحج لما قالوا ما قالوا.(1/244)
وأنت ترى أن قوله تعالى: {وَلَوْلََا دَفْعُ اللََّهِ النََّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} ليس نصا فيما يكون بالحرب والقتال خاصة، بل هو عام لكل لنوع من أنواع التنازع بين الناس الذي يقتضي المدافعة والمغالبة، ويظن بعض المتطفلين على علم السنن في الاجتماع البشري أن تنازع البقاء الذي يقولون إنه
سنة عامة هو من أثرة الماديين في هذا العصر، وإنه جور وظلم هم الواضعون له والحاكمون به، وإنه مخالف لهدى الدين، ولو عرف من يقولون هذا معنى الإنسان أو لو عرفوا أنفسهم، أو لو فهموا هذه الآية وما في معناها من سورة الحج لما قالوا ما قالوا.
قوله تعالى: {لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} يؤيده السنة التي يعبر عنها علماء الاجتماع بالانتخاب الطبيعي أو بقاء الأمثل، ووجه ذلك جعل هذا من لوازم ما قبله، فإنه تعالى يقول إن ما فطر عليه الناس من مدافعة الحق، وبقاء الصلاح، ويعزز ذلك قوله تعالى في بيان حكمة الإذن للمسلمين بالقتال في سورة الحج:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقََاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللََّهَ عَلى ََ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيََارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلََّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللََّهُ وَلَوْلََا دَفْعُ اللََّهِ النََّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوََامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوََاتٌ وَمَسََاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللََّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللََّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللََّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنََّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقََامُوا الصَّلََاةَ وَآتَوُا الزَّكََاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلََّهِ عََاقِبَةُ الْأُمُورِ} (41) [الحج: 4139]، فهذا إرشاد إلى تنازع البقاء والدفاع عن الحق، وإنه ينتهي ببقاء الأمثل وحفظ الأفضل.
ومما يدل على هذه القاعدة من القرآن المجيد قوله تعالى في سورة الرعد:
{أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَسََالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهََا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رََابِياً وَمِمََّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النََّارِ ابْتِغََاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتََاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذََلِكَ يَضْرِبُ اللََّهُ الْحَقَّ وَالْبََاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفََاءً وَأَمََّا مََا يَنْفَعُ النََّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذََلِكَ يَضْرِبُ اللََّهُ الْأَمْثََالَ} [الرعد: 17]، فهو يفيد أن سيول الحوادث ونيران التنازع تقذف زبد الباطل الضار في الاجتماع وتدفعه وتبقي إبليز (1) الحق النافع الذي ينمو فيه الغمر، وإبريز (2) المصلحة التي يتحلى بها الإنسان، وهناك آيات أخرى في أن الحق يزهق الباطل، وسيأتي بيان ذلك ودفع
__________
(1) الإبليز: هو الطين الذي يأتي به النيل في فيضانه وهو خاص أريد به العام.
(2) الإبريز: الذهب الخالص المصفى.(1/245)
الشبه عنه في تفسيرها إن أمهلنا الزمان والله المستعان» (1).
هذا ما قاله الشيخ رشيد في «تفسير المنار»، فسبحان الله أيكون هذا تفسيرا للآية بنظرية داروين؟! أم هو في الحقيقة بيان لهداية القرآن وإرشاد للمسلمين لهذه السنن الكونية التي أرشد إليها القرآن، وردّ حاسم حازم على أولئك المفتونين بنظريات الغرب وفلسفته الذين يزعمون ويدّعون بأن هذه الأمور والقضايا ليست إلا مأخوذة عن الغرب وفلاسفته؟!
إن ما قاله صاحب «المنار» يناقض تماما ما أرادت الموسوعة البريطانية أن تثبته.
أما العالم الهندي الذي ذكرته الموسوعة فهو مولانا أبو الكلام أزاد، الذي كان وزيرا للتعليم في الهند، وهو من رجال حزب المؤتمر، ولقد حاول هذا العالم تفسير القرآن تفسيرا يقوم على دراسة الأسباب القريبة والبعيدة للنص، وهي دارسة البيئة وما يتصل بها، وأيا ما كان الأمر، فإن التفسيرات الحديثة للقرآن رغم ما نجده في بعضها من تكلف، إلا أن أكثرها كان امتدادا لثروة النص القرآني، فالقرآن لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، وفيه الجدّة الدائمة، كيف لا وهو هدى للناس ودعوة مفتوحة للعلم والعلماء، ولا يتناقض كغيره مع أي مسلمة من مسلمات العلم، وهذا لا ندعيه ونزعمه لأننا مسلمون، ولكنها الحقيقة، ونرشد القارئ إلى كتاب: «القرآن والكتب المقدسة». وسيظل القرآن كذلك دعوة إنسانية لا يفرق بين الشعوب، ولا يتعارض مع مسلمات العقل والعلم، لا يظلم جانبا من جوانب الإنسان والحياة على حساب جانب آخر مصدقا لما بين يديه من الكتب، ومهيمنا عليها، كرم الإنسان: {* وَلَقَدْ كَرَّمْنََا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:
70]. ودعاه إلى النظر للإفادة من هذا الكون المسخر له أرضا وسماء: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13].
__________
(1) «تفسير المنار» (2: 494).(1/246)
الفصل الثامن التّرجمات ما جاء في الموسوعة
جاء في الموسوعة: «أنزل القرآن على محمد ككتاب عربي أو قرآن عربي، ليعطي العرب كتابا مقدسا بلغتهم على غرار الكتب المقدسة التي نزلت على المسيحيين، واليهود. وكما أشرنا فإن القرآن قد فاق كل ما كتب باللغة العربية.
فهو في الحقيقة المعجزة التي لا يمكن تقليدها، ولذلك فإنه يعتبر أنه ليس من المناسب ترجمة القرآن، إن القرآن يتلى بالعربية في أقطار لغتها ليست بالعربية لذا فقد ظهرت ترجمات للقرآن للغات التركية، أردو، والإنجليزية، حيث ظهرت الترجمة الإنجليزية أثناء الحركة الأحمدية والتي أسسها مرزا غلام أحمد سنة 1889م في بنجاب الهند، وهذه الترجمات تعد توضيحا، ولا يمكن استعمالها لأغراض تعبدية.
لقد طبع القرآن باللغة العربية أول ما طبع في روما سنة 1530م، ولكن الطبعة لم توزع، ثم طبع سنة 1694م في هامبورغ من قبل هنكلمان، ثم ظهرت طبعات كثيرة في أوروبا ثم طبع سنة 1834م بواسطة فلوجل وكانت من أفضل الطبعات، ومن هذه الطبعة أخذ المستشرقون معلوماتهم عن القرآن، وتطبع اليوم طبعات كثيرة في البلدان الإسلامية وتشتهر اليوم بين العلماء الغربيين طبعة مصرية.
إن أول ترجمة لاتينية للقرآن كانت سنة 1143م، وأول ترجمة فرنسية سنة 1647م ثم ترجمت للإنجليزية سنة 1649م. لقد ترجم القرآن إلى عدة لغات
أوروبية متعددة، إلا أن هذه الترجمات كلها جافة في أسلوبها، وبعيدة عن المعاني الحقيقية للقرآن». اهـ.(1/247)
إن أول ترجمة لاتينية للقرآن كانت سنة 1143م، وأول ترجمة فرنسية سنة 1647م ثم ترجمت للإنجليزية سنة 1649م. لقد ترجم القرآن إلى عدة لغات
أوروبية متعددة، إلا أن هذه الترجمات كلها جافة في أسلوبها، وبعيدة عن المعاني الحقيقية للقرآن». اهـ.
لا نجد أمرا ذا بال نعلق عليه في هذا الفصل، فالقرآن بأسلوبه العربي لا يمكن لترجمة ما مهما كانت دقيقة أن تلم بأغراضه جميعها، وأن تعين على فهمه فهما دقيقا، ذلك أن للقرآن معاني أولية، وهي معاني كلماته وجمله، ولكن هناك معاني ثانية وهذه المعاني تؤخذ من نظمه البديع، فتقديم كلمة في آية، وتأخيرها في آية أخرى يعطي معنى ثانيا غير المعنى الذي تعطيه الألفاظ.
مثال ذلك: هذه الآيات:
1 {الْحَمْدُ لِلََّهِ} [الفاتحة: 2]، وهناك آية: {فَلِلََّهِ الْحَمْدُ} [الجاثية: 36]، إن تقديم الحمد في الآية الأولى يعطي معنى غير المعنى الذي تعطيه الآية الثانية التي أخر فيها لفظ الحمد.
2 {إِنَّ وَلِيِّيَ اللََّهُ} [الأعراف: 196]، وفي آية أخرى: {اللََّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}
[البقرة: 257] فتقديم اسم الجلالة في الآية الثانية، وتأخير لفظ ولي يعطي معنى غير الذي تعطيه الآية الأولى.
3 {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ} [النمل: 79] و {وَعَلَى اللََّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (122) [آل عمران: 122] كل تعطي معنى غير الذي تعطيه الأخرى.
4 {لِتَكُونُوا شُهَدََاءَ عَلَى النََّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143]، كل من هاتين الجملتين لها معنى خاص بها، لأن كلمة الشهداء تقدمت في الجملة الأولى، وكلمة شهيد تأخرت في الجملة الثانية.
5 {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 171]، وفي آية أخرى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ عَلى ََ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا} [الإسراء: 97].(1/248)
6 {كُونُوا قَوََّامِينَ لِلََّهِ شُهَدََاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8]، وفي آية أخرى: {كُونُوا قَوََّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدََاءَ لِلََّهِ} [النساء: 135]، فتأخير كلمة وتقديمها في الثانية دليل على تغايرهما في المعنى.
وقد يكون هذا المعنى الثاني من وضع آية بعد آية. ولا نود أن نسترسل في هذا الموضوع فهو موضوع متشعب الأطراف، ولكننا نريد أن نثبت أن ترجمة القرآن الحرفية غير ممكنة، يمكن أن تكون هناك ترجمة لمعاني القرآن، ولكن ينبغي أن تكون ترجمة أمينة دقيقة، والحق أن أكثر ترجمات القرآن كانت تعوزها الأمانة والدقة (1).
أما الأحمدية القاديانية فلا يمكن أن يعوّل على ترجمتها للقرآن ذلك لأن هناك خلافات أساسية جوهرية بينهم وبين المسلمين، وهي فرقة نشأت في ظروف سياسية غير مجهولة.
وبالجملة فمن الصعب أن نجد ترجمة صحيحة لمعاني القرآن رغم كثرتها، سواء أكانت هذه الترجمات تامة للقرآن كله أم كانت لبعض أجزاء وسور منه، ولكن يظهر أن هناك ترجمات في السنين المتأخرة أشرف عليها جماعات من المسلمين، ومن المعتدلين من غيرهم، وبخاصة بعد أن بدأ الغرب يحاول نتيجة صيحات متعددة من بعض المنصفين أن يغير نظرته الحاقدة إلى القرآن، وموقفه العدائي من الإسلام، وبخاصة بعد وثيقة الفاتيكان التي أشرنا إليها في مقدمة هذا الكتاب.
إن القرآن العربي هو الذي يمكن أن يتعبد به المسلمون، ونتيجة لهذا وجدنا كثيرين من غير العرب يبرعون في هذه العربية، ويقدمون لها خدمات جلّى.
__________
(1) راجع مقدمة كتاب «القرآن، تدوينه» لبلاشير.(1/249)
وبعد، فتلك هي الفصول التي سجلت في الموسوعة البريطانية، ونرجو أن نكون قد وفينا ما التزمنا به من معالجة دقيقة منصفة، هادفة غير هادمة، هادئة غير هادرة. والحقيقة التي لا بد أن نسجلها هنا: هي أن كل موضوع من الموضوعات التي عرضنا لها حري أن يكون له مؤلف خاص، وفعلا فإن كثيرا من الموضوعات كتبت فيها مؤلفات، وينتج عن هذه الحقيقة حقيقة أخرى، وهي أننا كنا مضطرين إلى أن نوجز ما استطعنا، وذلك لتنوع الموضوعات التي جابهتنا، وإن كانت هذه الموضوعات في خطورتها ليست سواء.
إننا نرجو أن يكون هذا الكتاب فاتحة لأبحاث تليه من أجل إحقاق الحق، والدفاع عن الحقيقة، كما نرجو ما رجوناه من قبل أن يهيئ الله له من يترجمه إلى لغة الموسوعة التي ناقشها هذا البحث، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
وأخيرا فأنا لا أبرئ نفسي من زلة قدم أو هفوة قلم، ولكن الحقّ قصدت إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنبت، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *
الترجمة العلمية الدقيقة للنصّ الذي تم نقده من الموسوعة البريطانية، وفقا لآخر إصدار لها (وهو الطبعة الثالثة عشرة)(1/250)
* * *
الترجمة العلمية الدقيقة للنصّ الذي تم نقده من الموسوعة البريطانية، وفقا لآخر إصدار لها (وهو الطبعة الثالثة عشرة)
قام بهذه الترجمة وتحريرها الأستاذ مقران گزّو جزاه الله خيرا(1/251)
قام بهذه الترجمة وتحريرها الأستاذ مقران گزّو جزاه الله خيرا
مادة القرآن الكريم في الموسوعة البريطانية
وصف القرآن:
طول القرآن هو طول العهد الجديد تقريبا وتيسيرا لقراءته في شهر رمضان المقدّس فقد تمّ تقسيمه إلى ثلاثين جزءا، بحيث يقرأ جزء واحد في كلّ يوم. ولكن التقسيم الرئيسي للقرآن هو تقسيمه إلى 114فصل تسمّى سورا، وهذه السور متفاوتة جدا في طولها. فباستثناء السورة الأولى، المسماة الفاتحة وهي دعاء قصير، فإنّ ترتيب السور بشكل عام هو بحسب طولها، بحيث أنّ السورتين الأولتين هما أطول السور، بينما السورتان الأخيرتان هما أقصرها. وبما أنّ السور الطويلة جاءت في الفترة الأخيرة من نشاط محمّد فإنّ نتيجة هذا الترتيب هو أنّ السور القديمة توجد عموما في نهاية الكتاب، بينما توجد السور الأقرب عهدا في بدايته.
في النسخة المقبولة من القرآن والمتداولة اليوم كلّ سورة تشتمل على عنوان يتضمن العناصر التالية:
(1) اسم السورة وهو عادة مشتقّ من إحدى الكلمات البارزة في السورة نفسها كالبقرة أو النحل أو الشعراء، ولكن اسم السورة لا يدلّ عادة على محتوى الفصل ككلّ.
(2) البسملة.
(3) إشارة إلى كون السورة مكيّة أو مدنية وعدد آياتها.
(4) في بعض الحالات إدراج حرف أو أكثر من الحروف المقطّعة، ومعنى هذه الحروف لم يوضّح بصورة تشفي الغليل، ولكن الظنّ أنّها رموز لبعض الكلمات المختصرة، أو أنّها تشير إلى مجموعة من السور، أو أنّ لها معنى باطنيا.(1/253)
تسمّى أبيات القرآن آيات (جمع. آية، أي: علامات) وهي متفاوتة جدا في طولها، فالآيات الأقصر توجد غالبا في السور الأوائل. وأسلوب وحي محمّد في هذه السور الأوائل قريب من السّجع الذي كان يستعمله كهنة زمانه. ولكن أسلوب السّجع قلّ نسبيا عند ما أصبحت الآيات تعالج أمورا ظرفية وباتت أطول تدريجيا، وهناك أيضا تغيير في الأسلوب اللّغوي، إذ تميّزت السور الأوائل بالإيجاز والتعابير الحيّة والقوّة الشعرية، بينما نجد أن السور الأواخر أصبحت مفصّلة ومعقّدة، وفي بعض الأحيان غير مثيرة في مظهرها ولغتها، ونتيجة لهذا فإنّه من الصّعب أحيانا تقرير ما إذا كان السّجع مثبتا للدلالة على نهاية الآية أم لا، وهذا بدوره أدّى إلى الاختلاف في ترقيم الآيات (على سبيل المثال بين الطبعة الأوروبية التي استعملها الباحثون الأوروبيون منذ مدّة طويلة والطبعة المصرية الرسمية التي حلّت محلّها في معظم الأعمال الأكاديمية).
يبدو القرآن عموما وكأنّه كلام الله الذي غالبا ما يتكلّم بضمير الجمع «نحن»، وعند ما يخاطب محمّد بني قومه يمهّد لكلامه بفعل الأمر «قل»، مؤكدا أنّه إنّما يتكلّم استجابة لأمر إلهيّ وحسب. وفي بعض الأحيان يبدو أسلوب الخطاب القرآني دراماتيكيا، حيث تذكر اعتراضات خصوم محمّد ثم يردّ عليها ببراهين وأدلّة مقابلة. أمّا المقاطع التي تتعرض للقصص فهي مقتضبة غالبا، وعند ما تقع الإشارة إلى قصص الأنبياء والأشخاص المذكورين في الكتاب المقدّس فإنّ ذلك يتمّ وكأنّهم معروفون لدى المخاطبين. فالتركيز ليس على القصة المذكورة نفسها بقدر ما هي على فوائدها التعليمية.
على أنّنا عند التحليل الدقيق لا نجد إلّا عددا قليلا من السور المتّسقة في أسلوبها ومحتواها، وأطول نصّ يعالج موضوعا واحدا هو سورة 12التي تروي قصّة يوسف، وهي تختلف في كثير من التفاصيل عن نفس القصّة كما هي مذكورة في الكتاب المقدّس، وإن كانت هذه الاختلافات، وفقا للمؤرخين غير
المسلمين، مأخوذة من مصادر يهودية. وإذا استثنينا هذه السورة، فإنّ السور الأطول تحتوي على عدّة مقاطع موجزة تعالج عددا متنوّعا من القضايا، وهكذا لا يبدو القرآن بحثا مصمّما أو منظما أو مصوغا وفق ترتيب مترابط، خاصّة وأنّ بعض العبارات المفضّلة مثل: {إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ،} {وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ،}
{وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ،} لها علاقة واهية أو لا علاقة على الإطلاق بالسياق الذي يليها. والواقع أن بعض المتشكّكين يدّعون أنّ هذه العبارات إنّما أضيفت لإحداث السّجع المطلوب. وكثيرا ما يتمّ التركيز على أنّ محمّد قد جاء إلى قومه بقرآن عربيّ، أي كتاب أو مجموعة من القراءات بلغة العرب أنفسهم، يمكن مقارنته بالكتب المنزّلة على اليهود والمسيحيين. إنّ مفردات القرآن ذات أصول عربية في أغلبيتها الساحقة، ولكن توجد فيه بعض الكلمات غير العربية، وهذه الكلمات مستعارة غالبا من اللغتين العبرية والسريانية، وهذه شهادة على ما يدين به محمّد لليهودية والمسيحية، والكلمات المستعارة هذه كلمات فنّية أساسا، مثل كلمة «إنجيل» (من إفانجيليون الإغريقية)، و «التوراة» (أو القانون) اليهودية، و «إبليس» (من ديابولوس الإغريقية). كما نجد أيضا ترجمات أو تكييفات لبعض الكلمات اللاهوتية مثل كلمة «أمانة» (وهي عبرية أو آرامية)، «صلاة» (من المحتمل أن تكون سريانية). ويقابل المسلمون مثل هذه التأويلات بكثير من الشكّ إذ أنّ المذهب المعتمد هو أنّ لغة القرآن عربية قحّة.(1/254)
على أنّنا عند التحليل الدقيق لا نجد إلّا عددا قليلا من السور المتّسقة في أسلوبها ومحتواها، وأطول نصّ يعالج موضوعا واحدا هو سورة 12التي تروي قصّة يوسف، وهي تختلف في كثير من التفاصيل عن نفس القصّة كما هي مذكورة في الكتاب المقدّس، وإن كانت هذه الاختلافات، وفقا للمؤرخين غير
المسلمين، مأخوذة من مصادر يهودية. وإذا استثنينا هذه السورة، فإنّ السور الأطول تحتوي على عدّة مقاطع موجزة تعالج عددا متنوّعا من القضايا، وهكذا لا يبدو القرآن بحثا مصمّما أو منظما أو مصوغا وفق ترتيب مترابط، خاصّة وأنّ بعض العبارات المفضّلة مثل: {إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ،} {وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ،}
{وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ،} لها علاقة واهية أو لا علاقة على الإطلاق بالسياق الذي يليها. والواقع أن بعض المتشكّكين يدّعون أنّ هذه العبارات إنّما أضيفت لإحداث السّجع المطلوب. وكثيرا ما يتمّ التركيز على أنّ محمّد قد جاء إلى قومه بقرآن عربيّ، أي كتاب أو مجموعة من القراءات بلغة العرب أنفسهم، يمكن مقارنته بالكتب المنزّلة على اليهود والمسيحيين. إنّ مفردات القرآن ذات أصول عربية في أغلبيتها الساحقة، ولكن توجد فيه بعض الكلمات غير العربية، وهذه الكلمات مستعارة غالبا من اللغتين العبرية والسريانية، وهذه شهادة على ما يدين به محمّد لليهودية والمسيحية، والكلمات المستعارة هذه كلمات فنّية أساسا، مثل كلمة «إنجيل» (من إفانجيليون الإغريقية)، و «التوراة» (أو القانون) اليهودية، و «إبليس» (من ديابولوس الإغريقية). كما نجد أيضا ترجمات أو تكييفات لبعض الكلمات اللاهوتية مثل كلمة «أمانة» (وهي عبرية أو آرامية)، «صلاة» (من المحتمل أن تكون سريانية). ويقابل المسلمون مثل هذه التأويلات بكثير من الشكّ إذ أنّ المذهب المعتمد هو أنّ لغة القرآن عربية قحّة.
تعاليم القرآن:
الله:
إنّ عقيدة القرآن حول الله توحيدية صارمة، فالله واحد أحد، لا شريك له ولا ندّ. ويرفض القرآن بشكل قاطع عقيدة التثليث وهي إيمان المسيحيين أنّ الله مكوّن من ثلاثة أقانيم ضمن جوهر واحد.(1/255)
كما يعتقد المسلمون أنّه لا توجد أيّ وسائط بين الله والخلق الذين أوجدهم الله بأمره المحض «كن». والله وفقا لعقيدة المسلمين لا يحلّ في شيء على الرغم من وجوده في كلّ مكان، فهو قيّوم الكون وخالقه الوحيد، وكلّ مخلوق من مخلوقات هذا الكون يشهد بوحدانيته وربوبيته، ولكن الله عادل ورحيم، فعدله يضمن النظام في الخلق حيث لا يوجد أي شيء في غير محلّه بينما رحمته لا حدّ لها فهي تسع كلّ شيء. وينظر المسلمون إلى خلق الله للكون وإحكام صنعه فيه على أنّه نابع من رحمته الأصلية وبسبب هذه الرحمة نجد أنّ كلّ شيء يسبّح بحمده. ثمّ إنّ إله القرآن الذي يوصف بالجلال والهيمنة على خلقه إله شخصيّ أيضا فهو أقرب للإنسان من حبل الوريد، كما أنّه يجيب المضطر أو المحتاج إذا دعياه، وهو فوق ذلك كلّه إله الهداية الذي يهدي كلّ شيء وخاصّة الإنسان الى الطريق الأقوم، أو «الصراط المستقيم».
على أنّ صورة الإله الذي تتداخل فيه صفات القدرة والعدل والرحمة تمتّ بصلة للتراث اليهودي المسيحي الذي استمدّت منه مع بعض التعديلات كما أنّها تمتّ بصلة لبعض تصوّرات الجزيرة العربية في العصر الجاهلي والتي ردّت عليها ردّا فعّالا. فقد كان عرب الجاهلية يؤمنون إيمانا أعمى بقدر حتميّ ليس للإنسان فيه أيّ تحكّم، فجاء القرآن واستبدل هذا القدر الجبّار والخالي من المعنى بإله جبّار ولكنّه يتصف بالرحمة والحكمة. وقد عمل القرآن، محمولا بتوحيده الذي لا يساوم، على شجب كلّ أنواع الوثنية، كما قضى على كلّ الأرباب والآلهة التي كان العرب يعبدونها في أحرامهم، وأهمّ هذه الأحرام الحرم المكّي في مكّة نفسها.
الكون:
يركّز القرآن مرارا على نظام الكون وصنعه للدلالة على وجود الله، فالطبيعة خالية من الفطور أو العطب. ويفسّر هذا النظام من حيث أنّ كلّ مخلوق من
المخلوقات قد منح طبيعة معرّفة ومحدّدة تجعله ينساب في نسق معيّن. وهذه الطبيعة تفرض حدودا أيضا على الرغم من أنّها تسمح لكل مخلوق من المخلوقات بتأدية وظيفته ضمن كلّ أكبر. وفكرة محدودية كلّ شيء من أكثر النقاط ثباتا في اللاهوت وأصل الكون كما هي مثبتة في القرآن. وعليه فإنّ الكون يرى وكأنّه مستقلّ بذاته، بمعنى أنّ كلّ شيء له قوانين تصرّف ذاتية ولكن من دون أن تكون مطلقة، وذلك لأنّ أنساق التصرّف من منح الله، وهي علاوة على ذلك محدودة {إِنََّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنََاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]. وهكذا فإنّ كلّ مخلوق من المخلوقات محدود وله قدر معين وهو بالتالي يعتمد على الله. إنّ الله وحده هو الذي يحكم في السماء والأرض دون منافسة، وهو وحده الذي يتعالى عن المحدودية، الغنيّ الصّمد.(1/256)
يركّز القرآن مرارا على نظام الكون وصنعه للدلالة على وجود الله، فالطبيعة خالية من الفطور أو العطب. ويفسّر هذا النظام من حيث أنّ كلّ مخلوق من
المخلوقات قد منح طبيعة معرّفة ومحدّدة تجعله ينساب في نسق معيّن. وهذه الطبيعة تفرض حدودا أيضا على الرغم من أنّها تسمح لكل مخلوق من المخلوقات بتأدية وظيفته ضمن كلّ أكبر. وفكرة محدودية كلّ شيء من أكثر النقاط ثباتا في اللاهوت وأصل الكون كما هي مثبتة في القرآن. وعليه فإنّ الكون يرى وكأنّه مستقلّ بذاته، بمعنى أنّ كلّ شيء له قوانين تصرّف ذاتية ولكن من دون أن تكون مطلقة، وذلك لأنّ أنساق التصرّف من منح الله، وهي علاوة على ذلك محدودة {إِنََّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنََاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]. وهكذا فإنّ كلّ مخلوق من المخلوقات محدود وله قدر معين وهو بالتالي يعتمد على الله. إنّ الله وحده هو الذي يحكم في السماء والأرض دون منافسة، وهو وحده الذي يتعالى عن المحدودية، الغنيّ الصّمد.
الإنسان:
وفقا للقرآن، يبدو أنّ الله قد خلق جنسين من المخلوقات وهما الإنس والجنّ خلق الجنس الأوّل من طين وخلق الجنس الثاني من نار. ولكن القرآن لا يخبرنا الشيء الكثير عن الجنّ، بالرغم من إلماعه إلى أنّهم ذوو عقول وتكليف وأنّهم أسرع لارتكاب الشرّ من الإنسان، فالقرآن الذي يصف نفسه أنّه هداية للجنس البشري يهتمّ بشكل رئيسي بالإنسان، ويقبل القرآن قصة سقوط آدم (الإنسان الأوّل) كما يرويها التراث اليهودي المسيحي، ولكن القرآن يعلن أنّ الله قد غفر لآدم معصيته وهو لا يعتبر هذه المعصية خطيئة أصلية (على النّقيض ممّا هو مفهوم في تعاليم المسيحية).
ففي قصة خلق الإنسان عند ما اعترضت الملائكة على خلق الإنسان {مَنْ يُفْسِدُ فِيهََا وَيَسْفِكُ الدِّمََاءَ} [البقرة: 30] امتحنوا وآدم لإثبات من هو أعلم فخسروا هذا الامتحان، وعليه فإنّ القرآن يعلن أنّ الإنسان أشرف المخلوقات، إذ هو المخلوق الذي تحمّل الأمانة في حين أبت باقي المخلوقات
تحمّلها، ويؤكد القرآن على أنّ كلّ الطبيعة مسخّرة للإنسان، فلا شيء في مجموع هذه الخليقة قد خلق دون غرض، وما خلق الإنسان لعبا، إذ أنّ الغرض من خلقه هو خدمة الله والتسليم لأمره.(1/257)
ففي قصة خلق الإنسان عند ما اعترضت الملائكة على خلق الإنسان {مَنْ يُفْسِدُ فِيهََا وَيَسْفِكُ الدِّمََاءَ} [البقرة: 30] امتحنوا وآدم لإثبات من هو أعلم فخسروا هذا الامتحان، وعليه فإنّ القرآن يعلن أنّ الإنسان أشرف المخلوقات، إذ هو المخلوق الذي تحمّل الأمانة في حين أبت باقي المخلوقات
تحمّلها، ويؤكد القرآن على أنّ كلّ الطبيعة مسخّرة للإنسان، فلا شيء في مجموع هذه الخليقة قد خلق دون غرض، وما خلق الإنسان لعبا، إذ أنّ الغرض من خلقه هو خدمة الله والتسليم لأمره.
وبالرغم من هذا المقام السامي فإنّ القرآن يذكر أنّ الطبيعة البشرية هشّة ومتداعية. فبينما نجد أنّ كلّ شيء في الكون له طبيعة محدودة وكلّ مخلوق يعترف بمحدوديته وعدم اكتفائه بنفسه، يرى الإنسان على أنه متمرّد ومتكبّر ومكتف بنفسه، وهكذا يعتبر الكبر المعصية الأساسية للإنسان، إذ بسبب عدم اعترافه بالحدود الكامنة في نشأته الخلقية أصبح متّهما بالشرك وانتهاك وحدانية الله، ومن أجل ذلك فإنّ الإيمان الحقيقي يكمن في الإيمان النقيّ بوحدانية الله وفي استسلام الإنسان للمشيئة الإلهية.
الشيطان والمعصية والتوبة:
أرسل الله رسلا وأنبياء إلى النّاس من أجل تبليغ حقيقة التوحيد الإلهي، إذ أنّ النّاس عرضة للنسيان بسبب ضعف طبيعتهم، بل هم عرضة لرفض التوحيد الإلهي بسبب إغواء إبليس لهم، فوفقا لتعاليم القرآن فإنّ المخلوق الذي أصبح يدعى الشيطان (أو إبليس) كان يحتل قبل ذلك مقاما عاليا ولكنّه تعرّض لسخط الله بسبب عصيانه عند ما رفض أن يكرّم آدم لمّا أمر هو والملائكة بذلك. ومنذ ذلك الحين ووظيفته هي إغراء الإنسان لارتكاب المعاصي والآثام، فالشيطان إذن معاصر للإنسان، ويفسّر القرآن معصية الشيطان نفسها على أنّها معصية كبر، ولن تتوقف حيل الشيطان إلّا يوم القيامة.
ووفقا لعرض القرآن فقد كان سجلّ قبول الإنسان لرسالات الأنبياء كئيبا، إنّ الكون كلّه مليء بالآيات الدالّة على الله كما تعتبر النّفس الإنسانية نفسها شاهدا على وحدانية وبركة الله، وقد دأب رسل الله، عبر التاريخ، على دعوة
الإنسان للعودة إلى الله، ولكن القليل من النّاس من قبل الحقّ، في حين لم يؤمن أغلبهم فأصبحوا كافرين وعند ما يسترسل الإنسان في كفره فإنّ الله يختم على قلبه، ولكن بإمكان مرتكب المعصية التوبة إلى الله وإنقاذ نفسه باعتناقه الصّادق للحقّ، إذ لا توجد أيّة نقطة يمكن اعتبارها نقطة لا عودة، والله مستعدّ وقابل دائما للعفو، والتوبة النّصوح من شأنها محو كلّ الذنوب وإعادة الإنسان إلى حالة الصفاء التي ولد عليها.(1/258)
ووفقا لعرض القرآن فقد كان سجلّ قبول الإنسان لرسالات الأنبياء كئيبا، إنّ الكون كلّه مليء بالآيات الدالّة على الله كما تعتبر النّفس الإنسانية نفسها شاهدا على وحدانية وبركة الله، وقد دأب رسل الله، عبر التاريخ، على دعوة
الإنسان للعودة إلى الله، ولكن القليل من النّاس من قبل الحقّ، في حين لم يؤمن أغلبهم فأصبحوا كافرين وعند ما يسترسل الإنسان في كفره فإنّ الله يختم على قلبه، ولكن بإمكان مرتكب المعصية التوبة إلى الله وإنقاذ نفسه باعتناقه الصّادق للحقّ، إذ لا توجد أيّة نقطة يمكن اعتبارها نقطة لا عودة، والله مستعدّ وقابل دائما للعفو، والتوبة النّصوح من شأنها محو كلّ الذنوب وإعادة الإنسان إلى حالة الصفاء التي ولد عليها.
النبوّة:
الأنبياء رجال اصطفاهم الله خصيصا ليكونوا رسله، والتفرقة بين الأنبياء غير مقبول، إذ يطالب القرآن الاعتراف بكلّ الرّسل من دون التفريق بينهم. ومع هذا فهم ليسوا بنفس المرتبة، إذ أنّ بعضهم تميّز بصفات هائلة من صبر واحتمال الأذى في وجه المحن، ومن بين هؤلاء الرّسل المتميّزين إبراهيم ونوح وموسى وعيسى، وتأييدا منه لصدق رسالة هؤلاء فإنّ الله غالبا ما يعهد إليهم بمعجزات، إذ أنقذ إبراهيم من النّار ونوح من الطوفان وموسى من فرعون، أمّا عيسى فإنّه إضافة إلى أنّه ولد من غير أب من العذراء مريم، أنقذه الله كذلك من الصّلب الذي كان قد دبّره له اليهود. وهكذا فإنّ اليقين بأنّ رسل الله مؤيدون في نهاية المطاف جزء لا يتجزأ من تعاليم القرآن.
ثمّ إنّ كلّ الرّسل بشر ولا يمكن أن يكونوا جزءا من الإله، فدورهم هو مجرد تلقي الوحي من الله، وإضافة إلى ذلك فإنّ الله لا يتكلم مباشرة مع أيّ إنسان، فهو إمّا أن يبعث ملكا رسولا إليه أو يسمعه صوتا أو يلهمه، والقول المقبول لدى المسلمين أنّ محمّدا هو آخر وأعظم رسول ضمن هذه السلسلة من الرّسل، إذ أنّه استوعب كلّ رسالات الرّسل السابقين، ولم يكن لديه معجزة سوى القرآن الذي لا يمكن أن يحاكيه أيّ بشر (ولكن بعد وفاة النبيّ نسب إليه المسلمون معجزات متعددة). لقد أنزل الملك جبريل القرآن على قلب محمّد،
ويصف القرآن جبريل على أنّه روح، ولكن النبيّ كان في بعض الأحيان يراه ويسمعه، ووفقا لبعض الروايات القديمة فإنّ وحي النبيّ كان يحدث وهو في حالة غشية بحيث يكون وعيه العادي معلّقا، وكان يصاحب هذه الحالة عرق شديد، كما يؤكد القرآن نفسه أنّ الوحي المنزل قد صاحبه شعور بثقل هائل:(1/259)
ثمّ إنّ كلّ الرّسل بشر ولا يمكن أن يكونوا جزءا من الإله، فدورهم هو مجرد تلقي الوحي من الله، وإضافة إلى ذلك فإنّ الله لا يتكلم مباشرة مع أيّ إنسان، فهو إمّا أن يبعث ملكا رسولا إليه أو يسمعه صوتا أو يلهمه، والقول المقبول لدى المسلمين أنّ محمّدا هو آخر وأعظم رسول ضمن هذه السلسلة من الرّسل، إذ أنّه استوعب كلّ رسالات الرّسل السابقين، ولم يكن لديه معجزة سوى القرآن الذي لا يمكن أن يحاكيه أيّ بشر (ولكن بعد وفاة النبيّ نسب إليه المسلمون معجزات متعددة). لقد أنزل الملك جبريل القرآن على قلب محمّد،
ويصف القرآن جبريل على أنّه روح، ولكن النبيّ كان في بعض الأحيان يراه ويسمعه، ووفقا لبعض الروايات القديمة فإنّ وحي النبيّ كان يحدث وهو في حالة غشية بحيث يكون وعيه العادي معلّقا، وكان يصاحب هذه الحالة عرق شديد، كما يؤكد القرآن نفسه أنّ الوحي المنزل قد صاحبه شعور بثقل هائل:
{لَوْ أَنْزَلْنََا هََذَا الْقُرْآنَ عَلى ََ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خََاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللََّهِ} [الحشر: 21].
وقد صاحب هذه الظاهرة يقين جازم بأنّ الرّسالة إنّما جاءت من الله، والقرآن يصف نفسه على أنّه نسخة من «أمّ الكتاب» الموجود في السماء والمكتوب في «لوح محفوظ»، وهذا اليقين الجازم وصل إلى حدّ أنّ القرآن ينفي نفيا قطعيا أن يكون من مصدر أرضيّ، إذ لو كان كذلك {لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} [النساء: 82].
الآخرة:
تذهب التعاليم الإسلامية إلى أنّ الناس سيحشرون يوم القيامة بعد نهاية هذا العالم وسيحاسب كلّ إنسان على عمله، ورغم أنّ القرآن يتكلّم عموما عن حساب شخصيّ إلّا أنّه توجد عدّة آيات تتحدّث عن بعث أمم متميّزة ومحاسبتهم وفقا لكتابهم المنزّل، وتبعا لهذا فإنّ القرآن يتكلّم في عدّة مقاطع عن «موت الأمم» من حيث أنّ كلّ واحدة منها لها أجل محدّد، ولكن التقييم الحقيقي سيكون بالنسبة لكلّ شخص على انفراد بغض النّظر عن المستند الذي يستند إليه في تصرّفاته.
ويستعمل القرآن في إثبات وقوع البعث دليلا أخلاقيا وحسيّا، إذ بما أنّه لا يمكن تحقيق كلّ ما يجب اقتصاصه أو استرداد كلّ الحقوق في هذه الدنيا لا بدّ من يوم حساب نهائي لتحقيق كلّ ذلك. أمّا من الناحية الحسيّة فإنّ الله الذي يتصف بالقدرة قادر على إهلاك المخلوقات وإعادتها إلى الحياة، وهذه المخلوقات محدودة وهي بالتالي معرّضة لقدرة الله اللامتناهية.(1/260)
ووفقا للتعاليم الإسلامية الصارمة فإنّه لا توجد أيّة شفاعة، إلّا أنّ الله نفسه قد يغفر لبعض المذنبين بسبب رحمته الواسعة، فأمّا الهالكون فسيحترقون في نار جهنّم، وأمّا النّاجون فسيتقلّبون في نعيم الجنّة الخالد، وإضافة إلى عذاب النّار الحسّي فإنّ الأشقياء سيحسّون بالعذاب «في قلوبهم». وبالمثل فإن السعداء سيشعرون بسعادة قصوى بسبب رضا الله عنهم إضافة إلى تنعّمهم الحسّي. ولكن التراث الإسلامي طوّر في فترة متقدّمة مفهوم الشفاعة، ولعلّ ذلك كان ردّا على عقيدة الخلاص المسيحية.
الخدمة الاجتماعية:
إنّ علاقة الله بالإنسان هي علاقة الآمر [بالمأمور]، لأنّ الغرض من وجود الإنسان، بل وكلّ المخلوقات، هو الاستسلام للمشيئة الإلهية، فبينما نجد أنّ باقي الطبيعة تطيع الله بشكل آلي، نرى أنّ الإنسان وحده هو الذي يملك الاختيار في أن يطيع أو يعصي، ومع الإيمان المتمكّن في الأعماق بوجود الشيطان فإنّ دور الإنسان يتحوّل إلى صراع أخلاقيّ وهو ما يشكّل جوهر مسعى الإنسان، ثم إنّ الاعتراف بوحدانية الله لا يتوقف على العقل وحسب بل ينجم عن ذلك مستلزمات من حيث الصّراع الأخلاقي الذي يتمثّل أساسا في تخليص الإنسان نفسه من ضيق الأفق وضيق القلب، إنّ الواجب على الإنسان أن يتحرّر من نفسه وينفق على الآخرين أحسن ما يملك.
ويعتبر مذهب الخدمة الاجتماعية من حيث تخفيف مقاساة الآخرين ومساعدة المحتاجين جزءا لا يتجزأ من التعاليم الإسلامية، إذ أنّ الصلاة والعبادات الأخرى ما هي إلا مظهر كاذب إذا لم تصاحبها خدمة اجتماعية فعالة لفائدة المحتاجين، ومن هذه الناحية نجد أنّ انتقادات القرآن للطبيعة البشرية حادّة جدا، {* إِنَّ الْإِنْسََانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذََا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} (21) [المعارج: 2119]، فالشيطان هو الذي يوسوس للإنسان أنّه سيفتقر إذا أنفق على الآخرين. وعلى
النقيض من ذلك فإنّ الله يعد من ينفق بالنّعيم حيث أنّ هذه الإنفاق قرض لله سيضاعف أكثر ممّا يجنيه النّاس من الاستثمار بالرّبا، ثمّ إنّ اختزان الأموال من دون الاعتراف بحقوق الفقراء يعرّض صاحبه يوم القيامة لأشدّ العذاب، وهو فوق ذلك من الأسباب الرئيسية لانحطاط المجتمعات في هذا العالم. وأمّا التعامل بالرّبا فهو محرّم، وجنبا لجنب مع هذا المذهب السياسي والاقتصادي الذي يعزّز رباط الإيمان تبرز فكرة مجتمع متلاحم من المؤمنين الموصوفين بأنّهم أخوة بعضهم لبعض، ويوصف المسلمون على أنّهم {أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدََاءَ عَلَى النََّاسِ} [البقرة: 143]، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنََّاسِ} الذي يتمثّل دورها في {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، كما يوجد تركيز على التعاون والتناصح بين أفراد الأمة، وكلّ من يحاول أن يضرّ بمصالح الأمّة يعاقب حتى يكون عبرة لغيره، وكلّ معارض من بين أفراد الأمّة يحارب ويقهر بالقوة، إذا تعذّر الإقناع أو التحكيم بين المتنازعين.(1/261)
ويعتبر مذهب الخدمة الاجتماعية من حيث تخفيف مقاساة الآخرين ومساعدة المحتاجين جزءا لا يتجزأ من التعاليم الإسلامية، إذ أنّ الصلاة والعبادات الأخرى ما هي إلا مظهر كاذب إذا لم تصاحبها خدمة اجتماعية فعالة لفائدة المحتاجين، ومن هذه الناحية نجد أنّ انتقادات القرآن للطبيعة البشرية حادّة جدا، {* إِنَّ الْإِنْسََانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذََا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} (21) [المعارج: 2119]، فالشيطان هو الذي يوسوس للإنسان أنّه سيفتقر إذا أنفق على الآخرين. وعلى
النقيض من ذلك فإنّ الله يعد من ينفق بالنّعيم حيث أنّ هذه الإنفاق قرض لله سيضاعف أكثر ممّا يجنيه النّاس من الاستثمار بالرّبا، ثمّ إنّ اختزان الأموال من دون الاعتراف بحقوق الفقراء يعرّض صاحبه يوم القيامة لأشدّ العذاب، وهو فوق ذلك من الأسباب الرئيسية لانحطاط المجتمعات في هذا العالم. وأمّا التعامل بالرّبا فهو محرّم، وجنبا لجنب مع هذا المذهب السياسي والاقتصادي الذي يعزّز رباط الإيمان تبرز فكرة مجتمع متلاحم من المؤمنين الموصوفين بأنّهم أخوة بعضهم لبعض، ويوصف المسلمون على أنّهم {أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدََاءَ عَلَى النََّاسِ} [البقرة: 143]، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنََّاسِ} الذي يتمثّل دورها في {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، كما يوجد تركيز على التعاون والتناصح بين أفراد الأمة، وكلّ من يحاول أن يضرّ بمصالح الأمّة يعاقب حتى يكون عبرة لغيره، وكلّ معارض من بين أفراد الأمّة يحارب ويقهر بالقوة، إذا تعذّر الإقناع أو التحكيم بين المتنازعين.
وبما أن مهمّة الأمة تكمن في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر حتى لا يكون أيّ فساد في الأرض فإنّ الجهاد هو النتيجة المنطقية، كون أنّ تركيب الأمة هو قاعدة الحكم. لقد كان الجهاد بالنسبة للأمّة الإسلامية في العهد الأوّل مفهوما دينيا، والجهاد يعني صراعا فعّالا باستخدام القوة كلّما كان ذلك ضروريا، وليس الغرض من الجهاد إدخال أناس آخرين في الإسلام ولكن بالأحرى الحصول على الهيمنة السياسية على القضايا الجماعية للمجتمع وذلك لتسييرها وفقا لمبادئ الإسلام، وأمّا اعتناق غير المسلمين للإسلام فإنّه يحدث كنتيجة ثانوية لهذه العملية وذلك عند ما تنتقل بنية الحكم إلى أيدي المسلمين، والواقع أنّه وفقا للتعاليم الإسلامية الصّرفة فإنّ إرغام الآخرين على اعتناق الإسلام بالقوّة حرام لأنّ بعد نزول القرآن أصبح الخير بيّنا كما أصبح الشرّ بيّنا فعلى الإنسان أن يختار أيّهما شاء، كما يحرم تحريما باتا إعلان الحروب من أجل الحصول على الدنيا أو السلطة أو الحكم.(1/262)
ولكن مع إقامة الإمبراطورية الإسلامية غيّر رؤساء الأمة تعاليم الجهاد، إذ أصبح شغلهم الشاغل هو تعزيز الإمبراطورية وإدارتها، فعمدوا لتأويل الجهاد على أنّه وسيلة دفاعية بدلا من كونه وسيلة توسّعية، وذهبت الطائفة الخارجية التي كانت ترفع شعار «لا حكم إلا لله» إلى ضرورة استمرار وتواصل الجهاد، ولكن أتباع هذه الطائفة أبيدوا في الحروب التي دارت بين المسلمين في القرن الثامن، وعلاوة على قدر من العدالة الاجتماعية وإقامة مثال اجتماعي قويّ أحدث محمّد إصلاحا عاما في المجتمع العربي، وخاصة من حيث حماية الضعفاء واليتامى والنساء والعبيد، وعلى الرغم من أنّ مؤسسة الرّق لم يقض عليها رسميا إلّا تحريرهم كان مشجّعا دينيا كونه من فضائل الأعمال، كما تمّ إعطاء العبيد حقوقا قانونية بما فيها حقّ شراء حريّتهم مقابل سعر يتمّ الاتفاق عليه بين السيّد والعبد بحيث يدفع بالتقسيط، والجارية التي تلد لسيّدها تنال حريّتها بشكل آلي بعد وفاة سيّدها، وحرّم كذلك وأد البنات الذي كانت تلجأ إليه بعض قبائل العرب خوفا من الفقر أو شعورا بالعار.
ولقد عمد القرآن وكذلك النبيّ في خطبة الوداع الشهيرة، قبل وفاته بقليل إلى شجب التمييز المبني على العرق أو المكانة القبلية، فكلّ الناس أبناء آدم وهم سواسية، ولا فرق بين الناس عند الله إلا بالتقوى والأعمال الصالحة، كما قضى الإسلام على عادة الثأر القبلية التي كانت تؤدي إلى قتل غير القاتل في بعض الأحيان، إذ كان يعمد إلى قتل شخص في نفس مكانة المقتول، وتمّ تعديل المثال الأخلاقي للمروءة الذي كان سائدا قبل الإسلام واستبدل بمثال أخلاقي للتقوى والورع أكثر إنسانية.(1/263)
مصادر القرآن وجمعه:
أوفقا للدين الإسلامي:
أوحي القرآن وفقا للدين الإسلامي على محمّد منجّما على فترة امتدّت أكثر من 20سنة، ففي مثل هذه المناسبات كان محمّد، حسب قولهم، في حالة نشوة أو غيبة عن الذات، وخلالها كان الملك جبرائيل يأتي إليه بالوحي، ولدى عودته لوعيه المعهود كان يتلو كلمات الوحي على من كان حاضرا من الناس، وتوجد عدة أحاديث عن أسباب نزول سورة بعينها أو جزء من سورة، وهكذا فإنّ نزول القرآن مرتبط بالأحداث المحيطة بحياة النبيّ، وحتى المصحف (النسخة) المقبول من القرآن نفسه يصنّف السور إلى مكية ومدنية.
وبالطبع فإنّ كثيرا من النّاس حفظوا كلمات الوحي عن ظهر غيب، ولكن توجد روايات مفادها أنّ محمّد قد عهد إلى غيره بكتابة ما أوحي إليه مباشرة على قطع من الورق والحجارة وجريد النّخل وعظام الكتف والأضلاع وقطع الجلد، أيّ على أيّ مادة للكتابة كانت متوفرة آنذاك، كما يعتقد المسلمون أنّ النبيّ قد أشار لكتّابه بالمكان الذي يجب أن يوضع فيه كلّ مقطع.
وبعد وفاة النبي، وخاصة بعد معركة اليمامة (633م) التي توفي فيها عدد كبير من حفّاظ القرآن، خشي المسلمون من اندثار العلم بالقرآن، وتجنبا لمثل هذه العاقبة قرروا جمع كلمات الوحي من كلّ المصادر المكتوبة ومن «صدور الرجال» كما تذهب إلى ذلك الرواية الإسلامية، ويقال أن زيد بن ثابت أحد أصحاب النبيّ قد نسخ على الورق كلّ ما تسنّى له إيجاده وسلّمه إلى الخليفة عمر، وبعد وفاة عمر بقيت النسخة عند ابنته حفصة، ويبدو أنّ نسخا من القرآن قد كتبت في مرحلة لاحقة واستعملت روايات مختلفة للقرآن في مناطق مختلفة من الإمبراطورية الإسلامية، واجتنابا منه لأيّ قراءة غير صحيحة للقرآن قام الخليفة عثمان (656644م) بتكليف زيد بن ثابت وبعض العلماء الآخرين
بمراجعة القرآن مستعينين بذلك بورقات حفصة ومقابلته على أيّ مواد متوفرة مع استشارة أولئك الذين كانوا يحفظون القرآن عن ظهر غيب، وفي حالة الشك حول نطق أيّ كلمة فقد تمّ الاتفاق على تفضيل لهجة قريش، وهي قبيلة النبيّ، وهكذا تمّ إقامة نصّ موثوق به للقرآن (وهو ما يعرف بالمصحف العثماني).(1/264)
وبعد وفاة النبي، وخاصة بعد معركة اليمامة (633م) التي توفي فيها عدد كبير من حفّاظ القرآن، خشي المسلمون من اندثار العلم بالقرآن، وتجنبا لمثل هذه العاقبة قرروا جمع كلمات الوحي من كلّ المصادر المكتوبة ومن «صدور الرجال» كما تذهب إلى ذلك الرواية الإسلامية، ويقال أن زيد بن ثابت أحد أصحاب النبيّ قد نسخ على الورق كلّ ما تسنّى له إيجاده وسلّمه إلى الخليفة عمر، وبعد وفاة عمر بقيت النسخة عند ابنته حفصة، ويبدو أنّ نسخا من القرآن قد كتبت في مرحلة لاحقة واستعملت روايات مختلفة للقرآن في مناطق مختلفة من الإمبراطورية الإسلامية، واجتنابا منه لأيّ قراءة غير صحيحة للقرآن قام الخليفة عثمان (656644م) بتكليف زيد بن ثابت وبعض العلماء الآخرين
بمراجعة القرآن مستعينين بذلك بورقات حفصة ومقابلته على أيّ مواد متوفرة مع استشارة أولئك الذين كانوا يحفظون القرآن عن ظهر غيب، وفي حالة الشك حول نطق أيّ كلمة فقد تمّ الاتفاق على تفضيل لهجة قريش، وهي قبيلة النبيّ، وهكذا تمّ إقامة نصّ موثوق به للقرآن (وهو ما يعرف بالمصحف العثماني).
وقد تكون هذه الروايات معدّلة ومغيّرة إلى حدّ ما حتى تتوافق مع بعض النظريات العقدية المتعلّقة بالقرآن، ولكنّها في عمومها تعكس الحقيقة التاريخية، إذ من الواضح أنّ وصف طريقة الوحي قد بسّط بنحو ما، فالقرآن نفسه يصرّح أنّ الله كلّم محمّدا: {وَحْياً أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مََا يَشََاءُ} [الشورى: 5250]، الكلمة الأولى «وحيا» تعني «إيعازا» أو «إلهاما» من النوع الذي يعرفه كثير من الشعراء كما يستعمل القرآن كلمة تعني «أنزل». وأمّا الكلمة الثانية فيبدو أنّها تلمّح إلى نوع من التعبير التخيلي الذي لا ترافقه أيّة رؤية، والكلمة الأخيرة فقط هي التي تشير إلى ملك ولكن من دون ذكر اسم جبرائيل.
ب آراء غير المسلمين:
إنّ التاريخ الزمني للسور مشكلة أثارت كثيرا من النّقاش، وأمّا الروايات المتوفرة حول أسباب النزول فلا يمكن دائما التحكّم فيها، وقد تكون أو لا تكون ثابتة، وقد استعمل الباحثون الأوروبيون معايير الأسلوب والمحتويات لتحديد الترتيب النسبي للسور أو لبعض منها، ومنذ أن نشر ثيودور نولدكه كتابه «تاريخ القرآن» (1860م) أصبح من المعتاد تقسيم السور إلى أربع مجموعات مستمدة من ثلاث مراحل زمنية مكية وأخرى مدنية، والعرض السابق لمحتويات القرآن يتبع تقريبا هذا الترتيب.
ويعتقد المسلمون أنّ محمّدا قد تلقّى من الله مباشرة كلّ كلمة من القرآن، فالقرآن يصف ويشجب الاتهامات التي تذهب إلى أنّ محمّدا أعاد صياغة أشياء
استمدها من مصادر اخرى، وأما الباحثون الأوروبيون الذي درسوا محتويات الآيات القرآنية فقد أظهروا أنّ سرد القرآن لكثير من الشخصيات والأحداث التي ذكرت في الكتاب المقدّس تختلف عن نفس الروايات كما هي مذكورة في نفس الكتاب ويبدو أن مصدرها هو بعض المسيحيين المتأخرين، وفي الدرجة الأولى بعض المصادر اليهودية (مثلا المدراش). وأمّا بعض الأغراض الأخرى كفكرة الحساب الوشيك الوقوع وأوصاف الجنّة فإنّها تتوافق مع الموضوعات العادية في الوعظ الدعوي لآباء الكنيسة السريانية المعاصرة، ولكن ليس من الضروري أن يكون هذا الاستمداد استمدادا حرفيا، إذ قد يكون ذلك نتيجة لتأثيرات الروايات الشفوية.(1/265)
ويعتقد المسلمون أنّ محمّدا قد تلقّى من الله مباشرة كلّ كلمة من القرآن، فالقرآن يصف ويشجب الاتهامات التي تذهب إلى أنّ محمّدا أعاد صياغة أشياء
استمدها من مصادر اخرى، وأما الباحثون الأوروبيون الذي درسوا محتويات الآيات القرآنية فقد أظهروا أنّ سرد القرآن لكثير من الشخصيات والأحداث التي ذكرت في الكتاب المقدّس تختلف عن نفس الروايات كما هي مذكورة في نفس الكتاب ويبدو أن مصدرها هو بعض المسيحيين المتأخرين، وفي الدرجة الأولى بعض المصادر اليهودية (مثلا المدراش). وأمّا بعض الأغراض الأخرى كفكرة الحساب الوشيك الوقوع وأوصاف الجنّة فإنّها تتوافق مع الموضوعات العادية في الوعظ الدعوي لآباء الكنيسة السريانية المعاصرة، ولكن ليس من الضروري أن يكون هذا الاستمداد استمدادا حرفيا، إذ قد يكون ذلك نتيجة لتأثيرات الروايات الشفوية.
وقد يبدو أنّ حفظ القرآن عن ظهر غيب كان الطريقة العادية لحفظه وأنّ الآيات القرآنية لم تدوّن مباشرة إلّا في مناسبات خاصّة، ثمّ إنّ وجود عدد متنوع من مجموعات قديمة للنصّ القرآني يبدو أمرا له ما يعضده بالرغم من عدم إمكانية تحديد طبيعتها ومحتوياتها، فنجد أنّ بعض السور التي تبدأ بالأحرف المقطّعة مثبتة معا في القرآن الحالي وهي مرتبة ترتيبا تنازليا وفق طولها وبشكل يوحي بأنّها كانت في فترة من الفترات تشكّل مجموعات مستقلّة، كما أنّ إقامة مصحف مقبول من الجميع (رواية معيارية) لم تكن كافية لإثبات قراءة متّسقة وصحيحة للقرآن في كلّ التفاصيل، إذ لم تكن الكتابة العربية كاملة، وكان من الممكن الخلط بين عدد من الحروف، كما لم يكن بالإمكان تحديد الحركات للتمييز بين المعاني المختلفة التي يتضمنها تركيب عدد ما من الأحرف، وعليه فمن أجل ضمان قراءته السليمة كان من الضروري حفظ النصّ عن ظهر غيب، وبهذه الطريقة نجمت عدّة قراءات مختلفة للقرآن نتيجة لتفضيل بعض القرّاء لقراءة معينة.
ولكن اللافت للنظر هو أنّ الاختلافات المسجلة قليلة، وعلى الرغم من عدم وجود سجلّ بهذه الاختلافات يمكن القول أنّ الرواية النصية للقرآن أكثر
ثباتا واتساقا من العهد الجديد، ثم طرأ على الكتابة العربية تحسّن تدريجي وأدخلت علامات التنقيط للتمييز بين الحروف المتشابهة، كما تمّ تمييز المدود بإضافة الألف والواو والياء، ومن المعروف أنّ نظام التنقيط هذا كان لا يزال محلّ أخذ وردّ في بداية القرن التاسع، وقد أضيفت علامات الحركات الخاصّة فوق أو تحت الحروف وبلون مختلف ولم تكن تعتبر جزءا من النصّ نفسه.(1/266)
ولكن اللافت للنظر هو أنّ الاختلافات المسجلة قليلة، وعلى الرغم من عدم وجود سجلّ بهذه الاختلافات يمكن القول أنّ الرواية النصية للقرآن أكثر
ثباتا واتساقا من العهد الجديد، ثم طرأ على الكتابة العربية تحسّن تدريجي وأدخلت علامات التنقيط للتمييز بين الحروف المتشابهة، كما تمّ تمييز المدود بإضافة الألف والواو والياء، ومن المعروف أنّ نظام التنقيط هذا كان لا يزال محلّ أخذ وردّ في بداية القرن التاسع، وقد أضيفت علامات الحركات الخاصّة فوق أو تحت الحروف وبلون مختلف ولم تكن تعتبر جزءا من النصّ نفسه.
التفاسير:
كان القرّاء هم أهل الاختصاص بالنصّ القرآني، كما كانوا في نفس الوقت علماء بفقه اللغة، وإلى حدّ كبير كان لتعامل هؤلاء مع لغة القرآن الفضل في نشوء علم اللغة العربية، وقد نشأت مدرستان، واحدة في البصرة وكانت مهتمة بتقعيد وترتيب المادة حتى يتسنى لها إقامة القواعد التي تحكم اللغة، والمدرسة الثانية هي مدرسة الكوفة التي اهتمت بدرجة أكبر بالشاذ، ثم نشأت نظرية مفادها أنّ القراءات المختلفة المتنوعة يمكن قبولها إذا كانت مستندة على المصحف العثماني وحسب كما كان من المهمّ بمكان أن تكون القراءة متصلة بسند أحد القرّاء المشهورين.
ونجمت كذلك بعض الاعتبارات اللاهوتية حول طبيعة القرآن الحقيقية، ففي المناقشات التي بدأها المعتزلة (وهي فرقة حاولت إدخال مبادئ فلسفية من العقلانية الإغريقية إلى الفكر الإسلامي) كانت مسألة قدم القرآن (أي أنموذجه السماوي) من النقاط الأساسية، فالمعتزلة الذين رأوا اجتناب كلّ ما من شأنه التنازل عن وحدانية الله أو تجاوزها أنكروا أن يكون القرآن قديما وغير مخلوق، لأنّ هذا يعني وجود شيء آخر قديم جنبا إلى جنب مع الله المتّصف بالقدم، وهذا يخلق ثنائية أزلية متضاربة، ونتيجة لهذا فقد زعموا أنّ القرآن مخلوق من الله، ولكن هذا المذهب رفض من أتباع الإسلام التقليديين، وفي الاعتقاد الشعبي نجد أنّ تبجيل القرآن موجّه غالبا للكتاب الحسّي المشهود أو لجزء منه، إذ يحلف به وتستخدم آيات منه للاستعمال السحري أو الخرافي.(1/267)
وفي مثل هذه النزاعات وغيرها حاولت كلّ فرقة أن تجد من يؤازرها في تأييد رأيها حول القرآن باعتباره المرجع الأعلى لكلّ المسائل الفقهية والدينية، وأصبح التأويل الصحيح للقرآن موضوع شعبة خاصة من العلم تدعى «التفسير»، واستعملت في ذلك كلّ المصادر المختلفة من أجل توضيح معاني الآيات القرآنية، ثمّ إنّ كلّ الروايات التي تتطرق للظروف المحيطة بنزول بعض المقاطع أو لتفسيراتها من النبيّ نقلت مشافهة ودوّنت وجمعت جنبا إلى جنب مع الروايات الأخرى لأحاديث النبيّ وكلّ ما يتعلّق به (الحديث). وفي بعض الأحيان وضعت هذه الروايات وضعا حتى ينتصر لرأي من الآراء، وكلّ تفسير لمقطع من مقاطع القرآن الذي لا يعضده الحديث كان مردودا في الأصل، كما استعملت في التفسير النتائج التي تمّ استفادتها من علم اللغة وعلم مفردات اللغة، بحيث كثيرا ما تستعمل أمثلة من الشعر المعاصر لتوضيح بنية لغوية أو معنى مقطع من المقاطع، وهكذا سار الاشتغال بالقرآن وهدفه الأسمى هو الفهم الصحيح لمعانيه وتطبيق تعاليمه جنبا إلى جنب مع تطوّر علم اللغة وعلم مفردات اللغة.
وتجدر الإشارة إلى عملين مشهورين أكثر من غيرهما في مجال التفسير:
الأوّل: هو تفسير الطبري (923839م)، وهو موسوعة ضخمة تجمع في طيّاتها كلّ ما تمّ إنجازه في هذا العلم حتى زمن المؤلف.
الثاني: هو الكشّاف للزمخشري (11431075م)، والذي نال شهرة مقرّرة من الجميع تقريبا على الرغم من أنّ هذا المؤلف كان معتزليا وافتتح كتابه بعبارة: «الحمد لله الذي خلق القرآن». أمّا تفسير البيضاوي (توفي حوالي 1280م) السهل في تناوله والذي كثيرا ما يرجع إليه كأحد التفاسير المعتمدة فهو لا يعدو أن يكون مختصرا للكشّاف.
لقد حاولت كلّ المدارس الكلامية في قرون الإسلام الوسطى تأييد آرائها من خلال تفسير القرآن وكلّ واحدة منها أخرجت تفاسيرها الخاصة، كما توجد
أيضا نماذج للتأويل القرآني وخاصّة في الأدبيات الصوفية حيث تحجب الآراء الصوفية وراء المعنى الظاهري للنصّ القرآني.(1/268)
لقد حاولت كلّ المدارس الكلامية في قرون الإسلام الوسطى تأييد آرائها من خلال تفسير القرآن وكلّ واحدة منها أخرجت تفاسيرها الخاصة، كما توجد
أيضا نماذج للتأويل القرآني وخاصّة في الأدبيات الصوفية حيث تحجب الآراء الصوفية وراء المعنى الظاهري للنصّ القرآني.
وقد نال علم التفسير أهمية جديدة بظهور عصر الحداثة قرابة نهاية القرن التاسع عشر، فقد حاول الحداثيون، الذين حاولوا بعث الإسلام عن انحطاطه ومواءمته مع ما هو نافع في التقاليد العلمية الغربية، أن يقيموا مبدأ العودة إلى الإسلام النقيّ والصافي كعهد السلف، ونتيجة لهذا فقد ذهبوا إلى وجوب تأويل المصادر الرئيسية القديمة للإسلام، وجرت محاولات لإقامة مبادئ أكيدة من أجل فهم صحيح للقرآن، كما اتّهم التفسير التقليدي بإدراج أساطير إسرائيلية وأحاديث غير صحيحة ليس لها أيّ علاقة بتعاليم النبيّ الأصلية، وبالرغم من هذا فإنّ مرجعية القرآن لم تنازع أبدا.
نشر محمد عبده، مؤسس النزعة الحداثية في مصر، ولعدّة سنوات محاضرات في التفسير على صفحات مجلّة المنار، ونشرت بعد وفاته في كتاب مستقل من طرف تلميذه السوري رشيد رضا، وفي هذه المحاضرات يقبل محمّد عبده كون القرآن كلام الله الموحى حرفيا، وأنّه لا يحتوي على أي أخطاء وأنّه صالح لكلّ زمان، ثم يحاول أن يبيّن أنّ نتائج العلم الحديث وكثيرا من الآراء العصرية موجودة أصلا في القرآن، ولكن تدليله على ذلك غالبا ما يتمّ بتفسيرات ملتوية يقوم خلالها بقراءة وجهات نظر حديثة في كلمات القرآن، فعلى سبيل المثال يذهب إلى أنّ الجنّ المذكورين في الآية الثانية من سورة البقرة والذين يسبّبون الأمراض على أنّهم ميكروبات كما ينحو في تفسير الآية: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللََّهِ وَاللََّهُ مَعَ الصََّابِرِينَ} [البقرة: 249]، منحى يذكّرنا بنظرية داروين حول الصراع من أجل البقاء وبقاء الأصلح، وهو لا يتوانى في استعمال التأويل عند ما يخدم أغراضه، وقد حذا بعض المفسّرين الحداثيين الآخرين حذوه في تفسير القرآن، ولكن القرآن نفسه لم يمسّ بأيّ انتقاد، إذ أنّه
لا يمكن أن يتأثر بالظروف التي نزل فيها، كونه كلام الله المعصوم، كما أنّه لا يمكن أن يحتوي على أخطاء أو يتجاوز بأيّ اكتشاف جديد.(1/269)
نشر محمد عبده، مؤسس النزعة الحداثية في مصر، ولعدّة سنوات محاضرات في التفسير على صفحات مجلّة المنار، ونشرت بعد وفاته في كتاب مستقل من طرف تلميذه السوري رشيد رضا، وفي هذه المحاضرات يقبل محمّد عبده كون القرآن كلام الله الموحى حرفيا، وأنّه لا يحتوي على أي أخطاء وأنّه صالح لكلّ زمان، ثم يحاول أن يبيّن أنّ نتائج العلم الحديث وكثيرا من الآراء العصرية موجودة أصلا في القرآن، ولكن تدليله على ذلك غالبا ما يتمّ بتفسيرات ملتوية يقوم خلالها بقراءة وجهات نظر حديثة في كلمات القرآن، فعلى سبيل المثال يذهب إلى أنّ الجنّ المذكورين في الآية الثانية من سورة البقرة والذين يسبّبون الأمراض على أنّهم ميكروبات كما ينحو في تفسير الآية: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللََّهِ وَاللََّهُ مَعَ الصََّابِرِينَ} [البقرة: 249]، منحى يذكّرنا بنظرية داروين حول الصراع من أجل البقاء وبقاء الأصلح، وهو لا يتوانى في استعمال التأويل عند ما يخدم أغراضه، وقد حذا بعض المفسّرين الحداثيين الآخرين حذوه في تفسير القرآن، ولكن القرآن نفسه لم يمسّ بأيّ انتقاد، إذ أنّه
لا يمكن أن يتأثر بالظروف التي نزل فيها، كونه كلام الله المعصوم، كما أنّه لا يمكن أن يحتوي على أخطاء أو يتجاوز بأيّ اكتشاف جديد.
ولكن بعض التطورات المتأخرة طرحت على الساحة بعض الأفكار الجديدة، ففي أحد التفاسير باللغة الأوردية وقد ترجم جزئيا إلى اللغة الإنجليزية طوّر مولانا أبو الكلام آزاد (19581888م)، وهو عالم مسلم كان يشغل منصب وزير الثقافة في الحكومة الهندية عند ما توفي، طوّر بعض الأصول الجديدة في التفسير القرآني، فقد ذهب إلى أنّه من الضروري تفسير القرآن آخذين بعين الاعتبار سياق المحيط الذي أنزل فيه، وعليه فمن الضروري دراسة الثقافات واللغات القديمة للجزيرة العربية والشعوب السامية الأخرى، كما ذهب إلى أنّ دراسة الظروف التاريخية التي نزل القرآن خلالها تسهّل فهمه من طرف الذين أنزل عليهم، ومع هذا فالباحثون لا يشكّون أنّ هناك تطورات جديدة في مجال التفسير القرآني، فقد ذهب داود رهبر في دراسته «إله العدل» عام 1960م إلى أنّه من أجل شرح مقطع من القرآن من الواجب نقل نصوص التفاسير التقليدية والآراء العقدية التي كانت سائدة في العصور الوسطى، وعلاوة على ذلك استعمال المقاطع القرآنية للمقارنة حتى تلقي بعض المقاطع الضوء على بعضها الآخر، وعلى الرغم من أنّ مثل هذه الأفكار تثير الشكّ في نفوس زعماء المسلمين إلّا أنّ ذلك قد يدلّ على تأسيس نظرة أكثر تاريخية للقرآن، هذه النظرة التي تحاول أن تميّز بين الأفكار الدينية الرئيسية والمظاهر الخارجية التي تعتمد على البيئة التاريخية.
الترجمات:
أوحي القرآن إلى محمّد «ككتاب عربي» أو كقرآن عربي لتزويد العرب بكتاب مقدّس بلغتهم تمكن مقارنته بكتب اليهودية والمسيحية، وكما سبقت الإشارة إليه يعتقد المسلمون أنّ القرآن يفوق أيّ شيء يمكن أن يكتب باللغة العربية، فالقرآن نفسه معجزة ولا يمكن أن يحاكى من أيّ بشر.(1/270)
ونتيجة لهذا يعتقد أنّه من غير المناسب ترجمة القرآن، ففي البلدان التي يتكلّم فيها بلغات أخرى لا يزال القرآن يقرأ باللغة العربية، نعم توجد ترجمات إسلامية للقرآن مثلا في اللغة التركية والأوردية والإنجليزية (الترجمة الإنجليزية تمت أثناء قيام الحركة الأحمدية القاديانية التي أسست عام 1889من طرف ميرزا غلام أحمد في منطقة البنجاب من الهند)، ولكن هذه الترجمات في نظرهم ما هي إلا إعادة سبك بألفاظ مختلفة وليست ترجمات يمكن استعمالها في التعبّد.
وقد طبع القرآن باللغة العربية لأول مرة في روما من طرف باغنينوس بريغيانسيس (1530م)، ولكن هذه الطبعة لم توزّع أبدا، ثمّ نشر أ. هينكلمان النصّ العربي للقرآن في هامبورج عام 1694م، ومنذ ذلك الحين ظهرت عدّة طبعات أوروبية، وكانت أحسن هذه الطبعات طبعة غوستاف فلوغل (1834)، وهي أوّل طبعة نقدية، وأعيد نشرها بعد ذلك عدّة مرات، وقد اعتاد الباحثون الاستناد غالبا على طبعة فلوغل هذه، وتوجد اليوم عدّة طبعات من القرآن في العالم الإسلامي ولكن الطبعة المصرية الحديثة هي الطبعة المستعملة من طرف الباحثين الأوروبيين وبشكل متزايد.
وقد ظهرت أول ترجمة للقرآن إلى اللغة اللاتينية عام 1143وكان ذلك بطلب من رئيس دير رهبان كلاني ونشرت هذه الترجمة في بازل عام 1543من طرف ثيودور بيبلياندر، وبعد ذلك نقلت إلى الإيطالية والألمانية والهولندية، وأمّا الترجمة الفرنسية الأولى فقد قام بها أ. دوريار (1647م) ونقلت هذه الترجمة إلى اللغة الإنجليزية من طرف ألكسندر روس (16881649م). وظهرت ترجمة سايل عام 1734م، ومرّت هذه الترجمة بطبعات جديدة عديدة، وتعتبر هذه الترجمة عملا كلاسيكيا وما زالت صالحة للاستعمال من عدة أوجه، كما ظهرت ترجمة أخرى عام 1861م قام بها ج. م. رودوال، ورتّب فيها سور القرآن حسب نزولها الزمني، ونشرت ترجمة بالمر عام 1880، وأمّا ترجمة بل
الرامية إلى ترتيب نقدي للسور (19391937م) فقد حاولت تحليل السور إلى وحداتها الصغيرة ثم تبيين أنّ هذه الوحدات الصغيرة ضمّت لبعضها البعض لتشكّل القرآن المعروف اليوم.(1/271)
وقد ظهرت أول ترجمة للقرآن إلى اللغة اللاتينية عام 1143وكان ذلك بطلب من رئيس دير رهبان كلاني ونشرت هذه الترجمة في بازل عام 1543من طرف ثيودور بيبلياندر، وبعد ذلك نقلت إلى الإيطالية والألمانية والهولندية، وأمّا الترجمة الفرنسية الأولى فقد قام بها أ. دوريار (1647م) ونقلت هذه الترجمة إلى اللغة الإنجليزية من طرف ألكسندر روس (16881649م). وظهرت ترجمة سايل عام 1734م، ومرّت هذه الترجمة بطبعات جديدة عديدة، وتعتبر هذه الترجمة عملا كلاسيكيا وما زالت صالحة للاستعمال من عدة أوجه، كما ظهرت ترجمة أخرى عام 1861م قام بها ج. م. رودوال، ورتّب فيها سور القرآن حسب نزولها الزمني، ونشرت ترجمة بالمر عام 1880، وأمّا ترجمة بل
الرامية إلى ترتيب نقدي للسور (19391937م) فقد حاولت تحليل السور إلى وحداتها الصغيرة ثم تبيين أنّ هذه الوحدات الصغيرة ضمّت لبعضها البعض لتشكّل القرآن المعروف اليوم.
وقد ترجم القرآن أيضا إلى معظم اللغات الأوروبية الأخرى، ويجدر بالذكر منها الترجمة الفرنسية التي قام بها ر. بلاشير (19501949م) بسبب تعليقاتها المفصلة، وكذلك ترجمة ر. باريت الألمانية (1962م) التي تمتاز بدقتها واستعمال مقاطع مقابلة من القرآن نفسه، ولكن هذه الترجمة جافة في أسلوبها.
ملاحظات المترجم:
اسم الموسوعة هو ().
المقالة غير واردة تحت مادة القرآن، وإنما تحت عنوان فرعي هو «مصادر الآراء العقائدية والاجتماعية في الإسلام»، والعنوان الفرعي هذا مدرج ضمن مادة «محمّد والدين الإسلامي» (المجلد الثاني والعشرين من الطبعة الثالثة عشرة).
* * *
المراجع(1/272)
* * *
المراجع
1 - ابن الأثير: ضياء الدين محمد بن عبد الكريم بن الأثير، المثل السائر، طبعة البابي الحلبي، 1979م.
2 - البخاري: محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، تعليق د. مصطفى ذيب البغا، دار القلم، بيروت.
3 - بلاشير: ريجي بلاشير، القرآن، نزوله، تدوينه، ترجمته، تأثيره، نقله إلى العربية رضا سعادة، دار الكتاب اللبناني.
4 - بوكاي: موريس بوكاي، دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديث، دار المعارف، الطبعة الرابعة، 1977م.
5 - البيضاوي: القاضي ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر الشيرازي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثانية، 1375هـ 1955م.
6 - الترمذي: أبو عيسى محمد بن سورة الترمذي، سنن الترمذي، تعليق عزت عبيد الدعاس، مطابع الفجر الحديث، حمص، الطبعة الأولى، سنة 1387هـ 1968م.
7 - ابن الجرزي: الإمام شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد، منجد المقرئين ومرشد الطالبين، دار الكتب العلمية، بيروت.
8 - جولدزيهر: اجنتس جولدزيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، دار الكتب الحديثة، مصر 1374هـ 1955م.
9 - دراز: الدكتور محمد عبد الله دراز، مدخل إلى القرآن الكريم، عرض تاريخي وتحليل مقارن، دار القلم، الكويت، 1400هـ 1980م.
10 - رضا: محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم الشهير بالمنار، الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الثانية.(1/273)
تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن: أصدرتها دار المنار بمصر، الطبعة الثانية، 1367هـ.
الوحي المحمدي، المكتب الإسلامي، الطبعة الثامنة.
11 - رئدل: جوناثان رئدل مراسل الواشنطن بوست، حرب الألف سنة حتى آخر مسيحي، أمراء الحرب المسيحيون والمغامرة الإسرائيلية في لبنان، ترجمة بشار رضا، الطبعة الثالثة 1984.
12 - الزمخشري: محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، الناشر المكتبة التجارية الكبرى، مطبعة الاستقامة، الطبعة الأولى، 1354هـ 1935م.
13 - الزركشي: بدر الدين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، تحقيق أبي الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، الطبعة الأولى سنة 1378هـ، الطبعة الثالثة 1984.
14 - الزنجاني: أبو عبد الله بن الميرزا نصر الله، تاريخ القرآن، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات لبنان، الطبعة الثالثة، 1388هـ 1969م.
15 - السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، الإتقان في علوم القرآن، الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1975، تحقيق أبي الفضل إبراهيم.
16 - أبو شامة: عبد الرحمن بن إسماعيل بن عثمان الدمشقي، إبراز المعاني من حرز الأماني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، شعبان 1349هـ.
17 - شاهين: الدكتور عبد الصبور شاهين، تاريخ القرآن، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، دار القلم، 1966.
18 - الشهرستاني: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل، بهامش الفصل في الملل والأهواء والنحل، دار المعرفة للطباعة، بيروت، الطبعة الثانية، 1395هـ 1975م.
19 - شوقي: أحمد شوقي، الشوقيات، دار الكتاب العربي، بيروت.
20 - الصالح: الدكتور صبحي، مباحث في علوم القرآن، مطبعة جامعة دمشق، الطبعة الثانية سنة 1381هـ 1962م.(1/274)
21 - عباس: الدكتور فضل حسن، القصص القرآني، إيحاؤه ونفحاته، دار الفرقان، عمان.
بحث: التكرار، أجيز للنشر في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية الصادرة في الكويت.
22 - العقاد: عباس محمود، اللغة الشاعرة، مطبعة الاستقلال الكبرى، القاهرة.
23 - عطار: أحمد عبد الغفور، دفاع عن الفصحى، مكة المكرمة، 1399هـ 1979م.
24 - ابن العربي: محمد بن عبد الله، أحكام القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، الطبعة الأولى سنة 1376هـ 1957م، مطبعة دار إحياء الكتب العربية.
25 - ابن فارس: أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، شركة مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثانية 1389هـ 1969م، تحقيق محمد عبد السلام محمد هارون.
26 - القاضي: الشيخ عبد الفتاح عبد الغني، القراءات في نظر المستشرقين والملحدين، مكتبة الدار بالمدينة المنورة.
نفائس البيان شرح الفرائد الحسان في عد آي القرآن، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه.
27 - القرطبي: محمد بن أحمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن، مطبعة وزارة التربية والتعليم، دار الكتب المصرية، 1377هـ 1958م، الطبعة الثانية.
28 - الكومي: د. أحمد السيد الكومي ود. محمد أحمد يوسف القاسم، فصل الخطاب في سلامة القرآن الكريم، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، الطبعة الثانية.
29 - مسلم: مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم.
30 - ابن نبي: مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، ترجمة د. عبد الصبور شاهين، مكتبة دار العروبة.
31 - صحيفة الرأي الأردنية، عدد 5778، تاريخ 22/ 4/ 1986، (تصريحات غير عادية لمسئول أميركي، مطلوب حملة صليبية جديدة ضد العرب والمسلمين).
32 - مجلة مواد الإسلام، العدد السابع، السنة الرابعة.(1/275)
فهرس المحتويات
الموضوع الصفحة
مقدمة 7
تمهيد 11
إحكام القرآن للصلات بين المسلمين وأهل الكتاب 11
مقابلة إحسان الإسلام بالإساءة والشاهد على ذلك 13
1 - التاريخ 13
2 - الواقع 18
الفصل الأول: تعريف القرآن 23
ما جاء في دائرة المعارف تحت هذا العنوان ومناقشته في قضايا:
القضية الأولى: جمع القرآن 24
القضية الثانية: محاكاة القرآن والإتيان بمثله 25
القضية الثالثة: أصل كلمة قرآن 25
ادعاؤهم وجود كلمات في العربية مأخوذة من لغات أخرى 25
كلمة قرآن 26
كلمتا آمن وصلاة 26
كلمة قلم 26
الفصل الثاني: شكل ومضمون القرآن: 31
ما جاء في الموسوعة والرد عليه في عشر قضايا:
القضية الأولى: قياسهم القرآن بالعهد الجديد من حيث الكم 33
القضية الثانية: ترتيب السور القرآنية 35
أولا: فاتحة الكتاب ليست أدعية فحسب 35
ثانيا: ترتيب سور القرآن ليس له علاقة بطولها وقصرها 36
القضية الثالثة: عناصر السورة 38(1/277)
الموضوع الصفحة
خلط الموسوعة بين ما هو أصيل في السور وما هو خارج عنها 38
قولهم إن عنوان السورة لا يدل على محتواها 39
الحروف المقطعة 41
القضية الرابعة: الآيات القرآنية وأسلوبها 42
أولا: الأسلوب المكي والمدني 43
ثانيا: صلة الأسلوب بأسلوب الكهان والمنجمين 45
الادّعاء بأن الآيات القرآنية مقتبسة من الشعر الجاهلي 46
ثالثا: أمر الآيات طولا وقصرا 50
سبب الاختلاف في عدد الآيات مع التمثيل (سورة البقرة، آل عمران، قريش، الماعون) 5450
استنتاج 54
القضية الخامسة: بعض الكلمات ليست هي الدليل على الوحي 55
أنا ونحن ودلالتهما 56
كلمة قل 57
قول الموسوعة إن أسلوب القرآن دراماتيكي 57
القضية السادسة: أسلوب القصة في القرآن 59
منزلة القصة ومساحتها في القرآن 60
الهدف من القصص 60
مسألتان مهمتان:
الأولى: القصص القرآن ليس صور لما ذكر في الكتب السابقة 61
الثانية: مسألة التشابه بين السور القرآنية 62
القضية السابعة: قصة يوسف عليه السلام 64
أولا: المقارنة بين القرآن والتوراة في القصة 65
ثانيا: الأمور التي تفرد بها القرآن 69
القضية الثامنة: تناسق الموضوعات في السور القرآنية 73(1/278)
الموضوع الصفحة
أولا: أسلوب القرآن وخصائصه الأدبية 74
زعم المستشرق دوزي أن أسلوب القرآن رديء 75
ثانيا: السورة في موضوعاتها 77
القضية التاسعة: الفاصلة القرآنية 79
تعريف الفاصلة 79
دقة الفاصلة في القرآن 81
فواصل قرآنية لا تحتاج إلى بيان وكثير فكر 82
فواصل قرآنية تحتاج إلى بيان وإجالة فكر 85
ختم بعض الفواصل بأسماء الله واختلافها تقديما وتأخيرا 91
القضية العاشرة: التعريب 93
هل في القرآن ألفاظ غير عربية 93
لا يرتاب في فصاحة وروعة الألفاظ القرآنية 95
الفصل الثالث: محتويات القرآن 97
ما جاء في الموسوعة ورده في اثنتي عشرة قضية
القضية الأولى: موضوعات القرآن والفترة الزمنية 99
أولا: موضوعات القرآن 100
ثانيا: اختلاف الموضوعات في الفترة الزمنية التي نزل فيها 102
زعمهم وجود تناقض في موضوعات القرآن 103
افتراضات نفترضها على وجود هذا التناقض 103
القضية الثانية: الثواب والعقاب 106
أولا: قولهم إن السور الأولى تركز على أن الله خالق الكون ومستحق الحمد والثناء 106
ثانيا: قولهم إن الله يحاسب البشر على حسب موقفهم نحوه 108
القضية الثالثة: الوحدانية 112
ادعاء الموسوعة أن الفصول الأولى من القرآن لم تشر للوحدانية 112(1/279)
الموضوع الصفحة
سبب خطئهم في هذا الزعم 113
أمور لا بد منها:
أولا: نفور النبي قبل الرسالة من الأصنام 114
ثانيا: تقرير مبدأ الوحدانية دون ورود هذه المادة 114
ثالثا: مبدأ الوحدانية قديم منذ أول رسول 117
رابعا: كل سورة من السور الأولى تدعو إلى التوحيد 117
خامسا: التفريق بين طبيعة التوحيد، والأدلة على الوحدانية 118
القضية الرابعة: قصة الغرانيق 118
بيان عدم صحتها من جهة العقل والنقل 119
قصة الغرانيق منافية للعصمة 121
القضية الخامسة: الصلاة في العهدين المكي والمدني 122
ادعاؤهم أن غير الصلاة كذلك طرأ عليه تغير 122
العقيدة والقصص 124
صوم يوم عاشوراء وتحويل القبلة 125124
الصلاة 125
شبهات أثارها المستشرقون:
1 - الآية 17من سورة الفتح مقحمة في السورة 127
2 - الطعن في الزهري 128
القضية السادسة: موضوعات السور المتأخرة 129
موضوعات السور المتأخرة 130
التوحيد والتنديد بآلهة العرب 130
قصص الأنبياء، ونظام القصص في القرآن 131
الحديث عن الجنة والنار 131
خلاصة 132(1/280)
الموضوع الصفحة
القضية السابعة: وظيفة الأنبياء 132
عدم استجابة الأقوام ليس من تقصير الأنبياء 133
الهدف من ذكر الأنبياء السابقين في القرآن 133
القضية الثامنة: المقارنة بين الرسول صلّى الله عليه وسلّم وماني 134
ثناء القرآن على الأنبياء السابقين 135
ماني ومكان ظهوره 135
القضية التاسعة: أسلوب القرآن 136
دعوى التغاير في الأسلوبين المكي والمدني 136
الأمثال في القرآن 137
القضية العاشرة: تعدد النزول 138
القول بالتكرار 138
القضية الحادية عشرة: نهاية العالم 140
إقامة الأدلة على العقيدة ورد الشبهات 140
قضية اليوم الآخر 141
القضية الثانية عشرة: هدف القصص القرآني 141
قصة عيسى عليه السلام والهدف من عدم ذكرها كثيرا 142
الفصل الرابع: مصير الإنسان 145
ما جاء في الموسوعة ورده في خمس قضايا:
القضية الأولى: حرية الإرادة 146
أصل المسألة 147
كيف عالج القرآن هذه المسألة 147
القضية الثانية: شرعة التوحيد منذ آدم 151
أولا: الصلة بين النبي محمد وإبراهيم عليهما السلام 151
ثانيا: محاولات الربط بين الإسلام واليهودية 154
القضية الثالثة: القتال في الإسلام 157
من آيات الجهاد ضرورة الجهاد في الإسلام 158(1/281)
الموضوع الصفحة
القضية الرابعة: موقف الإسلام من اليهودية 160
العداء بين الإسلام واليهودية 160
موقف القرآن من اليهود منذ الفترة المكية 161
القضية الخامسة: الوحي وقضايا الرسول الشخصية 163
إخلاص النبي في تبليغ دعوته 163
القرآن لا يعني بالأمور الشخصية بالرسول إلا ما كان له علاقة بالقضايا العامة 163
الفصل الخامس: أصول القرآن طبقا للمسلمين 165
ما جاء في الموسوعة ورده في قضيتين:
القضية الأولى: جمع القرآن 166
1 - الوحي من الأمور المسلمة عند الجميع 166
2 - ما يفعله النبي بعد نزول الوحي 168
3 - وضع المصحف عند حفصة ليس مهمة أو عملا رسميا 168
4 - ما يذكر في المصحف من كون السور مكية أو مدنية ليس من صلب القرآن 169
القضية الثانية: أنواع الوحي 169
طرق الوحي 170
قوله تعالى: {* وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ} ليس خاصا بالنبي 171
ما جاء في الموسوعة من أن اسم جبريل لم يذكر 172
الفصل السادس: أصول القرآن في رأي المستشرقين 173
ما جاء في الموسوعة ورده في أربع قضايا 174
مقدمة لا بد منها 174
القضية الأولى: ترتيب القرآن 176
منهج المسلمين في بحث هذه القضية 176(1/282)
الموضوع الصفحة
أخطاء المستشرقين وسببها 177
تقسيمهم القرآن إلى مراحل وما ذكره بلاشير 180
خطأ تقسيم القرآن إلى مراحل 187
القضية الثانية: مصدر القرآن 188
افتراضان نفترضهما لمصدر القرآن:
الافتراض الأول: أن يكون النبي اكتسبه من آخرين وفيه 189
احتمالات
1 - في مكة 191
الأول: المجتمع الذي عاش فيه هو المصدر للقرآن 191
الثاني: أن يكون مكتسبا من اليهود والنصارى الذين يعيشون في مكة 197
الثالث: التوراة والإنجيل هما الأساس للقرآن 197
الرابع: أن يكون اكتسبه في رحلاته إلى الشام واليمن 204
الخامس: أن يكون من الثقافات الشرقية الزرادشتية والصابئة 207
2 - في المدينة: من المجتمع اليهودي حوله 207
الافتراض الثاني: أن يكون ناتجا عن تأملاته الشخصية 208
خلاصة لهذه القضية 210
القضية الثالثة: جوهر القرآن 212
دعوى وجود نقص وتحريف في القرآن 213
القرآن محفوظ على مدى الزمن 215
القضية الرابعة: القراءات 216
مقدمات 217
الأولى: نزول القرآن على سبعة أحرف وثبوته بالسنة 217
الثانية: الاختلاف في الأحرف السبعة ليس اختلاف تضاد 217
الثالثة: القراءة ليست خاضعة للاجتهاد 220(1/283)
الموضوع الصفحة
الرابعة: القراءات لا تخضع لمذاهب النحويين 221
اتباع الموسوعة فيما ذكرته لأقوال جولدزيهر 223
مناقشة ما ذهبوا إليه 225
الفصل السابع: التفسير 229
ما جاء في الموسوعة ورده في أربع قضايا
القضية الأولى: القرآن والقراءات 231
رأي الجمهور والطبري في الأحرف السبعة 233
القضية الثانية: القرآن والمعتزلة 236
دفاع المعتزلة عن القرآن 237
دعوى افتتانهم بأرسطو 237
قضية خلق القرآن 238
القضية الثالثة: عناصر التفسير 239
أولا: الرسول لم يفسر القرآن كله 240
ثانيا: الطبري ليس أول مفسر للقرآن 240
القضية الرابعة: التفسير في العصر الحديث 242
الإسلام لا يكبو ولا يخبو 243
الإمام محمد عبده وتفسيره للجن 244
تفسير قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} 244
الفصل الثامن: الترجمات 247
ما جاء في الموسوعة 247
نصّ الترجمة العلمية الدقيقة 251
المراجع 273
فهرس المحتويات 277(1/284)