المجلد الاول
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفوته من خلقه. وبعد:
فإن علوم القرآن من أشرف العلوم وأجلّها، وأفضلها على الإطلاق وأنفعها، لكون موضوعها كتاب الله، ولكون غايتها الاعتصام بكلام الله، ولهذا الأمر اهتم الصحابة والتابعون، ومن جاء بعدهم، وسار على هديهم بهذا العلم، فأقبلوا على كتاب الله مفسرين ألفاظه، موضحين معانيه، كاشفين عن علومه وحقائقه، مظهرين إعجازه وبيانه، مجلّين محاسنه إلى غير ذلك من أنواع الاهتمام التي أطلقوا عليها متأخرا مصطلح «علوم القرآن».
وقد تفاوتت اهتمامات العلماء بهذه العلوم، فمنهم من فسر القرآن كله، ومنهم من اقتصر على تفسير سور أو آيات منه، ومنهم من صرف
اهتمامه إلى جانب من جوانبه، فتناوله بالبحث والتحقيق والتدقيق، حتى أصبحت هذه العلوم خير عون للباحثين من أهل القرآن الذين يريدون الغوص في بحره الزاخر، واستخلاص شيء من الدرر والجواهر.(1/5)
وقد تفاوتت اهتمامات العلماء بهذه العلوم، فمنهم من فسر القرآن كله، ومنهم من اقتصر على تفسير سور أو آيات منه، ومنهم من صرف
اهتمامه إلى جانب من جوانبه، فتناوله بالبحث والتحقيق والتدقيق، حتى أصبحت هذه العلوم خير عون للباحثين من أهل القرآن الذين يريدون الغوص في بحره الزاخر، واستخلاص شيء من الدرر والجواهر.
ولما كان موضوع رسالتي في مرحلة الماجستير بعنوان (الزيادة والإحسان في علوم القرآن لابن عقيلة المكي، من بداية الكتاب إلى نهاية النوع الخامس والأربعين دراسة وتحقيقا). وكان من فضل الله عليّ أن هيأ لي سبل التسجيل في مرحلة الدكتوراة، رأيت أن أتابع المشوار الذي بدأته، وآثرت أن يكون موضوع رسالة الدكتوراة أيضا في هذا الفن، أقصد علوم القرآن، ولذا يمّمت شطر خزائن المكتبات المخطوط منها والمطبوع أبحث في كتب علوم القرآن، لعلي أحظى بموضوع لم ينل حظه من البحث والدراسة فوجدت أن علماءنا قد تركوا لنا تراثا علميا ضخما، فلا تكاد تجد موضوعا من موضوعات علوم القرآن إلا وقد بحث وكتب فيه على تفاوت في الذي كتب، فعدت أدراجي إلى ما كان يدور في خلدي أيام الماجستير من أهمية دراسة علوم القرآن دراسة تاريخية موضوعية، واستقر العزم على وضع مخطّط تفصيلي لذلك، فأنشأت مخططا للموضوع من أربعة أبواب، كان الأخير منها بعنوان: علوم القرآن من خلال مقدمات التفاسير.
وكعادة الطلبة والباحثين عرضت المخطط قبل تقديمه إلى القسم المختص على نخبة من أساتذتي وأشياخي الأفاضل من الذين أعلم عنهم الاهتمام والجدية، والمنهجية العلمية، فكانوا بين مشجع عليه، لأهمية
الموضوع، ورافض له ظانّ أن الموضوع مطروق، حتى عرضته على أستاذيّ الفاضلين، فضيلة الأستاذ الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشائع، وفضيلة الأستاذ الدكتور علي بن سليمان العبيد يحفظهما الله وكنت على علم بعظيم اهتمامهما بالمخططات والموضوعات، فاختلف رأيهما مع من عرضت عليهم، إذ لم يشجعا ولم يرفضا، بل لفتا انتباهي إلى زاوية منه، وأشارا إلى الاكتفاء بمقدمات التفاسير، ومحاولة وضع مخطط لذلك.(1/6)
وكعادة الطلبة والباحثين عرضت المخطط قبل تقديمه إلى القسم المختص على نخبة من أساتذتي وأشياخي الأفاضل من الذين أعلم عنهم الاهتمام والجدية، والمنهجية العلمية، فكانوا بين مشجع عليه، لأهمية
الموضوع، ورافض له ظانّ أن الموضوع مطروق، حتى عرضته على أستاذيّ الفاضلين، فضيلة الأستاذ الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشائع، وفضيلة الأستاذ الدكتور علي بن سليمان العبيد يحفظهما الله وكنت على علم بعظيم اهتمامهما بالمخططات والموضوعات، فاختلف رأيهما مع من عرضت عليهم، إذ لم يشجعا ولم يرفضا، بل لفتا انتباهي إلى زاوية منه، وأشارا إلى الاكتفاء بمقدمات التفاسير، ومحاولة وضع مخطط لذلك.
وقد ترددت بادئ الأمر فالموضوع حسب اعتقادي قاصر لا يكون لمرحلة الماجستير، فكيف أتقدم به للدكتوراة، ثم إنني قد وضعته بابا من ضمن أربعة أبواب للموضوع المقترح! غير أنني حملت الفكرة باهتمام، وأوليتها العناية، وما هي إلا أيام من التفكير الجاد، والبحث المستمر بين صفحات مقدمات التفاسير، حتى فتح الله قلبي للموضوع، وتوجه العزم إلى وضع مخطط مبدأي له، واستخرت الله وما خاب من استخار، وراجعت أهل المشورة من أساتذتي، وما ندم من استشار، فوجدتهم بين مرحب بالموضوع مشجع، ومثبّط للهمة غير مقتنع بانصرافي إلى هذه الجزئية وترك موضوعات أخرى هي أحوج إلى البحث والتحقيق.
وهكذا عشت فترة من الوقت بين تشجيع أولئك وتثبيط هؤلاء، أقدم رجلا وأؤخر أخرى حتى وجدتني وبتعاون من أستاذيّ الكريمين قد وضعت مخططا من ثلاثة أبواب رئيسة، ومقدمة وتمهيد وخاتمة، أحسبه محكما، جمعت فيه بين تاريخ علوم القرآن ونشأته، وهو ما توخيته من
الموضوع الأول، وبين مقدمات التفاسير وهو الباب الرابع من المخطط السابق، وتقدمت إليهما بالمخطط بعد أن سميته: (علوم القرآن من خلال مقدمات التفاسير) فشجعا العمل وباركاه، وأيدا المخطط واعتمداه، وأوصياني بتقديمه إلى مجلس القسم، فكانت الموافقة بفضل الله.(1/7)
وهكذا عشت فترة من الوقت بين تشجيع أولئك وتثبيط هؤلاء، أقدم رجلا وأؤخر أخرى حتى وجدتني وبتعاون من أستاذيّ الكريمين قد وضعت مخططا من ثلاثة أبواب رئيسة، ومقدمة وتمهيد وخاتمة، أحسبه محكما، جمعت فيه بين تاريخ علوم القرآن ونشأته، وهو ما توخيته من
الموضوع الأول، وبين مقدمات التفاسير وهو الباب الرابع من المخطط السابق، وتقدمت إليهما بالمخطط بعد أن سميته: (علوم القرآن من خلال مقدمات التفاسير) فشجعا العمل وباركاه، وأيدا المخطط واعتمداه، وأوصياني بتقديمه إلى مجلس القسم، فكانت الموافقة بفضل الله.
ولما رفع المخطط إلى مجلس الكلية للتصديق عليه واعتماده، تهيبت الأمر في البداية، خاصة كلما تذكرت تلك المجلدات العظام التي ألزمت نفسي بدراستها وتحليل محتوى مقدماتها، فقد بلغ عدد التفاسير المرشحة للدراسة نحوا من ثلاثين تفسيرا بين مخطوط ومطبوع، وقديم ومحدث، هن أمهات كتب التفسير، إلى أن جاءت الموافقة فكانت بردا وسلاما، فقد رأى الشيوخ الأفاضل في مجلس الكلية صعوبة الموضوع وسعته، فكان التعديل بالاكتفاء بالقرون الثمانية الأول، مع عدم تعيين التفاسير التي كنت قد عينتها، والاكتفاء بالمطبوعة منها، فصار المخطط بعد إدخال التعديلات المطلوبة بعنوان: (علوم القرآن من خلال مقدمات التفاسير من نشأتها إلى نهاية القرن الثامن الهجري)، وهذا تفصيله:
يتكون البحث من مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة وفهارس.
المقدمة: بيان أهمية الموضوع، وأسباب اختياره وخطة البحث.
التمهيد: أهمية مقدمات التفاسير، والتعريف بها ونشأتها.(1/8)
الباب الأول: علوم القرآن دراسة تاريخية: الفصل الأول: تعريف عام بعلوم القرآن ونشأته.
1 - علوم القرآن بالمعنى اللغوي.
2 - علوم القرآن بالمعنى الاصطلاحي.
3 - نشأة علوم القرآن.
الفصل الثاني: التأليف في علوم القرآن:
1 - المرحلة الأولى: من القرن الأول إلى نهاية القرن الرابع الهجري.
2 - المرحلة الثانية: من نهاية القرن الرابع إلى بداية القرن العاشر الهجري.
3 - المرحلة الثالثة: من بداية القرن العاشر إلى العصر الحالي.
الباب الثاني: مقدمات التفاسير: تناولت في هذا الباب جميع التفاسير المطبوعة التي لها مقدمات من بداية التفسير إلى نهاية القرن الثامن الهجري.
وجعلت كل كتاب في مبحث مستقل، وتناولت فيه النقاط التالية:
1 - التعريف بالتفسير والمقدمة والمؤلف.(1/9)
2 - عرض موضوعات المقدمة.
3 - منهج المؤلف في مقدمته.
4 - مصادر المؤلف في مقدمته.
5 - مدى التزام المؤلف في تفسيره بما ذكره في مقدمته.
6 - أهم مزايا المقدمة.
7 - أظهر المآخذ عليها.
الباب الثالث: الموضوعات التي تناولتها مقدمات التفاسير: الموضوع الأول: نزول القرآن.
الموضوع الثاني: جمع القرآن وترتيبه.
الموضوع الثالث: رسم المصحف ونقطه وشكله ووضع الأخماس والأعشار.
الموضوع الرابع: سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه.
الموضوع الخامس: أسماء القرآن وأسماء سوره.
الموضوع السادس: فضائل القرآن وخواصه وآداب تلاوته.
الموضوع السابع: المكي والمدني.(1/10)
الموضوع الثامن: التفسير والتأويل.
الموضوع التاسع: بيان شرف التفسير والحاجة إليه.
الموضوع العاشر: أوجه التفسير وطرقه وأنواعه.
الموضوع الحادي عشر: العلوم التي يحتاجها المفسر.
الموضوع الثاني عشر: مراتب المفسرين.
الموضوع الثالث عشر: الاختلاف بين المفسرين وقواعد الترجيح.
الموضوع الرابع عشر: الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن.
الموضوع الخامس عشر: الظهر والبطن والحد والمطلع.
الموضوع السادس عشر: ما وقع في القرآن بغير لغة العرب.
الموضوع السابع عشر: الوقف والابتداء.
الموضوع الثامن عشر: إعجاز القرآن.
وتناولت هذه الموضوعات من خلال المقدمات، وذلك بدراستها دراسة موضوعية مقارنة.
الخاتمة: وفيها أهم النتائج.(1/11)
الفهارس: فهارس شاملة للآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وآثار الصحابة، والأعلام، والأشعار، والأماكن والبلدان، والفرق والقبائل، والمراجع، والموضوعات.
منهجي في البحث:
أما المنهج الذي سرت عليه في تدوين هذه الرسالة، فلم آت ببدعة في شيء منه، بل اخترت من مناهج الكتابة ما يتفق وطبيعة الموضوع بإشراف وتوجيه من شيخي المشرف ومباركة منه، وقد كان يحفظه الله كثيرا ما يلجم قلمي فلا يتركه ينطق بكثير من الاستطرادات التي يلتجئ إليها مثلي، إذ الكتابة العلمية الدقيقة تستلزم خلفية علمية قوية، وهو أمر أحسبه للشيوخ، وأدرك أن ما يوجه إليه فضيلته حق لا مراء فيه، ولكن ما حيلتي والبضاعة مزجاة، مهما يكن فقد استطاع الشيخ تسييس تلميذه الجموح، فجاء المنهج الذي رسمته تحت أنظار الشيخ وتوجيهاته، منهجا معتدلا، ليس بالطويل الممل ولا القصير المخل، اتكأت في الصياغة على أهل الأدب، فقد كنت أسعى بين الفينة والفينة إلى مطالعة كتاب لأديب من الأدباء، أو كاتب اشتهر قلمه، ومع ذلك لا أنكر بأنني كررت نفسي في كثير من المواطن، وخاصة في الباب الثاني من الرسالة، وهو أمر لم أجد عنه بدا، فالبضاعة كما ذكرت مزجاة.(1/12)
هذا ويتلخص منهجي في النقاط الآتية:
1) التوسط والاعتدال في النقول، وتوثيق النصوص من مصادرها الأصلية قدر الإمكان، وفي توثيق النصوص أذكر اسم الكتاب والمؤلف ورقم المجلد والصفحة، فإن اعتمدت أكثر من طبعة ذكرت الطبعة في حينه بقولي: طبعة فلان، بذكر اسم المحقق أو الجهة التي طبعت الكتاب.
2) وضع عناوين جانبية لرءوس الموضوعات الجزئية والمسائل ضمن الموضوع الواحد.
3) نسبة الأقوال إلى قائليها، وذلك إما بالتصريح باسم القائل في المتن، أو الاكتفاء بالإحالة إلى كتاب من كتبه.
4) ترقيم الآيات القرآنية، وعزوها إلى سورها ضمن المتن وذلك بوضعه ضمن معقوفتين.
5) تخريج الأحاديث والآثار من مظانها، وعزو الأخبار التاريخية إلى مصادرها.
6) شرحت غريب الحديث واللغة معتمدا على المصادر الأصلية في ذلك.
7) عرّفت بالأعلام الواردة أسماؤهم في صلب الرسالة في الغالب، عدا المعاصرين منهم فلم أترجم لهم.(1/13)
8) أحلت القارئ إلى مواضع الأمثلة في كل ما ذكرته في الباب الثاني من منهج المؤلف أو مدى التزامه بما ذكره، دون سرد الأمثلة وذلك خشية الإطالة واكتفاء بما سيرد في الباب الثالث.
9) في الباب الثالث جمعت أقوال أصحاب المقدمات في مقدماتهم في مختلف الموضوعات بعباراتهم غالبا، مع التنسيق والترتيب، ولم أسقط من كلامهم إلا المكرر وما كان حشوا واستطرادا بعيدا، وذكرت في بداية كل موضوع من بحثه من المفسرين مرتبين حسب تواريخ وفياتهم، ليتبين تطور هذا العلم، وليظهر السابق من اللاحق، وليعرف من بحثه ممن تركه.
10) أعددت فهارس فنية للرسالة تساعد على كشف المضامين بسهولة ويسر.
وقد واجهتني في كتابة الموضوع صعوبات عديدة شأني في ذلك شأن أي باحث، تمكنت بفضل الله أولا ثم بتوجيهات أستاذي المشرف فضيلة الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشائع ثانيا، ثم بوقفات جادة ومخلصة من أخوين عزيزين كريمين هما الشيخ المهندس حمود بن صالح الجربا، والشيخ فهد بن علي العندس ثالثا، من التغلب عليها والحمد لله.
هذا والذين يشكرون على مساعدتي في إتمام هذا العمل كثيرون، لا أعجز عن ذكرهم ولكن الموقف يتطلب الاختصار، فلهم مني الدعاء بعظيم الأجر والغفران.(1/14)
وأجد لزاما عليّ أن أتقدم بخالص الشكر والتقدير والامتنان لأستاذي الفاضل الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشائع، رئيس قسم القرآن وعلومه، والمشرف على هذه الرسالة على ما بذله من جهد، وصرفه من وقت، وأبداه من حسن توجيه وإرشاد في الإشراف على هذا العمل، وعلى ما لقيته منه يحفظه الله من سعة صدر، وحسن تقدير، وسؤال دائم عن كل ما يمكن أن يكون حائلا دون إنجاز العمل، فله مني الشكر والعرفان، ومن الله الأجر والمثوبة.
وأشكر ثانيا أخي وزميلي الشيخ القدير والرجل النبيل الكريم فهد بن علي العندس، الذي كان لي خير معين في غربتي، فتح لي صدره يستمع إلى همومي وغمومي، وفتح لي مكتبته فكفاني همّ التنقل بين المكتبات، ويعلم الله ما احتجت لشيء وسمع به إلا ووجدته لي سندا بعد الله، ولن أستطيع شكره مهما فعلت، فأتركه لله يجزيه على حسن تعامله بفضل منه ورحمة، ويدخله الجنان مع آل بيته، إنه تعالى سميع مجيب.
كما أشكر القائمين على جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وعلى كلية أصول الدين وقسم القرآن وعلومه، على ما بذلوه ويبذلونه من الجهد خدمة للعلم وأهله.
وفي الختام إن ما كتبته جهد مقلّ يسعى ليتعلم، لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها، وقد قيل: الكتاب كالمكلّف لا يسلم من المؤاخذة، ولا يرتفع عنه القلم. فرحم الله من وقف على سهو أو خطأ فأصلحه، وما توفيقي
إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(1/15)
وفي الختام إن ما كتبته جهد مقلّ يسعى ليتعلم، لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها، وقد قيل: الكتاب كالمكلّف لا يسلم من المؤاخذة، ولا يرتفع عنه القلم. فرحم الله من وقف على سهو أو خطأ فأصلحه، وما توفيقي
إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أهمية مقدمات التفاسير:
اهتم العلماء منذ القديم بمضامين مقدمات التفاسير، فقد ضمنوها خلاصة أفكارهم، وزبدة آرائهم حول كثير من مسائل علوم القرآن ومباحثه، وهي آراء لم تطرق بعضها للبحث والنقاش، وعلوم القرآن إنما يعتنى بها، وتعطى هذه المكانة والأهمية لأنها توصل إلى معرفة مراد الله تعالى من كلامه للعمل بمقتضاه، ولكون المفسر قد طرق هذه الأبواب، وأدلى بدلوه في بيان معاني الآيات، كان من الضروري دراسة هذه المقدمات دراسة جادة، ومحاولة الغوص فيها لإبراز الدقائق العلمية في ثناياها، ومن ثمّ معرفة مواقف المفسرين من مسائل علوم القرآن ليتبيّن مدى معرفة المفسر بالعلوم المعينة على فهم كتاب الله الفهم الصحيح، وليتبين بالتالي مدى إصابة المفسر القول في بيان مراد الله.
ولهذه الدراسة أهمية أخرى تكمن في معرفة تطور علوم القرآن ومباحثه عند المفسرين، وذلك لأن المفسر قد ضمّن مقدمته رأيه في بعض المسائل، فجاء اللاحق ليتابع السابق فيما قاله وأثبته، وليستدرك عليه ما لم يقله مما هو مطلوب قوله، كما يبين تأثر المفسرين بعضهم ببعض، وغير ذلك مما يتبين منه للقارئ تطور هذه المسائل عند المفسرين.
ثم إن المقدمات هي أول المصنفات التي جمعت أكثر من موضوع من
موضوعات علوم القرآن في موضع واحد، فهي النواة الأولى للتصنيف الموسوعي في علوم القرآن، وهذا جانب هام.(1/16)
ثم إن المقدمات هي أول المصنفات التي جمعت أكثر من موضوع من
موضوعات علوم القرآن في موضع واحد، فهي النواة الأولى للتصنيف الموسوعي في علوم القرآن، وهذا جانب هام.
ولا شك أن بحثا يضم مثل هذه المعلومات، ويبين ما كتبه علماؤنا الأجلّاء يسهل على طلبة العلم الراغبين في فهم القرآن كثيرا من الوقت والجهد، ويضع بين أيديهم بإذن الله جهدا جادا في بيان بعض الموضوعات التي كثر الجدل حولها، وتباينت الآراء بشأنها.
وبإيجاز يمكن القول: إن أهمية مقدمات التفاسير تنبع من الآتي:
1) أنها النواة الأولى للتصنيف الموسوعي في علوم القرآن.
2) أنها تضمنت كثيرا من الأحاديث والآثار المتعلقة بعلوم القرآن، والتي رواها المفسرون بأسانيدهم.
3) أنها حوت أقوال وآراء المفسرين في كثير من علوم القرآن ومسائله.
4) أنها تضمنت ردود ومناقشات المفسرين المتأخرين لآراء وأقوال أسلافهم المتقدمين، فكان في ذلك تحرير لكثير من المسائل المختلف فيها، وسيمر بالقارئ في الباب الثالث إن شاء الله كثير من تلك المناقشات المفيدة.
5) التسهيل والتيسير على القارئ في التفسير، حيث يجد القارئ مبتغاه وما أشكل عليه من مراد المؤلف بين يديه، فلا يلجأ إلى غيره لتوضيح ذلك.(1/17)
6) أنها تقوي المعارف لدى القارئ لحسن الدفاع عن حمى الكتاب العزيز، دون الحاجة إلى الخوض في غمار المطوّلات من المصنفات.
7) أنها علامة هامة في بيان تطور علوم القرآن.(1/18)
التمهيد:
تعريف المقدمة، ونشأة مقدمات التفاسير:
أتعريف المقدمة:
المقدمة: الناصية، وما استقبل من الجبهة والجبين، ومقدّمة الجيش بكسر الدال الذين يتقدمون الجيش. (1)، قال ابن منظور: وقيل يجوز بالفتح (مقدّمة). (2)
وقال ابن فارس: القاف والدال والميم: أصل صحيح يدل على سبق ورعف (أي سبق وتقدم)، ومنه: مقدّمة الجيش: أوّله. ومنه أيضا: قيدوم الخيل: أنف يتقدم عنه. (3) ومقدمة كل شيء: أوّله. ومن مقدمة الجيش استعير لكل شيء، فقيل: مقدّمة الكتاب، ومقدّمة الكلام، ومقدمة الإبل. (4)
هذا في اللغة، أما في الاصطلاح، فقد عرفها التفتازاني بقوله:
__________
(1) انظر: تهذيب اللغة للأزهري: 9/ 47وأساس البلاغة للزمخشري: 496.
(2) انظر: لسان العرب لابن منظور: 3/ 34.
(3) انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 5/ 65ومجمل اللغة له: 3/ 746.
(4) انظر لسان العرب لابن منظور: 3/ 34.(1/19)
يقال: مقدّمة الكتاب لطائفة من كلامه قدمت أمام المقصود لارتباط له بها، وانتفاع بها فيه، سواء توقف عليها أم لا. (1)
وفي «الكليات» لأبي البقاء: مقدمة الكتاب: ما يتوقف عليه الشرح على بصيرة. (2)
وذكر التهانوي للمقدمة بكسر الدال المشددة وفتحها معاني كثيرة، ومن تلك المعاني: مقدمة الكتاب وعرّفها بقوله: مقدمة الكتاب:
طائفة من الألفاظ قدمت أمام المقصود لدلاتها على ما ينفع في تحصيل المقصود، سواء كان مما يتوقف المقصود عليه فيكون مقدمة العلم، أو لا، فيكون من معاني مقدمة الكتاب، من غير أن يكون مقدمة العلم. (3)
وفي هذا المعنى استعمل القلقشندي مقدمة كتابه «صبح الأعشى»، فقد تحدث فيها عن مسائل أولية، وتعريفات تمهيدية، وقال: المقدمة للكتاب كالأساس من البنيان. ثم قال: والطريق إلى إصابة المعنى في هذه المقدمات أن تجعل مشتملة على ما بعدها من المقاصد والأغراض. (4)
__________
(1) انظر: المطول على التلخيص مع شرح السيد الشريف: 13.
(2) انظر: الكليات لأبي البقاء: 636.
(3) انظر: كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي 5/ 1216.
(4) انظر: صبح الأعشى للقلقشندي: 6/ 267.(1/20)
قلت: والذي قصده المفسرون هو تقديم طائفة من العلوم والمباحث المتعلقة بكتاب الله بين يدي الناظر في التفسير لفهمه على أتم وجه.
وقد أشار إلى ذلك ابن عطية بقوله: ولنقدم بين يدي التفسير أشياء قد قدّم أكثرها المفسرون، وأشياء ينبغي أن تكون راسخة في حفظ الناظر في هذا العلم، مجتمعة لذهنه. (1)
ويقول أبو شهبة: إن بعض المفسرين في القديم والحديث صدّورا كتبهم بمقدمات قيمة في علوم القرآن لتكون مفتاحا لهذه التفاسير. (2)
وتعرض المهتمون بمناهج البحث من المعاصرين بذكر عناصر التأليف، فذكروا المقدمة والتقديم، ومحتوى كل منهما من المادة العلمية، وكان الاهتمام منصبا على مقدمات الرسائل العلمية، وأقتصر هنا على إيراد نموذج من كلامهم، وأعرض عن الخوض في تفاصيل ذلك مكتفيا بالإحالة إلى بعض تلك المراجع لمن أراد الوقوف عليها.
يرى الدكتور يوسف القاضي أن المقدمة عادة ما يذكر فيها الأسباب التي دفعت للكتابة، والطريقة التي اتبعها، وفكرة موجزة جدا عن فصول المحتوى الذي يحوي المعلومات المسهبة لتعطي القارئ فكرة عما يتكلم
__________
(1) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 12.
(2) انظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة: 35.(1/21)
المرجع. (1)
ب نشأة مقدمات التفاسير:
يذهب المهتمون بعلوم القرآن وأصول التفسير إلى أن أقدم من صدّر تفسيره بمقدمة في علوم القرآن هو شيخ المفسرين ابن جرير الطبري، ثم تلاه غيره (2)، وهو قول ربما كان من المسلّمات عند أكثر الباحثين، والصحيح أن هناك من سبق ابن جرير في هذا المنهج بقرن كامل، غير أنه لم يكن على غرار ما فعله ابن جرير من التوسع والشمولية في المعالجة، أقصد عبد الرزاق الصنعاني، المتوفى سنة (211هـ)، فقد اكتفى المتقدم بتقديم جملة من الآثار في بعض المواضيع المتعلقة بنزول القرآن، دون أي تعقيب، ثم تبعهما آخرون توسعوا في المواضيع، واتجهوا إلى جمع الأدلة والآثار وسردها ومناقشتها، كما اهتموا بالتعقيب على أقوال أسلافهم من المفسرين المتقدمين، وانتقل هذا الاهتمام بعلم المقدمات إلى أهل المغرب وبلاد الأندلس، فاهتموا بذلك أيما اهتمام، وكان أكثر من اهتم بذلك ابن عطية،
__________
(1) انظر: مناهج البحوث وكتابتها ليوسف القاضي: 61. وانظر للمزيد من تعاريف المعاصرين: كتاب كيف تكتب بحثا أو رسالة: 138والدليل إلى كتابة البحوث الجامعية ورسائل الماجستير والدكتوراة لبيكفورد وسميث: 109ودليل الباحث: 10.
(2) انظر: المدخل إلى دراسة القرآن الكريم لأبي شهبة 35والسيوطي وجهوده في علوم القرآن لعبد الحليم الشريف.(1/22)
والقرطبي وابن جزي وغيرهم.
وهكذا إلى أن جاء السيوطي في المشرق وشرع في تدوين تفسير كبير لكتاب الله سماه (مجمع البحرين ومطلع البدرين، الجامع لتحرير الرواية وتقرير الدراية) ووضع كتابا عليّ الشأن، جليّ البرهان، كثير الفوائد والإتقان، أسماه (الإتقان في علوم القرآن) (1) وجعله مقدمة لتفسيره السابق ذكره، وتم بذلك تدوين أوسع مقدمة لكتاب في التفسير، تلك أصل فكرته، ولكن الكتاب لسعته وعدم كمال أصله أخذ استقلاليته.
وتتابع تصدير التفاسير بمقدمات في علوم القرآن على مر العصور والأزمان، فلا تكاد تجد تفسيرا معتبرا إلا وقد احتوى على مقدمة في هذا الشأن، حتى أصبح ما بدأه عبد الرزاق وابن جرير سنّة متبعة إلى يومنا هذا، فقد ظهرت مقدمات في غاية الإتقان والإجادة كمقدمة «التحرير والتنوير» لابن عاشور، ومقدمة «روح المعاني» للآلوسي، ومقدمة «محاسن التأويل» لجمال الدين القاسمي، وغيرها.
__________
(1) انظر: الإتقان للسيوطي: 1/ 16تحقيق الدكتور البغا.(1/23)
الباب الأول علوم القرآن دراسة تاريخية
وفيه فصلان:
الفصل الأول: تعريف عام بعلوم القرآن ونشأته.
الفصل الثاني: التأليف في علوم القرآن.(1/25)
الفصل الثاني: التأليف في علوم القرآن.
الفصل الأول تعريف عام بعلوم القرآن ونشأته
المبحث الأول: علوم القرآن بالمعنى اللغوي.
المبحث الثاني: علوم القرآن بالمعنى الاصطلاحي.
المبحث الثالث: نشأة علوم القرآن.(1/26)
المبحث الثالث: نشأة علوم القرآن.
المبحث الأول علوم القرآن بالمعنى اللغوي
مصطلح (علوم القرآن) مركب إضافي يتكون من جزءين هما: (علوم) و (قرآن)، ويتضح المركب ويعرف بتحليل جزءيه ومعرفتهما، ف (العلوم) جمع علم بالكسر وسكون اللام أصل صحيح يدل على أثر بالشيء يتميز به عن غيره، ومنه العلامة: السّمة. والعلم: الجبل. (1) والمعلم: الأثر يستدل به على الطريق. والعلم: نقيض الجهل، وعلمت الشيء أعلمه علما: عرفته وخبرته. (2)
وعلم الأمر: أتقنه وعرفه حق المعرفة (3)، وفي «المصباح المنير»: العلم اليقين، وعلم يعلم: إذا تيقّن. (4) وعلم بالشيء: شعر به وأدركه. (5)
__________
(1) انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس (علم): 4/ 109، وتهذيب اللغة للأزهري (علم): 2/ 415، والصحاح للجوهري (علم): 5/ 1990.
(2) انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس (علم): 4/ 110، وتهذيب اللغة للأزهري (علم):
2/ 415، ولسان العرب لابن منظور (علم): 2/ 870ط دار لسان العرب بيروت.
(3) انظر: تاج العروس للزبيدي (علم): 8/ 405.
(4) انظر: المصباح المنير للفيومي (علم): 162ط مكتبة لبنان 1987.
(5) انظر: تهذيب اللغة للأزهري (علم): 2/ 415.(1/27)
والعلم: المعرفة، وقد يفرّق بينهما، فيقال: العلم هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع (1)، أو هو صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض، وهو اليقين.
وقيل: العلم هو إدراك الشيء على ما هو به.
والمعرفة: إدراك الشيء بتفكير وتدبّر لأثره.
وعليه فالعلم أخص من المعرفة.
وفرّق ثلّة من العلماء بينهما من جهة اللفظ والمعنى، فقالوا:
إن فعل المعرفة يقع على مفعول واحد، وفعل العلم يقتضي مفعولين، وإذا وقع على مفعول واحد كان بمعنى المعرفة. (2)، هذا من جهة اللفظ، أما من جهة المعنى فالفرق من وجوه أهمها:
أن المعرفة تستعمل فيما تدرك آثاره ولا تدرك ذاته، والعلم فيما يدرك ذاته، فتقول: فلان عارف بالله. ولا تقول: فلان عالم بالله لأن معرفته ليست بمعرفة ذاته، بل بمعرفة آثاره. وتقول: الله يعلم كذا، ولا تقول: الله يعرف، لما كانت المعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصّل إليه بتفكّر.
والمعرفة في الغالب لما غاب عن القلب بعد إدراكه، فإذا أدركه فقد
__________
(1) انظر: التعريفات للجرجاني: 200.
(2) انظر: التعريفات للجرجاني: 200، والمصباح المنير للفيومي (علم): 162.(1/28)
عرفه، بخلاف العلم، ولهذا كان ضد المعرفة: الإنكار، وضد العلم:
الجهل. (1)
هذه بعض معاني (العلم) في كلام العرب، أما في الاصطلاح فقد تباينت أقوال أهل العلم في تعريفه وضبطه، وتنوعت هذه التعاريف كلّ حسب مشربه ومعتقده ودائرة اهتمامه، فالحكماء يريدون به: صورة الشيء الحاصلة في العقل. (2) وعلماء الكلام يعرّفونه فيقولون: صفة يتجلّى بها الأمر لمن قامت به. (3)
وعرّفه الغزالي (4) فقال: هو اعتقاد الشيء على ما هو به عليه. (5)
والمنقول عن الآمدي (6): أن العلم عبارة عن صفة يحصل بها لنفس
__________
(1) انظر: الكليات لأبي البقاء: 446. والمفردات للراغب: 331.
(2) انظر: الكليات لأبي البقاء: 448.
(3) انظر: الكليات لأبي البقاء: 449.
(4) هو محمد بن محمد بن محمد الغزالي، فيلسوف متصوف، أحد الأعلام المشهورين، برع في المذهب الشافعي، له «تهافت الفلاسفة» وغيره، توفي (505هـ). انظر: طبقات الشافعية للسبكي: 4/ 102. ووفيات الأعيان لابن خلكان: 4/ 216.
(5) انظر: إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين للزبيدي: 1/ 34196، والكليات لأبي البقاء: 446، وشرح مختصر الروضة للطوفي: 1/ 169.
(6) هو علي بن محمد بن سالم التغلبي الآمدي، أصولي باحث، اتّهم بفساد العقيدة،(1/29)
المتصف بها التمييز بين حقائق المعاني الكلية حصولا لا يتطرق إليه احتمال نقيض (1).
واختصره ابن الحاجب (2) فقال: العلم صفة توجب تميّزا لا يحتمل النقيض (3).
وهو في اصطلاح الشرع يطلق على معرفة الله تعالى وآياته وأفعاله في عباده وخلقه. قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ إِنَّمََا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبََابِ} [الزمر: 9] قال الزمخشري (4): أراد
__________
مصنفاته كثيرة، منها: الإحكام في أصول الأحكام، توفي (631هـ). انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 293وشذرات الذهب لابن عماد: 5/ 144.
(1) انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1/ 13وإتحاف السادة المتقين بشرح علوم الدين للزبيدي: 1/ 97وشرح مختصر الروضة للطوفي: 1/ 170والقاموس الإسلامي: 5/ 458.
(2) هو عثمان بن عمر بن أبي بكر الكردي الدويني، المشتهر بابن الحاجب، كان رأسا في العربية وعلم النظر، له «الكافية» وغيره، توفي (646هـ). انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 248وسير أعلام النبلاء للذهبي: 23/ 264.
(3) انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي: 1/ 170.
(4) هو محمود بن عمر بن محمد أبو القاسم الزمخشري، كبير المعتزلة، كان رأسا في البلاغة والعربية، له «الكشاف» وغيره، توفي (538هـ) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي:
20/ 151وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 314.(1/30)
بالذين يعلمون: العاملين من علماء الديانة (1) وما ورد منه في الشرع عاما يشمل العلوم الدنيوية. قال تعالى: {إِنَّمََا يَخْشَى اللََّهَ مِنْ عِبََادِهِ الْعُلَمََاءُ}
[فاطر: 28].
وقال الراغب (2): العلم إدراك الشيء بحقيقته، وذلك ضربان:
أحدهما: إدراك ذات الشيء، ويتعدى لمفعول واحد، قال تعالى {لََا تَعْلَمُونَهُمُ اللََّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]
الثاني: الحكم على الشيء بوجود شيء هو موجود له، أو نفي شيء هو منفي عنه، ويتعدى لمفعولين، قال تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنََاتٍ}
[الممتحنة: 10].
قال: وهو من وجه ضربان:
نظري: وهو ما إذا علم فقد كمل، نحو العلم بموجودات العالم.
وعملي: وهو ما لا يتم إلا بأن يعمل، كالعلم بالعبادات.
ومن وجه آخر: سمعي وعقلي. (3)
__________
(1) انظر: الكشاف للزمخشري: 3/ 390.
(2) هو الحسين بن محمد بن المفضل أبو القاسم الأصفهاني، أديب من الحكماء العلماء، اشتهر حتى كان يقرن بالغزالي، له «المفردات في غريب القرآن» وغيره، توفي (502هـ).
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/ 120وبغية الوعاة للسيوطي: 2/ 297.
(3) انظر: المفردات للراغب: 343وما بعده بتصرف، والكليات لأبي البقاء: 449448.(1/31)
والعلم في عرف التدوين العام وهو المراد هنا يطلق على جملة من المسائل والقواعد المنضبطة بجهة واحدة موضوعا أو غاية، كعلم التوحيد وعلم النحو وما إلى ذلك (1).
وبعبارة أخرى يطلق العلم على: المعلومات المنظمة والمنضبطة لموضوع واحد.
الجزء الثاني من المركب (القرآن): أولا: (القرآن) في اللغة: العلماء في بيان لفظة (القرآن) فريقان، فريق
__________
وقد عرض بعض المصنفين في مؤلفاتهم مجموعة من تعاريف أهل العلم لهذا المصطلح فذكر القنوجي للعلم سبعة عشر تعريفا، وجاء مثلها في مرجع اليونسكو في تعليم العلوم، ومن قبلهم فعل أبو البقاء صاحب الكليات، والزبيدي في شرحه على الإحياء للغزالي، ومن هذه التعاريف: أن العلم هو البحث عن المعرفة. وهو استقصاء ذهني يبدأ بالمعرفة ويضيف إليها، وهو حصول صورة الشيء في العقل، وهو صفة يتجلّى بها المذكور لمن قامت به. وهو المعرفة المنظمة المتراكمة عبر العصور. وهو البحث عن الحقيقة، وغير ذلك.
انظر: الكليات لأبي البقاء: 449446وشرح مختصر الروضة للطوفي: 1/ 168 171وإتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين للزبيدي: 1/ 9895وأبجد العلوم: 1/ 11وما بعده، واليونسكو في تعليم العلوم.
(1) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 6وما بعده والمدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة: 16وانظر ما ألقاه فضيلة الشيخ مناع القطان على طلبة الدراسات العليا عام 1407هـ ص 4.(1/32)
يرى أنه مشتق، وآخر يرى أنه اسم علم غير منقول، وضع أول ما وضع اسما لكتاب الله تعالى، فهو جامد غير مشتق.
الفريق الأول: الذين قالوا باشتقاقه، اختلفوا على قولين:
القول الأول: أنه مصدر مهموز، وقد اختلفوا في أصل اشتقاقه:
قيل: مصدر (قرأ) بمعنى (تلا) مرادف للقراءة، كالغفران والرجحان (1) قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}
[القيامة: 17] أي: فاتبع قراءته.
قال ابن عطية: قرأ الرجل بمعنى تلا، يقرأ قرآنا وقراءة. وفي التنزيل:
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كََانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78] أي: قراءة الفجر. قال حسان بن ثابت (2) في عثمان بن عفان رضي الله عنهما: ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به ... يقطّع اللّيل تسبيحا وقرآنا
أي: قراءة (3).
__________
(1) انظر لسان العرب لابن منظور (قرأ): 1/ 129وتاج العروس للزبيدي (قرأ):
1/ 103والتيسير في قواعد علم التفسير للكافيجي: 159.
(2) هو حسان بن حرام بن عمرو، سيد الشعراء المؤمنين، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، المؤيّد بروح القدس، توفي (54هـ). انظر سير أعلام النبلاء للذهبي: 2/ 512 والإصابة لابن حجر: 2/ 237.
(3) انظر: تفسير ابن جرير 1/ 97وابن عطية: 1/ 69والقرطبي: 2/ 298وهو(1/33)
وقيل: مشتق من (قرأ) بمعنى (جمع)، تقول: قرأت الشيء قرآنا، بمعنى: جمعته، وهو من ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض. (1)
وقيل: مشتق من (القرء).
وهو أيضا بمعنى (الجمع) قال أبو إسحاق: القرء في اللغة بمعنى الجمع.
قال الماوردي: ولهذا سمي قرء العدّة قرءا لاجتماع دم الحيض في الرحم (2).
وعن قطرب (3): قرأت الماء في الحوض: أي جمعته، وقرأت القرآن:
لفظت به مجموعا. (4)
__________
في ديوان الشاعر: 410.
(1) انظر: تهذيب اللغة للأزهري (قرأ): 9/ 271ومعاني القرآن للفراء: 3/ 211 والصحاح للجوهري (قرأ): 1/ 65والمفردات للراغب: 402ولسان العرب لابن منظور (قرأ): 1/ 123والتيسير في قواعد علم التفسير للكافيجي: 159والإتقان للسيوطي: 1/ 162.
(2) انظر تفسير الماوردي: 1/ 124.
(3) هو محمد بن المستنير بن أحمد اللغوي، أديب لغوي يرى رأي المعتزلة، له معاني القرآن، توفي (206هـ)، انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 4/ 312وتاريخ بغداد للخطيب: 3/ 298.
(4) انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجّاج: 1/ 170و 1/ 305تحقيق د / عبد الجليل(1/34)
قال أبو عبيدة (1): سمي بذلك لأنه جمع السور بعضها إلى بعض. (2)
وقيل: لأنه جمع القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والآيات والسور بعضها إلى بعض (3) وعن الراغب قول بعضهم: سمي قرآنا لكونه جامعا لثمرات الكتب بل لجمعه ثمرة جميع العلوم (4)
القول الثاني: أنه مصدر غير مهموز، وقد اختلفوا في أصل اشتقاقه:
فقيل: مشتق من (القرى)، تقول: قريت الماء في الحوض: أي جمعته (5)
ومنه القرية لاجتماع الناس فيها. (6) قال السمين الحلبي (7): وهو غلط
__________
عبده ط عالم الكتب والدّر المصون للسمين الحلبي: 2/ 280والإتقان للسيوطي: 1/ 162.
(1) هو معمر بن المثنى التيمي، كان بحرا في العلم، غير ماهر بكتاب الله، ولا عارف بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أول من صنّف في الغريب، وله مجاز القرآن وغيره، توفي (209هـ).
انظر سير أعلام النبلاء للذهبي: 9/ 445وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 326.
(2) انظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 1والتيسير في قواعد علم التفسير للكافيجي:
160 - والبرهان للزركشي: 1/ 277والإتقان للسيوطي: 1/ 162.
(3) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 4/ 30والإتقان للسيوطي: 1/ 162.
(4) انظر: المفردات للراغب: 402، والبرهان للزركشي: 1/ 277.
(5) انظر تهذيب اللغة (قرأ): 9/ 271ومعاني القرآن للزجّاج: 1/ 305، وجمال القراء للسخاوي: 1/ 23.
(6) انظر معجم مقاييس اللغة (قرى): 5/ 78.
(7) هو أحمد بن يوسف بن عبد الدائم الحلبي، لازم أبا حيان، واشتهر في النحو والقراءات(1/35)
لأنهما مادتان متغايرتان. (1)
ويقول فضيلة الشيخ مناع القطان يحفظه الله: إن في هذا الرأي تكلفا ظاهرا لكونه يؤدي إلى أن يكون أصل الهمزة حرف علة، وأن تكون النون زائدة، مع ما فيه من إغفال معنى التلاوة. (2)
وقيل: مشتق من (قرنت الشيء بالشيء): إذا ضممته، وهو رأي الأشعري (3) سمي به لقران السور والآيات والحروف فيه، ومنه القران بين الحج والعمرة (4)، ويجري على هذا القول من الاعتراض ما جرى على القول السابق من جعل النون أصلية وإغفال معنى التلاوة.
وقيل: مأخوذ من (القرائن) وهو مروي عن القرطبي (5) لأن الآيات
__________
والأحكام، له الدر المصون، توفي (756هـ)، انظر: الدرر الكامنة لابن حجر:
1/ 339وغاية النهاية لابن الجزري: 1/ 152.
(1) انظر الدر المصون للسمين الحلبي: 2/ 281.
(2) انظر مذكرة الدراسات العليا، لفضيلة الشيخ مناع القطان، عام 1407.
(3) هو أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، مؤسس مذهب الأشاعرة، كان من أئمة المتكلمين، ثم رجع عنه وجاهر بخلافه، له «مقالات الإسلاميين»، توفي (324هـ)، انظر: طبقات الشافعية: 2/ 245وشذرات الذهب لابن العماد: 1/ 303.
(4) انظر تهذيب اللغة للأزهري (قرأ): 9/ 271واللسان لابن منظور 1/ 129 والبرهان للزركشي 1/ 278.
(5) هو يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي القرطبي النحوي، أخذ عن الزمخشري وغيره،(1/36)
منه يصدق بعضها بعضا (1) ويشابه بعضها بعضا وهي قرائن، واعترض الزجاج (2) فقال: هذا سهو، والصحيح أن ترك الهمزة فيه من باب التخفيف ونقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها. (3)
الفريق الثاني: الذين قالوا بعدم اشتقاقه، وقالوا: إنه غير مهموز، بل هو اسم علم غير منقول، وضع أول ما وضع اسما لكتاب الله، وبه قرأ ابن كثير. (4)، وروي عن الإمام الشافعي (5)، كما روي عنه أنه قرأ على
__________
كان بارعا في العربية، بصيرا بعلل القراءات، له القرطبية في القراءات، توفي (560هـ) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 20/ 546ووفيات الأعيان لابن خلكان: 6/ 171 الأعلام للزركلي: 8/ 147.
(1) انظر البرهان في علوم القرآن للزركشي: 1/ 278.
(2) هو إبراهيم بن السري بن سهل، نحوي بصري، أخذ عن المبرد وثعلب، وعنه النحاس، له معاني القرآن وإعرابه، توفي (310هـ). انظر: بغية الوعاة للسيوطي: 1/ 411 وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 7.
(3) انظر: البرهان في علوم القرآن: 1/ 278قال: وقد أشار إليه أبو علي الفارسي في (الحلبيات) والإتقان للسيوطي: 1/ 162.
(4) يقرأ ابن كثير قرآن و {الْقُرْآنُ} المعرف وغير المعرف بنقل حركة الهمزة إلى ما قبلها وحذفها، وإلى ذلك يقول الشاطبي: ونقل قران والقرآن دواؤنا وفي انظر: حرز الأماني للإمام الشاطبي: 44ضمن مجموع إتحاف البررة.
وابن كثير هو عبد الله بن كثير الداري المكي، أحد القراء السبعة، كان عطارا بمكة، قرأ على مجاهد وغيره، توفي (120هـ). انظر: غاية النهاية لابن الجزري: 1/ 443، وتهذيب التهذيب لابن حجر: 5/ 367.
(5) هو (محمد بن إدريس بن شافع القرشي الشافعي) المطلبي، أحد الأئمة الأربعة، ولد(1/37)
إسماعيل بن قسطنطين. (1)، كان يقول: القرآن اسم وليس بمهموز، ولم يؤخذ من: قرأت، ولكنه اسم لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل. قال:
ويهمز: قرأت ولا يهمز القرآن. (2)، وهو اختيار السيوطي (3) في الإتقان. (4)
ويعترض على هذا الرأي بأن العلم المرتجل نادر جدا، وأن الغالب في الأعلام أنها منقولة، بل ذهب سيبويه إلى أن الأعلام كلها منقولة (5)، كما يعترض عليه بأن معظم القراء السبعة قرءوا لفظ (القرآن) بالهمز. (6)
__________
بغزة ثم حمل إلى مكة، من تصانيفه الرسالة، توفي (204هـ). انظر: سير أعلام النبلاء:
10/ 995وحلية الأولياء لأبي نعيم: 9/ 63ومناقب الشافعي للرازي.
(1) هو إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين المخزومي، مقرئ مكة، قرأ على ابن كثير، توفي (170هـ). انظر: غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 165.
(2) انظر تهذيب اللغة للأزهري (قرأ): 9/ 271، وانظر: تاريخ بغداد للخطيب، ترجمة الإمام الشافعي: 2/ 62والبرهان في علوم القرآن للزركشي: 1/ 277وغاية النهاية لابن الجزري: 1/ 166.
(3) هو عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، إمام محقق، صاحب تصانيف، برع في علوم كثيرة وله في أغلب الفنون مصنفات عظام، منها الدر المنثور في التفسير، والإتقان، والتحبير، وهما في علوم القرآن، توفي (911هـ) انظر: حسن المحاضرة للسيوطي:
1/ 335وشذرات الذهب لابن عماد: 8/ 51.
(4) انظر: الاتقان للسيوطي: 1/ 163
(5) انظر: الكتاب لسيبويه: وانظر ما كتبه فضيلة الشيخ مناع القطان، مذكرة الدراسات العليا عام 1407.
(6) انظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة: 18.(1/38)
والذي يترجح لديّ والله أعلم بعد النظر في أقوال أهل العلم أن نقول:
القرآن مصدر مهموز مشتق من (قرأ) بمعنى (تلا). وهو رأي يسلم من الاعتراضات الموجهة إلى غيره، فالهمزة أصلية، وفيه معنى الجمع، ولم يغفل معنى التلاوة، والأهم من هذا أنه يستقيم تماما مع قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 17] والمعنى: إن علينا جمعه وتلاوته، فإذا قرأناه فاتبع تلاوته والله أعلم. (1)
ثانيا: (القرآن) في الاصطلاح، أو في تعريف أهل العلم:
القرآن كلام الله المنزّل على خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم. وهو غير مخلوق، تكلم الله به ابتداء، وكلامه تعالى قائم بذاته، ولم يزل عز وجلّ متكلما إذا شاء، والقرآن كلامه تعالى بحرف وصوت، تكلم به سبحانه بصوت نفسه وحروف نفسه، وذلك غير مخلوق.
والقرآن هو اللفظ والمعنى معا، سمعه جبريل من الله عز وجلّ، وبلّغه إلى محمد صلى الله عليه وسلم وسمعه (2).
__________
(1) وينظر هذا الرأي في مجلة لواء الإسلام العدد: 28، مقال الأستاذ: عبد الوهاب حمودة.
(2) انظر: شرح العقيدة الطحاوية: 179ط المكتب الإسلامي وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 12/ 4036، والعقيدة السلفية في كلام رب البرية لعبد الله الجديع: 63.(1/39)
والتعريف الحقيقي للقرآن هو استحضاره معهودا في الذهن أو مشاهدا بالحس كأن يشير إليه مكتوبا بالمصحف، أو مقروءا باللسان فتقول:
هو ما بين الدّفتين. أو تقول: هو {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} إلى قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنََّاسِ} (1).
وقد حاول العلماء وضع تعريف للقرآن ليميزوه عن الكتب السماوية السابقة والأحاديث القدسية، وليس بهدف رفع الجهالة عنه إذ الجهالة مرفوعة، ولهذا عرفوه بذكر بعض خصائصه، وتفاوتت اهتماماتهم بذكر هذه الخصائص، وتناوبت بين الإطناب والإيجاز، فمن أطنب كانت حجته أن مقام التعريف مقام إيضاح وبيان، ومن اختصر فأوجز فبحجة استحالة حصر خصائص القرآن، فهو كتاب لا تنقضي عجائبه.
وفريق ثالث اقتصد فتوسط وقال: القرآن هو الكلام المعجز المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم المكتوب في المصاحف، المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته. (2)
ومن تعاريف الموجزين: هو اسم لهذا المنزّل العربي إذا عرّف
__________
(1) انظر ما كتبه فضيلة الشيخ مناع القطان يحفظه الله في هذا الخصوص، مذكرة الدراسات العليا عام 1407هـ.
(2) هذا التعريف منسوب للأصوليين والفقهاء وعلماء العربية، انظر: الكليات لأبي البقاء:
4/ 34وروضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة: 1/ 180ومناهل العرفان للزرقاني: 1/ 12ومباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح: 21.(1/40)
باللام (1). أو هو: اللفظ المنزّل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس (2).
ورأى آخرون أن القرآن ليس بحاجة إلى تعريف منطقي، فلا معنى لإضاعة الوقت حول طول التعريف أو قصره، ومدى إحاطته بصفات كتاب الله العزيز (3)
ولا أرى مانعا من ذكر تعريف يضم أهم خصائص كتاب الله لتمييزه لا لرفع الجهالة عنه، إذ الجهالة مرفوعة، وقد عرّف تعالى القرآن في كتابه الكريم فقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى ََ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسََانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 194]، وبحث العلماء في الصفات الخاصة لكتاب الله فوجدوها: في الإنزال على النبي صلى الله عليه وسلم، والإعجاز، والنقل بالتواتر، والكتابة في المصاحف، والتعبد بالتلاوة. (4)
فإذا أضفنا إليها صفة خامسة فقيدنا الإنزال على النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام، نكون قد وضعنا قيودا ضابطة بإذن الله، وعليه نقول في تعريف القرآن الكريم بأنه: كلام الله المعجز، المتعبّد بتلاوته، المنزّل على النبي
__________
(1) انظر: الكليات لأبي البقاء: 4/ 34.
(2) انظر بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي: 1/ 84ومناهل العرفان للزرقاني: 1/ 12.
(3) انظر: في علوم القرآن دراسات ومحاضرات للكفافي والشريف: 22.
(4) انظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة: 20.(1/41)
محمد صلى الله عليه وسلم بوساطة جبريل عليه السلام، والمنقول إلينا بالتواتر والموجود بين دفتي المصحف.
كلام الله: قيد يخرج به كلام غيره عز وجل من ملك وجان وبشر.
المعجز: قيد يخرج به ما عبّر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظه من كلام الله، كالأحاديث القدسية، مع دلالة هذا القيد إلى خاصية هامة للقرآن الكريم.
المتعبّد بتلاوته: قيد يخرج به ما لم يتعبد بتلاوته كالأحاديث القدسية وإن تواترت.
المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم: قيد يخرج به ما نزل على غيره من الأنبياء السابقين.
بوساطة جبريل: قيد يخرج به ما كان بواسطة غيره كالأحاديث النبوية والرؤى.
المنقول إلينا بالتواتر: خرج به ما لم يتواتر ما نسخت تلاوته أو ما هو منقول بالشهرة أو بالآحاد كقراءة بعض الصحابة.
الموجود بين دفتي المصحف: قيد يردّ مزاعم الرافضة وغيرهم ممن يدعي النقص أو الزيادة في كتاب الله. (1)
__________
(1) للمزيد عن هذا الموضوع يراجع: الكليات لأبي البقاء: 4/ 34وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي: 2/ 204وما بعده والمحلى لابن حزم: 1/ 13(1/42)
المبحث الثاني علوم القرآن بالمعنى الاصطلاحي
أطلق أهل العلم هذا المصطلح (علوم القرآن) بلفظ الجمع لمحا للأصل ليشمل كل علم يبحث في القرآن الكريم في أيّ ناحية من نواحيه المتعددة، وليشمل أيضا كل ما يخدم النص القرآني أو يستند إليه، وإن كان قد استعمل بلفظ الإفراد (علم القرآن) (1) قليلا، وهو (نظير علم الحديث) (2) مع اختلاف بين العلماء في إطلاقه.
وعلوم القرآن كثيرة، ذكر منها الزركشي في «برهانه» سبعا وأربعين علما، وأوصلها السيوطي إلى ثمانين نوعا في «الإتقان»، وناف بها على
__________
والتحرير والتنوير لابن عاشور: 1/ 71وروح المعاني للآلوسي: 1/ 8ومناهل العرفان للزرقاني: 1/ 147والمدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة: 2317 ومذكرة الدراسات العليا لفضيلة الشيخ مناع القطان، ألقاها على طلبة الدراسات العليا كلية أصول الدين عام 1407ومباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح:
21 - وفي علوم القرآن دراسات ومحاضرات للكفافي والشريف: 22والمرشد الوافي في علوم القرآن لبسيوني فودة: 9.
(1) من ذلك ما صنفه أبو بكر محمد بن الحسن بن مقسم بن يعقوب المتوفى سنة (362) هـ وسماه «الأنوار في علم القرآن». انظر الفهرست لابن النديم: 49.
(2) انظر: البرهان للزركشي: 1/ 9، والإتقان للسيوطي: 1/ 7.(1/43)
المائة في «التحبير»، وفي «الزيادة والإحسان» لابن عقيلة المكي وصلت أربعة وخمسين بعد المائة، وليس المراد منها الحصر، فعلوم القرآن على ما أقره الزركشي لا تحصى ومعانيه لا تستقصى. (1)
وقد صنف العلماء في جوانب كثيرة من هذه العلوم كتابات مستقلة، كعلم القراءات والرسم العثماني والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول
وغير ذلك، ثم اختصرت هذه العلوم والمباحث وجمعت جلّ أصولها ومسائلها، ورمز إلى بعض فصولها في مصنف واحد، ووضعت القواعد العامة لتلك المسائل، وضربت عليها الأمثلة، وأشير إلى مواطن كل علم منها ومظانّه فكان كالفهرس والدليل، وأطلق عليه مصطلح علمي هو (علوم القرآن) (2) وهو مصطلح لم يعرّفه الأقدمون، وإنما حاول بعض المعاصرين تعريفه بمعناه العام.
وقد عرفه الأستاذ الزرقاني بقوله: مباحث تتعلق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله وترتيبه وجمعه وكتابته وقراءته وتفسيره وإعجازه وناسخه ومنسوخه ودفع الشّبه عنه وغير ذلك. (3)
وهو تعريف لم يرق لثلّة من الباحثين من أهل الاختصاص في هذا
__________
(1) انظر: البرهان للزركشي: 1/ 9.
(2) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 4.
(3) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 20.(1/44)
الفن، فقد رأوا فيه تجوّزا ملحوظا، يقول الأستاذ عدنان زرزور: إن التعريف الذي أطلقه صاحب «المناهل» ليس دقيقا، إذ إن أكثر هذه العلوم تدور حول تفسير بعض جوانب القرآن الكريم، أو يمهد لشرحها وتفسيرها، فهي عنده (علوم التفسير) (1).
ويؤكد هذا المعنى بأن الحاكم الجشمي الذي عدّ أنواع علوم القرآن في «تفسيره» إنما عنى بها في المقام الأول تلك الأمور والمعلومات التي لا بد من الوقوف عليها في تفسير كل آية، فهي والتفسير عنده أو علوم التفسير إن صح التعبير على حد سواء. (2)
وما أقره الزرقاني تبناه الأستاذ فاروق حمادة، غير أنه تعقبه بالشرح فحصر المعنى المراد منه حين قال:
إن علوم القرآن تطلق في الاصطلاح على مجموعة من العلوم التي تستند إلى القرآن الكريم وتسهل للباحث فهمه على الوجه الصحيح،
__________
(1) انظر: علوم القرآن لزرزور: 123.
(2) انظر: الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير: 455بتصرف. ويعترض على هذا الرأي بأن التفسير له أنواعه واتجاهاته وألوانه، ولهذا فهو بحاجة إلى دراسة متخصصة جعلته فنا مستقلا عن بقية علوم القرآن وأطلق عليه مصطلح (علوم التفسير)، وأفردت بدراسات مستقلة منفصلة عن علوم القرآن. وانظر: تاريخ علوم القرآن: ص 10، رسالة ماجستير، إعداد: أحسن محمد أشرف الدين.، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1405هـ.(1/45)
وتكشف له أسراره ومعانيه، قال: وينضوي تحت هذا المصطلح علم أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وعلوم إعراب القرآن والقراءات القرآنية، والإعجاز القرآني والرسم والخط والتفسير إلخ، فهذه العلوم تقوم كلها لتحقيق غاية واحدة هي خدمة كتاب الله وتيسيره للذكر لمن ادّكر.
ويتابع قوله: وما ضمناه التعريف من العلوم التي تستند إلى القرآن الكريم، وتهدف إلى المحافظة عليه ليس كل المعارف والعلوم التي تستنبط منه، بمعنى أننا لا نستطيع أن ندخل في مصطلح علوم القرآن كل أنواع المعرفة التي وجدت وستوجد، بل إن علوم القرآن أصبحت تنحصر في شعبتين اثنتين:
أولاهما: تاريخ القرآن الكريم، وما ينضوي تحته من نزوله وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ إلخ.
وثانيهما: الوسيلة الصحيحة لفهمه على الوجه الحق، وينضوي تحت ذلك علوم اللغة والإعجاز والمحكم والمتشابه إلخ.
فإن على كل من يريد التعامل مع النص القرآني أن يطلع على هاتين المقدمتين اللازمتين تحت اسم علوم القرآن، وبمقدار ما يجانبهما سيجانب
الحقيقة ويبعد عن الصواب. (1)(1/46)
فإن على كل من يريد التعامل مع النص القرآني أن يطلع على هاتين المقدمتين اللازمتين تحت اسم علوم القرآن، وبمقدار ما يجانبهما سيجانب
الحقيقة ويبعد عن الصواب. (1)
وتوسع الأستاذ عبد السلام الكفافي في تعريفه للمصطلح حين عرفه بقوله: علوم القرآن بالمعنى هو كل ما يتصل بالقرآن الكريم من دراسات (2).
ثم عاد ليقيد التعريف الذي أطلقه ليقول: إن كثيرا من هذه العلوم أصبح مستقلا بذاته، لوفرة ما كتب من مؤلفات، ولغزارة المادة التي عالجتها حتى أصبحت عبارة (علوم القرآن) في مفهومها الخاص تطلق على جانب معين من هذه الدراسات. لقد أصبح مجالها مقتصرا على أبحاث تتعلق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله وترتيبه وجمعه وكتابته وقراءته وتفسيره وإعجازه وناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، ونحو ذلك. (3)
والتعريف الذي أطلقه الأستاذ الكفافي قبل تقييده يأتي على طريقة طائفة من أهل العلم كالسيوطي الذي توسع حتى أدخل علم الهيئة والطب والحساب. (4) وابن العربي (5) الذي ذكر في قانون التأويل أن علوم القرآن
__________
(1) انظر: مدخل إلى علوم القرآن لفاروق حمادة: 5.
(2) انظر: في علوم القرآن دراسات ومحاضرات: 29.
(3) انظر: في علوم القرآن دراسات ومحاضرات: 29.
(4) انظر الإتقان للسيوطي: 3/ 1030، تحقيق مصطفى البغا.
(5) هو محمد بن عبد الله بن محمد المعافري، قاض من حفاظ الحديث، بلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين، مصنفاته كثيرة منها الناسخ والمنسوخ، توفي (543هـ). انظر: العواصم من القواصم: 9وما بعدها ووفيات الأعيان: لابن خلكان: 1/ 489.(1/47)
(77450) علما على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة، معللا ذلك بأن لكل كلمة ظهرا وبطنا، وحدا ومطلعا. (1)
هذا ونجد أن ابن حبيب النيسابوري (2) قد حصرها في خمسة وعشرين وجها أو علما، وأوقف فهم كتاب الله على معرفتها والتمييز بينها، بل لم
__________
(1) انظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي: 1/ 17، وهو ما ذهب إليه أبو طالب المكي في كتابه قوت القلوب: انظره: 1/ 77وهذا التقسيم مأخوذ من رواية ضعيفة منسوبة إلى ابن مسعود أخرجها ابن جرير في تفسيره كما أخرجها غيره. وسيأتي في الباب الثالث من هذا البحث إن شاء الله.
وما ذكر تعليل بعيد «فالعلوم الكونية والمعارف والصنائع، وما وجد أو يجد في العالم من فنون ومعارف كالهندسة والحساب لا يجمل عدّه من علوم القرآن، لأن القرآن لم ينزل ليدلل على نظريات الهندسة مثلا، أو ليقرر قانونا من قوانينها، وإن كان القرآن قد دعا المسلمين إلى تعلمها وحذقها والتمهر فيها، وفرق بين الشيء يحث القرآن على تعلمه في عموماته أو خصوصاته، وبين العلم يدل القرآن على مسائله أو يرشد إلى أحكامه، أو يكون ذلك العلم خادما للقرآن بمسائله، وأحكامه أو مفرداته.
ثم إن كلمات كثيرة من كتاب الله لها مدلول واحد وهي مكررة في ثنايا كتاب الله، فهل يكون لكل كلمة أربعة معان مختلفة؟! انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 17.
(2) هو الحسن بن محمد بن حبيب أبو القاسم النيسابوري، مفسر واعظ، توفي (406هـ).
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 237وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 140.(1/48)
يحلّ التكلم في كتاب الله إلا بعد معرفتها. (1)
ولعل أجود التعاريف التي وقفت عليها أثناء البحث لهذا المصطلح هو ما أطلقه الدكتور حسن ضياء الدين عتر يحفظه الله حين عرفه بقوله: علم يضم أبحاثا كلية هامة تتصل بالقرآن العظيم من نواحي شتى يمكن اعتبار كل منها علما متميزا. (2)
ويعترض على تعريفه هذا أنه عرّف العلم بلفظة العلم، وتعريف الشيء بنفسه غير دقيق. ولهذا يحسن تعريف مصطلح علوم القرآن بأنه:
أبحاث (مباحث) كلية تتصل بالقرآن الكريم من نواحي شتى، يمكن اعتبار كل مبحث منها فنا مستقلا متميزا. وبذلك نكون قد دفعنا ما يعترض على التعريف السابق من تعريف العلم بالعلم.
دخول علم التفسير في الاصطلاح:
مما سبق تبين لنا أن بعض العلماء يطلقون (علوم القرآن) ليشمل علم التفسير إلى جانب العلوم المقصودة الأخرى، في حين يرى آخرون أنه لا ينبغي عدّ التفسير من هذه العلوم.
__________
(1) انظر: التنبيه على فضل علوم القرآن لابن حبيب النيسابوري: 307، ضمن مجلة المورد العراقية العدد: 7مجلد 17عام 1405هـ.
(2) انظر: فنون الأفنان لابن الجوزي: المقدمة ص 71.(1/49)
ويحصر الأستاذ الزرقاني تلك العلوم في العلوم الدينية والعربية، ويقول: إنها أنجبت وليدا جديدا هو مزيج منها جميعا، وسليل لها جميعا فيه مقاصدها وأغراضها وخصائصها وأسرارها (والولد سر أبيه) (1) وهو لهذا عدّ التفسير من تلك العلوم، وجعلها قسيما لها. في حين أن الأستاذ فاروق حمادة رغم أن ما انضوى تحت التعريف عنده يعارض ما حصره في الشعبتين المذكورتين، عدّ التفسير من العلوم التي انضوت تحت المصطلح، والمفهوم من المقدمتين السابقتين عدم اعتبار التفسير. وهو ما قرره حين عاد ليقول: يمكننا أن نقول: إن عدّ علم التفسير من علوم القرآن فيه تجوّز. (2)
والذي يبدو لي تبعا لبعض أهل العلم أن عدّ التفسير من علوم القرآن وجعله قسيما أو نوعا كسائر الأنواع مسألة فيها نظر، لأن غالب تلك العلوم أريد بها تيسير سبيل شرحه وتفسيره وفهمه. يعلل الأستاذ عدنان زرزور هذه الوجهة فيقول: إن أغلب التفاسير الكبيرة قد صدّرت بمقدمة أو مقدمات شملت أهم تلك العلوم، ولهذا لا يعدّ التفسير من علوم القرآن (3).
وختاما أقول: ينبغي النظر إلى هذا المصطلح باعتبارين:
__________
(1) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 4.
(2) انظر: مدخل إلى علوم القرآن والتفسير لفاروق حمادة: 6.
(3) انظر علوم القرآن لعدنان زرزور: 123.(1/50)
الأول: باعتبار كونه مركبا من جزءين، وبمعرفتهما يعرف، وعلى ما سبق توضيحه يكون علوم القرآن: هو العلم الذي يبحث في القرآن الكريم في شتى أحواله. فيدخل فيه علم التفسير فضلا عن غيره، ولهذا أطلق عدد من العلماء هذا الاسم على تفاسيرهم، كالحوفي (1) الذي سماه (البرهان في علوم القرآن) والأدفوي (2) الذي سماه (الاستغناء في علوم القرآن) وكأبي الحسن الأشعري الذي سماه (المختزن في علوم القرآن) (3).
الثاني: باعتباره علما مستقلا ظهر وتكامل لدى المتأخرين، ويعرف بأنه: أبحاث (مباحث) كلية تتصل بالقرآن الكريم من نواحي شتى، يمكن اعتبار كل مبحث منها فنا مستقلا متميزا.
ويطلق المصطلح على بعض تلك العلوم كما يطلق عليها جميعا.
وتلك المباحث تدور حول ثلاثة محاور رئيسة:
__________
(1) هو علي بن إبراهيم بن سعيد الحوفي، نحوي مصري، صنف في النحو والتفسير، له البرهان في تفسير القرآن، توفي (430هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 251 وطبقات النحاة لابن قاضي شهبة: 2/ 132.
(2) هو محمد بن علي الأدفوي مفسر من أهل أدفو بصعيد مصر، ت (388هـ) انظر:
طبقات القراء لابن الجزري: 2/ 198، وطبقات المفسرين للسيوطي: 97، وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 197.
(3) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 388و 2/ 197، والحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير للأستاذ عدنان زرزور: 164.(1/51)
المحور الأول: ما يتعلق بالجانب التاريخي، كعلم أسباب النزول، وجمع المصحف، والمكي والمدني، وغير ذلك.
المحور الثاني: ما يتعلق بجانب الأداء، كعلم القراءات، والوقف والابتداء، وغير ذلك.
المحور الثالث: ما يتعلق بالنص القرآني مباشرة، ويعين على فهمه، وهي بقية العلوم.
الفرق بين علوم القرآن وأصول التفسير: فيما سبق عرفنا مصطلح (علوم القرآن) من الناحية اللغوية لمفرداته، ثم التعريف الاصطلاحي واختلاف العلماء في وضع تعريف له.
وقد ظهر مصطلح آخر جعله بعضهم مرادفا لمصطلح علوم القرآن، واستعمل في موضعه عند كثير من المهتمين بعلوم القرآن، هذا المصطلح هو علم (أصول التفسير).
وقبل إيراد بعض تعاريف العلماء لهذا المصطلح أود الإشارة إلى أن أقدم كتاب يحمل هذا الاسم هو كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية (1) (مقدمة
__________
(1) هو أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، شيخ الإسلام، فقيه إمام مجتهد، اعتقل في مصر والشام، تصانيفه كثيرة، منها منهاج السنة، توفي في معتقله بقلعة الشام (728هـ).
انظر: الدرر الكامنة لابن حجر: 1/ 144والبداية والنهاية لابن كثير: 14/ 135.(1/52)
في أصول التفسير)، وما ذكره فيه من الفنون والعلوم هي من جملة الفنون التي كان السابقون يوردونها في مؤلفات علوم القرآن، وهي التي بقي المتأخرون كالزركشي (1) والسيوطي وابن عقيلة (2) والزرقاني وغيرهم يوردونها في مؤلفاتهم الخاصة في علوم القرآن.
ثم جاء ولي الله الدهلوي (3) وألّف (الفوز الكبير في أصول التفسير) وتبعه آخرون في العصر الراهن.
إن الناظر في مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية يجد أنه يعرّف أصول التفسير بقوله:
أبحاث تتضمن قواعد كلية تعين على فهم القرآن، ومعرفة تفسيره
__________
(1) هو محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، فقيه أصولي مفسر، انقطع للاشتغال بالعلم، له البرهان في علوم القرآن، توفي (794هـ) انظر: الدرر الكامنة لابن حجر: 4/ 17 وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 57
(2) هو محمد بن أحمد بن سعيد بن مسعود المكي، المشتهر والده بعقيلة، تلقى العلم عن علماء الحرم، ورحل في طلب العلم، له مصنفات منها الزيادة والإحسان في علوم القرآن، توفي (1150هـ). انظر: سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر للمرادي:
4/ 31والمختصر من كتاب نشر النور والزهر للمرداد: 2/ 411.
(3) هو أحمد بن عبد الرحيم بن وجيه الدين العمري الدهلوي، قرأ على والده العلوم، برع في اللغة والفقه، صنف بالعربية والفارسية، له «الزهراوين» في التفسير، توفي (1176هـ) انظر: نزهة الخواطر: 6/ 398.(1/53)
ومعانيه، والتمييز في منقول ذلك ومعقوله بين الحق والباطل، والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل. (1)
وهو تعريف يصلح إطلاقه على مصطلح (علوم القرآن)، ولهذا نؤكد أن المتقدمين كانوا يستعملون المصطلحين (أصول التفسير، وعلوم القرآن) لغرض واحد، يقصدون به كل القواعد والأبحاث التي تخدم كتاب الله وتعين على فهمه. غير أن المتأخرين قصدوا من هذا المصطلح أمرا أخص من الذي أراده المتقدمون منه إذ حصروه على: الأسس والقواعد التي يعرف بها تفسير كتاب الله، ويرجع إليها عند الاختلاف فيه. ويكوّن محور هذا الفن أمران:
الأول: كيف فسّر كتاب الله.
والثاني: كيف نفسّر كتاب الله. (2)
وعليه يكون بين المصطلحين خصوص وعموم، فعلوم القرآن مصطلح عام وأصول التفسير مصطلح خاص يطلق على بعض فنون علوم القرآن، مثل حكم التفسير، وأقسامه وأنواعه، وأسباب الاختلاف في التفسير، وقواعد الترجيح عند المفسرين، وغير ذلك من الفنون التي لها
__________
(1) مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 33.
(2) فصول في أصول التفسير للطيار: 11.(1/54)
اتصال مباشر بالتفسير، ولا يدخل فيها تلك المقدمات التعريفية والتاريخية التي هي من علوم القرآن. والله أعلم.(1/55)
المبحث الثالث نشأة علوم القرآن (1)
تقديم:
قبل الحديث عن نشأة علوم القرآن والخوض في جزئيات الموضوع يحسن بنا التعرف على الجوانب العلمية عند الذين اختارهم الله الحكيم لرسالته، واصطفى منهم نبيه صلى الله عليه وسلم لتبليغ الأمانة، إذ الحديث لا يستقيم إلا إذا عرفنا الحالة العلمية للعرب والمناخ العلمي في الجزيرة العربية الذي عاش فيه أولئك الذين احتضنوا الدعوة، وخير ما يهمنا في هذا المناخ هو أمر القراءة والكتابة، فهل كانت العرب تقرأ وتكتب؟ أم إن
__________
(1) تطرق لنشأة علوم القرآن كثير من المهتمين بعلوم القرآن، منهم على سبيل المثال:
الزرقاني في مناهل العرفان: 1/ 3321وأبو شهبة في المدخل لدراسة القرآن الكريم: 3926والدكتور صبحي صالح في مباحث في علوم القرآن: 119 126وفضيلة الشيخ مناع القطان في المحاضرات التي ألقاها على طلبة الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والدكتور عدنان زرزور في أصول التفسير وقواعده: 3532، وعلوم القرآن له: 126124والأستاذ أبو الفضل إبراهيم في المقدمة التي قدم بها كتاب الاتقان للسيوطي: 1/ 87والدكتور حسن ضياء الدين العتر في مقدمته لكتاب فنون الأفنان لابن الجوزي: 7372والدكتور فهد الرومي في دراسات في علوم القرآن الكريم: 5135والأستاذ خالد السبت في دراسة تقويمية لمناهل العرفان: 2816وغيرهم.(1/56)
الإسلام هو الذي علمهم ذلك؟
أالكتابة في الجزيرة العربية قبل البعثة:
الذي يطالع أخبار الجزيرة العربية قبل البعثة المحمدية، يتبين له بوضوح ومنذ الوهلة الأولى أن القوم قد عرفوا الكتابة والتدوين، وأنهم مارسوا هذا الفن، وسيضع يده على أدلة كثيرة تؤكد هذه الحقيقة، وإن كانت الأخبار نفسها توحي بأن عدد الراغبين في القراءة والكتابة والمهتمين بالتعليم كان قليلا نسيبا، والدليل أن انتشار الكتابة كان على نطاق محدود انحصر في أبناء الحاضرة ومراكز الحضارة كمكة والمدينة والطائف وغيرها (1)، وأن جلّ المهتمين بها كانوا من أبناء كبار الأشراف والعوائل العريقة التي رأت أن في التعليم ومعرفة الكتابة مزية ترفع من شأنهم، وتعلي من قدرهم، فهم الذين كانوا يطلقون اسم الكامل على من يجيد السباحة والرماية والكتابة، ويعدون ذلك من صفات الكمال في الرجل (2). ولقب به عدد، منهم: رافع بن مالك (3)، وسعد بن عبادة (4)،
__________
(1) انظر فتوح البلدان للبلاذري: 664659.
(2) انظر: طبقات ابن سعد: 3/ 2/ 91ط ليدن وعيون الأخبار لابن قتيبة: 2/ 168، وفتوح البلدان للبلاذري: 664والأغاني لأبي الفرج: 3/ 27.
(3) هو رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق الأنصاري، أحد النقباء الذين شهدوا العقبة وقيل: هو أول من أسلم من الخزرج. انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد: 1/ 218والإصابة لابن حجر: 1/ 499وتهذيب التهذيب: 3/ 232.
(4) هو سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة، من بني ساعدة من الخزرج، شهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج إلى الشام ومات بحوران سنة (14هـ). انظر: المعارف لابن قتيبة: 259وسير أعلام النبلاء للذهبي: 1/ 270.(1/57)
وأسيد بن حضير (1)، وعبد الله بن أبيّ (2)، وأوس بن خولي (3)، وسويد بن الصامت (4) (5). ولهذا كانت الكتاتيب التي يتعلم فيها الصبيان أمور القراءة
__________
(1) هو أسيد بن الحضير بن سماك بن عتيك بن نافع من بني عبد الأشهل، أحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة، أسلم قديما، قال عنه صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل أسيد بن حضير. توفي سنة (20هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 1/ 340وتهذيب التهذيب لابن حجر: 1/ 347.
(2) هو عبد الله بن أبي بن مالك بن سلول الخزرجي المعروف بابن سلول، رأس المنافقين في الإسلام، سيد الخزرج، أظهر الإسلام بعد وقعة بدر تقية، مات سنة (9هـ). انظر:
البداية والنهاية لابن كثير: 5/ 34والأعلام للزركلي: 4/ 65.
(3) هو أوس بن خولي بن عبد الله بن الحارث الخزرجي الأنصاري، صحابي شهد بدرا وأحدا والمشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من الذين أدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفاته ليغسله، ومن الذين أنزلوا معه القبر، توفي في خلافة عثمان بن عفان. انظر:
الطبقات الكبرى لابن سعد: 2/ 279و 300ط دار بيروت وأسد الغابة لابن الأثير:
1/ 170ط الشعب.
(4) هو سويد بن الصامت بن خالد بن عقبة الأوسي، شاعر من أهل المدينة، قيل: قدم مكة معتمرا فدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فلم يبعد، وقال إن هذا القول حسن، وقتل عند انصرافه، قال قومه: إنا لنراه مسلما، انظر: الإصابة لابن حجر: 2/ 134والأعلام للزركلي: 3/ 145.
(5) انظر: طبقات ابن سعد: 3/ 2/ 91و 3/ 2/ 142ط ليدن والمعارف لابن قتيبة:(1/58)
والكتابة موجودة ومنتشرة، ولذلك أيضا وجّه زيد العبادي ولده عديا (1)
ت (35ق. هـ) إلى التعليم، وطرحه في الكتّاب حين نما حتى حذق العربية، فكان أول من دوّن بالعربية في ديوان كسرى (2).
وكان بشر بن عبد الملك العبادي علّم أبا سفيان بن أمية (3)، وأبا قيس ابن عبد مناف بن زهرة الكتاب، فعلّما أهل مكة (4). وقد سجل ابن حبيب البغدادي ت (245هـ) (5) صاحب (المحبّر) قائمة بأسماء الأشراف المعلمين في العصر الجاهلي منهم بشر بن عبد الملك السكوني أخو أكيدر صاحب دومة الجندل، ومنهم غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي (6)، ومنهم عمرو بن
__________
259 - وفتوح البلدان للبلاذري: 664.
(1) هو عدي بن زيد بن الحمار العبادي التميمي النصراني، من فحول الشعراء، ومن دهاة الجاهليين، قيل: مات في الفترة (35ق هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/ 110 والأعلام للزركلي: 4/ 220.
(2) انظر: الأغاني لأبي الفرج: 2/ 94.
(3) هو صخر بن حرب بن أمية القرشي، أبو سفيان، زعيم قومه، وأحد الوجهاء، أسلم عام الفتح، وشهد حنينا والطائف، توفي سنة (32هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي:
2/ 105والإصابة لابن حجر: 2/ 178.
(4) انظر: المعارف لابن قتيبة: 553.
(5) هو محمد بن حبيب بن أمية بن عمرو البغدادي، قيل: لا يعرف أبوه، وحبيب أمه، علّامة بالأنساب والأخبار واللغة والشعر، له تصانيف عديدة منها الأنساب. انظر:
تاريخ بغداد للخطيب: 2/ 277وبغية الوعاة للسيوطي: 1/ 73.
(6) هو غيلان بن سلمة بن معتب بن مالك بن كعب الثقفي، شاعر مجيد أسلم بعد فتح(1/59)
زرارة بن عدس بن زيد (1) وكان يسمى بالكاتب، وغيرهم (2).
وكانت العرب تسجل أشعارها وتقيدها بالكتابة (فتسجل كل ما يتصل بالقبيلة من أخبار حروبها وأيامها، وتذكر مفاخرها ومآثرها وشعر شعرائها، وحكم بلغائها) (3)
كما دلت الدراسات العلمية على أن العرب مارسوا فن الكتابة قبل الإسلام، فكانوا يؤرخون أهم أحداثهم على الحجارة، وقد أثبتت الأبحاث الأثرية ذلك بأدلة قاطعة تعود إلى القرن الثالث الميلادي، وتحمل تلك الحجارة كتابات العرب الذين كانوا في الأطراف الشمالية للجزيرة العربية (4).
واشتهرت المعلقات السبع التي تعلق على الكعبة، وعرفت الصحيفة
__________
الطائف، وكان أحد وجوه ثقيف، وممن وفد على كسرى، توفي سنة (23هـ): انظر:
الإصابة لابن حجر: 3/ 189وأسد الغابة لابن الأثير: 4/ 343.
(1) هو عمرو بن زرارة الأنصاري، صحابي، كان حمش الساقين: دقيقهما، قال له صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يحب المسبلين. انظر: الإصابة لابن حجر: 2/ 535وأسد الغابة لابن الأثير:
4/ 223.
(2) انظر: المحبر لابن حبيب: 477475.
(3) الشعر الجاهلي لناصر الدين الأسد: 165.
(4) مصادر الشعر الجاهلي لناصر الدين الأسد: 3224.(1/60)
التي تعاقدت فيها قريش على رد الحقوق وإنصاف المظلوم وعلقت على الكعبة. (1)
لقد بلغت الأخبار التي تؤكد هذه الحقيقة درجة الاستفاضة والتواتر، والذي يتتبع الكتب التي اهتمت بمثل هذا الموضوع لا شك أنه سيخرج لنا بأخبار كثيرة أخرى.
وأما دعوى أن العرب لم تكن بحاجة إلى الكتابة لكونهم أصفياء الذهن يعتمدون على قوة حفظهم، وسلامة أذهانهم، فدعوى باطلة لا تمت إلى الحقيقة بصلة، فالناس يختلفون في ذلك، ويتفاوتون في قدراتهم الذهنية والعقلية، نعم نحن نؤكد أن العرب قد اعتمدت كثيرا على سيلان الذهن وقوة العارضة التي عرفت بها، غير أنها لم تعتمد اعتمادا كليا على ذلك لا تصادم في الجمع بين الأمرين معا.
ب الكتابة في الإسلام:
تبين لنا فيما سبق أن العرب عرفت الكتابة قبل الإسلام، وأنها دونت نتفا من أخبارها، وتذكر الأخبار أن من الذين كانوا يكتبون في قريش زمن نزول الوحي عمر ابن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح (2)، ويزيد بن أبي سفيان (3)، وأبو حذيفة بن عتبة بن
__________
(1) انظر الأغاني لأبي الفرج: 6/ 116طبقة أخرى.
(2) هو عامر بن عبد الله الجراح، بن هلال القرشي، صحابي من السابقين الأولين، ومن المشهود لهم بالجنة، أسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمين هذه الأمة. مناقبه كثيرة، توفي (18هـ).
انظر: المعارف لابن قتيبة: 247وسير أعلام النبلاء للذهبي: 1/ 5.
(3) هو يزيد بن صخر بن حرب بن أمية، أحد العقلاء الألبّاء، والشجعان المذكورين،(1/61)
ربيعة (1)، وحاطب بن عمرو، أخو سهيل بن عمرو العامري (2)،
وغيرهم، كما كان عدد من النساء يكتبن، أمثال: الشفاء بنت عبد الله العدوية (3)، وحفصة أم المؤمنين (4)، وأم كلثوم بنت عقبة (5)، وعائشة بنت
__________
أسلم يوم الفتح، وكان يقال له يزيد الخير، حضر حنينا، وتوفي بالطاعون سنة (18هـ).
انظر: المعارف لابن قتيبة: 345وسير أعلام النبلاء للذهبي: 1/ 328.
(1) هو أبو حذيفة قيل اسمه: هشيم، وقيل: مهشم، بن عتبة بن ربيعة بن عبد مناف، أحد السابقين، أسلم قبل دخول دار الأرقم، ومن مهاجرة الهجرتين، استشهد يوم اليمامة سنة (12هـ). انظر: المعارف لابن قتيبة: 272وسير أعلام النبلاء للذهبي: 1/ 164.
(2) هو حاطب بن عمرو بن عبد شمس القرشي العامري، من السابقين، إذ أسلم قبل أن يتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وقيل هو أول من هاجر إلى الحبشة، وشهد بدرا. أما أخوه سهيل فيكنى أبا يزيد، كان خطيب قريش وفصيحهم، ومن أشرافهم أسلم يوم الفتح، وعرف عنه كثرة البكاء لسماع القرآن، خرج مجاهدا إلى الشام، قيل: استشهد يوم اليرموك، وقيل: مات في طاعون عمواس. انظر: المعارف لابن قتيبة: 284وسير أعلام النبلاء للذهبي: 1/ 194والإصابة لابن حجر: 1/ 301كتاب الوحي لأحمد عيسى: 496.
(3) هي الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس بن خلف، القرشية العدوية، صحابية أسلمت قبل الهجرة، قيل: اسمها ليلى والشفاء لقب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيل عندها، وكان عمر رضي الله عنه يقدّمها في الرأي، روى لها البخاري وغيره. توفيت نحو سنة (20هـ). انظر:
تهذيب الكمال للحافظ المزي: 35/ 207والإصابة لابن حجر: 4/ 341.
(4) هي أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب أمير المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم، الصوامة القوامة، أراد الرسول تركها فأمره الله تعالى بمراجعتها وأعلمه أنها زوجته في الجنة. توفيت سنة (41هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 2/ 227والإصابة لابن حجر: 4/ 273.
(5) هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أبان بن ذكوان، أسلمت بمكة وهاجرت، أنزل(1/62)
سعد (1)، وغيرهن (2) وتؤكد الأخبار أن عددا من اليهود كانوا يكتبون أيضا (3)
وحين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب حنظلة بن أبي سفيان (4) كتابا إلى أبيه باليمين يخبره أن محمدا صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى عبادة الله. (5) وحين عجزت قريش عن وأد الدعوة كتبت صحيفة بيد منصور بن عكرمة العبدري الذي شلت يده، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة قاطعت قريش بموجبها
__________
الله فيها {إِذََا جََاءَكُمُ الْمُؤْمِنََاتُ مُهََاجِرََاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 1110]، توفيت في خلافة علي رضي الله عنه. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 2/ 276والإصابة لابن حجر: 4/ 491.
(1) هي عائشة بنت سعد بن أبي وقاص الزهرية، صحابية جليلة، رأت ستا من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي غير عائشة بنت سعد التابعية،. انظر الإصابة لابن حجر: 4/ 361.
(2) فتوح البلدان للبلاذري: 661660، والعقد الفريد لابن عبد ربه: 4/ 157، والمذكور في فتوح البلدان: 660أن عدد الذين كانوا يكتبون في قريش سبعة عشر رجلا، وقد استقل الأستاذ الأعظمي هذا العدد وقال: إنها تفيد القلة حيث إن هناك من الأسماء التي كانت تكتب، لم تذكر ضمن هؤلاء، كما كان هناك عدد من النساء يكتبن، هذا في مكة وكذا في المدينة عدد يكتبون قدر بأحد عشر رجلا. انظر دراسات في الحديث النبوي للأعظمي: 1/ 5553.
(3) انظر فتوح البلدان للبلاذري 663وانظر: مجلة المنار: المجلد العاشر، الجزء العاشر: 746.
(4) هو حنظلة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم بدر، ولا عقب له. انظر: المعارف لابن قتيبة: 345.
(5) انظر: الأغاني للأصفهاني: 6/ 365.(1/63)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته، (1) فلما انتصر الإسلام ورفع صوت الحق تابع صلى الله عليه وسلم نهجه في عرض الإسلام على علية القوم وعقلائهم لعل الله ينصر بهم ما لا ينصر بغيرهم، وكان ممن دعي إلى اعتناق الدين الجديد سويد بن الصامت الذي كان يلقب بالكامل رفض الدعوة قائلا: لعل الذي معك مثل الذي معي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما الذي معك؟» قال: مجلة لقمان يعني حكمة لقمان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعرضها عليّ».
فعرضها عليه.
فقال له: «إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى عليّ» الرواية (2).
وروى عمران بن حصين (3) لبشير بن كعب (4) قول رسول الله
__________
(1) انظر: طبقات ابن سعد: 1/ 139وتهذيب السيرة لعبد السلام هارون: 91.
(2) انظر السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 426ط 2.
(3) هو عمران بن حصين بن عبيد الخزاعي، صحابي جليل، أسلم عام خيبر، وغزا في سبيل الله، وولي قضاء البصرة، تجنب الفتنة ولم يحارب مع علي، توفي (52هـ). انظر:
سير أعلام النبلاء للذهبي: 2/ 508والإصابة لابن حجر: 3/ 26.
(4) هو بشير بن كعب بن أبيّ البصري، فقيه عابد، وتابعي جليل، وثقه النسائي وغيره، قيل: توفي سنة (80هـ). انظر تهذيب الكمال للمزي: 4/ 184وسير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 351وفتح الباري لابن حجر: 10/ 521.(1/64)
صلى الله عليه وسلم: «الحياء لا يأتي إلا بخير». فقال بشير: مكتوب في الحكمة: إن الحياء وقار. وإن من الحياء سكينة. فقال عمران: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن صحيفتك. (1) وهي المجلة التي ذكر وهب بن منبه ت (116 هـ) (2) أنه قرأ فصولا منها. (3)
ولا يعني هذا نفي وصف الأمية عن العرب، فهم في غالبيتهم كانوا أميين لا يقرءون ولا يكتبون، وهو وصف يليق بأبناء البادية أكثر منه بسكان المدن وأرباب الدول البائدة كسكان اليمن ومدن نجد والحجاز والعراق وأطراف الشام، الذين عرفت لهم دول ذات حضارة ومجد.
لقد جاء الإسلام ليجد تربة صالحة للتعلم والتعليم، فبدأ ب {اقْرَأْ}
إيذانا بمكانة العلم، وذكر القلم {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 4] وسيلة الكتابة وتدوين العلم ونقله {ن وَالْقَلَمِ وَمََا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] وأكد ذلك {الرَّحْمََنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 21] ورفع من قدر الكاتبين حين وصف سبحانه الملائكة بقوله: {كِرََاماً كََاتِبِينَ} [الانفطار: 11] وحين قال: {إِنَّ هََذََا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ََ. صُحُفِ إِبْرََاهِيمَ وَمُوسى ََ} [الأعلى:
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الأدب، باب: الحياء: 7/ 100ومسلم في صحيحه، كتاب: الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان: 1/ 64.
(2) هو وهب بن منبه بن كامل اليماني الصنعاني، أخو همام بن منبه، أخباري قصصي، وثقه العجلي وأبو زرعة. انظر: تهذيب الكمال للمزي: 31/ 140وسير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 544.
(3) انظر المعارف لابن قتيبة: 55ط 4دار المعارف.(1/65)
1918] ويجد القارئ لكتاب الله أن مصطلحات الكتابة والكتاب والقرطاس والقلم والمداد والصحف، قد تكررت مرارا، فكان في هذه الآيات وغيرها حث على طلب العلم، وتوجيه رباني لمن يعتنق هذا الدين بضرورة التعلم والتفقه.
إن طبيعة الرسالة السماوية تقتضي أن يكثر المتعلمون والكتاب، (فالوحي يحتاج إلى من يكتب، وأمور الدولة من مراسلات ومواثيق تحتاج إلى كتّاب) (1) وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم من آمن على التعلم والكتابة، ولهذا حين هاجر من أصحابه صلى الله عليه وسلم من هاجر أرسل لهم مصعب بن عمير ليعلمهم وليفقههم في الدين، كما كان يأمر كتّابه بكتابة ما كان ينزل من كلام الله حتى يبقى محفوظا في السطور والصدور معا، وليبقى كل منهما شاهدا على الآخر وضابطا له. كما كان في عمله هذا صلى الله عليه وسلم حض وتشجيع للصحابة على التعلم، فانتشرت الكتابة بينهم في وقت قياسي، حتى أصبح كتّاب النبي صلى الله عليه وسلم يقدّرون بأكثر من خمسين كاتبا، يقول المسعودي وقد ذكر أسماء كتّابه: إنما ذكرنا من أسماء كتّابه صلى الله عليه وسلم من قد ثبت على كتابته، واتصلت أيامه فيها، وطالت مدته، وصحت الرواية على ذلك من أمره، دون من كتب الكتاب والكتابين والثلاثة، إذ كان لا يستحق بذلك أن يسمى كاتبا يضاف إلى جملة كتّابه. (2)
__________
(1) انظر السنة قبل التدوين: 298.
(2) انظر: التنبيه والإشراف: 346والسّنة قبل التدوين لعجاج الخطيب: 298.(1/66)
فهذا علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت (1)
رضي الله عنهم وغيرهم يكتبون القرآن الكريم، وهذا الزبير بن العوام (2) وجهيم بن الصلت (3) رضي الله عنهما يكتبان أموال الصدقات، وعبد الله بن الأرقم (4) والعلاء بن عقبة (5) وحصين بن
__________
(1) هو زيد بن ثابت بن الضحاك الخزرجي كان من كتاب الوحي، قيل: إنه أعلم الناس بالفرائض، ومن أصحاب الفتوى والقضاء. توفي سنة (45هـ). انظر: التاريخ الكبير للبخاري: 3/ 380والاستيعاب لمعرفة الأصحاب لابن عبد البر: 1/ 551والإصابة لابن حجر: 1/ 516.
(2) هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد، حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمته، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى، وأول من سل سيفه في الإسلام، قتله جرموز في فتنة الجمل. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 1/ 41والإصابة لابن حجر: 1/ 545وشذرات الذهب لابن عماد: 1/ 42.
(3) هو جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف، قيل: أسلم بعد الفتح، وقال البلاذري: تعلم الخط في الجاهلية فجاء الإسلام وهو يكتب، وقد كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن حجر: وقال صاحب التاريخ الصمادحي: كان الزبير وجهيم بن الصلت يكتبان أموال الصدقات. انظر: الإصابة لابن حجر: 1/ 255وأسد الغابة لابن الأثير:
1/ 369.
(4) هو عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث بن وهب القرشي الكاتب، أسلم عام الفتح، وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولاه عمر بيت المال، وكذا عثمان، عمي قبل وفاته. انظر سير أعلام النبلاء للذهبي: 2/ 482وأسد الغابة لابن الأثير:
3/ 173.
(5) هو العلاء بن عقبة، ترجم له ابن حجر فقال: ذكره المستغفري في الصحابة، وذكره المرزباني وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعثه هو والأرقم في دور الأنصار. وفي تاريخ(1/67)
نمير (1)، والمغيرة بن شعبة (2) رضي الله عنهم يكتبون بين الناس المداينات وسائر العقود، وشرحبيل ابن حسنة (3) رضي الله عنه يكتب التوقيعات إلى الملوك، ومعيقيب بن أبي فاطمة الدوسي رضي الله عنه (4) يكتب مغانم رسول الله
__________
ابن صمادح: أن العلاء بن عقبة والأرقم كانا يكتبان بين الناس المداينات والعهود والمعاملات. وقد أورد الدكتور أحمد عيسى ثلاثة كتب كتبها العلاء. انظر: الإصابة لابن حجر: 2/ 498وكتاب الوحي لأحمد عيسى: 399.
(1) هو الحصين بن نمير بن نائل الأنصاري، صحابي من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: كان ينوب عن معاوية في الكتابة، كما كان يكتب المداينات والمعاملات. قتل في قتال شيعة علي رضي الله عنه قرب الموصل سنة (67هـ). انظر: الإصابة لابن حجر: 1/ 339وكتاب الوحي لأحمد عبد الرحمن عيسى: 485.
(2) هو المغيرة بن شعلة بن أبي عامر بن مسعود، من كبار الصحابة أولي الشجاعة والمكيدة، شهد بيعة الرضوان، وعرف عنه سرعة البديهة وحدة الذكاء، كتب كثيرا بين الناس وخاصة في المداينات والمعاملات. أورد له أحمد عيسى تسعة كتب. توفي سنة (50هـ).
انظر: المعارف لابن قتيبة: 294وسير أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 21وكتاب الوحي لأحمد عيسى: 385.
(3) هو شرحبيل ابن حسنة نسبة إلى أمه، وأبوه هو عبد الله بن المطاع بن عمرو من اليمن، أحد السابقين إلى الإسلام، من مهاجرة الحبشة، قاد جيش أبي بكر إلى الأردن وفتح طبرية وما حولها، مات في طاعون عمواس سنة (18هـ). انظر: المعارف لابن قتيبة:
325 - والإصابة لابن حجر: 2/ 143.
(4) هو معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، أسلم قديما، وهاجر إلى الحبشة، وكان أمينا على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، واستعمله أبو بكر على الفيء وولي بيت المال لعمر، أصابه الجذام، وتوفي سنة (40هـ). انظر المعارف لابن قتيبة: 316وسير أعلام النبلاء للذهبي: 2/ 491.(1/68)
صلى الله عليه وسلم. (1) وقد أورد الكتاني في التراتيب الإدراية قائمة بأسماء الكتّاب الدائمين والمؤقتين (2).
لقد سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حث أصحابه على التعلم والكتابة طرقا عديدة، آتت ثمارها عاجلا، فتارة يبين لهم أهمية طلب العلم ومكانة العلماء «من سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة» (3)، ويدلهم على حصول الأجر الكبير في تبليغ ما يتعلمونه منه صلى الله عليه وسلم: «نضّر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلّغه، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربّ حامل فقه ليس بفقيه» (4).
وتارة بالتهديد والوعيد لمن تعلم علما فكتمه عن غيره ولم يبلغه: «من
__________
(1) انظر: التراتيب الإدارية للكتاني: 1/ 124115ودراسات في الحديث النبوي للأعظمي: 124120.
(2) انظر: التراتيب الإدراية للكتاني: ج 1/ 124115.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: العلم، باب: العلم قبل القول: 1/ 25وأحمد في المسند: 2/ 252وأبو داود في السنن، كتاب: العلم، باب: الحث على طلب العلم:
3/ 317.
(4) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب: العلم، باب: فضل نشر العلم: 3/ 322وأحمد في المسند: 1/ 437والترمذي في السنن، كتاب: العلم، باب: ما جاء في الحث على تبليغ السماع: 5/ 33وقال: حديث حسن والطحاوي في مشكل الآثار: 2/ 32وابن عبد البر في جامع بيان أهل العلم: 1/ 39وهو في موسوعة أطراف الحديث لزغلول:
10/ 3635بطرق كثيرة، وألفاظ مختلفة.(1/69)
سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» (1).
وأخرى بتقريب الكتّاب من نفسه، وإظهار الاهتمام بهم، ومنحهم المنزلة العظيمة، حتى عرف أن أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هم كتاب الوحي، فعن زيد بن ثابت قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلّم له كتاب يهود وقال لي: «إني لا آمن يهودا على كتابي». فلم يمر بي نصف شهر حتى تعلمته. فكنت أكتب له إلى يهود، وإذا كتبوا إليه قرأت كتابهم (2).
كان من سياسته التعليمية صلى الله عليه وسلم أن اتخذ من بيوت ثلّة من الصحابة مراكز للتعليم، فكانت دار الأرقم (3)، وكانت دار مخرمة بن
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب: العلم، باب: كراهية منع العلم: 3/ 321والترمذي في سننه كتاب: العلم، باب: ما جاء في كتابة العلم: 5/ 29وقال: حديث حسن وأحمد في المسند: 2/ 305263والحاكم في المستدرك: 1/ 101وقال: هذا حديث تداوله الناس بأسانيد كثيرة تجمع ويذاكر بها، وهذا الإسناد صحيح على شرط الشيخين.
وأورده السيوطي في الجامع وصححه. انظر فيض القدير للمناوي: 6/ 146.
(2) اخرجه أبو داود في السنن، كتاب: العلم، باب: رواية حديث أهل الكتاب: 3/ 318، وأورده البلاذري في فتوح البلدان: 664.
(3) هو الأرقم بن أبي الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر المخزومي، من عقلاء قريش، ومن السابقين إلى الإسلام، استخفى النبي صلى الله عليه وسلم في داره، واستعمله في الصدقة، توفي سنة (53هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 2/ 479(1/70)
نوفل (1) (2)، وفتح المسجد في دار هجرته وخصص جزأ منه للتعليم حيث أمر عبد الله بن سعيد بن العاص (3) بأن يعلم الكتابة بالمدينة. (4) بل لقد أصبحت وخلال مدة وجيزة مساجد المدينة التسعة إلى جانب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدر القرّاء والكتّاب، يتعلمون فيها الكتابة وتعاليم الدين، وكان من أوائل المعلمين سعد بن الربيع الخزرجي (5) أحد النقباء الاثنى عشر، وبشير بن سعد بن ثعلبة (6)، وأسيد بن حضير، وأوس بن خولي، والعلاء
__________
وأسد الغابة لابن الأثير: 1/ 74.
(1) هو مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف القرشي، صحابي كان من المؤلفة قلوبهم، توفي سنة 54هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 2/ 542والإصابة لابن حجر: 3/ 390.
(2) انظر: طبقات ابن سعد: 3/ 51و 84و 89.
(3) هو عبد الله بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي، كان اسمه في الجاهلية الحكم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت عبد الله، أخوته الثلاثة من كتاب الوحي، وأوكل إليه النبي صلى الله عليه وسلم تعليم أبناء المسلمين في المدينة، قيل: استشهد يوم بدر. انظر: الإصابة لابن حجر: 1/ 344و 2/ 319وكتاب الوحي لأحمد عيسى: 498.
(4) انظر الإصابة لابن حجر: 1/ 344.
(5) هو سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير الأنصاري الخزرجي، أحد النقباء ليلة العقبة، آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، استشهد يوم أحد. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 318والإصابة لابن حجر: 2/ 26.
(6) هو بشير بن سعد بن ثعلبة بن الجلاس وقيل بفتح الخاء المعجمة وتثقيل اللام الخلّاس بن زيد بن مالك الخزرجي، والد النعمان بن بشير، شهد بدرا، وأول(1/71)
ابن الحضرمي (1)، والشفاء بنت عبد الله العدوية، وغيرهم. (2) وفي غزوة بدر نحى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم منهجا حكيما حين أمر الأسرى بأن يفدي كل كاتب منهم نفسه بتعليم عشرة من صبيان المدينة القراءة والكتابة، فقد روى ابن سعد بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر يوم بدر سبعين أسيرا، وكان يفادي بهم على قدر أموالهم، وكان أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن له فداء دفع له عشرة غلمان من غلمان المدينة فعلّمهم فإذا حذقوا فهو فداؤه. (3) حتى انتشرت الكتابة وشملت النساء أيضا، فتعلمن الكتابة مثل شقائقهن من الرجال، فهذه الشفاء بنت عبد الله تقول: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة فقال لي: «ألا تعلّمين هذه رقية النّملة كما علّمتيها الكتابة» (4) وكان من المتعلمات أم كلثوم بنت عقبة، وعائشة
__________
أنصاري بايع أبا بكر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. انظر: تهذيب الكمال للمزي: 4/ 166 والإصابة لابن حجر: 1/ 158وأسد الغابة لابن الأثير: 1/ 231.
(1) هو العلاء بن عبد الله بن عماد بن أكبر بن ربيعة الحضرمي، صحابي جليل، عمل على البحرين للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، توفي سنة (14هـ). انظر: طبقات خليفة: 12 و 72وسير أعلام النبلاء للذهبي: 1/ 262وكتاب الوحي لأحمد عيسى: 448.
(2) انظر: فتوح البلدان للبلاذري: 663.
(3) انظر طبقات ابن سعد: 2/ 1/ 14والمستدرك للحاكم عن ابن عباس: 2/ 140وقال:
صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(4) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب: الطب، باب: ما جاء في الرقى: 4/ 11وأحمد في المسند: 6/ 372، وأورده البلاذري في فتوح البلدان: 661.(1/72)
بنت سعد، وفاطمة بنت الخطاب (1) وكريمة بنت المقداد (2) وغيرهن (3).
ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بتعليم أبناء المسلمين في المدينة فحسب بل كان يرسل الرسل إلى ديار الإسلام لتعليم المسلمين وأبنائهم أمور دينهم، كما فعل بمعاذ بن جبل (4) ومصعب بن عمير (5) وغيرهم (6).
__________
(1) هي فاطمة بنت الخطاب بن نفيل القرشية، أخت عمر بن الخطاب، أسلمت مع زوجها سعيد بن زيد قديما، وكان سببا في إسلام عمر رضي الله عنهما. انظر: أسد الغابة لابن الأثير: 7/ 220والإصابة لابن حجر: 4/ 381.
(2) هي كريمة بنت المقداد بن الأسود الكندية، أمها ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، روى عنها زوجها عبد الله بن وهب، ثقة. انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر:
12/ 448.
(3) انظر فتوح البلدان للبلاذري: 661.
(4) هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ الأنصاري، شهد بدرا والعقبة والمشاهد، كان عالما بالحلال والحرام، ومناقبه كثيرة، ولاه النبي صلى الله عليه وسلم اليمن. مات في طاعون عمواس سنة (18هـ). انظر: طبقات خليفة: 103و 303وسير أعلام النبلاء للذهبي 1/ 443وكتاب الوحي: 373.
(5) هو مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، السيد الشهيد السابق البدري، أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة ليعلم الناس القرآن، استشهد بأحد ومعه اللواء سنة (3هـ). انظر: الاستيعاب لابن عبد البر:
3/ 468وسير أعلام النبلاء للذهبي: 1/ 145.
(6) انظر: طبقات ابن سعد: 3/ 118.(1/73)
ولم يتوفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وعدد كبير من الصحابة يجيدون الكتابة والقراءة، ولم يأت القرن الثاني للهجرة حتى كانت الكتابة منتشرة على أوسع نطاق، والكتّاب لا يحصون كثرة، والكتاتيب مكتظة بطلبة العلم، حتى حكي أنه بلغ عدد طلاب الضحاك بن مزاحم وحده ثلاثة آلاف صبي، وكان يطوف على حمار يشرف عليهم. (1)
هذا ولا ننكر أن عددا من الصحابة كره كتابة الحديث وتدوينه، كما كره كتابة الشعر عدد من الشعراء قبل الإسلام، ومن هؤلاء الصحابة الذين كرهوا الكتابة: عمر بن الخطاب (2) وعلي بن أبي طالب (3) وزيد بن ثابت (4)، وعبد الله بن عباس (5)، وعبد الله بن مسعود (6)، وعبد الله بن عمرو بن العاص، مع أنهم كانوا يجيدون فن الكتابة بل منهم من هو من كتاب الوحي، وكانت همتهم عالية في نشر العلوم، غير أنهم رغم تمكنهم من الكتابة بأحسن أشكالها، وإتقانها تمام الإتقان كانوا يرون أن الاتكال
__________
(1) انظر: معجم الأدباء لياقوت: 12/ 16ط مصر.
(2) انظر: تقييد العلم للخطيب: 52وجامع بيان العلم لابن عبد البر: 2/ 42.
(3) انظر: جامع بيان العلم لابن عبد البر: 1/ 72.
(4) انظر: جامع بيان العلم لابن عبد البر: 1/ 6663.
(5) انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 2/ 371ومرآة الجنان لليافعي: 1/ 225.
(6) انظر: تقييد العلم للخطيب. 56والمصنف لابن أبي شيبة: 9/ 53.(1/74)
على الكتابة، والاعتماد على المكتوب يضعف عندهم ملكة الحفظ، وقوة العارضة، وسيلان الذهن الذي عرف عنهم (1). ولهذا يقول الإمام مالك رضي الله، عنه: لم يكن القوم يكتبون، وإنما يحفظون، فمن كتب منهم الشيء فإنما كان يكتبه ليحفظه، فإذا حفظه محاه. وكان غير واحد من السلف يستعين على حفظ الحديث بأن يكتبه ويدرسه من كتابه، فإذا أتقنه محا الكتاب خوف الاتكال. (2) وأيضا لأن وسائل الكتابة لم تكن ميسرة فهو يمحو المكتوب ليكتب غيره، وقد مات ابن المسيب (3) ولم يترك كتابا، ولا القاسم بن محمد (4)، ولا عروة بن الزبير (5). وسمع يونس بن حبيب (6)
__________
(1) انظر: تدريب الراوي للسيوطي: 50
(2) انظر: تقييد العلم للخطيب: 58وحجية السنة لأبي شهبة: 395.
(3) هو سعيد بن المسيب بن حزن القرشي، سيد التابعين، وعالم أهل المدينة، توفي (94هـ).
انظر: طبقات ابن سعد: 5/ 119وسير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 217.
(4) هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، تابعي ثقة، أحد كبار فقهاء المدينة، قال أيوب: ما رأيت أفضل منه، توفي سنة (106هـ). انظر: طبقات خليفة: 244وسير أعلام النبلاء للذهبي: 5/ 53.
(5) هو عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد، أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، عالم المدينة وأحد الفقهاء السبعة، توفي سنة (93هـ). سنة الفقهاء لكثرة ما مات فيها من الفقهاء. انظر: المعارف لابن قتيبة: 222وطبقات خليفة: 241وسير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 421.
(6) هو يونس بن حبيب الضبي، إمام النحو، وشيخ سيبويه والفراء والكسائي، له تواليف في القرآن واللغات، توفي سنة (183هـ). انظر: المعارف لابن قتيبة: 541 وسير أعلام النبلاء للذهبي: 8/ 191.(1/75)
رجلا ينشد:
استودع العلم قرطاسا فضيّعه ... وبئس مستودع العلم القراطيس
فقال يونس: قاتله الله ما أشد صيانته للعلم وصيانته للحفظ. (1)
وقال الخليل بن أحمد (2):
ليس العلم ما حوى القمطر ... ما العلم إلا ما حواه الصدر
ثم إن كثيرا من الأعراب الذين دخلوا في الدين لم يكونوا قد تفقهوا، ولا جالسوا العلماء العارفين فلم يؤمن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن، ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلام الرحمن (3).
أضف إلى هذا خشية الصحابة من أن يفهم البعض أن في تدوين السنة من قبلهم حصر لها والأمر خلاف ذلك، طلب أبو بكر الصديق رضي الله عنه من ابنته عائشة رضي الله عنها قبل وفاته أن تأتي له بما جمعه من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ليحرقه وكان من جملة ما قال لها: ويكون قد بقي
__________
(1) انظر تاريخ أبي زرعة: 1/ 517وجامع بيان العلم: 1/ 69.
(2) هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، البصري، صاحب العربية ومنشئ علم العروض، شيخ سيبويه في النحو، عرف عنه حدة للذكاء والفطنة، واللطافة، توفي سنة (170هـ). انظر:
المعارف لابن قتيبة: 541وسير أعلام النبلاء للذهبي: 7/ 429.
(3) انظر تقييد العلم للخطيب: 57.(1/76)
حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي على أبي بكر. (1)
كما كان لمشقة الكتابة، وندرة وسائلها، أثرها الواضح في كراهية بعضهم لها، إذ تستدعي الكتابة على الأدم واللخاف والعظام وغير ذلك، جهدا خاصا، فمجرد الكتابة عليها أمر في غاية الصعوبة.
ج ما الذي كتبه الصحابة:
تبين لنا فيما سبق أن عددا من الصحابة كان يجيد الكتابة ويمارسه، وأن عددا منهم تعلم الكتابة بعد أن دخل الإسلام ومارسه، والذي يظهر من أخبارهم أنهم كانوا يكتبون كل ما تحتاجه الدولة الإسلامية من أمور الوحي، وحديث رسول صلى الله عليه وسلم، وتفسير القرآن الكريم، والمراسلات والوثائق والمعاهدات والصكوك بأنواعها والعقود وغير ذلك، وسوف أتناول هذه الأمور بالتحليل الموجز حسب ما يقتضيه المقام:
1) الوحي:
كان جل اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بالوحي من بدء نزوله حتى اكتمل، فقد كان صلى الله عليه وسلم حين تنزل عليه الآية أو الآيات يأمر الصحابة بتدوينها، ويمليها عليهم من فوره، فيدونونها على أي شيء يكون بين أيديهم مثل الورق والخشب أو قطع الجلد والعسب والأكتاف وغيرها،
__________
(1) سبق تخريجه.(1/77)
ومن ثم ينسخونه ويتداولونه فيما بينهم.
روى البخاري عن البراء بن عازب (1) قال: نزلت آية {لََا يَسْتَوِي الْقََاعِدُونَ} [النساء: 95] قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ادعوا زيدا». فجاء ومعه الدواة واللوح أو الكتف، فقال: اكتب: {لََا يَسْتَوِي الْقََاعِدُونَ} (2).
وهكذا دوّن القرآن كله في عهده صلى الله عليه وسلم، وبإملائه ومراجعته صلى الله عليه وسلم، غير أنه لم يكن مجموعا ولا مرتبا حسب السور، كما أنه لم يكن مكتوبا على وسيلة واحدة من وسائل الكتابة، ولهذا حين دعت الحاجة إلى جمعه في عهد أبي بكر رضي الله عنه جمعت الصحف، ثم نسخت المصاحف في عهد عثمان رضي الله عنه فكان في مأمن من الأخطار.
2) حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله عز وجل،
__________
(1) هو البراء بن عازب بن الحارث الأوسي الأنصاري، له ولأبيه صحبة، استصغره النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فرده، غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة غزوة، وشهد مع علي الجمل وصفين وقتال الخوارج، توفي في خلافة مصعب بن الزبير. انظر: طبقات خليفة: 80 و 135والاستيعاب لابن عبد البر: 1/ 139.
(2) أخرجه البخاري، كتاب: التفسير (سورة النساء)، باب: لا يستوي القاعدون: 5/ 182 والواحدي في أسباب النزول: 168وأبو داود في السنن: 3/ 34والترمذي في سننه: 5/ 242والطبراني في الكبير: 5/ 133.(1/78)
وهي وحي منزل {وَمََا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ََ. إِنْ هُوَ إِلََّا وَحْيٌ يُوحى ََ} [النجم:
3] وفي الحديث «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» (1) أي: السنة. ولهذا حرص الصحابة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصهم على كتاب الله، وتنوعت أشكال هذا الحرص وهذا الاهتمام، فمن أوتي ملكة الحفظ حفظ، ومن كان دون ذلك سعى لتدوين ما يشق عليه حفظه ليحفظه فيما بعد، وهكذا تنوقلت الصحف التي تحوي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبإشارة منه، ولما خشي اختلاط السنة بالقرآن نهى الصحابة عن تدوين شيء مع القرآن الكريم، وفهم بعض الصحابة من هذا النهي التوقف عن الكتابة البتة، فمزق ما كتبه وامتنع، وفهم آخرون أن هذا النهي مقيد فأولوه بمنع كتابة شيء مع كلام الله في صحيفة واحدة خشية الاختلاط، لذلك لم يمتنعوا عن الكتابة، وظلوا يستندون إلى أحاديث الإباحة، وتلك التي أذنت في الكتابة وهي كثيرة أيضا، أخرج ابن عبد البر (2) في جامع بيان العلم عن أنس بن مالك (3) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قيّدوا
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب: السنة، باب: في لزوم السنة: 4/ 200وأحمد في المسند: 4/ 131.
(2) هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي، أبو عمر، شيخ علماء الأندلس، وكبير محدثيها وأحفظ من كان بالأندلس لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، توفي سنة (368هـ). انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض: 4/ 808ووفيات الأعيان لابن خلكان: 7/ 66.
(3) هو أنس بن مالك بن النضر بن النجار، خدم النبي صلى الله عليه وسلم صغيرا، وسمع منه ومن كبار(1/79)
العلم بالكتاب». (1)
وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب لأبي شاة (2) بقوله: «اكتبوا لأبي فلان». (3).
وروي أن رجلا من الأنصار شكا حفظه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «استعن بيمينك»، وأومأ بيده للخط. (4) أي بالكتابة.
__________
الصحابة، شهد الحديبية والفتح وحنين، توفي بالبصرة سنة (93هـ). انظر: المعارف لابن قتيبة: 308والاستيعاب لابن عبد البر: 1/ 7.
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك: 1/ 106وقال: صحت الرواية عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال: قيّدوا العلم بالكتاب قال: وكذلك الرواية عن أنس بن مالك صحيح من قوله، وقد أسند من وجه غير معتمد. وأخرجه الخطيب في تقييد العلم:
70 - وفي تاريخ بغداد: 10/ 46وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: 1/ 72 وابن الجوزي في العلل المتناهية: 1/ 78.
(2) هو أبو شاة اليماني، وقيل: إنه كلبي، وقيل: هو من أبناء الفرس، كان ممن حضر خطبة يوم الفتح، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكتب له الخطبة. انظر: الإصابة لابن حجر: 4/ 100.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم: 1/ 36وأبو داود في السنن، كتاب: العلم، باب: في كتابة العلم: 3/ 319. والترمذي، كتاب: العلم، باب: ما جاء في الرخصة فيه: 5/ 39وقال: حديث حسن صحيح وأحمد في المسند: 2/ 238.
(4) أخرجه الترمذي، كتاب: العلم، باب: الرخصة فيه: 5/ 39وقال: إسناده ليس بذاك.
وهو في تقييد العلم: 65، والجامع لأخلاق الراوي: 1/ 249ط المعارف وكنز العمال:
10/ 245.(1/80)
وروى الإمام أحمد (1) عن عمرو بن شعيب (2) عن أبيه عن جده أنه قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرّضى، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اكتب فو الذي نفسي بيده لا يخرج مني إلا حق». (3) بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يملي الكتب إلى الملوك وفي المصالحة وقد أملى على علي رضي الله عنه ليكتب، قالت أم سلمة (4) زوج النبي صلى الله عليه وسلم: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأديم وعلي بن أبي طالب عنده، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) هو أحمد بن حنبل الشيباني أبو عبد الله، رابع الأئمة الأربعة، إمام عالم مجتهد، كان لموقفه من محنة القرآن أثره في ثبات أهل السنة في وجه المعتزلة، توفي سنة (241هـ).
انظر: تاريخ بغداد: 4/ 412وطبقات الحنابلة لأبي يعلى: 1/ 4.
(2) هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله السهمي، وثقه الجمهور، واحتج به أرباب السنن الأربعة، توفي سنة (118هـ). انظر: طبقات خليفة: 286وسير أعلام النبلاء للذهبي: 5/ 165.
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك: 1/ 104وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي:
صحيح ولم يخرجاه. وأبو داود، كتاب العلم، باب: كتابة العلم: 3/ 318والدارمي:
1/ 103وهو في تقييد العلم: 8274والجامع لأخلاق الراوي: 50.
(4) هي أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة القرشية المخزومية، أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم، توفيت سنة (62هـ) وهي آخر أمهات المؤمنين موتا. انظر: أسد الغابة لابن الأثير:
7/ 340والإصابة لابن حجر: 4/ 458.(1/81)
يملي وعليّ يكتب حتى ملأ بطن الأديم وظهره وأكارعه. (1).
يقول الأعظمي: أملى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الأحاديث، وكتبها الصحابة وبلغت درجة التواتر منها الرسائل التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مختلف الأمراء وهي أحاديث نبوية. (2)
كما أن فعل الصحابة يؤكد أن منهم من كان يكتب ويحتفظ بالمكتوب لديه، روى البخاري في «صحيحه» عن أبي جحيفة (3) قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر. (4)
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه (5) أنه قال: ما من أصحاب رسول الله
__________
(1) انظر: أدب الإملاء والاستملاء للسمعاني: 12قال السمعاني: وأمثال هذه الكتب كثيرة ولو ذكرناها لطال الكتاب، والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يملي الكتب على كتّابه رضي الله عنهم أجمعين ودراسات في الحديث النبوي: 1/ 127.
(2) انظر: دراسات في الحديث النبوي للأعظمي: 1/ 79.
(3) هو أبو جحيفة وهب بن عبد الله السوائي ويقال له وهب الخير، من صغار الصحابة، لازم عليا فإذا خطب يقوم أبو جحيفة تحت منبره، مات (74هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 202والإصابة لابن حجر: 3/ 642.
(4) صحيح البخاري، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم: 1/ 36.
(5) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي أكثر الصحابة حفظا للحديث ببركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، كثير التعبد والذكر، فيه دعابة، استعمله عمر على البحرين، توفي سنة (58هـ)(1/82)
صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب. (1)
وروي أنه كان لابن عباس رضي الله عنه مجموعة ضخمة من الكتب يحتاج في نقلها ظهر بعير، وأن مولاه وتلميذه كريب (2) قام بحفظها ثم أودعها لدى موسى بن عقبه (3) الذي قال: وضع عندنا كريب حمل بعير من كتب ابن عباس، وكان علي بن عبد الله ابن عباس (4) إذا أراد الكتاب كتب إليه
__________
انظر: المعارف لابن قتيبة: 120والإصابة لابن حجر: 4/ 220.
(1) أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم. البخاري مع الفتح: 1/ 206 والترمذي، كتاب: العلم، باب: الرخصة فيه: 5/ 40وقال: حديث حسن صحيح وأحمد في المسند: 2/ 248والدارمي في السنن: باب: من رخص في كتابة العلم:
1/ 103والخطيب في جامع بيان العلم: 1/ 84، وتقييد العلم: 82.
(2) هو كريب بن أبي مسلم الهاشمي، مولى ابن عباس، وثقه ابن معين والنسائي، توفي سنة (98هـ). انظر: طبقات خليفة: 280وسير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 479.
(3) هو موسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي، من صغار التابعين، إمام ثقة قليل الحديث، له كتاب في المغازي، وقيل: هو أول من ألف فيه، توفي سنة (141هـ). انظر: طبقات خليفة: 267وسير أعلام النبلاء للذهبي: 6/ 114.
(4) هو علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي، ولد عام قتل الإمام علي فسمي باسمه، قال ابن سعد: ثقة قليل الحديث. هو جد الخلفاء من بني العباس، توفي سنة (118هـ). انظر: طبقات خليفة: 239وسير أعلام النبلاء للذهبي:
5/ 252ر 284.(1/83)
ابعث إليّ بصحيفة كذا وكذا، فينسخها ويبعث بها. (1) ولا شك أن هذا المكتوب كان خليطا من شتى اهتمامات ابن عباس العلمية: الحديث والتفسير والشعر واللغة وغير ذلك.
وروت سلمى (2) خادمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجة أبي رافع بن خديج فقالت: رأيت ابن عباس معه ألواحه يكتب عليها عن أبي رافع شيئا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3)
وعن نافع (4) أن ابن عمر رضي الله عنه كان له كتب ينظر فيها قبل أن يخرج إلى الناس. (5)
وأخرج الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت خمسمائة حديث، فبات ليلة يتقلب
__________
(1) انظر: طبقات ابن سعد: 5/ 216وتقييد العلم للخطيب: 136وسير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 480.
(2) هي سلمى أم رافع امرأة أبي رافع مولى الرسول صلى الله عليه وسلم، انظر الإصابة لابن حجر: 4/ 333.
(3) انظر: طبقات ابن سعد: 2/ 371وتقييد العلم: 91والتراتيب الإدارية للكتاني: 2/ 247.
(4) هو نافع أبو عبد الله القرشي، مولى ابن عمر وراويته، من كبار التابعين، ديلمي الأصل، أصابه ابن عمر في بعض غزواته صغيرا توفي (117هـ). انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 5/ 367وسير أعلام النبلاء للذهبي: 5/ 95.
(5) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 238.(1/84)
كثيرا، فغمني فقلت: تتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بنية، هلمي الأحاديث التي عندك، فجئته بها، فدعا بنار فأحرقها، وقال:
خشيت أن أموت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني، فأكون قد تقوّلت ذلك.
وفي رواية زيادة: فأكون قد تقلدت ذلك ويكون قد بقي حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غبي على أبي بكر، إني حدثتكم الحديث ولا أدري لعلي لم أتتبعه حرفا حرفا. (1)
ومثل هذا روي عن النعمان بن قيس أن عبيدة ت (72هـ) (2) دعا بكتبه عند الموت فمحاها فقيل له في ذلك فقال: أخشى أن يليها قوم
__________
(1) انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي: 1/ 5، وكنز العمال: 10/ 285، وعزاه لابن كثير عن الحاكم، قال الحافظ ابن كثير: هذا غريب من هذا الوجه جدا وعلي بن صالح من رجال السند لا يعرف، والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من هذا المقدار بألوف ولعله إنما اتفق له جمع تلك فقط ثم رأى ما رأى. وقال السيوطي: لعله جمع ما فاته سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وحدثه عنه به بعض الصحابة، ثم خشي أن يكون الذي حدثه وهم فكره تقلّد ذلك. مسند أبي بكر الصديق للسيوطي: 176و «غبي» أي: خفي.
النهاية في غريب الحديث لابن الأثير:
(2) هو عبيدة بن عمرو وقيل ابن قيس السلماني، أسلم عام الفتح بأرض اليمن، ولا صحبة له، برع في الحديث والفقه، توفي سنة (72هـ). انظر: المعارف لابن قتيبة: 425 وسير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 40.(1/85)
يضعونها في غير موضعها. (1)
وترك أبو قلابة ت (104هـ) (2) وصية على فراش موته يقول فيها:
ادفعوا كتبي إلى أيوب (3) إن كان حيا، وإلا فاحرقوها. وقد حملت الكتب بعد وفاته إلى الشام لأيوب السختياني. (4)
إن ثلة من الصحابة محوا ما كتبوه أو غسلوه أو حرقوه أو دفنوه خشية أن تؤول إلى غير أهل العلم، ومهما كان ذلك فإن الشاهد منها قائم وهو كتابة الحديث وتدوينه.
أما أحاديث النهي عن كتابة السنة وكراهية ذلك فهي أيضا كثيرة:
__________
(1) انظر: طبقات ابن سعد: 6/ 63وتقييد العلم للخطيب: 61وجامع بيان العلم لابن عبد البر: 1/ 67وسير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 43.
(2) هو عبد الله بن زيد بن عمرو الجرمي، ثقة كثير الحديث، كان ديوانه بالشام، ومات بداريا. انظر: المعارف لابن قتيبة: 447وسير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 468.
(3) هو أيوب السختياني أبو بكر بن أبي تميمة كيسان العنزي، قال عنه الحسن: هذا سيد الفتيان. وقيل عنه: سيد الفقهاء، مات بالبصرة في الطاعون سنة (131هـ). انظر:
المعارف لابن قتيبة: 471وسير أعلام النبلاء للذهبي: 6/ 15.
(4) انظر: طبقات ابن سعد: 7/ 185والمعارف لابن قتيبة: 447وتقييد العلم للخطيب:
62 - وتذكرة الحفاظ للذهبي: 1/ 94وتهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر لعبد القادر بدران: 7/ 427وسير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 473.(1/86)
روى مسلم (1) في «صحيحه» عن أبي سعيد الخدري (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار». (3)
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا قعودا نكتب ما نسمع من النبي صلى الله عليه وسلم فخرج علينا فقال: ما هذا تكتبون؟ فقلنا: ما نسمع منك.
فقال: أكتاب مع كتاب الله الحديث (4). وأحاديث أخرى في هذا المعنى، يذهب بعض أهل العلم إلى عدم ثبوت المنع ومنهم الأستاذ الأعظمي الذي
__________
(1) هو مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري، إمام محدث حافظ، من أوعية العلم، مصنفاته كثيرة منها كتاب الصحيح، توفي سنة (261هـ). انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 3/ 100 وتذكرة الحفاظ للذهبي: 10/ 126.
(2) هو سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن الخزرج، أبو سعيد الخدري، مشهور بكنيته، أول مشاهده الخندق، وغزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة غزوة، وكان ممن حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سننا كثيرة وروى عنه علما جمّا، وكان من نجباء الأنصار وعلمائهم وفضلائهم. توفي سنة أربع وسبعين، روى عنه جماعة من الصحابة وجماعة من التابعين.
انظر الاستيعاب لابن عبد البر: 1/ 602.
(3) صحيح مسلم، كتاب: الزهد، باب: التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم: 4/ 2298 والمسند للإمام أحمد: 3/ 12وسنن الدارمي: 1/ 98وتقييد العلم للخطيب: 29 وجامع بيان العلم لابن عبد البر: 1/ 76.
(4) المسند للإمام أحمد: 3/ 12وتقييد العلم للخطيب: 33وهو في مجمع الزوائد للهيثمي: 1/ 150.(1/87)
يقرر عدم صحة ما ورد في هذا الباب من أحاديث المنع ظاهرها من الكتابة، عدا رواية واحدة وردت عن أبي سعيد الخدري مع الخلاف في رفعها ووقفها، وكذلك في المعنى المراد منها. (1)
ويقول الحافظ ابن حجر (2): إن السلف اختلفوا في ذلك عملا وتركا، وإن كان الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم، بل استحبابه، بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم. (3)
وقد حاول العلماء الجمع بين أحاديث النهي والإباحة، وخرجوا بعدة وجوه منها:
1 - أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك الوقت. (4)
2 - أن النهي خاص بكتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة خوف الاشتباه، حيث أن الصحابة كانوا يكتبون تأويل الآيات، فربما كتبوه
__________
(1) انظر دراسات في الحديث النبوي للأعظمي: 1/ 80.
(2) هو أحمد بن علي بن محمد بن العسقلاني، إمام حافظ، انتهت إليه رئاسة علم الحديث، مصنفاته كثيرة منها فتح الباري، توفي سنة (852هـ). انظر: طبقات الحفاظ للسيوطي:
552 - والضوء اللامع للسخاوي: 2/ 36.
(3) انظر: فتح الباري لابن حجر: 1/ 146وقريب من هذا قاله ابن الصلاح، ينظر علوم الحديث: 169.
(4) انظر: تدريب الراوي للسيوطي: 151وفتح الباري لابن حجر: 1/ 4.(1/88)
معها، والإذن كان لكتابة الحديث في صحف مستقلة ليس فيها شيء من القرآن. (1)
3 - أن النهي خاص بكتاب الوحي المتلو (القرآن) الذين كانوا يكتبونه في صحف ليحفظ في بيت النبوة، ولو أجاز لهم كتابة الحديث لم يؤمن أن يختلط القرآن بغيره وأن الإذن لغيرهم.
4 - أن النهي لمن أمن عليه النسيان، ووثق بحفظه. (2)
5 - أن العارفين بالكتابة كانوا في صدر الإسلام قلة، لذا اقتضت الحكمة قصر جهودهم على كتابة القرآن الكريم وبعض أمور الدولة الهامة، وعدم الاشتغال بكتابة غير ذلك. (3)
6 - أن الإذن في الكتابة ناسخ للمنع منها. (4) والله أعلم.
3) تفسير القرآن الكريم وما يتعلق به:
من أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغريب القرآن وغيرها من
__________
(1) انظر: تدريب الراوي للسيوطي: 150.
(2) انظر: حجية السنة للأعظمي: 442.
(3) انظر: تدريب الراوي للسيوطي: 150.
(4) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 4/ 148.(1/89)
المسائل المتعلقة بالآيات التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على تبليغها لأصحابه عند نزول الآية أو الآيات، فكثيرا ما كان صلى الله عليه وسلم يبين لهم حالته زمن نزول الوحي عليه، قبيله وأثناءه وعقبه، ويحدد الموضع الذي نزلت فيه الآية أو الآيات، كما يبين لهم المنسوخ من الآيات، ويفسر لهم المجمل ويشرح الغريب ويخصص العام ويقيد المطلق ويخبر بالمغيبات ونحوها.
وبعض الصحابة كانوا يكتبون من الذي يسمعونه ما يحتاجون إلى كتابته، من المعاني والمسائل الهامة، وإن كان اعتمادهم على الحفظ هو الأساس.
وحين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عصر صغار الصحابة وكبار التابعين، حرصت الفئتان على تلقي ما تحدّث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة الأحوال التي أحاطت بالوحي، والتجأ بعضهم إلى تدوين ما يسمعه على هامش المصاحف أو غيرها من وسائل الكتابة، وجعلوا المكتوب معهم يلجئون إليه عند الحاجة أو رغبة حفظه، وقد تقدم في الفقرة السابقة بعض الدلائل على كتابة الصحابة للسنة، وما التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من هذه السنة.
4) الرسائل والعقود والوثائق:
وكل ما احتيج إلى تقييده في السطور، كحفظ الحقوق، والمكاتبات، والاتفاقيات مع القبائل، والمعاهدات وعقود منح الأراضي، وسجلات الغزوات والمغانم، والصكوك بين الناس بحوائجهم، ورسائله صلى الله عليه وسلم إلى الحكام وأمراء الجند، داخل الجزيرة العربية وخارجها يعرض عليهم الإسلام، من
ذلك ما كتبه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم، (1) وإلى ملك الفرس كسرى (2)، وإلى المقوقس ملك مصر (3)، وإلى النجاشي (4)، ومنها بعثه صلى الله عليه وسلم سليط بن عمرو العامري (5) إلى هوذة بن علي الحنفي يدعوه إلى الإسلام، وكتب له(1/90)
وكل ما احتيج إلى تقييده في السطور، كحفظ الحقوق، والمكاتبات، والاتفاقيات مع القبائل، والمعاهدات وعقود منح الأراضي، وسجلات الغزوات والمغانم، والصكوك بين الناس بحوائجهم، ورسائله صلى الله عليه وسلم إلى الحكام وأمراء الجند، داخل الجزيرة العربية وخارجها يعرض عليهم الإسلام، من
ذلك ما كتبه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم، (1) وإلى ملك الفرس كسرى (2)، وإلى المقوقس ملك مصر (3)، وإلى النجاشي (4)، ومنها بعثه صلى الله عليه وسلم سليط بن عمرو العامري (5) إلى هوذة بن علي الحنفي يدعوه إلى الإسلام، وكتب له
__________
(1) هو هرقل عظيم الروم، كانت مدة ملكه خمسا وعشرين سنة، منه ملك المسلمون الشام، وقد كتب له النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، وحمّل الرسالة دحية الكلبي، وكاد أن يتبع غير أنه خاف من قومه. انظر: المحبر لابن حبيب: 75وصبح الأعشى للقلقشندي:
6/ 362والكامل لابن الأثير: 2/ 143و 188.
(2) هو كسرى أنو شروان عظيم الفرس، كتب له الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى الإسلام فأبى، وحمل الرسالة عبد الله بن حذافة، فمزق كتابه، قال صلى الله عليه وسلم: * مزق الله ملكه قتله ابنه شيرويه. انظر: المحبر لابن حبيب: 77وصبح الأعشى للقلقشندي: 6/ 363والكامل لابن الأثير: 2/ 143و 146.
(3) هو المقوقس ملك مصر، كتب له الرسول صلى الله عليه وسلم كتابا وأرسله مع حاطب بن أبي بلتعة، فقبل كتابته، وأهدى إليه صلى الله عليه وسلم أربع جوار منهن مارية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
انظر: صبح الأعشى للقلقشندي: 6/ 364والكامل لابن الأثير: 2/ 143.
(4) هو النجاشي ملك الحبشة، واسمه أصحمة، معدود في الصحابة، كان ممن حسن إسلامه ولم يهاجر، وليست له رؤية، توفي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه بالناس صلاة الغائب. وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 1/ 428. انظر: المحبر لابن حبيب: 76 وصبح الأعشى للقلقشندي: 6/ 364وحمل الرسالة عمرو بن أمية الضمري. انظر:
الكامل لابن الأثير: 2/ 143.
(5) هو سليط بن عمرو بن عبد شمس العامري، أسلم قديما، شهد بدرا، استشهد في اليمامة. انظر: الإصابة لابن حجر: 2/ 71.(1/91)
كتابا، (1) وبعثه صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص (2) إلى جيفر وعبد ابني الجلندي يدعوهما إلى الإسلام ومعه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما (3) وبعثه صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب (4) إلى الحارث بن أبي شمّر الغساني (5) وكان عبد الله بن أرقم الزهري ممن يكتب هذه الرسائل، كما كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يكتب بعض عهود النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يحتفظ ببعض نسخ تلك الرسائل. (6) وقد جمع عمرو بن حزم الأنصاري
__________
(1) كان هوذة ملك اليمامة، وكان نصرانيا، أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفدا بعد أن استلم كتابه، يبلغه إن جعل الأمر له بعد أن يسلم، سار إليه ونصره، وإلا قصد الحرب. فقال صلى الله عليه وسلم: لا ولا كرامة، اللهم اكفنيه. فمات. انظر طبقات ابن سعد: 1/ 262والكامل لابن الأثير: 2/ 143.
(2) هو عمرو بن العاص بن وائل السهمي، يضرب به المثل في الفطنة والدهاء والحزم، من أبطال الجاهلية والإسلام، أسلم عام ثمان، وولاه النبي صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل، توفي بمصر سنة (42هـ)، انظر: المعارف لابن قتيبة: 286وصبح الأعشى للقلقشندي:
6/ 365وسير أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 54.
(3) انظر: طبقات ابن سعد: 1/ 262.
(4) هو شجاع بن وهب بن ربيعة بن أسد الأسدي، من السابقين المهاجرين إلى الحبشة، شهد بدرا، واستشهد باليمامة. انظر: الإصابة لابن حجر: 2/ 138.
(5) انظر: الكامل لابن الأثير: 2/ 145.
(6) انظر: نصب الراية للزيلعي: 4/ 420وتقييد العلم للخطيب: 72ودراسات في الحديث النبوي للأعظمي: 1/ 139.(1/92)
ت (50هـ) (1) بعض مكاتيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شكل كتاب وروى عنه ابنه هذا الكتاب. (2)
ومما كان يكتبه الصحابة ما كان يأمر بكتابته صلى الله عليه وسلم من التعليمات والتوجيهات لأمراء السرايا، روي أنه صلى الله عليه وسلم كتب لعبد الله بن جحش (3)، أمير سرية نخلة صحيفة من أديم خولاني (4) وقال: لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا. فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس، وأخبرهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (5). وكتب إلى خالد بن الوليد في جواب كتابه إليه صلى الله عليه وسلم بإسلام بني
__________
(1) هو عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الخزرجي، الأنصاري، صحابي شهد الخندق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه إلى اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات. قيل: توفي (51هـ). انظر: طبقات خليفة: 89وتهذيب الكمال للمزي: 21/ 585.
(2) وقد طبع الكتاب مع كتاب ابن طولون أعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين. انظره:
ص 48، وفي صبح الأعشى للقلقشندي: 6/ 368351نماذج كثيرة من رسائله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والعظماء والأمراء وغيرهم.
(3) هو عبد الله بن جحش بن رياب الأسدي، من السابقين هاجر إلى الحبشة، وشهد بدرا، وكانت أول راية عقدت في الإسلام هي له، استشهد يوم أحد. انظر: المعارف لابن قتيبة: 160والإصابة لابن حجر: 2/ 286.
(4) نسبة إلى خولان، وهي من مخالف اليمن، وقيل: قرية بقرب الشام. معجم البلدان لياقوت: 2/ 407.
(5) انظر: حجية السنة للأعظمي: 402وهو في المغازي للواقدي: 1/ 13والبداية والنهاية لابن كثير: 3/ 249.(1/93)
الحارث. (1) وأخرج البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس». فكتبنا له ألفا وخمسمائة. (2)
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف (3) كتابا أن لهم ذمة الله وذمة محمد بن عبد الله على ما كتب لهم، وإلى خثعم (4)، وإلى ثمالة (5) والحدان (6) (7) كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كتب كتبا كثيرة في بيان ديات النفس والأطراف والفرائض والصدقات وغير ذلك من الأحكام، كالذي كتبها لعمرو بن حزم حين بعثه
__________
(1) انظر: صبح الأعشى للقلقشندي: 6/ 353.
(2) صحيح البخاري، كتاب: الجهاد، باب: كتابة الإمام للناس: البخاري مع الفتح: 6/ 177.
(3) هي بطن من هوازن، اشتهروا باسم أبيهم، فيقال لهم بني ثقيف، كانت مواطنهم بالطائف. انظر: معجم القبائل العربية لرضا كحالة: 1/ 148.
(4) هي قبيلة من القحطان تنسب إلى خثعم بن أنمار، منازلهم بين بيشة وثربة. انظر: معجم القبائل العربية لكحالة: 1/ 331.
(5) هي قبيلة من القحطانية، كانت منازلهم قرب الطائف، وهي نسبة إلى ثمالة بن أسلم.
انظر: معجم القبائل العربية لكحالة: 1/ 153.
(6) بطن من القحطانية كانوا بالسراة، وينسبون إلى حدان بن شمس. انظر: معجم القبائل العربية لكحالة: 1/ 250.
(7) انظر: طبقات ابن سعد: 1/ 286وقد ذكر ما يقرب من مائة كتاب كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والقبائل: 1/ 291258وانظر الوثائق السياسية لمحمد حميد الله: وثيقة رقم: 181.(1/94)
على نجران ويقال: إن هذا الكتاب بقى لدى عائلة عمرو بن حزم حتى عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. (1)
كما أعطى صلى الله عليه وسلم للعلاء بن الحضرمي ت (14هـ) أثناء حكمه على البحرين قواعد مكتوبة خاصة بزكاة الإبل والبقر والماعز. (2)
ومن الاتفاقيات التي أبرمت في عهده صلى الله عليه وسلم وكتبت ما تم مع قبيلة بني ضمرة (3) وذلك في غزوة الأبواء في السنة الأولى من الهجرة. (4)
ومعاهدة الحديبية وكانت سنة (6هـ) (5) والاتفاقية التي كتبت مع أكيدر حاكم دومة الجندل (6) وكانت سنة (9هـ) (7)، ومعاهدته صلى الله عليه وسلم مع أهل
__________
(1) انظر: التراتيب الإدارية للكتاني: 1/ 168وطبقات ابن سعد: 1/ 267وتاريخ بغداد للخطيب: 8/ 228وتقييد العلم للخطيب: 72.
(2) انظر: طبقات بن سعد: 1/ 463.
(3) نسبة إلى ضمرة بن بكر، بطن من كنانة، من ديارهم المرود، موضع عند الجحفة. انظر:
معجم القبائل العربية لكحالة: 2/ 667.
(4) انظر: المغازي للواقدي: 1/ 12والمعارف لابن قتيبة: 48.
(5) انظر: المغازي للواقدي: 2/ 611والبخاري مع الفتح: 6/ 282.
(6) هو أكيدر دومة بن عبد الملك بن عبد الجن، صاحب دومة الجندل، أسره خالد بن الوليد، وأرسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصالحه على الجزية، ثم ارتد فقاتله خالد في أيام أبي بكر فقتله كافرا. انظر: أسد الغابة لابن الأثير: 1/ 135والإصابة لابن حجر: 1/ 125 ومعجم البلدان لياقوت: 2/ 478.
(7) انظر: فتوح البلدان للبلاذري: 82وصبح الأعشى للقلقشندي: 6/ 356.(1/95)
أيله (1)، وغير ذلك من المعاهدات والاتفاقيات التي كتبت بإملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتميم الداري رضي الله عنه (2) صكا يمنحه بموجبه قرى جيرون والرطومة وبيت عينون بالشام. (3) وهي الوثيقة التي جددها الصديق أبو بكر، وبقيت إلى عصر القلقشندي الذي ذكر أن أحد معاصريه رآها في أيدي بعض التميميين.
كما كتب صلى الله عليه وسلم لسلمان الفارسي رضي الله عنه (4) الفدية وفيه: هذا ما فادى
__________
(1) انظر: فتوح البلدان للبلاذري: 80والبخاري مع الفتح: 6/ 266وأيله بالفتح، موضع من آخر الحجاز وأول الشام، قدم منها يوحنه بن رؤبة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في تبوك فصالحه على الجزية. انظر: معجم البلدان لياقوت: 1/ 292. قلت: وهي تسمى اليوم إيلات، يحكمها يهود.
(2) هو تميم الداري بن أوس بن خارجة اللخمي الفلسطيني، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع فأسلم، كان عابدا كثير التلاوة. توفي سنة (40هـ). انظر: الاستيعاب لابن عبد البر:
2/ 58وسير أعلام النبلاء للذهبي: 2/ 442.
(3) انظر: صبح الأعشى للقلقشندي: 13/ 121والتراتيب الإدارية للكتاني: 1/ 143 وسير أعلام النبلاء للذهبي: 2/ 444.
(4) هو سلمان الفارسي، صحابي مشهور، أصله من رام هرمز، خرج يبحث عن النبي المرسل، قال صلى الله عليه وسلم: سلمان منا أهل البيت أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، توفي سنة (32هـ). انظر: غاية النهاية لابن الجزري: 1/ 308وتهذيب التهذيب(1/96)
محمد بن عبد الله فدى سلمان الفارسي من عثمان بن عبد الأشهل اليهودي ثم القرظي بغرس ثلاثمائة نخلة إلخ. وشهد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وكتبها علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (1)
هذا وقد وصلت إلينا بعض كتابات من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ما كان على الحجر، وبعضها على الرق، ومنها ما وجد على الغرانيت بجوار المدينة المنورة، يعود تاريخها إلى السنة الرابعة للهجرة، من أيام غزوة الخندق، ومن الرسائل التي وجدت على الرق بعض الرسائل التي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك داخل الجزيرة العربية وخارجها. (2)
هذا ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أن الوضع اختلف بعد وفاته صلى الله عليه وسلم حيث توسعت دائرة الكتابة وأصبح الصحابة يسجلون ويكتبون ما يخشون ضياعه أو نسيانه، خاصة حين اتسعت دائرة الفتوحات الإسلامية، ودخل الناس في دين الله أفواجا، واحتاج كل أولئك إلى من يعلمهم أمور دينهم، واحتاجت أقوامهم إلى التفقه في الدين، هنا كان للكتابة دورها العظيم في التعليم ونقل الأخبار والأحكام إلى الناس، وقد كان كبار التابعين يحرصون على تسجيل ما لدى الصحابة من العلوم خشية
__________
لابن حجر: 4/ 117.
(1) انظر: ذكر أخبار أصبهان لأبي نعيم: 1/ 52وتاريخ بغداد للخطيب: 1/ 170.
(2) انظر: دراسات في تاريخ الخط العربي للمنجد: 29.(1/97)
ذهابها بذهابهم، ولذلك رأينا مجاهدا (1) يسأل ابن عباس رضي الله عنهما عن تفسير القرآن ومعه ألواحه فيقول له ابن عباس: اكتب. حتى سأل عن التفسير كله. (2) ورأينا سعيد بن جبير (3) رضي الله عنه يكتب عن ابن عباس فإذا امتلأت صحفه كتب في نعله حتى ملأها، وكتب في كفه. (4)
وهو الذي قال: كنت أسير بين ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم فكنت أسمع الحديث منهما فأكتبه على واسطة الرّحل حتى أنزل فأكتبه. (5)
وكان الحسن البصري رضي الله عنه يدعو بنيه بني أخيه ويقول لهم: يا بني وبني أخي، إنكم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين، فتعلموا العلم فمن لم يستطع منكم أن يرويه أو قال يحفظه فليكتبه، وليضعه في بيته،
__________
(1) هو مجاهد بن جبر تابعي من أئمة التفسير، ثقة أجمعت الأمة على إمامته، توفي سنة (104هـ).
انظر: صفة الصفوة لابن الجوزي: 2/ 208وسير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 449.
(2) انظر: تفسير ابن جرير الطبري: 1/ 30ومقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 103.
(3) هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي، فقيه ورع عابد، من أئمة التابعين، ثقة حجة، قتله الحجاج سنة (95هـ). انظر: المعارف لابن قتيبة: 197والتاريخ الكبير للبخاري:
3/ 461وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 181.
(4) انظر: طبقات ابن سعد: 6/ 257وسير أعلام النبلاء: 4/ 335وتقييد العلم للخطيب: 102وسنن الدارمي: 1/ 105.
(5) انظر: تقييد العلم: 103وجامع بيان العلم: 1/ 72وانظر سنن الدارمي: 1/ 105.(1/98)
وهو الذي كان يقول: إن لنا كتبا نتعاهدها. (1)
وعن أبي هلال قال: قيل لقتادة: يا أبا الخطاب أنكتب ما نسمع؟
قال: وما يمنعك أحد أن تكتب، وقد أنبأك اللطيف الخبير أنه قرأ وكتب {عِلْمُهََا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتََابٍ لََا يَضِلُّ رَبِّي وَلََا يَنْسى ََ} [طه: 52]. (2)
وبعد هذه المقدمة الذي أظنني أطلت الحديث عن الكتابة وهو أمر أعتقد أنه لا بد منه لبيان الحقيقة وتفنيد بعض الأقوال والآراء البعيدة عن الحق، أعود إلى الحديث عن نشأة علوم القرآن لأقرر تبعا لثلّة من المتأخرين المشتغلين بعلوم القرآن (3) أن نشأة التفسير وعلوم القرآن كانت سابقة لنشأة الحديث ومستقلة عنه. بل إنها كانت مواكبة لنزول الوحي، وهي حقيقة تضافرت الأدلة عليها، وإن كانت تعارض رؤية أعداد من أهل العلم الأقدمين منهم والمتأخرين، الذين يرون أن نشأتها تأخرت عن نشأة الحديث، بحيث كانت في البداية روايات تروى على أنها باب من أبواب الحديث إلى أن تم تجريد هذه الروايات وجمعها جمعا خاصا مرتبا بعيدا عن
__________
(1) انظر: العلم لأبي خيثمة: 1/ 125وجامع بيان العلم: 1/ 124وسنن الدارمي: 1/ 107.
(2) انظر: طبقات ابن سعد: 7/ 230وتقييد العلم للخطيب: 103والكفاية له: 354.
(3) مثل الأستاذة ابتسام مرهون الصفار، في كتابها: معجم الدراسات القرآنية: 9والأستاذ مساعد مسلم آل جعفر في كتابه: أثر التطور الفكري في العصر العباسي: 54، وانظر:
البغوي الفراء وتفسيره للقرآن للأستاذ محمد إبراهيم الشريف: 183والزركشي ومنهجه في البرهان، رسالة دكتوارة جامعة الأزهر: 14.(1/99)
الحديث، وكان هذا الانفصال على ما ذهب إليه الأستاذ الذهبي (1) في القرن الثالث، وبالتحديد في النصف الثاني منه على يد ابن ماجة ت (275هـ)، وعلى ما ذهب إليه الأستاذ عدنان زرزور على يد بقي بن مخلد الأندلسي ت (276هـ) (2)، وعلى يد ابن جرير الطبري ت (310هـ) (3). وإن كنت أرى أن من العدل القول بأن الصنعاني عبد الرزاق بن همام ت (211) هـ، هو السابق والمجلي في هذا الباب، فقد جمع روايات التفسير وأوردها مرتبة حسب ترتيب السور. (4)
وأيّا ما كان الأمر فإنني أؤكد أن نشأة التفسير كانت سابقة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه الوحي بلغات العرب وعلى أساليبهم وبلاغتهم كان يعلمه لأصحابه فيأخذون عنه القراءة وبذلك نشأ علم القراءات وعلم اللغات التي أنزل عليها القرآن، ويبين لهم موضع الآية أو
__________
(1) انظر: التفسير والمفسرون للذهبي: 1/ 142.
(2) هو بقي بن مخلد بن يزيد القرطبي، إمام قدوة صالح، كان رأسا في العلم والعمل، رحل كثيرا في طلب العلم، صنف التفسير والمسند اللذين لا نظير لهما، كان مجاهدا وقال: إنه شهد أكثر من سبعين غزوة، انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 13/ 285والبداية والنهاية لابن كثير: 11/ 56.
(3) انظر: علوم القرآن للأستاذ عدنان زرزور: 406.
(4) تفسيره مطبوع بعنوان (تفسير القرآن) بتحقيق الدكتور: مصطفى مسلم. مكتبة الرشد الرياض وطبع مؤخرا بتحقيق الدكتور عبد المعطي قلعجي دار المعرفة بيروت.(1/100)
الآيات في السورة، فيعرفون ترتيب الآيات وكان ذلك بداية نشأة علم ترتيب السور والآيات، ويفسر لهم ما استشكل عليهم من المعاني والألفاظ الغريبة ويعلمهم الأحكام، فكان ذلك بداية نشأة علم التفسير وعلم غريب القرآن، ويصف لهم كيفية نزول الآية والآيات من الوحي، وحالته حين يلاقي جبريل وبذلك نشأ هذا العلم وهو علم حالة النبي صلى الله عليه وسلم حين نزول الوحي عليه إلى غير ذلك من الأحوال المحيطة بالوحي وبنزوله.
إنّ ملازمة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدة النزول جعلتهم يقفون على أسباب النزول، وكان ذلك بداية نشأة أسباب النزول، قال ابن مسعود رضي الله عنه (1): والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته. (2) إذا علم الصحابة رضوان الله عليهم ما تحيط الآية والآيات من ظروف وأحوال.
__________
(1) هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب، أحد المبشرين بالجنة، وصاحب نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من جهر بالقرآن بمكة، عمل واليا على بيت المال بالكوفة، توفي سنة (32هـ). انظر: المعارف لابن قتيبة: 249والاستيعاب لابن عبد البر: 2/ 216.
(2) أخرجه البخاري، كتاب: فضائل القرآن، باب: القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: البخاري مع الفتح: 9/ 46وابن جرير في تفسيره: 1/ 80طبعة شاكر وانظر: مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 95.(1/101)
ولتأكيد هذا المعنى أذكر المثال التالي: روى البخاري (1) بسنده عن عائشة رضي الله عنها (2) أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني، فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 31] فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، المحدث الحافظ، من كبار المحدثين المشهورين، له تصانيف عديدة منها التاريخ الكبير، والصحيح من أوثق كتب السنة.
توفي سنة (256هـ). انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي: 2/ 122وتهذيب التهذيب لابن حجر: 9/ 47.
(2) هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق بن قحافة، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع، ومات عنها ولها (18) سنة، كانت عالمة زاهدة، روت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير، توفيت سنة (58هـ). انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد: 8/ 58وحلية الأولياء لأبي نعيم: 2/ 43.(1/102)
يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها (1) فقال:
زملوني زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع، الحديث. (2)
وروى الشيخان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت جابر بن عبد الله (3): أي القرآن أنزل أول؟ فقال: {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] فقلت: أنبئت أنه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] فقال: لا أخبرك إلا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت الوادي فاستبطنت الوادي فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض يعني جبريل فأخذتني رجفة، فأتيت خديجة فقلت:
دثروني دثروني، وصبوا عليّ ماء باردا، فأنزل عليّ {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ}
__________
(1) هي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد القرشية، أول من صدقت ببعثته مطلقا، كانت تدعى قبل البعثة الطاهرة، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بخمس عشرة سنة، وكانت ذات شرف وجمال، وهي أم أولاد النبي صلى الله عليه وسلم إلا إبراهيم، توفيت قبل الهجرة بثلاث سنوات. انظر:
الإصابة لابن حجر: 4/ 281والبداية والنهاية لابن كثير: 3/ 127.
(2) صحيح البخاري مع الفتح: كتاب بدء الوحي: 1/ 23، وكتاب التفسير (سورة اقرأ):
6/ 87وكتاب التعبير أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم: 8/ 67.
(3) هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن ثعلبة الخزرجي، شهد ما بعد بدر وأحد من المشاهد، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر وغيرهما، وعنه أولاده وغيرهم، توفي سنة (88هـ). انظر: المعارف لابن قتيبة: 133والإصابة لابن حجر: 1/ 212.(1/103)
{فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيََابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 41]. (1)
إن تحدّث رسول صلى الله عليه وسلم بنزول هاتين السورتين بهذا العرض وبهذه الكيفية، يفيد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبلغ أصحابه الوحي وما يحيط به من أسباب النزول وصفة حاله وأماكن النزول وغير ذلك من متعلقات النزول. وكان الصحابة يتناقلون هذه الأخبار فيما بينهم، إما رواية من أولئك الذين أوتوا قوة الحفظ والعارضة، أو كتابة من أولئك الذين كانوا دون إخوانهم في هذا الجانب ممن كان يكتب حتى يحفظ المكتوب.
كما أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا حريصين على تلقي كل ما يخرج من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي عبد الرحمن السلمي (2) قال: حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا. (3)
__________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب: التفسير (سورة المدثر)، باب: قوله: {قُمْ فَأَنْذِرْ}: 6/ 75، ومسلم في صحيحه، كتاب: الإيمان، باب: بدئ الوحي: 1/ 144.
(2) هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب بن ربيعة الكوفي، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، جوّد القرآن وعرضه على عثمان وابن مسعود، توفي سنة (74هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 267وغاية النهاية لابن الجزري: 1/ 413.
(3) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 80وأورده القرطبي في تفسيره: 1/ 39وابن تيمية(1/104)
إن نشأة كثير من هذه العلوم القرآنية جاءت مواكبة لنزول الوحي، وسابقة لنشأة العلوم الأخرى التي تعتبر إما أدوات تعين على فهم كتاب الله أو تتعلق به أو تتفرع عنه، ولهذا كان المقصود بذاته هو السابق وسائر العلوم الأخرى هي المتأخرة.
ويؤكد هذه الحقيقة من المعاصرين الدكتور مساعد آل جعفر في كتابه (أثر التطور الفكري في التفسير في العصر العباسي) فقد ذكر أن نشأة التفسير كانت مستقلة عن الحديث، وأن التفسير هو أول العلوم الإسلامية ظهورا، نشأ قبل الحديث خلافا لمن يرى ظهور الحديث قبل التفسير، واعتبار التفسير بابا من أبواب الحديث، وذكر من الأدلة المؤيّدة لهذه الحقيقة أن أول الرسالة قرآن وليس حديثا، وأن جبريل حين نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: اقرأ فقال: ما أنا بقارئ. كان للرسول صلى الله عليه وسلم تفسير لكلام جبريل مختلف عن مدلول النص، ولذا فإنه أعادها إليه ثلاث مرات إلى أن أدخل في روعه أنه لا يريد منه القراءة التي هي خلاف الأمية، وإنما يريد الله أن يعلمه بالرسالة فقال له بعد المرة الثالثة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [سورة العلق: 1]، ففسّر له {اقْرَأْ} كما أرادها الله لا كما فهمها الرسول صلى الله عليه وسلم. (1)
__________
في مقدمة في أصول التفسير: 36.
(1) انظر: أثر التطور الفكري في التفسير في العصر العباسي لمساعد آل جعفر: 54.(1/105)
وعلى ما سبق نؤكد تخطئة من يقول بتأخر كتابة الأخبار والعلوم الإسلامية إلى ما بعد القرن الثاني، إذ القول بذلك مدعاة للتشكيك في صحة علومنا الإسلامية، لكون الأخبار التي تتلقى طوال هذه المدة بالرواية ثم تكتب بعد ذلك الأمد الطويل قلما يوثق بسلامتها من التحريف والتبديل مهما امتاز الناقلون لها بقوة الحفظ وسلامة الذهن، ولهذا نجد أن أعداء الإسلام يستأنسون بالطعن والتشكيك في تدوين الأخبار الإسلامية بهذه الشاكلة، فيرددون هذه المقولة ويروّجون لها ولو أدى بهم القول إلى التنطع والافتراء.
ولهذا يؤكد الأستاذ رفيق العظم أن الذي ذهب بالباحثين إلى الظن بعدم كتابة الأخبار إلا بعد القرن الثاني هو تقيد المؤلفين في ذلك العصر بنقل الأخبار بالرواية مع فقد ما دوّن قبل ذلك لفقده لحسن التنسيق والجمع وشروط الصحة عند المؤلفين لا سيما من جهة الترتيب والتخصيص الذي يروق أهل العصر الثاني ويناسب حالة الرقي في الحضارة. (1)
ويتابع الأستاذ رفيق العظم ليؤكد هذا المعنى: وأما في عصر التابعين وتابعيهم فقد كانت العناية بكتابة الأخبار أكثر، وأقبل الناس على اقتناء الكتب وجمع المكتبات، ومن ذلك ما رواه ابن عبد البر عن هشام بن
__________
(1) انظر: مجلة منار الإسلام، مقال للأستاذ رفيق العظم: م 10ج 10ص 746.(1/106)
عروة (1) عن أبيه أنه احترقت كتبه يوم الحرة وكان يقول: وددت لو أن عندي كتبي بأهلي ومالي (2)، ومعلوم أن وقعة الحرة كانت سنة ثلاث وستين إلى أن يقول: ما هي كتب عروة التي احترقت سنة ثلاث وستين؟ أليست في علوم شتى من العلوم التي دونها العرب واشتغلوا بها؟
وهل احترقت كتب عروة في اليوم الذي دونت فيه؟ كلا بل كتبت هي وغيرها من الكتب في غضون القرن الأول، أو على مدى هذا القرن.
ويختم قوله: فإذا كان ذلك كذلك فهل يبقى مجال للريب في أن العرب دونوا علومهم في الصحف من ابتداء القرن الأول؟ وهل يستراب في صحة هذه العلوم مع ما ثبت معنا من أنها كتبت مدعومة بالرواية لتكون أبعد من سهو الكاتبين وتحريف الناسخين؟ (3)
إن الروايات تذكر أن ابن شهاب الزهري هو أول من دون العلم علم الحديث بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وذلك حين خشي الخليفة ضياع الحديث كما خشي أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم من قبله ذهاب القرآن بذهاب حفظته، وخشية الفرقة.
__________
(1) هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، تابعي حجة سمع من أبيه وغيره، ودعا له ابن عمر، توفي ببغداد سنة (146هـ). انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 6/ 580وسير أعلام النبلاء للذهبي: 6/ 34.
(2) انظر: طبقات ابن سعد: 5/ 179ومختصر تاريخ دمشق: 17/ 10.
(3) انظر: مجلة منار الإسلام، مقال للأستاذ رفيق العظم: م 10ج 10ص 751749.(1/107)
نقول: إن تدوين ابن شهاب للسنة كان بقصد جمعها وترتيبها ونسخها ولهذا كتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار والآفاق وقال: انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه. (1) ويقول ابن شهاب الزهري: أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفترا دفترا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترا. (2)
كما كتب الخليفة إلى أبي بكر محمد بن حزم رضي الله عنه: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنة ماضية أو حديث عمرة فاكتبه فإني خشيت دروس العلم وذهاب أهله. (3)
إن ما قام به عمر بن عبد العزيز كان تدوينا منظما شاملا للسنة، بخلاف الكتابة التي كانت في عهد النبوة، حيث كانت كتابات فردية غير منظمة ولا مرتبة، كما إنها لم تكن مختصة بالسنة، فقد كتبت أقوال الصحابة إلى جانب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كتفسيرهم لبعض الآيات التي لم يفسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم معولين على الرأي المعتمد على اللغة.
هذا وإن كان البعض يرى أن خالد بن معدان الحمصي المتوفى سنة
__________
(1) انظر: تقييد العلم للخطيب: 105، وقواعد التحديث: 46، وفتح الباري لابن حجر:
1/ 208.
(2) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: 1/ 176، وحلية الأولياء لأبي نعيم: 3/ 363.
(3) انظر: طبقات ابن سعد: 8/ 353وتقييد العلم للخطيب: 105.(1/108)
(103هـ) (1) هو أول من جمع الحديث، وكان قد لقي سبعين صحابيا، يقول الذهبي في التذكرة: وقال بحير: ما رأيت أحدا ألزم للعلم منه يريد خالد بن معدان وكان علمه في مصحف له أزرار وعرى. (2)
بقي اعتراض قد يرد على من يتبنى هذا الرأي: وهو أين هي مصير تلك الكتب التي دونت في القرن الأول إلى منتصف القرن الثاني؟.
والجواب أن يقال: إن المسلمين كانوا يتلقون كتب الأخبار قراءة ورواية، فلما استبحر العمران وترقت وسائل الحضارة واقتضى أن يترقى فن التأليف تنسيقا وترتيبا، وكتبت في ذلك الكتب الجامعة لأصول كل فن أو فروعه أدمجت تلك الروايات أو الصحف المشتملة على مسائل متفرقة في تلك الكتب الجامعة، مع محافظة المؤلفين على أسانيدها وفاء بحق الأمانة وتصحيحا للأخبار ولما انتفت الحاجة إلى تلك الكتب القديمة قضت على أعيانها سنّة بقاء الأنسب بالدثور بضرورة الحال، وأما ما كتب فيها فهو هو بعينه ما كتب في الكتب الجامعة بعد ذلك العصر (3)، كما هو الحال
__________
(1) هو خالد بن معدان بن أبي كرب، الكلاعي، حدث عن خلق من الصحابة، وأرسل عن عدد، يعد في أئمة الفقهاء. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 536والبداية والنهاية لابن كثير: 9/ 230.
(2) انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي: 1/ 93ومجلة المنار: م 10ج 10ص 755مقال للأستاذ رفيق العظم.
(3) انظر مجلة المنار، المجلد العاشر، الجزء العاشر ص: 752751.(1/109)
مثلا في تفسير ابن جرير الذي جمع مادة تفاسير من سبقه.
أضف إلى هذا ما سبق أن ذكرناه عن مصير بعض تلك الكتب بالتخلص منها، إما بإحراقها أو دفنها أو مسح وإزالة مادتها العلمية لدوافع عديدة دينية أو غيرها.(1/110)
الكتابة والتدوين والتصنيف:
قبل الانتهاء من هذا الموضوع يحسن بنا التعرض لثلاثة مصطلحات يكثر دورانها في مثل هذا الباب، وذكر الفرق بينها إذ بمعرفة ذلك تتضح الصورة، هذه المصطلحات هي: الكتابة والتدوين والتصنيف.
فالكتابة في اللغة: مشتقة من الكتب وهو: الجمع، تقول: كتب الكتاب كتبا وكتابا: جمع حرفا إلى حرف، وكتبه كتابة وكتبة: أي خطّه (1)، وهي تكتل الحروف الهجائية واجتماعها، يقول السمين: الكتابة عرفا: ضم بعض حروف الهجاء إلى بعض (2). وتقول: أكتبني هذه القصيدة: أي أملها عليّ (3). والكتابة: تقييد الألفاظ بالرسوم الخطية (4) وهي على ما في أبجد العلوم: رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس (5) وهي مجموعة الحروف الهجائية المجتمعة في قطعة مكتوبة، (6) وهي
__________
(1) انظر: تهذيب اللغة للأزهري: (كتب): 10/ 150وتاج العروس للزبيدي (كتب): 4/ 100.
(2) انظر: الدر المصون للسمين الحلبي: 1/ 84.
(3) انظر: أساس البلاغة للزمخشري (كتب): 535وتاج العروس للزبيدي (كتب):
4/ 100، ونهاية الأرب في فنون العرب للنويري: 8/ 195.
(4) انظر: تاريخ الخط العربي وآدابه لطاهر الكردي: 16.
(5) انظر: أبجد العلوم: 1/ 156.
(6) انظر: صبح الأعشى للقلقشندي: 1/ 32.(1/111)
في عرف الأدباء تقال لإنشاء النثر. (1)
ويمكن تعريفها اصطلاحا فيقال: هي تسجيل الألفاظ والمعاني والمعارف المسموعة وتقييدها بالرسوم الخطية، وتكون من الإملاء. قال تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا تَدََايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كََاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلََا يَأْبَ كََاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمََا عَلَّمَهُ اللََّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282].
التدوين: هو في اللغة: الجمع، جمع الصحف والكتب، قال أبو عبيدة:
هو فارسي معرب (2) تقول: دوّن الكتب: جمعها ومنه: الديوان مجمع الصحف والكتب، وكان يطلق على كتاب يجمع فيه أسامي الجيش وأهل العطية من بيت المال، وأول من وضعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم نقل إلى جمع المسائل في الصحف والكراريس (3)، وهو جمع لما شذ وتفرق وتقييده (4)،
ولهذا قال ابن شهاب: أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفترا دفترا. وقال: لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني. وقال الإمام مالك: إن أول من دون العلم ابن شهاب الزهري (5).
__________
(1) انظر: التعريفات للجرجاني: 234.
(2) انظر: لسان العرب لابن منظور (دون): 13/ 166.
(3) انظر: الكليات لأبي البقاء: 227وأساس البلاغة للزمخشري: 199ولسان العرب لابن منظور (دون): 13/ 166.
(4) انظر: نهاية الأرب في فنون العرب للنويري: 8/ 195.
(5) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/ 334وحلية الأولياء لأبي نعيم: 3/ 363(1/112)
وهكذا فسر التدوين بكتابة المجموع المرتب دفترا دفترا. وهو ما يدل عليه قول الإمام مالك رضي الله عنه فثابت لديه أن الكتابة قد تمت في عهد الصحابة، ورغم هذا يقول مقولته الآنفة التي لا نشك أنه يقصد النسخ عن مكتوب. ف (دون) يفيد التسجيل من نص مكتوب. فهو جمع وتصنيف من نص مكتوب.
ويعرّف التدوين اصطلاحا فيقال: جمع المتفرق من الصحف وإعادة تسجيل مضمونها مجموعا مرتبا ولهذا يقال لمن كتب الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتّاب الوحي، ويقال: كتابة المصحف. في حين يقال لما فعله عثمان رضي الله عنه: تدوين، لكونه نسخ عن الصحف المتفرقة. أما أبو بكر رضي الله عنه وإن كان قد جمع المصحف غير أنه لم يدونه، ولهذا يسمى ما قام به: جمع.
أما التصنيف: ففي اللغة، صنّف الأشياء: جعلها صنوفا وميّز بعضها عن بعض، ومنه تصنيف الكتب (1) كأنه ميزت أبوابه فجعل لكل باب حيّزه. (2)، وأما في الاصطلاح فلم أقف على تعريف جامع له، ويمكن القول بأنه: تأليف متكامل في علم من العلوم أو موضوع من موضوعاته. (3)
__________
وتقييد العلم للخطيب: 5.
(1) انظر: أساس البلاغة (صنف): 363ولسان العرب (صنف): 9/ 198.
(2) انظر: معجم مقاييس اللغة (صنف): 3/ 313.
(3) انظر ما أملاه فضيلة الشيخ مناع القطان على طلبة الدراسات العليا، بكلية أصول الدين(1/113)
وتوضيح ذلك بأن نقول هو: الكتابة المرتبة المبوبة المميزة في علم من العلوم، أو أي موضوع من موضوعاته.
ينقل ابن تغري بردي في كتابه «النجوم الزاهرة» نصا واضحا للإمام الذهبي في هذه المسألة، يقول: في سنة ثلاث وأربعين ومائة شرع علماء الإسلام في تدوين الحديث والفقه والتفسير، فصنف ابن جريج (1)
التصانيف بمكة وصنف ابن إسحاق (2) المغازي، وصنف معمر (3)
باليمن إلى أن قال: وكثر تبويب العلم وتدوينه، ورتبت ودونت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس، وقبل هذا العصر كان سائر العلماء يتكلمون من حفظهم ويروون العلم عن صحف صحيحة غير مرتبة، فسهل ولله الحمد تناول العلم، وأخذ الحفظ يتناقص فلله الأمر كله (4).
__________
بالرياض عام 1407هـ عن نشأة علوم القرآن.
(1) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي، فقيه من الأعلام البارزين، روى عن مجاهد وعطاء، توفي سنة (150هـ). انظر: الكاشف للذهبي: 1/ 185وتهذيب التهذيب لابن حجر: 6/ 402.
(2) هو محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي المدني، إمام المغازي، روى عن عطاء والزهري، توفي سنة (150هـ). انظر: المعارف لابن قتيبة: 491وطبقات علماء الحديث: 1/ 267.
(3) هو معمر بن راشد الأزدي البصري، أبو عروة، سكن اليمن فكان عالمها، توفي سنة (154هـ). انظر: الكاشف للذهبي: 3/ 154وتهذيب التهذيب لابن حجر:
10/ 243.
(4) انظر: النجوم الزاهرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة: 1/ 351وتاريخ الخلفاء(1/114)
وعلى هذا تكون الكتابة تسجيلا للمعلومات من إملاء، فإذا جمع مجموع ذلك المكتوب ونسخ مع الترتيب يكون تدوينا، فإذا أعيد ترتيبها وتبويبها موضوعيا وأدخلت عناصر جديدة أم لم تدخل سمي تصنيفا أو كتب ابتداء كذلك. والله أعلم.
وخلاصة القول:
1) أن العرب عرفت الكتابة قبل الإسلام، وحين جاء الإسلام شجع التعليم فانتشرت القراءة والكتابة بصورة سريعة.
2) أن نشأة علوم القرآن كانت مواكبة لنزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الكتابة واكبت النشأة.
3) أن التصنيف في علوم القرآن كان مبكرا في القرن الأول الهجري.
4) أن الكتابة هي تسجيل المعلومة من الإملاء، والتدوين هو تسجيل المعلومة من نسخة مكتوبة، والتصنيف هو التسجيل المرتب والمبوب للمعلومة.
ظهور مصطلح علوم القرآن:
إن من الصعوبة بمكان الجزم بأن واحدا بعينه من المتقدمين هو أول من جرت هذه العبارة على لسانه، أو أنه أول من استخدم هذا المصطلح في
__________
للسيوطي: 261.(1/115)
كتاباته قبل غيره، إذ يتطلب ممن يدعي ذلك الوقوف على كل ما قاله السابقون وكتبوه، وهو أمر دونه خرط القتاد، وعلى هذا فإن أي قول في ذلك هو من باب الظن، كما أنه يحتاج إلى تقديم نص متقدم وهو الآخر أمر متعذر، وأقدم نص وقفت عليه هو ذلك النص المنسوب إلى الإمام الشافعي رضي الله عنه الذي يثبت أن الإمام قد استعمل هذا المصطلح في مناظرته مع الرشيد في القرن الثاني للهجرة، فإن ثبتت نسبته إلى الإمام يكون استعمال المصطلح متقدما جدا.
تذكر الروايات أن الإمام الشافعي رضي الله عنه حين سيق مكبّلا بالحديد إلى الخليفة هارون الرشيد (1) في بغداد بتهمة تزعم طائفة الشيعة في اليمن، والادعاء بكونه أحق بالخلافة منه فسأله الخليفة: كيف علمك بكتاب الله تعالى، فإنه أولى الأشياء أن يبتدأ به؟ فقال الشافعي: عن أي كتاب الله تسألني يا أمير المؤمنين، فإن الله قد أنزل كتبا كثيرة على الأنبياء، إن الله تعالى أنزل مائة وأربعة من الكتب، أنزل على آدم خمسين صحيفة، وعلى شيث عشرين، وعلى إدريس عشرين، وعلى إبراهيم عشرة، وأنزل التوراة على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وجمع الله في القرآن كل ما في سائر الكتب. قال تعالى {تِبْيََاناً لِكُلِّ}
__________
(1) هو هارون بن المهدي محمد بن المنصور، كان من أنبل الخلفاء، عرف بالعبادة والجهاد وحصافة الرأي، محاسنه كثيرة، توفي (223هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي:
9/ 286وتاريخ بغداد للخطيب: 14/ 5.(1/116)
{شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى ََ لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] وقال تعالى {كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1].
فقال الرشيد: أحسنت في تفصيلك، ولكني ما سألت إلا عن كتاب الله المنزل على ابن عمي وعمك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الشافعي: إن علوم القرآن كثيرة، تسألني عن محكمه أو متشابهه؟ أو عن تقديمه أو تأخيره؟ أو عن ناسخه أو منسوخه؟ أو عما ثبت حكمه وارتفعت تلاوته؟ أو عما ثبتت تلاوته وارتفع حكمه؟ أو عما ضربه الله مثلا؟ أو عما جعله الله اعتبارا؟ أو عن أخباره؟ أو عن أحكامه؟ أو عن مكيّه أو مدنيّه؟ أو ليليّة أو نهاريّة؟ أو سفريّه أو حضريّه؟ أو تنسيق وضعه، أو تسوية سوره؟ أو نظائره؟ أو إعرابه؟ أو وجوه قراءته؟ أو عدد حروفه؟ أو معاني لغاته؟ أو عدد آياته؟
قال: وما زال الشافعي يعدد هذه العلوم حتى عد ثلاثة وسبعين نوعا من أنواع علوم القرآن. فقال هارون: لقد أوعيت من القرآن عظيما.
ثم سأله عن علمه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالأحكام والطب والأنساب إلى غير ذلك (1) فهذه الرواية تؤكد أن الإمام قد نطق بالمصطلح في القرن الثاني، وهو أقدم نص وقفت عليه، ولكن الذي يبدو أنه لم يسلم من المعارضة، والطعن في صحة ثبوته، فإن الأستاذ عدنان زرزور يحفظه الله يستبعد صدور تلك العبارة من الإمام، بل يؤكد أن
__________
(1) انظر: مناقب الإمام الشافعي لفخر الدين الرازي: 73.(1/117)
القصة تومئ إلى طابع التلفيق المتأخر على الحادثة، ولنستمع إلى الأستاذ عدنان زرزور وهو يعقب على القصة فيقول:
إننا نبعد أن يكون هذا الاصطلاح قد حاك في الصدور، ونطقت به الألسنة على النحو المشار إليه في القرن الثاني للهجرة، وذلك أن بعضهم يجعل الإمام الشافعي أول من فعل ذلك إلى أن قال: وسياق القصة، والعلوم التي عدّدها الإمام الشافعي تومئ إلى طابع التلفيق المتأخر على هذه الحادثة، فالسؤال عن العلم بكتاب الله عز وجل لا يجاب عنه بمثل هذه الباردة التي لم يفعلها الإمام حتى في هذا الموقف والسؤال في كل عرف وقياس إنما هو عن القرآن الكريم!! كما أن سائر عناصر هذه القصة من استحسان الرشيد لجواب الشافعي، والإشارة إلى النبي الكريم عليه صلوات الله بابن عم هارون! إلخ كل ذلك يشير إلى أن هذه التركيبات لا تليق بالرشيد والإمام الشافعي جميعا (1).
بل يذهب الأستاذ زرزور إلى أبعد من هذا حين يريد التأكيد على تأخر ظهور المصطلح إلى قرنين بعد الشافعي: إن من البعيد حقا أن تكون علوم القرآن مجموعة في صدور المبرّزين من العلماء في القرن الثاني ثم لا يتنبه أحد إلى الكتابة فيها مجموعة قبل أواخر المائة الرابعة من الهجرة، على مذهب من يظن أن كتاب الحوفي السابق في هذه العلوم وليس في تفسير
__________
(1) انظر: علوم القرآن، مدخل إلى تفسير القرآن وبيان إعجازه، للأستاذ عدنان زرزور: 125.(1/118)
القرآن. (1)
ولي حول هذا الرأي وما جاء في كلام الدكتور الفاضل عدنان زرزور أكثر من وقفة:
أولها: إذا كان الأستاذ زرزور قد استبعد الرأي لكون سياق القصة لم ترق له، أو لكونه استبعد العلوم التي جاء ذكرها على لسان الإمام أن تكون مجتمعة في صدورهم ولم يلتفت لها، واعتبارها (تركيبات) لا تليق بالرشيد والإمام. فإن غيره لا يستبعد صدور ذلك من إمام كان آية من آيات الله في علمه وذكائه، وفي ابتكاره وتجديده، وفي قوة حجته وتوفيقه، ولقد نوه البلقيني (2) في خطبة كتابه بكلمة الشافعي هذه. (3)
نعم قد يكون هناك مبالغة من الراوي في عدد تلك العلوم التي نقلت على لسان الإمام، على نحو ما ذكره الفخر الرازي (4)، غير أن ذلك لا يعني
__________
(1) انظر: المرجع السابق: 126.
(2) هو عبد الرحمن بن عمر بن رسلان البلقيني، مجتهد حافظ، عرف بسرعة الفهم، له تصحيح المنهاج في الفقه الشافعي، توفي (805هـ). انظر: الضوء اللامع للسخاوي:
4/ 106شذرات الذهب لابن العماد: 7/ 166.
(3) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 27.
(4) هو محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي، مفسر متكلم، كان إمام عصره في العلوم العقلية، له التفسير الكبير، توفي (606هـ). انظر: طبقات الشافعية للسبكي: 8/ 81 وطبقات المفسرين للسيوطي: 100.(1/119)
الطعن في الخبر جملة وتفصيلا.
وثانيها: أن استبعاد الأستاذ زرزور أن تكون هذه العلوم مجتمعة في صدور المبرّزين من العلماء في القرن الثاني، وتأخر ظهوره إلى القرن الرابع على يد الحوفي، استبعاد من غير دليل، وكان الأولى أن يوحي ذلك للأستاذ الكريم زرزور أن هناك من تقدم على الحوفي في التأليف، ممن كان قريبا من عصر الإمام الشافعي، كالحارث المحاسبي وابن المرزبان مثلا (1).
بل إن النصوص الثابتة ترد رأي الأستاذ الجليل وتؤكد أن جملة من هذه العلوم كانت معروفة لدى أهل القرن الأول من جيل الصحابة والتابعين، وأنها كانت تتناقل بين المتقدمين، وطالما وردت على ألسنتهم، فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخطب ويقول في خطبته: سلوني عن كتاب الله فو الله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل. (2)
وهو رضي الله عنه الذي قال: والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت، وأين أنزلت (3)
__________
(1) انظر: في ذلك مبحث أول من صنف في علوم القرآن ص (100) من هذه الرسالة.
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 1/ 35والإتقان للسيوطي 2/ 1227ط البغا.
(3) انظر: الإتقان للسيوطي: 2/ 1227ط البغا.(1/120)
وهو أيضا الذي قال للقاص بعد أن سأله: هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟ وحين كان الرد بالنفي قال: هلكت وأهلكت. (1)
وعن ابن سيرين عن علي رضي الله عنه: أنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ قال ابن سيرين: فطلبت ذلك الكتاب، وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه. وفي رواية: إنه كتبه على تنزيله. قال ابن سيرين (2): لو أصيب ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير. (3)
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشََاءُ} الآية [البقرة: 269]. قال ابن عباس: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. (4)
إذا كان هذا هو حال جيل الصحابة، جيل الريادة، فما بال هذه
__________
(1) انظر: الإتقان للسيوطي: 2/ 20.
(2) هو محمد بن سيرين بن أبي عمرة الأنصاري، أحد الأعلام البارزين، اشتهر بتعبير الرؤى، روى عن أنس بن مالك، توفي (110هـ). انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم:
2/ 263وتهذيب التهذيب لابن حجر: 9/ 214.
(3) انظر: المصاحف لابن أبي داود: 10، والمصنف لابن أبي شيبة: 10/ 545، وفضائل القرآن لابن الضريس: 76، والإتقان للسيوطي: 1/ 166، وعزاه لابن أشتة في المصاحف.
(4) تفسير ابن جرير: 5/ 576تحقيق: محمود وأحمد محمد شاكر.(1/121)
العلوم تغيب على مثل الإمام الشافعي الذي جاء في عصر ورث فيه العلماء علم السابقين، وانتشرت فيه العلوم، وكثر أولئك الذين تفقهوا في الدين، وجعلوا شغلهم الشاغل التفكر في كتاب الله، وتعلم كل ما يخدم تفسيره وبيانه للناس، لقد وجد رضي الله عنه نفسه أمام حصيلة من العلوم الشرعية أعمل فيها ما منحه الله من قوة الفكر وسلامة العارضة، فأجاد وأصاب.
إن ما تهيأ لمثل الشافعي لم يتهيأ لمن قبله، فالمتأخر يقف عادة على حصيلة علوم المتقدمين، ويجدها مجموعة في أخبارهم والمروي عنهم. فلا يستبعد عن مثل الشافعي الإلمام بمثل هذه العلوم بأي حال من الأحوال.
هذا هو الفضيل وهو أيضا من أهل القرن الثاني، يعدد لطلبته سنة خمس وثمانين ومائة جملة من علوم القرآن، فقد أورد القرطبي في «تفسيره» أن الفضيل (1) قال لمجموعة من تلامذته: لن تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه ومحكمه من متشابهه، وناسخه من منسوخه، إذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة (2). (3)
__________
(1) هو الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي، إمام ثبت، حدث عن الأئمة، عرف بالصلاح والصدق في القول، توفي (187هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي:
8/ 421وحلية الأولياء لأبي نعيم: 8/ 84.
(2) هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي، إمام مشهور لقي الكبار، واشتهر بعلوم الإسناد، توفي (198هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 8/ 454وتهذيب التهذيب لابن حجر: 4/ 117.
(3) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 1/ 22.(1/122)
ثم إن غالب هذه العلوم علوم نقلية تعتمد على الرواية أصلا، تكون مع المتقدم فيبلغها المتأخر، وبذلك يجتمع في صدر المتأخر المبرز ما لا يجتمع لغيره، وكان الشافعي واحدا من أولئك، أليس هو من وضع علم أصول الفقه بقواعده وضوابطه في تلك الفترة المتقدمة جدا؟
إن النصوص تؤكد أن الكتابة في جملة من علوم القرآن كانت متقدمة جدا وإن بعض تلك العلوم قد أفردت بمؤلفات مستقلة، ونظرة سريعة في كتاب «الفهرست» لابن النديم (1) الذي صنف كتابه عام (377هـ) تبين أن التأليف في عدد من تلك العلوم كان مبكرا، فمن العلوم التي عدها ابن النديم وذكر التأليف فيها: التفسير، ومعاني القرآن، ومشكله، ومجازه، وما ألف في غريب القرآن، ولغات القرآن، والقراءات، والنقط، والشكل، وما كتب في لامات القرآن، وفي الوقف والابتداء، وما دون عن اختلاف المصاحف، والمتشابه، وهجاء المصاحف، وفي مقطوع القرآن وموصوله، وفي أجزاء القرآن، وفضائله، وفي عد آي القرآن، وناسخه ومنسوخه، نزوله، وأحكامه وغيره. (2)
إن ابن النديم قد ذكر أكثر من ثلاثين علما أفرد بالتصنيف في الفترة
__________
(1) هو محمد بن إسحاق بن محمد بن أبي يعقوب النديم، كان معتزليا شيعيا يعمل وراقا، له الفهرست، مات (438هـ). انظر: لسان الميزان لابن حجر: 5/ 72والأعلام للزركلي: 7/ 29.
(2) انظر: الفهرست لابن النديم: 31وما بعده.(1/123)
السابقة عليه، ناهيك عن تلك العلوم التي جاءت في ثنايا تلك المصنفات ولم تفرد كالمكي والمدني، وما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل ليلا وما نزل نهارا، وعلم الأماكن التي أنزل فيها القرآن، وما نزل مشيعا وما نزل مفردا، وعلم الأحرف السبعة، وغير ذلك.
إن محاولة ابن النديم السابقة توحي لنا أن هذه العلوم كانت معروفة عند المتقدمين، ومجموعة في صدورهم، فالأسماء التي ذكرها من المؤلفين، أسماء متقدمة، بل إن أرقام سنوات وفاة بعضهم متقدمة جدا.
يحيى بن يعمر ت (89) هـ (1) يؤلف كتابا في القراءات، ويجمع فيه اختلاف المصاحف المشهورة (2)، والحسن البصري ت (110) هـ (3) يكتب في نزول القرآن وفي عد آي القرآن (4). وقتادة السدوسي ت (117) هـ (5) يكتب
__________
(1) هو يحيى بن يعمر البصري العدواني، كان من أوعية العلم، أول من نقّط المصحف، له القراءات، توفي (89هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 441وفهرست ابن النديم 47.
(2) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 35، وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 22.
(3) هو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، من كبار التابعين، أخرج لطلب العلم صغيرا، ودعا له عمر بن الخطاب بالتفقه في الدين، فكان إمام عصره، وعرف بقول الحق، له نزول القرآن، توفي (110هـ).
انظر: تهذيب الكمال للمزي: 6/ 95وسير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 563وغاية النهاية لابن الجزري: 1/ 235.
(4) انظر: الفهرست لابن النديم: 36وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 25.
(5) هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، تابعي مفسر حافظ، كان رأسا في العربية، له الناسخ والمنسوخ، توفي (117هـ). انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 4/ 85وتذكرة الحفاظ للذهبي: 1/ 122وتهذيب التهذيب لابن حجر: 8/ 315.(1/124)
في الناسخ والمنسوخ. (1) واليحصبي عبد الله بن عامر (2) يكتب في المقطوع والموصول، كما يكتب في اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق. (3)
وغيرهم.
هؤلاء كلهم كانت وفاتهم قبل عام (120هـ) وهو رقم متقدم جدا في عالم التأليف، فكيف يجوز لنا بعد هذا أن نستبعد ما صدر عن الإمام الشافعي رحمه الله ونجعل ما روي عنه (تركيبات)؟!. هذا والله أعلم.
وإذا كنا استبعدنا على مضض ما روي أن الشافعي هو أول من استعمل المصطلح، أو شككنا فيه على الأقل فإننا لا نستطيع أن نستبعد ذلك عن ابن المرزبان المتوفي سنة (309هـ) بأي حال من الأحوال، لقد حسم الخلاف حين أطلق على كتابه عنوان «الحاوي في علوم القرآن» (4)، وعليه يكون ابن المرزبان هو أول من استعمل هذا المصطلح عنوانا لكتاب،
__________
(1) تاريخ التراث لسزكين: 1/ 21.
(2) هو عبد الله بن عامر بن يزيد اليحصبي، مقرئ الشام، وأحد الأعلام، قرأ على أبي الدرداء، له اختلاف المصاحف، توفي (118هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي:
5/ 292ومعرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 82.
(3) انظر: الفهرست لابن النديم: 3931.
(4) انظر: الفهرست لابن النديم: 95، 166وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 146.(1/125)
ثم تبعه آخرون فأطلقوه على مؤلفاتهم أو جعلوه جزءا من عناوين مؤلفاتهم.
وليس معنى هذا أن ابن المرزبان هو أول من صنف في علوم القرآن، فذاك له حديث مستقل سيأتي بيانه إن شاء الله.
وأشير هنا أن الأستاذ الدكتور عدنان زرزور يرى أن البحث والتأريخ لكل علم من علوم القرآن مستقلا ألزم وأكثر ضرورة، وأجدى للقارئ من السير وراء هذه العلوم مجتمعة، ولكونها أفردت بالتصنيف في مؤلفات خاصة، ونال بعضها العناية وتتابع القول في جميع العصور. (1)
__________
(1) انظر: علوم القرآن للدكتور / عدنان زرزور: 126.(1/126)
الفرق بين استعمال المتقدمين واستعمال المتأخرين:
اشتهر بين أهل الاختصاص في القرآن وعلومه أن إطلاق المتقدمين لمصطلح علوم القرآن يختلف عنه عند المتأخرين، فالسابقون أطلقوه على مصنفاتهم في التفسير، كما فعل محمد بن المرزبان. (1) الذي سمى تفسيره «الحاوي في علوم القرآن»، وأبو الحسن الأشعري (2) الذي سمى تفسيره (المختزن في علوم القرآن)، ومحمد بن علي الأدفوي الذي سماه «الاستغناء في علوم القرآن» (3)، وعلي بن إبراهيم الحوفي (4) الذي سماه «البرهان في علوم القرآن»، بخلاف المتأخرين الذين أطلقوه على تلك المصنفات التي حوت الأبحاث الكلية المتصلة بالقرآن الكريم في شتى جوانبه، جلها أو كلها، كما فعل ابن الجوزي ت (597هـ) في كتابه «فنون الأفنان في عيون علوم القرآن» (5)، وكما فعل بدر الدين الزركشي ت (794هـ) في كتابه
__________
(1) هو محمد بن خلف بن المرزبان المحوّلي، أديب مؤرخ إخباري لين، مصنفاته كثيرة منها الحاوي في علوم القرآن، توفي (309هـ). انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 5/ 237 وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 146.
(2) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/ 88وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 398.
(3) انظر: طبقات القراء للذهبي: 2/ 198وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 197.
(4) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 521ومناهل العرفان للزرقاني: 1/ 26.
(5) الكتاب مطبوع بتحقيق الدكتور حسن ضياء الدين عتر، الناشر دار البشائر بيروت.(1/127)
المسمى «البرهان في علوم القرآن» (1)، وكما فعل السيوطي وابن عقيلة المكي وغيرهما.
والذي يظهر لي أن هذا التفريق ليس دقيقا، كما أنه ليس على إطلاقه، ولبيان ذلك أقول: إن المتقدمين جعلوا عبارة (علوم القرآن) جزءا من العنوان الذي أطلقوه على تفاسيرهم، وهي عبارة مقصودة بذاتها، فقد أراد أولئك أن تشتمل تفاسيرهم على بعض تلك العلوم، ولم يكونوا يقصدون التفسير وحده، بمعنى أنهم لم يعنوا ببيان معان الألفاظ والكلمات القرآنية وما يستنبط من الآيات من أحكام فحسب، وإنما قصدوا بيان كل ما يتعلق بالكلمة القرآنية والآية والجملة من الآيات والسورة، بل والاهتمام ببيان كل ما يحيط بالوحي المنزل، وبعض تلك التفاسير والتي وصل إلينا أجزاء منها ككتاب الأدفوي والحوفي يؤكد لنا هذا الأمر، أنهم عنوا به علوم القرآن وإن اختلف منهج العرض وطريقته، فالحوفي مثلا حين يعرض الآية ويتكلم عليها، يتعرض للإعراب والوقف والتمام، والقول في القراءة وفي المعنى، والتفسير، وأسباب النزول، وحول مكية السورة والآية والآيات ومدنيتها إلى غير ذلك من مسائل علوم القرآن وموضوعاته.
ولهذا الأمر خلت التفاسير التي أراد مؤلفوها الاهتمام بالآثار والروايات، أو الاقتصار على بيان معاني الألفاظ فحسب دون التعرض لما يحيط بالآية والسورة من مسائل، خلت عناوين تلك التفاسير من ذكر هذا
__________
(1) الكتاب مطبوع بتحقيق الأستاذ / محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر بيروت.(1/128)
المصطلح ورأى مؤلفوها الاقتصار على تسميتها (تفسير القرآن) منسوبا لهم ولهذا وجدنا (تفسير القرآن) لعبد الرزاق الصنعاني، وتفسير القرآن (1) لابن أبي حاتم (2)، وغيرهما.
ولا أدعي أن هذه القاعدة مطردة، ولا أن كل من ألف في التفسير المأثور دون التعرض لعلوم القرآن أنه سمى تفسيره (تفسير القرآن)، كما لا أدعي أن من تحدث عن شيء من علوم القرآن في تفسيره أنه ضمّن العنوان هذا المصطلح، بل أقول على الغالب، ولفترة زمنية ربما إلى نهاية القرن الثالث الهجري.
إذا عبارة علوم القرآن كانت تطلق على تلك العلوم النقلية التي خدمت كتاب الله وسهلت سبل فهمه وتيسيره على من لم يشاهد التنزيل من صغار الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، سواء وردت ضمن التفاسير أم جاءت مفردة مستقلة كتلك المصنفات المتخصصة في موضوع واحد، أو عدة موضوعات، ولهذا حين ترجم ابن النديم لابن المنادى أبي الحسن أحمد بن جعفر ت (334هـ) قال: وكان عالما بالقراءات وغيرها، وله
__________
(1) طبع قسمان من الكتاب، القسم الأول من أول سورة الفاتحة إلى الآية رقم: 141من سورة البقرة بتحقيق الدكتور أحمد عبد الله العماري. والقسم الآخر من أول سورة آل عمران إلى الآية رقم: 167من السورة نفسها بتحقيق الدكتور حكمت بشير ياسين.
(2) هو عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس التميمي، حافظ الري وابن حافظها، عالم ثبت، صنف في العلوم، له التفسير المسند، توفي (320هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 13/ 263وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 285.(1/129)
نيف وعشرون كتابا في علوم متفرقة، وكان الغالب عليه علوم القرآن. (1)،
وحين ترجم لأحمد بن كامل بن شجرة ت (355هـ) قال: أحد المشهورين في علوم القرآن، وذكر من مؤلفاته: «غريب القرآن» و «القراءات» وكتاب «موجز التأويل عن معجز التنزيل» (2). وقال عن ابن مجاهد أحمد بن موسى ت (324هـ): وكان مع فضله وعلمه وديانته ومعرفته بالقراءات وعلوم القرآن حسن الآداب. (3)
لقد أطلق ابن النديم هذا المصطلح ليشمل جميع المؤلفات المتعلقة بالقرآن الكريم بما في ذلك التفسير، وهو إطلاق موافق لمصطلح علوم القرآن عند من يعرفه بأنه مباحث تتعلق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله وترتيبه وجمعه وكتابته وقراءته وتفسيره ونحو ذلك. (4)
بيد أن المتأخرين لم يريدوا به ما أطلقه ابن النديم أو غيره، وإنما قصدوا به الأبحاث الكلية المقعدة والمتعلقة بالقرآن الكريم من جوانبه المتعددة، سواء كانت متخصصة أم عامة، وهو تعريف مستنبط من واقع المؤلفات.
إن المتأخرين يطلقونه على تلك المصنفات التي احتوت الأسس
__________
(1) انظر: الفهرست لابن النديم: 58وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 34.
(2) انظر: الفهرست لابن النديم: 48وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 64.
(3) انظر: الفهرست لابن النديم: 47وسير أعلام النبلاء للذهبي: 15/ 272.
(4) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 20.(1/130)
والقواعد والضوابط لكل علم من علوم القرآن، وضربت الأمثلة على تلك القواعد. سواء جمع المصنف علما واحدا من هذه العلوم أو أكثر من علم في مؤلف، وسواء اكتفى بنماذج من الأمثلة أم كانت شاملة.
وعلى هذا يكون من أفرد الناسخ والمنسوخ مثلا بالحديث، وذكر ما يحيط بهذا العلم من معلومات وضرب الأمثلة أو تتبعها في القرآن الكريم يقال: إنه كتب في علوم القرآن، ويصنّف مؤلفه ضمن تلك المصنفات، وكذا من جمع أكثر من علم في مؤلّف واحد، وإن لم يحط بالأمثلة. والله أعلم.(1/131)
أول من صنف في علوم القرآن:
يرى بعض الباحثين أن التأريخ للمصنفات الموضوعية في علوم القرآن ألزم وأكثر ضرورة وأجدى للقارئ من السير وراء هذه العلوم مجتمعة، لكون تلك العلوم قد أفردت بتآليف خاصة، ونال بعضها من العناية وتتابع القول في جميع العصور مما يجعل هذا التأريخ أكثر فائدة. وهي رؤية صائبة فالكتابة والتأليف في كل علم من علوم القرآن كان سابقا لجمع أطراف تلك العلوم في كتب موسوعية جامعة، غير أن هذا لا يعني إهمال البحث عن تاريخ الكتابات الموسوعية في علوم القرآن، وبداية التصنيف الموسوعي الجامع الذي أعطى لعلوم القرآن منحى آخر، ولكون التأليف في علوم القرآن قد اتخذ ثلاثة أشكال رأيت أن البحث في هذا الموضوع ينبغي أن يكون من ثلاثة جوانب، وهي كلها تدخل تحت المصطلح الذي أطلقناه على علوم القرآن، وبذلك تتم الفائدة المرجوة ويتحقق المطلوب بإذن الله:
1) أولى المصنفات الموضوعية.
2) أولى التفاسير التي لها مقدمة في علوم القرآن.
3) أولى الموسوعات في علوم القرآن.(1/132)
أولا أولى المصنفات الموضوعية:
موضوعات علوم القرآن كثيرة أوصلها ابن عقيلة المكي ت (1150هـ) إلى مائة وأربعة وخمسين نوعا (1)، كل نوع منه هو علم مستقل بذاته، وقد أفردت كثيرا من هذه الأنواع بتآليف مستقلة، والبحث في تاريخ كل علم من تلك العلوم ومعرفة أول من صنّف فيه ليس بالأمر السهل، كما أن الفائدة المرجوة منه هي دون ذلك، لهذا رأيت أن أبحث في تاريخ أهم موضوعات علوم القرآن كأمثلة مختارة من تلك العلوم، وهي:
1 - الناسخ والمنسوخ:
يرى الأستاذ الزرقاني (2) أن أبا عبيد القاسم بن سلام الهروي ت (224هـ) (3) هو أول من صنف في هذا الفن، في حين يرى آخرون أن قتادة بن دعامة السدوسي ت (117هـ) هو السابق (4)، غير أن الناظر في
__________
(1) اشتركت مع مجموعة من الزملاء في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بدراسته وتحقيقه، لنيل درجة الماجستير من قسم القرآن وعلومه، فخرج في أكثر من عشرين مجلدا والكتاب تحت الطبع لدى الشركة المتحدة للتوزيع بلبنان.
(2) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 24.
(3) هو القاسم بن سلام الخراساني الأنصاري، إمام مجتهد، وأديب نحوي مشهور، مصنفاته كثيرة منها فضائل القرآن. انظر: طبقات القراء للذهبي: 1/ 141وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 37.
(4) انظر: مذكرة علوم القرآن. من إلقاء فضيلة الشيخ مناع القطان يحفظه الله على طلبة(1/133)
حركة التأليف يلاحظ أن المذكورين مسبوقان في التأليف، فقد اهتم العلماء بموضوع النسخ في القرآن منذ الصدر الأول من الإسلام، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبين الناسخ من الآيات وكذا المنسوخ، وقد ذكرنا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان قد كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ، نقل السيوطي في الإتقان عن ابن أشتة (1) في كتابه «المصاحف» عن ابن سيرين: أن عليا رضي الله عنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ وأن ابن سيرين قال: فطلبت ذلك الكتاب، وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه. (2)
وعلى هذا يكون الإمام علي هو أول من كتب في الناسخ والمنسوخ، (3)
وإن كنا نرجح أن تأليف قتادة قد يمتاز عن كتابة علي بن أبي طالب بكونه مستقلا في الباب ومرتبا، فالذي كتبه علي رضي الله عنه إنما حشى بها مصحفه.
وجاء بعد قتادة، محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ت (124هـ) فألف كتابه «الناسخ والمنسوخ» (4) ثم تلاه عطاء بن مسلم الخراساني
__________
الدراسات العليا بكلية أصول الدين عام 1407هـ، وانظر: كشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 456وتاريخ التراث العربي: 1/ 35.
(1) هو أحمد بن عبد الغفار بن أشتة الأصبهاني، ثقة مسند، له المصاحف. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 19/ 183وشذرات الذهب لابن العماد: 3/ 396.
(2) انظر: الإتقان للسيوطي: 1/ 166.
(3) وانظر: دراسة تقويمية لكتاب مناهل العرفان لخالد السبت: 176.
(4) هو محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري، فقيه حافظ متفق على جلالته(1/134)
ت (135هـ) (1)، ثم محمد بن السائب الكلبي ت (146هـ) (2)، ثم حسين بن واقد المروزي ت (159هـ) (3)، وكلهم كانوا قبل ابن سلام رحمه الله ورحمهم أجمعين.
2 - المصاحف والقراءات القرآنية وعد الآي:
لعل أول من صنف في اختلاف المصاحف هو يحيى بن يعمر ت (89هـ) الذي ألف كتابا في القراءات جمع فيه اختلاف المصاحف المشهورة (4) ثم تلاه عبد الله بن عامر اليحصبي ت (118هـ)، الذي سمى مصنفه (اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق) جمع فيه ما روي من اختلاف الناس فيما وافق الخط، قال ابن عطية: ومشى الناس على ذلك
__________
وإتقانه، يقال: إنه أول من جمع السنة. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 4/ 177 وتذكرة الحفاظ للذهبي: 1/ 108والنسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد: 1/ 296.
(1) هو عطاء بن أبي مسلم الخراساني، صدوق يهم، له تنزيل القرآن وغيره. انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 135والناسخ والمنسوخ للنحاس مقدمة التحقيق: ص 18.
(2) هو محمد بن السائب بن بشر الكلبي، أخباري شيعي، متروك الحديث. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 6/ 248والفهرست لابن النديم: 40وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 80.
(3) هو حسين بن واقد، أبو عبد الله المروزي، ثقة له أوهام، له وجوه القرآن، والناسخ والمنسوخ، توفي (159هـ). انظر: الفهرست لابن النديم: 37، وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 163، والنسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد: 1/ 304.
(4) انظر: غاية النهاية لابن الجزري: 2/ 381، وتاريخ التراث لسزكين: 1/ 22.(1/135)
زمنا طويلا. (1)
أما القراءات القرآنية، فقد أرخ ابن الجزري (2) لحركة التدوين في هذا الفن وقال: فلما كانت المائة الثالثة، واتسع الخرق، وقل الضبط، وكان علم الكتاب والسنة أوفر ما كان في ذلك العصر، تصدى بعض الأئمة لضبط ما رواه من القراءات فكان أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب: أبو عبيد القاسم بن سلام، وجعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين قارئا مع هؤلاء السبعة توفي سنة (224هـ) (3). فهو يرى أن أبا عبيد القاسم هو أول من صنف في هذا الفن.
في حين نرى في حديث الأستاذ الزرقاني عن المجلي في التأليف في هذا الفن اضطرابا ملحوظا، فذكر أولا أن علم الدين السخاوي ت (643هـ) هو من تصدر التأليف في فن القراءات (4)، ثم قال في حديثه عن أعداد القراءات: ثم أهلّ عهد التدوين للقراءات ولم يكن لهذه السبعة بهذا
__________
(1) انظر: الفهرست لابن النديم: 31، وتفسير ابن عطية المقدمة: 1/ 55، وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 22.
(2) هو محمد بن محمد بن محمد بن علي الجزري، كان إماما في القراءة لا نظير له، له مؤلفات كثيرة منها النشر في القراءات العشر. انظر: ذيل تذكرة الحفاظ: 376وطبقات الحفاظ للسيوطي: 549.
(3) انظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري: 1/ 33.
(4) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 25.(1/136)
العنوان وجود أيضا، بل كان أول من صنف في القراءات أمثال أبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي حاتم السجستاني (1)، وأبي جعفر الطبري، وإسماعيل القاضي (2). ثم عاد فقال: ومكثت القراءات السبع على هذه الحال دون أن تأخذ مكانها من التدوين حتى خاتمة القرن الثالث إذ نهض ببغداد الإمام ابن مجاهد أحمد بن موسى بن عباس، فجمع قراءات هؤلاء الأئمة). (3)
وكما ترى فإن بين أبي عبيد ت (224هـ) والسخاوي ت (643هـ) أكثر من أربعة قرون، ثم إن كان هناك من سبق أبا عبيد أيضا، فبالنظر في كتاب «الفهرست» لابن النديم وغيره من الكتب التي اهتمت بذكر مصنفات السابقين أو ترجمت لهم نجدهم يذكرون محمد بن عبد الرحمن بن محيصن ت (123هـ) (4) ويذكرون له كتاب: اختيار في القراءة على مذهب
__________
(1) هو سهل بن محمد بن القاسم، أبو حاتم السجستاني، إمام في علوم القرآن واللغة والشعر، قرأ على الأخفش، له اختلاف المصاحف. انظر: إنباه الرواة للقفطي: 2/ 58 وطبقات المفسرين للسيوطي: 1/ 216.
(2) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 409.
(3) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 410.
(4) هو محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي، مقرئ أهل مكة، ثقة في الحديث. انظر:
الفهرست لابن النديم: 33وغاية النهاية لابن الجزري: 2/ 167ومعرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 98، وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 23.(1/137)
العربية، ويذكرون لعيسى بن عمر الثقفي ت (149هـ) كتابا في القراءات بعنوان: «اختيار في القراءة». (1) كما يذكرون لأبي عمرو بن العلاء ت (154هـ) كتابا بعنوان: كتاب القراءات. (2) كما يذكرون كتاب القراءة لحمزة الكوفي ت (154هـ) (3)، وكتاب القراءة لنافع المدني ت (169هـ) (4)
وكتاب القراءة لهشيم بن بشير ت (183هـ) (5). وكل هؤلاء سابقون على القاسم بن سلام ومتقدمون عليه.
وفي عد الآي فقد كان للحسن البصري ت (110هـ) قصب السبق في
__________
(1) هو عيسى بن عمر الثقفي، نحوي بصري يستنكر الناس قراءته في الغالب، له أيضا الجامع والكامل في النحو. انظر: غاية النهاية لابن الجزري: 1/ 613والفهرست لابن النديم: 13.
(2) هو زبان بن العلاء بن عمار البصري، أبو عمرو البصري، عالم زاهد، وأحد القراء السبعة، انظر: غاية النهاية لابن الجزري: 1/ 288والفهرست لابن النديم: 53.
(3) هو حمزة بن حبيب بن عمارة الكوفي، أحد القراء السبعة، أدرك الصحابة. انظر:
الفهرست لابن النديم: 32ومعرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 111وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 31.
(4) هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني، أحد القراء السبعة، ثقة صالح، قيل: قرأ على سبعين من التابعين. انظر: الفهرست لابن النديم: 31وتذكرة الحفاظ للذهبي:
1/ 99وغاية النهاية لابن الجزري: 2/ 330وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 32.
(5) هو هشيم بن بشير بن القاسم بن دينار السلمي، محدث بغداد وحافظها. انظر:
الفهرست لابن النديم: 284وسير أعلام النبلاء للذهبي: 8/ 278وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 88.(1/138)
هذا الفن، حيث ألف كتابه: «عد الآي»، ولا أعلم أنه مسبوق بأحد. (1)
وفي أعشار القرآن كانت الريادة في التأليف لقتادة بن دعامة السدوسي ت (118هـ) الذي ألف كتابا أسماه: أعشار القرآن أو «عواشر القرآن» (2).
3 - إعراب القرآن:
يعد الأستاذ الزرقاني إبراهيم بن سعيد الحوفي ت (430هـ) في طليعة من ألف في إعراب القرآن (3)، واستدرك عليه الأستاذ خالد السبت فذكر أن أبا مروان عبد الملك بن حبيب بن سليمان القرطبي ت (238هـ) (4) هو السابق والمتقدم في هذا الفن (5)، في حين نجد أن شيخنا الفاضل مناع القطان يعين المجلي في هذا الفن فيقول هو محمد بن المستنير بن أحمد بن علي الشهير بقطرب ت (206هـ) ويذكر له كتاب: إعراب القرآن. (6) وعند البحث لم
__________
(1) انظر: الفهرست لابن النديم: 36وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 25.
(2) اختلف في عنوان الكتاب انظر: الطبقات لابن سعد: 7/ 273وغاية النهاية لابن الجزري: 2/ 25وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 456، وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 21.
(3) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 24.
(4) انظر: دراسة تقويمية لكتاب مناهل العرفان للأستاذ خالد بن عثمان السبت: 179.
(5) هو عبد الملك بن حبيب بن سليمان العباسي القرطبي، نحوي فقيه، اشتهر بالحذق في الفقه، له الواضحة. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 12/ 102وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 123.
(6) مذكرة علوم القرآن من إلقاء فضيلة الشيخ مناع القطان يحفظه الله على طلبة(1/139)
نظفر بأحد تقدم عليه. ثم تلاه يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي المعروف بالفراء ت (207هـ) فألف كتابا أسماه «الجمع والتثنية في القرآن»، وكان رحمه الله أعلم الكوفيين بالنحو واللغة (1). وتلاهما أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي ت (209هـ) (2) ثم كان عبد الملك بن حبيب السابق ذكره، وتلاهم أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني ت (248هـ) (3). ثم أبو العباس المبرّد ت (286هـ) (4). ثم أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد المعروف بثعلب ت (291هـ) (5).
4 - غريب القرآن:
يعد الأستاذ الزرقاني أبا بكر السجستاني ت (316هـ) (6) أول من
__________
الدراسات العليا في كلية أصول الدين عام 1407هـ وهو ما ذهبت إليه الدكتورة ابتسام الصفار في معجم الدراسات القرآنية: 20وانظر: الفهرست لابن النديم: 55.
(1) انظر: مراتب النحويين: 86وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 368.
(2) انظر: أنباه الرواة للقفطي: 3/ 276وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 327ومفتاح السعادة لطاش كبرى زاده: 1/ 106.
(3) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 12/ 268وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 123.
(4) هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر المبرد البصري، إمام في النحو، له الكامل. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 13/ 576وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 123.
(5) هو أحمد بن يحيى بن زيد البغدادي، المشتهر بثعلب، إمام النحو، وكان أعلم الكوفيين، له اختلاف النحويين، والقراءات. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 5وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 123.
(6) هو عبد الله بن سليمان بن الأشعث، أبو بكر السجستاني، إمام حافظ حدث عنه ابن(1/140)
ألف في الغريب (1) واستدرك عليه الأستاذ السبت فقال: هو مسبوق بأبان ابن تغلب ت (141هـ) (2)، غير أننا نجد أن ما ذهبا إليه لا يسلم لهما، فقد سبقهما عطاء بن أبي رباح ت (114هـ) (3) وتبعه أبان ثم مؤرج بن عمرو السدوسي البصري ت (174هـ) (4) ثم الإمام الجليل مالك بن أنس ت (179هـ) الذي ألف كتابه: تفسير غريب القرآن، (5)، ثم علي بن حمزة
__________
حبان والحاكم، له المصاحف، والناسخ والمنسوخ. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان:
2/ 404وسير أعلام النبلاء للذهبي: 13/ 221.
(1) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 24.
(2) هو أبان بن تغلب الكوفي، إمام مقرئ شيعي، قال الذهبي: بدعته خفيفة. له: غريب القرآن. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 6/ 308وكشف الظنون لحاجي خليفة:
2/ 1207وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 42ودراسة تقويمية لمناهل العرفان لخالد السبت: 178.
(3) هو عطاء بن رباح بن أسلم القرشي، مفتي الحرم، كان من أوعية العلم. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/ 78ومذكرة علوم القرآن من إلقاء فضيلة الشيخ مناع القطان يحفظه الله على طلبة الدراسات العليا في كلية أصول الدين عام 1407هـ.
(4) هو مؤرج بن عمرو أبو فيد السدوسي، شيخ العربية، له غريب القرآن. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 9/ 309والفهرست لابن النديم: 5337، وكشف الظنون لحاجي خليفة: 2/ 1207.
(5) هو الإمام مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي، إمام دار الهجرة، له الموطأ. انظر:
تهذيب التهذيب لابن حجر: 10/ 509والبداية والنهاية لابن كثير: 1/ 174وانظر مذكرة علوم القرآن من إلقاء فضيلة الشيخ مناع القطان يحفظه الله على طلبة الدراسات العليا في كلية أصول الدين عام 1407هـ.(1/141)
الأسدي الكسائي ت (189هـ) (1).
5 - مجاز القرآن:
وذكر الأستاذ الزرقاني أن العز بن عبد السلام ت (660هـ) (2) هو أول من تصدر للتأليف في مجاز القرآن (3)، وهو قول لا يسلم له مع غرابته، فالعز مسبوق بقرون، ولعل أول من صنف في هذا الفن هو ابن المستنير محمد المعروف بقطرب ت (206هـ) (4)، ثم تلاه أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري ت (210هـ)، ثم الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى العلوي ت (406هـ) وأسماه: تلخيص البيان في مجاز القرآن. (5).
__________
(1) هو علي بن حمزة بن عبد الله الكوفي، المشتهر بالكسائي، لغوي نحوي، إمام في القراءة، له معاني القرآن.
انظر: اللباب في تهذيب الأنساب لابن الجزري: 3/ 97والفهرست لابن النديم: 29 وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 407وكشف الظنون لحاجي خليفة: 2/ 1730.
(2) هو عبد العزيز بن عبد السلام السلمي، عز الدين الملقب بسلطان العلماء، فقيه شافعي بلغ رتبة الاجتهاد، له التفسير الكبير، وغيره. انظر: طبقات الشافعية للسبكي: 5/ 80 وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 315.
(3) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 24.
(4) وانظر مذكرة علوم القرآن من إلقاء فصيلة الشيخ مناع القطان يحفظه الله على طلبة الدراسات العليا في كلية أصول الدين عام 1407هـ.
(5) هو محمد بن الحسين بن موسى الموسوي، انتهت إليه نقابة الأشراف، شاعر واسع الاطلاع، له ديوان الشعر، ومجاز القرآن. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 285(1/142)
6 - نزول القرآن:
لعل أول من كتب في نزول القرآن الضحاك بن مزاحم الهلالي البلخي ت (105هـ) (1)، ثم تلاه الحسن البصري ت (110هـ) (2).
7 - معاني القرآن:
تصدر للتأليف في هذا الفن واصل بن عطاء الغزال، أبو حذيفة ت (131هـ) (3)، ثم تلاه محمد بن الحسن بن أبي سارة الرؤاسي ت (170هـ) (4)، ثم علي بن حمزة بن عبد الله الكسائي ت (189هـ) (5) ثم قطرب محمد بن المستنير ت (206هـ) (6)، ثم يحيى بن زياد الفراء ت (207هـ) (7)
__________
ومرآة الجنان لليافعي: 3/ 18.
(1) هو الضحاك بن مزاحم الهلالي البلخي المفسر، معلم قيل: كان في مكتبة ثلاثة آلاف صبي، وثقه ابن معين وغيره. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 2/ 499والفهرست لابن النديم: 38وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 186.
(2) انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 446وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 72.
(3) واصل بن عطاء أبو حذيفة المخزومي، عالم في اللغة. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي:
5/ 464ومرآة الجنان لليافعي: 2/ 357وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 357.
(4) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 134وكشف الظنون لحاجي خليفة: 2/ 1730.
(5) انظر: الفهرست لابن النديم: 29وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 407.
(6) انظر: الفهرست لابن النديم: 52وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 256.
(7) انظر: الفهرست لابن النديم: 66وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 368ومفتاح(1/143)
8 - المحكم والمتشابه:
أول من صنف في متشابه القرآن هو مقاتل بن سليمان الأزدي البلخي ت (150هـ) (1)، تلاه علي بن حمزة الكسائي ت (187هـ) (2)، ثم ألف قطرب محمد بن المستنير ت (206هـ) كتاب «الرد على الملحدين في متشابه القرآن». (3).
وأكتفي بهذه النماذج المختارة من عيون فنون علوم القرآن كأمثلة على أوائل التأليف في الموضوعات، وسيأتي المزيد عند الحديث عن مراحل التأليف في علوم القرآن في الفصل الثاني من هذا الباب بمشيئة الله تعالى.
ثانيا: أولى التفاسير التي لها مقدمات:
1 - مقدمة تفسير القرآن العزيز: لأبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني ت (211هـ).
يعد عبد الرزاق أول من قدم تفسيره بمقدمة في علوم القرآن، روى فيها بعض الآثار دون أن يقطع لذلك جانبا من الفكر.
__________
السعادة لطاش كبرى زاده: 1/ 167.
(1) هو مقاتل بن سليمان بن كثير البلخي، مفسر رمي بالتجسيم، وترك حديثه، حكي عن الشافعي أنه قال: الناس عيال على مقاتل في التفسير. له الآيات المتشابهات. انظر:
الفهرست لابن النديم: 179وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 331.
(2) انظر: الفهرست لابن النديم: 29وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 407.
(3) انظر: الفهرست لابن النديم: 52وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 256.(1/144)
2 - مقدمة تفسير جامع البيان في تفسير القرآن: لأبي جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري ت (310هـ).
يعد ابن جرير رائد علم التفسير بلا منازع، وإذا كان عبد الرزاق قد قدم لتفسيره بعض الروايات عن علوم القرآن، فإن ابن جرير يعد أول من صنف في التفسير مقدما التصنيف بمقدمة طويلة درس فيها موضوعات مختارة من علوم القرآن تعد من أهم الموضوعات في هذا الفن، دون أن يكتفي بما اكتفى به الصنعاني، بل أعمل الفكر، وأبدى الرأي، وأحسن الاختيار وجمع الآراء والأقوال، ورجح بين الروايات، ويكاد يجمع كل من صنف في علوم القرآن على ريادة ابن جرير في هذا المنهج.
3 - مقدمة كتاب المباني في نظم المعاني: لمؤلف مجهول، وقد طبعت المقدمة مع مقدمة تفسير ابن عطية وعنون لها ب: مقدمتان في علوم القرآن، حققهما المستشرق آرثر جفري.
ويعود تاريخ هذه المقدمة إلى عام (425هـ) حيث كتب مؤلفه في الصفحة الثانية منه أنه بدأ في تأليفه عام 425هـ. وشملت هذه المقدمة عشرة فصول، تضمنت أهم موضوعات علوم القرآن كجمع المصحف، ونزول القرآن، والمحكم والمتشابه، ونزول القرآن على سبعة أحرف، وغير ذلك من مباحث القرآن.
وممن قال بأسبقية هذه المقدمة وانتصر لهذا الرأي فضيلة الشيخ محمد أبو شهبة رحمه الله حيث صرح بذلك في كتابه «المدخل لدراسة القرآن
الكريم» وأثنى عليها وعلى موضوعاتها، كما أثنى على بلاغة الكاتب وقوة حجته، وحصافة رأيه، ورجح كونه من علماء الأندلس وقال: وإن أغلب ما ذكره السيوطي في مقدمته الإتقان من الكتب المؤلفة في هذا الفن لا يداني هذه المقدمة، بل إن بعضها لا يزيد عن فصل من فصولها، فهي جديرة بأن تذكر في كتب هذا الفن، وهي بحق تعتبر محاولة جدية في التأليف في هذا العلم، ولا يغض من قيمتها أنها مقدمة لتفسير، فكتاب الإتقان الذي هو عمدة كتب هذا الفن قد جعله مؤلفه مقدمة لتفسيره الكبير كما ذكر. ثم قال: ولعل أطول المقدمات وأحفلها هي مقدمة القرطبي وهي على طولها لا تبلغ ما بلغته هذه المقدمة في طولها وتنوع موضوعاتها. (1)(1/145)
وممن قال بأسبقية هذه المقدمة وانتصر لهذا الرأي فضيلة الشيخ محمد أبو شهبة رحمه الله حيث صرح بذلك في كتابه «المدخل لدراسة القرآن
الكريم» وأثنى عليها وعلى موضوعاتها، كما أثنى على بلاغة الكاتب وقوة حجته، وحصافة رأيه، ورجح كونه من علماء الأندلس وقال: وإن أغلب ما ذكره السيوطي في مقدمته الإتقان من الكتب المؤلفة في هذا الفن لا يداني هذه المقدمة، بل إن بعضها لا يزيد عن فصل من فصولها، فهي جديرة بأن تذكر في كتب هذا الفن، وهي بحق تعتبر محاولة جدية في التأليف في هذا العلم، ولا يغض من قيمتها أنها مقدمة لتفسير، فكتاب الإتقان الذي هو عمدة كتب هذا الفن قد جعله مؤلفه مقدمة لتفسيره الكبير كما ذكر. ثم قال: ولعل أطول المقدمات وأحفلها هي مقدمة القرطبي وهي على طولها لا تبلغ ما بلغته هذه المقدمة في طولها وتنوع موضوعاتها. (1)
قلت: لهذه المقدمة أهمية خاصة عند المشتغلين بعلوم القرآن وإن كانت جهالة المؤلف قد أفقدته شيئا من تلك الأهمية، غير أن الحديث هنا هو عن الأسبقية والريادة، وليس عن الإتقان والإجادة، وبما أن عبد الرزاق من المتقدمين على المؤلف فهو الحائز قصب السبق وليس مؤلف المقدمة، والله أعلم.
ثالثا: أولى الموسوعات في علوم القرآن:
يقول الأستاذ الزرقاني في المناهل (2): اشرأبّت أعناق العلماء أن
__________
(1) انظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة: 3534.
(2) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 26.(1/146)
يعتصروا من تلك العلوم علوم القرآن علما جديدا يكون كالفهرس لها، والدليل عليها، والمتحدث عنها. فكان هذا العلم هو ما نسميه (علوم القرآن).
قلت: وقد عنيت بمصطلح (موسوعات علوم القرآن) تلك المصنفات التي ألفت في هذا العلم بالمعنى المذكور في كلام الأستاذ الزرقاني السابق.
لقد كثرت الأقوال في تعيين المجلي في هذا الباب، وتباينت الآراء إلى حد الغرابة أحيانا، ولعل السبب الرئيس في اعتقادي هو الإيهام الذي أحدثته عبارة علوم القرآن الواردة في بعض عناوين المؤلفات القديمة، وظن البعض أنها مصنفات في علوم القرآن، وهي في حقيقتها في التفسير، وانتشرت هذه الأقوال حتى اشتهرت، واعتمد اللاحق على السابق بأن كفى النفس مؤنة البحث والتقصي.
وقد رأيت أن أذكر أهم تلك الأقوال ثم الرد عليها، وأتبعها بذكر ما ترجح لديّ والله المستعان، وأشهر الأقوال:
1) كتاب البرهان في علوم القرآن: علي بن إبراهيم بن سعيد الشهير بالحوفي ت (430هـ) (1)، قال ياقوت (2) في «معجمه»: بلغني أنه يقع في
__________
(1) الكتاب مخطوط يقع في ثلاثين مجلدا، يوجد منه خمسة عشر مجلدا بدار الكتب المصرية تحت رقم (59) تفسير، ونسخة أخرى من سبعة مجلدات، من الأول إلى الخامس، والحادي عشر وجزء آخر ناقص من أوله تحت رقم 517تفسير، وانظر: فهرس معهد مخطوطات جامعة الدول العربية.
(2) هو ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي، نحوي أخباري، كانت له همة عالية في(1/147)
ثلاثين مجلدا بخط دقيق. (1)
وقد ذكر الأستاذ الزرقاني رحمه الله أن كتاب الحوفي هو أول تصنيف ظهر في علوم القرآن بالمعنى المصطلح عليه، حيث قال: لقد كان المعروف لدى الكاتبين في تاريخ هذا الفن، أن أول عهد ظهر فيه هذا الاصطلاح أي اصطلاح علوم القرآن هو القرن السابع.
لكني ظفرت في دار الكتب المصرية بكتاب لعلي بن إبراهيم بن سعيد الشهير بالحوفي المتوفى سنة (430هـ) اسمه «البرهان في علوم القرآن»،
إلى أن قال: وإذن نستطيع أن نتقدم بتاريخ هذا الفن نحو قرنين من الزمان أي إلى بداية القرن الخامس بدلا من القرن السابع (2)
وقال في موضع آخر: إن علوم القرآن استهلت صارخة على يد الحوفي في أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس. (3) وقال في موضع ثالث من كتابه المناهل: ولا نعلم أحدا قبل المائة الرابعة للهجرة ألف أو حاول أن يؤلف في علوم القرآن بالمعنى المدون. (4)
__________
تحصيل العلوم، له معجم البلدان وغيره، توفي (630هـ). انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 6/ 127، وسير أعلام النبلاء للذهبي: 22/ 312.
(1) انظر: معجم الأدباء لياقوت: 12/ 221.
(2) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 28.
(3) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 32.
(4) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 26.(1/148)
ولعل الأستاذ الزرقاني هو أول من تبنى هذا الرأي كما يظهر من مقولته، وقد تبعه ثلة من الذين ألفوا في علوم القرآن (1) فيما بعد.
وهو رأي مرجوح في اعتقادي لأمرين:
الأول: أن كتاب الحوفي هذا كتاب في التفسير وليس في علوم القرآن.
وقد تضافرت الأدلة على ذلك، بل إن الكتاب وهو بين أيدينا خير شاهد على جنوح الرأي وعدم سداده.
وقبل ذكر طريقة المؤلف في التفسير ننقل ما ورد في تسميته، فقد ذكر ياقوت الحموي في معجمه السابق أن الحوفي سمى كتابه «البرهان في تفسير القرآن» (2) وقال الداودي (3): له أي للحوفي تفسير جيد سماه: «البرهان في تفسير القرآن» (4) وبنحو ذلك قال السيوطي وحاجي خليفة (5)
__________
(1) مثل الدكتور محمد أمين فرشوخ، انظر كتابه المدخل إلى علوم القرآن والعلوم الإسلامية:
10، والدكتور محمد بكر إسماعيل، انظر كتابه دراسات في علوم القرآن: 17.
(2) انظر: معجم الأدباء لياقوت: 12/ 221.
(3) هو محمد بن علي بن أحمد الداودي، شيخ أهل الحديث في عصره، أخذ عن السيوطي، له طبقات المفسرين. انظر: شذرات الذهب لابن العماد: 8/ 264والأعلام للزركلي:
6/ 291.
(4) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 388.
(5) هو مصطفى بن عبد الله كاتب جلبي، يعرف بحاجي خليفة، مؤرخ بحاثة، له كشف الظنون، قيل: هو أنفع ما كتب في هذا الباب. انظر: الأعلام للزركلي: 7/ 236.(1/149)
وغيرهما (1).
ولا ندري من أين استقى الأستاذ الزرقاني هذا الاسم «البرهان في علوم القرآن» لكتاب الحوفي، والحال أن الجزء الأول منه مفقود، ولا أدري من أين عرف التسمية؟ ولعله اعتمد على فهرس دار الكتب المصرية.
قال: وقد رجعت إلى كتاب كشف الظنون فتبين لي أن اسم الكتاب «البرهان في تفسير القرآن»، وبذلك زالت الشبهة في عدّه من علوم القرآن، وثبت أنه كتاب تفسير وهو الحق والصواب. (2)
وبالرجوع إلى التفسير رأينا أن الكتاب لا يخرج عن كتب التفسير، يتعرض فيه المؤلف للآية أو الآيات حسب ترتيب المصحف، فيذكر الإعراب، والوقف والتمام، والقراءات والغريب، والمعنى والتفسير والأحكام وأسباب النزول والنسخ وغير ذلك، ويعقد لكل فن عنوانا فيقول: (القول في القراءات) ويتكلم تحت العنوان عن القراءات الواردة في الآيات المعروضة، ثم يقول: (القول في الإعراب) فيذكر اللغويات والنواحي الإعرابية، وهكذا في بقية الفنون. فهو كتاب تفسير تطرّق فيه المؤلف لمواضيع في علوم القرآن وليس ذلك بدعا من القول.
فلا فرق بين صنيعه وبين صنيع القرطبي والفخر الرازي في
__________
(1) انظر: طبقات المفسرين للسيوطي: 70وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 241.
(2) انظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة: 35.(1/150)
تفسيريهما، وصنيع غيرهما ممن كان كتابه أمسّ بالتفسير منه بعلوم القرآن. (1) وقد أقر الأستاذ الزرقاني نفسه بهذه الحقيقة حين استعرض الكتاب وقال: إن الكتاب أتى على علوم القرآن ولكن لا على طريقة ضم النظائر والأشباه بعضها إلى بعض تحت عنوان واحد لنوع واحد، بل على طريقة النشر والتوزيع تبعا لانتشار الألفاظ المتشاكلة في القرآن وتوزعها.
حتى كأن هذا التأليف تفسير من التفاسير عرض فيه صاحبه لأنواع علوم القرآن عند المناسبات (2).
الثاني: أن الكتاب مسبوق بالتأليف، ومن الذين سبقوه في هذا المضمار الحارث المحاسبي ت (243هـ) بكتابه «فهم القرآن»، وأبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري ت (406هـ) بكتابه «التنبيه على فضل علوم القرآن» (3)، هذا حسب الاصطلاح، وإلا فلو نظرنا باعتبار التسمية فإن هناك من سبقه أيضا مثل محمد بن خلف بن المرزبان ت (309هـ) بكتابه «الحاوي في علوم القرآن» (4)، وأبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ت (334هـ) بكتابه «المختزن في علوم القرآن» (5)،
__________
(1) انظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة: 35.
(2) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 28.
(3) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 145.
(4) انظر: الفهرست لابن النديم: 95، وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 146.
(5) انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 11/ 346، وسير أعلام النبلاء للذهبي: 15/ 88.(1/151)
ومحمد بن علي الأدفوي ت (388هـ) بكتابه «الاستغناء في علوم القرآن» (1).
2) كتاب الحاوي في علوم القرآن: لمحمد بن خلف بن المرزبان بن بسام المحوّلي ت (309هـ) (2)، والكتاب مخطوط بدار الكتب المصرية (3)، ويقع في نحو من سبعة وعشرين جزءا.
وممن انتصر لهذا القول ورأى أن ابن المرزبان هو السابق في التأليف فضيلة الدكتور صبحي الصالح رحمه الله حيث قال في ثنايا حديثه عن ظهور هذا المصطلح: نبهنا آنفا إلى ظهور كتب عالجت الدراسات القرآنية باسمها الصريح (علوم القرآن)، وكان أسبقها في نظرنا كتاب ابن المرزبان في القرن الثالث. (4)
وهو اختيار فضيلة الشيخ مناع خليل القطان يحفظه الله الذي قال
__________
(1) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 398، وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 440.
(2) أخباري مصنف حسن التأليف، روى عن الزبير والرمادي وعنه أبو عمر بن حيويه وجماعة، والمحوّلي نسبة إلى قرية غرب بغداد. انظر النجوم الزاهرة: 3/ 203، والفهرست: 95و 166، وتاريخ بغداد: 5/ 237، وطبقات المفسرين للداودي:
2/ 146، ومعجم مصنفات القرآن الكريم: 3/ 199.
(3) انظر: مذكرة علوم القرآن من إلقاء فضيلة الشيخ مناع القطان يحفظه الله على طلبة الدراسات العليا في كلية أصول الدين عام 1407هـ.
(4) انظر: مباحث في علوم القرآن، د / صبحي الصالح: 124.(1/152)
عند حديثه عن نشأة علوم القرآن: أما جمع هذه الأنواع من علوم القرآن كلها أو جلها في كتاب واحد باعتبارها علما مستقلا فقد كانت بداية ذلك في مؤلف مخطوط بعنوان «الحاوي في علوم القرآن» بدار الكتب المصرية لأبي عبد الله محمد بن خلف بن المرزبان إلى أن قال: وهو بهذا أول من جمع علوم القرآن في مؤلف واحد (1).
وهو ما ذهب إليه أيضا فضيلة الدكتور فهد الرومي، الذي قال: ظهر هذا الاصطلاح أول ما ظهر في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري حين ألف محمد بن خلف بن المرزبان ت (309هـ) كتابه الحاوي في علوم القرآن (2).
وهذا الرأي أيضا مرجوح في اعتقادنا، وذلك لأمرين:
الأول: أن كتاب ابن المرزبان كتاب في التفسير وليس في علوم القرآن وإن حمل مصطلح علوم القرآن، يدل على ذلك سعته فقد جاء في ثلاثين مجلدا، في عصر لم يكن البحث في علوم القرآن بالمعنى المقصود قد بلغ نصيف هذا الاتساع. (3)
الثاني: أنه مسبوق بكتاب «فهم القرآن» للحارث المحاسبي
__________
(1) انظر: مذكرة علوم القرآن. من إلقاء فضيلة الشيخ مناع القطان يحفظه الله على طلبة الدراسات العليا في كلية أصول الدين عام 1407هـ.
(2) انظر: دراسات في علوم القرآن الكريم، د / فهد الرومي: 45.
(3) وانظر: فنون الأفنان لابن الجوزي مقدمة المحقق: 73.(1/153)
ت (243هـ) وسيأتي الحديث عنه بمشيئة الله.
3) كتاب عجائب علوم القرآن: المنسوب لأبي بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار ابن الأنباري ت (328هـ) (1)، والكتاب مخطوط توجد منه نسخة في مكتبة البلدية بالإسكندرية برقم: 3599 (2).
وقد انتصر لهذا القول فضيلة الدكتور / حسن ضياء الدين عتر، الذي قال في تحقيقه لكتاب فنون الأفنان لابن الجوزي: وإني أتوقع أن يكون أسبق كتاب في هذا المضمار هو: «عجائب علوم القرآن» للإمام الجليل أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري ت (328هـ). (3)
وقد استبشرت خيرا بهذا القول لكونه يتقدم بتاريخ تدوين علوم القرآن بالمعنى المصطلح عليه قرنا كاملا على مذهب من يرى أن ابن حبيب النيسابوري هو السابق، وبأكثر من قرنين ونيف على مذهب من يرى أن المجلي هو ابن الجوزي صاحب فنون الأفنان. غير أنني ما لبثت أن اختالني الشك حين عدت إلى ترجمة ابن الأنباري في مظانه فلم أجد لهذا الكتاب
__________
(1) مقرئ نحوي، زاهد فاضل، اشتهرت تصانيفه منها الوقف والابتداء، والرد على من خالف مصحف عثمان. انظر: معرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 280وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 228.
(2) انظر: مباحث في علوم القرآن، الدكتور صبحي الصالح: 122، ودراسة تقويمية لكتاب مناهل العرفان: 183وفنون الأفنان مقدمة المحقق: 74.
(3) انظر: فنون الأفنان مقدمة المحقق: 73.(1/154)
ذكرا، غير الزركلي في الأعلام (1) الذي ذكر ضمن مؤلفات ابن الأنباري الكتاب المذكور وأشار إلى أنه مخطوط، وغير الشواخ في «معجم مصنفات القرآن» (2)، وكان مصدره الوحيد الأعلام للزركلي، مما زاد من حيرتي.
وأثناء البحث وتقليب النظر في المصادر ومظان الحديث عن مثل هذا الموضوع وقفت على استعراض لمخطوط ابن الأنباري في رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية بعنوان: «دراسة تقويمية لكتاب مناهل العرفان»، للباحث خالد بن عثمان السبت، فألفيته يقول: وقفت على كتاب ابن الأنباري رحمه الله فوجدته يتحدث عن موضوعنا الذي نحن بصدده، وقد قال في أوله: لما ألفت كتاب التلقيح في غرائب علوم الحديث، رأيت أن تأليف كتاب في عجايب علوم القرآن أولى، فشرعت في سؤال التوفيق)
إلى أن قال: (باب ذكر نبذة من فضائل القرآن)، ثم قال: (باب في أن القرآن كلام الله غير مخلوق) ثم قال: (باب نزول القرآن على سبعة أحرف) وساق أربعة عشر قولا. ثم قال (باب في كتابة المصحف وهجائه) ثم قال: (باب عدد سور القرآن، وآياته، وكلماته، وحروفه، ونقطه) ثم قال:
(باب ذكر أجزاء القرآن) ثم قال: (باب عدد آيات السور) وهكذا يسوق
__________
(1) انظر: الأعلام للزركلي: 6/ 334والذي يظهر لي أنه اعتمد فهرست المكتبة في إثبات المعلومة.
(2) انظر: معجم مصنفاته القرآن الكريم للشواخ: 3/ 219.(1/155)
الأبواب) (1)، وهكذا لم يذكر الباحث شيئا عن نسبة الكتاب إلى ابن الأنباري، غير أن العرض الذي قدمه أدخل السكينة إلى النفس التي لم تدم طويلا فسرعان ما وقفت على تنبيه في الحاشية، للباحث نفسه في أوائل رسالته قوض البنيان حين قال ما نصه: ذهب البعض إلى القول بأن كتاب عجائب علوم القرآن المنسوب لابن الأنباري هو أول المؤلفات في هذا الشأن، والصواب أن الكتاب المذكور لا تصح نسبته لابن الأنباري، بل هو كتاب فنون الأفنان لابن الجوزي، ويعرف هذا بالمقارنة بينهما وبدلائل لا مجال لذكرها في هذا الموضع أه (2). وعند جهينة الخبر اليقين، فبالعودة لكتاب ابن الجوزي تبين اليقين، وتأكد لي ذلك مرة أخرى ما أقره الباحث حين وقفت على كلام لفضيلة الدكتور فهد الرومي يحفظه الله وهو الخبير بمعرفة الكتب والمخطوطات المتحققة في التفسير وعلوم القرآن يثبت فيه هو الآخر خطأ نسبة الكتاب لابن الأنباري ويؤكد النسبة لابن الجوزي ويقول:
ينسب كثير من الباحثين كتاب «عجائب علوم القرآن» لأبي بكر بن الأنباري ت (328هـ) مستندين في ذلك إلى ما ذكره الزرقاني في «مناهل العرفان» (3)، وقد ظهر لي والقول لفضيلة الدكتور يقينا أن الكتاب
__________
(1) انظر: دراسة تقويمية لكتاب مناهل العرفان: 184.
(2) انظر: دراسة تقويمية لكتاب مناهل العرفان: 28.
(3) سبق أن بينا أن الزرقاني رجح أن الحوفي هو المجلي في هذا الباب، ومعلوم أن الحوفي توفي سنة 430هـ، بيد أن ابن الأنباري هو المتقدم تاريخا، فكيف يذكره ولا يعزو(1/156)
المذكور ليس لأبي بكر الأنباري بل هو كتاب «فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن» لابن الجوزي، وسبب وقوع هذا الوهم نسخة مخطوطة في مكتبة البلدية بالإسكندرية أخطأ مفهرسو المكتبة في معرفة المؤلف فنسبوها لأبي بكر الأنباري. أه (1).
والغريب في الأمر أن يذهب محقق كتاب ابن الجوزي الأستاذ العتر من دون الآخرين إلى ترجيح هذا الرأي، وكأن وحدة التسمية والموضوعات لم تحدث له إشكالا، ولا قول المؤلف في بداية حديثه: لما ألفت كتاب «التلقيح في غرائب علوم الحديث»، رأيت أن تأليف كتاب في عجايب علوم القرآن أولى. وكما هو معلوم فإن كتاب التلقيح هو لابن الجوزي.
وعلى ما سبق فإنه لا يعتد بهذا القول أيضا.
4) كتاب فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد البكري المعروف بابن الجوزي ت (597هـ) (2)، والكتاب مطبوع عدة طبعات.
__________
الأسبقية إليه!
(1) انظر: دراسات في علوم القرآن الكريم، د / فهد الرومي: 46هامش «1» قلت: وقول الدكتور الكريم: «وينسب كثير من الباحثين كتاب عجائب» قول فيه نظر إذ القائلون بذلك قلة.
(2) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 21/ 365وغاية النهاية لابن الجزري: 1/ 375.(1/157)
كان المعروف لدى الكاتبين في هذا الفن أن ظهور هذا الاصطلاح كان في القرن السادس الهجري على يد أبي الفرج بن الجوزي، استنتاجا من الذي ذكره السيوطي في مقدمة الإتقان. (1)
وكان ممن انتصر لهذا القول فضيلة الشيخ غزلان، في كتابه: «البيان في مباحث من علوم القرآن»، فقد ذكر بعد أن عرض لحركة التأليف في علوم القرآن أن ابن الجوزي هو السابق في التصنيف في هذا الفن وقال: فمن هذا كله يتبين لنا أنه لم يعرف أن أحدا قبل ابن الجوزي جمع هذه الأبحاث وسماها باسم علوم القرآن. (2)
وهو قول بعيد وغريب فابن الجوزي مسبوق بقرون على مذهب من يرى أن الحارث المحاسبي هو السابق، أو أن ابن حبيب النيسابوري هو المجلي أو ابن المرزبان أو غيرهم.
5) أقوال أخرى: وقد وردت أقوال أخرى تقول بأسبقية بعض المؤلفات ولغرابتها وبعدها أعرضت عن التحدث عنها تفصيلا، ومن ذلك:
أالبرهان في علوم القرآن، لأبي عبد الله، بدر الدين، محمد بن عبد
__________
(1) انظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة: 34.
(2) انظر: البيان في علوم القرآن لغزلان: 41.(1/158)
الله بن بهادر الزركشي ت (794هـ) (1).
وقد شهد السيوطي للزركشي بالزيادة في هذا الباب لكن على سبيل البسط والإحصاء والسير على منهج الاستقصاء، فقد قال في خطبة كتابه «الإتقان»: خطر لي بعد ذلك يعني بعد تأليف كتاب «التحبير» أن أؤلف كتابا مبسوطا، ومجموعا مضبوطا أسلك فيه طريق الإحصاء، وأمشي فيه على منهاج الاستقصاء، هذا كله وأنا أظن أني متفرد بذلك غير مسبوق بالخوض في هذه المسائل، فبينا أن أجيل في ذلك فكرا إلى أن قال: إذ بلغني أن الشيخ الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي ألف كتابا في ذلك حافلا يسمى «البرهان في علوم القرآن» فتطلّبته حتى وقفت عليه. (2)
تلكم كانت شهادة السيوطي، وقد كان الزركشي ذاته قد أثبت الأسبقية لنفسه حين ذكر في تقديمه للبرهان أنه مما فات المتقدمين وضع كتاب يشتمل على أنواع علومه، كما وضع ذلك بالنسبة إلى علم الحديث قال: فاستخرت الله تعالى وله الحمد في وضع كتاب في ذلك جامع لما تكلم الناس في فنونه. (3)
وقد اختار هذا الأستاذ أبو الفضل إبراهيم في تحقيقه لكتاب الإتقان
__________
(1) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 162والدرر الكامنة لابن حجر: 4/ 17.
(2) انظر: الإتقان للسيوطي: 1/ 123ط البغا.
(3) انظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي: 1/ 9.(1/159)
للسيوطي (1).
ب مواقع العلوم من مواقع النجوم، لجلال الدين، عبد الرحمن بن عمر بن رسلان البلقيني ت (824هـ) (2).
وهو اختيار السيوطي في كتابيه «الإتقان»، و «التحبير» حيث قال: ومما أهمل المتقدمون تدوينه حتى تحلى في آخر الزمان بأحسن زينة [علم التفسير] الذي هو كمصطلح الحديث، فلم يدونه أحد لا في القديم ولا في الحديث حتى جاء شيخ الإسلام وعمدة الأنام علامة العصر قاضي القضاة جلال الدين البلقيني رحمه الله تعالى فعمل كتابه «مواقع العلوم من مواقع النجوم»، فنقحه وهذّبه وقسّم أنواعه ولم يسبق إلى هذه المرتبة (3).
ج التيسير في قواعد علم التفسير لأبي عبد الله، محيي الدين، محمد بن سليمان بن سعد الرومي الحنفي المعروف بالكافيجي ت (879هـ) (4)
نقل السيوطي عن شيخه الكافيجي قوله: قد دونت في علوم التفسير
__________
(1) انظر: الإتقان للسيوطي، مقدمة المحقق: 1/ 7ط أبو الفضل إبراهيم.
(2) انظر: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي: 4/ 106وشذرات الذهب لابن عماد: 7/ 166وبدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس: 2/ 73.
(3) انظر: الإتقان للسيوطي: 1/ 109.
(4) عالم فاضل بارع في المعقولات والمنقولات، وقد سمي بالكافيجي لكثرة اشتغاله بكافية ابن الحاجب في النحو. انظر: بغية الوعاة للسيوطي: 1/ 117والشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية: 1/ 124وشذرات الذهب لابن عماد الحنبلي: 7/ 326.(1/160)
كتابا لم أسبق إليه (1) ثم أنكر على شيخه دعواه في ذلك وقال: وكان يقول أنه ابتدع هذا العلم ولم يسبق إليه، وذلك لأنه لم يقف على البرهان للزركشي ولا على مواقع النجوم للبلقيني (2).
ولا يخفى علينا بعد هذه الآراء وغرابتها، فهم مسبوقون بلا شك، بالحارث المحاسبي ت (243هـ)، وبابن حبيب النيسابوري ت (406هـ) وبابن الجوزي ت (597هـ)، وبالسخاوي ت (643هـ) وبأبي شامة المقدسي ت (665هـ)، وبنجم الدين الطوفي ت (716هـ) صاحب كتاب «الإكسير في علم التفسير».
والذي يترجح لي والله أعلم بعد أن استعرضنا معا ما قيل في هذا الشأن، أن المجلي والسابق، ورائد المنهج الموسوعي في علوم القرآن، والذي وضع النواة واللبنات الأولى لهذا النهج، هو الحارث بن أسد المحاسبي ت (243هـ)، ثم جاء بعده من أقام البنيان على الأساس الذي وضعه حتى اكتمل وتحلى بأجمل زينة، فماذا عن تصنيفه؟
6) كتاب فهم القرآن: لأبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي ت (243هـ) (3)، والكتاب مطبوع ومتداول بين أيدي طلبة العلم (4).
__________
(1) انظر: الإتقان للسيوطي: 7، ط البغا.
(2) انظر: بغية الوعاة للسيوطي: 1/ 118.
(3) عابد زاهد صوفي، تصدى للمعتزلة والرافضة ورد عليهم، أثنى عليه الإمام أحمد من وجه، وحذّر منه.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 12/ 110وحلية الأولياء لأبي نعيم: 10/ 73.
(4) طبع الكتاب بتحقيق الأستاذ حسين القوتلي، مجموعا مع كتاب آخر للحارث هو كتاب «العقل»، وقد أخرج الكتابين بعنوان «العقل وفهم القرآن» وكانت الطبعة الثانية عام 1398هـ 1978م نشر وتوزيع دار الكندي ودار الفكر.(1/161)
وقد انتصر لهذا الرأي فضيلة الأستاذ فاروق حمادة، فعدّ كتاب الحارث هذا في طليعة كتب علوم القرآن كفن مدون، وألصقها بالمعنى الاصطلاحي لعلوم القرآن، (1) كما انتصر له قليل من الباحثين المتأخرين (2).
وبالعودة إلى الكتاب والاطلاع عليه وجدت أن المؤلف يعالج موضوعات هامة من علوم القرآن، وإن لم يكن هدفه تأليف كتاب مستقل في علوم القرآن بقدر ما كان يهدف منه الحديث عن نهج العقل المؤمن، ووضع أبحاث جزئية لفهم القرآن على منهج أهل السنة والجماعة، لا على طريقة المعتزلة والرافضة وغيرهم، حيث أشهر المصنف في وجههم سيف الحق وفنّد مذاهبهم، وبالخصوص في مسألة النسخ، غير أن الموضوعات جاءت في صلب موضوعنا، ولم تختلف كثيرا عن المعالجات التي جاءت متأخرة إلا بقدر ما تستدعيه الفترة الزمنية التي فصلت بينها، وما تستلزمه تلك الفترة من تطور في العلوم.
__________
(1) انظر: مدخل إلى علوم القرآن والتفسير، لفاروق حمادة: 10.
(2) انظر: تاريخ علوم القرآن حتى نهاية القرن الخامس الهجري: 14، للباحث أحسن محمد أشرف الدين رسالة ماجستير الجامعة الإسلامية عام 1405هـ.(1/162)
والموضوعات التي بحثها المؤلف هي: فضائل القرآن، فقه القرآن، المحكم والمتشابه. ما لا يجوز النسخ فيه وما يجوز فيه، الناسخ والمنسوخ في الأحكام، في أساليب القرآن، التقديم والتأخير، الإضمار. الحروف الزائدة، المفصول والموصول، هذه هي موضوعات كتاب الحارث المحاسبي فهم القرآن، وهي كما يراها القارئ موضوعات من صلب مباحث علوم القرآن.
إننا نستطيع أن نقول: إن أول كتاب وضع نواة لعلوم القرآن بالمعنى الموسوعي الصحيح هو كتاب الحارث المحاسبي لكونه لم يجاوز في موضوعاته وفنونه دائرة تلك العلوم.
ولعل أول من جاء بعد الحارث بكتاب مستقل هو:
7) الحسن بن محمد بن الحسن بن حبيب، أبو القاسم النيسابوري ت (402هـ):
الذي كتب كتابة خاصة عن فضل علوم القرآن وسماه: «التنبيه على فضل علوم القرآن»، وقد حقق الكتاب الأستاذ محمد عبد الكريم الراضي، وحين استعرضته وجدته تطرق لأشرف تلك الفنون، وقال: إن من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا
الخ. فذكر خمسة وعشرين وجها ثم قال: من لم يعرفها ويميز بينها لم يحلّ له أن يتكلم في كتاب الله عز وجل.(1/163)
بعدها فصّل ما أجمله وقال: وأنا أذكر من كل وجه منها فصلا غير مشروح ولا مبسوط لئلا يطول الكتاب (1)
وبعد: فإننا نستخلص مما سبق أن التدوين في علوم القرآن حسب الاصطلاح الموسوعي قد بدأ في منتصف القرن الثالث على يد الحارث المحاسبي، ثم نمى على يد ابن حبيب النيسابوري في نهاية هذا القرن، تم تطور على يد ابن الجوزي والسخاوي وأبي شامة والطوفي وغيرهم في القرنين السادس والسابع الهجريين، وترعرع على يد الزركشي في نهاية القرن الثامن، وبلغ ذروته على يد جلال الدين السيوطي في نهاية القرن التاسع وبداية العاشر والله أعلم.
__________
(1) انظر: التنبيه على فضل علوم القرآن لابن حبيب: 307، ضمن مجلة المورد العدد: 4 المجلد: 17عام: 1409هـ.(1/164)
الفصل الثاني التأليف في علوم القرآن
1 - المرحلة الأولى من القرن الأول إلى نهاية القرن الرابع الهجري.
2 - المرحلة الثانية من نهاية القرن الرابع إلى بداية القرن العاشر الهجري.
3 - المرحلة الثالثة من بداية القرن العاشر إلى العصر الحالي.(1/165)
تمهيد:
شهدت حركة التأليف في علوم القرآن كغيره من العلوم الإسلامية تطورا سريعا، فما أن أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتابة حتى تسابقت أقلام الصحابة إلى تدوين العلوم والأخبار، وخاصة ما تعلق منها بالوحي المنزل وبالسنة النبوية القولية منها والفعلية.
واستمرت الكتابة والتأليف في شتى الموضوعات والفنون المتعلقة بكتاب الله في العصور المختلفة، وأعمل العلماء فكرهم لاستنباط درر هذا الكتاب وكنوزه، وتسابقوا في مضمار هذا الشرف العظيم، فكان منهم المجلي ومنهم من دون ذلك، حتى رأت الأجيال المسلمة وخلال فترة قصيرة المكتبات الخاصة والعامة تكتظ بالمصنفات العظيمة التي يقف الإنسان أمامها مشدوها كمّا وكيفا.
وقد استمر التأليف إلى عصرنا الراهن، ومر خلال تلك المدة بمراحل متنوعة من القوة والضعف، فيقوى في فترة من الفترات، وتشتد أوارها، وتكثر المصنفات، ويزدهر التأليف والتصنيف، ويفتر حينا فيمر بفترة ضعف وجمود، تخفت فيها تلك الجذوة الوهّاجة التي شهدها من قبل، فيضعف التأليف، كما يضعف الإقبال على طلب العلم.
كما تنوعت اهتمامات العلماء في العصور المختلفة، فتوجهت حينا إلى التصنيف الموضوعي، فظهرت العناوين المختصة في جزئية من جزئيات
العلم، فصّلت مسائلها تفصيلا دقيقا، وحينا آخر إلى التصنيف الموسوعي الذي قصد به العلماء وضع أطراف مسائل العلم بين يدي طلبته مجتمعة.(1/167)
كما تنوعت اهتمامات العلماء في العصور المختلفة، فتوجهت حينا إلى التصنيف الموضوعي، فظهرت العناوين المختصة في جزئية من جزئيات
العلم، فصّلت مسائلها تفصيلا دقيقا، وحينا آخر إلى التصنيف الموسوعي الذي قصد به العلماء وضع أطراف مسائل العلم بين يدي طلبته مجتمعة.
ويستطيع المتابع لحركة التأليف تلك أن يحدد ثلاث فترات رئيسة مر فيها التأليف في هذا الفن، لكل مرحلة سماتها الموضوعية والمنهجية، وهي:
المرحلة الأولى: من القرن الأول إلى نهاية القرن الرابع الهجري:
اتجهت الهمم في هذه المرحلة إلى الكتابة الموضوعية، وبذرت البذرة الأولى في بدايات الدعوة، غير أنها كانت كتابات متنوعة غير منظمة ولا مرتبة، تبعتها فترة الترتيب والتدوين، وجاء القرن الثاني الهجري ليجد حركة علمية ونهضة فكرية كانت بحق عصب النماء والرافد القوي الذي مد العصور اللاحقة بمادة علمية أساسية، أقامت عليها بنيانها، وجعلتها ركيزة وأساسا لذلك البنيان. فظهرت الرسائل الصغيرة وذلك بفصل المواد العلمية المجموعة بعضها عن بعض، وتخصيص كل موضوع بكتاب يحمل عنوانا مستقلا، وظهرت حركة الترجمة، واتسعت دائرة التدوين، وفصلت الموضوعات وتكاملت، وعدّ هذا القرن بحق قرن تدوين العلوم الإسلامية.
وقد امتازت المصنفات في هذه الفترة بتوسع في المادة العلمية عن ذي قبل، وشمول لم يوجد في القرن الذي سبقه، وتنوعت الموضوعات تنوعا أفضل وظهرت موضوعات جديدة لم تكن مطروحة عند السابقين، فأفردت بالتصنيف كعلم مجاز القرآن ومعانيه، وكعلم أسباب النزول وإعراب القرآن
والأمثال وغيرها، وكان الغالب على هذه المصنفات السمة التجميعية، جمع الروايات المعنية بالموضوع، يكتفي المصنف بذكر الآيات أو الروايات والآثار التي تبين ذلك وتوضحه. دون التعرض للمناقشات والإشكالات التي قد تعترض طريق القارئ، ودون التطرق للقواعد أو الضوابط التي تضبط الموضوع المطروق.(1/168)
وقد امتازت المصنفات في هذه الفترة بتوسع في المادة العلمية عن ذي قبل، وشمول لم يوجد في القرن الذي سبقه، وتنوعت الموضوعات تنوعا أفضل وظهرت موضوعات جديدة لم تكن مطروحة عند السابقين، فأفردت بالتصنيف كعلم مجاز القرآن ومعانيه، وكعلم أسباب النزول وإعراب القرآن
والأمثال وغيرها، وكان الغالب على هذه المصنفات السمة التجميعية، جمع الروايات المعنية بالموضوع، يكتفي المصنف بذكر الآيات أو الروايات والآثار التي تبين ذلك وتوضحه. دون التعرض للمناقشات والإشكالات التي قد تعترض طريق القارئ، ودون التطرق للقواعد أو الضوابط التي تضبط الموضوع المطروق.
وحين ظهرت المذاهب الفقهية، وأوجد علم الكلام، وكثرت الفرق الإسلامية، وتعددت النحل، وتأثر المسلمون بالثقافات التي وردت إليهم عن طريق الشعوب التي أسلمت، وكثر كيد اليهود وغيرهم للإسلام، كثر التصنيف، ووضعت الضوابط والقواعد، واتجه العلماء إلى تدقيق النظر في الروايات، والتحري في صحتها، وتمحيصها من الكذب ودخيل القول، فأصبحت المصنفات أكثر دقة من ذي قبل.
وهكذا استمر التأليف يتطور يوما بعد يوم، وتتكامل الموضوعات تكاملا دقيقا، وتتوضح الرؤية في كثير من مسائل العلم توضيحا أدق، ولعل جلّ اهتمام العلماء في خدمة كتاب الله في هذه الفترة كان منصرفا إلى:
1) علم التفسير، وما يتعلق به من بيان المعاني والغريب من الألفاظ والمتشابه منه والمحكم، وإعراب القرآن.
2) علم القراءات القرآنية، وما يتعلق به من رسم المصحف والأحرف السبعة، وقد لقيت هذه العلوم اهتماما خاصا من علماء
الإسلام، لكونها تمس النص القرآني، وتؤكد سلامته من النقص والزيادة والتحريف.(1/169)
2) علم القراءات القرآنية، وما يتعلق به من رسم المصحف والأحرف السبعة، وقد لقيت هذه العلوم اهتماما خاصا من علماء
الإسلام، لكونها تمس النص القرآني، وتؤكد سلامته من النقص والزيادة والتحريف.
3) علم الناسخ والمنسوخ، يدخل فيه المطلق والمقيد، والعام والخاص وما إلى ذلك، تتبعها المصنفون في جميع المصحف، وقيدوها تحت هذا المصطلح، حتى جاء المتأخرون الذين رأوا الفصل بين تلك الموضوعات، فأفردوا المطلق والمقيد، والعام والخاص بتآليف مستقلة.
4) علم إعجاز القرآن، وكان الاهتمام بإفراده بالتصنيف متأخرا نسبيا.
والمصنفات التي ظهرت في هذه المرحلة كثيرة يصعب حصرها، ولهذا سأكتفي بذكر نماذج، من أهمها:
أولا: المصنفات الموضوعية:
أعلم التفسير:
1) تفسير مجاهد بن جبر ت (104هـ) (1).
2) تفسير الضحاك بن مزاحم ت (105هـ) (2).
__________
(1) انظر: المعارف لابن قتيبة: 444وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 70.
(2) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 47وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 71.(1/170)
3) تفسير عكرمة مولى ابن عباس ت (107هـ) (1).
4) تفسير محمد بن كعب القرظي ت (108هـ) (2).
5) تفسير الحسن البصري (110هـ) (3).
6) تفسير عطاء بن أبي رباح ت (114هـ) (4).
7) تفسير قتادة بن دعامة السدوسي ت (117هـ) (5).
8) تفسير عطاء بن دينار ت (126هـ) (6).
9) تفسير إسماعيل السدي ت (127هـ) (7).
__________
(1) هو عكرمة البربري أبو عبد الله، مولى ابن عباس، تابعي وأحد أوعية العلم بالتفسير والمغازي.
انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 386وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 453.
(2) هو محمد بن كعب بن سليم القرظي، ثقة عالم بالحديث. انظر: المعارف لابن قتيبة: 458 وتهذيب التهذيب لابن حجر: 9/ 420وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 457.
(3) انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 446وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 72.
(4) انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 453وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 73 وقد طبع الكتاب.
(5) انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 456وتاريخ التراث العربي لسزكين 1/ 75.
(6) انظر: تاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 76.
(7) هو إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، إمام عارف بالوقائع وأيام العرب، روى عن ابن(1/171)
10) تفسير عطاء بن أبي رباح الخراساني ت (133هـ) (1).
11) تفسير زيد بن أسلم ت (136هـ) (2).
12) تفسير هشيم بن بشير السلمي ت (183هـ) (3).
13) تفسير عبد الرزاق الصنعاني ت (211هـ).
14) تفسير الإمام أحمد بن حنبل ت (241هـ) (4).
15) تفسير ابن ماجة ت (273هـ) (5).
16) الحاوي في علوم القرآن لابن المرزبان ت (309هـ) (6).
__________
عباس، توفي (127هـ). انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر: 1/ 313وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 109وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 77.
(1) انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 453وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 78.
(2) هو زيد بن أسلم العدوي، مفسر محدث فقيه، كانت له حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، له تفسير. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/ 316وطبقات المفسرين للداودي 1/ 182وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 448.
(3) انظر: الفهرست لابن النديم: 284وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 88.
(4) انظر: الفهرست لابن النديم: 229وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 72.
(5) هو محمد بن يزيد بن ماجة القزويني، محدث عالم، صاحب السنن، رحل في طلب الحديث، له التفسير. انظر: البداية والنهاية لابن كثير: 1/ 52وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 274.
(6) انظر: الفهرست لابن النديم: 95و 167وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 146.(1/172)
17) جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري ت (310هـ).
18) تفسير أبي بكر النيسابوري ت (318هـ) (1).
19) تفسير ابن أبي حاتم الرازي ت (327) (2).
20) الاستغناء في علوم القرآن لأبي بكر الأدفوي ت (388هـ) (3).
ب علم معاني القرآن:
1) معاني القرآن: واصل بن عطاء الغزال ت (131هـ) (4).
__________
(1) هو محمد بن إبراهيم بن المنذر، أبو بكر النيسابوري، فقيه عالم حافظ، له تصانيف معتبرة، منها التفسير. انظر: الفهرست لابن النديم: 215وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 55.
(2) طبع القسم الأول من سورة البقرة بتحقيق د / أحمد عبد الله العماري، والقسم الأول من سورة آل عمران بتحقيق الدكتور حكمت بشير ياسين، عام 1408هـ وبقية الكتاب لا زال مخطوط.
(3) انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 79وتاريخ التراث العربي لسزكين:
1/ 106وقد حققت سورة الفاتحة من الكتاب مع دراسته من قبل الأخ عبد الله عبد الغني كحيلان، نال بها درجة الماجستير من كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(4) انظر: فوات الوفيات للكتبي: 2/ 624وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 375.(1/173)
2) معاني القرآن: لمحمد بن الحسن الرؤاسي ت (170هـ) (1).
3) معاني القرآن: للكسائي علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي ت (189هـ) (2).
4) معاني القرآن: لقطرب بن المستنير ت (206هـ) (3).
5) معاني القرآن: للفراء يحيى بن زياد ت (207هـ) (4).
6) معاني القرآن: لأبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط ت (216هـ) (5).
7) معاني القرآن: لابن كيسان ت (299هـ) (6).
__________
(1) انظر: الوافي بالوفيات للصفدي: 2/ 334وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 134 وكشف الظنون لحاجي خليفة: 2/ 1730.
(2) انظر: الفهرست لابن النديم: 29والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي: 5/ 323 وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 407.
(3) انظر: الفهرست لابن النديم: 52والبداية والنهاية لابن كثير: 10/ 259وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 256.
(4) انظر: الفهرست لابن النديم: 66والمعارف لابن قتيبة: 545وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 368.
(5) انظر: الفهرست لابن النديم: 52وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 192ومرآة الجنان لليافعي: 2/ 61.
(6) هو محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كيسان النحوي، قيل: كان أنحى من المبرد وثعلب،(1/174)
8) معاني القرآن: لسلمة بن عاصم النحوي ت (310هـ) (1).
9) معاني القرآن وإعرابه: إبراهيم بن سري الزجاج ت (311هـ). (2)
10) معاني القرآن: لأبي جعفر النحاس ت (338هـ) (3).
ج علم إعراب القرآن:
1) إعراب القرآن: لمحمد بن المستنير الشهير بقطرب ت (206هـ) (4).
2) الجمع والتثنية في القرآن: ليحيى بن زياد المعروف
__________
قصده الرؤساء والأشراف لعلمه، له معاني القرآن، وغيره، توفي (299هـ). انظر:
طبقات المفسرين للداودي: 2/ 58ومفتاح السعادة لطاش كبرى زاده: 1/ 160.
(1) هو سلمة بن عاصم أبو محمد البغدادي النحوي، صاحب الفراء، عالم بالمعاني، قيل: إن كتابه في المعاني من أجود الكتب، توفي (310هـ). انظر: الفهرست لابن النديم: 67 وإنباه الرواة للقفطي: 2/ 56وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 201.
(2) انظر: الفهرست لابن النديم: 60وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 9ومرآة الجنان لليافعي: 2/ 262.
(3) هو أحمد بن محمد بن إسماعيل أبو جعفر، كان نحويا حاذقا، واسع العلم، غزير الرواية، له أكثر من خمسين تصنيفا في علوم القرآن والأدب، توفي (338هـ) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 68ومرآة الجنان لليافعي: 2/ 311.
(4) انظر: الفهرست لابن النديم: 52والبداية والنهاية لابن كثير: 10/ 259وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 256.(1/175)
بالفراء ت (207هـ). (1).
3) إعراب القرآن: لأبي عبيدة معمر بن المثنى ت (209هـ) (2).
4) إعراب القرآن: لابن حبيب القرطبي ت (238هـ) (3).
5) إعراب القرآن: لأبي حاتم سهل السجستاني ت (248هـ) (4).
6) إعراب القرآن: لأحمد بن يحيى المعروف بثعلب ت (291هـ) (5).
7) إعراب القرآن: لأبي العباس محمد بن يزيد المبرد ت (286هـ). (6)
8) إعراب القرآن: للزجاج إبراهيم بن السري ت (311هـ) (7).
__________
(1) انظر: الفهرست لابن النديم: 66والمعارف لابن قتيبة: 525وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 367.
(2) انظر: الفهرست لابن النديم: 53والمعارف لابن قتيبة: 543وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 326.
(3) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 355وترتيب المدارك للقاضي عياض: 3/ 30 وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 123.
(4) انظر: الفهرست لابن النديم: 58وسير أعلام النبلاء للذهبي: 12/ 268وطبقات المفسرين للداودي 1/ 217وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 123.
(5) انظر: الفهرست لابن النديم: 74وسير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 5وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 123.
(6) انظر: الفهرست لابن النديم: 59وسير أعلام النبلاء للذهبي: 13/ 576ومرآة الجنان لليافعي: 2/ 210وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 123.
(7) انظر: الفهرست لابن النديم: 60وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 9ومرآة الجنان(1/176)
9) إعراب القرآن: لأبي جعفر النحاس ت (338هـ) (1).
10) إعراب ثلاثين سورة من القرآن: الحسين بن أحمد بن خالويه ت (370هـ) (2).
د علم غريب القرآن:
1) غريب القرآن: لعطاء بن أبي رباح أسلم القرشي ت (114هـ) (3).
2) غريب القرآن: لأبان بن تغلب ت (141هـ) (4).
3) غريب القرآن: مؤرج بن عمرو السدوسي ت (174هـ) (5).
__________
لليافعي: 2/ 262.
(1) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 68ومرآة الجنان لليافعي: 2/ 311.
(2) انظر: الفهرست لابن النديم: 84وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 152والنجوم الزاهرة لابن ثغري بردي: 4/ 139.
(3) انظر: المعارف لابن قتيبة: 444وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 453وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 73.
(4) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 3وكشف الظنون لحاجي خليفة: 2/ 207 وتاريخ التراث العربي: 1/ 42.
(5) انظر: الفهرست لابن النديم: 5337والمعارف لابن قتيبة: 543طبقات المفسرين للداودي: 2/ 340وكشف الظنون: 2/ 1207.(1/177)
4) تفسير غريب القرآن: للإمام مالك بن أنس ت (179هـ). (1)
5) غريب القرآن: لعلي بن حمزة الأسدي الكسائي ت (189هـ). (2)
6) غريب القرآن: لقطرب محمد بن المستنير ت (206هـ). (3)
7) تأويل غريب القرآن: للفراء يحيى بن زياد ت (207هـ). (4)
8) غريب القرآن: لأبي عبيدة معمر بن المثنى ت (209هـ). (5)
9) تأويل غريب القرآن: لأبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش ت (216هـ). (6)
__________
(1) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 310والديباج المذهب لابن فرحون: 17.
(2) انظر: الفهرست لابن النديم: 29والمعارف لابن قتيبة: 445وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 404وكشف الظنون لحاجي خليفة: 2/ 1730.
(3) انظر: الفهرست لابن النديم: 52والبداية والنهاية لابن كثير: 10/ 259وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 256.
(4) انظر: الفهرست لابن النديم: 66والمعارف لابن قتيبة: 525وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 367.
(5) انظر: الفهرست لابن النديم: 53والمعارف لابن قتيبة: 543وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 326.
(6) انظر: الفهرست لابن النديم: 52وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 192ومرآة الجنان لليافعي: 2/ 61.(1/178)
10) غريب القرآن: لأبي عبيد القاسم بن سلام ت (223هـ). (1)
11) غريب القرآن: لمحمد بن سلام الجمحي ت (231هـ). (2)
12) غريب القرآن: لابن السكيت ت (244هـ). (3)
13) تفسير غريب القرآن: لابن قتيبة الدينوري ت (276هـ). (4)
14) غريب القرآن: لمحمد بن العباس بن محمد اليزيدي ت (311هـ). (5)
__________
(1) انظر: الفهرست لابن النديم: 71البداية والنهاية لابن كثير: 1/ 281وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 37.
(2) هو محمد بن سلام بن عبد الله بن سالم الجمحي، لغوي بصري، له غريب القرآن.
انظر: الفهرست لابن النديم: 113وتاريخ بغداد للخطيب: 5/ 327وطبقات المفسرين للسيوطي: 2/ 156.
(3) هو يعقوب بن إسحاق بن السكيت النحوي المؤدب، شيخ العربية، قيل: كانت إليه المنتهى في اللغة، له أكثر من عشرين كتابا، منها إصلاح المنطق. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 12/ 16والفهرست لابن النديم: 72وهدية العارفين للبغدادي: 2/ 536 ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 3/ 302.
(4) هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوري النحوي، كان رأسا في العربية والأخبار، له إعراب القرآن.
انظر: الفهرست لابن النديم: 77وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 251ومرآة الجنان لليافعي: 2/ 191.
(5) هو محمد بن العباس بن محمد البغدادي، المشتهر بابن اليزيدي، كان رأسا في نقل(1/179)
15) غريب القرآن، المسمى نزهة القلوب: لأبي بكر السجستاني ت (330هـ). (1)
16) الإشارة في غريب القرآن: لأبي بكر النقاش ت (351هـ). (2)
17) غريب القرآن: لأحمد بن كامل بن خلف بن شجرة ت (355هـ). (3)
هـ علم الناسخ والمنسوخ:
1) الناسخ والمنسوخ: لقتادة بن دعامة السدوسي ت (118هـ). (4)
__________
النوادر وكلام العرب إماما في النحو، له غريب القرآن. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 361ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 3/ 302وتاريخ الأدب العربي: 1/ 109.
(1) انظر: الفهرست لابن النديم: 37وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان: 1/ 103.
(2) هو محمد بن الحسين بن محمد بن زياد الموصلي النقاش، مفسر مقرئ، قيل: كان يكثر من القصص، له شفاء الصدور في التفسير، توفي: (351هـ) انظر: الفهرست لابن النديم: 33وتاريخ بغداد للخطيب: 2/ 201وسير أعلام النبلاء للذهبي:
15/ 573وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 136.
(3) انظر: الفهرست لابن النديم: 32وإنباه الرواة للقفطي: 1/ 97وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 66.
(4) انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 456وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 35.(1/180)
2) الناسخ والمنسوخ: لابن شهاب الزهري ت (124هـ). (1)
3) الناسخ والمنسوخ: لعطاء بن مسلم الخراساني ت (135هـ). (2)
4) ناسخ القرآن ومنسوخه: لمحمد بن السائب الكلبي ت (146هـ). (3)
5) الناسخ: للحسين بن واقد المروزي ت (159هـ). (4)
6) الناسخ والمنسوخ: لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي ت (182هـ). (5)
__________
(1) انظر: تذكرة الحفاظ: 1/ 108والنسخ لمصطفى زيد: 1/ 296والكتاب مخطوط بدار الكتب المصرية، انظر الناسخ والمنسوخ لمحمد صالح: 26.
(2) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 385ومرآة الجنان لليافعي: 1/ 281والناسخ والمنسوخ للنحاس، المقدمة: ص 18.
(3) انظر: الفهرست لابن النديم: 9540وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 149 وتاريخ التراث لسزكين: 1/ 80.
(4) هو حسين بن واقد المروزي، قاض ثقة، له الناسخ والمنسوخ، وله وجوه القرآن. انظر:
الفهرست لابن النديم: 37وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 163والنسخ في القرآن لمصطفى زيد: 1/ 304.
(5) هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العمري، فيه لين، له تفسير جمعه في مجلد، وله في الناسخ والمنسوخ.
انظر: الفهرست لابن النديم: 40وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 271والنسخ لمصطفى زيد 1/ 305.(1/181)
7) الناسخ والمنسوخ: لعبد الوهاب العجلي الخفاف ت (204هـ). (1)
8) الناسخ والمنسوخ: لحجاج بن محمد المصيصي الأعور ت (206هـ). (2)
9) الناسخ والمنسوخ: لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي ت (224هـ). (3)
10) الناسخ والمنسوخ: للحسن بن فضال الكوفي ت (244هـ). (4)
11) الناسخ والمنسوخ: لمحمد بن سعد بن منيع العوفي ت (230هـ). (5)
__________
(1) هو عبد الوهاب بن عطاء العجلي الخفاف، وثقه ابن معين، له التفسير، الناسخ والمنسوخ. انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 369والنسخ في القرآن لمصطفى زيد:
1/ 310.
(2) هو حجاج بن محمد المصيصي الأعور، إمام حجة حافظ، رفع الإمام أحمد من أمره وأثنى عليه، له الناسخ والمنسوخ. انظر: الفهرست لابن النديم: 4037وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 131والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي: 2/ 181.
(3) انظر: الفهرست لابن النديم: 71البداية والنهاية لابن كثير: 1/ 281وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 37. والكتاب مخطوط بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم 602ف، 2783ف وحقق رسالة ماجستير، ثم طبع مؤخرا.
(4) هو الحسن بن علي بن فضال الكوفي، مصنف شيعي، له التفسير وغيره، انظر:
الفهرست لابن النديم: 223وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 141.
(5) انظر: النسخ في القرآن الكريم، لمصطفى زيد: 1/ 320، قال: وكتابه مفقود، ولم نجد من ذكر أنه اطلع عليه عدا ابن سلامة (صاحب كتاب الناسخ والمنسوخ).(1/182)
12) ناسخ القرآن ومنسوخه: لجعفر بن مبشر الثقفي المعتزلي ت (235هـ). (1)
13) الناسخ والمنسوخ: لسريج بن يونس المروزي ت (236هـ). (2)
14) ناسخ القرآن ومنسوخه: للإمام أحمد بن حنبل ت (241هـ). (3)
15) الناسخ والمنسوخ: لأبي داود السجستاني ت (275هـ). (4)
16) ناسخ القرآن ومنسوخه: لإبراهيم بن إسحاق الحربي ت (285هـ). (5)
__________
(1) انظر: الفهرست لابن النديم: 6237وتاريخ بغداد للخطيب: 7/ 162وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 128.
(2) هو سريج بن يونس بن إبراهيم البغدادي، ثقة عابد، روى عنه البخاري ومسلم، له التفسير والقراءات. انظر: الفهرست لابن النديم: 231والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي: 2/ 282وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 185.
(3) انظر: الفهرست لابن النديم: 229وتاريخ بغداد للخطيب: 4/ 421والنسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد: 1/ 307.
(4) انظر: الفهرست لابن النديم: 62والبرهان للزركشي: 2/ 28والنسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد: 1/ 318.
(5) هو إبراهيم بن إسحاق الحربي، إمام فاضل، له تصانيف عديدة، منها ناسخ القرآن ومنسوخه.
انظر: الفهرست لابن النديم: 231وتاريخ بغداد للخطيب: 6/ 26وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 7.(1/183)
17) الناسخ والمنسوخ: لأبي مسلم إبراهيم الكجي الكشي ت (292هـ) (1).
18) الناسخ والمنسوخ: للحسين بن منصور الحلاج ت (309هـ). (2)
19) الناسخ والمنسوخ: لأبي بكر السجستاني ت (316هـ). (3)
20) ناسخ القرآن ومنسوخه: للزبير أحمد الزبيري ت (317هـ). (4)
21) معرفة الناسخ والمنسوخ: لعلي بن أحمد بن حزم الأنصاري ت (320هـ). (5)
__________
(1) الكجي نسبة إلى تبنيه دارا بالبصرة بالكجة، والكج هو الجص. والكشي: نسبة إلى جده كش. انظر: مرآة الجنان لليافعي: 2/ 220وطبقات المفسرين: 1/ 13والنسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد: 1/ 322.
(2) سمي بالحلاج لزعمه أنه يحلج الأسرار، أي يخبر عن أخبار الناس، صوفي تنكر له بعضهم ونسبوه إلى الزندقة، له علم البقاء والفناء، وغيره، صلب سنة (309هـ). انظر:
الفهرست لابن النديم: 190والنجوم الزاهرة: 3/ 202وطبقات المفسرين للداودي:
1/ 162.
(3) انظر: الفهرست لابن النديم: 232وطبقات الشافعية للسبكي: 3/ 307وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 236والنسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد: 1/ 324.
(4) هو الزبير بن أحمد بن سليمان بن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، عالم شافعي ثقة، له الكافي. انظر: الفهرست لابن النديم: 37وسير أعلام النبلاء للذهبي:
15/ 57وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 182والنسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد: 1/ 324.
(5) هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، فقيه أصولي محدث، له المحلى. انظر:
وفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 325والنسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد:
1/ 324. والكتاب مطبوع على هامش تفسير الجلالين، وأخرى باسم (الناسخ والمنسوخ في القرآن).(1/184)
22) الناسخ والمنسوخ: لمحمد بن عثمان الشيباني المعروف بالجعد ت (322هـ). (1)
23) الناسخ والمنسوخ: لابن الأنباري ت (328هـ). (2)
24) () لابن المنادى ت (336هـ). (3)
25) الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم: لأبي جعفر النحاس ت (338هـ). (4)
__________
(1) هو محمد بن عثمان بن مسبح الملقب بالجعد الشيباني، نحوي من العلماء الفضلاء، له معاني القرآن وله غريب القرآن. انظر: الفهرست لابن النديم: 82والوافي بالوفيات للصفدي: 4/ 82وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 195.
(2) هو محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري، عالم زاهد متواضع، مقرئ نحوي، صاحب تصانيف، له الوقف والابتداء. انظر: الفهرست لابن النديم: 75وإنباه الرواة للقفطي: 3/ 201وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 228والنسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد: 1/ 325.
(3) انظر: النسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد: 1/ 325.
(4) انظر: إنباه الرواة للقفطي: 1/ 101وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 68والنسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد: 1/ 326وقد طبع الكتاب عام 1323هـ باسم: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم مما اجتمع عليه واختلف فيه عن العلماء من أصحاب(1/185)
26) الناسخ والمنسوخ: لأبي بكر محمد بن عبد الله البردعي المعتزلي ت (350هـ). (1)
27) الناسخ والمنسوخ: لأبي الحكم منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي ت (355هـ). (2)
28) لأبي سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي ت (368هـ). (3)
29) الناسخ والمنسوخ: لأبي الحسين محمد بن محمد النيسابوري ت (368هـ). (4)
30) الناسخ والمنسوخ: لمحمد بن علي بن بابويه القمي ت (381هـ). (5)
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين والفقهاء وشرح ما ذكروه وما فيه من اللغة والنظر ثم طبع محققا.
(1) هو محمد بن عبد الله البردعي، معتزلي فقيه، عاصره ابن النديم صاحب الفهرست وأبلغه أنه صنف عدة كتب في الفقه، وله الناسخ والمنسوخ. انظر: الفهرست لابن النديم: 237وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 177والنسخ في القرآن لمصطفى زيد:
1/ 326.
(2) انظر: جذوة المقتبس: 326وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 326والنسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد: 326.
(3) انظر: النسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد: 1/ 326.
(4) انظر: ترجمته في طبقات المفسرين للداودي ولم يذكر له هذا الكتاب: 2/ 236وذكر أنه توفي بعد التسعين وثلاثمائة.
(5) هو محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، رافضي صاحب تصانيف، يضرب بحفظه المثل، قيل: بلغت مصنفاته ثلاثمائة، له الملاهي. انظر: سير أعلام النبلاء(1/186)
وعلم المحكم والمتشابه:
1) متشابه القرآن: لمقاتل بن سليمان الأزدي ت (150هـ). (1)
2) متشابه القرآن: لعلي بن حمزة الكسائي ت (187هـ). (2)
3) الرد على الملحدين في متشابه القرآن: لمحمد بن المستنير المعروف بقطرب ت (206هـ). (3)
4) تأويل مشكل القرآن: لابن قتيبة الدينوري ت (276هـ). (4)
5) توضيح المشكل في القرآن: لسعيد بن محمد الغساني بن الحداد ت (302هـ). (5)
__________
للذهبي: 16/ 303إيضاح المكنون: 4/ 341والأعلام للزركلي: 6/ 274 ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 4/ 246.
(1) انظر: الفهرست لابن النديم: 179وتاريخ بغداد: 13/ 160وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 330.
(2) انظر: الفهرست لابن النديم: 29وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 404.
(3) انظر: الفهرست لابن النديم: 52والبداية والنهاية: 10/ 259وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 256.
(4) انظر: الفهرست لابن النديم: 77وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 251ومرآة الجنان لليافعي: 2/ 191.
(5) هو سعيد بن محمد بن صبيح بن الحداد المغربي، صاحب سحنون، كان بحرا في الفروع(1/187)
6) متشابه القرآن: لابن المنادى ت (336هـ). (1)
ز علم فضائل القرآن والقراءات القرآنية وعد الآي:
1) فضائل القرآن وما نزل منه بمكة وما نزل بالمدينة: لابن الضريس ت (194هـ). (2)
2) فضائل القرآن: لمحمد بن إدريس الشافعي: ت (204هـ). (3)
3) فضائل القرآن: لأبي عبيد القاسم بن سلام ت (223هـ). (4)
4) فضائل القرآن: لخلف بن هشام بن ثعلب ت (229هـ). (5)
__________
ورأسا في العربية، ومن رءوس السنة، له مناظرات مع المعتزلة، من تصانيفه مشكل القرآن. انظر: مرآة الجنان لليافعي: 2/ 240وسير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 205 والأعلام للزركلي: 3/ 100قال: منه قطعة مخطوطة في جامعة القيروان.
(1) انظر: الفهرست لابن النديم: 34وتاريخ بغداد للخطيب: 4/ 69.
(2) هو محمد بن أيوب بن يحيى بن ضريس البجلي، محدث انتهى إليه علو الإسناد بالعجم، له فضائل القرآن. انظر: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 109وشذرات الذهب لابن العماد: 2/ 216وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 97 (مطبوع).
(3) انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة: 2/ 1277.
(4) انظر: الفهرست لابن النديم: 71والبداية والنهاية لابن كثير: 1/ 281وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 37. حقق رسالة ماجستير في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، واعتمدته كثيرا، وقد علمت أنه طبع مؤخرا في المغرب ولم أقف على المطبوع إلى وقت كتابة هذه الأسطر.
(5) هو خلف بن هشام بن ثعلب البغدادي المقرئ، له اختيار في القراءة خالف فيه حمزة حدث عنه مسلم وغيره، له فضائل القرآن. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي:
10/ 576وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 167.(1/188)
5) فضائل القرآن: لهشام بن عمار بن نصير الظفري ت (245هـ). (1)
6) فضائل القرآن: لحفص بن عمر بن عبد العزيز بن صبهان ت (246هـ). (2)
7) فضائل القرآن: ليحيى بن زكريا بن إبراهيم بن مزين ت (259هـ). (3)
8) فضائل القرآن: لعلي بن الحسن بن فضال الشيعي ت (290هـ). (4)
9) فضائل القرآن وما جاء فيه من الفضل وفي كم يقرأ والسنة في ذلك: للفريابي ت (301هـ). (5)
__________
(1) هو هشام بن عمار بن نصير بن ميسرة السلمي الظفري، خطيب مقرئ حافظ. انظر:
ميزان الاعتدال للذهبي: 4/ 302وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 352.
(2) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 11/ 541وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 165.
(3) انظر: الديباج المذهب لابن فرحون: 354وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 368.
(4) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 403.
(5) هو جعفر بن محمد بن الحس الفريابي، قاض من أوعية العلم، ثقة مأمون، له تصانيف مفيدة منها فضائل القرآن. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 96وكشف(1/189)
10) فضائل القرآن: للإمام النسائي ت (303هـ). (1)
11) فضائل القرآن: لابن الحداد (2)
12) القراءات: ليحيى بن يعمر (ت 89هـ) (3)
13) اختيار في القراءة على مذهب العربية: لابن محيصن ت (123هـ) (4)
14) اختيار القراءة: لعيسى بن عمر الثقفي ت (149هـ). (5)
15) كتاب القراءات: لأبي عمرو بن العلاء ت (154هـ). (6)
16) القراءة: لحمزة الكوفي ت (156هـ). (7)
__________
الظنون لحاجي خليفة: 2/ 1277وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 325.
(1) هو أحمد بن شعيب بن علي بن سنان النسائي، برع في الحديث، وتفرد بالمعرفة وعلو الإسناد، قيل: كان أفقه مشايخ عصره، له السنن. انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي:
2/ 698والبداية والنهاية لابن كثير: 11/ 123ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 3/ 319.
(2) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 76ومرآة الجنان لليافعي: 2/ 336.
(3) انظر: سير أعلام النبلاء: 4/ 441تاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 22.
(4) انظر: الفهرست لابن النديم: 33وغاية النهاية لابن الجزري: 2/ 167ومعرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 98.
(5) انظر: الفهرست لابن النديم: 33.
(6) انظر: الفهرست لابن النديم: 53.
(7) انظر: الفهرست لابن النديم: 31وتاريخ التراث العربي لسزكين 1/ 31ومعرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 111.(1/190)
17) القراءة: لنافع المدني ت (169هـ). (1)
18) القراءة: لهشيم بن بشير ت (183هـ). (2)
19) القراءة: لأبي عبيد القاسم بن سلام ت (224هـ). (3)
20) القراءة: لأحمد بن جبير بن محمد الكوفي نزيل أنطاكية، (ت 258هـ). (4)
21) القراءة: للقاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي ت (282هـ). (5)
22) الجامع: لابن جرير الطبري ت (310هـ). (6)
23) القراءة: لأبي بكر محمد الداجوني ت (324هـ). (7)
__________
(1) انظر: الفهرست لابن النديم: 31وتذكرة الحفاظ للذهبي: 1/ 99وتاريخ التراث لسزكين: 1/ 32.
(2) انظر: الفهرست لابن النديم: 284وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 88.
(3) انظر: الفهرست لابن النديم: 71البداية والنهاية: 1/ 281وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 37.
(4) هو أحمد بن جبير بن محمد الكوفي الأنطاكي، إمام مقرئ ثقة ضابط، له القراءة. انظر:
معرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 207وغاية النهاية لابن الجزري: 1/ 42والنشر لابن الجزري: 1/ 34.
(5) انظر: الفهرست لابن النديم: 200والنشر: 1/ 34وطبقات المفسرين للداودي:
1/ 106.
(6) انظر: النشر لابن الجزري: 1/ 34وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 110.
(7) هو محمد بن أحمد بن عمر الرملي الضرير، أبو بكر الداجوني الكبير، أحد من جمع(1/191)
24) القراءات السبع: لابن مجاهد ت (324هـ). (1)
25) القراءات: لأحمد بن كامل بن خلف بن شجرة ت (355هـ). (2)
26) القراءة: لأبي بكر أحمد بن نصر الشذائي ت (370هـ). (3)
27) القراءة: للحسين بن عثمان البغدادي الضرير ت (378هـ) أول من نظم في القراءات السبع. (4)
28) كتاب الشامل والغاية: لأبي بكر بن مهران ت (381هـ). (5)
__________
القراءات، وصنف فيها. انظر: معرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 268والنشر لابن الجزري: 1/ 34 (مطبوع).
(1) انظر: النشر لابن الجزري: 1/ 34ومقدمة تحقيق كتاب الحجة لأبي زرعة: 14 (مطبوع).
(2) انظر: الفهرست لابن النديم: 4832وطبقات القراء لابن الجزري: 1/ 98 وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 64.
(3) هو أحمد بن نصر بن منصور الشذائي، أحد القراء المشهورين بالضبط والإتقان، بصير بالعربية. انظر: معرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 319والنشر لابن الجزري: 1/ 34.
(4) هو حسين بن عثمان أبو علي المجاهدي الضرير، مقرئ قيل: هو آخر من قرأ القرآن على ابن مجاهد، كان ممن يأخذون المال على الختمة. انظر: معرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 360 وغاية النهاية لابن الجزري: 1/ 243وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 1317.
(5) هو أحمد بن الحسين بن مهران الأصبهاني، مقرئ عابد صالح، قيل: كان مجاب الدعوة،(1/192)
29) عد الآي: للحسن البصري ت (110هـ). (1)
30) أعشار القرآن أو (عواشر القرآن): قتادة بن دعامة السدوسي ت (118هـ). (2)
وظهرت مصنفات في فنون أخرى، ففي الوقف والابتداء كتب ابن الأنباري ت (328هـ): إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله. (3)
وفي نزول القرآن كتب الضحاك بن مزاحم البلخي ت (105هـ) (4)، والحسن البصري ت (110هـ) (5)، وكتب علي بن الحسن بن فضال الكوفي ت (224هـ) كتابا أسماه: التنزيل في القرآن (6).
وفي أسباب النزول كتب علي بن عبد الله المديني شيخ البخاري
__________
توفي (381هـ). انظر: معرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 347والنشر لابن الجزري:
1/ 34وكتابه الغاية (مطبوع).
(1) انظر: الفهرست لابن النديم: 36وتاريخ العربي التراث لسزكين: 1/ 25.
(2) انظر: طبقات ابن سعد: 7/ 273وغاية النهاية لابن الجزري: 2/ 25وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 456وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 21.
(3) انظر: الفهرست لابن النديم: 75ومرآة الجنان لليافعي: 2/ 294وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 228.
(4) انظر: الفهرست لابن النديم: 38تاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 186.
(5) انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 446وتاريخ التراث لسزكين: 1/ 72.
(6) انظر: معجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 134.(1/193)
ت (234هـ) كتابه: أسباب النزول. (1)، وكتب عبد الرحمن بن أصبغ (أبو المطرف) ت (402هـ) كتابه: القصص والأسباب التي نزل القرآن من أجلها الكتاب. (2).
وفي اختلاف المصاحف كتب يحيى بن يعمر كتابا أسماه: القراءة. جمع فيه اختلاف المصاحف المشهورة (3) وكتب عبد الله بن عامر اليحصبي ت (118هـ) كتاب: اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق. (4) جمع فيه ما روي من اختلاف الناس فيما وافق الخط (5).
__________
(1) هو علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي، المعروف بابن المديني، أمير المؤمنين في الحديث، شيخ البخاري، له مصنفات عديدة قيل: انقرضت كلها ولم تبق إلا أربعة كتب أو خمسة. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 11/ 41والإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 1/ 82وإيضاح المكنون: 3/ 69.
(2) هو عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس بن أصبغ، أندلسي من كبار المحدثين، جمع من العلوم ما لم يجتمع لأحد من أهل عصره بالأندلس، قيل: ما كان يسمع بكتاب حسن إلا اشتراه أو استنسخه، وكان له ستة وراقين ينسخون له. وكتابه القصص والأسباب في نحو مائة جزء ونيف. انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 291والصلة لابن بشكوال: 303وتاريخ قضاة الأندلس: 87ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 133.
(3) انظر: غاية النهاية لابن الجزري: 2/ 381وتاريخ التراث لسزكين: 1/ 22.
(4) انظر: الفهرست لابن النديم: 31وتاريخ التراث لسزكين: 1/ 22.
(5) انظر: مقدمة تفسير ابن عطية: 1/ 55.(1/194)
وفي أمثال القرآن كتب الحكيم الترمذي ت (313هـ) كتابا أسماه:
الأمثال من الكتاب والسنة. (1)، وكتب نفطويه الأزدي العتكي ت (323هـ): أمثال القرآن (2).
وفي المقطوع والموصول كتب عبد الله بن عامر اليحصبي ت (118هـ) (3).
وفي إعجاز القرآن، كتب أحمد بن كامل بن خلف بن شجرة ت (355هـ) كتابه: موجز التأويل عن معجز التنزيل (4)، وكتب علي بن عيسى الرماني ت (386هـ) كتابه: النكت في إعجاز القرآن (5)، وكتب عبد
__________
(1) هو محمد بن علي بن الحسين بن بشر، الحكيم الترمذي، صنف كتابا أسماه ختم الولاية، فضّل فيه الولاية على النبوة، فنفوه وشهدوا عليه بالكفر، وله كتاب الفروق، وغيره. انظر: صفوة الصفوة لابن الجوزي: 4/ 140وطبقات الحفاظ للسيوطي:
352. وقد ذكره الشواخ في معجمه، وذكر أن وفاة المصنف هو (279هـ) وأن الكتاب مخطوط ويحمل رقم 21817بدار الكتب العربية، انظر معجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 3/ 182وأبلغني أستاذي الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشائع أنه مطبوع ويحتفظ بنسخة منه.
(2) هو إبراهيم بن محمد بن عرفة العتكي، المشهور بنفطويه، صاحب التصانيف، كان ذا دين وقوة ومروءة، له غريب القرآن. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 15/ 75 وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 21ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 3/ 183.
(3) انظر: الفهرست لابن النديم: 39.
(4) انظر: الفهرست لابن النديم: 32وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 64.
(5) انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 12/ 16ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ:
1/ 167 (مطبوع).(1/195)
الله بن عبد الرحمن النفزاوي القيرواني ت (386هـ) كتابه: إعجاز القرآن (1)، كما كتب حمد بن محمد الخطابي البستي ت (388هـ) كتابه: بيان إعجاز القرآن (2) وكتب أبو منصور الثعالبي (ت 355هـ) الإعجاز والإيجاز (3).
ثانيا: المؤلفات الموسوعية:
لم يظهر خلال هذه الفترة من الموسوعات في علوم القرآن عدا كتاب:
«فهم القرآن» للحارث بن أسد المحاسبي ت (243هـ) (4). والله أعلم.
ثالثا: مقدمات التفاسير:
إن المتابع للتأليف في هذه المرحلة يجد عناوين لكثير من التفاسير غير أن الوقوف على أغلب تلك التفاسير أمر متعذر إذ إن معظمها قد فقد ولم تصل إلينا لسبب أو لآخر، ولعل ما وصلنا من هذه التفاسير التي تحمل مقدمات هي:
__________
(1) انظر: شذرات الذهب لابن العماد: 3/ 131وبروكلمان: 1/ 301ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 146.
(2) انظر: إنباه الرواة للقفطي: 1/ 125وخزانة الأدب للبغدادي: 1/ 282 (مطبوع).
(3) هو عبد الملك بن محمد بن إسماعيل النيسابوري، أديب شاعر، له يتيمة الدهر وغيره، توفي (430هـ) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 437وشذرات الذهب لابن العماد: 3/ 246 (مطبوع).
(4) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 12/ 110وحلية الأولياء لأبي نعيم: 10/ 73.(1/196)
1) تفسير القرآن لعبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى (211هـ).
2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لمحمد بن جرير الطبري ت (310هـ).
3) تفسير أبي الليث السمرقندي ت (373هـ). وهي كلها مطبوعة، وسأتناولها في الباب الثاني إن شاء الله تعالى.
المرحلة الثانية: من نهاية القرن الرابع إلى بداية القرن العاشر:
شهدت هذه المرحلة نهضة علمية كبيرة، واستمر نشاط العلماء وهاجا كالسابق، وازدهرت حركة التأليف والتصنيف حتى بلغت الذروة، فما تكاد تجد علما من تلك العلوم إلا وقد طرق العلماء أبوابه، وجالوا النظر في مبناه، حتى أطنبوا في البيان، وكشفوا عن دقائقه، وألفوا فيه المؤلفات التي شهدت لهم برسوخ القدم وعلو الكعب.
وقد تميزت هذه المرحلة بالتالي:
1) تشعب العلوم واتساعها، فقد ظهرت مصنفات كثيرة في فنون علوم القرآن المتنوعة، وارتقت تلك المؤلفات في معالجتها للموضوعات عن المرحلة السابقة وتوسعت، كما توسعت في نظرتها لمادة تلك الموضوعات، حيث نهجت نهج الاستقراء والاستيعاب للأنواع التي ألفت فيها.
2) التوجه لتحديد كثير من المفاهيم المتعلقة بعلوم القرآن، وتمحيص
الكتابات السابقة، فوضعت الضوابط والقواعد التي جعلت الكتابة أكثر موضوعية، والتي ساهمت إلى حد كبير في إسقاط ما كان حشوا وفضولا من الأقوال والآراء التي وجدت في المراحل المتأخرة من المرحلة السابقة، عند بعض المنتسبين للعلم.(1/197)
2) التوجه لتحديد كثير من المفاهيم المتعلقة بعلوم القرآن، وتمحيص
الكتابات السابقة، فوضعت الضوابط والقواعد التي جعلت الكتابة أكثر موضوعية، والتي ساهمت إلى حد كبير في إسقاط ما كان حشوا وفضولا من الأقوال والآراء التي وجدت في المراحل المتأخرة من المرحلة السابقة، عند بعض المنتسبين للعلم.
3) ظهور المصنفات الموسوعية الجامعة في علوم القرآن، وكانت هي السمة الجديدة في التأليف في هذه المرحلة، وقد كانت في البدايات محاولات لضم مجموعة من العلوم الهامة والمشكلة، والتي كثرت في تفسيرها الأقوال وتعددت المذاهب، في مصنف واحد، وتضمنت تلك المصنفات علوما بعدد، ثم سرعان ما اتجهت الهمم لجمع كل العلوم التي تخدم النص القرآني، أو تسهل سبل فهمه، بين دفتين، تسهيلا لطالب العلم، وتنظيما للمعرفة على غرار علوم الحديث. فبلغت على يد العالم الموسوعي جلال الدين السيوطي رحمه الله ثمانين نوعا، على سبيل الإدماج، ولو نوعت باعتبار ما أدمجه في ضمنها لزادت على الثلاثمائة (1).
وسار التصنيف الموسوعي إلى جانب التصنيف الموضوعي جنبا إلى جنب، فمن العلماء من توجه للكتابة في علوم القرآن كفنّ مستقل، ومنهم من كتب في نوع من أنواعه، وفن من فنونه.
ومع اعترافنا بأن غالب الذين صنفوا في هذا العلم قد أجادوا في
__________
(1) انظر: الإتقان للسيوطي: 1/ 20.(1/198)
عرض الموضوعات ومعالجتها مع تفاوت بينهم في هذه الإجادة غير أننا نقر ونعترف بالفضل للزركشي صاحب «البرهان» الذي جاء في منتصف هذه المرحلة، والذي تولى ريادة هذا النهج العلمي الدقيق في عرض الموضوعات، الذي سار عليه جلّ من جاء بعده، حتى الحافظ السيوطي صاحب أشهر المصنفات في هذا الفن.
بل نقرّ للزركشي بأن من جاء بعده قد اعتمد على مادة كتابه العلمية، فكان الأساس الذي بنى عليه المتأخرون تآليفهم، حتى الأمثلة التي استشهد بها الزركشي نجدها هي نفسها التي اعتمدها المتأخرون. ولهذا لم يجد السيوطي بدا من الاعتراف للزركشي بهذا الفضل، ولم يزد على أن قال:
ورتبت أنواعه ترتيبا أنسب من ترتيب البرهان، وأدمجت بعض الأنواع في بعض، وفصلت ما حقه أن يبان، وزدته على ما فيه من الفوائد والفرائد، والقواعد والشوارد ما يشنف الأذان. (1)
ومن أهم المصنفات التي ظهرت في هذه المرحلة:
أولا: المؤلفات الموسوعية:
أالتنبيه على فضل علوم القرآن: للحسن بن محمد بن الحسن بن حبيب، أبو القاسم النيسابوري ت (402هـ).
__________
(1) انظر: المرجع السابق: 1/ 16.(1/199)
ب أنوار الفجر: لأبي بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي، المعروف بابن العربي ت (543هـ) (1) يقول ابن جزي الكلبي في التسهيل: صنف ابن العربي كتاب «أنوار الفجر» في غاية الاحتفال والجمع لعلوم القرآن، فلما تلف تلافاه بكتاب «قانون التأويل» (2).
وكتابه قانون التأويل قد ذكر فيه الحروف في أوائل السور، والأمثال في القرآن، والمحكم والمتشابه، والنسخ في القرآن، وغير ذلك، وقد قال مصنفه في مقدمته: مختصر مجموع في علوم القرآن ليكون مفتاحا للبيان.
ج فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن: لأبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي ت (597هـ).
د المجتبى في علوم القرآن: لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ت (597هـ).
هـ مفتاح الباب المقفل لفهم الكتاب المنزل: لأبي الحسن علي بن
__________
(1) قاض من حفاظ الحديث، ولد في أشبيليا، برع في علوم عديدة، وبلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين، درس على أبي حامد الغزالي وغيره، وأخذ عنه السهيلي وغيره، مصنفاته كثيرة منها: الناسخ والمنسوخ.
انظر: نفح الطيب من غصن أندلس الرطيب لابن المقري: 1/ 340ووفيات الأعيان لابن خلكان: 1/ 489والعواصم من القواصم لابن العربي، تحقيق: محب الدين الخطيب: 9وما بعدها.
(2) انظر: تسهيل السبيل لابن جزي: 1/ 17.(1/200)
إبراهيم الحرالي ت (637هـ) (1) قال الداودي: جعله قوانين كقوانين أصول الفقه (2).
وجمال القراء وكمال الإقراء: لعلم الدين أبو الحسن علي بن محمد ابن عبد الصمد السخاوي ت (643هـ) (3).
ز المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز: لأبي شامة عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي ت (665هـ) (4).
ح الإكسير في علوم التفسير: لنجم الدين أبو الربيع سليمان بن
__________
(1) فلسفي متصوف، أخذ العربية عن ابن خروف، وجال البلاد، يضرب به المثل في الحلم، قال الذهبي: كان ابن تيمية يحط من كلامه، ويقول: تصوفه على طريقة الفلاسفة،. من تآليفه: شرح أسماء الله الحسنى.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 23/ 47وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 392.
(2) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 392.
(3) مقرئ مفسر نحوي لغوي، ولد بسخا من مصر، أخذ عن الشاطبي والتاج والكندي وغيرهم وتصدر للتدريس بجامع دمشق، وزاحم عليه الطلبة، له تصانيف كثيرة منها شرح الشاطبية، وسفر السعادة وسفير الإفادة. انظر: غاية النهاية: 1/ 568وبغية الوعاة: 2/ 192وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 429.
(4) إمام حجة، قرأ القراءات على السخاوي، وسمع صحيح البخاري ومسند الشافعي، من مؤلفاته: شرح الشاطبية. انظر: معرفة القراء الكبار للذهبي: 2/ 537وغاية النهاية لابن الجزري: 1/ 365.(1/201)
عبد القوي ابن عبد الكريم الطوفي الصرصري ت (716هـ). (1)
ط مقدمة في أصول التفسير: لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ت (728هـ) (2).
ي الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان: لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية ت (751هـ). (3)
ك البرهان في علوم القرآن: لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي ت (794هـ).
ل مواقع العلوم عن مواقع النجوم: لجلال الدين عبد الرحمن بن عمر البلقيني ت (824هـ).
م التيسير في قواعد علم التفسير: لأبي عبد الله محي الدين
__________
(1) ولد بقرية طوفا من صرصر، وجالس العلماء، وعاشر فضلاء بغداد وسمع منهم، كما التقى ابن تيمية والمزي وأبي حيان النحوي، وكان شيعيا سيّئ الاعتقاد، أقيمت عليه البينة فعزر وشهّر به، من تصانيفه الرياض النواضر في الأشباه والنظائر. انظر: شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي: 6/ 40.
(2) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 46والبداية والنهاية لابن كثير: 14/ 163.
(3) أصولي مفسر نحوي، لازم شيخ الإسلام ابن تيمية، وأخذ عنه، وتفنن في علوم الإسلام، وكان ذا تهجد وعبادة، أوذي في سبيل الله مرات عديدة، وسجن مع شيخه في سجن القلعة، قيل: ليس تحت أديم السماء أوسع علما منه. تصانيفه كثيرة منها زاد المعاد في هدي خير العباد. انظر: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 93والدرر الكامنة لابن حجر: 4/ 21.(1/202)
الكافيجي ت (879هـ).
ن التحبير في علوم التفسير: لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ت (911هـ).
س الإتقان في علوم القرآن: لجلال الدين السيوطي ت (911هـ).
ثانيا: مقدمات التفاسير:
لقد سن عبد الرزاق الصنعاني، وابن جرير الطبري رحمهما الله سنة حسنة حين قدما لتفسيريهما مقدمات، وقد تبعهما جل الذين جاءوا من بعدهما، فحذوا حذوهما وقدموا لتفاسيرهم بمقدمات عن علوم القرآن المتنوعة، ومن أهم تلك التفاسير التي ظهرت في هذه الفترة:
1) مقدمة كتاب (المباني في نظم المعاني) لمؤلف مجهول، يعود تاريخ الكتاب إلى عام (425هـ).
2) مقدمة تفسير (الكشف والبيان عن تفسير القرآن): لأحمد بن محمد الثعلبي ت (427هـ). (1)
__________
(1) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري الملقب بالثعلبي، وقيل الثعالبي، شيخ التفسير، وأحد أوعية العلم، له التفسير الكبير. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 435 وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 66.(1/203)
3) مقدمة التفسير (الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه وجمل من فنون علومه)، لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي ت (437هـ) (1).
4) مقدمة تفسير (التحصيل لفوائد كتاب التفصيل الجامع لعلوم التنزيل)، لأبي العباس أحمد بن عمار المهدوي ت (440هـ) (2).
5) مقدمة التفسير (النكت والعيون في تفسير القرآن) لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي ت (450هـ).
6) مقدمة تفاسير الواحدي (البسيط والوسيط الوجيز) لعلي بن أحمد بن محمد الواحدي النيسابوري ت (468هـ).
7) مقدمة تفسير (معالم التنزيل) لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي ت (516هـ).
__________
(1) هو مكي بن أبي طالب حموش بن محمد القيسي القيرواني، فقيه مقرئ أديب، من أوعية العلم، صاحب التصانيف الكثيرة في علوم القرآن، منها إعراب القرآن. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 591وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 331.
(2) هو أحمد بن عمار بن أبي العباس المهدوي، نسبة إلى المهدية بالمغرب، أستاذ ومقرئ مشهور، له التفسير، والهداية في القراءات السبع. توفي بعد (340هـ). انظر: غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 92وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 56.(1/204)
8) مقدمة تفسير (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز): لأبي محمد عبد الحق ابن عطية الغرناطي ت (541هـ).
9) مقدمة تفسير: (زاد المسير في علم التفسير) لأبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي ت (597هـ).
10) مقدمة التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) لفخر الدين الرازي ت (606هـ).
11) مقدمة تفسير (الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان)، لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي ت (671هـ).
12) مقدمة تفسير (لباب التأويل في معاني التنزيل) لأبي الحسن علي بن محمد الشيحي المعروف بالخازن ت (741هـ).
13) مقدمة تفسير (البحر المحيط) لأبي عبد الله محمد بن يوسف الغرناطي الشهير بأبي حيان ت (745هـ).
14) مقدمة تفسير (القرآن العظيم)، للحافظ عماد الدين ابن كثير الدمشقي ت (774هـ).
ثالثا: المؤلفات الموضوعية:
أأسباب النزول:
1) القصص والأساليب التي نزل من أجلها القرآن: لأبي المطرف
عبد الرحمن ابن عيسى بن إصبع ت (402هـ). (1)(1/205)
1) القصص والأساليب التي نزل من أجلها القرآن: لأبي المطرف
عبد الرحمن ابن عيسى بن إصبع ت (402هـ). (1)
2) أسباب النزول: لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد علي النيسابوري الواحدي ت (468هـ). (2)
3) مدد الرحمن في أسباب نزول القرآن: زين الدين عبد الرحمن بن علاء الدين علي بن إسحاق التميمي المقدسي الشافعي ت (876هـ) (3).
4) لباب النقول في أسباب النزول: للحافظ عبد الرحمن السيوطي ت (911هـ).
ب إعجاز القرآن:
1) إعجاز القرآن: لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني ت (403هـ) (4).
2) الانتصار لصحة نقل القرآن: لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني ت (403هـ) (5).
__________
(1) انظر: الصلة لابن بشكوال: 303وتاريخ قضاة الأندلس: 87ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 133.
(2) انظر: النجوم الزاهرة لابن تغري بردي: 5/ 104وإنباه الرواة للقفطي: 2/ 223 طبقات المفسرين للداودي: 1/ 394 (مطبوع).
(3) انظر: الضوء اللامع للسخاوي: 4/ 95وإيضاح المكنون: 4/ 455ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 136.
(4) انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 5/ 379وسير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 190.
(5) انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 5/ 379وسير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 190(1/206)
3) الكلام في وجوه إعجاز القرآن: لمحمد بن عبد السلام العكبري ت (413هـ) (1).
4) المغني في إعجاز القرآن: للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني ت (415هـ) (2).
5) الرسالة الشافية في الإعجاز: لعبد القاهر الجرجاني ت (471هـ) (3).
6) دلائل الإعجاز: لعبد القاهر الجرجاني ت (471هـ) (4).
7) الجمان في تشبيهات القرآن: لعبد الله بن محمد المعروف بابن ناقيا البغدادي ت (485هـ) (5).
8) أسرار التكرار في القرآن: لمحمود بن حمزة بن نصر الكرماني ت (505هـ) (6).
__________
(حقق جزء منه في كلية أصول الدين بالرياض).
(1) انظر: إيضاح المكنون: 4/ 375.
(2) هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار، الهمذاني، معتزلي متكلم، من كبار فقهاء الشافعية، له تنزيه القرآن عن المطاعن. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 244 ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 166.
(3) انظر: مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده: 1/ 165ومرآة الجنان لليافعي: 3/ 101.
(4) انظر: مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده: 1/ 165ومرآة الجنان لليافعي: 3/ 101.
(5) هو عبد الله بن محمد بن الحسين بن داود بن ناقيا، أديب شاعر لغوي، تصانيفه كثيرة حسنة. انظر: لسان الميزان للذهبي: 3/ 384وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 261.
(6) هو محمود بن حمزة بن نصر الكرماني، تاج القراء، وأحد العلماء الفقهاء، له لباب(1/207)
9) إعجاز القرآن: لمحمد بن بابجوك البقالي الخوارزمي ت (562هـ) (1).
10) البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن: لعبد الواحد بن عبد الكريم الزملكاني ت (562هـ) (2).
11) بديع القرآن: لعبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر بن أبي الأصبع ت (654هـ) وله التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن (3).
12) بديع القرآن: لهبة الله بن عبد الرحمن بن البارزي ت (738هـ) (4).
__________
التفاسير، وغيرها، توفي في حدود الخمسمائة. انظر: غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري: 2/ 291وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 312ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 143.
(1) هو محمد بن أبي القاسم بن بابجوك البقالي الآدمي، نحوي أديب حجة في لسان العرب، لقب بالآدمي لحفظه كتاب الآدمي في النحو، له تصانيف منها مفتاح التنزيل، تفسير للقرآن.
انظر: طبقات المفسرين للسيوطي: 102وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 231.
(2) انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 241ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 1/ 150.
(3) انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 230ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 1/ 149.
(4) هو شرف الدين هبة الله بن عبد الرحيم بن إبراهيم الجهيني الحموي، المعروف بابن البارزي، قاضي حماة، كان معظما عند الناس، وجمع فنون عديدة، وصنف كتبا جما كثيرا. انظر: البداية والنهاية لابن كثير: 14/ 182وإيضاح المكنون: 1/ 181.(1/208)
13) الطراز في علوم حقائق الإعجاز: عماد الدين يحيى بن حمزة العلوي ت (745هـ) (1).
14) تبصير الرحمن وتيسير المنان ببعض ما يشير إلى إعجاز القرآن:
لعلي بن أحمد بن علي المهائمي الهندي المعروف بالمجذوم ت (835هـ) (2).
15) معترك الأقران في إعجاز القرآن: للحافظ عبد الرحمن السيوطي ت (910هـ) (3).
16) بيان أسلوب الحكيم: لأحمد بن سليمان بن كمال باشا ت (940هـ) (4).
ج إعراب القرآن:
1) البيان في إعراب القرآن: لأحمد بن محمد المعافري الأندلسي (429هـ) (5).
__________
(1) انظر: إيضاح المكنون: 4/ 82.
(2) انظر: معجم المطبوعات: 1717ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 1/ 153.
(3) انظر: معجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 165.
(4) هو أحمد بن سليمان الحنفي الشهير بابن كمال باشا، كان جده من أمراء الدولة العثمانية، اجتهد في طلب العلم كبيرا، حتى برع فيه، له رسائل كثيرة بلغت أكثر من مائة رسالة. انظر: شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي: 8/ 238وإيضاح المكنون:
3/ 69ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 151.
(5) هو: أحمد بن محمد بن عبد الله المعافري الأندلسي، إمام حافظ، أول من أدخل القراءات إلى الأندلس، له الروضة في القراءات. انظر: غاية النهاية لابن الجزري:(1/209)
2) إعراب القرآن: لأبي الحسن علي بن إبراهيم الحوفي ت (430هـ)، مستخرج من تفسيره البرهان، استخرجه إسماعيل بن خلف المقري الأنصاري (1).
3) مشكل إعراب القرآن: لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي ت (437هـ) (2).
4) الملخص في إعراب القرآن: لأبي زكريا يحيى بن علي التبريزي ت (502هـ) (3).
5) البيان في إعراب غريب القرآن: لعبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري ت (577هـ) (4).
6) التبيان في إعراب القرآن: ويسمى (إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن): لأبي البقاء عبد الله بن الحسين
__________
1/ 120ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 1/ 181.
(1) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 388ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 1/ 177.
(2) انظر: مفتاح السعادة: 2/ 74ومعجم الشواخ: 1/ 192.
(3) هو يحيى بن علي بن محمد الشيباني التبريزي، علم ثقة في علمه، مخلط في دينه، لم يكن بالصين، له تفسير القرآن. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 19/ 269وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 373ومفتاح السعادة لطاش كبرى زادة: 1/ 202ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 190.
(4) انظر: هدية العارفين: 1/ 519ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 1/ 181.(1/210)
العكبري ت (616هـ)، (1)، وله إعراب القراءات الشواذ (2).
7) الفريد في إعراب القرآن المجيد: للمنتجب بن أبي العز الهمداني ت (643هـ) (3).
8) المجيد في إعراب القرآن المجيد: لإبراهيم بن محمد السفاقسي الفقيه المالكي ت (742هـ) (4).
9) إعراب القرآن: للحسن بن قاسم المرادي المصري ت (749هـ) (5).
10) إعراب القرآن الكريم: لأبي حيان محمد بن يوسف الأندلسي
__________
(1) هو عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري، مقرئ فقيه مفسر لغوي، له تصانيف كثير جدا منها إعراب الشواذ. انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 232ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 118.
(2) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 232ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 174.
(3) هو منتجب بن أبي العز بن رشيد الهمداني، شيخ القراء، له شرح الشاطبية. انظر:
طبقات المفسرين للداودي: 2/ 333ونوادر المخطوطات لرمضان ششن: 2/ 445.
(4) هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم السفاقسي، فقيه مالكي، جمع إعراب القرآن، له المجيد، وغيره.
انظر: الدرر الكامنة لابن حجر: 1/ 55ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 1/ 194 (رسالة دكتوراه في جامعة الأزهر).
(5) هو الحسن بن قاسم بن عبد الله بن علي المرادي، نحوي لغوي فقيه، له شرح التسهيل، وغيره. انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 142ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 178.(1/211)
ت (745هـ) (1).
11) الدر المصون في علوم الكتاب المكنون: لأحمد بن يوسف بن عبد الدائم الحلبي، المعروف بالسمين ت (756هـ) (2).
12) إعراب مواضع من القرآن (المسائل السفرية) لأبي محمد عبد الله بن يوسف بن أحمد بن هشام الأنصاري ت (761هـ) (3).
13) تحفة الإخوان في إعراب بعض آيات القرآن: لعبد الرحمن بن محمد الجزائري المعروف بالثعالبي ت (875هـ) (4).
14) ضمائر القرآن: لمحمد بن يوسف بن علي بن سعيد الكرماني ت (786هـ) (5).
__________
(1) منه نسخة مخطوطة في جامعة الملك سعود بالرياض برقم: 475/ 2ف.
(2) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 102ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 185.
(3) هو عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام، جمال الدين النحوي، نحوي مشهور، انفرد بالفوائد الغريبة، والمباحث الدقيقة، قيل: كان أنحى من سيبويه، له قطر الندى وبل الصدى. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر: 2/ 308ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 179.
(4) انظر: إيضاح المكنون: 3/ 239ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 182.
(5) هو محمد بن يوسف بن علي بن سعيد الكرماني البغدادي، إمام لغوي، فقيه، محدث، مفسر، صنف في شتى العلوم، منها شرح البخاري. انظر: طبقات المفسرين(1/212)
15) إعراب القرآن: لشيخ الإسلام زكريا بن محمد الأنصاري ت (926هـ) (1).
د أمثال القرآن:
1) أمثال القرآن: لمحمد بن حسين السلمي النيسابوري ت (406هـ) (2).
2) أمثال القرآن: علي بن محمد بن حبيب الماوردي ت (450هـ) (3).
3) أمثال القرآن: محمد بن علي بن علي أبو طالب بن الخيمي ت (642هـ) (4).
__________
2/ 85ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 88.
(1) هو زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري الشافعي، حفظ الكتب، وجدّ في الطلب حتى فاق الأقران، مصنفاته كثيرة، منها شرح شذور الذهب. انظر: البدر الطالع للشوكاني: 1/ 252ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 175.
(2) هو محمد بن الحسين بن محمد بن موسى الأزدي السلمي، إمام حافظ محدث صوفي، له حقائق التفسير فيه أشياء لا تسوغ أصلا، عدّها بعض الأئمة من زندقة الباطنية. انظر:
سير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 247وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 1268 ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 3/ 183.
(3) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 428والإتقان للسيوطي: 1/ 20ومعجم الدراسات القرآنية لابتسام الصفار: 94.
(4) هو محمد بن علي بن علي بن علي، أبو طالب، مهذب الدين، المعروف بابن الخيمي، إمام لغوي، وعالم أديب شاعر، مصنفاته كثيرة منها حروف القرآن، وأمثال القرآن. انظر:(1/213)
هـ غريب القرآن:
1) مشكل غريب القرآن: لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي ت (437هـ) (1).
2) مفردات غريب القرآن: لحسين بن علي المعروف بالراغب ت (502هـ) (2).
3) تذكرة الأريب بما تفسير الغريب: لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ت (597هـ) وله غريب الغريب.
4) تحفة الأريب بما في القرآن الكريم من الغريب: لأبي حيان الأندلسي ت (745هـ) (3).
5) بهجة الأريب في غريب القرآن: لابن التركمان علي بن عثمان المارديني أبو الحسن ت (750هـ) (4).
__________
بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي: 1/ 184هدية العارفين للبغدادي: 2/ 121ومعجم الدراسات القرآنية لابتسام الصفار: 93.
(1) انظر: معجم الأدباء لياقوت الحموي: 19/ 170وإنباه الرواة للقفطي: 3/ 317.
(2) انظر: مرآة الزمان: 8/ 483وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 71وهدية العارفين: 1/ 521.
(3) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 290.
(4) هو: علي بن عثمان بن إبراهيم بن مصطفى المارديني، مفسر محدث فقيه صنف وأفتى(1/214)
6) تفسير غريب القرآن: لأبي حفص عمر بن أبي الحسين علي بن أحمد الأنصاري، المعروف بابن الملقن ت (804هـ).
والقراءات القرآنية:
1) المنتهى في القراءات: لأبي الفضل محمد بن جعفر الخزاعي ت (408هـ) (1).
2) الروضة: لأحمد بن محمد المعافري الطلمنكي ت (429هـ) (2).
3) التبصرة في القراءات السبع: لأبي محمد مكي بن أبي طالب ت (437هـ) (3).
4) الكشف عن القراءات السبع: لأبي محمد مكي بن أبي طالب ت (437هـ) (4).
5) التيسير في القراءات السبع: لأبي عمر عثمان بن سعيد الداني ت (444هـ) (5).
__________
ودرس، كان لا يمل الكتابة، له شرح الهداية، ومختصر علوم الحديث لابن الصلاح.
انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 420والدرر الكامنة لابن حجر: 3/ 84
(1) هو محمد بن جعفر بن عبد الكريم الخزاعي الجرجاني إمام مقرئ حاذق، له المنتهى في القراءات جمع فيه مائتين وخمسين رواية. انظر: النشر لابن الجزري: 1/ 34وغاية النهاية له: 2/ 109 وقد حقق الكتاب في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة رسالة دكتوراه.
(2) انظر: النشر لابن الجزري: 1/ 34وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 79وترتيب المدارك للقاضي عياض: 4/ 749حقق رسالة ماجستير في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
(3) انظر: النشر لابن الجزري: 1/ 34وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 331.
(4) انظر: النشر لابن الجزري: 1/ 34وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 331.
(5) انظر: النشر لابن الجزري: 1/ 34.(1/215)
6) التمهيد لأبي عمر عثمان بن سعيد الداني ت (444هـ) (1).
7) جامع البيان: لأبي عمر عثمان بن سعيد الداني ت (444هـ) (2).
8) الوجيز في القراءات: لأبي علي الحسن بن إبراهيم الأهوازي ت (446هـ) وله «الإيجاز» و «الإيضاح» وغيره. (3) قال ابن الجزري: لم يلحقه أحد في هذا الشأن.
9) الكامل في القراءات: ليوسف بن علي بن جبارة الهذلي. ت (465هـ) (4).
10) التلخيص في القراءات الثمان: لأبي معشر عبد الكريم بن عبد الصمد الطبري القطان ت (478هـ)، وله «الرشاد في القراءة الشاذة»، و «سوق العروس» (5).
__________
(1) انظر: النشر لابن الجزري: 1/ 34وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 381.
(2) انظر: النشر لابن الجزري: 1/ 34.
(3) هو الحسن بن إبراهيم بن يزداد المقرئ الأهوازي، شيخ القراء في عصره، محدث من أهل الشام، قيل: ضعيف اتهم في لقي بعض الشيوخ، وقيل: بل ثقة ثقة. انظر: النشر لابن الجزري: 1/ 35وغاية النهاية له: 1/ 220وشذرات الذهب لابن العماد: 3/ 274.
(4) هو يوسف بن علي بن جبارة بن المغربي المتكلم النحوي، علم كبير. قال ابن الجزري:
لا أعلم أحدا في هذه الأمة رحل في القراءات رحلته. انظر: النشر لابن الجزري:
1/ 35وغاية النهاية له: 2/ 397وشذرات الذهب لابن العماد: 3/ 324.
(5) هو عبد الكريم بن عبد الصمد بن محمد بن علي الطبري، مقرئ محدث، صاحب(1/216)
11) الجامع الأكبر والبحر الأزخر: لأبي القاسم عيسى بن عبد العزيز الإسكندري ت (629هـ) (1).
ز مبهمات القرآن:
1) التعريف والإعلام بما في القرآن من الأسماء والأعلام: لعبد الرحمن بن عبد الله الخثعمي السهيلي ت (581هـ) (2).
2) التكميل والإتمام لكتاب التعريف والإعلام: لمحمد بن علي بن الخضر بن هارون الغساني المعروف بابن عسكر ت (636هـ) (3).
__________
التصانيف الكثيرة.
انظر: النشر لابن الجزري: 1/ 35وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 338.
(1) هو عيسى بن عبد العزيز بن عيسى اللخمي الشريشي الإسكندراني المقرئ، أحد الضعفاء المتهمين، رأس في القراءات. انظر: النشر لابن الجزري: 1/ 35ومعرفة القراء الكبار للذهبي: 2/ 614.
(2) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أصبغ أبو القاسم السهيلي، عالم بالعربية واللغة والقراءات والتفسير والحديث، حافظ للتاريخ، له الروض الأنف. انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 272، ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 3/ 113.
(3) هو محمد بن علي بن خضر الغساني، المشتهر بابن عسكر، عالم اعتنى بالرواية على كبر، ملم بالفقه والنحو والشعر. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 23/ 65ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 3/ 13وحقق الكتاب في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية رسالة دكتوراة وتعمل دار الرفاعي للنشر حاليا على(1/217)
3) التبيان لمبهمات القرآن: لابن جماعة بدر الدين محمد بن إبراهيم ت (733هـ). (1) وله: غرر البيان لمبهمات القرآن. وهو مختصر للسابق (2).
4) صلة الجمع وعائد التنزيل لموصول كتابي الإعلام والتكميل: جمع بين كتابي السهيلي وابن عسكر: لمحمد بن علي الأوسي المغربي (3).
5) مفحمات الأقران في مبهمات القرآن: لجلال الدين السيوطي ت (911هـ). (4)
ح المحكم والمتشابه:
1) حل الآيات المتشابهات: لمحمد بن الحسن بن فورك ت (406هـ). (5)
__________
طباعته ونشره.
(1) هو محمد بن إبراهيم بن سعد بن سعد الله بن جماعة الشافعي الحموي، مفسر محدث فقيه، وخطيب شاعر، له مشاركات جيدة، مصنفاته عديدة منها كتاب علوم الحديث.
انظر: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 53، وهدية العارفين: 2/ 248، ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 3/ 222.
(2) وقال فضيلة الشيخ مناع القطان: حقّق ولمّا يطبع.
(3) انظر معجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 4/ 190.
(4) انظر: معجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 3/ 157.
(5) هو محمد بن الحسن بن فورك الأصفهاني، متكلم أصولي نحوي، له ما يقرب من مائة مصنّف. انظر: النجوم الزاهرة لابن تغري بردي: 4/ 240وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 132ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 47و 4/ 199 وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان: 1/ 175.(1/218)
2) المتشابهات في القرآن: للشريف الرضي محمد بن الحسين ت (406هـ). (1)
3) متشابه القرآن: لعبد الجبار بن أحمد الهمذاني الأسترآبادي ت (415هـ).
4) درة التنزيل وغرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز: لمحمد بن عبد الله المعروف بالخطيب الإسكافي ت (431هـ). (2)
5) مشكل القرآن: لمحمد بن أحمد بن مطرف الكناني أبو عبد الله ت (545هـ).
6) البرهان في مشكلات القرآن: لأبي المعالي عزيزي بن عبد الملك بن منصور الجيلي المعروف بشيذلة ت (494هـ). (3)
7) حل متشابهات القرآن: للراغب الأصفهاني الحسين بن
__________
(1) انظر: إيضاح المكنون: 4/ 426ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 4/ 204.
(2) هو محمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي، أبو عبد الله. أديب عالم باللغة، صاحب تصانيف، له شواهد سيبويه. انظر: بغية الوعاة للسيوطي: 1/ 149ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 4/ 200.
(3) هو عزيز بن عبد الملك بن منصور الجيلي، المعروف بشيذلة، فقيه شافعي أصولي، كان يناظر بمذهب الأشعري، له مصنفات عديدة، انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان:
3/ 259وشذرات الذهب لابن عماد: 3/ 401وكشف الظنون لحاجي خليفة:
1/ 241ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 196.(1/219)
محمد ت (502هـ). (1)
8) البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان: لبرهان الدين محمود بن حمزة بن نصر الكرماني المقري ت (505هـ). (2)
9) تأويل متشابهات القرآن: لمحمد بن علي بن شهراسوب ت (588هـ). (3)
10) تذكرة المنتبه في عيون المشتبه: لعبد الرحمن بن علي بن الجوزي ت (597هـ). (4)
11) الآيات المتشابهات: لأحمد بن يزيد بن بقي بن مخلد ت (625هـ). (5)
__________
(1) انظر: معجم مصنفات القرآن للشواخ 4/ 199.
(2) انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 241ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ:
4/ 195وقد حقق الكتاب فضيلة الدكتور ناصر بن سليمان العمر، يحفظه الله.
(3) هو محمد بن علي بن شهراسوب السروري، أحد شيوخ الشيعة، وفقيه مذهبهم، اجتهد في التفسير والفقه والنحو والقراءات، هو عند الشيعة كالخطيب البغدادي عند أهل السنة، انظر: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 201ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 196.
(4) انظر: معجم مصنفات القرآن للشواخ 4/ 205.
(5) هو أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أحمد ابن شيخ الأندلس بقي بن مخلد، محدث مسند، ونحوي أديب من رجالات الأندلس الظاهرين، اشتغل بالقضاء ثم بالتدريس. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 22/ 274ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 194.(1/220)
12) بيان مشتبه القرآن: لعيسى بن عبد العزيز اللخمي الإسكندري ت (629هـ). (1)
13) ري الظمآن في متشابه القرآن: لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد الأنصاري الأندلسي ت (634هـ). (2)
14) ملاك التأويل القاطع لذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه من آي التنزيل: لابن الزبير الغرناطي أحمد بن إبراهيم. ت (708هـ). (3)
15) رد معاني الآيات المتشابهات إلى معاني الآيات المحكمات: محمد بن أحمد بن عبد المؤمن الأسعردي المعروف بابن اللبان. ت (749هـ). (4)
ط مناسبات القرآن:
__________
(1) انظر: غاية النهاية لابن الجرزي: 1/ 609ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 196.
(2) انظر: ايضاح المكنون: 3/ 604ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 200.
(3) هو أحمد بن إبراهيم بن الزبير بن محمد الغرناطي، مفسر محدث، ونحوي مقرئ، له اهتمام بالتاريخ، تصانيفه كثيرة منها تعليق على كتاب سيبويه. انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 27وشذرات الذهب لابن عماد: 6/ 16وعلوم القرآن للأستاذ عدنان زرزور: 172.
(4) هو محمد بن أحمد بن عبد المؤمن الإسعردي المعروف بابن اللبان مفسر محدث، فقيه أديب شاعر، جمع بين العلم والعمل، تصانيفه مفيدة، متشابه القرآن والحديث. انظر:
الدرر الكامنة لابن حجر: 3/ 73وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 80ومعجم المطبوعات: 229ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 200.(1/221)
1) نظم السور: لأبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري ت (449هـ). (1)
2) البرهان في ترتيب سور القرآن: لأبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي ت (708هـ) (2).
3) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: لبرهان الدين إبراهيم بن عمر بن حسن البقاعي ت (885هـ) (3). وله دلالة البرهان القويم على تناسب آي القرآن العظيم (4).
4) تناسق الدرر في تناسب السور: لجلال الدين السيوطي ت (911هـ) (5).
5) ربط السور والآيات: لمحمد بن مبارك المعروف بحكيم شاه
__________
(1) انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة 2/ 1963ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 1/ 71.
(2) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 27وشذرات الذهب لابن عماد: 6/ 16 وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 241ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 1/ 34.
(3) هو إبراهيم بن عمر بن حسن بن الرباط بن أبي بكر البقاعي، درس على أكابر عصره، ففاق الأقران، وبرع في شتى الفنون، نال منه ثلة من علماء عصره وتعرضوا له إلى حد التكفير. انظر:
شذرات الذهب لابن عماد: 7/ 340والبدر الطالع للشوكاني: 1/ 19ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 1/ 71.
(4) انظر: شذرات الذهب لابن عماد: 7/ 339وإيضاح المكنون: 3/ 475.
(5) انظر: معجم مصنفات القرآن للشواخ: 1/ 42.(1/222)
القزويني ت (920هـ) (1).
6) نظم سور القرآن: لعبد العزيز بن عبد الواحد بن محمد المكناسي ت (964هـ) (2).
ي الناسخ والمنسوخ:
1) الناسخ والمنسوخ: لعبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس ت (402هـ). (3)
2) الناسخ والمنسوخ من القرآن العظيم: لأبي القاسم هبة الله بن عبد السلام البغدادي المفسر الضرير ت (410هـ). (4)
__________
(1) هو محمد بن مبارك شاه بن محمد الهروي الرومي الحنفي، حكيم شاه القزويني، باحث كتب في التفسير والشعر والحكمة، له شرح حكمة العين للقزويني. انظر: هدية العارفين:
2/ 229والأعلام للزركلي: 7/ 17ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 1/ 51.
(2) هو عبد العزيز بن عبد الواحد بن محمد بن موسى المغربي المكناسي، عالم أديب مقرئ، صاحب عدة منظومات في علوم شتى، انظر: شذرات الذهب لابن عماد:
8/ 342ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 1/ 72وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان: 2/ 517.
(3) انظر: تاريخ قضاة الأندلس: 87ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 242.
(4) هو هبة الله بن سلامة بن نصر الضرير المقرئ، مفسر نحوي، قيل: كان من أحفظ الناس للتفسير والنحو، له التفسير وغيره. انظر: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 348 وكشف الظنون: 2/ 1921ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 234.(1/223)
3) الناسخ والمنسوخ: لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر الأسفراييني ت (429هـ). (1)
4) الإيضاح في ناسخ القرآن ومنسوخه ومعرفة أصوله واختلاف الناس فيه: لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي ت (437هـ).
5) الناسخ والمنسوخ: لأبي محمد علي بن حزم الظاهري ت (456هـ). (2)
6) الناسخ والمنسوخ: لأبي الوليد سليمان بن خلف التجيبي الباجي ت (474هـ). (3)
7) الإيجاز في الناسخ والمنسوخ: محمد بن بركات بن هلال بن عبد الواحد السعيدي المصري ت (520هـ). (4)
__________
(1) هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد التميمي، أبو منصور البغدادي، عالم عظيم القدر، فقيه أصولي نحوي متكلم، قيل: كان يدرّس في سبعة عشر فنا، من تصانيفه التفسير، وفضائح المعتزلة. انظر: إنباه الرواة للقفطي: 2/ 185وطبقات المفسرين للداودي:
1/ 332ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 242.
(2) انظر: نفح الطيب: 1/ 364ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 243.
(3) هو سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب الباجي التجيبي، مفسر أديب، وأصولي متكلم، تصانيفه كثيرة جدا منها المعاني في شرح الموطأ. انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 208ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 243.
(4) هو محمد بن بركات بن هلال بن عبد الواحد السعيدي، أديب نحوي لغوي، شيخ العربية واللغة في مصر في عصره. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 19/ 455 وشذرات الذهب لابن عماد: 4/ 62ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 227.(1/224)
8) ناسخ القرآن ومنسوخه: لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الإشبيلي ت (543هـ). (1)
9) الموجز في الناسخ والمنسوخ: لأبي القاسم محمود بن أبي الحسن النيسابوري الغزنوي ت (550هـ). (2)
10) رسوخ الأخبار في الناسخ والمنسوخ من الأخبار: لابن الجوزي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد ت (597هـ). (3)
11) الناسخ والمنسوخ: لعلي بن محمد بن محمد الأنصاري الخزرجي الأندلسي المعروف بابن الحصار ت (611هـ). (4)
__________
(1) انظر: الإتقان للسيوطي: 1/ 19ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 246 والكتاب مخطوط بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية باسم: الناسخ والمنسوخ
(2) هو محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي، الملقب بيان الحق، فقيه مفسر لغوي بارع، له إيجاز البيان في معاني القرآن، والموجز في الناسخ والمنسوخ، [وهو مخطوط في جامعة الإمام برقم 3883ف]. انظر: معجم الأدباء لياقوت: 19/ 124 وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 311.
(3) انظر: معجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 4/ 230ومرآة الزمان لليافعي:
8/ 481والكتاب مطبوع باسم نواسخ القرآن 1405وباسم: أخبار الرسوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ عام 1322وباسم: المصفّى بأكفّ أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ تحقيق الأستاذ صالح الضامن.
(4) هو علي بن محمد بن محمد بن إبراهيم الأنصاري الخزرجي، أبو الحسن المعروف بابن(1/225)
12) الطود الراسخ في الناسخ والمنسوخ: لعلم الدين السخاوي علي ابن محمد بن عبد الصمد ت (643هـ). (1)
13) رسوخ الأخبار في الناسخ والمنسوخ من الأخبار: برهان الدين إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن خليل أبو إسحاق الشافعي ت (732هـ).
14) الناسخ والمنسوخ: لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الأسفراييني العامري. (2)
__________
الحصّار، فقيه فاضل صاحب تصانيف جيدة، له الناسخ والمنسوخ سمعه منه الحافظ المنذري، وله غير ذلك. انظر: التكملة لوفيات النقلة للمنذري: 2/ 309والإتقان للسيوطي: 1/ 19ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 243.
(1) هو علي بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الأحد. علم الدين أبو الحسن السخاوي، مفسر نحوي، شيخ القراء بدمشق في زمانه، له جمال القراء وغيره. انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 429وكشف الظنون لحاجي خليفة: 2/ 1118ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 231.
(2) مطبوع ملحق بلباب النقول للسيوطي. [قال فضيلة الشيخ مناع: لم نجد فيما اطلعنا عليه من كتب التراجم شخصا بهذا الاسم.]. والمخطوط موجود في جامعة الإمام برقم 1860. قلت: هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن علي الأسفراييني، أورده الشواخ في معجمه، وذكر أن له: الناسخ والمنسوخ، مخطوط بمكتبة الحرمين بمكة المحروسة برقم (15) تفسير دهلوي معجم الشواخ: 4/ 246. وقد وقفت أخيرا في معجم الدراسات القرآنية للصفار، أن كتاب الأسفراييني هذا، حقق في جامعة الملك سعود بالرياض، رسالة ماجستير للباحث صالح بن عبد الله المحيمد. معجم الدراسات القرآنية: 1/ 631.(1/226)
15) ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه: لشرف الدين هبة الله بن عبد الرحيم بن إبراهيم ابن البارزي ت (738هـ). (1)
16) ناسخ القرآن ومنسوخه: يحيى بن عبد الله الواسطي الشافعي ت (738هـ). (2)
17) عقود القيان في الناسخ والمنسوخ في القرآن: محمد بن المطهر بن يحيى بن المرتضى ت (728هـ). (3)
__________
(1) هو هبة الله بن عبد الرحيم بن إبراهيم بن هبة الله الجهني الحموي، المعروف بابن البارزي، قاض راسخ في العلم، انتهت إليه مشيخة الشافعية ببلاد الشام، تصانيفه كثيرة، منها روضات الجنان في تفسير القرآن. انظر: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 350 والبدر الطالع للشوكاني: 2/ 324 (مطبوع).
(2) هو يحيى بن عبد الله بن عبد الملك الواسطي، فقيه بارز، قيل عنه: فقيه العراق في زمانه، له مؤلفات نافعة.
انظر: الدرر الكامنة لابن حجر: 4/ 419وإيضاح المكنون: 4/ 615ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 244.
(3) هو محمد بن المطهر بن يحيى بن المرتضى، إمام زيدي بويع بالخلافة عند موت والده، له تصانيف تدل على علم واسع، منها السراج الوهاج في حصر مسائل المنهاج. انظر: البدر الطالع للشوكاني: 2/ 271وإيضاح المكنون: 4/ 114ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 4/ 231.(1/227)
18) الناسخ والمنسوخ: لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت (852هـ). (1)
19) ناسخ القرآن ومنسوخه: لشهاب الدين أحمد بن إسماعيل الأبشيطي ت (883هـ). (2)
20) الآيات التي فيها الناسخ والمنسوخ: لإبراهيم بن محمد المعروف بابن أبي شريف المقدسي ت (923هـ). (3)
ك الوجوه والأشباه والنظائر:
1) الأشباه والنظائر في القرآن الكريم: لأبي منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي ت (429هـ). (4)
2) وجوه القرآن: لإسماعيل بن أحمد الحيري النيسابوري الضرير
__________
(1) انظر: معجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 246.
(2) هو أحمد بن إسماعيل بن أبي بكر بن عمر بن بريدة، الشهاب الأبشيطي، عالم برع في الفقه وأصوله والعربية والفرائض وغيرها، وتصدى للإقراء مدة، له تصانيف منها شرح الرحبية. انظر: البدر الطالع للشوكاني: 1/ 37وإيضاح المكنون: 4/ 615ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 4/ 244.
(3) هو إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن علي المعروف بابن أبي شريف المقدسي، إمام محقق مدقق، ذو ذكاء مفرط، طار صيته وصار المعول عليه في الفتوى في مصر، انظر: شذرات الذهب لابن عماد: 8/ 118ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 233.
(4) انظر: شذرات الذهب لابن عماد: 3/ 246ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 255.(1/228)
ت (430هـ). (1)
3) الوجوه والنظائر: للحسن بن أحمد بن البناء البغدادي الحنبلي: ت (471هـ). (2)
4) إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم. للحسين بن محمد الدامغاني ت (478هـ). (3)
5) الوجوه والنظائر: لعلي بن عبيد الله الزاغوني الحنبلي: ت (527هـ). (4)
__________
(1) هو إسماعيل بن أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن الحيري النيسابوري، مفسر مقرئ ضرير، محدث، رحل لطلب الحديث كثيرا، له تفسير مشهور. انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 106وشذرات الذهب لابن عماد: 3/ 338ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 263.
(2) هو الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البناء البغدادي، مقرئ محدث فقيه واعظ، عرف بصفاء الذهن وجودة القريحة، ودلت تصانيفه على علومه وفنونه، قيل: صنّف خمسمائة مصنف. منها شرح على الخرقي في الفقه. انظر: المقصد الأرشد لابن مفلح:
1/ 309وكشف الظنون لحاجي خليفة: 2/ 2001ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 262.
(3) هو الحسين بن محمد بن إبراهيم الدامغاني أبو عبد الله، فقيه حنفي، له سوق العروس وأنيس النفوس. انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة: 2/ 1067وإيضاح المكنون: 1/ 615ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 256.
(4) هو علي بن عبد الله بن نصر بن السري الزاغوني البغدادي، فقيه محدث واعظ، من أعيان الحنابلة، تفنن في الأصول والفروع وصنّف الكثير، له الإقناع وغيره. انظر:(1/229)
6) نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر: لعبد الرحيم بن الجوزي ت (579هـ). (1)
7) الذخائر في الأشباه والنظائر: لعبد الرحمن بن علي بن إسحاق التميمي الداري ت (876هـ). (2)
8) كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر: لمحمد بن محمد بن علي البلبيسي المعروف بابن العماد ت (887هـ). (3)
9) معترك الأقران في مشترك القرآن: لجلال الدين السيوطي ت (911هـ). (4)
__________
المقصد الأرشد لابن مفلح: 1/ 232وشذرات الذهب لابن عماد: 4/ 80 وكشف الظنون لحاجي خليفة: 2/ 2001.
(1) انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة: 2/ 2001ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 260.
(2) انظر الضوء اللامع للسخاوي: 4/ 95وهدية العارفين: 1/ 533ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 258.
(3) هو محمد بن محمد بن علي البلبيسي المعروف بابن العماد، فقيه شافعي، عمل ناسخا.
انظر: الضوء اللامع للسخاوي: 9/ 162ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 258، وكتابه كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر، مخطوط في خزانة السيد حسن حسني عبد الوهاب الصمادحي بتونس، بخط المؤلف. الأعلام للزركلي: 7/ 50.
(4) انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة: 2/ 1732ومعجم مصنفات القرآن للشواخ: 4/ 260.(1/230)
المرحلة الثالثة: من بداية القرن العاشر إلى العصر الحديث:
وبعد هذه الجهود المباركة جاءت على المسلمين فترة ضعف خفت فيها تلك الجذوة الوهاجة التي شهدتها القرون السابقة، فضعف التأليف في العلوم عامة، وفي علوم القرآن خاصة، ولم يظهر في العالم الإسلامي الواسع من المصنفات إلا اليسير النادر بين الفينة والفينة، يعتمد مؤلفوها على جهود سابقيهم ومصنفاتهم، فغلب على مؤلفاتهم النادرة صبغة الاختصار حينا، والشرح والتبسيط حينا آخر، وقد دامت مدة الفتور هذه أكثر من ثلاثة قرون، ولعل أسبابه تعود إلى ما تعرض له العالم الإسلامي من كيد الإعداء، والضربات الموجعة التي تلقاها في مواطن عديدة من دياره، كان أقواها تلك الحملة الصليبية الشرسة التي نكبت بديار الأندلس في المغرب العربي، والأندلس كما هو معروف مركز من مراكز الإشعاع الحضاري والعلمي الذي مد العالم الإسلامي خلال القرون الماضية بنخبة من المفسرين الذين لا يشق لهم غبار، بل يستطيع المرء أن يقرر هنا أن التفسير وعلوم القرآن نضجا واستويا على سوقهما بالصورة المشرقة التي نراها من خلال جهود المفسرين من الديار المغربية وعلمائها، وخاصة أهل الأندلس، غير أن الهجمة التي تعرض إليها أرض العلم ومأوى العلماء في الأندلس، والاحتلال الذي اغتصب أرض الخير هناك، جعل العلماء الذين هم القادة ينصرفون عن التعليم ليحملوا السلاح، وليدافعوا عن ديار الإسلام لتطهير الأراضي كما كانوا يفعلون لتطهير القلوب، وحين سألت المؤرخ الإسلامي الأستاذ القدير / محمود شاكر عن سبب فتور العلم في هذه المرحلة، وعدم
ظهور المصنفات، لم يتردد يحفظه الله في عزو ذلك إلى انشغال العلماء بالجهاد حيث قال: حين سقطت الأندلس عام 897هـ، وبدأت سيطرة النصارى، توجه العلماء وطلبة العلم والخيرون إلى المقاومة، وكان العلماء هم الذين يقودون المقاومة. وقد دامت هذه الفترة العصيبة مدة طويلة. قال:(1/231)
وبعد هذه الجهود المباركة جاءت على المسلمين فترة ضعف خفت فيها تلك الجذوة الوهاجة التي شهدتها القرون السابقة، فضعف التأليف في العلوم عامة، وفي علوم القرآن خاصة، ولم يظهر في العالم الإسلامي الواسع من المصنفات إلا اليسير النادر بين الفينة والفينة، يعتمد مؤلفوها على جهود سابقيهم ومصنفاتهم، فغلب على مؤلفاتهم النادرة صبغة الاختصار حينا، والشرح والتبسيط حينا آخر، وقد دامت مدة الفتور هذه أكثر من ثلاثة قرون، ولعل أسبابه تعود إلى ما تعرض له العالم الإسلامي من كيد الإعداء، والضربات الموجعة التي تلقاها في مواطن عديدة من دياره، كان أقواها تلك الحملة الصليبية الشرسة التي نكبت بديار الأندلس في المغرب العربي، والأندلس كما هو معروف مركز من مراكز الإشعاع الحضاري والعلمي الذي مد العالم الإسلامي خلال القرون الماضية بنخبة من المفسرين الذين لا يشق لهم غبار، بل يستطيع المرء أن يقرر هنا أن التفسير وعلوم القرآن نضجا واستويا على سوقهما بالصورة المشرقة التي نراها من خلال جهود المفسرين من الديار المغربية وعلمائها، وخاصة أهل الأندلس، غير أن الهجمة التي تعرض إليها أرض العلم ومأوى العلماء في الأندلس، والاحتلال الذي اغتصب أرض الخير هناك، جعل العلماء الذين هم القادة ينصرفون عن التعليم ليحملوا السلاح، وليدافعوا عن ديار الإسلام لتطهير الأراضي كما كانوا يفعلون لتطهير القلوب، وحين سألت المؤرخ الإسلامي الأستاذ القدير / محمود شاكر عن سبب فتور العلم في هذه المرحلة، وعدم
ظهور المصنفات، لم يتردد يحفظه الله في عزو ذلك إلى انشغال العلماء بالجهاد حيث قال: حين سقطت الأندلس عام 897هـ، وبدأت سيطرة النصارى، توجه العلماء وطلبة العلم والخيرون إلى المقاومة، وكان العلماء هم الذين يقودون المقاومة. وقد دامت هذه الفترة العصيبة مدة طويلة. قال:
ولهذا نجد حقد الصليبية على العلماء وعلى فكرهم إلى يومنا هذا.
وأضاف يقول: وهذه الظاهرة لم تقتصر على العلوم الدينية بل شملت العلوم التجريبية وتابع قوله: وبعد سقوط الخلافة الإسلامية، انحصر كل مصر من أمصار المسلمين بنفسه، واستقل بذاته، وفصلت الديار الإسلامية. وحين رأى الخيرون من أبناء المسلمين أنهم أصبحوا في عزلة من إخوانهم اتجهوا مرة أخرى إلى الاهتمام بالعلم، فعقدت الحلقات العلمية في المساجد، ودفع الناس أبناءهم إليها، وتزاحم الطلبة على أبواب من بقي من أهل العلم، ينهلون المعارف، حتى شهد العالم الإسلامي بفضل الله نهضة مباركة شملت كثيرا من ميادين الحياة، فكانت المرحلة الثالثة في العصر الحديث.
هذا وقد وجدت مجموعة مؤلفات هنا وهناك من ديار الإسلام بين الحين والآخر، ومن ذلك:
1) قلائد المرجان في الناسخ والمنسوخ من القرآن: لمرعي بن يوسف
الكرمي ت (1033هـ) وقد طبع. (1)(1/232)
1) قلائد المرجان في الناسخ والمنسوخ من القرآن: لمرعي بن يوسف
الكرمي ت (1033هـ) وقد طبع. (1)
2) تحفة الفقير ببعض علوم التفسير: لشمس الدين أبو عبد الله محمد ابن سلامة الإسكندري المالكي ت (1149هـ) وقد طبع. (2)
3) الزيادة والإحسان في علوم القرآن: لابن عقيلة محمد بن أحمد الحنفي المكي ت (1150هـ). (3)
4) الفوز الكبير في أصول التفسير: لولي الله الدهلوي ت (1176هـ).
5) إرشاد الرحمن لأسباب النزول والنسخ والمتشابهة وتجويد القرآن:
لعطية الله بن عطية البرهان الأجهوري ت (1190هـ). (4)
__________
(1) هو مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد الكرمي المقدسي الحنبلي، فقيه مؤرخ أديب، له نحو من سبعين مؤلفا، منها دليل الطالبين في الفقه. انظر: خلاصة الأثر للمحبي:
4/ 358وإيضاح المكنون: 4/ 239والأعلام للزركلي: 7/ 203ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 4/ 232.
(2) هو محمد بن سلامة بن إبراهيم بن خليل الضرير الإسكندري المصري، مفسر شاعر، له تفسير القرآن. توفي بمكة. انظر: سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر للمرادي: 4/ 123.
(3) حقق الزيادة والإحسان في كلية أصول الدين ونال به خمسة من الباحثين درجة الماجستير في القرآن قسم القرآن وعلومه، وكنت واحدا منهم فلله الحمد والمنة انظر ترجمته:
سلك الدرر للمرادي: 4/ 30والزيادة والإحسان في علوم القرآن لابن عقيلة / تحقيق محمد صفاء حقي، قسم الدراسة: 1/ 4517.
(4) هو عطية الله بن عطية البرهان الشافعي مفسر فقيه تصدر للتدريس في جامع الأزهر(1/233)
6) لب التفاسير في معرفة أسباب النزول والتفسير: لمحمد بن عبد الله القاضي الرومي ت (1195هـ) (1)
7) عجيب البيان في علوم القرآن: للشيخ عبد الباسط بن رستم علي بن علي أصغر القنوجي ت (1223هـ). (2)
8) جواهر القرآن في التجويد: محمود بن محمد بن مهدي العلوي التبريزي ت (1287هـ).
وكان الغالب على تلك المؤلفات سمة النقل والانتخاب، يتخللها أحيانا تعليقات وإضافات هي الأخرى مختارة ومنتقاة من علوم الأولين، ويستطيع المرء أن يؤكد هنا فقدان هذه الفترة لعنصر التجديد والابتكار.
في عصرنا الحديث نهضت جملة من العلوم، وشهدت الساحة العلمية تنافسا قويا في شتى ميادين المعرفة، وقد كان للعلوم الإسلامية عامة وعلوم القرآن بصورة خاصة حظ وافر، ونصيب كبير من ذلك الاهتمام، فظهرت المؤلفات التي تخصصت بالدراسات القرآنية، وأعاد ثلة من العلماء النظر في
__________
له عدة مصنفات منها حاشية على تفسير الجلالين. انظر: سلك الدرر للمرادي:
3/ 265وإيضاح مكنون: 1/ 60وقد حقق في الجامعة الزيتونية بتونس.
(1) انظر: إيضاح المكنون 4/ 400ومعجم مصنفات القرآن الكريم للشواخ: 1/ 135.
(2) هو عبد الباسط بن رستم علي بن علي أصغر القنوجي، هندي مستعرب، عالم بالفرائض، له عجيب البيان في أسرار القرآن. انظر: الأعلام للزركلي: 3/ 271.(1/234)
ذلك التراث الضخم الذي بقي مخطوطا والذي أثقلت رفوف المكتبات العامة والخاصة من حمله، فأخرجته أيدي المحققين، بعد أن نفضت عنه تراب السنين، وعكف الباحثون على تحقيقه وإخراجه بصورة مرضية، وفق أسس منهجية علمية، يعيدون النظر في المواضع التي تحتاج منهم إلى إعادة نظر، فقوّموا النص، وأخرجوه على أفضل صورة بعد أن وقفوا على النسخ المتعددة وقابلوا بينها، ولم يأل أولئك جهدا في إثبات التعليقات المفيدة، والإضافات النافعة، وشرح الغامض من الألفاظ والعبارات، وخاصة تلك التي أصبحت غريبة على جيل العصر، فذيلت الأصول بحواش قربت البعيد، ويسّرت الصعيب، وأصبح في إمكان طالب العلم فهم نصوص السلف على مرادهم بيسر وسهولة.
واتجه فريق آخر من أهل العلم إلى الكتابة ابتداء، ورأى أن لكل جيل مفهومه وقدراته وحاجاته، وأن من حق أبناء العصر أن يقدم لهم العلم بالطريقة التي يفهمونها، وبالأسلوب الذي يرتاحون له، فظهرت المصنفات التي بدت عليها هذه السمات، مع التحقيق والتمحيص بين المنقولات، ويمثل كتاب الأستاذ الدكتور مصطفى زيد «النسخ في القرآن الكريم» واحدا من هذه المصنفات التي عالجت موضوعا قرآنيا بنظرة حديثة، وكذا كتاب الأستاذ غانم قدوري الذي أسماه: رسم المصحف، دراسة لغوية وتقويمية.
كما كان للاستحداث الذي حدث لأسلوب التعليم في الجامعات والأكاديميات العلمية، أثر عظيم في نوعية التآليف التي ظهرت.(1/235)
ولأن العصر الحديث قد أفرز على السطح علوما تجريبية علمية، ووضعت النظريات العلمية الحديثة والتي على ضوئها شهدت الساحة هذا التفوق الحضاري في الميادين التجريبية، وكانت الحاجة لتفسير نصوص الشرع التي فيها إشارات قريبة كانت أم بعيدة تفسيرا علميا يواكب التقدم ضرورة ملحة، فظهرت المؤلفات التي حاول مؤلفوها مواكبة هذا التطور، وظهر ما يسمى بالتفسير العلمي، فكان فنا من فنون علوم القرآن، وظهر التفسير الموضوعي الذي عالج موضوعا معينا من خلال القرآن كله، أو من خلال سورة منه، أو بتتبع لفظة من كتاب الله، وزاد الاهتمام بإظهار جوانب الإعجاز العلمي في القرآن، وظهرت المؤلفات في الإعجاز الطبي والكوني وغير ذلك، والمؤلفات في ذلك كثيرة لعلنا نشير إلى بعضها في ختام هذا المبحث.
كما دعت الحاجة حين أصبح التواصل بين شعوب العالم يسيرا، إلى تقديم ترجمات ميسرة من معاني كتاب الله إلى تلك الشعوب، فأصبح البحث الدقيق في مسألة ترجمة معاني القرآن إلى تلك اللغات العالمية، أمرا في غاية الضرورة. وقل مثل هذا في عدد من العلوم التي دعت حاجة العصر إلى نشوئها أو التعمق فيها.
أريد أن أؤكد هنا أن العصر الحالي قد أوجد مجموعة من العلوم لم تكن موضع اهتمام العلماء السابقين لكونها لم تكن موجودة، أو لأنها لم تتضح لهم بمثل ما اتضح للجيل الذي عاصر التقدم العلمي في المجالات
التجريبية.(1/236)
أريد أن أؤكد هنا أن العصر الحالي قد أوجد مجموعة من العلوم لم تكن موضع اهتمام العلماء السابقين لكونها لم تكن موجودة، أو لأنها لم تتضح لهم بمثل ما اتضح للجيل الذي عاصر التقدم العلمي في المجالات
التجريبية.
وعلى العموم يستطيع المرء أن يؤكد أن التأليف في علوم القرآن في العصر الحديث قد اتصف بالآتي:
1) عدم التجديد غالبا، والاعتماد الكبير على علوم الأقدمين وكتاباتهم.
2) سهولة العبارة، وعدم التعمق، في الغالب أيضا.
3) التكرار، وعدم التوثيق.
4) التركيز على بعض العلوم دون بعض.
5) جودة التبويب، وحسن العرض والترتيب.
6) ظهور فنون جديدة لم تكن عند الأقدمين، أو لم تكن موضع عنايتهم.
ومن أهم المؤلفات التي ظهرت في العصر الحديث وهي كثيرة أذكر منها:
أولا: المؤلفات الموسوعية:
يغلب على المؤلفات الموسوعية في عصرنا الحالي سمة الانتخاب والاختصار، وقد اعتمد المؤلفون في كتاباتهم على كتابي الإتقان للسيوطي، والبرهان للزركشي، وكان السيوطي هو الأكثر اعتمادا.
وتفاوتت نظرة المؤلفين إلى الفنون التي اختاروها لدراستها، فربما كان
الاختيار خاضعا لأنظمة الجامعات التي تقرر بعض الموضوعات على طلبتها كمقررات دراسية، كما تفاوتت معالجتهم لتلك الفنون، إذ غالب المؤلفات الموسوعية في هذا العصر هي في الأصل محاضرات ألقيت على الطلبة، ثم جمعها كاتبها ونشرها كتابا مستقلا، سواء أدخلت عليها التعديلات التي ترتقي بها إلى مستوى إخراجها كتابا مستقلا، أم لم تدخل.(1/237)
وتفاوتت نظرة المؤلفين إلى الفنون التي اختاروها لدراستها، فربما كان
الاختيار خاضعا لأنظمة الجامعات التي تقرر بعض الموضوعات على طلبتها كمقررات دراسية، كما تفاوتت معالجتهم لتلك الفنون، إذ غالب المؤلفات الموسوعية في هذا العصر هي في الأصل محاضرات ألقيت على الطلبة، ثم جمعها كاتبها ونشرها كتابا مستقلا، سواء أدخلت عليها التعديلات التي ترتقي بها إلى مستوى إخراجها كتابا مستقلا، أم لم تدخل.
وأود أن أشيد هنا ببعض تلك البحوث والكتابات التي كانت جادة في معالجتها، قوية في مضامينها، رائدة في بابها، حملت لطلبة العلم نظرات علمية فاحصة، يشهد المرء لكاتبها بعمق التفكير، وسلامة الاختيار، وقوة الدليل وصحته، فيسلّم لكثير من ترجيحاتهم، وتهدأ النفس لأدلتهم وطريقة معالجتهم، ولهذا ذاع صيتها وانتشرت بين طلبة العلم حتى صنفت في مستوى أمهات المؤلفات. وخير مثال نقدمه هنا هو كتاب «مناهل العرفان» للأستاذ عبد العظيم الزرقاني رحمه الله وكتاب «التفسير والمفسرون» للأستاذ محمد حسين الذهبي رحمه الله و «مباحث في علوم القرآن» للشيخ مناع القطان، ولصبحي الصالح، و «علوم القرآن، مدخل إلى تفسير القرآن وبيان إعجازه» للأستاذ عدنان زرزور، و «مدخل إلى علوم القرآن والتفسير» للدكتور فاروق حمادة، وغيرها.
ومن أهم المؤلفات الموسوعية التي ظهرت في هذه المرحلة:
1) الإيجاز والبيان في علوم القرآن: محمد صادق قمحاوي.(1/238)
2) تاريخ القرآن: د / عدنان زرزور.
3) البيان في علوم القرآن: محمد حسنين مخلوف العدوي.
4) البيان في مباحث من علوم القرآن: الشيخ عبد الوهاب غزلان.
5) التبيان في علوم القرآن: د / القصيبي محمود زلط.
6) التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن على طريقة الإتقان: الشيخ طاهر بن صالح بن أحمد الجزائري الدمشقي ت (1338هـ).
7) دراسات في أصول القرآن: د / محسن عبد الحميد.
8) دراسات في التفسير ورجاله: أبو اليقظان عطية الجبوري.
9) دراسات في علوم القرآن: د / أمير عبد العزيز.
10) دراسات في علوم القرآن: د / عبد القهار داود العاني.
11) دراسات في علوم القرآن الكريم: د / فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي.
12) دراسات في علوم القرآن: د / محمد أمين فرشوخ.
13) دراسات في علوم القرآن: د / محمد بكر إسماعيل.
14) علوم القرآن: د / أحمد عادل كمال.(1/239)
15) علوم القرآن: د / عبد المنعم النمر.
16) علوم القرآن: د / عزت حسين.
17) علوم القرآن: د / محمد الكومي، ود / محمد القاسم.
18) علوم القرآن: مدخل إلى تفسير القرآن وبيان إعجازه: د / عدنان زرزور.
19) علوم القرآن المنتقى: د / فرج توفيق الوليد ود / فاضل شاكر النعيمي.
20) علوم القرآن والحديث: الشيخ أحمد محمد علي داود.
21) في علوم القرآن: كفافي الشريف.
22) القرآن المجيد، تنزيله، أسلوبه، أثره، جمعه: محمد عزة دروزة.
23) القرآن الكريم، تاريخه وآدابه: إبراهيم علي عمر.
24) لمحات في علوم القرآن واتجاهات المفسرين: د / محمد لطفي الصباغ.
25) مباحث في علوم القرآن: د / صبحي الصالح.
26) مباحث في علوم القرآن: فضيلة الشيخ مناع بن خليل القطان.
27) المعجزة الكبرى القرآن (نزوله كتابته جمعه إعجازه جدله علومه تفسيره حكم الغناء به): محمد أبو زهرة.
28) مدخل إلى علوم القرآن والتفسير: د / فاروق حمادة.(1/240)
29) المدخل لدراسة القرآن الكريم: محمد محمد أبو شهبة.
30) المرشد الوافي في علوم القرآن: د / محمود بسيوني فودة.
31) المنار في علوم القرآن: د / محمد علي الحسن.
32) مناهل العرفان في علوم القرآن: محمد بن عبد العظيم الزرقاني ت (1367هـ).
33) من علوم القرآن: د / عبد الفتاح القاضي.
34) من علوم القرآن: د / فؤاد علي رضا.
35) منهج الفرقان في علوم القرآن: محمد بن علي سلامة ت (1362هـ).
36) يتيمية البيان في شيء من علوم القرآن: محمد يوسف البنوري.
ثانيا: المؤلفات الموضوعية:
فرق بين المؤلفات الموضوعية عند الأقدمين عنه عند المتأخرين، فالأقدمون كان اهتمامهم منصب إلى الموضوعات التي تخدم كتاب الله، وتيسر سبل فهمه، وتلك التي تهتم بتاريخ القرآن، فكانت ألصق بمصطلح علوم القرآن الذي أطلقناه من قبل بمفهومه الخاص، بخلاف المتأخرين الذين وجهوا اهتمامهم إلى الموضوعات والدراسات القرآنية التي تتعلق بالنص القرآني، فقد لقيت هذه الموضوعات منهم عناية خاصة في هذه المرحلة، وكان حظها من التأليف أفضل من غيرها، ولعل سبب ذلك يعود إلى ما
ذكرنا من قبل من توجه المتأخرين إلى البحوث التخصصية الدقيقة التي تفي بحاجة العصر، فتوضح المشكل، وتقرب البعيد، ولعل آخر هذه البحوث التي وقعت في يدي ما كتبه الدكتور الفاضل عبد العزيز القارئ حول «حديث الأحرف السبعة»، وما كتبه أستاذي الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشائع عن «أسباب اختلاف المفسرين»، وما كتبه الشيخ مساعد بن سليمان الطيار بعنوان «فصول في أصول التفسير».(1/241)
فرق بين المؤلفات الموضوعية عند الأقدمين عنه عند المتأخرين، فالأقدمون كان اهتمامهم منصب إلى الموضوعات التي تخدم كتاب الله، وتيسر سبل فهمه، وتلك التي تهتم بتاريخ القرآن، فكانت ألصق بمصطلح علوم القرآن الذي أطلقناه من قبل بمفهومه الخاص، بخلاف المتأخرين الذين وجهوا اهتمامهم إلى الموضوعات والدراسات القرآنية التي تتعلق بالنص القرآني، فقد لقيت هذه الموضوعات منهم عناية خاصة في هذه المرحلة، وكان حظها من التأليف أفضل من غيرها، ولعل سبب ذلك يعود إلى ما
ذكرنا من قبل من توجه المتأخرين إلى البحوث التخصصية الدقيقة التي تفي بحاجة العصر، فتوضح المشكل، وتقرب البعيد، ولعل آخر هذه البحوث التي وقعت في يدي ما كتبه الدكتور الفاضل عبد العزيز القارئ حول «حديث الأحرف السبعة»، وما كتبه أستاذي الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشائع عن «أسباب اختلاف المفسرين»، وما كتبه الشيخ مساعد بن سليمان الطيار بعنوان «فصول في أصول التفسير».
إضافة إلى أن الجامعات ودور العلم في الفترة الأخيرة من العصر الحديث يسرت الدراسة في أقسام الدراسات العليا بكلياتها أكثر من ذي قبل، والتحق طلبة العلم بالتخصصات الدقيقة في علوم القرآن والتفسير، وقدمت البحوث التخصصية التي هي من متطلبات الحصول على الدرجات العلمية، تحت إشراف نخبة من أهل العلم، فظهرت بحوث قيّمة هنا وهناك، وظهر ثلة من الباحثين المتخصصين الذين قدموا بحوثا جليلة غيرت كثيرا من المفاهيم السائدة والخاطئة، واشتهرت تلك الرسائل حتى أخذت مكانها بين أمهات الكتب، وإن كان أغلبها قد بقي مخطوطا.
ومن الرسائل التي اشتهرت، «دستور الأخلاق في القرآن» للأستاذ القدير محمد عبد الله دراز رحمه الله، وكتاب «اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر» و «منهج المدرسة العقلية في التفسير» وكلاهما لفضيلة الدكتور / فهد بن عبد الرحمن الرومي يحفظه الله، و «مدرسة التفسير في
الأندلس» للأستاذ مصطفى إبراهيم المشني، و «ابن جزي الكلبي ومنهجه في التفسير» للأستاذ علي بن محمد الزبيري. وغيرها.(1/242)
ومن الرسائل التي اشتهرت، «دستور الأخلاق في القرآن» للأستاذ القدير محمد عبد الله دراز رحمه الله، وكتاب «اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر» و «منهج المدرسة العقلية في التفسير» وكلاهما لفضيلة الدكتور / فهد بن عبد الرحمن الرومي يحفظه الله، و «مدرسة التفسير في
الأندلس» للأستاذ مصطفى إبراهيم المشني، و «ابن جزي الكلبي ومنهجه في التفسير» للأستاذ علي بن محمد الزبيري. وغيرها.
هذا والمؤلفات الموضوعية التي طبعت كثيرة، وأكثر منها تلك التي بقيت حبيسة الرفوف في الجامعات فلم تجد طريقها إلى النشر، وسأذكر هنا نماذج منها:
1) اتجاهات التفسير في العصر الراهن: د / عبد المجيد المحتسب.
2) اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر: د / فهد الرومي.
3) الأحرف السبعة في القرآن الكريم: د / حسن ضياء الدين عتر.
4) أسباب اختلاف المفسرين: د / محمد بن عبد الرحمن الشائع.
5) أسباب النزول وأثرها في التفسير: الشيخ عصام عبد المحسن الحميدان.
6) استخراج الجدل في القرآن: د / زاهر عواض الألمعي.
7) الإعجاز العددي للقرآن الكريم: د / عبد الرزاق نوفل.
8) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: مصطفى صادق الرافعي ت (1356هـ).
9) الإعجاز النحوي في القرآن الكريم: د / فتحي الدجني.
10) إعراب القرآن الكريم: محيي الدين درويش.(1/243)
11) أمثال القرآن وأثرها في الأدب العربي إلى نهاية القرن الثالث الهجري: نور الحق تنوير.
12) الأمثال القرآنية دراسة وتحليل وتصنيف ورسم لأصولها وقواعدها ومناهجها: عبد الرحمن حبنكة الميداني.
13) بلاغة القرآن: محمد الخضر حسين.
14) تاريخ القرآن: إبراهيم الأبياري.
15) التجويد الميسر: عبد العزيز عبد الفتاح القارئ.
16) حديث نزول القرآن على سبعة أحرف: د / عبد العزيز القارئ.
17) التفصيل والبيان عن تفصيل آي القرآن: محمد زكي صالح.
18) التصوير الفني في القرآن: سيد قطب ت (1385هـ).
19) جواهر البيان في تناسب سور القرآن: عبد الله محمد صديق الغماري.
20) دراسات في أسلوب القرآن الكريم: محمد عبد الخالق عظيمة ت (1403هـ).
21) دراسات الإحكام والنسخ في القرآن الكريم: محمد حمزة.
22) الرأي الصواب في منسوخ الكتاب: جواد موسى محمد عفانة.
23) رسم المصحف، دراسة لغوية وتقويمية: غانم قدوري.(1/244)
24) الفروق اللغوية وأثرها في التفسير: د / محمد بن عبد الرحمن الشائع.
25) في إعجاز القرآن، دراسة تحليلية لسورة الأنفال (المحتوى والبناء): د / أحمد مختار البزرة.
26) القصص القرآني: عماد زهير حافظ.
27) قصة التفسير: د / أحمد الشرباصي.
28) اللامات في القرآن: عبد الهادي الفضلي.
29) مباحث في إعجاز القرآن: د / مصطفى مسلم محمد.
30) متشابه القرآن دراسة موضوعية: عدنان زرزور.
31) المشاهد في القرآن الكريم: د / حامد صادق قنيبي.
32) مشاهد القيامة في القرآن: سيد قطب ت (1385هـ).
33) المعجزة القرآنية: محمد العفيفي.
34) مناهج المفسرين من العصر الأول إلى العصر الراهن: د / محمد النقراشي السيد علي.
35) نزول القرآن على سبعة أحرف: للشيخ مناع القطان.
36) النسخ في القرآن الكريم دراسة تشريعية تاريخية نقدية: د مصطفى زيد.(1/245)
37) النسخ في القرآن الكريم مفهومه تاريخه دعاواه: د / محمد صالح.
38) الوجوه والأشباه والنظائر في القرآن الكريم (دراسة موازنة):
د / سليمان حمد القرعاوي.
أما الرسائل الجامعية التي لم تطبع فيما أعلم فهي كثيرة، أذكر منها بعض العناوين المسجلة في جامعات المملكة:
1) آيات البعث في القرآن الكريم: عبد العزيز بن راجي الصاعدي، جامعة أم القرى كلية الشريعة والدراسات الإسلامية الدراسات العليا الشرعية رسالة ماجستير 1397هـ.
2) آيات العتاب في القرآن الكريم، دراسة تحليلية موضوعية: نورة محمد الجليل الرئاسة العامة لتعليم البنات الآداب للبنات بالرياض الدراسات الإسلامية رسالة ماجستير 1408هـ.
3) اختلاف المفسرين: أسبابه وآثاره: سعود عبد الله الفنيسان جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كلية أصول الدين رسالة دكتوراة 1402هـ.
4) اختلاف التنوع والتضاد في تفسير السلف: عبد الله بن عبد الله الأهدل، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كلية أصول الدين رسالة دكتوراة 1408هـ.(1/246)
5) أصول التفسير بين شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المفسرين:
عبد الله ديرية أبتدون الجامعة الإسلامية الدراسات العليا التفسير رسالة ماجستير 1403هـ.
6) الإمام الدهلوي، منهجه في التفسير وآراؤه في مباحث من علوم القرآن: خليل الرحمن سجاد الجامعة الإسلامية الدراسات العليا التفسير رسالة ماجستير 1402هـ.
7) أمثال القرآن: منصور بن عون العبدلي، جامعة أم القرى، رسالة ماجستير، 1394هـ.
8) تاريخ علوم القرآن حتى نهاية القرن الخامس الهجري: أحسن بن سخاء محمد أشرف الدين الجامعة الإسلامية الدراسات العليا التفسير رسالة ماجستير 1405هـ.
9) تفاسير آيات الأحكام ومناهجها: علي بن سليمان العبيد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كلية أصول الدين رسالة دكتوراة 1407هـ.
10) التفسير بالرأي، ما له وما عليه: أحمد بن عمر بن عبد الله الجامعة الإسلامية الدراسات العليا التفسير رسالة ماجستير 1401هـ.
11) التفسير بين الرأي والأثر: محمد حلمي أبو غزالة جامعة أم
القرى كلية الشريعة والدراسات الإسلامية الدراسات العليا الشرعية ماجستير، 1398هـ.(1/247)
11) التفسير بين الرأي والأثر: محمد حلمي أبو غزالة جامعة أم
القرى كلية الشريعة والدراسات الإسلامية الدراسات العليا الشرعية ماجستير، 1398هـ.
12) التفسير في عهد الصحابة، مصادره ومزاياه: ناصر بن محمد الحميد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كلية أصول الدين رسالة ماجستير 1399هـ.
13) التفسير في القرن الأول الهجري: فائقة إدريس عبد الله جامعة أم القرى كلية الشريعة والدراسات الإسلامية الدراسات العليا الشرعية رسالة ماجستير 1404هـ.
14) دراسة تقويمية لكتاب مناهل العرفان للزرقاني: خالد بن عثمان السبت، الجامعة الإسلامية، رسالة ماجستير 1411هـ.
15) فواتح السور في القرآن الكريم: فاروق حسين محمد أمين الجامعة الإسلامية الدراسات العليا التفسير رسالة ماجستير 1403هـ.
16) قواعد الترجيح عند المفسرين: حسين بن علي الحربي كلية أصول الدين جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كلية أصول الدين رسالة ماجستير 1416هـ.
17) المدرسة الأندلسية في التفسير: زيد عمر عبد الله جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كلية أصول الدين رسالة دكتوراة 1404هـ.(1/248)
18) الوقف وأثره في التفسير: مساعد بن سليمان الطيار جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كلية أصول الدين رسالة ماجستير 1414هـ.(1/249)
الباب الثاني مقدمات التفاسير
1 - تفسير القرآن العزيز: لعبد الرزاق بن همام بن نافع الصنعاني ت (211هـ)
2 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن: لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ت (310هـ)
3 - تفسير القرآن العظيم: لأبي الليث نصر بن محمد السمرقندي ت (373هـ)
4 - النكت والعيون في تأويل القرآن الكريم: لأبي الحسن علي بن حبيب الماوردي ت (450هـ)
5 - الوسيط في تفسير القرآن المجيد: لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي ت (468هـ)
6 - معالم التنزيل: لمحيي السنة أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي ت (516هـ)
7 - المحرر الوجيز في تفسير كتاب الله العزيز: لأبي محمد عبد الحق بن عطية ت (546هـ)
8 - زاد المسير في علم التفسير: لأبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي الجوزي ت (597هـ)
9 - الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان: لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الخزرجي القرطبي الأندلسي ت (671هـ)
10 - تسهيل السبيل لعلوم التنزيل: لمحمد بن أحمد بن محمد بن جزيّ الكلبي ت (741هـ)
11 - لباب التأويل في معاني التنزيل: لأبي الحسن علاء الدين علي بن محمد الشيحي البغدادي المعروف بالخازن ت (741هـ)
12 - البحر المحيط في التفسير: لأبي عبد الله محمد بن يوسف بن علي بن حيان الغرناطي الشهير بأبي حيان ت (745هـ)
13 - تفسير القرآن العظيم: للحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير ت (774هـ)(1/251)
1 - تفسير القرآن العزيز لعبد الرزاق بن همام بن نافع الصنعاني المتوفى سنة (211هـ)
أولا: التعريف بالمؤلف:
مؤلف هذا التفسير هو الإمام الحافظ أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الصنعاني المولود سنة ست وعشرين ومائة للهجرة (126هـ) (1).
ولد المصنف في أسرة علم وفضل وصلاح، وتربى في حجر أبيه الذي أولاه الرعاية والاهتمام، وقد كان والده من أهل العلم، يروي الحديث عن سالم بن عبد الله (2) وغيره (3)، فنشأ عبد الرزاق نشأة سليمة، وانكب على الدرس والمطالعة، وصرف الوقت في طلب العلم، وارتحل لذلك فطاف الحجاز والشام والعراق (4)، حتى تصدر المجالس، ولقي الكبار، وأخذ عن
__________
(1) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي: 9/ 563ووفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 216.
(2) هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، كان من خيار الناس وفقهائهم، توفي بالمدينة سنة (106هـ). انظر: المعارف لابن قتيبة: 186وسير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 475.
(3) انظر المعارف لابن قتيبة 226.
(4) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي 9/ 564.(1/252)
المشاهير، فحفظ نحوا من سبعة عشر ألف حديث (1).
وثّقه غير واحد من الأئمة، وحديثه مخرّج في الصحاح (2)، ونعته الذهبي بالحافظ الكبير وعالم اليمن (3)، وقد شهد المشاهير بعلمه وأشادوا بحفظه وعلو منزلته، فعن علي بن المديني قال: قال لي هشام بن يوسف (4):
كان عبد الرزاق أعلمنا وأحفظنا. (5)
وقال شيخ عبد الرزاق معمر بن راشد، وهو أكثر من روى عبد الرزاق الحديث عنه، قال: أما عبد الرزاق فإن عاش فخليق أن تضرب إليه أكباد الإبل.
قال ابن السري: فو الله لقد أتعبها. (6)
شيوخه وتلاميذه:
أكثر عبد الرزاق الحديث عن معمر بن راشد، وهو شيخه في أغلب ما يرويه في تفسيره، كما حدّث عن عبيد الله بن عمر وعن أخيه عبد الله،
__________
(1) انظر تهذيب التهذيب لابن حجر 6/ 314.
(2) انظر تذكرة الحفاظ للذهبي 1/ 364.
(3) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي 9/ 563.
(4) هو هشام بن يوسف الصنعاني، من أقران عبد الرزاق، ثقة متقن، توفي سنة (197هـ).
انظر: تهذيب الكمال للمزي: 30/ 265وسير أعلام النبلاء للذهبي: 9/ 580.
(5) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي: 9/ 566.
(6) انظر تهذيب التهذيب لابن حجر 6/ 311.(1/253)
وعن هشام بن حسان (1)، وابن جريج، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وغيرهم من كبار التابعين. أما تلامذته، فقد صدق معمر حين قال:
ستضرب إليه أكباد الإبل.
وقد عمّر عبد الرزاق طويلا، وذاع صيته، وعلم الناس فضله وعلمه وكثرة تحمله، فشدوا إليه الرحال، وأقبلوا عليه من كل حدب وصوب، وكان منهم الأئمة المعتبرون كالإمام أحمد بن حنبل، وابن راهويه (2)، وابن معين (3)، وعلي بن المديني، وغيرهم، كما حدّث عنه شيخه سفيان بن عيينة. (4)
__________
(1) هو هشام بن حسان الأزدي، إمام حافظ محدث، قيل: رأى أنس بن مالك، كان من البكائين، توفي سنة (146هـ). انظر: طبقات خليفة: 219وسير أعلام النبلاء للذهبي:
6/ 355.
(2) هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد المروزي، الملقب بابن راهويه: أي المولود في الطريق.
إمام كبير، وشيخ المشرق في عصره، وسيد الحفاظ، توفي سنة (237هـ). انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 1/ 199وسير أعلام النبلاء للذهبي: 11/ 358.
(3) هو يحيى بن معين بن عون الغطفاني، إمام في الحديث، ثقة مأمون، له الكنى والأسماء، توفي سنة (233هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 11/ 71تاريخ بغداد للخطيب:
14/ 177.
(4) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 9/ 564، ووفيات الأعيان لابن خلكان 3/ 216.(1/254)
مؤلفاته:
ذكر العلماء أن عبد الرزاق صنف كثيرا، وأن من أشهر ما صنفه:
«تفسير القرآن العزيز» و «المصنف الكبير» وهو «الجامع الكبير» و «السنن» في الفقه و «المغازي» و «الأمالي في آثار الصحابة» (1).
وفاته:
فقد الحافظ الكبير بصره بعد المائتين للهجرة، وتوفي في منتصف شوال سنة إحدى عشرة ومائتين (211هـ) عن عمر يناهز الخامسة والثمانية باليمن، رحمه الله تعالى (2).
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة:
يمثل هذا التفسير نموذجا فريدا بين أيدينا من تفاسير القرن الثاني للهجرة، يعطي صورة واضحة عن لون التفسير السائد في ذلك العصر وهو
__________
(1) انظر كشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 452وهدية العارفين لإسماعيل باشا: 5/ 566 ومعجم المؤلفين لرضا كحالة: 5/ 219وتاريخ التراث العربي لسزكين: 1/ 144.
(2) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي: 9/ 580ووفيات الاعيان لابن خلكان: 3/ 217.
وينظر للمزيد في ترجمته: البداية والنهاية لابن كثير: 10/ 256وتذكرة الحفاظ للذهبي:
1/ 364وسير أعلام النبلاء للذهبي: 9/ 563وشذرات الذهب لابن عماد الحنبلي:
2/ 27وطبقات الحنابلة لأبي يعلى: 152وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 302 والفهرست لابن النديم: 228وميزان الاعتدال للذهبي: 2/ 609والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي: 2/ 202ووفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 216.(1/255)
التفسير بالأثر المجرد عن الرأي، إذ ليس فيه إلا ما هو مروي عن رسول صلى الله عليه وسلم أو مسند إلى الصحابة والتابعين وتابعيهم، فهو من أقدم نصوص التفسير المسندة، ومصنفها متقدم على ابن جرير المتوفى سنة (311هـ) بقرن كامل، فهو من أوثق ما وصل إلينا من غير تحريف ولا تبديل (1).
تتبع المصنف أقوال السلف في المعاني وأسباب النزول، ورواها بأسانيدها مرتبة حسب ترتيب المصحف، وبالرغم من محاولة المصنف تجنب رواية الإسرائيليات، وخاصة ما تعلق منها بعصمة الأنبياء، أو تتنافى مع العقيدة، وظاهر نصوص الشريعة، إلا أنه ذكر بعض الروايات الساقطة التي رواها القوم (2).
وقد قدم المصنف لتفسيره مقدمة موجزة ذكر فيها شيئا من المروي في علوم القرآن، فهو بهذا يعد رائد هذا النهج، وأول من قدم للتفسير بعلوم القرآن.
وقد كان هذا التفسير إلى عهد قريب مخطوطا حبيس المكتبات، طبع عليها الزمن آثاره، فوجد مبتورا من أوله، مصابا بالرطوبة في مواطن كثيرة منه، خاصة في بداياته، حتى قيّض الله له من ينفض عنه غبار الأيام، ويخرجه للنور للمرة الأولى، فجزى الله القائمين على إحياء التراث خير
__________
(1) انظر تفسير القرآن لعبد الرزاق الصنعاني، مقدمة تحقيق الدكتور مصطفى مسلم: 1/ 5.
(2) انظر: المصدر السابق: 1/ 32.(1/256)
الجزاء، وأجزل لهم المثوبة والأجر.
وحين صنفت التفاسير المرشحة للدراسة في هذا البحث جاء تفسير عبد الرزاق أول تفسير يحتوي مقدمة في علوم القرآن من حيث الترتيب الزمني للمؤلف، وحين عدت إلى التفسير بتحقيق الدكتور مصطفى مسلم وجدته يحفظه الله يذكر أن النسختين الوحيدتين للكتاب فيهما نقص من أولهما، مما اضطره الرجوع إلى تفسير الطبري والدر المنثور ليسد النقص بنقل الروايات الثابتة فيها عن عبد الرزاق، حتى استخرج منها ما يتعلق بتفسير سورة الفاتحة والقسم المحذوف من سورة البقرة، (1) وتمنيت لو أن فضيلته أثبت شيئا من المقدمة، فالروايات التي جاءت فيها هي الأخرى على الراجح مبثوثة في الطبري والدر المنثور وغيرهما من كتب الأثر وعلوم القرآن، ثم صدرت طبعة أخرى للتفسير نفسه بتحقيق الدكتور عبد المعطي قلعجي يحفظه الله فوجدت المحقق استطاع أن يثبت شيئا من تلك المقدمة التي لم يعثر عليها الدكتور مصطفى.
وقد جاءت مقدمة عبد الرزاق موجزة في أربع صفحات، روى المصنف فيها بعض الآثار حول علوم القرآن بأسانيدها، دون أن يعلق عليها، وهي طريقته في التفسير كله، ومجموع ما أورده المصنف تسعة آثار، الأول منها حول جمع القرآن، ويحمل العنوان نفسه، وهي مقدمة مستقلة،
__________
(1) انظر: المصدر السابق: 1/ 35.(1/257)
أما المقدمة الأخرى فتحمل عنوان ما جاء فيمن قال في القرآن برأيه وهذا العنوان هو من إطلاق المصنف كما يظهر من الصفحة الأولى من المخطوط، بخلاف العنوان الأول فغير مقروء وقد يكون من عمل المحقق.
والآثار الأخيرة أوردها المحقق مبتورة لصعوبة قراءة بعضها، ولآثار الرطوبة التي أتلفت بعضها الآخر، والكلمات المبتورة ليست كثيرة، وأظن أنه كان من الممكن إثباتها لو تتبع المحقق ذلك في كتب التفسير، والله أعلم.
ولم تطبع المقدمة إلا هذه الطبعة، التي صدرت عن دار المعرفة ببيروت عام 1411هـ، وهي متأخرة عن تحقيق الدكتور مصطفى مسلم للتفسير الذي ظهر عام (1410هـ) عن دار الرشد بالرياض، غير أن طبعة الدكتور مصطفى خالية من المقدمة.
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة:
ذكر المصنف في الرواية الأولى التي افتتح بها تفسيره جمع المصحف الذي تم على يد زيد بن ثابت، بأمر أبي بكر الصديق بناء على رأي من عمر رضي الله عنهم أجمعين وهو الجمع الأول لكتاب الله.
أعقب ذلك بباب مستقل عن القول في القرآن بالرأي، والتحذير الشديد الوارد في ذلك، ثم بين أن التفسير على أربعة وجوه على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما. بعدها روى أثرا في المعاني التي نزل القرآن عليها، ثم تاريخ نزول القرآن والكتب السابقة، بعدها نزول القرآن جملة
واحدة ليلة القدر، ثم نزوله منجّما على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/258)
أعقب ذلك بباب مستقل عن القول في القرآن بالرأي، والتحذير الشديد الوارد في ذلك، ثم بين أن التفسير على أربعة وجوه على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما. بعدها روى أثرا في المعاني التي نزل القرآن عليها، ثم تاريخ نزول القرآن والكتب السابقة، بعدها نزول القرآن جملة
واحدة ليلة القدر، ثم نزوله منجّما على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعا: منهج عبد الرزاق في مقدمته:
منهج عبد الرزاق في مقدمته أنه يسرد الروايات بسندها في المعنى الذي أراده دون أي تعقيب أو بيان، مكتفيا برواية واحدة في كل مسألة تعرض له.(1/259)
2 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ت (310هـ)
أولا: التعريف بالمؤلف:
مؤلف هذا التفسير هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي الطبري، أبو جعفر (1).
ولد المفسر بآمل طبرستان (2) سنة أربع وعشرين ومائتين، وقيل: خمس وعشرين (3)، واستوطن بغداد إلى حين وفاته بها (4)، يتردد على موطنه بين فترة وأخرى.
__________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 14/ 267ومعجم الأدباء لياقوت: 18/ 40 وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 110.
(2) هي من أكبر مدن طبرستان تقع في السهل، خرج منها كثير من العلماء غير أنهم ينسبون إلى طبرستان فيقال الطبري. انظر: معجم البلدان لياقوت: 1/ 75.
(3) سئل ابن جرير عن الخلاف الذي في مولده فقال: لأن أهل بلدنا يؤرخون بالأحداث دون السنين، فأرخ مولدي بحدث كان في البلد، فلما نشأت سألت عن ذلك الحادث فاختلف المخبرون لي فقال بعضهم: كان ذلك في آخر سنة أربع، وقال آخرون: بل كان أول سنة خمس وعشرين ومائتين. اهـ انظر: معجم الأدباء لياقوت: 18/ 48.
(4) انظر: معجم الأدباء لياقوت: 18/ 40وسير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 267 وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 110.(1/260)
عاش ابن جرير حياته في عائلة ميسورة، ونشأ وترعرع في كنف والده الذي دفعه إلى التعليم منذ الصغر، ويسر له أسباب التلقي، فما كاد يبلغ سن الجلوس إلى أهل العلم حتى رأته أزقّة آمل متأبطا دواته وقرطاسه، ملتحقا بالكتاب ومتنقلا من شيخ إلى آخر، ومن حلقة إلى أخرى، فحفظ كتاب الله وله سبع سنين، وصلى بالناس وهو ابن ثمان، وكتب الحديث وهو ابن تسع (1)، حتى إذا اشتد عوده، وفاق أقرانه، واعترفوا بتفوقه وأظهر الشيوخ إعجابهم به، لبّى الأب طلب ولده ورغبته في الترحال لطلب العلم، وتوجه أولى وجهته إلى دار السلام، وأنّى للأب أن لا يبارك الرحلة وهو الذي رأى ولده بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه مخلاة مملوءة حجارة، وهو يرمي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. الرؤيا التي عبرت بأن الولد إذا كبر نصح في دينه، وذبّ عن شريعته، يقول ابن جرير: فحرص أبي على معونتي على طلب العلم، وأنا حينئذ صبي صغير (2).
ويكثر ابن جرير من الترحال، ويلتقي نبلاء الرجال، فيقرأ القرآن، ويسمع الحديث في العراق والشام ومصر والمغرب العربي حتى غدا بفضل الله أحد الأئمة الأعلام، يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله. ولم يضنّ رحمه الله علينا بسيرته وأخباره، فطالما حدّث الرجل تلامذته وطلبته
__________
(1) انظر: معجم الأدباء لياقوت: 18/ 49.
(2) انظر: معجم الأدباء لياقوت: 18/ 49.(1/261)
عن طفولته ونشأته وطلبه للعلم.
جمع علوما كثيرة، فإضافة إلى حفظ كتاب الله عرف القراءات القرآنية، واجتهد في الفقه فكان عالما بأحكام القرآن، بصيرا بمعانيه، عالما بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين (1)، حتى تفرد بمسائل حفظت له (2) وعدّه السيوطي رأس المفسرين على الإطلاق (3) ولقّبه المتأخرون بشيخ المفسرين.
شهد له البغدادي بأنه جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره (4)، ووثقه الذهبي وعده حافظا رأسا في التفسير، إماما في الفقه والإجماع والاختلاف، علّامة بالتاريخ وأيام الناس، عارفا بالقراءات وباللغة وغير ذلك. (5)
وكان ابن جرير شافعيا ثم انفرد بمذهب مستقل، وله أقاويل واختيارات، حين ملك أدوات الاجتهاد، واحتج لمذهبه، وله أتباع
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد للخطيب 2/ 163وسير أعلام النبلاء للذهبي 14/ 269.
(2) انظر: معرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 264طبقات المفسرين للداودي 2/ 110.
(3) انظر: طبقات المفسرين للسيوطي: 82.
(4) انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 2/ 162.
(5) ومنها العروض والحساب والطب، انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 270.(1/262)
ومقلّدون. (1)
وقد جمع ابن جرير إلى علمه ونبوغه الزهد والقناعة، والشجاعة والورع، وعفة النفس، والترفع عن الطلب، لا تأخذه في الله لومة لائم مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد (2).
وكتب التراجم تزخر بكم هائل من أخباره في هذا الشأو، ولعل في إيراد شيء من شعره الرائق إظهار لبعض تلك المعاني، روي أن ابن جرير أنشد لنفسه:
إذا أعسرت لم يعلم رفيقي ... وأستغني فيستغني صديقي
حيائي حافظ لي ماء وجهي ... ورفقي في مطالبتي رفيقي
ولو أني سمحت ببذل ماء وجهي ... لكنت إلى العلى سهل الطريق
وله أيضا:
خلقان لا أرضى فعالهما ... بطر الغنى ومذلّة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطرا ... وإذا افتقرت فته على الدهر (3)
__________
(1) انظر: طبقات المفسرين للسيوطي: 82.
(2) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 274وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 118.
(3) انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 2/ 165وسير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 276 ومعجم الأدباء لياقوت: 18/ 43.(1/263)
تهمة وتحقيق:
اتهم ابن جرير بموالاة الشيعة، وبمناصرة مذهبهم الفاسد، يقول أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي، وأصله من آمل، وكان يزعم أن أبا جعفر الطبري خاله:
بآمل مولدي وبنو جرير ... فأخوالي ويحكي المرء خاله
فها أنا رافضيّ عن تراث ... وغيري رافضي عن كلاله (1)
وقد ذكر الذهبي (2) في الميزان أن فيه تشيّعا يسيرا، وموالاة لا تضر، وقال:
أقذع أحمد بن علي السليماني الحافظ (3) فقال: كان يضع للروافض. كذا قال السليماني! وهذا رجم بالظن الكاذب، بل ابن جرير من كبار أئمة الإسلام والمعتمدين، وما ندعي عصمته من الخطأ، ولا يحل لنا أن نؤذيه بالباطل والهوى، فإن كلام العلماء بعضهم في بعض ينبغي أن يتأنّى فيه ولا سيما في مثل إمام كبير، فلعل السليماني أراد الآتي [يزيد محمد بن جرير بن رستم
__________
(1) انظر: معجم البلدان لياقوت: 1/ 57.
(2) هو محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني، أبو عبد الله الذهبي، إمام محدث حافظ، من كبار المصنفين في الرجال، له ميزان الاعتدال، وسير أعلام النبلاء، توفي (748هـ). انظر:
فوات الوفيات للكتبي: 3/ 315والدرر الكامنة لابن حجر: 3/ 336.
(3) هو أحمد بن علي بن عمرو السليماني البخاري، الإمام الحافظ، محدث ما وراء النهر، صاحب التصانيف الكبار، عمر طويلا وتوفي (404هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 200وطبقات السبكي: 4/ 41.(1/264)
الطبري الرافضي] (1) (2)
قال الحافظ ابن حجر: ولو حلفت أن السليماني ما أراد إلا الآتي لبررت. (3)
ولا شك أن ابن جرير المفسر قد اتّهم بالتشيع في حياته حتى إنه دفن بالليل خوفا من العامة لهذه التهمة (4).
والذي أراه أن الأمر كان مجرد اتهام لا صلة له بالواقع، فابن جرير كما ذكر الذهبي من كبار أئمة الإسلام المعتمدين، غير أن الآثار والأحاديث التي رواها والتي تظهر مكانة آل البيت، وتحث على وجوب حبهم والثناء عليهم وهي كثيرة وما أملاه من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهي كلها حق، ظن البعض أن ذلك ميل منه يرحمه الله إلى التشيع، والبون شاسع بين حب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين جاء الأمر بالصلاة عليهم مقرونين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين التشيع مذهبا عقديا
__________
(1) هو محمد بن جرير بن رستم الطبري الرافضي، صنف كتبا كثيرة في ضلالات الرافضة، له الرّواة عن أهل البيت. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 282وطبقات أعلام الشيعة: 250.
(2) انظر ميزان الاعتدال للذهبي: 3/ 499.
(3) انظر: لسان الميزان لابن حجر: 5/ 100.
(4) انظر: معجم الأدباء لياقوت: 18/ 40.(1/265)
وفكرا منحرفا فاسدا.
والتهمة كما قال الذهبي رجم بالظن الكاذب، فابن جرير لم يترك آمل بعد أن عاد إليها عالما لا يشق له غبار إلا لما رأى من الرفض قد ظهر، وسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهلها قد انتشر، فانبرى لهم، وقام يملي فضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وهو خير دليل على دفع التهمة عنه يرحمه الله.
وحين سمع السلطان بما يمليه كره ذلك، وأرسل في طلبه يريد أن يؤذيه، فخرج من آمل مختفيا لم يشعر به أحد. (1)
شيوخه وتلامذته:
كانت همة ابن جرير في طلب العلم عالية، فتلقى العلم عن كثير من أعيان علماء عصره في المشرق والمغرب، الذين أتاح له الترحال اللقاء بهم، حتى ارتوى من موردهم العذب الزلال، وهم كثير ذكر منهم الذهبي ما يربو على الخمسين، وذكر غيره غيرهم، وأذكر منهم الشيخ يونس بن عبد الأعلى (2) والشيخ محمد بن حميد الرازي (3)، والشيخ سفيان بن
__________
(1) انظر: معجم الأدباء لياقوت: 18/ 40.
(2) هو يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة بن حفص الصدفي، شيخ الإسلام، ثقة مقرئ حافظ، توفي (264هـ). انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 7/ 249وسير أعلام النبلاء للذهبي: 12/ 348
(3) هو محمد بن حميد بن حيان الرازي، إمام علامة حافظ، قال الذهبي: وهو رغم إمامته(1/266)
وكيع (1)، وخلق كثير غيرهم من علماء الشام ومصر والعراق والمغرب (2).
ومن تلامذته الذين تلقوا العلم عنه: ابن مجاهد، وأبو القاسم الطبراني (3)، ومحمد بن أحمد الداجوني، وآخرون (4).
مصنفاته:
ذكر الخطيب في تاريخه أن محمد بن جرير الطبري مكث أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة، (5) وهو خبر فيه مبالغة ظاهرة غير أنه يدل على عظيم ما صنفه ابن جرير، فالذي وصل إلينا من مصنفاته تؤكد أن
__________
منكر الحديث صاحب عجائب، وقال النسائي: ليس بثقة. توفي (248هـ). انظر:
تاريخ بغداد للخطيب: 2/ 259وسير أعلام النبلاء للذهبي: 11/ 503.
(1) هو سفيان بن وكيع بن الجراح الكوفي الحافظ، محدث الكوفة، كان أحد أوعية العلم، لحقه لين، توفي (247هـ) انظر: طبقات الحنابلة لأبي يعلى: 1/ 170سير أعلام النبلاء للذهبي: 12/ 152.
(2) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 368وإنباه الرواة للقفطي: 3/ 89ومعجم الأدباء لياقوت: 18/ 41وطبقات المفسرين للسيوطي: 82وللداودي: 2/ 117.
(3) هو سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني، إمام، حافظ ثقة، محدث، سمع من ألف شيخ ويزيدون، وعنه خلق كثير، له تصانيف منها المعجم الكبير، توفي (360هـ).
انظر: ذكر أخبار أصبهان لأبي نعيم: 1/ 335والمنتظم لابن الجوزي: 7/ 54وسير أعلام النبلاء للذهبي: 16/ 119.
(4) انظر المراجع السابقة.
(5) انظر تاريخ بغداد للخطيب: 2/ 163وسير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 272.(1/267)
الرجل كان عالما كاتبا، شغوفا بالعلم، لا يترك علما يمكنه تحصيله إلا سعى له، وأعد له العدة، حدّث عن نفسه: أن رجلا جاءه يسأله عن شيء في علم العروض ولم يكن قد نشط في هذا العلم فقال: إذا كان غدا تعال إليّ. قال:
وطلبت سفر العروض للخليل، فجاءوني به، فاستوعبته في ليلة واحدة، فأمسيت غير عروضي، وأصبحت عروضيا. (1)
والناظر في مصنفات ابن جرير، إن أراد الفقه قال: هو فقيه فحسب، وإن أراد التفسير قال: هو رائد التفسير وفارسه بلا منازع. وإن أراد النحو والبلاغة والفصاحة قال: هو لغوي لا يحسن غيره. وكذا في القراءات والأحكام والحديث.
وإضافة إلى تفسيره الذائع الشهرة فقد صنف ابن جرير الآتي:
1) أخبار الملوك والأمم، مصنف في التاريخ مطبوع متداول، تؤكد كل صفحة منه إلمام المصنف بتاريخ العالم وأيام الناس.
2) تهذيب الآثار، قال الخطيب: لم أر سواه في معناه لكن لم يتمه (2).
وقال الفرغاني أبو محمد (3): هو من عجائب كتبه لكنه مات قبل تمامه (4).
__________
(1) انظر: معجم الأدباء لياقوت: 18/ 56.
(2) انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 2/ 163.
(3) هو عبد الله بن أحمد بن جعفر خذيان الفرغاني، عالم وثقه ابن سرور، له التاريخ المذيل على تاريخ ابن جرير، توفي (362هـ). انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 9/ 389وسير أعلام النبلاء للذهبي: 16/ 132.
(4) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 273.(1/268)
3) تاريخ الرجال، من الصحابة والتابعين وإلى شيوخه الذين لقيهم.
4) لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام، قال الفرغاني: هو مذهبه الذي اختاره وجوّده، واحتج له، وهو في ثلاثة وثمانين كتابا (1).
5) القراءات والتنزيل والعدد.
6) الخفيف في أحكام شرائع الإسلام، وهو مختصر.
7) التبصرة، وهي رسالة إلى أهل طبرستان يشرح فيها ما وقع بين أهل طبرستان من الخلاف، وفي مذاهب أهل البدع. (2)
8) اختلاف علماء الأمصار، وهو مطبوع.
وغيرها من المؤلفات التي ذكرها الحموي في معجمه (3).
وقد تجلت شخصية ابن جرير في مؤلفاته واضحة بارزة، عكست بوضوح مدى ما وصل إليه من تحصيل العلوم، وقوة الحفظ والاستنباط.
وفاته:
نذر الطبري حياته للعلم، ورأى أن المتعة الحقيقية إنما هي في تعلم
__________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 273ومعجم الأدباء لياقوت: 8/ 80وفيه:
«البصير في معالم الدين».
(2) انظر معجم الأدباء لياقوت: 18/ 63وما بعده.
(3) انظر: معجم الأدباء لياقوت: 18/ 55.(1/269)
آية، أو رواية أثر أو حل معضلة، ولم يلتفت رحمه الله إلى الدنيا وزخرفها، حتى الزواج أشغله طلب العلم ثم التعليم عنه، فكان من جملة العلماء العزاب، يقول عن نفسه: أنا لا ولد لي، وما حللت سروالي على حرام ولا حلال قط. بل أفنى عمره الذي بلغ ستا وثمانين سنة على الراجح في طلب العلم والمدارسة والتفقه في الدين وتعليمه.
وقد توفي يرحمه الله ببغداد في شهر شوال سنة عشر وثلاثمائة، يوم السبت مساء، ودفن يوم الأحد (1) بداره برحبة يعقوب، وحضر وقت موته جماعة من أهل العلم فأوصاهم، وأكثر من التشهد وذكر الله، وغمض بصره بيده. ورثاه خلق من الأدباء، وأهل الدين، منهم ابن دريد (2) في مرثية مبكية تدمي القلب، أظهر ما كان يحمل بين جنبيه من علم وفقه وفضل، ومن أبياتها:
إنّ المنيّة لم تتلف به رجلا ... بل أتلفت علما للدّين منصوبا
أهدى الرّدى للثّرى إذ نال مهجته ... نجما على من يعادي الحقّ مصبوبا
كان الزّمان به تصفو مشاربه ... فالآن أصبح بالتّكدير مقطوبا
أودى أبو جعفر والعلم فاصطحبا ... أعظم بذا صاحبا أو ذاك مصحوبا (3)
__________
(1) انظر: معجم الأدباء لياقوت: 18/ 40.
(2) هو محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية البصري، شيخ الأدب، كان آية من آيات الله في قوة الحفظ، قيل عنه أشعر العلماء، وأعلم الشعراء، توفي (321هـ). انظر: معجم الأدباء لياقوت: 18/ 127وسير أعلام النبلاء للذهبي: 15/ 96.
(3) انظر: ديوان ابن دريد: 67وسير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 280.(1/270)
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة:
إن من بركة العلم أن ييسر الله للعالم من يحيي سيرته بعد وفاته، كأن يسخر من ينشر علمه بإحياء مؤلفاته ومصنفاته، وإخراجها لطلبة العلم والباحثين في صورة تسهل الوقوف على مراده، وقد قيض الله لمفسرنا ابن جرير الطبري ولتفسيره فارسين من فرسان البلاغة والبيان فحققا أجزاء منه خير تحقيق، ويسراه لطلبة العلم، حتى عدّ بحق من أفضل التفاسير المحققة (1).
وتفسير ابن جرير «جامع البيان» يعد من أنفس الآثار في التفسير، لكونه قد حوى إلى جانب بيان معاني الآيات علوما كثيرة أخرى، أسس
__________
وينظر للمزيد في ترجمته: إنباه الرواة للقفطي: 3/ 89والبداية والنهاية لابن كثير:
11/ 145وتاريخ بغداد للخطيب: 2/ 162وتذكرة الحفاظ للذهبي: 2/ 410 وسير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 267وشذرات الذهب لابن عماد الحنبلي:
2/ 260وطبقات الحفاظ للسيوطي: 310وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي:
3/ 120وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 110وطبقات المفسرين للسيوطي: 82 ولسان الميزان لابن حجر: 5/ 110ومعجم الأدباء لياقوت: 18/ 40ومعرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 264وغير ذلك.
(1) لقد حقق الكتاب كاملا مؤخرا بتحقيق معالي الدكتور عبد الله بن عبد الحسن الذكي أمد الله في عمره وأبقاه وبارك في أعماله وخدماته للمسلمين وفي شتى ديار الإسلام.(1/271)
المصنف بنيانها، ووضع اللبنات الأولى، وساق الروايات والأقوال بأسانيدها، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما التفاسير التي في أيدي العامة فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين. (1)
ويقول الإمام ابن عطية: إن محمد بن جرير جمع على الناس أشتات التفسير، وقرب البعيد، وشفا الإسناد (2).
وقد جوّد ابن جرير تفسيره «تفسير القرآن» وبيّن فيه أحكامه وناسخه ومنسوخه، ومشكله وغريبه، ومعانيه واختلاف أهل التأويل والعلماء في أحكامه وتأويله، والصحيح لديه من ذلك، وإعراب حروفه، والكلام على الملحدين فيه، والقصص وأخبار الأمة والقيامة وغير ذلك (3).
وهو تفسير على ما قال الإمام النووي (4): أجمعت الأمة على أنه لم
__________
(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 13/ 385.
(2) انظر المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 31.
(3) انظر: طبقات المفسرين للداودي 2/ 114.
(4) هو محيي الدين يحيى بن شرف بن مري النووي، إمام فقيه حافظ، ولي مشيخة دار الحديث، له تصانيف في الحديث والفقه وغيرهما، توفي (676هـ). انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي: 4/ 1470وشذرات الذهب لابن عماد: 5/ 354.(1/272)
يصنف في التفسير مثله. وعده السيوطي من أجلّ التفاسير لتميز منهجه، (1)
ولهذا أيضا استعاره ابن خزيمة (2) من ابن خالويه وأبقاه عنده عدة سنوات، ثم قال مقولته: ما رأيت على أديم الأرض أعلم من ابن جرير (3).
وقال عنه أبو حامد الأسفراييني (4): لو سافر الرجل إلى الصين حتى يحصل له تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرا عليه (5).
وما من شك أن هذا التفسير يعد من أمهات كتب التفسير بالمأثور والرأي المبني على القواعد والأصول، وهو أمر مشاهد لكل مطّلع عليه، قارئ فيه، متابع له، فمصنفه إمام مجتهد صاحب مذهب فقهي، وهو من أئمة الحديث، ومن رجال التاريخ واللغة، جمع علوما كثيرة فوعاها، وتفسيره بين أيدينا يشهد على تفوقه.
__________
(1) انظر: طبقات المفسرين للسيوطي: 82.
(2) هو محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري الشافعي، شيخ الإسلام، وإمام الأئمة، صاحب التصانيف، فقيه مجتهد عالم بالحديث، له الصحيح، توفي (311هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 14/ 365والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي: 3/ 209.
(3) انظر: معجم الأدباء لياقوت: 18/ 43والتفسير والمفسرون للذهبي: 1/ 208.
(4) هو أحمد بن محمد بن أبي طاهر محمد الأسفراييني، شيخ الشافعية ببغداد، ثقة، قيل: إنه كان من أنظر الفقهاء، توفي (406هـ). انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 4/ 368وسير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 193.
(5) انظر: معجم الأدباء لياقوت: 18/ 42ومعرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 266.(1/273)
وأود الإشارة هنا إلى أن المصنف يعد رائد الطريقة والمنهج الذي سار عليهما في تفسيره، وتبقى للزيادة والأولوية مآخذها ونواقصها، وفي مثل هذا يقول ابن الأثير (1): كل مبتدئ لشيء لم يسبق إليه، ومبتدع لأمر لم يتقدم فيه عليه فإنه يكون قليلا ثم يكثر، وصغيرا ثم يكبر (2) ولهذا فإن القارئ المتفحّص المتعمّق لعلم التفسير قد يجد على هذا التفسير من الملحوظات والمآخذ التي ربما استدركها كثير ممن جاء بعد ابن جرير، ومن تلك المآخذ التطويل بإيراد الطرق العديدة لإفادة معنى لغوي واحد.
ومجانبته الصواب في بعض الآراء، كما أنه لم يخل من ذكر الإسرائيليات التي ينبغي أن يخلو منها كتب التفسير، إذ مظان ما سكت الشرع عنه منها، كتب القصص والأساطير والحكايات (3).
علمنا من خلال سيرة ابن جرير السابقة اهتمامه العظيم بالمأثور من الأحاديث والآثار، وكيف أن العلماء يعدون تفسيره أفضل تفسير بالمأثور،
__________
(1) هو أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري، المعروف بابن الأثير، عمل كاتبا وعرف عنه الذكاء، صنف كثيرا من ذلك المثل السائر، والنهاية في غريب الحديث. توفي (606هـ) انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 4/ 141وسير أعلام النبلاء للذهبي: 21/ 488.
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: 1/ 5.
(3) انظر: تاريخ التفسير للقيسي: 147ومثاله: إيراده سبعة عشر طريقا لإفادة أن الكأس الدهاق هي المتابعة، وهو معروف عند أهل اللغة، ولا يتعلق به حكم شرعي من حيث الحل والحرمة.(1/274)
وأصحه، وما ذلك إلا لما حواه من الآثار التي رواها المصنف بسنده، وتحرّى صحتها بطريقته، وقد كان لهذا الكم الهائل الأثر الواضح في توسع ابن جرير في المقدمات التي قدمها بين يدي تفسيره، حيث وجد منها منطلقا فسيحا رحبا، للحديث عن علوم القرآن التي يرى المصنف ضرورة إلمام المفسر وقارئ التفسير بها، قبل الخوض في الطوال من المصنفات، وقد أضاف ابن جرير إلى ذخيرته من المأثور ما توصل إليه بإعمال الفكر، وإدامة النظر في النصوص، حتى فاق في مقدماته من جاء بعده، بل عدّ مرجعا يستند إليه المفسرون والمصنفون في علوم القرآن، خاصة في جانب الرواية، وعرض الآراء.
وكان لجهوده أثر بيّن واضح في خدمة هذا الفن أقصد فن المقدمات حتى نما وترعرع وضبطت مسائله، واتسعت مباحثه وعلومه.
وعدد هذه المقدمات التي قدمها المصنف بين يدي تفسيره بلغت عشر مقدمات، حسب تقسيم المصنف، يطول في بعضها نفس المؤلف طولا ملحوظا، في حين يقتصر في البعض الآخر على ذكر روايات بعدد، يرويها في المعنى الذي هو بصدده.
وقد سودت المقدمات مائة وست صفحات من الطبعة التي اعتمدتها أصلا في هذه الدراسة، وهي الطبعة التي نحسبها خالية من الأخطاء بعناية الأخوين الفاضلين محمود وأحمد محمد شاكر.
وبالنظر في المقدمات العشر ودراستها بإمعان يلحظ المرء أن ابن جرير
قد أدمج موضوعات، وأدخلها تحت مسمّى واحد، ربما لوحدة الموضوع، إلا أن من حقها أن تفرد، فهي موضوعات مستقلة، قائمة بذاتها، لها آثارها ورواياتها، ولها ضوابطها المستقلة ما دمنا قد ارتضينا فصل أو (نزع) علوم القرآن من علم الحديث والرواية وهو أمر تفهّمه المتأخرون وارتضوه، وساروا عليه كالسيوطي وابن عقيلة وجل المعاصرين.(1/275)
وبالنظر في المقدمات العشر ودراستها بإمعان يلحظ المرء أن ابن جرير
قد أدمج موضوعات، وأدخلها تحت مسمّى واحد، ربما لوحدة الموضوع، إلا أن من حقها أن تفرد، فهي موضوعات مستقلة، قائمة بذاتها، لها آثارها ورواياتها، ولها ضوابطها المستقلة ما دمنا قد ارتضينا فصل أو (نزع) علوم القرآن من علم الحديث والرواية وهو أمر تفهّمه المتأخرون وارتضوه، وساروا عليه كالسيوطي وابن عقيلة وجل المعاصرين.
ومهما يكن الأمر فإن هذه المقدمات تثبت بحق بلاغة المصنف الأدبية، وعظيم ما حصله من علم اللغة والبلاغة والأدب، الأمر الذي مكّنه من صياغة هذه العلوم بأسلوب بليغ، وتقديمها قطعة أدبية لا يملّ القارئ النظر فيها، تجرّه كل عبارة للتي تليها، وإن كانت بعض عباراته تعصى بين حين وآخر على القارئ فيلتجئ إلى ما حشاه المحقق من بيان معاني الكلمات وتوضيح العبارات، ليفهم النص على مراد المصنف.
هذا وقد طبعت المقدمات مع التفسير طبعات مختلفة في أقطار عديدة، نذكر منها:
1) الطبعة الأميرية بولاق، مصر، الطبعة الأولى عام 1323هـ.
2) طبعة دار المعارف، مصر، ستة عشر مجلدا فقط، وهي بتحقيق الشيخين محمود وأحمد محمد شاكر، صدرت الطبعة الأولى منها عام 1374هـ.
3) طبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعات من الأولى إلى الثالثة عام 1388هـ.(1/276)
4) طبعة دار المعرفة، بيروت 1398هـ، مصورة عن الطبعة الأميرية الأولى، وصورت بالأوفست إلى الطبعة الرابعة عام 1400هـ.
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة:
استهل الطبري تفسيره ومقدماته التي قدمها بين يدي تفسيره بخطبة بليغة، ظهر فيها تعمقه في العلوم العربية، والنكات البلاغية، فبعد أن أثنى على الله بما هو أهله، وشكره على فضله، ونزّهه عن الند والمثل، تحدث عن فضائل الأنبياء عامة وكيف أن الله سبحانه قد أبانهم عن سائر خلقه بأن أيدهم بالحجج البالغة، والآي المعجزة، ثم خصّ نبينا صلى الله عليه وسلم فتحدث عن فضله وفضائله، ودعوته ورسالته، وما خص أمته وشرّفهم به على سائر الأمم من المنازل الرفيعة.
وتكلم عن معجزة الرسول الكبرى، وكيف أنه تقدست أسماؤه جعله دليلا على حقيقة نبوته صلى الله عليه وسلم.
بعدها سأل الله سبحانه التوفيق لإصابة القول، وشكره على ما أنعم به عليه من حفظ كتابه والعلم بحدوده، ليؤكد أن أحق ما صرفت إليه الهمم هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفة تنزيل من حكيم حميد.
وذكر أنه مقبل على شرح كتاب الله وتأويله وبيان معانيه، موضحا منهجه وطريقته. ليبدأ بالمقدمات، وهي:(1/277)
1) القول في البيان عن اتفاق معاني آي القرآن، ومعاني منطق من نزل بلسانه القرآن من وجه البيان، والدلالة على أن ذلك من الله تعالى ذكره هو الحكمة البالغة مع الإبانة عن فضل المعنى الذي به باين القرآن سائر الكلام.
أراد ابن جرير أن يؤكد بادئ ذي بدء أن من لم يعان رياضة العلوم العربية، ولم يعرف تصاريف وجودة هذا اللسان يقف عاجزا عن فهم معاني كتاب الله.
فذكر أن من أعظم نعم الله على خلقه ونعمه لا تحصى ما منحهم من فضل البيان حتى صاروا عن ضمائر صدورهم يبينون، وبه إياه يوحدون ويسبحون ويقدسون، وجعلهم في هذا الفهم طبقات، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، وجعل أعلى منازل البيان درجة أبلغه في حاجة المبين عن نفسه، وأبينه عن مراد قائله، وأقربه من فهم سامعه.
وأشار إلى أن ما تجاوز هذا المقدار، وارتفع عن وسع الأنام كان حجة على من كانوا رؤساء صناعة الخطب والبلاغة، وقيل الشعر والفصاحة، والسجع والكهانة، وتدرج ابن جرير في القول على هذا المنوال ليثبت رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليبين أن القرآن هو المعجزة الكبرى، وليقرّ أصلا معلوما هو الإعجاز البياني، وكيف أن القوم كانوا عن الإتيان بمثل بعضه عجزة، وعن القدرة عليه نقصة، فأقروا بالعجز، وأذعنوا بالتصديق.
بعدها سفّه المصنف من تجاهل وتعامى، واستكبر وتعاشى، فحاول مجاراة النبي صلى الله عليه وسلم فيما أتى به من الحق المبين، فقال من الحماقات المشبهة
دعواه الكاذبة.(1/278)
بعدها سفّه المصنف من تجاهل وتعامى، واستكبر وتعاشى، فحاول مجاراة النبي صلى الله عليه وسلم فيما أتى به من الحق المبين، فقال من الحماقات المشبهة
دعواه الكاذبة.
وليؤكد المصنف أن معاني كتاب الله المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي لمعاني كلام العرب موافقة، وظاهره لظاهر كلامها ملائمة، ولأساليبه في أساليبها نظير ومثيل وإن كان مباينة كتاب الله بالفضل والفضيلة ظاهر أثبت منطقيا أنه تعالى يتعالى أن يخاطب خطابا أو يرسل رسالة لا توجب فائدة لمن خوطب أو أرسلت إليه، فالمخاطب والمرسل إليه إن لم يفهم ما خوطب به أو أرسل إليه يكون حاله قبل الخطاب وبعد مجيئه سواء، إذ لم يفده الخطاب والرسالة شيئا، ولهذا كان كل كتاب أنزل فإنما هو بلسان قوم من أنزل عليه، وعليه فالقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين.
2) القول في البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم.
ما أقره الطبري في الباب السابق من تنزيه الله جل ذكره مخاطبة أحد من خلقه إلا بما يفهمه وهو أمر مسلم لا ينازع فيه بصير يثبت عربية جميع ألفاظ القرآن الكريم ومعانيه، ولأنه ورد في بعض الآثار ما يوحي بأعجمية شيء من ألفاظ القرآن الكريم، وأنه بلغات أقوام وأجناس غير العرب وهو أمر مشكل يفيد ظاهره أن في القرآن من غير لسان العرب خصّ المصنف الموضوع بحديث مستقل لتجلية الأمر، وتوضيح المراد.
فبعد أن عرض جملة من تلك الآثار المشكلة في ظاهرها، والتي لم يكثر منها إيمانا منه أن في ذكرها إطالة للكتاب دونما فائدة، بيّن أن ما ورد في هذه
الآثار لا تخالف ما انتهى إليه في الباب السابق، ولا تخرج عن معناه، لكون ما جاء فيها لم تنف عربية تلك الكلمات، بل غاية ما دلت عليه هو وجود اتفاق بين الأجناس في معنى هذه الألفاظ، وهو أمر يقره المصنف، وعلى ذلك سرد احتمالات وأوجه ما قد يبين أصول تلك الألفاظ، وانتهى إلى أن من يدعي أحقيته بأصل هذه الألفاظ، وأنه مصدرها ومخرجها إلى الأجناس الأخرى كان مستجهلا ومدع أمرا لا يوصل إلى حقيقة صحته إلا بخبر يوجب العلم، ويزيل الشك، وهو أمر متعذر.(1/279)
فبعد أن عرض جملة من تلك الآثار المشكلة في ظاهرها، والتي لم يكثر منها إيمانا منه أن في ذكرها إطالة للكتاب دونما فائدة، بيّن أن ما ورد في هذه
الآثار لا تخالف ما انتهى إليه في الباب السابق، ولا تخرج عن معناه، لكون ما جاء فيها لم تنف عربية تلك الكلمات، بل غاية ما دلت عليه هو وجود اتفاق بين الأجناس في معنى هذه الألفاظ، وهو أمر يقره المصنف، وعلى ذلك سرد احتمالات وأوجه ما قد يبين أصول تلك الألفاظ، وانتهى إلى أن من يدعي أحقيته بأصل هذه الألفاظ، وأنه مصدرها ومخرجها إلى الأجناس الأخرى كان مستجهلا ومدع أمرا لا يوصل إلى حقيقة صحته إلا بخبر يوجب العلم، ويزيل الشك، وهو أمر متعذر.
ويرى المصنف أن القول هو أن تضاف هذه الألفاظ إلى كل جنس من الأجناس المشتركة فيها، وكونها موجودة في لغة العرب لا تعني بالضرورة عدم وجودها في لغات أخرى، وضرب لذلك مثالا، فقال: إن الدرهم والدينار والدواة والقلم، كلمات اتفقت ألسن العرب والفرس فيها بالألفاظ الواحدة، والمعنى الواحد.
بعدها رد المصنف على من يدعي استحالة هذا الاجتماع في المنطق قياسا على استحالة ذلك في الأنساب فأفسد القياس واعوجاج المنطق الذي قالوا به. لينتقل لعرض فهمه من قولهم: إن في القرآن من كل لسان، أي أنّ فيه من كل لسان اتفق فيه لفظ العرب وغيرها من الأمم التي تنطق به، لكون الاعتقاد بأن بعض القرآن فارسي لا عربي، أو نبطي لا عربي
إلخ، فيه نفي عن بعض القرآن أنه عربي، والله يصف القرآن كله بأنه عربي {قُرْآناً عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] فالعربية صفة شاملة لا يجوز لأحد أن يخصص
شمولها على بعض القرآن دون بعض. ولكون البعض يقرون بإمكانية الاشتراك غير أنهم يدّعون أن الأصل لجنس دون آخر، وأن الآخر إنما نطق بها، رد المصنف هذا الادعاء وأبطل هذا الزعم بإلزام المدعي بدليله.(1/280)
إلخ، فيه نفي عن بعض القرآن أنه عربي، والله يصف القرآن كله بأنه عربي {قُرْآناً عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] فالعربية صفة شاملة لا يجوز لأحد أن يخصص
شمولها على بعض القرآن دون بعض. ولكون البعض يقرون بإمكانية الاشتراك غير أنهم يدّعون أن الأصل لجنس دون آخر، وأن الآخر إنما نطق بها، رد المصنف هذا الادعاء وأبطل هذا الزعم بإلزام المدعي بدليله.
3) القول في اللغة التي نزل بها القرآن من لغات العرب:
ويعدّ هذا الموضوع نموذجا للموضوعات التي طال فيها نفس المصنف، فقد شغل أكثر من ثمان وأربعين صفحة من مجموع صفحات مقدمته البالغ مائة وست صفحات.
وسبق أن أشرت بأن ابن جرير إذا أراد إثبات أمر أو أراد نفيه تدرج في القول لتحقيق المراد بأيسر السبل وعلى أحكم الوجوه، وجاء هذا التدرج في المقدمات التي ذكرها بين يدي تفسيره، والتي سميتها أنواعا اقتداء بأصحاب الموسوعات في علوم القرآن، فبعد أن أثبت المصنف في النوع السابق عربية كل ما جاء في كتاب الله، ولكون ألسنة العرب كثيرة بكثرة قبائلها وأحيائها، أراد أن يبين في هذا النوع اللسان الذي نزل عليه القرآن من تلك الألسنة، فسرد الأخبار التي تظاهرت عنه صلى الله عليه وسلم في اللغات التي نزل بها القرآن، والتي بلغت ستة وستون أثرا، رواها كلها بسنده، بينت بمجموعها نزول القرآن على سبع لغات، والاختلاف في قراءة الصحابة، وما أقرّ الرسول صلى الله عليه وسلم منها، وما غضب لأجلها، واختلاف السلف في تفسير هذه اللغات، والأوجه والأحرف، ليؤكد أن القرآن نزل على بعض ألسن العرب دون الجميع، فألسنتها أكثر من سبعة.(1/281)
عقب ذلك انتقل المصنف للتفريق بين اللغات السبع أو (الأحرف السبعة) والأبواب السبعة، وبه ردّ على من تأول اللغات بالأبواب، وناقشهم في أدلتهم، وأكد نقلا وعقلا صحة ما تبناه، وخطأ ما ذهبوا إليه.
ولما ترجح لديه اقتناع القارئ بما ذهب إليه تساءل ليزيل احتمال شكّ يعلق ببعض الأذهان إيجاد لفظة في القرآن تقرأ بسبع لغات، فقال نافيا ذلك: إنا لم ندّع أن ذلك موجود اليوم ولم تنسخ فترفع، ولا ضيعتها الأمة وهي مأمورة بحفظها، ولكن الأمة أمرت بحفظ القرآن وخيّرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت فرأت قراءته بحرف، ورفض القراءة بالأحرف السبعة الباقية.
أتبع ذلك بيان العلة التي أوجبت الثبات على حرف واحد دون سائر الحروف، واستهل ذلك بذكر جملة من الآثار مشيرا إلى كثرتها في هذا المعنى، وموضحا أن عثمان بن عفان رضي الله عنه هو الذي جمع الأمة على حرف واحد إشفاقا عليهم ورأفة بهم لما رأى التكذيب ببعض الحروف رغم حداثة عهدهم بنزول القرآن، فاستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت في فعله الرشد والهداية، وتركت القراءة بالأحرف الستة.
ولهذا يرى الطبري أنه لا سبيل لأحد القراءة بها لأنها درست من الأمة معرفتها، وتعفّت آثارها، وتتابع المسلمون على رفض القراءة بها من غير جحود منها.
وليسوغ المصنف عمل سيدنا عثمان رضي الله عنه في إلغاء الأحرف الستة على
اعتقاده وقبول الأمة ذلك منه، وتركهم قراءة أقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بقراءتها، بين أن الأمر كان أمر إباحة ورخصة، لا أمر إيجاب وفرض، وبين دليل التخيير.(1/282)
وليسوغ المصنف عمل سيدنا عثمان رضي الله عنه في إلغاء الأحرف الستة على
اعتقاده وقبول الأمة ذلك منه، وتركهم قراءة أقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بقراءتها، بين أن الأمر كان أمر إباحة ورخصة، لا أمر إيجاب وفرض، وبين دليل التخيير.
وقبل أن يختم حديثه ببيان الألسن السبعة التي نزل عليها القرآن، وتحديدها أشار إلى ما أشكل على بعض العامة حين ظنوا أن الأحرف السبعة هي القراءات السبع، فنفى الإشكال وأبطل الظن، وأكد أنه بمعزل عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف».
وجاءت الخاتمة ليقرر المصنف أنه لا فائدة اليوم من معرفة تلك الأحرف لكونها لا يقرأ بها أحد، وليسرد بعض الأخبار الموضحة لها من غير أن يرجح بينها.
4) معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن» من «سبعة أبواب الجنة» وذكر الأخبار الواردة في ذلك:
حين أكد المصنف في النوع السابق أن اللغات السبعة التي نزل بها القرآن، هي غير الأبواب السبعة التي نزل منها القرآن، وبين هناك المراد بالأحرف السبعة، خصّ هذا الباب لبيان المراد بالأبواب السبعة.
فاستهل الحديث بذكر اختلاف النقلة في ألفاظ الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدال على نزول القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف، وهي ألفاظ متقاربة المعنى، وأشار في ثنايا حديثه إلى أن نزول
القرآن على النحو المذكور خاصية خصّ الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم دون سائر الأمم.(1/283)
فاستهل الحديث بذكر اختلاف النقلة في ألفاظ الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدال على نزول القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف، وهي ألفاظ متقاربة المعنى، وأشار في ثنايا حديثه إلى أن نزول
القرآن على النحو المذكور خاصية خصّ الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم دون سائر الأمم.
وبيّن الفرق بين النزول على سبعة أحرف والنزول من سبعة أبواب، وقال: إن الكتب السابقة كانت تنزل على حرف واحد بلسان واحد، متى حوّل إلى غير اللسان الذي أنزل عليه كان ذلك ترجمة وتفسيرا لا تلاوة، أما القرآن الكريم فبأي السبعة تلاه التالي كان تاليا للقرآن، لا مترجما ولا مفسرا حتى يحوله عن تلك الألسن. وهي معنى نزوله على سبعة أحرف، أما من سبعة أبواب فلكون الكتب السابقة كانت تنزل خالية من الحدود والأحكام، والحلال والحرام (1)، وكانت تنزل ببعض المعاني السبعة التي يحوي جميعها كتابنا الذي خص الله به نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته وهي: الأمر، والزجر، والحلال، والحرام، والمحكم، والمتشابه، والأمثال.
وبذلك أوضح أنّ من سبقنا من الأمم كانوا يتعبدون الله بهذا الوجه، ويستوجبون منه القرب، أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي أنزل كتابها من سبعة أبواب فإنهم يتقربون إلى الله بالأوجه السبعة، وبه يأملون إدراك الفوز بالجنة، وبيّن كيفية حصول ذلك.
ولأنه ورد في بعض ألفاظ الخبر أن لكل آية حد ومطلع، وظهر
__________
(1) ذكر المصنف مثال ذلك زبور داود عليه السلام، وقال: إنه تذكير ومواعظ، وإنجيل عيسى عليه السلام كان تمجيدا ومحامدا وحضا على الصفح والإعراض.(1/284)
وبطن، بيّن المصنف المراد بذلك والمقصود منه، وبذلك أنهى المبحث.
5 - القول في الوجوه التي من قبلها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن:
قدم المصنف لهذا النوع خلاصة ما توصل إليه في الأنواع السابقة، من عربية القرآن كله، ونزوله بألسن العرب، وأنها تقرأ اليوم ببعض الألسن دون جميعها، ثم تحدث عن الموضوع الذي هو بصدده، فبين أن أقسام التفسير وهو ما عبر عنه بالوجوه التي من قبلها يصل إلى معرفة تأويل القرآن فاستهلّه بسرد الآيات الدالات على أن تبيان الذكر هو من خاصيات الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الوظيفة وظيفة البيان هو فيما أمره الله أن يبينه، وأن من الآيات ما هو محكم، وآخر متشابه لا يعلم تأويله إلا الله، وبه وضّح أن التفسير ثلاثة أقسام:
1) قسم لا يوصل إلى تأويله إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إما بنص منه عليه، أو بدلالة قد نصبها دالة أمته على تأويله، وهو ما لا يجوز لأحد القول فيه.
2) قسم لا يعلم تأويله إلا الله، استأثر سبحانه بعلمه على خلقه.
3) قسم ثالث يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن، وهذا يختلف فيه الناس ويتفاوتون حسب صلتهم بلغة القرآن.
وضرب المصنف الأمثلة على ما ذكره وختم المبحث ببيان ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الروايات من كون الأقسام
أربعة، وأن الرابع هو ما لا يعذر أحد بجهالته، فأوضح أن ما ذكره لا يعد وجها يوصل إلى معرفة تأويله، وإنما هو إخبار عن ابن عباس بأن تأويله لا يجوز لأحد الجهل به.(1/285)
وضرب المصنف الأمثلة على ما ذكره وختم المبحث ببيان ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الروايات من كون الأقسام
أربعة، وأن الرابع هو ما لا يعذر أحد بجهالته، فأوضح أن ما ذكره لا يعد وجها يوصل إلى معرفة تأويله، وإنما هو إخبار عن ابن عباس بأن تأويله لا يجوز لأحد الجهل به.
وما ذكره المصنف تخريج جيد، وفهم مقبول لمقولة ابن عباس السابقة.
6 - ذكر بعض الأخبار التي رويت بالنهي عن القول في تأويل القرآن بالرأي:
لما كان من تأويل القرآن ما لا يدرك علمه إلا بنص بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نصبه صلى الله عليه وسلم الدلالة عليه وهو الأمر الذي أقره المصنف في الباب السابق عمد المصنف في هذا النوع إلى سرد جملة من الآثار المحذّرة من القول في القرآن بغير علم، وأكد أن وعيدا ورد في حق من يقول في القرآن برأيه بعد أن ثبت قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، وإن أصاب القائل الحق في مقولته، وعلل إصابة القول من مثله بأنها إصابة خارص ظان ليس موقن، والظان قائل على الله ما لم يعلم.
وأوضح أن ما ذهب إليه هو مراده صلى الله عليه وسلم من قوله: * «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ». وخطأه هو فعله من القول على الله بغير علم.
7 - ذكر الأخبار التي رويت في الحض على العلم بتفسير القرآن ومن كان يفسره من الصحابة:
انتهى بنا المصنف في النوع السابق إلى تأثيم من تقوّل على الله، فقال
في القرآن برأيه بغير علم ولم يتتبع الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يفسر القرآن كله، بل «فسر آيا بعدد علّمه إياهنّ جبريل»، كما ورد ذلك عن السيدة عائشة رضي الله عنها ولكون المصنف ذكر من أقسام التفسير ما يعلمه كل ذي علم باللسان العربي، فقد كان من اللزوم أن يزيل المصنف ما قد يحصل من التباس وتعارض، ولهذا خص هذا النوع لذكر الأخبار التي رويت في الحض على التفسير وإعمال الفكر لفهم مراد الله العظيم، وذكر المبرزين من الصحابة في هذا الشأن.(1/286)
انتهى بنا المصنف في النوع السابق إلى تأثيم من تقوّل على الله، فقال
في القرآن برأيه بغير علم ولم يتتبع الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يفسر القرآن كله، بل «فسر آيا بعدد علّمه إياهنّ جبريل»، كما ورد ذلك عن السيدة عائشة رضي الله عنها ولكون المصنف ذكر من أقسام التفسير ما يعلمه كل ذي علم باللسان العربي، فقد كان من اللزوم أن يزيل المصنف ما قد يحصل من التباس وتعارض، ولهذا خص هذا النوع لذكر الأخبار التي رويت في الحض على التفسير وإعمال الفكر لفهم مراد الله العظيم، وذكر المبرزين من الصحابة في هذا الشأن.
بدأه بذكر الأخبار المروية، وأنهاه بفساد قول من أنكر تفسير المفسرين فيما لم يحجب عن الخلق تأويله، وبين البداية والنهاية أكد أن معرفة تأويل آي القرآن واجبة على الأمة، فقد حثّ سبحانه على ذلك، وأمر عباده بالاتعاظ بأمثال القرآن والاعتبار بها، والاتعاظ والاعتبار لا يكون إلا عن طريق معرفة تأويل ما لم يحجب عنهم، لأنه محال أن يقال لمن لا يفهم ما يقال له ولا يعقله: اعتبر بما قيل لك.
وإذا كان ذلك كذلك علم أنه سبحانه لم يأمر عباده بتدبر كلامه، ويحثهم على تفهم معانيه إلا وهم بما يدلهم عليه عالمون، ومنه صح أنهم بتأويل ما لم يحجب عنهم علمه من آية عارفون.
وبهذا جوّز المصنف التفسير بالرأي على ما بينه، ولأنه تبقى بعض الآثار التي تفيد ظاهرها خلاف ما أقره المصنف هنا، خص لذلك النوع التالي، وهو:(1/287)
8 - ذكر الأخبار التي غلط في تأويلها منكر والقول في القرآن:
بعد أن سوغ المصنف التفسير بالرأي المبني على القواعد، وأثبت ذلك نقلا، وبين ضرورته عقلا، انتقل ليزيل الالتباس، ويوضح تلك الآثار التي تدل على إحجام ثلة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم عن القول في القرآن وتفسيره بالرأي، وتؤكد وقوفهم عند المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجّه الآثار، وخرّج الأقوال، وبين المراد منها، وعلل أن إحجام من أحجم عن خوض هذا الميدان إنما هو إحجام حذر أن لا يبلغ أداء ما كلّف من إصابة صواب القول فيه، لا على أن تأويل ذلك محجوب عن علماء الأمة، غير موجود بين أظهرهم، تماما كإحجام بعض التابعين عن الفتيا في النوازل والحوادث، مع إقراره بأن الله جل ثناؤه لم يقبض نبيه إليه إلا بعد إكمال الدين لعباده، وعلمه بأن لله في كل نازلة وحادثة حكما موجودا بنصّ أو دلالة.
وهكذا استند المصنف في بيانه هذا إلى المنقول من الأثر، والمعقول من صريح الرأي.
9 - ذكر الأخبار عن بعض السلف فيمن كان من قدماء المفسرين محمودا علمه بالتفسير، ومن كان منهم مذموما علمه به:
عرف بالتفسير من المتقدمين صنفان:
صنف نقل عنه التفسير المحمود المقبول المعتمد على القواعد
والأصول، والصادر عن علم ودراية، مثل ابن عباس ومجاهد.(1/288)
صنف نقل عنه التفسير المحمود المقبول المعتمد على القواعد
والأصول، والصادر عن علم ودراية، مثل ابن عباس ومجاهد.
وصنف أقحم نفسه هذا الميدان وليس له فيه ناقة ولا جمل، فهذر وتقوّل حتى نقل عنه المذموم المستنكر، مثل باذام (1) والسدي.
ذكر ابن جرير رحمه الله في هذا النوع نتفا من أخبار الصنفين المذكورين، روى الأخبار بإسناده، وأكد ما سبق أن بيّنه من وجوه تأويل القرآن، موضحا أن أحق الناس بالتفسير وإصابة الحق أوضحهم حجة فيما تأوّل وفسّر، مبينا أن وضوح الحجة يكون من جهتين:
الأولى: معرفته بالثابت عنه صلى الله عليه وسلم من أي جهة كان ثبوته (2).
الثانية: معرفته باللسان من جهة علمه بالشواهد من الأشعار، ومنطق العرب ولغاتهم المعروفة.
مؤكدا أن من كانت هذه صفته كان تفسيره معتمدا لا يخرج عن تفسير الصحابة والتابعين.
__________
(1) هو باذام، وقيل: باذان، أبو صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب، قال ابن معين: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ليس بثقة. ذكره البخاري فيمن توفي بين سنة (10090هـ). انظر: تهذيب الكمال للمزي: 4/ 6 وتاريخ البخاري الكبير: 2/ 1/ 444.
(2) كالنقل المستفيض، والنقل عن العدول والأثبات، أو من جهة الدلالة المنصوبة على صحته.(1/289)
10 - القول في تأويل أسماء القرآن وسوره وآية:
أورد المصنف في هذا النوع الأسماء التي سمى المنزّل سبحانه بها تنزيله، فذكر «القرآن» و «الفرقان» و «الكتاب» و «الذّكر»، كما ذكر لكل تسمية دليلها من كتاب الله، ووجه التسمية من كلام العرب، والخلاف في ذلك.
انتقل بعدها لعرض أسماء سور القرآن التي سماها بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرض الآثار الواردة فى ذلك، وتوجيه تلك الأسماء ومعانيها في كلام العرب، كتسميته صلى الله عليه وسلم بعض السور بالمفصل والمئين والسبع المثاني وغيرها.
وثلّث الحديث ببيان معنى السورة في اللغة، ثم أصل الاشتقاق، والمعنى على كل أصل، مدعما قوله بكلام العرب وأشعارها.
وأخيرا بيّن معنى الآية في اللغة وما تحمله من وجوه.
وبهذا الموضوع ختم ابن جرير مقدماته، ليبدأ بمقدمات سورة الفاتحة، أول سورة في الترتيب العثماني.
رابعا منهج ابن جرير في مقدمته:
أوضح ابن جرير السمات الأساسية لمنهجه حين ذكر في مقدمته أنه مقبل على إنشاء كتاب في شرح القرآن وتأويله، وبيان معانيه، مبينا أن منهجه فيه هو بيان ما اتفق عليه العلماء وما اختلفوا فيه، وذكر أدلة كل
مذهب مع بيان الصحيح منه والسقيم، بعبارة موجزة، واختصار غير مخلّ.(1/290)
أوضح ابن جرير السمات الأساسية لمنهجه حين ذكر في مقدمته أنه مقبل على إنشاء كتاب في شرح القرآن وتأويله، وبيان معانيه، مبينا أن منهجه فيه هو بيان ما اتفق عليه العلماء وما اختلفوا فيه، وذكر أدلة كل
مذهب مع بيان الصحيح منه والسقيم، بعبارة موجزة، واختصار غير مخلّ.
وهو نهج قويم لو التزمه المصنف وسار عليه باطراد، غير أن المتابع يلحظ أن المؤلف يخلّ بنهجه من حين لآخر، وإن كان هذا الإخلال في التفسير أكثر منه في المقدمة، التي التزم فيها إلى حد كبير بما ذكره، ولعل الإطالة في ذكر طرق بعض الروايات في أحايين كثيرة، وعدم بيان درجة كثير من الآثار خير شاهد على هذا الأمر، ولست أزعم وحدة المنهج بين المقدمة وصلب التفسير إلا في كليات المنهج، أما في الجزئيات فالفرق والتباين بين طبيعة الموضوعين يستدعي الاختلاف في نهج المعالجة.
هذا وقد جاءت مقدمة الطبري بمقدماته العشر، كمقدمة واحدة، وهو أمر أراده المصنف، فقد ربط كل مقدمة بالتي قبلها، ووصلها بالتي تليها، وعلى المتقدم بنى المتأخر (1)، وهو نهج اتبعه ابن جرير يرحمه الله حتى ضمن النوع الواحد، فإن انتصر لفكرة أو رأي، سعى لإثبات ذلك منطقيا، ينطلق من أمر هو من البدهيات، ثم يتدرج في الجزئيات، كل جزئية تكون نتيجة للتي قبلها، حتى إذا اكتمل العقد صرّح المصنف بمراده، وأظهر ما أضمره ويريد لإثباته، ويمكن ضرب المثل على هذا المنهج بالمقدمة الأولى.
فلكي يثبت المصنف أن القرآن الكريم نزل على أساليب كلام العرب ومعانيها، بيّن أولا أن من أعظم نعم الله على عباده ما منحهم من فضل
__________
(1) انظر امثلة ذلك في الصفحات: 732113من المقدمة.(1/291)
البيان الذي به يعبرون عن ما في صدورهم، وأنهم في هذا البيان متفاوتون، ما بين خطيب مسهب وعيّ لا يبين، وأن أعلى مراتب البيان أبينه عن مراد قائله، وأبلغه عن حاجة المبين عن نفسه، وأقربه إلى فهم سامعه، فإن تجاوز هذا المقدار، وعجز أن يأتي بمثله العباد كان حجة وعلما للرسول.
وعلى ذلك بيّن أن القرآن هو في أعلى درجات البيان لأنه تعالى تحدى به قوما كانوا رؤساء الفصاحة، وقيل: الشعر والسجع والكهانة، فأقروا بالعجز وأذعنوا بالتصديق، فكان فضل كلام الله على كلام غيره كفضله جلّ وعلا على عباده.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن من خاطب غيره بما لا يفهمه لم يكن مبينا عن نفسه، وعليه بنى المصنف استحالة مخاطبة الله جلا وعلا أحدا، من خلقه بما لا يفهم، أو إرساله رسولا لقوم لا يفهمون خطابه، إذ إن ذلك لا يوجب فائدة، وهو أمر يستحيل على الله سبحانه، وعلى ذلك فكل رسول أرسل بلسان قومه، وكل كتاب أنزل بلسان من نزل عليه، وعليه فالقرآن الكريم نزل بلسان محمد صلى الله عليه وسلم، فبيّن أن القرآن عربي.
ويستوجب ذلك أن تكون معاني كتاب الله تعالى المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم لمعاني كلام العرب موافقة، وظاهره لظاهر كلامها ملائم. (1)
ولطول باع ابن جرير، وتمكنه في فنون العلم المتنوعة، فإن كل ما يمليه
__________
(1) انظر الصفحات: 128من المقدمة.(1/292)
يؤيده بالأدلة والحجج، فيستشهد بالآيات والأحاديث والآثار واللغة والشعر، فإن كانت طويلة أو عديدة أحال القارئ إلى موطنها من صلب التفسير، أو اعتذر عن ذكرها خشية الإطالة والسآمة، مصرحا بذلك من حين لآخر. (1)
يبدأ ابن جرير حديثه عن الموضوع الذي هو بصدد بيان القول فيه بذكر الروايات والآثار، ثم يعقب بالمناقشات وبيان الآراء والاتجاهات، ثم الرد على المخالفين، والتصريح برأيه. (2)
ولعل أظهر سمة لمنهج ابن جرير في مقدمته هو ما عمد إليه في عرض الموضوعات والمناقشات بأسلوب علمي هادئ يكفي القارئ مؤنة السؤال والاستفسار، فللوصول إلى بيان الفكرة التي يريد إثباتها، يطرح المصنف سؤالا على لسان قائل، ثم يجيب عنه، أو يورد معضلة أو إشكالا يعقبه بالتوضيح المدعوم بالأدلة، وهذا الفن هو ما يسمى بفن (الفنقلة) (3)، وهو أسلوب جيد يربط القارئ بالنص ويشده إليه، ويبعد عنه السآمة والملل، يلجأ إليه كثيرون في حل المسائل العويصة والطويلة المملة. (4)
__________
(1) انظر مثال ذلك الصفحات: 1514.
(2) انظر مثال ذلك الصفحات: 57191716.
(3) أي المراد: إن قيل: قلت:
(4) انظر الصفحات: 595547211615.(1/293)
ومن منهج ابن جرير يرحمه الله يضيف إلى أدلته النقلية أدلة عقلية قوية، فيجمع بذلك بين العقل والنقل في مناقشاته، وهو منهج قويم يزيد القارئ قناعة، ويلزم على المصنفين نهجه إن كان الموضوع محلا لذلك، وإلا بقي في نفس القارئ ما قد يضعف الاقتناع، والأمثلة على هذا المنهج عديدة (1).
والمستغرب في منهج المصنف أنه لا يعيّن القائل عند ذكره للأقوال، ولا ينسب الآراء أثناء مناقشاته، بل يكتفي بقوله: فإن قال لنا قائل. أو بقوله: قال بعض من خفت معرفته. أو قوله: قال جماعة. إلى غير ذلك من العبارات التي لا تبين القائل. (2)
وإذا ارتضينا بعدم تعيين المصنف للقائل عند إيراد الإشكالات، وقلنا: إنه أسلوب كتابي يقصد منه التوضيح بعد إيراد اعتراض يورده الكاتب على نفسه، لعلمه أن ذلك قد يورد في ذهن القارئ، فإننا لا نرتضي ذلك للمصنف في الحالات التي ينبغي بل يتعين فيها تعيين القائل، فمن حق أولئك أن يعيّنوا ويذكروا، حتى يعرفوا وحتى يوثق القارئ بالمعلومة ويطمئن إليها، ويتأكد منها، ثم إن من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله. هذا والله أعلم.
__________
(1) انظر الصفحات: 8382504948.
(2) انظر الصفحات: 103656447.(1/294)
خامسا: مصادر المؤلف:
لم يذكر الطبري في مقدمته التي بلغت مائة وست صفحات مصدرا واحدا من مصادره، ولا صرّح باسم قائل خلا أولئك الذين يذكرهم في أسانيد الروايات، وكان من حق القارئ على المصنف أن يذكر مصدر معلوماته، وأن يحيل القارئ إلى مظان تلك المعلومات، بأن يذكر بعض من ألف في الموضوع الذي يريد طرقه ليرشد من أراد التوسع إلى منابعه، وهو ما تفطن له كثير من المصنفين، من أقران المصنف ومن المتأخرين، فصنيعه هذا إذا ليس عائدا إلى منهجية التأليف زمن المصنف كما يرى بعض الباحثين.
سادسا: أهم مزايا مقدمة ابن جرير:
أومأت قبل أن الريادة في أي فن من الفنون لا بد أن تترك جوانب نقص، يأتي المتأخر فيكمل ويضيف ويتمم حتى يستوي على سوقه، وتبقى المزية والفضل للرائد الذي بذر البذرة، ووضع الأساس، وعلى هذا كان من أهم مزايا مقدمة ابن جرير هو الريادة بوضع مقدمة تضم علوما يحتاج إليها المفسر، كما يحتاج إليها القارئ للتفسير، فلم يسبقه فيما أعلم في هذا المجال أحد، إلى جانب مزايا أخرى امتاز بها المصنف:
1) حسن الترتيب والتبويب، حيث تدرّج المصنف في ذكر العلوم بأن بنى كل علم على الذي قبله.(1/295)
2) احتكام المصنف إلى الرواية أصلا وأساسا في تصويب الآراء.
3) إيراد المصنف للإشكالات التي قد ترد على المسألة بشكل تفصيلي، والرد عليها تفصيلا نقلا وعقلا.
سابعا: أظهر المآخذ على المقدمة:
فلعل أكثر ما يؤخذ على المصنف في مقدمته:
1) هو عدم ذكره لموضوعات تعد من أهم ما يجب على قارئ علم التفسير الاطلاع عليه، وللمفسر الإلمام به، لتتم الفائدة ويكتمل المقصود، كعلم المكي والمدني وعلم الناسخ والمنسوخ وغير ذلك.
2) إغفال المصنف لكثير من العلوم التي تدخل تحت مسمى أصول التفسير.
3) ومن المآخذ: التطويل بإيراد الطرق العديدة لإفادة معنى واحد.
4) الإكثار من الأدلة في المسألة الواحدة.
5) عدم بيان درجة كثير من الروايات. والله أعلم.(1/296)
3 - تفسير القرآن العظيم لأبي الليث نصر بن محمد السمرقندي المتوفى سنة (373هـ)
أولا: التعريف بالمؤلف:
مصنف هذا التفسير هو إمام الهدى، أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد ابن إبراهيم السمرقندي البلخي (1) المولود بسمرقند (2) من خراسان.
لم تذكر المصادر سنة ولادته، وإن كان بعضهم قد أشار أنه عاش قريبا من سبعين عاما، ولكون وفاته كانت عام (373هـ) على الراجح يتبين من ذلك أنه ولد في مطلع القرن الرابع الهجري، والله أعلم. (3)
تربى أبو الليث في أسرة مغمورة لم تعرف بالعلم، وإن كان والده من المحبين لمجالس العلماء، فقد روى الابن بعض المرويات عن أبيه خاصة تلك المتعلقة بالوعظ، وقد استطاع الوالد أن يدفع بولده إلى مجالس العلم حتى حقق ما حققه من تقدم في العلوم والفنون، ساعده في ذلك أن أبا الليث
__________
(1) انظر: الجواهر المضية للقرشي: 3/ 544وتاج التراجم لابن قطلوبغا: 310.
(2) سمرقند بلد مشهور من خراسان، قيل: من أبنية ذي القرنين بما وراء النهر. انظر: معجم البلدان لياقوت: 3/ 246.
(3) انظر: تفسير القرآن الكريم لأبي الليث، تحقيق عبد الرحيم الزقة: 1/ 49.(1/297)
عاش في فترة انتشرت فيها العلوم انتشارا عظيما، بالرغم من الحالة السياسية المضطربة التي شهدتها خراسان وسائر البلاد الإسلامية، فالسامانيون (1) الذين كانوا يحكمون سمرقند، كانوا يكرمون أهل العلم ويقربونهم، ويحثون الطلبة بشتى الوسائل إلى التعمق والنبوغ في العلوم، فتحوا لذلك معاهد العلم، وازدهرت المكتبات، ونسخت المصنفات وتوزعت، حتى كان هذا الإقليم من أجل الأقاليم وأكثرها أجلة وعلماء. (2)
عاش السمرقندي بدايات حياته في هذا الجو المفعم بالنشاط العلمي، وإكرام أهل العلم وذويه، ورغم ذلك لم تذكر كتب التراجم غير أبي جعفر الهنداوي المتوفى (362هـ) شيخا لأبي الليث. وكان الهنداوي واسمه محمد ابن عبد الله إماما في عصره وعلى جانب عظيم من الفقه والذكاء والزهد والورع (3).
__________
(1) السامانيون نسبة إلى (سامان الفارسي)، وهو جد الأسرة السامانية، أسلم في أواخر العهد الأموي، وهو من أصل فارسي. انظر: اللباب لابن الأثير: 2/ 524، وتاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي لحسن إبراهيم: 3/ 71.
(2) انظر: اللباب لابن الأثير: 2/ 524وتاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي لحسن إبراهيم: 3/ 334332.
(3) انظر: الجواهر المضية للقرشي: 3/ 192و 544وتاج التراجم لابن قطلوبغا:
264 - و 310والفوائد البهية: 179ومفتاح السعادة لكبرى زاده: 2/ 277، والشذرات لابن العماد: 3/ 41.(1/298)
كما توصل بعض الباحثين (1) إلى معرفة أسماء عدد من شيوخ أبي الليث وذلك بتتبع مصنفاته، أذكر منهم:
الحاكم أبو الفضل محمد بن الحسين بن محمد الحدادي (2)، والخليل بن أحمد السجزي (3)، هذا إضافة إلى والده وغيره من أهل العلم.
وقد استفاد أبو الليث من تلك الكوكبة استفادة عظيمة، فتكونت لديه منذ الصبا ملكة البحث والتحقيق، حتى غدا علما يشار إليه في الفقه والتفسير والوعظ، فعرف بإمام الهدى، ولقب بالفقيه حتى أصبح هذا اللقب ملازما له، فلا يذكر إلا به.
أما تلامذة أبي الليث فقد اقتصدت المصادر بذكرهم أيضا، ومنهم أبو عبد الله
__________
(1) هو الزميل / صالح يحيى صواب، انظر تحقيقه لتفسير أبي الليث: 1/ 20.
(2) انظر: تنبيه الغافلين لأبي الليث: 81.
والحدادي هو محمد بن الحسين بن محمد بن مهران المروزي الحدادي، شيخ مرو في الحديث والفقه والفتيا، توفي (388هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 16/ 470 الجواهر المضية للقرشي: 3/ 144.
(3) انظر: تنبيه الغافلين لأبي الليث: 88
والسجزي هو الخليل بن أحمد بن محمد السجزي، شيخ أهل الرأي في زمانه، ومن أعظم الناس كلاما في الوعظ، توفي (378هـ). انظر: تاج التراجم لابن قطلوبغا: 167 وسير أعلام النبلاء للذهبي: 16/ 437والجواهر المضية للقرشي: 2/ 178.(1/299)
طاهر بن محمد بن أحمد الحدادي صاحب عيون المجالس (1)، ولقمان بن حكيم الفرغاني (2)، وقد أخذ هؤلاء وغير هم العلم عن المصنف كما أخذوا عن مصنفاته، حيث اشتهرت مؤلفاته حتى نعته القرشي (3) في جواهره بقوله: هو الإمام الكبير صاحب الأقوال المفيدة، والتصانيف المشهورة (4).
والذي يظهر أن المصنف اشتغل بالتأليف دهرا من الزمن، وترك ثروة علمية ضخمة بلغت في تعداد بعضهم (5) أكثر من ثلاثين تصنيفا في فنون العلم المتعددة، أذكر منها:
خزانة الفقه (مطبوع)، ومختلف الرواية في الخلافيات (قدمت رسالة علمية في جامعة الإمام كلية الشريعة)، وعيون المسائل في الفروع (مطبوع)،
__________
(1) انظر: الأنساب للسمعاني: 4/ 81وتفسير القرآن لأبي الليث (رسالة علمية)، تحقيق / صالح صواب: 1/ 22.
(2) انظر: الجواهر المضية للقرشي: 2/ 718وتفسير القرآن لأبي الليث (رسالة علمية)، تحقيق صالح صواب: 1/ 22وينظر تفسير القرآن الكريم لأبي الليث، تحقيق عبد الرحيم الزقة (مطبوع): 1/ 6653.
(3) هو عبد القادر بن محمد بن محمد بن نصر الله القرشي، فقيه ماهر، عنى بالطلب وكتب كثيرا، جمع طبقات الحنيفة، وخرج أحاديث الهداية، توفي (775هـ). انظر: الدرر الكامنة لابن حجر: 2/ 392وشذرات الذهب لابن العماد: 6/ 238.
(4) انظر الجواهر المضية للقرشي: 3/ 544.
(5) انظر: تفسير القرآن لأبي الليث (رسالة علمية) تحقيق صالح صواب: 1/ 27.(1/300)
ورسالة في أصول الدين، وتنبيه الغافلين (مطبوع)، قرة العيون ومفرّح القلب المحزون (مطبوع). وغيرها من التآليف المفيدة. (1)
وفاته:
اتفق المترجمون لأبي الليث أنه توفي ليلة الثلاثاء الحادي عشر من شهر جمادى الثانية، واختلفوا في تحديد العام الذي توفي فيه، والراجح أنه عام (373هـ) (2) لكونه يوافق الحادي عشر من شهر جمادى الثانية في سنة (373هـ) دون غيرها من السنوات المذكورة. (3)
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة:
__________
(1) انظر: تاج التراجم لابن قطلوبغا: 310والجواهر المضية للقرشي: 3/ 545وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 1183703487ومفتاح السعادة لطاش كبرى زاده: 2/ 277.
(2) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 16/ 322والجواهر المضية للقرشي: 3/ 545 والفوائد البهية: 220وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 243ومفتاح السعادة لطاش كبرى زاده: 2/ 278.
(3) انظر: تفسير القرآن لأبي الليث (رسالة علمية)، تحقيق صالح صواب: 1/ 18. وينظر للمزيد في ترجمته: الأعلام للزركلي: 8/ 27وتاج التراجم لابن قطلوبغا: 310 والتفسير والمفسرون للذهبي: 1/ 225والجواهر المضية في تراجم الحنفية للقرشي:
3/ 544وسير أعلام النبلاء للذهبي: 16/ 322وطبقات المفسرين للداودي:
2/ 346والفوائد البهية: 220وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 441ومعجم المؤلفين لرضا كحالة: 13/ 91ومفتاح السعادة لطاش كبرى زاده: 2/ 277وهدية العارفين للبغدادي: 6/ 490.(1/301)
لقي هذا التفسير الاهتمام والعناية منذ عهد قديم، حين ترجمه إلى التركية ابن عربشاه الحنفي (1)، وحين خرّج أحاديثه الشيخ زين الدين قاسم بن قطلوبغا الحنفي (2) (3).
وقد اختلف في عنوانه، فذهب بعضهم إلى تسميته (بحر العلوم) وهو العنوان الذي اشتهر به، وحملته النسخة المطبوعة من التفسير، غير أنه ترجح لدى ثلة من المعنيين بهذا التفسير والمشتغلين به، أن هذه التسمية وردت خطأ على بعض نسخ الكتاب المخطوط، وهو من عمل المتأخرين، فبحر العلوم تفسير لسمرقندي آخر غير أبي الليث، ورأى هؤلاء أن الصحيح هو أن يقال: (تفسير القرآن لأبي الليث السمرقندي) أو نحو ذلك. (4)
__________
(1) هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم، المعروف بابن عربشاه، مؤرخ له اشتغال بالأدب، كان مجيدا للعربية والفارسية والتركية، ترجم بعض المصنفات، له منتهى الأرب في لغات الترك والعجم والعرب، توفي (854هـ). انظر شذرات الذهب لابن عماد:
7/ 280والبدر الطالع للشوكاني: 1/ 109.
(2) هو قاسم بن قطلوبغا بن عبد الله المصري الحنفي، عالم متفنن أثنى عليه مشايخه، سما في العلم وانتشر صيته، له تاج التراجم وغيره، توفي (879هـ). انظر: شذرات الذهب لابن عماد: 7/ 326والبدر الطالع للشوكاني: 2/ 45.
(3) انظر: البدر الطالع للشوكاني: 1/ 110وكشف الظنون لحاجي خليفة: 1/ 441.
(4) حول تسمية الكتاب انظر: تفسير القرآن الكريم لأبي الليث، تحقيق عبد الرحيم الزقة (مطبوع): 1/ 92وتفسير القرآن لأبي الليث تحقيق: الشيخ صالح يحيى صواب:
1/ 34، والأعلام للزركلي: 8/ 28.(1/302)
يعدّ تفسير أبي الليث مصدرا من مصادر التفسير بالمأثور حيث اعتمد المصنف تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسّنة، ثم بأقوال الصحابة والتابعين، كما أورد أقوال أهل العلم السابقين، وأعمل الرأي واجتهد في تفسير بعض الآيات، وبين رأيه غير أن اعتماده المأثور كان الغالب، وبالرغم من أن أبا الليث لم يذكر تفسير ابن جرير في تفسيره غير أنه سلك المسلك نفسه في نقل المأثور من الروايات والأقوال، وإن كان ابن جرير قد ساق ذلك بأسانيده فحصر تفسيره على المختصين، بخلاف أبي الليث الذي حذف الأسانيد فجعله للعامة والخاصة.
وكما أفاد ابن جرير من اللغة وجهود أهلها في بيان المعاني والتراكيب كذلك أفاد أبو الليث، فاعتمد كثيرا على الزجاج والفراء وابن قتيبة وغيرهم.
كما أولى المصنف اهتماما بالقراءات القرآنية، ومعاني القرآن وإعرابه، وأحكام القرآن، والمغازي والسير، والوعظ، والزهد، والحكم.
وطريقة أبي الليث أنه يفسر القرآن بالجزء، ويسرد الأقوال في بيان المعاني، ولكنه نادرا ما يرجح بين الأقوال، وقليلا ما يذكر اختياره.
وبالرغم من تأثر بعض الأعلام بالمصنف، والنقل عنه، واعتماده أقواله، كالقاضي عياض (1)، والكرماني (2)، والقرطبي ت (671هـ)،
__________
(1) هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي، إمام في الحديث وعلومه، والنحو واللغة، وأيام العرب وأنسابها، تصانيفه عديدة منها المدارك، توفي (544هـ).
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 20/ 212والبداية والنهاية لابن كثير: 12/ 225.
(2) هو محمود بن حمزة بن نصر الكرماني، المعروف بتاج القراء، له تفسير فيه آراء مستنكرة، توفي (505هـ). انظر: بغية الوعاة للسيوطي: 2/ 277وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 312.(1/303)
والسيوطي ت (911هـ) والبرسوي ت (1127) (1) وغيرهم، فإنه يؤخذ على هذا التفسير مآخذ عديدة أشار إليها المشتغلون به (2)، من أهمها الركاكة في العبارة، والضعف في التعبير، الذي ظهر في مواطن عديدة منه، والإسهاب والاستطراد في سرد الحكاية التي لا فائدة منها، إضافة إلى اعتماده بعض الأحاديث الضعيفة.
وقد جاءت مقدمة أبي الليث قصيرة موجزة، أشار المصنف فيها لمسألتين فقط، الأولى في بيان الحاجة إلى علم التفسير، والأخرى في إباحة التفسير بالرأي المبني على وجوه اللغة وأحوال التنزيل، واستدل على ما ذهب إليه ببعض الآثار روى بعضها بسنده.
وقد طبعت المقدمة ثلاث طبعات، الأولى منها نسخت على الآلة الكاتبة، وقدمت رسالة علمية من (أول الكتاب إلى نهاية سورة الأنعام)،
__________
(1) هو إسماعيل حقي بن مصطفى الإسلامبولي الحنفي، تركي مستعرب، له روح البيان في التفسير، توفي (1127هـ) انظر: الأعلام للزركلي: 1/ 313.
(2) انظر: تفسير القرآن لأبي الليث (رسالة علمية)، تحقيق صالح صواب: 1/ 73.(1/304)
إلى جامعة القاهرة، كلية دار العلوم عام 1983م، نال بها الباحث عبد الرحيم أحمد الزقة، درجة الدكتوراة.
ثم طبعت بمطبعة الإرشاد في بغداد عام 1405هـ 1985م، الطبعة الأولى في ثلاثة مجلدات.
والطبعة الأخرى أيضا نسخت على الآلة الكاتبة مع سورتي الفاتحة والبقرة، قدمت رسالة علمية إلى كلية أصول الدين، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، نال بها الباحث الدكتور / محمد آل عبد القادر درجة الدكتوراة في القرآن وعلومه.
وطبعت طبعة ثالثة وظهرت كاملة غير منقوصة، في ثلاثة مجلدات، وصدرت عن دار الكتب العربية في بيروت، عام 1413هـ، بتحقيق علي محمد عوض وعادل أحمد عبد الموجود، وزكريا عبد المجيد النوتي.
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة:
على غير عادة المفسرين الذين يستهلون تفاسير هم بخطبة موجزة يثنون فيها على المنعم الذي جعلهم من أهل القرآن، ووفقهم للتأليف في تفسيره، كما يبينون مناهجهم ومصادرهم والباعث على التأليف وغير ذلك قبل الشروع في المقدمة التي تخصّص في العادة للبحث في بعض المسائل الهامة للمفسر، على غير هذا النهج استهل أبو الليث مقدمته بسرد شيء من الآيات والآثار التي تحث على طلب علم التفسير، وتبين مدى الحاجة
إليه لمن أراد فهم مراد الله تعالى، ليقرر بذلك أن طلب التفسير والتأويل واجب ما دام أنه تعالى أنذرهم بهذا الوحي {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هََذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19].(1/305)
على غير عادة المفسرين الذين يستهلون تفاسير هم بخطبة موجزة يثنون فيها على المنعم الذي جعلهم من أهل القرآن، ووفقهم للتأليف في تفسيره، كما يبينون مناهجهم ومصادرهم والباعث على التأليف وغير ذلك قبل الشروع في المقدمة التي تخصّص في العادة للبحث في بعض المسائل الهامة للمفسر، على غير هذا النهج استهل أبو الليث مقدمته بسرد شيء من الآيات والآثار التي تحث على طلب علم التفسير، وتبين مدى الحاجة
إليه لمن أراد فهم مراد الله تعالى، ليقرر بذلك أن طلب التفسير والتأويل واجب ما دام أنه تعالى أنذرهم بهذا الوحي {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هََذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19].
وليس معنى هذا أن لكل أحد أن يطرق باب التفسير من ذات نفسه برأيه، بل من اللزوم معرفة وجوه اللغة وأحوال التنزيل، فقد ورد التحذير الشديد من الشارع في حق من يقدم على مثل ذلك، وروى المصنف في هذا المعنى بعض الآثار التي تبين تحرّج جماعة من الصحابة من القول في القرآن بالرأي. وبه ختم المقدمة، ليشرع في تفسير البسملة فالفاتحة.(1/306)
4 - النكت والعيون في تأويل القرآن الكريم لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري المتوفى سنة (450هـ)
أولا: التعريف بالمؤلف:
مصنف هذا التفسير هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري (1). والماوردي بفتح الميم والواو وسكون الراء في آخرها دال مهملة نسبة إلى بيع الماورد وعمله. (2) والبصري نسبة إلى موطنه.
عاش الماوردي ستة وثمانين عاما، ولم يذكر المترجمون تاريخ ميلاده، غير أن حسم هذا العمر من سنة الوفاة الذي هو عام (450هـ) يوضح لنا أنه ولد عام (364هـ). (3)
تربّى الماوردي في موطنه البصرة، في أسرة يغلب عليها الاهتمام بالعلم، وتلقى تعليمه الأولي برعاية والده الذي دفعه إلى حلقات العلم، وكانت البصرة في عهده مركزا للعلم والحضارة، وعلى درجة عالية من
__________
(1) انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 5/ 267ومعجم الأدباء لياقوت: 15/ 52 وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي: 3/ 285.
(2) انظر: الأنساب للسمعاني: 5/ 181وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي: 3/ 287.
(3) انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 12/ 102وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 429وانظر ما كتبه أستاذي الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشائع في مقدمة تحقيقه للنكت والعيون: 1/ 8.(1/307)
التقدم العلمي والحضاري، وهو السر الذي دفع قوافل طلبة العلم التوجه إليها، وكانت الثانية بعد بغداد، وحين استكمل البدايات، وتقدم في التحصيل، وتضلّع من ينابيع البصرة العلمية، وجه النظر إلى بغداد، العاصمة العلمية، فشد الرحال وودع الأهل لينضم إلى حلقات العلم هناك، ولينتظم بها، وما أن أخذ مكانه، حتى انكبّ على الدرس والمطالعة في جو مفعم بالحركة والنشاط والحيوية، وزاحم مئات الطلبة في مدينة تعجّ بأهل العلم، علماء ومتعلمين، في زمن كان لأهل العلم عامة والعلم الشرعي على الخصوص مكانتهم ومنزلتهم وتقديرهم الخاص، حتى كان السلاطين والأمراء يتباهون بأصحاب العمائم في مجالسهم، ويقربونهم ويغدقون عليهم العطايا والهبات، وقلّما يردون أحكامهم.
وظل الشيخ يتنقل في هذا الخضم الهائل من أهل العلم من عالم إلى آخر حتى حصل غايته، ونال مبتغاه، وتخرّج على أيدي ثلّة من أولئك المبرزين في علوم عديدة، فقدّم للتدريس، وقرر العودة إلى موطنه معلما بعد أن كان تركها طالب علم، وتصدّر للتدريس هناك مدة ثم عاد الكرّة إلى بغداد ليستقر به المقام، دون أن يغادره الشوق والحنين إلى مراتع الصبا، وكانت المراسلات بينه وبين أحبته هناك تسد مسد الرؤية.
بقي في بغداد مدرسا فقاضيا ثم أقضى القضاة، وانكبّ على التأليف والتصنيف حتى اشتهر صيته وذاع اسمه، وانتهت إليه رئاسة وإمامة
المذهب الشافعي في عصره. (1)(1/308)
بقي في بغداد مدرسا فقاضيا ثم أقضى القضاة، وانكبّ على التأليف والتصنيف حتى اشتهر صيته وذاع اسمه، وانتهت إليه رئاسة وإمامة
المذهب الشافعي في عصره. (1)
لقي الماوردي تقديرا وإكراما واضحين من أهل عصره، لما امتاز به يرحمه الله من علوّ الهمة وطول الباع في العلوم والمعارف، ولما عرف به من الوقار والأدب، يقول السبكي: كان إماما جليلا رفيع الشأن، له اليد الباسطة في المذهب، والمتفنن في سائر العلوم. (2)
ويقول ابن كثير: كان حليما وقورا أديبا. (3) ويقول تلميذه ابن خيرون (4): كان رجلا عظيم القدر، متقدما عند السلطان، أحد الأئمة، له التصانيف الحسان في كل فن من العلم. (5)
وحين يصف عبد الملك الهمذاني (6) وهو تلميذ له أدبه الجم وحياؤه
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 12/ 102وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي:
5/ 269267وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي: 3/ 287285.
(2) انظر طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 5/ 268.
(3) انظر البداية والنهاية لابن كثير: 12/ 80.
(4) هو أحمد بن الحسن بن خيرون، المعروف بابن الباقلاني، محدث بغداد، كان ثقة عدلا واسع الرواية، توفي (488هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 19/ 105ولسان الميزان لابن حجر: 1/ 155.
(5) انظر طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 5/ 268وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي: 3/ 286.
(6) هو عبد الملك بن إبراهيم بن أحمد الهمذاني، عرف عنه العلم بالفرائض والقسمة(1/309)
ووقاره يقول: لم أر أوقر منه، ولم أسمع منه مضحكة قط، ولا رأيت ذراعه منذ صحبته إلى أن فارق الدنيا. (1)
وقد عرف عن الماوردي إلى جانب الرسوخ في العلم، الجرأة في قول الحق والصراحة فيه فهو لا يخشى في الله لومة لائم، وعظيم التقدير لأهل العلم، والتواضع والبعد عن العجب بالذات، كما عرف عنه أنه كان أوابا، متى عرف الخطأ تراجع عنه، وسيرته مليئة بأخبار تحكي هذه المعاني. (2)
وأشيع عن الماوردي أنه معتزلي، يقول ببعض مقولاتهم، وأول من اتهمه بذلك ابن الصلاح (3) المحدث عفا الله عنه (4) وتبعه آخرون، وتصدى للتهمة ثلة من أهل العلم (5)، وبقي الاتهام مدار البحث بين مثبت وناف،
__________
والتركات، عرض عليه القضاء فامتنع، توفي (489هـ). انظر: طبقات السبكي:
5/ 162وسير أعلام النبلاء للذهبي: 19/ 31.
(1) انظر: معجم الأدباء لياقوت: 15/ 54.
(2) انظر طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 5/ 272270وأدب الدنيا والدين للمصنف: 81.
(3) هو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الكردي الشهرزوري، المعروف بابن الصلاح، أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث، له معرفة أنواع علوم الحديث، توفي (643هـ) انظر:
وفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 243وسير أعلام النبلاء للذهبي: 23/ 140.
(4) انظر طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 5/ 270.
(5) انظر لسان الميزان لابن حجر: 4/ 260.(1/310)
إلى أن جاء الأستاذ عدنان زرزور ليذهب بعيدا فيجعل تفسيره من تفاسير المعتزلة، وليقول مقولته: وأيا ما كان الأمر فإن الماوردي وضع تفسيره على أصول المعتزلة ومنهجهم في التفسير، سواء خالفهم في بعض المسائل أم لا، وسواء أجاهر بالاعتزال أم لا، وإن كنا لا ندري ما هو (حد) الجهر عند ابن الصلاح. (1)
وقد قيّض الله للماوردي بعض أهل العلم، ردوا على الأستاذ عدنان زرزور، وبينوا أن ما قاله اتهام لا محل له من الصحة، وأنه حكم متسرع يعوزه التحقيق، وأن الماوردي وإن وافق القوم في القول بالقدر فإن ذلك لا يعني أنه معتزلي، بل غاية ما يقال فيه أن له مسائل وافق اجتهاده فيها مقالات المعتزلة، ولا ينبغي أن يطلق عليه اسم الاعتزال، كما قال ابن حجر. (2)
شيوخه وتلاميذه:
تتلمذ الماوردي على خلق كثير من أهل موطنه البصرة، ومهجره بغداد، وزاحم الركب في حلقات عديدة، ومن شيوخه:
__________
(1) انظر الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير، للدكتور / عدنان زرزور: 143.
(2) انظر: العز بن عبد السلام حياته وآثاره ومنهجه في التفسير، للدكتور / عبد الله بن إبراهيم الوهيبي: 192وانظر: ما كتبه أستاذي الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشائع في مقدمة تحقيقه للنكت والعيون: 1/ 156141.(1/311)
أبو القاسم عبد الواحد الصميري (1)، وأبو حامد أحمد بن أبي طاهر محمد بن أحمد الأسفراييني وغيرهما.
أما الذين تلقوا العلم عن الماوردي فهم أيضا خلق كثير، فالماوردي كما علمنا من سيرته عمل بالتدريس ردحا من الزمن في البصرة وبغداد، كما أن عمله في سلك القضاء وحيازته لقب أقضى القضاة، وإسناد رئاسة وإمامة مذهب الشافعية له، جعل الطلبة يحرصون على التلقي عنه.
فمن تلامذته:
أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (2)، وعلي بن سعيد العبدري ت (493هـ) (3) وغيرهما.
__________
(1) هو عبد الواحد بن الحسين بن محمد القاضي الصميري، أحد أئمة الشافعية، نسبة إلى صمير أحد أنهار البصرة، من تصانيفه الإيضاح في المذهب، توفي (386هـ). انظر:
طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 3/ 339ومعجم البلدان لياقوت: 3/ 439.
(2) هو أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، المعروف بالخطيب، حافظ ناقد مؤرخ، مصنفاته كثيرة جدا، منها تاريخ بغداد، أطال الذهبي في ترجمته، توفي (463هـ) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/ 270تذكرة الحافظ للذهبي: 3/ 317والبداية والنهاية لابن كثير: 12/ 101.
(3) هو علي بن سعيد بن عبد الرحمن بن محرز العبدري، عالم عارف باختلاف العلماء، صاحب الفتيا، توفي (493هـ) انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 5/ 257.(1/312)
مؤلفاته:
للماوردي تصانيف حسان في كل فن، كما قال ياقوت في معجمه (1)، فهو مصنّف موسوعي، وقد وصل عدد مؤلفاته إلى ثمانية عشر مؤلّفا، نذكر منها: الأحكام السلطانية، ولأهميته ترجم إلى عدد من اللغات، وهو من أشهر مصنفات المؤلف (2)، وأمثال القرآن، ويعد الماوردي أول من أفرد هذا الفن بتأليف مستقل، والحاوي الكبير في الفقه (مطبوع)، الاقناع، وهو مختصر للحاوي، مجرد عن الأدلة، وكتاب في البيوع، وقوانين الوزارة وسياسة الملك (مطبوع)، وأدب الدنيا والدين (مطبوع). إضافة إلى تفسيره النكت والعيون، وغيرها من المصنفات. (3)
وفاته:
توفي الماوردي رحمه الله يوم الثلاثاء، آخر شهر ربيع الأول سنة 450هـ، ودفن في بغداد، وحضر جنازته جمع غفير من أهل العلم والريادة. (4)
__________
(1) انظر: معجم الأدباء: 15/ 54.
(2) انظر: مقدمة تحقيق النكت والعيون للدكتور الشائع: 1/ 59.
(3) ينظر: أدب الدنيا والدين للمصنف: 81وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 428 وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي: 3/ 286وانظر ما كتبه الدكتور الشائع عن مصنفات الماوردي في مقدمة تحقيقه للنكت والعيون: 1/ 6624.
(4) انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 12/ 102. وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 5/ 269.(1/313)
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة:
حصر الأقوال، وحسن العرض، مع جمال الأسلوب، ودقة العبارة والإيجاز، كلها نعوت تنطبع في فكر الناظر في النكت والعيون للماوردي منذ الوهلة الأولى، وهي كلها تدل على ما أوتي المصنف من قوة البيان وسلامة الفكر التي مكّنته من تقديم مادة تفسيره بصورة تترك ذاك الانطباع الجميل لدى القارئ.
فالقارئ للماوردي في تفسيره لا يجد الاستطراد الذي قد يبعد بالمعاني، وينأى بالقريب، كما هو الحال عند بعض المفسرين، مع أن المصنف قلّما يهمل قولا ذي بال دون أن يذكره.
لقد اقتصر الماوردي في تفسيره على بيان الغامض الخفي من آيات الذكر الحكيم، دون الظاهر الجلي إذ هو مفهوم من التلاوة، جمع لبيان ذلك
__________
قد أورد فضيلة الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشائع، في المقدمة التي قدمها بين يدي تحقيقه للنكت والعيون: 1/ 661قائمة طويلة بالمصادر التي ترجمت للماوردي بلغت ستا وأربعين مرجعا، نختار منها ما رجعت إليه وهي: الأنساب للسمعاني: 5/ 181 البداية والنهاية لابن كثير: 12/ 80وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي: 12/ 102 وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي: 3/ 287285وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 5/ 185167وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 429427دار الكتب العلمية بيروت وطبقات المفسرين للسيوطي: 71ولسان الميزان لابن حجر:
4/ 260ومعجم الأدباء لياقوت الحموي: 15/ 52.(1/314)
أقوال أهل العلم من السلف والخلف، وأضاف ما سنح به الخاطر مما توصل إليه بإعمال الفكر، والنظر في الأدلة، متبعا الإيجاز والاختصار في نقل الأقوال والأخبار، وعرضها بأسلوب بديع وعبارة زادت المعاني جلاء ووضوحا، دون أن يغفل عن التصريح بالقائل، أو التعقيب على الرديء المتكلف من الأقوال أحيانا كثيرة.
واهتم المصنف في تفسيره أيضا ببيان أسباب النزول والقراءات غالبا، كما أولى الجانب اللغوي اهتماما عظيما، وخاصة الفروق اللغوية بين المفردات التي يظن أنها مترادفة، وكذا اهتم ببيان الأحكام الفقهية، واستطاع أن يعالج الأحكام معالجة قرآنية بعيدا عن الاستطرادات الفقهية، رغم أن الماوردي عرف فقيها أكثر منه مفسرا.
وقد استمد المصنف مادة تفسيره من مصادر عديدة ومتنوعة، في شتى الفنون، من الأثر والمعقول. وبين في الخطبة التي قدمها بين يدي تفسيره منهجه في التصنيف فقال:
(ولما كان ظاهر الجليّ مفهوما بالتلاوة، وكان الغامض الخفيّ لا يعلم إلا من وجهين: نقل واجتهاد، جعلت كتابي هذا مقصورا على تأويل ما خفي علمه، وتفسير ما غمض تصوّره وفهمه، وجعلته جامعا بين أقاويل السلف والخلف، وموضحا عن المؤتلف والمختلف، وذاكرا ما سنح به الخاطر من معنى يحتمل، عبّرت عنه بأنه محتمل، ليتميّز ما قيل مما قلته، ويعلم ما استخرج مما استخرجته.، وعدلت عمّا ظهر معناه من فحواه،
اكتفاء بفهم قارئه وتصوّر تاليه، ليكون أقرب مأخذا، وأسهل مطلبا). (1)(1/315)
(ولما كان ظاهر الجليّ مفهوما بالتلاوة، وكان الغامض الخفيّ لا يعلم إلا من وجهين: نقل واجتهاد، جعلت كتابي هذا مقصورا على تأويل ما خفي علمه، وتفسير ما غمض تصوّره وفهمه، وجعلته جامعا بين أقاويل السلف والخلف، وموضحا عن المؤتلف والمختلف، وذاكرا ما سنح به الخاطر من معنى يحتمل، عبّرت عنه بأنه محتمل، ليتميّز ما قيل مما قلته، ويعلم ما استخرج مما استخرجته.، وعدلت عمّا ظهر معناه من فحواه،
اكتفاء بفهم قارئه وتصوّر تاليه، ليكون أقرب مأخذا، وأسهل مطلبا). (1)
وطريقة المصنف يرحمه الله أنه يسرد الآية أو الجزء من الآية التي هو بصدد بيان غامضه، وتأويل خفيّه، ثم يعقب ذلك بالبيان بعبارة موجزة، فإن كان هناك اختلاف بين أهل العلم في تعيين المراد، يصرّح بذلك في الغالب ثم يقول: (فيه أقوال)، أو يقول: (فيه قولان)، أو (ثلاثة أقوال)
وهكذا. ثم يقول: (القول الأول) ويذكره، ثم (الثاني) ويذكره وهكذا.
ولتفسير الماوردي أثر واضح في كثير من التفاسير التي جاءت بعده كابن الجوزي والقرطبي وأبي حيان، وغيرهم وإن كان الأول أكثرهم تأثرا، فقد التزم منهج الماوردي وطريقته في العرض والإيجاز.
وسبق أن أشرت إلى ما أشيع حول الماوردي من تهمة الاعتزال، وعدّ تفسيره واحدا من تفاسير القوم، وبينت أن ذلك اتهام لا يخرج التفسير من تفاسير أهل السنة بأية حال وإن وافق بعض اجتهاداته مقولات القوم.
وعلى العموم يستطيع المرء أن يلخص القول في هذا التفسير ويقول:
1) إنه مختصر كامل للقرآن، وتفسير للغامض من ألفاظ ومعاني الذكر الحكيم.
2) إنه تفسير جمع المصنف فيه بين الرواية والدراية، وجعله جامعا
__________
(1) انظر المقدمة: 1/ 21.(1/316)
لأقاويل السلف والخلف.
3) إن المصنف اهتم بذكر اللغة والقراءات وأسباب النزول والأحكام الفقهية.
4) امتاز هذا التفسير بحسن عرض الآراء والأقوال وحصرها، مع نسبتها إلى قائليها، بأسلوب جميل وعبارة دقيقة موجزة.
وقد قدم الماوردي لتفسير القرآن (فصولا تكون لعلمه أصولا، يستوضح منها ما اشتبه تأويله، وخفي دليله) (1) بهذه العبارة نعت الماوردي المقدمة التي قدمها بين يدي تفسيره والتي استغرقت ما يربو على عشرين صفحة من القطع المتوسط، وجاءت كالتفسير تماما من حيث البلاغة والبيان وقوة العبارة والإيجاز.
تعرض المصنف لعدة موضوعات، وأسماها فصولا، سلك فيها مسلك الإيجاز فيما يتعلق بنقل الأقوال والآراء، وذكر الأدلة باختصار، دون اعتماد الردود والمناقشات، مع تجنب ذكر الأقوال الضعيفة والمردودة.
وامتازت المقدمة بحسن السبر والتقسيم للأقوال والموضوعات، وهو أمر أجلى الموضوعات المطروقة وبيّنها، فكانت في غاية الوضوح، وهذه الموضوعات هي:
__________
(1) انظر المقدمة: 1/ 21.(1/317)
1 - أسماء القرآن.
2 - أسماء سور القرآن.
3 - معنى السورة والآية.
4 - الأحرف السبعة.
5 - إعجاز القرآن.
6 - حكم التفسير بالرأي أو الاجتهاد.
7 - أقسام التفسير.
8 - الظهر والبطن والحد والمطلع.
وقد طبعت المقدمة فيما أعلم ثلاث طبعات، إحداها بالآلة الكاتبة، والطبعات على النحو التالي:
1) طبعت على الآلة الكاتبة، مع دراسة للمؤلف وللكتاب، وتحقيق أجزاء منه، بتحقيق فضيلة الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشائع، بعنوان:
تفسير الماوردي النكت والعيون في تأويل القرآن الكريم، قدمت رسالة علمية لنيل درجة الدكتوراة في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
2) قامت وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت بطباعة ونشر الكتاب بتحقيق السيد خضر محمد خضر، ومراجعة الدكتور / عبد
الستار أبو غدة. وعلى الطبعة ملحوظات وفيها سقط أشار إليها فضيلة الدكتور الشائع في دراسته للكتاب. (1)(1/318)
2) قامت وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت بطباعة ونشر الكتاب بتحقيق السيد خضر محمد خضر، ومراجعة الدكتور / عبد
الستار أبو غدة. وعلى الطبعة ملحوظات وفيها سقط أشار إليها فضيلة الدكتور الشائع في دراسته للكتاب. (1)
3) صدرت أخيرا طبعة علق عليها وراجعها السيد عبد المقصود بن عبد الرحيم، وقامت دار الكتب العلمية، ومؤسسة الكتب الثقافية ببيروت بطباعتها ونشرها. وهي التي اعتمدتها في هذه الدراسة.
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة:
أسدى الماوردي الشكر للمنعم الذي هداه والمسلمين للدين القويم، ومنّ عليهم بالكتاب المعجز المبين، ولأن من الكتاب ما هو ظاهر جلي مفهوم بالتلاوة يفهمه العامة فضلا عن الخاصة، ومنه الغامض الخفي الذي خص الله لتأويله العلماء دون غيرهم، جعل المصنف كتابه هذا مقصورا على تأويل ما خفي علمه، وتفسير ما غمض فهمه.
كان هذا في التقديم الذي قدمه المارودي بين يدي تفسيره، كما بيّن فيه منهجه في التفسير، وما قدّم بين يدي تفسيره من مقدمات هي كالأصول له، يستوضح منها ما اشتبه تأويله، وخفي دليله. ثم سأل الله العون والسداد، وشرع في بيان المقصود.
فذكر أنه تعالى جلّت قدرته سمى كتابه المنزل بأسماء، هي القرآن
__________
(1) انظر النكت والعيون تحقيق الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشائع: 1/ 5347.(1/319)
والفرقان والكتاب والذكر، فبين دليل كل تسمية من آيات الذكر الحكيم، ثم شرع في بيان تأويل تلك التسميات، وبيان أقوال العلماء فيها، وكان هذا هو مضمون الفصل الأول من المقدمات.
في حين خصص الفصل الذي يليه لبيان تأويل أسماء كتب الله المنزلة، التوراة والزبور والإنجيل.
وانتقل عقب ذلك إلى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه واثلة بن الأسقع رضي الله عنه (1): أعطاني ربي مكان التوراة السبع الطوال، ومكان الإنجيل المثاني، ومكان الزبور المئين، وفضلني ربي بالمفصل. (2)
فذكر ما هي السبع الطوال، كما ذكر سبب التسمية، وبين ما هي المئين، ثم المثاني والأقوال الواردة في بيانها، وأخيرا المفصل وسبب التسمية والخلاف في تحديد أول المفصل.
ثم بين في الفصل الذي يليه معنى السورة والآية، فبيّن أولا أن
__________
(1) هو واثلة بن الأسقع بن كعب الليثي، صحابي شجاع فاضل، أحد فقراء الصفة، قدم المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لغزوة تبوك فأسلم، وعاد إلى قومه فأسلمت أخته، ثم عاد فشهد تبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي (85هـ). انظر: طبقات ابن سعد: 1/ 305 والإصابة لابن حجر: 3/ 626.
(2) رواه الطبري في التفسير: 1/ 100، قال الأستاذ شاكر يرحمه الله: رواه الطبري هنا بإسنادين، أحدهما صحيح، والآخر ضعيف. ورواه الطبراني في الكبير: 22/ 75.(1/320)
السورة وردت بالهمز وبغير همز، وبيّن خلاف أهل العلم على كلّ، ثم أوضح معنى الآية وتأويلها وسبب التسمية.
عقب ذلك انتقل إلى الحديث عن الأحرف السبعة، فذكر الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزول القرآن على سبعة أحرف. (1) واختلاف المفسرين في تأويل السبعة أحرف التي نزل القرآن بها، فذكر أن الأقوال أربعة، سردها بعبارة مختصرة وذكر الأدلة بإيجاز، ودون أن يرجّح شيئا منها.
ثم كان الحديث عن إعجاز القرآن الذي عجزت العرب عن الإتيان بمثله، فذكر ثمانية وجوه للإعجاز، هي حصيلة أقوال أهل العلم في المسألة، وهي:
1) أن وجه إعجازه هو الإعجاز والبلاغة.
2) أنه البيان والفصاحة.
3) وقيل: بل هو الرصف الذي تنقضي به العادة، حتى صار خارجا
__________
(1) قال صلى الله عليه وسلم: «نزل القرآن على سبعة أحرف والمراء في القرآن كفر (ثلاث مرات) فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم فردوه إلى عالمه». أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 21، والإمام أحمد في المسند: 2/ 300ط الحلبي. وأورده الهيثمي في المجمع: 7/ 151.(1/321)
عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب وغير ذلك.
4) أن وجه إعجازه هو أن قارئه لا يكلّ وأن سامعه لا يملّ.
5) أنه لما فيه من الأخبار بما كان مما علموه أو لم يعلموه، وإذا سألوا عنه عرفوا صحته.
6) هو ما فيه من علم الغيب، والإخبار بما يكون.
7) كونه جامعا لعلوم لم تكن فيهم آلاتها، ولا تتعاطى العرب الكلام فيها، ولا يحيط بها من علماء الأمم واحد، ولا يشتمل عليها كتاب.
8) أن وجه إعجازه هو في الصّرفة بأحد وجهيه، إما أن العرب صرفوا عن القدرة عليه، ولو تعرضوا لعجزوا عنه، أو أنهم صرفوا عن التعرض له.
وانتهى المصنف إلى القول بأن القرآن معجز بكل تلك الوجوه. ويعد رأيه هذا بمثابة قول تاسع، وهو أبلغ في الإعجاز وأبدع في الفصاحة والإيجاز.
انتقل المصنف بعد هذا للحديث عن التفسير بالرأي والاجتهاد، فبيّن أن كون القرآن في تلك المنزلة من الإعجاز في النظم والمعنى يستدعي لمن أراد العمل بموجبه ضرورة استخراج معاني ألفاظه، وهو أمر يحتاج إلى زيادة تأمل في الألفاظ والآيات ليصل المرء إلى جميع ما تضمنته تلك الألفاظ من المعاني، واحتملته من التأويل، ولهذا لا مناص من القول بضرورة
الاجتهاد في فهم النص، وهو أمر تعبّد الله تعالى به خلقه في خطابهم بلسان عربي مبين، فقال تعالى {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].(1/322)
انتقل المصنف بعد هذا للحديث عن التفسير بالرأي والاجتهاد، فبيّن أن كون القرآن في تلك المنزلة من الإعجاز في النظم والمعنى يستدعي لمن أراد العمل بموجبه ضرورة استخراج معاني ألفاظه، وهو أمر يحتاج إلى زيادة تأمل في الألفاظ والآيات ليصل المرء إلى جميع ما تضمنته تلك الألفاظ من المعاني، واحتملته من التأويل، ولهذا لا مناص من القول بضرورة
الاجتهاد في فهم النص، وهو أمر تعبّد الله تعالى به خلقه في خطابهم بلسان عربي مبين، فقال تعالى {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
ثم عرّض بأولئك الذين فهموا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه جندب بن عبد الله رضي الله عنه (1): «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» (2)
فهما خاطئا، فظنوا أنه الإحجام عن التفسير وإن كانت الشواهد واضحة، وأمرّوا الحديث على ظاهره، فوصفهم بقلة العلم، ونعتهم بضعف الخبرة.
بعدها بيّن تأويل الحديث على الوجه الصحيح الذي رآه، فقال: ولهذا الحديث إن صحّ تأويل معناه: أن من حمل القرآن على رأيه، ولم يعمل على شواهد ألفاظه فأصاب الحق فقد أخطأ الدليل. (3) وهو فهم معتبر للنص ارتضاه خلق ممّن جاء بعده كابن عطية والقرطبي وغيرهما.
إثرها ذكر المصنف المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن
__________
(1) هو جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي العلقي، صحابي سكن الكوفة والبصرة، توفي في فتنة الزبير فيما بين (7060هـ) انظر: الاستيعاب لابن عبد البر: 1/ 217 والإصابة لابن حجر: 1/ 248.
(2) رواه الطبري في التفسير: 1/ 79، والبغوي في شرح السنة: 1/ 259، والنسائي في فضائل القرآن: 114، والترمذي في سننه: 5/ 200، وقال: وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم. وقال الحافظ في التقريب: 1/ 338عن سهيل بن أبي حزم: ضعيف.
(3) انظر النكت والعيون: 1/ 35.(1/323)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه». (1)
فبين تأويل مفردات الأثر، وقال: وهذا دليل على أن تأويل القرآن مستنبط منه. (2)
انتقل المصنف بعد هذا ليبيّن أقسام التفسير، فأوضح أنه إذا جاز الاجتهاد في استخراج معاني القرآن من فحوى ألفاظه، وشواهد خطابه الأمر الذي أقره قبل قليل فإن الحبر ابن عباس رضي الله عنهما قسم التفسير أربعة أقسام، ذكرها وارتضاها، وعقب على الأخير منها وهو القسم الذي لا يعذر أحد بجهالته، فبين أنه داخل في جملة ما يعلمه العلماء، وبذلك يصير التفسير عنده ثلاثة أقسام:
1) قسم اختص الله تعالى بعلمه، واستأثر به ولم يطلع عليه عباده.
2) قسم يرجع في معرفته إلى لسان العرب.
3) وقسم ثالث يرجع فيه إلى اجتهاد العلماء، وهو تأويل المتشابه، واستنباط الأحكام، وبيان المجمل وما إلى ذلك.
وبين أن العلماء قد يختلفون في تأويل بعض المعاني للألفاظ المحتملة لأكثر من معنى، وحينئذ لا مناص للترجيح بين الأقوال من التعويل على
__________
(1) رواه الدارقطني في السنن عن ابن عباس: 4/ 145، وفي إسناده زكريا بن عطية، قال عنه أبو حاتم: منكر الحديث. انظر ميزان الاعتدال: 2/ 74.
(2) انظر: النكت والعيون: 1/ 36.(1/324)
الضوابط التي وضعها العلماء، لهذا ذكر المصنف ما الذي يفعل في مثل هذه الحالات.
وجاء الختام لبيان معنى الحد والمطلع، والظهر والبطن، وهي المفردات الواردة في الأثر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما نزل من القرآن من آية إلا لها ظهر وبطن، ولكل حرف حدّ، ولكل حدّ مطلع». (1)
رابعا: منهج الماوردي في مقدمته:
قسم الماوردي المقدمة التي قدمها بين يدي تفسيره والتي جعلها أصولا فصولا، خصّ كل فصل لأصل من تلك الأصول التي رأى أنها توضح المشتبه، وتظهر الدليل للناظر في التفسير.
وقد اقتصد المصنف في القول والبيان، لكل ما رأى بحثه من الأصول والفنون، فقدم ما أراد تقديمه بعبارة موجزة رصينة، متبعا نهجا يعدّ الرائد فيه، ومن أبرز ملامح هذا النهج:
__________
(1) رواه ابن حبان في صحيحه برقم 74: 1/ 157، عن ابن مسعود. وذكره الهيثمي في المجمع: 7/ 152ونسبه للبزار وأبي يعلى والطبراني في الأوسط. وقال: رجال أحدهما ثقات. وأخرجه الطبري في التفسير: 1/ 22عن ابن مسعود بلفظ: أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل حرف منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع. قال أحمد شاكر: روي بإسنادين ضعيفين، أما أحدهما فلانقطاعه بجهالة راويه. وأما الآخر فمن أجل إبراهيم الهجري.(1/325)
1 - حسن عرض الأقوال في المسائل المختلف فيها، فتراه يجمل الأقوال ويحصرها في عدد، ثم يفصلها بعد ذلك بذكر الأول فالثاني فالثالث ذاكرا ما قد يتفرع على ما سبق أن ذكره من أقوال مع نسبة الأقوال إلى قائليها من الصحابة والتابعين والأئمة المعتبرين.
2 - إيجاز العبارة، ودقة التعبير، وجمال الأسلوب. (1)
فقد أحسن المصنف القول، وأحكم العبارة، وهو أمر يعزو فضيلة الدكتور محمد عبد الرحمن الشائع التوفيق فيه بعد الله إلى موسوعية المصنف، وسعة علمه، وتنوع ثقافته، الأمر الذي مكّن المصنف من صياغة تفسيره ومنها المقدمة بأسلوب أدبي رفيع أظهرت تمكنه من ناصية اللغة، والبراعة في اختيار المفردات والتراكيب، حتى إنك نادرا ما تجد عبارة أو جملة يمكن حذفها أو الاستغناء عنها بغيرها، وهو بهذا جمع بين دقة عبارة الفقيه، وجمال أسلوب الأديب. (2)
ومن منهج المصنف ذكر الأدلة لأغلب الأقوال والآراء التي يوردها، آية كانت أم حديثا أم شاهدا من كلام العرب وأشعارها، وهو في استشهاده بالأثر لا يذكر صحة ما يستشهد به، إلا نادرا. (3)
__________
(1) انظر: النكت والعيون بتحقيق الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشائع 1241.
(2) انظر: النكت والعيون بتحقيق الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشائع 1/ 124.
(3) انظر: النكت والعيون: 1/ 35.(1/326)
وللماوردي اختياراته في بعض المسائل، فهو قد يرد على بعض الأقوال ويضعفها، وقد يصرح برأيه في بعض الأحايين. (1)
تلك هي السمات البارزة لمنهج الماوردي. (2)
خامسا: مدى التزام المصنف في تفسيره بما ذكره في مقدمته:
الناظر في خطبة الماوردي التي قدم بها تفسيره يجده حدد ملامح منهجه بوضوح، فهو قد حصر تفسيره على بيان الغامض إذ هو محل بحث العلماء، دون الظاهر الذي يفهمه كل عارف بلغة العرب، وهذا شرط التزمه وسار عليه. (3)
ومن شرطه جمع أقوال علماء السلف في بيان هذا الغامض، وعرضها، وهذا الآخر التزمه المصنف فهو لا يتوانى عن عرض أقوال السلف في بيان معاني الألفاظ ومدلولاتها، ونسبة ذلك إليهم في الغالب، كما أنه يصرح بموقفه ورأيه في كثير منها، معللا رأيه أحيانا، وتاركا التعليل في أحايين أخرى. (4)
__________
(1) ينظر مثال ذلك: 1/ 2826.
(2) انظر أمثلة ذلك: 1/ 36343230.
(3) انظر: أمثلة ذلك: 1/ 466259139.
(4) انظر: أمثلة ذلك: 1/ 461410263187.(1/327)
كما اشترط الماوردي أن يضيف إلى أقوال السابقين ما سنح به خاطره من المعاني. (1)
سادسا: مصادر الماوردي في مقدمته:
لم يصرح الماوردي في مقدمته باسم مصدر واحد من مصادره التي استمد منها مادة مقدمته، وإن كان قد صرح بذكر أسماء بعض الأعلام ممن لهم اختيارات في بعض المسائل، وتأويل لبعض الآثار، وهي سمة لمنهج الماوردي كما ذكرت ذلك قبل قليل، وقد عزا جملة من الأقوال إلى قائليها سواء من الصحابة كابن عباس رضي الله عنهما (2)، أو التابعين كسعيد بن جبير (3)، والحسن البصري (4)، وقتادة (5)، كما عزا إلى أبي عبيد القاسم بن سلام في أكثر من موضع (6)، والأصمعي. (7)
__________
(1) انظر أمثلة التزام المصنف بمنهجه في: 1/ 465370.
(2) انظر مثاله الصفحات: 1/ 3635272623.
(3) انظر مثاله الصفحات: 1/ 26.
(4) انظر مثاله: 1/ 26.
(5) انظر مثاله: 1/ 24.
(6) انظر مثاله الصفحات: 1/ 4130.
(7) انظر مثاله: 1/ 31، والأصمعي هو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك الأصمعي، نحوي لغوي إخباري، نعته الذهبي فقال: حجة الأدب، لسان العرب، توفي (215هـ). انظر: طبقات النحويين واللغويين للزبيدي: 167وسير أعلام(1/328)
وطريقته في العزو في الغالب أنه يذكر القول، ثم يقول: وهو قول فلان. أو وهذا قاله فلان (1). أو أن يحكي القول أو الحكاية ثم يقول: حكاه فلان. (2)
سابعا: أهم مزايا مقدمة الماوردي:
يعدّ الماوردي من المفسرين المتقدمين الذين قدموا بين يدي تفاسيرهم مقدمات في علوم القرآن، وهي في حد ذاتها ميزة لها أهمية خاصة إذ هم الذين أصّلوا فن المقدمات.
وقد امتازت المقدمة بميزات أظهرها:
1 - تناوله جملة من الموضوعات التي لها أهميتها في عصر المؤلف، كموضوع الإعجاز والتفسير بالرأي.
2 - حسن السبر والتقسيم، مع الشمول والحصر للأقوال في المسائل المطروقة، وعرضها بعبارة موجزة جميلة وأسلوب أدبي رصين.
3 - عزو الأقوال إلى قائليها في الغالب.
__________
النبلاء لذهبي: 10/ 175.
(1) انظر: النكت والعيون: 1/ 412624.
(2) انظر: النكت والعيون: 1/ 3130.(1/329)
4 - التوجيه والتوضيح لبعض النصوص والآثار.
ثامنا: أهم المآخذ على المقدمة:
1) عدم تناول بعض الموضوعات الهامة كالمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وأحسن طرق التفسير، وحكم تفسير الصحابي، والتابعي، وغير ذلك مما هو من صلب أصول التفسير.
2) القصور في معالجة بعض المسائل التي كان من المفترض بيانها بصورة أفضل، كالأحرف السبعة، الموضوع الذي تعددت فيه الأقوال حتى في زمن المصنف بل قبله، وتباينت بصورة ملحوظة، فكان من حق القارئ أن يبين المصنف الرأي الراجح فيه.
3) عدم بيان درجة الآثار التي استشهد بها المصنف عند ذكره للأقوال وسرده للآراء.(1/330)
5 - الوسيط في تفسير القرآن المجيد (1)
لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي المتوفى سنة (468هـ)
أولا: التعريف بالمؤلف:
مؤلف هذا التفسير هو الإمام أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي بن متّويه الواحدي (2) النيسابوري المولود عام (398هـ) (3).
__________
(1) ورد في تاريخ الأدب العربي لبروكلمان: 1/ 730تسميته: «الوسيط بين المقبوض والبسيط».
(2) متّويه بفتح الميم وتشديد التاء المثناة من فوقها وضمها وسكون الواو وبعدها ياء مفتوحة مثناة من تحتها ثم هاء ساكنة نسبة إلى الجد المنتسب إليه. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 304والأنساب للسمعاني: 5/ 194والواحدي: قال ابن خلكان: لم أعرف هذه النسبة إلى أي شيء هي، ولا ذكرها السمعاني، ثم وجدت هذه النسبة إلى الواحد بن الديل بن مهرة، ذكره أبو أحمد العسكري. انظر: وفيات الأعيان:
3/ 304ومرآة الجنان لليافعي: 3/ 96.
(3) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/ 339وطبقات المفسرين للسيوطي: 66 ووفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 303.(1/331)
نشأ الواحدي ميسورا في رغد من العيش، ضمن أسرة عرفت بالتجارة، واشتهرت بالثراء، وعرف أنه ثالث أخويه، عبد الرحمن (1) الفقيه المحدث، وسعد السمسار المتفقّه، انضم إلى الكتاتيب في نيسابور، وندبه أهله للعلم فتلقّى على أفاضل البلدة التعليم الأولي، ثم التحق بدار السّنة في نيسابور نفسها طالب علم مجدّ، فأخذ عن علمائها سماعا وإملاء، وهو لا يزال في مقتبل العمر، لم يتجاوز الثانية عشرة (2)، ودأب على تحصيل العلوم بنهم وجلد، فكلما أتيح له فرصة اللقاء بعالم أسرع إليه، يختار النخبة، وينتقي الفضلاء، ويشد الرحال فينتقل من مصر إلى آخر يتلقى عن الشيوخ، حتى أكثر منهم، وعرف بعلو السند، يقول عن شيوخه يرحمه الله:
ولو أثبتّ المشايخ الذين أدركتهم واقتبست عنهم هذا العلم يعني علم التفسير من مشايخ نيسابور وسائر البلاد التي وطئتها لطال الخطب، وملّ الناظر. (3) ومن شيوخه:
شيوخه:
__________
(1) هو عبد الرحمن بن أحمد الواحدي، ثقة صادق معمر، أملى مجالس، توفي (487هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/ 342والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي: 5/ 104.
(2) انظر أسباب النزول للواحدي: 306وسير أعلام النبلاء للذهبي: 18/ 342.
(3) انظر: البسيط للواحدي: المقدمة.(1/332)
أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعلبي (1)، وأبو الفضل أحمد بن محمد العروضي الصفّار (2)، وغيرهم. (3)
تبحّر الواحدي في الفنون والعلوم، وأحرز ما عجز غيره عن تحصيله، فكان مفسرا واحد عصره في التفسير، وإمام علماء التأويل (4)، أثنى عليه أهل الفضل من العلماء، نعته ابن قاضي شهبة بقوله: كان فقيها إماما في النحو واللغة وغيرهما، شاعرا، وأما التفسير فهو إمام عصره. (5)
وقال ابن خلكان (6): كان أستاذ عصره في النحو والتفسير. (7)
__________
(1) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري، شيخ التفسير، أحد أوعية العلم، صاحب التفسير، توفي (427هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 435وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 66.
(2) هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف النيسابوري، شيخ النحو، وأديب نيسابور، توفي (416هـ). انظر: معجم الأدباء لياقوت: 4/ 261وسير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 389.
(3) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/ 339وطبقات المفسرين للسيوطي: 66.
(4) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/ 339وطبقات المفسرين للسيوطي: 66.
(5) انظر: طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: 1/ 257.
(6) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خلكان البرمكي، أديب مؤرخ، صاحب أشهر المصنفات في التراجم، توفي (681هـ). انظر: طبقات الشافعية للسبكي: 5/ 14 وشذرات الذهب لابن العماد: 5/ 371.
(7) انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 303.(1/333)
ونقل الذهبي عن السمعاني قوله: كان الواحدي حقيقا بكل احترام وإعظام لكن كان فيه بسط لسان في الأئمة. قال الذهبي: وهو لكونه قال في تفسير السلمي: ولو قال ذلك تفسير القرآن لكفّرته. قال الذهبي: الواحدي معذور مأجور. (1)
وقال غيرهم غير ذلك، فأجمع الجميع على إمامته، وقعد للتدريس وتخرج به طائفة من الأئمة، ولهذا شد طلبة العلم الرحال إليه زرافات ووحدانا، واعتكفوا بين يديه، يتلقون عنه سماعا وإملاء، وكان منهم أئمة أعلام ومن هؤلاء التلاميذ:
تلاميذه:
عبد الجبار بن محمد الخواري ت (536هـ) (2)، وعلي بن سهل بن العباس النيسابوري ت (491هـ)، وأحمد عمر بن عبد الله بن أحمد الأرغياني ت (534هـ) وطائفة غيرهم. (3)
وقد صنف الواحدي كثيرا، ورزق السعادة فيها، وأمتع الناس على
__________
(1) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/ 342.
(2) هو عبد الجبار بن محمد بن أحمد الخواري، ثقة خيّر، توفي (536هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 20/ 71وطبقات السبكي: 7/ 144.
(3) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 394وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: 1/ 256.(1/334)
حسنها، وذكرها المدرسون في دروسهم (1)، ومن ذلك:
البسيط في تفسير القرآن الكريم، والوسيط في تفسير القرآن المجيد، والوجيز في تفسير القرآن العزيز، قال الذهبي: وبتلك الأسماء سمى الغزالي تواليفه الثلاثة في الفقه. (2)، وله أسباب النزول، وهو أعظم ما ألف في هذا الباب كما قال الزركشي (3)، ورسالة في شرف علم التفسير، وشرح ديوان المتنبي (مطبوع). وغير ذلك. (4) وبعد رحلة علمية مباركة دامت ما يقرب من سبعين عاما توفي الواحدي، وانتقل إلى جوار ربه في شهر جمادى الأولى سنة (468هـ) بعد أن عانى من مرض عضال ألّم به طويلا. (5)
__________
(1) انظر وفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 303.
(2) انظر: سير أعلام النبلاء: 18/ 340.
(3) انظر البرهان في علوم القرآن:
(4) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/ 340وطبقات المفسرين للسيوطي: 67 وللداودي: 1/ 394.
(5) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/ 339ووفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 303 وشذرات الذهب لابن العماد: 3/ 330وينظر للمزيد في ترجمته: البداية والنهاية لابن كثير: 12/ 114وسير أعلام النبلاء للذهبي: 18/ 339وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي: 3/ 330وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبه: 1/ 256وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 5/ 240وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 394وطبقات المفسرين للسيوطي: 66وغاية النهاية لابن الجزري: 1/ 523والكامل في التاريخ لابن الأثير: 10/ 101ووفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 303.(1/335)
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة:
امتاز الواحدي بأنه الوحيد الذي صنّف تفسير القرآن على ثلاث مراحل، مراعيا قدرات المتلقين عنه ومستوياتهم، وقد جاءت تفاسيره الثلاثة في قالب عكست بوضوح ثقافته الواسعة وإلمامه بالعلوم المتنوعة، كما أظهرت براعة يراعه.
ويغلب على الواحدي اهتمامه بالنقل والأثر، كما أعطى المصنف لإعمال الفكر مجالا رحبا، فاستخرج كثيرا من دقائق المعاني، وصاغها بعبارة رصينة محكمة، زانها بالمأثور المنقول عن سلف الأمة.
وقد اخترت الوسيط من بين تفاسيره، لكونه ينحط عن درجة البسيط الذي تجر فيه أذيال الأقوال، ويرتفع عن مرتبة الوجيز الذي اقتصر على الإقلال، وهكذا عرّف الواحدي الوسيط الذي أعفاه من التطويل وإكثار الأقوال، فجاء أسلم من خلل الوجازة والاختصار، وأتى على النمط الأوسط، والقصد الأقوم، حسنة بين السيئتين، ومنزلة بين المنزلتين، لا إقلال ولا إملال. (1)
والوسيط تفسير بالجزء، ويعد من التفاسير التي اهتمت بالأثر واللغة
__________
وترجم له الدكتور جودة محمد المهدي ترجمة وافية حقق فيها كثيرا من المسائل في كتابه:
الواحدي ومنهجه في التفسير: 55.
(1) انظر: الوسيط: 1/ 50.(1/336)
والنحو والغريب غير أنه لم يطنب في ذلك كما فعل في البسيط، كما أولى الواحدي المسائل الفقهية شيئا من الاهتمام، وكذا أسباب النزول.
وطريقته أنه يذكر الكلمة القرآنية أو الجزء من الآية ثم يبدأ الحديث عنها من ناحية اللغة فيبين المراد والأصل اللغوي للكلمة، وقد يتكلم على نحوها ثم يسرد الأثر المحفوظ فيها ويتبعها بنقل أقوال السلف دون ذكر الأسانيد إلا نادرا، ويذكر ما استخرجه بإعمال الفكر.
هذا وللوسيط قدر واعتبار خاص عند أهل العلم فهو غاية في بابه، وقد حظي باهتمام بالغ من طلبة العلم، حتى أن السهروردي أبو النجيب المتوفى (563هـ) (1) حفظه فقال: وحفظت وسيط الواحدي في التفسير (2).
وقد جاءت المقدمة مع خطبة الكتاب في ست صفحات، ولا تعد من المقدمات التي أولت علوم القرآن اهتماما خاصا، ولعل ذلك يعود إلى كون المصنف قد أفرد شيئا من ذلك في تصانيف خاصة كأسباب النزول، والرسالة التي خصها لبيان شرف علم التفسير.
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة:
__________
(1) هو عبد القاهر بن عبد الله بن محمد بن عموية، أبو النجيب السهروردي، زاهد عابد من أعلام الصوفية، له مصنفات، وأملى مجالس، وأوذي وأهين في نهاية عمره، توفي (563هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 20/ 475وطبقات الشعراني: 1/ 140.
(2) انظر: طبقات الشافعية للسبكي: 7/ 175.(1/337)
حمد المصنف الله القادر العليم، وصلى على نبيه الكريم وعلى آله وصحبه الأخيار، ثم بين أن العلم أشرف منقبة، وأجل مرتبة، وأن العلماء هم خواص عباد الله، وهم ورثة الأنبياء يحبهم أهل السماء، وساق لبيان ذلك أثران بسنده، أحدهما صحيح أخرجه البخاري والآخر فيه من هو ضعيف، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات (1).
عقب ذلك بيّن أن أم العلوم الشرعية كتاب الله، وأن العلم بتفسيره وأسباب تنزيله ومعانيه وتأويله هو أشرف العلوم، وأن من شرفه أنه يعتمد على السماع والنقل من الشارع وممن شاهدوا التنزيل من الصحابة ومن جاء بعدهم من التابعين الذين جعلوا المصيب فيه برأيه مخطئا، وأورد بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ورد من التحذير في القول بالرأي، وما يبين أن خير ما يتمسك به العبد هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إشارة إلى وجوب اعتماد ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التفسير وغيره، فهو يذكر المعنى ثم يورد ما يعضده من الأثر.
وختم المقدمة ببيان جهده في خدمة كتاب الله وما سبق أن صنفه في التفسير، ثم بيان غايته من الوسيط الذي أقدم عليه طالبا العون من الله.
وقد طبعت المقدمة مع التفسير طبعتان:
الأولى: على آلة النسخ، قدمت رسائل علمية إلى كلية أصول الدين
__________
(1) انظر: مجمع الزوائد للهيثمي: 1/ 126والموضوعات لابن الجوزي: 1/ 263.(1/338)
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، لنيل درجة الماجستير.
والثانية: ظهرت مطبوعة في أربع مجلدات، بتحقيق مجموعة من الباحثين، صدرت عن دار الكتب العلمية في بيروت عام 1415هـ.
رابعا: منهج الواحدي في تفسيره:
نهج الواحدي في مقدمته منهجا واضحا، فهو يذكر المسألة التي يريد عرضها بعبارته مبينا رأيه، ثم يذكر أثرا في المعنى الذي أشار إليه، ذاكرا سنده في الرواية (1).
خامسا: بيان مدى التزام المصنف في تفسيره بما ذكره في مقدمته:
اشترط الواحدي على نفسه أن ينهج في تدوين تفسيره منهجا متوسطا، لا بالطويل الممل، ولا القصير المقل، يعفيه من إكثار الأقوال والتطويل، ويسلمه من خلل الوجازة والاختصار.
وهذا الشرط التزمه المصنف في تفسيره، وسار عليه باضطراد، ويظهر هذا الالتزام جليا للناظر في تفسيري المصنف البسيط والوسيط (2).
سادسا: مصادره:
__________
(1) انظر أمثلة ذلك: 1/ 494745.
(2) انظر مثال ذلك في الوسيط: 1/ 281247112.(1/339)
لم يذكر الواحدي مصدرا لمقدمته لكونه لم يذكر قولا أو رأيا لغيره.
سابعا: أهم الميزات وأظهر المآخذ:
لا يستطيع المرء أن يصنف مقدمة الوسيط للواحدي في المقدمات التي اهتمت بعلوم القرآن، فالمصنف ما أراد إلا التنبيه إلى بعض الأمور بشكل مختصر، لذا لا يمكن ذكر شيء من الميزات أو المآخذ.(1/340)
6 - معالم التنزيل لمحيي السنة أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي المتوفي سنة (516هـ)
أولا: التعريف بالمؤلف:
مؤلف هذا التفسير هو: أبو محمد، الحسين بن محمد بن مسعود بن محمد المعروف بابن الفراء البغوي (1) الشافعي، المتوفى سنة (510هـ) (2)، والذي لم تشر إليه معظم المصادر التي ترجمت له إلى سنة ولادته، غير أن ياقوت صاحب المعجم قال: إنه ولد سنة 433هـ (3)، كما ذكر الزركلي في الأعلام أن ولادته كانت عام 436هـ (4).
ولم تسعفنا المصادر التي وقفت عليها بشيء من المعلومات عن نشأة
__________
(1) (البغوي) نسبة إلى (بغشور) بضم الشين المعجمة، وسكون الواو، وراء بليدة بين هراة ومرو الروذ من مدن خراسان، نسبوا إليها على غير القياس، وقيل (بغشور) اسم الولاية، واسم المدينة (بغ) انظر: معجم البلدان لياقوت: 1/ 467ووفيات الأعيان لابن خلكان: 2/ 137ومفتاح السعادة لطاش كبرى زادة: 2/ 91.
(2) اختلف في سنة وفاته، فقيل: إنه توفي سنة (515هـ)، وقال ابن خلكان: وقد رأيت في كتاب ((الفوائد السفرية)) التي جمعها الشيخ الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري أنه توفي سنة ستة عشر وخمس مائة. انظر: وفيات الأعيان: 2/ 136.
(3) انظر معجم البلدان لياقوت: 1/ 467.
(4) انظر الأعلام للزركلي: 2/ 259.(1/341)
الإمام، ولا وضعت بين أيدينا أخبارا عن حياته زمن الطلب، ومزاحمة الركب، فهي الأخرى إذا مرحلة مجهولة لنا، غير أننا نستطيع أن نعتقد بأن البغوي عاش حياته كغيره من طلبة العلم الذين تنقلوا بين حلقات العلم، يلتقون الشيوخ ويسمعون منهم، غير أنه كان مثابرا جادا ذا نظر ثاقب، بشهادة العلماء المشهود لهم بالصلاح والعلم، وبأمارة المكانة التي تبوأها بين أهل العلم حتى حصلت له من الألقاب ما لم يحصل لغيره.
يقول الذهبي: كان عالما، علامة، زاهدا، قانعا باليسير، بورك في تصانيفه، ورزق فيها بالقبول التام، لحسن قصده، وصدق نيته (1).
وقال الحافظ ابن كثير: برع في التفسير والحديث والفقه، وكان علامة زمانه فيها (2).
وقال السيوطي: كان من العلماء الربانيين، ذا تعبد ونسك وقناعة باليسير. (3) وقال: كان إماما في التفسير، إماما في الحديث، إماما في الفقه. (4)
وعن ابن الأهدل (5): هو صاحب الفنون الجامعة، والتصانيف
__________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 19/ 439.
(2) انظر: البداية والنهاية: 12/ 193.
(3) انظر: طبقات الحفاظ للسيوطي: 456.
(4) انظر: طبقات المفسرين للسيوطي: 38.
(5) هو حسين بن عبد الرحمن بن محمد الحسيني العلوي، مفتي الديار اليمنية، وشيخها بلا(1/342)
النافعة (1).
وقد نشأ البغوي شافعيا في الفروع، سلفيا في الأصول، ولم يكن ليتعصب لرأي إمامه، بل كان يتبع الدليل والحجة، كما كان يدعو إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، ولهذا عرف عن الإمام سلامة العقيدة، وقوة الحجة، ودقة العبارة، ووضوح المعنى، وكان لهذه السمات الأثر الكبير لدى العلماء حتى نعتوه بالإمام، وبشيخ الإسلام، وركن الدين، ومحيي السنة (2).
عقيدته:
يعدّ البغوي من أئمة السلف المتبعين للكتاب والسنة، والنصوص المبثوثة في ثنايا تآليفه إضافة إلى شهادة العلماء التي تشهد له على هذه الحقيقة، ومن هذه النصوص:
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من قلب مؤمن إلا وهو بين إصبعين من أصابع رب العالمين، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه
__________
مدافع، صنف كثيرا، ومن تصانيفه القول النضر على الدعاوى الفارغة بحياة الخضر، توفي (855هـ). انظر: البدر الطالع للشوكاني: 1/ 218والأعلام للزركلي: 2/ 240.
(1) انظر: شذرات الذهب لابن عماد: 4/ 48.
(2) لقب ب «محيي السنة» وذلك حين صنف كتابه الشهير «شرح السنة» رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وقال له: لقد أحييت سنتي بشرح أحاديثي. فلقب بمحيي السنة.(1/343)
أزاغه» (1) الحديث.
قال البغوي في شرحه لهذا الحديث: والأصبع المذكور في الحديث صفة من صفات الله عز وجل وجل، وكذلك كل ما جاء به الكتاب أو السنة من هذا القبيل في صفات الله تعالى كالنفس، والوجه، والعين، واليد، والرجل، والإتيان، والمجيء، والنزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والضحك، والفرح.
إلى أن قال: فهذه ونظائرها صفات لله تعالى، ورد بها السمع، يجب الإيمان بها وإمرارها على ظاهرها، معرضا فيها عن التأويل، مجتنبا عن التشبيه، معتقدا أن الباري سبحانه وتعالى لا يشبه شيء من صفاته صفات الخلق، كما لا تشبه ذاته ذوات الخلق، قال الله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وعلى هذا مضى سلف الأمة وعلماء السنة، تلقوها جميعا بالإيمان والقبول وتجنبوا فيها عن التمثيل
__________
(1) أخرجه البغوي عن النواس بن سمعان الكلابي، شرح السنة: 1/ 166، وأحمد في المسند: 4/ 182. وأوردها السيوطي في الجامع الصغير بلفظ: بين إصبعين من أصابع الرحمن. وعزاه لأحمد وابن ماجة والحاكم، وحسنه. قال المناوي: وأخرجه النسائي في الكبرى عن عائشة، قال الحافظ العراقي: وسنده جيد. فيض القدير: 5/ 493. وقد أخرجه الحاكم في المستدرك: 1/ 525و 4/ 321وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وأقره الذهبي.(1/344)
والتأويل (1).
كما امتلأ تفسير المصنف بالأقوال التي انتصر فيها لمذهب أهل السنة والجماعة وتصدى لأهل البدع والأهواء. (2)
شيوخه وتلاميذه:
أخذ البغوي العلم عن ثلة من العلماء البارزين، والشيوخ المجيدين في صنوف العلم المعتبرة، في بلاده وخارج دياره، ومن هؤلاء:
القاضي حسين بن محمد المرورّوذي، وقد تفقه عليه البغوي قبل عام (460هـ) (3)، وأبو بكر يعقوب بن أحمد النيسابوري (4)، وأبو تراب عبد
__________
(1) انظر: شرح السنة: 1/ 168.
(2) ينظر تفسير قوله تعالى {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} [الأنعام: 103]، وقوله تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى ََ وَزِيََادَةٌ} [يونس: 26]، وقوله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} [القيامة: 22]
(3) هو القاضي حسين بن محمد بن أحمد المروذي، وقيل: المروروذي، شيخ الشافعية بخراسان، قيل: كان من أنبل شيوخ محيي السنة، توفي (462هـ). انظر: سير أعلام النبلاء: 18/ 261و 19/ 440وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 161.
(4) هو يعقوب بن أحمد بن محمد الصيرفي النيسابوري، الشيخ الرئيس الثقة المسند، قال الذهبي: كان صحيح الأصول. توفي (466هـ) انظر: سير أعلام النبلاء: 18/ 245 و 19/ 440وشذرات الذهب: 3/ 325.(1/345)
الباقي المراغي، مفتي نيسابور (1)، وغير هؤلاء كثير (2).
أما تلامذة البغوي فهم أيضا كثر، نذكر منهم:
أبو منصور محمد بن أسعد بن العطاري ت (571هـ) (3)، وأبو المكارم فضل الله بن أبي سعيد النّوقاني (4)، وغيرهما.
مؤلفاته:
ترك الإمام البغوي آثارا مفيدة من علوم التفسير والحديث والفقه، وامتازت مؤلفات المصنف بسهولة العبارة، وقوة الدليل وصحته، وإسقاط الحشو والتطويل، ومن تلك المصنفات:
__________
(1) هو عبد الباقي بن يوسف بن علي المراغي الشافعي، إمام فقيه قدوة، عرف عنه حب النفع للخلق، توفي (492هـ). انظر: سير أعلام النبلاء: 19/ 170و 19/ 440 وشذرات الذهب: 3/ 398.
(2) ينظر: سير أعلام النبلاء: 19/ 440.
(3) هو محمد بن أسعد بن محمد بن الحسين العطاري المعروف بحفدة، فقيه واعظ، سمع من البغوي تفسيره وشرح السنة وكتبهما، توفي (571هـ). انظر: سير أعلام النبلاء:
20/ 539و 19/ 440وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 161.
(4) هو فضل الله بن محمد بن أحمد النوقاني الشافعي، فقيه عالم، أخذ له والده من محيي السنة إجازة بمروياته، توفي (600هـ). انظر: سير أعلام النبلاء: 21/ 413 و 19/ 440وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 161.(1/346)
1) التهذيب في فقه الشافعية، وهو من الكتب المحررة والمعتمدة عند الشافعية، نقل النووي منه مرارا في الروضة (1).
2) معالم التنزيل: وهو تفسيره المشهور الذي نحن بصدد الحديث عنه.
3) شرح السنة: وهو من أجلّ شروح السنة التي وصلت إلينا، انتقى المؤلف الأحاديث التي شرحها بدقة تامة، وأولى هذا الكتاب عناية خاصة، فجاء مليئا بالفوائد.
4) مصابيح السنة: ضمن المصنف هذا الكتاب مجموعة من الأحاديث الصحاح والحسان، وعنى بالصحاح الأحاديث التي أخرجها البخاري ومسلم، وبالحسان التي أخرجها أصحاب السنن، وقد حذف الأسانيد.
5) الأنوار في شمائل النبي المختار صلى الله عليه وسلم (2).
6) مجموعة من الفتاوى الفقيهة: سأل عنها شيخه أبا علي المروزي (3). وغيرها.
وفاته:
__________
(1) انظر: روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي: 1/ 9.
(2) انظر: كشف الظنون: 1/ 195والرسالة المستطرفة للكتاني: 105.
(3) انظر: شرح السنة: 1/ 29وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 161.(1/347)
توفي رحمه الله تعالى بمرو في شهر شوال سنة ست عشرة وخمس مائة للهجرة (516هـ)، على الراجح من أقوال أهل العلم (1).
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة:
أثنى شيخ الإسلام ابن تيمية على تفسير البغوي حين سئل يرحمه الله عن أقرب التفاسير إلى الكتاب والسنة: الزمخشري أم القرطبي أم البغوي؟
وكانت إجابته أن: (أسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة البغوي، لكنه مختصر من تفسير الثعلبي، وحذف منه الأحاديث الموضوعة، والبدع التي فيها، وحذف أشياء غير ذلك) (2). وقال: صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة. (3)
وقد ألف البغوي تفسيره هذا استجابة لجماعة من أصحابه المخلصين
__________
(1) انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 2/ 136.
وللمزيد في ترجمته ينظر: البداية والنهاية للحافظ ابن كثير: 12/ 193وسير أعلام النبلاء للذهبي: 19/ 440439وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي: 4/ 48 وطبقات الحفاظ للسيوطي: 456وطبقات الشافعية للسبكي: 7/ 57وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 160وطبقات المفسرين للسيوطي: 38ومرآة الجنان لليافعي: 3/ 213ومفتاح السعادة لطاش كبرى زاده: 2/ 91و 2/ 129ووفيات الأعيان لابن خلكان: 2/ 136.
(2) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: 31/ 386.
(3) انظر: مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 76.(1/348)
الذين طلبوا إليه تفسيرا لكتاب الله. فصنف هذا التفسير الذي جاء متوسطا بين الطويل الممل، والقصير المخل.
كما صرح المصنف بأن ما ضمنه هذا التفسير ليس زيادة على من سبقوه من المفسرين، ولا إضافة إلى ما قدموه، ولكنه جاء تلبية لحاجة زمانه من التجديد الذي طال به العهد، وتنبيها للمتوفقين، وتحريضا للمتثبطين (1).
وقد جاء هذا التفسير الذي هو في الأصل مختصر لتفسير الثعلبي في أجمل صورة، وأحلى زينة، فكان على حد قول الخازن من أجلّ المصنفات في علم التفسير وأعلاها وأنبلها وأسناها، جامعا للصحيح من الأقاويل، عاريا عن الشبه والتصحيف والتبديل، محلى بالأحاديث النبوية مطرزا بالأحكام الشرعية، موشى بالقصص الغربية، وأخبار الماضين العجيبة، مرصعا بأحسن الإشارات، مخرجا بأوضح العبارات، مفرغا في قالب الجمال بأفصح مقال (2).
هذا وقد طعن البعض في هذا التفسير الجليل، وأفاد بأنه يوجد فيه من المعاني والحكايات ما يحكم بضعفه أو وضعه (3). وهو ما يفهم من ظاهر
__________
(1) ينظر مقدمة التفسير: 1/ 33.
(2) انظر: لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن: 1/ 3.
(3) انظر: الرسالة المستطرفة للكتاني: 78، يقول الدكتور محمد إبراهيم شريف: لقد نقل الذهبي هذه العبارة من الكتاني، وتبعه الشيخ د / عبد الله شحاتة في كتابه تاريخ القرآن والتفسير انظر: البغوي الفراء وتفسيره للقرآن الكريم: 104.(1/349)
تلك الجملة الموهمة التي أطلقها الخازن قبل قليل، والتي تفيد بأن البغوي جاء في تفسيره بالقصص الغريبة التي لا أصل لها.
وهو زعم باطل في رأي بعض الدارسين (1)، الذين يرون أن الناس قد تلقوا هذا التفسير بقبول حسن، وأن أرباب الصناعة قد شهدوا له بالإعجاب والتقدير، وأن ما لقيه من الرواج والانتشار بين أهل العلم ينفي عنه هذه التهمة.
والحق والتفسير بين أيدينا يشهد على البغوي أنه أورد بعض الإسرائيليات التي نص أئمة الحديث على أنها أخبار موضوعة، كالذي أورده في قصة هاروت وماروت، ولا يعفيه من المسئولية وهو المفسر المحدث أنه تابع في ذلك ما جاء في كتب التفسير بالمأثور، وإن كان تفسيره أسلم في هذا من غيره.
__________
(1) أشار الدكتور محمد إبراهيم الشريف إلى أنّ البغوي الذى عناه الكتاني في رسالته هو بغوي آخر غير محيي السنة واسمه عبد الله بن محمد، المعروف بالبغوي الكبير وأن المعنيّ توفي سنة (317هـ) وأورد نص الكتاني وتوصل منه إلى ما أقره من نفي هذه الشبهة وردّها. انظر: البغوي الفراء وتفسيره للقرآن: 104.
قلت: كلام الكتاني هو عن التفسير المسمى «معالم التنزيل» ومعروف أنه للبغوي محيي السنة، ولا نعلم للبغوي الكبير تفسيرا بهذا الاسم، وإنما جاء الخطأ من الكتاني الذي نسبه للبغوي الكبير، ثم إن تفسير البغوي «معالم التنزيل» موجود بين أيدينا يشهد له أو عليه.(1/350)
مهما يكن الأمر فإن ما جاء من هذا القبيل في هذا التفسير هو أقل بكثير مما جاء في غيره من التفاسير السابقة عليه واللاحقة. كما أن ما جاء فيه لا ينقص من قدره وقيمته، لكونه لا يذكرها في مناط الجزم والاعتماد لتوجيه الآية، ولكون رواية الإسرائيليات المسكوت عنها أمر لا حرج فيه.
وامتاز تفسير البغوي بسهولة العبارة بعيدا عن التكلف والتطويل، ثم الاعتماد على أحسن الطرق في التفسير وهو التفسير بالمأثور، كما يلاحظ أن تفسيره قد امتلأ بالمواطن التي انتصر فيها المصنف لأهل السنة والجماعة، فهو لهذا يعد واحدا من التفاسير الهامة التي تحوي آراء أهل السنة.
وقد قدم البغوي تفسيره بمقدمة مختصرة، بين فيها منهجه في الكتابة ودواعي التأليف، كما ذكر مصادره من كتب التفسير بالمأثور وكتب الأخبار والسير والقراءات والحديث، وعقد فصولا لبعض موضوعات علوم القرآن.
قدم الإمام البغوي لتفسيره مقدمة استغرقت أربع عشرة صفحة من القطع الكبير، بين فيها الدواعي إلى تأليف هذا التفسير، كما بين فيها مصادره من الصحابة والتابعين وأئمة السلف، وتعرض لثلاثة موضوعات من موضوعات علوم القرآن، وأفردها بالحديث، وجعل كل موضوع في فصل مستقل، وهي:(1/351)
1) فضائل القرآن وتعليمه.
2) فضائل تلاوة القرآن.
3) وعيد من قال في القرآن برأيه من غير علم.
كما تعرض لبيان معنى التفسير والتأويل، ونزول القرآن على سبعة أحرف.
وقد انتخب المصنف لكل موضوع جملة من الآثار، ولم يكثر منها، وأوردها بأسانيده، وذكر من خرجها من الأئمة، وبين حكمها ودرجتها.
وقد طبعت بعدد طبعات الكتاب، نذكر منها: 1) طبعة حجرية عام 1285هـ، مكونة من أربعة أجزاء، عليها بعض التعليقات.
2) طبع على هامش تفسير ابن كثير في تسعة مجلدات، بمطبعة المنار بمصر عام 1343هـ.
3) طبع على هامش تفسير الخازن في أربعة مجلدات عام 1375هـ.
4) طبع طبعة جيده بتحقيق الأستاذين: خالد بن عبد الرحمن العك، ومروان سوار، ونشر دار المعرفة بيروت لبنان عام 1406هـ.
5) طبع طبعة ممتازة، ومن أفضل طبعات الكتاب بتحقيق الأساتذة:
محمد عبد الله النمر، وعثمان جمعة ضميرية، وسليمان مسلم الحرش،
ونشرته دار طيبة بالرياض عام 1409هـ.(1/352)
محمد عبد الله النمر، وعثمان جمعة ضميرية، وسليمان مسلم الحرش،
ونشرته دار طيبة بالرياض عام 1409هـ.
ثالثا عرض موضوعات المقدمة:
استهل المصنف مقدمته بحمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على نبيه وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ثم وضّح مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنزال الكتاب عليه الذي كان به الإعجاز والتحدي للخليقة أجمع، لذا كان في اتباعه النجاة وفي الإعراض عنه الخسارة والضياع، وبيّن ما اشتمل عليه القرآن الكريم من أمور العقيدة والفقه والقصص والأمثال، والذي يفهم بمعرفة تفسيره.
وأشار إلى أن السابقين قد بذلوا جهودا مباركة في تفسير كتاب الله، وألفوا الكتب لبيان علومه وفنونه، ثم نقل لنا دواعي تأليفه لهذا التفسير وأجملها في أمرين:
الأول: استجابة لجماعة من أصحابه من طلبة العلم، ويقول في ذلك:
فسألني جماعة من أصحابي المخلصين، وعلى اقتباس العلم مقبلين كتابا في معالم التنزيل وتفسيره، فأجبتهم إليه معتمدا على فضل الله تعالى وتيسيره (1)
الثاني: اقتداء بأئمة السلف الذين رأوا في تقييد العلم بالكتاب إبقاء للخلف.
__________
(1) انظر: مقدمة معالم التنزيل: 1/ 34.(1/353)
ثم صرح بأنه اختار لتفسيره طريقة بين الطويل الممل والقصير المخل، فجاء متوسطا كما أراد.
بعدها بيّن المصنف أن التعبد يكون بتلاوة الكتاب كما يكون باتباع أحكامه، على أن تكون التلاوة وفق رسم المصحف الإمام الذي اتفقت الصحابة عليه وأن لا تتجاوز بأية حال قراءة أحد القراء المعروفين الذين خلفوا الصحابة والتابعين واتفقت الأئمة على اختياراتهم وإمامتهم وذكر أسانيدهم في القراءة.
وقبل أن يتعرض لموضوعات علوم القرآن الثلاثة التي قدمها بين يدي تفسيره، بيّن منهجه في الاستشهاد بالأحاديث والآثار النبوية.
الفصل الأول: فصل في فضائل القرآن وتعليمه:
اكتفى المصنف في هذا الفصل بسوق مجموعة من الآثار الدالة على فضل القرآن بأسانيده، مع عزوها إلى من أخرجها من أئمة الحديث في مصنفاتهم، ولم يشأ المصنف بيان النصوص المشكلة، ولا شرح غريبها على عادة العلماء، وهو منهج اتخذه في الفصول اللاحقة أيضا.
الفصل الثاني: فصل في فضائل تلاوة القرآن:
كان من حق هذا الفصل أن يدمج مع سابقه غير أن المصنف فصل بينهما، فأورد في هذا الفصل تسعة آثار ساقها بسنده بينت فضل تالي القرآن، وما ينتظره من الأجر والمثوبة، ولم أر مسوغا لصنيع المصنف هذا
بفصل الموضوعين وهما موضوع واحد، ولهذا أدمجهما الخازن في تفسيره.(1/354)
كان من حق هذا الفصل أن يدمج مع سابقه غير أن المصنف فصل بينهما، فأورد في هذا الفصل تسعة آثار ساقها بسنده بينت فضل تالي القرآن، وما ينتظره من الأجر والمثوبة، ولم أر مسوغا لصنيع المصنف هذا
بفصل الموضوعين وهما موضوع واحد، ولهذا أدمجهما الخازن في تفسيره.
الفصل الثالث: فصل في وعيد من قال في القرآن برأيه من غير علم:
ثلاثة آثار هي التي أوردها المصنف ليبين الوعيد الشديد الذي ورد في حق المتقوّل على كتاب الله برأيه، كما ذكر أثرين عن الصحابة يؤكدان ما أحدثه الوعيد الوارد من الخشية في نفوس الصحابة حتى أحجموا عن خوض هذا المضمار.
ولأن المصنف يرى جواز التأويل في كتاب الله، وخشية أن يلتبس ذلك بالقول في القرآن بالرأي أشار المصنف إلى أن التأويل لا يدخل تحت هذا الوعيد، كما بين معنى التفسير بأنه الكلام في أسباب نزول الآية ونشأتها وقصتها، وأن ذلك يكون بالسماع بعد ثبوته بالنقل.
وختم الفصل بسوق الأثر الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يبين نزول القرآن على سبعة أحرف وأن لكل آية ظهر وبطن، وحد ومطلع. كما ذكر اختلاف العلماء في تأويلهم للظهر والبطن والحد والمطلع.
رابعا منهج البغوي في مقدمته:
منهج البغوي في المقدمة أنه يبدأ الفصل بسرد الآثار التي اختارها مما يليق بموضوع الباب، وذلك بذكر الأثر بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم يبين من أخرجه من الأئمة في الغالب، وإن كان المخرج قد قال فيه مقولة، نقله،
أو حكما أورده، وإلا حكم هو على المروي بالصحة أو الغرابة أو غير ذلك في الغالب أيضا. وقد يترك الرواية دون أن يذكر من خرجها من الأئمة، وفي الغالب يكون له أصل أو شاهد قوي في الصحيح.(1/355)
منهج البغوي في المقدمة أنه يبدأ الفصل بسرد الآثار التي اختارها مما يليق بموضوع الباب، وذلك بذكر الأثر بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم يبين من أخرجه من الأئمة في الغالب، وإن كان المخرج قد قال فيه مقولة، نقله،
أو حكما أورده، وإلا حكم هو على المروي بالصحة أو الغرابة أو غير ذلك في الغالب أيضا. وقد يترك الرواية دون أن يذكر من خرجها من الأئمة، وفي الغالب يكون له أصل أو شاهد قوي في الصحيح.
وقد أعفى البغوي نفسه تتبع الغريب من الألفاظ بالبسط والشرح، ولهذا لم نجده وقف عند لفظة غريبة، وهو الأمر الذي دعا الخازن مختصر الكتاب إلى استدراكه، واستبدال الغريب بالأسانيد، وكأن البغوي استغنى عن شرح الغريب لكونه قد خصص لذلك كتابه الحافل الجامع شرح السنة.
هذا ولم يخرج البغوي عن هذه القاعدة في مقدمته إلا عند حديثه عن الحد والمطلع، والظهر والبطن، حيث بيّن اختلاف أهل العلم في تفسير هذه الألفاظ (1).
خامسا بيان مدى التزام البغوي في تفسيره بما ذكره في مقدمته:
بيّن البغوي منهجه الذي انتهجه في تفسيره، فوصفه بالتوسط والاعتدال في ذكر الأقوال وبسطها، والإعراض عن ذكر المناكير من الأحاديث والآثار، وما لا يليق بحال التفسير، والاكتفاء بما ثبت في الكتب
__________
(1) ينظر أمثلة المنهج في: 1/ 3938.(1/356)
المسموعة للحفاظ وأئمة الحديث، كما تعهد المصنف بذكر القراءات القرآنية للقراء المشهورين واختياراتهم.
وهي ضوابط التزمها المصنف في تفسيره على العموم، فالقارئ في معالم التنزيل يجد البغوي قد تحاشى مثلا النكات البلاغية، والمباحث اللغوية، إلا ما كان ضروريا منها لأجلاء المعنى (1)، ويجده تجنب ذكر ما ولع به أصحاب المطولات في التفسير كالرازي وغيره من المباحث التي لا صلة لها بعلم التفسير.
كما يلاحظ أن المصنف قد أورد أقوال العلماء في بيان معنى الآية، واقتصد في ذلك، وذكر الاختلاف من غير إطالة في الغالب، ولا ترجيح (2).
وكذا التزامه بذكر القراءات، فهو يتعرض للقراءات من غير إسراف منه في ذلك (3).
أما ما ذكره من الالتزام بالإعراض عن المناكير، والاعتماد على الثابت عند الحفاظ، فقد التزمه إلى درجة كبيرة، وإن كان قد وقع في شيء
__________
(1) انظر مثال ذلك: 1/ 181160.
(2) انظر مثال ذلك: 1/ 279121.
(3) انظر مثال ذلك: 1/ 336258212117.(1/357)
منها، فذكر بعض الإسرائيليات دون أن يعقب عليها، أو يبين ما فيها (1).
سادسا مصادر البغوي في مقدمته:
رغم التزام البغوي بالنهج الذي انتهجه من رواية الأحاديث والآثار بأسانيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر من خرج الروايات التي ساقها من الأئمة في كتبهم، وهي وإن كانت لا تعد مصادر للبغوي لكونه لم يعتمد عليها غير أن ذكره لها، واعتماده حكم أصحابها يجعلنا نعدها بمثابة مصادره في المقدمة وهي:
1) صحيح البخاري (2).
2) صحيح مسلم (3).
3) سنن الترمذي (4).
سابعا مزايا المقدمة والمآخذ عليها:
لا يستطيع المرء اعتبار مقدمة البغوي هذه مقدمة في علوم القرآن
__________
(1) انظر مثال ذلك: 1/ 302298.
(2) انظر مثاله صفحة: 1/ 4239.
(3) انظر مثاله صفحة: 1/ 41.
(4) انظر مثاله صفحة: 1/ 4139.(1/358)
بالمصطلح المعروف، وذلك لكونه لم يقدم لنا إلا أحاديث بعدد انتقاها ليؤكد على أهمية تلاوة كتاب الله، وفضل التلاوة والتعليم، والنهي عن التفسير بالرأي ليؤكد به أن ما نهجه من التفسير بالأثر هو المطلوب والسالم عن المعارضة، فهو لم يتعرض لموضوعات هامة في علوم القرآن، كما أنه لم يفصل ولو بقدر في الموضوعات الثلاثة التي تعرض لها، ولهذا فإننا لا نستطيع أن نحكم على هذه المقدمة فنذكر ما لها من المزايا، أو عليها من المآخذ اكتفاء بما سبق من الحديث عنها.(1/359)
7 - المحرر الوجيز في تفسير كتاب الله العزيز (1)
لأبي محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي المتوفي سنة (546) هـ
أولا: التعريف بالمؤلف:
مصنف هذا التفسير الجليل هو القاضي أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن عبد الرءوف بن تمام بن عبد الله بن تمام ابن عطية بن خالد بن عطية المحاربي الداخل (2)، المولود سنة (481هـ).
وينحدر المصنف رحمه الله من سلالة عربية أصيلة، فقد كان جدهم جنديا من جنود الفتح الإسلامي للأندلس، وهو عطية بن خالد بن خفاف
__________
(1) إطلاق هذه التسمية على التفسير ليس من صنيع ابن عطية يرحمه الله بل جاء متأخرا، فقد ذكر المترجمون أن له تفسيرا جيدا، غير أنهم لم يسموه، كما أن المصنف لم يسمه، وهذه التسمية التي عرف بها التفسير، أطلق جزءا منها لسان الدين الخطيب ت (776هـ) فقال: (الوجيز)، ثم جاء ملا كاتب جلبي ت (1067هـ) فأطلق عليه اسم الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، اقتبسها من قول المصنف في مقدمته: وقصدت فيه أي في التفسير أن يكون جامعا وجيزا محررا. هذا وقد عالج الأستاذ عبد الوهاب فائد هذه التسمية معالجة علمية. انظر: مختصر الإحاطة: 2/ 165وكشف الظنون: 2/ 1613 ومنهج ابن عطية في تفسير القرآن الكريم للدكتور عبد الوهاب فائد: 82.
(2) انظر: فهرس ابن عطية: 59والصلة لابن بشكوال: 431تحقيق عزت العطار.(1/360)
المحاربي، نازل قرية (قشتالة) (1). أنسل كما يقول ابن فرحون كثيرا لهم قدر وفيهم فضل (2). وعن ابن خاقان قوله في أحد رجالات هذه الأسرة: نشأ في بيئة كريمة، وأرومة من الشرف غير مرومة، لم يزل فيها على وجه الزمان أعلام علم، وأرباب مجد ضخم، قد قيدت مآثرهم الكتب، وأطلقتهم.
التواريخ كالشهب (3).
نشأ ابن عطية في كنف أبيه، وتربى منذ الصغر على تعاليمه وتوجيهاته، محيطا بعنايته، وفر له رحمه الله أسباب الراحة، ويسر له النجاح، فاجتمعت الرعاية الحسنة وصدق التوجه وقوة العزيمة، مع سلالة الأرومة، حتى سعى لطلب العلم منذ اليفاعة ولازمه هذا الطموح حتى برزت مواهبه، وغدا شخصية علمية يشار إليها بالبنان، فكان رحمه الله يتوقد ذكاء، سابق الأمجاد فاستولى على الأمد بغلابة، ولم ينض ثوب شبابه، أدمن التعب في السؤدد جاهدا حتى تناول الكواكب قاعدا (4).
سما إلى رتبة الكهول صغيرا، وشنّ كتيبة ذهنه على العلوم
__________
(1) انظر: الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب: 1/ 133.
(2) انظر الديباج المذهب لابن فرحون: 174ط عباس بن شقرون، عام 1351م.
(3) انظر: قلائد العقيان لابن خاقان: 216.
(4) انظر: المراجع السابق: 217.(1/361)
مغيرا، فسباها معنا وفضلا، وحواها فرعا وأصلا. (1)
ويرجع نبوغ المصنف إلى الاهتمام العظيم الذي أولاه والده رحمه الله كما ذكرنا قبل قليل فقد كان من علماء غرناطة المعتبرين، والمشهود لهم برسوخ القدم في العلوم الشرعية، دفع بولده إلى حلقات العلم المنتشرة في أنحاء المدينة العامرة، كما كانت لحلقات والده، وأرتال الطلبة في غدو ورواح، متناوبين لحضور تلك الحلقات، ووالده يتوسطهم يعلم ويربي ويوجه، كان لهذا المشهد البديع أثره الكبير في نفس ابن عطية، وشغوفه بالعلم، حتى دفعه هذا الهيام إلى الانخراط في ذلك الجمع المبارك، حتى فاق أقرانه، يتصيد العلماء الواردين على غرناطة وينتقيهم، فما أن يسمع بوجود أحدهم في المدينة حتى يعزم لقاءه، والتلقي عنه، وقد روي أن محمد عبد العزيز بن عبد الوهاب القيرواني، دخل غرناطة، وكان عالي الرواية، قديم السماع، فأسرع إليه ابن عطية حين علم بوجوده، رغم صغر سنه، وطلب الإجازة، وحين رآه الشيخ أهلا كتب له بخطه إجازة علمية (2). وكذا فعل مع غير واحد كالحافظ أبي علي الغساني، وغيره. (3)
كما كان لترحاله في أنحاء الأندلس طالبا للعلم، دور في علو قدره،
__________
(1) انظر: نفح الطيب للمقري: 3/ 279.
(2) انظر: فهرس ابن عطية: 94.
(3) ينظر فهرس ابن عطية فهو مليء بمثل هذه الروايات.(1/362)
فمن لم يلتق به في غرناطة من العلماء شد الترحال إليه حيث وجد من ديار الأندلس، قصد أرباب العلم في كافة عواصم الأندلس وحواضرها، مثل قرطبة وأشبيلية ومرسية وبلنسية وغيرها، وكان في ذلك عوضا له من الترحال إلى المشرق الذي كان يومها مصدر إشعاع حضاري في كثير من العلوم. (1)
مكانته العلمية:
كان ابن عطية رحمه الله فقيها عالما بالتفسير والأحكام، محدثا عالي السند، لغويا عارفا بالنحو والأدب، مقيدا حسن التقييد، له نظم رائق، ونثر محكم رصين، ولي القضاء بالمرية، فكان غاية في الدهاء والذكاء، والتهمّم بالعلم، سري الهمة في اقتناء الكتب (2).
وكان رحمه الله من الرجال البارزين الذين أسهموا إسهاما فعالا في نشر العلم في ديار الأندلس حتى قال عنه السيوطي: هو الإمام الكبير، قدوة
__________
(1) يعلل بعضهم عدم توجه ابن عطية للمشرق طالبا للعلم انشغاله يرحمه الله بالجهاد والدفاع عن ديار الأندلس، حيث كانت مهددة بالسقوط آنذاك، [انظر: منهج ابن عطية في تفسير القرآن العظيم للدكتور عبد الوهاب فائد: 55] ويدل على ذلك أن المصنف يرحمه الله قد اشترك في عدة غزوات، ودافع عن الديار، كما أن لبعض شعره وقصائده ورسائله إلى الملوك والأمراء دورا عظيما في تثبيت الهمم.
(2) انظر: الإحاطة للسان الدين بن الخطيب: 3/ 539والديباج المذهب لابن فرحون: 174.(1/363)
المفسرين. (1)
وقال صاحب البحر المحيط أبو حيان عنه وعن الزمخشري: إنهما أجل من صنف في علم التفسير، وأفضل من تعرض للتنقيح فيه والتحرير، وقد اشتهرا ولا كاشتهار الشمس.
إلى أن قال: وفي خطبتي كتابهما وفي غضون كتاب الزمخشري ما يدل على أنهما فارسا ميدان، وممارسا فصاحة وبيان.
ويتابع فيقول: إذ هذان الرجلان هما فارسا علم التفسير، وممارسا تحريره والتحبير، نشراه نشرا، وطار لهما به ذكرا، وكانا متعاصرين في الحياة، متقاربين في الممات. (2)
وقال ابن عاشور عنه وعن الزمخشري: كلاهما عضادتا الباب، ومرجع من بعدهما من أولي الألباب. (3)
ويقول ابن خاقان (4): فيه نبعة روح العلا، ومحرز ملابس الثنا، فذ الجلالة، وواحد العصر والأصالة، وقّار كما رسا الهضب، وأدب كما اطّرد السلسل العذب، أثره في كل معرفة، علم في رأسه نار، وطوالعه في آفاقها
__________
(1) انظر: بغية الوعاة للسيوطي: 295.
(2) انظر: البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 2120.
(3) انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور: 1/ 16.
(4) هو الفتح بن محمد بن عبيد الله بن خاقان، كاتب مؤرخ، من أذكياء الأدباء، كثير الأسفار، كان لعابا مستهترا، له قلائد العقيان، توفي مقتولا (535هـ). انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 4/ 23الأعلام للزركلي: 5/ 134.(1/364)
صبح ونهار (1)
إن هذه النصوص توكد المنزلة العلمية، والمكانة المرموقة التي شغلها ابن عطية رحمه الله كما أن تفسيره وهو شاهد بين أيدينا، خير دليل على نبوغ المصنف، وما اتكال جل المفسرين من بعده عليه، مع الإكثار من الاستشهاد بنصوصه، وترجيح اختياراته إلا تعزيز لتلك المكانة. (2)
شيوخه وتلاميذه:
يعد العلماء المعتبرين ابن عطية من أعيان غرناطة، وعلما من أعلامها البارزين في القرن السادس الهجري، خاصة في علم التفسير، ومن كبار العلماء الذين صدرتهم الأندلس الحبيب، ولا شك أن استحق هذا الثناء أن يكون من الواردين على أكثر من نبع يتلقى العلم ويتضلع منه، كما كان لدور والده أثر كبير في كثرة شيوخه، وعلو مكانتهم، ولهذا فلا غرو أن نجد من بين شيوخ ابن عطية من اشتهر بالعلم والفضل، وعلو الكعب، وسمو القدر، ومن قصدهم الغريب البعيد، وفهرس شيوخه الذي أعده وضمنه
__________
(1) انظر: البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 20.
(2) سيرد مزيد من النصوص عند الحديث عن تفسيره بمشيئة الله.(1/365)
أسماءهم دليل وشاهد على ما ذكرنا.
كما كان للطرق التي تتبعها المصنف في تحصيل العلوم الأثر الواضح في كثرة الشيوخ، والإفادة منها، فقد تلقى العلم يرحمه الله سماعا وقراءة ومناولة وإجازة، حتى بلغ عدد شيوخه الذين هم من أهل الذروة في العلم، في شتى ميادينه تفسيرا وحديثا وأدبا ولغة وفقها وغيرها، أكثر من ثلاثين شيخا، ضمنهم فهرسه، ومن هؤلاء:
والده الإمام غالب بن عطية (1)، والحسين بن محمد الغساني (2)، وغيرهم كثير ينظر فهرس ابن عطية للوقوف عليهم.
أما تلاميذه:
فكثيرون بلا شك تلقوا العلم عن المصنف، منهم المواظبون على مدرسة أبيه رحمه الله حيث تلقوا عنه أمدا من الزمن، ومنهم الذين شاركوا المصنف في ساحات الجهاد، وأسفار الغزو، كما أن الأمراء الذين
__________
(1) هو غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي، إمام ناقد مجود، حافظ للحديث وطرقه وعلله، عارف بالرجال، له اهتمام بالأدب والشعر، توفي (518هـ). انظر: قلائد العقيان لابن خاقان: 215وسير أعلام النبلاء للذهبي: 19/ 586.
(2) هو الحسين بن محمد بن أحمد الغساني الجياني، حافظ حجة ناقد أديب شاعر، محدث الأندلس في عصره، مصنفاته كثيرة منها تقييد المهمل، توفي (498هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي:
19/ 148وتذكرة الحفاظ للذهبي: 4/ 1233والصلة لابن بشكوال: 142.(1/366)
عرفوا قدره، وكانوا محبين للعلم سمعوا منه، ومن هؤلاء: الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن خير الإشبيلي (1). والإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الأنصاري (2) وغيرهم.
مؤلفاته:
كان مما جاء في التقديم الذي قدمه المصنف بين يدي تفسيره: رأيت أن من الواجب على من احتبى، وتخير من العلوم واجتبى، أن يعتمد على علم من علوم الشرع، يستنفد فيه غاية الوسع، يجوب آفاقه، ويتبع أعماقه، ويضبط أصوله، ويحكم فصوله، ويلخص ما هو منه، أو يؤول إليه، ويفي بدفع الاعتراضات عليه إلى أن قال: فلما أردت أن أختار لنفسي، وأنظر في علم أعد أنواره لظلم رمسي سبرتها بالتنويع والتقسيم، وعلمت أن شرف العلم على قدر شرف المعلوم، فوجدت أمتنها حبالا، وأرسخها جبالا، وأجملها آثارا، وأسطعها أنوارا: علم كتاب الله جلت قدرته فثنيت
__________
(1) هو محمد بن خير بن عمر بن خليفة الإشبيلي، حافظ مجود مقرئ أديب، تلقى العلم عن كثيرين، توفي (575هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 21/ 85وفهرس ابن خير:
22 - والتكملة لابن الأبار: 524.
(2) هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن يوسف الأنصاري، المعروف بابن حبيش، فارس من فرسان الحديث بالأندلس، بارع في اللغة، تصانيفه كثيرة منها المغازي، توفي (584هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 21/ 118وتذكرة الحفاظ للذهبي: 4/ 1353وشذرات الذهب: 4/ 280.(1/367)
إليه عنان النظر، وأقطعته جانب الفكر، وجعلته فائدة العمر. (1)
يتبين من هذا النص أن ابن عطية رحمه الله قد انتهج لنفسه منهجا خاصا، وهو أنه رأى أن الفائدة تكون أعظم حين ينصرف كل عالم إلى فرع من فروع العلم يفني في مسائله العمر، ويجعل همه ضبط أصوله، وهو منهج آل إليه أهل العصر، وأسموه التخصص الدقيق.
ولهذا الأمر لا يقف الناظر في ترجمة ابن عطية على مؤلف له غير التفسير الذي ذكر أنه أفنى فيه العمر، وكانت حصيلة جده واجتهاده، كما يجد القارئ أن المترجمين يذكرون للمصنف فهرسا أثبت فيه يرحمه الله أسماء شيوخه الذين تلقى العلم عنهم، وقد بلغ عددهم ثلاثون شيخا، والفهرس مطبوع متداول.
وفاته:
اختلف في تحديد سنة وفاة ابن عطية، والراجح أنه توفي سنة (546هـ) (2) في منتصف شهر رمضان المبارك، في مدينة (لورقة)، غرب
__________
(1) انظر: المحرر الوجيز: 1/ 98.
(2) انظر: المعجم في أصحاب أبي علي الصدفي لابن الأثير: 261ط مدريد 1885م والصلة لابن بشكوال: 368والديباج المذهب لابن فرحون: 175ونفح الطيب للمقري:
3/ 279وطبقات المفسرين للسيوطي: 50وللداودي: 265.
وينظر للمزيد في ترجمته: الإحاطة في أخبار غرناطة، للوزير لسان الدين الخطيب:(1/368)
مرسية، وقد بلغ ستين عاما، رحمه الله رحمه واسعة، وغفر الله لنا وله.
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة:
لم يحظ تفسير ابن عطية بالاهتمام المطلوب من أهل عصرنا، حيث تأخر ظهوره مطبوعا عن تفاسير كثيرة لا تدانيه مرتبة، ولا تقربه منزلة، بل اعتمد كثير منهم على ابن عطية وآرائه في قضايا مشكلة في التفسير، مع أن جلّ العلماء المعتبرين قد أشادوا بهذا التفسير وبمصنفه، قديما وحديثا، حتى قيّض الله لإخراجه وتحقيقه بعد أن طبعت مقدمته طبعة مستقلة ثلة من أهل التحقيق، فأخرجوه في طبعة أنيقة، وحلة قشيبة، وتكرم بعض من رجا الخير من وراء طبعه، فطبعها على نفقته الخاصة، ووزع على طلبة العلم والمكتبات الخاصة والعامة فانتشر بذلك انتشارا عظيما عم به النفع.
والقارئ في تفسير ابن عطية يستشعر أمرين ربما امتاز بهما المصنف عن غيره ممن سبقوه، أكسبا التفسير قوة وحظوة، أولهما ما يلاحظه القارئ من العناية الفائقة بالتحقيق والتدقيق في المسائل العلمية، وتحري ما هو أقرب
__________
1/ 133والديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون: 174والصلة لأبي القاسم بن بشكوال: 431وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 265طبعة دار الكتب العلمية، طبقات المفسرين للسيوطي: 50وفهرس ابن عطية وقلائد العقيان لأبي نصر بن خاقان: 215والمعجم في أصحاب أبي علي الصدفي، لابن الأبار: 261ومنهج ابن عطية في تفسير القرآن الكريم، د / عبد الوهاب فائد ونفح الطيب من غصن أندلس الرطيب للمقري: 3/ 279.(1/369)
إلى الصواب، وأبعد عن البدع، إضافة إلى النّفس الطويل الذي يظهر بوضوح في معالجته للنصوص المشكلة، والمسائل المعضلة، والغوص في خبايا النص، وهو أمر غير مستغرب إذا علمنا أن هذا التفسير كان أثرا من آثار الشباب، فقد أفنى المصنف فيه عمره، ورسم بداياته منذ اليفاعة، فكم أيقظه والده وهو شاب من النوم في أنصاف الليالي يقول له: قم يا ولدي اكتب كذا وكذا في موضع كذا من تفسيرك (1).
والأمر الآخر الملاحظ في هذا التفسير هو قوة البيان، وسلامة العبارة وسلاستها، والنصوص الأدبية المحبوكة كأفضل ما يكون، والمنسجمة بقوة، وهي كلها أعطت لهذا التفسير قدرا خاصا عند المشتغلين باللغة، وربما يعود سبب هذا التفوق والله أعلم إلى عروبة المصنف، فقد أفادته طبعا أصيلا، وسليقة صافية حتى فاض بيانه قويا سائغا سلسلا (2).
وقد سار المصنف في تفسيره على منهج السلف، حيث جعل ظاهر الآيات هو مدار البحث والدرس، دون القول بالرمز والإشارة، الذي يلجأ إليه أهل الزيغ والضلالة (3).
__________
(1) انظر: بغية الملتمس: 427.
(2) انظر: التفسير ورجاله لابن عاشور: 92.
(3) انظر: المحرر الوجيز: 1/ 11.(1/370)
وهو أمر جعل للتفسير قدرا واعتبارا عند أهل العلم، حتى أغدقوا عليه الثناء، يقول ابن عميرة الضبي ت (599هـ) (1): ألف ابن عطية في التفسير كتابا ضخما أربى فيه على كل متقدم. (2)
ويقول ابن جزي الكلبي ت (741هـ): وأما ابن عطية فكتابه في التفسير أحسن التآليف وأعدلها، فإنه اطلع على تآليف من كان قبله فهذبها ولخصها، وهو مع ذلك حسن العبارة، مسدد النظر، محافظ على السنة. (3)
وقال أبو حيان عنه وعن تفسير الزمخشري أنهما: قد أنجدا وأغارا، وأشرقا في سماء هذا العلم بدرين وأنارا، وتنزلا من كتب التفسير منزلة الإنسان من العين، والذهب الإبريز من العين إلى أن قال: وكتاب ابن عطية أنقل وأجمع وأخلص. (4)
هذا وقد كان لإخلاص ابن عطية، والغاية التى لها صنّف كتابه، أثره البالغ في انتشاره، وقبوله عند الخاصة من أهل العلم، حتى صار أصدق
__________
(1) هو أحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة الضبي، مؤرخ من علماء الأندلس، كان يعمل وراقا، آية في سرعة الكتابة، له بغية الملتمس في تاريخ الأندلس، توفي (599هـ). انظر:
الأعلام للزركلي: 1/ 268.
(2) انظر: بغية الملتمس: 376.
(3) انظر: التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي: 1/ 17.
(4) انظر البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 20.(1/371)
شاهد على إمامته، فحين ذكر المصنف الغاية التي لها صنف قال: ورجوت أن الله تعالى يحرّم على النار فكرا عمرته أكثر عمره معانيه، ولسانا مرن على آياته ومثانيه، ونفسا ميزت براعة رصفه ومبانيه (1).
والمحرر الوجيز تفسير جمع بين مدرستي التفسير، التفسير بالأثر، والتفسير بالرأي المحمود. وطبقا للمنهج الذي انتهجه المصنف، وهو تحقيق الغرض المراد بإيجاز وتوسط، فقد حذف يرحمه الله أسانيد الروايات التي استشهد بها في مواضعها المتعددة.
وجاء اهتمام المصنف باللغة والقضايا اللغوية في المرتبة الأولى، فقد أولى هذا الجانب اهتماما خاصا، تمثلت في شرح المفردات القرآنية، والآراء النحوية وقصدت تتبع الألفاظ حتى لا يقع طفر (2) كما في كثير من المفسرين (3).
كما اهتم المصنف بالقراءات القرآنية، حتى الشاذة منها، يوجهها أو ينقدها وقصدت إيراد جميع القراءات، مستعملها وشاذها (4).
__________
(1) انظر: المحرر الوجيز: 1/ 9.
(2) الطفر: وثبة في ارتفاع، وطفر الحائط: وثبه إلى ما وراءه. والمراد هنا: أنه تتبع ألفاظ الآيات عكس بعض المفسرين الذين تركوا بعض الألفاظ. انظر: لسان العرب لابن منظور (طفر): 2/ 597.
(3) انظر: المحرر الوجيز: 1/ 11.
(4) انظر: المحرر الوجيز: 1/ 11.(1/372)
ولم يغفل الأحكام القرآنية المستفادة من الآيات، ولا المسائل الفقهية، دون الإكثار منها متمشيا مع الدليل.
هذا ولم يسلم تفسير ابن عطية رغم الحيطة من بعض الإسرائيليات، فقد اشترط المصنف على نفسه أن لا يذكر منها إلا ما لا تنفك الآية إلا به (1)، غير أنه وقع في المحظور الذي حذّر منه في بعض المواضع وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله وهو مع هذا يبقى الرائد الذي خلّص التفسير من كثير من الدخيل، يقول الأستاذ عبد الوهاب فائد: إن ابن عطية في تفسيره على وجه العموم قد اتخذ لنفسه منهجا علميا دقيقا بالنسبة للروايات الإسرائيلية، ومن هنا يرتقي ابن عطية إلى مصاف المفسرين الذين احتاطوا في الأخذ بالإسرائيليات، وقاموا بمحاولات جدية ومشكورة لتصفية التفسير من هذا الهشيم الإسرائيلي المركوم، الذي يشوه كتاب الله تعالى. (2)
وهو الأمر الذي حدا بابن خلدون إلى القول: فلما رجع الناس إلى التحقيق والتمحيص، وجاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين بالمغرب، فلخص تلك التفاسير كلها، وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها، ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس حسن
__________
(1) انظر: المحرر الوجيز: 1/ 10.
(2) انظر: منهج ابن عطية في تفسير القرآن، د / عبد الوهاب فائد: 185.(1/373)
المنحى. (1)
هذا وقد استحوذت مقدمة ابن عطية رحمه الله على اهتمام العلماء، حيث كانت محل عناية المفسرين والمهتمين بعلوم القرآن، فلم تخل كتاباتهم ومصنفاتهم من نصوص ابن عطية وآرائه، وما ذلك إلا لأهمية ما أثبته المصنف في مقدمته، ولهذا الأمر وجدنا الأيدي تمتد لإخراجها مستقلة عن أصلها منفصلة عنه، فقد كانت هذه المقدمة أول مقدمة في علوم القرآن تطبع مستقلة، وكان ذلك عام 1954م على يد المستشرق (آرثر جفري) حيث ضمها إلى مقدمة كتاب «المباني»، وأخرجهما معا بعنوان «مقدمتان في علوم القرآن»، ونال الشهرة والانتشار بين طلبة العلم.
وقد جاءت مقدمة المصنف حسب النسخة التي اعتمدتها، المثقلة بالهوامش في أربع وستين صفحة من القطع المتوسطة، شغلت الهوامش ما يربو على نصفه، شارحة لعباراته، مخرجة لرواياته، معرّفة برجالاته.
قسم ابن عطية مقدمته إلى تسعة أبواب، إضافة إلى التقديم الذي بين فيه أهمية علم التفسير، والأسباب الداعية للتصنيف، والمنهج المتبع في التأليف، وهذه الأبواب هي:
1) ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة ونبهاء العلماء رضي الله عنهم في فضل القرآن المجيد وصورة الاعتصام به.
__________
(1) انظر: مقدمة ابن خلدون: 314طبعة دار المصحف بالقاهرة.(1/374)
2) في فضل تفسير القرآن، والكلام على لغته. والنظر في إعرابه ودقائق معانيه.
3) ما قيل في الكلام في تفسير القرآن، والجرأة عليه، ومراتب المفسرين.
4) معنى قول النبي: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه».
5) ذكر جمع القرآن، وشكله، ونقطه، وتحزيبه، وتعشيره.
6) في ذكر الألفاظ التي في كتاب الله وللغات العجم بها تعلق.
7) نبذة مما قال العلماء في إعجاز القرآن.
8) في الألفاظ التي يقتضي الإيجاز استعمالها في تفسير كتاب الله تعالى.
9) في تفسير أسماء القرآن، وذكر السورة والآية.
وهذه الأبواب كما يظهر من عناوينها قد حوت موضوعات أربت على عدد الأبواب، وهي من الموضوعات التي ينبغي أن تكون راسخة في حفظ الناظر في التفسير، مجتمعة لذهنه، بذل فيها المصنف جهدا عظيما حتى استوى على سوقه، فأكثر من الروايات والآثار بقدر ما تدعو إليه الحاجة، وبين اختلاف أهل العلم في المعضلات والمشكلات، بعبارة رصينة محكمة، عصمته من التطويل الذي اشترط على نفسه تجنبه.
وقد وقفت على ثلاث طبعات للمقدمة، إحداها مستقلة طبعت
بعناية المستشرق (آرثر جفري) وهي التي أشرت إليها قبل قليل، طبعت قبل طباعة صلب التفسير بأكثر من ثلاثة عقود، واعتمدها طلبة العلم بتحريفاتها وأغلاطها التي ربما كان بعضها متعمدة من المحقق، بل يجزم الأستاذ عبد الوهاب فائد في دراسته لتفسير ابن عطية بأنها تحريفات مقصودة، أراد منها المحقق الدس في هذا التفسير العظيم. (1)(1/375)
وقد وقفت على ثلاث طبعات للمقدمة، إحداها مستقلة طبعت
بعناية المستشرق (آرثر جفري) وهي التي أشرت إليها قبل قليل، طبعت قبل طباعة صلب التفسير بأكثر من ثلاثة عقود، واعتمدها طلبة العلم بتحريفاتها وأغلاطها التي ربما كان بعضها متعمدة من المحقق، بل يجزم الأستاذ عبد الوهاب فائد في دراسته لتفسير ابن عطية بأنها تحريفات مقصودة، أراد منها المحقق الدس في هذا التفسير العظيم. (1)
والطبعتان الأخريتان هما اللتان طبعتا مع صلب التفسير، الأولى من إصدارات المجلس العلمي بفاس، عام 1395هـ، صدرت على أجزاء متفرقة في عدة سنوات على نفقة ملك المغرب.
والثانية عام 1398هـ طبع على نفقة أمير دولة قطر، بتحقيق الأساتذة الرحالي الفاروق وعبد الله بن إبراهيم الأنصاري والسيد عبد العال السيد إبراهيم ومحمد الشافعي صادق العناني.
وهذه الطبعة هي التي اعتمدتها في هذه الدراسة وهي قليلة الأخطاء، مثقلة بالحواشي.
__________
(1) ذكر ابن عطية في معرض حديثه عن البسملة أثران يقتضيان أن البسملة آية من الحمد، ثم قال: ويرد ذلك حديث أبيّ بن كعب الصحيح وجاءت هذه العبارة في نسخة آرثر جفري على النحو التالي: (ويبين ذلك حديث أبي بن كعب الصحيح). انظر المقدمة:
287، وانظر المحرر الوجيز: 1/ 79، وقد ذكر الأستاذ الفايد أكثر من تحريف في هذه المقدمة، انظره في: منهج ابن عطية في تفسير القرآن: 84.(1/376)
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة:
بدأ ابن عطية يرحمه الله تفسيره بالحمد لله، والشكر له على تفضله وامتنانه، حيث جعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة وسطا بين الأمم، وألهمها من العوارف والمعارف ما يوصلها إلى معرفته جلت قدرته.
وأسدى التزكيات المباركات على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نهض بأعباء الرسالة حتى بلّغها أتم تبليغ.
بعدها بيّن رحمه الله أنه تحمل المتاعب الجمة، وركب الصعاب، فأوصل الليل بالنهار طالبا للعلم، وباحثا عن المعرفة، حتى نال ما سعى إليه وتمناه، فأخذ من العلوم ما قدر عليه، ثم إنه حين رأى تنوع العلوم وكثرتها، وتشعبها، أراد أن يختار لنفسه علما يقضي في بحث مسائله جلّ أوقاته، ويفني فيه العمر، فكان أن هداه الله إلى علم كتابه جلت قدرته، أمتن العلوم وأرسخها وأسطعها، فجعله مدار بحثه ودرسه، وأثنى إليه عنان النظر، وأقطعه جانب الفكر.
ثم عرض المصنف منهجه في كتابه، فوصفه بالتوسط والإيجاز، على مذهب السلف في النظر إلى ظواهر النصوص، دون الخوض في الرمز والإيحاء على مذهب أهل الزيغ والإلحاد.
وقبل أن يقدم بين القول في التفسير الأشياء التي ينبغي أن تكون راسخة في حفظ الناظر في هذا العلم، مجتمعة له، قبل ذلك رجا الله الثواب
من وراء العمل، وأن يبارك له في الذي فعل.(1/377)
وقبل أن يقدم بين القول في التفسير الأشياء التي ينبغي أن تكون راسخة في حفظ الناظر في هذا العلم، مجتمعة له، قبل ذلك رجا الله الثواب
من وراء العمل، وأن يبارك له في الذي فعل.
الباب الأول: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة ونبهاء العلماء رضي الله عنهم في فضل القرآن المجيد وصورة الاعتصام به
ذكر المصنف في هذا الباب جملة من الأحاديث والآثار وأقوال أهل العلم، في فضل القرآن الكريم، أراد من خلالها بيان فضل كتاب الله تعالى، وأن المتمسك به لن يضل أبدا، كما أشارت تلك الآثار إلى العديد من خواص كتاب الله، وكان من جملة تلك الآثار التي أوردها تلك التي أكدت على فضل تلاوة القرآن الكريم، وفضل تعلمه وتعليمه، وما يلقاه التالي له من النور، وما ينتظره من الوعد المقيم.
أعقب ذكر الآثار التنبيه إلى أن التلاوة الحقة تقتضي العمل بالمتلو، فذكر أن مراد الحق تعالى من {ثَقِيلًا} في قوله {إِنََّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] هو العلم بمعانيه والعمل به، والقيام بحقوقه.
وقد جاء هذا الباب في اثني عشرة صفحة.
الباب الثاني: في فضل تفسير القرآن، والكلام على لغته، والنظر في إعرابه ودقائق معانيه
جاء هذا الباب مختصرا، أكد فيه المصنف أن إعراب القرآن أصل في الشريعة لأنّ به تقوم معانيه، وروى في ذلك حديثين للدلالة على أهمية
الموضوع، وعدة آثار عن كبار الصحابة والتابعين تبين مكانة العارف بتفسير كتاب الله، ومدى حرص السلف رضوان الله عليهم على تعلم علم القرآن، والنظر في دقائق معانيه.(1/378)
جاء هذا الباب مختصرا، أكد فيه المصنف أن إعراب القرآن أصل في الشريعة لأنّ به تقوم معانيه، وروى في ذلك حديثين للدلالة على أهمية
الموضوع، وعدة آثار عن كبار الصحابة والتابعين تبين مكانة العارف بتفسير كتاب الله، ومدى حرص السلف رضوان الله عليهم على تعلم علم القرآن، والنظر في دقائق معانيه.
وقد اختار المصنف الآثار التي ذكرها كنماذج للدلالة على ما أراد بيانه، ولم يكثر من ذلك تمشيا مع المنهج الذي رسمه لنفسه، وهو الإيجاز والاختصار غير المخل، وإلا فالآثار الواردة في هذا الباب كثيرة.
الباب الثالث: ما قيل في الكلام في تفسير القرآن، والجرأة عليه، ومراتب المفسرين
في هذا الباب تحدث المصنف عن ثلاثة موضوعات كما يظهر من عنوانه:
1) الكلام في تفسير القرآن.
2) التفسير بالرأي، وهو ما عبر عنه بالجرأة عليه.
3) مراتب المفسرين.
أورد المصنف للموضوع الأول، الأثر الوارد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تؤكد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفسر القرآن كله، وإنما فسر آيا بعدد علّمه إياهن جبريل ثم تحدث عن تأويل ذلك وبين أنه وارد في مغيبات القرآن، وتفسير مجمله، مما لا سبيل إليه إلا بتوفيق من الله تعالى.
انتقل عقب ذلك إلى الموضوع الثاني، فأورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»، وذكر أن مراده صلى الله عليه وسلم أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله فيتسور عليه برأيه دون نظر فيما قاله العلماء، ولهذا فإن التفسير المبني على النظر في الأدلة لا يدخل في هذا الحديث، وأن من السلف من كان يتحرج من الخوض في تفسير الآيات بالرأي تورعا واحتياطا، وأن آخرين منهم فسروا كثيرا من الآيات بعد أن ملكوا أدوات التفسير، وهؤلاء كانوا أشفق على الأمة في ذلك، إذ بينوا الغريب من الألفاظ، والغامض من المعاني.(1/379)
انتقل عقب ذلك إلى الموضوع الثاني، فأورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»، وذكر أن مراده صلى الله عليه وسلم أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله فيتسور عليه برأيه دون نظر فيما قاله العلماء، ولهذا فإن التفسير المبني على النظر في الأدلة لا يدخل في هذا الحديث، وأن من السلف من كان يتحرج من الخوض في تفسير الآيات بالرأي تورعا واحتياطا، وأن آخرين منهم فسروا كثيرا من الآيات بعد أن ملكوا أدوات التفسير، وهؤلاء كانوا أشفق على الأمة في ذلك، إذ بينوا الغريب من الألفاظ، والغامض من المعاني.
وبذلك انتقل للحديث عن الموضوع الثالث، وهو الأخير في هذا الباب، فذكر يرحمه الله نماذج ممن برزوا في جانب التفسير، من الجيل الأول، وإلى عصره، وقال معقبا: وكلهم مجتهدون مأجورون. وقد جاء هذا الباب في أربع صفحات.
الباب الرابع: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه»
هذا أطول باب تعرض له المصنف في مقدمته، فقد جاء في خمس عشرة صفحة، قرر المصنف في بدايته اختلاف الناس فيه اختلافا شديدا، ثم ذكر بعض تلك الآراء في بيان معنى الأثر الوارد فيه، يعقب على كل قول يورده، فيضعف بعضها، ويجوّز غيرها، ويناقش القائل.
وارتضى من الأقوال اختيار أبي عبيد وغيره من أهل العلم، وهو أن
معنى الحديث أنه سبع لغات لسبع قبائل، ورجح الرأي وانتصر له، ثم سعى لتحديد القبائل التي نزل القرآن على لغاتها، فذكر أنها قريش، وكنانة، وأسد، وهذيل، وتميم، وضبّة وألفافها، وقيس، وهي القبائل التي انتهت إليها الفصاحة، وسلمت لغاتها من الدّخل.(1/380)
وارتضى من الأقوال اختيار أبي عبيد وغيره من أهل العلم، وهو أن
معنى الحديث أنه سبع لغات لسبع قبائل، ورجح الرأي وانتصر له، ثم سعى لتحديد القبائل التي نزل القرآن على لغاتها، فذكر أنها قريش، وكنانة، وأسد، وهذيل، وتميم، وضبّة وألفافها، وقيس، وهي القبائل التي انتهت إليها الفصاحة، وسلمت لغاتها من الدّخل.
ولكون أبي عبيد والمبرد وغيرهما من القائلين بهذا القول كانوا قد ذكروا أن عرب اليمن من القبائل التي نزل القرآن بلسانها، لهذا الأمر أوّل المصنف قولهم، وقال: ذلك عندي إنما هو فيما استعمله عرب الحجاز من لغة اليمن، فأما ما انفردوا به فليس في كتاب الله منه شيء، فقد أفسد كلام اليمن خلطة الحبشة والهنود.
بعد هذا ذكر من أفسد لغة شرقي الجزيرة مما والى العراق، وشمال الجزيرة مما والى الشام، وذكر أن ما يقوي هذا المنزع أنه حين اتسع نطاق الإسلام، وتجرد أهل البصرة والكوفة لحفظ لسان العرب، وكتب لغتها، لم يأخذوا إلا عن هذه القبائل الوسيطة المذكورة، وتجنبوا اليمن والعراق والشام، كما تجنبوا لغة الحواضر مكة والمدينة والطائف، لأن السبي والتجار من الأمم كثروا فيها، فأفسدوا اللغة، وقد كانت في مدة النبي صلى الله عليه وسلم سليمة لقلة المخالطة.
إذا سبع قبائل عربية، بلغة جملتها نزل القرآن، هو التفسير الراجح لدى المصنف في معنى الحديث الوارد في هذا الباب.
وحين انتشرت الروايات الكثيرة في القراءات التي وردت على لسان
رسول الله صلى الله عليه وسلم وافترقت الصحابة رضوان الله عليهم في البلدان، ووقع بين أهل الشام والعراق ما وقع من الخلاف في القراءة، ونقل حذيفة الأمر لعثمان بن عفان رضي الله عنهما رجاء أن يدرك الأمة قبل أن يشتد الخلاف، استناب عثمان الكفاءات العلمية الفصحاء ليكتبوا القرآن، ويجعلوا ما اختلفت القراءة فيه على أشهر الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفصح اللغات، فترك الناس ما خرج عنه مما كان كتب، سدا للذريعة، وتغليبا للمصلحة.(1/381)
وحين انتشرت الروايات الكثيرة في القراءات التي وردت على لسان
رسول الله صلى الله عليه وسلم وافترقت الصحابة رضوان الله عليهم في البلدان، ووقع بين أهل الشام والعراق ما وقع من الخلاف في القراءة، ونقل حذيفة الأمر لعثمان بن عفان رضي الله عنهما رجاء أن يدرك الأمة قبل أن يشتد الخلاف، استناب عثمان الكفاءات العلمية الفصحاء ليكتبوا القرآن، ويجعلوا ما اختلفت القراءة فيه على أشهر الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفصح اللغات، فترك الناس ما خرج عنه مما كان كتب، سدا للذريعة، وتغليبا للمصلحة.
بعدها ذكر المصنف مصحف ابن مسعود رضي الله عنه وأن العلماء تركوه سدا للذريعة ولكونه حوى أشياء على جهة التفسير، كما ذكر قراءات القراء السبع المشتهرة، وشاذ القراءة، وقراءة أبي السمال.
وختم الباب بالإشارة إلى أن ما تعرض له في هذا الباب قد وقع فيه خلاف غير أنه أعرض عن ذكره والغوص فيه تجنبا وكراهية للإطالة، والتزاما بالمنهج.
الباب الخامس: ذكر جمع القرآن، وشكله، ونقطه، وتحزيبه، وتعشيره
أشار المصنف في بداية حديثه أن القرآن كان مجموعا في صدور الرجال، كما كان مكتوبا في الصحف واللخاف وغيرها من وسائل حفظ المكتوبات، فلما استحر القتل بالقراء يوم اليمامة، جمع المصحف بإشارة من عمر رضي الله عنه وندب من أبي بكر رضي الله عنه فجمعت الصحف على
يد زيد رضي الله عنه، وبقيت تلك الصحف مجموعة إلى خلافة عثمان رضي الله عنه حين اختلف الناس في المصاحف التي انتشرت على الأحرف السبعة، كمصحف ابن مسعود، ومصحف أبيّ بن كعب وغيرهما، فندب عثمان رضي الله عنه زيد بن ثابت وغيره بإيحاء من حذيفة رضي الله عنه إلى جمع الناس على مصحف واحد، ووضع لهم عثمان منهج الجمع والتدوين، فنسخت الصحف، عدة نسخ، وأرسلت إلى الأمصار لاعتمادها، وأمر بما سواها أن تحرق أو تخرق.(1/382)
أشار المصنف في بداية حديثه أن القرآن كان مجموعا في صدور الرجال، كما كان مكتوبا في الصحف واللخاف وغيرها من وسائل حفظ المكتوبات، فلما استحر القتل بالقراء يوم اليمامة، جمع المصحف بإشارة من عمر رضي الله عنه وندب من أبي بكر رضي الله عنه فجمعت الصحف على
يد زيد رضي الله عنه، وبقيت تلك الصحف مجموعة إلى خلافة عثمان رضي الله عنه حين اختلف الناس في المصاحف التي انتشرت على الأحرف السبعة، كمصحف ابن مسعود، ومصحف أبيّ بن كعب وغيرهما، فندب عثمان رضي الله عنه زيد بن ثابت وغيره بإيحاء من حذيفة رضي الله عنه إلى جمع الناس على مصحف واحد، ووضع لهم عثمان منهج الجمع والتدوين، فنسخت الصحف، عدة نسخ، وأرسلت إلى الأمصار لاعتمادها، وأمر بما سواها أن تحرق أو تخرق.
بعدها تحدث المصنف عن ترتيب السور، لكونها مختلفة في مصاحف الصحابة، فذكر قول الباقلاني وغيره بأن ترتيب السور كان من زيد ومن معه، بمشاركة من عثمان رضي الله عنه وهو رأي مكي بن أبي طالب، أما ترتيب الآيات ووضع البسملة فهي توقيفية من النبي صلى الله عليه وسلم، خلا براءة التي أرجأ المصنف الحديث عنها إلى حينه.
ثم بيّن أن ظواهر الآثار تؤكد أن السبع الطول والحواميم والمفصل كان مرتبا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من السور ما لم يرتب، فذلك هو الذي رتّب وقت الكتب.
وختم الحديث عن شكل المصحف ونقطه وتحزيبه وتعشيره، فصرح أن العلماء مختلفون في تعيين أول من أقدم على ذلك.
وقد جاء هذا الباب في سبع صفحات.(1/383)
الباب السادس: في ذكر الألفاظ التي في كتاب الله وللغات العجم بها تعلق
بدأ المصنف هذا الباب بذكر اختلاف العلماء في هذه المسألة، فذكر أنهم فريقان، الأول يرى أن في كتاب الله من كل لغة، والآخر يرى أن القرآن ليس فيه لفظة إلا وهي عربية صريحة، وذكر الأمثلة على الكلمات التي وقع الخلاف فيها.
وصرح باختياره، فبين أن تلك الألفاظ في أصلها أعجمية، لكن استعملتها العرب وعربتها، فغيرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف العجمة، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها، حتى جرت مجرى العربي الأصيل، ووقع بها البيان.
وختم الباب بالرد على ابن جرير رائد الفريق الثاني، والقائل أن اللغتين اتفقتا في لفظة لفظة، فاستبعد ذلك، وأكد أن إحداها أصل والأخرى فرع.
الباب السابع نبذة مما قال العلماء في إعجاز القرآن
ذكر المصنف أن الناس اختلفوا في إعجاز القرآن بأي شيء هو؟
فأورد بعض تلك الأقوال، وبين أن التحدي وقع بنظمه، وصحة معانيه، وتوالي فصاحة ألفاظه، وفي ذلك ردّ على القائلين بالصرفة.
ثم أوضح أن كلام البشر لا يمكن أن يصل إلى الإحكام الذي هو في كلام منزل الكتاب، وضرب الأمثلة من كلام الفصحاء والشعراء، وكيف أن
كلامهم يميّز رغم تنقيحه مدة طويلة، ولذلك أذعنت العرب للأمر، وتأكدت أنه لا يمكن لبشر أن يأتي بمثل ما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، فكان سبب إيمان بعضهم.(1/384)
ثم أوضح أن كلام البشر لا يمكن أن يصل إلى الإحكام الذي هو في كلام منزل الكتاب، وضرب الأمثلة من كلام الفصحاء والشعراء، وكيف أن
كلامهم يميّز رغم تنقيحه مدة طويلة، ولذلك أذعنت العرب للأمر، وتأكدت أنه لا يمكن لبشر أن يأتي بمثل ما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، فكان سبب إيمان بعضهم.
ولهذا فإنه تعالى اختار معجزة كل نبي بالوجه الشهير في زمانه، وعليه كانت معجزة موسى عليه السلام للسحرة، وعيسى عليه السلام للطب، ومحمد صلى الله عليه وسلم للفصاحة.
الباب الثامن في الألفاظ التي يقتضي الإيجاز استعمالها في تفسير كتاب الله تعالى
أراد المصنف من وراء هذا الباب في مقدمته أن يبين موقفه من إسناد بعض الأفعال إلى الله، وهي لم تثبت بتوقيف من الشارع، فذكر أن جلة من المفسرين قد أبا حوا ذلك، وفعلوه، وذلك جريا على عادة العرب في استعمال ذلك في سياق كلامها، وهي محمولة على المجاز، كقولهم: حكى الله تعالى عن أم موسى أنها قالت {قُصِّيهِ} [القصص: 11] وكقولهم: وقف الله ذرية آدم على ربوبيته بقوله {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] ونحو ذلك.
يريد المصنف بذلك الاحتراز من الخوض في مثل هذا الأمر، فكلام الله صفة قديمة من صفاته، والحكاية عن المذكورين أمر محدث، وهو يقتضي تأخير المحكي.
أوضح يرحمه الله أنه يتحفظ من مثل هذا الأمر، وهو يخشى أن يقع منه ذلك، مع أنه جار في كلام العرب، وهو الأمر الذي يبرر للمفسرين
الذين وقعوا فيه، ولهذا اعتذر لإخوانه من المفسرين فعلتهم، وذكر أدلة كثيرة من كلام فصحاء العرب، وشعر شعرائها.(1/385)
أوضح يرحمه الله أنه يتحفظ من مثل هذا الأمر، وهو يخشى أن يقع منه ذلك، مع أنه جار في كلام العرب، وهو الأمر الذي يبرر للمفسرين
الذين وقعوا فيه، ولهذا اعتذر لإخوانه من المفسرين فعلتهم، وذكر أدلة كثيرة من كلام فصحاء العرب، وشعر شعرائها.
الباب التاسع في تفسير أسماء القرآن، وذكر السورة والآية
ذكر للقرآن أربعة أسماء: القرآن، والكتاب، والفرقان، والذكر، وهي الأسماء الأربعة المشهورة، وبيّن أصل تلك التسميات، والأدلة عليها.
ثم انتقل لذكر السورة، فذكر الاختلاف المشهور فيها حول كونها مهموزة أو غير مهموزة، وكذا سبب إطلاقها على ذلك المجموع من كلام الله.
كما بين معنى الآية في كلام العرب، وسبب إطلاقها على الجملة التامة من القرآن، والخلاف في ذلك، وأصل اللفظة واشتقاقها.
تلك هي المقدمات التي بدأ بها ابن عطية كتابه، ليدل على أن الدواعي إلى معرفة هذه العلوم قوية، وأن الحاجة إليها ماسة لمن أراد فهم كتاب الله على الشكل الصحيح المبني على القواعد السليمة.
رابعا: منهج ابن عطية في مقدمته:
الإيجاز وحذف فضول القول كانت السمة الأساسية لمنهج ابن عطية يرحمه الله فقد ظهر ذلك جليا في مادة مقدمته كلها، والإيجاز قد يكون مخلا بالمادة العلمية أحيانا، فيظهر القصور في العبارة، والغموض في القول، والنقص في الأدلة، غير أن الأمر يختلف إذا كان الموجز من فرسان البلاغة، صاحب عبارة رصينة، وأسلوب بياني محكم كابن عطية.(1/386)
لقد استطاع المصنف أن يوجز دون أن يخل، ويوضح دون أن يطيل، حتى جاءت المقدمة غاية في الدقة والإيجاز، عبارة ومنهجا.
ويتلخص منهج المصنف في مقدمته في الآتي:
1) ذكر أقوال أهل العلم في المسائل منسوبة إليهم (1)، وهو النهج الذي ألزم المصنف نفسه به، وقد التزمه في الغالب، غير أنه قد يخرج عن نهجه هذا فيطلق نسبة القول، ويقول: قال بعض العلماء، أو نحو ذلك. (2)
2) إيراد الخلاف في المسائل الهامة، مع عرض الآراء بعبارة موجزة. (3)
3) التصريح بموقفه من الخلاف وبيان رأيه ومناقشة الآراء الوجيهة بعبارة مختصرة (4).
4) عدم الإكثار من الآثار والأدلة على المسألة الواحدة، والاكتفاء بما يبين المقصود.
5) ومن منهج المصنف الاستشهاد بالحديث والأثر واللغة والشعر
__________
(1) انظر أمثلة ذلك في الصفحات:: 14، 15، 20، 21، 37، 38، 55، 57، 68، 71.
(2) انظر أمثلة ذلك في الصفحات: 19، 20، 35، 38.
(3) انظر أمثلة ذلك في الباب الرابع والسادس والسابع، من المقدمة.
(4) انظر أمثلة ذلك في الصفحات: 28، 35، 51، 52، 53، 54، 57، 59.(1/387)
لتأكيد معنى، أو تأييد رأي (1).
6) عدم ذكر سند الرواية، والاكتفاء بذكر الصحابي الذي روى الحديث في الغالب (2)، وقد يحذف الصحابي أيضا (3).
7) وهذا والمصنف يرحمه الله قد يحيل القار في المسائل الهامة التي تحتاج إلى بسط القول فيها إلى موضعه من التفسير، خصوصا تلك التي تعرض لها، ولها تعلق بالسور والآيات. (4)
خامسا: بيان مدى التزام المصنف في تفسيره بما ذكره في مقدمته:
أما ما يخص التزام المصنف في تفسيره بما ذكره في مقدمته، فقد ذكر المصنف أنه قصد من تفسيره أن يكون جامعا للأقوال والعلوم، وجيزا بحذف فضول القول، مبينا أن العناصر التي سيذكرها عند حديثه عن الآية أو الآيات هي النحو واللغة والمعنى والقراءة. وهو أمر يجده القارئ بوضوح في تفسيره، فقد راعى المصنف ذلك إلى حد كبير.
كما ذكر المصنف أنه سيسقط القصص الإسرائيلي، ولن يذكر منه إلا ما لا تنفك الآية إلا به، وهو أمر حاول المصنف الالتزام به، فكثيرا ما نجده
__________
(1) انظر أمثلة ذلك في الصفحات: 14، 25، 26، 46، 69، 70، 71.
(2) انظر أمثلة ذلك في الصفحات: 17، 18، 22، 25، 27.
(3) انظر أمثلة ذلك في الصفحات: 13، 14، 23، 26.
(4) انظر: المحرر الوجيز: 1/ 54.(1/388)
يذكر القصة ثم ينبه إلى أن المروي في الباب أكثر، غير أنه اختصرها لكونه لا يقطع منها بشيء، أو يقول في نحو قوله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التََّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248] وكثر الرواة في قصص التابوت وصورة حمله بما لا أرى لإثباته وجها للين إسناده، أو نحو ذلك (1).
غير أنه لم يلتزمه دائما، فقد يجد القارئ ابن عطية في أكثر من موضع وهو يورد الرواية الإسرائيلية ويتركها دون تعقيب وبيان لحالتها (2).
ومن شرطه في كتابه أيضا إثبات أقوال العلماء في المعاني منسوبة إليهم على ما تلقى السلف الصالح رضوان الله عليهم كتاب الله من مقاصده العربية السليمة من إلحاد أهل القول بالرموز، وأهل القول بعلم الباطن. وهذا مما التزمه المصنف بشكل تام، فهو إذا شرع في تفسير الآية وكان لأصحاب المنحى الإشاري قول فيه ذكره أو أشار إليه مستبعدا له، (3) وخاصة من أولئك الذين قال عنهم في مقدمته: فمتى وقع لأحد من العلماء الذين حازوا حسن الظن بهم لفظ ينحو إلى شيء من أغراض الملحدين نبهت عليه.
ومن شرطه أيضا ذكر القراءات المستعملة منها والشاذة، ويقصد بالمستعملة التي ثبتت بالإجماع والتي يقرأ بها في الصلاة، والشاذة التي لا
__________
(1) انظر مثاله: 2/ 4371360/ 284.
(2) انظر مثاله: 3/ 13195.
(3) انظر مثاله: 5/ 8223122/ 416158.(1/389)
يصلى بها لأنها لم تثبت بالإجماع. والناظر في المحرر الوجيز يجد أن المصنف قد التزم هذا الشرط، وسار عليه من بداية تفسيره إلى منتهاه. (1)
سادسا: مصادر المؤلف في مقدمته:
اعتمد ابن عطية يرحمه الله في مقدمته على عدد من المصادر الهامة، والمعتمدة لدى المشتغلين بعلوم القرآن، وقد اختلف منهجه في الاستفادة منها، فهو مرة ينقل النص من المصدر ويذكر ذلك، وحينا يذكر نصا وينسبه إلى قائله، ويكون القائل صاحب تصنيف مشهور في الباب، وهذا الأخير هو الغالب عليه، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ومن أهم مصادر ابن عطية:
محمد بن جرير الطبري. (2)، وأبو بكر بن الطيب الباقلاني، وقد اعتمد أقواله في باب الأحرف السبعة، وجمع القرآن وهي مما جاء في كتابه الانتصار لصحة نقل القرآن (3)، وأبو عبيدة صاحب مجاز القرآن (4) وأبو عبيد القاسم
__________
(1) انظر مثاله: 2/ 4407/ 7401/ 147.
(2) انظر مواضع النقل عنه في الصفحات: 51، 52، 57.
(3) انظر مواضع النقل عنه في الصفحات: 36، 37، 38، 41، 53.
(4) انظر مواضع النقل عنه في الصفحة: 7057.(1/390)
بن سلام، صاحب فضائل القرآن، (1) والإمام المقرئ أبو عمرو الداني (2)
وأبو علي الفارسي (3) والإمام البخاري (4) وثابت بن قاسم، صاحب كتاب الدلائل في شرح الحديث، هو من الكتب القليلة التي صرح المصنف بالأخذ عنه. (5)
وعدد آخر لم يرد ذكرهم إلا قليلا كأبي المعالي الجويني وكتابه الإرشاد (6) ومكي ابن أبي طالب (7)، والفراء (8) والإمام مسلم القشيري صاحب الصحيح (9)، والجاحظ في كتاب الأمصار (10)، والزبيدي في كتاب
__________
(1) انظر مواضع النقل عنه في الصفحات: 41، 43.
(2) انظر مواضع النقل عنه في الصفحات: 21، 56.
(3) انظر مواضع النقل عنه في الصفحات: 64، 65، 72.
(4) انظر مواضع النقل عنه في الصفحات: 45، 46، 47، 51.
(5) انظر موضع النقل عنه في الصفحات: 35، 38، 42.
(6) انظر موضع النقل عنه في الصفحة: 63.
(7) انظر موضع النقل عنه في الصفحة: 72.
(8) انظر موضع النقل عنه في الصفحة: 72.
(9) انظر موضع النقل عنه في الصفحة: 35.
(10) انظر موضع النقل عنه في الصفحة: 55.(1/391)
الطبقات (1) وأبو الفرج صاحب الأغاني (2) وغيرهم.
سابعا أهم مزايا المقدمة:
لمقدمة ابن عطية يرحمه الله مزايا عديدة، ربما تفرد ببعضها، وأذكر منها:
1) تنوع الموضوعات التي اختارها المصنف، وقدمها بين يدي تفسيره.
2) الإيجاز والاختصار في عرض الموضوعات، وكذا في سرد الأقوال.
3) الإعراض عن الأقوال الساقطة، وفضول القول.
4) الرد التفصيلي على بعض الأقوال المرجوحة ومناقشة قائليها.
ثامنا أظهر المآخذ على المقدمة:
1) إغفال بعض أصول التفسير، وعدم التوسع فيما ذكر منها.
2) عدم بيان درجة كثير من الآثار المستشهد بها.
3) القصور في معالجة بعض الموضوعات مثل إعجاز القرآن.
هذا ما قلته في تفسير ابن عطية وأستغفر الله من الزلل.
__________
(1) انظر موضع النقل عنه في الصفحة: 55.
(2) انظر موضع النقل عنه في الصفحة: 55.(1/392)
8 - زاد المسير في علم التفسير لأبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي المعروف بابن الجوزي المتوفى سنة (597هـ).
أولا: التعريف بالمؤلف:
مؤلف هذا الزاد العظيم هو الإمام أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله الجوزي القرشي البغدادي، والمعروف بابن الجوزي (1).
اختلف أهل العلم في تحديد العام الذي ولد فيه الإمام (2) والذي يترجح أنه كان عام (510هـ) أو قريبا منه كما يظهر من كلام الإمام نفسه،
__________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 21/ 365ووفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 140 والجوزي نسبة إلى جدهم، وقد عرف بذلك قيل: لجوزة كانت في دارهم بواسط لم يكن بها جوزة سواها، وقيل غير ذلك. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 21/ 372وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 276.
(2) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي: 21/ 366وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 276 وذيل الطبقات الحنابلة لابن رجب: 1/ 400وفنون الأفنان لابن الجوزي مقدمة المحقق: 26.(1/393)
فقد سئل يرحمه الله عن ذلك فقال: لا أتحقق مولدي. (1) ثم قال في موضع آخر: يكون تقريبا في سنة عشر (2). أي وخمس مائة.
والإمام ابن الجوزي منسوب لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه فهو ينحدر من أرومة شريفة، ونسب عظيم، ظهر أثره في حياته الخاصة والعامة.
نشأ الإمام يتيما، حيث توفي والده وهو لم يتجاوز ربيعة الثالث، وانصرفت عنه الأم في وقت هو أحوج ما يكون فيه إليهما، فتلقته العناية الإلهية، وحاشا لله الرحيم أن يترك أحبابه، لقد سخر الله للصغير عمة فاضلة، نهضت وانتصبت لتحتضن اليتيم، ولتقوم على رعايته والاهتمام به، وألقى الله في روعها أن تهبه للعلم الشرعي، فحملته لتلقيه في حضن مربّ فاضل، وعالم نحرير، هو الإمام أبو الفضل بن ناصر، فتوسم فيه خيرا، وأجلسه موضع التعليم، وأولاه العناية والرعاية، بجد واهتمام، وجعله الله سببا لإرشاده، فحمله مرارا إلى المشايخ، وأسمعه مسند الإمام أحمد وهو في سنّ لا يدري ما العلم من الصّغر، فكان بديلا عن أبيه، كما كانت العمة خير بديلة عن أمه، حتى غدا بفضل الله أولا، ثم برعاية العمة والأستاذ ثانيا، ثم بما غرس الله في نفسه من حب العلم ثالثا، كأفضل من كان في
__________
(1) انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 142.
(2) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 21/ 368.(1/394)
زمانه، أدبا وسلوكا وتحملا وخلقا وعلما.
ذاق ابن الجوزي الصعاب في تلقي العلم، ومنع نفسه متع الدنيا، وألجمها من البحث عن ملذاتها، حيث وجد المتعة الحقيقة في الدرس وطلب العلم (ولقد كنت في حلاوة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل، لأجل ما أطلب وأرجو). (1) ورأى أن ذلك كان سببا لفلاحه في العلم وتحصيله (كنت زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج إلى طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم، فأثمر ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث سير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله وآدابه) (2) ولم تدفعه حاجته إلى أن يمد يده للناس أو ينظر إلى الذي في أيديهم، فعاش عفيفا، وطلب العلم لله ومن يتّق الله يجعل له مخرجا. {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لََا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2]
انكب ابن الجوزي على العلم، وانتقل من شيخ لآخر، ومن كتاب إلى آخر حتى طالع أكثر من عشرين ألف مجلد، وهو لا يزال في طلب العلم (3).
وهكذا حتى انتهت إليه معرفة الحديث وعلومه، والوقوف على صحيحه
__________
(1) انظر: صيد الخاطر لابن الجوزي: 213.
(2) المصدر السابق: 213.
(3) انظر: المصدر السابق: 375.(1/395)
من سقيمه، فكان من أحسن الناس كلاما، وأتمهم نظاما، وأعذبهم لسانا، وأجودهم بيانا (1)، يسير على منهج السلف ويلتزمه سلوكا وعملا وعبادة، ويرشد إليه أعز الناس، كتب لولده تصنيفه القيم «لفتة الكبد» حثه فيه مرارا وتكرارا على التزام هذا المنهج، والاقتداء بسيرة السلف، والالتزام بسلوكهم.
كما (كان بحرا في التفسير، علّامة في السير والتاريخ، موصوفا بحسن الحديث ومعرفة فنونه، فقيها عليما بالإجماع والاختلاف، جيد المشاركة في الطب، ذا تفنن وفهم وذكاء وحفظ واستحضار وإكباب على الجمع والتصنيف مع التصون والتجمل، وحسن الشارة ورشاقة العبارة، ولطف الشمائل، والأوصاف الحميدة، والحرمة الوافرة، عند الخاص والعام، ما عرفت أحدا صنّف ما صنف). (2)
شيوخه وتلامذته:
تضمن (مشيخة ابن الجوزي) أسماء شيوخه وترجمة وافية لهم، كما ذكر يرحمه الله في (صيد الخاطر) جملة من أخبارهم وقال: لقيت مشايخ أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته
__________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 21/ 373.
(2) قاله الإمام الذهبي: انظر سير أعلام النبلاء: 21/ 367.(1/396)
العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه (1).
ومن شيوخه الذين تتلمذ عليهم، وأخذ عنهم:
أبو الفضل محمد بن ناصر السلامي ت (550هـ) (2)، وأبو الحسن علي بن عبيد الله الزاغوني ت (527هـ) (3)، وأبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي ت (540هـ) (4).
أما تلامذته فهم كثر، منهم الأئمة والعلماء، وقد أورد الذهبي نصا فيه ذكر بعضهم، منهم: الشيخ موفق الدين ابن قدامة (5)، وابن النجار (6) وخلق سواهما. (7)
__________
(1) انظر: صيد الخاطر: 140.
(2) انظر: لفتة الكبد لابن الجوزي: 30والمنتظم له: 10/ 162وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب: 1/ 401.
(3) انظر: المنتظم لابن الجوزي: 10/ 32وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب: 1/ 180 وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 276.
(4) انظر: صيد الخاطر لابن الجوزي: 140وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب: 1/ 204.
(5) هو موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، فقيه زاهد عابد مجاهد، قيل: كان أعلم أهل الشام في زمانه، له مصنفات مشهورة منها المغني في الفقه، توفي (620هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 22/ 165وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب: 4/ 133.
(6) هو محمد بن محمود بن الحسن ابن النجار، مؤرخ حافظ للحديث، رحل في طلب العلم واستمر في رحلته (27) سنة، اشتملت مشيخته على ثلاثة آلاف شيخ، له ذيل تاريخ بغداد، توفي (643هـ) انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي: 4/ 1428وشذرات الذهب لابن عماد: 5/ 226.
(7) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 21/ 367.(1/397)
مؤلفاته:
قال الحافظ ابن كثير عن الإمام ابن. الجوزي أنه جمع المصنفات الكبار والصغار، ونحوا من ثلاثمائة مصنف، وكتب بيده نحوا من مائتي مجلدة. (1)
وقال سبطه أبو المظفر: سمعت جدي على المنبر يقول: بإصبعيّ هاتين كتبت ألفي مجلدة إلى أن قال: ومجموع تصانيفه مائتان ونيّف وخمسون كتابا (2).
وقد نالت مصنفات الإمام شهرة واسعة، وتلقتها الأمة في جملتها بقبول حسن، ولا زالت تعول على كثير منها، وهي متنوعة شملت كل الفنون، فله في التفسير والحديث والفقه والوعظ واللغة والتاريخ والسير وغير ذلك، ومنها أنه صنف في التفسير أربعة تصانيف، (المغني) وهو كتاب واسع مبسوط، و (زاد المسير) وهو كتاب وسيط، (وتيسير البيان) كتاب وجيز، و (تذكرة الأريب في تفسير الغريب) مقتصر على تفسير الغريب.
وله في علوم القرآن (فنون الأفنان) وغيره.
وفي الحديث صنف الكثير، منها (جامع المسانيد بألخص الأسانيد)
__________
(1) انظر البداية والنهاية لابن كثير: 13/ 31.
(2) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 21/ 370.(1/398)
و (الضعفاء والمتروكين) و (الموضوعات) وغيرها.
وكتب في اللغة والتراجم والسير والتاريخ والمواعظ ومن ذلك: كتاب (صفوة الصفوة) (وصيد الخاطر) و (مناقب بغداد) وغيرها.
هذا وقد ألف الأستاذ عبد الحميد العلوجي كتابا في مصنفات ابن الجوزي أسماه (مؤلفات ابن الجوزي) طبع في بغداد 1965م شمل جميع ما كتبه الإمام، كما اهتم فضيلة الدكتور حسن ضياء الدين عتر، بذكر مؤلفات الإمام، المطبوع منها والمخطوط وأماكن وجودها في تحقيقه لفنون الأفنان للمصنف، فجزاهما الله خير الجزاء.
وفاته:
كان آخر ما خطه يراع الإمام ابن الجوزي من النظم أبيات عظيمة غلب عليها جانب الرجاء، وهي تدل على حسن ظنه بالله:
يا كثير العفو عمن ... كثر الذنب لديه
جاءك المذنب يرجو ال ... صفح عن جرم يديه
أنا ضيف وجزاء ال ... ضيف إحسان إليه
بقي الإمام مريضا بعدها خمسة أيام إلى أن توفي ليلة الجمعة بين المغرب والعشاء عام سبع وتسعين وخمسمائة للهجرة (1)، رحمه الله رحمة
__________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 12/ 379وطبقات المفسرين للداودي:(1/399)
واسعة، وأدخله مدخلا كريما.
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة:
يعتبر زاد المسير في نظر كثير من أهل العلم من أجلّ التفاسير التي وصلت إلينا من حيث سلامة عقيدة المصنف، ومن حيث المنهج والترتيب الذي سار عليهما المصنف في تفسيره، فقد حاول يرحمه الله تجنب ما وقع فيه أسلافه من عيوب في التصنيف، فتلافى ذلك بحسن العرض للأقوال والمعاني، وهو منهج سار عليه من قبله الماوردي المتوفى سنة (450هـ) رحمه الله.
لقد حرص المصنف على أن يجعل تفسيره هذا مختصرا وافيا، حاويا لما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جامعا لأقاويل علماء الصحابة ونبهاء التابعين، مشتملا لما نقل عن السلف في بيان المعاني، ضم إلى ذلك القراءات القرآنية المشهور منها والشاذ، فجاء تفسيرا في غاية الإحكام والإتقان، وفي ذلك يقول المصنف: لا يعتقدن من رأى اختصارنا أنّا أقللنا، فإنا قد أشرنا بما
__________
1/ 280وينظر للمزيد في ترجمته: البداية والنهاية لابن كثير: 13/ 28وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب: 1/ 399وسير أعلام النبلاء للذهبي: 21/ 365وشذرات الذهب لابن عماد الحنبلي: 4/ 329وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 275وطبقات المفسرين للسيوطي: 50وصيد الخاطر لابن الجوزي: 213140وفنون الأفنان لابن الجوزي، مقدمة المحقق. ووفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 140.(1/400)
ذكرنا إلى ما تركنا ودللنا، فليكن الناظر في كتابنا متيقظا لما أغفلنا، فإنا ضمنا الاختصار مع نيل المراد، وقد فعلنا. (1)
وقد تأثر ابن الجوزي في منهجه كما ذكرت بالماوردي، حتى أنه قد يصعب على القارئ التمييز بين منهجيهما، وطريقتهما في عرض الأقوال، وسرد المعاني.
أما من حيث المعاني فقد اعتمد ابن الجوزي كثيرا على شيخ المفسرين ابن جرير الطبري، وعلى ابن قتيبة في كتابيه (مشكل القرآن) و (غريب القرآن) كما اعتمد على غيرهما كالزجاج والفراء وأبي عبيدة وغيرهم، وهو يذكر أنه انتقى تفسيره من أنقى التفاسير، فأخذ منه الأصح والأحسن والأصون، ونظم ذلك في عبارة مختصرة (2).
وقد كان المفترض من ابن الجوزي، وهو المفسر المحدث، تلافي ما وقع فيه السابقون من إيراد بعض الأحاديث الضعيفة والمنكرة، أو الاستشهاد بالإسرائيليات التي أغنانا الله عنها بما هو أصح، غير أن المصنف وقع في ذلك، وفي مواضع عديدة، وكان ذلك من أشد ما يؤخذ على المصنف، كما يؤخذ عليه عدم الترجيح بين الأقوال في الغالب، فهو حين يذكر المفردة القرآنية، أو الآية فإنه قد يذكر لها خمسة أقوال في بعض الأحايين، دون أن
__________
(1) انظر: زاد المسير: 9/ 380.
(2) انظر: زاد المسير: 1/ 7.(1/401)
يبين الراجح منها، أو الذي يميل إليه على أقل تقدير، وبذلك يترك القارئ حائرا لا يعرف الراجح من المرجوح.
وقد جاءت مقدمة (زاد المسير) على وفق ما ذكر المصنف من الاختصار والإيجاز، فسودت أربع صفحات ونصف من القطع المتوسط، تعرض المصنف فيها لعدة فنون من فنون علوم القرآن دون أن يتعمق في البحث، وما ذكره هو حصيلة أقوال أهل العلم السابقين عليه.
وقد طبعت المقدمة مع التفسير طبعة واحدة فيما أعلم، ثم تم تصويرها عدة مرات بأحجام مختلفة، واعتبر الناشر كل تصوير بمثابة طبعة مستقلة، وهي طبعة المكتب الإسلامي ببيروت: 1384هـ 1964م، بعناية الأستاذ زهير الشاويش، وكانت الطبعة الرابعة مصغرة وهي التي اعتمدتها، وكانت في عام 1407هـ 1987م.
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة:
افتتح المصنف كتابه بحمد الله، والثناء عليه، وإسداء الشكر له تعالى الذي شرف الأمة بخير نبي أرسله، جعله سراجا منيرا، ولم يجعل له من أرباب جنسه نظيرا، وأنزل عليه الكلام الذي كان التحدي به.
ثم بين يرحمه الله أن شرف العلم من شرف المعلوم ولذلك كان علم القرآن من أشرف العلوم، وهو الأمر الذي دعاه إلى النظر في كتب التفسير التي تناولت بيان معاني كلماته فوجدها بين كبير يئس الحافظ منه، وصغير
لا يستفاد كل المقصود منه، فكان هذا المختصر اليسير الذي وسمه به (زاد المسير في علم التفسير) ورجا الله أن يكون قد أدى المطلوب.(1/402)
ثم بين يرحمه الله أن شرف العلم من شرف المعلوم ولذلك كان علم القرآن من أشرف العلوم، وهو الأمر الذي دعاه إلى النظر في كتب التفسير التي تناولت بيان معاني كلماته فوجدها بين كبير يئس الحافظ منه، وصغير
لا يستفاد كل المقصود منه، فكان هذا المختصر اليسير الذي وسمه به (زاد المسير في علم التفسير) ورجا الله أن يكون قد أدى المطلوب.
ثم ذكر فصلا في فضيلة علم التفسير، فأورد فيه ما روي من أنّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يتجاوزون عشر آيات من كتاب الله، حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، كما بيّن حرص الصحابة على معرفة كل ما يتصل بالقرآن من الأمور والأحوال التي تعين على فهم معانيه.
انتقل بعدها للموضوع الآخر وهو معنى التفسير والتأويل والفرق بينهما، فأورد اختلاف أهل العلم في ذلك بعبارة مختصرة، ذاكرا قول الجمهور.
ثم ذكر المدة التي نزل فيها القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم مبينا تعدد الأقوال في ذلك.
تعرض بعدها لذكر أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل، والخلاف في ذلك مع ذكر الروايات المبينة لها، مرجحا بينها، وجاء الختام ببيان غايته من التصنيف في التفسير، واهتمامه بمسائل علوم القرآن، فذكر أن جمهور كتب المفسرين لا يكاد الكتاب منها يفي بالمقصود بمفرده، وأن المتابع يحتاج إلى التنقل بينها حتى يحصل مراده، وأنه بسبب ذلك أدرج في كتابه هذا جلّ تلك الفنون بحيث يستغني الناظر فيه عن غيره.(1/403)
كما بين الخطوط الرئيسة لمنهجه، وأومأ إلى نوعية مصادره وقيمتها.
رابعا: منهج ابن الجوزي في مقدمته:
أما منهج ابن الجوزي فإنه يذكر الروايات التي تتحدث عن الموضوع المطروح للبحث، مع التصريح بذكر الراوي أو القائل، وإن كان في المسألة خلاف أشار إلى ذلك وقد يرجح حينئذ بينها، وقد يكتفي بذكر الروايات دون الترجيح. (1)
خامسا: بيان مدى التزام المصنف في تفسيره بما ذكره في مقدمته:
نعت المصنف تفسيره بأنه تفسير وسط بالغ في اختصار ألفاظه، مرتب ترتيبا يسهل فهمه، أوضح الألفاظ المشكلة، وشرح الغريب منها. وهي كلها نعوت التزمها المصنف، فالتفسير كما ذكر من أجود التفاسير ترتيبا وتنسيقا، وهو مختصر بعبارة موجزة، لا يتوانى المفسر من شرح غريب الألفاظ، وتوضيح المشكل، والأمثلة على ذلك كثيرة (2).
هذا وذكر المصنف أنه أتى بما لم يأت به بعض المفسرين من إغفال لبعض المسائل والعلوم كالناسخ والمنسوخ، أو أسباب النزول، أو بيان المكي من المدني أو غير ذلك مما بيانه من مهام المفسر، ولا يستغني عنه
__________
(1) انظر: زاد المسير: 1/ 5.
(2) انظر: زاد المسير: 1/ 435337183113.(1/404)
التفسير.
وقد التزم المصنف هذه الشروط أيضا في تفسيره، فهو يبين الناسخ والمنسوخ، ويذكر الأقوال في ذلك (1)، ويتحدث عن أسباب النزول (2)، ويبين مكية السورة أو مدنيتها فيبين إن كانت السورة بتمامها مدنية، أو بتمامها مكية، أو أن بعضا منها مكي والآخر مدني، أو العكس (3).
ومن شروط ابن الجوزي أنه لا يعيد تفسير الكلمات التي سبق أن فسرها إلا على وجه الإشارة، وأنه لا يترك الأقوال المعتبرة بل يذكرها، وقد يترك فرش الآيات لأحد الأمرين، إما أن يكون قد سبق، أو يكون ظاهرا لا يحتاج إلى تفسير.
وهذه الضوابط التزمها المصنف في الغالب أيضا، كما فعل في أول سورة آل عمران حيث أغفل تفسير الآية الأولى منها مكتفيا بما قال في البقرة من تفسير الأحرف المقطعات التي في أوائل السور، وكذا تفسير {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} من الآية نفسها مكتفيا بما ذكره في تفسير آية الكرسي. (4)
سادسا: مصادره في المقدمة:
__________
(1) انظر: زاد المسير: 1/ 365305275.
(2) انظر: زاد المسير: 1/ 223218133.
(3) انظر: زاد المسير: 1/ 234919/ 267.
(4) انظر: زاد المسير: 1/ 20و 349.(1/405)
غالب النصوص والآثار التي استشهد بها المصنف جاءت معزوة لأصحابها، وهم في جملتهم من الصحابة والتابعين، كابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله وعكرمة والشعبي وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين
أما مصادر المصنف من الكتب، فالمصدران الوحيدان اللذان وردا في مقدمة ابن الجوزي، هما صحيحا البخاري ومسلم، ذكر البخاري في موضعين، ومسلما في موضعين قرن بينهما في أحد الموضعين، وأحال إليهما الروايات الواردة في أول ما نزل، وآخر ما نزل (1).
سابعا: أهم المميزات وأظهر المآخذ:
مقدمة (زاد المسير في علم التفسير) من المقدمات المختصرة التي لم تخصص لما هدف إليه أصحاب المطولات من إثبات ما يلزم أن يكون في ذهن طالب العلم الناظر في التفسير حتى يفهمه على النحو الصحيح، فالمصنف قد أفرد لعلوم القرآن وأصول التفسير كتابا مستقلا، وما ذكره في هذه المقدمة تذكير بفضيلة التفسير ونزول القرآن، ولهذا الأمر لا يحسن الحكم على هذه المقدمة بالميزان الذي حكم به على غيرها. والله أعلم
هذا ما عرفته عن تفسير ابن الجوزي، وأستغفر الله من التقصير أو
__________
(1) انظر: زاد المسير: 1/ 65.(1/406)
الخطأ في القول.(1/407)
9 - الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الخزرجي الأندلسي القرطبي المتوفى سنة 671هـ
أولا: التعريف بالمؤلف:
مؤلف هذا السفر العظيم هو: محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح بسكون الراء والحاء المهملة الأنصاري الخزرجي المالكي، أبو عبد الله القرطبي.
ولد في قرطبة من بلاد الأندلس، ونشأ وترعرع في كنف أبيه ورعايته، ولم تشر المصادر التي وقفت عليها إلى سنة ولادته، غير أن أستاذي الدكتور علي بن سليمان العبيد حفظه الله وبارك فيه استدل من خلال نصوص وردت في ثنايا التفسير أن ولادته ربما كانت في بداية القرن السابع الهجري (1).
والذي يظهر من سيرة القرطبي رحمه الله أنه تلقى العلم في مقتبل العمر، فزاحم الركب، وأخذ عن جلة من العلماء، وصفوة من الأخيار
__________
(1) انظر: تفاسير آيات الأحكام للدكتور علي بن سليمان العبيد: 1/ 313رسالة دكتوراه كلية أصول الدين جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.(1/408)
المشاهير من أهل العلم والصلاح في وقته، من أهل قرطبة وما جاورها من منابر الإشعاع، ولازمهم حتى حصّل ما عجز غيره عن تحصيله في القرآن والقراءات والحديث والنحو والفقه والبلاغة، وغيرها من علوم العربية، حتى كان عام 627هـ حين قتل والده، وسقطت قرطبة في أيدي القشتاليين سنة 633هـ قرر الرحيل، وترك مرابع الصبا، ليتوجه إلى الإسكندرية وليتم ما بدأه في دياره، فجلس إلى علمائها يتلقى العلم طالبا.
وقد عرف عن القرطبي الصلاح والتقى، والإكثار من العبادة والنوافل حتى ذكر المترجمون له بأن أوقاته كانت معمورة ما بين توجّه وعبادة وتصنيف، وذكروا من مآثره البعد عن التكلف وما يشغل أهل الدنيا وطلابها، ومن نعوته أنه كان شيخا صالحا وقّافا عند حدود الله، يحرص على السنة ويحارب البدعة والمبتدعين. (1)
شيوخه وتلاميذه:
يقول ابن خلدون: إن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم، وما ينتحلون به من المذاهب والأخلاق، تارة علما وتعليما وإلقاء، وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة، إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد
__________
(1) انظر: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري: 2/ 412والديباج المذهب لابن فرحون: 317وشجرة النور الزكية: 2/ 197، وتفاسير آيات الأحكام ومناهجها للدكتور علي سليمان العبيد: 1/ 313.(1/409)
استحكاما، وأقوى رسوخا، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها (1).
وقد تلقى القرطبي يرحمه الله ثقافته وعلمه من شيوخ أجلاء تأثر بهم، وتكونت شخصيته على أيديهم، وتحت أنظارهم، ومن هؤلاء: الشيخ أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي (2)، والشيخ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (3)، وغيرهم من شيوخ قرطبة ومصر والإسكندرية وغيرها.
والأمر الذي يدعو إلى الاستغراب في سيرة القرطبي رحمه الله أن لا يذكر له تلميذ واحد، سوى ما روى أن ابنه شهاب الدين أحمد قد روى عنه وبالإجازة.
وهو أمر يدعو إلى التعجب حقا، وربما علل بعض الباحثين ذلك لانشغاله بأمر نفسه، وانصرافه إلى تلقي العلم ومجالسة العلماء، وتأليف
__________
(1) مقدمة ابن خلدون: 4/ 1245، تحقيق علي عبد الواحد.
(2) هو أحمد بن عمر بن إبراهيم الأنصاري القرطبي، محدث مالكي، من كبار الأئمة في الحديث، اختصر الصحيحين، وألف المفهم في شرح صحيح مسلم، توفي (656هـ).
انظر: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 70وشذرات الذهب لابن عماد: 5/ 273.
(3) هو عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري، حافظ حجة، برع في العربية والفقه والحديث حتى قيل: كان عديم النظير في معرفة علم الحديث، له مختصر مسلم وغيره، توفي (656هـ)، انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي: 6/ 143وشذرات الذهب: 5/ 277.(1/410)
الكتب، وإلى العبادة، إضافة إلى عدم مشاركته في أعمال القضاء والتدريس (1).
وهو تعليل لا يشفي الغليل، إذ كيف يترك عالم جليل دل كتابه الجامع لأحكام القرآن فضلا عن موسوعاته الأخرى على علوّ كعبه في المنقول والمعقول، وسمو مكانته وتبحره في العلم، فمثله يهرع إليه طلبة العلم، ويجلسون على بابه لتلقي كلمة أو سماع أثر، بل كان الأمر يصل ببعضهم أن يعمل ما يزج به في السجن ليلتقي عالما قد حكم عليه بالسجن فيأخذ عنه فيتحمل العذاب المضني لتلقي العلم، فكيف أغفله طلاب العلم ولم يتلقوا عنه؟!
وبالنظر إلى الفترة التي عاشها القرطبي في مصر، وما عرف عنه يرحمه الله من مناهضة الرافضة والرد عليهم، وإشهار سيف الحق في وجوههم، وبيان زيفهم وانحرافهم وضلالهم (2)، وكأنني وأنا أقرأ في سيرة القرطبي وشيئا من مقدمته التي أفاض فيها التصدي للقوم ومواقفهم المخزية من القرآن الكريم، وكأنني أرى أنه منع نتيجة ذلك من التدريس ومنع عنه الطلبة فتفرغ للتأليف منعزلا حتى أخرج لنا هذا التراث العظيم {وَاللََّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكََافِرُونَ} [الصف: 8]، فالتعليل الأقرب إذا لعدم وجود
__________
(1) انظر: تفاسير آيات الأحكام للدكتور علي بن سليمان العبيد: 1/ 313.
(2) ينظر مقدمة التفسير للوقوف على بعض ردوده عليهم.(1/411)
تلاميذ للقرطبي عائد والله أعلم إلى التسلط السياسي الذي مارسته الفئة الباغية على أهل العلم، وهو ما يسمى في عصرنا الحالي ب (الإقامة الجبرية) فلا التدريس والتعليم مسموح به، ولا الهجرة والسياحة في الأرض مسموحة. {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللََّهُ وَاللََّهُ خَيْرُ الْمََاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
تصانيفه ومؤلفاته:
روى غير واحد عن الإمام الذهبي قوله في القرطبي: إمام متفنن متبحر في العلم، له تصانيف مفيدة تدل على كثرة اطلاعه ووفور عقله وفضله. (1).
وصدق الذهبي فيما قال فإن المطّلع على النتاج العلمي الذي خلّفه القرطبي ليشهد بقوة على هذه الحقيقة، فهي كالشمس في رابعة النهار.
ومن مؤلفاته:
1) الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.
2) التذكار في أفضل الأذكار.
3) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة.
4) قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذل السؤال بالكتب والشفاعة.
__________
(1) قاله الذهبي في تاريخ الإسلام، وانظره في نفح الطيب للمقري: 2/ 414وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 69.(1/412)
5) شرح التقصي.
6) الإعلام بما في دين النصارى وإظهار محاسن دين الإسلام.
إضافة إلى تفسيره الذي هو موضوع دراستنا هنا، وغير ذلك من التصانيف (1).
وفاته:
ولكل شروق غروب، ففي ليلة الاثنين، التاسع من شوال سنة 671هـ أفل نجم القرطبي ليلقى وجه ربه في النعيم المقيم إن شاء الله الغفور الرحيم، وكانت وفاته في منية ابن خصيب، مستقره من الصعيد الأدنى من ديار مصر، وهي المسمى حاليا ببلدة، المنيا (2) رحمه الله رحمة واسعة.
__________
(1) انظر: الديباج المذهب لابن فرحون: 317وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 69ونفح الطيب للمقري: 2/ 413وهدية العارفين: 6/ 129.
(2) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 69وشذرات الذهب: 5/ 335.
وينظر للمزيد في ترجمته: تفاسير آيات الأحكام ومناهجها، للدكتور / علي بن سليمان العبيد: 1/ 313، رسالة دكتوراه بكلية أصول الدين جامعة الإمام محمد بن مسعود الإسلامية. والتفسير والمفسرون، لمحمد بن حسين الذهبي: 2/ 457والديباج المذهب، لابن فرحون: 317والذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة السفر الخامس القسم الثاني: 585وشجرة النور الزكية، محمد مخلوف: 197وشذرات الذهب، لابن عماد الحنبلي: 5/ 335وطبقات المفسرين، للداودي: 2/ 69وطبقات المفسرين، للسيوطي: 28ومن الجامع لأحكام القرآن، د / محمد أديب الصالح: 8ونفح الطيب(1/413)
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة:
حين سئل شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله عن خير تفسير بين تفاسير ثلاثة ذكرت له، تفسير الزمخشري والقرطبي والبغوي، كان جوابه يرحمه الله أن: تفسير القرطبي خير من تفسير الزمخشري، وأنه أقرب إلى طريقة أهل الكتاب والسنة، وأنه أبعد عن البدع. (1)
ولهذه المزية ولغيرها انتقاه العلماء وطلبة العلم، فطالما ارتووا من مورده العذب الزلال، وهو تفسير عظيم الشأن سار بذكره الركبان، وهو كما قال الذهبي: تفسير لا نظير له، فضله الأشياخ المتأخرون على أكثر ما بالأيدي من التفاسير. (2)
والذي أراه أنه لو ادعى من اقتنى هذا التفسير الجليل من طلبة العلم أنه قد يستغني به عن غيره من التفاسير لما حقّ لأحد أن يستنكر عليه قوله، فهو تفسير جامع شامل لجميع اتجاهات التفسير، من المأثور والرأي، لا يستغني عنه مغرم باللغة والنكات البلاغية، ولا فقيه باحث عن الأحكام القرآنية، ولا مهتم بالعقائد، فالكل يجد فيه بغيته ومبتغاه، ناهيك عن شيوخ
__________
من غصن أندلس الرطيب، للمقري: 1/ 413والوافي بالوفيات، للكتبي: 2/ 122.
(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 31/ 387.
(2) انظر: الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة السفر الخامس القسم الثاني: 585 ونفح الطيب للمقري: 2/ 414نقلا عن الذهبي في تاريخ الإسلام.(1/414)
القراءات الذين يعدون هذا السفر الجليل مرجعا هاما في فنهم، خاصة في توجيه القراءات القرآنية.
ولهذه المزايا ولغيرها عدّ المترجمون للقرطبي تفسيره هذا من أجلّ التفاسير وأعظمها نفعا، فقد أسقط يرحمه الله القصص والتواريخ، وأثبت عوضها أحكام القرآن مع استنباط الأدلة، كما ذكر القراءات والإعراب والناسخ والمنسوخ، (1) كل ذلك دون أن يخرج عن الهدف الذي رسمه وهو تفسير كتاب الله، وتوضيح ألفاظه، وبيان معانيه.
وقد تأثر القرطبي بسلفه ابن عطية تأثرا واضحا، خصوصا في تمحيص الآثار الواردة عن أهل الكتاب، وتلك التي هي محل نظر مما ابتليت به التفاسير عامة، ولهذا ذكر ابن خلدون أن القرطبي قد تأثر بابن عطية في منهجه وطريقته في هذا المنحنى (2).
هذا وقد استطاع المصنف بعبارته السهلة، وتقسيمه الدقيق للموضوعات، ومنهجه التميز في هذا الشأن، أن يقدم للقارئ نصا يرتاح معه، فلا يكلّ من دراسته، ولا يملّ النظر فيه، وهي الأخرى ميزة عظيمة لهذا التفسير الجليل.
أما ما يخص التعريف بالمقدمة فلا أظنني جانبت الصواب حين ادعيت
__________
(1) انظر: الديباج المذهب: 317.
(2) انظر: مقدمة ابن خلدون: 314ط دار المصحف القاهرة.(1/415)
في مقدمة هذه الرسالة أن كثيرا من المفسرين ضمنوا مقدمات تفاسيرهم خلاصة أفكارهم، وزبدة آرائهم حول علوم القرآن، وأنهم بنوا هياكل تفاسيرهم على هذه الآراء ولا حين ادعيت أن من الأهمية دراسة هذه المقدمات دراسة تحليلية جادة، والغوص فيها لإبراز الدقائق العلمية في ثناياها لأنني كنت أعي وأعني ما أقول، فقد كنت على علم بكثير من هذه المقدمات، وعلى دراية بإحداها على الأقل، دراية تامة، طالما أشار إليها أساتذتنا الأفاضل، ونبه على أهميتها شيوخنا الأجلاء، أقصد بذلك مقدمة الجامع لأحكام القرآن، تلك المقدمة التي ما فتأت أرجع إليها بين الحين والحين في البحث الذي أعددته في المرحلة العلمية السابقة لهذه المرحلة.
لقد حوت مقدمة تفسير الإمام القرطبي خلاصة فكره حول كثير من علوم القرآن، عرضها بأسلوب يجمع بين الغزارة العلمية، والطراوة الأدبية، تبنى المصنف كثيرا مما نقله ممن سبقوه، وما لم يرتضه عقّب عليه وناقش صاحبه وقدّم أدلته ليفند حجج مخالفه، جمع فيه بين مأثور النصوص وقوة الاستنباط والتحليل.
إن هذه المقدمة تعد بحق من أوفى المقدمات التي وقفت عليها في علوم القرآن، من نشأة التفسير وحتى نهاية القرن الثامن الهجري وهي الفترة التي يتناولها هذا البحث جاءت في ست وثمانين صفحة من القطع المتوسطة، مسطرتها 24/ 17، عدد الأسطر من 19إلى 22سطرا.
وقد جاءت هذه المقدمة قليلة الأخطاء بالنظر إلى الطبعات الأخرى
التي وقفت عليها.(1/416)
وقد جاءت هذه المقدمة قليلة الأخطاء بالنظر إلى الطبعات الأخرى
التي وقفت عليها.
أما عدد طبعات المقدمة فهي بعدد طبعات التفسير نفسه، فلم تطبع منفردة، ربما لأنه تيسر لهذا التفسير أن يطبع قبل مثيلاته، فلم تكن هناك حاجة لعزله عن أصله، أو ربما لأن عزله عن أصله يخلّ ببعض ما فيه، فقد أراد المصنف أن يربط المقدمة بالتفسير ربطا محكما ليكتمل العقد، ولتتحقق الغاية التي لأجلها قدم هذه المقدمة. يدل على هذا أن المؤلف كثيرا ما يحيل قارئ المقدمة إلى صلب التفسير بقوله: وسيأتي مزيد بيان في سورة كذا (1)
بل قد يترك البيان كله فيقول: وبيان ذلك في سورة كذا (2) وكأنه يريد أن يقول: لا تغفل عن التفسير إنّ فيه خيرا كثيرا، فهو بهذا العمل يريد أن تكون المقدمة والتفسير صنوان.
وهذا وقد طبع الكتاب عدة طبعات منها:
1) طبعة دار الكتب المصرية.
2) طبعة دار الكتاب العربي القاهرة 1387هـ الطبعة الثالثة مصورة عن طبعة دار الكتب. قام بتصحيحه والتعليق عليه: أبو إسحاق إبراهيم أطفيش، وأحمد عبد العليم البردوني، ومصطفى السقا.
__________
(1) انظر: مثال ذلك: 1/ 865820.
(2) انظر: 1/ 8359534939.(1/417)
3) طبعة دار إحياء التراث بيروت، الطبعة الثانية.
4) طبعة دار الكتب العلمية بيروت 1408هـ، الطبعة الأولى.
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة:
قدم الإمام القرطبي بين يدي تفسيره مقدمة مطولة حوت تسع عشرة مقدمة جزئية باعتبار أن كل باب ذكره يعد بمثابة مقدمة مستقلة، هذا على سبيل الإجمال والإدماج، وإلا فإن الموضوعات التي طرحها للبحث والنقاش تربو على هذا العدد بقدر الضعف.
قدم المصنف تلك المقدمات بكلمة بليغة موجزة، غير أنها كافية ضافية، تحدث فيها عن بلاغة الكتاب المبين، وعلو قدر حفظته والعاملين به، ثم بين الباعث إلى التأليف والكتابة، والأمور التي اعتزم أن يضمنها تفسيره، وختم الكلمة ببيان شرطه في كتابه، ليبدأ بالتفصيل في الأبواب التي رأى أنه يحسن لطالب التفسير والمشتغل به الإحاطة بها، وهي:
باب: ذكر جمل من فضائل القرآن، والترغيب فيه، وفضل طالبه، وقارئه ومستمعه والعامل به:
بدأ المصنف هذا الباب بالحديث عن أهمية الموضوعات المطروقة، وعن فضل كلام الله تعالى، وأشار في ثنايا حديثه إلى أن علماء كثر كتبوا فيه تآليف مستقلة، كما أومأ إلى مسألة خلق القرآن غير أنه لم يفصّل، واكتفى ببيان مذهب أهل السنة والجماعة بإيجاز، وحسن فعل. فالخوض في مثل
هذه المسائل يكون في موضعه من التآليف المختصة، ولا حاجة من طرقه في مثل المقدمات.(1/418)
بدأ المصنف هذا الباب بالحديث عن أهمية الموضوعات المطروقة، وعن فضل كلام الله تعالى، وأشار في ثنايا حديثه إلى أن علماء كثر كتبوا فيه تآليف مستقلة، كما أومأ إلى مسألة خلق القرآن غير أنه لم يفصّل، واكتفى ببيان مذهب أهل السنة والجماعة بإيجاز، وحسن فعل. فالخوض في مثل
هذه المسائل يكون في موضعه من التآليف المختصة، ولا حاجة من طرقه في مثل المقدمات.
وذكر المصنف فضل الله سبحانه وتعالى وتكرمه حيث منّ على الأمة الإسلامية بتيسير القرآن للذكر، فجعل الناس قادرين على حمله وحفظه حين عجزت السماوات والأرض عن حمله، ولولا هذا الفضل لما استطاع الإنسان حمله، قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنََا هََذَا الْقُرْآنَ عَلى ََ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خََاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللََّهِ} [الحشر: 21].
ثم ذكر في ختام هذا الباب جملة من الآثار الواردة في فضائل القرآن، ليختم الباب بقوله: والآثار في معنى هذا الباب كثيرة وفيما ذكرنا كفاية، والله الموفق للهداية.
باب: كيفية التلاوة لكتاب الله تعالى، وما يكره منها وما يحرم، واختلاف الناس في ذلك:
تعرض القرطبي لهذا الموضوع في ثماني صفحات، وذكر فيه نيفا وعشرين حديثا وأثرا، بدأه بالصحيح الذي رواه البخاري عن قتادة في وصف أنس رضي الله عنه لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان يمد مدا.
وقد حلّق المصنف في هذا الباب وسما في الذي ذكره، وأنهاه بعد أن أسبغ عليه الحلل، فما ترك مسألة بحاجة إلى نقاش إلا وقد أشبعها درسا حتى أقنع القارئ حجة.(1/419)
ثم تحدث عن كيفية قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فأورد من الأثر الصحيح ما لا يحتاج معه إلى مزيد بحث، وعن حسن صوت من قرأ وهو يخشى الله، وشين رفع الصوت والتطريب بالقراءة والنبر، خاصة من كان حادّ النبرات رفيع الصوت منكره. مدعما ما ذكره بالأدلة، وذاكرا من كرهوا ذلك من الأئمة.
ثم عاد مرة أخرى إلى ما ذكره أولا من كراهية رفع الصوت والتطريب فذكر الخلاف في المسألة بين مجيز ومانع، ذاكرا أدلة ذلك والقائلين بكل قول، دون أن يبخسهم حقهم في العرض والبيان، حيث عرض الأدلة بأمانة وصدق، حتى إن القارئ حين يقرأ له وهو يورد أدلة مخالفيه يذهب به الظن إلى أن المصنف يتبنى هذا الرأي، وبمثل هذه المواقف التي يقفها القرطبي بين الفينة والفينة، كان الحق في جانب أولئك الذين ينفون التعصب المذهبي عن القرطبي، ويذكرون أنه إنما يتبع الدليل بغض النظر عن قائله ومذهبه.
فهو حين ذكر أدلة المجيزين سماهم، وذكر منهم أرباب الفصاحة وفرسان البيان، ومن شهدت لهم الأمة بالإمامة كأبي حنيفة والشافعي وابن المبارك والطبري وابن بطال (1) والقاضي المالكي ابن العربي، وغيرهم. وكل واحد ممن ذكره يكفي بنفسه أن يرفع بسهم الطائفة عاليا، فكيف بهم
__________
(1) هو علي بن خلف بن بطال البكري القرطبي، محدث من أهل العلم والمعرفة، شرح صحيح البخاري، توفي (449هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/ 47والديباج المذهب لابن فرحون: 302.(1/420)
مجتمعين!!
أقول هذا لأدلل على قوة القرطبي في اختياراته، فهو مع الدليل، ولهذا ظهر رسوخ قدمه، وعلو كعبه حين أعلن بعد أن ذكر أدلة المجيزين، وهم من هم، أعلن أنه يرى كراهية التطريب، وأنه الأصح من الأقوال مدللا ومعللا لما ذهب إليه، وأن تزيين الصوت يكون بقراءة القرآن، وليس تزيين القرآن بالصوت الحسن كما يراه المخالفون، ورد على المخالفين بأدلة قوية.
كما رأى أن التغني هو تحسين الصوت بالقرآن، ليس التطريب، أو أن يكون بمعنى الاستغناء ضد الافتقار، وهو التأويل الذي ارتضاه سفيان بن عيينة (1)، ووكيع بن الجراح (2)، وهو المروي عن سعد بن أبي وقاص. أو يكون بمعنى الاستغناء به عن سواه من الأحاديث، وهو مذهب البخاري صاحب الصحيح
وهكذا نقل ما تأوله العلماء في معنى التغني، فذكر منها التحزن به الذي هو إظهار الحزن ضد السرور، وذكر حسن الصوت بالترجيع، أو أنه بمعنى الجهر بالقرآن.
__________
(1) هو سفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي، ثقة ثبت حافظ فقيه، تغير حفظه بأخرة، توفي (198هـ). انظر:
طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 308، وميزان الاعتدال للذهبي: 2/ 170.
(2) هو وكيع بن الجراح بن مليح بن عدي الكوفي، إمام حافظ، كان من بحور العلم وأئمة الحفظ، توفي (197هـ) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 9/ 140وشذرات الذهب لابن عماد: 1/ 349.(1/421)
ثم انتقل إلى الحديث عن الترجيع، وصفته، وعلل دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم رجّع في قراءته، بأنه محمول على إشباع المد في موضعه، أو أنه حكاية عن صوته عند هزّ الراحلة. وصرح أثناء حديثه بأن المبالغة في الترجيع والترديد حرام لكون من يفعل ذلك إنما يقصد به الزجر والجوائز، كالذي يقرأ أمام الملوك والجنائز، فضلّل سعيهم، وخيب عملهم، وأنكر عليهم بشدة استحلالهم تغيير كتاب الله، والاجتراء عليه سبحانه لأجل غرض زائل من الدنيا، يزينه الشيطان لهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وهم في غيّهم يترددون، وبكتاب الله يتلاعبون، وصدق الصادق المصدوق، بأن ذلك سيكون: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق ولحون أهل الكتابين، وسيجيء قوم يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم». (1)
وأنهى القرطبي الباب بتعريف اللحن والترجيع والترتيل ليختمه بالأثر الوارد في نعت قراءته صلّى الله عليه وسلم بأنها كانت مفسرة حرفا حرفا. ولأن حفظ كتاب الله، وحسن الصوت قد يلقي في النفس البشرية شيئا من الإعجاب، وحظوظ النفس، وخشية أن ينقلب ذلك إلى الرياء والعياذ بالله فيضيع
__________
(1) أخرجه البيهقي في الشعب: ح (641)، 3/ 1087) والمروزي في قيام الليل، انظر المختصر: 119، وأبو عبيد في فضائله: ح 232ص 99، والهيثمي في المجمع: 7/ 179ونسبه للطبراني وقال: وفيه بقية وراو لم يسم.(1/422)
الأجر، خصص يرحمه الله الباب الثاني للتحذير من ذلك وغيره.
باب: تحذير أهل القرآن من الرياء وغيره:
روي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تخادع الله، فإنه من يخادع الله يخدعه الله، ونفسه يخدع لو يشعر». قالوا: يا رسول الله، وكيف يخادع الله؟ قال: «تعمل بما أمرك الله به، وتطلب به غيره، واتقوا الرياء فإنه الشرك، وإن المرائي يدعى يوم القيامة على رءوس الأشهاد بأربعة أسماء ينسب إليها: يا كافر، يا خاسر، يا غادر، يا فاجر، ضلّ عملك، وبطل أجرك، فلا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع».
هذا باب عظيم، وخطره جسيم، وقد أحسن القرطبي رحمه الله عملا حين أفرده بباب مستقل، ولم يكتف بما يمكن التحدث به من أمر التحذير من الرياء في صلب التفسير، كما أشار إلى ذلك.
استهل القرطبي رحمه الله هذا الباب الذي جاء في ثلاث صفحات، لتقرير ما ضمنه بقوله تعالى {وَاعْبُدُوا اللََّهَ وَلََا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء: 36]، وقوله {فَمَنْ كََانَ يَرْجُوا لِقََاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صََالِحاً وَلََا يُشْرِكْ بِعِبََادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110] ليشير بذلك إلى أن من تعلم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن وأقرأه، ليقال عالم وقارئ للقرآن قد ارتكب إثما عظيما، ولهذا استحق مرتكبه أن يسحب في النار على وجهه حتى يلقى في
النار.(1/423)
استهل القرطبي رحمه الله هذا الباب الذي جاء في ثلاث صفحات، لتقرير ما ضمنه بقوله تعالى {وَاعْبُدُوا اللََّهَ وَلََا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء: 36]، وقوله {فَمَنْ كََانَ يَرْجُوا لِقََاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صََالِحاً وَلََا يُشْرِكْ بِعِبََادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110] ليشير بذلك إلى أن من تعلم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن وأقرأه، ليقال عالم وقارئ للقرآن قد ارتكب إثما عظيما، ولهذا استحق مرتكبه أن يسحب في النار على وجهه حتى يلقى في
النار.
وأورد رحمه الله من الأحاديث والآثار ما يؤكد هذا المعنى، ويحذر القراء من الغرور والرياء الذي قد ينفد إلى النفس فيعرّض صاحبه للخطر، ويحرمه من عرف الجنة، ويدخله جب الحزن يوم القيامة.
وانتقل بعد هذا ليقدم العلاج الذي يقي القارئ من الوقوع في المهالك، فيذكره أولا وآخرا بتقوى الله بأن يتقي الله في نفسه، ويخلص العمل لله، ويوجه من أصابه شيء مما يكره إلى الإسراع في التوبة والإنابة إلى الله، وأن يبدأ بالإخلاص في الطلب والعمل. وليؤكد أن هذا الأمر خير له، أورد من الأثر ما يؤكد أن على قارئ القرآن وحامله أن يتحفظ أكثر من غيره لأن له من الأجر أكثر من غيره.
وختم بوعد للقارئ بمزيد بيان مما يتعلق بالموضوع في صلب التفسير.
باب: ما ينبغي لصاحب القرآن أن يأخذ نفسه به، ولا يغفل عنه:
أكد القرطبي في هذا الباب أن أهم ما ينبغي لصاحب القرآن الأخذ به، وعدم الإغفال عنه هو الإخلاص لله.
بدأ الباب بالتنبيه إلى ذلك، وختمه بالتأكيد على إخلاص النية لله أولا وآخرا، وبين البداية والختام ذكر جملة من الصفات التي يجب على حامل القرآن أن يتحلى بها، كالقراءة في الليل والنهار، في الصلاة وخارجها، وكالشكر لله، والخوف من ذنوب النفس، والرجاء في عفو الله
ومراقبته جلت قدرته في أوامره ومناهيه، والاتصاف بالحلم والأناة والوقار وغير ذلك من صفات الكمال.(1/424)
بدأ الباب بالتنبيه إلى ذلك، وختمه بالتأكيد على إخلاص النية لله أولا وآخرا، وبين البداية والختام ذكر جملة من الصفات التي يجب على حامل القرآن أن يتحلى بها، كالقراءة في الليل والنهار، في الصلاة وخارجها، وكالشكر لله، والخوف من ذنوب النفس، والرجاء في عفو الله
ومراقبته جلت قدرته في أوامره ومناهيه، والاتصاف بالحلم والأناة والوقار وغير ذلك من صفات الكمال.
ثم شرع المصنف في ذكر المسائل العلمية التي ينبغي لقارئ القرآن معرفتها كالمكي والمدني، والإعراب، واللغة، وغير ذلك من العلوم المطلوبة.
يريد بذلك التأكيد على أن العلم لا ينتفع به إن لم يصحبه خلق وأدب وإخلاص للنية، كما أن تلك النعوت الحميدة لا تنفع صاحبها إذا كان مجردا عن العلم خاويا. فما أقبح لحامل القرآن الذي يتلو فرائضه وحدوده وأحكامه وهو لا يفهم معنى ما يتلوه، إذ كيف يعمل بما لا يفهم معناه!!
بعدها ختم المصنف هذا المبحث حيث أرشد طالب العلم الذي يريد بعلمه المباهاة والشرف في الدنيا إلى تغيير النية لينتفع بما تعلم، (كنا نطلب العلم للدنيا، فجرّنا إلى الآخرة).
باب: ما جاء في إعراب القرآن وتعليمه والحث عليه، وثواب من قرأ القرآن معربا:
عشرون أثرا عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين أوردها القرطبي في هذا الباب، الذي جاء في ثلاث صفحات، حثت كلها على تعلم الإعراب والعربية، ودلت بمجموعها على ذم اللحن وكراهيته، مما يوجب على قراء كتاب الله وحفظته أن يأخذوا أنفسهم بالاجتهاد في تعلمه.
وقد دعّم القرطبي ما ذكره قبل أن يختم هذا المبحث بالأمثلة التي تؤكد
المعنى المراد، وكيف أن اللحن يغير المقصود، وبين كيف أن الصحابة فهموا مراد الله بما أوتوا من العلم بالعربية وبأشعارها، وأن الشعر ديوان العرب لا ينبغي إغفاله.(1/425)
وقد دعّم القرطبي ما ذكره قبل أن يختم هذا المبحث بالأمثلة التي تؤكد
المعنى المراد، وكيف أن اللحن يغير المقصود، وبين كيف أن الصحابة فهموا مراد الله بما أوتوا من العلم بالعربية وبأشعارها، وأن الشعر ديوان العرب لا ينبغي إغفاله.
باب: ما جاء في فضل تفسير القرآن وأهله:
علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو من هو في علوّ منزلته، وعظيم قدره، يذكر عنده جابر بن عبد الله رضي الله عنه فيصفه بالعلم مثنيا عليه، فيقوم رجل مستغربا يقول: جعلت فداءك، تصف جابرا بالعلم وأنت أنت؟! فيقول كرم الله وجهه معللا: إنه كان يعلم تفسير قوله تعالى {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرََادُّكَ إِلى ََ مَعََادٍ} [القصص: 85].
استدل القرطبي بهذا الأثر وسبعة آثار أخرى عن الصحابة والتابعين وهي مجموع ما أورده في هذا الباب على فضل التفسير، ومكانة المفسر، وعلو منزلته وقدره.
وقد جاء هذا الباب موجزا بخلاف المباحث السابقة، حيث اقتصر المصنف على ما لم يذكره سابقا.
باب: ما جاء في حامل القرآن، ومن هو، وفيمن عاداه:
سبق أن حذر المصنف قارئ القرآن من الرياء والغرور في باب خاص، وعاد ليثبت في هذا الباب أن من امتثل ذلك من القراء، وابتعد عن
الرياء حقا استحق الفوز في الدنيا بإكرام الناس له، والخوف والخشية من معاداته، وفي الآخرة بالنعيم المقيم، وقد جاء هذا الباب في أقل من نصف صفحة.(1/426)
سبق أن حذر المصنف قارئ القرآن من الرياء والغرور في باب خاص، وعاد ليثبت في هذا الباب أن من امتثل ذلك من القراء، وابتعد عن
الرياء حقا استحق الفوز في الدنيا بإكرام الناس له، والخوف والخشية من معاداته، وفي الآخرة بالنعيم المقيم، وقد جاء هذا الباب في أقل من نصف صفحة.
باب: ما يلزم قارئ القرآن وحامله من تعظيم القرآن وحرمته:
كان عمدة القرطبي في هذا الباب هو الحكيم الترمذي، فقد نقل عنه ما أورده في نوادره من آداب التلاوة، وقد استغرق هذا النقل أربع صفحات احتوى على أكثر من أربعين أدبا من آداب التلاوة، وما يلزم حامل القرآن من تعظيمه وحرمته، وبعد أن أنهى نقل ما ذكره صاحب نوادر الأصول أتبع ذلك باستدراك ما قد فاته من تلك الآداب كاستحباب جمع الأهل عند ختم القرآن، وكراهية اتخاذ التعاويذ وغير ذلك.
ولم يكن القرطبي رحمه الله مجرد ناقل في ذكره لتلك الآداب، بل تجده يتدخل في المنقول بالتعقيب حينا وبالمناقشة حينا آخر، فيخالف الحكيم الرأي مدللا على ما ذهب إليه بما ثبت، وهو مسلك حسن يذكر للمصنف فيشكر.
وقد شمل هذا الباب ثلاثة أمور:
الأول: الآداب المطلوبة قبل البدء في التلاوة،
كاستحباب الاستياك قبل البدء، واتخاذ الزينة، واستقبال القبلة وغير ذلك.(1/427)
الثاني: ما يستحب أثناء التلاوة، وما يكره،
فذكر للأول القراءة المرتلة واستعمال الذهن وغير ذلك، وذكر للثانية كراهية قطع القراءة بكلام الآدميين وغير ذلك.
الثالث: آداب عامة لتعظيم القرآن،
كتحريم توسّد المصحف، وتحريم كتابته
على الأرض وغير ذلك.
باب: ما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرأي، والجرأة على ذلك، ومراتب المفسرين:
القارئ لهذا الباب يلاحظ للوهلة الأولى أن المصنف اتكأ على ابن عطية رحمه الله فيما أورده في مقدمة تفسيره حول هذا الموضوع، وكأن لسان حاله يقول: لم يترك هذا المفسر شيئا أريد ذكره إلا سبقني إليه، ولا شك أن نقل القرطبي عن ابن عطية على هذا النحو، واعتماد كثير من آرائه يعد بحق شهادة للأول برسوخ القدم وعلو الكعب في تلك العلوم.
جاء هذا الباب في أكثر من خمس صفحات، أشار المصنف في بدايته إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر من القرآن إلا آي بعدد، علمه إياهن جبريل، ووقف بذلك مع جمع غفير من المفسرين الذين رأوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين ما احتاج إليه الصحابة من المعاني، وما استشكل عليهم من الألفاظ وتعذر فهمها، وأن ما سوى ذلك تركه لاجتهادهم ولغتهم وفهمهم.
وما ذهب إليه المصنف فيه إشارة وإيحاء إلى جواز التفسير بالرأي، وهو
أمر يعارض ظاهر جملة من النصوص الواردة في التحذير من القول في القرآن بمجرد الرأي، لذلك ذكر القرطبي جملة من تلك الآثار مع تأويلات ثلة من العلماء من الصحابة وغيرهم لها، وانتهى إلى أن الراجح هو أن التحذير وارد بحق من قال في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره، أو قال قولا يوافق فيه هواه.(1/428)
وما ذهب إليه المصنف فيه إشارة وإيحاء إلى جواز التفسير بالرأي، وهو
أمر يعارض ظاهر جملة من النصوص الواردة في التحذير من القول في القرآن بمجرد الرأي، لذلك ذكر القرطبي جملة من تلك الآثار مع تأويلات ثلة من العلماء من الصحابة وغيرهم لها، وانتهى إلى أن الراجح هو أن التحذير وارد بحق من قال في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره، أو قال قولا يوافق فيه هواه.
بعد هذا ذكر رحمه الله شيئا من شروط التفسير بالرأي، كأن يملك الأدوات اللازمة للتفسير، وأن يكون تفسيره عن علم ونظر فيما قاله العلماء، واقتضته قوانين العربية، لا أن يتسور على كتاب الله برأيه بغير بصيرة ولا تدبر، فيضل بنفسه ويضل غيره.
ولأنه قد يفهم بعضهم أن التفسير كله موقوف على السماع فهما منهم لقوله تعالى {فَإِنْ تَنََازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللََّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] لذلك ردّ المصنف على هذا الفهم وبين وجه الحق وعاد ليؤكد من جديد أن النهي في التفسير بالرأي محمول على وجهين:
1) أن يكون له في الشيء رأي، وإليه ميل في طبعه وهواه، فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه، ليحتج على تصحيح غرضه.
وفصّل القول في هذه المسألة تفصيلا بين فيه جميع احتمالات الرأي والميل إليه. وحذر من هذا الأمر، كما أكد على أن ذلك من دأب الباطنية لتغرير الناس ودعوتهم إلى مذاهبهم الباطلة، فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم، وهم يعلمون أنها غير مرادة.(1/429)
2) أن يفسّر كتاب الله بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن.
وصرح بأن سوى هذين الوجهين لا يتطرق النهي إليه، غير أنه يبقى مسألة في غاية الأهمية وهي:
هل كل من ملك هذه الشروط، جاز له أن يفسر كتاب الله ويقول فيه برأيه؟
ذكر المصنف تحرج بعض السلف من ذلك، وأنهم كانوا يحجمون عن القول في كتاب الله، ويتوقفون تعظيما للقرآن، واحتياطا لأنفسهم، مع أنهم كانوا يملكون أدوات القول بالرأي. وذكر لهذا مقولة أبي بكر الصديق رضي الله عنه المشهورة: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، وأين أذهب، وكيف أصنع، إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد الله تبارك وتعالى.
وأنهى المصنف الباب بالحديث عن التفسير والمفسرين، فذكر من المفسرين في الصدر الأول ثلة، وجماعة من المشهورين من بعدهم الذين تتلمذوا على أيديهم، ومن جاء بعدهم، إلى أن ذكر من ألف في التفسير كتبا مستقلة ممن ذكرهم ابن عطية في تفسيره من المجتهدين.
باب: تبين الكتاب بالسنة، وما جاء فيه:
لما بين المصنف في الباب السابق أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر من القرآن إلا آي بعدد، وأجاز لذلك التفسير بالرأي المبني على العلم، خشي أن يعدل
البعض عن بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفسر القرآن برأيه، لذا خصص هذا الباب للحديث عن وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه فيما أمر وبيّن، ومن ذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من تفسير لبعض الكلمات والآيات القرآنية، فإن الأخذ به واعتماده واجب، كما أن العدول عنه عدول عن اتباع الحق الذي لا مراء فيه.(1/430)
لما بين المصنف في الباب السابق أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر من القرآن إلا آي بعدد، وأجاز لذلك التفسير بالرأي المبني على العلم، خشي أن يعدل
البعض عن بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفسر القرآن برأيه، لذا خصص هذا الباب للحديث عن وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه فيما أمر وبيّن، ومن ذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من تفسير لبعض الكلمات والآيات القرآنية، فإن الأخذ به واعتماده واجب، كما أن العدول عنه عدول عن اتباع الحق الذي لا مراء فيه.
وقد جاء هذا الباب في أكثر من صفحتين، سرد المصنف في أوله جملة من الآيات الدالة على لزوم اتباعه صلى الله عليه وسلم، والتحذير من مخالفته، ثم ذكر شيئا من الآثار الواردة عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بينت التزامهم بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في بيان الآيات الكريمات.
بعد هذا بين أهمية اتباع السنة، وأن مخالفتها تؤدي إلى الضلال، كما حدث للخوارج والروافض الذين تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن.
وصرح المصنف أن بيان السنة لكتاب الله كان على ضربين:
1) بيان لمجمل ما في الكتاب، كبيان الصلوات الخمس وأوقاتها إلخ.
2) بيان زاد به على حكم الكتاب، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها
ثم تحدث عن مسألة احتياج القرآن إلى السنة، أو السنة إلى القرآن، وأيهما القاضية.(1/431)
باب: بيان كيفية التعلم والفقه لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما جاء أنه سهل على من تقدم العمل به دون حفظه:
أشار المصنف في هذا الباب إلى مسألتين:
الأولى: أن الصحابة رضي الله عنهم تعلموا العلم والعمل معا، فلم يكونوا ليتجاوزوا القدر الذي يحفظونه حتى يعملوا به، وجاء هذا القدر في قول بعضهم عشر آيات، وأورد من أقوال الصحابة ما يؤكد هذا المعنى.
الثانية: أن من فضل الله على الصحابة رضوان الله عليهم أن يسر لهم العمل بما في كتاب الله، وإن وجد بعضهم صعوبة في حفظ بعض ألفاظه.
ولهذا الأمر حث القرطبي في نهاية هذا الباب على ضرورة اتباع الإرشادات السليمة التي تجعل الإنسان يعمل بما في الكتاب ليتعلم العلم والعمل معا، وجاء ختام هذا الباب بنظم رائق ورد في بيان أجلّ العلوم وأنفعها.
باب: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه»:
نزول القرآن على سبعة أحرف مبحث عظيم، كثر في بيان مفهومه التأويلات، واشتد الخلاف حتى أفرده بعضهم بتآليف مستقلة، بل إن ابن حبان البستي ذكر في بيان معناه خمسة وثلاثين قولا.(1/432)
وقد شغل هذا المبحث عند القرطبي ثمان صفحات من مقدمته، ذكر فيها الخلاف حول معنى الأحرف السبعة، مقتصرا على إيراد خمسة من تلك الأقوال التي ذكرها البستي، موردا دليل كل قول، ذاكرا من قال به من العلماء، ومن تبناه، ثم الرد عليهم.
ولأن كثيرا من العامة، بل حتى بعض طلبة العلم يستشكل عندهم الأمر عند ذكر المسألة، فينصرف ذهنهم إلى القراءات السبع، ولا يفرقون بينها وبين تلك القراءات المنسوبة لأئمة القراءات، لذلك أفرد المصنف فصلا خاصا مستقلا لدفع هذا الإشكال، وبيان أن القراءات السبع راجع إلى حرف واحد من الأحرف السبعة، وهو الذي جمع عليه عثمان رضي الله عنه المصحف.
كما أكد في ثنايا حديثه عدم قرآنية القراءات الشاذة، وأنها في أحسن محاملها تأويل لمن ينسب إليه القراءة.
وأفرد المصنف فصلا مستقلا للحديث عن الاختلاف في قراءة بعض الصحابة، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لكل واحد بأنها نزلت وفق قراءته، كالمشهور المروي عن عمر وهشام رضي الله عنهما أراد بذلك التأكيد على معنى هام هو ما أشار إليه ابن عطية رحمه الله حيث نبه إلى أن الله سبحانه أباح لنبيه صلى الله عليه وسلم هذه الحروف السبعة، وعارضه بها جبريل عليه السلام على الوجه الذي فيه الإعجاز، ولم تقع الإباحة في قوله: «فاقرءوا ما تيسر منه». بأن يكون كل واحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه
اللغات جعلها من تلقاء نفسه، إذ لو كان هذا لذهب إعجاز القرآن، ولكان فيه ما نزل من عند غير الله، وإنما الإباحة وقعت في الحروف السبعة ليوسع بها على أمته، فأقرأ مرة لأبيّ بما عارضه جبريل، ومرة لابن مسعود بما عارضه جبريل أيضا، وهكذا، ولو كان التبديل لكل أحد لبطل معنى قوله تعالى {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} [الحجر: 9].(1/433)
وأفرد المصنف فصلا مستقلا للحديث عن الاختلاف في قراءة بعض الصحابة، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لكل واحد بأنها نزلت وفق قراءته، كالمشهور المروي عن عمر وهشام رضي الله عنهما أراد بذلك التأكيد على معنى هام هو ما أشار إليه ابن عطية رحمه الله حيث نبه إلى أن الله سبحانه أباح لنبيه صلى الله عليه وسلم هذه الحروف السبعة، وعارضه بها جبريل عليه السلام على الوجه الذي فيه الإعجاز، ولم تقع الإباحة في قوله: «فاقرءوا ما تيسر منه». بأن يكون كل واحد من الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه
اللغات جعلها من تلقاء نفسه، إذ لو كان هذا لذهب إعجاز القرآن، ولكان فيه ما نزل من عند غير الله، وإنما الإباحة وقعت في الحروف السبعة ليوسع بها على أمته، فأقرأ مرة لأبيّ بما عارضه جبريل، ومرة لابن مسعود بما عارضه جبريل أيضا، وهكذا، ولو كان التبديل لكل أحد لبطل معنى قوله تعالى {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} [الحجر: 9].
وقد أنهى الباب بما يزيل الريب والشك الذي قد يحصل في بعض النفوس بسبب هذا الاختلاف، حيث أورد ما روي أن بعض الصحابة رضي الله عنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يجدون في أنفسهم ما يتعاظم أحدهم أن يتكلم به. فقال صلى الله عليه وسلم: «وقد وجدتموه؟» قالوا: نعم. قال «ذلك صريح الإيمان». يريد بذلك أن ما اعتراهم من الحيرة والدهشة أن منشأها نزعة من الشيطان.
باب: ذكر جمع القرآن، وسبب كتب عثمان المصاحف وإحراقه ما سواها، وذكر من حفظ القرآن من الصحابة رضي الله عنهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم:
ديدن أعداء الإسلام البحث عن منفذ ينفذون منه للطعن في دين الله، ولأنه كثر الحديث حول جمع عثمان للمصاحف، وإحراقه ما سواها، ووجود بعض الأدعية، وما ليس بقرآن في مصاحف بعضهم، فقد حسب أعداء الإسلام من الفرق الضالة، والنحل الهدامة، أن في هذا الأمر منفذا للطعن في صحة نقل القرآن، وهي مسألة تصدى لها أعلام علماء،
قبل القرطبي وبعده، وقد نال قصب السبق والريادة في هذه المسألة الباقلاني رحمه الله وأدلى القرطبي بدلوه فيها على عجالة بقدر ما يسمح به في مثل هذه المقدمة، بيانا لأهمية الأمر، وعظيم خطورته، فذكر الأدلة المؤكدة لمذهب أهل السنة والجماعة، وسلامة كتاب الله من الزيادة والنقصان {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} [الحجر: 9].(1/434)
ديدن أعداء الإسلام البحث عن منفذ ينفذون منه للطعن في دين الله، ولأنه كثر الحديث حول جمع عثمان للمصاحف، وإحراقه ما سواها، ووجود بعض الأدعية، وما ليس بقرآن في مصاحف بعضهم، فقد حسب أعداء الإسلام من الفرق الضالة، والنحل الهدامة، أن في هذا الأمر منفذا للطعن في صحة نقل القرآن، وهي مسألة تصدى لها أعلام علماء،
قبل القرطبي وبعده، وقد نال قصب السبق والريادة في هذه المسألة الباقلاني رحمه الله وأدلى القرطبي بدلوه فيها على عجالة بقدر ما يسمح به في مثل هذه المقدمة، بيانا لأهمية الأمر، وعظيم خطورته، فذكر الأدلة المؤكدة لمذهب أهل السنة والجماعة، وسلامة كتاب الله من الزيادة والنقصان {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} [الحجر: 9].
وقد استهل المؤلف هذا الباب بذكر الداعي إلى جمع القرآن وكتابته زمن الصديق أبي بكر رضي الله عنه لما استحرّ القتل بالقراء، وكيف تم تكليف زيد بن ثابت بالجمع، وما أحيط بالتكليف من إشكالات وملابسات، ثم ذكر الجمع الآخر الذي جاء على يد عثمان بن عفان رضي الله عنه بإشارة من حذيفة بن اليمان رضي الله عنه خوف الاختلاف والتنازع.
ولأنه استشكل على بعضهم تكليف زيد بالجمع وابن مسعود سابق عليه، تطرق القرطبي لهذا الإشكال، وأورد من الجمع ما يفيد أن الاختيار كان موفقا، وأن تكليف زيد لا يعني البتة الحط من قيمة ابن مسعود، الذي شهد له الجميع بالأسبقية والأفضلية، وإنما هو الحفظ، فبينما حفظ زيد القرآن كله زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ابن مسعود على الأرجح من الأقوال أنه لم يحفظه كاملا عن ظهر غيب إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
بعد هذا تحدث المصنف عن عدد المصاحف التي أمر عثمان رضي الله عنه بنسخها وإرسالها إلى الأمصار، والاختلاف الواقع في عدد تلك المصاحف، وفي كتابتها، ومصير المصاحف السابقة، ولكون عثمان رضي الله عنه قد أمر أن تحرق
بقية المصاحف، وجد القرطبي مجالا للحديث عن مسألة حرق المصحف، وما فيه لفظ الجلالة، أو آيات من القرآن الكريم، وخشية من أن يقع في النفس شيء من حرق المصحف، أورد المصنف من أقوال السلف ما ينفي أية تهمة عن عثمان رضي الله عنه الذي أمر بالحرق.(1/435)
بعد هذا تحدث المصنف عن عدد المصاحف التي أمر عثمان رضي الله عنه بنسخها وإرسالها إلى الأمصار، والاختلاف الواقع في عدد تلك المصاحف، وفي كتابتها، ومصير المصاحف السابقة، ولكون عثمان رضي الله عنه قد أمر أن تحرق
بقية المصاحف، وجد القرطبي مجالا للحديث عن مسألة حرق المصحف، وما فيه لفظ الجلالة، أو آيات من القرآن الكريم، وخشية من أن يقع في النفس شيء من حرق المصحف، أورد المصنف من أقوال السلف ما ينفي أية تهمة عن عثمان رضي الله عنه الذي أمر بالحرق.
وقد تصدى القرطبي في هذا الباب للفرق الهدامة، كالحشوية والحلولية، القائلين بقدم الحروف والأصوات، وأن القراءة والتلاوة قديمة، حيث جعل من فعل عثمان رضي الله عنه وإجماع الصحابة على سلامة عمله، ما يفند به مزاعم الطائفة الضالة، ويدحض حججهم، ويردهم بالدليل على أعقابهم خاسرين.
كما تصدى للرافضة، الذين رأوا أن في قول زيد بن ثابت عند ما كلف بجمع المصحف: حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري، لم أجدهما مع غيره. ما يفيد بأن خبر الواحد يكفي في نقل الآية والحرف، فردّ عليهم، وأورد الإجماع في ذلك، ليبطل مقصدهم في تأييد انحرافات مذهبهم في هذا الباب.
وختم الباب بذكر أسماء من جمعوا القرآن، وحفظوه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/436)
باب: ما جاء في ترتيب سور القرآن، وآياته، وشكله، ونقطه، وتحزيبه، وتعشيره، وعدد حروفه، وأجزائه، وكلماته، وآية:
قسم القرطبي هذا الباب إلى عدة فصول، خص كل موضوع بفصل مستقل، استهله بالحديث عن ترتيب السور والآيات ليقرر بعد أن أورد الأدلة توقيف ذلك الترتيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر مصاحف الصحابة واختلاف تلك المصاحف في الترتيب، وأورد من أقوال الأئمة ما يجب معها اتباع ترتيب المصحف الذي جاء هكذا من رب العزة، وأكد أنه لا التفات إلى تاريخ النزول ما دام أن الله سبحانه قد ارتضى لكتابة هذا الترتيب.
وتطرق إلى مسألة قراءة القرآن منكوسا، وهو مبحث كان موضعه آداب التلاوة لولا أن الاختلاف في ترتيب السور جعل القرطبي يذكره هنا أيضا، كما بين أن كون ترتيبه توقيفيا لا يعني أن القراءة والحفظ على الترتيب نفسه، إذ حكم التلاوة والحفظ مختلف عن حكم الترتيب.
بعدها تطرق المصنف للمكي والمدني من السور، فعرف بهما، وذكر السور المدنية بأسمائها المشهورة، ثم أعلن أن ما عداها مكي بالطبع.
وفي الفصل الثاني خص الحديث عن شكل المصحف ونقطه، وذكر أول من أمر بذلك، والخلاف فيه.(1/437)
كما خص التعشير والتحزيب بحديث مستقل، ذاكرا أول من عشّر القرآن وحزّبه، ومن أمر بذلك، ومن كرهه من الصحابة، ومن أجازه.
ثم انتقل للحديث عن حروف المصحف وأجزائه وأشار إلى أن في مصنف أبي عمرو الداني المسمى (البيان) تفصيل ما أجمله هنا.
وكان الفصل الأخير لكلمات القرآن وعدد آياته وحروفه، ذكر فيه العدد المدني الأول والأخير، وعد المكيين والكوفيين، معرفا بهم، وعد البصريين والشاميين، وأنهى الباب بذكر الخلاف في عدد الكلمات والحروف.
باب: ذكر معنى السورة، والآية، والكلمة، والحرف:
جاء هذا الباب في ثلاث صفحات، خصها جميعها لبيان معاني مدلول الكلمات الأربع: السورة، الآية، الكلمة، الحرف. فعرف بها لغة ثم اصطلاحا، وذكر ما يتعلق بها من اختلاف بين النحويين، وفي بيان معنى الكلمة ذكر أطول كلمة في كتاب الله، وأقصر كلمة، وإمكانية أن تكون الكلمة الواحدة آية مستقلة، وأنهى الباب بالحرف، والعلاقة بين الحرف والكلمة، وما يواكب هذه العلاقة من إشكالات.
باب: هل ورد في القرآن كلمة خارجة عن لغات العرب أو لا؟
أثبت المصنف رحمه الله أن الأئمة متفقون على أنه ليس في القرآن كلام مركب على أساليب غير العربية، وأنهم متفقون على أن في القرآن
أسماء أعلام لمن لسانه غير لسان العرب.(1/438)
أثبت المصنف رحمه الله أن الأئمة متفقون على أنه ليس في القرآن كلام مركب على أساليب غير العربية، وأنهم متفقون على أن في القرآن
أسماء أعلام لمن لسانه غير لسان العرب.
ثم تعرض بعد هذا إلى ما يمكن أن يكون موضوع الخلاف، وهو هل وقع في القرآن الكريم ألفاظ من غير كلام العرب غير الأعلام فذكر أن الخلاف أنشأ فريقين:
الأول وفيهم القاضي أبو بكر الباقلاني، والإمام ابن جرير الطبري، قالوا: إن القرآن عربي صريح، ليس فيه ما هو غير عربي، وما وجد من ألفاظ يشبه أنها غير عربية فإنما هي مما تواردت عليه اللغات.
والفريق الثاني رأوا في القرآن ألفاظ غير عربية، وهي قليلة بحيث لا تخرج القرآن عن كونه عربيا مبينا، وتعليل وجودها مخالطة العرب لغيرهم من الأقوام، حتى أصبحت تلك الألفاظ عربية بالاستعمال، وذكر المصنف شيئا من تلك الألفاظ مع أدلة القائلين به، وردهم على المانعين.
باب: ذكر نكت من إعجاز القرآن، وشرائط المعجزة وحقيقتها:
إعجاز القرآن موضوع في غاية من الأهمية، وهو من الأدلة على صدق ما دعى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا حين وقف عليه العقلاء من القوم الذين أرسل فيهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يجدوا بدا من الإيمان به، ودخلوا في دين الله أفواجا.
وقد خص القرطبي هذا الموضوع بحديث مستقل، فذكر المعجزة،
وعرفها، وبين شروطها التي إذا اختل واحدة منها لم تكن معجزة، كما بين أهمية هذه الشروط، ضاربا لذلك الأمثلة، من المعقول، والأدلة من المنقول.(1/439)
وقد خص القرطبي هذا الموضوع بحديث مستقل، فذكر المعجزة،
وعرفها، وبين شروطها التي إذا اختل واحدة منها لم تكن معجزة، كما بين أهمية هذه الشروط، ضاربا لذلك الأمثلة، من المعقول، والأدلة من المنقول.
ولكون خوارق العادات تشترك والمعجزة في بعض الوجوه، ولأنها ستظهر على يد المسيح الدجال، وهو أمر ثابت جاء في المروي عن الصادق المصدوق، لذا نبه المصنف إلى ذلك، وأزال ما قد يلتبس على البعض من أمر هذا المسيح الذي يدعي الربوبية، في حين أن أصحاب المعجزات، وهم الأنبياء عليهم السلام يدّعون الرسالة والنبوة، وهو فرق لا يغفل عنه عاقل.
بعد هذا بيّن المصنف أنواع المعجزات، وصنفها ضربين، ما اشتهر نقله وانقرض عصره بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وما تواترت الأخبار بصحته وحصوله، وتناقله جمع عن جمع يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب، وهي المعجزة الباقية إلى قيام الساعة لنبينا صلى الله عليه وسلم، في الوقت الذي انقرضت معجزة كل نبي بانقراضه، وأدخلها التبديل والتغيير، كالتوراة والإنجيل.
وذكر المصنف أن العلماء قد ذكروا وجوها لإعجاز القرآن وقع بها التحدي للمشركين، فكان إفحاما لهم، عجزوا، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة، أن يأتوا بشيء من مثله.
وقد اختار المصنف عشرة من وجوه الإعجاز، مما استحسنها العلماء، فكان ناقلا أمينا لها، وأضاف إليها ما جادت به قريحته مما فتح الله به عليه، ثم تصدى لما قالته بعض الفرق الضالة، ونطقت به الألسن المضللة، في إعجاز القرآن، ففند بحمد الله آراءهم بالدليل والحجة، ورد على النظّام
الذي تولى كبر القول بالصرفة، وعلى أتباعه من القدرية، وأثناء الرد ذكر المصنف نتفا من فصاحة القرآن، وبلاغته الذي به كان معجزا.(1/440)
وقد اختار المصنف عشرة من وجوه الإعجاز، مما استحسنها العلماء، فكان ناقلا أمينا لها، وأضاف إليها ما جادت به قريحته مما فتح الله به عليه، ثم تصدى لما قالته بعض الفرق الضالة، ونطقت به الألسن المضللة، في إعجاز القرآن، ففند بحمد الله آراءهم بالدليل والحجة، ورد على النظّام
الذي تولى كبر القول بالصرفة، وعلى أتباعه من القدرية، وأثناء الرد ذكر المصنف نتفا من فصاحة القرآن، وبلاغته الذي به كان معجزا.
وأنهى الباب بعد أن أثبت أن بلاغة الكتاب في أعلى طبقات الإحسان، وأرفع درجات الإيجاز والبيان، بل إنه متجاوز للإحسان والإجادة إلى حيز الإرباء والزيادة. ومعجزة كل رسول هي من جنس أبرع ما اشتهر به عصره، وكان العرب أصحاب فصاحة وبيان، فكان الإعجاز في البلاغة والبيان.
باب: التنبيه على أحاديث وضعت في فضل سور القرآن وغيره:
حذر رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، من الكذب عليه فقال:
«اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم، فمن كذب عليّ متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار» الحديث، ولذا بين القرطبي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنه سيكذب عليه، لهذا خوف أمته وحذرهم من ذلك.
فأشار في هذا الباب إلى أن أغراض الواضعين على رسول الله صلى الله عليه وسلم متفاوتة، وأهدافهم متباينة، وهم أصناف أربعة:
صنف أراد بعمله إيقاع الريب في قلوب المؤمنين، وتشكيك الناس بأمر دينهم، وهؤلاء هم قوم فسدت قلوبهم، وهم الزنادقة ومن شايعهم.
وصنف وضعوا ذلك لهوى يدعون الناس إليه، كما فعلت الخوارج.(1/441)
وصنف ثالث حسنت نواياهم وساء فعلهم حسبوا أنهم يحسنون صنعا، كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبة وتقربا إلى الله بزعمهم، كما فعل أبي عصمة وغيره، حين وضعوا لكل سورة فضيلة.
وصنف رابع أرادوا أن يسترزقوا، فوضعوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث اختلقوا ألفاظها، ووضعوا لها أسانيد صحيحة حفظوها، يقفون في الأسواق والمساجد يتقوّلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر المصنف لكل نوع أمثلة، وأنهى الباب بالتنبيه إلى الاعتصام بالسنة وبما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه الغنية عن غيره.
باب: ما جاء من الحجة في الرد على من طعن في القرآن، وخالف مصحف عثمان بالزيادة والنقصان:
أجمع أهل السنة والجماعة على أن من ادعى أن في القرآن زيادة أو نقصان كان كافرا رادا لكتاب الله ولما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولأهمية هذا الباب وقف المصنف في وجه الزائغين عن الملة، الممهدين الطريق لأهل الكفر والإلحاد، ليدخلوا في القرآن ما يحلون به عرا الإسلام، ولهذا الأمر جاء هذا الباب وهو الأخير في الترتيب مستفيضا يزيد من همة القارئ لدراسة التفسير، ويجدد نشاطه بعد تلك الجولة في فنون علوم القرآن التي زينت بها المقدمة وهو مطمئن مسلح بكل ما يرد كيد الكائدين، من الأدلة والحجج والبراهين.(1/442)
وكل ما أراد المصنف إيراده هنا جاء في ست صفحات، وقف فيها بقوة وصلابة في وجه العصبة الهالكة، القائلة بوقوع الزيادة والنقصان في كتاب الله، تريد به إبطال الشريعة. نقل في هذه الصفحات إجماع الأمة، من أهل السنة والجماعة على كفر من ادعى الزيادة والنقصان في كتاب الله، فمدعي ذلك مبطل لما أجمعت عليه الأمة من أن كتاب الله محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة، مكتوب في المصاحف، معلومة على الاضطرار سوره وآياته، مبرأة من الزيادة والنقصان حروفه وكلماته.
ومدعي ذلك مبطل لآية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمقدور عليه ليس بآية.
ومدعي ذلك راد لقوله تعالى {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى ََ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لََا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كََانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88]
والمصنف يشير بما ذكره، وبما نقله عن ابن الأنباري، إلى طائفة الرافضة من الشيعة وممن شايعهم من الطاعنين في كتاب الله.
غير أن الله جلّت قدرته، قد قيّض لكتابه جماعة من أهل الفضل والعقل في كل زمان ومكان، ينفون عن كتابه قول المبطلين وتحريف الزائغين، حارسين الشريعة من مكايد أهل العداوة والكفر.
كما تعرض المصنف لما ادعاه الزائغون من وجود سقط في بعض المواضع من مصحف عثمان، وزيادة في مواضع أخرى وضعت على علم
من عثمان والصحابة، وليست من القرآن، وأن المصحف الذي بين أيدينا مشتمل على حروف مفسدة مغيرة نتيجة التصحيف، وادعى الأفاكون أن عثمان رضي الله عنه قد أخطأ حين أسند أمر الجمع إلى زيد بن ثابت، وعلى ذلك أباحوا لأنفسهم مخالفة مصحف عثمان.(1/443)
كما تعرض المصنف لما ادعاه الزائغون من وجود سقط في بعض المواضع من مصحف عثمان، وزيادة في مواضع أخرى وضعت على علم
من عثمان والصحابة، وليست من القرآن، وأن المصحف الذي بين أيدينا مشتمل على حروف مفسدة مغيرة نتيجة التصحيف، وادعى الأفاكون أن عثمان رضي الله عنه قد أخطأ حين أسند أمر الجمع إلى زيد بن ثابت، وعلى ذلك أباحوا لأنفسهم مخالفة مصحف عثمان.
كل هذه المزاعم أورد المصنف لها أمثلة، وأحال القارئ إلى مواطن الرد التي فند فيها مثل هذه المزاعم، توخيا للاختصار، ومنعا للتكرار، غير أنه سرد ردود أبي بكر الأنباري وهو فارس في هذا الميدان على هذه المزاعم، وإبطاله لها بالحجة والدليل.
بقي ما يرد على لسان ثلة من السلف رضي الله عنهم مما يشبه الزيادة، فذكرها المصنف أجزل الله له المثوبة وبين أنه لم ينقل عن أحد من أهل العلم أن الصلاة بها جائزة، ولا أن جاحدها يكون كافرا، بخلاف مصحف عثمان، فإن منكر بعضه مرتد يستتاب، وإلا ضربت عنقه.
يريد المصنف بهذا أن يقول إن ما ورد على لسان السلف مما كان من هذا القبيل هو تفسير وبيان، وهو ما يسمى عند أهل العلم بالقراءة التفسيرية، أو أنه مما نسخ لفظه وحكمه، أو لفظه دون حكمه.
وختم الباب بالتنبيه إلى أن الله تعالى قد تكفل بحفظ كتابه {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} [الحجر: 9] وفي هذا الحفظ دليل على كفر مدعي النقص أو الزيادة، كما أورد في النهاية جملة من الآيات القرآنية التي زاد فيها الأفاكون، وتقوّلوا فيها على الله عز وجل وجل، فرد زعمهم،
وفند ادعاءهم، وحكم بكفرهم.(1/444)
وختم الباب بالتنبيه إلى أن الله تعالى قد تكفل بحفظ كتابه {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} [الحجر: 9] وفي هذا الحفظ دليل على كفر مدعي النقص أو الزيادة، كما أورد في النهاية جملة من الآيات القرآنية التي زاد فيها الأفاكون، وتقوّلوا فيها على الله عز وجل وجل، فرد زعمهم،
وفند ادعاءهم، وحكم بكفرهم.
رابعا: منهج القرطبي في مقدمته:
قبل أن يستعرض لنا القرطبي العلوم التي رأى أنه يحسن لطالب العلم الإحاطة بها، قدم توطئة بين فيها ما يريد التنبيه إليه كعادة المفسرين، وكان مما بينه في هذه التوطئة شرطه في الكتاب ولكون مقدمته جزءا من كتابه فإن ما ذكره ينطبق عليها وإن كانت بصلب الكتاب ألصق.
فمن شرطه إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، وهو منهج التزمه المصنف في أغلب مقدمته، وجاء هذا الالتزام مطردا إلا ما ندر، فالمصنف يرى أن من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله.
وللقرطبي في إضافة الأقوال إلى قائليها طريقتان:
الأولى: التصريح باسم القائل، مع المصدر الذي استقى منه المعلومة، وهو كثير، ومن أمثلة ذلك: في باب ما يلزم قارئ القرآن وحامله من تعظيم القرآن وحرمته، قال: قال الحكيم الترمذي أبو عبد الله في نوادر الأصول:
فمن حرمة القرآن ألا يمسه إلا طاهر الخ (1) ونقل عنه ما يربو على ثلاث صفحات.
ومثال ذلك أيضا: ما نقله عن أبي بكر الأنباري في ثنايا حديثه عن
__________
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 27.(1/445)
جمع المصحف، قال: وقد ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد (1)، يريد بذلك كتاب الرد على من خالف مصحف عثمان.
الثانية: أن يشير إلى القائل، ويصرح باسمه أو كنيته أو لقبه، دون أن يذكر المصدر، وغالبا ما يسلك هذا النهج مع أصحاب المصنفات المشهورين بمصنفاتهم كالبخاري وابن عطية وغيرهما، إذ المتبادر عند ذكر البخاري هو صحيحه، وعند ذكر ابن عطية هو تفسيره. ومن أمثلة ذلك ما نقله في باب:
ما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرأي: قال: قال ابن عطية: ومعنى الحديث في مغيبات القرآن وتفسير مجمله، ونحو هذا مما لا سبيل إليه إلا بتوفيق من الله تعالى (2)
والمصنف يريد بعمله هذا أن يضع بين يدي القارئ مصدر المعلومة لمن أراد التوسع أو التأكد، كما أنه يرفع بذلك من القيمة العلمية للمعلومة، لكون مصادره في مجملها من أمهات الكتب المعتمدة.
ونادرا ما يعدل المصنف عن هذا النهج، فلا يصرح باسم القائل
__________
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 58، وينظر المزيد من الأمثلة في الصفحات:
1/ 5، 39، 58، 59.
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 31، وينظر المزيد من الأمثلة في الصفحات:
1/ 8، 59، 73.(1/446)
مكتفيا بقوله: قال علماؤنا، أو: قال بعض العلماء. (1)
وكما أضاف الأقوال إلى قائليها، عزا الأحاديث والآثار إلى مخرجيها ومصنفاتها، ويستطيع المرء أن يلخص منهج القرطبي في الاستشهاد بالأحاديث والآثار في النقاط التالية:
1) أن غالب ما أورده، واستشهد به عزاه لمن خرجه أو ذكره، وما تركه دون عز وقليل نادر. (2)
2) قد يستقصي من خرج الرواية، ويورد السند. (3)
3) ينقل حكم الأئمة على الروايات في أحايين كثيرة، وما كان منها في الصحيحين اكتفى بالعز ودليلا على صحتها. (4)
4) إذا ورد في سند إحدى الروايات من هو محل نظر، بين القول فيه مع ذكر أقوال الأئمة لبيان حاله. (5)
5) إذا ورد في الروايات لفظة غامضة، بينها، ووضح معناها، والمراد
__________
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 55وينظر المزيد من الأمثلة في الصفحات:
1/ 17، 26، 33، 46.
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 5، 7، 9، 11، 18.
(3) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 8، 23، 83.
(4) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 10، 32، 58.
(5) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 7، 36.(1/447)
منها. (1)
6) الروايات التي قد يختلف في توجيه المراد منها يوجهها، أو ينقل توجيه العلماء لها. (2)
هذا وقد يكتفي المصنف في العز وبالبناء للمجهول، فيورد الأثر بلفظ: روي. ومثل هذا قليل نادر (3).
وبين المصنف سبب تبنيه لمنهجه في العز وفيقول: كثيرا ما يجيء الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهما لا يعرف من أخرجه إلا من اطّلع على كتب الحديث، فيبقى من لا خبرة له بذلك حائرا، لا يعرف الصحيح من السقيم، ومعرفة ذلك علم جسيم، فلا يقبل من الاحتجاج به، ولا الاستدلال حتى يضيفه إلى من خرجه من الأئمة الأعلام، والثقات المشاهير من علماء الإسلام. (4) فكأن الإمام القرطبي رحمه الله أراد بمنهجه هذا تكملة النقص في بعض المؤلفات التي تهمل عز والأحاديث، وإعانة للقارئ مقدرا حاجته إلى معرفة صحة الأثر من ضعفه.
__________
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 13، 17، 28، 49.
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 12، 16، 78وللمزيد من الأمثلة على ما سبق ينظر:
1/ 50424023111053.
(3) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 10.
(4) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 3.(1/448)
والمصنف رحمه الله لا يقتصر في الاستشهاد على ما يورده أو يتبناه من الآراء على الأحاديث والآثار، بل يذكر من أقوال العلماء المعتبرين في الفنون التي يتعرض لها ما يؤيد به الرأي الذي ارتضاه، أو عرضه، ويضرب لذلك من الأمثلة ما يوضح به المقال، كما أنه لا يغفل عن الاحتكام إلى اللغة والاستشهاد بالشعر، إذا دعى الأمر لذلك. (1)
ولكون كثير مما تعرض له المصنف في مقدمته مسائل خلافية تباينت آراء العلماء فيها فقد اتخذ منهجا واضحا في مناقشة مثل هذه المسائل، يتمثل في الآتي:
1) ذكر المسألة المختلف فيها.
2) تعيين أصحاب الخلاف في الغالب، وبيان وجهة كل فريق مع إيراد أدلتهم ومناقشاتهم.
3) الترجيح بين الأقوال، والرد على المخالفين، وذكر الأدلة المرجحة.
وأشير هنا إلى أن القرطبي غالبا ما يكون موفقا في اختياراته. (2)
هذا وإذا رأى المصنف أن في الذي رجحه وتبناه من الرأي، إشكالا
__________
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 54و 56.
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 331513.(1/449)
قد يفسد على القارئ مسوغات الترجيح، أسرع بذكر الإشكال وبالتالي رده وتفنيده (1).
ومن المحمود في منهج القرطبي رحمه الله إحالة القارئ إلى مزيد بيان، ومزيد من الأدلة في ثنايا التفسير، وذلك خشية الإطالة، خاصة إذا كانت المسألة التي تطرق لها متشعبة تحتاج إلى أكثر من وقفة، وقد تكون الإحالة إلى غير التفسير مما هو من مظان المسألة (2).
ومن منهج المصنف أيضا أنه إذا استدل بنص من أقوال أحد العلماء، ورأى أنه لم يذكر من الأدلة ما يطمئن به القارئ، أو أنه لم يجمع أطراف المسألة، فترك ما يراه المصنف أن من الأهمية ذكره، تولى هو ذلك، فذكر من الأدلة المزيد، ومن الرأي والقول ما يجمع به أطراف المسألة. (3)
وأخيرا فإن القرطبي لا يترك المسائل التي يتطرق لها حتى يشبعها درسا وتمحيصا وتحليلا على ما يناسب المقدمة.
خامسا: بيان مدى التزام المصنف في تفسيره بما ذكره في مقدمته:
__________
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 69وينظر المزيد من الأمثلة في الصفحات: 1/ 51، 53، 56، 81.
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 6453.
(3) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 30وينظر المزيد من الأمثلة في الصفحات: 1/ 30، 31، 48، 57.(1/450)
في التقديم الذي قدمه القرطبي بين يدي تفسيره اشترط لكتابه عدة أمور:
فاشترط أولا أن يضمّن كتابه نكتا من التفسير والنكات والإعراب والقراءات، وأن يرد في مواطن الرد على أهل الزيغ والضلالات، وأن يذكر الأحاديث والآثار الشاهدة على اختياراته في الأحكام ونزول الآيات، موضحا ما أشكل منها بأقاويل السلف واختيارات الخلف.
وهي شروط التزمها المصنف بحق، فالقارئ في التفسير يقف على شواهد عديدة لكل جزئية من الجزئيات السابقة، فهو يذكر الإعراب والقراءات (1)، ويرد على الزيغ والضلالات كما أسماهم (2)، ويذكر الأحاديث والآثار ويستشهد بها على المسائل (3)، كما يذكر الأحكام المستنبطة من الآية أو الآيات، ويورد أقوال الأئمة في ذلك مبينا رأيه في أحايين كثيرة. (4)
ومن شرطه إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، وهو
__________
(1) انظر: أمثلة ذلك: 1/ 2300211/ 3377/ 327.
(2) انظر: أمثلة ذلك: 1/ 4378193/ 7347.
(3) انظر: أمثلة ذلك: 2/ 394189.
(4) انظر: أمثلة ذلك: 1/ 2307228198/ 354333212.(1/451)
شرط التزمه المصنف إلى حد كبير في تفسيره. (1)
كما تعهد المصنف بأن يضرب عن كثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين، ويقصد به القصص الإسرائيلي، إلا ما لا بد منه، ولا غنى عنه، وهو شرط التزمه المصنف، فإذا ذكر القصة تعقبها ووقف من بعضها موقف الناقد يبيّن ما عليها (2)، وقد يذكرها دون الوقوف عليها، بل يمررها كما جاءت، وغالب ما هو من هذا الباب إنما هي تلك التي لا دليل على ردها ولا على قبولها (3)، وقد يفوته فيذكر بعض القصص التي بطلانها ظاهر دون أن يرد عليها، وما هو من هذا القبيل قليل، والله أعلم (4).
سادسا: مصادر المؤلف في مقدمته:
تعد المصادر التي يعتمدها المصنف في التأليف من الدلائل الهامة على مكانة ما صنفه، قبولا وردا، ضعفا وقوة، فالذي يعتمد في التصنيف على أمهات الكتب، لمن عرف بعلوّ القدر وسموّ المكانة بين أهل العلم، يكون تصنيفه في الغالب مفيدا، خاصة إذا كان المصنف من أهل العلم.
والقارئ في مقدمة القرطبي يلاحظ بوضوح كثرة دوران أسماء
__________
(1) انظر: أمثلة ذلك: 1/ 2425377249/ 266151.
(2) انظر: أمثلة ذلك: 6/ 7132/ 338.
(3) انظر: أمثلة ذلك: 2/ 9120/ 1168/ 200.
(4) انظر: أمثلة ذلك: 9/ 1516931/ 166.(1/452)
الأعلام من العلماء، والمشهور من المصنفات، يورد المصنف أقوالهم، ويستشهد بأدلتهم، ويستأنس بآرائهم، ويعتمد الكثير منها.
وقد كثرت مصادر المقدمة حتى جاوزت الخمسين مصدرا، في فنون العلم والمعرفة، من التفاسير والمؤلفات في علوم القرآن، ومصنفات الحديث، وكتب اللغة وغيرها.
فمن كتب التفسير وعلوم القرآن التي أكثر النقل عنها:
1) المحرر الوجيز في تفسير كتاب الله العزيز، لأبي محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي (1).
2) جامع البيان عن تأويل القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (2).
3) الرد على من خالف مصحف عثمان، لأبي بكر بن الأنباري (3).
كما نقل عن القاضي أبي بكر الباقلاني (4)، وأبي عبيد القاسم بن سلام (5)، وأبي عمرو الداني. (6)
__________
(1) انظر: أمثلة ذلك: 1/ 76685444373224.
(2) انظر أمثلة ذلك: 1/ 685142211511.
(3) انظر أمثلة ذلك: 1/ 816158534035322385.
(4) انظر أمثلة ذلك: 1/ 84746857454311.
(5) انظر أمثلة ذلك: 1/ 84435.
(6) انظر أمثلة ذلك: 1/ 676439.(1/453)
ومن مصادره التي اعتمدها في الحديث والآثار وشروحها:
الكتب الستة، صحيح الإمام البخاري (1) وصحيح الإمام مسلم (2)، سنن الإمام الترمذي (3)، وسنن الإمام النسائي (4)، وسنن الإمام ابن ماجة (5)، وسنن الإمام أبي داود (6).
ومن المسانيد: مسند الدارمي (7)، ومسند أبي داود الطيالسي (8).
__________
(1) انظر أمثلة ذلك: 1/ 5654483913106.
(2) انظر أمثلة ذلك: 1/ 584948412920117.
(3) انظر أمثلة ذلك: 1/ 54181084.
(4) انظر أمثلة ذلك: 1/ 118.
(5) انظر أمثلة ذلك: 1/ 8.
(6) انظر أمثلة ذلك: 1/ 43321811.
وأبو داود هو: سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو، اختلف في اسم جده، إمام حافظ مقدم، لقب بشيخ السنة، ومحدث البصرة، قال الحاكم: أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة، له السنن، توفي (275هـ). انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 9/ 55 وسير أعلام النبلاء للذهبي: 13/ 203.
(7) انظر أمثلة ذلك: 1/ 87. والدارمي هو عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمي، إمام حافظ ثبت متقن، له المسند، توفي (255هـ) انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 10/ 29 وسير أعلام النبلاء للذهبي: 12/ 224.
(8) انظر أمثلة ذلك: 1/ 799.(1/454)
وقد كان جلّ اعتماده في الشروح على التمهيد لابن عبد البر (1).
وفي اللغة معجم الصحاح للجوهري (2).
ومن مصادره أيضا نوادر الأصول للحكيم الترمذي (3)، والمصاحف لابن أبي داود (4)، والجامع لابن وهبة (5). وغير ذلك.
ومن مصادر المصنف التي لم يصرح فيها باسم المصدر، مكتفيا باسم المصنف: أبو الحسن البطال (6)، وابن حبان البستي (7)،
__________
(1) انظر أمثلة ذلك: 1/ 78564337185.
(2) انظر مثال ذلك: 1/ 12.
والجوهري هو: إسماعيل بن حمّاد التركي الجوهري، إمام يضرب به المثل في ضبط اللغة، وفي حسن الخط، له الصحاح، توفي (393هـ) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي:
17/ 80وشذرات الذهب لابن عماد: 3/ 142.
(3) انظر أمثلة ذلك: 1/ 2717.
(4) انظر مثال ذلك: 1/ 45.
وابن أبي داود هو عبد الله بن أبي داود بن سليمان الأشعث، أبو بكر السجستاني، شيخ بغداد، تكلم فيه أبوه، له المصاحف، توفي (316هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 13/ 221وشذرات الذهب لابن عماد: 2/ 273.
(5) انظر مثال ذلك: 1/ 59.
(6) انظر أمثلة ذلك: 61541511.
(7) انظر أمثلة ذلك: 1/ 4213.
وابن حبان هو محمد بن حبان بن أحمد البستي، ثقة نبيل من حفاظ الآثار وفقهاء الدين له الثقات، توفي (354هـ) انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي: 3/ 920والوافي بالوفيات(1/455)
والخطابي (1)، وأبو بكر الخطيب البغدادي (2) والأوزاعي (3)، وسعيد بن منصور (4)، وعبد الرزاق صاحب التفسير (5) وابن الصلاح (6) وغيرهم.
سابعا: أهم مزايا مقدمة القرطبي:
1 - إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث والآثار إلى مصنفاتها.
__________
للصفدي: 2/ 317.
(1) انظر أمثلة ذلك: 1/ 59433811.
والخطابي هو حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي، حافظ لغوي صاحب تصانيف، وله معالم السنن، توفي (388هـ). انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان:
2/ 214وسير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 23.
(2) انظر مثال ذلك: 1/ 36.
(3) انظر مثال ذلك: 1/ 39.
والأوزاعي هو: عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي، إمام في الحديث، ثقة مأمون فاضل، توفي (157هـ) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 7/ 107وتهذيب التهذيب لابن حجر: 6/ 138.
(4) انظر مثال ذلك: 1/ 39.
وسعيد بن منصور بن شعبة الخراساني المروزي، ثقة صاحب سنن، توفي (229هـ).
انظر: التاريخ الكبير للبخاري: 3/ 516وتهذيب التهذيب لابن حجر: 4/ 89.
(5) انظر مثال ذلك: 1/ 39.
(6) انظر أمثلة ذلك: 1/ 7973.(1/456)
2 - الاستقصاء والشمولية عند بحث المسائل.
3 - سلامة المنهج، مع حسن عرض الموضوعات.
4 - عرض الآراء بعبارة سهلة، والتعقيب عليها ومناقشتها.
5 - تنوع المصادر مع أهميتها.
6 - محاولة المصنف ربط بعض مسائل علوم القرآن بالواقع.
أظهر المآخذ:
1 - إغفال بعض الموضوعات كقواعد الترجيح.
2 - ذكر بعض المسائل دون أدلتها.
3 - تعرضه لمسائل فرعية ليست ذات أهمية كبرى بحيث تذكر في المقدمة مثل الفصل الذي خصه في الرد على الحلولية والحشوية.
4 - التوسع في ذكر بعض الموضوعات، مثل الأبواب التي خصها لفضائل القرآن.
هذا ما عرفته عن مقدمة القرطبي، وأستغفر الله من الخطأ والزلل في القول.(1/457)
10 - تسهيل السبيل لعلوم التنزيل لمحمد بن أحمد بن محمد بن جزيّ الكلبي ت (741هـ)
أولا: التعريف بالمؤلف:
مؤلف هذا التفسير هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزي الكلبي، المكنى بأبي القاسم، والمشتهر بابن جزي بالتصغير.
ولد المصنف يوم الخميس تاسع ربيع الثاني عام ثلاثة وتسعين وستمائة للهجرة المباركة (693هـ)، في غرناطة مأوى العلماء وملاذهم بعد سقوط قرطبة وغيرها من عواصم العلم في الأندلس (1).
وينحدر المصنف من أسرة عربية أصيلة، فهو من قبيلة كلب اليمانية (2)، وينتمي لأسرة علم كابرا عن كابر، وبيته من البيوتات المشهورة بالمغرب والأندلس، المعروفة بالعلم والنباهة والأصالة (3)، تربى في حجر والده العالم، الذي كان محمودا من أهل العلم، وتلقى عنه أبجديات العلوم حتى قوي عوده، فقرأ على بعض مشايخ غرناطة، كابن الزبير وابن الكماد
__________
(1) انظر نفح الطيب للمقري: 8/ 30.
(2) نسبة إلى كلب بن وبرة بن تغلب بن قضاعة.
(3) انظر: الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب: 3/ 20ونفح الطيب للمقري: 1/ 142.(1/458)
وغيرهما ممن عرفوا بالنباهة والصبر على التدريس والملازمة، وانتقل من شيخ إلى شيخ، حتى حاز قصب السبق في فنون عديدة، وتصدر لمهمات كثيرة.
مكانته العلمية:
ظهر نبوغ ابن جزي منذ اليفاعة، حين تقدم خطيبا بالمسجد الأعظم من بلده وهو في حداثة سنه، وتدرج منذ ذلك الحين مرقاة أهل العلم، واشتهر كواحد من أفاضل العلماء المعدودين، ولهذا حين ذكره الداودي قال عنه: كان يرحمه الله على طريقة مثلى، من العكوف على العلم والاشتغال بالنظر والتقييد والتدوين، فقيها حافظا قائما على التدريس، مشاركا في فنون، من عربية، وأصول، وقراءات، وحديث، وأدب، حفظة للتفسير، مستوعبا للأقوال، جمّاعة للكتب، ملوكي الخزانة، حسن المجلس، ممتع المحاضرة، صحيح الباطن، تقدم خطيبا بالمسجد الأعظم من بلده على حداثة سنه، فاتفق على فضله، وجرى على سنن أصله. (1)
ولمكانته أسند إليه يرحمه الله أمور ومهمات عديدة فاشتغل بالتدريس ردحا من الزمن وتخرج به أناس كثيرون، يقول في مقدمته: وإن الله أنعم عليّ بأن شغلني بخدمة القرآن وتعلمه وتعليمه، وشغفني بتفهم معانيه،
__________
(1) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 85.(1/459)
وتحصيل علومه (1)
كما أسند إليه مهمة الخطابة والإمامة منذ وقت مبكر، وكان من أهل الفتيا بغرناطة (2)، هذا فضلا عن اهتمامه البالغ بالتصنيف والتأليف.
والناظر في المصادر التي درست الأندلس وتعرضت للفترة التي عاشها ابن جزي يجد الاهتمام البالغ بشخصية ابن جزي حيث أظهرته تلك المصادر في غاية التقدير عالما مربيا يعتز به، ومجاهدا باسلا يعتمد عليه.
شيوخه وتلامذته:
تهيأ لابن جزي أمران جعلا منه طالب علم جادّ، يكثر التلقي ويتابع الشيوخ:
أما الأول فلكون أبيه من أهل العلم، فهو إذا يعرف قدر العلماء ومكانتهم.
وأما الثاني: فلكونه كان يملك أرضا زراعية تدرّ عليه غلة وافرة، تكفيه مؤنة العيش، وتعينه على التفرغ التام لطلب العلم حتى سن متقدمة.
هذا إضافة إلى نباهته، وما أودعه الله في نفسه من الشغوف بالعلم والتحصيل.
__________
(1) انظر المقدمة: 1/ 4.
(2) انظر: نثير الجمان للداية: 165.(1/460)
وقد كثر شيوخ ابن جزي حتى صنّف فهرسا بأسمائهم، وأذكر منهم:
أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي (1).
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن الكماد. (2) وغيرهم كثير.
والملاحظ في شيوخ ابن جزي أنهم كانوا من ذوي الهمم العالية، ومن المؤثرين في الحياة العامة، وظهر تأثر ابن جزي بهم واضحا من خلال مشاركاته العديدة في الجهاد والانخراط في صفوف المقاتلين.
أما تلامذة ابن جزي فقد تخرج به أناس علماء، وخلق كثير، منهم:
محمد بن عبد الله السلماني المعروف بابن الخطيب (3).
__________
(1) هو أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي الغرناطي، صدر العلماء المقرئين في عصره، عرف عنه الصبر في الطلب، والصلابة في الحق، له البرهان في ترتيب سور القرآن، توفي (708هـ). انظر: الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب: 1/ 188، والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر: 1/ 89، والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني: 1/ 33.
(2) هو محمد بن أحمد بن داود بن موسى اللخمي المعروف بابن الكماد، فقيه مقرئ محدث، عرف عنه الزهد والتقشف، له الممتع في تهذيب المقنع، في القراءات، توفي (712هـ).
انظر: الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب: 3/ 60، وغاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري: 2/ 63، والديباج المذهب لابن فرحون: 2/ 279.
(3) هو لسان الدين محمد بن عبد الله السلماني المعروف بابن الخطيب، كاتب شاعر أديب، ذو الوزارتين، قتل خنقا في (776هـ) انظر: مقدمة الإحاطة في أخبار غرناطة لابن(1/461)
وأبو الحسن علي بن عبد الله الجذامي الشهير بالنباهي (1) وغيرهم.
مؤلفاته:
دوّن ابن جزيّ الكثير وصنّف، وفرط المسامع وشنّف، كما يقول لسان الدين الخطيب: ولم يزل يسلك طريق المجتهدين، فدون في الفقه دواوين، وسفر في علم اللسان عن وجه الإحسان، ورحل في علم التفسير إلى كل طية، وأركض في أغراضه كل مطية، حتى أنشأ الزمخشري وابن عطية، وله من الأدب حفظ وافر، ومذهب عن الحسن سافر (2).
كما كان له رحمه الله اهتمام وإلمام جيدين بالشعر، تمثل ذلك في الرقاق والمدائح النبوية، وقد احتفظ لسان الدين الخطيب بجملة طيبة منها (3).
__________
الخطيب: 1/ 713، والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر: 3/ 469ط 1، والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني: 2/ 91.
(1) هو علي بن عبد الله بن الحسن الجذامي، الشهير بالنباهي، عالم من أسرة علم، كان بينه وبين ابن الخطيب ودّ، تحول إلى عداوة حتى أصبح من المحرضين على ابن الخطيب، له تاريخ قضاة الأندلس، توفي بعد (792هـ)
انظر: نثير الجمان لابن الأحمر: 170وأزهار الرياض في أخبار عياض للمقري: 2/ 5.
(2) انظر: أوصاف الناس في التاريخ والصلات لابن الخطيب: 27.
(3) انظر: الكتيبة الكامنة لابن الخطيب: 46.(1/462)
ومع ما أسداه العلماء من الثناء على المصنف إلا أن مصنفاته لم تنل الشهرة المطلوبة، ولا وجدت من طلبة العلم الإقبال المرتقب، عدا تفسيره الذي كان له في المغرب شأوا خاصا ثم حين طبع وتيسر أمره اقتناه المشارقة واعتمد أهل العلم آراءه.
ومن مؤلفات المصنف:
1) التسهيل لعلوم التنزيل، وهو تفسيره المطبوع وهو موضوع البحث.
2) المختصر البارع في قراءة نافع.
3) أصول القراءة الستة غير نافع.
4) وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم.
5) الدعوات والأذكار المخرجة من صحيح الأخبار.
6) القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية.
7) فهرس ابن جزي.
8) الأنوار السّنية في الكلمات السّنية.
9) التنبيه على مذهب الشافعية والحنفية.(1/463)
10) تقريب الوصول إلى علم الأصول (1).
وفاته:
طالما تمنى ابن جزي الشهادة في سبيل الله والموت في ساحات الوغى، يقول الفقيه المحدث ابن الوزير أبو بكر بن ذي الوزارتين ابن الحكيم:
أنشدني ابن جزي يوم الوقيعة من آخر شعره قوله:
قصدي المؤمّل في جهري وإسراري ... ومطلبي من إلهي الواحد الباري
شهادة في سبيل الله خالصة ... تمحو ذنوبي وتنجيني من النار
إن المعاصي رجس لا يطهرها ... إلا الصوارم في أيمان كفار
ثم قال: في هذا اليوم أرجو أن يعطيني الله ما سألته في هذه الأبيات.
وأعطاه الله مسألته واستجاب دعوته كذا أمر الله مع الصادقين، واستشهد يرحمه الله ضحوة يوم الاثنين السابع من جمادى الأولى عام واحد وأربعين وسبعمائة (741هـ) في ساحة الجهاد، وهو يشحذ الهمم، ويحرض المجاهدين، ويثبت بصائرهم (2).
__________
(1) انظر: الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب: 3/ 2320وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 86.
(2) انظر: الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب: 3/ 31، وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 87.
وينظر للمزيد في ترجمة: ابن جزي الكلبي ومنهجه في التفسير، لعلي بن محمد الزبيري:
1/ 43وما بعده. والإحاطة في أخبار غرناطة، لسان الدين ابن الخطيب: 3/ 20(1/464)
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة:
احتل تفسير ابن جزي (التسهيل لعلوم التنزيل) مكانة مرموقة لدى أهل المغرب العربي عامة، واشتهر أيما شهرة. لعظيم ما ضمنه المصنف من المعاني، ولما فتح الله به عليه من البيان، غير أنه بقي مغمورا لدى المشارقة، فلم يكتب له الشهرة والانتشار التي تخرجه من ذاك الحصار الذي ضرب عليه في المغرب نتيجة الظروف التي تعرضت لها الأندلس، إضافة إلى ظهور تفاسير لأناس احتلوا مكانة علمية مرموقة في المشرق في عصره أمثال أبي حيان وابن كثير وغيرهما.
ويعد تفسير ابن جزي هذا آخر التفاسير الأندلسية التي تناولت القرآن جميعه، وهو آخر تفسير يصل إلينا من تلك الديار، وقد استطاع المصنف أن يقدمه في صورة رائعة، بعبارة قوية، وجمل رصينة، وأسلوب جمع فيه بين الإيجاز وحسن العرض دون أن يخل بالمعاني المراد بيانها، يورد الجزء أو
__________
وأوصاف الناس في التواريخ والصلات، لسان الدين ابن الخطيب: 27ودرة الحجال في أسماء الرجال، لابن القاضي المكناسي: 2/ 117والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر العسقلاني: 3/ 315ط محمد سيد جاد الحق والديباج المذهب لابن فرحون: 2/ 274وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 85وغاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري: 2/ 83ونفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري: 8/ 61ط محمد محيي الدين عبد الحميد ونيل الابتهاج بتطريز الديباج لأحمد بابا التنبكتي، على على هامش الديباج المذهب: 238.(1/465)
الجملة من الآية ويفسرها مستقلة. ولهذا وصفه بعضهم بأنه تفسير جملي إن صح التعبير.
حاول المصنف إيراد أقوال المفسرين في بيان الآية بعبارة مختصرة، مسخرا ما أوتي من العلوم والمعارف لخدمة التفسير، فجمع بين التفسير بالمأثور والتفسير بالاجتهاد المبني على القواعد وأدوات التفسير، وإن كان الغالب جانب الرواية.
وقد أولى المصنف الجانب اللغوي اهتماما خاصا وقدرا كبيرا من العناية، حتى أنه خصص مقدمة لبيان معاني الكلمات والمفردات التي يكثر دورانها في القرآن الكريم، وبذلك يعد ابن جزي رائد هذا النهج والمبتدع فيه وإن لم يحذو حذوه أحد من العلماء فيما أعلم لقد استغنى بعمله هذا عن تكرار القول في بيان تلك المعاني اللغوية التي تضخم من حجم الكتاب.
والتفسير مليء بالنكات البلاغية والتوجيهات النحوية، فالمصنف صاحب قدم راسخة في هذا الباب، كما أنه لا يتوانى عن اللجوء إلى الشعر باعتباره ديوان العرب لبيان الألفاظ الغربية.
هذا واهتم المصنف بأسباب النزول، غير أنه اختصر القول التزاما بالمنهج الذي رسمه، وهو الاختصار والإيجاز، وله وقفات محمودة حيال القصص والإسرائيليات، فقد ألزم نفسه بأن لا يذكر من القصص إلا ما ورد في الحديث الصحيح، ولهذا انتقد المصنف بشدة أولئك الذين أكثروا
من ذكر الإسرائيليات، وحشدوا القصص في تفاسيرهم، ونبه إلى أنهم قد ذكروا ما لا يجوز ذكره.(1/466)
هذا واهتم المصنف بأسباب النزول، غير أنه اختصر القول التزاما بالمنهج الذي رسمه، وهو الاختصار والإيجاز، وله وقفات محمودة حيال القصص والإسرائيليات، فقد ألزم نفسه بأن لا يذكر من القصص إلا ما ورد في الحديث الصحيح، ولهذا انتقد المصنف بشدة أولئك الذين أكثروا
من ذكر الإسرائيليات، وحشدوا القصص في تفاسيرهم، ونبه إلى أنهم قد ذكروا ما لا يجوز ذكره.
وذكر المصنف الهدف من عمله. والغاية التي توخاها من تأليفه، وهي أمور أربعة: جمع كثير من العلم في كتاب صغير، مع إضافة ما جادت به القريحة من النكات والفوائد، وإيضاح المشكل من المعاني، والتحقيق في أقوال المفسرين لتمييز الصحيح من السقيم.
وللحق فإن شهرة تفسير ابن جزي لا توازي إجادته، ولا تعدل إبداعه.
وقد قدم ابن جزي لتصنيفه (التسهيل لعلوم التنزيل) خطبة ومقدمتان، أما المقدمتان فإحداهما في أبواب نافعة، وقواعد كلية جامعة، وأما الأخرى ففي بيان المعاني التي كثر دورانها في كتاب الله، وأما خطبة الكتاب فلبيان المنهج والغرض من التأليف.
ثم ضمّن المقدمة الأولى اثنا عشر بابا، منها أبواب لم يسبق إليها المصنف مثل هذا الموضع، كالذي جعل عنوانه: المعاني والعلوم التي تضمنها القرآن، وكالباب الذي خصه للحديث عن الوقف. كما أنه انفرد بين المفسرين في حدود علمي بمقدمته الثانية في تفسير معاني اللغات، والتي استهدف منها أمورا ثلاثة كما ذكر: تيسير تلك الكلمات والمعاني للحفظ، جعلها كالأصول الجامعة لمعاني التفسير، وأخيرا الاختصار بحيث يستغنى عن ذكرها في صلب التفسير.(1/467)
وهذا العمل من المصنف اجتهاد منه، غير أنني أرى أن إيراد المعاني في سياق الآية لها مدلولها الخاص، وفصل المصنف للكلمة من موقعها، وإلزامه القارئ بالعودة إلى مقدمته لمعرفة المراد من مفردة ما، فيه تشتيت للذهن وبتر للمعاني. فكان الأولى أن لا يستغني عن البيان في موضعه من الآية، ويبقى ما في المقدمة لمن أراد التوسع في معنى المفردة.
وقد نافت المقدمتان مع خطبة الكتاب على خمسين صفحة من القطع المتوسط، استطاع المصنف أن يضيف شيئا جديدا إلى هذا الفن، وأن يعالج المسائل المطروقة برؤية جادة، ونظرة فاحصة، فالمصنف لم يكن تبعا في الذي أورده، بل تجده معتدا بنفسه، يقدم رأيه بوضوح وثبات.
ومع ما جاء فيها من الآراء والمناقشات فإن تأثيرها لم يظهر في المتأخرين، حتى أولئك الجماعين في علوم القرآن، فأصحاب المصنفات لم يعتمدوه مرجعا لهم، ولا تطرقوا لآراء المصنف، ولعل ذلك يعود إلى عدم شهرة الكتاب، فإن السيوطي فارس هذا الشأن لم يذكر ابن جزي في إتقانه، ولا ذكره في كتابه الذي خصه لذكر المفسرين (طبقات المفسرين)، ولهذا استدركه تلميذه الداودي، فأورد له ترجمة مختصرة في طبقاته.
وحين طبع الكتاب، وانتشر في العهد الأخير، وتناقله طلبة العلم، وجدنا اسم ابن جزي يتردد على صفحات المؤلفات المختصة في الدراسات القرآنية، كما وجدنا لآرائه صدا طيبا، سواء في علوم القرآن خاصة أو في التفسير عامة، حتى خصّ بدراسة مستفيضة أظهرت كثيرا من الجوانب
الشخصية والعلمية المتفوقة في حياة ابن جزي.(1/468)
وحين طبع الكتاب، وانتشر في العهد الأخير، وتناقله طلبة العلم، وجدنا اسم ابن جزي يتردد على صفحات المؤلفات المختصة في الدراسات القرآنية، كما وجدنا لآرائه صدا طيبا، سواء في علوم القرآن خاصة أو في التفسير عامة، حتى خصّ بدراسة مستفيضة أظهرت كثيرا من الجوانب
الشخصية والعلمية المتفوقة في حياة ابن جزي.
وقد طبعت المقدمة مع الأصل عدة طبعات نذكر منها:
1) دار الكتب الحديثة مصر 1973م، بتحقيق الأساتذين: محمد عبد المنعم اليونسي، وإبراهيم عطوة عوض وهي الطبعة التي اعتمدتها في هذه الدراسة. وهي في أربعة مجلدات.
2) المكتبة التجارية الكبرى، مصر 1355هـ الطبعة الأولى، وكانت هي المرة الأولى التي يطبع فيها التفسير، أربعة أجزاء في مجلد واحد.
3) دار الكتاب العربي، لبنان 1393هـ وهي مصورة عن سابقتها.
4) دار الكتاب العربي، لبنان 1403هـ، أربعة أجزاء في مجلد واحد.
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة:
أثنى المصنف على الله منزل الكتاب الحاوي للعلوم النافعة، والبراهين القاطعة على كونه المعجزة الباقية، وشكره تعالى على ما خصه به من الخصائص العلية، وثنى الشكر له سبحانه بإرساله خير رسول بلّغ ما أنزل إليه من ربه، حتى أقام الحجة، وأظهر الحق وفصّل الخطاب، ثم تحدث عن شرف علم القرآن، تعلّمه وتعليمه، وشكر المسدي على ما وجهه إليه من الشغل بخدمة كتابه، حتى عرف المصنفات في بيان معانيه، واختلاف المصنفين في النهج الذي ساروا عليه، والمنحى الذي سلكوه، والمذهب الذي ارتضوه، وكلّا وعد الله الحسنى، وبين أنه رغب في سلوك طريقهم،
والانخراط في مساق فريقهم، ليظهر ما يريد بيانه مما حواه صدره، واستقر عليه رأيه، فشرع في هذا التفسير الذي قصد منه جمع كثير من العلم في كتاب صغير تسهيلا وتقريبا، بعبارة مختصرة، بعد التمحيص والتدقيق، وحذف فضول القول والتطويل، وإضافة ما جادت به القريحة من الفوائد والنكت مما هو من بنات الصدر وينابيع الذكر، ثم عدم الإغفال عن إيضاح المشكلات وحلّ المقفلات ورفع الاحتمالات، وأخيرا التحقيق في الأقوال بطرح السقيم وتمييز الراجح القويم.(1/469)
أثنى المصنف على الله منزل الكتاب الحاوي للعلوم النافعة، والبراهين القاطعة على كونه المعجزة الباقية، وشكره تعالى على ما خصه به من الخصائص العلية، وثنى الشكر له سبحانه بإرساله خير رسول بلّغ ما أنزل إليه من ربه، حتى أقام الحجة، وأظهر الحق وفصّل الخطاب، ثم تحدث عن شرف علم القرآن، تعلّمه وتعليمه، وشكر المسدي على ما وجهه إليه من الشغل بخدمة كتابه، حتى عرف المصنفات في بيان معانيه، واختلاف المصنفين في النهج الذي ساروا عليه، والمنحى الذي سلكوه، والمذهب الذي ارتضوه، وكلّا وعد الله الحسنى، وبين أنه رغب في سلوك طريقهم،
والانخراط في مساق فريقهم، ليظهر ما يريد بيانه مما حواه صدره، واستقر عليه رأيه، فشرع في هذا التفسير الذي قصد منه جمع كثير من العلم في كتاب صغير تسهيلا وتقريبا، بعبارة مختصرة، بعد التمحيص والتدقيق، وحذف فضول القول والتطويل، وإضافة ما جادت به القريحة من الفوائد والنكت مما هو من بنات الصدر وينابيع الذكر، ثم عدم الإغفال عن إيضاح المشكلات وحلّ المقفلات ورفع الاحتمالات، وأخيرا التحقيق في الأقوال بطرح السقيم وتمييز الراجح القويم.
عقب ذلك شرع المصنف في بيان المنهج الذي سلكه في تصنيفه، وبين أنه قدم بين يدي تفسيره مقدمتين نافعتين، ليطلب من الله جعل عمله هذا خالصا مبرورا، وليبدأ بأولى المقدمات التي جعلها في اثني عشر بابا.
المقدمة الأولى: وفيها اثنا عشر بابا.
هذا في الجملة وإلا فقد تعرض فيها لأكثر من عشرين موضوعا، وأثبت ما يراه من القول دون أن يوغل في مناقشة الآراء أو يكثر من الأدلة.
وقد سودت المقدمة بأبوابها أكثر من عشرين صفحة، وكانت أولى الموضوعات المطروحة هو نزول القرآن.
الباب الأول: نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تحت هذه التسمية تعرض المصنف لأكثر من موضوع، فذكر أولا مدة نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم في كلّ من مكة والمدينة، وسنّه صلى الله عليه وسلم وقتئذ،
كما ذكر الاختلاف في أول القرآن وآخره نزولا، فذكر الأقوال المروية في ذلك، ورجح كون صدر سورة العلق هو أول ما نزل، وسورة النصر آخر القرآن نزولا، وتعرض لجمع القرآن فذكر قصة الجمع بعد وفات الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى جمع عثمان رضي الله عنه للمصاحف، ومصير المصاحف السابقة بعد هذا الجمع، وأكد أن ترتيب السور في المصحف العثماني إنما هو من فعل عثمان وزيد بن ثابت والذين كتبوا المصاحف، واستبعد كونها توقيفية مكتفيا بقوله: وذلك أي القول بتوقيفيتها تردّه الآثار الواردة في ذلك.(1/470)
تحت هذه التسمية تعرض المصنف لأكثر من موضوع، فذكر أولا مدة نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم في كلّ من مكة والمدينة، وسنّه صلى الله عليه وسلم وقتئذ،
كما ذكر الاختلاف في أول القرآن وآخره نزولا، فذكر الأقوال المروية في ذلك، ورجح كون صدر سورة العلق هو أول ما نزل، وسورة النصر آخر القرآن نزولا، وتعرض لجمع القرآن فذكر قصة الجمع بعد وفات الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى جمع عثمان رضي الله عنه للمصاحف، ومصير المصاحف السابقة بعد هذا الجمع، وأكد أن ترتيب السور في المصحف العثماني إنما هو من فعل عثمان وزيد بن ثابت والذين كتبوا المصاحف، واستبعد كونها توقيفية مكتفيا بقوله: وذلك أي القول بتوقيفيتها تردّه الآثار الواردة في ذلك.
ثم ذكر نقط المصحف وشكله ووضع الأعشار، وأول من فعله، والأقوال في ذلك. كما تعرض لأسماء القرآن وحصرها في أربعة أسماء جاعلا البقية صفات، وذكر أصول تلك الأسماء واشتقاقاتها، كما وضح معنى السورة والآية.
الباب الثاني: في السورة المكية والمدنية:
ضمّن المصنف هذا الباب خلاصة القول، وما يتعلق بالمكي والمدني، فعرّف المكي ثم المدني، والمراد من هذا الاصطلاح، ثم ذكر أنّ السور بهذا الاعتبار تنقسم أقساما ثلاثة، مدنية، باتفاق، وهي اثنتان وعشرون سورة، ومختلف في مكيتها ومدنيتها، وهي ثلاث عشرة سورة وسماها، والبقية مكية باتفاق.
وأومأ إلى وقوع آيات مكية في سورة مدنية وكذا العكس، وهي قليلة مختلف فيها.(1/471)
كما تعرض لذكر بعض خصائص وضوابط السور المكية والمدنية.
الباب الثالث: في المعاني والعلوم التي تضمنت القرآن:
هذا الباب خير شاهد على ما امتاز به المصنف من حسن العرض والتقسيم المقربان للفكرة، فلكي يبين العلوم التي تضمنها القرآن، أوضح أولا أن المقصود الأعظم بالقرآن هو دعوة الخلق إلى عبادة الله، وذلك من خلال أمرين:
أولاهما: بيان العبادة التي هي العقائد والأحكام.
وثانيهما: البواعث الموصلة للعبادة. وهي الترغيب والترهيب.
هذا في الجملة، أما العلوم المتضمنة على التفصيل فهي على ما بينه المصنف سبعة علوم، علم الربوبية المثبت لوجود الباري والاستدلال عليه بمخلوقاته، والتعريف بصفاته والتنزيه عما لا يليق به.
علم النبوة، المثبت لنبوة الأنبياء عليهم السلام وكتبهم ولزوم الإيمان بهم.
علم المعاد، بإقامة البراهين على إثبات الحشر والدار الآخرة والحساب ونحو ذلك.
علم الأحكام بأنواعها، من واجب ومندوب وحرام ومكروه ومباح، ومتعلقاتها كالتي تتعلق بالأبدان أو الأقوال أو غير ذلك.(1/472)
علم الوعد والوعيد المذكورين مقرونين في القرآن ليتبين أحدهما بالآخر.
علم القصص، وهي ذكر الأخبار السابقة للعظة والعبرة، وغيرها من الفوائد، كما ذكر حكمة تكرار القصص في القرآن، وخاصة تلك التي جرت للأنبياء عليهم السلام.
الباب الرابع: في فنون العلم التي تتعلق بالقرآن:
وهي العلوم التي يحتاجها المفسر ليقدم على التكلم في تفسير كلام الله، وقد أوصلها بعضهم إلى خمسة عشر علما (1) اقتصر المصنف على اثني عشر علما.
وهي: التفسير، وهو العلم المقصود بذاته، والقراءات، والأحكام، والنسخ، والحديث، والقصص، والتصوف، وأصول الدين، وأصول الفقه، واللغة، والنحو، والبيان، وهي أدوات تعين على التفسير أو تتعلق به أو تتفرع منه.
وأوجز القول في توضيح كل فن من تلك الفنون، وبين معنى التفسير وأنواعه والفرق بينه وبين التأويل، والخلاف في ذلك، وصوب كون التفسير
__________
(1) انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 2/ 1209، والزيادة والإحسان في علوم القرآن لابن عقيلة المكي: 3/ 979، تحقيق مصلح السامدي.(1/473)
هو الشرح، والتأويل هو حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر بموجب اقتضى أن يحمل على ذلك، ويخرّج على ظاهره.
انتقل عقب ذلك للعلم الثاني وهو القراءات، فبين منزلتها وأقسامها، وتعريف كل قسم، ثم ذكر أنه اعتمد في تفسيره على قراءة نافع لكونها القراءة المستعملة في الأندلس والمغرب، ولكونها قراءة أهل المدينة، وأنه يذكر من سائر القراءات ما فيه فائدة، من غير أن يلتزم هذا النهج دائما خشية الإطالة، واكتفاء بالمصنفات المتخصصة.
وفي علم الأحكام أشار إلى أن من العلماء من أوصل آيات الأحكام إلى خمسمائة آية، ثم ذكر بعض المصنفات في هذا الفن.
وفي الفن الرابع وهو النسخ، بين أن النسخ يختص الأحكام دون الأخبار، وأن أناسا قد صنّفوا فيه، كما أشار إلى أنه خص النسخ بحديث مستقل في مقدمته تحدث فيها عن قواعد النسخ.
والفن الخامس هو الحديث، ذكر ابن جزي أن المفسر يحتاج هذا الفن لأمرين وبينهما، ثم انتقل بعدها لذكر القصص، وأوضح أن الضروري منها ما يعتمد عليه التفسير، وما عدا ذلك زائد مستغنى عنه، كما عاب على المفسرين الذين أكثروا من ذكر القصص حتى ذكروا قصصا لا يجوز ذكرها بأية حال.
أعقب ذلك الحديث عن فن التصوف، ومدى تعلقه بالقرآن، ثم بين أن من القوم من تكلم في التفسير فكان منهم المحسن المجيد الذي وصل بنور
البصيرة إلى دقائق المعاني، والمسيء المتوغل في الباطنية الذي حمل القرآن على ما لا تقتضيه اللغة، وذكر أن واحدا من القوم وهو السلمي قد جمع في تفسيره الغث والسمين من كلام القوم، فخلط بين الحق والباطل، ثم ختم الحديث بذكر بعض ما أسماه مقامات التصوف كالشكر والتوبة والتقوى إلخ.(1/474)
أعقب ذلك الحديث عن فن التصوف، ومدى تعلقه بالقرآن، ثم بين أن من القوم من تكلم في التفسير فكان منهم المحسن المجيد الذي وصل بنور
البصيرة إلى دقائق المعاني، والمسيء المتوغل في الباطنية الذي حمل القرآن على ما لا تقتضيه اللغة، وذكر أن واحدا من القوم وهو السلمي قد جمع في تفسيره الغث والسمين من كلام القوم، فخلط بين الحق والباطل، ثم ختم الحديث بذكر بعض ما أسماه مقامات التصوف كالشكر والتوبة والتقوى إلخ.
وما ذكره المصنف من حاجة المفسر إلى هذا الفن بعيد متكلّف فيه، فقد أقحمه المصنف في هذا الموضع إقحاما، فكم من علم كان مرجعا في التفسير وهو أبعد الناس عن رموز الصوفية وتأويلاتهم وبدعهم، وكم من صوفي أبعد في القول ونأى بالتفسير عن أصله، وحمّل المعاني ما لا يطاق.
انتقل المصنف بعد هذا لأصول الدين فذكر أن تعلقه بالقرآن من طرفين، إثبات العقائد بإقامة البراهين، والرد على أصناف الكفار، والثاني تعلق الطوائف المختلفة من المسلمين بالقرآن، والاحتجاج لمذاهبها.
ثم ذكر أصول الفقه فبين أنه من الأدوات التي تعين على فهم المعاني وترجيح الأقوال، وهي فنون كثيرة كالظاهر والمجمل والمبين والعام والخاص وغير ذلك.
وختم بعلم اللغة والنحو والبيان، وهي علوم لا غنى لمفسر عنها، ولهذا خصها بمقدمات مستقلة.(1/475)
الباب الخامس: في أسباب الخلاف بين المفسرين، والوجوه التي يرجح بها أقوالهم
ذكر من أسباب الخلاف اثني عشر سببا، عرضها إجمالا، وبين أن وجوه الترجيح مثل ذلك العدد، وسردها هي الأخرى إجمالا.
الباب السادس: في ذكر المفسرين
جعل المصنف بيان حال السلف في التفسير والتكلم في القرآن مدخلا لهذا الباب، فذكر أولا أن الأكثرين أجازوا تفسير القرآن، وأن ثلة توقفوا عن الكلام احتياطا، مستدلين بالآثار الواردة والتي ظاهرها النهي عن ذلك، وذكر أثرين صح نقلهما، مع بيان تأويلهما عند المجيزين.
ثم انتقل للحديث عن طبقات المفسرين، من لدن الصحابة إلى عصره، وذكر من الصحابة من اشتهر بالتفسير كابن عباس، وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وغيرهم، ومن طبقة التابعين عددا من الأعلام كالحسن البصري وسعيد بن جبير ومجاهد وعلقمة وغيرهم.
ثم بين أن عدولا حملوا التفسير من بعدهم، وأن أناسا انكبّوا على التأليف في هذا الفن كعبد الرزاق والبخاري وابن جرير الذي جمع أقوال المفسرين، وتبعهم غيرهم من المشرق ومن المغرب، وذكر عددا من التفاسير المتأخرة وما امتاز به كل تفسير منها.(1/476)
الباب السابع: في الناسخ والمنسوخ:
عرّف ابن جزي النسخ في اللغة وفي اصطلاح الشرع، وبيّن أوجه النسخ التي وقع في القرآن، فذكر نسخ اللفظ والمعنى، واللفظ دون المعنى، والمعنى دون اللفظ، وبين أن الأخير هو الكثير، واستشهد لكل وجه بمثال، كما بين أن العلماء أدخلوا في النسخ ما ليس بنسخ كالتخصيص والتقييد والاستثناء وغيرها من الذي بينها وبين النسخ فروق ظاهرة.
وأرجأ الحديث على مثل هذه المواضع إلى حينه، وضرب مثلا واحدا وهو نسخ مسالمة الكفار، والعفو عنهم، والصبر على آذاهم، بالأمر بقتالهم.
الباب الثامن: في جوامع القراءة:
ذكر المصنف في هذا الباب أنواع القراءة المشهورة منها والشاذة، وشروط القراءة الصحيحة، ثم بين أن اختلاف القراء هو على نوعين، أصول وفرش، وتحدث عن كل نوع، وختم الباب ببيان القواعد التي يرجع إليها عند الاختلاف في الأصول.
الباب التاسع: في الوقف:
وهو الباب الذي سبق أن أشرت إليه وقلت أن المصنف هو أول من خص الوقف بباب مستقل في المقدمة، ذكر المصنف في هذا الباب أنواع الوقف، التام والحسن والكاف والقبيح، وعرّف كل نوع، وختم الباب بتنبيه
أشار فيه إلى أن الوقف بمراعاة الإعراب والمعنى جائز استقر عليه العمل، وأخذ به القراء، وأن الأوائل كانوا يراعون الوقوف على رءوس الآي لحديث أم سلمة وهي تنعت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للفاتحة آية آية، يقطع قراءته يقول: «الحمد لله رب العالمين، ثم يقف، الرحمن الرحيم، ثم يقف» (1).(1/477)
وهو الباب الذي سبق أن أشرت إليه وقلت أن المصنف هو أول من خص الوقف بباب مستقل في المقدمة، ذكر المصنف في هذا الباب أنواع الوقف، التام والحسن والكاف والقبيح، وعرّف كل نوع، وختم الباب بتنبيه
أشار فيه إلى أن الوقف بمراعاة الإعراب والمعنى جائز استقر عليه العمل، وأخذ به القراء، وأن الأوائل كانوا يراعون الوقوف على رءوس الآي لحديث أم سلمة وهي تنعت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للفاتحة آية آية، يقطع قراءته يقول: «الحمد لله رب العالمين، ثم يقف، الرحمن الرحيم، ثم يقف» (1).
الباب العاشر: في الفصاحة والبلاغة وأدوات البيان:
للفصاحة خمسة شروط، أوردها المصنف في هذا الباب بعبارة موجزة، أتبع ذلك تعريف البلاغة، ليختم الباب بتعريف البيان وأدواته، فذكر أنه وجد في القرآن اثنان وعشرون نوعا، ذكرها وبين معناها كالمجاز والكناية والالتفات والتجديد وغير ذلك.
الباب الحادي عشر: في إعجاز القرآن وإقامة الدليل على أنه من عند الله عز وجل:
قدم المصنف في هذا الباب عشرة أوجه تثبت إعجاز القرآن، وتقيم الدليل والبرهان على أنه من الباري جل جلاله.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند: 6/ 302، وأبو داود في السنن: (ح 44001/ 37)، والحاكم في المستدرك: 1/ 232وقال: صحيح على شرط الشيخين.(1/478)
الباب الثاني عشر: في فضل القرآن:
اقتصر المصنف في هذا الباب على إيراد جملة من الأحاديث والآثار الصحيحة التي تبين فضل قارئ القرآن، وما أعده الله له من الأجر والرضوان، وما يلزم القارئ من الحرص على الاستذكار خشية التفصي والنسيان، كما أورد مختارات من الآثار التي تبين فضل بعض السور والآيات. وكان هذا الباب هو خاتمة المقدمة الأولى.
المقدمة الثانية: في تفسير معاني اللغات
افتتح المصنف هذه المقدمة بقوله (نذكر في هذه المقدمة الكلمات التي يكثر دورها في القرآن الكريم، أو تقع في موضعين فأكثر من الأسماء والأفعال والحروف).
وذكر أنه إنما شرع في هذا الصنيع لأمور ثلاثة:
1) أنها أيسر للحفظ.
2) ليكون الباب كالأصول الجامعة لمعاني التفسير.
3) الاقتصار، فيستغنى بذكرها هنا عن ذكرها في مواضعها.
وبين أنه رتّب الكلمات ترتيب المعجم معتمدا فاء الكلمة، دون اعتبار للحروف الزائدة، ابتدأ بالهمزة وبمفردة (آية) ف (أتى) ف (أبى) وهكذا، يذكر بعد كل مفردة المعاني التي وردت بها، دون أن يغفل عن ذكر
اشتقاقات الكلمة عند الحاجة لبيان ذلك.(1/479)
وبين أنه رتّب الكلمات ترتيب المعجم معتمدا فاء الكلمة، دون اعتبار للحروف الزائدة، ابتدأ بالهمزة وبمفردة (آية) ف (أتى) ف (أبى) وهكذا، يذكر بعد كل مفردة المعاني التي وردت بها، دون أن يغفل عن ذكر
اشتقاقات الكلمة عند الحاجة لبيان ذلك.
وقد أخلّ المصنف بترتيب بعض الكلمات، كما فاته بعض المفردات (1).
وقد استغرقت المقدمة نحوا من خ
مس وعشرين صفحة.
رابعا: منهج ابن جزي في مقدمته:
السمة البارزة لمنهج ابن جزي هي الإيجاز والاختصار، والتنقيح وحذف فضول القول، وهو ما صرح به في الخطبة التي قدمها بين يدي مقدماته حين قال: جعلته وجيزا جامعا. وحين قال: إني عزمت على إيجاز العبارة وإفراط الاختصار وترك التطويل والتكرار (2).
فقد لخص المصنف الأقوال ونقّح الفصول، وحذف الحشو والفضول، وذكر اللبّ دون القشور، بعبارة موجزة من غير إفراط ولا تفريط. وهو نهج التزمه المصنف في مقدمته كلها، فهو يجمل الحديث في أية مسألة تطرق لها، ويورد الأقوال والآراء بعبارة موجزة، وإن ذكر دليلا لرأي فهو يعرضه بإيجاز دون أن يعزوه لمصدر.
ومن نهجه أيضا عدم نسبة الأقوال إلى قائليها إلا قليلا، وتعليل ذلك
__________
(1) انظر: ابن جزي ومنهجه في التفسير: 2/ 635.
(2) انظر: المقدمة: 1/ 54.(1/480)
عند المصنف أن درجة الإسناد لا تصح إلا قليلا، أو هو لاختلاف الناقلين في نسبتها إليهم، وهو الآخر نهج التزمه المصنف في مقدمته.
وما ذكره من التعليل قاصر لا يرتقي لأن يكون حجة في ترك نسبة الأقوال لقائليها، ولا مبررا في عدم إسناد الفضل لأهله، فإن من المعروف أن من بركة العلم إضافة الأقوال إلى قائليها كما ذكر القرطبي المفسر (1)، وإن للتصريح باسم القائل فوائد لا تخفى على مثل المصنف، وهو القائل:
فإن صرحت باسم القائل فلأحد أمرين: إما للخروج عن عهدته، وإما لنصرته إن كان قائله ممن يقتدى بهم (2)، فكان ينبغي له يرحمه الله عدم إغفال هذا الجانب.
والسمة الثالثة لنهج ابن جزي هو أنه إن ذكر شيئا من الأقوال دون حكاية قوله عن أحد وهو الغالب الكثير فذاك إشارة إلى أنه يتقلده ويرتضيه، سواء من تلقاء نفسه، أو مما اختاره من كلام غيره (3).
وأخيرا فإن المصنف قد تعهد بعدم إيراد الأقوال الساقطة والضعيفة تنزيها للكتاب عن مثلها، والتزاما بحذف الحشو والفضول، فإن ذكر شيئا فهو للتحذير منه والترغيب عنه.
__________
(1) ينظر مقدمة الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 1/ 3.
(2) انظر: المقدمة: 1/ 4.
(3) انظر: المقدمة: 1/ 5.(1/481)
تلك هي أبرز سمات منهج ابن جزي في تفسيره بصورة عامة، وفي مقدمته بصورة خاصة.
ويحسن بي أن أشير هنا أن المصنف يجمل في عرض الموضوعات في أحايين كثيرة ثم يعقب ذلك بالبسط والتفصيل مع التزام الإيجاز وحذف الفضول، كما أنه يذكر الأقوال في أحايين كثيرة أيضا دون أدلتها، وإن ذكر الدليل اكتفى بذكر الصحابي دون من خرّجه من الأئمة، ودون عزوه لمصدر معين إلا نادرا، مكتفيا بما ألزم نفسه من الاقتصار على ذكر الصحيح دون السقيم، وهو يكتفي بسرد الأثر دون أن يعقب بشرح الغامض من المعنى أو الغريب من اللفظ (1).
وقد كان لابن جزي نهج خاص في مقدمته الثانية التي خصها في تفسير معاني اللغات، ويتلخص ذلك في الآتي:
1) الاقتصار على الكلمات التي يكثر دورها في القرآن، أو تقع في موضعين فأكثر من الأسماء والأفعال والحروف.
2) ترتيب الكلمات حسب حروف العجم باعتبار الكلمة دون الحرف الزائد.
فهو يذكر المفردة ثم يذكر معانيها، فيقول: لها معنيان. أو ثلاثة معان،
__________
(1) انظر المقدمة: 1/ 7، ولمزيد من الأمثلة ينظر الصفحات: 1/ 24201915116.(1/482)
أو خمسة معان، وهكذا.
وإن كان في بيان اشتقاقات المفردة فائدة مرجوة بيّنها، وقد يبيّن ما يتعلق بالمفردة من النواحي الإعرابية (1). والأمثلة كثيرة.
خامسا: بيان مدى التزام المصنف في تفسيره بما ذكره في مقدمته:
لم يترك ابن جزي للقارئ في تفسيره أن يحدد ملامح منهجه، فقد أفاض هو في توضيح ذلك وبينه غاية البيان، وقد سبق أن تحدثت عن منهجه في مقدمته، وهو قريب من منهجه في تفسيره، ولهذا سأكتفي هنا ببيان مدى التزام المصنف بأصول منهجه الذي وضعه لكتابه:
وأول هذه الأصول أنه جعل تفسيره وجيزا جامعا للأقوال، تاركا التطويل والتكرار، قصد منه جمع كثير من العلم في كتاب صغير. وقد التزم المصنف هذا الأصل عدا التطويل والإطناب في بعض المواضع (2)، وإلا فقد حاول ابن جزي جمع الأقوال وإيرادها بعبارة مختصرة، تاركا التطويل الذي سلكه جماعة من المفسرين (3).
وثاني هذه الأصول: أنه أضاف أمورا جديدة إلى التفسير من بنات
__________
(1) انظر المقدمة: 1/ 26.
(2) انظر أمثلة ذلك: 1/ 3112/ 4399376/ 38.
(3) انظر أمثلة ذلك: 1/ 25320818399.(1/483)
فكره وينابيع ذكره، ومما أخذه من شيوخه أو التقطه من مستطرفات النوادر.
وهو أمر يجده القارئ في تفسيره، وإن كان المصنف لا يصرح بذلك أثناء التفسير، بل يجد القارئ أن التفسير قد حوى جملة من النكت والنوادر والفوائد (1).
وثالثها: إيضاح المشكلات من الألفاظ والمعاني بعبارة حسنة ترفع الاحتمالات. وهذا مما التزمه المصنف، وهو واضح جلي للقارئ (2).
أما الرابع من هذه الأصول فتحقيق أقوال المفسرين، السقيم منها والصحيح، وتمييز الراجح من المرجوح، مع استبعاد الأقوال الساقطة إلا على سبيل التحذير منها. وهذا الأصل قد التزمه المصنف أيضا إلى درجة كبيرة، فالمصنف له شخصيته الواضحة حيال تلك الأقوال، ومن ذلك أن له وقفات محمودة حيال القصص الإسرائيلي، فقد انتقد المصنف بشدة أولئك الذين أكثروا من ذكر الإسرائيليات، وحشدوا القصص في تفاسيرهم، ونبه إلى أنهم قد ذكروا ما يجوز ذكره (3).
سادسا: مصادر المصنف في مقدمته:
لا يستطيع المرء أن يحدد مصدرا للمصنف طالما صرّح بأنه لن يذكر
__________
(1) انظر أمثلة ذلك: 1/ 2757055/ 3275/ 267123.
(2) انظر أمثلة ذلك: 1/ 2158/ 332363/ 4124/ 136130.
(3) ينظر: 1/ 277/ 3168103/ 438026861/ 312289.(1/484)
المصدر الذي استقى منه المعلومة، كما أنه لن ينسب القول إلى قائله، ولهذا لم أقف في مقدمته على اسم علم نسب المصنف إليه قولا، أو عنوان كتاب صرّح بالعزو إليه، عدا الترمذي فقد عزا إليه حديثا واحدا في باب الوقف، ليؤكد أن السلف كانوا يقفون على رءوس الآي قال: ويؤكد ذلك ما أخرجه الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته يقول: «الحمد لله رب العالمين ثم يقف، الرحمن الرحيم، ثم يقف» (1).
سابعا: أهم مزايا المقدمة:
يعد الإيجاز وحذف فضول القول أظهر ميزة لمقدمة ابن جزي، فقد استطاع المصنف أن يقدم المعنى الكثير في عبارات قليلة، بأسلوب سهل ممتع، لا يمل القارئ من متابعته ولا يسأم من قراءته، كما امتازت هذه المقدمة بالآتي:
1) أن المصنف اختار موضوعاته التي قدمها بين يدي تفسيره من أهم الموضوعات التي لا يستغني عنها عالم أو متعلم، واستطاع أن يقدم من خلالها فوائد جليلة، دون أن يتيه القارئ فيجعله في خضم المناقشات.
2) حسن السبر والتقسيم، الذي أظهر إلمام المصنف بعلوم القرآن،
__________
(1) انظر المقدمة: 1/ 24، وقد سبق تخريج الحديث.(1/485)
وقد ظهر ذلك جليا في طرحه لعدة موضوعات تشترك في الناحية الموضوعية تحت مسمّى واحد، فتحت مسمّى نزول القرآن تعرض المصنف لأكثر من ثمانية موضوعات، لها جميعها ارتباط واضح بموضوع الباب.
3) عدم الإطالة في ذكر الأقوال، والحرص على ذكر الأقوال المفيدة والوجيه، واجتناب الإطالة في ذكر الخلافيات.
4) وضوح المنهج الذي سلكه المصنف والتزامه التام بما ألزم به نفسه في خطبة الكتاب، سواء في المنهج أو في ذكر المصادر ونسبة الأقوال.
5) ذكره للمقدمة الثانية، تلك التي خصها لتفسير معاني اللغات، والتي عرض فيها الكلمات التي كثر دورانها في القرآن، ووردت في أكثر من موضعين. وإن كنت أرى أن موضع بسط هذا الباب ليس هنا بين يدي المفسر، بل اللازم إفراده بتأليف مستقل، كما فعل غيره من الذين صنّفوا في الوجوه والأشباه والنظائر.
6) قد جرت عادة المفسرين أن يذكروا في هذا الموضع أقصد المقدمة الفنون الهامة التي لها تعلق بالتفسير، أو تلك التي تخدم المفسر. وإن كان ما فعله المصنف قد جاء رائقا لبعضهم حتى اعتبروه ميزة انفرد بها ابن جزي.
ثامنا: أظهر المآخذ:
1) عدم نسبة الأقوال إلى قائليها، وعدم عزو النصوص إلى مورديها،
وإغفال المصنف للمصادر التي استقى منها مادة مقدمته العلمية.(1/486)
1) عدم نسبة الأقوال إلى قائليها، وعدم عزو النصوص إلى مورديها،
وإغفال المصنف للمصادر التي استقى منها مادة مقدمته العلمية.
2) الاختصار الشديد في بعض المواضع، وعدم عرض الآراء المخالفة أحيانا، وعدم الردّ على بعض الآراء الوجيهة، وقد ظهر هذا جليا في موضوع جمع المصحف، وحكم ترتيب السور والآيات، كما ظهر الاختصار في موضوع التفسير بالرأي.
3) إغفال المصنف لبعض الموضوعات الهامة كالأحرف السبعة، وكموضوع وجود ألفاظ غير عربية في القرآن. وغيرها، وهي موضوعات في غاية من الأهمية لطالب علم التفسير.
تلك هي أظهر المآخذ التي رأيتها على مقدمة ابن جزي، فجزى الله المصنف خير الجزاء وأجزل له الثواب، وتقبل عمله بقبول حسن.(1/487)
11 - لباب التأويل في معاني التنزيل لأبي حسن علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيحي البغدادي المعروف بالخازن المتوفى سنة 741هـ
أولا: التعريف بالمؤلف:
مؤلف هذا التفسير هو علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيحي (1) البغدادي الشافعي الملقب بالخازن (2) المولود سنة (678هـ) ببغداد.
نشأ في بغداد مسقط رأسه، وانكبّ على الدرس والمذاكرة على أيدي ثلة من أهل العلم هناك، فتلقى عنهم العلوم الأولية، ثم علوم الحديث على يد أبي عبد الله محمد بن عبد المحسن البغدادي المعروف بالدواليبي، ثم انشغل بعد ذلك في طلب الحديث وسماعه (3).
وتذكر الأخبار أن الخازن حين تضلع من ينابيع العلم في بغداد قصد
__________
(1) الشيحي نسبة إلى شيحة قرية من قرى حلب ينسب إليها بعض الأعيان، معجم البلدان لياقوت الحموي: 3/ 430.
(2) لقب بالخازن لأنه كان خازن كتب خانقاه السميساطية بدمشق، الخانقاه (دار الصوفية) انظر: منادمة الأطلال لبدران: 2/ 21.
(3) انظر شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي: 6/ 131.(1/488)
الشام موطن الأهل، فدخلها وتسلم خزانة كتب السميساطية، وجلس بين تلك المصنفات، فوضع بذلك يده على كنز من المعارف، فكانت لمهنته بعد ذلك أثر واضح على توجهه وإنتاجه، حيث جمع وحدّث وألف، وتنوعت مصنفاته لتشمل علوما كثيرة وإن لم تنل تلك المؤلفات من الشهرة ما ناله تفسيره الذي أقبل عليه طلبة العلم إقبالا منقطع النظير حين انتشر في الآفاق.
وقد كان الخازن رحمه الله إلى جانب اهتمامه بالعلم صالحا فيه خير كثير، بشوش الوجه ذا تودد وسمت حسن (1).
شيوخه وتلاميذه:
تتلمذ الخازن في بداية حياته العلمية على يد واحد من علماء بغداد، المدينة التي نشأ فيها وترعرع وهو: أبو عبد الله محمد بن عبد المحسن البغدادي المعروف بالدواليبي ت: (728هـ) (2) ولم تذكر الأخبار غيره من شيوخه في بغداد، ولما انتقل إلى دمشق تلقى العلم عن شيوخ السميساطية ومنهم: أبو القاسم بن المظفر، كما أخذ عن الشيخة العابدة ست الوزراء
__________
(1) انظر: الدرر الكامنة لابن حجر: 8/ 171، وشذرات الذهب لابن عماد: 6/ 131.
(2) هو محمد بن عبد المحسن بن أبي الحسن البغدادي، الحنبلي، أحد من انتهى إليه علو الإسناد ببغداد، عرف عنه كثرة العبادة والتلاوة، توفي (728هـ). انظر: الدرر الكامنة لابن حجر: 4/ 28وشذرات الذهب لابن عماد: 6/ 88.(1/489)
بنت عمر بن أسعد التنوخية ت: (716هـ) (1).
وقد ضنت المصنفات بذكر آخرين تلقى الخازن عنهم العلم. ولا شك أنهم كثر فمصنفات الخازن تدل على تنوع اهتماماته كما تدل على تعدد شيوخه (2).
أما تلامذة الخازن فلم نقف على ذكر لأحدهم في تلك المصنفات التي ترجمت للخازن، وهي ظاهرة تكررت لعدد من العلماء البارزين، وقد سبق ما ذكرناه عن القرطبي رحمه الله وغالب الظن أن حالة القرطبي مختلفة عن الخازن، فالأول ربما كان لمواقفه الشجاعة وتصديه للفرق الضالة، أما الخازن فإنني أرى أن مهنته ربما صرفت الناس عنه وصرفته عنهم، فالعاملون في المكتبات وبين الكتب يزداد نهمهم للعلم، ويتجدد باستمرار، ويجدون أنفسهم في شوق دائم للمزيد من المعلومات، كما يغلب على مؤلفاتهم طابع الجمع والاختصار والشرح، فلا يجدون الوقت الكافي للاختلاط بالناس وتقديم ما لديهم إذ يفضلون تقديم العلم مكتوبا، وهذا أمر ملاحظ حتى في عصرنا الحالي، هذا وإن كنا نظن أن عددا من الذين تتلمذوا في السميساطية فترة وجود الخازن لا بد أن يكونوا قد وردوا من
__________
(1) هي ست الوزراء بنت عمر بن أسعد التنوخية الحنبلية، كانت طويلة الروح على سماع الحديث، وهي آخر من حدث بالمسند بالسماع عاليا، توفيت (716هـ). انظر: الدرر الكامنة لابن حجر: 2/ 129وشذرات الذهب لابن عماد: 6/ 40.
(2) انظر البداية والنهاية لابن كثير: 14/ 141، و 14/ 108، والعبر للذهبي: 4/ 44.(1/490)
مورده، وتتلمذوا على يديه، على أقل تقدير أولئك الذين كانوا على اتصال مستمر بالخانقاه وخازنها، فلا بد وأنهم اكتشفوا أن الذي يتعاملون معه رجل من أهل العلم، وهو أيضا أمر مشاهد في عصرنا الحالي وإن كان على نطاق ضيق، والله أعلم.
مؤلفاته:
يسرت مهنة الخازن له الاطلاع على كثير من أمهات الكتب التي حوتها خزانة السميساطية كما ذكرت قبل قليل ولا غرو بعد هذا أن تتعدد اهتمامات الخازن العلمية وتتنوع تآليفه، وقبل ذكر مؤلفات الخازن أود الإشارة إلى أن طابع الجمع والنقل هي السمة البارزة لمؤلفات الخازن، فلم يصرف اهتمامه إلى تقديم موضوع جديد يؤسس بنيانه بنفسه، بل اعتمد على من سبقه، على أن المنصف لا يجرد الخازن من آراء جديدة أو مختارة على أضعف تقدير، يجدها بين ثنايا كتبه.
ومن مؤلفات الخازن:
1) لباب التأويل في معاني التنزيل، وهو تفسيره الذي اشتهر باسم تفسير الخازن.
2) شرح عمدة الأحكام للحافظ عبد الغني.
3) الروض والحدائق في تهذيب سيرة خير الخلائق محمد المصطفى سيد أهل الصدق والوفاء.(1/491)
3) مقبول المنقول (1) في عشرة مجلدات، جمع فيه بين مسندي الشافعي وأحمد بن حنبل والكتب الستة والموطأ وسنن الدارمي، وقد رتبه على الأبواب.
وفاته:
توفي رحمه الله في آخر رجب أو مستهل شعبان سنة 741هـ بمدينة حلب (2) موطنه الأصلي، وقيل: توفي في دمشق (3).
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة:
تفسير الخازن من التفاسير المشهورة المتداولة بين عامة المسلمين، ومن
__________
(1) انظر الدرر الكامنة لابن حجر: 3/ 171، والرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة: 180ط دار البشائر.
(2) انظر: شذرات الذهب لابن عماد: 6/ 131، والدرر الكامنة لابن حجر: 3/ 171، وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 427.
(3) انظر معجم المؤرخين الدمشقيين لرضا كحالة: 147، ط دار الكتب الجديدة.
وينظر للمزيد في ترجمته: البداية والنهاية للحافظ ابن كثير وتاريخ التفسير للقيسي:
126 - والتفسير والمفسرون للذهبي: 1/ 311والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر: 3/ 171وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي: 6/ 131وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 426ولباب التأويل في معاني التنزيل مقدمة المحقق.
ومعجم البلدان لياقوت: 3/ 430ومعجم المؤرخين الدمشقيين: 147ومنادمة الأطلال ومسامرة الخيال لبدران 2/ 21ومناهل العرفان للزرقاني 1/ 537وغيرها من المصادر التي ترجمت لأمثال المؤلف.(1/492)
أعظمها انتشارا بين طلبة العلوم الشرعية في كثير من ديار الإسلام، وهو تفسير أثري ثري بالعلوم، جليل القدر، رصين العبارة، رمي بنعوت أساءت إليه كثيرا حتى كادت تصد الناس عن الرجوع إليه فضلا عن التعويل عليه (1)، مما ألزمني الدقة في البحث فيه والتقصي عنه، لحاجة البحث إلى إصدار حكم سليم أولا، ثم لإشباع نهمي العلمي ثانيا، إذ كيف يتعرض تفسير مثل هذا التفسير لآراء على طرفي نقيض، فاستعنت بالله في قراءة نماذج منه، بدأت بالمقدمة، ولم أكد أنتهي منها حتى اعترفت للرجل بكثير مما كنت أستبعده عنه، وأدركت أنني أمام رجل راسخ القدم في المنقول والمعقول، جيد الاطلاع والمعرفة، مكثر من الرواية تبعا لأصليه البغوي والثعلبي، معنى بتقرير الأحكام وأدلتها، صاحب قلم سيّال وأسلوب بياني رائع، أضاف إلى البغوي عناصر جديدة من المعارف المتصلة بتوضيح البحث. وأدخل عنصر النقد، فنقد تلك الروايات التي أوردها البغوي في تفسيره وتركها دون أن يبين ما عليها، فكرّ الخازن على كثير منها وأسقطها بالحجة والدليل، وهو أمر يردّ بعض ما رمي به الخازن رحمه الله من بعض المتأخرين حين وصفوه بأن (ما فيه من دخيل القول والكذب على سول الله الكثير) (2).
وأن خير ما يقال فيه على زعم القيسي أنه مجموعة من الأكاذيب لو
__________
(1) انظر التفسير والمفسرون للذهبي: 1/ 311.
(2) تاريخ التفسير للقيسي: 126.(1/493)
جرد الإنسان ما فيه من الأكاذيب الموضوع على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم والأقاصيص الكاذبة التى وضعها اليهود كقصة بابل والغرانيق وإرم ذات العماد وغيرها، لكانت فوق نصف الكتاب إلى أشياء أخر إن لم تضر لم تنفع (1).
فالخازن رحمه الله مع إقرارنا بأنه أورد بل أكثر من نقل الأخبار التاريخية والقصص الإسرائيلي غير أنه ليس بأول رائد أعجبته خضرة الدمن، ورأى فيها حسن ما ليس بالحسن، فهو تبع لغيره، وهو أمر لم يسلم منه حتى ابن جرير وابن كثير ولا غيرهما من المفسرين.
واذا كان وصفه بمجموعة من الأكاذيب هو خير ما يقال فيه فما هو شر ما يقال فيه يا ترى؟! ثم ماذا يقال في تفاسير الباطنية التي عطلت مفاهيم اللغة والشرع جميعا (2).
بل قد يمتاز الخازن عن غيره من المفسرين كما يقرر الزرقاني رحمه الله أنه يتبع القصة ببيان ما فيها من باطل حتى لا ينخدع بها غرّ ولا يفتن جاهل (3). وهو قول لا يسلّم له بتمامه غير أنه إلى حد ما مطابق للواقع،
__________
(1) المصدر السابق: 126.
(2) انظر ما كتبه الأستاذ محمد بهجت البيطار في مجلة المنهل السعودية المجلد السابع ربيع الثاني 1366هـ بعنوان: أمهات كتب التفسير القديمة والحديثة ما لها وما عليها.
(3) مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 537.(1/494)
فللخازن مواقف سليمة أمام كثير من الروايات كما ذكرت قبل قليل غير أنه يمر أحيانا على بعض تلك القصص دون أن يكرّ عليها، ولعل من الإنصاف أن نقول:
إن الذي جعل هذه التهمة تشاع حول تفسير الخازن ليشتد أوارها عند أمثال القيسي من المتأخرين هو نتيجة لأحد ثلاثة أمور، أو هي نتيجة لها جميعا وهي:
1) أن التفسير قد حوى حقيقة بعض الإسرائيليات التي وقف الخازن منها موقف سلفيه البغوي والثعلبي ويعلل له من بعض المعجبين أن السير مع الشرع في حكاية الإسرائيليات المسكوت عنه أولى، «بلّغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» (1).
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل. البخاري مع الفتح: 6/ 496. ويرى الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله أن مثل هذه الإسرائيليات وإن جاز أن يتحدث بها فإنه لا يجوز أن تذكر في مقام التفسير للقرآن الكريم، يقول: إن إباحة التحدث عنهم فيما ليس عندنا دليل على صدقه لا كذبه شيء، وذكر ذلك في تفسير القرآن وجعله قولا أو رواية في معنى الآيات أو في تعيين ما لم يعين فيها، أو في تفصيل ما أجمل فيها شيء آخر، لأن في إثبات مثل ذلك بجوار كلام الله ما يوهم أن هذا الذي لا نعرف صدقه ولا كذبه مبين لقول الله سبحانه، ومفصل لما أجمل فيه، وحاشا لله ولكتابه من ذلك وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن بالتحدث عنهم أمرنا أن لا نصدقهم ولا نكذبهم فأي تصديق لرواياتهم وأقاويلهم أقوى من أن نقرنها(1/495)
2) أن الأسلوب البياني لدى الخازن، وسيولة قلمه، وجميل عبارته، إضافة إلى طريقته في إيراد تلك الروايات، جعله وكأنه المتميز في هذا الجانب، مع أن واحدا من المشتغلين بتفسير الخازن وهو الدكتور / قاسم القثردي تتبع ما أورده الخازن من الإسرائيليات في سورتي الفاتحة والبقرة فلم يجده زاد رواية واحدة على إمام المفسرين ابن جرير الطبري (1).
أضف إلى هذا ما عند الخازن من التصوف، والقوم عادة يكثرون من المواعظ والرقائق في كتبهم أو يعرضونها بعبارة مشوقة وهو الثالث من الأسباب.
بقي أن أشير إلى أن لباب التأويل تفسير أثري يصنف مع مثيلاته من كتب المأثور، وأن حجة من صنفه ضمن تفاسير الرأي (2) ربما لاهتمام الخازن بتقرير الأحكام الفقهية.
وقد استهل الخازن تفسيره بمقدمة جاءت في أربع عشرة صفحة من
__________
بكتاب الله، ونضعها منه موضع التفسير أو البيان، اللهم غفرا) رحم الله الشيخ المحقق، وأجزل له الأجر. انظر عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير: 1/ 15.
(1) انظر لباب التأويل بتحقيق الأستاذ قاسم القثردي: 1/ 32.
(2) كما ذهب إليه الأستاذ محمد حسين الذهبي رحمه الله في التفسير والمفسرون:
1/ 310، وقد صنفه غيره مع مدرسة الأثر، انظر: محاضرات في علوم القرآن للأستاذ العتر: 151.(1/496)
القطع المتوسط (1)، تضمنت ثمان موضوعات هي:
الأول: فضل القرآن وتلاوته وتعليمه.
الثاني: وعيد من قال في القرآن برأيه من غير علم.
الثالث: وعيد من أوفى القرآن فنسيه ولم يتعاهده.
الرابع: جمع القرآن.
الخامس: ترتيب القرآن.
السادس: نزول القرآن على سبعة أحرف.
السابع: الحد والمطلع.
الثامن: معنى التفسير والتأويل والفرق بينهما.
أوردها تحت ثلاثة فصول رئيسة، أسبق تلك الفصول تقديما بيّن فيه منهجه وطريقته في التأليف.
وقارئ المقدمة بفصولها المتنوعة يجد أن الخازن قد انتخب في كل موضوع تناوله مجموعة من الآثار والروايات ليؤكد أن الدواعي إلى معرفة هذه الموضوعات والعلوم قوية، وأن الحاجة إليها ماسة لمن أراد الغوص في
__________
(1) من النسخة المعتمدة في البحث وهي طبعة مصطفى البابي الحلبي، ط 2عام 1375 هـ 1955م.(1/497)
دراسة كتاب الله وفهمه على الوجه الصحيح.
هذا وقد اختصر الخازن فاصطلح رموزا لمخرجي الروايات والآثار، فرمز للبخاري مثلا بحرف (خ) ولمسلم (م) ولما اتفقا عليه (ق)، وهكذا لبقية الأئمة. يذكر الرمز قبل الرواية والأثر، وقد يؤخره وفي هذه الحالة يصرح باسمه فيقول: أخرجه الترمذي مثلا.
والخازن لا يقف من هذه الروايات موقف السارد، بل نراه يتدخل من حين لآخر كلما دعت الحاجة، فإن كان في أحد رجال السند مقال قاله، أو ضعف بيّنه ونقل حكم الأئمة عليه.
كما أنه يقف من الغوامض موقف المبين المفسر، يفسر الألفاظ الغامضة، ويبين غريب الحديث، ويشرح العبارة المستعصية ويوضحها، ولا تخلو مقدمته من فوائد انتقاها المصنف من أقوال أهل العلم، واستخلصها من ثنايا مصنفاتهم.
وقد طبعت المقدمة مع التفسير عدة طبعات نذكر منها:
1) طبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، 1375هـ، تلتها طبعتان:
2) طبعة المطبعة التجارية، مصر.
3) طبعة دار الفكر، بيروت 1399هـ وبهامشه تفسير البغوي.
4) المطبعة العامرة، بتركيا، الطبعة الأولى. وغيرها.(1/498)
5) طبع على الآلة الكاتبة، المقدمة وتفسير سورتي الفاتحة والبقرة، بتحقيق الدكتور قاسم القثردي، رسالة دكتوراه في كلية أصول الدين، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة:
بعد أن أثنى المصنف على الله منزّل الكتاب بما هو أهله، وحمده على تواتر نعمائه، وصلى على نبيه الأكرم الذي أرسل بالدين الحق، وأكمل الله به بنيان النبوة حيث أنزل عليه الكتاب المعجز الذي عجز الخلائق عن معارضته مع يسر تلاوته.
ذكر بعدها أغراض القرآن الكريم، وحث على لزوم تعلمه للعمل به، وبين أن ذلك لا يمكن إلا بتعلم علوم القرآن والتفسير، وأشار إلى أن الله جلت قدرته قد قيض لكتابه رجالا موفقين، وبالحق ناطقين، ويسرهم للتصنيف في سائر علوم الدين وذكر منهم صاحب معالم التنزيل الحسن بن مسعود البغوى، الذي أعجب المصنف بتفسيره فحداه هذا الإعجاب إلى اختصار تفسيره، وإظهار محاسنه، مع إضافة ما رآه حسنا من كتب التفسير الأخرى من الفوائد والفرائد.
أتبع ذلك بيان منهجه وطريقته التي سار عليها مع تحليل المصطلحات التي كثر دورانها في متن الكتاب.
ولأنه قد يظن ظان أن عمل المصنف قد اقتصر على اختصار كتاب
سلفه ليس إلا، عمد رحمه الله إلى بيان جهده وعمله، والجديد الذي قدمه، وذلك حين ختم التقديم بذكر ما ينبغي أن لا يخلو منه أي كتاب سبق مصنفه في موضوعه، في إشارة منه إلى استبعاد ذلك الظن من ذهن القارئ، والتأكيد على أن لديه ما هو جديد، وأنه قد أعمل الفكر فاستنبط ما كان معضلا، وجمع المتفرق، وشرح الغامض وأحسن التبويب، وأسقط الحشو والتطويل، وسأل الله التوفيق والقبول، ثم قبل أن يشرع في التفسير قدم المقدمات الثلاثة واعتبرها فصولا، وهي:(1/499)
ولأنه قد يظن ظان أن عمل المصنف قد اقتصر على اختصار كتاب
سلفه ليس إلا، عمد رحمه الله إلى بيان جهده وعمله، والجديد الذي قدمه، وذلك حين ختم التقديم بذكر ما ينبغي أن لا يخلو منه أي كتاب سبق مصنفه في موضوعه، في إشارة منه إلى استبعاد ذلك الظن من ذهن القارئ، والتأكيد على أن لديه ما هو جديد، وأنه قد أعمل الفكر فاستنبط ما كان معضلا، وجمع المتفرق، وشرح الغامض وأحسن التبويب، وأسقط الحشو والتطويل، وسأل الله التوفيق والقبول، ثم قبل أن يشرع في التفسير قدم المقدمات الثلاثة واعتبرها فصولا، وهي:
الفصل الأول: في فضل القرآن وتلاوته وتعليمه:
هذا باب واسع، يذكر المصنفون تحته آثارا وروايات كثيرة، بل يفردونه بالتأليف لأهميته، غير أن الخازن لم يكن من أولئك، وكأنه رأى أن المقام ليس مقام ذلك، فذكر روايات بعدد انتقاها من بين تلك الآثار الكثيرة، وهي روايات مشهورة صحيحة تناولت فضل القرآن وفضل حامله وتعلمه وتعليمه، وتلاوته وقراءته، مع بيان الغامض من الألفاظ، وشرح الغريب منها، وتحليل العبارات وبيان المعنى المراد منها، والتعقيب على ما احتاج منها إلى تعقيب.
الفصل الثاني: في وعيد من قال في القرآن برأيه من غير علم، ووعيد من أوفى القرآن فنسيه ولم يتعاهده:
الذي ذكره المصنف في هذا الفصل موضوعان مختلفان، يجمع بينهما الوعيد الوارد في حقهما وهو الأمر الذي ربما لأجله جمع المصنف بينهما في
حين نجد أن معظم من تناولهما قد فصل بينهما ولم يقرن، وقد نهج الخازن في عرضهما نهجه في الموضوع السابق، فاستهل الفصل بالمروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تبوأ النار لمن قال في القرآن برأيه بغير علم، وأورد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه إحجامه عن تفسير كلام الله برأيه، ثم ذكر اختلاف العلماء في المراد من النهي عن القول في القرآن بالرأي، فذكر أن النهي وارد في حق من يتأول القرآن على مراد نفسه، وما هو تابع لهواه، بعلم، كاحتجاج الباطنية والخوارج ببعض الآيات على تصحيح بدعتهم وهم يعلمون أن المراد غير ذلك أو بغير علم، كتفسير الآية بغير ما تحتمله من الوجوه. وهما قسمان مذمومان داخلان في النهي، والوعيد الوارد هو في حقهما.(1/500)
الذي ذكره المصنف في هذا الفصل موضوعان مختلفان، يجمع بينهما الوعيد الوارد في حقهما وهو الأمر الذي ربما لأجله جمع المصنف بينهما في
حين نجد أن معظم من تناولهما قد فصل بينهما ولم يقرن، وقد نهج الخازن في عرضهما نهجه في الموضوع السابق، فاستهل الفصل بالمروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تبوأ النار لمن قال في القرآن برأيه بغير علم، وأورد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه إحجامه عن تفسير كلام الله برأيه، ثم ذكر اختلاف العلماء في المراد من النهي عن القول في القرآن بالرأي، فذكر أن النهي وارد في حق من يتأول القرآن على مراد نفسه، وما هو تابع لهواه، بعلم، كاحتجاج الباطنية والخوارج ببعض الآيات على تصحيح بدعتهم وهم يعلمون أن المراد غير ذلك أو بغير علم، كتفسير الآية بغير ما تحتمله من الوجوه. وهما قسمان مذمومان داخلان في النهي، والوعيد الوارد هو في حقهما.
أما التأويل على المعنى الذي ورد في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: «اللهم فقّهه في الدين وعلمه التأويل»، فجائز.
بعد هذا انتقل المصنف إلى الحديث عن الشطر الآخر من عنوان الفصل وهو تعهد القرآن وعدم نسيانه، فأورد الآثار الواردة في الحث على تعهد كتاب الله وكثرة تلاوته وتكراره خشية نسيانه وتفلته، وفسر الألفاظ الغامضة، وشرح الغريب وبيّن الدلالة.
وختم الفصل بذكر بعض الآثار الواردة في موضوعات أخرى تتعلق بالقرآن الكريم ورد النهي عنها كما ورد النهي عن موضوعات الباب،
فأشار إلى عدم جواز السفر بالقرآن إلى ديار الكفر مخافة أن ينال بسوء، والنهي عن قراءة القرآن للكسب وكذا الجهر به.(1/501)
وختم الفصل بذكر بعض الآثار الواردة في موضوعات أخرى تتعلق بالقرآن الكريم ورد النهي عنها كما ورد النهي عن موضوعات الباب،
فأشار إلى عدم جواز السفر بالقرآن إلى ديار الكفر مخافة أن ينال بسوء، والنهي عن قراءة القرآن للكسب وكذا الجهر به.
الفصل الثالث: في جمع القرآن، وترتيب النزول، وفي كونه نزل على سبعة أحرف:
كما يظهر لنا من العنوان فقد أدرج الخازن تحت هذا الفصل ثلاثة موضوعات في غاية من الأهمية، أطال الحديث عنها نسبيا، وإن كانت تحتاج منه إلى وقفات أطول وأعمق عند تلك النصوص المشكلة، وتحليل أدق للآثار الواردة التي كثرت الأقوال في جلّها وتباينت الاتجاهات بل بقيت إلى يومنا هذا لم نجد لأهل العلم اتفاقا أو شبه اتفاق بخصوصها، وكلها تحتاج إلى القول الفصل.
بدأ المصنف بجمع القرآن فأورد الصحيح الثابت عن زيد بن ثابت رضي الله عنه في تكليف خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجمع القرآن من الرقاق والعسب واللخاف وصدور الرجال، والصحيح الثابت عن أنس رضي الله عنه في حث حذيفة بن اليمان عثمان بن عفان رضي الله عنه على جمع الناس على مصحف واحد خشية الاختلاف في الكتاب، وبذلك أثبت المصنف ما يقرر الجمع ويجوزه.
بعدها شرع رحمه الله في شرح الغريب من ألفاظ الحديث، وما يتعلق به من بيان المعاني، ليبين عقب ذلك أن القرآن كان على هذا التأليف وعلى هذا الجمع زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يترك أمرا جمعه حينذاك إلا لأمر هام هو خشية الاختلاف والاختلاط عند نسخ شيء من التلاوة، فإذا انقضى زمن
النسخ بدأ الجمع حيث وفق الله الخلفاء لذلك.(1/502)
بعدها شرع رحمه الله في شرح الغريب من ألفاظ الحديث، وما يتعلق به من بيان المعاني، ليبين عقب ذلك أن القرآن كان على هذا التأليف وعلى هذا الجمع زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يترك أمرا جمعه حينذاك إلا لأمر هام هو خشية الاختلاف والاختلاط عند نسخ شيء من التلاوة، فإذا انقضى زمن
النسخ بدأ الجمع حيث وفق الله الخلفاء لذلك.
ثم إن سعي الصحابة كان لجمعه في موضع واحد لا لترتيبه، فالترتيب موقوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوقيف من جبريل عليه السلام عن رب العزة والجلال
وتعرض لذكر نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة، ثم إنزاله مفرقا على الرسول صلى الله عليه وسلم مدة الرسالة عند الحاجة، كما ذكر أن ترتيب النزول غير ترتيب المصحف والتلاوة.
ولكون ترتيب التلاوة بين أيدينا اقتصر رحمه الله على ذكر السور مرتبة حسب ترتيب النزول، المكي منها والمدني، مع الإشارة إلى ما اختلف فيه، هل هو مكي أم مدني، وأحال القارئ إلى تفصيل ذلك في مواضعها من الكتاب.
وهكذا أتم الخازن الحديث عن موضوعين من الموضوعات الثلاثة التي عنون لها الفصل.
ولأهمية الموضوع الثالث وهو الذي أشرت إلى اختلاف العلماء فيه إلى حد كبير، موضوع الأحرف السبعة ونزول القرآن على سبعة أوجه، حيث وصلت الأقوال فيه إلى أكثر من خمسة وثلاثين قولا، فقد خص المصنف هذا الموضوع بحديث مستقل فقال:
فصل في كون القرآن نزل على سبعة أحرف وما قيل في ذلك. وبدأ
الحديث بذكر ما اتفق عليه الشيخان من قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع هشام بن حكيم، واختلافهما في قراءة سورة الفرقان، وما ترتب على ذلك من الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره لقراءتهما.(1/503)
فصل في كون القرآن نزل على سبعة أحرف وما قيل في ذلك. وبدأ
الحديث بذكر ما اتفق عليه الشيخان من قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع هشام بن حكيم، واختلافهما في قراءة سورة الفرقان، وما ترتب على ذلك من الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره لقراءتهما.
وبعد أن شرح الألفاظ الغامضة من متن الرواية بين ما دلت عليه الواقعة من حرص الصحابة على حفظ كتاب الله، والاعتناء به، والذب عنه، وذكر اختلاف العلماء في الأحرف، وهل هي للحصر أم للتوسعة والتسهيل؟ وارتضى الرأي الأول ورجحه ثم بين أن الاختلاف واقع أيضا في تحديد الأوجه السبعة، وذكر الأوجه منها في رأيه وهو سبع قراءات، دون أن يبين للقارئ أدلة معتبرة تؤيد ترجيحه، وقد كان ينبغي له بيان ذلك، خاصة إذا علمنا أن ما رجحه هو رأي مرجوح عند كثير من أهل العلم، حتى نقل عن بعضهم قوله: (هو جهل قبيح) (1). فكان ينبغي على من تبنى مثل هذا الرأي أن يقدم أدلة معتبرة يعضد بها رأيه، ويرد على المخالفين ويفند حججهم. كما كان عليه أن يرد الأقوال الأخرى التي يراها الآخرون راجحة بأدلة دامغة، وبذلك يكون قد انتصر لاختياره، وهو ما لم يفعله عفا الله عنه، خلا ردود ضعيفة لا ترقى إلى مستوى أدلة المخالفين، ناهيك عن إبطالها.
وقبل أن يختم الفصل ذكر المزيد من الأدلة على نزول القرآن على
__________
(1) نقل السيوطي في الإتقان عن الشرف المزني قوله: ظن كثير من العوام أن المراد بها القراءات السبعة، وهو جهل قبيح، الإتقان للسيوطي: 1/ 51.(1/504)
سبعة أحرف، وكعادته شرح الغريب، ثم أوضح معنى الحد والمطلع، والظاهر والباطن الواردة في بعض الآثار، وكان الختام بيان معنى التفسير والتأويل، وهو الموضوع الذي درج عليه أغلب المفسرين إذ لا تكاد تجد تفسيرا إلا وبحث هذا الموضوع. ذكر معنى التفسير في اللغة وكذا معنى التأويل، والفرق بينهما ليقرر أن التفسير هو ما توقف على النقل المسموع، والتأويل ما توقف على الفهم الصحيح (1). والله أعلم.
رابعا: منهج الخازن في مقدمته:
عرض الخازن في مقدمته منهجه وطريقته في تفسيره بعبارة سهلة موجزة، كفى القارئ مؤنة البحث، وحدد معالم منهجه حين ذكر أنه لم يجعل لنفسه تصرفا في الإضافة إلى الأصل وهو كتاب البغوي سوى النقل والانتخاب، مجتنبا حد التطويل والإسهاب، مجتهدا في تصحيح الآثار التي أخرجها من الكتب المعتبرة، مع حذف الأسانيد خشية الإطالة، واستبدال شرح غريب الحديث بها، بعبارة بليغة موجزة مع الترتيب والتسهيل والتقريب.
هذا بالنسبة إلى تفسيره، ولكون المقدمة من التفسير لا شك أن المنهج فيها تبع للأصل، وأول ما يبدو لنا من منهجه في المقدمة، الفصول الثلاثة التي قدمها بين يدي تفسيره، وهي موضوعات تطرق البغوي إلى أصولها،
__________
(1) حول التفسير والتأويل يراجع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 5/ 35.(1/505)
وتحدث عنها حديثا عابرا، غير أن الخازن وضع الرحل عندها، فأجاد في العرض كما أجاد في السبر والتقسيم، وإن كان من حق هذه الموضوعات أن تفصل أكثر من تفصيله.
فما فصله البغوي أدمجه الخازن وضم بعضه إلى بعض، ورآه موضوعا واحدا، حيث أفرد البغوي فضائل القرآن وتعليمه بفصل مستقل، وفضائل تلاوة قراءة القرآن، بفصل آخر. رآهما الخازن موضوعا واحدا عرضهما وعنون لهما ب (فضل القرآن وتلاوته وتعليمه).
وما أدمجه البغوي من الموضوعات رأى الخازن أن من حقها أن تفصل، ففصل بينها، وأفرد كل موضوع بعنوان مستقل، فقد ذكر البغوي فصلا (في وعيد من قال في القرآن برأيه من غير علم)، وأدرج تحت هذه التسمية معى التفسير والتأويل، وموضوع نزول القرآن على سبعة أحرف، وموضوع الحد والمطلع، وموضوع الظهر والبطن، إضافة إلى ما دل عليه عنوان الفصل، وهو الوعيد الوارد في حق من يقول في القرآن برأيه.
لم يفصل البغوي القول في تلك الموضوعات، بل عرج عليها مرورا ولم يقف عندها وقفة تأمل، وكان من حقها هي الأخرى أن تفصّل، وهو ما عمد الخازن رحمه الله الى عمله، فأضاف ما رآه مناسبا للمقام متوخيا الاختصار والدقة، فذكر فصلان:
الأول: في وعيد من قال في القرآن برأيه من غير علم، ووعيد من أوفى القرآن فنسيه ولم يتعاهده.(1/506)
الثاني: في جمع القرآن وترتيب النزول وفي كونه نزل على سبعة أحرف:
ومع اعترافنا أن الخازن قد جمع في هذين الفصلين بين موضوعات كان من حقها الفصل وعرضها منفصلا، إلا أنه كان أكثر توفيقا من البغوي، وأجود عرضا، وأكثر عمقا، وأفضل ترتيبا، لقد أضاف رحمه الله إضافات كان من حقها الإضافة لأهميتها، كالحديث عن جمع القرآن وترتيب النزول.
وهكذا يلاحظ القارئ أن الخازن رحمه الله رأى أنه لا بد من إدخال عناصر جديدة لمقدمة سلفه ليكتمل العقد الذي أراده، فأدخل جملة من الفوائد التي لا يعدم الفطن الوقوف عليها، وعلى خدمتها للنص والموضوع.
وطريقة الخازن في الفصول الثلاثة من المقدمة مطردة لم تختل، يبدأ بذكر جملة من الآثار الواردة في موضوع الباب رامزا إلى مخرج كل رواية في أوله، وقليلا ما يؤخره فيصرح به عند الانتهاء من ذكرها (1)، ثم الصحابي الذي رواه، متبعا ذلك ذكر زيادات في روايات أخرى تخدم الفكرة التي هو بصدد بيانها (2)، والتزاما منه بمنهجه الذي تعهده، فإنه لا يتوانى عن شرح
__________
(1) ينظر مثال تأخير مخرج الرواية: 1/ 6.
(2) مثاله الفصل الثالث من المقدمة: 1/ 8والفصل الأول: 1/ 4.(1/507)
غريب الحديث والألفاظ المبهمة والغامضة مع بيان معانيها ودلالتها في الغالب، يقول بعد ذكر الرواية: (قوله). ثم يذكر الكلمة أو الجملة التي يريد بيانها وتوضيحها (1) وقليلا ما يصرح فيقول: شرح غريب ألفاظ الحديث وما يتعلق به (2).
فإن كان بين العلماء خلاف في دلالة لفظة أو توجيه شيء من متن الأثر، فإن الخازن رحمه الله يذكر الخلاف، ويبين موقفه منه (3). كما أنه ينقل حكم الأئمة على بعض الروايات مع التعقيب على سندها إن كان في أحد رجالها مقال (4).
بقي أن أشير الى أن المصنف رحمه الله يقدم لقارئه عند إيراد الأحاديث والآثار ما تسمح به قريحته من الفوائد التي يستنبطها من تلك الآثار المستشهد بها (5).
كما أنه يذكر مصدره الذي استقى منه المعلومة (6)، وقد يكتفي بقوله:
__________
(1) ينظر في ذلك أغلب أبواب المقدمة.
(2) ينظر المقدمة: 1/ 8.
(3) ينظر مثاله، المقدمة: 1/ 12وما بعده.
(4) ينظر مثاله المقدمة: 1/ 65.
(5) ينظر مثاله المقدمة: 1/ 12.
(6) ينظر مثاله المقدمة: 1/ 12.(1/508)
قال العلماء (1).
خامسا: بيان مدى التزام المصنف في تفسيره بما ذكره في مقدمته:
سبق القول بأن الخازن قد وضع أسس منهجه، وما ألزم به نفسه في مقدمته، ويتخلص ذلك في النقاط التالية:
1) أنه حوى خلاصة منقول البغوي ونكته وأصوله. وهو أمر التزمه المصنف، فهو يورد ما للبغوي ثم إن رأى أن يضيف شيئا أضاف، ولم أقف على آية وللبغوي فيه كلام إلا وقد نقله الخازن سواء بنصه أو بمعناه (2).
2) إضافة فوائد وفرائد نقلها الخازن ولخصها من كتب أخرى. والتزم ذلك المصنف كثيرا (3).
3) اجتناب التطويل والإسهاب وهذا الأمر لم يلتزمه الخازن، فهو وإن حاول الاختصار في الغالب (4)، إلا أنه وقع في الإطالة، وأسهب في القول في مواضع عديدة (5).
__________
(1) ينظر مثاله المقدمة: 1/ 126.
(2) انظر أمثلة ذلك: 1/ 380324245وغير ذلك من المواضع الكثيرة في تفسيره.
(3) انظر أمثلة ذلك: 1/ 622485284.
(4) انظر أمثلة الاختصار: 1/ 392353367195.
(5) انظر أمثلة ذلك: 1/ 589403402398395.(1/509)
4) حذف أسانيد الأحاديث والآثار التي استشهد بها البغوي وعزوها إلى مخرجيها، وبيان اسم ناقلها، والتعويض عن حذف الأسانيد بشرح غريب الحديث. وقد التزم المصنف هذه الشروط، فحذف الأسانيد واكتفى بذكر الراوي والإشارة إلى من خرج الرواية (1)، كما شرح الغريب (2).
5) حسن الترتيب، مع التسهيل والتقريب. وهذا الأمر أيضا ملاحظ في تفسير الخازن، فترتيبه أفضل من ترتيب البغوي في كثير من المواطن (3).
سادسا: مصادر المؤلف في مقدمته:
المصادر التي صرح الخازن بها في مقدمته، وعزا ما نقله إليها هي مصادره في السنة والأثر، وهي تلك المصادر التي ذكر بعضا منها في تقديمه حين عرض منهجه، عدا ذلك من المصادر لم يذكرها المصنف في المقدمة اللهم باستثناء مصدر لغوي واحد هو الخصائص لابن جني (4).
والذي يستعرض المقدمة يجد أن المصنف لم يترك أثرا أورده إلا وعزاه
__________
(1) انظر أمثلة ذلك: 1/ 525485338291266173.
(2) انظر أمثلة ذلك: 1/ 522229.
(3) انظر أمثلة ذلك: 1/ 567539533479.
(4) ينظر مثاله في المقدمة: 1/ 9.(1/510)
إلى مخرجه، معللا ذلك بقوله: ليهون على الطالب طلبه (1).
هذا بالنسبة للروايات أما النقول الأخرى كشرح غريب الحديث، وبيان المعاني والاختلافات في توجيه بعض الروايات فإن المصنف قلما يذكر مصدره.
ومن أهم مصادر الخازن في مقدمته:
1) صحيحا البخاري ومسلم، ينقل عنهما مفردا كما يجمعهما رامزا لهما ب (ق) رمز الاتفاق على رواية الأثر، وهو كثير (2).
2) سنن الترمذي، وقد أكثر المصنف النقل عنه (3) كما اعتمد حكمه على الروايات، وقد يقرن الترمذي بأبي داود (4).
3) سنن أبي داود (5).
ومن مصادره البغوي فيما يرويه بسنده (6)، وابن عبد البر (7)، وأبي عبيد (8)، والقاضي
__________
(1) ينظر المقدمة: 1/ 3.
(2) ينظر أمثلته في المقدمة: 1/ 1311987654.
(3) ينظر أمثلته في المقدمة: 1/ 754.
(4) ينظر أمثلته في المقدمة: 1/ 76.
(5) ينظر أمثلته في المقدمة: 1/ 76.
(6) انظر المقدمة: 1/ 13.
(7) انظر المقدمة: 1/ 9.
(8) انظر المقدمة: 1/ 121.
عياض (1).(1/511)
عياض (1).
سابعا: أهم مزايا مقدمة الخازن:
1 - التزام المصنف بالمنهج الذي ذكره إلى درجة كبيرة.
2 - حسن السبر والتقسيم للأنواع، والمسائل التي تعرض لها.
3 - عزو الآثار إلى مخرجيها، وبيان حكم الأئمة عليها.
4 - الاختصار في ذكر الأدلة، والاقتصار على الصحيح الثابت منها في الغالب.
5 - التفصيل في المسائل التي أجملها البغوي وهي مهمة كالأحرف السبعة.
ثامنا: أظهر المآخذ:
1 - إدراج المصنف بعض الموضوعات في الفصل الثاني، والعنوان لا يشمله، كحديثه عن الكسب بالقرآن أو السفر به إلى بلاد الكفر.
2 - رغم أن المصنف قد فصل في بعض الموضوعات إلا أنها جاءت
__________
(1) لعله من كتابه: الإكمال بشرح مسلم، فالمصنف نقل قول القاضي في بيان معنى حديث رواه مسلم «ضرب في صدري ففضت عرقا» انظر المقدمة: 1/ 13.(1/512)
دون تحقيق المراد، كالأحرف السبعة، لقد كان من حق هذا الموضوع المشكل أن يعالج معالجة موضوعية جادة، ما دام المصنف لم يرتض حديث سلفه ورأى أنه قد قصر في هذا الجانب، فكان المأمول منه الإلمام والشمول في المعالجة، وهو ما لم نجده.
3 - عدم ذكر كثير من الموضوعات الهامة والتي تذكر عادة في المقدمات كتلك التي تخدم المفسر والقارئ.
هذا ما عرفته عن مقدمة الخازن ودونته، أرجو الله أن أكون مصيبا في القول، وأسأله المغفرة من الخطأ.(1/513)
المحتويات(1/515)
المقدمة 5
أهمية مقدمات التفاسير 16
التمهيد: 19
أتعريف المقدمة: 19
ب نشأة مقدمات التفاسير 22
الباب الأول علوم القرآن دراسة تاريخية 25
الفصل الأول تعريف عام بعلوم القرآن ونشأته 26
المبحث الأول: علوم القرآن بالمعنى اللغوي 27
المبحث الثاني: علوم القرآن بالمعنى الاصطلاحي 43
دخول علم التفسير في الاصطلاح 49
الفرق بين علوم القرآن وأصول التفسير 52
المبحث الثالث نشأة علوم القرآن 56
تقديم 56
أالكتابة في الجزيرة العربية قبل البعثة 57
ب الكتابة في الإسلام 61
ج ما الذي كتبه الصحابة 77
1) الوحي 77
2) حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم 78
3) تفسير القرآن الكريم وما يتعلق به: 89
4) الرسائل والعقود والوثائق: 90
الكتابة والتدوين والتصنيف: 111
ظهور مصطلح علوم القرآن: 116
الفرق بين استعمال المتقدمين واستعمال المتأخرين: 127(1/517)
أول من صنف في علوم القرآن: 132
أولا: أولى المصنفات الموضوعية: 132
1 - الناسخ والمنسوخ: 133
2 - المصاحف والقراءات القرآنية وعد الآي: 135
3 - إعراب القرآن: 139
4 - غريب القرآن: 140
5 - مجاز القرآن: 142
6 - نزول القرآن: 143
7 - معاني القرآن: 143
8 - المحكم والمتشابه: 144
ثانيا: أولى التفاسير التي لها مقدمات: 144
ثالثا: أولى الموسوعات في علوم القرآن: 146
الفصل الثاني: التأليف في علوم القرآن 165
تمهيد 167
المرحلة الأولى: من القرن الأول إلى نهاية القرن الرابع الهجري: 168
أولا: المصنفات الموضوعية: 170
أعلم التفسير: 170
ب علم معاني القرآن: 173
ج علم إعراب القرآن: 175
د علم غريب القرآن: 177
هـ علم الناسخ والمنسوخ: 180
وعلم المحكم والمتشابه: 187(1/518)
ز علم فضائل القرآن والقراءات القرآنية وعد الآي: 188
ثانيا: المؤلفات الموسوعية: 196
ثالثا: مقدمات التفاسير: 196
المرحلة الثانية: من نهاية القرن الرابع إلى بداية القرن العاشر: 197
أولا: المؤلفات الموسوعية: 199
ثانيا: مقدمات التفاسير: 203
ثالثا: المؤلفات الموضوعية: 205
أأسباب النزول: 205
ب إعجاز القرآن: 206
ج إعراب القرآن: 209
د أمثال القرآن: 213
هـ غريب القرآن: 214
والقراءات القرآنية: 215
ز مبهمات القرآن: 217
ح المحكم والمتشابه: 218
ط مناسبات القرآن: 222
ي الناسخ والمنسوخ: 223
ك الوجوه والأشباه والنظائر: 228
المرحلة الثالثة: من بداية القرن العاشر إلى العصر الحديث: 230
أولا: المؤلفات الموسوعية 237
ثانيا: المؤلفات الموضوعية 241
الباب الثاني: مقدمات التفاسير 255(1/519)
1 - تفسير القرآن العزيز لعبد الرزاق الصنعاني 257
أولا: التعريف بالمؤلف 252
شيوخه وتلاميذه 253
مؤلفاته 254
وفاته 255
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة 255
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة 258
رابعا: منهج عبد الرزاق في مقدمته 259
2 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري 265
أولا: التعريف بالمؤلف 260
تهمة وتحقيق 264
شيوخه وتلامذته 266
مصنفاته 267
وفاته 269
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة 271
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة 277
1 - القول في البيان عن اتفاق معاني آي القرآن، ومعاني منطق من نزل بلسانه القرآن من وجه البيان 278
2 - القول في البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم 279
3 - القول في اللغة التي نزل بها القرآن من لغات العرب 280(1/520)
4 - معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم أنزل القرآن من «سبعة أبواب الجنة وذكر الأخبار الواردة في ذلك 283
5 - القول في الوجوه التي من قبلها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن 285
6 - ذكر بعض الأخبار التي رويت بالنهي عن القول في تأويل القرآن بالرأي 286
7 - ذكر الأخبار التي رويت في الحض على العلم بتفسير القرآن ومن كان يفسره من الصحابة 286
8 - ذكر الأخبار التي غلط في تأويلها منكر والقول في القرآن 288
9 - ذكر الأخبار عن بعض السلف فيمن كان من قدماء المفسرين محمودا علمه بالتفسير، ومن كان منهم مذموما علمه به: 288
10 - القول في تأويل أسماء القرآن وسوره وآية: 290
رابعا: منهج ابن جرير في مقدمته: 290
خامسا: مصادر المؤلف: 295
سادسا: أهم مزايا مقدمة ابن جرير: 295
سابعا: أظهر المآخذ على المقدمة: 296
3 - تفسير القرآن العظيم لأبي الليث السمرقندي 297
أولا: التعريف بالمؤلف: 297
وفاته: 301
شيوخه وتلاميذه 303
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة: 301
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة: 305
4 - النكت والعيون في تأويل القرآن الكريم لابن حبيب المارودي 307(1/521)
أولا: التعريف بالمؤلف: 307
شيوخه وتلاميذه: 311
مؤلفاته: 313
وفاته: 313
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة: 314
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة: 319
رابعا: منهج الماوردي في مقدمته: 325
خامسا: مدى التزام المصنف في تفسيره بما ذكره في مقدمته: 327
سادسا: مصادر الماوردي في مقدمته: 328
سابعا: أهم مزايا مقدمة الماوردي: 329
ثامنا: أهم المآخذ على المقدمة: 330
5 - الوسيط في تفسير القرآن المجيد لأبي الحسن الواحدي 331
أولا: التعريف بالمؤلف: 331
شيوخه 331
تلاميذه 331
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة: 336
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة: 337
رابعا: منهج الواحدي في تفسيره: 339
خامسا: بيان مدى التزام المصنف في تفسيره بما ذكره في مقدمته: 339
سادسا: مصادره: 339
سابعا: أهم الميزات وأظهر المآخذ: 340
6 - معالم التنزيل لأبي محمد البغوي 341(1/522)
أولا: التعريف بالمؤلف: 341
عقيدته: 343
شيوخه وتلاميذه: 345
مؤلفاته: 346
وفاته: 347
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة: 348
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة: 353
الفصل الأول: فصل في فضائل القرآن وتعليمه: 354
الفصل الثاني: فصل في فضائل تلاوة القرآن: 354
الفصل الثالث: فصل في وعيد من قال في القرآن برأيه من غير علم: 355
رابعا: منهج البغوي في مقدمته: 355
خامسا: بيان مدى التزام البغوي في تفسيره بما ذكره في مقدمته: 356
سادسا: مصادر البغوي في مقدمته: 3583
سابعا: مزايا المقدمة والمآخذ عليها: 358
7 - المحرر الوجيز في تفسير كتاب الله العزيز لابن عطية الأندلسي 360
أولا: التعريف بالمؤلف: 360
مكانته العلمية: 363
شيوخه وتلاميذه: 365
مؤلفاته: 367
وفاته: 368
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة: 369
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة: 377(1/523)
الباب الأول: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة ونبهاء العلماء رضي الله عنهم في فضل القرآن المجيد وصورة الاعتصام به 378
الباب الثاني: في فضل تفسير القرآن، والكلام على لغته، والنظر في إعرابه ودقائق معانيه 378
الباب الثالث: ما قيل في الكلام في تفسير القرآن، والجرأة عليه، ومراتب المفسرين 378
الباب الرابع: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه» 380
الباب الخامس: ذكر جمع القرآن، وشكله، ونقطه، وتحزيبه، وتعشيره 382
الباب السادس: في ذكر الألفاظ التي في كتاب الله وللغات العجم بها تعلق 383
الباب السابع: نبذة مما قال العلماء في إعجاز القرآن 384
الباب الثامن: في الألفاظ التي يقتضي الإيجاز استعمالها في تفسير كتاب الله تعالى 386
الباب التاسع: في تفسير أسماء القرآن، وذكر السورة والآية 386
رابعا: منهج ابن عطية في مقدمته: 387
خامسا: بيان مدى التزام المصنف في تفسيره بما ذكره في مقدمته: 389
سادسا: مصادر المؤلف في مقدمته: 390
سابعا: أهم مزايا المقدمة: 485
ثامنا: أظهر المآخذ على المقدمة: 386
8 - زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 387
أولا: التعريف بالمؤلف: 387(1/524)
شيوخه وتلامذته: 266
مؤلفاته: 313
وفاته: 313
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة: 314
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة: 319
رابعا: منهج ابن الجوزي في مقدمته: 404
خامسا: بيان مدى التزام المصنف في تفسيره بما ذكره في مقدمته: 404
سادسا: مصادره في المقدمة: 405
سابعا: أهم المميزات وأظهر المآخذ: 406
9 - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 408
أولا: التعريف بالمؤلف: 408
شيوخه وتلاميذه: 409
تصانيفه ومؤلفاته: 412
ومن مؤلفاته: 412
وفاته: 413
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة: 414
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة: 418
باب: ذكر جمل من فضائل القرآن، والترغيب فيه، وفضل طالبه، وقارئه ومستمعه والعامل به: 418
باب: كيفية التلاوة لكتاب الله تعالى، وما يكره منها وما يحرم، واختلاف الناس في ذلك: 419
باب: تحذير أهل القرآن من الرياء وغيره: 423(1/525)
باب: ما ينبغي لصاحب القرآن أن يأخذ نفسه به، ولا يغفل عنه: 424
باب: ما جاء في إعراب القرآن وتعليمه والحث عليه، وثواب من قرأ القرآن معربا: 425
باب: ما جاء في فضل تفسير القرآن وأهله: 426
باب: ما جاء في حامل القرآن، ومن هو، وفيمن عاداه: 426
باب: ما يلزم قارئ القرآن وحامله من تعظيم القرآن وحرمته: 427
باب: ما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرأي، والجرأة على ذلك، ومراتب المفسرين: 428
باب: تبين الكتاب بالسنة، وما جاء فيه: 430
باب: بيان كيفية التعلم والفقه لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما جاء أنه سهل على من تقدم العمل به دون حفظه: 432
باب: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه»: 432
باب: ذكر جمع القرآن، وسبب كتب عثمان المصاحف وإحراقه ما سواها، وذكر من حفظ القرآن من الصحابة رضي الله عنهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: 434
باب: ما جاء في ترتيب سور القرآن، وآياته، وشكله، ونقطه، وتحزيبه، وتعشيره، وعدد حروفه، وأجزائه، وكلماته، وآية: 437
باب: ذكر معنى السورة، والآية، والكلمة، والحرف: 438
باب: هل ورد في القرآن كلمة خارجة عن لغات العرب أو لا؟ 438
باب: ذكر نكت من إعجاز القرآن، وشرائط المعجزة وحقيقتها: 439(1/526)
باب: التنبيه على أحاديث وضعت في فضل سور القرآن وغيره: 441
باب: ما جاء من الحجة في الرد على من طعن في القرآن، وخالف مصحف عثمان بالزيادة والنقصان: 442
رابعا: منهج القرطبي في مقدمته: 445
خامسا: بيان مدى التزام المصنف في تفسيره بما ذكره في مقدمته: 450
سادسا: مصادر المؤلف في مقدمته: 452
سابعا: أهم مزايا مقدمة القرطبي: 456
ثامنا: أظهر المآخذ: 486
10 - تسهيل السبيل لعلوم التنزيل لابن جزي الكلبي 465
أولا: التعريف بالمؤلف: 488
مكانته العلمية: 363
شيوخه وتلامذته: 396
مؤلفاته: 398
ومن مؤلفات المصنف: 463
وفاته: 464
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة: 465
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة: 469
المقدمة الأولى: 470
الباب الأول: نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم: 470
الباب الثاني: في السورة المكية والمدنية: 471
الباب الثالث: في المعاني والعلوم التي تضمنت القرآن: 472
الباب الرابع: في فنون العلم التي تتعلق بالقرآن: 473(1/527)
الباب الخامس: في أسباب الخلاف بين المفسرين، والوجوه التي يرجح بها أقوالهم 486
الباب السادس: في ذكر المفسرين 476
الباب السابع: في الناسخ والمنسوخ: 477
الباب الثامن: في جوامع القراءة: 477
الباب التاسع: في الوقف: 477
الباب العاشر: في الفصاحة والبلاغة وأدوات البيان: 478
الباب الحادي عشر: في إعجاز القرآن وإقامة الدليل على أنه من عند الله عز وجل: 487
الباب الثاني عشر: في فضل القرآن: 488
المقدمة الثانية: في تفسير معاني اللغات 488
رابعا: منهج ابن جزي في مقدمته: 489
خامسا: بيان مدى التزام المصنف في تفسيره بما ذكره في مقدمته: 490
سادسا: مصادر المصنف في مقدمته: 484
سابعا: أهم مزايا المقدمة: 485
ثامنا: أظهر المآخذ: 486
11 - لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 488
أولا: التعريف بالمؤلف: 488
شيوخه وتلاميذه: 489
مؤلفاته: 491
وفاته: 492
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة: 492(1/528)
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة: 499
الفصل الأول: في فضل القرآن وتلاوته وتعليمه: 500
الفصل الثاني: في وعيد من قال في القرآن برأيه من غير علم، ووعيد من أوفى القرآن فنسيه ولم يتعاهده: 500
الفصل الثالث: في جمع القرآن، وترتيب النزول، وفي كونه نزل على سبعة أحرف: 502
رابعا: منهج الخازن في مقدمته: 505
خامسا: بيان مدى التزام المصنف في تفسيره بما ذكره في مقدمته: 509
سادسا: مصادر المؤلف في مقدمته: 510
سابعا: أهم مزايا مقدمة الخازن: 512
ثامنا: أظهر المآخذ: 512(1/529)
الجزء الثانى
تتمة الباب الثانى
12 - البحر المحيط في التفسير
لأبي عبد الله محمد بن يوسف بن علي بن حيان الغرناطي الشهير بأبي حيان الأندلسي المتوفى سنة 745هـ
أولا: التعريف بالمؤلف:
مؤلف البحر المحيط هو الإمام أبو عبد الله أثير الدين محمد بن يوسف بن علي بن حيان الغرناطي الجياني النفزي (1) الشهير بأبي حيان المولود سنة (654) (2).
تلقى أبو حيان البدايات في الكتاتيب وحلقات التعليم في دياره ثم التقى الشيوخ وارتحل بعد أن عرف قدر العلم وفضل أهله، فانتقل من بلد إلى آخر، ومن عالم إلى آخر، يختار الأجلاء، وينتقي الفضلاء، وكان ذلك في وقت مبكر كما يصرح بذلك المصنف نفسه، حين يقول: (وما زلت من لدن ميزت أتلمذ للعلماء، وأنحاز للفهماء، وأرغب في مجالسهم، وأنافس في نفائسهم، وأسلك طريقهم، وأتبع فريقهم، فلا أنتقل إلا من إمام إلى إمام،
__________
(1) الجياني، نسبة إلى جيان بالفتح ثم التشديد، مدينة بالأندلس. معجم البلدان لياقوت:
2/ 195والنفزي، نسبة إلى نفزة بكسر النون وسكون الفاء قبيلة من البربر. انظر:
طبقات المفسرين للداودي: 2/ 287وشذرات الذهب لابن العماد: 6/ 145.
(2) انظر: نفح الطيب للمقري: 3/ 288والدرر الكامنة لابن حجر: 4/ 302وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 287وشذرات الذهب لابن العماد: 6/ 145.(2/5)
ولا أتوقّل إلا ذروة علّام). (1)
وهكذا جمع من العلم ما حواه صدور شيوخه وأودعها صدره، وإن لقي في ذلك التعب والنصب (فكم صدر أودعت علمه صدري، وحبر أفنيت في فوائده حبري، وإمام أكثرت به الإلمام، وعلّام أطلت معه الاستعلام إلى أن يقول: فجعلت العلم بالنهار سحيري، وبالليل سميري، أتوسد أبواب العلماء، وأتقصّد أماثل الفهماء، وأسهر في حنادس الظلام، وأصبر على شظف الأيام وأؤثر العلم على الأهل والمال والولد، وأرتحل من بلد إلى بلد، حتى ألقيت بمصر عصا التسيار، وقلت: ما عبادان من دار. (2)
يقول الصفدي (3): لم أر في أشياخي أكثر اشتغالا منه، لأني لم أره إلا
__________
(1) انظر: البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 11، ويقال: توقّلا: صعد، قال ابن فارس: الواو والقاف واللام كلمة تدل على علو في جبل، وتوقل في الجبل: علا، وكل صاعد في شيء متوقّل. انظر: أساس البلاغة للزمخشري (وقل): 686ومعجم مقاييس اللغة (وقل):
6/ 130والقاموس المحيط (وقل): 1380وعلّام: مبالغة في الوصف بالعلم.
(2) المصدر السابق: 1/ 11.
(3) هو خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي، أديب مؤرخ مهتم بالتراجم، رسام خطاط، كتب كثيرا، له الوافي بالوفيات وغيره. توفي (764هـ). انظر: الدرر الكامنة لابن حجر:
2/ 87والأعلام للزركلي: 2/ 315.(2/6)
يسمع أو يشتغل أو يكتب، ولم أره على غير ذلك. (1)
ارتحل من دياره (غرناطة) حين وقعت بينه وبين شيخه أبي جعفر بن الزبير واقعة، فنال أبو حيان منه، وتصدى للتأليف في الرد عليه وتكذيب روايته، فرفع أمره إلى السلطان، وأمر بإحضاره والتنكيل به، فاختفى وركب البحر ولحق بالمشرق. (2)
أجمع المترجمون له على إمامته في فنون عديدة، فهو أستاذ المفسرين وشيخ النحاة بالديار المصرية، والإمام المطلق في النحو والصرف، خدم هذا الفن أكثر عمره، حتى صار لا يدركه أحد، وله اليد الطولى في التفسير والحديث الذي واكب على طلبه حتى أتقنه، وغدا شيخ المحدثين بالمدرسة المنصورية، وشرع في القراءات والأدب والتاريخ والتراجم، واشتهر اسمه وطار صيته، وكان رحمه الله شافعيا في الفروع، سالم العقيدة من البدع الفلسفية والاعتزال والتجسيم، يميل إلى مذهب أهل الظاهر، كبير الخشوع عند قراءة القرآن. (3)
نعته الصفدي بقوله: الإمام العالم العلامة الفريد الكامل، حجة
__________
(1) انظر: الوافي بالوفيات للصفدي: 5/ 267.
(2) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 288وشذرات الذهب لابن عماد: 6/ 146.
(3) انظر: نفح الطيب للمقري: 3/ 295والدرر الكامنة لابن حجر: 4/ 302وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 287وشذرات الذهب لابن العماد: 6/ 145.(2/7)
العرب، مالك أزمّة الأدب. (1)
وقال لسان الدين الخطيب: كان نسيج وحده في ثقوب الذهن وصحة الإدراك بعلم العربية، والاضطلاع بعلم العربية والتفسير وطريق الرواية، إمام النحاة في زمانه غير مدافع. (2)
شيوخه وتلاميذه:
سبقت الإشارة أن أبا حيان تنقل من شيخ إلى شيخ، وارتحل من قطر لآخر، فلقي العلماء، وانتقى الفهماء وقال عن شيوخه: وعدة من أخذت عنهم أربعمائة وخمسون شخصا، وأما من أجازني فكثير جدا. (3)
وذكر الرعيني (4) أن أبا حيان قال: سمعت بغرناطة ومالقة وبلش والمرية وبجاية وتونس والإسكندرية ومصر والقاهرة ودمياط والمحلة
ووفصل من لقي في كل بلد، ثم قال: وهذه نبذة من شيوخي، وجملة من
__________
(1) انظر: الوافي بالوفيات للصفدي: 5/ 267ونفح الطيب للمقري: 3/ 289.
(2) انظر: الإحاطة في أخبار غرناطة للخطيب: 3/ 43.
(3) انظر: نفح الطيب للمقري: 3/ 305والدرر الكامنة لابن حجر: 4/ 302 وشذرات الذهب لابن العماد: 6/ 145.
(4) هو أحمد بن يوسف بن مالك الرعيني الغرناطي، نحوي حسن الخلق حلو المحاضرة، له اقتطاف الأزهار والتقاط الجواهر، توفي (730هـ). انظر: غاية النهاية لابن الجزري:
1/ 151وشذرات الذهب لابن العماد: 6/ 260.(2/8)
سمعت منهم نحو خمسمائة، والمجيزون أكثر من ألف. (1)
وقد فصل الصفدي في كتابه الوافي بالوفيات (2) الحديث عن شيوخ أبي حيان، كما ذكر أبو حيان نفسه ثلة منهم في الخطبة التي قدمها بين يدي تفسيره البحر المحيط (3)، ونقل المقري نصا طويلا عن الصفدي في ذلك. (4)
ومن شيوخه:
أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص ت (679هـ) (5)
وأبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي ت (705هـ) (6)، وغيرهم
__________
(1) انظره: نفح الطيب للمقري: 3/ 315.
(2) انظره: 5/ 266.
(3) انظر: البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 15وما بعده.
(4) انظر: نفح الطيب للمقري: 3/ 289.
(5) هو الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي، والمعروف بابن الناظر، قاض حافظ نحوي من فقهاء المحدثين القراء النحاة الأدباء، له شرح المستصفى، توفي (679هـ). انظر: غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري:
1/ 242وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 153.
(6) هو عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن شرف الدمياطي، مقرئ محدث نسابة إخباري، اشتهر بحفظه وإتقانه، له مصنفات نفيسة منها السيرة النبوية، توفي (705هـ).
انظر: غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 472وشذرات الذهب لابن العماد: 6/ 12.(2/9)
كثير. (1)
وأقرأ أبو حيان الناس، وألحق الصغار بالكبار، وصارت تلامذته أئمة وشيوخا في حياته، واشتهر اسمه، وطار صيته، وأخذ عنه أكابر عصره، وتقدموا في حياته، وقد كان يرحمه الله يختار الأذكياء من طلابه ويوليهم عناية خاصة، ويعظمهم وينوه بقدرهم.
ومن جملة تلامذته: الشيخ تقي الدين علي بن عبد الكافي بن تمام السبكي ت (756) (2)، وأحمد بن يوسف بن عبد الدائم الحلبي المعروف بالسمين ت (756هـ) وخلائق لا يحصون كثرة (3).
مؤلفاته:
مؤلفات أبي حيان كثيرة، انتشرت في حياته وبعد مماته، يقول الحافظ ابن حجر: له التصانيف التي سارت في آفاق الأرض واشتهرت في حياته. (4)
__________
(1) انظر: نفح الطيب للمقري: 3/ 307289والدرر الكامنة لابن حجر: 3/ 302 وشذرات الذهب لابن العماد: 6/ 145.
(2) هو تقي الدين علي بن عبد الكافي بن علي السبكي الشافعي، مفسر أصولي حافظ لغوي نحوي مقرئ نظار، أخذ عنه كثيرون، له نحو مائة وخمسين كتابا مطولا، توفي (756هـ). انظر: غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري: 1/ 551وشذرات لابن العماد: 6/ 180.
(3) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 2/ 288وشذرات الذهب لابن العماد: 6/ 146.
(4) انظر: الدرر الكامنة لابن حجر: 4/ 308.(2/10)
ولأبي حيان أكثر من خمسين تصنيفا في فنون العلم المختلفة، وقد سرد المقري أسماءها في كتابه نفح الطيب (1)، أذكر منها:
1) تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب.
2) ارتشاف الضّرب من لسان العرب.
3) عقد اللآلي، منظومة في القراءات السبع.
4) الأثير في قراءة ابن كثير، قيل: إنه مفقود.
5) التذييل والتكميل في شرح كتاب سيبويه.
وفاته:
مات أثير الدين شيخ الورى ... فاستعر البارق واستعبرا
توفي أبو حيان رحمه الله تعالى بعد أن عمر طويلا، فتجاوز التسعين، وذلك سنة (745هـ)، وقد رثاه الشعراء بمراثي مبكية، كما مدحه الشعراء في حياته وبعد مماته. (2)
__________
(1) انظر: نفح الطيب للمقري: 3/ 305وانظر البحر المحيط، تحقيق الدكتور عبد السميع حسنين: 1/ 154136.
(2) انظر: نفح الطيب للمقري: 3/ 291و 3/ 297الدرر الكامنة لابن حجر: 4/ 310 وشذرات الذهب لابن العماد: 6/ 147وينظر للمزيد في ترجمته: الإحاطة في أخبار غرناطة للخطيب: 3/ 43والبحر المحيط لأبي حيان (مقدمة المحقق)، تحقيق الدكتور عبد السميع محمد أحمد حسنين: 1/ 154136والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن(2/11)
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة:
كان تصنيف هذا التفسير أمنية طالما اختلج في ذكر المصنف، واعتلج في فكره، وطمح إليه، فكم رجا الله أن يوفقه في ذلك، ويبلغه الأمد الذي يتفصد فيه الأديم ويتنغص من رؤيته النديم (1)، قاصدا به وجه الله، محتسبا الأجر عليه (فما لمخلوق بتأليفه قصدت، ولا غير وجه الله به أردت). (2)
وحين بلغ السابعة والخمسين من العمر، وانتصب مدرسا للتفسير في قبة السلطان الملك المنصور، شرع في التأليف وتحقيق المراد، فهو إذا من أواخر ما صنف أبو حيان من التآليف، بل لعله آخر تصانيفه.
وقد اشتهر البحر في حياة المصنف ولقي العناية والاهتمام بعد وفاته من أهل العلم وطلاب المعرفة على شتى العصور، مذ ألّفه أبو حيان إلى يومنا هذا، ولا زال مرجعا هاما للمشتغلين بالتفسير واللغة والقراءات، ولا غرو في ذلك ما دمنا علمنا أن تصنيفه كان بعد أن نضج الفكر، واكتمل
__________
السابع للشوكاني: 2/ 288وبغية الوعاة للسيوطي: 1/ 280وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي: 6/ 145وطبقات المفسرين للداودي 2/ 287مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان لليافعي: 8/ 90والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي: 1/ 534ونفح الطبيب في غصن الأندلس الرطيب للمقري: 3/ 339288والوافي بالوفيات للصفدي: 5/ 266.
(1) كناية عن كبر السن.
(2) البحر المحيط: 1/ 11.(2/12)
العقل واستوى على سوقه.
ولأهميته اختصره تلميذه تاج الدين أحمد بن عبد القادر بن مكتوم (1)
وسماه (الدر اللقيط من البحر المحيط).
سلك أبو حيان في تفسيره مسلك أسلافه الأندلسيين في اعتماد التفسير بالمأثور مع اعتماد الرأي شريطة ألا يخضع للهوى والميل، وشريطة أن لا يخلو من اعتماد أقوال العلماء ضمن قوانين العلم كالنحو واللغة والأصول وغيرها، مع المعرفة التامة باللغة.
وأودع في تصنيفه هذا خلاصة فكره، وحصيلة علمه (عكفت على تصنيف هذا الكتاب، وانتخاب الصفو واللباب، أجيل الفكر فيما وضع الناس في تصانيفهم، وأنعم النظر فيما اقترحوه من تآليفهم، فألخص مطولها، وأحل مشكلها، وأقيد مطلقها، وأفتح مغلقها، وأجمع مبددها، وأخلص منقدها، وأضيف إلى ذلك ما استخرجته القوة المفكرة من لطائف علم البيان، المطلع على إعجاز القرآن). (2)
ويلاحظ القارئ في تفسير أبي حيان تأثره الواضح بثلة من المفسرين،
__________
(1) هو أحمد بن عبد القادر بن أحمد بن مكتوم القيسي، فقيه نحوي لغوي مفسر، تصانيفه كثيرة، توفي (749هـ). انظر: الدرر الكامنة لابن حجر: 1/ 186وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 52.
(2) انظر: البحر المحيط: 1/ 10.(2/13)
وأكثرهم تأثيرا فيه الزمخشري وابن عطية، وقد أشار إليهما، وذكر تصنيفهما في الخطبة التي قدمها بين يدي تفسيره، وأثنى عليهما ثناء عاطرا، ووصفهما بأنهما فارسا علم التفسير، وممارسا تحريره والتحبير، وأنزل تفسيرهما منزلة الإنسان من العين، والذهب الإبريز من العين، وليلة القدر من الليالي. (1)
وألمح بأنه استدرك عليهما، ووضع تفسيرهما محك النظر وأنه أورى فيهما نار الفكر، حتى خلّص دسيسهما، وبرّز نفيسهما. (2) كما تأثر بابن جرير الطبري والرازي.
وبالرغم من تصدي المصنف للزمخشري في اعتزالياته، والحمل عليه في انحرافاته، حيث كان له رصدا في تأويلاته، ونصرته لمذهبه، وتقحم مرتكبه، وتجشم حمل كتاب الله عز وجل عليه، بالرغم من ذلك فقد أنصفه أبو حيان، ولم يغمضه حقه، ولعمري إن الإنصاف حق، والعدل فضيلة حتى مع الخصوم، فرحم الله أبا حيان، وأجزل له المثوبة.
هذا وربما يعد البحر المحيط المرجع الأول من بين التفاسير للوقوف على وجوه الإعراب واللغة وإظهار بلاغة القرآن وإعجازه، فقد اهتم المصنف اهتماما بالغا بالمسائل اللغوية والخلافيات، كما يعد مرجعا هاما للمشتغلين بالقراءات وتوجيهها، المتواترة منها والشاذة.
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 1/ 20.
(2) انظر: البحر المحيط: 1/ 21.(2/14)
ولأبي حيان موقف حميد من الإسرائيليات، فقد دعا إلى تركها، وحذر القارئ في مواطن كثيرة من الاغترار بها، وصرح بذلك في مقدمته، وأن اكثرها خرافات وأباطيل لا تتفق مع العقل السليم، والنظر السديد.
أما المقدمة فقد جاءت مع الخطبة التي قدمها المصنف بين يدي تفسيره في ثمان عشرة صفحة من القطع المتوسط، صاغها المصنف صياغة أديب بليغ مجبول على إنشاء النثر، متمكن في اللغة، عارف بأساليب العرب في الكتابة، ذكر فيها منهجه في التأليف، ومصادره وبعض شيوخه في جملة من الفنون، كما تعرض للحديث عن عدة موضوعات من علوم القرآن، أخذ بيان ما يحتاج إليه المفسر من العلوم، والوجوه التي ينبغي النظر منها في كتاب الله، الأهمية الأولى، قدم المصنف نفسه من خلالها إلى قرائه، فأثبت أن إقدامه على تصنيف البحر إنما هو إقدام متبحر متسلح، قد ألّم بما يحتاجه المفسر، وذلك بذكر شيوخه في كل فن وجه والمصنفات التي قرأها في الفن نفسه حتى تمكن منها.
وتلك كانت غاية أبي حيان من ذكره لتلك الوجوه، وإلا فالبحث في هذه المسألة على الخصوص يحتاج إلى مزيد من العناية والاهتمام، وضرب الأمثلة، وبيان مسيس الحاجة للمفسر إلى التعمق في كل وجه من تلك الوجوه، وهو ما لم يفعله المصنف، ولعل ذلك كان وراء التباين بين شهرة التفسير وشهرة المقدمة التي لا تكاد تذكر عند المهتمين بعلوم القرآن.
وقد طبعت المقدمة فيما أعلم ثلاث طبعات:(2/15)
1) الأولى كانت في مصر سنة 1328هـ بمطبعة السعادة على نفقة سلطان المغرب الأقصى عبد الحفيظ ابن السلطان الحسن، وهي كثيرة الأخطاء والتحريف وصورت هذه الطبعة عدة مرات.
2) طبعة دار الفكر بيروت عام 1412هـ بعناية عرفان العشا حسونة وصدقي محمد جميل، وهي الأخرى كثيرة الأخطاء.
3) طبعة جيدة ومحققة تحقيقا علميا دقيقا للأجزاء الأولى لأستاذنا الدكتور عبد السميع محمد أحمد حسنين، عام 1413هـ.
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة:
أثنى المصنف على الله بما هو أهله، وحمده على توالي نعمائه، ثم صلى على النبي الأكرم الذي صدع بالحق فأرشد إلى الخير، وعلى آله وصحابته.
وصرح أن أهم المعارف هو علم كتاب الله، وأن غيره من العلوم كالأدوات، ثم ذكر الدافع إلى التصنيف، بعدها أخذ يفاخر بالأندلسيين لبراعتهم في علم كتاب الله، ولانفرادهم بالإقراء منذ أعصار دون غيرهم من ذوي الآداب، وذكر أن أفضل كتاب يعين على فهم كتاب الله هو الكتاب لسيبويه.
عقب ذلك تحدث المصنف عن حياته العلمية وكيف كان يختار الشيوخ، وينتقي الفضلاء من أهل العلم، وما لقيه في ذلك من تعب
ونصب وصبر على شظف العيش، وإيثار للعلم على المال والأهل والولد.(2/16)
عقب ذلك تحدث المصنف عن حياته العلمية وكيف كان يختار الشيوخ، وينتقي الفضلاء من أهل العلم، وما لقيه في ذلك من تعب
ونصب وصبر على شظف العيش، وإيثار للعلم على المال والأهل والولد.
ثم شرع في عرض المنهج الذي سلكه، والطريقة التي سار عليها، والجوانب التي اهتم بها في تفسيره لأهميتها، وتلك التي أعرض عنها لنكارتها وبعدها، وأشار إلى ما حوته تفاسير كثير من السابقين عليه من حشو وتطويل كذكر علل النحويين ودلائل مسائل أصول الفقه وأصول الدين، واهتمام بأمور لا ينبغي الاهتمام بها كالأحاديث الواردة في الفضائل والحكايات التي لا تناسب التفسير وتواريخ بني إسرائيل وغيرها مما لا يصح، فعابهم على ذلك، وأكد أن الإحاطة بمعرفة مدلول الكلمة وأحكامها قبل التركيب، وكيفية تركيبها هو المعين على فهم الآيات، أراد بذلك الرد على من ينكر تفسير القرآن بالرأي موقفا فهمه على المنقول والمروي عن السلف، فخطأ المدعي وانتصر لرأيه في جواز ذلك بالأدلة.
انتقل بعدها ليستعرض مع القارئ العلوم التي يحتاجها علم التفسير، ولينبه على أحسن التأليف فيه، فقال: النظر في تفسير كتاب الله تعالى يكون من وجوه (1) وذكر سبعة وجوه:
الأول: علم اللغة اسما وفعلا وحرفا.
الثاني: معرفة الأحكام التي للكلم العربية، من جهة إفرادها ومن جهة
__________
(1) انظر البحر المحيط: 1/ 14.(2/17)
تركيبها.
الثالث: كون اللفظ أو التركيب أحسن وأفصح، ويؤخذ ذلك من علم البيان والبديع.
الرابع: تعيين مبهم وتبيين مجمل، وسبب نزول، ونسخ.
الخامس: معرفة الإجمال والتبيين، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، ودلالة الأمر والنهي، وما أشبه ذلك.
السادس: الكلام فيما يجوز على الله تعالى، وما يجب له، وما يستحيل عليه.
السابع: اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص أو تغيير حركة أو إتيان بلفظ بدل لفظ، وذلك بتواتر وآحاد.
وذكر تحت كل وجه أهم التصانيف فيه، كما صرح باسم من تتلمذ عليه من الشيوخ في كل وجه من تلك الوجوه.
وقال: فهذه سبعة وجوه لا ينبغي أن يقدم على تفسير كتاب الله تعالى إلا من أحاط بجملة غالبها، من كل وجه منها. (1)
وعاد ليؤكد من جديد أن المعرفة بتلك الوجوه لا تكفي لمن أراد
__________
(1) انظر البحر المحيط: 1/ 17.(2/18)
التعمق في فهم غوامض الكتاب، إذ يستدعي التبحر في علم اللسان.
انتقل بعدها للحديث عن إعجاز القرآن وقرر أن إعجاز القرآن هو كونه في غاية الفصاحة ونهاية البلاغة، ورد زعم من ادعى وقوع الإعجاز بالصرفة، ففند مقولتهم، وأكد أنهم لم يرزقوا من الذّوق ما به يفرقون بين كلام الخلق وكلام الحق، وبين أن عددا من العرب أسلموا حين سمعوا القرآن وأقروا بإعجازه، وأنه من عند الله كأبي ذر الذي سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أوائل (فصلت) فأسلم للوقت، وأذعن للدين الجديد، وأن بعضهم عاندوا ولجوا في عنادهم بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، كعتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة، وأن ثلة لم تدرك إعجازه، أو أدرك وعاند كمسيلمة الكذاب وغيره.
عقب ذلك نقل مقطعا أدبيا من الكشاف للزمخشري يبهر بحسنه الأدباء كما قال ويقهر بفصاحته البلغاء، وجعل ذلك شاهدا للزمخشري بأهلية النظر في تفسير القرآن.
ثم استعرض مفسرين أحدهما مشرقي وهو الزمخشري نفسه، والآخر أندلسي هو ابن عطية، فأشاد بهما وأطرى عليهما وعلى تفسيرهما الثناء، وقال: هما من كتب التفسير بمنزلة الإنسان من العين، وليلة القدر من الليالي، ذكر أنه عرضهما على محك النظر، وأورى فيهما نار الفكر حتى استخلص دسيسهما وبرز نفيسهما، وبذلك بين المصنف أنه اعتمد عليهما مصدرين أساسيين له في تفسيره، وهو ما صرح به عقب ذلك.(2/19)
ثم ذكر أنه اعتمد مصدرا ثالثا، فأكثر النقل عنه هو التفسير الذي جمعه شيخه ابن النقيب (1) غير أنه لم يثني عليه بل وصمه بأنه كثير التكرير، قليل التحرير، مفرط الإسهاب.
بعد هذا انتقل المصنف ليسند قراءته للقرآن، والطرق التي قرأ بها، وأعلى سند وقع له.
ثم ذكر جملة من المروي في فضائل القرآن وذكر أن أبا عبيد القاسم بن سلام هو من جملة من صنف فيه، أتبعها بروايات تبين فضيلة علم التفسير، وذكر التفسير بالرأي وحمل المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كونه لم يفسر إلا آيا بعدد، على مغيبات القرآن، وتفسير مجمله وما لا سبيل إليه بتوقيف من الله تعالى، كما حمل تخطئة من قال بالرأي ولو أصاب، على تسور القرآن دون النظر في أقوال العلماء وقوانين العلوم.
وانتقل عقب ذلك إلى بيان مراتب المفسرين فذكر من مفسري الصحابة علي ابن أبي طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين
وذكر من التابعين الحسن البصري، ومجاهد، وسعيد بن جبير،
__________
(1) هو محمد بن سليمان بن الحسن البلخي المقدسي، فقيه مفسر حنفي، له التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير، توفي (698هـ) انظر: الوافي بالوفيات للصفدي: 2/ 215 وشذرات الذهب لابن العماد: 5/ 442.(2/20)
وعلقمة، والضحاك، وابن مزاحم، والسدي، وأبي صالح رحمهم الله ثم ذكر مسيرة التفسير من بعدهم.
وجاء الختام ببيان معنى التفسير في اللغة والاصطلاح، شارحا التعريف الاصطلاحي الذي أطلقه.
وهذا التعريف الاصطلاحي الذي أطلقه أبو حيان اعتمده ثلة من أهل العلم، ولم زالوا يتناقلوه في كتبهم كالآلوسي وغيره.
رابعا: منهج أبي حيان في مقدمته:
بين المصنف منهجه في التفسير، والترتيب الذي سار عليه في الخطبة التي سبقت الموضوعات التي تعرض لها في مقدمته، وفصل القول في منهجه تفصيلا دقيقا، غير أن منهجه في معالجة الموضوعات التي تعرض لها في المقدمة مختلف، ففي العلوم التي يحتاجها المفسر، أو الوجوه التي ينبغي للناظر في كتاب الله الإلمام بها، كان منهج المصنف أنه يذكر الفن بعبارة واضحة، ثم يبين بعض المصادر الهامة فيه وأفضل من صنف فيه، يعقب ذلك بذكر شيوخه الذين تلقى عنهم ذلك الفن ليبين أن إقدامه هو إقدام ملمّ مسلح بما تحتاجه صناعة التفسير (1).
ومن منهج المصنف الاعتماد على المعقول في بعض المسائل، وضرب
__________
(1) انظر البحر المحيط: 1/ 15وينظر الوجوه الستة الأخرى.(2/21)
الأمثلة لتقريب المسألة وذلك لإقناع القارئ بما يريد التأكيد عليه. (1)
ومن منهج المصنف أيضا بيان مصادره المكتوبة والمسموعة التي استقى منها مادة كتابه، كما يذكر من تلقى عنهم العلم وأسانيده في القرآن والقراءات. (2)
وحين يسوق المصنف الأحاديث والآثار الدالة على فضائل القرآن وتفسيره، فإنه يسردها دون أسانيدها، كما أنه لا يذكر من أخرجها من الأئمة، وقد يعقب على إحداها لبيان معنى مفردة، أو بيان تأويل عبارة. (3)
بقي أن أشير إلى أن المصنف اعتمد في المقطع الأخير من مقدمته الذي كان عن بيان معنى التفسير كلام ابن دريد وثعلب فيما يخص اللغة، وحين عرّف التفسير في الاصطلاح شرح مفردات التعريف.
خامسا: بيان مدى التزام المصنف في تفسيره بما ذكره في مقدمته:
لقد نهج أبو حيان في البحر نهجا قويما، ورسم لطريقه رسما دقيقا، والتزم ما ألزم به نفسه في الغالب، فقد بيّن أنه يبتدأ بالكلام على مفردات الآية لفظة لفظة، ويبين ما يحتاج إليه من اللغة والأحكام النحوية، والتزم
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 1/ 1813.
(2) انظر البحر المحيط: 1/ 232221.
(3) انظر البحر المحيط: 1/ 2524.(2/22)
ذلك (1)، ويتكلم في التفسير فيذكر سبب النزول للآيات التي لها سبب نزول مع بيان مناسبتها وارتباطها بما قبلها، والتزم ذلك أيضا (2)، مثبتا القراءات شاذها ومستعملها، مع توجيهها والترجيح بينها عدا المتواتر فإنه لا يرجح بينها لاعتبارها على درجة واحدة ما دامت صادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتحدث عن الواضح والخفي من الكلمات، وهذا الشرط أيضا التزمه المصنف، فقلما تجد موضعا من كتاب الله في أكثر من قراءة إلا وذكر ذلك المصنف، وأورد القراءة (3)، حتى الألفاظ المشهورة يذكرها، غير أنه لا يكرر الكلام في لفظة أو آية سبق الحديث فيها، فيكتفي بالإحالة إلى الموضع الذي تم البيان فيه (4)، كما ينقل أقوال الفقهاء الأربعة في الأحكام الفقهية دون التعمق في ذلك، معتمدا الإحالة إلى كتب الفقه في الغالب، وقد التزم ذلك في التفسير (5)، مختتما بالكلام في جملة من الآيات التي فسرت إفرادا وتركيبا بما ذكر أهل العلم فيها من علم البيان والبديع، يتبع آخر الآيات بكلام منثور يشرح مضمون تلك الآيات في عبارة حسنة (6)، وتجنب أقاويل
__________
(1) انظر أمثلة ذلك: 1/ 2634540293258/ 622315274.
(2) انظر أمثلة ذلك: 1/ 256143724519316677/ 711421364.
(3) انظر أمثلة ذلك: 1/ 258644531395/ 458445.
(4) انظر أمثلة ذلك: 1/ 2712675627292/ 184.
(5) انظر أمثلة ذلك: 1/ 2585264261/ 518392.
(6) انظر أمثلة ذلك: 1/ 2475432399221/ 510360271.(2/23)
الصوفية التي يحملونها كلام الله، وربما أورد شيئا من ذلك إن وجد لذلك مناسبة، كما عدل عن ترك كلام الباطنية الملحدين، وكذلك أعرض عن ذكر كثير من الإسرائيليات والحكايات التي لا تتناسب وتواريخ بني إسرائيل (1).
وهكذا يظهر للقارئ أن المفسر قد التزم في تفسيره بما ذكره في مقدمته، ولم يخل بذلك في الجملة.
سادسا: مصادره في المقدمة:
ذكر المصنف في مقدمته أسماء وعناوين مصادر كثيرة، غير أن النقول التي أوردها في المقدمة هي من عشرة مصادر فقط، فهو لم يكثر من النقل، والذين نقل عنهم هم:
أبو جعفر بن الزبير، وهو شيخه، وما أورده هو شيء سمعه منه. (2)
وأبو بكر الباقلاني من كتابه الانتصار في إعجاز القرآن، هكذا سماه المصنف، واسمه الصحيح: الانتصار في صحة نقل القرآن. (3)
__________
(1) انظر أمثلة ذلك: 1/ 528366260.
(2) انظر البحر المحيط: 1/ 17.
(3) انظر البحر المحيط: 1/ 19.(2/24)
والزمخشري من الكشاف. (1)
وابن عطية من تفسيره. (2)
ومحمد بن وهب القشيري. (3)
وابن النقيب من كتابه التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير. (4)
وأبو عبد الله القاسم بن سلام، والمصنف لم يصرح بالنقل عنه وإن كان قد أورده في معرض النقل عنه (5)
والإمام البخاري. (6)
وابن دريد. (7)
وثعلب. (8)
__________
(1) انظر البحر المحيط: 1/ 19.
(2) انظر البحر المحيط: 1/ 20.
(3) انظر البحر المحيط: 1/ 19.
(4) انظر البحر المحيط: 1/ 22.
(5) انظر البحر المحيط: 1/ 23.
(6) انظر البحر المحيط: 1/ 24.
(7) انظر البحر المحيط: 1/ 26.
(8) انظر البحر المحيط: 1/ 26.(2/25)
سابعا: أهم المزايا وأظهر المآخذ:
لا يستطيع المرء الحكم على مقدمة أبي حيان ذلك لأن المصنف لم يرد منها ما أراده غيره من جعلها مقدمة تشتمل على ما يلزم المفسر من العلوم والأدوات التي تعينه على تفسير كتاب الله، أو تلك التي يلزم القارئ الإلمام بها ومعرفتها قبل قراءة التفسير ليكون على دراية ومعرفة.
وما جاء في هذه المقدمة من الوجوه التي ذكرها المصنف والتي ذكر لزوم معرفتها للناظر في كتاب الله، وذكرها المصنف كما سبق أن قلت ليبين أنه آخذ بها قبل الإقدام على طرق باب التفسير.
وعلى العموم فإن من أهم مزايا هذه المقدمة أنها المقدمة الأولى من بين المقدمات التي درستها تقدم تعريفا اصطلاحيا لعلم التفسير، وهو ما لم يفعله السابقون كما صرح بذلك المصنف نفسه. هذ ما قلته في مقدمة أبي حيان وأستغفر الله من التقصير والزلل.(2/26)
13 - تفسير القرآن العظيم
للحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير المتوفى سنة 774هـ.
أولا: التعريف بالمؤلف:
مصنف هذا السفر العظيم هو: الإمام القدوة أبو الفداء عماد الدين إسماعيل ابن عمر بن كثير بن ضو بن كثير بن ضو بن درع الشافعي الدمشقي (1).
ولد بقرية شرقي بصرى الشام، على رأس المائة الثامنة للهجرة (700هـ (2) في أسرة عرفت بالعلم ومدارسة الكتاب، وتربى في حجر أمه الحافظة، وأخيه المعلم كمال الدين عبد الوهاب فكان به وبأخوته رفيقا، ولهم شقيقا، بعد أن تيتّموا عام (703هـ) بفقد والدهم الذي عرف بالعلم
__________
(1) (درع) بالدال المعجمة، وفي بعض المصادر: (ذرع)، وفي بعضها (زرع). انظر: طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: 4/ 237رقم (638) وطبقات المفسرين للداودي:
1/ 111وشذرات الذهب لابن العماد: 6/ 231والإمام ابن كثير المفسر للزهراني:
1/ 31 (رسالة علمية).
(2) المصادر التي ترجمت للمصنف اختلفت في تحديد ميلاد ابن كثير، فعند الداودي أنه ولد عام (701هـ) وذكر ابن حجر والسيوطي وابن العماد أن مولده كان على رأس المائة الثامنة (700هـ)، وقيل سنة (699هـ) وهذا مستنبط من كون المصنف انتقل إلى دمشق مع أخيه وله سبع سنين سنة 706هـ.(2/27)
واشتهر بالخطابة وقول الشعر، وكان تلميذا تلقى العلم عن النووي والفزاري وغيرهما. (1)
ولشغف العائلة بالعلم، شدت الأسرة الرحيل إلى حاضرة العلم، ومأوى العلماء، إلى دمشق وكان قد سبقهم قبل وفاة والدهم أخ لهم يقال له إسماعيل، وتوفي بها وهو يطلب العلم فسمي المصنف باسمه لحب الوالد لولده واستقرت الأسرة هناك بعد وفاة والدهم بأربع سنين عام (706هـ)، وكان أبو الفداء حتى ذلك العهد يتلقى أبجديات العلم على يد أخيه وأستاذه عبد الوهاب، حتى إذا اشتد عوده دفعه الأخ إلى حلقات العلم فانتظم فيها، وعرفته أزقة دمشق طالب علم مجد ومثابر، كما عرفته المساجد ودور المعرفة عابدا ومجتهدا.
حفظ القرآن الكريم وهو لم يتجاوز الحادية عشرة من العمر، (2) وأقبل على حفظ المتون ومعرفة الأسانيد والعلل والرجال والتاريخ حتى برع في ذلك وهو لا يزال في ريعان الشباب، فحفظ التنبيه وله ثمان عشرة سنة (3)
وحفظ مختصر الحاجب (4) وسمع بدار الحديث الأشرفية نحوا من خمسمائة
__________
(1) انظر: البداية والنهاية للمصنف: 14/ 32.
(2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير: 14/ 150.
(3) انظر: البداية والنهاية لابن كثير: 14/ 107.
(4) انظر: شذرات الذهب لابن العماد: 6/ 231.(2/28)
جزء بالإجازات والسماع في الحديث على الشيخ ابن الشحنة (1)، وصنف في صغره كتاب (الأحكام على أبواب التنبيه) (2) ولنبوغه يرحمه الله تصدر أقرانه، وفاق خلانه، حتى أعجب الشيوخ به وترجموا له وأثنوا عليه في حياته، وتلك مكرمة لا تحصل إلا لقلة من الناس.
شيوخه وتلامذته:
لقد اختير للحافظ ابن كثير يرحمه الله حاضرة من حواضر العلم، ومرتعا من مراتع المعرفة وأرضا بورك فيها، يشد العلماء الرحال إليها، والمقام بها، ويأنس الطلبة بسكناها، ويحلو لهم العيش بين أحضانها، فلا غرو أن تحفل تلك الدوحة (دمشق) بجمع غفير من أهل العلم كالذهبي والمزي وابن عساكر وغيرهم من الذين علت همتهم، وعرفوا فضل المدينة وسكناها.
لقد تلقى الحافظ أبو الفداء العلم على يد صفوة من علماء دمشق في وقت نشطت فيه الحركة العلمية نشاطا ملموسا في شتى الفنون والمعارف، ومن هؤلاء:
عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري الشهير بابن الفركاح (3)، وأحمد بن
__________
(1) انظر: البداية والنهاية: 14/ 150.
(2) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 112.
(3) هو عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري، عالم بالعربية والفقه والأصول، انتهت(2/29)
أبي طالب الحجار، المعروف بابن الشحنة (1)، وغيرهم كابن عساكر وابن قاضي شهبة، والمزي. (2)
أما تلاميذه فقد ذكر في البداية والنهاية (3) أنه كان للحافظ ابن كثير في اليوم الواحد ستة مواعيد تقرأ عليه، أولها بمسجد هشام بكرة قبل طلوع الشمس، ثم تحت النسر (4)، ثم بالمدرسة النورية، وبعد الظهر بجامع تنكز، ثم بالمدرسة العزية، ثم بالكوشك إلى أذان العصر، ثم بعد العصر بدار ملك الأمراء أمير علي، بمحلة القضاعين إلى قريب الغروب، ويقرأ صحيح مسلم بمحراب الحنابلة.
وهذا النص خير دليل على كثرة التلاميذ الذين وردوا هذا النبع الصافي حتى ارتووا وشنفوا الآذان بالسماع، ومن أولئك المشاهير الذين
__________
إليه معرفة المذهب الشافعي، له التعليقة على التنبيه، توفي (729هـ). انظر: البداية والنهاية: 14/ 146وشذرات الذهب لابن العماد: 6/ 88.
(1) هو أحمد بن أبي طالب بن نعمة بن حسن الحجار بن الشحنة، محدث انفرد بالرواية عن الحسن الزبيدي، قيل: كان بين سماعه للصحيح وموته مائة سنة، توفي (730هـ). انظر:
البداية والنهاية: 14/ 150والدرر الكامنة لابن حجر: 1/ 142.
(2) انظر البداية والنهاية لابن كثير: 14/ 225191185131وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 112وشذرات الذهب لابن العماد: 6/ 231.
(3) البداية والنهاية: 14/ 312.
(4) اسم قبة في الجامع الأموي في دمشق.(2/30)
تلقوا عن ابن كثير:
الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجي الحسباني ت (816هـ) (1)، وبدر الدين محمد بن بهادر الزركشي ت (794هـ) (2)، ومحمد بن محمد بن محمد الجزري صاحب النشر ت (833هـ) (3) وغيرهم.
مؤلفاته:
يقول ابن حبيب عن الحافظ ابن كثير: سمع وجمع وصنف وطارت أوراق فتاويه إلى البلاد (4). ويقول الحافظ ابن حجر: سارت تصانيفه في حياته، وانتفع بها الناس بعد وفاته. (5)
لقد صنف ابن كثير العديد من المصنفات اشتهرت فانتشرت حتى اعتمد عليها في بابها كالتفسير والتاريخ والحديث والسيرة وغير ذلك.
__________
(1) هو أحمد بن علاء الدين حجي بن موسى الحسباني، محدث حافظ مؤرخ، ويضرب به المثل في جودة ذهنه وحسن أبحاثه، له الدارس في أخبار المدارس وغيره، توفي (816هـ).
انظر: الضوء اللامع للشوكاني: 1/ 270وشذرات الذهب لابن العماد: 7/ 116.
(2) انظر: الدرر الكامنة لابن حجر: 3/ 397وشذرات الذهب لابن العماد: 6/ 335.
(3) انظر: الضوء اللامع للشوكاني: 9/ 255وشذرات الذهب لابن العماد: 7/ 206.
(4) انظر: شذرات الذهب لابن العماد: 6/ 231.
(5) انظر: الدرر الكامنة لابن حجر: 1/ 374.(2/31)
ومن مصنفاته:
1) البداية والنهاية، موسوعة تاريخية ضخمة تابع المصنف فيها الأخبار، وطبعت مرارا وتكرارا.
2) التفسير، وهو موضوع الباب.
3) تهذيب الكمال لابن الصلاح، طبع باسم (الباعث الحثيث) علق عليه الأستاذ أحمد محمد شاكر.
4) السيرة النبوية: ذكر أنها صغيرة، غير أن الأستاذ مصطفى عبد الواحد انتزع السيرة من البداية والنهاية وأخرجها محققة، وأخبر أن المصنف قد ضمها إليه أي إلى التاريخ (1).
5) أحاديث التوحيد والرد على أهل الشرك. (2)
6) الاجتهاد في طلب الجهاد. وغير ذلك (3)
__________
(1) انظر: مقدمة السيرة النبوية لمصطفى عبد الواحد: 1/ 12.
(2) انظر: الإمام ابن كثير المفسر للزهراني: 72، رسالة علمية جامعة أم القرى، مكة المكرمة.
(3) لمعرفة المزيد من مصنفات الحافظ يراجع: البداية والنهاية: 10/ 251والدرر الكامنة لابن حجر: 1/ 373وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 112وكشف الظنون لحاجي خليفة: 2/ 1105والإمام ابن كثير المفسر للزهراني: 8558وشذرات الذهب(2/32)
عقيدة الحافظ ابن كثير ومكانته العلمية:
الحافظ ابن كثير علم من أعلام السلف المشهود لهم بحفظ المتون وكثرة الاستحضار، وسلامة العقيدة، ونصرة مذهب السلف في الأصول والفروع، وارتضاء ذلك قولا وعملا، والأدلة على ذلك كثيرة امتلأت بها مصنفات الحافظ يرحمه الله ولا يعجز الباحث من الوقوف على المزيد منها بيسر وسهولة.
وقد كانت لعلاقة الحافظ بشيخ الإسلام ابن تيمية وتلمذته على يده الأثر البالغ في توجهه السلفي، وتصديه لأهل الزيغ والضلال من الملل والنحل في تلك الفترة التي ظهرت فيها البدع والمنكرات، وكثرت حتى افتتن الناس في دينهم، فقيّض الله لنصرة الحق علماء عاملين، بالحق ناطقين، نافحوا عن دين الله، وبينوا انحراف الضالين وتأويل المبطلين، وكان منهم الحافظ ابن كثير، فقد نافح عن شيخه ابن تيمية الذي كان رمزا للتصدي للباطل وارتضى كثيرا من آرائه حتى امتحن بسبب ذلك وأوذي. (1)
ولقد حظي الحافظ بمكانة مرموقة عند أهل عصره، فشهدوا له بعلو
__________
لابن العماد: 6/ 231ومقدمة السيرة النبوية للدكتور مصطفى عبد الواحد: 1/ 12.
(1) انظر: طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: 4/ 238وطبقات المفسرين للداودي:
1/ 113وشذرات الذهب لابن العماد: 6/ 232.(2/33)
الكعب، ولقيت أقواله القبول عند أهل العلم، وأجمعوا على حبه، والثناء عليه وعلى علمه وسلامة عقيدته، ولهذا تسلم مشيخة دور العلم المشهورة في دياره كدار الحديث الأشرفية وغيرها (1) والتدريس في مدارس عديدة كالتنكزية الكبرى (2) والنورية الكبرى (3) والمدرسة النجيبية (4) والجامع الأموي (5)، كما اسندت إليه الخطابة في جوامع عديدة (6).
كل هذا الأمر دفع شيخه الذهبي ليترجم له ويثني عليه ثناء حسنا، وهل هناك شرف يعدل هذا الشرف، شيخ يترجم للتلميذ ويقول عنه: إمام محدث بارع، فقيه متفنن، ومفسر نقاد، له تصانيف مفيدة (7).
لقد كثرت النصوص التي بينت مكانة الحافظ ابن كثير وتواترت، ومن تلك النصوص: ما نعته به تلميذه الوفي الحافظ ابن حجي بقوله: كان أحفظ من أدركناه لمتون الحديث وأعرفهم بتخريجها ورجالها، وصحيحها وسقيمها، وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك، وكان يستحضر شيئا
__________
(1) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 112.
(2) انظر: البداية والنهاية: 14/ 133.
(3) انظر: البداية والنهاية: 14/ 312.
(4) انظر: البداية والنهاية: 14/ 173.
(5) انظر: البداية والنهاية: 14/ 321.
(6) انظر: البداية والنهاية: 14/ 263.
(7) انظر: الدرر الكامنة لابن حجر: 1/ 374وإنباه الغمر له: 1/ 46.(2/34)
كثيرا من الفقه والتاريخ، قليل النسيان، وكان فقيها صحيح الذهن يحفظ التنبيه إلى آخر وقت، وشارك في العربية مشاركة جيدة. (1)
كما وصفه ابن حبيب بقوله: اشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رئاسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير. (2)
ونعته الداودي: بقدوة العلماء والحفاظ، وعمدة أهل المعاني والألفاظ. (3)
ناهيك عن ثناء الأعلام المتأخرين الذين وقفوا على خلاصة علم المتقدمين فأقروا للحافظ بالفضل والرسوخ في المعقول والمنقول، وكتب التراجم تزخر بكم هائل من النصوص التي تبين علو كعب المصنف، وسمو فكره، وسلامة عقيدته.
وفاته:
في يوم الخميس، السادس والعشرين من شعبان سنة أربع وسبعين وسبعمائة (774هـ) سلم الحافظ ابن كثير الروح إلى بارئها، وفاضت بعد حياة مليئة بالجد والاجتهاد والجهاد، ونشر النور والعلم وتبديد الظلمات،
__________
(1) انظر: طبقات الشافعية لابن شهبة: 4/ 238وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 112.
(2) انظر: إنباه الغمر بأبناء العمر لابن حجر: 3/ 46وشذرات الذهب لابن العماد:
6/ 231.
(3) انظر: طبقات المفسرين للداودي: 1/ 112.(2/35)
فقد فيها البصر غير أنه بقي بصيرا يذكر الله إلى آخر نفس، ودفن إلى جانب شيخه وقدوته شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمهما الله رحمة واسعة، وجزاهما عنا وعن المسلمين خير الجزاء (1).
ثانيا: التعريف بالتفسير والمقدمة:
يعد تفسير الحافظ ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) من أكثر التفاسير انتشارا واعتبارا في عصرنا الراهن، عند الخاصة والعامة، فقد حبا الله المصنف قوة في الفهم، وسدادا في الرأي، واعتبارا في الحجة، إضافة إلى سلامة المنهج ووضوح الطريقة وجزالة العبارة، كل ذلك كانت أسبابا جعلت لهذا التفسير الاعتبار والقبول والاستمرارية.
فحين تعددت ألوان التفسير، وسلك المتقدمون فيه مذاهب متنوعة، ووجدت التفاسير الطوال التي امتلأت بالخلافيات في شتى الألوان،
__________
(1) انظر: الدرر الكامنة لابن حجر: 1/ 374وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 113.
وينظر للمزيد في ترجمته: إنباه الغمر بأبناء الغمر لابن حجر: 1/ 45والبدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني: 1/ 153والدارس في تاريخ المدارس للنعيمي: 36والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر: 1/ 373وذيل تذكرة الحفاظ، للسيوطي: 4/ 361والسيرة النبوية لابن كثير: 1/ 114وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي: 6/ 231وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: 4/ 273وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 113111والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي: 11/ 123.(2/36)
وعجزت الهمم عن متابعة ذلك، اتجه جماعة من أهل العلم استشعروا وعورة الطريق، إلى سلوك طريق مختصر لتأويل كتاب الله، وبيان معاني ألفاظه، متوسطين في ذلك، جامعين بين المأثور والرأي، فكان الحافظ واحدا من هؤلاء الذين ارتضوا هذا النهج، بل يعد فارس هذه الحلبة، ورائد هذه الكتيبة. (1)
لقد قدم الحافظ ابن كثير تفسيرا جمع فيه المأثور من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين، وبين ما توصل إليه من إعمال الرأي، المعتمد على اللغة وفهم السلف، في مباحث هامة تحدث عنها العلماء، فقهية كانت أو نحوية أو لغوية، أو غيرها من المسائل التي لها صلة بتوضيح الآيات والمعاني، بعبارة سلسة، وألفاظ مختارة، ولعله هو الأمر الذي دفع السيوطي ليقول: له تفسير لم يؤلف على نمطه مثله. (2)
وهو الأمر الذي جعل الشوكاني يقول: جمع فيه فأوعى، ونقل المذاهب والأخبار والآثار وتكلم بأحسن كلام وأنفسه، وهو من أحسن التفاسير إن لم يكن أحسنها. (3)
ولأهميته عند أهل العلم اتجهت الأنظار قديما وحديثا لاختصاره
__________
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير، مقدمة التحقيق: 1/ 6.
(2) انظر: ذيل تذكرة الحفاظ للسيوطي: 4/ 361.
(3) انظر: البدر الطالع للشوكاني: 1/ 153.(2/37)
وتجريده من بعض ما ينبغي، ففي النصف الثاني من القرن الثامن اختصره سعيد بن محمد بن مسعود الكازروني، وسماه (البدر المنير) (1)، وفي عصرنا الحالي وجدت ثلاثة مختصرات للكتاب، اختصره الأستاذ أحمد شاكر وسماه (عمدة التفسير من الحافظ ابن كثير) غير أنه لم يتمه (2)، واختصره الشيخ محمد علي الصابوني، ولقي شهرة واسعة، غير أن موقف المختصر من بعض المسائل العقدية جعل طلبة العلم يصدون عنه، ويفضلون اختصار الشيخ نسيب الرفاعي المسماة (تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير).
ولأهميته أيضا لقي هذا التفسير عناية خاصة من الأكادميين في الجامعات فسجلت فيه وحوله عدة رسائل علمية.
بقي أن أشير إلى أن الحافظ ابن كثير قد تأثر بشيخ هذا الفن ابن جرير الطبري تأثرا ملحوظا وإن اختار منهجا مغايرا، ورد على بعض آرائه وناقشها مناقشة جادة، كما تأثر بالحافظ جل المفسرين الذين جاءوا من بعده كأبي السعود والآلوسي والقاسمي والشنقيطي وسيد قطب وغيرهم.
__________
(1) هو سعيد بن محمد بن مسعود الكازروني، محدث، شرح صحيح البخاري وغيره، توفي (785هـ) انظر: الأعلام للزركلي: 3/ 101ومعجم المؤلفين لرضا كحالة: 4/ 231 وبروكلمان: 2/ 60.
(2) طبع في مصر وصدر عن دار المعارف في خمسة أجزاء.(2/38)
ويمتاز هذا التفسير بأن الحافظ يفسر القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة والتابعين، فإن لم يجد التجأ إلى إعمال الرأي المؤيد باللغة، وهو يمحص الروايات والأخبار في كل ذلك، وينتقد البعيد المتكلف، كما يحكم على الأحاديث والآثار ويبين درجتها في الغالب.
ينتصر المصنف لمذهب السلف، ويعرض عن الإسرائيليات وإن ذكر بعضا من القسم المسكوت عنه فإنه إنما يذكرها للاستشهاد لا للاعتقاد، ويصرح بأن غالب ما في هذا النوع لا فائدة فيه يعود إلى أمر ديني. (1)
كما أنه لا يتوانى عن ذكر أسباب النزول، فيسرد الروايات، ويختار الراجح منها، ويذكر المسائل الفقهية بإيجاز دون إسراف أو تطويل.
وقد نبه الحافظ في خطبة كتابه إلى أهمية تفهم كتاب الله مصداقا لقوله تعالى {(أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً)} [النساء: 82] وعليه فإن العلماء مطالبون بالكشف عن معاني كلام الله، وتفسيره وتعليمه وتعلمه، وتبصير الناس بها، وهو أمر يستدعي معرفة أحسن الطرق الموصلة إلى السداد في القول، لأجل هذا خص المصنف مقدمته لبيان تلك الطرق.
وقد جاءت المقدمة مع خطبة الكتاب في سبع صفحات من القطع
__________
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 14.(2/39)
الكبير، وهي ليست طويلة إذا ما قورنت بمقدمات أسلافه الطبري وابن عطية وغيرهما، على خلاف ما ذكر الذهبي من أنه قدم لتفسيره مقدمة طويلة هامة. (1)
كما أنها ليست شاملة كمقدماتهم، ولعل المصنف لم يرد ما أراده السابقون من تقديم أبحاث بين يدي تفاسيرهم تتضمن ما يجب على طالب التفسير معرفته قبل البدء في التفسير، فقد اكتفى الحافظ ببيان أحسن طرق التفسير، وما يتعلق بذلك من المسائل.
كما رأى الحافظ أن يلحق بالتفسير كتابا ألفه في فضائل القرآن، مقتديا بالبخاري رحمه الله الذي أخر كتاب الفضائل عن كتاب التفسير في «صحيحه»، ثم عدل عن رأيه ووجد أن تقديم الفضائل على التفسير هو الأولى، وهو ما عمد إليه في آخر نسخة مخطوط من كتابه، وهي في مكتبة الحرم المكي برقم [(90) تفسير] كتبت في عصر المؤلف وقبل وفاته كما هو ثابت في التاريخ الذي في أواخر الأجزاء (2).
يقول المصنف في «ص 11» من المخطوط المذكور على ما ذكره الأستاذ الزهراني:
وذكر البخاري رحمه الله كتاب فضائل القرآن بعد كتاب التفسير
__________
(1) انظر: التفسير والمفسرون للذهبي: 1/ 244.
(2) انظر: الإمام ابن كثير المفسر للزهراني: 187.(2/40)
لأن التفسير أهم، ولهذا بدأ به، ونحن قدمنا الفضائل قبل التفسير، وذكرنا فضائل كل سورة قبل تفسيرها ليكون باعثا على حفظ القرآن وفهمه، والعمل بما فيه، والله المستعان. (1)
وأعود إلى المقدمة فأقول: إن الذهبي ذكر أن الحافظ ابن كثير اعتمد في مقدمته كتاب شيخه ابن تيمية، فقال: وأغلب هذه المقدمة مأخوذ بنصه من كلام شيخه ابن تيمية الذي ذكره في مقدمته في أصول التفسير. (2). وما قاله حقيقة فما جاء في هذه المقدمة هو بتمامه من كلام شيخه، ولا غرو في ذلك فإن الحافظ كما سبق أن ذكرت قد تأثر بابن تيمية في كثير من آرائه حتى أوذي بسبب ذلك، كما أن ما كتبه ابن تيمية في مقدمته يعتبر من أهم ما كتب في هذا الباب على الإطلاق (3).
وقد طبعت المقدمة مع أصل الكتاب طبعات عديدة أذكر منها:
1) طبع بهامش تفسير (فتح البيان في مقاصد القرآن) لأبي الطيب صديق حسن القنوجي المطبعة الأميرية ببولاق 1301هـ في ستة مجلدات.
2) طبعة دار إحياء التراث العربي، عيسى البابي الحلبي، قوبلت على
__________
(1) انظر: الإمام ابن كثير المفسر للزهراني: 191190.
(2) انظر: التفسير والمفسرون للذهبي: 187.
(3) انظر: مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية، مقدمة المحقق الأستاذ عدنان زرزور: 16.(2/41)
عدة نسخ خطية بدار الكتب المصرية، وصححها نخبة من العلماء، في أربعة أجزاء، وقد صورت هذه الطبعة مرارا.
3) طبع بعناية الأستاذ محمد رشيد رضا، وبأسفله تفسير البغوي، عام 1343هـ وصدر بمطبعة المنار على نفقة الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله في تسعة مجلدات.
4) طبعة مطابع الفجالة الجديدة مصر 1384هـ بعناية ونشر الشيخ عبد الشكور فدا، صاحب مكتبة النهضة الحديثة بمكة، في أربعة مجلدات.
5) طبعة دار الفكر بيروت 1385هـ في سبعة مجلدات، وأعيد طباعتها عام 1389هـ الطبعة الثانية، وألحق بها فضائل القرآن.
6) طبعة دار المعرفة بيروت 1388و 1406هـ في أربعة مجلدات وهي الأكثر انتشارا بين الناس.
7) طبعة دار الشعب القاهرة 1391هـ في أربعة مجلدات بتحقيق:
عبد العزيز غنيم، ومحمد أحمد عاشور، ومحمد إبراهيم البنا، وهي من أجود الطبعات.
8) طبعة دار الأرقم للنشر والتوزيع في أربعة مجلدات الكويت 1405هـ، خرج أحاديثه الشيخ مقبل بن هادي الوادعي.
9) طبعة مكتبة العبيكان بالرياض، قدم له أستاذي القدير الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشائع.(2/42)
ثالثا: عرض موضوعات المقدمة:
ذكرت فيما سبق أن الحافظ حصر مقدمته على بيان أحسن طرق التفسير، وأنه أخذها برمتها من كتاب شيخه ابن تيمية (مقدمة في أصول التفسير)، وإن كان قد أسقط منها بعض الجمل.
أسبق المصنف المقدمة بخطبة بين يدي تفسيره، حمد فيها الله منزل الكتاب على خاتم النبيين، المرسل إلى جميع الثقلين بشيرا ونذيرا، فندبهم إلى تدبر معاني كلامه وتفهمه {(أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً)} [النساء: 82] ومقتضى هذا الندب أن ينصرف العلماء إلى الكشف عن تلك المعاني، وتعلمه وتعليمه، وإلا كانوا كمن ذمهم الله من أهل الكتاب في قوله {(وَإِذْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنََّاسِ وَلََا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرََاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ مََا يَشْتَرُونَ)} [آل عمران: 187].
ولفهم كتاب الله على الوجه الصحيح كان على المفسر أن يعلم أحسن الطرق المؤدية لذلك، وهو الموضوع الذي ضمّنه المفسر مقدمته.
يرى الحافظ ابن كثير تبعا لشيخه ابن تيمية رحمه الله أن أصح الطرق هو تفسير القرآن بالقرآن، يليه تفسير القرآن بالسنة لكونها شارحة وموضحة له، فإن لم يجد المفسر مراده في الكتاب ولا في السنة رجع إلى
أقوال الصحابة رضي الله عنهم واعتمد فهمهم له، نظرا لما شاهدوه من القرائن والأحوال، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، وخاصة كبراؤهم كابن عباس وابن مسعود وغيرهم. وأورد لذلك الأدلة والأمثلة.(2/43)
يرى الحافظ ابن كثير تبعا لشيخه ابن تيمية رحمه الله أن أصح الطرق هو تفسير القرآن بالقرآن، يليه تفسير القرآن بالسنة لكونها شارحة وموضحة له، فإن لم يجد المفسر مراده في الكتاب ولا في السنة رجع إلى
أقوال الصحابة رضي الله عنهم واعتمد فهمهم له، نظرا لما شاهدوه من القرائن والأحوال، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، وخاصة كبراؤهم كابن عباس وابن مسعود وغيرهم. وأورد لذلك الأدلة والأمثلة.
بعدها عرج المصنف على ما نقل عن بعضهم في كونهم حكوا بعض أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» الحديث. (1) فبين أن الرواية الإسرائيلية ثلاثة أقسام، بينها وبين الموقف منها قبولا ورفضا.
انتقل الحافظ بعد ذلك ليبين حكم تفسير التابعي، فذكر أولا أن كثيرا من الأئمة يرجعون إلى أقوال التابعين كمجاهد الذي عرض المصحف على ابن عباس ثلاثا يسأله عن كل آية، وكسعيد بن جبير وعكرمة وغيرهم، مؤكدا أن اختلافهم في كثير من الأحايين هو اختلاف تنوع لا اختلاف تباين، وقرر عقب ذلك أن قول التابعي لا يكون حجة على من خالفهم إلا إذا أجمعوا على الشيء فحينئذ لا يرتاب في يكونه حجة.
ثم تعرض للتفسير بالرأي، وأوضح أن التفسير بمجرد الرأي، والتكلم في كتاب الله بما لا علم له به حرام غير جائز، وهو الذي ورد فيه التحذير والوعيد في أحاديث كثيرة، وتحرج السلف من القول في كتاب الله
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل. البخاري مع الفتح: 6/ 496.(2/44)
لذلك، أما التكلم من الذي يعلم اللغة والشرع فواجب لقوله تعالى:
{(لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنََّاسِ وَلََا تَكْتُمُونَهُ)} [آل عمران: 187] ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» (1)، ولهذا رأينا لأولئك الذين تحرجوا من القول في بعض المواطن أقوالا عديدة.
وقبل أن يختم ضعّف المروي عن السيدة عائشة رضي الله عنها في كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسر إلا آيا بعدد. وقال: حديث منكر غريب. وختم ببيان أوجه التفسير الأربعة المنسوبة للحبر ابن عباس رضي الله عنه.
رابعا: منهج ابن كثير في مقدمته:
من مناهج ثلة من القدماء في التأليف أنهم إذا وقفوا على تحرير لأحد السابقين من أهل العلم في مسألة من المسائل العلمية، وارتضوا ذلك وتبنوه، نقلوه بنصه في تآليفهم وكتبهم، سواء أشاروا إلى ذلك كما فعل القرطبي الذي رأى أن من بركة العلم عزو القول إلى قائله، أم لم يشيروا كما فعل المصنف الحافظ ابن كثير في مقدمته التي بين أيدينا، ولا نشك أن منهج الأول أسلم، وإن كان المنهج الآخر لم يلق النكير من أهل العلم، وبخاصة إذا كان المنقول عن شخص له اتصال مباشر بالناقل، كما هو الحال بالنسبة للحافظ وشيخه ابن تيمية، حينئذ يكون الأمر غير خاف على الذين وضع الحافظ ابن كثير كتابه لهم.
__________
(1) سبق تخريجه.(2/45)
مهما يكن الأمر فإن الحافظ ابن كثير اتبع المنهج النقلي في مقدمته، فنقل جلّ ما جاء في مقدمة شيخه في هذا الموضوع، وإن أعمل قلمه في حذف اليسير من الآثار، كما أضاف إضافات خفيفة رأى أن من الأهمية ذكرها.
ومن الذي أسقطه أثران أوردهما ابن تيمية في معرض حديثه عن تفسير التابعي، الأول منهما ورد عن قتادة، وجاء معترضا أخبار مجاهد، فربما أسقطه الحافظ لأجل ذلك.
والآخر كان من أخبار مجاهد نفسه.
أما الإضافات، فقد أضاف بعض الروايات الدائرة حول التفسير بالرأي، واستدرك على شيخه ابن تيمية ما رواه ابن جرير بسنده عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفسر شيئا من القرآن إلا آيا تعد علمهن إياه جبريل عليه السلام. (1) وتكلم عن سند الرواية، كما نقل كلام ابن جرير عنها.
خامسا: بيان مدى التزام المصنف في تفسيره بما جاء في مقدمته:
لم يتحدث ابن كثير في مقدمته عن المنهج الذي سيسلكه في تفسيره، ولا ألزم نفسه بشيء حتى يستطيع المرء الحكم عليه، وبيان مدى التزامه.
__________
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 10318وسيأتي تخريج الأثر.(2/46)
سادسا: مصادره في مقدمته:
المصدران المعتمدان للحافظ ابن كثير في مقدمته هما كتاب شيخه ابن تيمية (مقدمة في أصول التفسير) الذي لم يصرح بالرجوع إليه والتعويل عليه، والمصدر الثاني تفسير ابن جرير الطبري الذي نقل عنه يسيرا.
وقد أملى ابن تيمية مقدمته من فؤاده، دون الرجوع إلى مرجع محدد كما ذكر ذلك (1) غير أنه أورد أقوالا لأهل العلم في المسائل التي عالجها، وكان جلّ اعتماده على ابن جرير (2) وأبي عبيد القاسم بن سلام (3)
وغيرهما.
سابعا: أهم المزايا، وأظهر المآخذ:
لعل من أهم مزايا مقدمة الحافظ ابن كثير أنها عالجت الموضوع المطروق معالجة جادة، وجاءت وافية كافية في بابها.
أما أظهر المآخذ عليها، فتكمن في أنها لم تعالج إلا موضوعا واحدا من موضوعات علوم القرآن الكثيرة التي يحتاج المفسر الوقوف عليها والإلمام بها، كما أن الحافظ ابن كثير لم يأت بشيء جديد يضيفه إلى كلام شيخه ابن
__________
(1) انظر: مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 35.
(2) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 17161513.
(3) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 1716.(2/47)
تيمية في الموضوع نفسه، عدا تلك الإضافة اليسيرة التي ذكرتها من قبل.
هذا ما علمته، والله أعلم.(2/48)
الباب الثالث الموضوعات التي تناولتها مقدمات التفاسير
الموضوع الأول: نزول القرآن
الموضوع الثاني: جمع القرآن وترتيبه
الموضوع الثالث: رسم المصحف ونقطه وشكله ووضع الأخماس والأعشار
الموضوع الرابع: سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه
الموضوع الخامس: أسماء القرآن وأسماء سوره
الموضوع السادس: فضائل القرآن وخواصه وآداب تلاوته
الموضوع السابع: المكي والمدني
الموضوع الثامن: التفسير والتأويل
الموضوع التاسع: بيان شرف التفسير والحاجة إليه
الموضوع العاشر: أوجه التفسير وطرقه وأنواعه
الموضوع الحادي عشر: العلوم التي يحتاجها المفسر
الموضوع الثاني عشر: مراتب المفسرين
الموضوع الثالث عشر: الاختلاف بين المفسرين وقواعد الترجيح
الموضوع الرابع عشر: الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن
الموضوع الخامس عشر: الظهر والبطن والحد والمطلع
الموضوع السادس عشر: ما وقع في القرآن بغير لغة العرب
الموضوع السابع عشر: الوقف والابتداء
الموضوع الثامن عشر: إعجاز القرآن(2/49)
الموضوع الأول نزول القرآن
تناول هذا الموضوع في مقدمة تفسيره عبد الرزاق الصنعاني (1)، وابن الجوزي (2)، والخازن (3)، وابن جزي (4).
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في اليوم الذي أنزل فيه القرآن (5):
__________
(1) انظر: تفسيره: 1/ 60.
(2) انظر: تفسيره: 1/ 65.
(3) انظر: تفسيره: 1/ 10.
(4) انظر: تفسيره: 1/ 6.
(5) ذكر ابن القيم وغيره أن القرآن نزل يوم الاثنين، من غير خلاف بين العلماء في ذلك، وزاد البلقيني فقال: نهارا، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام: 2/ 819، عن صوم يوم الاثنين، فقال: ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت «أو أنزل عليّ» فيه.
أما الشهر الذي أنزل فيه فقد اختلف العلماء في تحديده، فقيل: رمضان، وقيل: رجب، وقيل: ربيع الأول. والراجح أنه رمضان، قال تعالى: {(شَهْرُ رَمَضََانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)} [البقرة: 185] وقال تعالى: {(إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)} [القدر: 1] وقال تعالى:
{(إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبََارَكَةٍ)} [الدخان: 3]، قال العلماء: كان ابتداء نزول القرآن في(2/51)
روى عبد الرزاق بسنده قال: حدثنا معمر عن أبان بن أبي عياش عن أبي العالية قال: نزلت الصحف في أول يوم من شهر رمضان، ونزلت التوراة لست، ونزل الزبور لاثني عشر منه، ونزل الإنجيل لثمان عشرة، ونزل الفرقان لأربع وعشرين من شهر رمضان. (1)
المسألة الثانية: في كيفية إنزاله:
أنزل الله القرآن المجيد من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر
__________
ليلة القدر من شهر رمضان. انظر في ذلك: طبقات ابن سعد: 1/ 194وزاد المعاد لابن القيم: 1/ 77والسيرة الحلبية لبرهان الدين الحلبي: 1/ 237والسيرة الشامية للصالحي: 2/ 303وفتح الباري لابن حجر: 12/ 356والزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي: 1/ 250تحقيق محمد صفاء حقي.
(1) تفسيره: 1/ 6وأبان بن أبي عياش هو (أبان بن فيروز) متروك الحديث، قاله أحمد والنسائي وغيرهما، انظر: الضعفاء الكبير للعقيلي: 1/ 38وتهذيب الكمال للمزي:
2/ 19وميزان الاعتدال للذهبي: 1/ 10وتهذيب التهذيب لابن حجر: 1/ 97 والأثر أخرجه ابن جرير بإسناده عن واثلة بن الأسقع، وليس فيه ذكر «الزبور»، وفيه:
«الإنجيل لثلاث عشرة خلت» قال أحمد شاكر: هو إسناد صحيح. تفسير الطبري بتحقيق شاكر: 3/ 446وأخرجه أحمد في المسند: 4/ 107وأبو عبيد في فضائل القرآن:
344 - ومحمد بن نصر في قيام الليل كما في المختصر للمقريزي: 321والبيهقي في الشعب: (ح 2277/ 510) وانظر الإتقان للسيوطي: 133ط البغا.
قال الحافظ ابن كثير في السيرة (1/ 393): وهو الراجح، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين فقالوا: إن ليلة القدر ليلة أربع وعشرين.(2/52)
جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك مفرقا على لسان جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم مدة رسالته عند الحاجة وحدوث ما يحدث على ما يشاء الله تعالى (1).
فقد أخرج عبد الرزاق بسنده عن سعيد بن جبير قال: نزل جبريل بالقرآن جملة واحدة ليلة القدر [] (2) النجوم من السماء في بيت العزة، فجعل جبريل ينزل به على النبي صلّى الله عليه وسلم رتبا (3).
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر إلى بيت العزة، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. (4)
__________
(1) انظر: تفسير الخازن 1/ 10.
(2) بياض في الأصل، والمطبوع
(3) أخرجه في تفسيره: 1/ 60، وهذه الرواية وإن كانت موقوفة إلا أن لها حكم الرفع.
(4) ذكره ابن الجوزي في تفسيره: 1/ 5وأخرجه الحاكم في المستدرك: 2/ 222وقال:
حديث صحيح ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. والبيهقي في الأسماء والصفات: 235، وفي الشعب: (ح 2277/ 510) وابن جرير في تفسيره 30/ 258، وانظر المسألة في الزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي: 1/ 214تحقيق محمد صفاء حقي.
وقد اختلف العلماء في كيفية إنزال القرآن من اللوح المحفوظ على أربعة أقوال:
الأول: أنه نزل إلى السماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجما، وهذا القول هو أصح الأقوال وأشهرها، وبه قال جماعة من العلماء منهم الزركشي وابن(2/53)
__________
حجر والسيوطي.
الثاني: أنه نزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة القدر، أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين، في كل ليلة ما يقدر الله تعالى إنزاله في كل السنة، ثم ينزل بعد ذلك منجما في جميع السنة. وهذا منسوب إلى مقاتل بن حيان والحليمي والماوردي. قال الطبري: وهو خلاف ما نقل عن الإجماع.
الثالث: أن ابتداء إنزاله في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة. وبهذا قال الشعبي وغيره، وقال القسطلاني: وهذا هو المعتمد.
الرابع: أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة، وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة، وجبريل نجمه على النبي في مدة البعثة. قال القسطلاني: وهذا غريب.
انظر: تفسير الطبري: 30/ 258والنكت والعيون للماوردي: 4/ 489والمرشد الوجيز لأبي شامة: 14والبرهان للزركشي: 1/ 228ولطائف الإشارات للقسطلاني: 1/ 22وفتح الباري لابن حجر: 9/ 4والزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي: 1/ 214تحقيق محمد صفاء حقي.
وجاء في التنزيل {(وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلََا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً كَذََلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ وَرَتَّلْنََاهُ تَرْتِيلًا)} [الفرقان: 32] فقد ثبت أن لنزول القرآن منجما حكما، منها إثبات قلب النبي وتقويته، ففي تجدد الوحي في كل حادثة تقوية للقلب، وعناية بالمرسل إليه، وتيسير للحفظ وهذا كله من الثبات.
ومن الحكم أيضا التدرج في تربية الأمة، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: «ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبدا. ولو نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنى أبدا». أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الفضائل، باب: تأليف القرآن:
6/ 100.(2/54)
المسألة الثالثة: في مدة نزوله، وسنّه صلّى الله عليه وسلم في ذلك الوقت:
اختلف في مدة نزول الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه نزل في ثماني عشرة سنة، وهو اختيار الحسن على ما ذكره ابن الجوزي، فقد نقل عنه أنه قال: ذكر لنا أنه كان بين أوله وآخره ثماني عشرة سنة، أنزل عليه بمكة ثماني سنين. (1)
القول الثاني: أنه نزل في عشرين سنة، ورد عن ابن عباس وعكرمة والشعبي، وهو اختيار ابن جزي (2)، فقد أخرج الحاكم عن عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر إلى بيت العزة، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة (3).
وقال الشعبي: فرق الله تنزيل القرآن فكان بين أوله وآخره عشرون
__________
ومن الحكم مسايرة الحوادث فمن القرآن ما هو جواب لسؤال، أو إنكار على قول قيل، أو فعل أو إقرار أو غير ذلك. ومنها التيسير على الأمة في الحفظ والفهم والعمل بمقتضى ذلك. انظر: المرشد الوجيز لأبي شامة: 27والبرهان للزركشي: 1/ 231 والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 1/ 220تحقيقي. ومناهل العرفان للزرقاني: 1/ 53.
(1) تفسير ابن الجوزي: 1/ 5.
(2) تفسير ابن جزي: 1/ 6و 4/ 210.
(3) انظر: تفسير ابن الجوزي: 1/ 5وقد سبق تخريج الأثر.(2/55)
وقال الشعبي: فرق الله تنزيل القرآن فكان بين أوله وآخره عشرون سنة (1).
القول الثالث: أنه نزل في ثلاث وعشرين سنة، ذكره ابن جزي (2).
وقد عزا ابن جزي الكلبي الخلاف إلى الاختلاف في سنّه صلّى الله عليه وسلم يوم توفي، هل كان ابن ستين أو ثلاث وستين سنة. (3)
__________
(1) انظر: تفسير ابن الجوزي: 1/ 5.
(2) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 6.
(3) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 6.
قلت: الخلاف هو نتيجة الاختلاف في مدة إقامته صلّى الله عليه وسلم بمكة بعد أن أنزل عليه الوحي، فمن العلماء من عدّ من ابتداء النبوة، ومنهم من عدّ من ابتداء الرسالة، ومنهم من اعتبر في العدّ الرؤيا الصالحة، والاختلاف دائر بين ثمان سنين وخمسة عشر سنة.
فعن الحسن: أنه أنزل عليه بمكة ثماني سنين. وعن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، أنه صلّى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن. والمشهور عند الجمهور، أن القرآن المكي استمر طيلة ثلاث عشرة سنة.
وعلى مذهب من يرى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عاش خمسا وستين سنة، يكون مدة نزول الوحي عليه بمكة هو خمسة عشر عاما، إذ لا خلاف أن مقامه صلّى الله عليه وسلم بالمدينة هو عشر سنين، فيكون هذا قولا رابعا.
والصحيح الراجح، والله أعلم، أنه أوحي إليه ثلاثا وعشرين سنة، عشر منها بالمدينة، وأنه توفي وله ثلاث وستون سنة. يقول أبو شهبة: ولو راعينا التدقيق والتحقيق تكون مدة نزول القرآن اثنتين وعشرين سنة، وخمسة أشهر ونصف شهر تقريبا. المدخل لدراسة القرآن الكريم: 55.(2/56)
وكان سنّه صلّى الله عليه وسلم حين نزل عليه الوحي أربعون سنة. (1)
المسألة الرابعة: أول ما نزل من القرآن:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ربما تنزل عليه سورة كاملة، وربما نزل عليه آيات مفترقات فيضم عليه السلام بعضها إلى بعض حتى تكتمل السورة (2).
وقد اختلف في أول القرآن نزولا على أربعة أقوال، فالمشهور أنه صدر سورة العلق: اقرأ. وقيل: المدّثر. وقيل: الفاتحة. وقيل:
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} *.
فأما الأول: فهو قول عائشة رضي الله عنها وبه قال قتادة وأبو صالح، وهو اختيار ابن الجوزي والخازن وابن جزي، وأغلب أهل العلم، وهو الصحيح الثابت (3)، فقد روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا
__________
انظر: سنن الترمذي: 5/ 251وصحيح مسلم: 4/ 1825والسيرة النبوية لابن كثير: 4/ 513وفتح الباري لابن حجر: 1/ 27.
(1) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 6، وهو الراجح المعتمد، والمشهور الذي أطبق عليه العلماء.
انظر: شرح مسلم للنووي: 15/ 99.
(2) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 6.
(3) انظر: تفسير ابن الجوزي: 1/ 5والخازن: 1/ 10وابن جزي: 1/ 6والإتقان للسيوطي: 1/ 68والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 1/ 227.(2/57)
الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يختلي بغار حراء فيتحنّث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطّني (1) حتى بلغ مني الجهد (2)، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ.
فأخذني فغطّني الثالثة ثم أرسلني فقال: {(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسََانَ مََا لَمْ يَعْلَمْ)} [العلق الآيات: 51]. فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرجف فؤاده. (3) فقال: زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه ما يجد من الروع. (4)
__________
(1) الغطّ: العصر الشديد والكبس، قال ابن الأثير: وإنما غطّه ليختبره هل يقول من تلقاء نفسه شيئا. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (غطط): 3/ 373.
(2) الجهد: قال الحافظ ابن حجر: الأكثر بالفتح، ولبعضهم بالضم، وهو المشقة، ويجوز نصب الدال ورفعها، فعلى النصب: بلغ جبريل مني الجهد. وعلى الرفع: بلغ الجهد مني مبلغه وغايته. فتح الباري: 1/ 100.
(3) صحيح البخاري: كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي: 1/ 3وكتاب التفسير سورة اقرأ: 6/ 87وكتاب التعبير: باب: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم: 8/ 67.
(4) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 6.(2/58)
القول الثاني: أن أول ما نزل سورة {الْمُدَّثِّرُ}، وهو مروي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه (1)، فقد روى مسلم عنه أن أول ما نزل {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}. (2)
ومن حديثه في الصحيحين قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا، فرجعت فقلت: زملوني، زمّلوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (3).
قال ابن الجوزي: ومعنى: (جثثت): فرقت، يقال: رجل مجئوث ومجثوث، وقد صحّفه بعض الرواة فقال: جبنت، من الجبن (4).
وقد جمع العلماء بين القولين، فنقل ابن الجوزي أنه لما نزل على
__________
(1) انظر: تفسير ابن الجوزي: 1/ 5وتفسير ابن جزي: 1/ 6.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
1/ 144، وانظر: تفسير ابن الجوزي: 1/ 5.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب: التفسير سورة المدثر، باب: قوله {قُمْ فَأَنْذِرْ}:
6/ 75ومسلم في صحيحه: كتاب: الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
1/ 143، وانظر: تفسير ابن الجوزي: 1/ 5.
(4) انظر: تفسير ابن الجوزي: 1/ 5، قال في النهاية: (جثثت): فزعت. و (جئثت) أي ذعرت وخفت. النهاية (جثث): 1/ 239و (جأث) 1/ 232.(2/59)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم صدر سورة العلق، رجع فتدثّر فنزل {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (1).
القول الثالث: أن أول القرآن نزولا فاتحة الكتاب، ذكر ذلك ابن جزي (2).
القول الرابع: أنه {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} *، وهو مروي عن الحسن وعكرمة كما ذكر ابن الجوزي (3).
__________
(1) انظر: تفسير ابن الجوزي: 1/ 5ويجمع بينهما أيضا كما نقل الزركشي أن جابرا سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يذكر قصة بدء الوحي فسمع آخرها ولم يسمع أولها فتوهم أنها أول ما أنزل وليس الأمر كذلك. البرهان: 1/ 206، وقيل: إن جابرا سئل عن نزول سورة كاملة فبين أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل تمام سورة العلق وقيل غير ذلك.
انظر: الإتقان للسيوطي: 1/ 76.
(2) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 6وهذا القول أورده الزمخشري في تفسيره: 4/ 223، ونسبه لأكثر المفسرين، وقال: وذهب ابن عباس ومجاهد إلى أن أول سورة نزلت اقرأ، وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب. وقد رد عليه أهل العلم فقال ابن حجر: والذي ذهب إليه أكثر الأئمة هو الأول، وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول. انظر فتح الباري (سورة اقرأ):
8/ 714ونقل عن أبي بكر الباقلاني في الانتصار قوله: إن القول بأن الفاتحة أول ما نزل خبر منقطع. انظر الإتقان: 1/ 207.
(3) انظر: تفسير ابن الجوزي: 1/ 43وقد نسب السيوطي هذا القول لابن النقيب في مقدمته، وقال: هو قول زائد، ثم قال: وعندي أن هذا لا يعد قولا برأسه فإنه من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها، فهي أول آية نزلت على الإطلاق.(2/60)
وأول سورة نزلت بالمدينة البقرة ثم الأنفال، كذا قال الخازن (1).
المسألة الخامسة: آخر ما نزل من القرآن:
واختلفوا في آخر ما نزل من القرآن على الإطلاق على ستة أقوال، فالمشهور أنها آيات الربا التي في آخر البقرة. وقيل: آية الربا {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَذَرُوا مََا بَقِيَ مِنَ الرِّبََا} [البقرة: 278] وقيل: آخر آية نزلت {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ} [البقرة: 281]. وقيل: آية الدين التي في البقرة. وقيل: آية الكلالة التي في النساء {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللََّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلََالَةِ} [النساء: 176]. وقيل: {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}
[التوبة: 138] إلى آخر السورة. وقيل: سورة النصر.
القول الأول: أنها آية الربا {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَذَرُوا مََا بَقِيَ مِنَ الرِّبََا} [البقرة: 278]، فقد روى البخاري في أفراده من حديث ابن عباس قال: آخر آية أنزلت على النبي صلّى الله عليه وسلم آية الربا. (2)
__________
والإتقان: 1/ 80.
(1) انظر: تفسير الخازن: 1/ 11، وقد نقل الحافظ ابن حجر الاتفاق على ذلك. (فتح الباري: 8/ 160، قال السيوطي: في دعوى الاتفاق نظر لقول علي بن الحسن أن العنكبوت أول سورة نزلت بالمدينة. الإتقان: 1/ 81.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب: التفسير، سورة البقرة، باب: {وَاتَّقُوا يَوْماً}(2/61)
القول الثاني: أنها قوله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ}
[البقرة: 281] وهو مذهب سعيد بن جبير وأبي صالح، فقد روى الضحاك عن ابن عباس قال: آخر آية أنزلت {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ} (1).
القول الثالث: أنها آية الدين، وهي قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا تَدََايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] (2).
القول الرابع: أنها آية الكلالة وهي قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللََّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلََالَةِ} [النساء: 176] فقد روى أبو إسحاق عن البراء بن عازب أنه قال: آخر آية أنزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللََّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلََالَةِ}
__________
{تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ}: 5/ 164وانظر: تفسير ابن الجوزي: 1/ 6.
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره: 3/ 115وإسناده صحيح، وانظر: تفسير ابن الجوزي:
1/ 6وابن جزي: 1/ 6وانظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة: 118.
(2) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 6ودليله ما أخرجه أبو عبيد في فضائله عن ابن شهاب قال:
آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين. وأخرجه ابن جريج عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدا بالعرش آية الدين. قال السيوطي: مرسل صحيح الإسناد. ثم قال: ولا منافاة عندي بين هذه الروايات في آية الربا، و {وَاتَّقُوا يَوْماً} وآية الدين، لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، ولأنها في قصة واحدة، فأخبر كلّ عن بعض ما نزل بأنه آخر ما نزل، وذلك صحيح. الإتقان: 1/ 78.
وقال أبو شهبة: هذه آخر ما نزل في باب المعاملات، فهي آخرية مقيدة. المدخل لدراسة القرآن الكريم: 120.(2/62)
[النساء: 176] وآخر سورة أنزلت براءة (1).
القول الخامس: أنها قوله تعالى {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}
[التوبة: 138] إلى آخر السورة، روي عن أبي بن كعب: أن آخر آية نزلت {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 138] إلى آخر السورة. (2)
القول السادس: أن آخر سورة أنزلت سورة {إِذََا جََاءَ نَصْرُ اللََّهِ وَالْفَتْحُ} فقد أخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما آخر سورة نزلت {إِذََا جََاءَ نَصْرُ اللََّهِ وَالْفَتْحُ} (3).
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب: التفسير، سورة النساء، باب: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللََّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلََالَةِ} 5/ 185وانظر: تفسير ابن الجوزي: 1/ 6قال السيوطي: أي في شأن الفرائض. الإتقان: 1/ 87.
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند: 5/ 117وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، قال الهيثمي في المجمع: 7/ 36: وهو ثقة سيئ الحفظ، وبقية رجاله ثقات.
وأخرجه ابن مردويه، وابن جرير في تفسيره: 11/ 78والبيهقي في الدلائل: 7/ 139 والحاكم في المستدرك: 2/ 338وانظر: تفسير ابن الجوزي: 1/ 6.
(3) صحيح مسلم: كتاب: التفسير: (ح 43024/ 2319) وانظر: تفسير ابن الجوزي:
1/ 6وتفسير ابن جزي: 1/ 6.
وأما القول بأن آخر القرآن نزولا هو قوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:
3] فلم يذكره أحد من العلماء المعتبرين، فلا يعتد به. وانظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة: 125.(2/63)
أواخر مخصوصة:
آخر ما نزل بمكة عن ابن عباس أنها «سورة العنكبوت»، وقال الضحاك وعطاء: آخر سورة هي «المؤمنون». وعن مجاهد: أنها {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}.
وآخر سورة نزلت بالمدينة «المائدة» وقيل: «التوبة» (1).
__________
والراجح والله أعلم، هو قوله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ}، والمرجحات لهذا عديدة كما ذكر ذلك الزرقاني وأبو شهبة وغيرهما، ومنها:
أأنه لم يحظ قول من الأقوال بجملة من الآثار وأقوال أئمة التفسير مثل ما حظي به هذا القول.
ب ما تشير إليه الآية في ثناياها من التذكير باليوم الآخر، والرجوع إلى الله.
ج ما ظفر به من الوقت بين تحديد نزولها، وبين وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو ما لم يظفر به قول آخر، فقد نصت رواية ابن أبي حاتم أن النبي صلّى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها تسع ليال ثم مات ليلتين خلتا من ربيع الأول. انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 91والمدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة: 119.
(1) انظر: تفسير الخازن: 1/ 11والبرهان للزركشي: 1/ 194والإتقان للسيوطي:
1/ 32و 1/ 80.(2/64)
الموضوع الثاني جمع القرآن وترتيبه
عرض لهذا الموضوع في مقدمة تفسيره عبد الرزاق الصنعاني (1)، وابن جرير الطبري (2) وابن عطية (3)، والقرطبي (4)، والخازن (5)، وابن جزي (6).
وهذا الموضوع يحتوي على قسمين رئيسين:
الأول: جمع القرآن.
والثاني: ترتيب القرآن.
القسم الأول: جمع القرآن،
وقد تفاوت المفسرون الذين سبق ذكرهم في عرضه وأوجز ذلك في ثلاث عشرة مسألة:
المسألة الأولى: الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم:
__________
(1) انظر تفسيره: 1/ 57.
(2) انظر تفسيره: 1/ 59.
(3) انظر تفسيره: 1/ 545047.
(4) انظر تفسيره: 1/ 80595649.
(5) انظر تفسيره: 1/ 107.
(6) انظر تفسيره: 1/ 76.(2/65)
أخرج الشيخان عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جمع القرآن على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم أربعة، كلّهم من الأنصار: معاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب (1)، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. قال قتادة: قلت لأنس:
من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي. (2)
وفي البخاري عنه أنه قال: مات النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة:
أبو الدرداء (3)، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. قال: نحن ورثناه (4) أي أبا زيد وفي رواية قال: مات أبو زيد ولم يترك عقبا، وكان
__________
(1) هو أبي بن كعب بن قيس بن عبيد، من بني النجار، من كتاب الوحي، وأحد من جمع المصحف بأمر عثمان، توفي (21هـ). انظر الاستيعاب لابن عبد البر: 1/ 47ومعرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 28.
(2) أخرجه البخاري: كتاب مناقب الأنصار، باب: مناقب زيد بن ثابت: البخاري مع الفتح: 7/ 127ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بن كعب وجماعة من الأنصار: 4/ 1914. وانظر تفسير القرطبي: 1/ 56 والخازن: 1/ 9.
(3) هو عويمر بن مالك، وقيل عامر، اشتهر بكنيته، أسلم يوم بدر، وشهد أحدا، قال عنه صلّى الله عليه وسلم: نعم الفارس عويمر، توفي (32هـ). انظر: الإصابة لابن حجر: 3/ 45وتهذيب التهذيب لابن حجر: 8/ 175.
(4) صحيح البخاري: كتاب: فضائل القرآن، باب: القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: البخاري مع الفتح: 9/ 47.(2/66)
بدريا. (1) أهـ، واسم أبي زيد: سعد بن عبيد (2).
فظاهر هذه الآثار أن الذين جمعوا القرآن بمعنى حفظوه على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم هم خمسة نفر، والأمر بخلاف ذلك كما يقول أبو بكر بن الطيب الباقلاني، فقد ثبت بالطرق المتواترة أن عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وتميما الداري، وعبادة بن الصامت (3)، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم قد جمعوا القرآن وحفظوه ولهذا يحتمل أن أنسا أراد أن يجمع القرآن ويأخذه تلقينا من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غير تلك الجماعة، لكون بعضهم أخذ بعض القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضه عن غيره صلى الله عليه وسلم. (4)
__________
(1) صحيح البخاري: كتاب: المغازي، باب: مات أبو زيد: البخاري مع الفتح: 7/ 313 وانظر: تفسير القرطبي: 1/ 56.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 57، وبذلك جزم الطبراني، كما في الفتح لابن حجر:
7/ 128، وقد اختلف في اسمه، والراجح أنه قيس بن السكن بن زعوراء. انظر:
الإصابة لابن حجر: 3/ 250و 4/ 78وفتح الباري له: 7/ 128و 314.
(3) هو عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم الأنصاري، شهد العقبة الأولى والثانية وبدرا والمشاهد كلها، كان يعلم الناس القرآن، توفي (34هـ). انظر: الإصابة لابن حجر:
2/ 268وأسد الغابة لابن الأثير: 3/ 160.
(4) انظر: نكت الانتصار لنقل القرآن للباقلاني: 7067وفيه غير هذا الاحتمال والطبقات الكبرى لابن سعد: 2/ 235وتفسير القرطبي: 1/ 57قال ابن حجر في الفتح: 9/ 47: وذكر العلماء لذلك عدة أوجه. ثم ذكر منها ثمانية.(2/67)
كما أفاد القرطبي يرحمه الله أن الروايات تضافرت بأن الخلفاء الأربعة جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأجل سبقهم إلى الإسلام، وإعظام الرسول صلى الله عليه وسلم لهم. (1)
وقد أخرج مسلم والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة. وقال: حديث حسن صحيح. (2) وفي رواية مسلم: خذوا القرآن من أربعة: من ابن أمّ عبد فبدأ به الحديث (3).
فابن مسعود وسالم هما أيضا ممن جمعا القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/ 57.
(2) سنن الترمذي: كتاب: المناقب، باب: مناقب عبد الله بن مسعود: 5/ 674.
(3) صحيح مسلم: كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه:
4/ 1913وانظر تفسير القرطبي: 1/ 58.
(4) قلت: والذي يظهر أن المقصود من الروايات ليس الحصر، فقد ثبت أن عددا كبيرا من الصحابة حفظوا القرآن زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي وقعة بئر معونة التي كانت في السنة الرابعة للهجرة قتل من القراء على ما أخرجه البخاري في صحيحه سبعون قارئا. صحيح البخاري كتاب: المغازي، باب: غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة: البخاري مع الفتح: 7/ 385.(2/68)
المسألة الثانية: حول جمع ابن مسعود للقرآن:
لقد اختلف في جمع ابن مسعود رضي الله عنه للقرآن كاملا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم،، فذهب جماعة ومنهم أبو بكر ابن الطيب الباقلاني، وابن الأنباري، أن عثمان أتم الحفظ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فقد روى ابن الأنباري في كتابه «الرد على من خالف مصحف عثمان» عن أبي إسحاق قال: قال عبد الله بن مسعود: قرأت من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتين وسبعين سورة أو ثلاثا وسبعين سورة وقرأت عليه من البقرة إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ}
__________
ويقول أبو شامة: وقد أشبع القاضي أبو بكر محمد بن الطيب في الانتصار الكلام على حملة القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام أدلة كثيرة على أنهم كانوا أضعاف هذه العدة المذكورة، وأن العادة تحيل خلاف ذلك، ويشهد لذلك كثرة القراء المقتولين يوم مسيلمة باليمامة إلى أن قال: وقد قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما:
جمعت القرآن فقرأته كله في ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأه في شهر الحديث. وعبد الله غير مذكور في هذه العدة، فدل على أنها ليست للحصر، وما كان من ألفاظ للحصر فله تأويل، ومن تأويلاته: أنه لم يجمعه على جميع وجوهه، والأحرف والقراءات التي نزل بها، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنها كلها شاف كاف، إلا أولئك النفر فقط، ومنها أنه لم يجمع ما نسخ منه وأزيل رسمه بعد تلاوته مع ما ثبت رسمه وبقي فرض حفظه وتلاوته إلا تلك الجماعة، إلى أن قال: قال المازري: وكيف يعرف النقلة أنه لم يكمله سوى أربعة، وكيف تتصور الإحاطة بهذا وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متفرقون في البلاد؟!.
ثم قال: وإن لم يكمل القرآن سوى أربعة، فقد حفظ جميع أجزائه مئون لا يحصون، وما من شرط كونه متواترا أن يحفظ الكلّ الكلّ، بل الشيء الكثير إذا روى كلّ جزء منه خلق كثير علم ضرورة، وحصل متواترا. المرشد الوجيز لأبي شامة: 4038.(2/69)
{يُحِبُّ التَّوََّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، قال أبو إسحاق:
وتعلّم عبد الله بقية القرآن من مجمّع (1) بن جارية الأنصاري. (2)
وذكر عن أبي إسحاق أنه قال: سألت الأسود (3): ما كان عبد الله يصنع بسورة الأعراف؟ فقال: ما كان يعلمها حتى قدم الكوفة قال: وقد قال بعض أهل العلم: مات عبد الله بن مسعود قبل أن يتعلم المعوّذتين، فلهذه العلة لم توجدا في مصحفه. (4)
__________
(1) هو مجمع بن جارية بن عامر بن مجمع الأنصاري، أحد من جمع القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي في خلافة عثمان. انظر: الإصابة لابن حجر: 3/ 366وتهذيب التهذيب لابن حجر: 10/ 47.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 58وأخرجه البخاري بلفظ: والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة البخاري مع الفتح: 9/ 46.
(3) هو الأسود بن هلال المحاربي الكوفي، له إدراك، روى عن ابن مسعود وغيره، وثقه النسائي وغيره، قيل توفي (84هـ). انظر تهذيب الكمال للمزي: 3/ 231وتهذيب التهذيب لابن حجر: 1/ 342.
(4) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 58.
قلت: وقوله: «مات ولم يتعلم المعوذتين» مخالف للحقيقة، فالمشهور أن ابن مسعود لم يكتبهما في مصحفه، لا أنه لم يتعلمهما، إذ كيف يقال ذلك، وابن مسعود يقول فيما أخرجه مسلم وغيره: والذي لا إله غيره ما في كتاب الله سورة إلا وأنا أعلم حيث نزلت، وما من آية إلا وأعلم فيما نزلت، ولو أعلم أحدا هو أعلم بكتاب الله مني(2/70)
وعن محمد بن كعب القرظي قال: كان ممن ختم القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم حيّ عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود. قال ابن الأنباري: حديث ليس بصحيح عند أهل العلم، وإنما هو مقصور على محمد بن كعب فهو مقطوع لا يؤخذ به، ولا يعوّل عليه. (1)
فالشائع المعروف عند أهل الرواية والنقل أن عبد الله بن مسعود تعلم بقية القرآن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال بعض الأئمة: مات عبد الله بن مسعود قبل أن يختم القرآن. قال يزيد بن هارون (2): المعوذتان بمنزلة البقرة وآل عمران من زعم أنهما ليستا من القرآن، فهو كافر بالله العظيم. فقيل له: فقول عبد الله بن مسعود؟! فقال: لا خلاف بين المسلمين في أن عبد الله بن مسعود مات وهو لا يحفظ القرآن كله.
قال القرطبي: في هذا نظر. (3)
__________
تبلغه الإبل لركبت إليه. صحيح مسلم: 4/ 1913.
(1) وعقب القرطبي على هذا وقال: وقوله صلى الله عليه وسلم: خذوا القرآن من أربعة، من ابن أم عبد
الحديث يدل على صحته. تفسير القرطبي: 1/ 58أي صحة ما يتعلق بابن مسعود.
(2) هو يزيد بن هارون بن زاذان السلمي، كان رأسا في العلم والعمل، ثقة حجة، كبير الشأن، قيل: كان أحفظ من وكيع، توفي (206هـ) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي:
9/ 358وتاريخ بغداد للخطيب: 14/ 337.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 35.(2/71)
وذهب فريق آخر ومنهم القرطبي إلى كونه رضي الله عنه، جمع القرآن وأتم حفظه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فعن كميل (1) قال: قال عمر بن الخطاب:
كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر ومن شاء الله، فمررنا بعبد الله بن مسعود وهو يصلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا الذي يقرأ القرآن؟
فقيل له: هذا عبد الله بن أمّ عبد فقال: إن عبد الله يقرأ غضا كما أنزل. (2)
وروى وكيع وجماعة معه عن الأعمش عن أبي ظبيان قال: قال لي عبد الله بن عباس: أي القراءتين تقرأ؟ قلت: القراءة الأولى، قراءة ابن أمّ عبد فقال: بل هي القراءة الآخرة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه جبريل عليه مرتين، فحضر ذلك عبد الله فعلم ما نسخ من ذلك وما بدّل (3).
__________
(1) هو كميل بن زياد بن نهيك الصّبهاني، كان شريفا مطاعا في قومه، تابعي ثقة، قتله الحجاج سنة (82هـ). انظر: طبقات ابن سعد: 6/ 179وتهذيب الكمال للمزي:
24/ 218.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 57وسيرد تخريج الحديث إن شاء الله.
قال بعض العلماء: معنى قوله: «غضا كما أنزل» أي: أنه كان يقرأ الحرف الأول الذي أنزل عليه القرآن دون الحروف السبعة التي رخّص لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته عليها بعد معارضة جبريل عليه السلام القرآن إياه في كل رمضان، تفسير القرطبي: 1/ 57.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 57وأخرجه الإمام أحمد في المسند: (ح 53422/ 141) قال أحمد شاكر: إسناده صحيح. وقد روى ابن سعد بإسناده عن القاسم بن عبد(2/72)
ويدل عليه ما سبق قبل قليل عن عبد الله بن عمرو، قال القرطبي بعد أن سرد جملة من الأقوال في تأييد مذهبه: هذه الأخبار تدل على أن عبد الله جمع القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما تقدم. (1)
قال الخطابي: ومما يبين ذلك أن أصحاب القراءات من أهل الحجاز والشام والعراق كل منهم عزا قراءته التي اختارها إلى رجل من الصحابة قرأها على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستثن من جملة القرآن شيئا، فأسند عاصم (2)
قراءته إلى علي وابن مسعود، وأسند ابن كثير قراءته إلى أبيّ، وكذلك أبو عمرو بن العلاء (3) أسند قراءته إلى أبيّ، وأما عبد الله بن عامر (4) فإنه أسند
__________
مرة حتى إذا كان العام الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل جبريل فأقرأه القرآن مرتين قال عبد الله: فقرأت القرآن من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك العام الحديث الطبقات الكبرى لابن سعد: 2/ 195. وهذا صريح وحاسم في حفظ ابن مسعود للقرآن كله، والله أعلم.
(1) تفسير القرطبي: 1/ 5857.
(2) هو عاصم بن بهدلة بن أبي النّجود الأسدي، أحد القراء السبعة، وشيخ القراء بالكوفة، توفي (127هـ). انظر: غاية النهاية لابن الجزري: 1/ 346ومعرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 88.
(3) هو أبو عمرو زبان بن العلاء المازني البصري، ثقة وأحد القراء السبعة، توفي (154هـ). انظر غاية النهاية لابن الجزري: 1/ 288ومعرفة القراء الكبار للذهبي:
1/ 100.
(4) هو عبد الله بن عامر بن يزيد اليحصبي، إمام مقرئ من أهل الشام، وأحد القراء(2/73)
قراءته إلى عثمان، وهؤلاء كلهم يقولون: قرأنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسانيد هذه القراءات متصلة، ورجالها ثقات. (1)
المسألة الثالثة: المراحل التي مرّ بها جمع القرآن الكريم:
إن جمع القرآن الكريم بمعنى كتابته مر في الصدر الأول بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى:
جمع النبي صلى الله عليه وسلم بإشارة من جبريل عليه السلام:
نزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مفرقا في نحو ثلاث وعشرين سنة، فكان كلما نزل عليه شيء منه قرأه صلى الله عليه وسلم على أصحابه رضي الله عنهم ليحفظوه في صدورهم، وأمر كتّاب الوحي بكتابته وتسجيله بين يديه، محددا لهم موضع الآية أو الآيات ومكانها في السورة، فحفظ في الصدور والسطور معا، وكان المكتوب مفرقا في الصحف والجريد والظّرر واللخاف والخزف والكرانيف والعسب (2) وغير ذلك، ولم يجمع في
__________
السبعة، قيل: عرض على عثمان نفسه، توفي (118هـ). انظر: غاية النهاية لابن الجزري: 1/ 423ومعرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 82.
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 58.
(2) الجريد: السّعف، واحدها: جريدة. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير «جرد»: 1/ 256.
قال الأصمعي: اللّخاف: حجارة بيض رقاق، واحدتها لخفة. انظر: النهاية في غريب(2/74)
مصحف واحد روى ابن جرير بسنده عن سفيان بن عيينة عن الزهري قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع وإنما كان في الكرانيف والعسب. (1)
يقول الخازن: وإنما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعه في مصحف واحد لأن النسخ كان يرد على بعضه، ويرفع الشيء بعد الشيء من التلاوة، كما كان ينسخ بعض أحكامه فلم يجمع في مصحف واحد، ثم إنه لو رفع بعض تلاوته أدى ذلك إلى اختلاف واختلاط أمر الدين، فحفظ الله كتابه في القلوب إلى انقضاء زمن النسخ ثم وفق لجمعه الخلفاء الراشدين رضي
__________
الحديث لابن الأثير «لخف»: 4/ 244وانظر: تفسير القرطبي: 1/ 49وقال الخازن في تفسيره: 1/ 8: قال بعض الرواة: اللخاف يعني الخزف.
والظّرر: حجر له حدّ كحد السكين، والجمع ظرار مثل رطب ورطاب، وربع ورباع، وظرّان أيضا مثل صرد وصردان. انظر: تفسير القرطبي: 1/ 49والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير «ظرر»: 3/ 156.
الكرانيف: أصل السّعفة الغليظة، واحدها: كرنف. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير «كرنف»: 4/ 168.
العسب: أي جريدة النخل، وهي السعفة مما لا ينبت عليه الخوص. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: «عسب»: 3/ 234وفتح الباري لابن حجر: 9/ 14.
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره: 1/ 63قال أحمد شاكر: ذكر ابن حجر في الفتح: 9/ 9 رواية سفيان عن الزهري عن عبيد عن زيد بن ثابت، وأتمها في ص 11باختلاف في اللفظ.(2/75)
الله عنهم (1).
المرحلة الثانية:
جمع أبي بكر بإشارة من عمر رضي الله عنهما (2):
أخرج ابن جرير بسنده عن خارجة بن زيد (3) بن ثابت عن أبيه زيد، قال: لمّا قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة (4) دخل عمر بن الخطاب
__________
(1) انظر: تفسير الخازن: 1/ 10وقيل: إنه لم يجمع في مصحف واحد زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأن القرآن لم ينزل مرة واحدة بل نزل منجما في مدى عشرين سنة أو أكثر، وقيل: لأنه لم توجد دواعي لكتابته وجمعه في مصحف أو مصاحف مثل تلك الدواعي التي وجدت فيما بعد، ولهذا يقول الزرقاني في المناهل: 1/ 240: إن القرآن لو جمع في مصحف أو مصاحف لكان عرضة لتغيير الصحف والمصاحف كلما وقع نسخ، أو حدث سبب مع أن الظروف لا تساعد وأدوات الكتابة ليست متوفرة، والتعويل كان على الحفظ قبل كل شيء.
(2) وضع أبو بكر رضي الله عنه طريقة دقيقة محكمة، ونظاما عظيما انتهجه للجمع، فقد اعتمد على أمرين: الأول: ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: ما كان محفوظا في صدور الرجال، ولهذا وردت في بعض الروايات أن زيدا ما كان يقبل المكتوب إلا ومعه شاهدان عدلان يشهدان أنه كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأدلة على ذلك متواترة.
انظر: مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 245.
(3) هو خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري، ثقة توفي (99هـ). انظر: التاريخ الكبير للبخاري: 3/ 204وتهذيب التهذيب لابن حجر: 3/ 74.
(4) وكان ذلك في السنة الثانية عشرة من الهجرة، بقيادة خالد بن الوليد، لقتال مسيلمة الكذاب.(2/76)
على أبي بكر رحمه الله فقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة تهافتوا تهافت الفراش في النار، وإني لأخشى أن لا يشهدوا موطنا إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا وهم حملة القرآن فيضيع القرآن وينسى، فلو جمعته وكتبته! فنفر منها أبو بكر وقال: أفعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم! فتراجعا في ذلك.
ثم أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت، قال زيد: فدخلت عليه وعمر محزئلّ (1) فقال أبو بكر: إن هذا قد دعاني إلى أمر فأبيت عليه، وأنت كاتب الوحي، فإن تكن معه اتبعكما، وإن توافقني لا أفعل. قال: فاقتص أبو بكر قول عمر، وعمر ساكت، فنفرت من ذلك وقلت: نفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم! إلى أن قال عمر كلمته: «وما عليكما لو فعلتما ذلك؟» قال:
فذهبنا ننظر، فقلنا: لا شيء والله! وما علينا في ذلك شيء!
قال زيد: فأمرني أبو بكر، فكتبته في قطع الأدم وكسر الأكتاف والعسب. (2)
وروى عبد الرزاق بسنده أن زيد بن ثابت رضي الله عنه
__________
قال القرطبي: وقد قيل قتل من القراء في ذلك اليوم سبعمائة. تفسير القرطبي: 1/ 50.
(1) احزألّ الرجل: اجتمع وتحفّز ورفع صدره كالمتهيئ لأمر، فهو محزئل: منضم بعضه إلى بعض، جالس جلسة المستوفز. لسان العرب «حزل»: 1/ 625.
(2) أخرجه ابن جرير في تفسيره: 1/ 59. ولم أجده بلفظه عند غيره.(2/77)
قال: أرسل إليّ أبو بكر الصديق مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى إن استحرّ القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال عمر: هذا والله خير.
فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر.
قال زيد: قال أبو بكر: «إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه». فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: هو والله خير.
فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة
بنت عمر. (1)(2/78)
فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة
بنت عمر. (1)
وفي رواية البخاري: وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري (2).
وقال الليث (3): حدثني عبد الرحمن بن غالب عن ابن شهاب وقال:
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره: 1/ 57وابن أبي داود في المصاحف: 14وأورده القرطبي في تفسيره: 1/ 50والخازن في تفسيره: 1/ 7وعزاه للبخاري، وهو في البخاري، كتاب: فضائل القرآن، باب: جمع القرآن. البخاري مع الفتح: 9/ 11.
قال الخازن: 1/ 8: قوله: «بعث إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة» أي: لأوان قتلهم، وأراد به الواقعة التي كانت باليمامة في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهي وقعة الردة مع أصحاب الردة فقتل فيها خلق كثير من قراء القرآن.
قال: واليمامة مدينة باليمن على يومين من الطائف وعلى أربعة أيام من مكة، ولها عمائر، وهي مقدار أرض نجد. اهـ. قلت: وهذا وهم من المصنف، فاليمامة من أرض نجد، وهي اليوم تعتبر من غرب مدينة الرياض وتتبع إمارتها. وانظر: معجم البلدان لياقوت: 5/ 441.
وقوله «استحر القتل» أي: كثر، وينسب المكروه إلى الحر، والمحبوب إلى البرد. و «شرح الصدر»: سعته وقبوله للخير. تفسير الخازن: 1/ 9.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: فضائل القرآن، باب: جمع القرآن. البخاري مع الفتح: 9/ 11.
(3) هو الليث بن أبي سليم بن زنيم القرشي، صدوق عابد صالح في نفسه، اختلط أخيرا ولم يتميز حديثه فترك، توفي (138هـ). انظر المجروحين: 2/ 231والتقريب لابن حجر: 2/ 138.(2/79)
مع أبي خزيمة الأنصاري. (1)
قال أبو ثابت: حدثنا إبراهيم (2) وقال: مع خزيمة أو أبي خزيمة {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] (3).
وقال الترمذي في حديثه: فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] وقال: حديث حسن صحيح. (4)
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 50.
(2) هو إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع بن يزيد الأنصاري، ضعيف، قال ابن معين: ليس بشيء. استشهد به البخاري وقال: كثير الوهم. انظر تهذيب الكمال للمزي: 2/ 45 وفتح الباري لابن حجر: 9/ 12.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 50.
(4) ذكره القرطبي في تفسيره: 1/ 51وهو عند الترمذي، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة التوبة: 5/ 283.
وعن تردد أبي بكر وزيد عن المبادرة إلى رأي عمر يقول ابن بطال: إنما نفر أبو بكر أولا ثم زيد ثانيا لأنهما لم يجدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله فكرها أن يحلّا أنفسهما محل من يزيد احتياطه للدين على احتياط الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما نبههما عمر على فائدة ذلك، وأنه خشية أن يتغير الحال في المستقبل إذا لم يجمع القرآن فيصير إلى حالة الخفاء بعد الشهرة رجعا إليه. اهـ ومثل ذلك قال الباقلاني في نكت الانتصار: 318.(2/80)
وفي رواية البخاري قال ابن شهاب: وأخبرني خارجة بن زيد أنه سمع زيد بن ثابت يقول: فقدت آية من سورة الأحزاب حين نسخت المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ صَدَقُوا مََا عََاهَدُوا اللََّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] فألحقناها في سورتها. (1)
وأبو خزيمة الذي وجد عنده آخر التوبة هو غير خزيمة بن ثابت (2)
الذي وجد عنده آية الأحزاب، قال الخازن: هو أبو خزيمة بن أوس بن زيد بن أصرم بن ثعلبة بن عمر بن مالك بن النجار الأنصاري، شهد بدرا وما بعدها، وتوفي في خلافة عثمان وهو الذي وجدت عنده آخر سورة التوبة، قال: كذا ذكره ابن عبد البر. (3) وهو الذي عرفه أنس بقوله: نحن ورثناه. (4)
وفي رواية الطبري أن آية التوبة سقطت في جمع عثمان. قال: ابن عطية:
__________
وقال ابن حجر: وليس ذلك من الزيادة على احتياط الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو مستمد من القواعد التي مهدها الرسول صلى الله عليه وسلم. فتح الباري: 9/ 13.
(1) انظر: تفسير الخازن: 1/ 8وفتح الباري: 9/ 11.
(2) هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة الأوسي. انظر ترجمته في الإصابة لابن حجر: 1/ 425.
(3) انظر: تفسير الخازن: 1/ 9والاستيعاب لابن عبد البر: 4/ 50بهامش الإصابة.
(4) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 56.(2/81)
والأول أصح. (1) يعني أنه في جمع أبي بكر. قال: وهو الذي حكاه البخاري إلا أنه قال فيه: مع أبي خزيمة الأنصاري.
وبقيت الصحف التي جمعها زيد بأمر أبي بكر عند أبي بكر ثم عند عمر بن الخطاب من بعده، ثم عند حفصة بنته في خلافة عثمان، وانتشرت في خلال ذلك صحف في الآفاق كتبت عن الصحابة، كمصحف ابن مسعود وما كتب عن الصحابة بالشام، ومصحف أبيّ، وغير ذلك وكان في ذلك اختلاف حسب السبعة الأحرف التي أنزل القرآن عليها. (2)
المرحلة الثالثة:
جمع عثمان بإشارة من حذيفة رضي الله عنهما (3):
بقيت الصحف التي جمعت من قبل زيد في مأمن عن المخاطر عند حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها إلى خلافة عثمان رضي الله عنه كما بقيت المصاحف الخاصة بالصحابة في جوزتهم حسب ترتيبهم وحسب حرفهم، وانتشرت في البلدان والآفاق معهم، كمصحف ابن
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 1/ 60وتفسير ابن عطية: 1/ 51وتفسير القرطبي: 1/ 51.
(2) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 51.
(3) يرى بعض أهل العلم أن جمع عثمان انصبّ على ترتيب السور. انظر المستدرك للحاكم: 2/ 229وهو أمر مخالف للسبب الذي دفع عثمان للجمع، فقد ذكرت الروايات واتفقت على أن السبب كان الخلاف في القراءة الذي حدث في عدة وقائع، وقد تعاظم الأمر حتى خيفت الفتنة، فالقصد والغاية هي جمع الناس على قراءة واحدة، وإن كان روعي فيه الترتيب. وانظر: فتح الباري لابن حجر: 9/ 21.(2/82)
مسعود وما كتب عن الصحابة في الشام، وكمصحف أبيّ وغيرها.
وإذا كان أبو بكر قد أمر بجمع المصحف خشية ذهاب شيء منه بموت القرّاء الذين تهافتوا على القتال، فإن ما حدث في عهد عثمان لا يقلّ شأوا بأية حال عن ذلك، إنه الاختلاف في القراءة، الذي ظهر بوضوح بين المسلمين، في مواطن كثيرة، إلى أن كفر بعضهم بقراءة بعض، وكان الخلاف حسب السبعة الأحرف الذي أنزل عليها القرآن. (1)
وقد جاءت روايات عدة تدل على الرغبة في جمع الناس على مصحف واحد، وبرسم واحد، وإنهاء الخلاف قبل استفحال أمره، يقول ابن عطية: فتجرد عثمان رضي الله عنه للأمر واستناب الكفاة العلماء الفصحاء في أن يكتبوا القرآن ويجعلوا ما اختلفت القراءة فيه على أشهر الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفصح اللغات (2)، ومن ذلك:
ما رواه ابن جرير بسنده عن أبي قلابة، قال: لما كان في خلافة عثمان، جعل المعلّم يعلّم قراءة الرجل، والمعلّم يعلّم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين قال أيوب: فلا أعلمه إلا قال: حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان بن
__________
(1) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 51وبمثل ذلك قال ابن التين وغيره. انظر الإتقان: 1/ 188.
(2) انظر: تفسير ابن عطية 1/ 47.(2/83)
عفان، فقام خطيبا فقال: أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد اختلافا وأشد لحنا. اجتمعوا يا أصحاب محمد، فاكتبوا للناس إماما.
قال أبو قلابة: فحدثني أنس بن مالك قال: كنت فيمن يملي عليهم، قال: فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعله أن يكون غائبا أو في بعض البوادي فيكتبون ما قبلها وما بعدها، ويدعون موضعها، حتى يجيء أو يرسل إليه. فلما فرغ من المصحف، كتب عثمان إلى أهل الأمصار: إني قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندي، فامحوا ما عندكم. (1)
وروى سويد بن غفلة (2) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن عثمان قال: ما ترون في المصاحف؟ فإن الناس قد اختلفوا في القراءة حتى إن الرجل ليقول: قراءتي خير من قراءتك، وقراءتي أفضل من قراءتك، وهذا شبيه بالكفر. قلنا: ما الرأي عندك يا أمير المؤمنين؟
قال: الرأي عندي أن يجتمع الناس على قراءة، فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان
__________
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره: 1/ 61، وابن أبي داود في المصاحف: 28وابن أشتة.
انظر الإتقان للسيوطي: 1/ 187.
(2) هو سويد بن غفلة بن عوسجة بن عامر الجعفي، أدرك الجاهلية، وقدم المدينة حين نفضت الأيدي من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثقة معمر، توفي (80هـ)، انظر: تهذيب الكمال للمزي: 12/ 265وتهذيب التهذيب لابن حجر: 4/ 278.(2/84)
من بعدكم أشد اختلافا قلنا: الرأي رأيك يا أمير المؤمنين فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها إليه، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمان للرهط القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل القرآن بلسانهم. ففعلوا حتى نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كلّ أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. (1)
قال القرطبي: وكان هذا من عثمان رضي الله عنه بعد أن جمع المهاجرين والأنصار وجلة أهل الإسلام، وشاورهم في ذلك، فاتفقوا على جمعه بما صحّ وثبت في القراءات المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإطراح ما سواها، واستصوبوا رأيه، وكان رأيا سديدا موفقا، رحمة الله عليه وعليهم أجمعين. (2)
وأخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن حذيفة ابن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 52.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 52.(2/85)
وأذربيجان (1) مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها إليه، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها الأثر. (2)
قال ابن شهاب: وأخبرني خارجة بن زيد أنه سمع زيد بن ثابت يقول: فقدت آية من سورة الأحزاب حين نسخت المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ صَدَقُوا مََا عََاهَدُوا اللََّهَ عَلَيْهِ} فألحقناها في
__________
(1) إرمينية: بكسر الهمزة وتخفيف الياء، سميت بأرمين بن لطان بن لومن بن يافث بن نوح، وهو أول من نزلها سميت باسمه، وهي اليوم بيد طائفة الأرمن. انظر: تفسير الخازن:
1/ 9ومعجم البلدان لياقوت: 1/ 159.
وأذربيجان: بفتح الهمزة وسكون الذال، وموضع في بلاد العجم من مدائنها تبريز، وهي اليوم دولة مستقلة، انفصلت عن ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي. انظر: تفسير الخازن:
1/ 9ومعجم البلدان لياقوت: 1/ 128.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب: فضائل القرآن، باب: جمع القرآن: 9/ 11، وأخرجه ابن جرير بنحوه في تفسيره: 1/ 62وابن أبي داود في المصاحف: 25 وأورده ابن عطية في تفسيره: 1/ 47والخازن في تفسيره: 1/ 8. قلت: فكان هذا تأييدا لتوجس عثمان من وقوع الاختلاف بين البعيدين عنه.(2/86)
سورتها في المصحف. (1)
وفي رواية أخرى قال ابن شهاب: اختلفوا يومئذ في التابوت، فقال زيد: (التابوة) وقال عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص: (التابوت). فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال: اكتبوه (التابوت) فإنه بلسان قريش. (2)
وفي رواية أخرى عند ابن جرير أن حذيفة بن اليمان قدم من غزوة كان غزاها بمرج إرمينية فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان بن عفان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك الناس! فقال عثمان: وما ذاك؟ قال: غزوت مرج إرمينية فحضرها أهل العراق وأهل الشام، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبيّ بن كعب، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، فتكفرهم أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة ابن مسعود، فيأتون بما لم يسمع به أهل الشام فتكفرهم أهل الشام. قال زيد: فأمرني عثمان بن عفان أن أكتب له مصحفا، وقال: إني مدخل معك رجلا لبيبا فصيحا، فما اجتمعتما عليه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إليّ. فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص.
قال: فلما بلغنا {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التََّابُوتُ} [البقرة: 248] قال زيد:
فقلت: (التابوة)، وقال أبان بن سعيد: (التابوت)، فرفعنا ذلك إلى عثمان فكتب: (التابوت).
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح: كتاب: فضائل القرآن، باب: جمع القرآن: 9/ 11.
(2) هذه من رواية الترمذي: كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة التوبة: 5/ 284.(2/87)
قال: فلما فرغت عرضته عرضة، فلم أجد فيه هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ صَدَقُوا مََا عََاهَدُوا اللََّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى ََ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمََا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] قال: فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها عند خزيمة بن ثابت، فكتبتها.
ثم عرضته عرضة أخرى، فلم أجد فيه هاتين الآيتين: {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة 129128] فاستعرضت المهاجرين فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها مع رجل آخر يدعى أيضا خزيمة، فأثبتها في آخر براءة، ولو تمت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة (1).
ثم عرضته عرضة أخرى، فلم أجد فيه شيئا، ثم أرسل عثمان إلى حفصة يسألها أن تعطيه الصحيفة، وحلف لها ليردنّها إليها فأعطته إياها،
__________
(1) قوله: «ولو تمت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة» توحي بأن الصحابة تصرفوا حسب اجتهادهم، وأن تحديد وتعيين السور باجتهاد منهم، وأنه غير توقيفي، وهو خلاف الصحيح الثابت عند أهل العلم. وانظر: مصاعد النظر للبقاعي: 1/ 433 حاشية (4).(2/88)
فعرض المصحف عليها، فلم يختلفا في شيء، فردها إليها وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا مصاحف، فلما ماتت حفصة، أرسل إلى عبد الله بن عمرو في الصحيفة بعزمة، فأعطاهم إياها، فغلست غسلا.
وذكر من طريق آخر بنحوه سواء. (1)
__________
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره: 1/ 60.
وقد علق الأستاذ أحمد شاكر على هذين الأثرين فقال: قال ابن حجر في فتح الباري:
9/ 199، وذكر رواية الطبري مفرقة في شرح الباب في أول «باب جمع القرآن» في شرح حديث جمع القرآن الذي رواه البخاري من طريق ابن شهاب عن عبيد بن السبّاق عن زيد بن ثابت: «هذا هو الصحيح عن الزهري، أن قصة زيد بن ثابت مع أبي بكر وعمر، عن عبيد بن السبّاق عن زيد بن ثابت، وقصة حذيفة مع عثمان عن أنس بن مالك، وقصة فقد زيد بن ثابت الآية من سورة الأحزاب في رواية عبيد بن السبّاق عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، وقد رواه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن الزهري، فأدرج قصة آية سورة الأحزاب في رواية عبيد بن السبّاق»، ثم قال عن هذا الخبر الذي رواه الطبري: «وأغرب عمارة بن غزية فرواه عن الزهري فقال: عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، وساق القصص الثلاثة بطولها: قصة زيد مع أبي بكر وعمر، ثم قصة حذيفة مع عثمان أيضا، ثم قصة فقد زيد بن ثابت الآية من سورة الأحزاب. أخرجه الطبري، وبين الخطيب في (المدرج)، أن ذلك وهم منه، وأنه أدرج بعض الأسانيد على بعض».
وقال العيني في شرحه عمدة القارئ: 16/ 198: وقع في رواية عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن سعد مع «خزيمة بن ثابت»، أخرجه أحمد والترمذي. ورواية من قال: مع أبي خزيمة. أصح.(2/89)
المسألة الرابعة: أن عثمان بن عفان
رضي الله عنه جعل الصحف التي عند حفصة إماما في هذا الجمع الأخير، وأنه قرن بزيد بن ثابت فيما رواه البخاري والترمذي وغيرهما ثلاثة من قريش: سعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن الزبير.
وفي رواية الطبري أنه قرن بزيد أبان بن سعيد بن العاص وحده.
وقد رجح العلماء القول الأول، وضعّفوا الآخر. (1)
وقال القرطبي: وما ذكره البخاري والترمذي أصح. (2)
المسألة الخامسة: وجه جمع عثمان الناس على مصحف،
وقد سبقه إلى ذلك أبو بكر وفرغ منه.
يقول القرطبي: إن عثمان رضي الله عنه لم يقصد بما صنع جمع الناس على تأليف المصحف، ألا ترى كيف أرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك.
__________
قال: والذي وجد معه آخر سورة التوبة أبو خزيمة، بالكنية، والذي وجد معه الآية من الأحزاب خزيمة، واسم أبي خزيمة لا يعرف، وهو مشهور بكنيته، وهو ابن يزيد ابن أصرم.
(1) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 52.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 52.(2/90)
وإنما فعل ذلك عثمان لأن الناس اختلفوا في القراءة بسبب تفرق الصحابة في البلدان، واشتد الأمر في ذلك وعظم اختلافهم وتشبثهم، ووقع بين أهل الشام والعراق ما ذكره حذيفة رضي الله عنه. (1)
المسألة السادسة: عدد المصاحف التي أمر عثمان بنسخها:
ذكر ابن عطية أن عثمان بن عفان نسخ من المصحف نسخا ووجه بها إلى الآفاق، وأمر بما سواها من المصاحف أن تحرق أو تخرق تروى بالحاء غير المنقوطة، وتروى بالخاء على معنى ثم تدفن ورواية الحاء غير المنقوطة أحسن. (2)
قال القرطبي: وقال غيره أي غير ابن عطية: قيل: سبعة (3).
وقيل: أربعة. وهو الأكثر (4)، فوجّه للعراق والشام ومصر بأمهات (5)،
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/ 51وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: 9/ 21: وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القرآن حين قرءوا بلغاتهم على اتساع اللغات.
(2) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 52وتفسير القرطبي: 1/ 54وانظر المصاحف لابن أبي داود: 43.
(3) وهو قول أبي حاتم السجستاني. المصاحف لابن أبي داود: 34، وانظر الزيادة والإحسان في علوم القرآن: 2/ 519بتحقيقي. وأشار مكي في الإبانة إلى قول السجستاني، وقال: ورواته أكثر. الإبانة: 49.
(4) وهو قول أبي عمرو. انظر: المقنع: 9، قال: وهو الذي عليه الأئمة. وقال ابن حجر والعيني والسيوطي: المشهور أنها خمسة. انظر: فتح الباري: 9/ 20وعمدة القاري:
16/ 199والإتقان: 1/ 189.
(5) وبقي الرابع في المدينة، ومن قال: إنها سبعة، قال: وأرسل إلى مكة، وإلى الشام، وإلى(2/91)
فاتخذها قراء الأمصار معتمدا اختياراتهم، لم يخالف أحد منهم مصحفه على النحو الذي بلغه. (1)
المسألة السابعة: الآيات المفقودة في الجمعين:
ورد في رواية الطبري أن زيد بن ثابت فقد آية الأحزاب {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ صَدَقُوا مََا عََاهَدُوا اللََّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى ََ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمََا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] ووجدها مع خزيمة بن ثابت، وأنه فقد في نفس الجمع آية التوبة {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة 129128] وأنه وجدها مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضا.
وفي رواية البخاري: عن زيد بن ثابت قال: لما نسخت الصحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، لم أجدها إلا مع خزيمة الأنصاري الذي جعل رسول الله شهادته بشهادة رجلين {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ صَدَقُوا مََا عََاهَدُوا اللََّهَ عَلَيْهِ} (2).
__________
اليمن وإلى البحرين، وإلى البصرة، وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدا. وانظر فتح الباري لابن حجر: 9/ 20وعمدة القاري للعيني: 16/ 199.
(1) تفسير القرطبي: 1/ 54.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 51والرواية في البخاري، كتاب: فضائل القرآن، باب:(2/92)
وعند الترمذي: فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ صَدَقُوا مََا عََاهَدُوا اللََّهَ عَلَيْهِ}
فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت، أو أبي خزيمة فألحقتها في سورتها. (1)
ويظهر من الأدلة أن الآية الأولى آية التوبة فقدت في الجمع الأول، وهو جمع أبي بكر، قال ابن عطية: وهو أصح. (2)
وفي جمع عثمان فقدت الآية التي في الأحزاب.
وأبو خزيمة الذي وجدت معه آية التوبة، هو غير خزيمة بن ثابت الذي وجدت معه آية الأحزاب، فهذا هو المعروف بذي الشهادتين (3)، شهد
__________
جمع القرآن: 9/ 11.
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 51.
(2) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 51وتفسير القرطبي: 1/ 51وعمدة القاري للعيني:
16/ 200.
(3) سمي بذي الشهادتين لكونه شهد بتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك حين ابتاع صلى الله عليه وسلم فرسا من أعرابي، وقبل أن يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي ثمن الفرس ساومه آخرون، فأنكر الأعرابي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ابتاعه منه، وطلب الشهود، فشهد خزيمة بتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخزيمة لم يشهد البيع، فجعل صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين. أخرجه أبو داود في سننه: كتاب: الأقضية، باب: إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز أن يحكم به: 3/ 308قال ابن القيم: كان فرضا على كل من سمع هذه القصة أن(2/93)
بدرا وما بعدها، وقتل يوم صفين مع علي رضي الله عنه. (1)
المسألة الثامنة: حول إثبات النص القرآني:
إن قول زيد رضي الله عنه: «فقدت آية من سورة الأحزاب
إلى قوله: فوجدتها مع خزيمة»، وقوله: «فلم أجد فيه هاتين الآيتين: {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} يوحي بإثبات النص القرآني بقول الواحد، وهو ما ينعق به بعض المبتدعة والملحدين، ويطعنون به في القرآن العظيم، وقد تصدى لهم أهل العلم، وبينوا زيف مقولتهم، ومن أوجه الرد عليهم:
أن خزيمة رضي الله عنه لما جاء بهما تذكرهما كثير من الصحابة، وقد كان زيد يعرفهما، ولذلك قال: فقدت آيتين من آخر سورة التوبة ولو لم يعرفهما لم يدر هل فقد شيئا أو لا، فالآية إنما ثبتت بالإجماع لا بخزيمة وحده.
ومن ذلك: أنها ثبتت بشهادة خزيمة وحده لقيام الدليل على صحتها
__________
يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايع الأعرابي، وذلك من لوازم الإيمان، والشهادة بتصديقه صلى الله عليه وسلم وهذا مستقر عند كل مسلم، ولكن خزيمة تفطن لدخول هذه القضية المعينة تحت عموم الشهادة لصدقه في كل ما يخبر به، فلا فرق بين ما يخبر به عن الله، وبين ما يخبر به عن غيره في صدقه في هذا وهذا، ولا يتم الإيمان إلا بتصديقه في هذا وهذا، فلما تفطن خزيمة دون من حضر لذلك، استحق أن تجعل شهادته بشهادتين.
أعلام الموقعين لابن القيم: 2/ 138.
(1) انظر: تفسير الخازن: 1/ 9.(2/94)
في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي قرينة تغني عن طلب شاهد آخر بخلاف آية الأحزاب فإن تلك ثبتت بشهادة زيد وأبي خزيمة لسماعهما إياها من النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
ومن ذلك: أن زيدا صرح بأنه كان يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها آية الأحزاب فهو قد سمعها وعلم موضعها من السورة بتعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إنما تتبع الرجال للاستظهار لا لاستحداث علم. والله أعلم. (2)
المسألة التاسعة: في التأييد الذي لقيه عثمان رضي الله عنه لحرقه المصاحف:
حين نسخ عثمان المصاحف، وأرسل بها إلى النواحي، أمر ما سواها أن تحرق أو تخرق سعيا منه إلى جمع الناس على مصحف واحد، وقد وافقه الصحابة على فعله فكان إجماعا.
ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب (الرد) عن سويد بن غفلة (3)، قال:
سمعت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول: يا معشر الناس اتقوا
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 57.
(2) انظر: تفسير الخازن: 1/ 9.
(3) قال ابن حجر في التقريب 1/ 341: غفلة، بفتح المعجمة والفاء، مخضرم من كبار التابعين توفي سنة (80هـ).(2/95)
الله! وإياكم والغلو في عثمان، وقولكم: حرّاق المصاحف، فو الله ما حرقها إلا على ملأ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. (1)
وعن عمير بن سعيد (2) قال: قال علي بن أبي طالب: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان. (3)
وعن قتادة قال: قال ابن مسعود: من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله، فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، اتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. (4)
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 54والرواية في المقنع: 18وانظر: نكت الانتصار لنقل القرآن للباقلاني: 359ومصاعد النظر للبقاعي: 1/ 437.
(2) هو عمير بن سعيد النخعي الصهباني، ثقة، روى عن علي وأبي موسى وابن مسعود وغيرهم، توفي سنة (107هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 443وتهذيب التهذيب لابن حجر: 8/ 146.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 54والمصاحف لابن أبي داود: 30ونكت الانتصار لنقل القرآن للباقلاني: 359وفضائل القرآن لأبي عبيد: 194ط غاوجي والمرشد الوجيز لأبي شامة: 53.
(4) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 59. والمصاحف لابن أبي داود: 1/ 59وهكذا صار فعل عثمان رضي الله عنه سنة متبعة في التخلص من المصاحف التالفة.(2/96)
المسألة العاشرة: في حرق المصاحف ردّ على القائلين بقدم الحروف والأصوات:
قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الحديث: «وأمر أي عثمان بما سوى ذلك من القرآن أن يحرق» وقول عثمان: «إني قد صنعت كذا وكذا ومحوت ما عندي فامحوا ما عندكم» فيه ردّ على الحلولية والحشوية القائلين بقدم الحروف والأصوات، وأن القراءة والتلاوة قديمة، وأن الإيمان والروح قديم (1) كما أن في فعل عثمان رضي الله عنه وإقرار الصحابة له بيان لكيفية التخلص من تالف أوراق المصاحف وكتب العلم.
المسألة الحادية عشرة: في اختيار زيد بن ثابت رضي الله عنه دون غيره من القراء للجمع:
نصت الروايات السابقة أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كلّفوا زيد بن ثابت لجمع القرآن، مع وجود غيره من الحفاظ الجامعين والسابقين إلى الإسلام، كابن مسعود وأبيّ بن كعب، ومن هم في
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 55وقد بسط الحديث وردّ على القائلين بقدم الحروف والأصوات.
قال ابن حجر في الفتح: 9/ 21: استدل بتحريق عثمان الصحف على القائلين بقدم الحروف والأصوات لأنه لا يلزم من كون كلام الله قديما أن تكون الأسطر المكتوبة في الورق قديمة، ولو كانت هي عين كلام الله لم يستجز الصحابة إحراقها، والله أعلم.(2/97)
منزلة أعظم من منزلة زيد بن ثابت، الأمر الذي جعل بعض من وجد في نفسه أنه أحق من زيد للقيام بهذا العمل الجليل، ونيل هذا الشرف العظيم، أن يكره لزيد ذلك، وأن لا ينقاد لأمر الخليفة عثمان، باعتماد المصحف الإمام، وحرق ما سواه.
فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أقرأ أمتي أبيّ بن كعب.» (1) «وقال: من سرّه أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أم عبد» (2).
ولمكانة ابن مسعود رضي الله عنه عند أهل العراق خاصة، ولما
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه بلفظ: «أقرأنا أبي»، كتاب: التفسير، باب: قوله: ما ننسخ من آية، البخاري مع الفتح: 8/ 167والترمذي في السنن، كتاب: المناقب، باب:
مناقب معاذ وزيد: 5/ 665بلفظ: وأقرؤهم لكتاب الله أبي، وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجة في سننه، المقدمة: 1/ 55.
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند من رواية عمر: 1/ 44538267وابن ماجة في سننه: 1/ 49وقال الهيثمي في المجمع: 9/ 287: رواه أحمد والطبراني وفيه عاصم بن أبي النجود وهو على ضعفه حسن الحديث، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير فرات بن محبوب وهو ثقة وقال الحافظ العراقي: أخرجه أحمد والنسائي في الكبرى من حديث عمر، والترمذي وابن ماجة من حديث ابن مسعود، وقال الترمذي: حسن صحيح. تخريج الأحياء: 1/ 280وقد روى هذا الحديث من عدة طرق، ومن عدد من الصحابة، انظر في ذلك مجمع الزوائد:
10/ 288287.(2/98)
رأى من أولويته للقيام بهذا الأمر، أشار على أهل العراق برفض هذا العمل، والاحتفاظ بالمصاحف التي في أيديهم.
قال ابن شهاب في الحديث الذي أخرجه الترمذي: أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله ابن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف، وقال: يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر يريد زيد بن ثابت ولذلك قال: يا أهل العراق، اكتموا المصاحف التي عندكم، وغلّوها فإن الله عزّ وجلّ يقول: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمََا غَلَّ يَوْمَ الْقِيََامَةِ} [آل عمران: 161] فالقوا الله بالمصاحف. (1)
ويعلل أبو بكر الأنباري هذا العمل من ابن مسعود رضي الله عنه، وما بدا منه من نكير بأن ذلك كان نتيجة الغضب، وهو أمر لا يؤخذ به، بدليل أنه رضي الله عنه حين زال الغضب عرف حسن اختيار عثمان ومن ومعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي على موافقتهم، وترك الخلاف معهم. (2)
__________
(1) أخرجه الترمذي في الجامع الصحيح، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة التوبة: 5/ 285 وقال: هذا حديث حسن صحيح أخرجه ابن أبي داود في المصاحف: 17وأبو عبيد في الفضائل: 155ط غاوجي وأورده الذهبي في السير: 1/ 487وانظر: تفسير القرطبي: 1/ 54وفتح الباري لابن حجر: 9/ 17.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 53ونكت الانتصار لنقل القرآن للباقلاني: 364.(2/99)
وقد جاء اختيار زيد بن ثابت نتيجة حفظه للقرآن بمحضر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكونه من ألزم الناس كتابة للوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لما كان يتمتع به من الشباب والنشاط، وهي الخصال التي ذكرتها الرواية الواردة في جمع أبي بكر السابقة، فكونه شابا يكون أنشط لما يطلب منه، وكونه عاقلا يكون أوعى له، وكونه لا يتّهم تركن النفس إليه، وكونه كان يكتب الوحي يكون أكثر ممارسة، وهي الصفات التي أهّلته لجمعه زمن عثمان (1)، ولهذا يقول ابن الأنباري: لم يكن الاختيار لزيد من أبي بكر وعمر وعثمان على عبد الله بن مسعود في جمع القرآن، وعبد الله أفضل من زيد، وأقدم في الإسلام، وأكثر سوابق، وأعظم فضائل إلا لأن زيد أحفظ للقرآن من عبد الله، إذ وعاه كله ورسول الله صلى الله عليه وسلم حيّ، والذي حفظ منه عبد الله نيف وسبعون سورة، ثم تعلم الباقي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي ختم القرآن وحفظه ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي أولى بجمع المصحف. (2)
ثم إن الموضوع يتعلق بالكتابة وزيد هو كاتب النبي صلى الله عليه وسلم وإذا أطلق الكاتب انصرف إليه.
__________
(1) انظر: رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية لغانم قدوري: 104.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 53والمقنع للداني: 121وقد سبق الخلاف في حفظ ابن مسعود القرآن كاملا زمن النبي صلى الله عليه وسلم.(2/100)
والحق أن ما أوكل إلى زيد بن ثابت شرف عظيم، غير أنه ليس مقياسا للخيرية، كما أنه ليس طعنا في الذين لم يوكل إليهم العمل، ولا أدل على ذلك من تقديم زيد على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، لكونه أحفظ منهما وليس هو خير منهما ولا مساويا لهما في الفضائل والمناقب، ولهذا فتقديم زيد على ابن مسعود لم يكن طعنا فيه ولا انتقاصا منه. (1)
المسألة الثانية عشرة: حول ما ورد من كون علي رضي الله عنه هو أول من جمع القرآن:
ذهب ابن جزي من بين المفسرين إلى كون علي رضي الله عنه هو أول من جمع القرآن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 53ونكت الانتصار لنقل القرآن للباقلاني: 367وقد قيل: قدّم زيد لكونه شهد العرضة الأخيرة. وقيل: إنما أوكل العمل إلى زيد وهو بالمدينة، وعبد الله يومها بالكوفة، فلم يؤخر عثمان رضي الله عنه ذلك إلى أن يرسل إلى ابن مسعود ويحضره. وقيل غير ذلك. انظر: فتح الباري لابن حجر: 9/ 19والمستدرك للحاكم: 2/ 229وجوامع السيرة لابن حزم: 26.
(2) ومعتمده في ذلك ما رواه ابن أبي داود في المصاحف بسنده عن أشعث عن محمد بن سيرين قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أقسم علي أن لا يرتدي برداء إلى لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف، ففعل. فأرسل إليه أبو بكر بعد أيام: أكرهت إمارتي يا أبا الحسن؟
قال: لا إلا أني أقسمت ألا أرتدي برداء إلا لجمعة. فبايعه ثم رجع.
المصاحف لابن أبي داود: 10قال: لم يذكر (المصحف) إلا أشعث وهو لين الحديث، وإنما رووا: حتى أجمع القرآن بمعنى أتمّ حفظه، فإنه يقال للذي يحفظ القرآن أنه جمع(2/101)
ويقول: كان القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم متفرقا في الصحف وفي صدور الرجال، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قعد علي بن أبي طالب رضي الله عنه في بيته فجمعه على ترتيب نزوله، ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير ولكنه لا يوجد. (1)
__________
القرآن. اهـ. قال ابن عقيلة المكي: والحمل على جمعه في الصدر ينافيه ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصاحف عن ابن سيرين وفيه: أنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ»
الزيادة والإحسان: 2/ 586.
ثم أخرج عن عبد بن خير عن علي بسند حسن أنه قال: أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله. المصاحف: 5.
ولضعف الرواية الأولى لم يذكرها المفسرون في مقدماتهم، كما ضعّفها ابن حجر لانقطاعها، ورجح رواية عبد بن خير هذه لأنها أصح. فتح الباري: 9/ 12وأخرجها ابن الضريس في فضائله: 36وأوردها ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق في ترجمة الإمام علي: 28وفي الزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي: 2/ 586: عن جمع علي أنه جمع خاص له ولأهل العلم مثله، وهو أنه جمع القرآن وضم إليه تفسير آياته، والناسخ والمنسوخ منها فصار نفعه خاصا بأهل العلم، بخلاف جمع سيدنا أبي بكر بأنه أول ما جمعه جمعا عاما يتداوله كل أحد.
ويقول الزرقاني عن رواية جمع علي السابقة: «فقصاراها أن تثبت أن عليا أو بعض الصحابة كان قد كتب القرآن في مصحف، لكنها لا تعطي هذا المصحف تلك الصفة الإجماعية، ولا تخلع عليه تلك المزايا التي للمصحف المجموع في عهد أبي بكر، بل هي مصاحف فردية. مناهل العرفان: 1/ 254.
(1) تفسير ابن جزي: 1/ 6.(2/102)
المسألة الثالثة عشرة: حكم مخالفة مصحف عثمان بالزيادة والنقصان:
أجمعت الأمة الإسلامية أن القرآن اسم لكلام الله الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم معجزة خالدة له، وأنه محفوظ في الصدور، مقروء باللسان، مكتوب في المصاحف، معلومة سوره وآياته، مبرّأة من الزيادة والنقصان حروفه وكلماته، ومن ادّعى زيادة عليه أو نقصانا منه فقد أبطل الإجماع، وردّ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن المنزّل، وردّ قوله تعالى {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى ََ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لََا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كََانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88]، وأبطل آية رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالّة على صدقه، لأنّه إذ ذاك يصير القرآن مقدورا عليه، فلا يكون حجة ولا آية. (1)
وقد زعم بعض من زاغ عن الملة، وخرج عن إجماع المسلمين متبعا هواه حتى ضلّ به عن سواء السبيل، فادّعى أن مصحف عثمان لم يشتمل على جميع القرآن، كما ادّعى أن فيه زيادة في مواضع، وإسقاطا في مواطن، وأنه اشتمل على تصحيف حروف مفسدة مغيّرة، وأن عثمان أخطأ ولم يصب في إسناد الجمع إلى زيد بن ثابت، وغير ذلك مما أجاز به لنفسه مخالفة مصحف عثمان، والقراءة بما يراه، مدعيا أن من الصحابة من قرأ بما يخالف
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 80.(2/103)
به مصحف عثمان إلى غير ذلك مما أوحاه إليه شياطين الإنس والجن.
وقد انبرى له ولأمثاله ثلة من أهل العلم، فتصدوا لافتراءاتهم، وبينوا زيف مقولاتهم الفاسدة، حتى انجلى الحق وبان، كابن الأنباري والباقلاني وغيرهما من أئمة الإسلام، حيث أوضحوا حكم الشرع فيهم، وأنزلوهم منزلة من يدعي أن الصلوات المفروضة هي خمسون صلاة، وأن تزويج تسع من النساء حلال، وغير ذلك مما لم يثبت في الدين، ويحكم على معتقده بالكفر المبين، وقد نقل القرطبي بعض مقولات هذا الزائغ، فكان مما قال:
أن المصحف الذي جمعه عثمان رضي الله عنه لا يشتمل على جميع القرآن، إذ كان قد أسقط منه خمسمائة حرف، وذكر أن من القرآن (والعصر ونوائب الدهر) فادّعى أن جماعة المسلمين أسقطوا «ونوائب الدهر» (1). وذكر أن منه (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس، وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها) فادّعى أنه سقط على أهل الإسلام من القرآن (وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها) وذكر غير ذلك.
قال أبو بكر الأنباري: وذكر هذا الإنسان أن أبيّ بن كعب هو الذي قرأ (كأن لم تغن بالأمس وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها) وذلك
__________
(1) هي قراءة شاذة. انظر: مختصر في شواذ القرآن لابن خالويه: 179.(2/104)
باطل، ولأن عبد الله بن كثير قرأ على مجاهد، ومجاهد قرأ على ابن عباس، وابن عباس قرأ القرآن على أبيّ بن كعب {حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذََلِكَ نُفَصِّلُ الْآيََاتِ}، وفي رواية: وقرأ أبيّ القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد متّصل بالرسول عليه السلام، نقله أهل العدالة والصّيانة، وإذا صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لم يؤخذ بحديث يخالفه.
وقال يحيى بن المبارك اليزيدي: قرأت القرآن على أبي عمرو بن العلاء، وقرأ أبو عمرو على مجاهد، وقرأ مجاهد على ابن عباس، وقرأ ابن عباس على أبيّ بن كعب، وقرأ أبيّ على النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيها (وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها) قال: فمن جحد أن هذه الزيادة أنزلها الله تعالى على نبيه عليه السلام فليس بكافر ولا آثم (1).
كما ادّعى أن عثمان والصحابة رضي الله عنهم زادوا في القرآن ما ليس فيه، فقرأ في صلاة الفرض والناس يسمعون: (الله الواحد الصمد) فأسقط {قُلْ هُوَ} وغيّر لفظ {أَحَدٌ}، مدّعيا أن ما قرأ به هو الصواب (2).
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 83.
(2) قال أهل التفسير: نزلت الآية جوابا لأهل الشرك، لما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: صف لنا ربّك. أمن ذهب أم من نحاس أم من صفر؟ فقال عز وجل ردا عليهم: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} ففي {هُوَ} دلالة على موضع الردّ ومكان الجواب، فإذا أسقط بطل معنى الآية.
تفسير القرطبي: 1/ 58وفي القراءة انظر: مختصر في شواذ القرآن لابن خالويه: 182.(2/105)
وذكر دليلا لافترائه بأن مصحف عثمان اشتمل على حروف مفسدة مغيّرة قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبََادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، وادّعى أن الحكمة والعزة لا يشاكلان المغفرة، وأن الصواب: «وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم» (1). وأدخل في آية من القرآن ما لا يضاهي فصاحة رسول الله ولا يدخل في لسان قومه وادعى أنه من القرآن، وغير ذلك مما لا يعرف في نحو المعربين، ولا يحمل على مذاهب النحويين (2).
وذكر هذا القائل أن له أن يخالف مصحف عثمان كما خالفه أبو عمرو بن العلاء، فقرأ «إنّ هذين» «فأصدق وأكون» «وبشر عبادي الذين» بفتح الياء وغير ذلك.
وكما خالف ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي مصحف عثمان فقرءوا {كَذََلِكَ حَقًّا عَلَيْنََا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 103] بإثبات نونين، يفتح الثانية بعضهم ويسكنها بعضهم. وكما قرأ حمزة (ألا إنّ ثمودا كفروا ربّهم) بغير تنوين وإثبات الألف يوجب التنوين، وهو مما شنّع به على القرّاء، إلى غير ذلك من الادعاءات والافتراءات التي افترى بها على كتاب الله الذي
__________
(1) يقول العلامة صديق خان: قال ذلك على وجه التسليم لأمر الله والانقياد له، ولهذا عدل عن الغفور الرحيم إلى العزيز الحكيم، وقيل: قاله على وجه الاستعطاف كما يستعطف السيد بعبده. فتح البيان: 3/ 123.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 82.(2/106)
{لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}
[فصلت: 42].
قال أبو عبيد: ما يروى من الحروف التي تخالف المصحف الذي عليه الإجماع من الحروف التي يعرف أسانيدها الخاصة دون العامة فيما نقلوا فيه عن أبي وعن ابن عباس وما حكوه عن عمر بن الخطاب، لم ينقلها أهل العلم على أن الصلاة بها تحل، ولا أنها معارض بها مصحف عثمان لأنها حروف لو جحدها جاحد أنها من القرآن لم يكن كافرا والقرآن الذي جمعه عثمان بموافقة الصحابة له لو أنكر بعضه منكر كان كافرا، حكمه حكم المرتد يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
وقال أبو بكر الباقلاني: وفي قوله تعالى: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} [الحجر: 9] دلالة على كفر هذا الإنسان لأن الله عزّ وجلّ قد حفظ القرآن من التغيير والتبديل، والزيادة والنقصان (1).
قال: وفيه إبطال الإجماع الذي به يحرس الإسلام، وبثباته تقام الصلوات، وتؤدى الزكوات وتتحرى المتعبّدات.
وفي قوله تعالى: {الر كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ} [هود: 1] دلالة على بدعة هذا الإنسان، وخروجه إلى الكفر لأن معنى {أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ} منع الخلق من القدرة على أن يزيدوا فيها، أو ينقصوا منها، أو يعارضوها بمثلها.
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 84.(2/107)
وهذا الإنسان قد زاد فيها، وأسقط منها، والإسقاط نفي له وكفر به، ومن كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كله وأبطل معنى الآية (1).
وقد ضرب الأئمة أمثلة تؤكد فساد مقولة هذا المدعي ونحلته، وتبين زيف دعاويهم، كأن يقال لهم: أخبرونا عن القرآن الذي نقرؤه ولا نعرف نحن ولا من كان قبلنا من أسلافنا سواه هل هو مشتمل على جميع القرآن من أوله إلى آخره، صحيح الألفاظ والمعاني، عار عن الفساد والخلل؟ أم هو واقع على بعض القرآن، والبعض الآخر غائب عنا كما غاب عن أسلافنا والمتقدمين من أهل ملتنا؟
فإن أجابوا بأن القرآن الذي معناه مشتمل على جميع القرآن لم يسقط منه شيء، صحيح الألفاظ والمعاني، سليمها من كل زلل وخلل فقد قضوا على أنفسهم بالكفر حين زادوا فيه «فليس له اليوم هاهنا حميم، وليس له شراب إلا من غسلين، من عين تجري من تحت الجحيم» فأي زيادة في القرآن أوضح من هذه، وكيف تخلط في القرآن وقد حرسه الله منها ومنع كل مفتر ومبطل من أن يلحق بها مثلها، وإذا تؤمّلت وبحث عن معناها وجدت فاسدة غير صحيحة، لا تشاكل كلام الباري تعالى ولا تخلط به، ولا توافق معناه، وذلك أن بعدها {لََا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخََاطِؤُنَ} [الحاقة: 37] فكيف يؤكل الشراب، والذي أتى به قبلها: «فليس له اليوم هاهنا حميم،
__________
(1) المصدر السابق.(2/108)
وليس له شراب إلا من غسلين من عين تجري من تحت الجحيم لا يأكله إلا الخاطئون». فهذا متناقض يفسد بعضه بعضا، لأن الشراب لا يؤكل، ولا تقول العرب: أكلت الماء. لكنهم يقولون: شربته، وذقته، وطعمته ومعناه فيما أنزل الله تبارك وتعالى على الصحة في القرآن الذي من خالف حرفا منه كفر. {وَلََا طَعََامٌ إِلََّا مِنْ غِسْلِينٍ} لا يأكل الغسلين إلا الخاطئون، أو لا يأكل الطعام إلا الخاطئون. الغسلين: ما يخرج من أجوافهم من الشحم وما يتعلق به من الصّديد وغيره فهذا طعام يؤكل عند البلية والنقمة، والشراب محال أن يؤكل.
فإن ادّعى هذا الإنسان أن هذا الباطل الذي زاده من قوله «من عين تجري من تحت الجحيم» ليس بعدها {لََا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخََاطِؤُنَ}، ونفى هذه الآية من القرآن لتصحّ له زيادته، فقد كفر لما جحد آية من القرآن.
وأما ما ورد عن بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أنهم قرءوا بكذا وكذا فهو على جهة البيان والتفسير، لا أن ذلك قرآن يتلى، وكذلك ما نسخ لفظه وحكمه أو لفظه دون حكمه ليس بقرآن. (1)
القسم الثاني: ترتيب القرآن
وفيه ثلاث مسائل وفائدة:
المسألة الأولى: حول ترتيب الآيات:
__________
(1) المصدر السابق: 1/ 85.(2/109)
يقول الخازن: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن أصحابه ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف من جبريل عليه السلام إياه على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا في سورة كذا (1).
روى أبو بكر بن العياش (2) بسنده عن ابن عباس قال: آخر ما نزل من القرآن {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ ثُمَّ تُوَفََّى كُلُّ نَفْسٍ مََا كَسَبَتْ وَهُمْ لََا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 280] فقال جبريل للنبي عليه السلام: يا محمد ضعها في رأس ثمانين ومائتين من البقرة. (3)
ونقل ابن عطية عن مكي قوله: إن ترتيب الآيات في السور ووضع البسملة في الأوائل هو من النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يأمر بذلك في أول سورة براءة تركت بلا بسملة. قال القرطبي: هذا أصح ما قيل في ذلك. (4)
__________
(1) انظر: تفسير الخازن: 1/ 10.
(2) هو أبو بكر بن عيّاش بن سالم الأسدي، قيل اسمه شعبة، شيخ الإسلام، فقيه، محدث، مقرئ، وثقه ابن معين وغيره، وتوفي سنة (193هـ). انظر سير أعلام النبلاء للذهبي:
8/ 507وشذرات الذهب لابن العماد: 1/ 334.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 60.
(4) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 53وتفسير القرطبي: 1/ 59.
وقد أجمع أهل العلم أن ترتيب الآيات في السور توقيفي، ونقل الإجماع على ذلك الزركشي في البرهان، وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته، وعبارته: ترتيب الآيات في(2/110)
كما حذر أهل العلم الأعراض عن ترتيب المصحف العثماني، ومحاولة اتخاذ ترتيب آخر لآياته أو سوره، وفي ذلك يقول القرطبي نقلا عن ابن الأنباري: من عمل على ترك الأثر، والإعراض عن الإجماع، ونظم السور على منازلها بمكة والمدينة، لم يدر أين تقع الفاتحة لاختلاف الناس في موضع نزولها، ويضطر إلى تأخير الآية التي في رأس خمس وثلاثين ومائتين من البقرة إلى رأس الأربعين، ومن أفسد نظم القرآن فقد كفر به، وردّ على محمد صلى الله عليه وسلم ما حكاه عن ربه تعالى. (1)
المسألة الثانية: حول ترتيب النزول:
قال الخازن: كان القرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة رسالته نجوما عند الحاجة وحدوث ما يحدث، فكان صلى الله عليه وسلم يلقنه أصحابه، مبينا لهم موضعه ومكانه من التنزيل، فكانوا يحفظون موضعه كما يحفظون نصه، وكان أول
__________
سورها واقع بتوقيفه عليه السلام وأمره، من غير خلاف في هذا بين المسلمين. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: ترتيب الآيات أمر واجب وحكم لازم، فقد كان جبريل يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا. انظر: البرهان في تناسب سور القرآن لابن الزبير:
73 - والبرهان للزركشي: 1/ 256، والإتقان للسيوطي: 1/ 193وانظر فتح الباري لابن حجر: 9/ 40والنصوص الدالة على ذلك كثيرة مبسوطة في مظانها، ينظر في المستدرك للحاكم: 2/ 229والمصاحف لابن أبي داود: 7وشرح السنة للبغوي:
4/ 91والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 2/ 571564.
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 62.(2/111)
ما نزل بمكة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ثم {ن وَالْقَلَمِ} ثم {يََا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ثم {الْمُدَّثِّرُ} ثم {تَبَّتْ يَدََا أَبِي لَهَبٍ} ثم {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}
ثم {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ثم {وَاللَّيْلِ إِذََا يَغْشى ََ} ثم {وَالْفَجْرِ} ثم {وَالضُّحى ََ} ثم {أَلَمْ نَشْرَحْ} ثم {وَالْعَصْرِ} ثم {وَالْعََادِيََاتِ} ثم {إِنََّا أَعْطَيْنََاكَ الْكَوْثَرَ} ثم {أَلْهََاكُمُ التَّكََاثُرُ} ثم {أَرَأَيْتَ الَّذِي} ثم {قُلْ يََا أَيُّهَا الْكََافِرُونَ} ثم {الْفِيلِ} ثم {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} ثم والنجم ثم عبس ثم سورة القدر ثم البروج ثم والتّين ثم لإيلاف قريش ثم القارعة ثم القيامة ثم الهمزة ثم المرسلات ثم قاف ثم سورة البلد ثم الطارق ثم {اقْتَرَبَتِ السََّاعَةُ} ثم صاد ثم الأعراف ثم الجنّ ثم يس ثم الفرقان ثم فاطر ثم مريم ثم طه ثم الواقعة ثم الشعراء ثم النمل ثم القصص ثم بني إسرائيل ثم يونس ثم هود ثم يوسف ثم الحجر ثم الأنعام ثم والصّافّات ثم لقمان ثم سبأ ثم الزمر ثم المؤمن ثم السجدة ثم {حم عسق} ثم الزخرف ثم الدخان ثم الجاثية ثم نوح ثم إبراهيم ثم الأنبياء ثم المؤمنون ثم تنزيل السّجدة ثم الطّور ثم الملك ثم الحاقة ثم {سَأَلَ سََائِلٌ} ثم {عَمَّ يَتَسََاءَلُونَ} ثم النازعات ثم {إِذَا السَّمََاءُ انْفَطَرَتْ} ثم {إِذَا السَّمََاءُ
انْشَقَّتْ} ثم الروم ثم العنكبوت (1) وهي ثلاث وثمانون سورة على ما استقرّت عليه روايات الثقات (2).(2/112)
ما نزل بمكة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ثم {ن وَالْقَلَمِ} ثم {يََا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ثم {الْمُدَّثِّرُ} ثم {تَبَّتْ يَدََا أَبِي لَهَبٍ} ثم {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}
ثم {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ثم {وَاللَّيْلِ إِذََا يَغْشى ََ} ثم {وَالْفَجْرِ} ثم {وَالضُّحى ََ} ثم {أَلَمْ نَشْرَحْ} ثم {وَالْعَصْرِ} ثم {وَالْعََادِيََاتِ} ثم {إِنََّا أَعْطَيْنََاكَ الْكَوْثَرَ} ثم {أَلْهََاكُمُ التَّكََاثُرُ} ثم {أَرَأَيْتَ الَّذِي} ثم {قُلْ يََا أَيُّهَا الْكََافِرُونَ} ثم {الْفِيلِ} ثم {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} ثم والنجم ثم عبس ثم سورة القدر ثم البروج ثم والتّين ثم لإيلاف قريش ثم القارعة ثم القيامة ثم الهمزة ثم المرسلات ثم قاف ثم سورة البلد ثم الطارق ثم {اقْتَرَبَتِ السََّاعَةُ} ثم صاد ثم الأعراف ثم الجنّ ثم يس ثم الفرقان ثم فاطر ثم مريم ثم طه ثم الواقعة ثم الشعراء ثم النمل ثم القصص ثم بني إسرائيل ثم يونس ثم هود ثم يوسف ثم الحجر ثم الأنعام ثم والصّافّات ثم لقمان ثم سبأ ثم الزمر ثم المؤمن ثم السجدة ثم {حم عسق} ثم الزخرف ثم الدخان ثم الجاثية ثم نوح ثم إبراهيم ثم الأنبياء ثم المؤمنون ثم تنزيل السّجدة ثم الطّور ثم الملك ثم الحاقة ثم {سَأَلَ سََائِلٌ} ثم {عَمَّ يَتَسََاءَلُونَ} ثم النازعات ثم {إِذَا السَّمََاءُ انْفَطَرَتْ} ثم {إِذَا السَّمََاءُ
انْشَقَّتْ} ثم الروم ثم العنكبوت (1) وهي ثلاث وثمانون سورة على ما استقرّت عليه روايات الثقات (2).
وأما ترتيب المدني من السور وهي واحد وثلاثون سورة، فهي على ترتيب الآتي:
سورة البقرة ثم الأنفال ثم آل عمران ثم الأحزاب ثم الممتحنة ثم النّساء ثم {إِذََا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} ثم الحديد ثم سورة محمد ثم الرعد ثم الرّحمن ثم {هَلْ أَتى ََ عَلَى الْإِنْسََانِ}
ثم الطّلاق ثم لّم يكن ثم الحشر ثم الفلق ثم النّاس ثم {إِذََا جََاءَ نَصْرُ اللََّهِ وَالْفَتْحُ} ثم النّور ثم الحجّ ثم المنافقون ثم المجادلة ثم الحجرات ثم التحريم ثم الصف ثم الجمعة ثم التغابن ثم الفتح ثم التّوبة ثم المائدة. قال الخازن: ومنهم من يقدم المائدة على التوبة، كما اختلف في سور هل هي مكية أو مدينة. (3)، ولا يعني هذا أن السورة بتمامها نزلت قبل التي تليها، بل المراد أن فاتحتها نزلت قبل فاتحة التي تليها.
هذا وترتيب المصحف الذي بين أيدينا ليس حسب النزول، إذ لو كان
__________
(1) انظر: تفسير الخازن: 1/ 10.
(2) انظر: تفسير الخازن: 1/ 11والبرهان للزركشي: 1/ 193.
(3) انظر: تفسير تفسير الخازن: 1/ 11.(2/113)
كذلك لوجب أن ينتقض ترتيب الآيات داخل السورة، فقد صح وثبت أن الآيات كانت تنزل بالمدينة فتوضع في السورة المكية، كما كان صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك، ويبين موضعها بإشارة من جبريل، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده تعني بالمدينة وقد قدمتا في المصحف على ما نزل قبلهما بمكة (1).
المسألة الثالثة: حول ترتيب السور في المصحف العثماني:
اختلف السلف في ترتيب السور، فمنهم من كتب في مصحفه السور على تاريخ نزولها، وقدم المكي على المدني، ومنهم من جعل في أول مصحفه الحمد، ومنهم من جعل في أوله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ومنهم من فعل غير ذلك، مما أحدث إشكالا لدى الناظر في حكم ترتيب السور في المصحف العثماني، وحصيلة أقوال أهل العلم في ذلك ثلاثة أقوال: ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني كما ذكر ابن عطية وابن جزي أنه توفيقي وقع باجتهاد من الصحابة، وذهب آخرون إلى أنه توقيفي من الشارع ومنهم القرطبي والخازن، وتوسط غيرهم فقالوا أكثره توقيفي وأقله توفيقي باجتهاد الصحابة ومنهم ابن عطية. وتفصيل ذلك:
الرأي الأول: أنه توقيفي باجتهاد من الصحابة: وقد انتصر لهذا الرأي من المفسرين ابن جزي فقال: ترتيب السور على ما هو الآن من فعل
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 61.(2/114)
عثمان وزيد بن ثابت والذين كتبوا معه المصحف، وقد قيل: إنه من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ضعيف ترده الآثار الواردة في ذلك (1).
وهو رأي القاضي أبي بكر الباقلاني الذي قال: وترتيب السور اليوم هو من تلقاء زيد ومن كان معه، مع مشاركة من عثمان رضي الله عنه كما ذهب إليه مكي رحمه الله في تفسير سورة براءة. (2) وقد ذكر ابن عطية أن جمع زيد بأمر أبي بكر لم تكن السور فيه مرتبة (3)، وعلى ذلك جاء ترتيب مصحف عثمان الذي اتخذ المصحف الذي في حوزة حفصة أم المؤمنين إماما باجتهاد من زيد وعثمان ومن معهم.
الرأي الثاني: أن ترتيب أكثر السور توقيفي من الشارع: وانتصر لهذا الرأي ابن عطية فقال: وظاهر الآثار أن السبع الطوال والحواميم والمفصّل كان مرتبا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في السور ما لم يرتب، فذاك هو الذي رتّب وقت الكتب (4).
__________
(1) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 7.
(2) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 53وتفسير القرطبي: 1/ 59.
(3) انظر تفسيره: 1/ 51.
(4) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 53.
وممن انتصر لهذا الرأي أيضا أبو جعفر بن الزبير الغرناطي، فقال مضيفا لقول ابن عطية:
الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية، ويبقى منها أي من السور قليل يمكن أن يجري فيه الخلاف. انظر البرهان: 1/ 275. وفيه إشارة إلى الأنفال وبراءة(2/115)
__________
وهو ما ذهب إليه البيهقي. وقال السيوطي: وهو ما ينشرح له الصدر: أن ترتيب جميع السور توقيفي إلا براءة والأنفال. دلائل النبوة: 7/ 152والإتقان: 1/ 198وعن الحافظ ابن حجر: ترتيب بعض السور على بعض أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفا، وإن كان بعضه جاء من اجتهاد الصحابة. فتح الباري: 9/ 2.
وقد استدل من ارتضى هذا الرأي بما أخرجه الحاكم وغيره بسنده إلى أبي يزيد الفارسي قال: قال لنا ابن عباس: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} * ووضعتموها في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي عليه الزمان تنزل عليه السور ذوات عدد، فكان إذا أنزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتبه فيقول: ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، فكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وبراءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فظننا أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} *. المستدرك: 2/ 221، وأخرجه البيهقي في الدلائل: 7/ 152. كما استشهدوا بأدلة أخرى ليس هذا مكان بسطها.
قلت: قال تعالى: {وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
[النحل: 44] وقول عقمان في الأثر «ولم يبين لنا» صريح في تعارضه مع نص الآية ولهذا طعن في الأثر من جهة سنده ومتنه، وقد استفاض الدكتور عبد السميع حسنين في التعليق عليه في تحقيقه لكتاب مصاعد النظر للبقاعي: 1/ 448443، وخلاصة ما ذكره: أن في إسناده نظرا كبيرا، بل إن الأستاذ المحقق أحمد شاكر ذكر أنه ضعيف جدا بل لا أصل له، وساق الأدلة الدامغة على ذلك، هذا من جهة السند، أما من جهة المتن فقد ذكر عن أستاذه أحمد محمد يوسف القاسم في كتابه «الإعجاز البياني في ترتيب(2/116)
الرأي الثالث: أن ترتيب السور توقيفي من الشارع: وهو رأي القرطبي والخازن، صرّحا بذلك في مقدمتيهما.
قال القرطبي: وقال قوم من أهل العلم إن تأليف سور القرآن على ما
__________
القرآن الكريم وسوره» قوله: وهذا أي ضم براءة إلى الأنفال بغير بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مسلّم إذ كيف نثبت في المصحف أمرا على مجرد الظن ومن عثمان وحده. ثم إن قوله «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان الخ» يدل في الجملة على التوقيف في القرآن. وقوله «فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها» بعيد إذ الأنفال نزلت في السنة الثانية عقب غزوة بدر، وسورة التوبة نزلت في أواخر التاسعة بعد غزوة تبوك، وبعد خروج أبي بكر على رأس المسلمين إلى الحج، فكيف يعقل أن يظل رسول الله صلى الله عليه وسلم زهاء خمسة عشر شهرا ولا يبين للناس أنها منها أو غيرها؟ إنه بذلك يكون قد تأخر عن البيان في وقت الحاجة إليه، بل وما تقبل البيان، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، ثم إن إطلاق الاسم على كل منهما واختلافه فيهما يعين أن هذه غير تلك، فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم كلا منهما.
إلى أن قال: ثم إن عثمان رضي الله عنه يقول: «فظننت أنه منها» وظنه هذا ليس حجة في أمر القرآن، فإنه وإن لم يقف على ما يفيد القطع في براءة والأنفال وفعل ما فعل بناء على ظنه إلا أن غيره وقف، وقبل ما فعله ولم يتوقف. اهـ.
قلت: النصوص التي جاءت تشهد أن أغلب السور كانت مرتبة بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم، وليس معنى هذا أن السور الأخرى لم تكن مرتبة، أو ليس لها أدلة عند الصحابة الذين رتبوا مصاحفهم، حتى جاءت تلك المصاحف شبيهة في الترتيب إلى حد بعيد. بل قد يكون غاب عن بعضهم ما لم يغب عن الآخرين. والله أعلم.(2/117)
هو عليه في مصاحفنا كان عن توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم (1).
وقال الخازن: أمر أبو بكر بجمع المصحف في موضع واحد باتفاق من جميع الصحابة، فكتبوه كما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن قدموا وأخروا شيئا، أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه، فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على النحو الذي هو في مصاحفنا الآن. (2)
وقد استدل القائلون بهذا الرأي بعدة أدلة منها:
ما رواه يونس عن ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول: إنما ألّف القرآن على ما كانوا يسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
وبما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن على جبريل عليه السلام في كل عام مرة في رمضان، وأنه عرضه العام الذي توفي فيه مرتين (4).
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/ 60.
(2) تفسير الخازن: 1/ 10.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 10/ 60.
(4) انظر: فتح الباري لابن حجر: 9/ 43.(2/118)
ولا شك أن عرض جبريل للقرآن كان مرتبا سوره وآياته، ولهذا كلّف أبو بكر زيدا بالجمع وهو من شهد العرضة الأخيرة، وقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفي فيه مرتين، فلا شك أنه رتبه على نحو ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم (1).
وبما ذكره ابن وهب في «جامعه» قال: سمعت سليمان بن بلال يقول:
سمعت ربيعة يسأل: لم قدّمت البقرة وآل عمران، وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة، وإنما نزلتا بالمدينة؟!
فقال ربيعة: قد قدّمتا وألّف القرآن على علم ممن ألّفه، وقد اجتمعوا على العلم بذلك، فهذا مما ننتهي إليه ولا نسأل عنه (2).
وقد ذكر ابن الأنباري في كتابه الرد على من خالف مصحف عثمان:
أن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا، ثم فرّق على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وكانت السورة تنزل في أمر يحدث، والآية جوابا لمستخبر يسأل، ويوقف جبريل، رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف، فعله عن محمد خاتم النبيين عليه السلام عن رب العالمين.
وقال: فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة فهو كمن أفسد
__________
(1) انظر: تفسير الخازن: 1/ 10.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 59.(2/119)
نظم الآيات، وغيّر الحروف والكلمات، ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام نزلت قبل البقرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ هذا الترتيب وهو كان يقول: ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن (1).
وأما ما روي من اختلاف في ترتيب مصاحف ثلة من الصحابة، فإنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رتّب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك (2).
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 59.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 60.
قلت: والذي يظهر لي بعد استعراض الأدلة أن الراجح هو القول بأن ترتيب السور تمّ بتوقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم. وأن ما فعله زيد حين الجمع كان لعلمه بترتيب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم عرض القرآن عليه، فهو مرتب من قبل الله تعالى، ومن قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الوجه الذي نقل.
وإضافة إلى ما ذكر من الأدلة يقول صاحب المباني، ردا على القائلين بأن الترتيب كان باجتهاد الصحابة: فأي عقل يوجب تأخير سورة اقرأ إلى أخريات الكتاب وهو من أوله نزولا، وتقديم قوله {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ} إلى أول الكتاب وهو من آخره نزولا؟! وكيف كان يوجب تأخير السور المكية وهي من أوائلها نزولا، وتقديم السور المدنية وهي من أواخرها نزولا؟! فعلمت بهذا أن هذا الأمر لا يهتدي إليه بعقل دون أن يكون له توقيف من سمع. مقدمتان في علوم القرآن: 61.
وقال الكرماني: ترتيب السور هكذا هو من عند الله تعالى في اللوح المحفوظ. انظر:(2/120)
(فائدة):
من قال بأن ترتيب القرآن توقيفي لا يلزم تلاوته في الصلاة والدرس
__________
البرهان في متشابه تنزيل القرآن: 23. وقال ابن الحصار: ترتيب السور ووضع الآيات موضعها إنما هو بالوحي. انظر: تناسق الدرر للسيوطي: 57.
وقال الزركشي: لترتيب وضع السور في المصحف أسباب تطلع على أنه توقيفي من حكيم، إحداها بحسب الحروف كما في الحواميم، وثانيها لموافقة أول السورة لآخر ما قبلها كآخر الحمد في المعنى وأول البقرة، وثالثها للوزن في اللفظ كآخر تبت وأول الإخلاص. البرهان: 1/ 260.
ويضيف السيوطي: وما يدل على أنه توقيفي كون (الحواميم) رتبت ولاء، وكذا (الطواسين)، ولم يرتب (المسبحات) ولاء بل فصل بين سورها، وفصل بين طسم الشعراء، وطسم القصص، ب طس مع أنها أقصر منها، ولو كان الترتيب اجتهاديا لذكرت المسبحات ولاء، وأخرت طس عن القصص. الإتقان:
1/ 198.
وثمرة الخلاف أن الذين يرون أن الترتيب توقيفي من عند الرسول صلى الله عليه وسلم يتلمسون الحكم والفوائد والمناسبات بين السور، ويولون اهتماما خاصا لمعرفة تلك المناسبات، والربط بين السور.
ويحسن ختم هذه المسألة بما قاله الأستاذ محمد عبد الله دراز في هذا الشأن: إن كانت أي السور والآيات بعد تنزيلها قد جمعت عن تفريق، فلقد كانت في تنزيلها مفرقة عن جمع، كمثل بنيان كان قائما على قواعده، فلما أريد نقله بصورته إلى غير مكانه، قدّرت أبعاده، ورقّمت لبناته، ثم فرق أنقاضا، فلم تلبث كل لبنة منه عرفت مكانها المرقوم، وإذا البنيان قد عاد مرصوصا يشد بعضه بعضا كهيئته أول مرة. انظر: النبأ العظيم:
149.(2/121)
على الترتيب ذاته، بل يوجب تأليف سورة في الرسم والخط خاصة، ولا يعلم أن أحدا منهم قال بوجوب ذلك في الصلاة وفي قراءة القرآن ودرسه، ولا أنه لا يجوز لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة ولا الحج قبل الكهف، وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن ذلك فقالت: لا يضرك أيّة قرأت قبل وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة السورة في ركعة، ثم يقرأ في ركعة أخرى بغير السورة التي قبلها، وأما ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرءا القرآن منكوسا، وقالا: ذلك منكوس القلب (1)
فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة، ويبتدئ من آخرها إلى أولها لأن ذلك حرام محظور ومن الناس من يتعاطى هذا في القرآن والشعر ليذلل لسانه بذلك ويقدر على الحفظ، وهذا حظّره تعالى ومنعه في القرآن لأنه إفساد لسوره ومخالفة لما قصد بها. (2)
__________
(1) انظر: الإتقان للسيوطي: 1/ 308والأثر أخرجه عبد الرزاق في المصنف: (ح 7947 4323) والبيهقي في الشعب: (ح 2334/ 600) وابن أبي شيبة في المصنف:
10/ 564وأبو عبيد في فضائله: (ح 57131) وابن أبي داود في المصاحف:
151 - وذكره النووي في التبيان: 69وقال: إسناده صحيح. قال الهيثمي في المجمع: 7/ 168رواه الطبراني ورجاله ثقات.
(2) قاله أبو الحسن بن بطال، انظر: تفسير القرطبي: 1/ 61وفي هذا المعنى ينظر: غريب الحديث لأبي عبيد: 4/ 103. والنهاية في غريب الحديث (نكس): 5/ 115.(2/122)
الموضوع الثالث رسم المصحف ونقطه وشكله ووضع الأخماس والأعشار
تناول هذا الموضوع في مقدمة تفسيره ابن جرير الطبري (1) وابن عطية (2) والقرطبي (3) والخازن (4) وابن جزي (5)، مع تفاوت بينهم، وفيه عدة مسائل:
المسألة الأولى: حول رسم المصحف:
لم يتعرض المفسرون الذين سلف ذكرهم لرسم المصحف في مقدماتهم تصريحا غير أن ظاهر بعض الآثار التي أوردوها حول جمع المصحف زمن أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما تبين أن الرسم تم على يد الرهط التي تولت الجمع إلا مواضع محدودة اختلفوا فيها فكان لرأي عثمان رضي الله عنه على لغة قريش، ومن تلك الآثار ما جاء عند الطبري وغيره أن زيدا جمع المصحف في قطع الأدم وكسر الأكتاف
__________
(1) انظر: تفسيره: 1/ 59.
(2) انظر: تفسيره: 1/ 5448.
(3) انظر: تفسيره: 1/ 6353.
(4) انظر: تفسيره: 1/ 8.
(5) انظر: تفسيره: 1/ 7.(2/123)
والعسب (1). وقد بقيت تلك الصحف عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند حفصة بنته في خلافة عثمان، وجعلت من ثمّ إماما في جمع عثمان (2).
وعند الطبري وغيره أيضا عن ابن شهاب من حديث جمع عثمان للمصاحف: ففزع أي عثمان لذلك أي للاختلاف في القرآن فزعا شديدا، فأرسل إلى حفصة فاستخرج الصحف التي كان أبو بكر أمر زيدا بجمعها، فنسخ منها مصاحف، فبعث بها إلى الآفاق. (3)
وفي رواية الطبري والبخاري والتي ذكرها ابن عطية والقرطبي أن عثمان رضي الله عنه قال للرهط الذي أوكل إليه مهمة كتابة المصحف: إذا اختلفتم في شيء فاجعلوه بلغة قريش. قال ابن شهاب:
فاختلفوا يومئذ في (التابوت) فقال زيد: (التابوة). وقال ابن الزبير وسعيد بن العاص: (التابوت). فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال: اكتبوه بالتاء (التابوت)، فإنه نزل بلسان قريش. (4)
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 1/ 59، وقد سبق.
(2) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 5251.
(3) انظر: تفسير الطبري: 1/ 62وهو في فتح الباري لابن حجر: 9/ 14.
(4) انظر: تفسير الطبري: 1/ 61وابن عطية: 1/ 5248والقرطبي: 1/ 53 والخازن: 1/ 8وقد سبق.
وقد لقي رسم المصحف من أهل العلم عناية واضحة، وأفردت لذلك مؤلفات خاصة، درست غرائب الرسم، واستخلصت منها الحكم والفوائد، كما بينت حكم اتباع(2/124)
__________
الرسم وأقوال الأئمة في ذلك.
وتباينت الآراء حول وجوب اتباع الرسم العثماني الذي لقي القبول التام من الصدر الأول رضوان الله عليهم وهي في جملتها أربعة أقوال:
أأنه لا يجوز كتابة المصحف على الرسوم الأولى لاصطلاح الأئمة، لئلا يوقع في تغيير من الجهال، وهو قول تفرد به العز بن عبد السلام، وحجته التيسير على العامة.
ب أن الرسم العثماني تم باجتهاد من الرهط الذين تم اختيارهم من قبل الخليفة عثمان رضي الله عنه بقيادة زيد بن ثابت، ولهذا لا مانع من كتابته برسم آخر، وبهذا قال الباقلاني وابن خلدون، وحجتهم أن الله لم يفرض على الأمة رسوما معينة لكتابه العظيم، كما أنه ليس هناك ثمة دليل يوجب اتباع رسم المصحف الإمام.
ج أن الرسم اصطلاحي من الصحابة، غير أنه لقي القبول بإجماع الصدر الأول، ولم يخالفه أحد ولهذا يجب اتباعه باتفاق الأئمة، وهذا مذهب جمهور أهل العلم كالإمام مالك والإمام أحمد والداني وغيرهم.
د أن الرسم توقيفي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز مخالفته، لكونه كتب بين يدي رسول الله، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يملي على الكاتب ما نزل من آيات الذكر الحكيم، كما كان يعلمه بعض الأمور الكتابية. وممن قال بهذا الشيخ عبد العزيز الدباغ.
والذي يترجح عندي بعد النظر في الأدلة هو القول الثالث، وهو مذهب الجمهور وذلك لأمور:
أولا: أن الرسم العثماني أصبح سنة متبعة إلى يومنا هذا، وفي إخضاعه للتطور الإملائي عبر القرون مراعاة للجاهلين أمر يعرضه للتغيير والتبديل المستمر، وكما قال الزركشي:
شيء أحكمه السلف لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين.
ثانيا: أن للرسم العثماني دورا كبيرا في تصحيح القراءات، فالمعروف عند أهل العلم أن من شروط قبول القراءة موافقتها لرسم المصحف، ويترتب على تغيير رسمه، ذهاب(2/125)
__________
كثير من القراءات.
ثالثا: أن لنا الاقتداء بما فعله صحابي واحد، فكيف وقد أجمع على الرسم العثماني نحو من اثني عشر ألفا من الصحابة، ولهذا الأمر حرّم الإمام أحمد وغيره مخالفة الرسم العثماني، ولأجله لم يجوّز الإمام مالك كتابته بغير هذا الرسم، وقال: إلى على الكتبة الأولى. فهو أي الرسم العثماني أثر من أيدي الصحابة الذي هم أول من تلقى القرآن وسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وأول من خطّه في المصاحف.
رابعا: أن الأمة أجمعت أنه لا يجوز زيادة حرف في القرآن ولا إنقاص حرف منه، وبينت أن ما بين الدفتين هو كلام الله، وفي كتابته برسم آخر زيادة حروف إليه، وإنقاص حروف منه.
خامسا: أن من يتبنى كتابة المصحف برسم آخر يخالف الرسم العثماني، عاجز عن كتابة فواتح السور: مثل {كهيعص} و {طسم} و {حم عسق} وغير ذلك.
هذا وقد كثرت الصيحات المنادية بمخالفة الرسم العثماني في عصرنا الحالي، مدعية التسهيل على الجيل، وهي دعوة إلى العبث بالنص القرآني الذي بقي مصانا طيلة القرون الماضية من أيدي العابثين، يتولى كبرها دعاة المعاصرة، يقول الأستاذ عدنان زرزور في معرض رده على المنهزمين:
لا تخلوا لغة حية اليوم من حروف تكتب ولا تلفظ، أو من حروف تكتب على وجه وتلفظ في بعض الكلمات على وجه آخر الخ، وهي أمور يصيبها التلميذ عن طريق التعلم والقرآن عماد العربية وكتابها والأمر في لغته التعليم، وفي القرآن الكريم نفسه المشافهة والتلقي.
أما الدعوة إلى تغيير هذا الرسم تحت شعار المعاصرة والتسهيل فأعجب ما فيها وعجائبها كثيرة أن تكون في عصر الوسائل التعليمية المتنوعة الكثيرة والمتقدمة!! وقد حفظ القرآن الكريم، وتعمم رسمه، وبقي اللسان العربي وقواعد الإملاء(2/126)
المسألة الثانية: حول نقط المصحف وشكله:
أورد القرطبي عن يحيى بن كثير أنه قال: كان القرآن مجردا في المصاحف، فأول ما أحدثوا فيه النقط على الباء والتاء والثاء وقالوا: لا بأس به هو نور له، ثم أحدثوا نقطا عند منتهى الآي، ثم أحدثوا الفواتح والخواتيم. (1)
قال ابن عطية: روي أن عبد الملك بن مروان أمر بشكل المصحف ونقطه، وعمله، فتجرد لذلك الحجاج بواسط، وجدّ فيه وزاد تحزيبه، وأمر وهو والي العراق الحسن أي البصري ويحيى بن يعمر بذلك. (2)
__________
وقواعد النحو طيلة هذه القرون الخمسة عشر!! وبدون تلك الوسائل التعليمية الحديثة فهل يستقيم عند دعاة المعاصرة هذه لا مطلق المعاصرة أن يقال فيهم وفي أبناء جيلهم ما لا نرتضيه لهم من الكسل والغباوة وغير ذلك.
وقد أصدرت مراكز الإفتاء في عدد من الديار الإسلامية فتاوى تؤكد الوقوف عند المأثور من رسم المصحف وهجائه، وتحذر من مغبة تغييره وتبديله.
انظر: المقنع في معرفة رسوم مصاحف أهل الأمصار للداني: 9والبرهان للزركشي:
1/ 379376والإتقان للسيوطي: 4/ 145ط أبو الفضل إبراهيم والمدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة: 346والمدخل إلى علوم القرآن والتفسير لفاروق حمادة: 93علوم القرآن لعدنان زرزور: 10199دراسات قرآنية لعدنان زرزور: 109ورسم المصحف لغانم قدوري: 201والزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي، تحقيق فهد العندس: 2/ 234229هامش: (4).
(1) تفسير القرطبي: 1/ 63وانظر المحكم في نقط المصاحف للداني: 17.
(2) تفسير ابن عطية: 1/ 54وانظر تفسير القرطبي: 1/ 63والإتقان للسيوطي: 2/ 1182.(2/127)
قال ابن جزي: فأول من فعل ذلك الحجاج بن يوسف بأمر عبد الملك بن مروان. (1)
وأسند الزبيدي (2) في الطبقات إلى المبرد (3): أن أول من نقط المصحف هو أبو الأسود الدؤلي (4) (5). ثم ذكر أن ابن سيرين كان له مصحف نقطه له يحيى بن يعمر (6).
__________
أما الحسن فقد روى الداني أنه كان يكره نقط المصاحف. المحكم في نقط المصاحف: 11.
وأما ابن يعمر فقد ألف إثر ذلك كتابا في القراءات جمع فيه ما روي من اختلاف الناس فيما وافق خط المصحف، ومشى الناس على ذلك زمنا. تفسير ابن عطية: 1/ 54.
(1) تفسير ابن جزي: 1/ 7.
(2) هو محمد بن الحسن بن عبيد الله الزّبيديّ الشامي الأندلسي، إمام النحو، وصاحب التصانيف، له الطبقات في النحو، توفي (379هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي:
16/ 417وذرات الذهب لابن العماد: 3/ 94.
(3) هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدي المبرد، إمام النحو، وصاحب الأخبار، قيل أن المازني أعجبه جوابه، فقال له: قم فأنت المبرّد. أي المثبت للحق. ثم غلب عليه بفتح الرّاء.
له الكامل، توفي (286هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 13/ 576والبداية والنهاية لابن كثير: 11/ 79.
(4) اسمه على الأرجح ظالم بن عمرو، علامة فاضل، ولد أيام النبوة، وحدّث عن الصحابة، ثقة، قيل هو أول من تكلم في النحو، مات في طاعون الجارف سنة (69هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 81ووفيات الأعيان لابن خلكان: 2/ 535.
(5) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 55وتفسير القرطبي: 1/ 63وتفسير ابن جزي: 1/ 7 وانظر: المحكم في نقط المصاحف للداني: 3وكتاب النقط له: 124.
(6) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 55وتفسير القرطبي: 1/ 63وتفسير ابن جزي: 1/ 7(2/128)
وعن أبي الفرج (1) صاحب «الأغاني»: أن زياد بن أبي سفيان (2) أمر أبا الأسود بنقط المصحف. (3)
وفي كتاب «الأمصار» للجاحظ أن نصر بن عاصم (4) هو أول من نقط المصاحف وكان يقال له: نصر الحروف. (5)
__________
وانظر: المحكم في نقط المصاحف للداني: 5وكتاب = النقط له: 125.
(1) هو علي بن الحسين بن محمد الأصفهاني الكاتب، علامة، أديب، أخباري، بصير بأنساب العرب، له الأغاني وغيره، توفي (356هـ). انظر سير أعلام النبلاء للذهبي:
16/ 201وشذرات الذهب لابن العماد: 3/ 19.
(2) هو زياد بن أبيه، وهو زياد بن عبيد الثقفي، وهو ابن سمية، وهو زياد بن أبي سفيان الذي استلحقه معاوية بأنه أخوه، ولد عام الهجرة، وأسلم زمن الصديق، اشتهر بالحزم والدهاء والفطنة ورجاحة العقل، وضرب به المثل في النبل والسؤدد، وقيل كان أفتك من الحجاج لمن يخالفه هواه، توفي (53هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 494 وشذرات الذهب لابن العماد: 1/ 59.
(3) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 55وتفسير ابن جزي: 1/ 7وانظر: الأغاني لأبي الفرج: 12/ 346والمحكم في نقط المصاحف للداني: 3.
(4) هو نصر بن عاصم بن عمرو بن خالد الليثي البصري، ثقة، قيل: كان على رأي الخوارج. ذكر خليفة في طبقاته أنه مات بعد الثمانين. انظر: طبقات خليفة: 204و 206 وتهذيب التهذيب لابن حجر: 10/ 427.
(5) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 55وانظر: المحكم في نقط المصاحف للداني: 6وكتاب النقط له: 125والإتقان للسيوطي: 2/ 1182قال الأستاذ صبحي الصالح: لا يستبعد أن يكون عمله أي نصر بن عاصم امتدادا لعمل أستاذيه أبي الأسود وابن(2/129)
__________
يعمر، فإنه أخذ عنهما. مباحث في علوم القرآن: 93.
قلت: المشهور الذي ذهب إليه أكثر العلماء كما قال الداني، أن المبتدئ هو أبو الأسود الدؤلي. ويحتمل أن يكون يحيى ونصر وهما تلميذا أبي الأسود أوّل من نقّطاها للناس بالبصرة، وأخذا ذلك من أبي الأسود، إذ كان السابق.
يقول أبو شهبة: ويمكن التوفيق بأن أبا الأسود أول من نقط المصاحف بصفة شخصية، وتبعه في ذلك ابن سيرين، وأما عبد الملك فأول من أمر بنقط المصحف بصفة عامة رسمية شاعت وذاعت بين الناس قاطبة. انظر: المحكم في نقط المصاحف للداني: 6 والنقط له: 125والمدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة: 389.
وقد كان ثلة من السلف قد كره نقط المصحف وشكله كابن مسعود وقتادة والشعبي والنخعي وغيرهم، مبالغة في الحفاظ على القرآن، غير أن العهد تغير حين دخل اللحن والتغيير والتصحيف لسان العرب، مع كثرة المعتنقين للدين، يقول الداني في هذا المعنى:
اعلم أيدك الله بتوفيقه أن الذي دعا السلف رضي الله عنهم إلى نقط المصاحف بعد أن كانت خالية من ذلك وعارية منه وقت رسمها وحين توجيهها إلى الأمصار
ما شاهدوه من أهل عصرهم مع قربهم من زمن الفصاحة ومشاهدة أهلها، من فساد ألسنتهم، واختلاف ألفاظهم، وتغيّر طباعهم، ودخول اللحن على كثير من خواص الناس وعوامهم، وما خافوه من مرور الأيام المحكم: 18.
لقد أصبح النقط والشكل أمرا ضروريا ومستحبا، وفي ذلك يقول النووي: قال العلماء:
ويستحب نقط المصحف وشكله فإنه صيانة من اللحن فيه وتصحيفه، وأما كراهة الشعبي والنخعي للنقط فإنما كرها ذلك في ذلك الزمان خوفا من التغيير فيه، وقد أمن ذلك اليوم فلا منع، ولا يمنع من ذلك لكونه محدثا، فإنه من المحدثات الحسنة، فلا يمنع منه كنظائره مثل تصنيف العلم وبناء المدارس والرباطات وغير ذلك والله أعلم. انظر:
المحكم في نقط المصاحف للداني: 10والتبيان للنووي: 122ط دار النفائس تحقيق(2/130)
المسألة الثالثة: حول الأخماس والأعشار وفواتح السور والخواتيم (1):
اختلف أهل العلم من الصدر الأول في حكم تخميس المصاحف وتعشيرها، وإحداث الفواتح والخواتيم للسور، فكرهها قوم كابن مسعود ومجاهد والنخعي (2) وأبي رزين (3)، وأباحها الإمام مالك في غير الأمهات وبغير الألوان، وأجازها سائر المسلمين إجازة مطلقة.
وكان أول من أمر بوضع الأعشار في المصاحف على ما قال ابن عطية وتبعه القرطبي وابن جزي هو المأمون العباسي، وقيل تم ذلك على يد الحجاج (4).
__________
السيروان.
(1) التخميس: كتابة لفظ (خمس) عند رأس كل خمس آيات، والتعشير: كتابة لفظ (عشر) عند رأس كل عشر آيات، ومنهم من يكتفي بكتابة حرفي (خ) و (ع) انظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة: 390.
(2) هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي، إمام حافظ، وفقيه الكوفة ومفتيها، قال الشعبي:
ما ترك بعده أعلم منه. توفي (96هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 520 وتهذيب التهذيب لابن حجر: 1/ 176.
(3) هو لقيط بن عامر بن صبرة العقيلي، روى عن النبي، وعنه ابنه عاصم وغيره، أخرج له البخاري وجماعة. انظر: الإصابة لابن حجر: 3/ 330وأسد الغابة لابن عبد البر: 4/ 266.
(4) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 56والقرطبي: 1/ 63وابن جزي: 1/ 7.(2/131)
وقد ذكر أبو عمرو الداني في كتاب البيان له عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كره التعشير في المصحف، وأنه كان يحكّه. (1)
وعن مجاهد أنه كره التعشير والطيب في المصحف. (2)
وقال أشهب (3): سمعت مالكا سئل عن العشور التي تكون في المصحف بالحمرة وغيرها من الألوان، فكره ذلك وقال: تعشير المصحف بالحبر لا بأس به. (4)
وعن قتادة، قال: بدوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا. وكان كالإنكار. (5)
وضع الفواتح والخواتيم للسور:
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 63. والمحكم في نقط المصاحف للداني: 14.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 63. والمحكم في نقط المصاحف للداني: 15.
(3) هو أشهب بن عبد العزيز بن داود العامري، قيل اسمه مسكين، وأشهب لقب له، إمام علامة، مفتي مصر، قال عنه الإمام الشافعي: ما أخرجت مصر أفقه من أشهب. توفي (204هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 9/ 500وترتيب المدارك للقاضي عياض: 2/ 447.
(4) انظر: المصادر السابقة.
(5) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 56وفي المحكم للداني: 15 (وكان كالابتكار)، حيث قال بعد أن ذكر الرواية: وهذا يدل على الترخيص في ذلك والسعة فيه. اهـ. وبينهما فرق واضح. وانظر تفسير القرطبي: 1/ 63.(2/132)
روى أبو عمرو عن أبي حمزة قال: رأى إبراهيم النّخعي في مصحفي فاتحة سورة كذا وكذا، فقال: امحه، فإن ابن مسعود قال: لا تخلطوا في كتاب الله ما ليس منه (1).
وعن أبي بكر السراج قال: قلت لأبي رزين: أأكتب في مصحفي سورة كذا وكذا؟ فقال: إني أخاف أن ينشأ قوم لا يعرفونه يظنونه من القرآن (2).
وقال أشهب: سئل الإمام مالك عن المصاحف يكتب فيها خواتم السور في كل سورة ما فيها من آية فقال: إني أكره ذلك في أمهات المصاحف أن يكتب فيها شيء، أو يشكل، فأما ما يتعلم به الغلمان في المصاحف فلا أرى بذلك بأسا. قال أشهب: ثم أخرج إلينا مصحفا لجدّه، كتبه إذ كتب عثمان المصاحف فرأينا خواتمه من حبر على عمل السلسلة في طول السطر، ورأيته معجوم الآي بالحبر. (3)
وقال يحيى بن كثير: كان القرآن مجردا في المصاحف، فأول ما أحدثوا فيه النقط على الباء والتاء والثاء وقالوا: لا بأس به هو نور له، ثم أحدثوا
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 63، والمحكم في نقط المصاحف للداني: 16.
(2) انظر: المصادر السابقة.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 63والمحكم في نقط المصاحف للداني: 17.(2/133)
نقطا عند منتهى الآي، ثم أحدثوا الفواتح والخواتيم. (1)
قال القرطبي: قال الداني رضي الله عنه: وهذه الأخبار كلها تؤذن بأن التعشير والتخميس وفواتح السور ورءوس الآي من عمل الصحابة رضي الله عنهم قادهم إلى عمله الاجتهاد وأرى أن من كره ذلك منهم ومن غيرهم إنما كره أن يعمل بالألوان كالحمرة والصفرة وغيرهما على أن المسلمين في سائر الآفاق قد أطبقوا على جواز ذلك واستعماله في الأمهات وغيرها، والحرج والخطأ مرتفعان عنهم فيما أطبقوا عليه إن شاء الله. (2).
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 63، والمحكم في نقط المصاحف للداني: 17، وفيه: على التاء والياء. قال أبو عمرو عقب ذلك: وهذا يدل على التوسعة في ذلك.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 64وكتاب النقط للداني: 125.
قلت: ومن كره ذلك خشي أن يحدث إدخال عناصر جديدة إلى كتاب الله ظنا عند العامة أن ما أدخل هو من كتاب الله، وهو ليس منه، فلهذا تحرج من تحرّج في ذلك، أما بعد أن أحدثت الفواتح والخواتيم، وتلقى ذلك أهل العلم بالقبول، ولم تلق منهم النكير، فالأمر جائز ولا مانع من ذلك، وهو المعمول به إلى يومنا هذا. والله أعلم.(2/134)
الموضوع الرابع سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه
تناول هذا الموضوع من المفسرين في مقدمة تفسيره ابن جرير الطبري (1) والماوردي (2)، وابن عطية (3)، والقرطبي (4)، وابن جزي (5)، مع تفاوت بينهم، وفيه عدة مسائل:
المسألة الأولى: معنى السورة:
قال أبو جعفر الطبري: تسمى كل سورة من سور القرآن «سورة» وتجمع «سورا» يفتح الواو على تقدير «خطبة وخطب» و «غرفة وغرف» (6).
__________
(1) انظر: تفسيره: 1/ 1614.
(2) انظر: تفسيره: 1/ 2827.
(3) انظر: تفسيره: 1/ 70.
(4) انظر: تفسيره: 1/ 6564.
(5) انظر: تفسيره: 1/ 8.
(6) انظر: تفسير الطبري: 1/ 104، قال الطبري: ومن ذلك سور المدينة، غير أن السّورة من سور المدينة لم يسمع في جمعها «سور». وانظر الصحاح للجوهري: 2/ 690واللسان لابن منظور «سور»: 4/ 386.
قال ابن عطية: جمع سورة البناء: «سور» بسكونها. ثم ذكر عن أبي عبيدة قوله: إنما(2/135)
قال الشاعر:
سود المحاجر لا يقرأن بالسّور (1)
قال القرطبي: ويجوز أن يجمع على سورات وسورات. (2)
وفيها لغتان:
إحداهما: بالهمز (سؤرة) وهي لغة تميم (3).
والأخرى: بغير همز (سورة) قال ابن عطية: وهي لغة قريش كلها ومن جاورها من قبائل العرب كهذيل وسعد بن بكر وكنانة (4).
فأما التي بغير همز: فهي المنزلة من منازل الارتفاع، ومنه سور المدينة للحائط الذي يحويها، وذلك لارتفاعه على ما يحويه، يقول نابغة بني ذبيان (5):
__________
اختلفا في هذا فكأن سور القرآن هي قطعة بعد قطعة حتى كمل منها القرآن، ويقال:
أيضا للرتبة الرفيعة من المجد والملك: سورة. انظر: تفسير الطبري: 1/ 104وتفسير ابن عطية: 1/ 70.
(1) عجز بيت قاله الشاعر الراعي، وصدر البيت: عن الحرائر لا ربات أخمرة. انظر تفسير القرطبي: 1/ 66وهو في البحر لأبي حيان: 2/ 252و 7/ 255.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 66.
(3) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 70والدر المصون للسمين: 1/ 201.
(4) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 70وتفسير ابن جزي: 1/ 8.
(5) هو زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني، شاعر جاهلي مشهور، قصده(2/136)
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب (1)
يعني بذلك أن الله أعطاه منزلة من منازل الشرف التي قصّرت عنها منازل الملوك، ولهذا سميت السورة لارتفاعها وعلو قدرها. (2)
وقال ابن عطية: ومنهم من يراها مشبّهة بسورة البناء: أي القطعة منه لأن كل بناء فإنما يبنى قطعة بعد قطعة، وكل قطعة منها سورة. (3)
وقيل: سميت بذلك لأن قارئها يشرف على ما لم يكن عنده كسور البناء. وقيل: لتمامها وكمالها من قول العرب للناقة التامة: سورة. (4)
وأما السؤرة بالهمز، فهي القطعة التي فصلت من القرآن عما سواها وأبقيت منه لأن سؤر كل شيء بقيّته، وعليه سمّي ما فضل في الإناء بعد الشرب منه سؤرا (5)، وقيل: جاء في أسأر الناس. أي بقاياهم. (6)
__________
الشعراء يعرضون عليه أشعارهم، عمر طويلا، توفي (18ق هـ). انظر الشعر والشعراء لابن قتيبة: 8170، وخزانة الأدب للبغدادي: 2/ 135.
(1) هو في ديوانه: 73، تحقيق أبو الفضل إبراهيم وانظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 4 ونكت الانتصار للباقلاني: 57.
(2) انظر: تفسير الطبري: 1/ 105وتفسير الماوردي: 1/ 27وتفسير القرطبي: 1/ 65 وانظر: مفردات الراغب (سور): 1/ 247.
(3) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 70والدر المصون للسمين: 1/ 201.
(4) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 66.
(5) انظر: تفسير الطبري: 1/ 104وتفسير الماوردي: 1/ 27وانظر: مفردات الراغب (سور): 1/ 248والدر المصون للسمين: 1/ 201.
(6) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 66.(2/137)
وفي الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا شربتم فأسئروا» (1)، ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة (2) يصف امرأة فارقته، فأبقت في قلبه من وجدها بقية:
فبانت وقد أسأرت في الفؤا ... د صدعا، على نأيها مستطيرا (3)
وقال الأعشى في مثل ذلك:
بانت وقد أسأرت في النّفس حاجتها ... بعد ائتلاف وخير الودّ ما نفعا (4)
قال القرطبي: الأصل (سؤرة) بالهمز ثم خففت فأبدلت التاء واوا لانضمام ما قبلها. (5)
قال الماوردي: والأول من القولين أصح (6). أي كونها بغير همز،
__________
(1) انظر: تفسير الماوردي: 1/ 27والحديث ذكره العجلوني في كشف الخفاء: 1/ 58، وابن الأثير في النهاية: 2/ 327.
(2) هو ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل، أبو بصير، يقال له صناجة العرب، شاعر جاهلي فحل، وهو أحد أصحاب المعلقات العشر، أدرك الإسلام ولم يسلم، توفي (7) هـ. انظر: الأغاني لأبي الفرج: 9/ 127وطبقات الشعراء لابن سلام: 15/ 19.
(3) هو في ديوانه 67وانظر: تفسير الطبري: 1/ 104وتفسير الماوردي: 1/ 28.
(4) هو في ديوانه: 73وانظر: تفسير الطبري: 1/ 106.
(5) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 66وانظر: تفسير ابن عطية: 1/ 70.
(6) انظر: تفسير الماوردي: 1/ 28.
والسورة من القرآن في اصطلاح الشرع، كما قال الجعبري: قرآن يشتمل على أي ذي فاتحة وخاتمة، وأقلها ثلاث آيات. وقال غيره: السورة الطائفة المترجمة توقيفا أي المسماة(2/138)
وأنها بمعنى الارتفاع وعلو القدر.
المسألة الثانية: معنى الآية:
اختلف النحويون في أصل لفظة (آية) على أقوال:
فقال سيبويه، (آية) على وزن (فعلة)، بفتح العين، أصلها (أيية) مثل (أكمة) و (شجرة)، تحركت الياء الأولى، وما قبلها مفتوح فجاءت (آية) بهمزة بعدها مدّة.
وقال الكسائي، هي على وزن (آيية) على وزن (فاعلة) مثل (آمنة) فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت لالتباسها بالجمع. (1)
قال مكي: سكّنت الأولى، وأدغمت فجاءت (آيّة) على وزن دابة، ثم سهلت الياء المثقلة. (2)
وقال الفراء، أصلها (أيّيه) بتشديد الياء الأولى على وزن (فعلة)
__________
باسم خاص من النبي صلى الله عليه وسلم.
انظر: كنز المعاني شرح حرز الأماني للجعبري، مخطوط: (و 94) والإتقان للسيوطي:
1/ 150ط أبو الفضل والتبصرة لمكي: 109والزيادة والإحسان لابن عقيلة، بتحقيقي: 2/ 427.
(1) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 71وتفسير القرطبي: 1/ 66والقاموس المحيط للفيروزآبادي: 1628والتيسير في قواعد علم التفسير للكافيجي: 167.
(2) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 71وتفسير القرطبي: 1/ 66.(2/139)
بسكون العين، فأبدلت الياء الساكنة ألفا استثقالا للتضعيف. (1)
وهذا القول حكاه أبو علي الفارسي في ترجمة {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} [آل عمران: 146]. (2)
قال ابن عطية: وقال بعض الكوفيين: أصلها (أيية) على وزن (فعلة)، بكسر العين، أبدلت الياء الأولى ألفا، لثقل الكسر عليها، وانفتاح ما قبلها.
وتجمع الآية على: (آي)، و (آيات) و (آياء)، وأنشد أبو زيد:
لم يبق هذا الدهر من آيائه ... غير أثافيه وأرمدائه (3)
والآية في كلام العرب لها عدة معاني:
فالآية: (العلامة)، قال الطبري: لأنها علامة يعرف بها تمام ما قبلها وابتداؤها، قال تعالى: {رَبَّنََا أَنْزِلْ عَلَيْنََا مََائِدَةً مِنَ السَّمََاءِ تَكُونُ لَنََا عِيداً لِأَوَّلِنََا وَآخِرِنََا وَآيَةً مِنْكَ} [المائدة: 114] يعني علامة منك لإجابتك
__________
(1) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 71وتفسير القرطبي: 1/ 66وانظر: الكتاب لسيبويه:
4/ 399.
(2) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 71.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 66وانظر نكت الانتصار للباقلاني: 58، وينظر في (آية):
الكتاب لسيبويه: 4/ 398وتاج العروس للزبيدي: 10/ 2726، ولسان العرب لابن منظور: 14/ 6361، وبصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي: 1/ 86.(2/140)
دعاءنا، وإعطائك إيانا سؤلنا (1).
وقال تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} [البقرة: 248]، أي: علامة ملكه.
وقال سحيم عبد بني الحسحاس (2):
ألكني إليها عمرك الله يا فتى ... بآية ما جاءت إلينا تهاديا
يعنى: علامة ذلك (3).
وقال النابغة:
توهّمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع (4)
وتقول العرب: بيني وبين فلان آية. أي: علامة. (5)
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 1/ 106وتفسير الماوردي: 1/ 28.
(2) هو سحيم، كان عبدا اشتراه بنو الحسحاس، ونشأ فيهم، له شعر رقيق، تغزل في نساء بني الحسحاس فقتلوه عام (40هـ). انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة: 241وخزانة الأدب للبغدادي: 2/ 102.
(3) انظر: تفسير الطبري: 1/ 106وتفسير الماوردي: 1/ 28وانظر ديوان الشاعر: 19 وخزانة الأدب للبغدادي: 2/ 104قال الزمخشري: ألكني إلى فلان، واحمل إليه ألوكي، ومألكتي، وهي الرسالة. أي: أبلغ رسالتي إليها. أساس البلاغة للزمخشري (ألك): 20.
(4) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 66.
(5) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 66.(2/141)
قال ابن عطية: وفي قول بعضهم لما كانت الجملة التامة من القرآن علامة على صدق الآتي بها، وعلى عجز المتحدي بها سميت آية. (1)
والآية (القصة والرسالة):
قال كعب بن زهير بن أبي سلمى (2):
ألا أبلغنا هذا المعرّض آية ... أيقظان قال القول إذ قال أم حلم
يعني بقوله: (آية) رسالة مني وخبرا عني.
قال الطبري: فيكون معنى الآيات: القصص، قصة تتلو قصة، بفصول ووصول. (3)
والآية (الجماعة):
فقد قالت العرب: جئنا بآيتنا. أي: بجماعتنا.
__________
(1) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 71وانظر: تفسير ابن جزي: 1/ 8قال ابن عقيلة: الآية أصلها العلامة، إما العلامة على الفصل، أو الصدق، أو عجز المتحدى به. الزيادة والإحسان بتحقيقي: 2/ 610. قلت: وهذا هو الراجح والأظهر والله أعلم.
(2) هو كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني، شاعر عريق، وصاحب اللامية المشهورة التي مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم: بانت سعاد أسلم بعد أن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، توفي (26هـ).
انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة: 67والأغاني لأبي الفرج: 17/ 87.
(3) انظر: تفسير الطبري: 1/ 106والماوردي: 1/ 28وانظر ديوان الشاعر: 64.(2/142)
وقالت: خرج القوم بآياتهم. أي: بجماعتهم.
قال برج بن مسهر الطائي (1):
خرجنا من النّقبين لا حيّ مثلنا ... بآيتنا نزجي اللّقاح المطافلا
قال القرطبي: وسميت أية لأنها جماعة حروف من القرآن وطائفة منه. (2)
والآية (الأمر العجيب):
سميت بها لأنها عجيب يعجز البشر عن التكلم بمثلها. (3)
__________
(1) هو برج بن مسهر بن جلاس بن الأرت الطائي، شاعر من معمّري الجاهلية، له شعر اختار أبو تمام في الحماسة منه، توفي نحو (30ق هـ). انظر الأعلام للزركلي: 2/ 47.
ومن مراجعه بلوغ الأرب للآلوسي: 3/ 299.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 66وانظر: تفسير ابن عطية: 1/ 71والبيت في خزانة الأدب للبغدادي: 6/ 515ومعناه أنهم خرجوا بجماعتهم وبما يستدل به عليهم من متاعهم.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 66وانظر في معنى الآية: غرائب القرآن للنيسابوري:
1/ 28ومقدمات شمس الدين الأصفهاني المقدمة الثالثة: و (10)، مخطوط باستانبول تركيا مكتبة كوبرلي وخزانة الأدب للبغدادي: 6/ 512.
والآية (المعجزة)، قال تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرََائِيلَ كَمْ آتَيْنََاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} [البقرة: 211] أي: معجزة واضحة.
والآية: (البرهان والدليل) قال تعالى: {وَمِنْ آيََاتِهِ خَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 22].(2/143)
المسألة الثالثة: عدّ آي القرآن (1):
أجمع العادّون لآي القرآن على أنه ستة آلاف آية، ثم اختلفوا في الزيادة على ذلك:
فعدّ المدني الأول، في قول محمد بن عيسى: ستة آلاف آية. (2)
وفي عدّ المدني الأخير، في قول إسماعيل بن جعفر (3): ستة آلاف آية
__________
قال الزرقاني: وكلها إطلاقات لغوية، وقد يستلزم بعضها بعضا. مناهل العرفان: 1/ 331.
والآية في اصطلاح الشرع: طائفة ذات مطلع ومقطع مندرجة في سورة من القرآن.
مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 332.
(1) علم معرفة الآيات علم توقيفي لا مجال للقياس فيه، ولذلك عد العلماء {الم} * آية حيث وقعت، و {المص}، ولم يعدوا {المر} و {الر} *، وعدوا {حم} * آية في سورها، و {طه} و {يس} ولم يعدوا {طس}.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 64وفنون الأفنان لابن الجوزي: 237وهو عند هشام بن عمار ستة آلاف ومائة وسبع عشرة آية، وبه قال نافع. انظر: فنون الأفنان لابن الجوزي: 242وبصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي: 1/ 560والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 2/ 611.
(3) هو إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير المدني، ثقة قرأ على شيبة بن نصاح وغيره، توفي سنة (180هـ). انظر: غاية النهاية لابن الجزري: 1/ 163وسير أعلام النبلاء للذهبي: 8/ 228.(2/144)
ومائتا آية وأربع عشرة آية. (1)
وفي عدّ المكي، في قول الفضل: ستة آلاف آية ومائتا آية وتسع عشرة آية. (2)
وفي عدّ الكوفي، في قول محمد بن عيسى: ستة آلاف آية ومائتا آية وثلاثون وست آيات. (3)، وهو العدد الذي رواه سليم بن عيسى الكوفي (4)، والكسائي عن حمزة، وأسنده الكسائي إلى علي بن أبي
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 65والإتقان للسيوطي: 1/ 189ط أبو الفضل وفنون الأفنان لابن الجوزي: 243وجمال القراء للسخاوي: 1/ 231وبشير اليسر: 20 وهذا العد منسوب إلى أبي جعفر بن يزيد بن القعقاع، وصهره شيبة بن نصاح. انظر:
فنون الأفنان لابن الجوزي: 237.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 65والإتقان للسيوطي: 1/ 189ط أبو الفضل وهذا العد منسوب إلى مجاهد بن جب ر، وعبد الله بن كثير. انظر: فنون الأفنان لابن الجوزي: 237.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 65والإتقان للسيوطي: 1/ 189ط أبو الفضل وفنون الأفنان لابن الجوزي: 243وجمال القراء للسخاوي: 1/ 231وبصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي: 1/ 559.
(4) هو سليم بن عيسى بن سليم الكوفي المقرئ، شيخ القراء، عرض القرآن على حمزة، واشتهر بضبطه للقرآن، توفي (188هـ) انظر: غاية النهاية لابن الجزري: 1/ 318 وسير أعلام النبلاء للذهبي: 9/ 375.(2/145)
طالب رضي الله عنه (1).
وفي عدّ البصري، في قول محمد بن عيسى: ستة آلاف ومائتان وأربع آيات. (2)
وفي عدّ أهل الشام، في قول يحيى بن الحارث الذّماري (3): ستة آلاف ومائتان وست وعشرون. (4) وفي رواية: ستة آلاف ومائتان وخمس وعشرون. نقص آية، قال: ابن ذكوان (5): فظننت أن يحيى لم يعد {بِسْمِ اللََّهِ} *
__________
(1) انظر: المصادر السابقة وهو منسوب إلى أبي عبيد الرحمن السّلمي عن علي ابن أبي طالب، وقد نسبه قوم إلى ابن مسعود، والأول أصح. انظر: فنون الأفنان لابن الجوزي: 239.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 65وفنون الأفنان لابن الجوزي: 243وبصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي: 1/ 560وهذا العد منسوب إلى عاصم بن ميمون الجحدري، انظر: فنون الأفنان لابن الجوزي: 237.
(3) هو يحيى بن الحارث بن عمرو بن يحيى الغساني الذماري، إمام الجامع الأموي وشيخ القراءة بدمشق، معدود في التابعين، توفي (145هـ). انظر: غاية النهاية لابن الجزري: 2/ 367ومعرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 105.
(4) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 65وبصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي: 1/ 560وفي كتاب الحجة في المحجة لقوام السنة: و (246): وسبعة وثلاثون آية. وانظر: الزيادة والإحسان لابن عقيلة: 2/ 611وهذا العد منسوب إلى عبد الله بن عامر اليحصبي.
انظر: فنون الأفنان لابن الجوزي: 241.
(5) هو عبد الله بن أحمد بن بشر بن ذكوان القرشي، إمام في القراءة، ثقة، وحيد دهره في(2/146)
{الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} *. (1)
قال أبو عمرو بعد أن ذكر ما سبق: فهذه الأعداد التي يتداولها الناس تأليفا، ويعدّون بها في سائر الآفاق قديما وحديثا. (2)
المسألة الرابعة: كلمات القرآن:
عرف القرطبي الكلمة بقوله: هي الصورة القائمة بجميع ما يختلط بها من الشبهات. أي الحروف. (3)
ثم قال: وأطول الكلم في كتاب الله ما بلغ عشرة أحرف، نحو قوله تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} [النور: 55] ونحو {أَنُلْزِمُكُمُوهََا} [هود: 28]، وأقصرهن ما كان على حرفين نحو (ما) و (لا)، وقد تكون الكلمة وحدها آية تامة نحو قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ} و {الضُّحى ََ} و {الم} * و {طه}
__________
علمه، توفي (242هـ) انظر: غاية النهاية لابن الجزري: 1/ 404ومعرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 198.
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 65والإتقان للسيوطي: 1/ 189ط أبو الفضل والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 2/ 612وفي جمال القراء للسخاوي: 1/ 231: وسبعا وعشرين آية.
(2) قال أبو عمرو في كتاب البيان، وذكره القرطبي في تفسيره: 1/ 65، والسيوطي في الإتقان: 1/ 189ط أبو الفضل.
(3) تفسير القرطبي: 1/ 67.(2/147)
وغيرها، وذلك في فواتح السور وحدها دون حشوها.
قال أبو عمرو: ولا أعلم كلمة هي وحدها آية أي في حشو السور إلا قوله تعالى في الرحمن: {مُدْهََامَّتََانِ} [الرحمن: 64] لا غير.
والكلمة تطلق على الآية التامة، وعلى الكلام القائم بنفسه، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى ََ عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ بِمََا صَبَرُوا}
[الأعراف: 137] قيل: المراد بالكلمة هاهنا قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 8].
وفي الحديث: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم». (1)
وقد تسمي العرب القصيدة بأسرها والقصة كلها كلمة.
فتسمي جملة الكلام كلمة إذا كانت الكلمة منها، على عادتهم في تسميتهم الشيء باسم ما هو منه، وما قاربه وجاوره، وكان بسبب منه مجازا واتساعا. اهـ. (2)
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: إذا قال: والله لا أتكلم:
7/ 229، وفي غيره.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 67.(2/148)
وأما عدد كلمات القرآن فقد ذكر القرطبي أن الفضل بن شاذان (1)
أفاد أن: جميع كلمات القرآن في قول عطاء بن يسار سبعة وسبعون ألفا وأربعمائة وسبع (2) وثلاثون كلمة. (3)
__________
(1) هو الفضل بن شاذان بن عيسى الرازي، شيخ القراء بالري، قيل: لم يكن في دهره مثله في علمه وفهمه وعدالته، وحسن اطلاعه، توفي (290هـ) انظر: غاية النهاية لابن الجزري: 2/ 10ومعرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 243.
(2) في القرطبي: (تسع) وهو خطأ، والصحيح ما أثبته وهو موافق لما في البرهان للزركشي:
1/ 249، والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 2/ 637وغيرهما.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 65، وهو مروي عن مجاهد وابن جبير. الإتقان للسيوطي:
1/ 197.
قلت: وذكر ابن الجوزي أن المنهال بن عمرو روى عن عطاء بن يسار أنه تسع وسبعون ألف كلمة ومائتان وسبعة وسبعون كلمة. فنون الأفنان: 245، وهو أمر بعيد، إذ يكون الفرق بين العادين أكثر من ألفي كلمة، وهو فرق لا يمكن أن يتفق وقول أهل العلم أن سبب الاختلاف في عد الكلمات لأن الكلمة لها حقيقة ومجاز ولفظ ورسم، واعتبار كل واحد منها جائز، وكل من الصحابة اعتبر أحد الجوائز. وانظر: جمال القراء للسخاوي:
1/ 231والإتقان للسيوطي: 1/ 197والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 2/ 638 ومناهل العرفان للزرقاني: 1/ 337.
ثم إن معرفة عدد كلم القرآن مع الاختلاف فيه لا فائدة مرجوة منه، إذ الفائدة متحققة لو كان هناك اتفاق، وكذا في حروفه، ولهذا الأمر لم يهتم الحافظ السيوطي بعدّ الكلم والحروف في كتابه، وقال: وفيه أقوال أخر والاشتغال باستيعاب ذلك مما لا طائل تحته، وقد استوعبه ابن الجوزي في فنون الأفنان، وعدّ الأنصاف والأثلاث إلى الأعشار،(2/149)
المسألة الخامسة: حروف القرآن:
الحرف هو الشّبهة القائمة وحدها من الكلمة، وقد يسمى الحرف كلمة والكلمة حرفا، اتساعا ومجازا.
قال الداني: فإن قيل: فكيف يسمى ما جاء من حروف الهجاء في الفواتح على حرف واحد، نحو {ص} * و {ق} و {ن} حرفا أو كلمة؟
قلت: كلمة لا حرفا، وذلك من جهة أن الحرف لا يسكت عليه، ولا ينفرد وحده في الصورة، ولا ينفصل مما يختلط به وهذه الحروف مسكوت عليها منفردة منفصلة كانفراد الكلم وانفصالها، فلذلك سمّيت كلمات لا حروفا.
وقال: وقد يكون الحرف في غير هذا المذهب والوجه، قال الله عزّ وجلّ: {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللََّهَ عَلى ََ حَرْفٍ} [الحج: 11] أي على
__________
وأوسع القول فيه، فراجعه منه، فإن كتابنا موضوع للمهمات لا لمثل هذه البطالات!! الإتقان: 1/ 197.
وقال السخاوي: ما أعلم لعدد الكلمات والحروف من فائدة، لأن ذلك إن أفاد فإنما يفيد في كتاب تمكن فيه الزيادة والنقصان منه، والقرآن لا يمكن ذلك فيه.
ثم إن ما يمكن أن يزاد فيه وينقص منه، لا يفيد فيه حصر كلماته وحروفه، فقد تبدل كلمة موضع أخرى، وحرف مكان حرف، والقرآن بحمد الله محفوظ من جميع ذلك.
جمال القراء للسخاوي: 1/ 231.(2/150)
وجه ومذهب. (1)
وأما عدد حروف القرآن فقد روى سلام أبو محمد الحماني أن الحجاج بن يوسف جمع القراء والحفاظ والكتّاب، فقال: أخبروني عن القرآن كله، كم حرفا هو؟ قال: وكنت فيهم، فحسبنا فأجمعنا على أن القرآن ثلاث مائة ألف حرف وأربعون ألف حرف وسبعمائة حرف وأربعون حرفا. (2)
وعن الفضيل بن شاذان: أن حروف القرآن ثلاث مائة ألف وثلاثة وعشرون ألفا وخمسة عشر حرفا.
وعن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: أحصينا من القرآن، وهو ثلاثمائة ألف حرف وأحد وعشرون ألف حرف ومائة وثمانون حرفا.
قال القرطبي: وهذا مخالف لما تقدم عن الحماني. (3)
المسألة السادسة: أجزاء القرآن:
روى سلام الحماني أن الحجاج بن يوسف قال للقراء والحفاظ والكتّاب: أخبروني إلى أي حرف ينتهي نصف القرآن؟ فإذا هو في الكهف
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 67.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 64.
(3) المصدر السابق: 1/ 65والإتقان للسيوطي: 1/ 220ط البغا.(2/151)
{وَلْيَتَلَطَّفْ} [الآية: 19] في الفاء. قال: فأخبروني بأثلاثه فإذا الثلث الأول رأس مائة من براءة، والثلث الثاني رأس مائة أو إحدى ومائة من (طسم الشعراء) والثلث الثالث ما بقي من القرآن. قال: فأخبروني بأسباعه على الحروف فإذا أوّل سبع في النساء {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ} [الآية: 55] في الدال، والسبع الثاني في الأعراف {حَبِطَتْ}
[الآية: 147] في التاء، والسبع الثالث في الرعد {أُكُلُهََا دََائِمٌ} [الآية:
35] في الألف من آخر «أكلها» السبع الرابع في الحج {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنََا مَنْسَكاً} [الآية: 34] في الألف، والسبع الخامس في الأحزاب {وَمََا كََانَ لِمُؤْمِنٍ وَلََا مُؤْمِنَةٍ} [الآية: 36] في الهاء، والسبع السادس في الفتح {الظََّانِّينَ بِاللََّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الآية: 6] في الواو، والسبع السابع ما بقي من القرآن (1).
قال سلام: عملناه في أربعة أشهر، وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربعا، فأول ربعه خاتمة الأنعام، والربع الثاني في الكهف {وَلْيَتَلَطَّفْ}،
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 64وجمال القراء للسخاوي: 1/ 126والمصاحف لابن أبي داود: 118.
قلت: هذا التقسيم هو باعتبار الحروف، كما صرح بذلك الحجاج في الرواية، (فأخبرني بأسباعه على الحروف) وهناك حساب آخر باعتبار عدد كلماته، وآخر باعتبار آياته، ثم باعتبار سوره، وكل ذلك يدل على مبلغ العناية بكتاب الله. وقد ذكر ذلك السيوطي في الإتقان: 1/ 220وانظر: فنون الأفنان لابن الجوزي في ذلك مفصلا: 253.(2/152)
والربع الثالث خاتمة الزمر، والربع الرابع ما بقي من القرآن.
قال القرطبي: وفي هذه الجملة خلاف. (1)
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 64.(2/153)
الموضوع الخامس أسماء القرآن وأسماء سوره
تناول هذا الموضوع في مقدمة تفسيره ابن جرير الطبري (1)، والماوردي (2)، وابن عطية (3)، وابن جزي (4)، وفيه عدة مسائل:
المسألة الأولى: أسماء القرآن الكريم:
سمّى الله تعالى تنزيله العظيم في كتابه الكريم بأربعة أسماء (5):
__________
(1) انظر: تفسيره: 1/ 10494.
(2) انظر: تفسيره: 1/ 2423.
(3) انظر: تفسيره: 1/ 6968.
(4) انظر: تفسيره: 1/ 7.
(5) وهناك من زاد في الأسماء فذكر كثيرا من الأوصاف، وعدّها أسماء حتى بلغت نحوا من ستين اسما، ذكر منها أبو المعالي المعروف بشيذلة في كتابه البرهان خمسا وخمسين اسما، وزاد القرطبي في التذكار في أفضل الأذكار أسماء غيرها. ومن الأوصاف تسميته (كلاما) مشتق من الكلم بمعنى التأثير، ومنها (الهدى) لكونه دليلا على الحق، ومنها (الحكمة) و (الحبل) و (الرحمة) وغير ذلك. انظر: التذكار في أفضل الأذكار للقرطبي: 23 والبرهان في علوم القرآن للزركشي: 1/ 273والإتقان للسيوطي: 1/ 143 والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 2/ 416تحقيقي.(2/154)
الأول: (القرآن) قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمََا أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ هََذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغََافِلِينَ} [يوسف: 3].
الثاني: (الفرقان) قال تعالى: {تَبََارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقََانَ عَلى ََ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعََالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1].
الثالث: (الكتاب) قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى ََ عَبْدِهِ الْكِتََابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً} [الكهف: 1].
الرابع: (الذكر) قال تعالى: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ}
[الحجر: 9]. (1)
قال ابن جرير: ولكل اسم من أسمائه الأربعة من كلام العرب معنى ووجه غير معنى الآخر ووجهه. (2)
فأما تسميته (قرآنا) ففيه تأويلان:
أحدهما: وهو قول ابن عباس، أنه مصدر من قولك (قرات) أي:
بيّنت. ثم أطلق على المقروء (3).
__________
(1) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 95والماوردي: 1/ 23وابن عطية: 1/ 68وابن جزي: 1/ 7.
(2) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 94.
(3) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 94وتفسير الماوردي: 1/ 23وابن عطية: 1/ 68 وابن جزي: 1/ 6.(2/155)
قال ابن عطية: قرأ الرجل إذا تلا، يقرأ قرآنا وقراءة، وحكى أبو زيد الأنصاري: وقرءا. (1).
روى ابن جرير الطبري بسنده عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِذََا قَرَأْنََاهُ} يقول: بيّناه، {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] يقول: اعمل به. (2)
قال ابن جرير: ومعنى قول ابن عباس هذا: فإذا بيّناه بالقراءة فاعمل بما بيناه لك بالقراءة. (3)
فالقرآن على هذا مصدر من (قرأ) إذا (تلا)، ومن هذا قول حسان ابن ثابت يرثي عثمان بن عفان رضي الله عنه:
ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به ... يقطّع اللّيل تسبيحا وقرآنا
أي: قراءة. (4)
والآخر: وهو قول قتادة، أنه بمعنى التأليف، مصدر من قولك: قرأت الشيء: إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض. مأخوذ من قولهم: ما قرأت هذه الناقة سلى قط. أي: لم ينضم رحمها على ولد.
__________
(1) انظر: تفسير ابن عطية: 68.
(2) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 95.
(3) انظر: المصدر السابق.
(4) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 97وابن عطية: 1/ 69وهو في ديوان الشاعر: 410.(2/156)
قال عمرو بن كلثوم (1):
ذراعي عيطل أدماء بكر ... هجان اللّون لم تقرأ جنينا (2)
قال الماوردي: ولهذا سمي قرء العدة قرءا، لاجتماع دم الحيض في الرحم. (3)
قال ابن عطية: قرأ الرجل إذا جمع وألّف قولا. (4)
وبه فسّر قتادة قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} يقول: حفظه وتأليفه. {فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} اتبع حلاله، واجتنب حرامه (5).
فتأويل القرآن على رأي قتادة هو التأليف.
قال الطبري: ولكلا القولين أي قول ابن عباس وقتادة وجه صحيح في كلام العرب، غير أنّ أولى قوليهما بتأويل قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنََا}
__________
(1) هو عمرو بن كلثوم بن مالك من بني تغلب بن وائل، شاعر فارس جاهلي قديم، أحد فتاك العرب، وهو قاتل عمرو بن هند الملك. انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة: 137 وخزانة الأدب للبغدادي: 3/ 183.
(2) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 96والماوردي: 1/ 24وابن عطية: 69.
(3) انظر: تفسير الماوردي: 1/ 24.
(4) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 69.
(5) أخرجه ابن جرير في تفسيره 1/ 96.(2/157)
{جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قول ابن عباس. (1) ورجحه ابن عطية وقال: إنه أقوى. (2)
ويؤخذ على قول قتادة أن الله جلّ ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في غير آية من تنزيله باتباع ما أوحي إليه، ولم يرخص في ترك اتباع شيء من أوامره إلى وقت تأليف القرآن، فكذلك قوله {فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} لو وجب أن يكون معنى قوله {فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فإذا ألّفناه فاتبع ما ألّفنا لك فيه، لكان الأمر الوارد في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} والفرض الواجب في قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} {قُمْ فَأَنْذِرْ} غير ملزم إلى حين تأليف القرآن، والقائل به خارج عن الملة. (3).
وعليه فحكم كل آية من آي القرآن لازم للرسول صلى الله عليه وسلم اتباعه والعمل به، حين نزوله.
وأما تأويل اسمه (الفرقان): فالفرقان مصدر، قال ابن جرير: وأصله عندنا: الفرق بين الشيئين، والفصل بينهما، وقد يكون ذلك بقضاء واستنقاذ، وإظهار حجّة ونصر،
__________
(1) تفسير ابن جرير: 1/ 96.
(2) تفسير ابن عطية: 1/ 69.
(3) نظر: تفسير الطبري: 1/ 97.(2/158)
وغير ذلك من المعاني المفرّقة بين المحق والمبطل. (1)
وقد قيل في تسمية التنزيل {فُرْقََاناً} أقوال متعددة متقاربة:
فعن عكرمة فيما رواه ابن جرير أنه كان يقول: هو النجاة. وكذلك كان السدي وغيره يتأوله.
وعن ابن عباس ورواية عن مجاهد: الفرقان: المخرج.
وفي رواية عن مجاهد أيضا أنه كان يقول في قوله عزّ وجلّ: {يَوْمَ الْفُرْقََانِ} [الأنفال: 41] يوم فرّق الله فيه بين الحق والباطل. (2)
قال ابن عطية: سمّي أي كتاب الله فرقانا لأن الله فرق فيه بين الحق والباطل وهو قول الجماعة (3) والمؤمن والكافر فرقا وفرقانا. (4)
وكل تلك الأقوال صحيحة لاتفاق معاني ألفاظها في ذلك، وبذلك يتبين أن كتاب الله سمّي فرقانا لفصله بحججه وأدلّته، وحدود فرائضه
__________
(1) نظر: تفسير ابن جرير: 1/ 99.
(2) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 98ومعاني القرآن للزجاج: 4/ 57وجمال القراء للسخاوي: 1/ 27والبرهان للزركشي: 1/ 280.
(3) انظر: تفسير الماوردي: 1/ 24وانظر جمال القراء للسخاوي: 1/ 28.
(4) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 69وتفسير ابن جزي: 1/ 7وهو قول أبي عبيدة. انظر مجاز القرآن: 1/ 18وجمال القراء للسخاوي: 1/ 28.(2/159)
وسائر معاني حكمه بين المحق والمبطل، وفرقانه بينهما بنصرة المحق وتخذيله المبطل حكما وقضاء. (1)
وأما تأويل اسمه (الكتاب) فالكتاب مصدر من كتب إذا جمع، ومنه قيل: كتيبة لاجتماعها، قال سالم بن دارة (2) يهجو ثابت بن رافع الفزاري:
لا تأمننّ فزاريّا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار (3)
والكتاب: هو خطّ الكاتب حروف المعجم مجموعة ومتفرقة، وسمي كتابا وإنما هو مكتوب كما قال الشاعر:
تؤمّل رجعة منّي وفيها ... كتاب مثل ما لصق الغراء
__________
(1) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 99.
(2) هو سالم بن دارة بن مسافع بن عقبة الجشمي الغطفاني، المعروف بابن دارة، ودارة أمه، شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، قتله زميل بن عبد مناف لما هجا ثابت بن رافع الفزاري. انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة: 253وخزانة الأدب للبغدادي:
2/ 144.
(3) انظر: تفسير الماوردي: 1/ 24وتفسير ابن عطية: 1/ 69وانظر: الشعر والشعراء:
253 - قلت: ومنه قيل: تكتّب بنو فلان، أي اجتمعوا. وسمي التنزيل كتابا لما اجتمع فيه من المعاني كالأمر والنهي والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والحلال والحرام، ونبأ ما كان وما يكون ولأنه جمع فيه كل شيء. وقال أو عبيد: سمي كتابا لأنه جمع السور وضمها. انظر: جمال القراء للسخاوي: 1/ 28.(2/160)
يعني به مكتوبا. (1)
وأما تأويل اسمه (الذكر): ففيه ثلاثة تأويلات:
الأول: أنه ذكر من الله جلّ ذكره، ذكّر به عباده، فعرّفهم فيه حدوده وفرائضه.
قال ابن عطية: ذكر به الناس آخرتهم وإلههم وما كانوا في غفلة عنه فهو ذكر لهم. (2)
الثاني: أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به وصدّق بما فيه، قال تعالى:
{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الأحزاب: 44] يعني شرف له ولقومه (3). قال ابن عطية: ولسائر العلماء به. (4)
__________
(1) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 99وتفسير الماوردي: 1/ 24وقد قال أحمد شاكر في تحقيقه لتفسير ابن جرير: لم أجد هذا البيت في شيء من المراجع التي بين يدي.
وانظر في معنى كتاب: معجم مقاييس اللغة لابن فارس (كتب): 5/ 158ومعاني القرآن للزجاج: 1/ 170.
(2) تفسير ابن عطية: 1/ 69وانظر: جمال القراء للسخاوي: 1/ 31.
(3) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 99والماوردي: 1/ 24وابن عطية: 1/ 69وجمال القراء للسخاوي: 1/ 31.
(4) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 69.(2/161)
الثالث: سمي بذلك لأن فيه ذكر الأمم الماضية والأنبياء. (1)
وهناك صفات أخرى وصف الله بها تنزيله، هي صفات لا أسماء، كوصفه تعالى تنزيله بالعظيم والذكر والمتين والعزيز وغير ذلك. (2)
المسألة الثانية: أسماء سور القرآن:
قال ابن جرير الطبري: لسور القرآن أسماء سمّاها بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3)
ثم روى بسنده عن واثلة بن الأسقع، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعطاني ربي مكان التوراة السبع الطّول، ومكان الإنجيل المثاني، ومكان الزبور المئين، وفضّلني ربي بالمفصّل. (4)
وبسند آخر عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعطيت مكان التوراة السبع الطّول، وأعطيت مكان الزّبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني،
__________
(1) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 69وتفسير ابن جزي: 1/ 7.
(2) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 7.
(3) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 100.
(4) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 100وأورده الماوردي في تفسيره: 1/ 25، وفي سنده ليث ابن أبي سليم، قال في التقريب: 2/ 138: صدوق اختلط أخيرا، ولم يتميز حديثه فترك.
وانظر: تهذيب الكمال للمزي 24/ 279وطبقات ابن سعد: 6/ 349وسير أعلام النبلاء للذهبي: 6/ 179.(2/162)
وفضّلت بالمفصّل. (1)
قال الطبري: (السبع الطّول): البقرة وآل عمران والنّساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس في قول سعيد بن جبير.
وبنحوه عن ابن عباس. (2)
__________
(1) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 100والحديث الذي سبق إسناد آخر لهذا الحديث، وهو إسناد مشكل كما قال أحمد شاكر. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير: (ح 186و 187 22/ 75) والبيهقي في الشعب: (ح 2421/ 751) و (ح 2488/ 866) وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 34وعزاه لأبي عبيد وقال: غريب وسعيد بن بشير فيه لين.
وتعقبه العلامة شاكر فقال: هو تعليل غير محرر، فإن سعيد بن بشير لم ينفرد به بل تأيدت روايته برواية الطيالسي عن أبي العوام عمران بن داور، وهو إسناد صحيح.
تفسير ابن جرير: 1/ 100حاشية (2) وأورده السيوطي في الجامع الصغير، ورمز لحسنه وعزاه للطبراني والبيهقي. قال المناوي: وكذا أحمد. فيض القدير: 1/ 516ومسند أحمد: 4/ 107وفضائل القرآن لأبي عبيد: 157.
(2) تفسير ابن جرير: 1/ 103102وتفسير الماوردي: 1/ 26.
وأخرجه أبو عبيد في فضائله: 158والحاكم في المستدرك: 2/ 355وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. والبيهقي في الشعب: (ح 2423/ 756) و (ح 2424/ 756) وانظر: فتح الباري لابن حجر: 8/ 382والزيادة والإحسان في علوم القرآن لابن عقيلة: 2/ 591بتحقيقي.
وقد اختلف العلماء في السابعة من الطّول، فعن جماعة هي براءة، وفي رواية عند(2/163)
قال الماوردي: وهو الصحيح. (1)
وإنما سميت هذه السور السبع الطّول لطولها على سائر سور القرآن. (2)
أما (المئون): فهي ما كان من سور القرآن عدد آية مائة آية أو تزيد عليها شيئا أو تنقص عنها شيئا. (3)
أما (المثاني): ففيها ثلاثة تأويلات:
أحدها: ما ثنى المئين فتلاها، وكان المئون لها أوائل، وكان المثاني لها ثواني. قال بعض الشعراء:
__________
الحاكم أنها الكهف. ونسي الراوي السابعة في الرواية التي أخرجها الحاكم والنسائي وغيرهما عن ابن عباس. وفي رواية صحيحة عن ابن أبي حاتم وغيره عن سعيد بن جبير أنها يونس، قال ابن عقيلة: فكأن القائلين بأنها يونس مشوا على ترتيب مصحف أبي وابن مسعود، فإنها في مصحفيهما هي السابعة من الطّول على اختلاف بينهما في الترتيب انظر: جمال القراء للسخاوي: 1/ 34والبرهان للزركشي: 1/ 244والإتقان للسيوطي: 1/ 199ط البغا.
(1) تفسير الماوردي: 1/ 26.
(2) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 103وتفسير الماوردي: 1/ 26.
(3) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 103وتفسير الماوردي: 1/ 26وانظر البرهان للزركشي: 1/ 245والإتقان للسيوطي: 1/ 199ط البغا.(2/164)
حلفت بالسبع اللّواتي طوّلت ... وبمئين بعدها قد أمئيت
وبمثان ثنّت فكرّرت ... وبالطّواسين التي قد ثلّثت
وبالحواميم اللّواتي سبّعت ... وبالمفصّل اللّواتي فصّلت (1)
والثاني: لتثنية الله جلّ ذكره فيها الأمثال والخبر أو العبر (2). وقيل:
الفرائض والحدود. وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقال جماعة يكثر تعدادهم: القرآن كله مثان. (3)
والثالث: أنها فاتحة الكتاب، لأنها تثنى قراءتها في كل صلاة (4). وهو قول الحسن البصري، قال الراجز:
نشدتكم بمنزل القرآن ... أمّ الكتاب السبع من مثاني
ثنّين من آي من القرآن ... والسّبع سبع الطّول الدّواني (5)
__________
(1) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 104وتفسير الماوردي: 1/ 26.
(2) في الإتقان: لتثنيته فيها الأمثال بالخبر والعبر. حكاه النكزاوي: 1/ 199ط البغا.
(3) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 103وتفسير الماوردي: 1/ 26.
(4) وقيل بل المثاني مشتق من الثناء، لما في الفاتحة من الثناء على الله سبحانه. وقيل لأنها أي الفاتحة تثنى بسورة أخرى. وقيل: لأنها نزلت مرتين.
انظر: البرهان للزركشي: 1/ 207والإتقان للسيوطي: 1/ 152ط أبو الفضل وتفسير القرطبي: 1/ 112والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 2/ 432تحقيقي.
(5) انظر: تفسير الماوردي: 1/ 26وزاد الفراء قولا رابعا فقال: المثاني هي السورة التي(2/165)
وأما (المفصل) فإنها سميت مفصّلا لكثرة الفصول التي بين سورها ب {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} * (1).
قال الماوردي: وسمي المفصل محكما لما قيل: إنه لم ينسخ شيء منه (2).
واختلفوا في أول المفصل على ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو قول الأكثرين أنه سورة «محمد صلى الله عليه وسلم» إلى سورة الناس.
والثاني: أنه من سورة «ق» إلى الناس. حكاه عيسى بن عمر عن كثير من الصحابة.
والثالث: أنه من سورة «الضحى» إلى الناس، وهو قول ابن عباس، وكان يفصل في سورة الضحى بين كل سورتين بالتكبير على رأي قراء مكة. (3)
__________
آيها أقل من مائة لأنها تثنّى أي تكرر أكثر مما يثنى الطّول والمئون. انظر: الإتقان للسيوطي: 1/ 199ط البغا. وفي جمال القراء للسخاوي: 1/ 35هي السّور التي ثنيت فيها القصص.
(1) انظر تفسير ابن جرير: 1/ 104وتفسير الماوردي: 1/ 26وانظر: جمال القراء للسخاوي: 1/ 35.
(2) روى البخاري في صحيحه وغيره عن سعيد بن جبير قال: إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم. البخاري، كتاب: فضائل القرآن، باب: تعليم الصبيان القرآن: 6/ 110 والمسند للإمام أحمد: 253.
(3) انظر: تفسير الماوردي: 1/ 2726وانظر: جمال القراء للسخاوي: 1/ 35(2/166)
الموضوع السادس فضائل القرآن وخواصه وآداب تلاوته
تناول هذا الموضوع في مقدمته الواحدي (1)، والبغوي (2)، وابن عطية (3)، والقرطبي (4)، والخازن (5)، وابن جزي (6)، وأبو حيان (7)، وابن كثير (8)، وأولاه
__________
والإتقان للسيوطي: 1/ 200ط البغا.
قلت: واختلف أهل العلم في أول المفصل على اثني عشر قولا كما أفاد السيوطي في إتقانه، وصحح النووي أن أول المفصل سورة «الحجرات».
وهو أي المفصل ثلاثة أقسام: طوال، وأوساط، وقصار، وفي تعيينها خلاف. انظر في ذلك: الإتقان للسيوطي: 1/ 200ط البغا والزيادة والإحسان لابن عقيلة:
2/ 599بتحقيقي. ومناهل العرفان للزرقاني: 1/ 345.
(1) انظر: تفسيره: 1/ 49.
(2) انظر: تفسيره: 1/ 4138.
(3) انظر: تفسيره: 1/ 2614.
(4) انظر: تفسيره: 1/ 543927262220171042 7861.
(5) انظر: تفسير: 1/ 64.
(6) انظر: تفسيره: 1/ 243.
(7) انظر: تفسيره: 1/ 23.
(8) انظر: تفسيره: 1/ 12.(2/167)
القرطبي من بين المذكورين عناية خاصة، فشغلت حيزا كبيرا من مقدمته، وفيه عدة مسائل:
المسألة الأولى: في التنبيه على أحاديث ضعيفة وضعت في الفضائل (1):
نبه القرطبي يرحمه الله في مقدمته إلى أمر هام، حين ذكر أن جماعة من الوضاعين، وضعوا أحاديث مكذوبة، وأخبار مختلفة، في الفضائل عامة وفي فضائل القرآن خاصة، ونسبوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة وسلف الأمة، وبيّن اختلاف مقاصد وأغراض تلك الجماعات (2).
وقد انتشرت تلك الموضوعات بين عامة المسلمين، وتناقلها القصاص، ووجدت في ثنايا كتب بعض المنتسبين للعلم دون التنبيه عليها.
وكان لهذا الإفك أغراض عديدة فمنها:
1 - إيقاع الشك ببعض أمور الدين في قلوب الناس، كما فعل قوم من الزنادقة أمثال المغيرة بن سعيد الكوفي، ومحمد بن سعيد الشامي
__________
(1) قدمت هذا الفصل بهذه المسألة، وقد أخرها القرطبي فذكرها في خاتمة مقدمته، وذلك لتنبيه القارئ، إلى خطورة هذا الأمر، ومن ثم ليولي انتباها خاصا لدرجة الأحاديث والآثار التي قد تمر به في هذا الباب. فإن المحفوظ عند الخاصة والعامة من الأحاديث الموضوعة والضعيفة في الفضائل تفوق الصحيحة والله أعلم.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 78وانظر: المجروحين لابن حبان: 1/ 8562.(2/168)
المصلوب وغيرهما، فقد افترى هذا الأخير على أنس بن مالك أنه قال في قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا خاتم الأنبياء، لا نبي بعدي.» فزاد الراوي: «إلا ما شاء الله» لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة. (1)
2 - ما وضع تبعا للهوى، كما فعلت الخوارج، قال أحد شيوخهم بعد أن منّ الله عليه بالتوبة: إن هذه الأحاديث دين فانظروا ممن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيّرناه حديثا. (2)
3 - ما وضع حسبة من بعض جهلة المسلمين، يريدون به حسب زعمهم ترغيب الناس في الفضائل (3)، كما فعل نوح بن أبي مريم المروزي المعروف بأبي عصمة (4)، وكما فعل محمد بن عكاشة الكرماني وغيرهما،
__________
(1) المرجع السابق: 1/ 78أورده ابن الجوزي في الموضوعات: 1/ 377279 والسيوطي في اللئالئ المصنوعة: 1/ 137والشوكاني في الفوائد المجموعة: 320وقال:
رواه الجوزقاني.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 78وكتاب المجروحين لابن حبان: 1/ 82.
(3) قال النووي: أعظمهم ضررا قوم ينسبون إلى الزهد، وضعوه حسبة في زعمهم. تدريب الراوي للسيوطي: 1/ 282ط دار الكتب الحديثة.
(4) هو قاضي مرو، كان يعرف بالجامع لجمعه العلوم، كذبوه في الحديث قال ابن المبارك:
كان يضع الحديث. انظر ترجمته: المجروحين لمحمد بن حبان البستي: 3/ 48والضعفاء الكبير للذهبي: 4/ 304والكامل في الضعفاء لابن عدي: 7/ 2505.(2/169)
وقد قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة. (1)
4 - ما وضع من بعض السؤّال والمكدّين، يقصدون به جمع المال، فيقفون في المساجد ويضعون لكل مجلس ما يوافق هواهم، ليعطوهم، وقد يضعون لموضوعاتهم أسانيد صحيحة حفظوها، ومن ذلك القصة المشهورة في أجر من قال: لا إله إلا الله، والتي ذكرها جعفر بن محمد الطيالسي (2)، عن القاص الذي نسب إلى ابن حنبل وابن معين ما لم يقولاه، وأوردها القرطبي بطولها في مقدمته. (3)
وغير ذلك من الأغراض والأهداف، التي تناولها الوعيد الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم، فمن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 78تدريب الراوي للسيوطي: 1/ 282ط دار الكتب الحديثة.
(2) هو جعفر بن محمد بن أبي عثمان الطيالسي، حافظ مجود، ثبت ثقة، اشتهر بالإتقان والحفظ والصدق، توفي (282هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 13/ 346 وتاريخ بغداد للخطيب: 7/ 188.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 79وانظر: كتاب المجروحين لابن حبان: 1/ 85.(2/170)
مقعده من النار. (1)
قال القرطبي: ولو اقتصر الناس على ما ثبت في الصحاح والمسانيد وغيرها من المصنفات التي تداولها العلماء، ورواها الأئمة الفقهاء، لكان لهم في ذلك غنية، وخرجوا عن تحذيره صلى الله عليه وسلم. (2)
المسألة الثانية: في ذكر شيء من فضائل القرآن:
ذكر المفسرون في مقدماتهم كثيرا من الأحاديث والآثار وأخبار السلف وعاداتهم مع القرآن، وتفاوتت درجات المرويات بين الصحيح الثابت وبين الضعيف المردود، وغالب تلك المرويات هي مما حفلت به كتب التفسير والفضائل، وأرى أن الاقتصار على ذكر نماذج منها في هذا الموضع هو الأسلم.
وفي هذه المسألة عدة مطالب:
المطلب الأول: فضل الاعتصام بكتاب الله:
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 80والحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند: (ح 2675 4/ 235) وقال شاكر: إسناده ضعيف، لضعف عبد الأعلى الثعلبي. وهو في المجمع:
1/ 146ونسبه للطبراني وأعله بعبد الأعلى. وأصله في البخاري، كتاب العلم، باب:
إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم: 1/ 35.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 80.(2/171)
روى الواحدي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد خلّفت فيكم شيئين لن تضلوا أبدا ما أخذتم بهما، وعملتم بما فيهما، كتاب الله عزّ وجلّ، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض. (1)
وأخرج البغوي بسنده عن عمر بن الخطاب أنه قال: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين. (2) قال البغوي: صحيح أخرجه مسلم عن زهير بن حرب (3).
__________
(1) تفسير الواحدي: 1/ 50وأخرجه الحاكم في المستدرك: 1/ 93وسكت عنه وأبو بكر الشافعي في الغيلانيات كما ذكر السيوطي وابن عقيلة، وأشار السيوطي إلى حسنه، وصححه الألباني صحيح الجامع الصغير: (ح 33227/ 111). وقال المناوي:، ورواه عنه أيضا الدارقطني باللفظ المذكور وفيه كما قال الفريابي صالح بن موسى ضعفوه، وعنه داود بن عمر الضبي قال أبو حاتم: منكر الحديث. انظر: فيض القدير:
3/ 443، وانظر الزيادة والإحسان لابن عقيلة: 2/ 642ورواه أحمد في المسند:
3/ 2617عن أبي سعيد وذكره الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي والسامع:
1/ 111.
(2) تفسير البغوي: 1/ 40وأورده الخازن في تفسيره: 1/ 4وهو في مسلم، كتاب:
صلاة المسافرين، باب: فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه: 1/ 559.
(3) هو زهير بن حرب بن شداد الحرشي، أبو خيثمة، محدث حافظ حجة، صاحب تصانيف مشهورة، توفي (234هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 11/ 489 وتاريخ بغداد للخطيب: 8/ 482.(2/172)
وعن زيد بن أرقم (1) قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى (خما) بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال:
أما بعد: ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. فحثّ على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي. وزاد في رواية: كتاب الله فيه الهدى والنور من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضلّ. (2)
وأخرج البغوي بسنده عن الحارث الأعور (3) قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي رضي الله عنه فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال: أو قد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: أما إني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إلا
__________
(1) هو زيد بن أرقم بن زيد الأنصاري الخزرجي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن علي بن أبي طالب وعنه أنس بن مالك وغيره، غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، توفي (66هـ) انظر: الإصابة لابن حجر: 1/ 560وتهذيب الكمال للمزي: 10/ 9.
(2) تفسير الخازن: 1/ 4والحديث في صحيح مسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب:
فضائل علي بن أبي طالب: 4/ 1870وذكر ابن عطية نحوه: 1/ 14وأبو حيان في تفسيره: 1/ 24وغيرهم.
(3) هو الحارث بن عبد الله بن كعب الهمداني الكوفي الأعور، فقيه، كثير العلم، لين الحديث، تكلم فيه، وكان غاليا في التشيع. توفي (65هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 152وشذرات الذهب لابن العماد: 1/ 73.(2/173)
إنها ستكون فتنة. قلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إِنََّا سَمِعْنََا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنََّا بِهِ} [الجن: 21] من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم. خذها إليك يا أعور.
قال أبو عيسى: هذا لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، والحارث فيه مقال (1).
__________
(1) تفسير البغوي: 1/ 39. وأورده ابن عطية بنحوه في تفسيره: 1/ 13والقرطبي في تفسيره: 1/ 5وقال: الحارث رماه الشعبي بالكذب وليس بشيء، ولم يبن من الحارث كذب، وإنما نقم عليه إفراطه في حب عليّ وتفضيله له على غيره. ومن هاهنا والله أعلم كذّبه الشعبي لأن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر، وإلى أنه أول من أسلم.
قال ابن عبد البر: وأظن الشعبي عوقب لقوله في الحارث الهمداني: حدثني الحارث وكان أحد الكذابين. اه والخازن في تفسيره: 1/ 12، وأخرجه الترمذي في سننه: (ح 3070 4/ 245) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال. وهو في سنن الدارمي: (ح 23334/ 312) وأخرجه الفريابي في فضائله: (ح 18480) وابن أبي شيبة في مصنفه بنحوه عن علي: 10/ 482(2/174)
المطلب الثاني: في ذكر شيء مما جاء في فضل تعلم القرآن وتعليمه:
أخرج البغوي بسنده وغيره عن أنس عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجّة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة، طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن، كمثل الريحانة ريحها طيب ولا طعم لها، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها. (1)
__________
وانظر جامع الأصول: 2/ 461.
وقد عقب الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن: ص، 5على قول الترمذي السابق فقال: لم يتفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات، بل قد رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث الأعور فبرئ حمزة من عهدته، على أنه وإن كان ضعيف الحديث فإنه إمام في القراءة، والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلموا فيه بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما أنه تعمد الكذب في الحديث فلا، قال:
وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وقد وهم بعضهم في رفعه وهو كلام حسن صحيح على أنه قد روي له شاهد عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) تفسير البغوي: 1/ 42وقال: صحيح أخرجه البخاري عن قتيبة عن أبي عوانة عن قتادة وانظر: تفسير القرطبي: 1/ 6، 7الخازن: 1/ 5وابن جزي: 1/ 24وهو في صحيح البخاري: كتاب: فضائل القرآن، باب: فضل القرآن على سائر الكلام:
6/ 107، وباب: من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به: 6/ 115، وفي الطعام: 6/ 207،(2/175)
وأخرج البغوي بسنده عن ابن مسعود قال: إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين والشفاء النافع وعصمة لمن تمسك به ونجاة لمن تبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوج فيقوم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، فاتلوه فإن الله عزّ وجلّ يأجركم على تلاوته، بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول {الم} * حرف، ولكن الألف حرف، واللام حرف، والميم حرف.
وهو في الخازن بلفظ: من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول {الم} * حرف، ولكن ألف حرف الحديث (1).
وأخرج البغوي بسنده أيضا عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خيركم
__________
والتوحيد: 8/ 128وفي صحيح مسلم، كتاب: صلاة المسافرين، باب: فضيلة حافظ القرآن: (ح 1797/ 549) والإمام أحمد في المسند، انظر الفتح الرباني للساعاتي:
18/ 12والترمذي في سننه: (ح 43025/ 227) والنسائي في فضائل القرآن:
(ح 111106) والبيهقي في الشعب: (ح 139/ 103).
(1) تفسير البغوي: 1/ 40وهو في القرطبي بألفاظ متقاربة: 1/ 5وعزاه لابن الأنباري في الرد على من خالف مصحف عثمان. وهو في الخازن: 1/ 5وفي تفسير أبي حيان:
1/ 24ولفظ البغوي أخرجه الدارمي في سننه: 2/ 431، ولفظ الخازن أخرجه الترمذي في سننه: (ح 52910/ 175) وقال: حديث حسن صحيح غريب وأخرجه الحاكم في المستدرك: 1/ 556وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وابن الضريس في فضائل القرآن: (ح 4659) وأبو عبيد في فضائل القرآن: (ح 23 12) وابن المبارك في الزهد: (ح 279808).(2/176)
من تعلم القرآن وعلّمه. وفي رواية زيادة: فإن الله يرفع بهذا القرآن أقواما ويضع آخرين (1).
وأخرج بسنده أيضا عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل الماهر بالقرآن مثل السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران. (2)
قال القرطبي: التتعتع: التردد في الكلام عيا وصعوبة قال: وإنما كان له أجران من حيث التلاوة ومن حيث المشقة، ودرجات الماهر فوق ذلك كله لأنه قد كان القرآن متعتعا عليه، ثم ترقى عن ذلك إلى أن شبه بالملائكة. (3)
__________
(1) تفسير البغوي: 1/ 39وانظر: تفسير القرطبي: 1/ 6والخازن: 1/ 5وابن جزي:
1/ 24وأبا حيان: 1/ 24بلفظ (أفضلكم) وبوب عليه البخاري في صحيحه، وبهما وردت الرواية عنده، كتاب: فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلّمه: 6/ 108.
(2) تفسير البغوي: 1/ 41وقال: صحيح. وأورده ابن عطية بنحوه: 1/ 18والقرطبي:
1/ 7وابن جزي: 1/ 24وهو في البخاري: كتاب: التفسير، سورة «عبس»:
6/ 81، وبوب عليه البخاري في صحيحه كتاب التوحيد، باب: (52): 8/ 142، وصحيح مسلم، كتاب: صلاة المسافرين، باب: فضل الماهر بالقرآن: (ح 798 1/ 549)، وأخرجه غيرهما. وانظر: الزيادة والإحسان لابن عقيلة: 2/ 669.
(3) تفسير القرطبي: 1/ 7.(2/177)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الحال المرتحل.
قال: وما الحال المرتحل؟ قال: الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حلّ ارتحل. (1)
المطلب الثالث: ذكر شيء مما جاء في فضل حامل القرآن:
أخرج البغوي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الرجل الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب. (2)
__________
(1) تفسير الخازن: 1/ 5وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب: القراءات، باب: (13):
(ح 52948/ 197) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بالقوي. وذكره من طريق آخر عن زرارة بن أوفى وقال: هذا عندي أصح. وأخرجه الحاكم في المستدرك: 1/ 568وقال: تفرد به صالح المري، وهو من زهاد أهل البصرة إن الشيخين لم يخرجاه. قال الذهبي في التلخيص:
صالح المري متروك. وأخرجه البيهقي في الشعب: (166/ 159) وابن جزي في النشر: 2/ 446وانظر: تفسير (رواه الترمذي مرسلا، وقال: إنه أصح. اهـ. وقطع بصحته أبو محمد المكي، وسكت عليه البيهقي في الشعب فلم يذكر فيه ضعفا كعادته، وضعفه أبو شامة من قبل صالح المري.).
(2) تفسير البغوي: 1/ 41وانظر: تفسير الخازن: 1/ 5وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب: أبواب فضائل القرآن، باب: (18): (ح 52913/ 177) وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه الحاكم في المستدرك: 1/ 557وقال: صحيح الإسناد. وتعقبه(2/178)
وأورد القرطبي عن ابن الأنباري بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ القرآن وتلاه وحفظه أدخله الله الجنة وشفّعه في عشرة من أهل بيته كلّ قد وجبت له النار. (1)
__________
الذهبي في التلخيص وقال: قابوس فيه لين.
قال أحمد شاكر في مسند الإمام أحمد: 3/ 290: إسناده صحيح، وقابوس بن أبي ظبيان سبق أن ضعفناه في الحديث رقم (888) ولكن رأينا أن بعض الأئمة وثقة كابن معين ويعقوب بن سفيان، وأن الترمذي والحاكم يصححان حديثه، فاستدركنا ورجعنا إلى توثيقه. وأورده السيوطي في الجامع الصغير، وعزاه للترمذي والحاكم وأحمد ورمز لصحته، وقال المناوي: قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح. وفاتهما أن فيه قابوس بن أبي ظبيان ضعيف كما بينه ابن القطان، والراوي عن قابوس جرير، وفيه مقال، فالصحة له محال، ومن ثم استدركه الذهبي على الحاكم، وقال: قابوس لين، وقال النسائي: غير قوي. فيض القدير: 2/ 382والحديث ذكره المنذري في الترغيب والترهيب: 2/ 359والنووي في التبيان: 20وهو في كنز العمال للهندي:
1/ 553.
(1) تفسير القرطبي: 1/ 9وانظر: تفسير الخازن: 1/ 6بنحوه، وعزاه للترمذي. وهو في الترمذي، كتاب: أبواب فضائل القرآن، باب: ما جاء في فضل قارئ القرآن: (ح 3069 4/ 345) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس له إسناد صحيح، وحفص بن سليمان أبو عمر البزار من رجال السند كوفي يضعف في الحديث. قال ابن حجر في التقريب: 1/ 186: هو حفص بن أبي داود القارئ، صاحب عاصم، ويقال له حفيص متروك الحديث مع إمامته في القراءة وأورده القرطبي في التذكار: 55 وقال: وإن كان في إسناده مقال فإن العلماء مجمعون على القول به، وهو في المشكاة(2/179)
وأخرج البغوي بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها. (1)
وأورد ابن عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أشراف أمتي حملة القرآن. (2)
وأخرج البغوي بسنده عن مشرح بن هاعان، قال: سمعت عقبة بن عامر يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لو كان القرآن في إهاب ما مسته النار.
__________
للتبريزي: 1/ 660والترغيب والترهيب للمنذري: 3/ 355وكنز العمال للهندي: 1/ 52.
(1) تفسير البغوي: 1/ 42وعزاه للترمذي وانظر: تفسير القرطبي: 1/ 8وعزاه لأبي داود. والخازن: 1/ 18وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب: فضائل القرآن، باب:
(18): (ح 52914/ 177) وقال: حديث حسن صحيح. وأبو داود في سننه:
(ح 21464/ 73)، والحاكم في المستدرك: 1/ 553وصححه. والآجري في أخلاق أهل القرآن: (ح 489) وفي مواضع أخرى.
(2) تفسير ابن عطية: 1/ 17وأخرجه البيهقي في الشعب: (ح 3684/ 1142) والطبراني في الكبير: (ح 1213662/ 125) بشطره الأول: قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7/ 161: وفيه سعد بن سعيد الجرجاني، وهو ضعيف. وأخرجه ابن عدي في الكامل في الضعفاء: 3/ 1194والسهمي في تاريخ جرجان: 218قال الذهبي في الميزان: 2/ 121: وأما حديث حملة القرآن فرواه سعد بن سعيد عن نهشل وهو هالك. وذكره المنذري في الترغيب: (ح 127/ 431).(2/180)
قال البغوي: قيل معناه: من حمل القرآن وقرأه لم تمسه النار يوم القيامة. (1)
__________
(1) وقال أبو عبيد: أراد بالقرآن قلب المؤمن الذي قد وعى القرآن. تفسير البغوي: 1/ 39.
أخرجه أحمد في المسند: 4/ 155151وأبو عبيد في فصائله: (ح 814) والطبراني في الكبير: (ح 17850/ 308) والدارمي في سننه: (ح 3313 2/ 309) وأبو يعلى في المسند: 3/ 284والبغوي في شرح السنة: (ح 1180 4/ 436) وابن عدي في الكامل: 6/ 2460وأورده الهيثمي في المجمع: 7/ 158، وقال: فيه ابن لهيعة، وفيه خلاف.
وذكره الحافظ السيوطي في الجامع الصغير، وعزاه للطبراني عن عقبة بن عامر، وعن عصمة بن مالك ورمز لضعفه. قال المناوي: قال الهيثمي: فيه عبد الوهاب بن الضحاك وهو متروك.
قال: وقضية تصرف المصنف أنه لم يخرجه أشهر ولا أعلى من الطبراني، وكأنه ذهول، فقد خرجه الإمام أحمد عن عقبة، ورواه عن عقبة أيضا الدارمي، قال الحافظ العراقي: وفيه ابن لهيعة وابن عدي والبيهقي في الشعب عن عصمة المذكور وابن عدي عن سهل بن سعد قال العراقي: وسنده ضعيف وقال ابن القطان: فيه من كان يلقن وقال الصدر المناوي: فيه عند أحمد ابن لهيعة عن مشرح ولا يحتج بحديثهما عن عقبة. اهـ.
قال المناوي: لكنه يتقوى بتعدد طرقه، فقد رواه أيضا ابن حبان عن سهل بن سعد، ورواه البغوي في شرح السنة وغيره. فيض القدير: 5/ 324وانظر: مجمع الزوائد:
7/ 158والتذكار للقرطبي: 63والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (ح 55158/ 66) وانظر: الزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي: 2/ 655 تحقيقي.(2/181)
المطلب الرابع: ذكر شيء مما جاء في فضل بعض سور القرآن:
أخرج البغوي بسنده عن أبي سلام عن أبي أمامة أنه حدّثه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صوافّ تحاجّان عن أصحابهما. اقرءوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة. (1)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة. (2)
__________
(1) تفسير البغوي: 1/ 42وقال: صحيح. وأورده ابن جزي بنحوه: 1/ 25والحديث أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل قراءة القرآن وسورة البقرة: 1/ 553والترمذي في سننه، كتاب: أبواب فضائل القرآن، باب: ما جاء في آل عمران: (ح 52883/ 160) وقال: حديث حسن غريب والبيهقي في الشعب: (ح 2381/ 684).
(2) ذكره ابن جزي في تفسيره: 1/ 25وأخرجه أبو عبيد في فضائله: (ح 159409) وأحمد في المسند: 2/ 284و 337وفي الباب عن أنس وابن مسعود وعبد الله بن مغفل، بلفظ: الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة. وهو في الزيادة ولإحسان لابن عقيلة: 3/ 727حاشية: (3و 4و 5) تحقيقي.(2/182)
وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا المنذر أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: {اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] قال: فضرب في صدري وقال: والله! ليهنك العلم يا أبا المنذر. (1)
وعن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم الدجال. (2)
وعنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: سورة {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن. (3)
__________
(1) ذكره ابن جزي في تفسيره: 1/ 25والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل سورة الكهف وآية الكرسي: 1/ 556.
(2) ذكره ابن جزي في تفسيره: 1/ 25والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل سورة الكهف وآية الكرسي: 1/ 555وابن السني في عمل اليوم والليلة: (ح 251681) والبغوي في شرح السنة: (ح 41204/ 269) والبيهقي في الشعب: (ح 2449/ 796) وأورده القرطبي في التذكار: 247.
(3) ذكره ابن جزي في تفسيره: 1/ 25أورده السيوطي في الدر المنثور: 6/ 414وعزاه لأبي عبيد وأحمد ومسلم وابن الضريس والنسائي، كلهم عن أبي الدرداء. وهو عند مسلم، كتاب: صلاة المسافرين، باب: فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ}: 1/ 557وهو في الموطأ لمالك: 1/ 208وسنن الدارمي: (ح 23435/ 330) ومصابيح السنة للبغوي: (ح 21555/ 124).(2/183)
وعن عقبة بن عامر (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تر آيات أنزلت اللّيلة لم ير مثلهنّ قطّ؟ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النََّاسِ} (2).
المسألة الثالثة: ما يلزم قارئ القرآن الأخذ به وعدم الإغفال عنه:
فأول ما يلزم قارئ القرآن إخلاص النية لله. والابتعاد عن الرياء والمباهاة: قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللََّهَ وَلََا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء: 36] وقال تعالى: {فَمَنْ كََانَ يَرْجُوا لِقََاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صََالِحاً وَلََا يُشْرِكْ بِعِبََادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110].
وفي الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرّفه نعمه إلى أن قال: ورجل تعلّم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟
قال: تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك
__________
(1) هو عقبة بن عامر بن عيسى بن عدي الجهني، يكنى أبا حماد، قارئ عالم بالفقه والفرائض، اشتهر بحسن صوته في قراءة القرآن، تولى إمرة مصر من قبل معاوية، توفي سنة (58هـ). انظر تهذيب التهذيب لابن حجر: 7/ 242وأسد الغابة لابن عبد البر:
3/ 421.
(2) ذكره ابن جزي في تفسيره: 1/ 25وهو في صحيح مسلم: كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل قراءة المعوذتين: 1/ 558.(2/184)
تعلّمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار الحديث.
وأورده الترمذي وزاد فقال: ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أوّل خلق الله تسعّر بهم النّار يوم القيامة. (1)
قال ابن عبد البر: وهذا الحديث فيمن لم يرد بعلمه وعمله وجه الله تعالى. (2)
وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة (3).
وقال سفيان بن عيينة: بلغنا عن ابن عباس أنه قال: لو أنّ حملة
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/ 17وهو في صحيح مسلم، كتاب: الإمارة، باب: من قاتل للرياء والسمعة: 3/ 1513والترمذي، كتاب: الزهد، باب: ما جاء في الرياء والسمعة:
4/ 591وقال: حسن غريب.
(2) تفسير القرطبي: 1/ 18.
(3) تفسير القرطبي: 1/ 19أخرجه أبو داود في سننه، كتاب: العلم، باب: في طلب العلم لغير الله: (ح 33664/ 323) وابن ماجة في المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به:
(ح 1252/ 92).(2/185)
القرآن أخذوه بحقه وما ينبغي لأحبهم الله، ولكن طلبوا به الدنيا فأبغضهم الله، وهانوا على الناس. (1)
أخرج البغوي بسنده عن خيثمة (2) عن رجل أن عمران بن حصين مر على رجل يقرأ على قوم فلما قرأ سأل، فقال عمران: إنا لله وإنا إليه راجعون، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قرأ القرآن فليسأل الله عزّ وجلّ به، فإنه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون الناس به. (3)
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/ 20.
تفسير القرطبي: 1/ 20.
(2) هو خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الكوفي لأبيه ولجده صحبة، ثقة صالح، توفي (80هـ). انظر: طبقات خليفة: 156وتهذيب التهذيب لابن حجر: 3/ 178.
(3) تفسير البغوي: 1/ 44وأخرجه أحمد في المسند: 1/ 436432والآجري في أخلاق حملة القرآن: (ح 10621) وابن أبي شيبة في المصنف: 10/ 480 والبيهقي في الشعب: (ح 623622621: 2/ 1061) من عدة طرق والترمذي في سننه، كتاب: فضائل القرآن، باب (20): 5/ 179وقال: حديث حسن ليس إسناده بذاك. وأورده النووي في التبيان: 44.
وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن والتكسب به، فمنهم من منعه مطلقا كالزهري وأبي حنيفة، ومنهم من أباحه إن لم يشترط كالحسن البصري والشعبي وابن سيرين، ومنهم من أجازه كعطاء ومالك والشافعي. واحتاط بعضهم فرأى أن يشترط للحفظ وتعليم الكتابة. ويراجع في هذه المسألة معالم السنن للخطابي: 5/ 70والتبيان للنووي: 44والبرهان للزركشي: 1/ 475والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 3/ 909هامش (1) تحقيقي.(2/186)
فيجب على قارئ القرآن الذي يطلب علمه أن يبادر بإخلاص النية، وأن يتقي الله في عمله، لينتفع به وينفع. ولا يضير كونه بدأ يريد به المباهاة والشرف في الدنيا، فإنه بطلب العلم وفهمه يتبين له خطأه، ويظهر له الحق، قال الحسن البصري: كنا نطلب العلم للدنيا فجرّنا إلى الآخرة (1). وقال سفيان الثوري مثل ذلك. وعن حبيب بن أبي ثابت (2): طلبنا هذا الأمر وليس لنا فيه نية ثم جاءت النية. (3)
ومما يلزم قارئ القرآن معرفته أيضا، أن يستشعر من فضل القرآن الكريم أنه كلام الله رب العالمين، وأنه غير مخلوق، كلام من ليس كمثله شيء، وصفة من ليس له شبيه ولا ندّ، وأن يعلم أن القراءة أصوات القراء ونغماتهم.
ومن ذلك أيضا أن يتعاهد القرآن بالقراءة خشية الإفلات، في ليله ونهاره، فقد ورد الوعيد الشديد في حق من أهمله حتى نسيه، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعاهدوا هذا القرآن، فو الّذي نفس محمد بيده لهو أشدّ
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/ 22.
(2) هو حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار القرشي الأسدي، إمام حافظ فقيه، حدّث عن ابن عمرو ابن عباس وغيرهما، أخرج له البخاري وغيره، توفي (119هـ). انظر طبقات خليفة: 159وسير أعلام النبلاء للذهبي: 5/ 288.
(3) تفسير القرطبي: 1/ 22.(2/187)
تفلّتا من الإبل في عقلها. (1)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقّلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت. (2)
__________
(1) تفسير الخازن: 1/ 6وهو في البخاري، كتاب: فضائل القرآن، باب: استذكار القرآن وتعاهده: 6/ 111وفي مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضائل القرآن وما يتعلق به: 1/ 545.
قلت: هذا الحديث يشير فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن من تمام وكمال تعظيم القرآن الحرص على عدم نسيانه، والتشبيه بليغ، فكما يخشى على الإبل أن تفلت إن لم تجد الرعاية والعناية، كذلك يخشى على القرآن. وقد اختلف أهل العلم في حكم نسيان القرآن، فمنهم من جعل ذلك من الكبائر، أخرج أبو عبيد من طريق الضحاك بن مزاحم موقوفا قال: ما من أحد يتعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه، لأن الله يقول: {وَمََا أَصََابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمََا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] ونسيان القرآن من أعظم المصائب.
ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن هبيرة قوله: رفض القرآن بعد حفظه جناية عظيمة. وعن القرطبي قوله: من حفظ القرآن أو بعضه فقد علت رتبته بالنسبة إلى من لم يحفظه، فإذا أخلّ بهذه الرتبة الدينية حتى تزحزح عنها ناسب أن يعاقب على ذلك، فإن ترك معاهدة القرآن يفضي إلى الرجوع إلى الجهل والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد. فتح الباري:
9/ 86و 12/ 444.
(2) تفسير الخازن: 1/ 7وأخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: فضائل القرآن، باب:
استذكار القرآن وتعاهده: 6/ 109ومسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضائل القرآن وما يتعلق به: 1/ 543.(2/188)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت، بل هو نسّى، واستذكروا القرآن فإنّه أشدّ تفصّيا من صدور الرجال من النّعم. وفي رواية: لا يقول أحدكم نسيت آية كذا وكذا بل هو نسّى. (1)
وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله تعالى يوم القيامة أجذم. (2)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عرضت عليّ أجور أمّتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت عليّ ذنوب أمّتي فلم أر فيها ذنبا أعظم من سورة من القرآن، أو آية أوتيها رجل ثمّ نسيها. (3)
__________
(1) تفسير الخازن: 1/ 7وأخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: فضائل القرآن، باب:
استذكار القرآن وتعاهده: 6/ 109ومسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضائل القرآن وما يتعلق به: 1/ 543وكذا الرواية الأخرى. وأورد ابن جزي شطره الأخير في تفسيره: 1/ 24.
(2) تفسير الخازن: 1/ 7أخرجه أبو داود في سننه، كتاب: الصلاة، باب: التشديد في حفظ القرآن: 2/ 75وأحمد في المسند: 5/ 284. والدارمي في السنن، كتاب: فضائل القرآن، باب: من تعلم القرآن ثم نسيه: (ح 23343/ 314) ط باكستان 1404هـ.
(3) تفسير الخازن: 1/ 7وأخرجه أبو داود في سننه: 1/ 126والترمذي في سننه،(2/189)
وينبغي له أن يحمد الله دائما على ما وفقه إليه، فيذكره ويشكره، ويتوكل عليه ويستعين به، ويرغب إليه ويعتصم به، يخشى ذنبه، ويرجو عفو ربه، يراقب الله فيما أمره ونهاه، ويحتاط لدينه.
كما ينبغي له أن يمتاز عن غيره بأخلاقه وأفعاله، فيكون له سمته الخاص، يقول ابن مسعود: ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مستيقظون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخضوعه إذا الناس يختالون (1)، وبحزنه إذا الناس يفرحون. وعليه بالحلم والوقار، وتجنب الكبر والإعجاب، وترك الجدل والمراء، والتصاون عن طرق الشبهات، وأن يكون قليل الضحك والكلام في مجالس القرآن، كما عليه أن يكون سمحا حليما يعفو ويصفح، يؤمن شرّه، ويرجى خيره، ويسلم من ضرّه.
كما ينبغي له أن يفهم مراد الله من كلامه، فينتفع بما يقرأ، ويعمل بما يتلو، يتدبر حقائق عبارته، ويتبين غرائبه، {كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ مُبََارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيََاتِهِ} [ص: 29] {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى ََ قُلُوبٍ أَقْفََالُهََا}
[محمد: 24]، فما أقبح لحامل القرآن أن يتلو فرائضه وأحكامه عن ظهر
__________
كتاب: فضائل القرآن، باب: (19): 5/ 179وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(1) أخرجه الآجري في أخلاق أهل القرآن: 102وأحمد في الزهد: 162وأبو نعيم في الحلية: 1/ 129وسند الرواية ضعيف لانقطاعه.(2/190)
قلب وهو لا يفهم ما يتلوه! وما أقبح أن يسأل عن فقه ما يتلوه ولا يدريه! ولهذا فعليه أن يلم بشيء من علوم القرآن كالمكي والمدني والناسخ والمنسوخ، وغريب القرآن والأعاريب، وأن يكون مطلعا على الحديث النبوي، وغير ذلك من العلوم التي تزيل الشك، وتساعد في فهم النص.
كما ينبغي له أن يعرف لشيوخه قدرهم، ويحفظ لهم مكانتهم، فيكون في غاية الأدب معهم، يقول فضيل بن عياض (1): كنا نأتي المشيخة فلا نرى أنفسنا أهلا للجلوس معهم أي مع الشيوخ فنجلس دونهم ونسترق السمع (2).
المسألة الرابعة: آداب القرآن وآداب تاليه:
هذا باب عظيم أفرده ثلة من أهل العلم بتآليف مستقلة، وخصص له آخرون حيزا من تآليفهم، فأوردوا مجموعة من تلك الآثار، كما فعل القرطبي في مقدمته. وآداب القرآن وآداب تاليه أربعة أقسام:
قسم يتعلق بالاستعداد للتلاوة.
__________
(1) هو الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر، شيخ الإسلام، ثقة عالم، سمع الكثير وارتحل في طلب الحديث، أطال الذهبي في ترجمته وذكر أخباره، توفي (187هـ). انظر:
سير أعلام النبلاء للذهبي: 8/ 421والمعارف لابن قتيبة: 511.
(2) ما سبق ذكره مما يلزم قارئ القرآن، مأخوذ من تفسير القرطبي بتصرف: 1/ 2218.(2/191)
وقسم يتعلق بالتلاوة نفسها.
وثالث هي آداب عامة أثناء التلاوة.
ورابع يتعلق بالآداب مع المصحف.
أما القسم الأول، فمن ذلك أن لا يمسه إلا طاهرا، وأن يستاك فيطيب فاه، قال يزيد بن مالك: إن أفواهكم طرق للقرآن فطهروها ونظّفوها ما استطعتم. وأن يستعد للقراءة فيلبس من أحسن ثيابه، وأن يختار لقراءته مكانا طيبا فيتجنب القراءة في الأسواق ومواطن اللغط واللهو ومجمع السفهاء، قال تعالى في وصف عباد الرحمن {وَإِذََا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرََاماً}
[الفرقان: 72] وأن يستقبل القبلة لقراءته، فقد كان أبو العالية (1) إذا قرأ اعتمّ وارتدى واستقبل القبلة (2)، ومن ذلك أيضا أن يستعيذ بالله عند ابتدائه من الشيطان الرجيم {فَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ مِنَ الشَّيْطََانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 99]، ومنه أيضا أن يختار لقراءته خلوة قدر طاقته حتى
__________
(1) هو رفيع بن مهران، يكنى أبا العالية الرياحي، أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، وثقه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم، توفي (90هـ). انظر: ميزان الاعتدال للذهبي: 2/ 54والتاريخ الكبير للبخاري: 3/ 326.
(2) أخرج الطبراني عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن لكل شيء سيدا وإن سيد المجالس قبالة القبلة. المعجم الأوسط: (ح 32357/ 182).(2/192)
لا يقطع عليه أحد بكلام فيخلطه بجوابه.
وأما القسم الثاني فهو ما يتعلق بالتلاوة نفسها، ومن أهم ذلك أن يجعل لنفسه وردا يوميا، فلا يخلو يوما من أيامه دون النظر في المصحف، وقد كان أبو موسى يقول: إني لأستحي ألا أنظر كل يوم في عهد ربي (1).
ومن ذلك أن يقرأ البسملة إذا ابتدأ قراءته من أول السورة، أو من حيث بلغ، فإذا قرأ لم يقطعها بكلام الآدميين من غير ضرورة، وأن يستعمل في قراءته ذهنه وفهمه {كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ مُبََارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيََاتِهِ} [ص: 29] حتى ينتفع بما يتلو، ومن الآداب أن يقف على آية الوعد فيطلب الله من فضله ويسأله، وعلى آية الوعيد فيستجير بالله منه، وعلى الأمثال فيمتثلها، وأن يؤدي حق التلاوة، فيخرج الحروف واضحة من مخارجها، وأن يختار القراءة الصحيحة ولا يجادل في غيرها فقد تكون هي الأخرى صحيحة، وأن لا يلتقط الآي من كل سورة فيقرأها ويتنقّل بينها بل عليه أن يتم السورة كلها، كما يحسن للقارئ أن لا يحرم عينه من الأجر في النظر، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: أعطوا أعينكم حظها من العبادة. قالوا: يا رسول الله، وما حظها من العبادة؟ قال: النظر في المصحف والتفكر فيه والاعتبار عند عجائبه (2).
__________
(1) أخرجه البيهقي في الشعب: (ح 2257/ 482) عن ابن مسعود.
(2) أخرجه البيهقي في الشعب عن أبي سعيد: (ح 2254/ 478) وقال: إسناده ضعيف والله أعلم وأورده القرطبي في التذكار: 14والسيوطي في الجامع الصغير ورمز(2/193)
ومن آداب التلاوة أن يتجنب القراءة منكوسا (1). كما عليه أن يتجنب
__________
لضعفه كما في الفيض القدير: 1/ 561وحكم الألباني بوضعه، انظر ضعيف الجامع الصغير: (ح 11041/ 299) وقد اختلف العلماء في أيهما أفضل، القراءة في المصحف، أم القراءة عن ظهر قلب؟ فذهب النووي إلى أفضلية القراءة في المصحف لأن النظر في المصحف عبادة مطلوبة، فتجتمع القراءة والنظر، وهو رأي الغزالي وجماعات من السلف، فقد ثبت أن الصحابة كانوا يداومون على النظر في المصاحف.
وذهب العز بن عبد السلام إلى أفضلية القراءة عن ظهر قلب، قال: إن المقصود من القراءة التدبر، والعادة تشهد أن النظر في المصحف يخل بهذا المقصود فكان مرجوحا.
وجمع الحليمي بين القولين فرأى أن يقرأ مرة من حفظه وأخرى من المصحف.
والذي يترجح لي هو القول الثالث فيختار مرة القراءة من المصحف ليشترك النظر في العبادة وليكون أبعد عن الرياء وأمكن للخشوع، ومرة من حفظه للتدبر والمحافظة على المحفوظ خشية الإفلات، والله أعلم. انظر: المنهاج في شعب الإيمان للحليمي: 2/ 233 والبرهان للزركشي: 1/ 461وفتح الباري لابن حجر: 9/ 78وفيض القدير للمناوي: 1/ 561و 6/ 150والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 2/ 696تحقيقي.
(1) أخرج عبد الرزاق والبيهقي وابن أبي شيبة والطبراني وأبو عبيد وابن أبي داود، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوسا؟ قال: ذاك منكوس القلب. المصنف لعبد الرزاق: (ح 47947/ 323) وشعب الإيمان للبيهقي:
(ح 2334/ 600) والمصنف لابن أبي شيبة: 10/ 564وفضائل القرآن لأبي عبيد: (ح 57131) والمصاحف لابن أبي داود: 151وقال الهيثمي في المجمع:
7/ 168: رواه الطبراني ورجاله ثقات. وذكره النووي في التبيان: 69وقال: إسناده صحيح وقال السيوطي في الإتقان: 1/ 308: إسناده جيد.
وقد اختلف في صفة القراءة المنكوسة، فقيل هو أن يبدأ من آخر السورة حتى يقرأها إلى أولها. ورده أبو عبيد وقال: وهذا شيء ما أحسب أن أحدا يطيقه، ولا كان هذا في(2/194)
والقراءة بألحان الغناء كلحون أهل الفسوق، وترجيع النصارى، ونوح الرهبانية (1)، وأن لا يجهر على الآخرين في قراءته فيفسد
__________
زمن عبد الله، ولكن وجهه عندي أن يبدأ من آخر القرآن ثم يرتفع إلى البقرة، كنحو ما يتعلم الصبيان في الكتاب، لأن السنة بخلاف هذا، وإنما جاءت الرخصة في تعليم الصبي والعجمي من المفصل لصعوبة السور الطوال عليهما.
قال: وإذا كرهنا هذا النكس فنحن للنكس من آخر السورة إلى أولها أشد كراهية إن كان ذلك يكون. غريب الحديث 4/ 103وانظر النهاية في غريب الحديث (نكس) لابن الأثير: 5/ 115.
(1) عن حذيفة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الكتابين، وأهل الفسق، فإنه سيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبه شأنهم. أخرجه البيهقي في الشعب: (ح 3641/ 1078) والمروزي في قيام الليل كما في المختصر: 119وأبو عبيد في فضائل القرآن: (ح 99232) وابن الجوزي في العلل: 1/ 118وقال: هذا حديث لا يصح، وأبو محمد من رجال السند مجهول، وبقية من رجال السند يروي عن الضعفاء ويدلسهم.، وانظر التقريب لابن حجر:
1/ 105وقال الذهبي في الميزان: 1/ 553: الخبر منكر.
وقد اختلف العلماء في التطريب في القراءة والترجيع فيها، فمنع من ذلك وأنكره مالك بن أنس، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير والنخعي وغيرهم، وكرهه أحمد بن حنبل، وأجاز ذلك طائفة منهم أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه واختاره الطبري وابن العربي، وذهب القرطبي إلى ترجيح القول الأول، وقال: هو أصح.
وفصّل ابن القيم في ذلك، فقال: التطريب والتغني على وجهين:
أحدهما: ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم، فذلك جائز.(2/195)
عليه (1) وأن يفتتحه كلما ختمه، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ختم يقرأ من أول السورة قدر خمس آيات، وقال في ذلك: عليك بالحالّ المرتحل، قيل: وما الحالّ المرتحل؟ قال: صاحب القرآن يضرب من أوله حتى يبلع آخره، ثم يضرب في أوله كلما حلّ ارتحل (2).
__________
والثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرين، فهي التي كرهها السلف وعابوها وذموها، ومنعوا القراءة بها. زاد المعاد: 1/ 492وانظر في ذلك الزيادة والإحسان لابن عقيلة:
3/ 870تحقيقي. والتذكار في أفضل الأذكار للقرطبي: 159144.
(1) أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذي بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة. سنن أبي داود، كتاب: الصلاة، باب: رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل: (ح 21332/ 38) ووردت آثار أخرى تبين أن الجهر أفضل، واختلف العلماء في حكم الجهر بالقراءة، والإسرار بها، فالإسرار أبعد عن الرياء والتصنع فهو أفضل، واختلف العلماء في حكم الجهر بالقراءة في حق من يخاف ذلك على نفسه، فإن لم يخف، ولم يكن في الجهر ما يشوش الوقت على مصلّ آخر، فالجهر أفضل لأن العمل فيه أكثر، ولأنه يوقظ القلب، ويطرد النوم، ويزيد في النشاط، وفي الحديث القدسي: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملأه. ورجح النووي في نوافل الليل القراءة بين الجهر والإسرار. انظر المسألة بالتفصيل في: إحياء علوم الدين للغزالي:
1/ 279والتبيان للنووي: 90والمجموع شرح المهذب له: 2/ 166والإتقان للسيوطي: 1/ 304والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 3/ 876تحقيقي.
(2) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب: القراءات، باب: (13): 5/ 197وقال: حديث حسن(2/196)
وأما القسم الثالث وهو آداب أثناء التلاوة نفسها، فمن ذلك أن يتمضمض إذا تنخع، فقد ورد عن ابن عباس أنه كان كلما تنخع مضمض.
ومن ذلك أن يمسك عن القراءة إذا تثاءب، لكون التثاؤب من الشيطان، والقارئ إنما يناجي الرحمن، قال مجاهد: إذا تثاءبت وأنت تقرأ القرآن فأمسك عن القراءة تعظيما حتى يذهب تثاؤبك، ومن الآداب إذا انتهى من التلاوة أن يصدّق ربه، ويشهد بالبلاغ للرسول صلى الله عليه وسلم، كأن يقول: صدقت ربنا وبلّغت رسلك، ومن الآداب أن يجمع أهله إذا أراد أن يختم وكان ذلك ديدن السلف كأنس بن مالك وغيره (1).
__________
غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه، وإسناده ليس بالقوي.،
وذكر من طريق آخر عن زرارة بن أوفى وقال: هذا عندي أقوى. وأخرجه الحاكم في المستدرك: 1/ 568وقال: تفرد به صالح المري، وهو من زهاد أهل البصرة إلا أن الشيخين لم يخرجاه. قال الذهبي في التلخيص: صالح المري: متروك. وله شاهد عند الحاكم أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا: 1/ 569، وأخرجه البيهقي في الشعب:
(ح 15966) وابن الجزري في النشر: 2/ 446وقال: رواه الترمذي مرسلا وقال:
إنه أصح. قال: وقطع بصحته أبو محمد المكي، وسكت عليه البيهقي في الشعب فلم يذكر فيه ضعفا كعادته، وضعفه أبو شامة من قبل صالح المري. وهو في الزيادة والإحسان لابن عقيلة: 3/ 907تحقيقي.
(1) أخرج الطبراني عن أنس رضي الله عنه: أنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا. المعجم الكبير: (ح 1674/ 242) قال الهيثمي في المجمع: 7/ 172: رجاله ثقات. وأورده القرطبي في التذكار: 96، والنووي في التبيان: 108بسندين صحيحين. وانظر الزيادة والإحسان لابن عقيلة: 3/ 901تحقيقي.(2/197)
ومن القسم الرابع وهي آداب مع المصحف، فمن ذلك أن يجلّل كتابته فيكتبها بخط واضح، وإذا وضع المصحف أن لا يتركه منشورا، وأن لا يضع فوقه شيئا من الكتب، علما كان أو غير ذلك، وأن لا يتوسد ولا يعتمد عليه، ولا يرمى به لصاحبه إذا أراد أن يناوله، وأن يضعه في حجره أو على شيء بين يديه، ولا يضعه على الأرض، ومن ذلك أن لا يمحوه ببصاق ونحوه، ولكن يغسله بالماء، ويتوقى النجاسات في الموضع، لكون الغسالة لها حرمة، ومن الآداب مع كلام الله أن لا يكتب على الأرض خشية الاستهانة به. (1)
المسألة الخامسة: كيفية التلاوة لكتاب الله:
وفيها ثلاثة مطالب:
المطلب الأول:
أن يتلوه مجودا مرتلا {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] يقتدي في قراءته قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان سلف الأمة يسألون عن قراءته صلى الله عليه وسلم، روى البخاري عن قتادة قال: سألت أنسا عن قراءة رسول
__________
(1) ينظر في آداب التلاوة تفسير القرطبي: 1/ 3027ونوادر الأصول للحكيم الترمذي: 335والتبيان للنووي: 44والمنهاج للحليمي: 2/ 228والبرهان للزركشي: 1/ 459والإتقان للسيوطي: 1/ 351324ومفتاح السعادة لطاش كبري: 2/ 403والزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي: 3/ 909833بتحقيقي، وفيه ذكر أدلة كثيرة من الآداب التي ذكرت.(2/198)
الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان يمدّ مدّا، إذا قرأ {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} * يمد {بِسْمِ اللََّهِ} *، ويمد ب {الرَّحْمََنِ} *، ويمد ب {الرَّحِيمِ} *. (1)
المطلب الثاني:
أن يخفض صوته ويخشى الله في قراءته، وأن يتجنب التطريب والنبر والقراءة بالألحان (2)، أورد القرطبي عن زياد النميري أنه جاء مع القراء إلى أنس بن مالك فقيل له: اقرأ. فرفع صوته وطرّب. وكان رفيع الصوت. فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خرقة سوداء فقال: يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون! وكان إذا رأى شيئا ينكره كشف الخرقة عن وجهه. (3) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أحسن الناس صوتا من إذا قرأ رأيته يخشى الله تعالى (4). وقد كره رفع الصوت عند قراءة
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب: مد القراءة: 6/ 112.
(2) انظر: الخلاف في مسألة القراءة بالألحان في الزيادة والإحسان لابن عقيلة: 3/ 867 بتحقيقي.
(3) تفسير القرطبي: 1/ 10.
(4) أورده ابن عطية في تفسيره: 1/ 23ذكر السيوطي في الجامع الصغير رواية قريبة منها، وقال المناوي: أخرجه ابن ماجة عن جابر، وقال الحافظ العراقي: وسنده ضعيف. وقد رواه البزار بسند كما قال الحافظ الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، فحذفه أي السيوطي واقتصاره على المعلول من التقصير. فيض القدير: 1/ 190والحديث صححه الألباني انظر: ضعيف الجامع الصغير: (ح 21374/ 26) وصحيح الجامع الصغير: (ح 1192/ 115).(2/199)
القرآن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والقاسم وابن سيرين والنّخعي وغيرهم. كما كره مالك بن أنس وأحمد بن حنبل رفع الصوت بالقرآن والتطريب فيه. وأجازت طائفة من الأئمة التطريب كأبي حنيفة وأصحابه والشافعي وابن المبارك وغيرهم، واختاره الطبري وابن العربي، لكونه أوقع في النفوس، وأسمع في القلوب، قال صلى الله عليه وسلم: زينوا القرآن بأصواتكم. (1)
وقال: ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن. (2)
ورجح القرطبي القول بكراهة التطريب، وقال: إن الحديث من باب المقلوب، أي: زينوا أصواتكم بالقرآن. وليس منا من لم يحسّن صوته بالقرآن. ونسب إلى الخطابي قوله: وكذا فسره غير واحد من أئمة الحديث.
ثم أورد التأويلات الواردة في معنى التغني بالقرآن، وبيّن أقوال الأئمة في بيان ذلك. (3)
__________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه، كما في الإحسان: 2/ 64والبخاري تعليقا في صحيحه: 8/ 214وفي خلق أفعال العباد: 83وأحمد في المسند: 4/ 283 والنسائي في فضائل القرآن: 94والدارمي في السنن: 2/ 340والحاكم في المستدرك: 1/ 571والبيهقي في الشعب: (ح 1178/ 362) وانظر فتح الباري لابن حجر: 13/ 518.
(2) أخرجه الدارمي في سننه عن سعد بن أبي وقاص: 2/ 338وابن أبي شيبة في المصنف: 2/ 522والطيالسي في المسند: 28والبيهقي في الشعب مطولا:
(ح 1115/ 249).
(3) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 1310.(2/200)
المطلب الثالث:
أن يتجنب التقعير في قراءته كفعل المتنطعين في إبراز الكلام من أفواههم تكلفا.
المسألة السادسة: ذكر شيء من خواص القرآن (1):
ذكر القرطبي أن من كتب القرآن وشربه وسمّى الله على كل نفس، وعظّم النية، فإن الله يؤتيه على قدر نيته (2). وعن أبي جعفر محمد بن علي:
من وجد في نفسه قساوة فليكتب {يس} في جام بزعفران ثم يشربه. (3)
__________
(1) أفرد السيوطي لذكر خواص القرآن والاستشفاء بالآيات نوعا خاصا في الإتقان:
2/ 1153، واقتصر فيه على ذكر ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد من صحابته أو ما ورد عن السلف في هذا الباب، وقال في أوله: أفرده بالتصنيف جماعة منهم التميمي وحجة الإسلام الغزالي، ومن المتأخرين اليافعي، وغالب ما يذكر في ذلك كان مستنده تجارب الصالحين.، كما أفرد له ابن عقيلة المكي غفر الله له في الزيادة والإحسان: 3/ 947نوعا خاصا وهو النوع الخامس والأربعون، سرد فيه غالب ما ذكره اليافعي والتميمي، مما يحظر ذكره حتى لو ثبت في تجارب الصالحين، فإحداث الشقاق، وزرع الفتن بين الناس، وما هو من هذا القبيل، واستخدام آيات الله وكلامه في ذلك غير جائز شرعا، فكيف يجعل القرآن لمثل هذه الأمور، ويسخر كلام الحكيم لمثل هذه البطالات، ولولا ما أجده من الحظر في ذكر شيء من تلك الأشياء لاستعرضت هنا أمورا ذكروها تقشعر منها الأبدان، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
(2) تفسير القرطبي: 1/ 31.
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك: 2/ 428وقال: هي حكاية ينتفع بها. وسكت عنه الذهبي.
وهو جزء من حديث طويل أخرجه البيهقي في الشعب وقال: كذا روي في هذه(2/201)
وروى ليث عن مجاهد قال: لا بأس أن تكتب القرآن ثم تسقيه المريض.
قال القرطبي: كان من قبلنا من السلف منهم من يستشفى بغسالته (1)
أي غسالة القرآن.
__________
الحكاية، وكان إبراهيم يكره ذلك ولو صح الحديث لم يكن للكراهية معنى إلا أن في صحته نظر، والله أعلم. شعب الإيمان (ح 2476/ 838) وهو في نوادر الأصول للحكيم الترمذي: 335.
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 31وانظر التبيان للنووي: 113.
وقد اختلف العلماء في كتابة القرآن ثم غسله ويسقى المريض والمبتلى منه، فذهب الحسن البصري ومجاهد وأبو قلابة والأوزاعي إلى جوازه وقالوا: لا بأس به. وكرهه النخعي، وقال القاضي حسين والبغوي وغيرهما من الشافعية إلى جواز كتابة القرآن على الحلوى وغيرها من الأطعمة ثم إطعامها للمريض ونحوه. انظر التبيان للنووي: 113.(2/202)
الموضوع السابع المكي والمدني
تناول هذا الموضوع في مقدمة تفسيره القرطبي (1) وابن جزي (2)، وفيه عدة مسائل:
المسألة الأولى: في تعريف المكي والمدني:
عرّف ابن جزي السور المكية بقوله: هي التي نزلت بمكة، يعدّ منها كل ما نزل قبل الهجرة وإن نزل بغير مكة.
وعرّف السور المدينة بقوله: هي السور التي نزلت بالمدينة، ويعدّ منها كل ما نزل بعد الهجرة وإن نزل بغير المدينة. (3)
__________
(1) انظر: تفسيره: 1/ 21و 1/ 61.
(2) انظر: تفسيره: 1/ 8.
(3) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 8.
قلت: اعتبر ابن جزي في تعريفه التعريف المكاني والزماني، وهو مشكل، إذ الصحيح المشهور اعتبار التعريف الزمني، فيقال: المكي ما نزل قبل الهجرة وإن نزل بغير مكة، والمدني ما نزل بعد الهجرة، وإن نزل بغير المدينة. وانظر في ذلك: البرهان في علوم القرآن للزركشي: 1/ 187ولطائف الإشارات للقسطلاني: 1/ 26ومناهل العرفان للزرقاني: 1/ 188.(2/203)
المسألة الثانية: في سمات يعرف بها المكي والمدني:
ذكر ابن جزي عدة سمات موضوعية تعرف بها السور المكية والمدينة:
أولا: سمات السور المكية:
1 - إثبات العقائد.
2 - الرد على المشركين.
3 - الاهتمام بذكر قصص الأنبياء السابقين.
ثانيا: سمات السور المدينة:
1 - بيان الأحكام التشريعية.
2 - الرد على اليهود والنصارى.
3 - كشف المنافقين وذكرهم.
4 - بيان الفتاوى الشرعية في كثير من المسائل.
5 - ذكر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وحيث ما ورد {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} * فهو مدني، وأما {يََا أَيُّهَا النََّاسُ} * فقد وقع في المكي والمدني. (1)
__________
(1) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 8وانظر: تفسير القرطبي: 1/ 225.(2/204)
المسألة الثالثة: في أقسام سور القرآن باعتبار المكي والمدني:
تنقسم سور القرآن الكريم باعتبار المكي والمدني ثلاثة أقسام:
1 - قسم مدني، وهي سبع وعشرون سورة على ما ذكره القرطبي نقلا عن ابن الأنباري (1)، اتفق منها على اثنتان وعشرون سورة كما صرح
__________
ذكر أهل العلم للمكي والمدني سمات موضوعية وأسلوبية أخرى، فإضافة إلى ما ذكره المصنف ذكروا من السمات الموضوعية للقرآن المكي: إرساء دعائم الإيمان بالله ووحدانيته بالدلائل العقلية، من خلال لفت الأنظار إلى المخلوقات المحيطة. بناء الشخصية الإسلامية المتميزة، والحض على التحلي بالخصال الحميدة. خلوه من أحكام المعاملات.
وذكروا من أساليب القرآن المكي: قصر الآيات والسور. قوة العبارة ورشاقة الألفاظ.
وضرب الأمثال ووفرة التشخيص. صيغ الإنشاء من أمر ونهي واستفهام وتمن. وغير ذلك.
كما ذكروا من سمات القرآن المدني: دعوته أهل الكتاب إلى الإسلام، والرد التفصيلي على انحرافاتهم وتحريف ما في كتبهم. أما من ناحية الأسلوب فقد امتاز القرآن المدني بطول أكثر السور والآيات، والأسلوب الهادئ والعبارات اللينة تمشيا مع طبيعة المرحلة. إضافة إلى طول الفاصلة. انظر: فنون الأفنان لابن الجوزي: 338حاشية رقم (2) ودراسات في التفسير الموضوعي للدكتور زاهر الألمعي: 53والقرآن الكريم والدراسات الأدبية الدكتور العتر: 68.
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 61وهو ما رواه ابن سعد عن ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنهم وهي عند عبد الواحد بن شيطا: تسع وعشرون سورة. وبمثله قال الزركشي في البرهان. وقال ابن عقيلة: هو ما استقرت عليه الروايات. انظر:(2/205)
به ابن جزي (1).
2 - قسم مختلف فيه، هل هي مكية أم مدينة، فأفاد ابن جزي أنها ثلاث عشرة سورة. (2) ولم يذكر القرطبي الاختلاف في شيء.
3 - وقسم مكي، وهي سائر السور المتبقية وهي عند القرطبي سبع وثمانون سورة (3)، وعند ابن جزي تسع وسبعون سورة (4).
أما المدني المتفق عليه فهي: البقرة وآل عمران والنّساء والمائدة والأنفال وبراءة والنّور والأحزاب والقتال
__________
طبقات ابن سعد: 2/ 371وفنون الأفنان لابن الجوزي: 377والبرهان في علوم القرآن للزركشي: 1/ 194والإتقان للسيوطي: 1/ 28ط أبو الفضل والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 2/ 264تحقيقي.
(1) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 8وصرح ابن الحصار أن المتفق عليه عشرون سورة.
انظر: الإتقان للسيوطي: 1/ 28ط أبو الفضل.
(2) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 8وهي عند ابن الحصار اثنتا عشرة سورة. وأفاد السيوطي أن المختلف فيه إحدى وثلاثون سورة. الإتقان للسيوطي: 1/ 28ط أبو الفضل.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 61.
(4) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 8.
وهي عند ابن شيطا خمس وثمانون سورة، وعند أبي الحسن بن الحصار اثنان وثمانون، قال ابن عقيلة: وهو ما استقرت عليه الروايات. انظر: فنون الأفنان لابن الجوزي: 337 والبرهان للزركشي: 1/ 194والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 2/ 264تحقيقي.(2/206)
والفتح والحجرات والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقون والتغابن والطّلاق والتحريم والنّصر.
وأما المختلف فيه فهي: أم القرآن والرعد والنحل والحجّ والرّحمن والإنسان والمطففون والقدر والبينة والزلزلة وأ رأيت والإخلاص والفلق والنّاس.
وأما المكي المتفق عليه فهي سائر السور المتبقية. (1)
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 61وتفسير ابن جزي: 1/ 8.
قال ابن عقيلة: وإذا تأملت حقيقة هذا الخلاف وجدته في أكثر السور لفظيا، لأن من يقول: السورة مكية مثلا فإما أن يكون لكونه علم أن بعض آيات منها نزلت بمكة فيحكم على السورة أنها مكية، وكذا من يقول: إنها مدنية، أو يكون يرى أن المكي ما نزل بمكة قبل الهجرة أو بعدها، والمخالف لا يرى المكي إلا ما نزل قبل الهجرة، فيرجع الخلاف في الغالب إلى اللفظي. الزيادة والإحسان: 1/ 277تحقيقي. قلت: بل الخلاف راجع إلى اختلاف في المصطلح، بالاعتبار الزماني والمكاني.
ويرجع الباقلاني في الانتصار الخلاف إلى كون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبين لصحابته المكي من المدني في قول أو نص، وإن كان الصحابة رضوان الله عليهم حريصين على معرفة كل ما يتعلق بالتنزيل، والإحاطة به، لما للقرآن من مكانة في نفوسهم.
قال الباقلاني: وإنما عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك لأنه مما لم يؤمر به، ولم يجعل الله تعالى علم ذلك من فرائض الأمة، وإن وجب في بعضه على أهل العلم من معرفة(2/207)
قال ابن جزي: وقد وقعت آيات مدينة في سور مكية، كما وقعت آيات مكية في سور مدنية، وذلك قليل، مختلف في أكثره. (1)
المسألة الرابعة: في بيان أهمية معرفة المكي والمدني:
أشار القرطبي إلى أهمية معرفة المكي والمدني بالنسبة للمفسر الذي يقدم على فهم كتاب الله وتفسيره، فقال:
وينبغي أن يعرف المكي من المدني ليفرّق بذلك بين ما خاطب الله به عباده في أول الإسلام، وما ندبهم إليه في آخر الإسلام، وما افترض الله في أول الإسلام، وما زاد عليه من الفرائض في آخره.
ثم ذكر أن المدني يمكن أن يكون ناسخا للمكي، ولا يمكن أن يكون المكي ناسخا للمدني، لأن المنسوخ هو المتقدم في النزول. (2)
__________
الناسخ والمنسوخ، ليعرف الحكم الذي ضمنها إلى أن قال: وإن كان ذلك كذلك ساغ أن يختلفوا في بعض القرآن هل هو مكي أو مدني، وأن يعملوا في القول بذلك ضربا من الرأي والاجتهاد، وإن كان الاختلاف زائلا عنهم في جله وكبره. انظر:
الانتصار لصحة نقل القرآن للباقلاني: (و 142) مخطوط. وانظر الزيادة والإحسان لابن عقيلة: 1/ 277حاشية (4) تحقيقي.
(1) تفسير ابن جزي: 1/ 8.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 21وانظر البرهان للزركشي: 1/ 187والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 1/ 262تحقيقي.(2/208)
وعلة تقديم بعض السور المدنية على المكية هو أن الله تعالى خاطب العرب بلغتهم وعلى ما تعرف من أفانين خطابها ومحاوراتها، ولمّا كان من فن كلامها تقديم المؤخر وتأخير المقدّم، خوطبوا بهذا المعنى في كتاب الله تعالى، فأقيمت عليهم الحجة بذلك. (1) والله أعلم.
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 62ويبقى ما ذكره المصنف احتمال وارد، ولم أقف على قول لأحد من العلماء في ذلك. فالله أعلم بما قال.(2/209)
الموضوع الثامن التفسير والتأويل
بحث هذا الموضوع في مقدمة تفسيره البغوي (1)، وابن الجوزي (2)، والخازن (3)، وابن جزي (4)، وأبو حيان (5).
والتفسير قيل مأخوذ من (التفسرة)، وهي الدليل الذي ينظر فيه الطبيب فيكشف عن علة المريض، قال البغوي: فكذلك المفسر يكشف عن شأن الآية وقصتها. (6)
قال أبو حيان: والتفسير في اللغة: الاستبانة والكشف، قال ابن دريد: (7) ومنه يقال للماء الذي ينظر فيه الطبيب (تفسرة) (8)، وكأنه تسمية
__________
(1) انظر: تفسيره: 1/ 46.
(2) انظر: تفسيره: 1/ 4.
(3) انظر: تفسيره: 1/ 14.
(4) انظر: تفسيره: 1/ 11.
(5) انظر: تفسيره: 1/ 26.
(6) انظر: تفسير البغوي: 1/ 46والخازن: 1/ 14.
(7) انظر: جمهرة اللغة: 2/ 334ط المثنى بغداد وفي اللسان: الفسر: البيان. فسر الشيء يفسّره بالكسر والضم فسرا، وفسّره: أبانه، والتفسير مثله. قال: والفسر كشف المغطّى، والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل. اللسان (فسر): 5/ 555.
(8) المراد بالماء هنا: بول الإنسان، قال الخليل: التفسيرة اسم للبول الذي ينظر فيه الأطباء،(2/210)
بالمصدر لأن مصدر (فعّل) جاء أيضا على (تفعلة) نحو: (جرّب تجربة) و (كرّم تكرمة)، وإن كان القياس في الصحيح من (فعّل) التفعيل، كقوله تعالى: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33].
قال: وينطلق أيضا التفسير على التعرية للانطلاق، قال ثعلب: تقول:
(فسّرت الفرس: عرّيته لينطلق في حصره (1). وهو راجع لمعنى الكشف، فكأنه كشف ظهره لهذا الذي يريده منه من الجري. (2)
وأما في الاصطلاح، فقد صرح أبو حيان المتوفى (745هـ) بأنه لم يقف لأحد من علماء التفسير على رسم أي تعريف له. (3)
وبالرجوع إلى المقدمات وجدت البغوي يعرف التفسير بقوله: هو الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها، ويكون بالسماع عن طريق النقل. (4) ووجدت ابن جزي يعرفه فيقول: شرح القرآن وبيان معناه، والإفصاح بما يقتضيه بنصه أو إشارته أو فحواه. فيرجح أن التفسير هو الشرح (5)، أي: شرح المفردات والألفاظ الغريبة. (6)
__________
يستدل به على مرض البدن. العين: 7/ 248.
(1) الحصر: شد الفرس بالحصار، وهو ما يوضع على ظهره. انظر: جمهرة اللغة: 2/ 134.
(2) انظر: تفسير البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 26.
(3) انظر: تفسير البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 26.
(4) انظر: تفسير البغوي: 1/ 46والخازن: 1/ 14.
(5) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 11.
(6) انظر: تفسير الخازن: 1/ 14.(2/211)
والتعريف الذي وضعه أبو حيان أشمل وأكمل حين قال رحمه الله: التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب، وتتمات لذلك.
ثم شرح مفردات التعريف فقال:
فقولنا: (علم) هو جنس يشمل سائر العلوم.
وقولنا: (يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن) هذا هو علم القراءات.
وقولنا: (ومدلولاتها) أي: مدلولات تلك الألفاظ، وهذا هو علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم.
وقولنا: (وأحكامها الإفرادية والتركيبية) هذا يشمل علم التصريف، وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع.
(ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب) شمل بقوله التي تحمل عليها ما لا دلالة عليه بالحقيقة، وما دلالته عليه بالمجاز، فإن التركيب يقتضي بظاهره شيئا، ويصد عن الحمل الظاهر صاد، فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على غير الظاهر، وهو المجاز.
وقولنا: (وتتمات لذلك) هو معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول،
وقصة توضيح بعض ما أنبهم في القرآن ونحو ذلك. (1)(2/212)
وقولنا: (وتتمات لذلك) هو معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول،
وقصة توضيح بعض ما أنبهم في القرآن ونحو ذلك. (1)
وأما التأويل، فمشتق من (الأول) وهو الرجوع إلى الأصل، يقال:
أوّلته فآل: أي صرفته فانصرف. (2) فهو رد الشيء إلى الغاية.
وفي الاصطلاح: التأويل: نقل الكلام عن وضعه فيما يحتاج في إثباته
__________
(1) تفسير البحر المحيط لأبي حيان: 1/ 26والإتقان للسيوطي: 2/ 1191ط البغا.
قلت: ذكر أهل العلم للتفسير عدة تعريفات، فعرفه الزركشي في البرهان: 1/ 13بقوله:
التفسير علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه، واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف، وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ.
وعرفه الكافيجي في التيسير في قواعد علم التفسير: 124تعريفا مختصرا، فقال: هو كشف معاني القرآن، وبيان المراد. وهو تعريف جيد غير أن ما ذكره لاحقا أدق وأجدى، قال: هو علم يبحث فيه عن أحوال كلام الله المجيد من حيث أنه يدل على المراد بقدر الطاقة البشرية التيسر: 150. قال الزرقاني: ومن السهل رجوعه إلى التعريف الأول وهو تعريف أبي حيان السابق لأن ما ذكر هناك بالتفصيل يعتبر بيانا لمراد الله من كلامه بقدر الطاقة البشرية. مناهل العرفان: 2/ 3.
وعرفه شيخنا مناع القطان حفظه الله بقوله: التفسير بيان كلام الله، المتعبد بتلاوته، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. انظر: مذكرة في علوم القرآن مقررة على السنة المنهجية في الكلية له: ص 34.
(2) تفسير البغوي: 1/ 46وابن الجوزي: 1/ 4والخازن: 1/ 14قال في اللسان 11/ 32: الأول: الرجوع، آل الشيء يؤول أولا ومآلا: رجع، وأوّل الكلام تأوله: دبّره وقدّره، وأوّله وتأوّله: فسّره.(2/213)
إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ. (1)
وقيل: التأويل بيان المعاني والوجوه المستنبطة الموافقة للفظ الآية. (2)
الفرق بين التفسير والتأويل: اختلف العلماء هل التفسير والتأويل بمعنى واحد، أم يختلفان؟.
فذهب قوم يميلون إلى العربية إلى أنهما بمعنى واحد، قال ابن الجوزي:
__________
(1) انظر: تفسير ابن الجوزي: 1/ 4وانظر: الخازن: 1/ 6وهو في اللسان: 11/ 32.
(2) انظر: تفسير الخازن: 1/ 14.
وقد أفاد شيخ الإسلام ابن تيمية أن للتأويل ثلاثة معان:
أحدها: التأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين من أهل الكلام هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، بدليل يقترن بذلك، فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهره تأويلا على اصطلاح هؤلاء.
الثاني: أن التأويل هو تفسير الكلام، سواء وافق الظاهر أو لم يوافقه، وهذا هو التأويل في اصطلاح المفسرين وغيرهم.
الثالث: أن التأويل هو الحقيقة التي يؤول الكلام إليها وإن وافقت ظاهره، فتأويل ما أخبر الله به في الجنة من الأكل والشرب واللباس والنكاح هو الحقائق الموجودة أنفسها لا ما يتصور من معانيها في الأذهان، ويعبر عنه باللسان. انظر: مجموع الفتاوى: 5/ 35.(2/214)
وهو قول جمهور المفسرين المتقدمين. (1)
وذهب قوم إلى اختلافهما:
فعن الخازن: أن التفسير يتوقف على النقل المسموع، وهو ظاهر قول البغوي، والتأويل: يتوقف على الفهم الصحيح. (2)
وعن ابن جزي أن للعلماء في الفرق بين التفسير والتأويل ثلاثة أقوال:
الأول: أنهما بمعنى واحد.
الثاني: أن التفسير للفظ، والتأويل للمعاني (3).
الثالث: وهو الصواب: أن التفسير هو الشرح، والتأويل هو حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر بموجب اقتضى أن يحمل على ذلك ويخرج على ظاهره (4).
__________
(1) انظر: تفسير ابن الجوزي: 1/ 4.
(2) انظر: تفسير الخازن: 1/ 14وتفسير البغوي: 1/ 46.
(3) وهو رأي الراغب، انظر: مفرداته: 380.
(4) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 11.
والذي يترجح عندي أن التفسير والتأويل بمعنى واحد في اصطلاح المفسرين،(2/215)
__________
قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] أي ينتظرون إلا بيانه الذي هو المراد منه. وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس فقال: اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل. وكان مجاهد يقول: العلماء يعلمون تأويله، أي: تفسيره. قال ابن عاشور: اللغة والآثار تشهد له. وهو القول الذي ذكر عن أهل العربية، والذي قال به جمهور المفسرين المتقدمين، فالقائلون به هم من فرسان اللغة وأساطينها، كثعلب وابن الأعرابي وأبو عبيدة وابن جرير والزمخشري، وهو ظاهر كلام الراغب، فهم الأعلم بلغة العرب. ثم إن العناوين التي أطلقها المتقدمون على تفاسيرهم توحي بأنهم لم يميزوا بين ذلك، فقد عنون ابن جرير تفسيره ب (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) والزمخشري أطلق على تفسيره (الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل ووجوه التأويل)، وكذا البيضاوي وغيرهم. ولا شك أنهم لم يقصدوا من ذلك التأويل فقط، بل إن كتبهم هي تفاسير للتنزيل الحكيم.
وقد جمع الشيخ حامد العمادي مفتي دمشق رسالة لطيفة في الفرق بين التفسير والتأويل سماها (رسالة التفصيل في الفرق بين التفسير والتأويل) سنة ست وثلاثين ومائة وألف، ذكر فيها أربعة عشر قولا في الفرق. وقد علمت أن فضيلة الدكتور فهد الرومي يقوم بتحقيقها، وفقه الله في ذلك.
وفي معنى التفسير والتأويل يراجع: التيسير في قواعد علم التفسير للكافيجي: 123 والإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 2/ 1189والتحرير والتنوير لابن عاشور:
1/ 1710ومناهل العرفان للزرقاني: 2/ 4وأصول التفسير وقواعده للعك:
52 - ومدخل إلى علوم القرآن والتفسير لفارق حمادة: 212وعلوم القرآن لعدنان زرزور: 403وغيرهم.(2/216)
الموضوع التاسع بيان شرف التفسير والحاجة إليه
بحث هذا الموضوع في مقدمة تفسيره ابن جرير الطبري (1)، وأبو الليث السمرقندي (2)، والواحدي (3)، وابن عطية (4)، وابن الجوزي (5)، والقرطبي (6)، وابن جزي (7)، وأبو حيان (8)، وابن كثير (9).
لقد أجمع المفسرون على أهمية علم التفسير وعظيم شرفه والحاجة إليه، وأنه من أشرف أنواع العلوم وأجلها، وأنه إنما حاز هذا الشرف لأمور منها:
1) أن شرف العلم متعلق بشرف المعلوم، والمعلوم هنا كتاب الله الذي {لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}
[فصلت: 42]، فلما كان كلام الله أشرف المعلومات، كان العلم بتفسيره وأسباب تنزيله ومعانيه أشرف العلوم.
__________
(1) انظر: تفسيره: 1/ 6و 1/ 80.
(2) انظر: تفسيره: 1/ 201.
(3) انظر: تفسيره: 1/ 45.
(4) انظر: تفسيره: 1/ 27و 1/ 8.
(5) انظر: تفسيره: 1/ 4.
(6) انظر: تفسيره: 1/ 26.
(7) انظر: تفسيره: 1/ 4.
(8) انظر: تفسيره: 1/ 9و 1/ 25.
(9) انظر: تفسيره: 1/ 12.(2/217)
2) أنه من أعظم العلوم تقريبا إلى الله، وتخليصا للنيات، ونهيا عن الباطل، وحضا على الصالحات، إذ ليس من علوم الدنيا فيختل (1) حامله من منازلها صيدا، ويمشي في التلطف لها رويدا. (2)
يقول ابن جرير: اعملوا عباد الله، رحمكم الله، أن أحق ما صرفت إلى علمه العناية، وبلغت في معرفته الغاية، ما كان في العلم به رضى، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدى، وأن أجمع ذلك لباغيه كتاب الله الذي لا ريب فيه، وتنزيله الذي لا مرية فيه، الفائز بجزيل الذخر، وسنّى الأجر تاليه. (3)
3) أنه العلم الذي جعل للشرع قواما، فهو المقصود بذاته، وسائر العلوم والمعارف إنما استعملت له خداما، فهي له كالأدوات، منه تؤخذ مبادئها، وبه تعتبر نواشئها، فما وافقه منها نصع، وما خالفه رفض ودفع، فهو عنصرها النمير، وقمرها المنير، به تعرف أحكام الأنام، وبيان الحلال والحرام، والمواعظ النافعة، والحجج البالغة.
أخرج الطبري وأبو الليث السمرقندي بسندهما في تفسيرهما عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في خطبته: يا أيها الناس، قد
__________
(1) الختل: هو الخدع. معجم مقاييس اللغة (ختل): 2/ 245.
(2) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 8.
(3) انظر: تفسير الطبري: 1/ 7.(2/218)
بيّن الله لكم في محكم كتابه ما أحل لكم، وما حرم عليكم، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وآمنوا بمتشابهه، واعملوا بمحكمه، واعتبروا بأمثاله (1).
قال السمرقندي: فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحل حلاله ويحرم حرامه، ثم لا يمكن أن يحل حلاله، ويحرم حرامه إلا بعد ما يعلم تفسيره، ولأن الله تعالى أنزل القرآن للناس، وجعله حجة على جميع الخلق بقوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هََذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] فلما كان القرآن حجة على العرب والعجم، ثم لا يكون حجة عليهم إلا بعد ما يعلم تفسيره فدل ذلك على أن طلب تفسيره وتأويله واجب. (2)
وهو واجب على العلماء خاصة، الذين اجتباهم الله واصطفاهم، والذين هم ورثة الأنبياء (3) وخلفاؤهم، وسادة المسلمين وعرفاؤهم، والدعاة إلى المحجة المثلى {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:
269] قال أبو العالية: الحكمة: فهم القرآن.
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 1/ 68تفسير السمرقندي: 1/ 206قال ابن حجر في الفتح:
9/ 26: قال ابن عبد البر: هذا حديث لا يثبت لأنه من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود، ولم يلق ابن مسعود.
(2) انظر: تفسير السمرقندي: 1/ 207.
(3) الحديث أخرجه الواحدي بسنده عن البراء بن عازب. تفسير الواحدي: 1/ 45 وأخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: العلم، باب: العلم قبل العمل: 1/ 23.(2/219)
وقال قتادة: الحكمة، القرآن والفقه فيه.
وقال غيره: الحكمة تفسير القرآن. (1)
قال إياس بن معاوية: مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون من تفسيره، كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلا وليس عندهم مصباح، فتداخلهم روعة لا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف تفسيره كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرءوا ما في الكتاب. (2)
ووصف علي بن أبي طالب رضي الله عنه جابر بن عبد الله بالعلم، فقال رجل: جعلت فداءك، تصف جابرا بالعلم وأنت أنت؟ فقال:
إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرََادُّكَ إِلى ََ مَعََادٍ} [القصص: 85] (3).
ولهذه المزية ولغيرها حرص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على التفقه في الدين، وتعلم التفسير، روى الطبري بسنده عن ابن مسعود أنه قال:
كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن
__________
(1) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 27والقول الأخير هو لابن عباس. انظر: الإتقان للسيوطي:
2/ 1194.
(2) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 27وابن الجوزي: 1/ 4والقرطبي: 1/ 26.
(3) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 27والقرطبي: 1/ 26وأبي حيان: 1/ 25.(2/220)
والعمل بهن. (1)
ورحل مسروق إلى البصرة في تفسير آية فقيل له: إن الذي كان يفسرها رحل إلى الشام، فتجهز ورحل إليه حتى علم تفسيرها. (2)
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 1/ 80قال أحمد شاكر: إسناده صحيح، وهو موقوف على ابن مسعود، ولكنه مرفوع المعنى. وانظر: تفسير السمرقندي عن عبد الرحمن السلمي بنحوه: 1/ 205وابن الجوزي: 1/ 4.
(2) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 27والقرطبي: 1/ 26وأبا حيان: 1/ 25.
وقد نزل القرآن الكريم بلغة العرب وعلى أساليبهم، وأمروا بتدبر المنزل عليهم، للعمل بما فيه، فكانوا يفهمونه وقد يعجزون عن فهم نصوص منه فيسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيبين لهم بمقتضى أمر الله تعالى، وكان من أهم وآكد الحاجات للمسلمين فهم كلام الله تعالى، للتذكير والاعتبار، ولمعرفة هداية الله في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، فكان العلم بتفسير كتاب الله واجبا، كوجوب سائر العلوم الإسلامية، وكان فرض كفاية. ومن هذا الباب انطلق المسلمون لتحصيل المراتب العليا في فهم نصوص الشرع ومخاطباته.
وقد لقي هذا العلم العناية لشرف المعلوم أولا كما سبق بيانه ولأن غايته الاعتصام بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والوصول إلى السعادة الحقيقية التي لا تفنى، وهما أشرف الغايات وأجداها.
يقول الأصفهاني: صناعة التفسير حازت الشرف من ثلاث جهات:
من جهة الموضوع: لأن موضوعه كلام الله وهو ينبوع كل حكمة.
ومن جهة الغرض: فغرضه الاعتصام بالعروة الوثقى.
ومن جهة شدة الحاجة: فكل كمال ديني أو دنيوي، عاجل أو آجل، مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية، وهي متوقفة على العلم بكتاب الله.(2/221)
الموضوع العاشر أوجه التفسير وطرقه وأنواعه
يعد هذا الموضوع من أكثر الموضوعات التي اهتم بها المفسرون، وتناولوها في مقدماتهم، فقد بحثه جميع (1) من شملتهم هذه الدراسة عدا ابن
__________
انظر: التيسير في قواعد علم التفسير للكافيجي: 151و 158والإتقان للسيوطي:
2/ 1195ومناهل العرفان للزرقاني: 2/ 9.
وقد لقي هذا العلم العناية لشرف المعلوم أولا كما سبق بيانه ولأن غايته الاعتصام بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والوصول إلى السعادة الحقيقية التي لا تفنى، وهما أشرف الغايات وأجداها.
يقول الأصفهاني: صناعة التفسير حازت الشرف من ثلاث جهات: من جهة الموضوع: لأن موضوعه كلام الله وهو ينبوع كل حكمة.
ومن جهة الغرض: فغرضه الاعتصام بالعروة الوثقى.
ومن جهة شدة الحاجة: فكل كمال ديني أو دنيوي، عاجل أو آجل، مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية، وهي متوقفة على العلم بكتاب الله.
انظر: التيسير في قواعد علم التفسير للكافيجي: 151و 158والإتقان للسيوطي:
2/ 1195ومناهل العرفان للزرقاني: 2/ 9.
(1) انظر: تفسير عبد الرزاق: 1/ 59والطبري: 1/ 73و 77و 80و 82و 84و 92 والسمرقندي: 1/ 208والماوردي: 1/ 33و 36والواحدي: 1/ 47والبغوي:
1/ 45وابن عطية: 1/ 28والقرطبي: 1/ 31و 33و 37والخازن: 1/ 6وابن جزي: 1/ 10و 13و 16و 21وأبا حيان: 1/ 10و 13و 17و 19و 25وابن كثير: 1/ 12و 18.(2/222)
الجوزي، وقد تفاوتت اهتماماتهم بذكر تفاصيله، فكانوا بين مقتصد مقتصر على الرواية، ومسهب تناول أكثر من جزئية، وفي هذا الموضوع عدة مسائل:
المسألة الأولى: أوجه التفسير:
ندب الله سبحانه عباده إلى تدبّر كلامه، واستخراج المعاني من فحوى ألفاظه وشواهد خطابه، وبيّن أن من كلامه ما لا يعلم تأويله إلا هو، حيث استأثر بعلم ذلك كالخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السََّاعَةِ أَيََّانَ مُرْسََاهََا قُلْ إِنَّمََا عِلْمُهََا عِنْدَ رَبِّي لََا يُجَلِّيهََا لِوَقْتِهََا إِلََّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ لََا تَأْتِيكُمْ إِلََّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهََا قُلْ إِنَّمََا عِلْمُهََا عِنْدَ اللََّهِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187].
وأن منه ما لا يعلم تأويله إلا ببيان رسوله صلى الله عليه وسلم {وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، {وَمََا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ إِلََّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]، ومن هذا الوجه تأويل وجوه أمره، وصنوف نهيه، ومبالغ فرائضه، وغير ذلك من أحكام آية التي لا يوصل إليها إلا ببيانه صلى الله عليه وسلم له، إما بنص منه صلى الله عليه وسلم عليه، أو بدلالة قد نصبها أمّته على تأويله.
وأن منه ما يعلم تأويله العلماء العالمون باللسان الذي نزل به القرآن
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مََا تَشََابَهَ مِنْهُ ابْتِغََاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغََاءَ تَأْوِيلِهِ وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنََا وَمََا يَذَّكَّرُ إِلََّا أُولُوا الْأَلْبََابِ} [آل عمران: 7]. (1)(2/223)
وأن منه ما يعلم تأويله العلماء العالمون باللسان الذي نزل به القرآن
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مََا تَشََابَهَ مِنْهُ ابْتِغََاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغََاءَ تَأْوِيلِهِ وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنََا وَمََا يَذَّكَّرُ إِلََّا أُولُوا الْأَلْبََابِ} [آل عمران: 7]. (1)
وقد ورد الأثر في ذلك، فقد روى عبد الرزاق وابن جرير بسندهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تفسير القرآن على أربعة وجوه: تفسير يعلمه العلماء، وتفسير يعرفه العرب، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، مقول من الحلال والحرام، وتفسير لا يعلم تأويله إلا الله، من ادّعى علمه فهو كاذب. (2)
ورواه الطبري بلفظ آخر عن ابن عباس فقال: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله. (3)
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 1/ 73.
(2) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره: 1/ 59وابن جرير في تفسيره: 1/ 75وقال: في إسناده نظر. وأورده ابن كثير في تفسيره: 1/ 18وقال: والنظر الذي أشار إليه في إسناده هو من جهة محمد بن السائب فإنه متروك الحديث لكن قد يكون إنما وهم في رفعه، ولعله من كلام ابن عباس.
(3) أخرجه ابن جرير في تفسيره: 1/ 75وأورده الماوردي: 1/ 36وابن كثير: 1/ 18.(2/224)
فالوجه الذي تعرفه العرب بكلامها: هي حقائق اللغة وموضوع كلامهم.
والذي لا يعذر أحد بجهالته: هو ما يلزم كافّة المسلمين في القرآن من الشرائع، وجملة دلائل التوحيد.
وأما الذي يعلمه العلماء: فهو وجوه تأويل المتشابه وفروع الأحكام.
وأما الذي لا يعلمه إلا الله: فهو ما يجري مجرى الغيوب وقيام الساعة. (1)
ولم يعتبر الطبري الوجه الثاني ما لا يعذر أحد بجهالته وجها، بل قال: إنه معنى غير الإبانة عن وجوه مطالب تأويله، فهو خبر عن أن من تأويله ما لا يجوز لأحد الجهل به. (2)
وقد صحح الماوردي تقسيم ابن عباس رضي الله عنهما العاشرة غير أنه رأى أن ما لا يعذر أحد بجهالته، داخل في جملة ما يعلمه العلماء، وإنما يختلف القسمان في فرض العلم به، فما لا يعذر أحد بجهله يكون فرض العين به على الأعيان، وما يختص بالعلماء يكون فرض العلم به
__________
(1) انظر: تفسير الماوردي: 1/ 36.
(2) انظر: تفسير الطبري: 1/ 75.(2/225)
على الكفاية. (1) وعليه صار التقسيم إلى ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:
ما اختص الله تعالى بعلمه: وهذا لا يؤخذ إلا عن توقيف من أحد ثلاثة أوجه:
إما من نصّ في سياق التنزيل.
وإما عن بيان من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وإما عن إجماع الأمة على ما اتفقوا عليه من تأويل.
قال الماوردي: فإن لم يرد فيه توقيف علمنا أن الله تعالى أراد لمصلحة استأثر بها، ألا يطلع عباده على غيبه.
الوجه الثاني:
ما يرجع فيه إلى لسان العرب: وذلك شيئان:
الأول: اللغة، يكون العمل به في حق المفسر دون القارئ، فإن كان الأمر لا يوجب العمل، جاز الاستشهاد بخبر الواحد وقليل الشعر، وإن كان الأمر يوجب العمل لم يجز ذلك حتى يكون نقله مستفيضا، وشواهد الشعر فيه متناصرة.
الثاني: الإعراب، فإن كان اختلافه موجبا لاختلاف حكمه، وتغيير تأويله لزم العمل به في حق المفسر وحق القارئ، ليتوصل المفسر إلى معرفة
__________
(1) انظر: تفسير الماوردي: 1/ 36.(2/226)
حكمه، ويسلم القارئ من لحنه.
وإن كان اختلاف إعرابه لا يوجب اختلاف حكمه، ولا يقتضي تغيير تأويله، كان العلم بإعرابه لازما في حق القارئ ليسلم من اللّحن في تلاوته، ولم يلزم في حق المفسر لوصوله مع الجهل بإعرابه إلى معرفة حكمه.
الوجه الثالث:
ما يرجع فيه إلى اجتهاد العلماء: وهو تأويل المتشابه واستنباط الأحكام، وبيان المجمل، وتخصيص العموم وغير ذلك. (1)
المسألة الثانية: طرق التفسير:
للتفسير طريقان الأول: التفسير بالأثر (الرواية).
والثاني: التفسير بالرأي (الدراية).
أولا: التفسير بالأثر (الرواية):
المقصود من التفسير بالأثر، تفسير القرآن بالقرآن، وبما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أي بالسّنة، وبأقوال الصحابة وما ثبت عنهم، وبأقوال التابعين.
وأصح هذه الطرق تفسير القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد
__________
(1) انظر: تفسير الماوردي: 1/ 3836وبنحوه قال الطبري من قبله، انظر في تفسيره:
1/ 92وانظر البرهان للزركشي: 2/ 164.(2/227)
فسّر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فإنه بسط في آخر.
فإن لم يجد فالسّنة، فهي شارحة للقرآن وموضحة له، وقد جعل الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بيان ما كان منه مجملا كالصلوات الخمس في مواقيتها وسجودها وركوعها وسائر أحكامها، وتفسير ما كان منه مشكلا، وتحقيق ما كان منه محتملا، كما جعل له زيادة على حكم الكتاب، كتحريم المرأة على خالتها وعمتها، وكتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وغير ذلك، ليكون له مع تبليغ الرسالة ظهور الاختصاص بهن ومنزلة التفويض إليه، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}
[النحل: 44] (1) وقال: {وَمََا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ إِلََّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] وقال: {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ بِمََا أَرََاكَ اللََّهُ وَلََا تَكُنْ لِلْخََائِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105] قال الإمام الشافعي رحمه الله: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن. (2) وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخََالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
روى أبو داود عن المقدام بن معدي كرب (3) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 2وتفسير ابن كثير: 1/ 12.
(2) انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 12.
(3) هو المقدام بن معدي كرب بن عمرو بن يزيد، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم روى عدة أحاديث، توفي بحمص سنة (87هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 427(2/228)
قال: ألا إني أتيت القرآن ومثله معه. (1) قال ابن كثير: يعني السنة، فالسنة تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن، إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن. (2)
قال الخطابي: قوله (ومثله معه) يحتمل وجهين:
أحدهما: أن معناه أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو مثل ما أعطي من الظاهر المتلو.
والثاني: أنه أوتي الكتاب وحيا يتلى، وأعطي من البيان مثله، أي أذن له أن يبين ما في الكتاب فيعم ويخص ويزيد عليه ويشرع ما في الكتاب فيكون في وجوب العمل به، ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن. (3)
فإن لم يجد في السنة رجع إلى أقوال الصحابة، وفهمهم لكتاب الله، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلن الصحيح، والعمل الصالح.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: بم تحكم؟ قال: بكتاب
__________
والبداية والنهاية لابن كثير: 9/ 73.
(1) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب: السنة، باب: في لزوم السنة: 4/ 200وأحمد في المسند: 4/ 131وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد: 1/ 150.
(2) انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 13.
(3) انظر: معالم السنن للخطابي بهامش سنن أبي داود: 5/ 10ط دار الحديث، تحقيق الدعاس والسيد وتفسير القرطبي: 1/ 38.(2/229)
الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد برأيي. قال الراوي: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله. (1)
وقد يذكر الصحابة بعض الحكايات التي ينقلونها عن أهل الكتاب، وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حيث قال: بلغوا عني ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. (2)
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 13ومقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 94وقال: وهذا الحديث في المسانيد والسنن بإسناد جيد. وأخرجه: الترمذي في سننه، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في القاضي كيف يقضي: 3/ 616وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل. وأبو داود في سننه، كتاب: الأقضية، باب: اجتهاد الرأي في القضاء: 3/ 303وأحمد في المسند: 5/ 230قال ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام: 773ط 2مطبعة الإمام بالقاهرة: وأما خبر معاذ فإنه لا يحل الاحتجاج به لسقوطه، وذلك أنه لم يرو قط إلا من طريق الحارث بن عمرو، وهو مجهول لا يدري أحد من هو.
قال الأستاذ عدنان زرزور في تحقيقه لمقدمة أصول التفسير لابن تيمية: 95: القضية التي ساق لها ابن تيمية هذا الحديث وهي طلب تفسير القرآن من السنة إن لم يوجد في القرآن نفسه، ليست موضع خلاف بإطلاق صح هذا الأثر أم لم يصح، وإن كان حكم ابن تيمية على إسناده بأنه جيد يحتاج تجاوزه إلى مزيد بحث.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل: 4/ 145 وأحمد في المسند: 3/ 159و 202والترمذي في سننه، كتاب: العلم، باب: ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل: 5/ 40وقال: حسن صحيح وأورده ابن تيمية في(2/230)
وهي إنما تذكر للاستشهاد لا للاعتضاد، وهي ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه فذاك مردود.
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني.
فإن لم يجد بغيته في أقوال الصحابة، رجع على رأي غالب أهل العلم إلى أقوال أئمة التابعين مثل مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن البصري وغيرهم، فإنهم كانوا بارعين في التفسير، تتلمذوا على أئمة العلم من الصحابة، يقول مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحة الكتاب إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها (1).
وتفسير التابعين يعتمد ويكون حجة إذا أجمعوا على الشيء، فإن اختلفوا فلا يكون بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع
__________
مقدمته: 98وابن كثير في تفسيره: 1/ 14وغيرهم. انظر موسوعة أطراف الحديث النبوي: 4/ 286.
(1) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 90وأورده ابن تيمية، انظر: مقدمة في أصول التفسير:
102 - وابن كثير في تفسيره: 1/ 15.(2/231)
إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك. (1)
ثانيا: التفسير بالرأي (الدراية):
قال تعالى: {كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ مُبََارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيََاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبََابِ} [ص: 29]، وقال تعالى: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى ََ قُلُوبٍ أَقْفََالُهََا} [محمد: 24]، وقال جل ذكره: {وَلَقَدْ ضَرَبْنََا لِلنََّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 2827].
في هذه الآيات وغيرها من آيات الذكر الحكيم حث الله تعالى العلماء على تدبر آياته واستنباط معاني كلامه، وبيّن أنهم مكلفون بتأويل ما لم يحجب عنهم تأويله، وهو الأمر الذي فهمه أكثر أهل العلم من ظاهر الآيات، وسياق الأحاديث والآثار، وشاهدوه من فعل السلف.
غير أن هناك نصوصا أخرى تفيد أن ثلة من السلف أمسك عن القول في القرآن، وتحرّج من الخوض فيه، حيطة وتورعا كان ذلك أم إحجاما وتمنعا للخشية، مستدلّين بظاهر بعض الأحاديث التي تحذر الإقدام على القول في القرآن بالرأي.
وبهذا يتبين أن السلف أمام التفسير بالرأي فريقان:
__________
(1) انظر: مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 105103وتفسير ابن كثير:
1/ 1514.(2/232)
فريق يرى التفسير بالرأي ويجوزه، وآخرين يرى الوقوف عند المنقول والمأثور، ولكل فريق وجهته وأدلته:
أولا: المانعون من التفسير بالرأي وأدلتهم:
يقول الواحدي رحمه الله تعالى: من شرف هذا العلم أي علم التفسير وعزته في نفسه أنه لا يجوز القول فيه العقل والتدبر، والرأي والتفكر، دون السماع والأخذ عمن شاهدوا التنزيل بالرواية والنقل، والنبي صلى الله عليه وسلم فمن بعده من الصحابة والتابعين قد شددوا في هذا حتى جعلوا المصيب فيه برأيه مخطئا. (1)
وأفاد ابن تيمية وابن كثير لزوم الوقوف عند المأثور، وصرحا بتحريم التفسير بمجرد الرأي. (2)
وفصّل البغوي، فأجاز التأويل الذي هو صرف الآية إلى معنى محتمل موافق لما قبلها وما بعدها غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط، ومنع التفسير إلا بالسماع بعد ثبوته من طرق النقل، وقصد بالتفسير الكلام
__________
(1) انظر: تفسير الواحدي: 1/ 47ويشير بذلك إلى الحديث الذي رواه بسنده عن جندب وسيأتي بعد قليل.
(2) مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 105وتفسير ابن كثير: 1/ 15.(2/233)
في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها. (1)
ومن أدلة المانعين:
قوله تعالى {فَإِنْ تَنََازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللََّهِ وَالرَّسُولِ}
[النساء: 59]. (2)
وما رواه عبد الرزاق، وابن جرير والبغوي بسندهم عن ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار. (3)
__________
(1) انظر: تفسير البغوي: 1/ 45.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 33.
(3) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره: 1/ 59وابن جرير: 1/ 77والسمرقندي: 1/ 208 والواحدي: 1/ 47والبغوي: 1/ 45وأورده القرطبي في تفسيره: 1/ 32 والخازن: 1/ 6وابن كثير: 1/ 15وأخرجه البيهقي في الشعب: (ح 303 2/ 552).
وفي سند الرواية عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، تكلموا فيه، فقال أحمد وأبو زرعة:
ضعيف الحديث. وقال ابن عدي: يحدث بأشياء لا يتابع عليها، وقد حدّث عنه الثقات، وحسن له الترمذي. وصحح له الحاكم وهو من تساهله. تهذيب التهذيب: 6/ 94 قال ابن كثير: أخرجه الترمذي والنسائي من طرق عن سفيان الثوري، ورواه أبو داود عن مسدد عن أبي عوانة، عن عبد الأعلى به، وقال الترمذي: حديث حسن. وهو في الترمذي، كتاب: تفسير القرآن، باب: ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه: 5/ 199وفي الفتح الكبير للسيوطي: 3/ 219والجامع الصغير للسيوطي: 2/ 177، وضعفه(2/234)
وما رواه ابن جرير والبغوي بسندهما أيضا عن ابن عباس وأورده ابن كثير، بلفظ: من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار. (1)
وما رواه ابن جرير والواحدي والبغوي بسندهما عن جندب قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ. (2) وفي رواية زاد رزين: ومن قال برأيه فأخطأ فقد كفر. (3) يقول ابن جرير: يعني أنه أخطأ في فعله حين قال برأيه، لأن قوله ليس بقول عالم إن الذي قال فيه
__________
الألباني كما في ضعيف الجامع الصغير: 5/ 228.
(1) التخريج السابق
(2) أخرجه ابن جرير في تفسيره: 1/ 79والواحدي: 1/ 47والبغوي: 1/ 45وقال:
غريب وأورده الماوردي: 1/ 33والخازن: 1/ 6وأبو حيان: 1/ 25وقال ابن كثير 1/ 16: وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث سهيل بن أبي حزم القطعي، وقال الترمذي: غريب وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل. وانظر تهذيب الكمال للمزي: 12/ 217وهو في الترمذي، كتاب: التفسير، باب: ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه: 5/ 200وفي سنن أبي داود، كتاب: العلم، باب: الكلام في كتاب الله: 3/ 320وفي شرح السنة للبغوي: 1/ 259وفي فضائل القرآن للنسائي:
114 - وأورده السيوطي في الجامع الصغير للسيوطي: 2/ 117وحسنه، قال المناوي في الفيض: 6/ 190: رمز المؤلف لحسنه ولعله لاعتضاده، وإلا ففيه سهيل بن عبد الله تكلم فيه أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 32والبرهان للزركشي: 2/ 164.(2/235)
قول حق وصواب، فهو بالتالي قائل على الله ما لا يعلم، آثم بفعله ما قد نهي عنه، وحظر عليه. (1)
وقال ابن تيمية: لأنه قد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرما ممن أخطأ. (2)
وروى ابن جرير وأبو عبيد والسمرقندي والبغوي بسندهم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن قوله تعالى: {وَفََاكِهَةً وَأَبًّا}
[عبس: 31] فقال: لا أدري ما الأب! فقيل له: قل من ذات نفسك يا خليفة رسول الله. فقال: أيّ أرض تقلّني، وأيّ سماء تظلّني إذا قلت في القرآن بما لا أعلم. وفي رواية: إذا قلت: في القرآن برأي أو بما لا أعلم. (3)
__________
(1) تفسير الطبري: 1/ 79.
(2) مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 108وتفسير ابن كثير: 1/ 16.
(3) أخرجه ابن جرير في تفسير: 1/ 78والسمرقندي: 1/ 208والبغوي: 1/ 45 وأورده الخازن: 1/ 6وابن تيمية في مقدمته: 108وتفسير ابن كثير: 1/ 16 و 3/ 473وعزياه لأبي عبيد وقالا: منقطع وهو في فضائل القرآن لأبي عبيد: 227ط غاوجي وأخرجه البيهقي في الشعب (ح 2306/ 556) وابن أبي شيبة في المصنف:
10/ 512وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: 2/ 52أورده السيوطي في الدر المنثور: 6/ 317وعزاه لأبي عبيد في فضائله وعبد بن حميد. وللحديث طرق كثيرة.(2/236)
وأخرج أبو عبيد عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر {وَفََاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] فقال: هذه الفاكهة فقد عرفناها، فما الأب؟
ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر. (1)
وروى ابن جرير عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: لقد أدركت فقهاء المدينة، وإنهم ليغلظون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع. (2)
وعن يحيى بن سعيد قال: سمعت رجلا يسأل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن فقال: لا أقول في القرآن شيئا (3).
وعن يزيد بن أبي يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن
__________
(1) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن: 227ط غاوجي والحاكم في المستدرك: 2/ 514 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه والبيهقي في الشعب: (ح 308 2/ 559) وانظر: مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 109وتفسير ابن كثير: 1/ 16.
(2) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 85ومقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 112وتفسير ابن كثير: 1/ 17وهو في فضائل أبي عبيد: 228ط غاوجي.
(3) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 85ومقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 112وتفسير ابن كثير: 1/ 17وهو في فضائل أبي عبيد: 228ط غاوجي.(2/237)
لم يسمع. (1)
وعن عمرو بن مرة (2) سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن، فقال: لا تسألني عن القرآن وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه يعني عكرمة. (3)
وأخرج البغوي عن أبي الدرداء رضي الله عنه: لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوها كثيرة، قال حماد: قلت لأيوب: ما معنى قول أبي الدرداء رضي الله عنه فجعل يتفكر فقلت: هو أن ترى له وجوها فتهاب الإقدام عليها. فقال: هو ذاك، هو ذاك. (4)
وعن هشام بن عروة قال: ما سمعت أبي تأوّل آية من كتاب الله قط. (5)
__________
(1) تفسير ابن جرير 1/ 86ومقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 112وتفسير ابن كثير: 1/ 17.
(2) هو عمرو بن مرة بن عبد الله بن طارق المرادي، إمام حافظ، زكّاه الإمام أحمد بن حنبل، ووثقه الأئمة، توفي (116هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/ 196 وتهذيب التهذيب لابن حجر: 8/ 102.
(3) تفسير ابن جرير 1/ 86ومقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 112وتفسير ابن كثير: 1/ 17.
(4) تفسير البغوي: 1/ 45.
(5) انظر: مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 113وتفسير ابن كثير: 1/ 17وفضائل القرآن لأبي عبيد: 229228ط غاوجي. وحلية الأولياء لأبي نعيم: 4/ 222.(2/238)
وأخرج أبو عبيد عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه (1).
وأخرج عن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله (1).
وغير ذلك من الأدلة التي ليس هذا موضع بسطها.
ثانيا: المجيزون للتفسير بالرأي وأدلتهم:
ويرى المجيزون للتفسير بالرأي وهم أكثر أهل العلم أن الله سبحانه قد حثّ عباده على الاعتبار بما في آي القرآن من المواعظ والبينات، قال تعالى: {كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ مُبََارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيََاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبََابِ}
[ص: 29] وقال: {وَلَقَدْ ضَرَبْنََا لِلنََّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 2827] وما أشبه ذلك من الآيات التي أمر الله عباده فيها بالاتعاظ بمواعظه، والاعتبار بأمثاله والتفكر في نظمه ومعانيه، مما يدل على أن عليهم معرفة تأويل ما لم يحجب عنهم تأويله، لكونه لا يجوز أن يقال لهم اعتبر بها وهم لا يعلمون معانيها.
وألزم المجيزون من يقدم على تفسير كلام الله أن يأخذ بالأسباب، ويتعلم وجوه اللغة التي بها نزل القرآن، وأن يقف على أحوال التنزيل،
__________
(1) انظر: مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 113وتفسير ابن كثير: 1/ 17وفضائل القرآن لأبي عبيد: 229228ط غاوجي. وحلية الأولياء لأبي نعيم: 4/ 222.(2/239)
وينظر في أقوال العلماء المتقدمين، وغير ذلك من العلوم التي تعين على فهم النص القرآني فهما صحيحا.
واستدل المجيزون بأدلة عديدة منها: 1ظاهر الآيات التي حث الله تعالى فيها عباده من أهل العلم على الاعتبار بالآيات، مثل قوله تعالى: {كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ مُبََارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيََاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبََابِ} [ص: 29]، وقوله تعالى: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى ََ قُلُوبٍ أَقْفََالُهََا} [محمد: 24]، وقوله جل ذكره: {وَلَقَدْ ضَرَبْنََا لِلنََّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 2827].
2 - بعض الآثار التي وردت عن السلف تبين وتوضح أنهم قالوا في القرآن بالرأي:
يقول ابن عطية: كان جلّة من السلف كسعيد بن المسيب، وعامر الشعبي، وغيرهما، يعظمون تفسير القرآن ويتوقفون عنه تورعا واحتياطا لأنفسهم مع إدراكهم وتقدمهم، وكان جلّة من السلف كثير عددهم يفسرونه القرآن وهم أبقوا (1) على المسلمين في ذلك. (2) ومن هذه الآثار:
__________
(1) تقول: أبقى عليه: أي أشفق عليه ورحمه.
(2) تفسير ابن عطية: 1/ 28.(2/240)
ما رواه ابن جرير عن مسروق (1) قال: كان عبد الله يقرأ علينا السورة ثم يحدثنا فيها ويفسرها عامّة النهار. (2)
وما رواه عن شقيق بن سلمة (3) قال: استعمل علي ابن عباس على الحج، قال: فخطب الناس خطبة لو سمعها الترك والروم لأسلموا ثم قرأ عليهم سورة النور فجعل يفسرها. (4)
وعنه قال: قرأ ابن عباس سورة البقرة فجعل يفسرها فقال رجل: لو سمعت هذا الديلم لأسلمت. (5)
وعن سعيد بن جبير قال: من قرأ القرآن ثم لم يفسره كان كالأعمى أو
__________
(1) هو مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية الهمداني، تابعي قدم المدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كان قاضيا فقيها ثقة، توفي بالكوفة (62هـ) انظر: تاريخ بغداد للخطيب:
3/ 492وسير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 63.
(2) أخرجه ابن جرير في تفسيره: 1/ 81.
(3) هو شقيق بن سلمة الأسدي، شيخ الكوفة، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وحدّث عن الصحابة، ثقة كثير الحديث، توفي (82هـ). انظر: تهذيب الكمال للمزي: 12/ 548 وسير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 161.
(4) أخرجه ابن جرير في تفسيره: 1/ 81وقد ذكرهما الحافظ ابن حجر في الإصابة: 4/ 93.
(5) المراجع السابقة.(2/241)
كالأعرابي. (1)
كما تكلم عدد من التابعين في التفسير كالحسن البصري والضحاك بن مزاحم والسدي وغيرهم، ثم تتابع الناس وألفوا في التفسير التآليف، خاصة حين فسد اللسان، وكثرت العجمة بدخول الناس في الدين، واحتاج الناس إلى فهم النص القرآني، وإلى البيان والتوضيح، وشرح الألفاظ والمفردات.
3 - أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته لم يفسروا القرآن كله، بل الثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر من القرآن إلا اليسير، أخرج ابن جرير وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر شيئا من القرآن إلا آيا بعدد علمهن إياه جبريل. (2) وقد سئل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: ما عندنا غير هذه الصحيفة، أو فهم يؤتاه الرجل في كتابه. (3) فكيف يفهم ما لم يرد فيه نص.
__________
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره: 1/ 80.
(2) أخرجه ابن جرير في تفسيره: 1/ 84وقال في: 89: الخبر معلول في إسناده، وفيه جعفر بن محمد الزبيري، وهو غير معروف عند أهل الأثر. وقال ابن كثير 1/ 18: حديث منكر. وأخرجه أبو يعلى في مسنده: 8/ 23وأورده الهيثمي في المجمع: 6/ 303.
(3) أورده أبو حيان في تفسيره: 1/ 13والحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب:
العلم، باب: كتابة العلم: 1/ 36.(2/242)
4 - الاختلاف والتباين في التفسير المنقول عن كثير من الصحابة والتابعين للآية الواحدة، فالناظر فيها يرى أقوالا كثيرة متباينة الأوصاف، بل قد تكون متعارضة، وذلك دليل على أنهم كانوا يقولون في القرآن بالرأي، وكتب التفسير تزخر بكمّ من تلك الأقوال، وإن كان بعض الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية يرى أن التباين هو تباين في الألفاظ وليس اختلافا في المعاني. (1) ويرى غيره من أهل العلم أن التفسير متفق عليه ومختلف فيه، وهو أي المختلف ثلاثة أنواع:
الأول: اختلاف في العبارة مع اتفاق في المعاني، وهذا الذي عناه ابن تيمية.
الثاني: اختلاف في التمثيل لكثرة الأمثلة الداخلة تحت معنى واحد.
الثالث: اختلاف في المعنى. وهو الذي عنيناه هنا. (2)
يقول القرطبي: إن الصحابة قد قرءوا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي دعا لابن عباس وقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل. (3) فإن كان التأويل مسموعا
__________
(1) انظر مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 104وتفسير ابن كثير: 1/ 15.
(2) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 11.
(3) انظر مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 96وتفسير ابن كثير: 1/ 13وأورده الهيثمي في المجمع: 9/ 276وقال: هو في الصحيح غير قوله: وعلمه التأويل. ورواه(2/243)
كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك. (1)
5 - أن منع التفسير بالرأي يفضي كما يقول أبو حيان إلى أنّ ما استخرجه الناس بعد التابعين من علوم التفسير ومعانيه ودقائقه، وإظهار ما احتوى عليه من علم الفصاحة والبيان والإعجاز لا يكون تفسيرا حتى ينقل بالسند إلى مجاهد ونحوه، قال: وهذا كلام ساقط. (2)
وقد وجه المجيزون الصحيح من أدلة المانعين، كما ردوا بعضها، فقالوا:
إن الآيات والأخبار التي أوردوها والتي يفيد ظاهرها المنع إنما هي من الوجه الذي لا يعلم إلا بنص بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نصبه الدلالة عليه (3).
وعن الآثار التي تفيد تحرج بعض السلف من تفسير القرآن، يبين ابن
__________
أحمد والطبراني بأسانيد. وهو عند البزار والطبراني: اللهم علمه تأويل القرآن. ولأحمد طريقان رجالهما رجال الصحيح.
وهو عند البخاري، كتاب: الوضوء، باب: وضع الماء عند الخلاء: 1/ 45وفي صحيح مسلم بلفظ: اللهم فقهه. كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد الله بن عباس:
4/ 1927وفي مسند الإمام أحمد: 1/ 266و 314.
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 33.
(2) انظر: تفسير أبي حيان: 1/ 14.
(3) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 74.(2/244)
الأنباري أنهم إنما كانوا يتورعون عن تفسير المشكل من القرآن، فبعضهم يقدر أن الذي يفسره لا يوافق مراد الله عزّ وجلّ فيحجم عن القول، وبعضهم يشفق من أن يجعل في التفسير إماما يبنى على مذهبه، ويقتضى طريقه، فلعلّ متأخرا أن يفسر حرفا برأيه ويخطئ فيه ويقول: إمامي في التفسير بالرأي فلان، الإمام من السلف. (1)
ويحمل ابن تيمية هذا التحرج عن الكلام فيما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه. قال: وهذا هو الواجب على كل أحد فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه لقوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنََّاسِ وَلََا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]. (2)
وقالوا: في حديث جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال: في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»: في سنده سهيل بن أبي حزم القطعي، تكلم بعض أهل العلم فيه، وقال الترمذي: حديث غريب. (3)، وعلى فرض صحته يقول ابن الأنباري: إن أهل العلم حملوه على أن الرأي معنيّ به الهوى، أي من قال في القرآن قولا يوافق هواه، لم يأخذه عن أئمة السلف
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 34.
(2) انظر: مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 114وتفسير ابن كثير: 1/ 18.
(3) انظر: مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 106وتفسير ابن كثير: 1/ 16.(2/245)
فأصاب فقد أخطأ، لحكمه على القرآن بما لا يعرف أصله، ولا يقف على مذاهب أهل الأثر والنقل فيه. (1)، كمن يحتج ببعض الآيات على تصحيح بدعته، وهو يعلم أن ليس المراد بالآية ذلك، أو كمن يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلا من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما أريد به، مثل الذي يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي بقوله: {اذْهَبْ إِلى ََ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ََ} [طه: 42].
قال الماوردي: تمسك فيه في الحديث بعض المتورعة واستعمل الحديث على ظاهره، وامتنع أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده عند وضوح شواهده، إلا أن يرد بها نقل صحيح، ويدل عليها نص صريح، فقال: هذا عدول عما تعبد الله تعالى به خلقه في خطابهم بلسان عربي مبين، حيث جعل لهم سبيلا إلى استنباط أحكامه، قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] قال: لو كان ما قالوه صحيحا لكان كلام الله تعالى غير مفهوم، ومراده بخطابه غير معلوم.، وتأوّل الأثر على فرض صحته على أن من حمل القرآن على رأيه ولم يعمل على شواهد ألفاظه فأصاب الحق فقد أخطأ الدليل. (2)
ومعنى الحديث عند ابن عطية أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله فيتسور عليه برأيه دون نظر فيما قاله العلماء، واقتضته قوانين العلوم
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 32.
(2) انظر: تفسير الماوردي: 1/ 33.(2/246)
كالنحو والأصول، وليس يدخل فيه أن يفسر اللغويون لغته، والنحاة نحوه، والفقهاء معانيه، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر. (1)
وعن قوله صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»:
قال ابن الأنباري: فسر هذا الحديث تفسيرين:
أحدهما: من قال في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذهب الأوائل من الصحابة والتابعين فهو معرض لسخط الله.
والجواب الآخر وهو أثبت القولين وأصحهما معنى: من قال في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره فليتبوأ مقعده من النار. (2)
قال ابن جزي: تأويله فيمن تكلم في القرآن بغير علم ولا أدوات، لا فيمن تكلم فيما تقتضيه أدوات العلوم ونظر في أقوال العلماء المتقدمين فإن هذا لم يقل في القرآن برأيه. (3)
وهكذا يظهر لنا أن الله تعالى قد جعل إلى العلماء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم استنباط ما نبه على معانيه، وأشار إلى أصوله، ليتوصلوا بالاجتهاد فيه إلى علم المراد، فيمتازوا بذلك عن غيرهم، ويختصوا بثواب اجتهادهم، قال
__________
(1) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 28.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 32.
(3) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 16.(2/247)
تعالى: {يَرْفَعِ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجََاتٍ} [المجادلة:
11] فصار الكتاب أصلا، والسنة له بيانا، واستنباط العلماء له إيضاحا وتبيانا. (1)
المسألة الثالثة: أنواع التفسير:
لم يتطرق المفسرون لأنواع التفسير في مقدماتهم عدا ابن عطية وابن جزي وأبي حيان، فقد ذكروا شيئا عن تفاسير الباطنية بإيجاز، فنبه ابن عطية إلى انحراف هذا الاتجاه، وأفاد أنه جعل تفسيره سالما من إلحاد أهل القول بالرموز، وأهل القول بالباطن، ونبه القارئ إلى ما يكون قد وقع فيه، من نقله لأقوال بعض العلماء الذين حازوا حسن الظن عنده، ويكونوا قد اعتمدوا آراء من هذا النوع. (2)
وذكر ابن جزي أن المتصوفة تكلمت في تفسير القرآن، فكان منهم من أحسن وأجاد، ووصل بنور بصيرته كما قال إلى دقائق المعاني، ووقف على حقيقة المراد (3) ومنهم من توغل في الباطنية وحمل القرآن على ما لا
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 2.
(2) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 10.
(3) قلت: حقيقة مراد الله لا يجزم به، وأهل العلم والمفسرون منهم يسعون للوقوف على مراد الله ولا يجزمون بأن ما توصلوا إليه هو عين مراد الله، فلا يسلم لابن جزي مقولته، والله أعلم.
وقد اختلف العلماء في قبول تفسير الصوفية، وهو التفسير الإشاري، فمنهم من قبله،(2/248)
تقتضيه اللغة العربية، كما فعل عبد الرحمن السلمي الذي جمع تفسيرا سماه (الحقائق)، وقال فيه بعض العلماء: بل هي بواطل. قال ابن جزي: فإذا انتصفنا قلنا: فيه حقائق وبواطل. (1) كما أشار أبو حيان إلى هذا اللون المنحرف، وصرح بأنه لا يلتفت إلى مثل هذه الطائفة، لكونهم يخرجون الألفاظ عن مدلولاتها في اللغة إلى هذيان افتروه على الله تعالى. (2)
__________
ومنهم من رده، وآخرون توسطوا، فقبلوه بشروط، ومن هؤلاء ابن جزي كما يظهر من قوله. وقد وضع العلماء شروطا عديدة لقبول هذا اللون من التفسير تتلخص في شرطين:
الأول: أن يصح على مقتضى الظاهر في لسان العرب، ويكون على أساليب كلامهم.
الثاني: أن يكون له شاهد، نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض.
انظر: الموافقات للشاطبي: 3/ 394والتبيان في أقسام القرآن لابن القيم: 50 ومناهل العرفان للأستاذ الزرقاني: 2/ 81وابن جزي ومنهجه في التفسير لعلي الزبيري: 2/ 602.
(1) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 13.
(2) انظر: تفسير أبي حيان: 1/ 13.
وقد بحث هذا الموضوع السيوطي في الإتقان: 4/ 180وابن عقيلة في الزيادة والإحسان: 3/ 954تحقيق الشيخ / مصلح السامدي.(2/249)
الموضوع الحادي عشر العلوم التي يحتاجها المفسر
بحث هذا الموضوع في مقدمة تفسيره ابن جزي (1)، وأبو حيان (2)، وتعرض لجانب منه ابن عطية. (3)
والعلوم التي يحتاجها المفسر حتى يقدم على تفسير كتاب الله عديدة، أوصلها ابن جزي إلى اثني عشر فنا من العلوم، واكتفى أبو حيان بسبعة فنون على الاختصار وهي:
الفن الأول: التفسير:
وهو المقصود بنفسه من بين الفنون، وسائر الفنون أدوات تعين عليه أو تتعلق به أو تتفرع منه، ويقصد بالتفسير: شرح القرآن وبيان معناه والإفصاح بما يقتضيه بنصه أو إشارته أو فحواه.
والتفسير متفق عليه ومختلف فيه، أما المختلف فيه فهو ثلاثة أنواع:
الأول: اختلاف في العبارة، واتفاق في المعنى، وهو ليس بخلاف.
الثاني: اختلاف في التمثيل، مع الاتفاق في المعنى، وهو الآخر ليس
__________
(1) انظر: تفسيره: 1/ 1410.
(2) انظر: تفسيره: 1/ 1714.
(3) انظر تفسيره: 1/ 63.(2/250)
بخلاف.
الثالث: اختلاف المعنى، يحتاج إلى ترجيح بينها. (1)
الفن الثاني: القراءات:
ويتعلق ذلك باختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص أو تغيير حركة أو إتيان بلفظ بدل لفظ، وذلك بتواتر وآحاد.
وأهمية القراءات بمنزلة الرواية في الحديث، فلا بد من ضبطها إذ بها يعرف كيفية النطق بالقرآن (2)، وهي نوعان:
النوع الأول: القراءات المشهورة:
وهي القراءات السبع، وهي حرف نافع المدني وابن كثير المكي، وأبي عمرو بن العلاء البصري، وابن عامر الشامي، وعاصم، وحمزة، والكسائي الكوفيّين، وما جرى مجراهم في الصحة والشهرة، كقراءة يعقوب الحضرمي (3)، ويزيد بن القعقاع (4)، ومن
__________
(1) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 11. وقد عد ابن جزي التفسير قسيما للعلوم التي يحتاجها المفسر وهو في الحقيقة نتيجة الإلمام بتلك العلوم وحصيلة ذلك، ولهذا لم يعتبره أبو حيان ولا غيره فنا مستقلا من تلك الفنون، بل عدّوه نتيجة تلك العلوم وحصيلتها.
(2) وبها يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض. انظر: الإتقان للسيوطي: 4/ 187.
(3) هو يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمي، أحد القراء العشرة، وإمام أهل البصرة في القراءة، يقول أبو حاتم: كان أعلم من أدركنا ورأينا بالحروف والاختلاف في القرآن، توفي (205هـ). انظر: معرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 157وغاية النهاية لابن الجزري: 2/ 386.
(4) هو يزيد بن القعقاع، أبو جعفر المدني المخزومي، تابعي جليل، وأحد القراء العشرة،(2/251)
أحسن المصنفات فيه «الإقناع» لأبي جعفر بن الباذش (1)، وفي القراءات العشر كتاب «المصباح» (2) لأبي كرم الشهرزوري. (3) (4)
والنوع الثاني: القراءات الشاذة:
وهي ما سوى ذلك، وسميت شاذة لعدم استقامتها في اللفظ، وقد تكون فصيحة اللفظ، أو قوية المعنى.
شروط القراءة الصحيحة:
وللقراءة الصحيحة ثلاثة شروط:
الأول: أن تكون موافقة لمصحف عثمان رضي الله عنه. (5)
__________
تصدّر لإقراء القرآن دهرا، وثقه ابن معين وغيره، توفي (127هـ). انظر: معرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 72وغاية النهاية لابن الجزري: 2/ 382.
ويعقوب الحضرمي ويزيد بن القعقاع هما من الثلاثة المكملين للعشرة، والثالث هو خلف البزار.
(1) هو أحمد بن علي بن أحمد بن خلف، أبو جعفر الباذش، محدث محقق ثقة، ألف كتاب الإقناع في القراءات، قيل: من أحسن الكتب في السبعة، توفي (540هـ). انظر: غاية النهاية لابن الجزري: 1/ 83.
(2) كتاب الإقناع مطبوع، أما كتاب المصباح فقد حقق الأخ إبراهيم الدوسري الأصول منه، وتقدم به إلى كلية أصول الدين بالرياض لنيل درجة الدكتوراة في القرآن وعلومه.
(3) هو المبارك بن الحسن بن أحمد، أبو الكرم الشهرزوري البغدادي، إمام في القراءة، ثقة خيّر، توفي (550هـ). انظر: معرفة القراء الكبار للذهبي: 1/ 506غاية النهاية لابن الجزري: 2/ 38.
(4) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 11و 1/ 19وتفسير أبي حيان: 1/ 16.
(5) المقصود المصحف الإمام، وقد ذكر ابن الجزري في طيبة النشر شروط القراءة(2/252)
الثاني: أن تكون موافقة لكلام العرب ولو على بعض الوجوه أو في بعض اللغات.
الثالث: النقل المتواتر أو المستفيض. (1)
اختلاف القراء:
والاختلاف بين القراء يكون في أحد أمرين:
الأول: في الأصول: وهو ما كان الاختلاف فيه لا يغير المعنى (2)، ولها ثمانية قواعد:
الأولى: الهمزة، وهي في حروف المد الثلاثة، ويزاد فيها على المد
__________
الصحيحة، فذكر منها أن تكون القراءة موافقة لرسم أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا. وهذا أدق لأن المصاحف العثمانية مختلفة فيما بينها، كما وقع الاختلاف في عددها. انظر: طيبة النشر لابن الجزري: ص 169ضمن مجموع إتحاف البررة بالمتون العشرة.
(1) وهو المعبر عنه عند ابن الجزري بصحة السند، وإلى ذلك يشير في طيبة النشر له بقوله:
فكلّ ما وافق وجه نحو ... وكان للرّسم احتمالا يحوي
وصحّ إسنادا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان
وحيثما يختلّ ركن أثبت ... شذوذه لو أنّه في السّبعة
انظر: طيبة النشر لابن الجزري: ص 169ضمن مجموع إتحاف البررة بالمتون العشرة.
(2) المراد بالأصول عند علماء القراءات، القواعد الكلية المطردة غالبا، يقول الإمام الشاطبي (قاسم بن فرو):
فهذي أصول القوم حال اطّرادها ... أجابت بعون الله فانتظمت حلا
انظر: حرز الأماني للشاطبي: ص 38ضمن مجموع إتحاف البررة بالمتون العشرة.(2/253)
الطبيعي بسبب الهمزة والتقاء الساكنين.
الثانية: وأصلها التحقيق، ثم قد يخفف على سبعة أوجه: إبدال واو أو ياء أو ألف (1) وتسهيل بين الهمزة والواو، وبين الهمزة والياء، وبين الهمزة والألف، وإسقاط. (2)
الثالثة: الإدغام، والإظهار، والإظهار هو الأصل.
والإدغام: يكون إما مثلين أو (3) متقاربين، في كلمة أو كلمتين (4). وهو نوعان:
النوع الأول: إدغام كبير ويسمى الإدغام المتحرك، انفرد به أبو عمرو (5).
__________
(1) مثال الواو قوله تعالى {يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 3]، ومثال الياء {بِئْرٍ} [الحج: 45]، ومثال الألف {يَأْلَمُونَ} [النساء: 104].
(2) أي إسقاط إحدى الهمزتين من كلمتين مثل {جََاءَ أَمْرُنََا} [هود: 40] و {مِنَ السَّمََاءِ أَوِ} [الأنفال: 32].
(3) الأولى أن يقال: وإما متقاربين، قال تعالى {إِمََّا شََاكِراً وَإِمََّا كَفُوراً} [الإنسان: 3].
(4) في كلمة مثل {يُدْرِكْكُمُ} [النساء: 68]، وفي كلمتين مثل {اضْرِبْ بِعَصََاكَ}
[الحجر: 60].
(5) قيل سمي كبيرا لكثرة وقوعه وقيل غير ذلك، وهو أن يكون الحرف الأول منه متحركا مثل قوله تعالى {فِيهِ هُدىً} [البقرة: 2] و {طُبِعَ عَلى ََ} [التوبة: 87] النشر لابن الجزري: 1/ 274والإتقان للسيوطي: 1/ 263.(2/254)
النوع الثاني: إدغام صغير ويسمى إدغام الساكن، وهو لجميع القراء (1).
الرابعة: الإمالة، وهي أن تنحو بالفتحة نحو الكسرة، وبالألف نحو الياء والأصل الفتح، ويوجبها الكسرة والياء.
الخامسة: الترقيق والتفخيم، والحروف ثلاثة أقسام:
القسم الأول: تفخم على كل حال، وهي حروف الاستعلاء السبعة (2).
القسم الثاني: تفخم تارة وترقق تارة، وهي (الراء) أصلها التفخيم وترقق للكسر والياء، (3) و (اللام) وأصلها الترقيق وتفخم لحروف
__________
(1) وهو أن يكون الحرف الأول ساكنا. وانظر: الإتقان للسيوطي: 1/ 267.
(2) وهي مجموعة في قولهم: خص ضغط قظ.
(3) ترقق إذا كان قبلها ياء ساكنة ووقف عليها مثل قدير عند كل القراء، او كان قبلها ياء وهي مفتوحة فإنها ترقق عند ورش نحو {قَدِيراً} * و {بَصِيراً} * يقول ابن الجزري:
ورقّق الرّاء إذا ما كسرت ... كذاك بعد الكسر حيث سكّنت
إن لم تكن من قبل حرف استعلا ... أو كانت الكسرة ليست أصلا
والخلف في فرق لكسر يوجد ... وأخف تكريرا إذا تشدّد
انظر: القصيدة الجزرية: ص 373ضمن مجموع إتحاف البررة بالمتون العشرة.(2/255)
الإطباق (1)، و (الألف) وهي تابعة للترقيق والتفخيم لما قبلها.
القسم الثالث: ترقق على كل حال وهي سائر الحروف.
السادسة: الوقف، وهو على ثلاثة أنواع:
الأول: سكون جائز في الحركات الثلاثة.
الثاني: روم في المضموم والمكسور (2).
الثالث: إشمام في المضموم خاصة (3).
السابعة: مراعاة الخط في الوقف.
الثامنة: إثبات الياءات وحذفها.
__________
(1) حروف الإطباق أربعة، يقول ابن الجزري: وصاد ضاد وطاء وظاء مطبقة
انظر: القصيدة الجزرية: ص 374.
(2) الروم: هي حركة مختلسة مختفاة لضرب من التخفيف، وهي أكثر من الإشمام لأنها تسمع. انظر: الصحاح للجوهري (روم): 5/ 1938، ومثال الروم مع المضموم {نَسْتَعِينُ}، ومثاله مع المكسور {الرَّحِيمِ}.
(3) الإشمام: ضمك شفتيك بعد سكون الحرف أصلا، ولا يدرك معرفة ذلك الأعمى لأنه لرؤية العين لا غير. انظر: التيسير للداني: 59، ومثاله: {نَسْتَعِينُ}.(2/256)
الثاني في فرش الحروف: وهو ما لا يرجع إلى أصل مطرد، ولا قانون كلي، وهو على وجهين:
اختلاف في القراءة باختلاف المعنى، واختلاف في القراءة باتفاق المعنى. (1)
الفن الثالث: أصول الفقه
وما يتعلق به من معرفة الإجمال والتبيين، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، ودلالة الأمر والنهي، وفحوى الخطاب ولحن الخطاب، ووجوه التعرض، وأسباب الخلاف، وما أشبه ذلك مما هو من أصول الفقه ومن أدوات التفسير التي تعين على فهم المعاني، وترجيح الأقوال، إذ بأصول الفقه يعرف المفسر وجه الاستدلال والاستنباط، فهو إذا نعم العون له.
الفن الرابع: النسخ:
وهو في اللغة: الإزالة والنقل (2).
وفي الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي بعد ما نزل (3).
__________
(1) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 11و 1/ 19.
(2) انظر: أساس البلاغة للزمخشري: 629ولسان العرب لابن منظور: 3/ 61.
(3) اختلف أهل العلم في تعريف النسخ اصطلاحا والذي اختاره الأكثر واشتهر، هو التعريف الذي أطلقه ابن الحاجب بقوله: النسخ رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي(2/257)
وبه يعرف المفسر المحكم من غيره، وهو يتعلق بالأحكام لأنها محل النسخ إذ الأخبار لا تنسخ، ثم إن النسخ واقع في مواضع عديدة من القرآن على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: نسخ اللفظ والمعنى، كقوله: «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم» (1).
الوجه الثاني: نسخ اللفظ دون المعنى، كقوله (الشيخ والشيخة إذا زنيا
__________
متأخر. انظر مختصر المنتهى مع شرحه للعضد: 2/ 185. وعرفه فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين بقوله: هو رفع حكم دليل شرعي، أو لفظه بدليل من الكتاب والسنة.
انظر: الأصول في علم الأصول لابن عثيمين: 35وانظر ما كتبه الدكتور سليمان اللاحم في مقدمته التي قدم بها تحقيق كتاب الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/ 111.
(1) رواه أحمد في المسند: 1/ 47بسند صحيح عن عمر وانظر فواتح الرحموت: 2/ 73.
وهذا المثال فيه نظر، فلا زال من المقرر في الشريعة أن لا ينتسب الابن إلى غير أبيه، ولهذا ضرب ابن حزم في كتابه معرفة الناسخ والمنسوخ: 155هذا المثال على النوع الثاني الذي هو نسخ الخط دون الحكم.
والمثال الذي يمكن ضربه لهذا النوع ما ذكرته عائشة رضي الله عنها: كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ في القرآن. يعني وبعض الناس لا زال يقرؤها، ولم يعلم بنسخها. صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الرضاع، باب: التحريم بخمس رضعات: 10/ 29وقد قال مكي: ولا أعلم له أي لهذا المثال نظيرا. الإتقان: 2/ 706ط البغا وانظر: ابن جزي ومنهجه في التفسير لمحمد علي الزبيري: 2/ 775حاشية (5).(2/258)
فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم) (1).
الوجه الثالث: نسخ المعنى دون اللفظ. قال ابن جزي: وهو كثير منه في القرآن على ما عد بعض العلماء مائتا موضع وثنتا عشرة مواضع منسوخة، إلا أنهم عدوا التخصيص والتقييد نسخا، والاستثناء نسخا.
قال: وبين هذه الأشياء وبين النسخ فروق معروفة (2).
وقد صنف الناس في الناسخ والمنسوخ تآليف يعد من أحسنها تأليف
__________
(1) روى الزهري عن عبد الله عن ابن عباس قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال:
كنا نقرأ: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة الحديث، وروي ذلك عن غيره من الصحابة، وهي بألفاظ متفاوتة، أخرجها أحمد في المسند: 5/ 183ومالك في الموطأ:
كتاب الحدود، باب: ما جاء في الرجم: 629، ط فؤاد عبد الباقي وأوردها ابن حجر في الفتح: 9/ 65والهيثمي في المجمع: 6/ 265عن العجماء، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. وهي في الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/ 435تحقيق اللاحم.
وانظر الإتقان للسيوطي: 2/ 718ط البغا.
(2) وقد اختلف القائلون بالنسخ في عدد المواضع التي وقع فيها النسخ بين مكثر ومقل، ويعد ابن جزي رغم هذا القيد الذي وضعه من المكثرين، فقد ذكر أن ما نسخ بآية السيف فقط بلغت مائة آية وأربع عشرة آية، وهو لا شك رقم عظيم إذا ما قورن بالسيوطي القائل بأنها على الأكثر إحدى وعشرون آية وقال: لا يصح دعوى النسخ في غيرها. وقد كتب الأستاذ مصطفى زيد كتابه القيم: النسخ في القرآن الكريم، فحرر القول في كل آية قيل إنها منسوخة. انظر: الإتقان: 2/ 712.(2/259)
القاضي أبي بكر ابن العربي. (1)
الفن الخامس: الحديث،
وما هو منه من تعيين المبهم، وتبيين المجمل، وسبب النزول، والنسخ وغير ذلك، ويؤخذ ذلك من النقل الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويحتاج المفسر إلى رواية الحديث وحفظه لوجهين:
الأول: إن كثيرا من الآيات نزلت في قوم مخصوصين وبأسباب مخصوصة، كالتي نزلت في شأن حادثة أو نتيجة سؤال، ولهذا لا بد للمفسر من معرفة فيمن نزلت الآيات، وفيما نزلت، ومتى نزلت.
الثاني: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير بعض القرآن، فلا يجوز تجاوز ذلك إلى قول غيره، لهذا لزم المفسر معرفة ذلك.
الفن السادس: القصص القرآني،
وأخبار الأنبياء والسابقين التي ذكرها القرآن، كقصة موسى وفرعون، وقصة أصحاب الكهف، وذي القرنين وغيرهم.
فقد قرر العلماء أنه لا بد للمفسر من معرفة ما يتوقف عليه التفسير مما ثبت في الصحيح من تفاصيل تلك القصص، فهي إنما ضربت لما فيها من
__________
(1) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 18وكتاب ابن العربي في النسخ مطبوع بتحقيق الدكتور عبد الكبير المعري.(2/260)
الدروس والعبر والحكم، أما تلك التي يكون فيها إنقاص بمكانة الأنبياء عليهم السلام، مما هو من رواية بني إسرائيل فينبغي الإعراض عنها صفحا.
ويلاحظ أن كثيرا من القصص والأخبار قد تكررت، وذلك لحكم منها:
الأول: أن في التكرار إضافات زائدة في مواطن لم توجد في غيرها (1).
الثاني: أن تلك الأخبار جاءت في مواطن على طريقة الإطناب، وفي مواطن على طريقة الإيجاز وذلك لإظهار فصاحة القرآن (2).
الثالث: أنه أريد من ذكر الأخبار مقاصد معينة، وتعددت القصص بتعدد تلك المقاصد، ومن المقاصد إثبات نبوة الأنبياء المتقدمين بذكر ما جرى على أيديهم من المعجزات، وذكر إهلاك من كذبهم، ومنها إثبات النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم لإخباره بتلك الأخبار من غير تعلم من أحد {مََا كُنْتَ تَعْلَمُهََا أَنْتَ وَلََا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هََذََا} [هود: 49]، ومنها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه له بالتأسي بمن تقدم من الأنبياء {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ}
__________
(1) مثل قوله تعالى: {فَأَلْقََاهََا فَإِذََا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ََ} [طه: 20]، وقال {فَأَلْقى ََ عَصََاهُ فَإِذََا هِيَ ثُعْبََانٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 32] فالآيتان في عصا موسى، وذكر في الأولى أنها حية، وفي الثانية أنها ثعبان، يقول الزركشي: فائدته أن ليس كل حية ثعبان، وهذه عادة العرب.
البرهان: 3/ 26.
(2) انظر: البرهان للزركشي: 3/ 26.(2/261)
{قَبْلِكَ} [الأنعام: 34] ومنها تسليته صلى الله عليه وسلم ووعده بالنصر كما نصر الأنبياء من قبله، وغير ذلك من أخبار الأنبياء التي حوت كثيرا من العجائب والمواعظ، ولكون هذه الأخبار تفيد فوائد عديدة ذكرت في مواطن كثيرة. (1)
الفن السابع: أصول الدين،
والكلام على ما يجوز على الله، وما يجب له، وما يستحيل عليه، والنظر في النبوات وغيرها من أصول الدين، ويتعلق هذا الفن بالقرآن من جانبين:
الأول: ما ورد في القرآن من إثبات العقائد، وإقامة البراهين عليها، والرد على أصناف الكفار.
والثاني: أن طوائف المسلمين تحتج بالقرآن لمذهبها، وترد على مخالفيها، فمعرفة المفسر بهم توصله إلى التحقق والتثبت في القول.
وقد صنف العلماء من سائر الطوائف في هذا الفن كتبا عديدة، زلت فيها أقدام كثيرة.
الفن الثامن: علم اللغة،
وهو من ألزم الفنون لطالب التفسير يقول مجاهد: لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم
__________
(1) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 10وينظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي: 3/ 26 30والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 1/ 215 (النوع الخامس والعشرون بعد المائة) تحقيق مصلح السامدي.(2/262)
يكن عالما بلغات العرب. وقال الإمام مالك: لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا. (1)، فبها يعرف شرح الألفاظ ومدلولاتها، وفي كتاب الله مفردات عظيمة منها الغريب وغيره ما يلزم المفسر حفظه ومعرفته، من أفضل المصنفات التي اهتمت بهذا الفن كتاب ابن سيده (2)، وكتاب «تهذيب اللغة» للأزهري (3) و «الصحاح» للجوهري (4)، وغيرها (5).
الفن التاسع: أحكام القرآن،
وما ورد فيها من الأوامر والنواهي،
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية بنحوه: 6/ 322والبيهقي في الشعب (ح 313 2/ 565) وانظر الإتقان للسيوطي: 4/ 182.
(2) هو علي بن إسماعيل المرسي الضرير، المعروف بابن سيده، إمام في اللغة حافظ لها، وأحد من يضرب بذكائه المثل، له (المحكم والمحيط الأعظم) في اللغة، توفي (458هـ).
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/ 144ومرآة الجنان لليافعي: 3/ 83.
(3) هو العلامة أبو منصور، محمد بن أحمد بن الأزهر الأزهري الهروي، كان رأسا في اللغة والفقه، له تهذيب اللغة، وآخر في التفسير، توفي (370هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 16/ 315ووفيات الأعيان لابن خلكان: 4/ 334.
(4) هو إسماعيل بن حماد التركي، إمام اللغة، وأحد من يضرب به المثل في ضبط اللغة، له كتاب الصحاح في اللغة، توفي (393هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 80 ومرآة الجنان لليافعي: 2/ 446.
(5) ومن المؤلفات فيه (الموعب في اللغة لأبي غالب تمام بن غالب القرطبي ت (436هـ)، و (الجامع في اللغة) لمحمد بن جعفر القيرواني المعروف بالقزاز، ت (412هـ) وغير ذلك.(2/263)
والمسائل الفقهية، قال بعض العلماء: آيات الأحكام في القرآن خمسمائة آية، وقد تزيد، وأشهر من صنف فيها تصنيفا القاضي أبو بكر بن العربي، وأبو محمد بن الفرس (1).
الفن العاشر: علم النحو،
ومعرفة الأحكام التي للكلم العربية، من جهة إفرادها ومن جهة تركيبها: نزل القرآن بلسان العرب فكان تعلّم لسانها الذي هو النحو من آكد الضروريات للمفسر، لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب، روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه. (2)
__________
(1) هو أبو محمد بن الفرس، واسمه عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم الأنصاري، شيخ المالكية بغرناطة في زمانه، قيل أن كتابه من أفضل ما وضع في أحكام القرآن، توفي (597هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 21/ 364والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي: 6/ 180.
(2) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن: (ح 318743) وابن أبي شيبة في المصنف:
10/ 456والبيهقي في الشعب: 2/ 573، وفي رواية عنده: «والتمسوا إعرابه»، وهي التي أوردها الماوردي في تفسيره: 1/ 192تحقيق الدكتور محمد الشائع. والخطيب البغدادي في تاريخه: 8/ 77وابن الأنباري في إيضاح الوقف والابتداء: 1/ 15 وأورده السيوطي في الجامع الصغير، ورمز لضعفه، وقال المناوي: 1/ 558قال الحاكم:
2/ 439: صحيح عند جماعة. فرده الذهبي فقال: مجمع على ضعفه، وتبعه العراقي فقال:
سنده ضعيف. وقال الهيثمي: فيه متروك. وقال المناوي: فيه ضعيفان.
ومعنى إعرابه كما قال المناوي في الفيض القدير: 1/ 558: أي تعرفوا ما فيه من بدائع(2/264)
روى ابن الأنباري عن أبي مليكة قال: قدم إعرابي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأقرأه رجل (براءة) فقال: {أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}
[التوبة: 3] بالجر [رسوله]، فقال الأعرابي: أو قد برئ الله من رسوله؟
فإن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه.
فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فأقرأني هذا سورة (براءة) فقال: {أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}، فقلت: أو قد برئ الله من رسوله، إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي قال: فكيف يا أمير المؤمنين؟
قال {أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برئ الله ورسوله. (1)
__________
العربية ودقائقها وأسرارها، وليس المراد الإعراب المصطلح عليه عند النحاة، لأن القراءة مع اللحن ليست قراءة ولا ثواب له فيها. قال: والتمسوا غرائبه: أي ألفاظه التي يحتاج البحث عنها في اللغة. اهـ.
ويقول أستاذي الدكتور محمد الشائع: المراد بالإعراب هنا تبيين المعاني وإظهارها، وليس الإعراب بمفهوم النحاة كما استشهد به الماوردي، لأن الإعراب بهذا المفهوم لم يعرف إلا بعد زمن النبوة، فهو اصطلاح حادث. انظر: النكت والعيون للماوردي: 1/ 192 حاشية (5) بتحقيق فضيلته.
(1) أورده القرطبي في تفسيره: 1/ 24وذكره أبو حيان: 5/ 367وأورده السيوطي في الدر المنثور وعزاه لابن الأنباري وابن عساكر: 4/ 127ط دار الفكر.(2/265)
والنحو قسمان:
أحدهما عوامل الإعراب: وهي أحكام الكلام المركب.
والآخر التصريف: وهي أحكام الكلمات قبل التركيب.
ومن أحسن التصانيف في هذا العلم «الكتاب» لسيبويه، «وتسهيل الفوائد» لأبي محمد بن مالك الطائي، وأحسن التصانيف في التصريف كتاب «الممتع» لابن عصفور (1).
الفن الحادي عشر: الفصاحة والبلاغة وأدوات البيان (2)،
وكون
__________
(1) هو علي بن مؤمن بن محمد النحوي، المعروف بابن عصفور، حامل لواء العربية في زمانه بالأندلس، أقبل عليه الطلبة لتلقي النحو، وتصدر للتدريس في عدة بلاد، توفي (665هـ) انظر: فوات الوفيات للكتبي: 2/ 93وشذرات الذهب لابن العماد:
5/ 330.
(2) هذا الفن هو من أهم الفنون التي يحتاجها المفسر، وهو أعظم أركانه كما يقول الزركشي، فإنه لا بد من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز من الحقيقة والمجاز، وتأليف النظم، وغير ذلك ويقول في ذلك: واعلم أن معرفة هذه الصناعة بأوضاعها هي عمدة التفسير المطلع على عجائب كلام الله، وهي قاعدة الفصاحة وواسطة عقد البلاغة.
البرهان في علوم القرآن: 1/ 311. ويقول ابن خلدون: وأحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون. المقدمة: 552، وأكد أهل البلاغة أن إعجاز القرآن لا يدرك إلا به، فقال السكاكي في مفتاح العلوم: 653: اعلم أن شأن الإعجاز عجيب، يدرك ولا يمكن وصفه. كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة ولا طريق إلى تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة، إلا التمرن في علمي المعاني والبيان. اهـ. وما يذكره المصنفون من(2/266)
اللفظ أو التركيب أحسن وفصح:
أما الفصاحة فلها خمسة شروط: الأول: كون الألفاظ عربية أصيلة.
الثاني: كونها مستعملة متداولة غير مستثقلة.
الثالث: وفاء العبارة للمعنى، وأن لا تكون قاصرة عن البيان.
الرابع: سهولة العبارة، وخلوها من التعقيد (1).
الخامس: سلامة العبارة من حشو الكلام وفضول القول.
وأما البلاغة: فقد عرفها ابن جزي بقوله: هي سياق الكلام على ما يقتضيه الحال والمقال من الإيجاز والإطناب، ومن التهويل، والتعظيم، والتحقير، ومن التصريح والكناية والإشارة وشبه ذلك، بحيث يهز النفوس ويؤثر في القلوب، ويقود السامع إلى المراد أو يكاد (2).
__________
ضرورة إلمام المفسر بأدوات البيان كلها والتي ستمر بنا بعد قليل أمر فيه تكلف واضح، ومبالغة ظاهرة، فليست كل تلك الأدوات والفنون من لوازم عمل المفسر، ولا أنه يتعين عليه معرفتها والإلمام بها. والله أعلم.
(1) التعقيد أن يشبك المتكلم طريقك إلى المعنى، ويوعر مذاهبك نحوه حتى يقسم فكرك ويشعب قلبك. قاله البرقوقي. انظر شرح البرقوقي على التلخيص للقزويني: 32.
(2) وبمثل تعريف ابن جزي عرفه القزويني غير أنه أضاف قيد الفصاحة فقال: البلاغة في(2/267)
وأما أدوات البيان، فهي صناعة البديع، وهو تزيين الكلام كما يزين القلم الثوب. قال ابن جزي: وجدنا منها في القرآن اثنين وعشرين نوعا وهي (1):
الأول: المجاز، وهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما (2)، وهو اثنا عشر نوعا: التشبيه (3)، والاستعارة (4)، والزيادة، والنقصان، وتشبيه المجاور باسم مجاوره، والملابس باسم ملابسه، والكل،
__________
الكلام مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته. التلخيص في علوم البلاغة للقزويني: 33.
(1) الأنواع التي ذكرها ابن جزي تشمل الفنون الثلاثة، فمنها ما يتعلق بعلم المعاني كالتتميم والتكرار والاستطراد، ومنها ما يتعلق بعلم البيان كالمجاز بأنواعه، ومنها ما يتعلق بعلم البديع كالتجنيس والمطابقة.
(2) عرف الجرجاني المجاز بقوله: كل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول.
ويقول القزويني: هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب على وجه يصح مع قرينة عدم إرادته. أسرار البلاغة للجرجاني: 285ط المنار والتلخيص لعلوم البلاغة للقزويني: 294.
(3) التشبيه: الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى، والمراد هنا ما لم تكن على وجه الاستعارة بالكناية والتجريد. انظر: التلخيص في علوم البلاغة للقزويني: 238 والإتقان للسيوطي: 2/ 773وفيه تعريفات أخرى.
(4) عرفها ابن أبي الأصبع بقوله: الاستعارة تسمية المرجوح الخفي باسم الراجح الجلي.
بديع القرآن: 18.(2/268)
وإطلاق اسم الكل على البعض، وإطلاق اسم البعض على الكل، والتسمية باعتبار ما يستقبل، والتسمية باعتبار ما مضى.
حكم المجاز، اختلف العلماء في وقوع المجاز في القرآن، فمنعه فريق، وأباحه أهل اللغة والأصول، وقالوا: إن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليبهم، ومن عادة فصحاء العرب، وبلغائهم استعمال المجاز في بيانهم (1).
قال ابن جزي: ولا وجه لمن منعه، لأن الواقع منه في القرآن أكثر من
__________
(1) ذهب كثير من العلماء إلى وقوع المجاز في اللغة والقرآن، وأنكره آخرون، وأشهر من قال بعدم وقوع المجاز في القرآن شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وألف رسالة أسماها (منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز)، وحجتهم أن المجاز أخو الكذب، والقرآن منزه عنه، وأن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز تقسيم حادث لم يتكلم به الصحابة ولا التابعون، ولا أئمة اللغة المشهورون كمالك والشافعي والثوري وأبي حنيفة وسيبويه والخليل. كما أشار الشنقيطي في رسالته السابقة إلى أن القائلين بالمجاز يجمعون على أن كل مجاز يجوز نفيه، قال: ولا شك أنه لا يجوز نفي شيء من القرآن. كما بين أن المعطلة إنما تصل إلى أغراضها عن طريق المجاز، فتقول: لا يد ولا استواء ولا نزول وهي عندهم مجازات. وردّ بعض الشواهد التي قيل إنها مجاز إلى أنها أسلوب من أساليب العرب.
قال ابن قدامة: ومن منع كابر، ومن سلّم وقال: لا أسميه مجازا فهو نزاع في عبارة لا فائدة في المشاحة فيه.
انظر: روضة الناظر: 63والإتقان للسيوطي: 2/ 753ومنع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز للشنقيطي: 7في آخر أضواء البيان وأسباب اختلاف المفسرين للدكتور محمد الشائع: 59نقلا عن اختلاف المفسرين للدكتور سعود الفنيسان(2/269)
أن يحصى.
الثاني: الكناية، وهي العبارة عن الشيء بما يلازمه من غير تصريح (1).
الثالث: الالتفات (2)، وهو على ستة أنواع: خروج من التكلم إلى
__________
(1) وعرفها القزويني: بأنها لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه. التلخيص في علوم البلاغة: 337وعرفها ابن أبي الأصبع بقوله: الكناية عبارة عن تعبير المتكلم عن المعنى القبيح باللفظ الحسن. بديع القرآن: 53
والكناية نوع من أنواع المجاز عند بعض العلماء، كالتشبيه والاستعارة وغيرها من أنواع المجاز. انظر شرح البرقوقي على التلخيص: 338، وانظر الإتقان للسيوطي: 2/ 770 و 789
(2) وهو نقل الكلام من أسلوب لآخر. ومن فوائده كما يقول السيوطي في الإتقان:
2/ 905902: تطرية الكلام، وصيانة السمع من الضّجر والملال لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد. وأمثلته من التكلم إلى الخطاب قوله تعالى: {وَمََا لِيَ لََا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:
22]، ومثال الخروج من التكلم إلى الغيبة قوله تعالى: {إِنََّا فَتَحْنََا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللََّهُ} [الفتح: 21]، والأصل (لنغفر لك). ومثال من الخطاب إلى التكلم، قال السيوطي: لم يقع ذلك في القرآن ثم قال: وقد مثل له بعضهم بقوله {فَاقْضِ مََا أَنْتَ قََاضٍ} [طه: 72] قال: وهذا لا يصح لأن شرط الالتفات أن يكون المراد به واحدا.
ومثاله من الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى: {حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ}
[يونس: 22]، والأصل «بكم». ومثاله في الغيبة إلى التكلم قوله {وَاللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَسُقْنََاهُ} [فاطر: 9]. ومثاله من الغيبة إلى الخطاب قوله تعالى:(2/270)
الخطاب، وخروج من التكلم إلى الغيبة، وخروج من الخطاب إلى التكلم، وخروج من الخطاب إلى الغيبة، وخروج من الغيبة إلى التكلم، وخروج من الغيبة إلى الخطاب.
الرابع: التجديد، وهو ذكر شيء بعد اندراجه في لفظ عام متقدم.
ويقصد منه تعظيم المجدد ذكره أو تحقيره، أو رفع الاحتمال.
الخامس: الاعتراض، وهو إدراج كلام بين شيئين متلازمين، وإدخاله في أثناء كلام متصل، كالخبر والمخبر عنه، والصفة والموصوف، والمعطوف والمعطوف عليه. ويقصد منه تأكيد الكلام الذي أدرج فيه.
السادس: التجنيس، وهو اتفاق اللفظ مع اختلاف المعنى. والاختلاف قد يكون في الحروف والصيغة، أو في الحروف خاصة، أو في أكثر الحروف لا في جميعها، أو في الخط لا في اللفظ، وهو جناس التصحيف.
السابع: الطباق، وهو ذكر الأشياء المتضادة، كالسواد والبياض، والحياة والموت، والليل والنهار، (1) وغير ذلك.
الثامن: المقابلة، وهو أن يجمع بين شيئين فصاعدا، ثم يقابلهما بأشياء أخر.
__________
{وَقََالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمََنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} [مريم: 8988].
(1) وتسمى المطابقة، وعرفه القزويني بقوله: الجمع بين متضادين أي معنيين متقابلين في الجملة، كقوله تعالى {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقََاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18]. التلخيص: 348 وانظر الإتقان للسيوطي: 2/ 933.(2/271)
التاسع: المشاكلة، وهي أن تذكر الشيء بلفظ آخر لوقوعه في صحبته (1).
العاشر: الترديد، وهو رد الكلام على آخره، ويسمى في الشعر رد العجز على الصدر. (2)
الحادي عشر: لزوم ما لا يلزم، وهو أن تلتزم قبل حروف الرويّ حرفا آخر، وكذلك عند رءوس الآيات.
الثاني عشر: القلب، وهو أن يكون الكلام يصلح ابتداء قراءته من أوله وآخره، نحو «دعد»، أو تعكس كلماته فتقدم المؤخر، وتؤخر المقدم (3).
الثالث عشر: التقسيم، وهو أن تقسم المذكور إلى أنواعه وأجزائه (4).
__________
(1) وبمثله عرفه القزويني في التلخيص: 356ومثال المشاكلة قول الشاعر:
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا
(2) ذكر القزويني أن رد العجز على الصدر يكون في الشعر والنثر. وعرف الترديد بقوله: أن تجعل أحد اللفظين المكررين أو المتجانسين أو الملحقين بهما في أول الفقرة والآخر في آخرها. انظر: التلخيص للقزويني: 393.
(3) وقد عرفه البرقوقي في شرحه على التلخيص: 404، فقال: هو أن يكون الكلام بحيث إذا قلبت حروفه لم تتغير قراءته، كقول القائل:
مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم
(4) ومثاله قوله تعالى {سَوََاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ}(2/272)
الرابع عشر: التتميم، وهو أن تزيد في الكلام ما يوضحه ويؤكده وإن كان مستقلا دون هذه الزيادة.
الخامس عشر: التكرار، وهو أن تضع الظاهر موضع المضمر، فتكرر الكلمة على وجه التعظيم أو التهويل، أو مدح المذكور أو ذمه أو للبيان.
السادس عشر: التهكم، وهو إخراج الكلام عن مقتضاه استهزاء بالمخاطب أو بالخبر، وكذلك بالبشارة في موضع النذارة.
السابع عشر: اللف والنشر، وهو أن تلف في الذكر شيئين فأكثر، ثم تذكر متعلقات بها، وفيه طريقتان:
الأول: أن تبدأ في ذكر المتعلقات بالأول.
الثاني: أن تبدأ بالآخر، وتؤخر المتعلقات (1).
__________
{وَسََارِبٌ بِالنَّهََارِ} [الرعد: 10]، وقد عرفه القزويني بقوله: التقسيم ذكر متعدد ثم إضافة ما لكل إليه على التعيين. التلخيص: 364وقال ابن أبي الأصبع: إنه عبارة عن استيفاء المتكلم جميع أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه بحيث لا يغادر منه شيئا. بديع القرآن: 65.
(1) قال القزويني: اللف والنشر: هو ذكر متعدد على التفصيل أو الإجمال، ثم ما لكل واحد من غير تعيين ثقة بأن السامع يرده إليه. التلخيص: 361وانظر الإتقان للسيوطي:
2/ 929ومثاله قوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73] أي لتسكنوا في الليل وتبتغوا من فضله أي في النهار.(2/273)
الثامن عشر: الجمع، وهو أن تجمع بين شيئين فأكثر في خبر واحد، وفي وصف واحد.
التاسع عشر: الترصيع، وهو أن تكون الألفاظ في آخر الكلام مستوفية الوزن، أو متقاربة مع الألفاظ التي في أوله.
العشرون: التسجيع، هو أن تكون كلمات الآي على رويّ واحد.
الحادي والعشرون: الاستطراد، وهو أن يتطرق من كلام إلى كلام آخر بوجه يصل ما بينهما، ويكون الكلام الثاني هو المقصود، كخروج الشاعر من السب إلى المدح، بمعنى يتعلق بالطرفين، مع أنه قصد المدح.
الثاني والعشرون: المبالغة، وقد تكون بصيغة الكلمة نحو صيغة (فعّال) (ومفعال)، وقد تكون بالمبالغة في الأخبار أو الوصف، فإن اشتدت المبالغة فهو غلوّ وإغراب، وذلك مستكره عند أهل الشأن. (1)
وأجمع الكتب في هذا الفن هو كتاب «منهاج البلغاء وسراج الأدباء»
__________
(1) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 21وعرّف السيوطي المبالغة أن يذكر المتكلم وصفا فيزيد فيه حتى يكون أبلغ في المعنى الذي قصده وهي ضربان، مبالغة بالوصف يخرج إلى حد الاستحالة {يَكََادُ زَيْتُهََا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نََارٌ} [النور: 35]، ومبالغة بالصيغة بشتى صيغ المبالغة «فعلان» و «فعيل» و «فعّال» و «فعول» و «فعل».
الإتقان للسيوطي: 2/ 931.(2/274)
لأبي حسن حازم بن محمد الأندلسي الأنصاري (1).
الفن الثاني عشر: التصوف (2): يقول ابن جزي: له تعلق بالقرآن لما ورد فيه من المعارف الإلهية ورياضة النفوس وتنوير القلوب، وتطهيرها باكتساب الأخلاق الحميدة، واجتناب الأخلاق الذميمة. (3)
__________
(1) هو حازم بن محمد بن حسن بن حازم القرطاجني، أديب عالم في البلاغة واللغة والعروض، قيل: لم يجمع أحد من علم اللسان ما جمع، توفي (684هـ) انظر: بغية الوعاة للسيوطي: 1/ 491تحقيق أبو الفضل شذرات الذهب لابن العماد: 5/ 387.
(2) لم أجد من سماه هذه التسمية عدا ابن جزي، والأفضل تسميته بعلم الموهبة كما فعل الزركشي والسيوطي، فإن التصوف أصبح علما على طائفة عليها الكثير من المآخذ، يقول الزركشي: اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي ولا يظهر له أسراره، وفي قلبه بدعة أو كبر أو هوى أو حبّ الدنيا، أو هو مصرّ على ذنب، أو غير متحقق بالإيمان أو ضعيف التحقيق البرهان: والإتقان: 2/ 1212.
(3) هذا الباب مأخوذ برمته من مقدمة ابن جزي: 1/ 1410، مع إضافات قليلة من مقدمة البحر لأبي حيان: 1/ 1714وقد بحثه السيوطي في الإتقان: 2/ 1209.
وقد تحدث الزمخشري في مقدمته عن جملة من نعوت متعاطي التفسير، وهو الموضوع الوحيد الذي تعرض له، ولم أفصل الحديث عنه كباقي المفسرين لكون غالب ما ذكره من الصفات والنعوت عام يشمل كل علم وليست نعوتا يختص بها المفسر، لقد بين الزمخشري أنه لا يجوز لكل واحد تعاطي علم التفسير (إلا رجل برع في علمين مختصين بالقرآن وهما علم المعاني وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقيب عنهما أزمنة، وبعثه على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن يكون آخذا من سائر العلوم بحظ، جامعا بين أمرين تحقيق وحفظ، كثير المطالعات طويل المراجعات، قد رجع زمانا ورجع إليه،(2/275)
الفن الثالث عشر: معرفة الألفاظ التي يقتضي الإيجاز استعمالها في تفسير كتاب الله:
وهذا الفن ذكره ابن عطية، وهو حقيق بذكره، فقصد الإيجاز قد يسوق المفسر إلى أن يقول: خاطب الله بهذه الآية المؤمنين. وشرف الله بالذكر الرجل المؤمن من آل فرعون، وحكى الله عن أم موسى أنها قالت {قُصِّيهِ} [القصص: 11] ونحو ذلك من إسناد أفعال إلى الله تعالى لم يأت إسنادها بتوقيف من الشرع.
وفي هذه المسألة خلاف، حيث ذهب الأصوليون إلى عدم جواز استعمال ذلك، ولا ما جرى مجراها.
واستعملها المفسرون والمحدثون والفقهاء، كما استعملها أبو المعالي الجويني في كتابه الإرشاد. (1)
__________
وردّ وردّ عليه، فارسا في علم الإعراب، مقدّما في حملة الكتاب [قيل لعله كتاب سيبويه]، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقادها، درا [مشرقا] كاللمحة وإن لطف شأنها، منتبها على الرمزة [الإشارة] وإن خفي مكانها، لا كزا جاسيا [صلبا]، ولا غليظا جافيا، متصرفا ذا دربة بأساليب النظم والنثر، مرتاضا [لينا] غير ريض [صعب] بتلقيح بنات الفكر، قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف، وكيف ينظم الكلام ويرصف، طالما دفع إلى مضايقة، ووقع في مداحضة ومزالقة.
الكشاف للزمخشري: 1/ 1817.
(1) قال محمد بن عباد في رسائله الكبرى: وقد رأيت في مواضع من كتبكم شيئا أريد أن(2/276)
وقد ذهب ابن عطية إلى جواز استعمالها، لكونها مستعملة في لسان العرب، غير أنه تحفّظ من ذلك في تفسيره قدر جهده.
والعرب تستعمل ذلك وتحمله على المجاز، ومن ذلك قول أم سلمة رضي الله عنها: (فعزم الله لي) (1) في حديث موت أبي سلمة، وإبدال الله لها منه برسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
أنبهكم عليه وهو أنكم تقولون فيها: حكى الله عن فلان، وحكى عن فلان كذا، وقد يقع مثل هذا في كلام الأئمة، وهذا عندي ليس بصواب من القول: لأن كلام الله تعالى صفة من صفاته، وصفات الله قديمة، فإذا سمعنا الله يقول كلاما عن موسى عليه السلام مثلا، وعن فرعون أو أمة من الأمم فلا يقال: حكى الله عنهم لأن الحكاية تؤذن بتأخرها عن المحكي، وإنما يقال في مثل هذا: أخبر الله تعالى، أو أنبأ، أو كلام معناه هذا مما لا يفهم من مقتضاه تقدم ولا تأخر. انظر تفسير ابن عطية، 1/ 63حاشية (1)
(1) إشارة إلى الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرا منها. صحيح مسلم، كتاب: الجنائز، باب: ما يقال عند المصيبة: 2/ 633.(2/277)
الموضوع الثاني عشر مراتب المفسرين
بحث هذا الموضوع في مقدمة تفسيره ابن جرير الطبري (1)، والبغوي (2)، وابن عطية (3)، والقرطبي (4)، والخازن (5)، وابن جزي (6)، وأبو حيان (7)، وابن كثير (8).
لقد نزل القرآن الكريم بلسان العرب، وعلى أساليب لغتهم، وفنون كلامهم، ففهموه في الجملة، وما استعصى على بعضهم فهمه منه أو استشكل، اهتدوا إليه بمعرفتهم بأحوال التنزيل وأسبابه وظروفه، فإن تعذر فهمه رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي القرآن وبيانه يستوضحون المشكل، فيبين لهم صلى الله عليه وسلم ما استشكل عليهم فهمه.
__________
(1) انظر: تفسيره: 1/ 80.
(2) انظر: تفسيره: 1/ 34.
(3) انظر: تفسيره: 1/ 29.
(4) انظر: تفسيره: 1/ 35.
(5) انظر: تفسيره: 1/ 6.
(6) انظر: تفسيره: 1/ 16.
(7) انظر: تفسيره: 1/ 25.
(8) انظر: تفسيره: 1/ 13.(2/278)
وقد تباين الصحابة رضوان الله عليهم في قدراتهم العلمية، وميولهم المعرفية، كما تفاوتوا في اهتماماتهم، فكان منهم الملازم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حلّه وترحاله، كأبي هريرة وابن عباس، وغيرهما رضي الله عنهم ممن أعطى جلّ اهتمامه لتلقف ما ينطق به متلقي الوحي صلى الله عليه وسلم، وكان منهم من هو دون ذلك. ولهذا تباينوا رضي الله عنهم في معرفتهم، فاشتهر منهم ثلة بالعلم وسلامة الفهم مع كثرة الرواية، حفظوا للأمة دينها وحديث رسولها، وكانوا كالإخاذ، يروي الواحد ويروي الاثنين، ولو ورد عليه الناس أجمعون لأصدرهم، كما قال مسروق (1).
والناظر في الآثار المروية عنهم يدرك عظيم حرصهم على التلقي والتعلم، وترجمة ذلك إلى العمل، روى الطبري بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كان الرجل منا إذا تعلّم عشر آيات لم يجاوزهنّ حتى يعرف معانيهنّ، والعمل بهنّ. (2)
وروى أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدثنا الذين كانوا يقرءوننا أنهم
__________
(1) أورده القرطبي في تفسيره: 1/ 35وقال: ذكره ابن الأنباري في الرد على من خالف مصحف عثمان.
والإخاذ عند العرب: الموضع الذي يحبس الماء كالغدير. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 1/ 28.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 80، وقال أحمد شاكر: صحيح موقوف على ابن مسعود وأورده ابن كثير في تفسيره: 1/ 13.(2/279)
كانوا يستقرءون من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلّفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا. (1)
وكان الرجل منهم إذا سعى في طلب العلم وتعلم، جدّ فيهم وسما، ونال المراتب العليا، وقد روي أن عليّ بن أبي طالب ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعلم، فقال رجل: جعلت فداك تصف جابرا بالعلم وأنت أنت؟
فقال: إنه كان يعلم تفسير قوله تعالى {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرََادُّكَ إِلى ََ مَعََادٍ} [القصص: 85]. (2)
ومن الصحابة الذين اشتهروا في التفسير خاصة ثلة حرصت على فهم كتاب الله، وتكلمت فيه بما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اهتدت إليه من إعمال الفكر على ضوء اللغة وأحوال التنزيل، كالخلفاء الأربعة (3) وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيرهم.
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 80، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح متصل. وأورده ابن كثير في تفسيره: 1/ 13وهو في سير أعلام النبلاء للذهبي: 1/ 490.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 26وتفسير أبي حيان: 1/ 57تحقيق د / عبد السميع حسنين.
(3) ذكر أهل العلم أن سبب قلة الرواية عن الخلفاء في التفسير يعود إلى تقدم وفاتهم، وعظيم انشغالهم بأمور المسلمين، ومتطلبات الولايات، وأمور الجهاد والفتوحات وغيرها. وانظر الإتقان: 1/ 1227.(2/280)
وأكثر من نقل كلامه في التفسير من الخلفاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهو صدر المفسرين كما يقول ابن عطية، والمؤيد فيهم، عن عامر بن واثلة (1) قال: شهدت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخطب فسمعته يقول في خطبته: سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به، سلوني عن كتاب الله، فو الله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل نزلت أم في جبل. (2)
ولهذا ما كان عبد الله بن عباس يفتأ يرجع إلى علي يتلقى عنه التفسير ويقول: ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب (3).
ويلي عليا في الرتبة عبد الله بن عباس، حبر الأمة وترجمان القرآن الذي كان لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له بالفقه في الدين أبلغ الأثر، فقد قال فيه صلى الله عليه وسلم يوما: اللهم علّمه الكتاب. (4) وقال فيه: اللهم فقهه في الدين. (5)
__________
(1) هو عامر بن واثلة بن عبد الله الليثي الكناني، يكنى أبا الطفيل، كان عالما فارسا صادقا شاعرا، وهو آخر من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاة، عمر طويلا، توفي (107هـ). انظر:
سير أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 467و 4/ 467وتاريخ بغداد للخطيب: 1/ 198
(2) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره: 2/ 241وأبو نعيم في الحلية: 1/ 67وذكره القرطبي: 1/ 35وهو في الإتقان للسيوطي: 2/ 1227.
(3) أورده ابن عطية في تفسيره: 1/ 30وابن جزي في تفسيره: 1/ 16.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: العلم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم علمه الكتاب: 1/ 27.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الوضوء، باب: وضع الماء عند الخلاء: 1/ 45(2/281)
وحسبك من هذه دعوة.
لقد تجرد ابن عباس لتفسير كتاب الله، وأخذ للأمر عدّته، وكمله وتتبعه، وتبعه العلماء عليه، كمجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما، فكان المحفوظ عنه رضي الله عنه أكثر من غيره، والناظر في الآثار المروية فيه يعلم عظيم قدره عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وعند التابعين عامة، حتى أولئك الذين تلقى ابن عباس العلم عنهم شهدوا له بعلوّ الكعب، والرسوخ في العلم، وأثنوا على علمه وفضله، وحضوا الصحابة والتابعين على الأخذ عنه، (1) كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كان يقول: ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق. (2)
وقد كان ابن عباس حريصا على الاستفادة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لإدراك ما فاته من العلم أيام صغره، فما منعه تحرجه أو خشيته يوما من
__________
وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل عبد الله بن عباس:
4/ 1927بلفظ: اللهم فقّهه.
وأخرجه الإمام أحمد بلفظ: اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل. المسند: 1/ 266 328314
وما ورد من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس بالحكمة ونشر العلم والبركة كثير جدا، ينظر في ذلك حلية الأولياء لأبي نعيم: 1/ 315وما بعده وسير أعلام النبلاء للذهبي:
3/ 339334والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 3/ 1287تحقيق خالد اللاحم.
(1) انظر: تفسير البغوي: 1/ 34وابن عطية: 1/ 30وابن كثير: / 13.
(2) أورده ابن عطية في تفسيره: 1/ 29والقرطبي: 1/ 35وابن جزي: 1/ 16.(2/282)
لقاء من عنده شيء من العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمع أن عمر بن الخطاب يعلم شيئا لا يعلمه هو، وهو الحريص على المعرفة، غير أن الخشية والرهبة من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تمنعه من السؤال، إلى أن انتهز الفرصة يوما وسأل حتى عرف الجواب، يقول رضي الله عنه في ذلك: مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين تظاهرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمنعني إلا مهابته، فسألته فقال: هي حفصة وعائشة. (1)
ولإدراك الخلفاء مكانة ابن عباس العلمية فقد كانوا يسندون إليه المهام العلمية، وكان حريصا على أدائها بأفضل صورة، روى الطبري بسنده عن شقيق بن سلمة قال: استعمل عليّ ابن عباس على الحج، قال: فخطب الناس خطبة لو سمعها الترك والروم لأسلموا، ثم قرأ عليهم سورة (النور) فجعل يفسرها. (2)
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 26والأثر أخرجه الإمام أحمد في المسند: 1/ 340ط شاكر، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. وهو في البخاري ومسلم، بلفظ (سنة) مطولا في عدة مواضع.
صحيح البخاري، كتاب: التفسير (سورة التحريم)، باب: تبتغي مرضاة أزواجك:
6/ 96وباب: وإذ أسر: 6/ 670/ 71وفي اللباس، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجوزه من اللباس: 7/ 46ومسلم في صحيحه، كتاب: الطلاق، باب: في الإيلاء واعتزال النساء: 2/ 01110وأورده ابن كثير في تفسيره: 8/ 191.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 81وانظر الدر المنثور للسيوطي: / 124ط دار الفكر.(2/283)
وعنه قال: قرأ ابن عباس سورة البقرة فجعل يفسرها، فقال رجل: لو سمعت هذا الديلم لأسلمت. (1)
ولهذا كان ابن مسعود ومسروق يقولان: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. (2)
قال ابن تيمية: هذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال هذه العبارة، وقد مات ابن مسعود رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين على الصحيح، وعمر بعده ابن عباس ستا وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود؟! (3)
ويتلو رتبة ابن عباس عبد الله بن مسعود، الذي قال عنه تلميذه مسروق: وجدت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كالإخاذ وإن عبد الله بن مسعود من تلك الإخاذ (4).
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 81و 1/ 82بنحوه، والخبران ذكرهما ابن حجر في الإصابة: 4/ 93وأوردهما ابن كثير في تفسيره: 1/ 13.
(2) أخرجه الطبري بسنده عن ابن مسعود: 1/ 90وأورده ابن عطية في تفسيره: 1/ 30، وهو في حلية الأولياء لأبي نعيم: 1/ 316صفوة الصفوة لابن الجوزي: 1/ 749 وانظر كذلك مجمع الزوائد للهيثمي: 9/ 285276.
(3) مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 97وقد أورده ابن كثير في تفسيره: 1/ 13.
(4) أورده القرطبي في تفسيره: 1/ 35وابن الجوزي في صفة الصفوة: 1/ 403وقد سبق قبل قليل.(2/284)
وروى الطبري بسنده عن مسروق عن عبد الله أنه قال: والذي لا إله غيره ما نزلت آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت؟ وأين نزلت؟ ولو أعلم مكان أحد أعلم مني بكتاب الله تناله المطايا لأتيته.
وفي رواية عن المنهال بن عمرو (1) بنحوه. (2)
وعن مسروق قال: كان عبد الله يعني ابن مسعود يقرأ علينا السورة ثم يحدثنا فيها، ويفسرها لنا عامة النهار. (3)
وتتلمذ على الصحابة رضوان الله عليهم نخبة من التابعين، حرصوا على ملازمة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شاهدوا التنزيل، ووقفوا على أحواله التي أحاطت به، فسمعوا منهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما توصلوا إليه باجتهادهم لما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، فبرز من التابعين جماعة كانوا صلة بين من قبلهم ومن بعدهم، بلغوا ما سمعوه من الأمانة، وما فاتهم مما لم يسمعوه، أعملوا الفكر
__________
(1) هو المنهال بن عمرو الأسدي، روى عن أنس بن مالك وغيره، وثقه ابن معين وغيره، وقال ابن حزم: ليس بالقوي، توفي سنة بضع عشرة ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/ 184وتهذيب التهذيب لابن حجر: 10/ 319.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 80وأورده القرطبي في تفسيره بنحوه: 1/ 35وابن تيمية في مقدمته: 96والذهبي في السير: 1/ 427وابن كثير: 1/ 13وهو في الفتح: 9/ 40.
(3) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 81.(2/285)
واجتهدوا فيه. كالحسن البصري، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعلقمة (1)، وعكرمة، وعطاء، وقتادة، وأبو العالية، وزيد بن أسلم، ومحمد بن كعب القرظي، والضحاك، ومقاتل، وغيرهم.
وكان أحسنهم كلاما في التفسير كما يقول ابن عطية الحسن البصري، ثم مجاهد رفيق ابن عباس وتلميذه وملازمه، والذي قرأ عليه القرآن والتفسير قراءة تفهم ووقوف عند كل آية (2). روى الطبري بسنده عن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهدا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه فيقول له ابن عباس: اكتب. قال: حتى سأله عن التفسير كله. (3)
وعن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها. (4)
__________
(1) هو علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي، فقيه الكوفة ومقرئها، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر في طلب العلم، وروى عن جمع من الصحابة، توفي (62هـ). انظر:
سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 53والبداية والنهاية لابن كثير: 8/ 217.
(2) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 30.
(3) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 90وانظر: مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 103 وأورده ابن كثير في مقدمته: 1/ 15.
(4) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 90وأبو نعيم في الحلية: 3/ 279وهو في سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 450وتهذيب التهذيب لابن حجر: 10/ 43وأورده ابن عقيلة في الزيادة والإحسان: 3/ 1329تحقيق خالد اللاحم.(2/286)
وتحقق لمجاهد بصحبته لابن عباس وملازمته له مكانة سامية عند أهل العلم من أهل زمانه ومن بعده، ولهذا يقول سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك. (1)
وقد تضمنت كتب الرواية بعض الأخبار في قلة من التابعين كأبي صالح باذان، والسدي، تظهر الطعن في تفسيرهم، ومن ذلك ما رواه الطبري عن زكريا قال: كان الشعبي يمر بأبي صالح باذان فيأخذ بأذنه فيعركها ويقول: تفسر كتاب القرآن وأنت لا تقرأ القرآن. (2)
وعن صالح بن مسلم قال: مر الشعبي (3) على السدي وهو يفسر
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 91وذكره ابن تيمية في مقدمته: 37و 103وقال:
ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري، وغيرهما من أهل العلم، وكذلك الإمام أحمد وغيره ممن صنف في التفسير، يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 91قال أحمد شاكر: باذان تابعي ثقة، ومن تكلم فيه فإنما تكلم لكثرة كلامه في التفسير. وأحال إلى تعليقه على المسند 3/ 323ح 2030.
وفيه حديث طويل عن باذان وقد نقل كلام الأئمة فيه. وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 308وتهذيب التهذيب لابن حجر: 1/ 417.
(3) هو عامر بن شراحيل بن عبد، الشعبي الحميري، روى عن جمع من الصحابة، وأدرك خمسمائة صحابي، توفي قبل الحسن بيسير، وتوفي الحسن سنة (110هـ). انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 12/ 227ووفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 12.(2/287)
فقال: لأن يضرب على استك بالطبل خير لك من مجلسك هذا. (1)
يقول ابن عطية: وأما السدي فكان عامر الشعبي يطعن عليه وعلى أبي صالح باذان لأنه كان يراهما مقصرين في النظر (2).
وتبرير ابن عطية لم يلق القبول عند المهتمين بسيرة الرجال ودراسة أحوالهم، ولهذا أنكر عليه القرطبي مقولته وقال معترضا عليه: قال يحيى بن معين: الكلبي ليس بشيء. وعن يحيى بن سعيد القطان (3) قال: قال الكلبي:
قال أبو صالح: كل ما حدثتك كذب. وقال حبيب بن أبي ثابت: كنا نسميه الدروغزن. وهو الكذاب بلغة الفرس. (4)
مهما يكن فقد استطاع السلف رضوان الله عليهم أن يجردوا الصحيح من الدخيل، ويميزوا الصحيح منه والسقيم.
وقد حمل تفسير كتاب الله تعالى عدول كل خلف، شهد لهم رسول
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 92.
(2) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 30.
(3) هو يحيى بن سعيد بن فروخ التميمي القطان، يكنى أبا سعيد، ولد (120هـ) سيد الحفاظ، ومن سادات أهل زمانه ورعا وفهما ودينا، قال ابن المديني: ما رأيت أعلم بالرجال منه. توفي (198هـ). انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي: 1/ 298وتاريخ بغداد للخطيب: 14/ 153.
(4) انظر تفسير القرطبي: 1/ 36.(2/288)
الله صلى الله عليه وسلم بأنهم أئمة أعلام، حفظوا الشريعة من التحريف والانتحال «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين». (1) فألف في التفسير عبد الرزاق والمفضل، وسلمة بن عاصم ت 300هـ، وعلي بن طلحة (2)، والبخاري وغيرهم.
وتتابع الناس، وانتشر الإسلام، وضعفت اللغة بدخول الأعاجم، وازدادت الحاجة لأهل العلم وبيانهم، فدخل عصر التصنيف، وقيض الله تعالى لكتابه رجالا بالحق ناطقين، صنفوا في سائر علومه المصنفات، وجمعوا فنونه المتفرقات، كلّ على قدر فهمه، ومبلغ علمه، (3) يقول أبو حيان: لما فسد اللسان، وكثرت العجم، ودخل الإسلام أنواع الأمم، المختلفو الألسنة، والناقصو الإدراك، احتاج المتأخرون إلى إظهار ما انطوى عليه كتاب الله تعالى من غرائب التركيب، وأنواع المعاني، وإبراز النكت البيانية، حتى يدرك ذلك من لم تكن في طبعه، ويكتسبها من لم تكن نشأته عليها، ولا عنصره يحركه إليها، بخلاف الصحابة والتابعين من العرب، فإن ذلك كان مركوزا في طباعهم، يدركون تلك المعاني كلها، من غير موقف ولا
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/ 36وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد من عدة طرق: 1/ 59.
(2) هو علي بن طلحة بن كردان الواسطي، تلميذ أبي علي الفارسي، عمل إعرابا للقرآن في بضعة عشر مجلدا، ثم غسله قبل موته، توفي (424هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 17/ 427وبغية الوعاة للسيوطي: 2/ 170.
(3) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 31وتفسير القرطبي: 1/ 35وتفسير الخازن: 1/ 3.(2/289)
معلم، لأن ذلك هو لسانهم وخطتهم وبيانهم، على أنهم كانوا يتفاوتون في الفصاحة والبيان. (1)
وكان أبرز من صنف في التفسير الإمام ابن جرير الطبري، الذي جمع أقوال المفسرين، وأحسن النظر فيها، وقرب البعيد، وشفا الإسناد.
كما صنف أبو بكر النقاش كتابه غير أنه استدرك عليه أمور، ثم مكي بن أبي طالب، ثم الماوردي، وأبو العباس المهدوي وكان متفنن التأليف، حسن الترتيب، جامع فنون علوم القرآن (2).
يقول ابن جزي: ثم جاء القاضيان أبو بكر بن العربي، وأبو محمد عبد الحق بن عطية فأبدع كل واحد وأجمل، واحتفل وأكمل.
فأما ابن العربي فصنف «أنوار الفجر» في غاية الاحتفال والجمع لعلوم القرآن، فلما تلف تلاه بكتاب (قانون التأويل) إلا أنه اخترمته المنية قبل تخليصه وتلخيصه.
وأما ابن عطية فإنه أجلّ من صنف في علم التفسير، وأفضل من تعرض للتنقيح فيه والتحرير، وكتابه من أحسن التآليف وأعدلها، فإنه اطلع على تآليف من كان قبله فهذبها ولخصها، وهو مع ذلك حسن العبارة،
__________
(1) انظر: تفسير أبي حيان: 1/ 25.
(2) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 3230وتفسير القرطبي: 1/ 35وتفسير ابن جزي: 1/ 16.(2/290)
مسدد النظر، محافظ على السنة. اه (1).
ومن المفسرين الذين اشتهروا أيما اشتهار، وطار اسمهم وذاع صيتهم أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، فهو مسدد النظر، بارع في الإعراب، متفنن في علم البيان، إلا أنه ملأ كتابه من مذهب المعتزلة وشرهم، وحمل آيات القرآن على طريقهم، فتكدر صفوه وتمرر حلوه، يؤخذ منه ما صفا، ويدع ما كدر. (2)، يقول أبو حيان عنه وعن ابن عطية بأنهما: قد اشتهرا ولا كاشتهار الشمس، وخلدا في الأحياء وإن همدا في الرمس، وكلاهما فيه ما يدل على تقدمهما في علوم، من منثور ومنظوم، ومنقول ومفهوم، وتقلّب في فنون الآداب، وتمكّن من علمي المعاني والإعراب إلى أن قال: وكتابهما في التفسير قد أنجدا وأغارا، وأشرقا في سماء هذا العلم بدرين وأنارا، وتنزلا من الكتب التفسيرية منزلة الإنسان من العين، والذهب الإبريز من العين، ويتيمة الدر من اللآلي، وليلة القدر من الليالي، فعكف الناس شرقا وغربا عليهما (3)
__________
(1) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 1716.
(2) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 17.
(3) انظر: تفسير أبي حيان: 1/ 20.(2/291)
الموضوع الثالث عشر الاختلاف بين المفسرين وقواعد الترجيح
هذا الموضوع يتكون من مسألتين:
المسألة الأولى: الاختلاف بين المفسرين،
وقد بحثها ابن جزي من بين المفسرين في مقدمة تفسيره. (1)
المسألة الثانية: قواعد الترجيح عند المفسرين:
وقد بحثها ابن جزي (2)، وابن جرير الطبري (3)، والماوردي (4)، وابن كثير. (5)
المسألة الأولى: أسباب الاختلاف بين المفسرين (6):
__________
(1) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 15.
(2) انظر: تفسير ابن جزي: 1/ 15.
(3) انظر مقدمة ابن جرير: 1/ 78.
(4) انظر تفسير الماوردي: 1/ 38.
(5) انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 12.
(6) إن الناظر في التفاسير التي بين أيدينا يلاحظ للوهلة الأولى الاختلاف والتباين بين أقوال المفسرين في بيان وتفسير اللفظة القرآنية الواحدة، وهو أمر قد يكون اعتياديا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفسر القرآن كله، وأن سعة معاني اللسان العربي الذي نزل به القرآن، تعطي للناظر فيه معاني عديدة للكلمة الواحدة، كما أن القدرات(2/292)
ذكر ابن جزي أنها اثنا عشر سببا للاختلاف بين المفسرين (1):
__________
العقلية لأهل العلم متفاوتة، وكذا قدراتهم العلمية، كل هذه كانت من الدواعي التي أدت إلى اختلاف المفسرين. وهو اختلاف قديم وأكثره اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، كما يقول أهل العلم. وقد كثر ذلك عند المشتغلين بالتفسير من المتأخرين حتى عدل بعضهم عن المنقول الثابت في التفسير عن سلف الأمة، بل قد تجد من يفسر شيئا من كلام الله وقد سبق فيه قول الصادق المصدوق، فلم يطلع عليه، أو ربما لم تصح عنده، أو غير ذلك، وسيأتي في قواعد الترجيح بيان ذلك ينظر في هذا الإتقان للسيوطي:
2/ 1200هذا وقد بحث العلماء هذه المسألة وكتب فيها أناس منهم كتابات خاصة، وأشار إليها الآخرون ضمن بعض مصنفاتهم، والتأليف الخاص لبيان أسباب الاختلاف كان لدى المتأخرين أكثر من المتقدمين، ومن أولئك فضيلة الشيخ الدكتور سعود الفنيسان، الذي خصص رسالته العلمية للدكتوراه في هذا الموضوع وكان عنوانها (اختلاف المفسرين، أسبابه وآثاره)، كما كتب فضيلة الدكتور فهد الرومي كتابا أسماه (بحوث في أصول التفسير ومناهجه) بحث فيه هذا الموضوع وكذلك ما كتبه أستاذي المشرف فضيلة الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشائع بعنوان (أسباب اختلاف المفسرين) وهذا الأخير رجعت إليه واعتمدته في هذه المسألة، وضربت الأمثلة على المسائل منه.
(1) أوصلها فضيلة الدكتور الشائع في رسالته (أسباب الاختلاف) إلى عشرين سببا بزيادة ثمانية على ابن جزي، فقد اعتبر يحفظه الله الدوافع أسبابا، فجعل التعصب المذهبي سببا، وجعل الاختلاف العقدي سببا، كما أضاف الاختلاف في الاستثناء بأنواعه، والاختلاف في معاني الحروف، وإغفال دلالة سياق الآية، والاختلاف في مفهوم عصمة الأنبياء، والاختلاف في مرجع الضمير، واحتمال وجود الحذف. انظر: أسباب اختلاف المفسرين: 35ويعنى بأسباب الاختلاف تلك الأسباب المقبولة التي يعذر القائل في التفسير بموجبها، ويكون مأجورا عليها إذ يكون مجتهدا، ساعيا لإصابة القول، والوقوف على مراد الله، ولا ضير على المفسرين من الاختلاف فيها أو عدم إصابة الحق، فهي(2/293)
الأول: اختلاف القرآن (1).
الثاني: اختلاف وجوه الإعراب، وإن اتفقت القراءات (2).
__________
يؤيدها إما نص من كتاب أو سنة، أو أثر عن سلف، أو قول إمام، أو أن اللغة تجوزها ولو من بعض الوجوه.
(1) والمقصود اختلاف القراءات، فالقراءتان كالآيتين يعمل بهما جميعا إذا كانتا معتبرتين، كما يقول ابن الجزري، ويقول ابن تيمية: إن القراءتين كالآيتين، فزيادة القراءات كزيادة الآيات. [مجموع الفتاوى: 13/ 400والنشر لابن الجزري: 1/ 51]، ويقصد بالقراءات هنا التي يتغير بموجبها المعنى، فتكون سببا للاختلاف، وكثيرا ما يستعين المفسرون بالقراءة الشاذة التفسيرية لبيان المعاني، كقراءة السيدة عائشة في قوله تعالى {حََافِظُوا عَلَى الصَّلَوََاتِ وَالصَّلََاةِ الْوُسْطى ََ} [البقرة: 238]، قرأت (والصلاة الوسطى صلاة العصر) [مختصر شواذ القراءات لابن خالويه: 15]، يقول فضيلة الدكتور محمد الشائع: إن اختلاف القراءات من أوسع أسباب اختلاف المفسرين، وأكثرها أمثلة. اهـ.
ومن الأمثلة التي ضربها لهذا السبب، قوله تعالى: {وَمََا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ}
[التكوير: 24] فقد ورد في {بِضَنِينٍ} قراءتان سبعيتان، فقرئ (بظنين) بالظاء، بمعنى:
بمتهم، أي ما هو بمتهم على الوحي أنه من الله. وقرئ {بِضَنِينٍ} بالضاد، بمعنى:
ببخيل. يقول: لا يبخل محمد صلى الله عليه وسلم عليه بما آتاه الله من العلم والقرآن، ولكن يرشد بعلم، يؤدي عن الله عز وجل. فاختلفت الدلالة باختلاف القراءتين، وإن صح في النهاية نفي الوصفين من بخل واتهام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [أسباب اختلاف المفسرين:
39 - وانظر القراءة في حجة القراءات لابن زنجلة: 752].
(2) يقرر الماوردي أن اختلاف وجوه الإعراب قد يختلف بموجبه المعاني، ويقول في ذلك: إن كان اختلافه أي الإعراب موجبا لاختلاف حكمه، وتغيير تأويله لزم العلم به في حق المفسر والقارئ ليتوصل المفسر إلى معرفة حكمه. [النكت والعيون: 1/ 38](2/294)
الثالث: اختلاف اللغويين في معنى الكلمة (1).
الرابع: اشتراك اللفظ في معنيين فأكثر (2).
الخامس: احتمال العموم والخصوص (3).
__________
والأمثلة على الاختلاف لهذا السبب كثيرة منها قوله تعالى {وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنََا} [الأعراف: 7]، فقد اختلف أهل العلم في الواو من قوله تعالى {وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فقيل: هي واو العطف فالراسخون يعلمون التأويل، وقيل: هي واو الاستئناف، فيكون من المتشابه، ومعرفة تأويله إلى الله. انظر: تفسير الطبري: 6/ 203والمكتفى في الوقف والابتداء لأبي عمرو الداني: 196وأسباب اختلاف المفسرين للدكتور محمد الشائع: 72.
(1) ومثال هذا السبب قوله تعالى {وَقََالَ الرَّسُولُ يََا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هََذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان: 30]، فقد قيل في معنى {مَهْجُوراً} أنهم هجروه بإعراضهم عنه فصار مهجورا. وقيل: قالوا فيه هجرا، أي: قبيحا. وقيل: إنهم جعلوه هجرا من الكلام، وهو ما لا نفع فيه من العبث والهذيان.
فقد اختلف في المعنى، والأول هو الأصح لكونه يعم المعاني الأخرى، والأقوال الأخرى وإن كانت صحيحة في دلالتها اللغوية إلا أنها بعيدة والله أعلم. انظر: أسباب اختلاف المفسرين للشايع: 66.
(2) والاشتراك أن يتحد اللفظ ويختلف المعنى، وهو واقع في الاسم والحرف والفعل، وقد ضرب الدكتور محمد الشائع أمثلة على كل حالة من الحالات الثلاثة، وأكتفي هنا بالمثال التالي، في قوله تعالى {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 51] فالقسورة في اللغة يراد به الرامي.
وقيل: الأسد. وقيل: النبل. انظر: أسباب اختلاف المفسرين: 22و 78.
(3) يقول فضيلة الدكتور محمد الشائع: وهذا النوع من الأسباب غالبا لا يكون الخلاف فيه في فهم معنى الآية، وإنما في الاستدلال بها، وتنزيلها على الأحداث والأشخاص. اهـ(2/295)
السادس: احتمال الإطلاق والتقييد (1).
السابع: احتمال الحقيقة والمجاز (2).
__________
ثم ضرب لذلك أمثلة، منها قوله تعالى {فَنََادَتْهُ الْمَلََائِكَةُ وَهُوَ قََائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرََابِ}
[آل عمران: 39] اختلف في المراد بالملائكة، فقيل: جبريل وحده، فيكون عاما مرادا به الخصوص. ويشهد لهذا قراءة علي وابن عباس وابن مسعود: «فناداه» بالإفراد، وهي قراءة حمزة والكسائي. [حجة القراءات لابن زنجلة: 162] وقيل: إن المنادي جماعة من الملائكة، فيبقى على عمومه. انظر: أسباب اختلاف المفسرين: 5150.
(1) يقول الزركشي: إن وجد دليل على تقييد المطلق صيّر إليه، وإلا فلا، والمطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده. [البرهان: 2/ 15] وأثر الإطلاق والتقييد يكون على الأحكام الفقهية غالبا كما يقرر الدكتور الشائع ذلك بقوله: الاختلاف في مثل هذا السبب غالبا يعود أثره على الأحكام الفقهية في الإطلاق والتقييد لا على معنى النص. اهـ، ومثاله قوله تعالى {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلََاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرََافِقِ} [المائدة: 6]، فقد قيدت الآية غسل الأيدي في الوضوء إلى المرافق، وأطلق المسح في التيمم {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} قيل: يحمل المطلق على المقيد هنا لاتحاد السبب، وإن اختلف الحكم. وذهب آخرون إلى أنه لا يحمل المطلق على المقيد لاختلاف الحكم وإن اتحد السبب فذاك غسل وهذا مسح. انظر: أسباب اختلاف المفسرين للدكتور الشائع: 56.
(2) ويعنى بالمجاز: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، لوجود قرينة تدل عليه. والحقيقة هو اللفظ المستعمل فيما وضع له. تفسير ابن جزي: 1/ وانظر: إرشاد الفحول للشوكاني: 21.
ومثال الاختلاف هنا قوله تعالى {وَالسَّمََاءَ رَفَعَهََا وَوَضَعَ الْمِيزََانَ أَلََّا تَطْغَوْا فِي}(2/296)
الثامن: احتمال الإضمار أو الاستقلال (1).
التاسع: احتمال الكلمة الزائدة (2).
__________
{الْمِيزََانِ} [الرحمن: 7] فقيل: عن الميزان: الآلة المعروفة. وقيل: إن المراد به العدل.
وقيل: الميزان هو الحكم. وقيل: هو القرآن. فتفسير الميزان بالآلة المعروفة هو تفسير على الحقيقة، وغيرها من التفاسير هي تفاسير حملت المعنى على المجاز. انظر:
تفسير الطبري: 27/ 118، وتفسير ابن كثير: 5/ 271وأسباب اختلاف المفسرين للدكتور الشائع: 62.
(1) الإضمار: أن يخفي المتكلم في نفسه معنى ويريد من المخاطب أن يفهمه.
والاستقلال: إفادة المعنى المراد الملفوظ به منفردا دون حاجة إلى تقدير. انظر: قواعد الترجيح للحربي: 1/ 424، وأمثلة هذا السبب الآيات التي تضمنت أسماء الله وصفاته، فمذهب أهل السنة والجماعة إثبات صفات الله تعالى على ما يليق به سبحانه، من غير تأويل ولا تشبيه ولا تعطيل، غير أن ثلة من المفسرين يؤولونها فيضمرون ويقدرون للكلام مضافا محذوفا، كما فعل القرطبي في قوله تعالى {وَجََاءَ رَبُّكَ} [الفجر:
22] قال: أي: أمره وقضاؤه، وهو من باب حذف المضاف. [تفسير القرطبي: 20/ 55].
والصحيح كما ذكرت إثبات صفة المجيء لله، ولهذا قال ابن جرير في بيان تفسير الآية:
وإذا جاء ربك يا محمد وأملاكه صفوفا صفا بعد صف. [تفسير الطبري: 30/ 185.]
(2) وصورته أن ثلة من المفسرين يقولون عن بعض الحروف في القرآن أنها صلة زائدة في حين أن آخرين لا يرون ذلك، وعليه يكون الاختلاف، ومثاله قوله تعالى {فَلََا أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 7675] قيل: (لا) هنا زائدة، وقيل: بل هي غير زائدة والمراد هنا نفي القسم، والمعنى: لست أقسم على ما ذكر لظهوره ووضوحه. انظر: أسباب اختلاف المفسرين للدكتور الشائع: 90.(2/297)
العاشر: احتمال حمل الكلام على الترتيب وعلى التقديم والتأخير (1).
الحادي عشر: احتمال أن يكون الحكم منسوخا أو محكما (2).
الثاني عشر: اختلاف الرواية في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف
__________
(1) الأصل في الكلام أن يبقى على ترتيبه ما لم يكن هناك داع لذلك. يقول النحاس:
التقديم والتأخير إنما يكون إذا لم يجز غيرهما. اهـ. ويقول الرازي: إن الكلام إذا استقام من غير تغيير النظم لم يجز المصير إلى التقديم والتأخير. اهـ. انظر: القطع والاستئناف للنحاس: 175وتفسير الرازي: 12/ 114.
وعليه فلا يلجأ إلى هذا الأسلوب إلا لضرورة، والضرورة قد يختلف في لزومها بعض المفسرين فيحملون الكلام على التقديم أو التأخير ويحدث الخلاف في بيان المعنى. ومثال ذلك قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذََا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوََالِدَيْنِ وَ} [البقرة: 18]. قدره بعضهم: كتب عليكم الوصية إذا حضر أحدكم الموت. والصحيح أن المراد قبل حضور الموت فلا حاجة للتقدير. انظر: أسباب اختلاف المفسرين للدكتور الشائع: 85.
(2) يقول فضيلة الدكتور محمد الشائع: الخلاف في هذا السبب أثره ظاهر في الأحكام. اهـ.
أي: الأحكام القرآنية، ففي الوقت الذي يحكم فيه البعض بإحكام الآية تجد من يقول بأنها منسوخة، ولهذا يحدث خلاف كبير، ومثال هذا النوع قوله تعالى {يَسْئَلُونَكَ مََا ذََا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] قيل: إنها محكمة غير منسوخة، وهي باقية في صدقة التطوع، أو أن المراد بالعفو الزكاة بعينها. وقيل: بل هي منسوخة بآية الزكاة. والأولى القول بإحكامها إذ لا تعارض. انظر: نواسخ القرآن لابن الجوزي: 200وأسباب اختلاف المفسرين للدكتور الشائع: 48.(2/298)
رضي الله عنهم (1).
المسألة الثانية: قواعد الترجيح عند المفسرين (2):
ذكر ابن جزي اثنا عشر وجها قاعدة للترجيح بين أقوال المفسرين وهي:
الأولى: تفسير القرآن ببعض، فإذا دل موضع من القرآن على المراد
__________
(1) لا يعدل عن الثابت من تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفسير أصحابه إلا صاحب بدعة أو هوى، أو عالم لم يبلغه الحديث، أو لم يثبت عنده، أو أنه فهم نصه فهما خاصا. ولهذه الأسباب قد يختلف المفسرون في تفسير شيء من كتاب الله، والمعول عليه هنا هو الثابت الذي صح نسبته.
وقد ضرب فضيلة الدكتور محمد الشائع مثال هذا السبب قوله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمََانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، فالثابت عن السلف تفسير الظلم بالشرك، وقد ورد فيه نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البخاري وغيره. وذهب الزمخشري رغم هذا إلى تفسير الظلم بالمعصية التي تفسق، وأبى التعويل على التفسير الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة أن لفظ «اللبس» يأبى ذلك. انظر: أسباب اختلاف المفسرين للدكتور محمد الشائع: 45.
انظر في هذه المسألة أسباب الاختلاف بين المفسرين مقدمة ابن جزي: 1/ 15.
(2) تعرّف قواعد الترجيح بأنها: ضوابط وأمور أغلبية يتوصل بها إلى معرفة الراجح من الأقوال المختلفة في تفسير كتاب الله. انظر: قواعد الترجيح عند المفسرين: 1/ 32 تأليف: حسين علي الحربي، رسالة ماجستير، كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1415هـ.(2/299)
بموضع آخر حملناه عليه ورجحنا القول بذلك على غيره من الأقوال (1).
الثانية: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا ورد عنه عليه السلام تفسير شيء من القرآن عوّلنا عليه، لا سيما إن ورد في الحديث الصحيح (2).
__________
(1) وهذا لا خلاف فيه عند المفسرين وغيرهم، غير أن الأمر لا يدركه كل أحد، وهو موكل إلى المجتهدين فهم الذين يعرفون ويعلمون المواضع التي تدل على غيرها من الآيات. وقد اعتمد هذا جميع المفسرين، يقول ابن تيمية: أصح طرق تفسير القرآن هي تفسير القرآن بالقرآن. مقدمة في أصول التفسير: 93.
ومثال ذلك ما ذكره الطبري في تفسير {وََاصِبٌ} من قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذََابٌ وََاصِبٌ} [الصافات: 9] حيث ذكر من الأقوال: الموجع وغيرها، ثم صرح بأن أولى الأقوال أن معناه: خالص. وذلك أن الله تعالى قال {وَلَهُ الدِّينُ وََاصِباً} [النحل: 6] قال: فمعلوم أنه لم يصفه بالإيلام والإيجاع وإنما وصفه بالثبات والخلوص. انظر: تفسير الطبري: 23/ 40وانظر قواعد الترجيح للحربي: 1/ 315.
(2) واعتبر هذه القاعدة أغلب المفسرين، كما اعتبروا الحديث الحسن، أما الضعيف فيعتبر مرجحا إذا تعاضد مع وجوه أخرى للترجيح.
يقول ابن تيمية: ومما ينبغي أن يعلم أن القرآن والحديث إذا عرف تفسيره من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى أقوال أهل اللغة، فإنه قد عرف تفسيره وما أريد بذلك من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم. اهـ.
ويقول ابن جرير في معرض حديثه عن وجوه تفسير القرآن: وهذا أي الوجه الذي جعل بيانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز القول فيه إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأويله بنص منه عليه أو بدلالة قد نصبها دالة أمته على تأويله.(2/300)
الثالثة: أن يكون القول قول الجمهور وأكثر المفسرين، فإن كثرة القائلين بالقول يقتضي ترجيحه (1).
__________
انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 74ومجموع الفتاوى لابن تيمية: 13/ 27وأضواء البيان للشنقيطي: 2/ 89وقواعد الترجيح للحربي: 1/ 196وقد اعتمد ذلك المفسرون في تفاسيرهم كالطبري: 17/ 111وابن عطية: 5/ 214ط المغرب والقرطبي: 20/ 160وأبو حيان: 1/ 31ط دار الفكر 1412والشوكاني:
2/ 320وغيرهم. ومن مثال القاعدة، قول القرطبي في تفسيره لسورة العاديات وبيان معنى {لَكَنُودٌ} [العاديات: 6]، فقد قال بعد أن أورد الخلاف في معنى «الكنود»: قلت هذه الأقوال كلها ترجع إلى معنى الكفران والجحود، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم معنى الكنود بخصال مذمومة، وأحوال غير محمودة، فإن صح فهو أعلى ما يقال، ولا يبقى لأحد معه مقال. تفسير القرطبي: 20/ 162.
(1) وقد اعتبر هذه القاعدة أئمة التفسير كابن عطية والرازي والقرطبي وغيرهم، يقول الشنقيطي: وقد تقرر في الأصول أن كثرة الرواة من المرجحات، وكذلك كثرة الأدلة، كما عقده في مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال الراوي:
وكثرة الدليل والرواية ... مرجح لدى ذوي الدراية
انظر: أضواء البيان: 1/ 298ونشر البنود في مراقي السعود لعبد الله الشنقيطي:
2/ 284.
وقد ذكر الحربي مثال هذه القاعدة قوله تعالى {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنََا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خََاسِئِينَ} [البقرة: 65] حيث ذهب عامة المفسرين إلى أن المسخ في الآية كان مسخا حقيقيا، معنويا وصوريا. وذهب مجاهد إلى أن المسخ كان معنويا لا صوريا. وهو قول خالف فيه مجاهد عامة المفسرين. يقول القرطبي عن قول(2/301)
الرابعة: أن يكون القول قول من يقتدى به من الصحابة كالخلفاء الأربعة، وعبد الله بن عباس لقوله صلى الله عليه وسلم:
«اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (1).
الخامسة: أن يدل على صحة القول كلام العرب من اللغة والإعراب
__________
مجاهد: لم يقله غيره من المفسرين فيما أعلم. يريد أنه مرجوح لا يعتد به لكونه خالف جمهور المفسرين. انظر: تفسير القرطبي: 1/ 443وقواعد الترجيح للحربي: 1/ 299.
(1) واعتمد هذه القاعدة جمهور المفسرين وأهل العلم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
وبالجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك، بل مبتدعا وإن كان مجتهدا مغفورا له خطؤه إلى أن قال: فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعا. اهـ.
وقال ابن القيم: لا ريب أن تفسيرهم أصوب من أقوال من بعدهم، وذهب بعض أهل العلم إلى أن تفسيرهم في حكم المرفوع. اهـ. والأمثلة على هذه القاعدة كثيرة ومن ذلك ما قاله ابن جرير في تفسير قوله تعالى {وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ عَلى ََ مِثْلِهِ}
[الأحقاف: 10] فقد ذكر تأويل الآية وبعض الأقوال ثم قال: غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك عنى به عبد الله بن سلام وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل، وما أريد به
انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: 13/ 362وإعلام الموقعين لابن القيم: 4/ 153 وتفسير الطبري: 26/ 12وقواعد الترجيح للحربي: 1/ 275.(2/302)
أو التصريف (1) أو الاشتقاق. (2)
__________
(1) يعرّف التصريف بمعنين، المعنى العملي والمعنى العلمي، وهو في الاصطلاح العملي كما ذكره الحربي في قواعد الترجيح: تحويل الأصل الواحد إلى أمثلة مختلفة لمعان مقصودة لا تحصل إلا بها، كاسمي الفاعل والمفعول، واسم التفضيل والتثنية والجمع إلى غير ذلك.
وبالمعنى العلمي: علم بأصول يعرف بها أحوال أبنية الكلمة التي ليست بإعراب ولا بناء. انظر: قواعد الترجيح للحربي: 2/ 514وشذا العرف: 19، والاشتقاق: رد لفظ إلى آخر لموافقته له في الحروف الأصلية ومناسبته في المعنى. انظر شرح الكوكب للفتوحي: 1/ 206والتعريفات للجرجاني: 49وقواعد الترجيح للحربي:
2/ 514
(2) وقد اعتمد القاعدة المفسرون وغيرهم، ورجحوا بموجبها بعض الأقوال كما ردوا بها أقوالا أخرى لمخالفتها تصريف الكلمة، وقد سبق أن بينت عند الحديث عن العلوم التي يحتاجها المفسر أهمية فن الصرف بالنسبة للمفسر لكتاب الله، ومن الأمثلة على اعتماد المفسرين للقاعدة، قولهم في قوله تعالى {إِنْ تَكُونُوا صََالِحِينَ فَإِنَّهُ كََانَ لِلْأَوََّابِينَ غَفُوراً}
[الإسراء: 25] فقد اختلف المفسرون في المراد ب «الأواب»: فقال بعضهم: المسبحون.
وقيل: المطيعون المحسنون. وقيل: الذين يصلون بين المغرب والعشاء. وقيل: الأواب:
الراجع من ذنبه والتائب منه.
قال الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: الأواب: هو التائب من الذنب، الراجع من معصية الله إلى طاعته ومما يكرهه إلى ما يرضاه لأن الأواب إنما هو (فعّال) من قول القائل: آب فلان من كذا إما من سفره إلى منزله، أو من حال إلى حال، كما قال عبيد بن الأبرص:
وكل ذي غيبة يئوب ... وغائب الموت لا يئوب(2/303)
السادسة: أن يشهد بصحة القول سياق الكلام ويدل عليه ما قبله وما بعده (1).
السابعة: أن يكون ذلك المعنى المتبادر إلى الذهن فإن ذلك دليل على
__________
فهو يئوب أوبا، وهو رجل آئب من سفره، وأواب من ذنوبه.
انظر: تفسير الطبري: 15/ 71وقواعد الترجيح للحربي: 2/ 520.
(1) وقد اعتبر هذه القاعدة أئمة العلم عموما منهم الإمام أحمد بن حنبل والطبري والقرطبي والرازي وابن تيمية وابن كثير وغيرهم، يقول ابن تيمية في معرض حديثه عن نفاة الصفات ومثبتيها: إن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه، وما يحفّ به من القرائن اللفظية والحالية. انظر: مجموع الفتاوى: 6/ 14.
ويقول الشنقيطي: ومن أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولا، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على بطلان ذلك القول. انظر:
أضواء البيان: 1/ 75.
ومن الأمثلة على هذه القاعدة قوله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبََا قُرْبََاناً} [المائدة: 27]، قال بعض المفسرين: هما من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه وإنما كان القربان في بني إسرائيل، وكان آدم أول من مات.
وقال الجمهور: إن الابنين كانا لآدم من صلبه، وهو ظاهر التلاوة، ويؤيد قول الجمهور قرينة في السياق هو قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللََّهُ غُرََاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوََارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] يدل على أن الحادثة حدثت قبل أن يتعلم الناس دفن الموتى وذلك في عهد آدم. انظر: تفسير الطبري: 6/ 189وأضواء البيان: 1/ 276/ 58 وقواعد الترجيح عند المفسرين للحربي: 1/ 311.(2/304)
ظهوره ورجحانه (1).
الثامنة: تقديم الحقيقة على المجاز، فإن الحقيقة أولى أن يحمل عليها اللفظ عند الأصولين، وقد يترجح المجاز إذا كثر استعماله حتى يكون الأغلب استعمالا من الحقيقة، ويسمى مجازا، والحقيقة مرجوحة (2).
__________
(1) قال الحربي: وقد اعتمد هذه القاعدة عامة علماء الأمة ومنهم الإمام الشافعي وابن جرير الطبري وابن عطية والفخر الرازي، وابن تيمية، والزركشي، وابن الوزير، والشنقيطي، وغير هؤلاء. وخالف القاعدة المرجئة والصاوي في حاشيته على الجلالين.
يقول الفخر الرازي: إن صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل باطل بإجماع المسلمين.
مفاتيح الغيب: 30/ 94، ويقول الزركشي: كل لفظ احتمل معنيين فهو قسمان:
أحدهما: أن يكون أحدهما أظهر من الآخر فيجب الحمل على الظاهر إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي دون الجلي فيحمل عليه. البرهان في علوم القرآن: 2/ 167.
وبمثل ذلك قال الشنقيطي. انظر أضواء البيان: 7/ 438، وأمثلة ذلك غالب الآيات التي ظاهرها واضح معلوم. انظر: قواعد الترجيح للحربي: 1/ 143.
(2) اعتبر هذه القاعدة أغلب العلماء القائلين بوقوع المجاز في القرآن، كالطبري وابن عبد البر، والرازي، والسيوطي وغيرهم.
يقول أبو حيان: والحمل على الحقيقة أولى من ادعاء المجاز. البحر المحيط: 2/ 237.
ومعلوم أن ابن تيمية لا يقول بالمجاز، فجميع النصوص عنده تحمل على الحقيقة، وكذا تلميذه ابن القيم. ومثال ذلك في قوله تعالى {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] يقول ابن العربي: قيل: هو حقيقة، وقيل: بل عبر به عن دمشق، أو جبالها، أو مسجدها. ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل.
انظر: أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 414ط محمد عطا 1408هـ وقواعد الترجيح(2/305)
وقد اختلف العلماء أيهما يقدّم، فمذهب أبي حنيفة تقديم الحقيقة لأنها الأصل ومذهب أبي يوسف تقديم المجاز الراجح لرجحانه، وقد يكون المجاز أفصح وأبرع فيكون أرجح (1).
التاسعة: تقديم العمومي على الخصوصي فإن العمومي أولى لأنه الأصل إلا أن يدل دليل على التخصيص (2).
العاشرة: تقديم الإطلاق على التقييد، إلا أن يدل دليل على التقييد (3).
__________
للحربي: 1/ 390.
(1) انظر: شرح الكوكب للفتوحي: 3/ 435والتعارض والترجيح للبرزنجي: 2/ 118.
(2) هذه القاعدة أجمع السلف عليها، وسار عليها عامة المفسرين، وهي من القواعد المشتهرة، ومن الذين قالوا بها الإمام الشافعي، والطبري، ومكي بن أبي طالب، وابن العربي، والآلوسي، وغيرهم.
قال مكي: اعلم أن القرآن إذا أتت اللفظة منه تعم ما تحتها حملت على ذلك من عمومها عند مالك وأصحابه حتى يأتي ما يخصصها فتحمل عليه. الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: 101ومثال هذه القاعدة ما ذكره ابن العربي في قوله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسََاجِدَ اللََّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] فقد ذكر عدة أقوال في تعيين المسجد، إلى أن ذكر الرابع من الأقوال، فقال: إنه كل مسجد، وهو الصحيح لأن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع، فتخصيصه ببعض المساجد، أو بعض الأزمنة محال. أحكام القرآن: 1/ 50وانظر: قواعد الترجيح للحربي: 2/ 538.
(3) يعرّف المطلق بأنه المتناول لواحد لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه.(2/306)
الحادية عشرة: تقديم الاستقلال على الإضمار إلا أن يدل دليل على الإضمار (1).
__________
ويعرف المقيد: بأنه المتناول لمعين، أو لغير معين، موصوف بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه. روضة الناظر مع شرحها لبدران: 2/ 191وهذه القاعدة شبيهة بقاعدة العموم والخصوص، وقد اعتمدها عامة أهل العلم، ومنهم الرازي، وابن جزي، والزركشي، وغيرهم.
قال الزركشي: إن وجد دليل على تقييد المطلق صير إليه، وإلا فلا، والمطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده لأن الله خاطبنا بلغة العرب، والضابط أن الله تعالى إذا حكم في شيء بصفة أو شرط ثم ورد حكم آخر مطلقا نظر، فإن لم يكن له أصل يرد إليه إلا ذلك الحكم المقيد وجب تقييده به، وإن كان له أصل غيره لم يكن رده إلى أحدهما بأولى من الآخر. البرهان: 2/ 15.
ومثاله قوله تعالى {وَمَنْ كََانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى ََ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيََّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] اختلف أهل العلم في لزوم التتابع في هذه الأيام. فقيل: يلزم، وقيل: لا يلزم. والراجح أن الله تعالى أطلق في وجوب صيام عدة ما أفطر ولم يقيدها بتتابع. ينظر: تفسير ابن كثير: 1/ 312وأحكام القرآن للكياهراسي: 1/ 66وقواعد الترجيح عند المفسرين للحربي: 2/ 564.
(1) يعرف الشيخ مناع القطان الاستقلال بقوله: إفادة المعنى المراد بالكلام الملفوظ به منفردا دون حاجة إلى تقدير. انظر قواعد الترجيح للحربي: 2/ 424نقلا عن فضيلة الشيخ القطان رحمه الله.
والإضمار: هو أن يخفي المتكلم في نفسه معنى ويريد من المخاطب أن يفهمه. قواعد الترجيح للحربي: 424نقلا عن الصواعق المرسلة: 2/ 714.(2/307)
الثانية عشرة: حمل الكلام على ترتيبه إلا أن يدل دليل على التقديم والتأخير (1).
__________
وعرفه الكفوي بقوله: الإضمار ما ترك ذكره من اللفظ وهو مراد بالنية. انظر:
الكليات: 870.
وقد اعتمد القاعدة المفسرون والأصوليون، كالطبري، والرازي، وابن تيمية، وابن القيم، والزركشي، يقول الشنقيطي: اللفظ إذا دار بين الاستقلال والافتقار إلى تقدير، فالاستقلال مقدم لأنه هو الأصل، إلا بدليل منفصل على لزوم تقدير المحذوف. أضواء البيان: 4/ 137ومن أمثلة هذه القاعدة ما ذكره ابن تيمية في معرض رده على من ادعى إضمار استفهام في قوله تعالى {وَمََا أَصََابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] قال ابن تيمية: وقد ظن بعض المتأخرين أن معناه: أفمن نفسك؟ وأنه استفهام إلى أن قال: إضمار الاستفهام إذا دل عليه الكلام لا يقتضي جواز إضماره في الخبر المخصوص من غير دلالة فإن هذا يناقض المقصود، ويستلزم أن كل من أراد أن ينفي ما أخبر الله به يقدر أن ينفيه بأن يقدر في خبره استفهاما، ويجعله استفهام إنكار. مجموع الفتاوى: 14/ 422421، وانظر: قواعد الترجيح للحربي: 2/ 423.
(1) نص المفسرون على هذه القاعدة واعتمدوها، منهم الطبري، وابن عطية، والزمخشري، وابن تيمية، وابن جزي والآلوسي وغيرهم. يقول أبو حيان: والتقديم والتأخير من ضرورات الشعر فينزه القرآن عن ذلك. البحر المحيط: 2/ 670.
ومثال القاعدة: قوله تعالى {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النََّاسِ عَلى ََ حَيََاةٍ} [البقرة: 96] قال الآلوسي في معرض رده على من قال بالتقديم والتأخير، قال: ولا أظن يقدم على مثل ذلك في كتاب الله من له أدنى ذوق لأنه وإن كان المعنى صحيحا في نفسه، إلا أن التركيب ينبو عنه، والفصاحة تأباه ولا ضرورة تدعو إليه، لا سيما على قول من يخص(2/308)
الثالثة عشرة: تقديم الحقيقة الشرعية على الحقيقة اللغوية (1).
الرابعة عشرة: تقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية (2).
__________
التقديم والتأخير بالضرورة. روح المعاني: 1/ 330وانظر: قواعد الترجيح للحربي:
2/ 461. والقواعد الاثنا عشر أوردها ابن جزي وهي في تفسيره: 1/ 1715.
(1) هذه القاعدة اعتمدها جمهور المفسرين والفقهاء وغيرهم، ومن المفسرين الذين اعتمدوها الفخر الرازي، وابن الوزير والآلوسي والشنقيطي وغيرهم.
يقول الشنقيطي: والمقرر في الأصول عند المالكية والحنابلة وجماعة من الشافعية أن النص إذا دار بين الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية حمل على الشرعية. أضواء البيان: 3/ 100.
وقد ضرب الشيخ الحربي مثال هذه القاعدة قوله تعالى {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لََا يُؤْتُونَ الزَّكََاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كََافِرُونَ} [فصلت: 76] فقد اختلف المفسرون في المراد من {لََا يُؤْتُونَ الزَّكََاةَ}، فقيل: لا يعطون لله الطاعة التي تطهرهم وتزكي أبدانهم ولا يوحدونه. وقيل: الذين لا يقرون بزكاة أموالهم التي فرضها الله فيها ولا يعطونها أهلها.
يقول الحربي: وهذا الأخير هو الذي ترجحه القاعدة وذلك أن من حمل معنى الزكاة على تزكية وتطهير أنفسهم بفعل الطاعة حملها على أصل المعنى اللغوي لها وهو النماء والزيادة والطهارة والصلاح. قواعد الترجيح: 1/ 411.
(2) هذه القاعدة قررها علماء الأصول، وقد اعتبرها من المفسرين الماوردي والزركشي والشنقيطي وغيرهم، يقول الزركشي: إذا دار اللفظ بين اللغوية والعرفية فالعرفية أولى لطريانها على اللغة. البرهان: 2/ 167، وضرب الشيخ الحربي مثال هذه القاعدة قوله تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقََاتُ لِلْفُقَرََاءِ وَالْمَسََاكِينِ وَالْعََامِلِينَ عَلَيْهََا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقََابِ وَالْغََارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللََّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] فقد اختلف المفسرون في المراد(2/309)
الخامسة عشرة: تقديم الحقيقة الشرعية على الحقيقة العرفية.
هذه القواعد الثلاثة ذكرها الماوردي في مقدمته، فقال في معرض حديثه عن الوجه الذي يرجع فيه إلى اجتهاد العلماء من تأويل القرآن أن اللفظ إذا احتمل معنيان أو أكثر وكانت المعاني جلية ظاهرة، واللفظ مستعمل فيها حقيقة فهذا على ضربين:
أحدهما: أن يختلف أصل الحقيقة فيها، فهذا ينقسم على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون أحد المعنيين مستعملا في اللغة، والآخر مستعملا في الشرع فيكون حمله على المعنى الشرعي أولى من حمله على المعنى اللغوي لأن الشرع ناقل.
والقسم الثاني: أن يكون أحد المعنيين مستعملا في اللغة، والآخر مستعملا في العرف فيكون حمله على المعنى العرفي أولى من حمله على معنى اللغة لأنه أقرب معهود.
والقسم الثالث: أن يكون أحد المعنيين مستعملا في الشرع والآخر
__________
من {فِي سَبِيلِ اللََّهِ}، فقيل: المراد بهم الغزاة، وقيل: الحجيج، وقيل: طلبة العلم.
والراجح أن المراد بهم الغزاة يقول ابن حجر في الفتح: قال ابن الجوزي: إذا أطلق ذكر سبيل الله فالمراد الجهاد وقال ابن دقيق العيد: {فِي سَبِيلِ اللََّهِ} العرف الأكثر فيه استعماله في الجهاد. فتح الباري: 6/ 56وأحكام القرآن لابن دقيق العيد: 2/ 247 وقواعد الترجيح للحربي: 1/ 420.(2/310)
مستعملا في العرف، فيكون حمله على معنى الشرع أولى من حمله على معنى العرف لأن الشرع ألزم (1).
__________
(1) انظر: تفسير الماوردي: 1/ 39.(2/311)
الموضوع الرابع عشر الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن
اهتم المفسرون بموضوع الأحرف السبعة اهتماما بالغا، وعالجوها معالجة جادة في مقدماتهم، وكان أكثر من توسع في ذلك شيخ المفسرين ابن جرير الطبري (1)، كما تناوله الماوردي من غير توسع مكتفيا بذكر بعض الأقوال (2)، أما ابن عطية فقد فصّل القول، وتعرض للآراء في الموضوع، وناقش ابن جرير في بعض أقواله (3)، وكذا القرطبي (4)، والخازن (5).
وفي هذا الموضوع عدة مسائل:
المسألة الأولى: ذكر بعض الآثار الواردة في نزول القرآن على سبع أحرف (6).
__________
(1) انظر: تفسيره: 1/ 6821.
(2) انظر: تفسيره: 1/ 28.
(3) انظر: تفسيره: 1/ 33.
(4) انظر: تفسيره: 1/ 5241.
(5) انظر: تفسيره: 1/ 11.
(6) الأحاديث والآثار الواردة في الأحرف السبعة خرجها الأئمة في كتبهم ومصنفاتهم، ولا تكاد تجد كتابا معتبرا في جمع الآثار إلا ذكر طرقا وروايات لحديث الأحرف السبعة،(2/312)
جاء النقل الصحيح بروايات كثيرة، من طرق مختلفة عن نزول القرآن على سبعة أحرف، روى ذلك عدد من الصحابة، ومن ذلك:
أخرج البخاري ومسلم والطبري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
سمعت هشام بن حكيم بن حزام (1) يقرأ سورة (الفرقان) في حياة رسول
__________
وقد أفرده بعض المتقدمين والمتأخرين بتآليف مستقلة، فكتب أبو عمرو الداني كتابه الأحرف السبعة، وكتب أبو شامة كتابه المرشد الوجيز، ومن المتأخرين كتب الشيخ مناع القطان كتابه نزول القرآن على سبعة أحرف، وكتب الدكتور عبد العزيز القارئ حديث الأحرف السبعة، كلها مطبوعة متداولة.
وقد روى حديث الأحرف السبعة جمع غفير من الصحابة ومن التابعين، بطرق وأسانيد كثيرة حتى اعتبره أبو عبيد من الأحاديث المتواترة، وقد ذكر السيوطي أن القاضي أبا يعلى أخرج في مسنده عن عثمان بن عفان أنه قال يوما وهو على المنبر: أذكّر الله رجلا سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف. لما قام، فقاموا حتى لم يحصوا، فشهدوا بذلك، فقال: وأنا أشهد معهم.
والحديث أورده الهيثمي في المجمع: 7/ 152وقال: رواه أبو يعلى في الكبير وفيه راو لم يسم. اهـ. وذكره البقاعي في مصاعد النظر: 1/ 404وعزاه إلى الحارث بن أسامة، وأبي يعلى في مسنديهما بسند منقطع. والسيوطي في الإتقان: 1/ 145وعزاه لأبي يعلى. وقد بحثت عنه في مسنده ولم أهتد إليه.
وانظر: حديث الأحرف السبعة للدكتور عبد العزيز القارئ: 52.
(1) هو هشام بن حكيم بن حزام بن خويلد الأسدي، أسلم يوم الفتح، ومات قبل أبيه حكيم، كان من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر. انظر: الاستيعاب لابن عبد البر:
3/ 593وتهذيب التهذيب لابن حجر: 11/ 37.(2/313)
الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتربصت حتى سلم فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرأنيها!؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله، اقرأ يا هشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا عمر. فقرأت القراءة التي أقرأني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه. (1)
وأخرج مسلم والطبري عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 24وأورده الخازن: 1/ 11وهو في الموطأ لمالك، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في القرآن: وأخرجه البخاري في صحيحه، كتاب:
فضائل القرآن، باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف: 6/ 100ومسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: بيان أن القرآن على سبعة أحرف: 1/ 560 وأحمد في المسند: 1/ 434024وأبو عمرو الداني في الأحرف السبعة: 11 والبيهقي في الشعب: (ح 2295/ 538) وانظر التمهيد لابن عبد البر: 8/ 272(2/314)
إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه.
فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرءا فحسّن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما، فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية (1)، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا، وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا، فقال لي: يا أبي! أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف واحد. فرددت إليه أن هوّن على أمتي. فرد إلي الثانية أن اقرأه على حرفين. فرددت إليه: أن هوّن على أمتي. فرد إلي الثالثة: أن اقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها. فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخّرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الناس كلهم حتى إبراهيم. (2)
وفي رواية عند الطبري: ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم أخسئ الشيطان عنه يا أبيّ، أتاني آت من ربي فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: رب خفّف عني. ثم أتاني الثانية فقال: إن الله يأمرك
__________
(1) قال الخازن: معناها وسوس لي الشيطان تكذيبا للنبوة أشد مما كنت عليه في الجاهلية لأنه كان في الجاهلية غافلا ومشككا فوسوس له الشيطان الجزم بالتكذيب. وقيل: اعترته حيرة ودهشة ونزغ الشيطان في نفسه تكذيبا لم يعتقده. تفسير الخازن: 1/ 13.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 36ومن طرق أخرى بنحو هذا الحديث. وفي بعض الطرق أن أبي قرأ «النحل». الطبري: 1/ 37وأورده الخازن: 1/ 13وهو عند مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: بيان أن القرآن على سبعة أحرف: 1/ 561وأحمد في المسند: 5/ 114.(2/315)
أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: رب خفف عن أمتي. ثم أتاني الثالثة فقال مثل ذلك، وقلت مثله. ثم أتاني الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل ردة مسألة. فقلت: يا رب
الحديث. (1)
وأخرج الطبري والبخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقرأني جبريل عليه السلام على حرف فراجعته فزادني، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف. (2)
قال ابن شهاب: بلغني أن تلك السبعة الأحرف، إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا، لا يختلف في حلال ولا حرام. (3)
وأخرج الطبري عن أبي بن كعب قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وهو
__________
(1) تفسير الطبري: 1/ 41وقال أحمد شاكر: هذا الإسناد نقله ابن كثير في الفضائل وقال:
صحيح. فضائل القرآن لابن كثير: 53وأشار إليه الحافظ ابن حجر في الفتح: 9/ 21.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 29وأورده الخازن في تفسيره: 1/ 13وهو عند عبد الرزاق في المصنف: 11/ 219وعند البخاري في صحيحه، كتاب: فضائل القرآن، باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف: 6/ 100وعند مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: بيان أن القرآن على سبعة أحرف: 1/ 561وأحمد في المسند: 1/ 299264وأبي عمرو الداني في الأحرف السبعة: 12.
(3) هذه الزيادة من الطبري: 1/ 29ومسلم: 1/ 561والبيهقي في الشعب:
(ح 2299/ 545).(2/316)
عند أضاة بني غفار فقال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فمن قرأ منها حرفا فهو كما قرأ. (1)
وفي رواية: فأتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمّتك القرآن على حرف. فقال صلى الله عليه وسلم: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك. قال: ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين. قال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنّ أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف. قال:
أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الرابعة: فقال:
إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيّما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا. (2)
وروى الترمذي عنه قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال: يا جبريل إني بعثت إلى أمة أمّيين منهم العجوز والشيخ الكبير، والغلام والجارية، والرجل الذي لا يقرأ كتابا قطّ، قال: يا محمد إن القرآن أنزل على
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 39وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح وأخرجه أبو عمرو الداني في الأحرف السبعة: 14وابن أبي شيبة في المصنف: 10/ 565وابن عبد البر في التمهيد: 8/ 288
(2) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 40وأورده القرطبي في تفسيره: 1/ 41وهو في صحيح مسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: بيان أن القرآن على سبعة أحرف: 1/ 562وأحمد في المسند: 5/ 127وابن أبي شيبة في المصنف: 10/ 516.(2/317)
سبع أحرف. قال الترمذي: هذا حديث صحيح. (1)
وأخرج الطبري عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال جبريل: اقرءوا القرآن على حرف. فقال ميكائيل:
استزده. فقال: على حرفين. حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف، فقال: كلها شاف كاف، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب، كقولك: هلمّ وتعال. (2)
وأخرج الطبري عن بسر بن سعيد (3): أن أبا جهيم الأنصاري (4)
__________
(1) ذكره القرطبي في تفسيره: 1/ 42وهو عند الترمذي في سننه، كتاب: القراءات، باب:
ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف: 5/ 194وأخرجه أحمد في المسند: 5/ 400 وأبو عمرو الداني في الأحرف السبعة: 18وأخرجه بنحوه الطبري في تفسيره: 1/ 35 وقال شاكر: صحيح الإسناد. وأورده الهيثمي في المجمع: 7/ 150ونسبه للبزار وقال:
وفيه عاصم بن بهدلة، وهو ثقة، وفيه كلام لا يضر، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 43وأحمد في المسند: 5/ 51و 5/ 41مختصرا وذكره الهيثمي في المجمع: 7/ 151وقال: رواه أحمد والطبراني بنحوه إلا أنه قال:
واذهب وأدبر، وفيه علي بن زيد بن جدعان وهو سيّئ الحفظ، وقد توبع وبقية رجال أحمد رجال الصحيح.
قلت: وأخرجه أبو عمرو الداني في الأحرف السبعة: 21وابن أبي شيبة في المصنف:
10/ 517وانظر التمهيد لابن عبد البر: 8/ 290.
(3) هو بسر بن سعيد، مولى بني الحضرمي، إمام قدوة، حدّث عن جماعة من الصحابة، وثقه ابن معين وغيره، توفي (100هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/ 594وتهذيب التهذيب لابن حجر: 1/ 437.
(4) هو سليمان بن الجهم بن أبي الجهم الأنصاري الحارثي، مولى البراء بن عازب، وثقه(2/318)
أخبره: أن رجلين اختلفا في آية من القرآن، فقال هذا: تلقّيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإن المراء فيه كفر. (1)
وأخرج الطبري في تفسيره عن أبي سلمة قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف، فالمراء في القرآن كفر ثلاث مرات فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه. (2)
__________
ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجة. انظر: تهذيب الكمال للمزي:
11/ 381وتهذيب التهذيب لابن حجر: 4/ 177.
(1) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 43وأحمد في المسند: 4/ 169وأبو عبيد في فضائل القرآن: (ح 718ص 305) والطحاوي في مشكل الآثار: 4/ 183وأبو عمرو الداني في الأحرف السبعة: 17بنحوه والبيهقي في الشعب: (ح 2293/ 534) وابن عبد البر في التمهيد: 8/ 282وابن أبي شيبة في المصنف: 10/ 528وأورده ابن كثير في فضائل القرآن: 59وقال: وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه يعني أصحاب الكتب الستة والهيثمي في المجمع: 7/ 151وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره: 1/ 21وأورده الماوردي: 1/ 28وأخرجه أحمد في المسند: 15/ 146، قال أحمد شاكر: إسناده صحيح. قال الهيثمي في المجمع: 7/ 151:
رواه أحمد بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح ورواه البزار بنحوه. وأورده ابن كثير في فضائل القرآن: 58وقال: ورواه النسائي عن قتيبة عن أبي ضمرة أنس بن عياض به. وهو عند البزار مختصرا. كشف الأستار عن زوائد البزار: 3/ 90.(2/319)
المسألة الثانية: المراد بالأحرف السبعة:
اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولا، ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان البستي (1)، ومن تلك الأقوال:
القول الأول: أن المراد سبع لغات متفقة المعاني مختلفة الألفاظ
كقولك:
هلمّ، وتعال، وأقبل، وإليّ، ونحوي، وقصدي، وقربي. (2)
وهو الذي عليه أكثر أهل العلم كسفيان بن عيينة، وعبد الله بن وهب (3)، والطحاوي (4) (5) وهو اختيار ابن جرير الطبري في مقدمته،
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 42والإتقان للسيوطي: 1/ 156. وقد ذكر هذا عن ابن حبان ابن النقيب في مقدمة تفسيره بواسطة الشرف المرسي، قال ابن حبان: فهذه خمسة وثلاثون قولا لأهل العلم واللغة في معنى إنزال القرآن على سبعة أحرف، وهي أقاويل يشبه بعضها بعضا، وكلها محتملة ويحتمل غيرها.
قال المرسي: أكثرها متداخلة ولا أدري مستندها ولا عن من نقلت إلى أن قال:
وأكثرها يعارض حديث عمر مع هشام. الإتقان للسيوطي: 1/ 141والزيادة والإحسان لابن عقيلة: 2/ 539.
(2) انظر: تفسير الطبري: 1/ 5747والماوردي: 1/ 29وابن عطية: 1/ 34 والقرطبي: 42، وفنون الأفنان لابن الجوزي: 206والبرهان للزركشي: 1/ 220.
(3) هو عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري، إمام حافظ لقي صغار التابعين، وكان من أوعية العلم وكنوز العمل، وثقه ابن عدي وابن معين، توفي (197هـ) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 9/ 223وتهذيب الكمال للمزي: 16/ 277.
(4) هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، إمام حافظ كبير، محدث الديار المصرية، وصاحب التصانيف العديدة، انتهت إليه رئاسة المذهب الحنفي توفي (321هـ).
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 15/ 27وشذرات الذهب: 2/ 288.
(5) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 42ومشكل الآثار للطحاوي: 4/ 190وهو منسوب لجمهور أهل الفقه والحديث، واختاره ابن عبد البر، ومن المعاصرين فضيلة الشيخ مناع القطان انظر: التمهيد لابن عبد البر: 8/ 284281ومناهل العرفان للزرقاني:
1/ 174ونزول القرآن على سبعة أحرف للشيخ مناع القطان: 72.(2/320)
واستدل أصحاب هذا الرأي بأدلة كثيرة منها الأحاديث السابقة في قصة عمر وهشام وقصة أبي ومنها أيضا:
1 - حديث أبي بكرة (1) الذي أخرجه الطبري عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال جبريل: اقرءوا القرآن على حرف. فقال ميكائيل: استزده. فقال: على حرفين. حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف، فقال: كلها شاف كاف، ما لم يختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب، كقولك: هلمّ وتعال. (2)
قال الطبري: أوضح نص هذا الخبر أن اختلاف الأحرف السبعة إنما
__________
(1) هو نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو، المعروف بأبي بكرة الثقفي، سمي بأبي بكرة عند ما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف وقال: أيما عبد نزل إلي فهو حر. فتدلى ببكرة فاشتهر بذلك. مات بالبصرة (53هـ). انظر: المعارف لابن قتيبة: 125والإصابة لابن حجر: 5/ 371.
(2) سبق تخريج الحديث قبل قليل.(2/321)
هو اختلاف ألفاظ، كقولك «هلم وتعال» باتفاق المعاني لا باختلاف معان موجبة اختلاف أحكام. (1)
قال الطحاوي: وأبين ما ذكر في ذلك أي في هذا الرأي حديث أبي بكرة. (2)
2 - ما أخرجه الطبري عن شقيق بن سلمة قال: قال عبد الله يعني ابن مسعود: إني قد سمعت إلى القراء فوجدتهم متقاربين، فاقرءوا كما علّمتم، وإياكم والتنطع، فإنما هو كقول أحدكم: هلمّ وتعال. (3)
3 - ما أخرجه الطبري عن الأعمش قال: قرأ أنس هذه الآية {إِنَّ نََاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6] فقال له بعض القوم: يا أبا حمزة، إنما هي {وَأَقْوَمُ}. فقال: أقوم، أصوب، أهيأ، واحد. (4)
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 1/ 50.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 42والتمهيد لابن عبد البر: 8/ 290.
(3) تفسير الطبري: 1/ 50، قال أحمد شاكر: وهذا الأثر عن ابن مسعود لم نجده في غير هذا الكتاب. وهو في التمهيد لابن عبد البر: 8/ 291وفي الاستذكار له: 8/ 42 والمصنف لابن أبي شيبة: 10/ 488.
(4) أخرجه الطبري: 1/ 52ط شاكر، و 29/ 131ط الحلبي من عدة طرق وأورده ابن كثير في تفسيره: 8/ 278ونقله السيوطي في الدر المنثور: 6/ 278، ونسبه لأبي يعلى، ومحمد بن نصر، وابن الأنباري في المصاحف.(2/322)
4 - ما روي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونََا}
[الحديد: 13]: للذين آمنوا أمهلونا، للذين آمنوا أخّرونا، للذين آمنوا ارقبونا. (1)
وما روي عنه أنه كان يقرأ {كُلَّمََا أَضََاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة: 20] مروا فيه، سعوا فيه. (2) وغير ذلك من الأدلة التي تبين أن الغاية التي لها أنزل القرآن على سبعة أحرف هي التيسير على الناس لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم، ولهذا يرى أصحاب هذا الرأي أن الأحرف أزيلت حين رفعت المشقة عن الناس بالتعلم، يقول ابن عبد البر: إن تلك السبعة الأحرف إنما كان في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك
__________
وذكره الهيثمي في المجمع: 7/ 156وزاد نسبته للبزار، وقال: رجال أبي يعلى رجال الصحيح، ورجال البزار ثقات. وهو عند البزار كما في كشف الأستار: 3/ 92قال البزار: لا نعلم رواه عن الأعمش إلا الحماني، وإنما ذكرت هذا لأبين أن الأعمش سمع من أنس.
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 42وهو في المرشد الوجيز: 104والتمهيد لابن عبد البر: 8/ 291والاستذكار له: 8/ 42والتذكار للقرطبي: 32وفضائل القرآن لابن كثير: 68والإتقان للسيوطي: 1/ 149والزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي:
2/ 551تحقيق محمد صفاء حفي.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 42وهو في المرشد الوجيز: 104والتمهيد لابن عبد البر: 8/ 291والاستذكار له: 8/ 42والتذكار للقرطبي: 32وفضائل القرآن لابن كثير: 68والزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي: 2/ 551تحقيق محمد صفاء حفي.(2/323)
الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد. (1)
ويتساءل الطبري ليزيل الإشكال الذي قد يرد على اختياره: ما بال الأحرف الأخر الستة غير موجودة وقد أقرأهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وأمر بالقراءة بهن، وأنزلهن الله من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم، أنسخت فرفعت؟! فما الدلالة على نسخها ورفعها؟ أم نسيتهن الأمة فذلك تضييع ما قد أمروا بحفظه؟ أم ما القصة في ذلك؟
ويجيب عن تساؤله قائلا: إنها لم تنسخ فترفع، ولا ضيعتها الأمة وهي مأمورة بحفظها، ولكن الأمة أمرت بحفظ القرآن، وخيرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت.
ويضرب لذلك مثالا فيقول: كما أمرت إذا هي حنثت في يمين وهي موسرة أن تكفّر بأي الكفارات الثلاث شاءت إما بعتق، أو إطعام، أو كسوة، فلو أجمع جميعها على التكفير بواحدة من الكفارات الثلاث دون حظرها التكفير بأي الثلاث شاء المكفّر كانت مصيبة حكم الله.
قال: فكذلك الأمة أمرت بحفظ القرآن وقراءته، وخيّرت في قراءته بأي الأحرف السبعة شاءت، فرأت لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد قراءته بحرف واحد، ورفض القراءة بالأحرف الستة
__________
(1) القرطبي: 1/ 43والتمهيد لابن عبد البر: 8/ 294.(2/324)
الباقية، ولم تحظر قراءته بجميع حروفه على قارئه بما أذن له في قراءته به (1).
وبين أن العلة التي أوجبت الثبات على حرف واحد هي ما حدث لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاختلاف في القراءة في اليمامة وأرمينية وغيرها من المواقع، وحينئذ رأى عثمان جمع الأمة على مصحف واحد رحمة بها ورأفة بحالها، وخوفا من الاختلاف، فحرق ما سواه من المصاحف واستوسقت الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت فيما فعل الهداية والرشد، وتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها، طاعة منها له حتى درست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها، وتتابع المسلمون على رفض القراءة بها من غير جحود منها صحتها
__________
(1) يعلق الأستاذ عبد العزيز القاري في بحثه القيم حديث الأحرف السبعة: 76على مقولة الطبري هذه بقوله: إن التخيير كان في القراءة بواحد من تلك الأحرف حسبما يتيسر للقارئ، ويسهل عليه ولم يكن التخيير في نقل الأحرف، بل كانت الأمة ملزمة بنقلها جميعا لأن كل حرف منها بمنزلة الآية. ويضرب لذلك مثلا فيقول: هناك فرق واضح بين أن يكون المكلف مخيرا بين الأخذ برخصة الفطر في السفر، والعزيمة على الصيام، وبين أن يلغي هذه الرخصة فيحرم على نفسه وعلى الأمة الفطر، ويحمل الناس على الصيام. اهـ
وما قاله الأستاذ القاري هو الحق، فلسيدنا عثمان رضي الله عنه وللصحابة رضوان الله عليهم أن يقرءوا بأي الحروف شاءوا، ويتركوا منها ما شاءوا غير أنه ليس لهم أن يلزموا الأمة بحرف لم يلزمهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أن يرفعوا رخصة قدمها الشارع لم يرفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من بينهم.(2/325)
وصحة شيء منها.
أما كيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بقراءتها؟
فالجواب عند الطبري: أن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة، لأن القراءة لو كانت فرضا عليهم لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الأحرف السبعة عند من تقوم بنقله الحجة، ويقطع خبره العذر، ويزيل الشك من قرأة الأمة إلى أن قال: إن في تركهم نقل ذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا مخيّرين في القراءة. (1)
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 1/ 6458.
قلت: لقد رد المهتمون بحديث الأحرف السبعة، على ما ذهب إليه ابن جرير ومن تبعه ورأى مثل رأيه من أهل العلم، وذكروا في إبطال مذهبهم أوجها عديدة نذكر منها:
أأن ما ذكر في الآثار التي استشهد بها أصحاب هذا الرأي ليس من قبيل حصر الأحرف السبعة فيها، وفي نوعها، بل هو كما قال ابن عبد البر من قبيل ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها.
ب أن الاختلاف بين العرب إنما يقع غالبا في اللهجات من إدغام وإظهار، وفتح وإمالة، وهمز وتخفيف، ونحو ذلك إذ المشقة عليها في هذا الباب أعظم من المشقة في استعمال هلمّ مكان أقبل وتعال.
ج أن أصحاب هذا المذهب كما يقول الزرقاني أوقعوا أنفسهم في مأزق ضيق، وقالوا أمورا خطيرة.(2/326)
__________
فحين صرحوا بأن المتبقي من الحروف هو حرف واحد، وأن الحروف الستة الأخر ذهبت واندرست لم يثبتوا لضياعها نسخا ولا رفعا. وحين ادعوا إجماع الأمة على أن تثبت على حرف واحد، وأن ترفض القراءة بجميع ما عداه من الأحرف الستة، لم يقدموا دليلا على هذا الإجماع. ولو كان هناك لما اختلف العلماء في معنى الأحرف على أكثر من أربعين قولا، وأكثرهم رغم هذا الاختلاف يؤكد أن الأحرف السبعة باقية.
وحين قالوا: إن استنساخ المصاحف زمن عثمان كان إجماعا من الأمة على ترك الحروف الستة، والاقتصار على حرف واحد وهو ما نسخ عثمان المصاحف عليه، حين قالوا ذلك أوقعوا أنفسهم في ورطة ثالثة على حد تعبير الأستاذ الزرقاني، لكون ما احتجوا به أمر باطل، فالناس تنازعوا زمن النبي صلى الله عليه وسلم في قراءات القرآن على حروف مختلفة، وقررها الرسول صلى الله عليه وسلم فكان حلا لمشكلتهم، وأفهمهم أن هذا الاختلاف رحمة من الله، وهو صريح قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن أمتي لا تطيق. فكيف يسوغ للصحابة وهم خير القرون أن يغلقوا باب الرحمة والتخفيف الذي فتحه الله للأمة؟!
ثم كيف ينسخ عثمان رضي الله عنه والصحابة بعض القرآن، إذ أن كل حرف من الأحرف السبعة المنزلة هو قرآن، وليس لأحد إلغاء شيء من القرآن بغير نص صريح من الشارع عز وجل.
إن موافقة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضياع ستة أحرف نزل عليها القرآن أمر لا يقبل في المنطق السليم، وكيف يقبل ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرها بقوله وعمله، وقال: لا يجوز لأحد أيا كان أن يمنع أحدا من القراءة بحرف من السبعة.
أما ما فعله سيدنا عثمان رضي الله عنه فهو أنه نسخ مصحفا أو مصاحف من الصحف التي كانت في عهدة أبي بكر رضي الله عنه وكان مشتملا على الأحرف السبعة، ولم يثبت أن الذين نسخوا المصاحف لعثمان تركوا شيئا من صحف أبي بكر، ولو كانوا فعلوا ذلك لنقل إلينا بالتواتر، إذ دواعي التواتر موجودة. وفي هذا يقول ابن الجزري: ذهب جماعات من(2/327)
__________
الفقهاء والقراء والمتكلمين إلى أن المصاحف العثمانية مشتملة على الأحرف السبعة، وبنوا على ذلك أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الحروف السبعة التي نزل القرآن بها، وقد أجمع الصحابة على نقل المصاحف العثمانية من الصحف التي كتبها أبو بكر وعمر، وأجمعوا على ترك ما سوى ذلك. قال هؤلاء: ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة، ولا أن يجمعوا على ترك شيء من القرآن.
ومن الرد على هذا الاتجاه أن يقال: كيف يغفل الحكيم الأمين عثمان عن العلاج وهو يعلم علاج مثل هذا النوع من الاختلاف من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد سبق أن وضع صلى الله عليه وسلم الدواء الناجع حين جمع الصحابة على سبعة أحرف لا منعهم عنها.
أضف إلى هذا أن الصحابة حفظوا للتاريخ آيات نسخ رسمها وتلاوتها، ونسخت أحكامها جميعا، وحفظوا قراءات شاذة، وكذا أحاديث منسوخة، ونقلت كلها لنا، فكيف لم تسمح نفس عثمان الكريمة رضي الله عنه بإبقاء الستة الأحرف الباقية للتاريخ لا للقراءة؟
إن الأمر بعيد حقا.
د إن القائل بهذا القول قد ألغى بقوله هذا الرخصة والحكمة من إنزال القرآن على سبعة أحرف، وهي أن من الأمة من لا يطيق، وهي لا تزال قائمة بل الحاجة هي أشد وضوحا بعد دخول الناس من مختلف الألسنة والأجناس في الإسلام، وكما يقول الأستاذ عبد العزيز القاري: أفيشق الأمر على القرشي والهذلي وهما أبناء لغة واحدة، ولا يشق على الأعاجم؟!
وأيضا فإن العجوز، والصبي، والجارية، والشيخ الفاني، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط، لا زالوا في الأمة، وهم في حاجة كما كانوا في حاجة.
انظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري: 1/ 31ومناهل العرفان للزرقاني:
1/ 159157وحديث الأحرف السبعة للدكتور عبد العزيز القاري: 7675.(2/328)
القول الثاني: أن الأحرف السبعة هي سبع لغات من لغات العرب نزل عليها القرآن. (1)
قاله أبو عبيد القاسم بن سلام، واختاره ابن عطية، وقال:
مال إليه كثير من أهل العلم. (2)
فالقرآن في جملته لا تخرج كلماته عن سبع لغات لسبع قبائل، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، ولكن هذه اللغات السبع متفرقة في القرآن. قال الخطابي: على أن في القرآن ما قد قرئ بسبعة أوجه، وهو قوله {وَعَبَدَ الطََّاغُوتَ} [المائدة: 60] وقوله {أَرْسِلْهُ مَعَنََا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] (3).
__________
(1) انظر: تفسير الماوردي: 1/ 30وابن عطية: 1/ 41والقرطبي: 1/ 43والخازن:
1/ 12وانظر المرشد الوجيز لأبي شامة: 91.
(2) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 41وفضائل القرآن لأبي عبيد: 328301وذكره ابن عبد البر في التمهيد: 8/ 276وهو مذهب الأزهري في التهذيب: (حرف):
5/ 14وصححه البيهقي في الشعب: 2/ 545وانظر: الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها للعتر: 170.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 43ولم أعثر على قول الخطابي في معالم السنن له. وهو في المرشد الوجيز لأبي شامة: 97والبرهان للزركشي: 1/ 212وفتح الباري لابن حجر 9/ 23والإتقان للسيوطي: 1/ 138ط أبو الفضل.
وقوله تعالى {عَبَدَ الطََّاغُوتَ} فقد قرأ حمزة «عبد الطاغوت»، وقرأ الحسن «عبد الطاغوت»، وابن مسعود «عبد الطاغوت»، والشنبوذي «عبد الطاغوت» جمع عبيد، وقرأ أبيّ «وعبدوا الطاغوت»، وقرأ عبد الله في رواية «وعبدت الطاغوت» مبنيا للمفعول.
والباقون {عَبَدَ الطََّاغُوتَ}. انظر: الحجة لابن زنجلة: 231وتفسير البحر المحيط(2/329)
يقول ابن عطية: معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم «أنزل القرآن على سبعة أحرف» أي فيه عبارات سبع قبائل، بلغة جملتها نزل، فيعبر عن المعنى فيه بعبارة قريش، ومرة بعبارة هذيل، ومرة بغير ذلك، بحسب الأفصح والأوجز في اللفظة. (1)
واختلف أهل العلم في تعيين السبعة التي قد تكون مراده صلى الله عليه وسلم، فمال الأكثر إلى أن أصل ذلك وقاعدته هي قريش، فإن عثمان قال للرهط الذي كتب الصحف: ما اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش، فإنه نزل بلغتهم.
قال الباقلاني: يريد معظمه وأكثره، ولم تقم دلالة قاطعة على أن القرآن بأسره منزل بلغة قريش فقط، إذ فيه كلمات وحروف وهي خلاف لغة قريش، وقد قال قال تعالى {إِنََّا جَعَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] ولم
__________
لأبي حيان: 4/ 307وإتحاف فضلاء البشر للبنا: 1/ 539.
وقوله تعالى {أَرْسِلْهُ مَعَنََا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} قرأ نافع وأبو جعفر بالياء من تحت فيهما إسنادا ليوسف، وكسر عين يرتع من غير جزم «يرتع ويلعب»، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف بالياء فيهما لكن مع سكون العين «يرتع ويلعب»، وقرأ ابن عامر بالنون فيهما وسكون العين «نرتع ونلعب» مضارع رتع، وقرأ البزي بالنون فيهما وكسر العين من غير ياء «نرتع ونلعب»، وقرأ قنبل كذلك إلا أنه أثبت الياء من طريق ابن شنبوذ وصلا ووقفا، وعن ابن محيصن «يرتع» بضم الياء وكسر التاء وسكون العين، انظر: حجة القراءات لابن زنجلة: 356وإتحاف فضلاء البشر: 2/ 142.
(1) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 44.(2/330)
يقل قرشيا واسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولا واحدا. (1)
وقال ابن عبد البر: قول من قال: إن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي في الأغلب والله أعلم لأن غير لغة قريش موجودة في صحيح القراءات من تحقيق الهمزات ونحوها وقريش لا تهمز. (2)
ويلي قريش بنو سعد بن بكر، ويعلل ابن عطية ذلك بقوله: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرشي، واسترضع في بني سعد، ونشأ فيهم، ثم ترعرع وعقّت تمائمه وهو يخالط في اللسان كنانة، وهذيلا وثقيفا وخزاعة وأسدا وضبة، وألفافها لقربهم من مكة وتكرارهم عليها.
قال: ثم بعد هذا تميما وقيسا ومن انضاف إليه من وسط جزيرة العرب.
يقول ثابت بن قاسم: لو قلنا من هذه الأحرف لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتميم، ومنها لضبة وألفافها، ومنها لقيس، لكان قد أتى على قبائل مضر في مراتب سبعة تستوفي للغات التي نزل بها القرآن. (3) لأن هذه الجملة هي التي انتهت إليها الفصاحة، وسلمت لغاتها من الدخل.
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 44ونكت الانتصار للباقلاني: 385.
(2) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 44والتمهيد لابن عبد البر: 8/ 280.
(3) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 42.(2/331)
وقد ذكر أبو عبيد وأبو العباس المبرد أن عرب اليمن من القبائل التي نزل القرآن بلسانها. واستبعد ابن عطية ذلك وقال: عندي إنما هو فيما استعملته عرب الحجاز من لغة اليمن. (1)
ورغم أن ابن جرير لا يرى فائدة في تعيين الألسن الستة التي نزل عليها القرآن تبعا لرأيه في الأحرف السبعة، غير أنه ذكر عن ابن عباس قوله في تعيينها أن خمسة منها لعجز هوازن، وهم سعد ابن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، واثنين منها لقريش وخزاعة. وقال: هي ليست من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله. (2)
ومن أدلة هذا الفريق: 1ما حدث لابن عباس في فهم قوله تعالى {فََاطِرِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} * [فاطر: 1]، حيث أن «فطر» معناها عند غير قريش: ابتدأ خلق الشيء وعمله. وهي بغير لغة قريش، ولم تتجه لابن عباس حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها. قال ابن عباس: ففهمت حينئذ موقع قوله تعالى {فََاطِرِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} (3).
__________
(1) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 43وفضائل القرآن لأبي عبيد: 204ط غاوجي.
(2) انظر: تفسير ابن جرير: 1/ 66.
(3) أخرجه أبو عبيد في فضائله: 206ط غاوجي وأورده ابن كثير في فضائل القرآن: 62 وقال: إسناده جيد.(2/332)
2 - ما روي عن ابن عباس أنه قال: ما كنت أدري معنى قوله {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنََا وَبَيْنَ قَوْمِنََا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89] حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك. أي: أحاكمك (1).
3 - ما ورد أن عمر بن الخطاب كان لا يفهم معنى قوله تعالى {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى ََ تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] فوقف به فتى فقال: إن أبي يتخوفني حقي. فقال عمر: الله أكبر، أو يأخذهم على تخوف، أي على تنقّص لهم.
وغير ذلك من الأدلة التي تثبت أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات لسبع قبائل. (2)
واعترض أبو بكر الباقلاني على هذا الرأي وقال: هذا باطل بدليل أن لغة عمر بن الخطاب، وأبي بن كعب، وهشام بن حكيم، وابن مسعود، واحدة، وقراءتهم كانت مختلفة، وخرجوا فيها إلى المناكرة، فلو كان تفسير الحديث باللغات صحيحا ما اختلف المذكورون، ولأنهم اختلفوا دل ذلك على أن المقصود أمر آخر. (3)
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 8/ 529و 10/ 474وأورده السيوطي في الدر المنثور: 3/ 103وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في الوقف والابتداء، والبيهقي في الأسماء والصفات.
(2) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 44وتفسير القرطبي: 1/ 44.
(3) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 39ونكت الانتصار للباقلاني: 119.(2/333)
قال ابن عطية: وإطلاقه البطلان على القول الذي حكاه فيه نظر
لأن ما استعملته قريش ومنهم عمر وهشام، وما استعملته الأنصار ومنهم أبيّ، وما استعملته هذيل ومنهم ابن مسعود قد يختلف، فليست لغتهم واحدة في كل شيء، وعلى فرض أن جميعهم من قبيلة واحدة فإن اختلافهم حجة على من قال: إن القرآن أنزل على سبع لغات لأن مناكرتهم لم تكن لأن المنكر سمع ما ليس في لغته فأنكره، وإنما كانت لأنه سمع خلاف ما أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
__________
(1) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 40.
وقد رد أهل العلم على من ذهب في تفسير الأحرف السبعة بسبع لغات من لغات العرب، ومن ردودهم:
أأن القائل بهذا الرأي يعارض الهدف الذي نزل القرآن على سبعة أحرف لأجله، وهو التسهيل على الأمة، لكونه يستلزم أن كل شخص لا يمكنه أن يقرأ إلا البعض الذي نزل بلغته دون الذي نزل بلغة غيره.
ب أن هذا القول مخالف للاختلاف الذي صورته الروايات بين الصحابة في القراءة فالمقروء فيها كان واحدا كسورة الفرقان وغيرها، والرسول صلى الله عليه وسلم صوب قراءة كل من المختلفين، وكلاهما قرشي، ومحال أن يقرئ الرسول صلى الله عليه وسلم كل واحد من عمر وهشام بغير ما يعرفه من لغته.
ج أن الصحابة قد اختلفوا في تعيين اللغات وحصرها، ولو كان المراد ما قالوه لما خفي على الصحابة تعيينها، وهم قد أقرئوا تلك الأحرف وقرءوها.
د أن غالبية العرب لا تمزج لغات بعضها ببعض، يقول ابن عبد البر: وأنكروا أي(2/334)
القول الثالث: أن الأحرف السبعة هي سبع لغات لمضر خاصة:
ذكره القرطبي (1)، وقال: قاله قوم واحتجوا بقول عثمان: نزل القرآن بلغة مضر.
__________
أكثر أهل العلم على من قال إنها لغات لأن العرب لا تركب لغة بعضها على بعضا.
هـ أن الآثار الواردة في تعيين اللغات عن ابن عباس وغيره لا تقوم بها حجة لضعف إسنادها.
وأن ما جاء في الصحيحين عن عثمان يرد هذا القول، فقد ثبت أن عثمان رضي الله عنه قال لكتّاب المصحف: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلغة قريش، فإنه نزل بلسانهم. كما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لابن مسعود: إن القرآن أنزل بلغة قريش فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل [إيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري: 1/ 13والتمهيد لابن عبد البر: 8/ 278].
قال الطحاوي: إن اللسان الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم هو لسان قومه وهم قريش لا ما سواه من الألسنة العربية وغيرها، وكان قومه المرادون بذلك وهم قريش لا من سواهم.
ويقول عبد العزيز القاري: فهذان الأثران صحيحان في أن القرآن ليست فيه إلا لغة واحدة، لغة قريش ولسانها.
انظر: مشكل الآثار للطحاوي: 4/ 185المرشد الوجيز لأبي شامة: 102والتمهيد لابن عبد البر: 2/ 281والبرهان للزركشي: 1/ 220ومناهل العرفان للزرقاني:
1/ 181وحديث الأحرف السبعة للقاري: 7472.
(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 45والخازن: 1/ 12وانظر التمهيد لابن عبد البر:
8/ 277.(2/335)
وبرغبة ابن مسعود في اختيار كتّاب المصاحف من مضر (1). وقالوا: جائز أن يكون منها لقريش ومنها لكنانة ومنها لأسد ومنها لهذيل، ومنها لتميم، ومنها لضبة، ومنها لقيس. وقالوا: هذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات على هذه المراتب.
وأنكر آخرون أن تكون اللغات كلها في مضر، وقالوا: إن في قبائل مضر شواذ ينزّه القرآن عنها ولا يجوز أن يقرأ بها، مثل كشكشة قيس وتمتمة تميم، فأما كشكشة قيس فإنهم يجعلون كاف المؤنث شينا، فيقولون في {جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24] (جعل ربّش تحتش سريا)، وأما تمتمة تميم (2) فيقولون في الناس: النات.
وهذه لغات يرغب عن القرآن بها، ولا يحفظ عن السلف فيها شيء. (3)
ورد القائلون فقالوا: إن إبدال الهمزة عينا، وإبدال حروف الحلق بعضها من بعض فمشهور عن الفصحاء، وقد قرأ به الجلة، ومنه قراءة ابن
__________
(1) انظر: نكت الانتصار للباقلاني: 387والاستذكار لابن عبد البر: 8/ 37.
(2) في التمهيد لابن عبد البر: عنعنة تميم، ومثاله {فَعَسَى اللََّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ}، قال:
وبعضهم يبدل السين تاء فيقول في الناس: النات. التمهيد: 8/ 277.
(3) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 45.
ويرد على هذا القول ما ورد على القول السابق، بل إن هذا أدني إلى البطلان لأنه أخص من الذي قبله كما يقول الزرقاني. انظر: مناهل العرفان: 1/ 182.(2/336)
مسعود «ليسجننه عتى حين»، ويقول ذو الرمة (1):
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولونك إلا عنّها غير عاطل
يريد إلا أنها غير (2).
القول الرابع: أن المراد بالأحرف السبعة وجوه التغاير السبعة التي وقع فيه الاختلاف.
وهذا مذهب القاضي أبي بكر ابن الطيب الباقلاني صاحب الانتصار، وحكاه ثابت بن قاسم صاحب الدلائل عن بعض العلماء (3).
__________
(1) هو غيلان بن عقبة بن بهيس من بني صعب بن مالك، شاعر مجيد، حدث عن ابن عباس، وذو الرمة لقب، والرمة بضم الراء وتشديد الميم القطعة من الحبل الخلق، مات بأصبهان كهلا سنة (117هـ). انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/ 267 وخزانة الأدب للبغدادي: 1/ 106.
(2) انظر تفسير القرطبي: 1/ 45والتمهيد لابن عبد البر: 8/ 278.
وقد أخرج ابن عبد البر بسنده عن كعب الأنصاري قال: إنه كان عند عمر بن الخطاب فقرأ رجل «من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه عتى حين» فقال عمر: من أقرأكها؟ قال:
أقرأنيها ابن مسعود. فقال عمر حتى حين. وكتب إلى ابن مسعود: أما بعد: فإن الله أنزل القرآن بلسان قريش فإذا أتاك كتابي هذا فأقرأ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام. قال ابن عبد البر: ويحتمل أن يكون هذا من عمر على سبيل الاختيار لا أن ما قرأ به ابن مسعود لا يجوز. التمهيد: 8/ 278.
(3) وما ذكره الباقلاني هو ما قاله ابن قتيبة وإلى نحوه ذهب ابن الجزري والرازي وغيرهم، وقال ابن عبد البر وإن لم ينتصر له: هذا وجه حسن من وجوه معنى الحديث. اهـ، واختاره من المتأخرين الأستاذ الزرقاني وقال: لا فرق بين آرائهم إلا اختلاف في(2/337)
قال القاضي أبو بكر: تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعة:
1 - منها ما تتغير حركته، ولا يزول معناه ولا صورته، مثل: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] و (أطهر) (1).
2 - ومنها ما لا تتغير صورته ويتغير معناه بالإعراب، مثل {رَبَّنََا بََاعِدْ بَيْنَ أَسْفََارِنََا} [سبأ: 19] و (باعد) (2).
3 - ومنها ما تبقى صورته ويتغير معناه باختلاف الحروف، مثل {نُنْشِزُهََا} [البقرة: 259] و «ننشرها» (3).
__________
طرق التتبع والاستقصاء والتعبير والأداء. انظر: نكت الانتصار للباقلاني: 114 و 120وفنون الأفنان لابن الجوزي: 209والتمهيد لابن عبد البر: 8/ 295 والبرهان للزركشي: 1/ 214والنشر لابن الجزري: 1/ 27والإتقان للسيوطي:
1/ 146ومناهل العرفان للزرقاني: 1/ 158.
(1) قرأ بالنصب سعيد بن جبير والحسن ومحمد بن مروان وعيسى الثقفي وابن أبي إسحاق.
انظر: المحتسب لابن جني: 1/ 325ومختصر في شواذ القرآن لابن خالويه: 60.
(2) قال الفراء: قوله {رَبَّنََا بََاعِدْ بَيْنَ أَسْفََارِنََا} قراءة العوام، وتقرأ على الخبر «ربنا بعّد» و «باعد»، وعلى الدعاء «ربنا بعّد» وتقرأ «بعد» معاني القراء للفراء: 2/ 359 والمحتسب لابن جني: 2/ 189والتبيان في إعراب القرآن للعكبري: 2/ 1067.
(3) قرأ بالزاي المنقوطة ابن عامر والكوفيون، وقرأ الباقون بالراء المهملة. انظر: الكشف لمكي: 1/ 310والنشر لابن الجزري: 2/ 230والتبيان للعكبري: 1/ 210(2/338)
4 - ومنها ما تتغير صورته ويبقى معناه، مثل {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}
[القارعة: 5] و (كالصوف المنفوش) (1).
5 - ومنها ما تتغير صورته ومعناه، مثل {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 29] و (طلح منضود) (2).
6 - ومنها بالتقديم والتأخير، مثل {وَجََاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ}
[ق: 19] و (سكرة الحق بالموت) (3).
7 - ومنها بالزيادة والنقصان، مثل {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص:
23] (تسع وتسعون نعجة أنثى). (4) (5)
__________
(1) انظر: مختصر في شواذ القرآن لابن خالويه: 178، وقد أخرج أبو عبيد في فضائل القرآن عن أبي عثمان الأموي قال: سمعت سعيد بن جبير يقرأ كذلك. فضائل القرآن: (ح 282682)، وأخرجه الطبري في تفسيره: 30/ 281.
(2) القراءة بالعين هي قراءة علي بن أبي طالب، انظر: مختصر في شواذ القرآن لابن خالويه: 151.
(3) قرأ أبو بكر وابن مسعود رضي الله عنهما «سكرة الحق بالموت» وتعليل ذلك أن السكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين. قال القرطبي: وقد روي عن أبي بكر روايتان إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل، والأخرى مرفوضة تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط من بعض من نقل الحديث. تفسير القرطبي:
17/ 12، وانظر زاد المسير لابن الجوزي: 8/ 12.
(4) وهذه القراءة منسوبة إلى ابن مسعود. انظر: مختصر في شواذ القرآن لابن خالويه: 130وقد ذكر ابن عبد البر أن الحجاج كان يعاقب على قراءة ابن مسعود هذه ويقول:
كان ابن مسعود يرى أن النعجة تكون ذكرا. التمهيد: 8/ 298.
(5) انظر: تفسير ابن عطية: 1/ 36وتفسير القرطبي: 1/ 45.
وقد رد العلماء على القائلين بهذا الرأي من عدة أوجه:(2/339)
__________
أأنه يلزم حصر هذه الأنواع وتعيينها، والقائلون به مختلفون في ذلك.
ب أن الحكمة من إنزال القرآن على سبعة هي رفع المشقة عن طوائف من الأمة يشق عليها التعليم، ويعسر عليها التحول عما ألفته ألسنتها، والعرب على وجه الخصوص لم يكونوا يحسنون الكتابة ولا القراءة، وهذه الأنواع التي ذكروها معظمها متعلق بطريقة الخط واختلاف صورة الكلمة في الكتابة كما أن جميعها لا يتسنى إدراكها واستنباطها إلا بعد بحث وتعمق واستقراء من البارعين في القراءة والكتابة، وهو أمر بعيد عن الذين نزلت الأحرف السبعة لرفع المشقة عنهم من الأميين وغيرهم.
ج أن القائلين بهذا الرأي لم يذكروا ضمن الأنواع السبعة اختلاف اللهجات عدا الرازي من التفخيم والترقيق والفتح والإمالة والإظهار والإدغام وغيرها، ومعظم أوجه الاختلاف هي من هذا النوع.
د أصحاب هذا المذهب يرون أن المصاحف العثمانية اشتملت على جميع الأحرف السبعة، غير أن مما جاء في الأوجه السبعة عندهم ما لا يشتمل عليه المصحف العثماني مثل التقديم والتأخير، والزيادة والنقصان.
هـ قال عبد الرحمن الرازي: لو كان ما ذكره ابن قتيبة ترتيبا لكان بعض ذلك منفيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما ذكره مما يتعلق بالكتابة. اهـ لكونه صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب.
انظر: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف للرازي»: 34، نقلا عن الأحرف السبعة للعتر: 158ونزول القرآن على سبعة أحرف لمناع القطان: 8881(2/340)