المرتبة الثانية من المراسيم الّتي تكتب بحاضرة دمشق لأرباب السيوف، ما يكتب في قطع الثلث، وفيها وظيفتان 31 الوظيفة الأولى شدّ الدواوين بدمشق 31 الوظيفة الثانية شدّ المهمّات 33
الصنف الثاني من الوظائف بدمشق الوظائف الدينية، وجميع ما يكتب فيها تواقيع، وهي على مرتبتين 36 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العاليّ» بالياء، مفتتحا «بالحمد لله» 36 المرتبة الثانية من تواقيع الوظائف الدينية بدمشق، ما يكتب في قطع الثلث مفتتحا ب «الحمد لله» إن علت رتبة المتولي، أو «أما بعد حمد الله» إن انحطّت رتبته عن ذلك ب «المجلس السامي» وفيها وظائف 57 الوظيفة الأولى قضاء العسكر 57 الوظيفة الثانية إفتاء دار العدل بدمشق 57 الوظيفة الثالثة الحسبة 58 الوظيفة الرابعة وكالة بيت المال المعمور 63 الوظيفة الخامسة الخطابة 69 الوظيفة السادسة التداريس الكبار بدمشق المحروسة 76 الوظيفة السابعة التصادير بدمشق المحروسة 80 الوظيفة الثامنة النّظر 83 الصنف الثالث من تواقيع أرباب الوظائف بحاضرة دمشق تواقيع أرباب الوظائف الديوانية، وفيها مرتبتان 85 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العالي» وهي على ضربين 85 الضرب الأوّل تواقيع الوزارة بالمملكة الشاميّة على ما استقرّ عليه الحال، وفيه وظائف 85 الوظيفة الأولى ولاية تدبير الممالك الشامية 85 الوظيفة الثانية كتابة السرّ بالشام 85 الوظيفة الثالثة نظر الجيوش بالشام 96 المرتبة الثانية من مراتب أرباب التواقيع الديوانية بدمشق من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء، مفتتحا ب «الحمد لله» إن علت رتبته، وإلّا ب «أما بعد» وتشتمل على وظائف 98
الصنف الرابع من الوظائف بدمشق وظائف المتصوّفة ومشايخ الخوانق، وفيها مرتبتان 100 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء، مفتتحا ب «الحمد لله» وبذلك يكتب لشيخ الشيوخ بالشام 100 المرتبة الثانية من يكتب له في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» 102 النوع الثاني من وظائف دمشق ما هو خارج عن حاضرتها، وقد تقدم في المقالة الثانية أن لدمشق أربع صفقات 103 الصفقة الغربية وهي المعبر عنها بالساحلية والجبلية، وتولّي فيها الأبواب السلطانية 103 الصفقة القبليّة ويولّى بها من الأبواب السلطانية نيابة صرخد 105 الصفقة الشرقية والنيابات فيها على طبقتين 105 الطبقة الأولى ما يكتب به مرسوم شريف في قطع النصف، وهو ما يليه مقدّم ألف أو طبلخاناه، وفيها نيابات 105 النيابة الأولى نيابة حمص 105 النيابة الثانية نيابة الرحبة 109 النيابة الثالثة نيابة مصياف 113 الصفقة الشمالية والّذي يولّى بهذه الصفقة عن الأبواب السلطانية نيابة بعلبكّ فقط 115 الصنف الثاني [لم يتقدم تقسيمه إلى أصناف، ولعلّ مراده أن ما تقدّم من التولية من الصفقات صنف أول وهذا صنف ثان] ممن هم خارج دمشق: ممن يولّى عن الأبواب السلطانية أمراء العربان، وهم على طبقتين 118 الطبقة الأولى من يكتب له منهم تقليد في قطع النصف ب «المجلس العالي» 118 الطبقة الثانية من عرب الشام من يكتب له مرسوم شريف، وهم على مرتبتين 124 المرتبة الأولى من يكتب له في قطع النصف 124
المرتبة الثانية من يكتب له قي قطع الثلث ب «السامي» يغير ياء مفتتحا ب «أما بعد» 136 النيابة الثانية من نيابات البلاد الشامية نيابة حلب، ووظائفها الّتي يكتب بها من الأبواب السلطانية على نوعين 141 النوع الأوّل من بحاضرة حلب، وهم على أصناف 141 الصنف الأوّل أرباب السيوف، وهم على طبقتين 141 الطبقة الأولى من يكتب له تقليد، وهو نائب السلطنة بها، وتقليده في قطع الثلثين ب «الجناب الكريم» 141 الطبقة الثانية من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس السامي» وفيها وظائف 151 الوظيفة الأولى نيابة القلعة بها 151 الوظيفة الثانية شدّ الدواوين بحلب 153 الصنف الثاني من أرباب الوظائف بحلب أرباب الوظائف الدينيّة، وهم على طبقتين 156 الطبقة الأولى من يكتب له في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء 156 الطبقة الثانية من يكتب له في قطع العادة ب «السامي» بغير ياء، أو ب «مجلس القاضي» 160 الصنف الثالث من أرباب الوظائف بحلب أرباب الوظيفة الديوانية، وهم على طبقتين 160 الطبقة الأولى من يكتب له في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء 160 الطبقة الثانية من يكتب له من أهل بالمملكة الحلبيّة في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» 167 النوع الثاني من أرباب الوظائف بالمملكة الحلبيد من هو خارج عن حاضرتها، وهم على أصناف 167 الصنف الأوّل أرباب السيوف 167 الصنف الثاني مما هو خارج عن حاضرة حلب، الوظائف الدينية بمعاملتها: من القلاع وغيرها 174
الصنف الثالث مما هو خارج عن حاضرة حلب الوظائف الديوانيّة 174 النيابة الثالثة نيابة طرابلس، ووظائفها على نوعين 176 النوع الأوّل ما هو بحاضرة طرابلس، وهو على ثلاثة أصناف 176 الصنف الأوّل أرباب السيوف، وهم على طبقتين 176 الطبقة الأولى من يكتب له تقليد 176 الطبقة الثانية من يكتب له مرسوم شريف في قطع الثلث ب(12/490)
المرتبة الثانية من المراسيم الّتي تكتب بحاضرة دمشق لأرباب السيوف، ما يكتب في قطع الثلث، وفيها وظيفتان 31 الوظيفة الأولى شدّ الدواوين بدمشق 31 الوظيفة الثانية شدّ المهمّات 33
الصنف الثاني من الوظائف بدمشق الوظائف الدينية، وجميع ما يكتب فيها تواقيع، وهي على مرتبتين 36 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العاليّ» بالياء، مفتتحا «بالحمد لله» 36 المرتبة الثانية من تواقيع الوظائف الدينية بدمشق، ما يكتب في قطع الثلث مفتتحا ب «الحمد لله» إن علت رتبة المتولي، أو «أما بعد حمد الله» إن انحطّت رتبته عن ذلك ب «المجلس السامي» وفيها وظائف 57 الوظيفة الأولى قضاء العسكر 57 الوظيفة الثانية إفتاء دار العدل بدمشق 57 الوظيفة الثالثة الحسبة 58 الوظيفة الرابعة وكالة بيت المال المعمور 63 الوظيفة الخامسة الخطابة 69 الوظيفة السادسة التداريس الكبار بدمشق المحروسة 76 الوظيفة السابعة التصادير بدمشق المحروسة 80 الوظيفة الثامنة النّظر 83 الصنف الثالث من تواقيع أرباب الوظائف بحاضرة دمشق تواقيع أرباب الوظائف الديوانية، وفيها مرتبتان 85 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العالي» وهي على ضربين 85 الضرب الأوّل تواقيع الوزارة بالمملكة الشاميّة على ما استقرّ عليه الحال، وفيه وظائف 85 الوظيفة الأولى ولاية تدبير الممالك الشامية 85 الوظيفة الثانية كتابة السرّ بالشام 85 الوظيفة الثالثة نظر الجيوش بالشام 96 المرتبة الثانية من مراتب أرباب التواقيع الديوانية بدمشق من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء، مفتتحا ب «الحمد لله» إن علت رتبته، وإلّا ب «أما بعد» وتشتمل على وظائف 98
الصنف الرابع من الوظائف بدمشق وظائف المتصوّفة ومشايخ الخوانق، وفيها مرتبتان 100 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء، مفتتحا ب «الحمد لله» وبذلك يكتب لشيخ الشيوخ بالشام 100 المرتبة الثانية من يكتب له في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» 102 النوع الثاني من وظائف دمشق ما هو خارج عن حاضرتها، وقد تقدم في المقالة الثانية أن لدمشق أربع صفقات 103 الصفقة الغربية وهي المعبر عنها بالساحلية والجبلية، وتولّي فيها الأبواب السلطانية 103 الصفقة القبليّة ويولّى بها من الأبواب السلطانية نيابة صرخد 105 الصفقة الشرقية والنيابات فيها على طبقتين 105 الطبقة الأولى ما يكتب به مرسوم شريف في قطع النصف، وهو ما يليه مقدّم ألف أو طبلخاناه، وفيها نيابات 105 النيابة الأولى نيابة حمص 105 النيابة الثانية نيابة الرحبة 109 النيابة الثالثة نيابة مصياف 113 الصفقة الشمالية والّذي يولّى بهذه الصفقة عن الأبواب السلطانية نيابة بعلبكّ فقط 115 الصنف الثاني [لم يتقدم تقسيمه إلى أصناف، ولعلّ مراده أن ما تقدّم من التولية من الصفقات صنف أول وهذا صنف ثان] ممن هم خارج دمشق: ممن يولّى عن الأبواب السلطانية أمراء العربان، وهم على طبقتين 118 الطبقة الأولى من يكتب له منهم تقليد في قطع النصف ب «المجلس العالي» 118 الطبقة الثانية من عرب الشام من يكتب له مرسوم شريف، وهم على مرتبتين 124 المرتبة الأولى من يكتب له في قطع النصف 124
المرتبة الثانية من يكتب له قي قطع الثلث ب «السامي» يغير ياء مفتتحا ب «أما بعد» 136 النيابة الثانية من نيابات البلاد الشامية نيابة حلب، ووظائفها الّتي يكتب بها من الأبواب السلطانية على نوعين 141 النوع الأوّل من بحاضرة حلب، وهم على أصناف 141 الصنف الأوّل أرباب السيوف، وهم على طبقتين 141 الطبقة الأولى من يكتب له تقليد، وهو نائب السلطنة بها، وتقليده في قطع الثلثين ب «الجناب الكريم» 141 الطبقة الثانية من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس السامي» وفيها وظائف 151 الوظيفة الأولى نيابة القلعة بها 151 الوظيفة الثانية شدّ الدواوين بحلب 153 الصنف الثاني من أرباب الوظائف بحلب أرباب الوظائف الدينيّة، وهم على طبقتين 156 الطبقة الأولى من يكتب له في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء 156 الطبقة الثانية من يكتب له في قطع العادة ب «السامي» بغير ياء، أو ب «مجلس القاضي» 160 الصنف الثالث من أرباب الوظائف بحلب أرباب الوظيفة الديوانية، وهم على طبقتين 160 الطبقة الأولى من يكتب له في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء 160 الطبقة الثانية من يكتب له من أهل بالمملكة الحلبيّة في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» 167 النوع الثاني من أرباب الوظائف بالمملكة الحلبيد من هو خارج عن حاضرتها، وهم على أصناف 167 الصنف الأوّل أرباب السيوف 167 الصنف الثاني مما هو خارج عن حاضرة حلب، الوظائف الدينية بمعاملتها: من القلاع وغيرها 174
الصنف الثالث مما هو خارج عن حاضرة حلب الوظائف الديوانيّة 174 النيابة الثالثة نيابة طرابلس، ووظائفها على نوعين 176 النوع الأوّل ما هو بحاضرة طرابلس، وهو على ثلاثة أصناف 176 الصنف الأوّل أرباب السيوف، وهم على طبقتين 176 الطبقة الأولى من يكتب له تقليد 176 الطبقة الثانية من يكتب له مرسوم شريف في قطع الثلث ب
«المجلس السامي» بغير ياء 179 الصنف الثاني من الوظائف بطرابلس الّتي يكتب لأربابها من الأبواب السلطانية الوظائف الدينيّة وهي على مرتبتين 181 المرتبة الأولى من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء 181 المرتبة الثانية من تواقيع أرباب الوظائف الدينيّة بطرابلس من يكتب له في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» 185 الصنف الثالث من الوظائف بطرابلس الّتي يكتب لأربابها من الأبواب السلطانية الوظائف الديوانية وهي على مرتبتين 186 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء 186 المرتبة الثانية من مراتب أرباب الوظائف الديوانية بطرابلس من يكتب له في قطع العادة ب «مجلس القاضي» 192 النوع الثاني من الوظائف بطرابلس ما هو خارج عن حاضرتها، وهي على ثلاثة أصناف أيضا 193 الصنف الأوّل أرباب السيوف، والنيابات بمعاملتها على طبقتين 193 الطبقة الأولى الطبلخاناه 193 الطبقة الثانية العشرات 195 الصنف الثاني مما هو خارج عن حاضرة طرابلس الوظائف الدينية. 196
الصنف الثالث مما هو خارج عن حاضرة طرابلس أرباب الوظائف الديوانية 197 النيابة الرابعة نيابة حماة، ووظائفها الّتي يكتب بها عن الأبواب السلطانية، ما بحاضرتها خاصّة وهي على ثلاثة أصناف [ذكر صنفين
فقط] 197 الصنف الأوّل أرباب السيوف 197 الصنف الثاني أرباب الوظائف الدينية 201 النيابة الخامسة نيابة صفد، ووظائفها الّتي تولّى من الأبواب السلطانية على ثلاثة أصناف 202 الصنف الأوّل أرباب السيوف 202 الصنف الثاني أرباب الوظائف الديوانية 208 الصنف الثالث أرباب الوظائف الدينية 208 الصنف الرابع [وقد تقدّم له التقسيم إلى ثلاثة أصناف] أرباب الوظائف الديوانية [وهذا الصنف هو بمعنى الصنف الثاني، وقد زاد فيه اللقلب وقطع الورق] 208 النيابة السادسة نيابة غزّة، والوظائف الّتي تولّى بها من الأبواب السلطانية على صنفين 208 الصنف الأوّل أرباب السيوف 209 الصنف الثاني الوظائف الديوانيّة 215 النيابة السابعة نيابة الكرك، وأرباب الولايات بها من الأبواب السلطانية على أصناف 216 الصنف الأوّل أرباب السيوف 126 الصنف الثاني أرباب الوظائف الدينيّة 227 الصنف الثالث الوظائف الديوانيّة 227 القسم الثالث مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية ما يكتب لأرباب الوظائف بالمملكة الحجازية، وقد تقدّم أنها تشتمل على ثلاث قواعد 228 القاعة الأولى مكّة المشرّفة، وبها وظيفتان 228 الوظيفة الأولى الإمارة 228 الوظيفة الثانية قضاء مكّة 235 القاعدة الثانية المدينة النبوية، وبها ثلاث وظائف 237
الوظيفة الأولى الإمارة 237 الوظيفة الثانية القضاء 253 الوظيفة الثالثة مشيخة الحرم الشريف 254 القاعدة الثالثة الينبع، وبها وظيفة واحدة وهي النيابة 257 القسم الرابع [وقد تقدّم له تقسيمه إلى ثلاثة أصناف فقط] مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية ما يقع على سبيل النّدور، وهو الّذي يقع في حين من الأحيان من غير ان يسبق له نظير 259 الفصل الثالث، من الباب الرابع من المقالة الخامسة فيما يكتب من الولايات عن نوّاب السلطنة، وفيه طرفان 275 الطرف الأوّل في مقدّمات هذه الولايات، ويتعلق بها مقاصد 275 المقصد الأوّل في بيان ما تصدر عنه الولايات: من نوّاب السلطنة 275 المقصد الثاني في بيان الولايات الّتي تصدر عن نوّاب السلطنة بالممالك الشامية 276 المقصد الثالث في افتتاحات التواقيع والمراسيم بتلك الولايات 276 المقصد الرابع في بيان الألقاب، وأمّا ما يكتب عن نوّاب الشام فعلى أصناف 278 الصنف الأوّل أرباب السيوف 279 الصنف الثاني من أرباب الولايات بالممالك الشامية أرباب الوظائف الديوانية 282 الصنف الثالث من أرباب الولايات بالممالك الشامية أرباب الوظائف الدينيّة 285 الصنف الرابع من أرباب الولايات بالممالك الشامية مشايخ الصوفيّة 288 الصنف الخامس من أرباب الولايات بالممالك الشامية أمراء العربان 288 الصنف السادس من أرباب الولايات بالممالك الشامية أرباب الوظائف العادية 289 الصنف السابع من أرباب الولايات بالممالك الشامية زعماء أهل الذمّة 289
المقصد الخامس في بيان مقادير قطع الورق المستعلى فيما يكتب عن نوّاب الممالك الشامية 290 المقصد السادس في بيان ما يكتب في طرّة التواقيع 290 المقصد السابع في بيان كيفيّة ترتيب هذه التواقيع 294 الطرف الثاني في نسخ التواقيع المكتتبة عن نوّاب السلطنة بالممالك الشامية، وقد اقتصر في نسخ التواقيع على ما يكتب ثلاث نيابات 295 النيابة الأولى الشام، والتواقيع الّتي تكتب بها على خمسه أصناف 295 الصنف الأوّل ما يكتب بوظائف أرباب السيوف، وهو على ضربين 295 الضرب الأوّل ما هو بحاضرة دمشق، وهو على مراتب 925 المرتبة الثانية ما يفتتح ب «الحمد لله» 295 المرتبة الثالثة من تواقيع وظائف أرباب السيوف بدمشق ما يفتتح ب «رسم بالأمر العالي» 302 الضرب الثاني ممن يكتب له عن نائب السلطنة بالشام من أرباب السيوف من هو بأعمال دمشق، ومواضعهم على ثلاث مراتب أيضا 307 المرتبة الثانية من تواقيع أرباب السيوف ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 313 الصنف الثاني مما يكتب لأرباب الوظائف بدمشق تواقيع أرباب الوظائف الدينيّة، وهي على ضربين 334 الضرب الأوّل ما يكتب لمن هو بحاضرة دمشق، وهو على ثلاث مراتب. 334(12/491)
الصنف الثالث مما هو خارج عن حاضرة طرابلس أرباب الوظائف الديوانية 197 النيابة الرابعة نيابة حماة، ووظائفها الّتي يكتب بها عن الأبواب السلطانية، ما بحاضرتها خاصّة وهي على ثلاثة أصناف [ذكر صنفين
فقط] 197 الصنف الأوّل أرباب السيوف 197 الصنف الثاني أرباب الوظائف الدينية 201 النيابة الخامسة نيابة صفد، ووظائفها الّتي تولّى من الأبواب السلطانية على ثلاثة أصناف 202 الصنف الأوّل أرباب السيوف 202 الصنف الثاني أرباب الوظائف الديوانية 208 الصنف الثالث أرباب الوظائف الدينية 208 الصنف الرابع [وقد تقدّم له التقسيم إلى ثلاثة أصناف] أرباب الوظائف الديوانية [وهذا الصنف هو بمعنى الصنف الثاني، وقد زاد فيه اللقلب وقطع الورق] 208 النيابة السادسة نيابة غزّة، والوظائف الّتي تولّى بها من الأبواب السلطانية على صنفين 208 الصنف الأوّل أرباب السيوف 209 الصنف الثاني الوظائف الديوانيّة 215 النيابة السابعة نيابة الكرك، وأرباب الولايات بها من الأبواب السلطانية على أصناف 216 الصنف الأوّل أرباب السيوف 126 الصنف الثاني أرباب الوظائف الدينيّة 227 الصنف الثالث الوظائف الديوانيّة 227 القسم الثالث مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية ما يكتب لأرباب الوظائف بالمملكة الحجازية، وقد تقدّم أنها تشتمل على ثلاث قواعد 228 القاعة الأولى مكّة المشرّفة، وبها وظيفتان 228 الوظيفة الأولى الإمارة 228 الوظيفة الثانية قضاء مكّة 235 القاعدة الثانية المدينة النبوية، وبها ثلاث وظائف 237
الوظيفة الأولى الإمارة 237 الوظيفة الثانية القضاء 253 الوظيفة الثالثة مشيخة الحرم الشريف 254 القاعدة الثالثة الينبع، وبها وظيفة واحدة وهي النيابة 257 القسم الرابع [وقد تقدّم له تقسيمه إلى ثلاثة أصناف فقط] مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية ما يقع على سبيل النّدور، وهو الّذي يقع في حين من الأحيان من غير ان يسبق له نظير 259 الفصل الثالث، من الباب الرابع من المقالة الخامسة فيما يكتب من الولايات عن نوّاب السلطنة، وفيه طرفان 275 الطرف الأوّل في مقدّمات هذه الولايات، ويتعلق بها مقاصد 275 المقصد الأوّل في بيان ما تصدر عنه الولايات: من نوّاب السلطنة 275 المقصد الثاني في بيان الولايات الّتي تصدر عن نوّاب السلطنة بالممالك الشامية 276 المقصد الثالث في افتتاحات التواقيع والمراسيم بتلك الولايات 276 المقصد الرابع في بيان الألقاب، وأمّا ما يكتب عن نوّاب الشام فعلى أصناف 278 الصنف الأوّل أرباب السيوف 279 الصنف الثاني من أرباب الولايات بالممالك الشامية أرباب الوظائف الديوانية 282 الصنف الثالث من أرباب الولايات بالممالك الشامية أرباب الوظائف الدينيّة 285 الصنف الرابع من أرباب الولايات بالممالك الشامية مشايخ الصوفيّة 288 الصنف الخامس من أرباب الولايات بالممالك الشامية أمراء العربان 288 الصنف السادس من أرباب الولايات بالممالك الشامية أرباب الوظائف العادية 289 الصنف السابع من أرباب الولايات بالممالك الشامية زعماء أهل الذمّة 289
المقصد الخامس في بيان مقادير قطع الورق المستعلى فيما يكتب عن نوّاب الممالك الشامية 290 المقصد السادس في بيان ما يكتب في طرّة التواقيع 290 المقصد السابع في بيان كيفيّة ترتيب هذه التواقيع 294 الطرف الثاني في نسخ التواقيع المكتتبة عن نوّاب السلطنة بالممالك الشامية، وقد اقتصر في نسخ التواقيع على ما يكتب ثلاث نيابات 295 النيابة الأولى الشام، والتواقيع الّتي تكتب بها على خمسه أصناف 295 الصنف الأوّل ما يكتب بوظائف أرباب السيوف، وهو على ضربين 295 الضرب الأوّل ما هو بحاضرة دمشق، وهو على مراتب 925 المرتبة الثانية ما يفتتح ب «الحمد لله» 295 المرتبة الثالثة من تواقيع وظائف أرباب السيوف بدمشق ما يفتتح ب «رسم بالأمر العالي» 302 الضرب الثاني ممن يكتب له عن نائب السلطنة بالشام من أرباب السيوف من هو بأعمال دمشق، ومواضعهم على ثلاث مراتب أيضا 307 المرتبة الثانية من تواقيع أرباب السيوف ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 313 الصنف الثاني مما يكتب لأرباب الوظائف بدمشق تواقيع أرباب الوظائف الدينيّة، وهي على ضربين 334 الضرب الأوّل ما يكتب لمن هو بحاضرة دمشق، وهو على ثلاث مراتب. 334(12/492)
الصنف الثالث مما هو خارج عن حاضرة طرابلس أرباب الوظائف الديوانية 197 النيابة الرابعة نيابة حماة، ووظائفها الّتي يكتب بها عن الأبواب السلطانية، ما بحاضرتها خاصّة وهي على ثلاثة أصناف [ذكر صنفين
فقط] 197 الصنف الأوّل أرباب السيوف 197 الصنف الثاني أرباب الوظائف الدينية 201 النيابة الخامسة نيابة صفد، ووظائفها الّتي تولّى من الأبواب السلطانية على ثلاثة أصناف 202 الصنف الأوّل أرباب السيوف 202 الصنف الثاني أرباب الوظائف الديوانية 208 الصنف الثالث أرباب الوظائف الدينية 208 الصنف الرابع [وقد تقدّم له التقسيم إلى ثلاثة أصناف] أرباب الوظائف الديوانية [وهذا الصنف هو بمعنى الصنف الثاني، وقد زاد فيه اللقلب وقطع الورق] 208 النيابة السادسة نيابة غزّة، والوظائف الّتي تولّى بها من الأبواب السلطانية على صنفين 208 الصنف الأوّل أرباب السيوف 209 الصنف الثاني الوظائف الديوانيّة 215 النيابة السابعة نيابة الكرك، وأرباب الولايات بها من الأبواب السلطانية على أصناف 216 الصنف الأوّل أرباب السيوف 126 الصنف الثاني أرباب الوظائف الدينيّة 227 الصنف الثالث الوظائف الديوانيّة 227 القسم الثالث مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية ما يكتب لأرباب الوظائف بالمملكة الحجازية، وقد تقدّم أنها تشتمل على ثلاث قواعد 228 القاعة الأولى مكّة المشرّفة، وبها وظيفتان 228 الوظيفة الأولى الإمارة 228 الوظيفة الثانية قضاء مكّة 235 القاعدة الثانية المدينة النبوية، وبها ثلاث وظائف 237
الوظيفة الأولى الإمارة 237 الوظيفة الثانية القضاء 253 الوظيفة الثالثة مشيخة الحرم الشريف 254 القاعدة الثالثة الينبع، وبها وظيفة واحدة وهي النيابة 257 القسم الرابع [وقد تقدّم له تقسيمه إلى ثلاثة أصناف فقط] مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية ما يقع على سبيل النّدور، وهو الّذي يقع في حين من الأحيان من غير ان يسبق له نظير 259 الفصل الثالث، من الباب الرابع من المقالة الخامسة فيما يكتب من الولايات عن نوّاب السلطنة، وفيه طرفان 275 الطرف الأوّل في مقدّمات هذه الولايات، ويتعلق بها مقاصد 275 المقصد الأوّل في بيان ما تصدر عنه الولايات: من نوّاب السلطنة 275 المقصد الثاني في بيان الولايات الّتي تصدر عن نوّاب السلطنة بالممالك الشامية 276 المقصد الثالث في افتتاحات التواقيع والمراسيم بتلك الولايات 276 المقصد الرابع في بيان الألقاب، وأمّا ما يكتب عن نوّاب الشام فعلى أصناف 278 الصنف الأوّل أرباب السيوف 279 الصنف الثاني من أرباب الولايات بالممالك الشامية أرباب الوظائف الديوانية 282 الصنف الثالث من أرباب الولايات بالممالك الشامية أرباب الوظائف الدينيّة 285 الصنف الرابع من أرباب الولايات بالممالك الشامية مشايخ الصوفيّة 288 الصنف الخامس من أرباب الولايات بالممالك الشامية أمراء العربان 288 الصنف السادس من أرباب الولايات بالممالك الشامية أرباب الوظائف العادية 289 الصنف السابع من أرباب الولايات بالممالك الشامية زعماء أهل الذمّة 289
المقصد الخامس في بيان مقادير قطع الورق المستعلى فيما يكتب عن نوّاب الممالك الشامية 290 المقصد السادس في بيان ما يكتب في طرّة التواقيع 290 المقصد السابع في بيان كيفيّة ترتيب هذه التواقيع 294 الطرف الثاني في نسخ التواقيع المكتتبة عن نوّاب السلطنة بالممالك الشامية، وقد اقتصر في نسخ التواقيع على ما يكتب ثلاث نيابات 295 النيابة الأولى الشام، والتواقيع الّتي تكتب بها على خمسه أصناف 295 الصنف الأوّل ما يكتب بوظائف أرباب السيوف، وهو على ضربين 295 الضرب الأوّل ما هو بحاضرة دمشق، وهو على مراتب 925 المرتبة الثانية ما يفتتح ب «الحمد لله» 295 المرتبة الثالثة من تواقيع وظائف أرباب السيوف بدمشق ما يفتتح ب «رسم بالأمر العالي» 302 الضرب الثاني ممن يكتب له عن نائب السلطنة بالشام من أرباب السيوف من هو بأعمال دمشق، ومواضعهم على ثلاث مراتب أيضا 307 المرتبة الثانية من تواقيع أرباب السيوف ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 313 الصنف الثاني مما يكتب لأرباب الوظائف بدمشق تواقيع أرباب الوظائف الدينيّة، وهي على ضربين 334 الضرب الأوّل ما يكتب لمن هو بحاضرة دمشق، وهو على ثلاث مراتب. 334(12/493)
الصنف الثالث مما هو خارج عن حاضرة طرابلس أرباب الوظائف الديوانية 197 النيابة الرابعة نيابة حماة، ووظائفها الّتي يكتب بها عن الأبواب السلطانية، ما بحاضرتها خاصّة وهي على ثلاثة أصناف [ذكر صنفين
فقط] 197 الصنف الأوّل أرباب السيوف 197 الصنف الثاني أرباب الوظائف الدينية 201 النيابة الخامسة نيابة صفد، ووظائفها الّتي تولّى من الأبواب السلطانية على ثلاثة أصناف 202 الصنف الأوّل أرباب السيوف 202 الصنف الثاني أرباب الوظائف الديوانية 208 الصنف الثالث أرباب الوظائف الدينية 208 الصنف الرابع [وقد تقدّم له التقسيم إلى ثلاثة أصناف] أرباب الوظائف الديوانية [وهذا الصنف هو بمعنى الصنف الثاني، وقد زاد فيه اللقلب وقطع الورق] 208 النيابة السادسة نيابة غزّة، والوظائف الّتي تولّى بها من الأبواب السلطانية على صنفين 208 الصنف الأوّل أرباب السيوف 209 الصنف الثاني الوظائف الديوانيّة 215 النيابة السابعة نيابة الكرك، وأرباب الولايات بها من الأبواب السلطانية على أصناف 216 الصنف الأوّل أرباب السيوف 126 الصنف الثاني أرباب الوظائف الدينيّة 227 الصنف الثالث الوظائف الديوانيّة 227 القسم الثالث مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية ما يكتب لأرباب الوظائف بالمملكة الحجازية، وقد تقدّم أنها تشتمل على ثلاث قواعد 228 القاعة الأولى مكّة المشرّفة، وبها وظيفتان 228 الوظيفة الأولى الإمارة 228 الوظيفة الثانية قضاء مكّة 235 القاعدة الثانية المدينة النبوية، وبها ثلاث وظائف 237
الوظيفة الأولى الإمارة 237 الوظيفة الثانية القضاء 253 الوظيفة الثالثة مشيخة الحرم الشريف 254 القاعدة الثالثة الينبع، وبها وظيفة واحدة وهي النيابة 257 القسم الرابع [وقد تقدّم له تقسيمه إلى ثلاثة أصناف فقط] مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية ما يقع على سبيل النّدور، وهو الّذي يقع في حين من الأحيان من غير ان يسبق له نظير 259 الفصل الثالث، من الباب الرابع من المقالة الخامسة فيما يكتب من الولايات عن نوّاب السلطنة، وفيه طرفان 275 الطرف الأوّل في مقدّمات هذه الولايات، ويتعلق بها مقاصد 275 المقصد الأوّل في بيان ما تصدر عنه الولايات: من نوّاب السلطنة 275 المقصد الثاني في بيان الولايات الّتي تصدر عن نوّاب السلطنة بالممالك الشامية 276 المقصد الثالث في افتتاحات التواقيع والمراسيم بتلك الولايات 276 المقصد الرابع في بيان الألقاب، وأمّا ما يكتب عن نوّاب الشام فعلى أصناف 278 الصنف الأوّل أرباب السيوف 279 الصنف الثاني من أرباب الولايات بالممالك الشامية أرباب الوظائف الديوانية 282 الصنف الثالث من أرباب الولايات بالممالك الشامية أرباب الوظائف الدينيّة 285 الصنف الرابع من أرباب الولايات بالممالك الشامية مشايخ الصوفيّة 288 الصنف الخامس من أرباب الولايات بالممالك الشامية أمراء العربان 288 الصنف السادس من أرباب الولايات بالممالك الشامية أرباب الوظائف العادية 289 الصنف السابع من أرباب الولايات بالممالك الشامية زعماء أهل الذمّة 289
المقصد الخامس في بيان مقادير قطع الورق المستعلى فيما يكتب عن نوّاب الممالك الشامية 290 المقصد السادس في بيان ما يكتب في طرّة التواقيع 290 المقصد السابع في بيان كيفيّة ترتيب هذه التواقيع 294 الطرف الثاني في نسخ التواقيع المكتتبة عن نوّاب السلطنة بالممالك الشامية، وقد اقتصر في نسخ التواقيع على ما يكتب ثلاث نيابات 295 النيابة الأولى الشام، والتواقيع الّتي تكتب بها على خمسه أصناف 295 الصنف الأوّل ما يكتب بوظائف أرباب السيوف، وهو على ضربين 295 الضرب الأوّل ما هو بحاضرة دمشق، وهو على مراتب 925 المرتبة الثانية ما يفتتح ب «الحمد لله» 295 المرتبة الثالثة من تواقيع وظائف أرباب السيوف بدمشق ما يفتتح ب «رسم بالأمر العالي» 302 الضرب الثاني ممن يكتب له عن نائب السلطنة بالشام من أرباب السيوف من هو بأعمال دمشق، ومواضعهم على ثلاث مراتب أيضا 307 المرتبة الثانية من تواقيع أرباب السيوف ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 313 الصنف الثاني مما يكتب لأرباب الوظائف بدمشق تواقيع أرباب الوظائف الدينيّة، وهي على ضربين 334 الضرب الأوّل ما يكتب لمن هو بحاضرة دمشق، وهو على ثلاث مراتب. 334
المرتبة الأولى ما يفتتح ب «الحمد الله» 334 المرتبة الثانية ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 358 المرتبة الثالثة ما يفتتح ب «رسم بالأمر» 370 الضرب الثاني من تواقيع أرباب الوظائف الدينيّة بالشام ما يكتب به لمن هو بأعمال دمشق، وهو على مرتبتين 375 المرتبة الأولى ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 375 المرتبة الثانية ما يفتتح «برسم بالأمر» 378
الصنف الثالث من التواقيع الّتي تكتب لأرباب الوظائف بدمشق ما يكتب لأرباب الوظائف الديوانية، وهي على ضربين 381 الضرب الأوّل ما يكتب لمن بحاضرة دمشق منهم، وهو على ثلاث مراتب 381 المرتبة الأولى ما يفتتح ب «الحمد لله» 381 المرتبة الثانية ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 388 المرتبة الثالثة ما يفتتح ب «رسم بالأمر الشريف» 392 الضرب الثاني من الوظائف الديوانية بالشام ما هو خارج عن حاضرة دمشق، وغالب ما يكتب فيها من التواقيع مفتتح ب «رسم» 402 الصنف الرابع مما يكتب لأرباب الوظائف بالشام تواقيع مشايخ الخوانق، وهي على ضربين 409 الضرب الأوّل ما هو بحاضرة دمشق، وهو على ثلاث مراتب 409 المرتبة الأولى ما يفتتح ب «الحمد لله» 409 المرتبة الثانية ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 415 المرتبة الثالثة ما يفتتح ب «رسم بالأمر» 418 الضرب الثاني من تواقيع مشيخة الأماكن ما هو بأعمال دمشق وفيه مرتبة واحدة، وهي الافتتاح ب «رسم» 419 الصنف الخامس مما يكتب لأرباب الوظائف بالشام تواقيع العربان. 421(12/494)
المرتبة الأولى ما يفتتح ب «الحمد الله» 334 المرتبة الثانية ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 358 المرتبة الثالثة ما يفتتح ب «رسم بالأمر» 370 الضرب الثاني من تواقيع أرباب الوظائف الدينيّة بالشام ما يكتب به لمن هو بأعمال دمشق، وهو على مرتبتين 375 المرتبة الأولى ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 375 المرتبة الثانية ما يفتتح «برسم بالأمر» 378
الصنف الثالث من التواقيع الّتي تكتب لأرباب الوظائف بدمشق ما يكتب لأرباب الوظائف الديوانية، وهي على ضربين 381 الضرب الأوّل ما يكتب لمن بحاضرة دمشق منهم، وهو على ثلاث مراتب 381 المرتبة الأولى ما يفتتح ب «الحمد لله» 381 المرتبة الثانية ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 388 المرتبة الثالثة ما يفتتح ب «رسم بالأمر الشريف» 392 الضرب الثاني من الوظائف الديوانية بالشام ما هو خارج عن حاضرة دمشق، وغالب ما يكتب فيها من التواقيع مفتتح ب «رسم» 402 الصنف الرابع مما يكتب لأرباب الوظائف بالشام تواقيع مشايخ الخوانق، وهي على ضربين 409 الضرب الأوّل ما هو بحاضرة دمشق، وهو على ثلاث مراتب 409 المرتبة الأولى ما يفتتح ب «الحمد لله» 409 المرتبة الثانية ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 415 المرتبة الثالثة ما يفتتح ب «رسم بالأمر» 418 الضرب الثاني من تواقيع مشيخة الأماكن ما هو بأعمال دمشق وفيه مرتبة واحدة، وهي الافتتاح ب «رسم» 419 الصنف الخامس مما يكتب لأرباب الوظائف بالشام تواقيع العربان. 421
الصنف السادس مما يكتب لأرباب الوظائف بالشام تواقيع زعماء أهل الذمّة 422 النيابة الثالثة مما يكتب من التواقيع بالولايات عن نوّاب السلطنة بها نيابة طرابلس 448 تمّ فهرس الجزء الثاني عشر من صبح الأعشى(12/495)
الجزء الثالث عشر
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} *
وصلّى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله وصحبه
المقالة السادسة فيما يكتب في [الوصايا الدينية
، و] (1) المسامحات، والإطلاقات السلطانية والطّرخانيات، وتحويل السنين والتذاكر وفيها أربعة أبواب:
الباب الأوّل في الوصايا الدينيّة وفيه فصلان
الفصل الأول فيما لقد ماء الكتّاب من ذلك
اعلم أنّه كان لقدماء الكتّاب بذلك عناية عظيمة بحسب ما كان للملوك من الإقبال على معالم الدّين ومن أكثرهم عناية بذلك أهل الغرب: لم يزالوا يكتبون بمثل ذلك إلى نواحي ممالكهم، ويقرأ على منابرهم ولهم في ذلك الباع الطويل والهمة الوافرة.
وهذه نسخة من ذلك كتب بها بها أبو زيد الداراري: أحد كتّاب الأندلس عن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين المنصور: أحد خلفاء بني أميّة (2) بالأندلس وهي:
__________
(1) الزيادة مما تقدم في الجزء الأول من هذا الكتاب ومما يأتي في التفصيل تحت الباب الأول.
(2) ليس في خلفاء بني أميّة بالأندلس من اسمه المنصور. وأشار المحقق في هامش الطبعة الأميرية إلى أن المنصور هو ابن أبي عامر الذي تغلّب على هشام بن الحكم الأموي واستبد بالأمر، ثم من بعده ابنه المظفر ثم أخوه عبد الرحمن. (ولم يزد المحقق على ذلك أي أن الالتباس الناشيء عن هذه العبارة لم يزل). وفي سياق هذه الرسالة الوصيّة بعض إشارات تجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن المنصور المشار إليه هو المنصور المؤمني، يعقوب بن يوسف الموحدي، أحد ملوك الدولة المؤمنية في المغرب الأقصى. فالكتاب موجّه من «حضرة إشبيلية»، والمعروف أن دولة الموحدين، وإن كان منشؤها ومقرها الأساسي المغرب الأقصى، فإنها كانت تمتد إلى الأندلس خاصة في زمن المواجهة مع ممالك الفرنج. فالمنصور المؤمني بويع له بعد وفاة أبيه سنة 580هـ وكان معه في وقعة «شنترين» غربي جزيرة الأندلس، فرجع إلى إشبيلية واستكمل البيعة أما الناصر المؤمني، محمد بن يعقوب المنصور، فقد كان له المغرب الأقصى وإفريقية والأندلس، وفي أيامه كانت وقعة «العقاب» المشهورة بالأندلس. لذلك فليس مستغربا أن تصدر الكتب عن خلفاء دولة الموحدين انطلاقا من «حضرة إشبيلية». والإشارة الثانية هي أن المنصور المذكور في الوصية قد جدّ في كتب الفلاسفة تحريقا وتمزيقا. والمعروف تاريخيا أن الذي قام بهذا العمل هو المنصور المؤمني فقد كان الفيلسوف ابن رشد مقربا منه في (البداية) ولكن خصومه أوغروا صدره عليه واتهموه بالزندقة والإلحاد، فنفاه المنصور إلى مراكش وأحرق بعض كتبه. وبذلك نعتقد أن الوصية صادرة عن الناصر المؤمني (610595هـ) ابن المنصور المؤمني. وحتى تستقيم العبارة لا بد من القول: «
أحد خلفاء بني عبد المؤمن، أو أحد خلفاء الموحدين بالأندلس» بدلا من بني أميّة. (انظر: طبقات سلاطين الإسلام: 26ومعجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي: 1/ 2 والأعلام: 5/ 318و 7/ 145و 8/ 203وصبح الأعشى: الطبعة الأميرية: 13/ 2).(13/3)
الحمد لله الذي جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلين تتفرّع عنهما مصالح الدنيا والدّين، وأمر بالمعروف والإحسان إرشادا إلى الحق المبين، والصلاة على سيدنا محمد الكريم المبتعث بالشريعة التي طهّرت القلوب من الأدران واستخدمت بواطن القلوب وظواهر الأبدان طورا بالشّدّة وتارة باللين، القائل ولا عدول عن قوله عليه السّلام: «من اتّقى الشّبهات استبرأ لدينه» تنبيها على ترك الشكّ لليقين، وعلى آله الكرام أعلام الإسلام المتلقّين راية الاهتداء في إظهار السّنن وإيضاح السّنن باليمين، الذين مكّنهم الله تعالى في الأرض فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر: وفاء بالواجب لذلك التمكين.
والرّضا عن الأئمة المظهرين للدّين المتين، البالغين بالبلاد والعباد نشرا
للعدل وإتماما للفضل إلى أقصى غاية التمهيد والتأمين، رضي الله عنهم أجمعين! وعن تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين!.(13/4)
والرّضا عن الأئمة المظهرين للدّين المتين، البالغين بالبلاد والعباد نشرا
للعدل وإتماما للفضل إلى أقصى غاية التمهيد والتأمين، رضي الله عنهم أجمعين! وعن تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين!.
وإنّا كتبناه لكم كتب الله لكن اتّباعا إلى ما ينهى من المصالح إليكم، واستماعا إلى ما يتلى من المواعظ عليكم من حضرة إشبيلية (1) كلأها الله.
والذي نوصيكم به تقوى الله تعالى والعمل بطاعته والاستعانة به والتوكّل عليه، وأن تعلموا أنا لم نقم هذا المقام الذي حفظ الله به نظام الحق من انتثاره، وأمدّنا بعونه الجميل على إحياء الدّين وإفاضة أنواره، إلا لنستوفي كلّ نظر يعود على الأمة باستقامة أخراها وأولاها، ونهيب بها إلى أسمى رتب السعادة وأعلاها، ونوقظ بصائرها بنافع الذكرى من كراها. فعلينا لها بحكم ما تقلّدناه من إمامتها، وتحمّلناه من أمانتها، أن نتخوّلها بالحكمة والموعظة الحسنة، ونرشدها إلى المناهج الواضحة والسّبل البيّنة، ونضفي على خاصّتها وعامّتها ظلّ الدّعة والأمنة وإذا كنّا نوفّيها تمهيد دنياها، ونعتني بحماية أقصاها وأدناها، فالدّين أهمّ وأولى، والتّهمّم بإحياء شرائعه وإقامة شعائره أحقّ أن يقدّم وأحرى. وعلينا أن نأخذ بحسب ما نأمر به وندع، ونتّبع السّنن المشروعة ونذر البدع، ولها أن لا ندّخر عنها نصيحة، ولا نغبّها (2) إرادة من الأدواء مريحة، ولنا [عليها] (3) أن تطيع وتسمع وقد علم الله أنا لم نتحمّل أمانة الإسلام، لنستكثر من الدنيا وزخرفها، ولم نتصدّ لهذا المقام، لنستأثر بنعيمها وترفها، وإنما كان قصدنا قبل وبعد إقامة الكافّة في أوثر قراها وأوطإ كنفها وبحسب هذه النية التي طابقها العمل، ولم يتعدّها الأمل، نيلت من الخيرات نهايات، كانت الخواطر تستبعد منالها، وتيسّرت
__________
(1) إشبيلية مدينة قديمة بالأندلس، بينها وبين قرطبة مسيرة ثلاثة أيام، ومن الأميال ثمانون.
يذكر أهل العلم باللسان اللطيني (اللاتيني) أن أصل تسميتها «إشبالي» ومعناه «المدينة المنبسطة». انتزعها الفرنجة من يد المسلمين سنة 646هـ. وتسمى أيضا «حمص». (انظر صفة جزيرة الأندلس: 22والروض المعطار: 58ومعجم البلدان: 1/ 195).
(2) أي لا نبعد عنها أو لا ندّخر عنها.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(13/5)
إرادات، كانت الأمّة منذ زمان لم تر مثالها، وساعدت العناية الربّانيّة فلم تؤن (1)
مقصودا جميلا، ولا منّا جزيلا.
وإلى هذا أدام الله كرامتكم فإنا لم نزل مع طول المباشرة للأحوال كلّها، وتردّد المشاهدة لعقد الأمور وحلّها، نقف وقوف المتأمل على جزئيّات الأمور وكليّاتها، ولا يغيب عن تصفّحنا وتعرّفنا شيء من مصالح الجهات وكيفيّاتها، ولم نمرّ بمائل إلا تولّينا إقامته، وأعدنا إليه اعتداله واستقامته ولا انتهينا إلى صواب قول أو عمل إلا شدنا مبناه، وأظهرنا لفظه ومعناه.
والآن حين استوفى إشرافنا على البلاد قاطبة، ولزمنا بحكم القيام لله في خلقه بحقّه أن نتعهّد الكافّة دانية ونائية وشاهدة وغائبة، ورجونا أن نتخلّص من القسم الأوّل في قوله عليه السّلام: «اللهمّ من ولي من أمر أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به» بأعمال على الرّفق دائبة، وعلى الحقّ مواظبة صرفنا أعنّة الاعتناء بجوامع المصالح فرأينا الدّين ينظم تبدّدها، ويستوعب تعدّدها، لا تشذّ مصلحة عن قوانينه، ولا تنال بركة إلا مع تحصينه وتحسينه والله تعالى يعيننا وإياكم على إقامة حدوده، وإدامة عهوده. وأوّل ما يتناول به الأمر كافّة المسلمين الصلاة لأوقاتها، والأداء لها على أكمل صفاتها، وشهودها إظهارا لشرائع الإيمان في جماعاتها، فقد قال عليه السّلام: «أحبّ الأعمال إلى الله الصّلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيّعها فهو لما سواها أضيع». وقال عمر رضي الله عنه: «ولا حظّ في الإسلام لمن ترك الصّلاة» فهي الرّكن الأعظم من أركان الإيمان، والأسّ الأوثق لأعمال الإنسان، والمواظبة على حضورها في المساجد، وإيثار ما لصلاة الجماعة من المزيّة على صلاة الواحد، أمر لا يضيّعه المفلحون، ولا يحافظ عليه إلا المؤمنون. قال ابن مسعود رضي الله عنه: «لقد رأيتنا وما يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النّفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرّجلين حتّى يقام في الصّف»، وشهود الصبح والعشاء الأخرة شاهد بتمحيص الإيمان
__________
(1) ونى الشيء، وعنه: تركه، فهو وان وهي وانية.(13/6)
وقد جاء: «إن شهود الصّبح في جماعة يعدل قيام ليلة» وحسبكم بهذا الرّجحان.
والواجب أن يعتنى بهذه القاعدة الكبرى من قواعد الدّين، ويؤخذ بها في كافّة الأمصار الصغير والكبير من المسلمين، ويلحظ في التزامها قوله عليه السّلام:
«مروا أولادكم بالصّلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر سنين». وبحسب ذلكم رأينا أن نلزم جار كلّ مسجد، وأمير كلّ سوق وشيخ كلّ زقاق ومعلّم كلّ جهة الانتداب لهذا السعي الكريم، والبدار لما فيه من الأجر العظيم، وأن يحضّ كلّ من في جهته أو سوقه أو حومة مسجده أو موضع صنعته أو تجارته أو تعليمه على الصّلاة وحضورها، والاعتناء بأحكام طهورها، وأن لا يتخلّف عن الجماعة إلا لعذر بيّن، أو أمر يكون معه الشّهود غير ممكن. وعليهم أن يلتزموا هذه الوظيفة أتمّ التزام، ويقوموا بها مؤتجرين (1) أحسن قيام، ويشمّروا عن ساعد كلّ جدّ واعتزام، ويتعرّفوا كلّ من تحتوي عليه المنازل ممن بلغ حدّ التكليف من الرجال، ويتعهدوهم الحين بعد الحين والحال إثر الحال، ويطلبوهم بالذّكر بملازمة هذا العمل الذي قدّمه الله على سائر الأعمال. وليحذر المسلم أن يواقع بإضاعة المكتوبة أمرا إمرا (2)، ويترك من فرائض الإسلام ما يقتل متعمّد تركه حدّا أو كفرا.
وعلى معلّمي كتاب الله أن يأخذوا الصّبيان بتعلّم الصلاة والطهارة والإدامة لإقامتها والموالاة وحفظ ما تقام به وأقلّ ذلك سورة فاتحة الكتاب. وعلى كل إنسان في خاصّته أن يأخذ صغار بنيه وكبارهم وسائر أهله ومن إلى نظره بذلك ويأمرهم به قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلََاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهََا} (3)، وقال عليه الصلاة والسلام: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته».
ثم اعلموا أنّ الصلاة بما آثرها الله به من وظائفها الشريفة، وخصائصها
__________
(1) ائتجر: طلب الأجر والثواب.
(2) واقع الشيء: وقع فيه. والإمر (بكسر الهمزة وسكون الميم): العجيب المنكر. وفي التنزيل العزيز: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} الكهف / 71. والمكتوبة هي الصلوات الخمس.
(3) طه / 132.(13/7)
المنيفة، تنتظم من أعمال البرّ ضروبا لا تحصر، وتعصم من مواقعة ما يشنأ (1)
وينكر، وتحظي من الخيرات العميمة الجسمية بالقسم الأوفى الأوفر قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلََاةَ تَنْهى ََ عَنِ الْفَحْشََاءِ وَالْمُنْكَرِ} (2) ونحن لا نوسع تاركها بحال عذرا، ولا نؤخّر له عقابا وزجرا، ولا نزال نجبره على إقامتها قسرا، وإذا استمرّ التعهّد لها مع الأحيان، وعمل الناس بما جدّدناه من إجراء التذكير بها بين القرابة والصّحابة والجيران، وتواصوا بالمحافظة عليها حسب الإمكان، لم تزل بيوت أذن الله تعالى أن ترفع ويذكر فيها اسمه معمورة بتلاوة القرآن، ولم تنفكّ إلا للإقامة عن الأذان.
ومما يزيد هذه الوظيفة تأكيدا، ويوفّي قواعدها تشييدا، درس كتاب الصلاة والطهارة حتّى يستكملوه وعيا وحفظا، ويؤدّوا مضمّنه لفظا، فلفظا، ففي ذلك من الإشراف على أحكام العبادتين ما تبين مزيّته وفضله، ولا يسمع المؤمن بحال جهله ثم إذا أحكموه انتقلوا إلى درس كتاب الجهاد، وعمروا الآناء بتعرّف ما أعدّ الله للمجاهدين من الخير المستفاد فالجهاد في سبيل الله فرض على الأعيان، وقد تأكّد تعيّنه لهذه البلاد المجاورة لعبدة الأصنام والصّلبان، ونرجو أن ينجز الله ما وعد به من الفتح القريب لأهل الإيمان وليطلبوا الناس بعرض ما يتدارسون تثبيتا لمحفوظاتهم (3)، واستزادة لقسمهم من الأجر وحظوظهم.
ومن مقدّمات الجهاد، وأقوى أسباب الاعتداد، تعلّم الرّماية التي ورد الحضّ عليها، وندب الشرع إليها. قال عليه السّلام في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (4) «ألا إنّ القوّة الرّمي»، قالها ثلاثا: فأظفروا الناس بتعلمهم، ولترتّبوهم طبقات على قدر إجادتهم وتقدّمهم، قال عليه السّلام: «من
__________
(1) أي يستكره ويبغض.
(2) العنكبوت / 45.
(3) لعله «لمحفوظهم»، بما يتناسب مع التسجيع المعتاد.
(4) الأنفال / 60.(13/8)
ترك الرّمي بعد ما علّمه رغبة عنه فإنّها نعمة تركها أو قال كفرها»، وقال عليه السلام: «من رمى بسهم في سبيل الله فبلغ العدوّ أو لم يبلغ كان له كعتق رقبة».
وليعلموا أنهم يطلبون في وقت الحاجة بما يثمره هذا التأكيد من بدارهم، ويترتّب عليه من ائتمارهم، وليحرصوا على أن يلفى عددهم وافرا في حالتي إيرادهم وإصدارهم.
ومما فيه مصلحة كريمة الأثر، واضحة الحجول والغرر، يكون ذكرها جميلا، وأجرها جزيلا، تعهّد الضّعفاء والفقراء، وإسهامهم من الكثير كثيرا ومن القليل قليلا بحسب الإصابة والرّخاء، ووضع الصدقات في أهل التعفّف الذين لا يسألون الناس إلحافا أوّل ما يجيء حين العطاء فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «ليس المسكين بهذا الطّوّاف الذي يطوف على الناس فتردّه التّمرة والتّمرتان، وإنّما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدّق عليه ولا يقوم فيسأل النّاس» فتفقّدوا هذا الصّنف فهو أولى بالإيثار، وأحقّ أهل الإقتار، والمؤمنون إخوة ويعنى الجار بالجار، وليعن الغنيّ الفقير فذلك من مكارم الآثار.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة تعيّنت إقامتها على المسلمين جميعا فمن رأى منكرا فلينهه إليكم وعليكم تغييره وتعفية أثره على ما يوجبه الدّين ويقتضيه، وليأخذوا الحقّ من كل من تعيّن عليه سواء في ذلك القويّ والضعيف، والمشروف والشريف وكلّ من ارتكب منكرا كائنا من كان، عزّ قدره أوهان، فليبالغ في عقابه، وينكّل على قدر ما ارتكب من المنكر وأتى به، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «إنّما أهلك الذين من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ وإنّني والّذي نفسي بيده لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، وقال لأسامة في الحديث نفسه: «أتشفع في حدّ من حدود الله» وقد حدّ عمر رضي الله عنه ولده، وحدّ عثمان رضي الله عنه أخاه. فلتكن هذه الوظيفة منكم بمرأى ومسمع، ولتسلكوا
في إقامتها على الخامل والنّبيه أوضح مهيع، ووفّوا المعروف حقّه من الإظهار، وتلقّوا المنكر بأتمّ وجوه الإنكار، ثم عليكم أجمعين بالتّواصي بالخير والتّعاون على البرّ والتقوى: {وَلََا تَعََاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوََانِ} (1) وقال عليه السّلام:(13/9)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة تعيّنت إقامتها على المسلمين جميعا فمن رأى منكرا فلينهه إليكم وعليكم تغييره وتعفية أثره على ما يوجبه الدّين ويقتضيه، وليأخذوا الحقّ من كل من تعيّن عليه سواء في ذلك القويّ والضعيف، والمشروف والشريف وكلّ من ارتكب منكرا كائنا من كان، عزّ قدره أوهان، فليبالغ في عقابه، وينكّل على قدر ما ارتكب من المنكر وأتى به، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «إنّما أهلك الذين من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ وإنّني والّذي نفسي بيده لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، وقال لأسامة في الحديث نفسه: «أتشفع في حدّ من حدود الله» وقد حدّ عمر رضي الله عنه ولده، وحدّ عثمان رضي الله عنه أخاه. فلتكن هذه الوظيفة منكم بمرأى ومسمع، ولتسلكوا
في إقامتها على الخامل والنّبيه أوضح مهيع، ووفّوا المعروف حقّه من الإظهار، وتلقّوا المنكر بأتمّ وجوه الإنكار، ثم عليكم أجمعين بالتّواصي بالخير والتّعاون على البرّ والتقوى: {وَلََا تَعََاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوََانِ} (1) وقال عليه السّلام:
«لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تجسّسوا وكونوا عباد الله إخوانا».
وبالجملة فعلى المؤمن أن يستنفد وسعه في الاقتداء برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والسّلف من بعده ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ولم ينشأ ما نشأ من الأهوال، ولا طرأ في هذه الأمة ما طرأ من الاختلال، إلا بمفارقة الاقتداء الذي هو للدّين رأس المال ورضي الله عن عمر حيث قال: «فرضت الفرائض وسنّت السّنن وتركتم على الواضحة إلا أن تضلّوا بالناس يمينا وشمالا».
ومن أشدّ المنكرات بغير نكير وجوب تغيير: الخمر التي هي أسّ الإثم والفجور، وأمّ الخبائث والشّرور، وأسّ كلّ خطيئة ورأس كل محظور فليشتدّ أتمّ الاشتداد في أمرها، ويبحث غاية البحث عن مكامن عصرها، ويتفقّد الأماكن المتّهمة ببيعها، ويتسبّب بكلّ وجه وكل طريق إلى قطعها، وليبادر حيث كانت إلى إراقة دنانها، وليبالغ إلى أقصى غايات الاجتهاد في شانها وإنّ الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه فليتّق الله مدمن شربها فإنها رجس من عمل الشيطان، وليحذر ما في قوله عليه السّلام: «لا يشرب المؤمن الخمر حين يشربها وهو مؤمن» من إخراجه عن أهل الإيمان وشرب الخمر لجاج في الطّبع، فلا خير فيها مع الاعتناء المبنيّ على الشّرع ولو نهي الناس عن فتّ البعر لفتّوه حرصا غالبا على ما تقدّم فيه من الزّجر والمنع، فمن عثر عليه بعد من شارب لها أو عاصر، مستسرّ بها أو مجاهر، فليضرب الضرب المبرّح، ويسجن السجن الطويل، وليبقّ إلى أن تصحّ توبته صحة لا تحتمل التأويل ثم إن عاد فالحسام المصمّم يحسم داءه إذا أعضل، ويصدّ به سواه عما استحلّ من هذا الحرام واستهسل.
__________
(1) المائدة / 2.(13/10)
ومن أشدّ ما حذّر منه، وأكّد النهي عنه، كتب الفلسفة لعن الله واضعها! فإنهم بنوها على الكفر والتعطيل، وأخلوها من البرهان والدّليل، وعدلوا بها ضلالا وإضلالا عن سواء السبيل، وجعلوها تكأة لعقائدهم ومقاصدهم المخيّلة ركونا إلى الباطل وتمسّكا بالمستحيل، وقد كان سيدنا الإمام المنصور رضي الله عنه قد جدّ فيها بالتحريق والتّمزيق، وسدّ بإمضاء عزمه المسدّد ورأيه المؤيّد وجوه طلّابها بكل طريق، فحسبنا أن نقتدي في ذلك بأثره الجميل، ونأخذ في إحراقها حيث وجدت وإهانة كاتبيها وطالبيها وقاريها ومقريها، ولا يعدل عن السيف في عقاب من انتحلها واستوهبها وإن السيف في حقّه لقليل وقد قال عليه الصلاة والسلام:
«تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما: كتاب الله وسنّة نبيّه» وبحسب العاقل كتاب الله وسنّة الرسول.
ويتعلق بهذا المنهيّ عنه ما استرسل فيه مردة أهل الأهواء، والمتنكّبون فيما تلبّسوا به من الأدران عن سنن الاهتداء، أولئك قوم اعتقدوا إباحة المحظورات كلّها، وعدّوا بإيهاماتهم السخيفة، وتخيّلاتهم الضعيفة، كلّ واهي العقد منحلّها، وادّعوا أنهم من الملة وأعمالهم تقضي بأنهم ليسوا من أهلها فليبحث عن ذلك الصّنف الأوّل وهذا الثان، فمذهبنا أن نطهّر دين الله مما لصق به من الأدران، وأن نعيده إلى ما كان عليه قبل والله المستعان.
ومن الوظائف التي يجب أن تعتنوا بها غاية الاعتناء، وأن تقدّموا النظر فيها على سائر الأشياء، أمر أسواق المسلمين فقد اتّصل بنا ما تطرّق للتّجارات من مسامحات تعفّي عليها الخدع، ولا ينثرها إلا الحرص والطمع، ولا توافق الشرع ولا يطابقها الورع، حتى شاب أكثر المعاملات الفساد، ولا يجري على القانون الشرعيّ في كثير من المبايعات الانعقاد، وتصدّى المتحيّلون فيها لحيل يقصدونها، وأنواع لاجتلاب السّحت (1) يرصدونها وربّما ورد التاجر من القطر
__________
(1) السّحت: ما خبث وقبح من المكاسب، كالرشوة ونحوها. وفي التنزيل العزيز: {سَمََّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكََّالُونَ لِلسُّحْتِ} المائدة / 42.(13/11)
الشاسع، وحسّن الظنّ بالمشتري منه أو البائع، فيبلغ في خدعته، والإضرار به في سلعته، أسو أالمبالغ، ويرتكب من محرّم الخلابة (1) ما ليس بالسائغ، وسمع من ذلك أن من لا يتّقي الله تعالى يلابس الرّبا في تجارته، ويبني عليه جميع إدارته وحفظ المكاسب من الخبائث أوجب الواجبات، والحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات، ويمحق الله الرّبا ويربي الصدقات فلتلزموا الأمناء المعروفين بالدّيانة، المشهورين بالأمانة، تفقّد هذه الأسواق، وليحص كلّ أمين من تشتمل عليه سوقه من التّجّار، وليعرف المختار منهم من غير المختار، ومن لا يصلح للتجارة في سوق المسلمين يقام منها على أسو إ حال، ومن عثر منهم على ربا في معاملته عاجلتموه بأشدّ العقاب وأسو إ النّكال فخلّصوا المتاجر من الشوائب، ومروهم بأن يسيروا في بيعهم وشرائهم واقتضائهم على أجمل المذاهب، وأن يحذروا الغشّ فقد قال عليه السّلام: «من غشّنا فليس منّا» والانتفاء من الإيمان من أعظم المصائب وإذا اعتبرت في المبايعات الوجوه الشرعيّة ولحظت الأحكام زكّى الله عمل التاجر، وبورك له فيما يدير من المتاجر. ثم لتوصوا كلّ من تقدّمونه لشغل من الأشغال أن يبدأ بصلاح نفسه قبل سواها، وأن يلتزم الأعمال التي يؤثرها الله تعالى ويرضاها، وحذّروهم كلّ الحذر أن تقفوا لهم على ما يشين، أو تسمعوا لهم قبيحا يخفى أو يبين فمن سمعتم عنه أدنى سبب من هذا فعاجلوه بالعقاب الشّديد، والنّكال المبيد، إن شاء الله تعالى والسلام.
قلت: وعلى هذه المعاني والأمور المأمور بها في هذا الكتاب قد كانت الخلفاء تكتب بها في المكاتبات على أنحاء متفرّقة على ما تقدّم في مقاصد المكاتبات من المقالة الرابعة، وكانوا يولّون على الصلاة والمساجد من يقوم بأمرها على ما تقدّم، وإنّ أكثر هذه الأمور الآن مضمّنة في تواقيع أصحاب الحسبة على ما تقدّم ذكره في الكلام على الولايات في المقالة الخامسة، وبالله التوفيق.
__________
(1) الخلابة: الخديعة برقيق الحديث. وفي الحديث أنه قال صلّى الله عليه وآله وسلّم لرجل: «إذا بايعت فقل: لا خلابة».(13/12)
الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة السادسة (فيما يكتب من ذلك في زماننا)
وهو قليل: لقلّة الاعتناء بأمر الدين والاكتفاء في ذلك بالتفويض إلى متولّي الحسبة إلا أنه ربّما كتب في ذلك في الأمور المهمة عند تعدّي الطّور في أمر من الأمور الدّينية، والخروج فيه عن الحدّ.
ثم هو على ضربين:
الضرب الأوّل (ما يكتب عن الأبواب السلطانية)
وهذه نسخة توقيع شريف من هذا النوع كتب به في الأيام (1) أن لا يباع على أهل الذمّة رقيق حين كثر شراء أهل الذمة من اليهود والنصارى العبيد والجواري وتهويدهم وتنصيرهم (2)
__________
(1) بياض في الأصل.
(2) لم يذكر نسخة التوقيع. وبهامش الطبعة الأميرية أنه كتب بهامش غير نسخة ما نصه «بياض مقدار ورقة». وقد بيّض القلقشندي في أكثر من مكان من الصبح لنصوص، واضح أنه كان يريد العودة إليها فيما بعد، ثم فاته ذلك!(13/13)
الضرب الثاني (مما يكتب في الأوامر والنّواهي الدينية ما يكتب عن نوّاب السلطنة بالممالك)
وهذه نسخة توقيع كريم بمنع أهل صيدا وبيروت وأعمالهما من اعتقاد الرافضة والشّيعة وردعهم، والرّجوع إلى السنّة والجماعة، واعتقاد مذهب أهل الحق، ومنع أكابرهم من العقود الفاسدة والأنكحة (1) الباطلة، والتعرّض إلى أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وأن لا يدعوا سلوك [طريق] أهل السنة الواضحة، ويمشوا في شرك أهل الشك والضّلال، وأنّ كل من تظاهر بشيء من بدعهم قوبل بأشدّ عذاب وأتمّ نكال وليخمد نيران بدعهم المدلهمّة، وليبادر إلى حسم فسادهم بكل همّة، وتصريفهم عن [التّهوّك في مهالك أهوائهم إلى ما نصّ عليه الشرع] (2) واعتبره، وتطهير بواطنهم من رذالة اعتقادهم الباطل إلى أن يعلنوا جميعهم بالترضّي عن العشرة، وليحفظ أنسابهم بالعقود الصحيحة، وليداوموا على اعتقاد الحقّ والعمل بالسنّة الصريحة في خامس عشرين (3) جمادى الآخرة سنة أربع وستين وسبعمائة وهي:
الحمد لله الذي شرع الحدود والأحكام، وجدع بالحق [أنوف] (4) العوامّ الأغتام الطّغام (5)، وجمع الصّلاح والنّجاح والفلاح في الأخذ بسنّة خير الخلق وسيّد الأنام، وقمع الزائغين عمّا عليه أهل السنة من الحق في كلّ نقض وإبرام. نحمده على نعمه الجسام، ومننه التي تومض بروقها وتشام، وآلائه التي لا تسأم ولا تسام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ليس لمن تمسّك
__________
(1) لعل المراد عقد نكاح المتعة.
(2) بياض في الأصل. والزيادة من هامش الطبعة الأميرية.
(3) علق في هامش الطبعة الأميرية: «كذا في الأصل باثبات النون، ونقل الصبان عن ابن هشام تلحين الكتاب فيه».
(4) في الطبعة الأميرية «لأنوف».
(5) غتم غتما وغتمة: لم يفصح لعجمة في منطقه، فهو أغتم. والجمع: غتم وأغتام. والطّغام: أرذال الناس وأوغادهم.(13/14)
بعروتها الوثقى انفصال ولا انفصام، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الداعي إلى الملك العلّام، والهادي إلى الحق بواضح الإرشاد والإعلام، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين هم أئمة الإسلام، وهداة الخلق إلى دار السّلام، خصوصا أبا بكر الصديق الذي سبق الناس بما وقر (1) في صدره لا بمزيّة صلاة ولا بمزيد صيام، وعمر بن الخطّاب الذي كان له في إقامة الحق أعظم مقام، ومن أهل الصلاح والفساد انتقاء وانتقام، وعثمان بن عفّان الذي جمع القرآن فحصل لشمل سوره وآياته بما فعل أحسن التئام، وأنفق ماله محتسبا لله تعالى فحاز من الثواب رتبة لا ترام، وعليّ بن أبي طالب الذي كان صهر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وابن عمه ووارث علمه اللهام (2)، والمجادل عن دينه بالعلم والمجاهد بين يديه بالحسام، والباقين من العشرة الكرام، صلاة تستمدّ بركاتها وتستدام، وينمو فضلها بغير انقضاء ولا انصرام.
وبعد، فإن الله تعالى بعث محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بشرعه الذي ارتضاه، ودينه الذي قضاه، وحكمه الذي أبرمه وأمضاه، فبلّغ الرسالة، وأوضح الدّلالة، وأفصح المقالة، وجاهد في الله طوائف الأعداء، وأمال الله تعالى إلى قبول قوله وتصديقه من سبقت له العناية من الأودّاء، ونصره على مخالفيه من المشركين والحاسدين حتّى مات كل منهم بما في نفسه من الداء، وبيّن الطريق، وبرهن على التحقيق، فأعلن النّذارة والبشارة، ومهّد قواعد الدين تارة بالنص وتارة بالإشارة، وتمّ الدين بإحكام أحكامه، وشيّدت قواعده بإعلاء أعلامه، وعمّت الدعوة وتمّت، وفشت الهداية ونمت، ودخل الناس في الدين أرسالا، وبلغت نفوس المؤمنين من إعلاء كلمة التوحيد آمالا، وأصبحت الخيرات والبركات تتواتر وتتوالى، وخمدت نار الشّرك وطفئت مصابيح الضلالة ووحّد الله تبارك وتعالى.
فلمّا تكامل ما أراد الله تعالى إظهاره في زمانه، وتمّ ما شاء إبرازه في إبّانه، وأعلنت الهداية، ومحيت الغواية، وقام عمود الدين،
__________
(1) وقر الشيء في صدره: سكن فيه وثبت وبقي أثره.
(2) اللهام: العظيم كأنه يلتهم كل شيء.(13/15)
ودحضت حجة الملحدين، واستوسق أمر الإسلام واستتبّ، وتبّت يدا مناوئه وتبّ اختار الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم جواره وقربه، فقضى نحبه ولقي ربّه فقام خلفاؤه بعده بآثاره يقتدون، وبهديه وإرشاده يهتدون، ولأحكامه يتّبعون، ولأوامره يستمعون، ولمعاني ما جاء به يعون، وإلى قضاياه يرجعون، لا يغيّرون ولا يبدّلون، ولا يتعرّضون ولا يتأوّلون، فقضى على ذلك الخلفاء الراشدون، والأئمّة المهديّون لم يتّبع أحد منهم في زمانهم عقيدة فاسدة، ولم يظهر أحد مقالة عن سواء السبيل حائدة ثم تفرّقت الآراء، وتعدّدت الأهواء، واختلفت العقائد، وتباينت المقاصد، ووهت القواعد، وتصادمت الشّواهد، وتفرّقت الناس إلى مقرّ بالحقّ وجاحد، وظهرت البدع في المقالات، وضلّ كثير في كثير من الحالات، وتهافت غالبهم في الضّلالات، وقال كلّ قوم مقالة تضمّنت أنواعا من الجهالات وكان من أسخفهم عقلا، وأضعفهم نقلا، وأوهنهم حجّة، وأبعدهم من الرّشد محجّة، طائفة الرافضة والشّيعة، لارتكابهم أمورا شنيعة، وإظهارهم كلّ مقالة فظيعة، وخرقهم الإجماع، وجمعهم قبيح الابتداع، فتبدّدوا فرقا، وسلكوا من فواحش الاعتقادات طرقا، وتنوّع ناسهم، وتعدّدت أجناسهم، وتجرّأوا على تبديل قواعد الدّين، وأقدموا على نبذ أقوال الأئمة المرشدين، وقالوا ما لم يسبقوا إليه، وأعظموا الفرية فيما حملوا كلام الله ورسوله عليه السّلام عليه، وباؤوا بإثم كبير وزور عظيم، وعرّجوا (1) عن سواء السبيل فخرجوا عن الصراط المستقيم، وفاهوا بما لم يفه به قبلهم عاقل، وانتحلوا مذاهب لا يساعدهم عليها نقل ناقل، وتخيّلوا أشياء فاسدة حالهم فيما نخيّلها أسو أمن حال باقل (2)، وتمسّكوا بآثار موضوعة، وحكايات إلى غير الثّقات مرفوعة، ينقل عن أحدهم ما ينقله عن مجهول غير معروف، أو عمن هو بالكذب والتدليس مشهور وموصوف فأدّاهم ذلك إلى القول بأشياء منها ما يوجب الكفر
__________
(1) أي مالوا عنه وحادوا.
(2) باقل: اسم رجل يضرب به المثل في العيّ. يقال في المثل: «أعيا من باقل». (جمهرة الأمثال:
2/ 72ولسان العرب: 11/ 62).(13/16)
الصّراح، ويبيح القتل الذي لا حرج على فاعله ولا جناح ومنها ما يقتضي الفسق إجماعا، ويقطع من المتّصف به عن العدالة أطماعا ومنها ما يوجب عظيم الزّجر والنّكال ومنها ما يفضي بقائله إلى الويل والوبال. لعب الشيطان بعقولهم فأغواهم، وضمّهم إلى حزبه وآواهم، ووعدهم غرورا ومنّاهم، وتمنّوا مغالبة أهل الحق فلم يبلغوا مناهم، مرقوا من الدّين، وخرقوا إجماع المسلمين، واستحلّوا المحارم، وارتكبوا العظائم، واكتسبوا الجرائم، وعدلوا عن سواء السبيل، وتبوأوا من غضب الله شرّ مقيل. مذهبهم أضعف المذاهب، وعقيدتهم مخالفة للحق الغالب، وآراؤهم فاسدة، وقرائحهم جامدة، والنّقول والعقول بتكذيب دعاويهم شاهدة، لا يرجعون في مقالتهم إلى أدلّة سليمة، ولا يعرّجون في استدلالهم على طريق مستقيمة، يعارضون النّصوص القاطعة، ويبطلون القواعد لمجرّد المنازعة والمدافعة، ويفسّرون كلام الله تعالى بخلاف مراده منه، ويتجرّأون على تأويله بما لم يرده الله ولم يرد عنه فهم أعظم الأمة جهالة، وأشدّهم غواية وضلالة ليس لهم فيما يدّعونه مستند صحيح، ولا فيما ينقلونه نقل صريح.
فلذاك كانوا أقلّ رتبة في المناظرة، وأسو أالأمّة حالا في الدنيا والآخرة، وأحقر قدرا من الاحتجاج عليهم، وأقلّ وضعا من توجيه البحث إليهم أكابرهم مخلّطون، وأصاغرهم مثلهم ومعظمهم مخبّطون بل كلّهم ليس لأحد [منهم] حظّ في الجدال، ولا قدم في صحة الاستدلال ولو طولب أحد منهم بصحّة دعواه لم يجد عليها دليلا، ولو حقّق عليه بحث لم يلق إلى الخلاص سبيلا غاية متكلّمهم أن يروي عن منكر من الرجال مجهول، ونهاية متعلّمهم أن يورد حديثا هو عند العلماء موضوع أو معلول يطعنون في أئمة الإسلام، ويسبّون أصحاب النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، ويدّعون أنهم شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو بريء منهم، منزّه عما يصدر عنهم، فقدره أرفع عند الله والناس، ومحلّه أعلى بالنص والقياس، ويحرم أن ينسب إليه الرّضا بهذه العقائد، أو التقرير لهذه المفاسد، فإن طريقته هي المثلى، وسيرته هي العليا فالأخذ بالحق إليه يؤول، والصواب معه حيث يفعل أو يقول، ولا يصحّ نقل شيء من هذا
عنه، ولا يحل نسبه شيء إليه منه ومنصبه أجلّ من ذلك، ومكانه أعزّ مما هنالك غير أنّ هؤلاء يعرض لأحدهم في دينه شبهة، يقلّد فيها مثله في الضلالة وشبهه، ويتردّد في نفسه من الغمّ برهة لا يجد لخلاصه منها وجهة، ولا يوجّه قلبه إلى طلب النجاة منها وجهه، ولا يقع نظر بصيرته على طريق الصواب ولا يحقّق كنهه، فيرتكب خطرا يوجب توبيخه في القيامة وجبهه، وتسودّ في الموقف ناصية منه وجبهة، ويعدم لتحيّره في الضلال عقله وفهمه وفقهه قد صرفوا إلى الطعن في العلماء، ومخالفة ربّ الأرض والسماء، همّهم وهممهم، وافتروا على الله كذبا فذمّهم وأباح دمّهم، وقال لسان حال أمرهم أرى قدمهم أراق دمهم، وهان دمهم فها ندمهم.(13/17)
فلذاك كانوا أقلّ رتبة في المناظرة، وأسو أالأمّة حالا في الدنيا والآخرة، وأحقر قدرا من الاحتجاج عليهم، وأقلّ وضعا من توجيه البحث إليهم أكابرهم مخلّطون، وأصاغرهم مثلهم ومعظمهم مخبّطون بل كلّهم ليس لأحد [منهم] حظّ في الجدال، ولا قدم في صحة الاستدلال ولو طولب أحد منهم بصحّة دعواه لم يجد عليها دليلا، ولو حقّق عليه بحث لم يلق إلى الخلاص سبيلا غاية متكلّمهم أن يروي عن منكر من الرجال مجهول، ونهاية متعلّمهم أن يورد حديثا هو عند العلماء موضوع أو معلول يطعنون في أئمة الإسلام، ويسبّون أصحاب النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، ويدّعون أنهم شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو بريء منهم، منزّه عما يصدر عنهم، فقدره أرفع عند الله والناس، ومحلّه أعلى بالنص والقياس، ويحرم أن ينسب إليه الرّضا بهذه العقائد، أو التقرير لهذه المفاسد، فإن طريقته هي المثلى، وسيرته هي العليا فالأخذ بالحق إليه يؤول، والصواب معه حيث يفعل أو يقول، ولا يصحّ نقل شيء من هذا
عنه، ولا يحل نسبه شيء إليه منه ومنصبه أجلّ من ذلك، ومكانه أعزّ مما هنالك غير أنّ هؤلاء يعرض لأحدهم في دينه شبهة، يقلّد فيها مثله في الضلالة وشبهه، ويتردّد في نفسه من الغمّ برهة لا يجد لخلاصه منها وجهة، ولا يوجّه قلبه إلى طلب النجاة منها وجهه، ولا يقع نظر بصيرته على طريق الصواب ولا يحقّق كنهه، فيرتكب خطرا يوجب توبيخه في القيامة وجبهه، وتسودّ في الموقف ناصية منه وجبهة، ويعدم لتحيّره في الضلال عقله وفهمه وفقهه قد صرفوا إلى الطعن في العلماء، ومخالفة ربّ الأرض والسماء، همّهم وهممهم، وافتروا على الله كذبا فذمّهم وأباح دمّهم، وقال لسان حال أمرهم أرى قدمهم أراق دمهم، وهان دمهم فها ندمهم.
وقد بلغنا أن جماعة من أهل بيروت وضواحيها، وصيدا ونواحيها، وأعمالها المضافة إليها، وجهاتها المحسوبة عليها، ومزارع كل من الجهتين وضياعها، وأصقاعها وبقاعها، قد انتحلوا هذا المذهب الباطل وأظهروه، وعملوا به وقرّروه، وبثّوه في العامّة ونشروه، واتخذوه دينا يعتقدونه، وشرعا يعتمدونه، وسلكوا منهاجه، وخاضوا لجاجه، وأصّلوه وفرّعوه، وتديّنوا به وشرعوه، وحصّلوه وفصّلوه، وبلّغوه إلى نفوس أتباعهم ووصّلوه، وعظّموا أحكامه، وقدّموا حكّامه، وتمّموا تبجيله وإعظامه فهم بباطله عاملون، وبمقتضاه يتعاملون، ولأعلام علمه حاملون، وللفساد قابلون، وبغير السّداد قائلون، وبحرم حرامه عائذون، وبحمى حمايته لائذون، وبكعبة ضلاله طائفون، وبسدّة شدّته عاكفون وإنهم يسبّون خير الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، ويستحلّون دم أهل السّنّة من المسلمين، ويستبيحون نكاح المتعة ويرتكبونه، ويأكلون مال مخالفيهم وينتهبونه، ويجمعون بين الأختين في النكاح (1)، ويتديّنون بالكفر الصّراح، إلى
__________
(1) المعروف تاريخيا أن المنطقة المشار إليها، أي بيروت وصيدا وتوابعهما، لم يكن فيها من فرق الشيعة إلا «الجعفرية» الإثنا عشرية وهؤلاء لا يجمعون بين الأختين في النكاح، وهم في ذلك على ما يوافق مذاهب أهل السنّة. والواضح أن العبارة هنا من باب المبالغة في التحريض التي تلجأ إلى التشويه. (انظر: الفقه على المذاهب الخمسة: باب المحرّمات ص: 309).(13/18)
غير ذلك من فروع هذا الأصل الخبيث، والمذهب الذي ساوى في البطلان مذهب التثليث فأنكرنا ذلك غاية الإنكار، وأكبرنا وقوعه أشدّ إكبار، وغضبنا لله تعالى أن يكون في هذه الدولة للكفر إذاعة، وللمعصية إشادة وإشاعة، وللطاعة إخافة وإضاعة، وللإيمان أزجى بضاعة، وأردنا أن نجهّز طائفة من عسكر الإسلام، وفرقة من جند الإمام، تستأصل شأفة هذه العصبة الملحدة، وتطهّر الأرض من رجس هذه المفسدة ثم رأينا أن نقدّم الإنذار، ونسبق إليهم بالإعذار، فكتبنا هذا الكتاب، ووجّهنا هذا الخطاب، ليقرأ على كافّتهم، ويبلّغ إلى خاصّتهم وعامّتهم، يعلمهم أن هذه الأمور التي فعلوها، والمذاهب التي انتحلوها، تبيح دماءهم وأموالهم، وتقتضي تعميمهم بالعذاب واستئصالهم فإنّ من استحلّ ما حرّم الله تعالى وعرف كونه من الدين ضرورة فقد كفر، وقد قال الله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلََّا مََا قَدْ سَلَفَ} (1) عطفا على ما حكم بتحريمه، وأطلق النصّ فتعيّن حمله على تعميمه وقد انعقد على ذلك الإجماع، وانقطعت عن مخالفته الأطماع، ومخالفة الإجماع حرام بقول من لم يزل سميعا بصيرا {وَمَنْ يُشََاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مََا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى ََ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مََا تَوَلََّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسََاءَتْ مَصِيراً} (2) ونكاح المتعة منسوخ (3)، وعقده في نفس الأمر مفسوخ، ومن ارتكبه بعد علمه بتحريمه واشتهاره، فقد خرج عن الدّين بردّه الحقّ وإنكاره، وفاعله إن لم يتب فهو مقتول، وعذره فيما يأتيه من ذلك غير مقبول، وسبّ الصحابة رضوان الله عليهم مخالف
__________
(1) النساء / 23.
(2) النساء / 115.
(3) أكثر علماء أهل السنّة على هذا الرأي. والقليل منهم يرى أن آية المتعة غير منسوخة ومن هؤلاء الزمخشري في «الكشاف» حيث نقل عن ابن عباس أن آية المتعة من المحكمات. ونقل غيره أن الحكم بن عيينة سئل: أن آية المتعة هل هي منسوخة؟ فقال لا. وعلماء الإمامية من الشيعة يذهبون إلى عدم نسخ هذه الآية، لا من قبل الله عز وجل ولا من قبل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأن النسخ إنما حصل من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء». (انظر: المتعة ومشروعيتها في الإسلام: ص 66 217).(13/19)
لما أمر به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من تعظيمهم، ومنابذ لتصريحه باحترامهم وتبجيلهم، ومخالفته عليه السّلام فيما شرعه من الأحكام، موجبة للكفر عند كل قائل وإمام، ومرتكب ذلك على العقوبة سائر، وإلى الجحيم صائر. ومن قذف عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها بعدما برّأها (1) الله تعالى فقد خالف كتابه العظيم، واستحقّ من الله النّكال البليغ والعذاب الأليم، وعلى ذلك قامت واضحات الدلائل، وبه أخذ الأواخر والأوائل، وهو المنهج القويم، والصّراط المستقيم، وما عدا ذلك فهو مردود، ومن الملّة غير معدود، وحادث في الدين، وباعث من الملحدين، وقد قال الصادق في كل مقالة، والموضّح في كل دلالة: «كلّ محدثة بدعة وكلّ بدعة ضلالة» فتوبوا إلى الله جميعا، وعودوا إلى الجماعة سريعا، وفارقوا مذهب أهل الضّلالة، وجانبوا عصبة الجهالة، واسمعوا مقالة الناصح لكم في دينكم وعوا، وعن الغيّ ارجعوا، وإلى الرّشاد راجعوا، وإلى مغفرة من ربّكم وجنة عرضها السموات والأرض باتّباع السنة بادروا وسارعوا ومن كان عنده امرأة بنكاح متعة فلا يقربها، وليحذر من غشيانها وليتجنّبها، ومن نكح أختين في عقدين فليفارق الثانية منهما فإنّ عقدها هو الباطل، وإن كانتا في عقد واحد فليخرجهما معا عن حبالته (2) ولا يماطل، فإنّ عذاب الله شديد، ونكال المجرم في الحميم كلّ يوم يزيد، ودار غضب الله تنادي بأعدائه هل من مزيد فلا طاقة لكم بعذابه، ولا قدرة على أليم عقابه، ولا مفرّ للظالم منه ولا خلاص، ولا ملجأ ولا مناص فرحم الله تعالى امرأ نظر لنفسه، واستعدّ لرمسه، ومهّد لمصرعه، ووطّأ لمضجعه، قبل فوات الفوت، وهجوم الموت، وانقطاع الصّوت، واعتقال اللسان، وانتقال الإنسان، قبل أن تبذل التوبة ولا تقبل، وتذرى الدموع وتسبل،
__________
(1) برّأها الله تعالى بعدما قال فيها أهل الإفك ما قالوا وقولهم مشهور «بحديث الإفك». وآية براءة عائشة هي: «إنّ الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم» النور / 11. وفي الروايات أن أصحاب الإفك هم: عبد الله بن أبيّ بن سلول، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة أخت زينب زوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. (انظر: تفسير القرطبي: 12/ 199والميزان في تفسير القرآن للطباطبائي: 15/ 101).
(2) الحبالة: المصيدة الجمع: حبائل. والمراد إخراجهما من ذمته.(13/20)
وتنقضي الآجال وينقطع الأمل، ويمتنع العمل، وتزهق من العبد نفسه، ويضمّه رمسه، ويرد على ربه وهو عليه غضبان، وإنّ سخطه عليه بمخالفة أمره قد بان، ولا ينفعه حينئذ النّدم، ولا تقال عثرته إذا زلّت به القدم وقد أعذر من أنذر، وأنصف من حذّر فإنّ حزب الله هم الغالبون، والذين كفروا سيغلبون، وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون. ألهمنا الله وإيّاكم رشدنا، ووفّق إلى مراضيه قصدنا، وجمعنا وإياكم على الطاعة، وأعاننا جميعا على السّنّة والجماعة، بمنّه وكرمه!.
وهذه نسخة مرسوم كتب به عن نائب المملكة الطرابلسيّة إلى نائب حصن الأكراد (1)، بإبطال ما أحدث بالحصن: من الخمّارة، والفواحش، وإلزام أهل الذّمّة بما أجري عليهم أحكامه من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (2) رضي الله عنه في أواخر جمادى الأولى سنة خمس وستين وسبعمائة وهو:
المرسوم بالأمر العاليّ لا زال قصده الشريف المثابرة على تغيير المنكر، وشدّ أزر المنكر، مشمّرا في إراحة القلوب بإزاحة مواطن الفواحش: من سفاح ومخدّر وميسر ومسكر أن يتقدّم الجناب الكريم باستمرار ما وفّقنا الله تعالى له ورسمنا به، وأعطيناه دستورا يجده من عمل به يوم حسابه: من إبطال الخمّاره، وهدم مبانيها بحيث لا يبقى للنّفس الأمّارة عليها أمارة، وإخفاء معالمها التي توطّنها الشيطان فقطن، وإزالة ما بها من الفواحش التي ما ظهر منها أقلّ مما بطن، وإخلاء تلك البلاد من هذا الفساد الموجب لكثرة المحن والاختلاف وإراقة ما بها من الخمور، التي هي رأس الإثم والشّرور، وإحراق كل مخدّر مذموم في الشّرع محذور، وإذهاب اسم الحانة بالكليّة بحيث لا يتلفّظ به مسلم ولا كافر، ولا يطمع نفسه في الترتيب عليها من هو على خزيه وبغيه مظافر. وقد غيّرنا هذا المنكر بيد
__________
(1) قلعة مقابل حمص من غربيها، على الجبل المتصل بجبل لبنان، نحو مرحلة من حمص. كانت محلّ النيابة ومقرّ العسكر قبل فتح طرابلس. (صبح الأعشى: 4/ 144).
(2) الأحكام المعروفة بالشروط العمرية على نصارى بلاد الشام.(13/21)
أطال الله بفضله في الخير باعها، وغنمنا إزالة هذه المفسدة فأحرزنا برّها واصطناعها، خوفا من وعيد قوله تعالى: {كََانُوا لََا يَتَنََاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مََا كََانُوا يَفْعَلُونَ} (1) ورجاء أن نكون من المراد بقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) وعملا بقوله عليه السّلام: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده»، وعلما بأنّ أمير الرعية إذا لم يزل المنكر من بينهم فكيف يفلح في يومه وحال السّؤال عنهم في غده.
وقد صار حصن الأكراد بهذه الحسنة في الحصن المنيع، وأهله المتمسّكون بالعروة الوثقى في مربع خصيب مريع، وضواحيه مطهّرة من خبث السّفاح ونجاسة الخمور، ونواحيه كثيرة السّرور قليلة الشّرور، قد أعلى الله تعالى به كلمته، وأجاب لصغيره وكبيره في هذا الأمر دعوته وما ذلك إلا بتوفيق من أهّلنا لذلك، وألهمنا رشدنا وطهّرنا من هذه المفاسد تلك المسالك، وله الحمد على ما وفّق إليه، وأعان عبده في ولايته عليه فإن المنكر إذا فشا ولم ينكر آن خراب الديار، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إنّ الله ليغار»، فعند ذلك تمنع السماء درّها، وتمسك الأرض بذرها، ويجفّ الضّرع، وييبس الزّرع، وتعطش الأكباد، وتهلك البلاد.
فليبسط الجناب الكريم يده في إزالة ما بقي من منكر، متفقّدا لجليله وحقيره بالفحص الشديد وما على ذلك يحمد بكل لسان ويشكر، مترقّبا من يدخل البلد ذلك ليقابله بالضرب بالسياط، آخذا في تتبّع خلاله بالحزم والتحرّي والاحتياط، إلى أن تصل بنا أخباره، ويعلو لدينا في سياسته ونهضته مناره، وتحمد عندنا إيالته وآثاره، وهو بحمد الله كما نعهد شديد على كل مفسد ومعاند، سديد الآثار والأثارة والمقاصد.
وأما أهل الذمّة فما رفع عنهم السيف إلا بإعطاء الجزية والتزام الأحكام،
__________
(1) المائدة / 79.
(2) آل عمران / 104.(13/22)
وأخذ عهود أكيدة عليهم من أهل النقض والإبرام.
فليتقدّم الجناب الكريم بإلزامهم بما ألزمهم به الفاروق رضوان الله عليه، وليلجئهم في كل أحوالهم إلى ما ألجأهم إليه: من إظهار الذّلّة والصّغار، وتغيير النّعل وشدّ الزّنّار، وتعريف المرأة بصبغ الإزار وليمنعوا من إظهار المنكر والخمر والناقوس، وليجعل الخاتم أو الحديد في رقابهم عند التجرّد في الحمّام، وليلزموا بغير ذلك من الأحكام التي ورد بها المرسوم الشريف من مدّة أيّام ومن لم يلتزم منهم بذلك وامتنع، وأعلن بكفره وأعلى كلمته ورفع، فما له حكم إلا السيف، وغنم أمواله وسبي ذراريّه وما في ذلك على مثله حيف فهاتان مفسدتان أمرنا بالزامهما فرارا من سخط الله تعالى وحذارا، إحداهما إبطال الحانة والثانية إخفاء كلمة اليهود والنّصارى.
فليتقدّم الجناب المشار إليه باستمرار ما رسمنا به فهو الحق الذي لا شكّ فيه، والنّور الذي يتبعه المؤمن ويحكيه، ونرجو من كرم الله تعالى استمرار هذه الحسنة مدى الأزمان، واستثمار شجرها المائد الأغصان، وإبطال هذا الحزن المسمّى ظلما بالفرح (1)، وإعمال السيف في عنق من ارتضاه بين أظهر المسلمين فانهتك سرّه وافتضح.
وليقمع أهل الشرك والضلال، بما يلزم الصّغار عليهم والإذلال، إلى أن لا يرفع لهم راس، ولا يشيّدوا كيدا إلا على غير أساس، وليستجلب الجناب الكريم لهذه الدولة الشريفة ولنا الدعاء من المسلمين، والفقراء والصالحين والمساكين، وليطب قلوبهم باستمرار ما أزلناه، ومحونا آثاره وأبطلناه، وقصدنا بإبطاله من تلك الأرض، مسامحة من الحكم العدل يوم العرض ومن أعاد ما أبطلناه أو أعان على إعادته، أو أمر بتشييده وبناء حجارته، أو رتّب مرتّبا على خدر بغيّ وموّه ودلّس بالأفراح، أو أطلق أن يباع منكر أو سوّل له شيطانه أنه من الأرباح، فإن الله تعالى يحاكمه وهو أحكم الحاكمين، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
__________
(1) كان فيها حانة تسمى «الأفراح» ويشير إلى ذلك في ص 33من هذا الجزء.(13/23)
الباب الثاني فيما يكتب في المسامحات والإطلاقات وفيه فصلان.
الفصل الأوّل فيما يكتب في المسامحات
والمسامحات جمع مسامحة، وهي [الجود والموافقة على ما أريد منه] (1)
والمراد المسامحة بما جرت به عادة الدواوين السلطانية: من المقرّرات واللوازم السلطانية، وهي على ضربين:
الضرب الأوّل (ما يكتب من الأبواب السلطانية)
وقد جرت العادة أنّ السلطان إذا سمح بترك شيء من ذلك كتب به مرسوم شريف وشملته العلامة الشريفة وهو على مرتبتين:
المرتبة الأولى المسامحات العظام.
وقد جرت العادة أن تكتب في قطع الثلث مفتتحة ب «الحمد لله».
وصورتها أن يكتب في أعلى الدّرج بوسطه الاسم الشريف كما في مراسيم الولايات، ثم يكتب من أوّل عرض الورق إلى آخره «مرسوم شريف أن يسامح بالجهة الفلانية وإبطال المكوس بها، أو أن يسامح بالباقي بالجهة الفلانية، أو أن
__________
(1) بياض في الأصل، والزيادة من الطبعة الأميرية عن «المصباح».(13/24)
يسامح أهل الناحية الفلانية بكذا وكذا، ابتغاء لوجه الله تعالى، ورجاء لنواله الجسيم على ما شرح فيه» ثم يترك وصلان بياضا غير وصل الطّرّة، ويكتب في أوّل الوصل الثالث البسملة، ثم الخطبة بالحمد (1) لله إلى آخرها، ثم يقال: وبعد، ويؤتى بمقدّمة المسامحة: من شكر النعمة، والتوفية بحقها ومقابلتها بالإحسان إلى الخلق، وعمل مصالح الرعية وعمارة البلاد، وما ينخرط في هذا السّلك، ثم يقال: ولذلك لما كان كذا وكذا اقتضت آراؤنا الشريفة أن يسامح بكذا، ثم يقال:
فرسم بالأمر الشريف أن يكون الأمر على كذا وكذا، ثم يقال: فلتستقرّ هذه المسامحة ويؤتى فيها بما يناسب، ثم يقال: وسبيل كلّ واقف على هذا المرسوم الشريف العمل بمضمونه أو بمقتضاه، ويختم بالدعاء بما يناسب.
وهذه نسخة مرسوم بمسامحة ببواقي دمشق وأعمالها، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ (2) رحمه الله تعالى وهي:
الحمد لله الرؤوف بخلقه، المتجاوز لعباده عما قصّروا فيه من حقّه، المسامح لبريّته بما أهملوه من شكر ما بسط لهم من رزقه، جاعل دولتنا القاهرة مطلع كرم تجتلى أنوار البرّ في البرايا من أفقه، ومنشأ ديم، تجتلب أنواء الرّفق بالرعايا من برقه، ومضمار جود يحتوي على المعروف من جميع جهاته ويشتمل على الإحسان من سائر طرقه فلا برّ تنتهي إليه الآمال إلا ولكرمنا إليه مزيّة سبقه، ولا أجر يتوجّه إليه وجه الأمانيّ إلا تلقّته نعمنا بمتهلّل وجه الإحسان طلقه، ولا
__________
(1) قال في اللسان: وأما قول العرب: «بدأت بالحمد لله» فإنما هو على الحكاية، أي بدأت بقول: الحمد لله رب العالمين. (اللسان: 3/ 155).
(2) شهاب الدين، محمود بن سليمان الحلبيّ، أبو الثناء المتوفى سنة 725هـ. كان شيخ صناعة الإنشاء في عصره. استمر في دواوين الإنشاء بمصر والشام نحو خمسين عاما وهو صاحب «حسن التوسل إلى صناعة الترسّل».(13/25)
معروف تجدب منه أرجاء الرجاء إلا واستهلّت عليه آلاؤنا من صوب برّنا المألوف لآلي ودقه (1)
نحمده على نعمه التي عمّت الرّعايا بتوالي الإحسان إليهم، وأنامتهم في مهاد الأمن بما وضعت عنهم مسامحتنا من إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وأنالتهم ما لم تطمح آمالهم إليه: من رفع الطّلب عن بواقي أموال أخّروها وراء ظهورهم وكانت كالأعمال المقدّمة بين يديهم.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبعث على نشر رحمته، التي وسعت كلّ شيء في عباده، وتحثّ على بثّ نعمته، التي غمرت كلّ حيّ على اجتماعه وسعت إلى كل حيّ على انفراده، وتحضّ على ما ألهمنا من رأفة بمن قابله بتوحيده وشدّة على من جاهره بعناده.
ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أسكت ألسنة الشرك وأخرسها، وعفّى معالم العدوان وطمسها، وأثّل قواعد الدين على أركان الهدى وأسّسها، وأوضح سبل الخيرات لسالكها فإذا سعدت بالملوك رعاياها فإنما أسعدت الملوك بذلك في نفس الأمر أنفسها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين شفعوا العدل بالإحسان، وجمعوا بين ملك الدنيا والآخرة بإحياء السّنن الحسان، وزرعوا الجهاد بالإيمان في كل قلب فأثمر بالتوحيد من كلّ لسان، صلاة جامعة أشتات المراد، سامعة نداء أربابها يوم يقوم الأشهاد، قامعة أرباب الشكّ فيها والإلحاد، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإننا لما آتانا الله من ملك الإسلام، وخصّنا به من الحكم العامّ، في أمة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وأيّدنا به من النصر على أعداء دينه، وأمدّنا به من تأبيد تأييده ودوام تمكينه، وجعل دولتنا مركزا مدار ملك الأمة الإسلامية عليه، وفلكا مآل أمور الأمّة المحمدية في سائر الممالك على اختلافها
__________
(1) ودقت السماء: أمطرت.(13/26)
إليه، ورزقنا من النصر على أعدائه ما أعزّ المسلمين وأدالهم، وأذلّ المشركين وأذالهم، وكفّ بالرّعب أطماعهم، وأعمى بما شاهدوه أبصارهم وأصمّ بما سمعوه أسماعهم، وحصرهم بالمهابة في بلادهم، وأيأسهم بالمخافة من نفوسهم قبل طارفهم وتلادهم لم نزل نرغب في حسنات تحلّى بها أيامنا، وقربات تجري بها أقلامنا، ومكرمات تكمل بها عوارفنا وإنعامنا، ومآثر يخلّد بها في الباقيات الصالحات ذكرنا، ومواهب تجمّل بها بين سير العصور الذاهبة سيرتنا الشريفة وعصرنا، ومصالح يصرف بها إلى مصالح البلاد والعباد نظرنا الجميل وفكرنا، نهوضا بطاعة الله فيما ألقى مقاليده إلينا، وأداء لشكره فيما أتمّ به نعمه العميمة علينا، واكتسابا لثوابه فيما نقدّمه من ذخائر الطاعات بين يدينا، ونظرا في عمارة البلاد بخفّة ظهور ساكنيها، وإطابة لقلوب العباد من تبعات البواقي التي كانت تمنعهم من عمارة أراضيهم وتنفّرهم من التوطّن فيها، ورغبة فيما عند الله والله عنده حسن الثواب، وتحرّيا لإصابة وجه المصلحة الإسلاميّة في ذلك والله الموفّق للصواب.
ولذلك لمّا اتّصل بنا [أنّ] باقي البلاد الشامية من البواقي التي يتعب ألسنة الأقلام، إحصاؤها، ويثقل كواهل الأفهام، تعداد وجوهها واستقصاؤها، مما لا يسمح بمثله في سالف الدّهور، ولا يسخو به إلا من يرغب مثلنا فيما عند الله من أجور لا تخرجه عن مصالح الجمهور اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعفي منها ذمما كانت في أغلال إسارها، وأثقال انكسارها، وروعة اقتضائها، ولوعة التردّد بين إنظار المطالبة وإمضائها، وأن نعتق منها نفوسا كانت في سياق مساقها، وحبال إزهاقها وإرهاقها، لتتوفّر الهمم على عمارة البلاد، بالأمن على الطارف والتّلاد، وتجمع الخواطر على حسن الخلف، بما حصل لهم من المسامحة عما عليهم من ذلك سلف، بذمم بريّة من تلك الأثقال، عريّة عن عثرات تلك البواقي التي ما كان يقال إنها تقال.
فرسم بالأمر الشريف زاده الله تعالى علوّا وتشريفا، وأمضاه بما يعم الآمال رفقا بالرعايا وتخفيفا، وأجراه من العدل والإحسان بما يعمّ البلاد، ويجبر العباد،
فإن الأرض يحييها العدل ويعمرها الاقتصار على الاقتصاد أن يسامح(13/27)
فرسم بالأمر الشريف زاده الله تعالى علوّا وتشريفا، وأمضاه بما يعم الآمال رفقا بالرعايا وتخفيفا، وأجراه من العدل والإحسان بما يعمّ البلاد، ويجبر العباد،
فإن الأرض يحييها العدل ويعمرها الاقتصار على الاقتصاد أن يسامح
فليستقرّ حكم هذه المسامحة استقرارا يبقي رسمها، ويمحو من تلك البواقي المساقة رسمها واسمها، ويضع عن كواهل الرعايا أعباءها، ويسيّر بين البرايا أخبارها الحسنة وأنباءها، ويسقط من جرائد الحساب تفاصيلها وجملها، ويحقّق بتعفيته آثارها رجاء رعيّة بلادنا المحروسة وأملها.
فقد ابتغينا بالمسامحة بهذه الجمل الوافرة ثواب الله وما عند الله خير وأبقى، وأعتقنا بها ذمم من كانت عليه من ملكة المال الذي كان له باستيلاء الطّلب واستمراره مسترقّا، تقرّبا إلى الله تعالى لما فيه من إيثار التخفيف، ووضع إصر التكليف، وتقوية حال العاجز فإنّ غالب الأموال إنما تساق على الضعيف، وتوفير همّ الرّعايا على عمارة البلاد وذلك من آكد المصالح وأهمّها، وتفريغ خواطرهم لأداء ما عليهم من الحقوق المستقبلة وذلك من أخصّ المنافع وأعمّها فليقابلوا هذه النّعم بشكر الله على ما خصّ دولتنا به من هذه المحاسن، ويوالوا حمده على مامتّعهم به من موادّ عدلها التي ماء إحسانها غير آسن، ويبتهلوا لأيّامنا الزاهرة بالأدعية التي تخلّد سلطانها، وتشيّد أركانها، وتعلي منار الدين باعتلائها، وتؤيّدها بالملائكة المقرّبين على أعداء الله وأعدائها، وسبيل كل واقف على مرسومنا هذا: من ولاة الأمر أجمعين العمل بمضمونه، والانتهاء إلى مكنونه، والمبادرة إلى إثبات هذه الحسنة، والمسارعة إلى العمل بهذه المسامحة التي تستدعي مسارّ القلوب وثناء الألسنة، وتعفية آثار تلك البواقي التي عفونا عن ذكرها، ومحو ذكر تلك الأموال التي تعوّضنا عن استيفائها بأجرها.
وهذه نسخة مرسوم شريف بالمسامحة بالبواقي في ذمم الجند والرّعايا بالشام، كتب به في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون في شهور سنة اثنتين
وسبعمائة بخط العلّامة كمال الدين محمد الزّملكانيّ (1) من إنشائه، وقريء على المنبر بالجامع الأمويّ بدمشق المحروسة وهي:(13/28)
وهذه نسخة مرسوم شريف بالمسامحة بالبواقي في ذمم الجند والرّعايا بالشام، كتب به في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون في شهور سنة اثنتين
وسبعمائة بخط العلّامة كمال الدين محمد الزّملكانيّ (1) من إنشائه، وقريء على المنبر بالجامع الأمويّ بدمشق المحروسة وهي:
الحمد لله الذي وسع كلّ شيء رحمة وعلما، وسمع نداء كلّ حيّ رأفة وحلما، وخصّ أيامنا الزاهرة بالإحسان فأنجح فيها من عدل وخاب من حمل ظلما، وزان دولتنا بالعفو والتجاوز فهي تعتدّ المسامحة بالأموال الجسيمة غنما إذا اعتدّتها الدّول غرما.
نحمده على نعمه التي غمرت رعايانا بإدامة الإحسان إليهم، وعمرت ممالكنا بما نتعاهد به أهلها من نشر جناح الرأفة عليهم، وخفّفت عن أهل بلادنا أثقال بواقي الأموال التي كانوا مطلوبين بها من خلفهم ومن بين يديهم، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لم تزل تشفع لأهلها العدل بالإحسان، وتجمع لأربابها بالرأفة والرّفق أشتات النّعم الحسان، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي جلا الغمّة، وهدى الأمّة، وسنّ الرأفة على خلق الله والرحمة، وحثّ على الإحسان إلى ذوي العسرة لما في ذلك من براءة كل مشغول الذّمّة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذي أمروا بالتيسير، واقتنعوا من الدنيا باليسير، وأوضحوا طرق الإحسان لسالكيها فسهل على المقتدي بهم في الحنوّ على الأمة الصعب ويسّر العسير، صلاة تدّخر ليوم الحساب، وتعدّ للوقت الذي إذا نفخ في الصّور فلا أنساب، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن الله تعالى لمّا خصّ أيامنا الزاهرة بالفتوح التي أنامت الرعايا، في مهاد أمنها، وأنالت البرايا، مواقع يمنها ومنّها، وكفّت أكفّ الحوادث عن البلاد
__________
(1) هو محمد بن علي بن عبد الواحد الأنصاري: فقيه، انتهت إليه رياسة الشافعية في عصره. كتب في ديوان الإنشاء بدمشق، ثم ولي القضاء في حلب. توفي سنة 727هـ. قال في الأعلام: «والخلاف طويل بين ياقوت في معجم البلدان: 4/ 403والقاموس والتاج، مادة «زملك»، وابن الأثير في اللباب: 1/ 507في ضبط «الزملكاني» وهي نسبة إلى «زملكا» من قرى دمشق، معروفة باسمها إلى اليوم». أقول: وأهل تلك المنطقة يقولون اليوم: زملكا (بفتح الزاي والميم وتسكين اللام). (انظر الأعلام: 6/ 284).(13/29)
وأهلها، ونشرت عليهم أجنحة البشائر في حزن الأرض وسهلها، وأعذبت من الطّمأنينة مواردهم، وعمّت بالدّعة والسكون قاطنهم وراحلهم، وبدّلتهم من بعد خوفهم أمنا، ونوّلتهم بأجابة داعي الذّبّ عنهم منّا منّا، رأينا أن نفسّح لهم مجال الدّعة والسكون، وأن لا نقنع لهم بما كان من أسباب المسارّ حتّى نتبعها بما يكون، وأن نصفّي بالإعفاء من شوائب الأكدار شربهم، ونؤمّن بالإغفاء عن طلب البواقي التي هي على ظهورهم كالأوزار سربهم، وأن نشفع العدل فيهم كما أمر الله تعالى بالإحسان إليهم، ونضع عنهم بوضع هذه الأثقال إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وأن نوفّر على عمارة البلاد هممهم، ونبري من تبعات هذه الأموال اللازمة لهم ذممهم، ونريح من ذلك أسرارهم، ونطلق من ربقه الطلب المستمرّ إسارهم، ونسامحهم بالأموال التي أهملوها وهي كالأعمال محسوبة عليهم، ونعفيهم من الطلب بالبواقي التي نسوها كالآجال وهي مقدّمة بين يديهم، لتكون بشراهم بالنصر كاملة، ومسرّتهم بالأمن من كلّ سبيل شاملة.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال برّه عميما، وفضله لحسن النظر في مصالح رعاياه مديما أن تسامح مدينة دمشق المحروسة وسائر الأعمال الشامية بما عليها من البواقي المساقة في الدواوين المعمورة إلى المدد المعينة في التذكرة الكريمة المتوّجة بالخط الشريف وجملة ذلك من الدراهم (1) ألف ألف وسبعمائة ألف وستة وأربعون ألفا ومائة ألف وخمسة وأربعون درهما، ومن الغلال المنوّعة تسعة آلاف وأربعمائة واثنتان وأربعون غرارة (2)، ومن الحبوب مائتان وثمان وعشرون غرارة، ومن الغنم خمسمائة رأس، ومن الفولاذ ستّمائة وثمانية أرطال، ومن الزّيت ألفان وثلاثمائة رطل، ومن حبّ الرّمّان ألف وستّمائة رطل.
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية «لعله: من الدنانير، وحينئذ يستقيم الكلام». وحتى يستقيم الكلام لابد من القول بعد ذكر الدنانير: «ومن الدراهم مائة ألف وخمسة وأربعون».
(2) المقصود الغرارة الشاميّة. قال في نزهة النفوس: وهي ثلاثة أرادب (جمع إردبّ) بالمصري.
والإردبّ مكيال ضخم بمصر، يساوي أربعة وعشرين صاعا، أو ست ويبات والويبة اثنان وعشرون مدّا. (النظم الإسلامية: 421ونزهة النفوس والأبدان: 3/ 71).(13/30)
فليتلقّوا هذه النعمة بباع الشكر المديد، ويستقبلوا هذه المنّة بحمد الله تعالى فإنّ الحمد يستدعي المزيد، ويرفلوا في أيامنا الزاهرة، في حلل الأمن الضافية، ويردوا من نعمنا الباهرة، مناهل السعد الصافية، ويقبلوا على مصالحهم بقلوب أزال الأمن قلقها، وأذهبت هذه المسامحة المبرورة فرقها، ونفوس أمنت المؤاخذة من تلك التّبعات بحسابها، ووثقت بالنجاة في تلك الأموال من شدّة طالب يأبى أن يفارق إلّا بها، وليتوفّروا على رفع الأدعية الصالحة لأيّامنا الزاهرة، ويتيمّنوا بما شملهم من الأمن والمنّ في دولتنا القاهرة فقد تصدّقنا بهذه البواقي التي أبقت لنا أجرها وهي أكمل ما يقتنى، وخفّفت أثقال رعايانا وذلك أجمل ما به يعتنى. وسبيل كل واقف على هذا المرسوم الشريف اعتماد حكمه، والوقوف عند حدّه ورسمه ويعفّي آثار هذا الباقي المذكور بمحو رسمه واسمه، بحث لا يترك لهذه البواقي المذكورة في أموالنا انتساب، ولا يبقى لها إلى يوم العرض عرض نورده ولا حساب والخط الشريف شرفه الله تعالى أعلاه حجة بمقتضاه.
وهذه نسخة مسامحة بمكوس على جهات مستقبحة بالمملكة الطرابلسية، وإبطال المنكرات، كتب بها في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» أيضا في شهور سنة سبع عشرة وسبعمائة (1) وهي:
الحمد لله الذي جعل الدّين المحمّديّ في أيامنا الشريفة على أثبت عماد، واصطفانا لإشادة أركانه وتنفيذ أحكامه بين العباد، وسهّل علينا من إظهار شعائره ما رام من كان قبلنا تسهيله فكان عليه صعب الانقياد، وادّخر لنا من أجور نصره أجلّ ما يدّخر ليوم يفتقر فيه لصالح الاستعداد.
نحمده على نعم بلّغت من إقامة منار الحق المراد، وأخمدت نار الباطل
__________
(1) أي أثناء سلطنته الثالثة التي امتدت من أول شوال سنة 709هـ إلى سنة 741هـ.(13/31)
بمظافرتنا ولولا ذلك لكانت شديدة الاتّقاد، ونكّست رؤوس الفحشاء فعادت على استحياء إلى مستسنّها أقبح معاد، ونشكره على أن سطّر في صحائفنا من غرر السّير ما تبقى بهجته ليوم المعاد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يجدها العبد يوم يقوم الأشهاد، وتسري أنوار هديها في البرايا فلا تزال آخذة في الازدياد، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بعثه الله بالإنذار إلى يوم التّناد، والإعذار إلى من قامت عليه الحجة بشهادة الملكين فأوضح له سبيل الرّشاد، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من ردّ أهل الردّة إلى الدّين القويم أحسن ترداد، ومنهم من عمّم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سائر العباد والبلاد، ومنهم من بذل ماله للمجاهدين ونفسه للجهاد، ومنهم من دافع عن الحق فلا برح في جدال عنه وفي جلاد، صلاة تهدي إلى السّداد، وتقوّم المعوجّ وتثقّف الميّاد، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن الله تعالى منذ ملّكنا أمور خلقه، وبسط قدرتنا في التصرّف في عباده والمطالبة بحقّه، وفوّض إلينا القيام بنصرة دينه، وفهّمنا أنه تعالى قبض قبل خلق الخلائق قبضتين فرغبنا أن نكون من قبضة يمينه، وألقى إلينا من مقاليد الممالك، وأقام الحجة علينا بتمكين البسطة وعدم المشاقق في ذلك، ومهّد لنا من الأمر ما على غيرنا توعّر، وأعدّ لنا من النّصر ما أجرانا فيه على عوائد لطفه لا عن مرح في الأرض ولا عن خدّ مصعّر ألهمنا إعلاء كلمة الإسلام، وإعزاز الحلال وإذلال الحرام، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن لا نختار على دار الآخرة دار الدّنيا فلم نزل نقيم للدّين شعارا، ونعفّي للشّرك آثارا، ونعلن في النصيحة لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم جهرا وإسرارا، ونتّبع أثر كرم نقتفيه، وممطول بحقّه نوفّيه، ونعلم حق قربة نشيّده، ومخذولا استظهر عليه الباطل نؤيّده، وذا كربة نفرجها، وغريبة فحشاء استطردت من أدؤر (1) الحق نخرجها، وسنّة سيئة تستعظم النفوس زوالها فتجعلها هباء منثورا، وجملة عظيمة أسّست على غير
__________
(1) جمع دار.(13/32)
التقوى مبانيها فيحطمها كرمنا فنؤدّي الجزاء عنها موفورا فاستقصينا ذلك في ممالكنا الشريفة مملكة مملكة، واستطردنا في إبطال كل فاحشة موبقة مهلكة، فعفّينا من ذلك بالديار المصرية ما شاع خبره، وظهر بين الأنام أثره، وطبّقت بمحاسنه الآفاق، ولهجت به ألسنة الدّعاة والرّفاق: من مكوس أبطلناها، وجهات سوء عطّلناها، ومظالم رددناها إلى أهلها، وزجرناها عن غيّها وجهلها، وبواق سامحنا بها وسمحنا، وطلبات خفّفنا عن العباد بتركها وأرحنا، ومعروف أقمنا دعائمه، وبيوت لله عز وجل أثرنا منها كل نائمة ثم بثثنا ذلك في سائر الممالك الشامية المحروسة، وجنينا ثمرات النصر من شجرات العدل التي هي بيد يقظتنا مغروسة.
ولما اتّصل بعلومنا الشريفة أنّ بالمملكة الطرابلسية آثار سوء ليست في غيرها، ومواطن فسق لا يقدر غيرنا على دفع ضررها وضيرها، ومظانّ آثام يجد الشيطان فيها مجالا فسيحا، وقرى لا يوجد بها من [كان] (1) إسلامه مقبولا ولا من [كان] (2) دينه صحيحا، وخمورا يتظاهر بها ويتصل سبب الكبائر بسببها، وتشاع بين الخلائق مجهرا، وتباع على رؤوس الأشهاد فلا يوجد لهذا المنكر منكرا، ويحتجّ في ذلك بمقرّرات سحت لا تجدي نفعا، وتبقى في يد آخذها كأنها حيّة تسعى.
ومما أنهي إلينا أن بها حانة عبّر عنها بالأفراح قد تطاير شررها، وتفاقم ضررها، وجوهر فيها بالمعاصي، وآذنت لولا حلم الله وإمهاله بزلزلة الصّياصي، وغدت لأهل الأهوية مجمعا، ولذوي الفساد مربعا ومرتعا، يتظاهر فيها بما أمر بستره من القاذورات، ويؤتى بما يجب تجنّبه من المحذورات، ويسترسل في الأفراح بها بما يؤدّي إلى غضب الجبّار، وتهافت النفوس فيها كالفراش على الاقتحام في النار.
ومنها أن المسجون إذا سجن بها أخذ بجميع ما عليه بين السجن وبين
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية وهي لازمة لانتظام السياق.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية وهي لازمة لانتظام السياق.(13/33)
الطّلب، وإذا أفرج عنه ولو في يومه انقلب إلى أهله في الخسارة بشرّ منقلب، فهو لا يجد سرورا بفرجه، ولا يحمد عقبى مخرجه.
ومنها: أنّ بالأطراف القاصية من هذه المملكة قرى سكّانها يعرفون بالنّصيرية لم يلج الإسلام لهم قلبا، ولا خالط لهم لبّا، ولا أظهروا له بينهم شعارا، ولا أقاموا له منارا، بل يخالفون أحكامه، ويجهلون حلاله وحرامه، ويخلطون ذبائحهم بذبائح المسلمين، ومقابرهم بمقابر أهل الدّين، وكل ذلك مما يجب ردعهم عنه شرعا، ورجوعهم فيه إلى سواء السبيل أصلا وفرعا، فعند ذلك رغبنا أن نفعل في هذه الأمور ما يبقى ذكره مفخرة على ممّر الأيّام، وتدوم بهجته بدوام دولة الإسلام، ونمحو منه في أيامنا الشريفة ما كان على غيرها به عارا، ونسترجع للحق من الباطل ثوبا طالما كان لديه معارا، ونثبت في سيرة دولتنا الشريفة عوارف لا تزال مع الزمن تذكر، وتتلو على الأسماع قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ وَإِيتََاءِ ذِي الْقُرْبى ََ وَيَنْهى ََ عَنِ الْفَحْشََاءِ وَالْمُنْكَرِ} (1)
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال بالمعروف آمرا، وعن المنكر ناهيا وزاجرا، ولا متثال أوامر الله تعالى مسارعا ومبادرا أن يبطل من المعاملات بالمملكة الطرابلسية ما يأتي ذكره:
__________
(1) النحل / 90.(13/34)
1 - جهات الأفراح المحذورة بالفتوحات خارجا عما لعله يستقرّ من ضمان الفرح الخ وتقديرها:
أقصاب للأمراء بحكم أن بعض الأمراء كان لهم جهات زرع أقصاب وقرّروا على بقية فلّاحيهم العمل بها والقيام بنظيره آخر العمل وتقدير ذلك:
هبة الشادّ بنواحي الكهف تشدّ فيما كان يستأدى من كل مدير وتقدير متحصله: 2السجون بالمملكة الطرابلسية خارجا عن سجن طرابلس بحكم أنه أبطل بمرسوم شريف متقدّم التاريخ وتقديرها:
عفاية الشام بكور طرابلس واقفة والسرون وما معه بحكم أن المذكورين كانوا ثبتوا على المراكز بالبحر، فلما شكت المراكز بالعساكر المنصورة قرّر على ذلك في السنة:
ضمان المشعل بطرابلس مما كان أوّلا بديوان الشام بالفتوحات ثم استقر بالديوان المعمور في شهور سنة ست عشرة وسبعمائة وتقديره: 3سجن الأقصاب المحدّث بأمر أقصاب الديوان المعمور التي كان فلّاحو الكورة بطرابلس يعملون بها ثم أعفوا عن العمل وقرّر عليه في السنة:
حق الديوان بصهيون بطرابلس وقصريون بطرابلس عمن كان معا في حصنها وتقدير متحصل ذلك:
المستحدث إقطاعا من بعض الأمراء على الفلاحين مما لم تجر به عادة: من حشيش وملح وضيافة وتقديره:
فليبطل هذا على ممرّ الأزمنة والدّهور، إبطالا باقيا إلى يوم النّشور، لا يطلب ولا يستادى، ولا يبلغ الشيطان في بقائه مرادا.(13/35)
المستحدث إقطاعا من بعض الأمراء على الفلاحين مما لم تجر به عادة: من حشيش وملح وضيافة وتقديره:
فليبطل هذا على ممرّ الأزمنة والدّهور، إبطالا باقيا إلى يوم النّشور، لا يطلب ولا يستادى، ولا يبلغ الشيطان في بقائه مرادا.
ويقرأ مرسومنا هذا على المنابر ويشاع، وتستجلب لنا منهم الأدعية الصالحة فإنها نعم المتاع.
وأما النّصيريّة فليعمروا في بلادهم بكل قرية مسجدا، ويطلق له من أرض القرية رقعة أرض تقوم به وبمن يكون فيه من القوّام بمصالحه على حسب الكفاية، بحيث يستفزّ الجناب الفلانيّ نائب السلطنة بالمملكة الطرابلسيّة والحصون المحروسة ضاعف الله تعالى نعمته من جهته من يثق إليه لإفراد الأراضي وتحديدها وتسليمها لأئمّة المساجد المذكورة، وفصلها عن أراضي المقطعين وأهل البلاد المذكورة، ويعمل بذلك أوراقا وتخلّد بالديوان المعمور حتى لا يبقى لأحد من المقطعين فيها كلام، وينادى في المقطعين وأهل البلاد المذكورة بصورة ما رسمنا به من ذلك.
وكذلك رسمنا أيضا بمنع النّصيريّة المذكورين من الخطاب، وأن لا يمكّنوا بعد ورود هذا من الخطاب جملة كافية، وتؤخذ الشهادة على أكابرهم ومشايخ قراهم لئلا يعود أحد منهم إلى التظاهر بالخطاب ومن تظاهر به قوبل أشدّ مقابلة.
فلتعتمد مراسمنا الشريفة ولا يعدل عن شيء منها، ولتجر المملكة الطرابلسيّة مجرى بقيّة الممالك المحروسة في عدم التظاهر بالمنكرات، وتعفية آثار الفواحش وإقامة شعائر الدّين القويم: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مََا سَمِعَهُ فَإِنَّمََا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) والاعتماد على الخط الشريف أعلاه.
__________
(1) البقرة / 181.(13/36)
وهذه نسخة توقيع بالمسامحة في جميع المراكز بما يستأدى على الأغنام الدغالي الداخلة إلى حلب، وأن يكون ما يستخرج من تجار الغنم على الكبار منها خاصّة، من إنشاء المقرّ الشهابيّ بن فضل الله (1)، مما كتب به في شهور سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وهي:
الحمد لله ذي المواهب العميمة، والعطايا التي لا تجود بها يد كريمة، والمنن التي عوّضنا منها عن كل شيء بخير منه قيمة، والمسامحة التي ادّخر لنا بها عن كل مال حسن مآل وبكلّ غنم غنيمة.
نحمده على نعمه التي غدت على كثرة الإنفاق مقيمة، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أكرم من سمح وسامح في أمور عظيمة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة مستديمة، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فمنذ ملّكنا الله لم نزل نرغب إليه، ونعامله بما نهبه له ونربح عليه، ولم نبق مملكة من ممالكنا الشريفة حتى سامحنا فيها بأموال، وسامينا فيها بنفع أرضها السّحب الثّقال، وكانت جهة العداد بالمملكة الحلبية المحروسة مثقلة الأوزار بما عليها، مشدودة النّطاق بما يغلّ من الطلب يديها، مما هو على التّركمان بها محسوب، وإلى عديدهم عدده منسوب، ونحن نظنّه في جملة ما أسقطته مسامحتنا الشريفة وهو منهم مطلوب، وهو المعروف بالدغالي زائدا على الرّؤوس الكبار، ومعدودا عند الله من الكبائر وهو في حساب الدّواوين من الصّغار فلمّا اتصل بنا أنّ هذه المظلمة ما انجلى عنهم ظلمها، ولا رفع من الحساب عنهم قلمها أكبرنا موقع بقائها، وعلمنا أنها مدّة مكتوبة لم يكن بدّ من المصير إلى
__________
(1) هو شهاب الدين، أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري. ولد سنة 700هـ. في أسرة عمل كثير من أفرادها في ديوان الإنشاء المملوكي ومنهم القاضي شرف الدين بن فضل الله، والقاضي محيي الدين بن فضل الله، وقد تولى كل منهما كتابة السرّ للناصر بن قلاوون مثل شهاب الدين نفسه.
وتوفي شهاب الدين سنة 748هـ. (الألقاب الإسلامية: 45وشذرات الذهب: 6/ 160وفيه أنه توفي سنة 749هـ والأعلام: 1/ 268وفي الهامش أن ابن إياس جعله في وفيات سنة 755 هـ).(13/37)
انقضائها، واستجلبنا قلوب طوائف التّركمان بها، وأوثقنا أسبابهم في البلاد بسببها، لأمرين كلاهما عظيم: لرغبتنا فيما عند الله ولما لهم من حقّ ولاء قديم كم صاروا مع الجيوش المنصورة جيوشا، وكم ساروا إلى بلاد ملوك الأعداء فثلّوا (1) لهم عروشا، وكم كانوا على أعقاب العساكر المؤيّدة الإسلامية ردفا ومقدّمتهم في محاصرة جاليشا (2)، وكم قتلوا بسهامهم كافرا وقدّموا لهم رماحهم نعوشا ومنهم أمراء وجنود، ونزول ووفود، وهم وإن لم يكونوا أهل خباء فهم أهل عمود، وذوو أنساب عريقة، وأحساب حقيقة، إلى القبجاق (3) الخلّص مرجعهم، والفرس بفرسان دولتنا الشريفة تجمعهم فاقتضى رأينا الشريف أن نرعى لهم هذه الحقوق بإبطال تلك الزيادة المرادة، وأن نتناسى منها ما هو في العدد كالنّسيء في الكفر زيادة.
فرسم بالأمر الشريف لا زالت مواهبه تشمل الآفاق، وتزيد على الإنفاق، وتقدّم ما ينفد إلى ما هو عند الله باق أن يسامح جميع التّراكمين الدّاخل عدادهم في ضمان عداد التّركمان بالمملكة الحلبية المحروسة بما يستأدى منهم على الأغنام الدغالي، وأن يكون ما يستخرج منهم من العدد على الكبار خاصة: وهو عن كل مائة رأس كبار ثلاثة أرؤس كبار خاصّة لا غير من من غير زيادة على ذلك، مسامحة مستمرّة، دائمة مستقرّة، باقية بقاء الليالي والأيام، لا تبدّل لها أحكام، ولا
__________
(1) ثلّ الدار: هدمها. وثلّ عرشه: أذهب سلطانه.
(2) الجاليش كلمة فارسية ومعناها: الحرب والمعركة. والجاليش في الكتب العربية علم كبير في أعلاه خصلة من شعر الخيل. وقد كان من التقاليد المملوكية إذا عزم السلطان على الخروج للقتال أن يرفع هذا العلم أربعين يوما قبل يوم الخروج فوق مبنى الطبلخانة (مكان في القلعة) والجاليش أيضا تستعمل بمعنى طليعة الجند. وقد ذكرها المقريزي بشينين: «شاليش». وتجمع على «جواليش». (انظر تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل: ص 58والصبح: 4/ 8).
(3) القبجاق أو القفجاق: فرع من الأتراك، مساكنهم الأصلية حوض نهر «إرتش» (في سيبيرية) وقد تنقلوا حتى استقروا بحوض نهر «إثل» (الفولغا) في جنوبي الروسيا الحالية، ويسميهم ابن خلدون أيضا «الخفشاخ». (دائرة المعارف الإسلامية: مادة «أتراك» والأعلاق الخطيرة: 3/ 870ومقدمة ابن خلدون: 136).(13/38)
تتغيّر بتغيّر حاكم من الحكّام نرجو أن نسرّ بها في صحائف أعمالنا يوم العرض، لا يتأوّل فيها حساب، ولا تمتدّ إليها [يد] (1) حسّاب، ولا يبقى عليها سبيل للدواوين والكتّاب، ولا تسيّب أغنامهم ليرعاها منهم أولئك الذّئاب كلّما مرّ على هذه المسامحة زمان أكّد أسبابها، وبيّض في صحائف الدفاتر حسابها، لا تعارض ولا تناقض ولا يتأوّل فيها متأوّل في هذا الزمان ولا فيما بعده من الزمان، ولا يدخل حكمها في النسيان، ولا ينقص أجرها المضمون، ولا تطلب أصحاب هذه الدغالي عليها بعداد في قرن من القرون، ولا يستحقر بما يستأدى منها جليلة ولا حقيرة، ولا يسمح لنفسه من قال إنها صغيرة وهي عند الله كبيرة: لتطيب لأهلها ومن تسامع بما شملهم من إحساننا الشريف النّفوس، ولا تصدّع لهم بسبب هذا الطّلب رؤوس فمن تعرّض في زماننا أمدّنا الله بالبقاء أو كشف في هذه الصدقة الجارية وجه تأويل، أو سكن فيها إلى مداومة بقليل، أو طلب من ظالم بعينه مداواة قوله العليل، فسيجد ما يصبح به مثلة، ويتوب به مثله ويكون لمن بعده عبرة بمن قدّم قبله ونحن نبرأ إلى الله ممن يتعرّض بعدنا إلى نقضها وهذه المسامحة عليه حجّتنا التي لا يقدر عند الله على دحضها.
ولتقرأ على المنابر وتعل كلمتها، وتمدّ في أقطار الأرض كما امتدّ السحاب ترجمتها وسبيل كل واقف عليها من أرباب الأحكام: أصحاب السيوف والأقلام، ومن يتناوب منهم على الدّوام، العمل بما رسمنا به واعتماد ما حكم بموجبه، بعد الخط الشريف شرفه الله تعالى أعلاه، إن شاء الله تعالى.
المرتبة الثانية من المسامحات أن تكتب في قطع العادة مفتتحة برسم بالأمر الشريف.
وغالب ما يكتب ذلك للتّجار الخواجكية (2) بالمسامحة بما يلزمهم من
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) هم التجار الأجانب وكانوا أكثر ما يتجرون بالرقيق، وكانوا أشبه بالسفراء يؤتمنون على أسرار وأخبار الممالك التي يدخلونها، فلا ينقلونها إلى غيرها من الممالك كما كانوا يؤتمنون على الجواري والمماليك الذين يحملونهم في أسفارهم. والكاف المضافة فارسية تدخل مع ياء النسبة.
(مصطلحات صبح الأعشى: 73والألقاب الإسلامية: 280).(13/39)
المكوس والمقرّرات السلطانية عن نظير ثمن ما يبتاع منهم من المماليك.
والعادة أن يكتب في طرّتها «توقيع شريف بمسامحة فلان بما يجب عليه من الحقوق الديوانية بالديار المصرية والبلاد الشامية» بحسب ما يرسم له به.
وهذه نسخة توقيع من ذلك وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زال يتبع السّماح بمثله، ويشمل الرعايا كلّ وقت في ممالكه الشريفة بعدله، ويواصل إليهم رفقه ورفده فلا يبرحون في مهاد من نعمه وإسعاد من فضله أن يسامح المجلس السامي (إلى آخر ألقابه) أدام الله تعالى رفعته بما يجب عليه من الحقوق الدّيوانية بالديار المصرية والبلاد الشامية، وسائر الممالك الإسلامية، فيما يبيعه ويبتاعه ويتعوّضه من سائر الأصناف خلا الممنوعات: صادرا لا غير أو صادرا وواردا، بنظير المماليك الذين ابتاعهم برسم الأبواب الشريفة بكذا وكذا ألف درهم.
فليعتمد هذا المرسوم الشريف كلّ واقف عليه ويعمل بحسبه ومقتضاه، من غير عدول عنه ولا خروج عن حكمه ومعناه والخطّ الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة دعاء آخر يفتتح به توقيع مسامحة، وهو: لا زالت نعمه عميمة، وسجاياه كريمة، ومواهبه في الآفاق سائرة وفي الأقطار مقيمة، أن يسامح فلان بكذا وكذا.
آخر: لا زالت صدقاته الشريفة تحقّق وسائل طالبها، وأوامره المطاعة نافذة في مشارق الأرض ومغاربها، أن يسامح فلان بكذا وكذا.
قلت: والعادة في مستند ذلك أنه تحضّر به قائمة من ديوان الخاص الشريف فيكتب عليها كاتب السر بالتعيين، ويخلّدها كاتب الإنشاء عنده شاهدا له بذلك كما في غيره من سائر المستندات.(13/40)
قلت: والعادة في مستند ذلك أنه تحضّر به قائمة من ديوان الخاص الشريف فيكتب عليها كاتب السر بالتعيين، ويخلّدها كاتب الإنشاء عنده شاهدا له بذلك كما في غيره من سائر المستندات.
الضرب الثاني (ما يكتب عن نوّاب السلطنة بالممالك الشاميّة)
وغالب ما يكون في مسامحات التّجار بمقرّر ما يبتاعونه أو يشترونه، أو بقدر معيّن يحصل الوقوف عنده، ويعبّر عما يكتب فيه بالتواقيع كما في الولايات عندهم، وأكثر ما يفتتح برسم بالأمر.
وهذه نسخة مرسوم شريف بمسامحة كتب بها عن نائب الشام في الدولة الناصرية «فرج» (1) لخواجا محمد بن المزلّق، وهي:
رسم بالأمر العالي لا زال قصد ذوي الحقوق عنده ناجحا، وإحسانه للمقرّب إليه مسامحا أن يسامح الجناب العاليّ، الصّدريّ، الكبيريّ، المحترميّ، المؤتمنيّ، الأوحديّ، الأكمليّ، الرئيسيّ، العارفيّ، المقرّبيّ، الخواجكيّ، الشمسيّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأكابر في العالمين، أوحد الأمناء المقرّبين، صدر الرؤساء، رأس الصّدور، عين الأعيان، كبير الخواجكية، سفير الدولة، مؤتمن الملوك والسلاطين: محمد بن المزلّق، عين الخواجكية بالمملكة الشريفة الشامية المحروسة أدام الله تعالى نعمته بما يجب عليه من الحقوق الديوانية بالطّرقات المصرية، وجميع البلاد الشامية المحروسة
__________
(1) تولى السلطنة سنة 801هـ وقتل سنة 814هـ (كما جاء في الخطط التوفيقية) أو 815هـ (كما في نزهة النفوس والضوء اللامع). أما نواب الشام في عهده فكانوا على التوالي: الأمير سودون، قريب الظاهر برقوق ثم تغري بردي البشبغاوي ثم آقبغا الجمالي الأطروشي ثم شيخ المحمودي ثم نوروز الحافظي ثم شيخ المحمودي بالتغلّب ثم تغري بردي مرة ثانية. (انظر الخطط التوفيقية:
1/ 117والضوء اللامع: 6/ 168ونزهة النفوس والأبدان: أحداث ما بين 801و 815الجزء الثاني).(13/41)
والركاه بدمشق، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، وغزّة، وحمص، وبعلبكّ المحروسات، والبروك، والمقطعين، وقطيا، مما يبيعه ويبتاعه ويتعوّضه من جميع الأصناف خلا الممنوعات صادرا وواردا، ويثمّن عليه بقيمة ما يشتريه بما مبلغه من الدراهم النّقرة (1) الجيّدة مائتا ألف درهم، ولا يطالب عن ذلك بحقّ من الحقوق ولا بمقرّر من المقرّرات، مسامحة باقية مستمرّة، دائمة أبدا مستقرّة، لا ينتقض حكمها، ولا يغيّر رسمها، لخدمته الدّول على اختلافها، ولمبالغته في التقرّب بما يرضي الخواطر الكريمة وينفع الناس بما يحضره من أنواع المتاجر وأصنافها، ولاستحقاقه لهذا الإنعام، ولاختصاصه به دون الخاصّ والعام.
فليتلقّ ذلك بالحمد والابتهال والله تعالى يبلّغه من مزيد إنعامنا الآمال والاعتماد في معناه، على الخط الكريم أعلاه، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الدراهم النقرة: هي الدراهم التي كانت تغلب فيها نسبة الفضة على النحاس والتي يغلب فيها النحاس كانت تسمى الدراهم السود. (مصطلحات صبح الأعشى: 134).(13/42)
الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة السادسة
(فيما يكتب من الإطلاقات: إمّا تقريرا لما قرّره غيره من الملوك السابقة، وإمّا ابتداء لتقرير ما لم يكن مقرّرا قبل، وإما زيادة على ما هو مقرّر وفيه طرفان)
الطرف الأوّل (فيما يكتب عن الأبواب السلطانية وهو على ثلاث مراتب)
المرتبة الأولى (ما يكتب في قطع الثلث مفتتحا بالحمد لله وهو أعلاها)
وهذه نسخة توقيع شريف باستقرار ما أطلقه السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب بالديار المصرية للعمريّين أعصاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كتب به في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون (1)، من إنشاء المقرّ الشّهابي بن فضل الله وهي:
الحمد لله الذي أبدأ الجميل وأعاده، وأجرى تكرّمنا على أجمل عادة، وقفّى بنا آثار الذين أحسنوا الحسنى وزيادة.
نحمده على أن جعل جودنا المقدّم وإن تأخّر أياما، والمطيّب لذكر من تقدّم
__________
(1) تولى السلطنة ثلاث مرّات: الأولى من 693هـ إلى 694هـ والثانية من 698هـ إلى 708هـ والثالثة من 709هـ إلى 741هـ حين وفاته. (الخطط التوفيقية الجديدة: 1/ 9988).(13/43)
حتّى كأنما حاله مثل المسك ختاما، والصّيّب (1) الذي تقدّمه من بوادر الغيث قطر ثم استهلّ هو غماما، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرفع أعلامها ونمنع أن تطمس الليالي لمن جاهد عليها من ملوك الزمان أعلاما، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي هدى به إلى أوضح المسالك، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فتحوا من الأرض ما وعد أنه سيبلغ ملك أمّته إلى ما زوي (2) من ذلك، وسلم.
وبعد، فإن أفضل النّعم ما قرن بالإدامة، وأعظم الأجور [أجر] (3) من سنّ سنة [حسنة] (4) فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، وأحسن الحسنات ما رغّبت السلف الصالح في خلفهم، وأمرّت بأيديهم ما حازوه من ميراث سلفهم وكان المولى الشهيد الملك الناصر صلاح الدين، منقذ بيت المقدس من المشركين، أبو المظفّر يوسف بن أيوب قدّس الله روحه هو الذي كان على قواعد العمريّين بانيا، والفاتح لكثير من فتوحات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتوحا ثانيا ولما أعلى الله بمصر دولته المنيرة، ومحا به من البدع الإسماعيلية عظائم كثيرة، حبّس ناحية «شباس الملح» (5) وما معها جميع ذلك بحدّه وحدوده وقريبه وبعيده، وعامره وغامره، وأوّله وآخره، على المقيمين بالحرمين الشريفين من الذّرّية العمريّة، كما قاله في توقيعه الشريف المكتتب بالخط الفاضل عمر الأنام، واقتفى بهداه بعده من إخواننا الصالحين ملوك الإسلام فجدّدنا لهم هذا التوقيع الشريف تبرّكا بالمشاركة واستدراك ما فاتنا مع سلفهم الكريم بالإحسان إلى أعقابهم. ومرسومنا أن يحملوا على حكم التوقيع
__________
(1) الصيّب: السحاب ذو المطر.
(2) أي ما جمع من ذلك.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(5) شباس الملح (بالباء الموحدة): ذكرها ابن دقماق في الأعمال الغربية. وبقربها قريتان تحملان اسما مشابها هما: «شباس سنقر» و «شباس أنباره». (الانتصار لواسطة عقد الأمصار: 5/ 92 وولاة مصر: 233حاشية).(13/44)
الشريف الصّلاحيّ وما بعده من تواقيع الملوك الكرام، ولا يغيّر عليهم فيه مغيّر من عوائد الإكرام، ولا يقبل فيهم قول معترض ولا تتعرّض إليهم يد معترّض، ولا يفسح فيهم لمستعص إن لم يكن رافضا فإنه برفض حقّهم مترفّض، وليعامل الله فيهم بما يزيد جدّهم رضي الله عنه رضا، ويحبّس تحبيسا ثانيا لولانا لقيل لمن يطالب بها كيف تطالب بشيء مضى مع من مضى ونحن نبرأ إلى الله ممن سعى في نقضها بسبب من الأسباب، أو مدّ فيها إلى فتح باب، أو تأوّل في حكم هذا الكتاب عليهم وقد وافق حكم جدّهم حكم الكتاب، وأن لا يقسم شيء من ريع هذه الناحية على غير المقيمين منهم بالحرمين الشريفين. ومن خاف على نفسه في المقام فيهما ممن كان في أحدهما ثم فارقه على عزم العود إلى مكانه، وأقام وله حنين إلى أوطانه، ولم يلهه استبدال أرض بأرض وجيران بجيران عن أرضه وجيرانه، إتباعا لشرطها الأوّل بمثله، واتّباعا [لمن] فيها (1) فاز مع السابقين الأوّلين بمزيد فضله.
وليكن النظر فيه لأمثل هذا البيت من المستحقين لهذا الحبس (2) كابرا عن كابر، ناظرا بعد ناظر، اتّباعا للمراد الكريم الصّلاحيّ في مرسومه المقدّم، وتفسيرا لمن لا يفهم، من غير مشاركة معهم لأحد من الحكّام، لا أرباب السيوف ولا أرباب الأقلام: لنكون نحن ومحبّسها أثابه الله على هذه الحسنة متناصرين، ولتجد البقيّة التي قد ناصرها ناصرين الناصر الأوّل منهما بناصرين، وليحذر من تتبّع عليهم تأويلا، ومن وجد في قلبه مرضا فأعداهم به تعليلا فما كتبناه لتأويل حصل عليهم، ولا لتعليل المراسيم الملوكية التي هي في يديهم، وإنما هو بمثابة إسجال اتّصل من حاكم إلى حاكم، وسيف جدّدنا
__________
(1) في الطبعة الأميرية: «واتباعا فيها» مع علامة توقف.
(2) الحبس: جمع حبيس، يقع على كل شيء وقفه صاحبه وقفا محرّما لا يورث ولا يباع من أرض ونخل وكرم ومستغلّ. قال ابن الأثير: ويجوز القول: الحبس (بفتح الحاء) على المصدر، وبضمها على الإسم. (انظر لسان العرب: مادة حبس).(13/45)
تقليده ليضرب به على يد الظالم، وجود أعلمنا من يجيء أنه على مدى الليالي والأيام ضرب لازم، وفضل إن تقدّمنا إليه من الملوك الكرام حاتم، فإن كرمنا عليه خاتم فقد نبّهوا رحمهم الله مكافأة على إحسانهم إلى الذرّية العمرية عمرا، ثم ماتوا وأحالوا على جودنا المحمديّ فإنهم ببركات من سمّينا باسمه صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنواع الحسنات أسرا، فكان توقيعنا هذا لهم بمنزلة الخاتمة الصالحة، والرحمة التي أربت أوائلها على الغيوث السافحة فلقد تداركنا رمق برّهم المعلّل، ولحقنا سابق معروفهم فلم نتمهّل، وأعدنا ما بدأوا به من الجميل فتكمّل، وقرنّا مراسيمنا المطاعة بعضها ببعض وربما زاد الآخر على الأوّل، فأمددناها منه بما لو لم يكن مداده أعزّ من سواد القلب والبصر لما كان قرّة عين لمن يتأمّل: ليرتفع عن هذه الناحية وعمر فيها كلّ كارث كارث، ويزال عنهم إلا ما يكون من مجدّدات الخير خير حادث، ويعلم الملكان المتقدّمان أمامنا أن نعزّز بثالث. وجميع النوّاب والولاة والمتصرفين، والمسارعين إلى الخيرات ونعوذ بالله من المتوقّفين، ومن يدخل في دائرة الأعمال، وينضمّ إلى راية العمّال، فإنا نحذّره أن يتعرّض فيها إلى سوء مآل، أو يردّ منها يده إلى جيبه بمال، أو يشوّش على أهلها ما استقاموا على أحسن حال، وإن يحمد الله من تقدّمنا من الملوك واتّبعوا فيه التوفيق في علاماتهم فإنا نحمده وهو أملنا ولنا في الغيب آمال والله تعالى يجعل هذه الحسنة خالصة لوجهه الكريم، معوّضة منه بالثواب العظيم، واصلة بالرحمة لرميم هذا البيت القديم، إن شاء الله تعالى، والاعتماد
المرتبة الثانية (ما يفتتح بأما بعد حمد الله»)
وهو على نحو ما تقدّم في الولايات: إما في قطع الثلث أو في العادة المنصوريّ.
وهذه نسخة توقيع شريف من ذلك وهي:
أما بعد حمد الله الذي جعل أيّامنا مطلعا للسّعادة، وجعل لأوليائها، من
إحساننا الحسنى وزيادة، وأضفى حلل بهائها، على من لم يجتمع لغيره ما اجتمع له من أوصاف السّيادة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله الذي شيّد الله به مباني الدين الحنيفيّ ورفع عماده، ونصر جيوش الإسلام ومهّد مهاده، وعلى آله وصحبه الذين ما منهم إلا من جعل طاعته ونصرته عمدته واعتماده، واتخذ مظافرته ومؤازرته في كل أمر عتاده، صلاة مستمرّة على كرّ الجديدين (1) إلى يوم الشّهادة فإنّ أولى من تلحظه دولتنا الشريفة في أقبالها بمزيد إقبالها، وتعلي قدره إلى غاية تقصر الأفلاك عن إدراك منارها وبعد (2)
منالها، وتضاعف له أسباب الإحسان من حسن نظرها واشتمالها، وتشيّد مباني عزّه فلا تصل يد الزمن إلى بعض تصرّمها، وتسبغ ملابس النّعم عليه فيختال في أضفاها ومعلمها، وتجدّد من مزايا جودها ما يحسن به الجزاء عما أسلفه من خدمها من نظر في مصالح أحوالها المنصورة فأحسن النظر، وعضّد أنصارها بآرائه التي تشرق بها وجوه الأيّام إشراق الدّراريّ والدّرر، وأضحى وله في العلياء المحلّ الأثيل، والمناقب التي هي كالنهار لا تحتاج إلى دليل، والسيادة التي تكسو الزمن حلل البهاء فيجرّ منها على المجرّة ذيلا ضافيا، والمآثر التي لولا ما أحيته من معالم الرّآسة كان طللا عافيا، مع ما له من الحقوق التي تشكرها الأيّام والدّول، والخدم التي كم بلغ بمخالصته فيها من قصد وأمل، والسّجايا التي إذا خلعت عليها حللا من الثناء وجدتها منه في أبهى الحلل.(13/46)
أما بعد حمد الله الذي جعل أيّامنا مطلعا للسّعادة، وجعل لأوليائها، من
إحساننا الحسنى وزيادة، وأضفى حلل بهائها، على من لم يجتمع لغيره ما اجتمع له من أوصاف السّيادة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله الذي شيّد الله به مباني الدين الحنيفيّ ورفع عماده، ونصر جيوش الإسلام ومهّد مهاده، وعلى آله وصحبه الذين ما منهم إلا من جعل طاعته ونصرته عمدته واعتماده، واتخذ مظافرته ومؤازرته في كل أمر عتاده، صلاة مستمرّة على كرّ الجديدين (1) إلى يوم الشّهادة فإنّ أولى من تلحظه دولتنا الشريفة في أقبالها بمزيد إقبالها، وتعلي قدره إلى غاية تقصر الأفلاك عن إدراك منارها وبعد (2)
منالها، وتضاعف له أسباب الإحسان من حسن نظرها واشتمالها، وتشيّد مباني عزّه فلا تصل يد الزمن إلى بعض تصرّمها، وتسبغ ملابس النّعم عليه فيختال في أضفاها ومعلمها، وتجدّد من مزايا جودها ما يحسن به الجزاء عما أسلفه من خدمها من نظر في مصالح أحوالها المنصورة فأحسن النظر، وعضّد أنصارها بآرائه التي تشرق بها وجوه الأيّام إشراق الدّراريّ والدّرر، وأضحى وله في العلياء المحلّ الأثيل، والمناقب التي هي كالنهار لا تحتاج إلى دليل، والسيادة التي تكسو الزمن حلل البهاء فيجرّ منها على المجرّة ذيلا ضافيا، والمآثر التي لولا ما أحيته من معالم الرّآسة كان طللا عافيا، مع ما له من الحقوق التي تشكرها الأيّام والدّول، والخدم التي كم بلغ بمخالصته فيها من قصد وأمل، والسّجايا التي إذا خلعت عليها حللا من الثناء وجدتها منه في أبهى الحلل.
ولما كان فلان هو الذي تحلّى من هذا الثناء بدرّه الثّمين، وتلقّى راية هذا المجد كما تلقّاها عرابة (3) باليمين، وتنضّدت كواكب هذا المدح لتنتظم سلكا
__________
(1) الجديدان: الليل والنهار.
(2) كذا بالأصل. وفي هامش الطبعة الأميرية: «لعله: لارتفاعها وبعد الخ».
(3) الإشارة إلى عرابة بن أوس الحارثي الأنصاري: أحد سادات المدينة الأجواد المشهورين، الذي يقول فيه الشمّاخ المريّ:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقّاها عرابة باليمين
(بلوغ الأرب: 2/ 188).(13/47)
لمآثره، واتّسقت فرائد هذا الشكر لترصّع عقودا لمفاخره وجب علينا أن نجدّد له في أيامنا ما تتضاعف به أسباب النّعم لديه، ويتحقّق منه إقبالنا بوجه الإقبال عليه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف زاد الله تعالى في علائه، وأضفى على أوليائه حلل آلائه، وأبقى على الزمن بوجوده رونق بهائه أن يستقرّ للمشار إليه في الشهر كذا وكذا مضافا إلى غير ذلك من لحم وتوابل وعليق على ما يشهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت فليتلقّ إحساننا بيد إستحقاق لها في الفضل باع شديد، ويثق منّا بالإقبال الذي لا يزال عنده إن شاء الله وهو ثابت ويزيد، ويتناول ما قرّر باسمه في كل شهر من استقبال تاريخه بعد الخطّ الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى.
المرتبة الثالثة (مما يكتب به في الاطلاقات)
أن يكتب في قطع العادة مفتتحا برسم بالأمر الشريف والرسم فيه على نحو ما تقدّم في الولايات، وهو أن يقال: «رسم بالأمر لا زال أن يستقرّ باسم فلان كذا وكذا: لأنه كذا وكذا» ونحو ذلك.
وهذه نسخة توقيع شريف بمرتّب على الفرنج الجرجان الواردين لزيارة القدس أنشأته لشرف الدّين قاسم وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زال عدله الشريف لمال الفيء بين ذوي الاستحقاق قاسما، وفضله العميم لأولي الفضل في سلك الصّلات ناظما، ومعروفه المعروف لمواقع البرّ يؤمّ عالما ويبيت غانما أن يستقرّ لمجلس القاضي فلان الدين على الفرنج الجرجان الواردين لزيارة قمامة (1) بالقدس الشريف كذا
__________
(1) هي كنيسة القيامة وقد سميت بالقمامة لأن مكانها كان مزبلة أهل البلد (حسب تعبير ياقوت). وقال ناصر خسرو في مذكراته حول رحلته بأن النصارى يسمونها «بيعة القمامة». وهذه الكنيسة هدمت سنة 400هـ / 1009م بأمر الحاكم بأمر الله وظلت خربة حتى سنة 429هـ حين عقد الأمبراطور ميشال الخامس هدنة مع والي بيت المقدس من قبل المستنصر بالله، وقد تعهّد بتحرير خمسة آلاف أسير مسلم لقاء منحه الحق في إعادة بناء الكنيسة، فأرسل المهندسين والمعماريين من القسطنطينية وبنيت الكنيسة من جديد. (انظر سفرنامه: 7574ومعجم البلدان: 4/ 396).(13/48)
وكذا: لما اشتمل عليه: من مبين العلم ومتين العمل وجميل السّيرة، واجتمع لديه: من طيّب الذّكر وجميل الأثر وصفو السّريرة، ولإقامته بالمسجد الأقصى الذي هو أحد المساجد الثالثة التي تشدّ الرحال إليها، وإحدى القبلتين المعوّل في أوّل الإسلام عليها، ومجاورة الصّخرة المعظّمة، والآثار الشريفة والأماكن المكرّمة، وقيامه بما يجب من الدعاء لدولتنا القاهرة، والابتهال إلى الله تعالى بدوام أيّامنا الزاهرة.
فليتناول هذا المعلوم مهنّأ ميسّرا، وليرج من كرمنا الوافر فوق ذلك مظهرا، وليشهر سلاح دعائه بتلك الأماكن الشريفة على أعداء الله وأعداء الدّين، ويرمهم بسهام الليل التي لا تخطيء إن شاء الله تعالى الطّغاة المتمرّدين، فبذلك يستحقّ هذا السّهم من الفيء حقّا، ويعدّ من المقاتلة الذّابّين عن الإسلام صدقا وليقم على جادّة الاستقامة في الدّين وليكن مما سوى ذلك بريّا، ويقابل هو ومثله إنعامنا بالشكر يتلو عليهم لسان كرمنا فكلوه هنيّا مريّا والخط الشريف أعلاه
وهذه نسخة توقيع شريف أيضا أنشأته باسم بهاء الدّين، أبي بكر بن غانم، كاتب الدّست الشريف بالشام المحروس باستمرار مرتّبه على الفرنج الجرجان الواردين إلى ثغر الرملة المحروس وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زال إحسان كرمه يزين ببهاء حسنه المكارم، وكرم
إحسانه تتراكم سحائبه الهامية فتزري بالسّيول وتهزأ بالغمائم، وفيء نواله يقسم في أوليائنا خلفا بعد سلف فهم من فضله بين غانم وابن غانم أن يستقرّ مرتّب المجلس السامي (1)(13/49)
رسم بالأمر الشريف لا زال إحسان كرمه يزين ببهاء حسنه المكارم، وكرم
إحسانه تتراكم سحائبه الهامية فتزري بالسّيول وتهزأ بالغمائم، وفيء نواله يقسم في أوليائنا خلفا بعد سلف فهم من فضله بين غانم وابن غانم أن يستقرّ مرتّب المجلس السامي (1)
__________
(1) لم يذكر الطرف الثاني، وهو ما يكتب عن النواب.(13/50)
الباب الثالث من المقالة السادسة في الطّرخانيّات
والمراد بها أن يصير الشخص مسموحا له بالخدم السلطانية: يقيم حيث شاء، ويرتحل متى شاء: تارة بمعلوم يتناوله مجّانا، وتارة بغير معلوم (1) وفيه فصلان:
الفصل الأوّل في طرخانيّات أرباب السّيوف
واعلم أنّ الطرخانية تكتب للأمراء تارة وللأجناد أخرى، وأكثر ما تكتب لمن كبرت سنّه وضعفت قدرته وعجز عن الخدمة السلطانية.
وقد جرت العادة أن يسمّى ما يكتب فيها مراسيم وهي على ثلاث (2) مراتب:
المرتبة الأولى
(أن يفتتح المرسوم المكتتب في ذلك بالحمد لله) والرسم فيه على نحو من الولايات: وهو أن تستوفي الخطبة إلى آخرها، ثم يقال: وبعد، ثم يقال: ولما كان فلان ونحو ذلك، ثم يقال: اقتضى رأينا
__________
(1) وفي نزهة النفوس والأبدان: 1/ 49حاشية: «الطرخان اصطلاح مملوكي يقصد به الأمير البطال الذي يعيش من إقطاعه فقط». وما كان يصرف للطرخان يمكننا أن نشبهه بالمعاش الذي يصرف اليوم للموظفين بعد انتهاء مدة خدمتهم، أو كما يقال: الإحالة على المعاش.
(2) لم يذكر سوى مرتبتين.(13/51)
الشريف، ثم يقال: فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يستقرّ فلان طرخانا يتصرّف على اختياره، يسير ويقيم في أيّ مكان اختاره من بلاد المملكة، وما يجري مجرى ذلك.
وهذه نسخة مرسوم شريف بطرخانيّة لأمير وهي:
الحمد لله اللطيف بعباده الرؤوف بخلقه، المانّ بفضله الغامر بجوده الجائد برزقه، المتفضّل على العبد: في الصّبا بصفحه وفي الكهولة بعفوه وفي الشّيخوخة بعتقه.
نحمده على أن جبلنا على اصطناع الصنائع، وخصّنا برفع العوائق وقطع القواطع، وألهمنا عطف النّسق وإن كثرت مما سواه التّوابع، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تسكن الرحمة في قلب قائلها، وترفع سطوة الغضب عن منتحلها في أواخر السّطوة وأوائلها، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ أوعد فعفا، وأكرم رسول وعد فوفى، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين سلكوا في المعروف سننه، ونهجوا في الإحسان إلى الخلق نهجه فكان لهم في رسول الله أسوة حسنة، صلاة تقيل العثرات، وتتلو بلسان قبولها {إِنَّ الْحَسَنََاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئََاتِ} (1) وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى من رمقته المراحم الشريفة، بعين عنايتها، ولحظته العواطف المنيفة، بلحظ رعايتها، [من أهلّه إخلاصه لأن يقوم مقا] (2) ما لا يفارقه ولا يباين، وأن لا يحطّ من قدره العالي بسبب ما اتّفق إذ كلّ مقدّر كائن، وأن يصرّف اختياره في الإقامة حيث شاء من الممالك المحروسة والمدائن.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال من شيمه السّماح، ومن كرمه بلوغ النجا والنّجاح، ومن نعمه الصّفح عن الذّنب المتاح، حتّى يحفظ على الأنفس النفيسة الأموال ويريح لها الأرواح، [ولا برح يولي] (3) من قسمة المكرمات ما
__________
(1) هود / 114.
(2) الزيادة من هامش الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من هامش الطبعة الأميرية.(13/52)
ينسى به الذّنب فكأنّه كان برقا أومض ولمح وراح أن يكون المشار إليه طرخانا يقيم حيث شاء وأين أراد من البلاد الإسلامية المحروسة معاملا بمزيد الإكرام والاحترام، وأوفر العناية والرّعاية حسب ما اقتضته المراسيم الشريفة في ذلك عند ما شملته الصدقات العميمة والمراحم الشاملة بالعفو الشريف، والحكم المنيف، والإقبال والرّضا، والصّفح عمّا مضى، لما رأيناه من ترفيه خاطره، وقرار قلبه برفع التكليف عنه وقرّة ناظره، ولما تخلّقت به أخلاقنا، من التيمّن الذي ألبسه أثواب الأمان، وجبلت عليه طباعنا، من الرأفة والرحمة والراحمون يرحمهم الرحمن، ولما مهّده له عندنا اعترافه الذي هو له في الحقيقة أقوى شفاعة، ولما تحقّقناه من أنه لم يفعل ذلك إلا لوفور الطاعة التي أوجبت له الإرهاب إذ الهرب من الملوك طاعة، وكيف لا وقد تيقّن سخطنا الشريف وعلم، وخشي مهابتنا الشريفة ومن خاف سلم.
فليتقلّد عقود هذه المنن التي طوّقت جيده بالجود، وليشكر مواقع هذا الحلم الذي سرّ وسار كالمثل السائر في الوجود، وليقابل هذا الإقبال بالدعاء لأيّامنا الزاهرة، وليحظ بمواهبنا العميمة وصدقاتنا الباهرة، وليحط علما بأنّ إحساننا العميم قد أعاد إليه ما ألفه من الإسعاد والإصعاد، وأنّ صفحنا الشريف قد أضرب عمّا مضى والماضي لا يعاد فليقم حيث شاء من البلاد المحروسة، متفيّئا ظلال مواهبنا التي يغدو وسرائره بها مأنوسة، واردا بحار عطايانا الزاخرة، ممتّعا بملابس رضانا الفاخرة، طيّب القلب منبسط الأمل، منشرح الصدر بما عمّه من الإنعام وشمل، مرعيّ الجناب في كل مكان، معظّم القدر على توالي الأزمان، مبتهجا بغمد ما عرض من ذلك التقطيب، مستبشرا بإقبالنا الذي يلذّ به عيشه ويطيب والله تعالى يديم له عوارفنا المطلقة، وغمائم كرمنا المغدقة، ومواهبنا التي انتشرت له في كلّ قطر فهي لأنواع العطايا مستغرقة، ومنننا التي تسير معه حيثما سار وتقيم لديه أنّى أقام فلا تزال عنده مخيّمة في الأماكن المتفرّقة والاعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه.(13/53)
المرتبة الثانية (أن يفتتح مرسوم الطّرخانية ب «أما بعد»)
والرسم فيه كما في الولايات أيضا يقال فيه: [أما بعد] (1) فإن كذا وكذا، ثم يقال: ولما كان كذا وكذا، اقتضى رأينا الشريف، ثم يقال: ولذلك رسم بالأمر الشريف، ويكمّل عليه.
وهذه نسخة مرسوم من ذلك وهي:
أما بعد حمد الله على نعمه التي أو زعتنا بالإحسان إلى عباده أداء شكرها، وآلائه التي ألهمتنا بالتخفيف عن بريّته اقتران محامده بذكرها، ومننه التي وفّق بها دولتنا الشريفة لأن يكون العدل والإحسان أولى ما أجرته بفكرها، وأحقّ ما أمرّته بذكرها، والصلاة والسلام على رسوله الذي أوضح سبل المعروف، وشرع سنن العدل المألوف، ووصفه الله تعالى بالرأفة والرحمة فبه يقتدي كلّ رحيم وبه يأتمّ كلّ رؤوف، وعلى آله وصحبه الذين رفعوا منار العدل لسالكه، وقرّبوا منال الفضل لآخذه وبيّنوا الحيف والاشتطاط لتاركه فإن الله تعالى خصّ أيامنا الزاهرة بتعاهد أهل خدمتنا بالعدل والإحسان، وتفقّد رعايانا بإزالة ما يكدّر عليهم موارد النّعم الحسان فلا نزال ننعم النظر في أمورهم، ونفيض عامّ إحساننا على خاصّهم وجمهورهم، ليناموا من عدلنا في مهاد الدّعة، ويبيت ضعيفهم من مراحمنا الشريفة في أتمّ رأفة وفقيرهم في أوفر سعة.
ولما كان فلان ممن توفّر في الخدمة الشريفة قسمه، وكبر في الطاعة سنّه ووهن عظمه، وعجزت عن الركوب والنزول حركته، وذهبت مواقف حربه ولم يبق إلا أن تلتمس بركته اقتضى حسن الرأي الشريف أن يضاعف إليه الإحسان، ويعامل بوافر البرّ وجزيل الامتنان.
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال يوالي المنن، ويولي الأولياء من
__________
(1) الزيادة مما تقدّم.(13/54)
المعروف كلّ جميل حسن أن يستقرّ المذكور طرخانا لا يطلب لخدمة في نهار ولا ليل، ولا يلزم بالقيام بنزك (1) ولا خيل فليمض حكم هذه الطّرخانية لا تتأوّل ألسنة الأقلام في نصّه، ولا تتطرّق أوهام الأفهام إلى اعتراض ما ثبت من إعفائه بنقضه ولا نقصه وسبيل كل واقف عليه اعتماد مضمونه والوقوف عند حكمه، والانتهاء إلى حدّه واتّباع رسمه، إن شاء الله تعالى (2)
__________
(1) النّزك: الطعن بالنيزك، وهو الرمح الصغير.
(2) لم يذكر المرتبة الثالثة ولعلها ما يفتتح ب «رسم بالأمر الشريف» قياسا على ما تقدم في مراتب الطرف الأول من الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة السادسة.(13/55)
الفصل الثاني من الباب الثالث من المقالة السادسة
(فيما يكتب في طرخانيّات أرباب الأقلام) وهو قليل نادر قلّ أن يكتب وإذا كتب فغالب ما يفتتح برسم، ويسمّى ما يكتب فيه تواقيع.
وهذه نسخة طرخانية كتب بها عن الملك الناصر محمد بن قلاوون للقاضي قطب الدين بن المكرّم أحد كتّاب الدّرج الشريف بالأبواب الشريفة، عند إقامته بالحجاز الشريف، بأن يستقر طرخانا بنصف معلومه الذي كان له على كتابة الدّرج الشريف وأن يقيم حيث شاء وهي:
رسم بالأمر الشريف لا زال يأمر فيطاع، ويصل فيعين على الانقطاع، ويرى على اقتراح الآمل جوده المكرر المكرم فالآمل يقترح ما استطاع أن يستقرّ للمجلس السامي القضائي فلان بن المكرّم نفع الله به من معلومه عن كتابة الدرج الشريف الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت النّصف من كل شهر، على الأدعية الصالحة لهذه الدولة القاهرة، ويقيم حيث شاء، ثم يستقرّ ذلك لأولاده من بعده، ثم لأولاد أولاده بالسّويّة إعانة له على بلوغ قصده ورغائبه، واستعانة بحاضر الجود دون غائبه، وإكراما لجانبه وطالب وجه الله تعالى [يعان] (1) على الفوز بكنوز مطالبه.
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(13/56)
وما كنا لنسمح ببعده عن أبوابنا الشريفة، ولا نجيبه لمفارقة ما بيده من وظيفة، لأنه ما يدرك أحد من أبناء عصره مدّه ولا نصيفه ولديوان إنشائنا جمال بعقود كتابته النظيمة ومعاني ألفاظه اللطيفة وإنّما لإقباله على الآجلة، وإعراضه عن العاجلة، واستيعاب أوقاته بأداء الفريضة والنافلة، أسعفنا سؤاله بالإجابة، وأعنّاه على الإنابة، وأجزلنا سهمه من الإحسان فبلغ سهمه الإصابة، ومن أحسن سبيلا ممن أخذ لنفسه قبل الحين، ونفض يديه من الدنيا فراح بالخير مملوء اليدين، فنظر إلى معاده فأقبل على الله قرير العين وها نحن قد كرّمناه في وقت واحد بانشاء ولدين.
فليشكر لصدقاتنا هذه النّعم المتزايدة، والصّلات العائدة، والإحسان إليه وإلى بنيه جملة واحدة، وليدع لدولتنا القاهرة حين يقوم لله قانتا، وحين يقول ناطقا وحيث يفكّر صامتا، وعند فطره من صومه، وفي أعقاب الصلوات في ليلته ويومه، وليوصّل إليه هذا المرتّب ميسّرا لا يكدّر مورده بتأخير، وليصرف إليه مهنّأ لا يشان طوله بتقصير، ولا يحوج إلى عناء وطلب، ولا يلجأ في تناوله إلى كدّ وتعب، بل يرفّه خاطره عمّا فاز به من حسن المنقلب والله تعالى يمدّه بعونه وفضله، وينجب فرعه ببركة أصله والخطّ الشريف أعلاه حجة فيه، إن شاء الله تعالى.(13/57)
الباب الرابع من المقالة السادسة
(فيما يكتب في التوفيق بين السّنين الشمسيّة [والقمريّة] (1) المعبر عنه في زماننا بتحويل السّنين، وما يكتب في التذاكر وفيه فصلان)
الفصل الأوّل [فيما يكتب في التوفيق بين السنين وفيه طرفان:
الطرف الأوّل] (2)
(في بيان أصل ذلك)
اعلم أنّ استحقاق الخراج [و] (3) جبايته منوطان بالزّروع والثّمار من حيث إن الخراج من متحصّل ذلك يؤخذ، والزّروع والثّمار منوطة بالشّهور والسنين الشمسيّة من حيث أن كل نوع منها يظهر في وقت من أوقاتها ملازم له لا يتحوّل عنه ولا ينتقل للزوم كل شهر منها وقتا بعينه من صيف أو شتاء أو خريف أو ربيع واستخراج الخراج في الملّة الإسلامية منوط بتاريخ الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وشهوره وسنوه عربية. والشهور العربية تنتقل من وقت إلى وقت فربما كان استحقاق الخراج في أوّل سنة من السّنين العربية، ثم تراخى الحال فيه إلى أن صار استحقاقه في أواخرها، ثم تراخى حتّى صار في السنة
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(13/58)
الثانية فيصير الخراج منسوبا للسنة السابقة، واستحقاقه في السنة اللاحقة، فيحتاج حينئذ إلى تحويل السّنة الخراجيّة السابقة إلى التي بعدها على ما سيأتي ذكره.
قال في «موادّ البيان» (1): والسبب في انفراج ما بين السنين الشمسية والهلاليّة أنّ أيّام السنة الشمسية هي المدّة التي تقطع الشمس الفلك فيها دفعة واحدة، وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم بالتقريب حسب ما توجبه حركتها، وأيّام السنة الهلاليّة هي المدّة التي يقطع القمر الفلك فيها اثنتي عشرة دفعة، وهي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وسدس يوم فيكون التفاوت بينهما أحد عشر يوما وسدس يوم، فتكون زيادة السنين الشمسية على السنين الهلالية في كل ثلاث سنين شهرا واحدا وثلاثة أيام ونصف يوم تقريبا، وفي كل ثلاث وثلاثين سنة سنة بالتقريب فإذا تمادى الزمان تفاوت ما بين السنين تفاوتا قبيحا (2)، فيرى السلطان عند ذلك أن تنقل السنة الشمسية إلى السنة الهلاليّة بالاسم دون الحقيقة توفيقا بينهما، وإزالة للشبهة في أمرهما ومتى أو عز بذلك لم يقف على الغرض فيه إلا الخاصّة دون العامّة و [ربما أسرع] إلى ظنّ المعاملين وأرباب الخراج والأملاك أنّ ذلك عائد عليهم بظلم وحيف، وإلى ظنّ مستحقّي الإقطاع أنه منتقص لهم، ونسبوا الجور إلى السلطان بسبب ذلك وشنّعوا عليه، فرسم بلغاء الكتّاب في هذا المعنى رسوما تعود بتفهيم الغبيّ، وتبصير العميّ، وتوصل المعنى المراد إلى الكافّة إيصالا يتساوون في تصديقه وتيقّنه، ولا تتوجّه عليهم شبهة ولا شكّ فيه.
قلت: وقد ذكر أبو هلال العسكري في «الأوائل» أنّ أوّل من أخّر النّيروز المتوكّل على الله، أحد خلفاء بني العبّاس، وذلك أنه بينما هو يطوف في متصيّد له
__________
(1) كتاب «مواد البيان» لعلي بن خلف. وقد ذكره صاحب «كشف الظنون» باسم «موارد البيان».
كشف الظنون: 2/ 1888.
(2) أضاف القلقشندي في مآثر الإنافة: 3/ 222 «حتى يكون كل ثلاثمائة سنة شمسية ثلاثمائة وتسع سنين هلالية، وعليه حمل بعض المفسرين قوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلََاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} سورة الكهف: الآية 25.(13/59)
إذ رأى زرعا أخضر، فقال: قد استأذنني عبيد الله بن يحيى (1) في فتح الخراج وأرى الزّرع أخضر فقيل له: إن جباية الخراج الآن قد تضرّ بالناس إذ تلجئهم إلى أنهم يقترضون ما يؤدّون في الخراج، فقال: أهذا شيء حدث أو لم يزل كذا؟ فقيل له: بل حدث وعرّف أنّ الشمس تقطع الفلك في ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم، وأنّ الروم تكبس في كل أربع سنين يوما فيطرحونه من العدد، فيجعلون شباط ثلاث سنين متواليات ثمانية وعشرين يوما وفي السنة الرابعة ينجبر من ذلك الرّبع اليوم يوم تامّ، فيصير شباط تسعة وعشرين يوما، ويسمّون تلك السنة الكبيسة. وكانت الفرس تكبس للفضل الذي بين سنيها وبين سنة الشمس في كل مائة وستّ عشرة سنة شهرا فلما جاء الإسلام عطّل ذلك ولم يعمل به فأضر بالناس ذلك، وجاء زمن هشام بن عبد الملك فاجتمع الدّهاقنة إلى خالد بن عبد الله القسريّ (2) وشرحوا له ذلك (ولم يعمل به فأضرّ بالناس ذلك) (3)، وقد سألوه أن يؤخّر إليه [فأرسل] (4) الكتب إلى هشام سرّا في ذلك، فقال هشام: أخاف أن يكون ذلك من قول الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيََادَةٌ فِي الْكُفْرِ} (5)
فلما كان أيّام الرشيد اجتمعوا إلى يحيى بن خالد البرمكيّ، وسألوه في تأخير النّيروز نحو شهر فعزم على ذلك، فتكلم أعداؤه فيه وقالوا: تعصّب للمجوسية، فأضرب عنه فبقي على ذلك إلى اليوم فأحضر المتوكّل حينئذ إبراهيم بن العباس (6)، وأمره أن يكتب عنه كتابا في تأخير النّيروز بعد أن تحسب
__________
(1) هو عبيد الله بن يحيى بن خاقان المتوفى سنة 263هـ. استوزره المتوكل والمعتمد، واستمر في الوزارة إلى أن توفي. (الأعلام: 4/ 198).
(2) ولاه هشام بن عبد الملك العراقين (الكوفة والبصرة) سنة 105هـ ثم عزله سنة 120هـ وولى مكانه يوسف بن عمر الثقفي، ثم قتله هذا الأخير في أيام الوليد بن يزيد سنة 126هـ. (الأعلام:
2/ 297).
(3) لعل ما بين القوسين مكرر من قلم الناسخ.
(4) بياض في الأصل والزيادة من الطبعة الأميرية.
(5) التوبة / 27.
(6) المعروف بأبي إسحاق الصّولي. كان كاتبا للمعتصم والواثق والمتوكل. وتنقل في الأعمال الديوانية إلى أن مات سنة 243هـ. (الأعلام: 1/ 45).(13/60)
الأيام، فوقع الاتّفاق على أن يؤخّر إلى سبعة وعشرين يوما من حزيران، فكتب الكتاب على ذلك. قال العسكري: «وهو كتاب مشهور في رسائل إبراهيم بن العباس» (1) ثم قتل المتوكل قبل دخول السنة الجديدة، ووليّ المنتصر واحتيج إلى المال فطولب به الناس على الرسم الأوّل وانتقض ما رسمه المتوكل فلم يعمل به حتّى ولي المعتضد، فقال لعليّ بن يحيى المنجم (2): تذكر ضجيج الناس من أمر الخراج فكيف جعلت الفرس مع حكمتها وحسن سيرتها افتتاح الخراج في وقت مالا يتمكّن الناس من أدائه فيه؟ فشرح له أمره، وقال: ينبغي أن يردّ إلى وقته، ويلزم يوما من أيام الرّوم (3) فلا يقع فيه تغيّر، فقال له المعتضد سر إلى عبيد الله بن سليمان (4) فوافقه على ذلك، فصرت إليه ووافقته، وحسبنا حسابه فوقع في اليوم الحادي عشر من حزيران (5)، فأحكم أمره على ذلك، وأثبت في الدواوين وكان النّيروز الفارسي إذ ذاك يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر سنة اثنتين وثمانين ومائتين، ومن شهور الروم الحادي عشر من نيسان.
وقد قال أبو الحسين عليّ بن الحسين (6) الكاتب رحمه الله: عهدت جباية
__________
(1) قال القلشندي في مآثر الإنافة: 3/ 223 «فأمر المتوكل بإلغاء ذكر سنة إحدى وأربعين ومائتين، إذ كانت قد انقضت، ونسب الخراج إلى سنة اثنتين وأربعين ومائتين وأمر إبراهيم بن العباس فكتب كتابا عنه بذلك، وهو أول كتاب كتب في هذا المعنى، ولم أقف على نسخته».
(2) كان نديم المتوكل العباسي. خصّ به وبمن بعده من الخلفاء إلى أيام المعتمد وكان الخلفاء يفضون إليه بأسرارهم ويأمنونه على أخبارهم. وكان راوية للأشعار والأخبار. توفي بسامراء سنة 275 هـ. (وفيات الأعيان: 3/ 373).
(3) المراد: أيام الشهور بحسب التقويم الشمسي الذي كان يتبعه الروم. قال المقريزي: خطط:
1/ 261: «والآخذون تواريخ سنيهم من مسير الشمس خمس أمم هم: اليونانيون والسريانيون والقبط والروم والفرس والآخذون بسير القمر خمس أمم هم: الهند والعرب واليهود والنصارى والمسلمون».
(4) هو عبيد الله بن سليمان، المعروف بابن وهب: وزير من أكابر الكتاب. استوزره المعتمد العباسي، ثم أقرّه المعتضد. واستمرت وزارته عشر سنين إلى أن توفي سنة 288هـ. (الأعلام: 4/ 194 وفيات الأعيان: 3/ 122والفوات: 1/ 298وقد ورد فيه «عبد الله» خطأ).
(5) قال المقريزي في خططه: 1/ 273 «وقد سمّي هذا النوروز المعتضدي».
(6) ذكره المقريزي في خططه: 1/ 275باسم أبي الحسن علي بن الحسن الكاتب، وذكره إسماعيل باشا البغدادي في «الذيل على كشف الظنون» باسم أبي الحسن علي بن عثمان بن يوسف القرشي المخزومي المصري، ولم يذكر سنة وفاته. وقد سمّي كتابه «المنهاج في علم الخراج».(13/61)
الخراج في سنين قبل سنة إحدى وأربعين ومائتين في خلافة أمير المؤمنين المتوكّل رحمة الله عليه تجري لكل سنة في السنة التي بعدها بسبب تأخّر الشهور الشمسيّة عن الشّهور القمرية في كل سنة أحد عشر يوما وربع يوم وزيادة الكسر عليه فلما دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين، كان قد انقضى من السّنين التي قبلها ثلاث وثلاثون سنة، أوّلهن سنة ثمان ومائتين من خلافة أمير المؤمنين المأمون رحمة الله عليه، واجتمع من هذا المتأخّر فيها أيام سنة شمسيّة كاملة: وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم وزيادة الكسر، وتهيّأ إدراك غلّات وثمار سنة إحدى وأربعين ومائتين في صدر سنة اثنتين وأربعين [ومائتين]، فأمر أمير المؤمنين المتوكل رحمة الله عليه بإلغاء ذكر سنة إحدى وأربعين ومائتين، إذ كانت قد انقضت ونسب الخراج إلى سنة اثنتين وأربعين ومائتين (1)
قال صاحب «المنهاج في صنعة الخراج» (2): ولما نقلت سنة إحدى وأربعين ومائتين إلى سنة اثنتين وأربعين، جبى أصحاب الدواوين الجوالي (3)
والصدقات لسنتي إحدى واثنتين وأربعين ومائتين في وقت واحد، لأن الجوالي بسرّ من رأى ومدينة السلام ومضافاتهما كانت تجبى على شهور الشمس، الأهلة، وما كان عن جماجم أهل القرى والضّياع والمستغلّات كانت تجبى على شهور فألزم أهل الجوالي خاصّة في مدة الثلاث وثلاثين سنة (4)، ورفعها العمّال في
__________
(1) وأضاف القلقشندي في مآثر الإنافة: «وأمر إبراهيم بن العباس فكتب كتابا عنه بذلك وهو أول كتاب كتب في هذا المعنى، ولم أقف على نسخته».
(2) انظر الحاشية رقم (6) من الصفحة السابقة.
(3) الجوالي هي ما يؤخذ من أهل الذمة من الجزية المقررة على رقابهم في كل سنة. (انظر محيط المحيط).
(4) عبارة المقريزي في خططه: 1/ 276 «وفي ثلاث وثلاثين سنة اجتمعت أيام سنة شمسية كاملة فألزم أهل الذمة خاصة بالجوالي، ورفعها العمال في حساباتهم، فمن لم يرفعها ألزموه بجوالي السنة الزائدة، فاجتمع الخ» وهي أوضح. قال: «وقد أسقطوا عند رأس كل اثنتين وثلاثين سنة قمرية سنة وسمّوا ذلك: الازدلاق».(13/62)
حسباناتهم فاجتمع من ذلك ألوف ألوف دراهم، فجرت الأعمال بعد نقل المتوكّل على ذلك سنة بعد سنة، إلى أن انقضت ثلاث وثلاثون سنة آخرتهن انقضاء سنة أربع وسبعين ومائتين، فلم ينبّه كتّاب أمير المؤمنين المعتمد على الله رحمة الله عليه على ذلك، إذ كان رؤساؤهم في ذلك الوقت إسماعيل بن بلبل وبني الفرات، ولم يكونوا عملوا في ديوان الخراج والضّياع في خلافة أمير المؤمنين المتوكل رحمه الله، ولا كانت أسنانهم أسنانا بلغت معرفتهم معها هذا النّقل، بل كان مولد أحمد بن الفرات قبل هذه السنة بخمس سنين، ومولد عليّ أخيه فيها، وكان إسماعيل يتعلّم في مجلس لم يبلغ أن ينسخ، فلما تقلّدت لناصر الدين [أبي أحمد طلحة الموفق] (1) رحمة الله عليه أعمال الضّياع بقزوين ونواحيها لسنة ستّ وسبعين ومائتين، وكان مقيما بأذربيجان، وخليفته بالجبل والقرى جرادة بن محمد، وأحمد بن محمد كاتبه، واحتجت إلى رفع جماعتي إليه ترجمتها بجماعة [سنة] (2) ست وسبعين ومائتين [التي أدركت غلّاتها وثمارها في سنة سبع وسبعين ومائتين] (3)، ووجب إلغاء ذكر سنة ستّ وسبعين ومائتين فلما وقفا على هذه الترجمة أنكراها وسألاني عن السبب فيها فشرحته لهما، ووكّدت ذلك بأن عرّفتهما أني قد استخرجت حساب السنين الشمسية والسنين القمرية من القرآن [الكريم بعد] (4) ما عرضته على أصحاب التفسير، فذكروا أنه لم يأت فيه شيء من الأثر، فكان ذلك أوكد في لطف استخراجي: وهو أن الله تعالى قال في سورة الكهف:
{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلََاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} (5)، فلم أجد أحدا من المفسّرين عرف ما معنى [قوله] (6): وازدادوا تسعا، وإنما خاطب الله جل وعز نبيّه بكلام العرب وما تعرفه من الحساب فمعنى هذه التسع أن الثلاثمائة كانت شمسية بحساب العجم ومن كان لا يعرف السنين القمرية، فإذا أضيف إلى الثلاثمائة القمريّة زيادة التسع كانت سنين شمسيّة [صحيحة] (7) فاستحسناه فلما انصرف
__________
(1) الزيادة من المقريزي.
(2) الزيادة من المقريزي.
(3) الزيادة من المقريزي.
(4) الزيادة من المقريزي.
(5) الكهف / 25.
(6) الزيادة من المقريزي.
(7) الزيادة من المقريزي.(13/63)
جرادة مع الناصر رحمة الله عليه إلى مدينة السلام وتوفّي الناصر رضوان الله عليه وتقلد أبو القاسم عبيد الله بن سليمان رحمه الله كتابة أمير المؤمنين: المعتضد بالله صلوات الله عليه، أجرى له جرادة ذكر هذا النقل، وشرح له سببه: تقرّبا إليه، وطعنا على أبي القاسم عبيد الله رحمه الله في تأخيره إيّاه.
فلما وقف المعتضد بالله رحمه الله على ذلك تقدّم إلى أبي القاسم بإنشاء الكتب بنقل سنة ثمان وسبعين ومائتين إلى سنة تسع وسبعين ومائتين، فكتب، وكان هذا النقل بعد أربع سنين من وجوبه ثم مضت السنون سنة بعد سنة إلى أن انقضت الآن ثلاث وثلاثون سنة أولاهن السنة التي كان النقل وجب فيها: وهي سنة خمس وسبعين ومائتين، وآخرتهن انقضاء سنة سبع وثلاثمائة، فوافق ذلك خلافة المطيع لله في وزارة أبي محمد المهلّبي، فأمر بنقل سنة ستّ وثلاثمائة إلى سنة سبع وثلاثمائة، ونسبة الخراج إليها فنقلت، وأمر بالكتابة بذلك من ديوان الإنشاء فكتب به.
وقد حكى أبو الحسين هلال بن المحسن بن أبي إسحاق إبراهيم الصابي عن أبيه (1) أنه قال: لما أراد الوزير أبو محمّد المهلّبي نقل السنة أمر أبا إسحاق والدي وغيره من كتّابه في الخراج والرسائل بإنشاء كتاب عن المطيع لله رحمة الله عليه في هذا المعنى، وكلّ منهم كتب، وعرضت النّسخ على الوزير أبي محمّد فاختار منها كتاب والدي وتقدّم بأن يكتب إلى أصحاب الأطراف. وقال لأبي الفرج ابن أبي هاشم (2) خليفته: اكتب إلى العمال بذلك كتبا [محققة] (3)، وانسخ في أواخر [ها] (4) هذا الكتاب السلطاني، فغاظ أبا الفرج وقوع التفضيل والاختيار لكتاب والدي، وقد كان عمل نسخة اطّرحت في جملة ما اطّرح، وكتب: «قد رأينا نقل سنة خمسين [إلى إحدى وخمسين] (5) فاعمل على
__________
(1) في المقريزي: «عن أبي عليّ».
(2) في المقريزي: «ابن أبي هشام».
(3) في الطبعة الأميرية من الصبح: «مخففة». وما أثبتناه من المقريزي.
(4) الزيادة من المقريزي: 1/ 277.
(5) الزيادة من المقريزي: 1/ 277.(13/64)
ذلك» ولم ينسخ الكتاب السلطاني، وعرف الوزير أبو محمد ما كتب به أبو الفرج، فقال له: لماذا أغفلت نسخ الكتاب السلطاني في آخر الكتاب إلى العمّال وإثباته في الديوان؟ فأجاب جوابا علّل (1) فيه، فقال له يا أبا الفرج:
ما تركت ذلك إلا حسدا لأبي إسحاق على كتابه، وهو والله في هذا الفن أكتب أهل زمانه.
قال صاحب «المنهاج في صنعة الخراج»: وقد كان نقل السنين في الديار المصرية [أغفل] (2) حتى كانت سنة تسع وتسعين وأربعمائة الهلاليّة فنقلت سنة تسع وتسعين الخراجية إلى سنة إحدى وخمسمائة فيما رأيته في تعليقات أبي.
قال: وآخر ما نقلت السنة في وقتنا هذا أن نقلت سنة خمس وستين وخمسمائة إلى سنة سبع وستين وخمسمائة الهلالية، فتطابقت السنتان. وذلك أنني لما قلت للقاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني: إنه قد آن نقل السنة، أنشأ سجلّا بنقلها نسخ في الدواوين، وحمل الأمر على حكمه، ثم قال: وما برح الملوك والوزراء يعنون بنقل السنين في أحيانها، ومطابقة العامين في أوّل زمان اختلافهما بالبعد وتقارب اتفاقهما بالنّقل.
قلت: والحاصل أنه إذا مضى ثلاث وثلاثون سنة من آخر السنة، حوّلت السنة الثالثة والثلاثون إلى تلو السنة التي بعدها، وهي الخامسة والثلاثون، وتلغى الرابعة والثلاثون ومقتضى البناء على التحويل الذي كان في خلافة المطيع في سنة سبع وثلاثمائة المقدّم ذكره أن تحوّل سنة سبع وثلاثمائة إلى سنة تسع وثلاثمائة، ثم تحوّل سنة أربعين وثلاثمائة إلى اثنتين وأربعين وثلاثمائة، وتلغى سنة إحدى وأربعين، ثم تحوّل سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة إلى سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، وتلغى سنة أربع وسبعين، ثم تحوّل سنة ست وأربعمائة إلى سنة ثمان وأربعمائة، وتلغى سنة سبع، ثم تحول سنة تسع وثلاثين وأربعمائة إلى سنة إحدى وأربعين وأربعمائة،
__________
(1) في المقريزي: «علك فيه» وهي أوضح.
(2) الزيادة من المقريزي.(13/65)
وتلغى سنة أربعين ثم تحوّل سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة إلى سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وتلغى سنة ثلاث وسبعين ثم تحوّل سنة خمس وخمسمائة إلى سنة سبع وخمسمائة، وتلغى سنة ستّ لكن قد تقدّم من كلام صاحب «المنهاج في صنعة الخراج» أن التحويل كان تأخّر بالديار المصرية إلى سنة تسع وتسعين وأربعمائة، فحوّلت سنة تسع وتسعين الخراجية إلى سنة إحدى وخمسمائة، فيكون التحويل بالديار المصرية قد وقع قبل استحقاقه بمقتضى الترتيب المقدّم ذكره بستّ سنين من حيث إنه كان المستحقّ مغلّ سنة خمس وخمسمائة إلى سنة سبع وخمسمائة كما تقدّم، فنقلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسمائة. والأمر في ذلك قريب إذ التحويل على التقريب دون التحديد.
ثم مقتضى ترتيب التحويل الرابع في الديار المصرية بعد تحويل سنة تسع وتسعين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسمائة أن تحوّل بعد ذلك سنة ثنتين وثلاثين وخمسمائة إلى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، وتلغى سنة ثلاث وثلاثين ثم تحوّل سنة خمس وستين وخمسمائة إلى سنة سبع وستين وخمسمائة، وتلغى سنة ستّ وستين ثم تحوّل سنة ثمان وتسعين وخمسمائة إلى سنة ستمائة، وتلغى سنة تسع وتسعين وخمسمائة ثم تحوّل سنة إحدى وثلاثين وستّمائة إلى سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وتلغى سنة اثنتين وثلاثين ثم تحوّل سنة أربع وستين وستمائة إلى سنة ستّ وستين وستمائة، وتلغى سنة خمس وستين ثم تحوّل سنة سبع وتسعين وستمائة إلى سنة تسع وتسعين وستمائة، وتلغى سنة ثمان وتسعين ثم تحوّل سنة سبعمائة وثلاثين إلى سنة سبعمائة واثنتين وثلاثين، وتلغى سنة إحدى وثلاثين ثم تحوّل سنة ثلاث وستين وسبعمائة إلى سنة خمس وستين وسبعمائة، وتلغى سنة أربع وستين وسبعمائة وتحوّل سنة ست وتسعين وسبعمائة إلى سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، وتلغى سنة سبع وتسعين ثم لا يكون تحويل إلى تسع وعشرين وثمانمائة، فتحول إلى سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة لكن قد حوّل كتّاب الدواوين بالديار المصرية وأرباب الدولة بها سنة تسع وأربعين وسبعمائة:
(وهي سنة الطاعون الجارف العامّ) إلى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، وألغوا سنة خمسين. وكان يقال: مات في تلك السنة كلّ شيء حتّى السنة وسيأتي ذكر المرسوم المكتتب بها في تحويل السنين في هذه المقالة، إن شاء الله تعالى.(13/66)
ثم مقتضى ترتيب التحويل الرابع في الديار المصرية بعد تحويل سنة تسع وتسعين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسمائة أن تحوّل بعد ذلك سنة ثنتين وثلاثين وخمسمائة إلى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، وتلغى سنة ثلاث وثلاثين ثم تحوّل سنة خمس وستين وخمسمائة إلى سنة سبع وستين وخمسمائة، وتلغى سنة ستّ وستين ثم تحوّل سنة ثمان وتسعين وخمسمائة إلى سنة ستمائة، وتلغى سنة تسع وتسعين وخمسمائة ثم تحوّل سنة إحدى وثلاثين وستّمائة إلى سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وتلغى سنة اثنتين وثلاثين ثم تحوّل سنة أربع وستين وستمائة إلى سنة ستّ وستين وستمائة، وتلغى سنة خمس وستين ثم تحوّل سنة سبع وتسعين وستمائة إلى سنة تسع وتسعين وستمائة، وتلغى سنة ثمان وتسعين ثم تحوّل سنة سبعمائة وثلاثين إلى سنة سبعمائة واثنتين وثلاثين، وتلغى سنة إحدى وثلاثين ثم تحوّل سنة ثلاث وستين وسبعمائة إلى سنة خمس وستين وسبعمائة، وتلغى سنة أربع وستين وسبعمائة وتحوّل سنة ست وتسعين وسبعمائة إلى سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، وتلغى سنة سبع وتسعين ثم لا يكون تحويل إلى تسع وعشرين وثمانمائة، فتحول إلى سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة لكن قد حوّل كتّاب الدواوين بالديار المصرية وأرباب الدولة بها سنة تسع وأربعين وسبعمائة:
(وهي سنة الطاعون الجارف العامّ) إلى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، وألغوا سنة خمسين. وكان يقال: مات في تلك السنة كلّ شيء حتّى السنة وسيأتي ذكر المرسوم المكتتب بها في تحويل السنين في هذه المقالة، إن شاء الله تعالى.
ونقل ذلك لتأخير وقع من إغفال تحويل سنة سبعمائة وثلاثين المتقدّمة الذكر، وآخر سنة حوّلت في زماننا سنة (1).
الطرف الثاني (في صورة ما يكتب في تحويل السنين وهو على نوعين) (2)
النوع الأوّل (ما كان يكتب في ذلك عن الخلفاء وفيه مذهبان)
المذهب الأوّل (أن يفتتح ما يكتب ب «أمّا بعد»)
وعلى ذلك كان يكتب من ديوان الخلافة ببغداد.
وهذه نسخة ما ذكر أبو الحسين بن علي الكاتب المقدم ذكره أنه كتب به في ذلك في نقل سنة ثمان وسبعين ومائتين إلى سنة تسع وسبعين ومائتين في خلافة المعتضد بالله أمير المؤمنين وهي (3):
أمّا بعد، فإنّ أولى ما صرف إليه أمير المؤمنين عنايته، وأعمل فيه فكره ورويّته، وشغل به تفقّده ورعايته، أمر الفيء الذي خصّه الله به وألزمه جمعه وتوفيره، وحياطته وتكثيره، وجعله عماد الدّين، وقوام أمر المسلمين، وفيما يصرف منه إلى أعطيات الأولياء والجنود، ومن يستعان (4) به لتحصين البيضة والذّبّ عن الحريم، وحجّ البيت، وجهاد العدوّ، وسدّ الثّغور، وأمن السبل، وحقن الدّماء، وإصلاح ذات البين، وأمير المؤمنين يسأل الله راغبا إليه، ومتوكّلا
__________
(1) بياض في الأصل.
(2) لم يذكر إلا نوعا واحدا.
(3) قال في مآثر الإنافة: «وكان هذا النقل بعد مضيّ أربع سنين من استحقاقه».
(4) في مآثر الإنافة: «يستعمل».(13/67)
عليه، أن يحسن عونه على ما حمّله منه، ويديم توفيقه لما أرضاه، وإرشاده إلى ما يقضي [بالخير] (1) عنه وله.
وقد نظر أمير المؤمنين فيما كان يجري عليه أمر جباية هذا الفيء في خلافة آبائه [الخلفاء] (2) الراشدين فوجده على حسب ما كان يدرك من الغلّات والثّمار في كل سنة أوّلا أوّلا على مجاري شهور سني الشمس في النّجوم التي يحلّ مال كلّ صنف منها فيها، ووجد شهور السنة الشمسية تتأخّر عن شهور السنة الهلاليّة أحد عشر يوما وربعا وزيادة عليه، ويكون إدراك الغلات والثّمار في كل سنة بحسب تأخّرها.
فلا تزال السنون تمضي على ذلك سنة بعد سنة حتى تنقضي منها ثلاث وثلاثون سنة وتكون عدّة الأيام المتأخّرة منها أيام سنة شمسيّة كاملة، وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم وزيادة عليه، فحينئذ يتهيّأ بمشيئة الله وقدرته إدراك الغلّات التي تجري عليها الضرائب والطّسوق (3) في استقبال المحرّم من سني الأهلّة. ويجب مع ذلك إلغاء ذكر السنة الخارجة إذ كانت قد انقضت ونسبتها إلى السنة التي أدركت الغلّات والثمار فيها، وإنه وجد ذلك قد كان وقع في أيام أمير المؤمنين المتوكّل على الله رحمة الله عليه عند انقضاء ثلاث وثلاثين سنة، آخرتهن سنة إحدى وأربعين ومائتين، فاستغني عن ذكرها بإلغائها ونسبتها إلى سنة اثنتين وأربعين ومائتين فجرت المكاتبات والحسبانات وسائر الأعمال بعد ذلك سنة بعد سنة إلى أن مضت ثلاث وثلاثون سنة، آخرتهنّ انقضاء سنة أربع وسبعين ومائتين، [ووجب إنشاء الكتب بإلغاء ذكر سنة أربع وسبعين ومائتين] (4) ونسبتها إلى سنة خمس وسبعين ومائتين، فذهب ذلك على كتّاب أمير المؤمنين [المعتمد على الله وتأخّر الأمر أربع سنين إلى أن أمر أمير المؤمنين] (5) المعتضد بالله رحمه الله في سنة
__________
(1) الزيادة من مآثر الإنافة: 3/ 224.
(2) الزيادة من مآثر الإنافة: 3/ 224.
(3) جمع طسق وهو شبه الخراج له مقدار معلوم، وليس بعربي خالص. (انظر لسان العرب ومصطلحات صبح الأعشى: 231).
(4) الزيادة من خطط المقريزي: 1/ 277.
(5) الزيادة من خطط المقريزي: 1/ 277.(13/68)
سبع وسبعين ومائتين بنقل خراج سنة ثمان وسبعين ومائتين إلى سنة تسع وسبعين ومائتين فجرى الأمر على ذلك إلى أن انقضت في هذا الوقت ثلاث وثلاثون سنة: أولاهنّ السنة التي كان يجب نقلها فيها، وهي سنة خمس وسبعين ومائتين، وآخرتهن انقضاء شهور خراج سنة سبع وثلاثمائة، ووجب افتتاح خراج ما تجري عليه الضرائب والطسوق في أوّلها [وإن] (1) من صواب التدبير واستقامة الأعمال، واستعمال ما يخفّ على الرعية معاملتها به نقل سنة الخراج لسنة سبع وثلاثمائة إلى سنة ثمان وثلاثمائة، فرأى أمير المؤمنين لما يلزمه نفسه ويؤاخذها به (2)، من العناية بهذا الفيء وحياطة أسبابه، وإجرائها مجاريها، وسلوك سبيل آبائه الراشدين رحمة الله عليهم فيها أن يكتب إليك وإلى سائر العمّال في النواحي بالعمل على ذلك، وأن يكون ما يصدر [إليكم] (3) من الكتب وتصدرونه عنكم وتجري عليه أعمالكم ورفوعكم وحسباناتكم وسائر مناظراتكم على هذا النّقل.
فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين واعمل به مستشعرا فيه وفي كلّ ما تمضيه تقوى الله وطاعته، ومستعملا [عليه] (4) ثقات الأعوان وكفاتهم، مشرفا عليهم ومقوّما لهم، واكتب بما يكون منك في ذلك، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة ما كتب به أبو إسحاق الصابي عن المطيع لله بنقل سنة ستّ (5)
وثلاثمائة إلى سنة سبع وثلاثمائة وهي:
أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين لا يزال مجتهدا في مصالح المسلمين، وباعثا لهم على مراشد الدنيا والدّين، ومهيّئا لهم إلى أحسن الاختيار فيما يوردون ويصدرون، وأصوب الرأي فيما يبرمون وينقضون فلا تلوح له خلّة داخلة على
__________
(1) الزيادة من المقريزي.
(2) في مآثر الإنافة: «لما يلزم به نفسه ويأخذها به الخ». وهي أوضح.
(3) الزيادة من المقريزي.
(4) الزيادة من المقريزي.
(5) الصواب «بنقل سنة خمسين وثلاثمائة إلى إحدى وخمسين وثلاثمائة» كما يفيده نص الكتاب الآتي.(13/69)
أمورهم إلا سدّها وتلافاها [ولا حال عائدة بحظّ عليهم إلا اعتمدها وأتاها] (1) ولا سنّة عادلة إلا أخذهم باقامة رسمها، وإمضاء حكمها والاقتداء بالسلف الصالح في العمل بها والاتباع لها وإذا عرض من ذلك ما تعلمه الخاصّة بوفور ألبابها، وتجهله العامّة بقصور أفهامها، وكانت أوامره فيه خارجة إليك وإلى أمثالك من أعيان رجاله، وأماثل عمّاله، الذين يكتفون بالإشارة، ويجتزئون بتيسير الإبانة والعبارة، لم يدع أن يبلغ من تلخيص اللفظ وإيضاح المعنى إلى الحدّ الذي يلحق المتأخّر بالمتقدّم، ويجمع بين العالم والمتعلّم ولا سيّما إذا كان ذلك فيما يتعلّق بمعاملات الرعيّة، ومن لا يعرف إلا الظّواهر الجلية دون البواطن الخفيّه، ولا يسهل عليه الانتقال عن العادات المتكررة إلى الرّسوم المتغيّرة، ليكون القول بالمشروح لمن برّز في المعرفة مذكّرا، ولمن تأخّر فيها مبصّرا، ولأنه ليس من الحق أن تمنع هذه الطبقة من برد اليقين في صدورها، ولا أن يقتصر على اللّمحة الدالّة في مخاطبة جمهورها، حتّى إذا استوت الأقدام بطوائف الناس في فهم ما أمروا به وفقه ما دعوا إليه وصاروا فيه على كلمة سواء لا يعترضهم شكّ الشاكّين ولا استرابة المستريبين، اطمأنّت قلوبهم، وانشرحت صدورهم، وسقط الخلاف بينهم، واستمرّ الاتفاق فيهم، واستيقنوا أنهم مسوسون على استقامة من المنهاج، ومحروسون من جرائر الزّيغ والاعوجاج فكان الانقياد منهم وهم دارون عالمون، لا مقلّدون مسلّمون، وطائعون مختارون، لا مكرهون ولا مجبرون.
وأمير المؤمنين يستمدّ الله تعالى في جميع أغراضه ومراميه، ومطالبه ومغازيه، مادّة من صنعه تقف به على سنن الصّلاح، وتفتح له أبواب النّجاح، وتنهضه بما أهّله لحمله من الأعباء التي لا يدّعي الاستقلال بها إلا بتوفيقه [ومعونته] (2)، ولا يتوجه فيها إلا بدلالته وهدايته وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل.
__________
(1) الزيادة من خطط المقريزي: 1/ 278، ومن الطبعة الأميرية عن رسائل الصابي ص: 209.
(2) الزيادة من المقريزي.(13/70)
وأمير المؤمنين يرى أنّ أولى الأقوال أن يكون سدادا، وأحرى الأفعال أن يكون رشادا، ما وجد له في السابق من حكم الله أصول وقواعد، وفي النّص من كتابه آيات وشواهد، وكان مفضيا بالأمة إلى قوام من دين ودنيا، ووفاق في آخرة وأولى، فذلك هو البناء الذي يثبت ويعلو، والغرس الذي ينبت ويزكو، والسّعي الذي تنجح مباديه وهواديه، وتبهج عواقبه وتواليه، وتستنير سبله لسالكيها، وتوردهم موارد السعود في مقاصدهم فيها، غير ضالّين ولا عادلين، ولا منحرفين ولا زائلين.
وقد جعل الله عزّ وجلّ من هذه الأفلاك الدائرة، والنّجوم السائرة، فيما تتقلّب عليه من اتّصال وافتراق، ويتعاقب عليها من اختلاف واتّفاق، منافع تظهر في كرور الشّهور والأعوام، ومرور اللّيالي والأيّام، وتناوب الضّياء والظلام، واعتدال المساكن والأوطان، وتغاير الفصول والأزمان، ونشء النّبات والحيوان فما في نظام ذلك خلل، ولا في صنعة صانعه زلل، بل هو منوط بعضه ببعض، ومحوط من كلّ ثلمة ونقض قال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيََاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنََازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسََابَ مََا خَلَقَ اللََّهُ ذََلِكَ إِلََّا بِالْحَقِّ} (1)، وقال جلّ من قائل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهََارِ وَيُولِجُ النَّهََارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللََّهَ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (2) وقال: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهََا ذََلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (3)، وقال عزّت قدرته: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنََاهُ مَنََازِلَ حَتََّى عََادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (4) ففضّل الله تعالى في هذه الآيات بين الشمس والقمر، وأنبأنا في الباهر من حكمه، والمعجز من كلمه، أنّ لكلّ منهما طريقا سخّر فيها وطبيعة جبل عليها، وأن كلّ تلك المباينة والمخالفة في المسير، تؤدّي إلى موافقة وملازمة في
__________
(1) يونس / 5.
(2) لقمان / 29.
(3) يس / 38.
(4) يس / 39.(13/71)
التدبير فمن هنالك زادت السنة الشمسية فصارت ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربعا بالتقريب المعمول عليه وهي المدّة التي تقطع الشمس فيها الفلك مرّة واحدة، ونقصت السنة الهلالية فصارت ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وكسرا، وهي المدّة التي يجامع القمر فيها الشمس اثنتي عشرة مرة، واحتيج إذا انساق هذا الفضل إلى استعمال النقل الذي يطابق إحدى السنتين بالأخرى إذا افترقتا، ويداني بينهما إذا تفاوتتا.
وما زالت الأمم السالفة تكبس زيادات السنين على افتنان من طرقها ومذاهبها، وفي كتاب الله عز وجل شهادة بذلك إذ يقول في قصّة أهل الكهف:
{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلََاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} (1) فكانت هذه الزيادة بأن الفضل في السنين المذكورة على تقريب التقريب.
فأما الفرس فإنهم أجروا معاملاتهم على السنة المعتدلة التي شهورها اثنا عشر شهرا، وأيامها ثلاثمائة وستون يوما، ولقّبوا الشهور اثني عشر لقبا، وسمّوا أيام الشهر منها ثلاثين اسما، وأفردوا الأيّام الخمسة الزائدة، وسمّوها المسترقة وكبسوا الرّبع في كل مائة وعشرين سنة شهرا.
فلما انقرض ملكهم، بطل في كبس هذا الربع تدبيرهم، وزال نوروزهم عن سنّته، وانفرج ما بينه وبين حقيقة وقته، انفراجا هو زائد لا يقف، ودائر لا ينقطع، حتّى إنّ موضوعهم فيه أن يقع في مدخل الصيف وسينتهي إلى أن يقع في مدخل الشتاء، [ويتجاوز ذلك وكذلك موضوعهم في المهرجان أن يقع في مدخل الشتاء] (2) وسينتهي إلى أن يقع في مدخل الصيف ويتجاوزه.
وأما الروم فكانوا أتقن منهم حكمة وأبعد نظرا في عاقبة: لأنهم رتّبوا شهور السنة على أرصاد رصدوها، وأنواء عرفوها، وفضّوا الخمسة الأيام الزائدة على
__________
(1) الكهف / 25.
(2) الزيادة من المقريزي: 1/ 279.(13/72)
الشّهور، وساقوها معها على الدّهور، وكبسوا الرّبع في كل أربع سنين يوما، ورسموا أن يكون إلى شباط مضافا فقرّبوا ما بعّده غيرهم، وسهّلوا على الناس أن يقتفوا أثرهم، لا جرم أن [المعتضد بالله صلوات الله عليه على أصولهم بنى، ولمثالهم احتذى] (1) في تصييره نوروزه اليوم الحادي عشر من حزيران، حتّى سلم مما لحق النواريز في سالف الأزمان، وتلافوا الأمر في عجز سني الهلال عن سني الشمس، بأن جبروها بالكبس فكلّما اجتمع من فضول سني الشمس ما يفي بتمام شهر جعلوا السنة الهلاليّة التي يتّفق ذلك فيها ثلاثة عشر هلالا فربّما تمّ الشهر الثالث عشر في ثلاث سنين وربّما تمّ في سنتين بحسب ما يوجبه الحساب، فتصير سنتا الشمس والهلال عندهم متقاربتين أبدا لا يتباعد ما بينهما.
وأمّا العرب فإن الله جل وعزّ فضّلها على الأمم الماضية، وورّثها ثمرات مساعيها المتعبة، وأجرى شهر صيامها ومواقيت أعيادها وزكاة أهل ملّتها، وجزية أهل ذمّتها، على السنة الهلاليّة، وتعبّدها فيها برؤية الأهلة، إرادة منه أن تكون مناهجها واضحة، وأعلامها لائحة، فيتكافأ في معرفة الغرض ودخول الوقت الخاصّ منهم والعام، والناقص الفقه والتام، والأنثى والذكر، وذو الصّغر والكبر، فصاروا حينئذ يجبون في سنة الشمس حاصل الغلّات المقسومة وخراج الأرض الممسوحة، ويجبون في سنة الهلال الجوالي والصدقات والأرجاء (2) والمقاطعات والمستغلّات، وسائر ما يجري على المشاهرات، وحدث من التعاظل والتداخل بين السنين ما لو استمر لقبح جدّا، وازداد بعدا، إذ كانت الجباية الخراجية في السنة التي تنتهي إليها تنسب في التسمية إلى ما قبلها فوجب مع هذا أن تطرح تلك السّنة وتلغى، ويتجاوز إلى ما بعدها ويتخطّى ولم يجز لهم أن يقتدوا بمخالفيهم في كبس سنة الهلال بشهر ثالث عشر لأنهم لو فعلوا ذلك لتزحزحت الأشهر الحرم عن مواقعها، وانحرفت المناسك عن حقائقها، ونقصت الجباية عن سني
__________
(1) الزيادة من المقريزي.
(2) كذا أيضا في المقريزي. وفي هامش الطبعة الأميرية أن الذي في رسائل الصابي الخطية «والأرحام».(13/73)
الأهلة القبطية بقسط ما استغرقه الكبس منها، فانتظروا بذلك الفضل إلى أن تتمّ السنة، وأوجب الحساب المقرّب أن يكون كل اثنتين وثلاثين سنة شمسية ثلاثا وثلاثين سنة هلالية، فنقلوا المتقدّمة إلى المتأخّرة نقلا لا يتجاوز الشمسية، وكانت هذه الكلفة في دنياهم مستسهلة مع تلك النعمة في دينهم.
وقد رأى أمير المؤمنين نقل سنة خمسين وثلاثمائة الخراجيّة إلى سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة الهلالية جمعا بينهما، ولزوما لتلك السّنّة فيهما.
فاعمل بما ورد به أمر أمير المؤمنين عليك، وما تضمنه كتابه هذا إليك، ومر الكتّاب قبلك أن يحتذوا رسمه فيما يكتبون به إلى عمّال نواحيك، ويخلّدونه في الدواوين من ذكورهم ورفوعهم، ويقرّرونه في دروج الأموال (1)، وينظمونه في الدفاتر (2) والأعمال، ويبنون (3) عليه الجماعات والحسبانات، ويوعزون بكتبه من الروزنامجات (4) والبراآت، وليكن المنسوب كان (5) من ذلك إلى سنة خمسين وثلاثمائة التي وقع النقل [عنها معدولا به إلى سنة إحدى وخمسين التي وقع النقل] (6) إليها، وأقم في نفوس من بحضرتك من أصناف الجند والرعية وأهل الملّة والذمّة أنّ هذا النقل لا يغيّر لهم رسما، ولا يلحق بهم ثلما، ولا يعود على
__________
(1) في المقريزي: «ويعدّونه من خروج الأموال».
(2) في المقريزي: «في الدواوين».
(3) في المقريزي: «ويثبتون».
(4) الروزنامج أو الروزنامة: لفظ فارسي مؤلف من: «روز» بمعنى يوم «ونامه» أي الكتاب (كتاب اليوم أو السجلّ اليومي). وكان هذا اللفظ مستعملا في الدولة الفاطمية ثم المملوكية. وقد استمر «ديوان الروزنامة» في مصر إلى وقت متأخر. وكان ديوانا ماليا يجبي الضرائب ويتولى الإنفاق على بعض جهات البرّ كتشغيل الكسوة الشريفة، ونفقات قلاع الحجاز، ومرتبات مجاوري الحرمين الشريفين، وطلبة الأزهر، والعتقاء والقضاة. وقد ألحق هذا الديوان بنظارة المالية سنة 1265هـ وتحوّل بعد هذا الإلحاق إلى ما يشبه المصرف يودعه الأهالي رؤوس أموالهم لقاء راتب سنوي. (انظر تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل: ص 117ومصطلحات صبح الأعشى: 164).
(5) لعلّ هذا اللفظ زائد وهو غير موجود في المقريزي.
(6) هذه الزيادة من الطبعة الأميرية عن رسائل الصابي الخطية، وهي غير موجودة في المقريزي.(13/74)
قابضي العطاء بنقصان ما استحقّوا قبضه، ولا على مؤدّي حقّ بيت المال بإغضاء عما وجب أداؤه، فإن قرائح أكثرهم فقيرة إلى إفهام أمير المؤمنين الذي يؤثر أن تزاح فيه العلّة، وتسدّ به منهم الخلّة (1)، إذ كان هذا الشأن لا يتجدّد إلا في المدد الطّوال التي في مثلها يحتاج إلى تعريف الناشي، وإذكار الناسي، وأجب بما يكون منك جوابا يحسن موقعه لك، إن شاء الله تعالى.
المذهب الثاني (مما كان يكتب عن الخلفاء في تحويل السنين
أن يفتتح ما يكتب بلفظ:
«من فلان أمير المؤمنين إلى أهل الدولة» ونحو ذلك) ثم يؤتى بالتحميد وهو المعبّر عنه بالتصدير وعليه كان يكتب خلفاء الفاطميين بالديار المصرية.
قال في «موادّ البيان»: والطريق في ذلك أن يفتتح بعد التصدير والتحميد [وهو على ضربين] (2):
الضرب الأوّل (ما كان يكتب في الدولة الأيوبية)
وكانت العادة فيه أن يفتتح بخرجت الأوامر ونحو ذلك، ثم يذكر فيه نحوا مما تقدّم.
وهذه نسخة مرسوم بتحويل السنة القبطية [إلى السنة العربية] (3)، من إنشاء القاضي الفاضل عن الملك الناصر «صلاح الدين يوسف بن أيوب» تغمّده الله برحمته وهي (4):
__________
(1) في المقريزي: «ويسدّ به سهم الخلّة».
(2) بياض في الأصل والزيادة من التفصيل الآتي.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) قال في مآثر الإنافة: «أما الديار المصرية فقد ذكر صاحب المنهاج في صنعة الخراج أن أول نقل السنين فيها كان في سنة تسع وتسعين وأربعمائة الهلالية. وكتب فيها كتاب من إنشاء القاضي الفاضل وهي مستمرة على النقل في كل ثلاث وثلاثين سنة إلى زماننا هذا يكتب بها عن السلطان».(13/75)
خرجت الأوامر الصّلاحيّة بكتب هذا المنشور وتلاوة مودعه بحيث يستمرّ، ونسخه في الدّواوين بحيث يستقرّ ومضمونه:
إنّ نظرنا لم يزل تتجلّى له الجلائل والدقائق، ويتوخّى من الحسنات ما تسير به الحقائب والحقائق، ويخلّد من الأخبار المشروعة، كلّ عذب الطرائق رائق، ويجدّد من الآثار المتبوعة، ما هو بثناء الخلائق لائق، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير إلا جهدنا أن نكتسبها، ولا يثوّب بنا الداعي إلى مثوبة إلا رأينا أن نحتسبها، لا سيّما ما يكون للسنين الماضية ممضيا، وإلى القضايا العادلة مفضيا، ولمحاسن الشريعة مجلّيا، ولعوارض الشّبه رافعا، ولتناقض الخبر دافعا، ولأبواب المعاملات حافظا، ولأسباب المغالطات لافظا، وللخواطر من أمراض الشّكوك مصحّحا، وعن حقائق اليقين مفصحا، وللأسماع من طيف الاختلاف معفيا، ولغاية الإشكال من طرق الأفهام معفّيا.
ولما استهلّت سنة كذا الهلالية، وقد تباعد ما بينها وبين السنة الخراجية إلى أن صارت غلّاتها منسوبة إلى ما قبلها، وفي ذلك ما فيه: من أخذ الدّرهم المنقود، عن غير الوقت المفقود، وتسمية بيت المال ممطلا وقد أنجز، ووصف الحق المتلف بأنه دين وقد أعجز، وأكل رزق اليوم وتسميته منسوبا إلى أمسه، وإخراج المعتدّ لسنة هلاله إلى حساب المعتدّ إلى سنة شمسه.
وكان الله تعالى قد أجرى أمر هذه الأمّة على تاريخ منزّه عن اللّبس، موقّر عن الكبس، وصرّح كتابه العزيز بتحريمه، وذكر ما فيه من تأخير وقت النّسيء وتقديمه والأمّة المحمدية لا ينبغي أن يدركها الكسر (1)، كما أنّ الشمس لا ينبغي أن تدرك القمر، وسننها بين الحق والباطل فارقة، وسنتها أبدا سابقة، والسّنون
__________
(1) لم نعثر في معاجم اللغة التي بين أيدينا على «الكسر» بالتحريك ولعلّه حرّكها لتمام التجنيس.(13/76)
بعدها لاحقة، يتعاورها الكسر الذي يزحزح أوقات العبادات عن مواضعها، ولا يدرك عملها إلا من دقّ نظره، واستفرغت في الحساب فكره والسنة العربية تقطع بخناجر أهلّتها الاشتباه، وتردّ شهورها حالية بعقودها موسومة الجباه وإذا تقاعست السنة الشمسية عن أن تطأ أعقابها، وتواطي حسابها، اجتذبت قراها قسرا، وأوجبت لحقّها ذكرا، وتزوّجت سنة الشمس سنة الهلال وكان الهلال بينهما مهرا فسنتهم المؤنثة وسنتنا المذكّرة، وآية الهلال هنا دون آية الليل هي المبصرة وفي السّنة العربيّة إلى ما فيها من عربيّة الإفصاح، وراحة الإيضاح، الزيادة التي تظهر في كل ثلاث وثلاثين سنة توفي على عدد الأمم قطعا، وقد أشار الله إليها بقوله: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلََاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} (1) وفي هذه السنة الزائدة زيادة، من لطائف السّعادة، ووظائف العبادة، لأن أهل ملّة الإسلام يمتازون على كل ملة بسنة في نظير تلك المدّة قصدوا صلاتها، وأدّوا زكاتها، وحجّوا فيها البيت العتيق الكريم، وصاموا فيها الشهر العظيم، واستوجبوا فيها الأجور الجليلة، وأنست فيها أسماعهم بالأعمار الطويلة ومخالفوهم فيها قد عطّلت صحائفهم في عدوانهم، وإن كانت عاطلة، وخلت مواقفهم في أديانهم، وإن لم تكن قطّ آهلة.
وقد رأينا باستخارة الله سبحانه والتيمّن باتّباع العوائد التي سلكها السّلف، ولم تسلك فيها السّرف، أن ينسخوا أسماءها من الخراج، ويذهب ما بين السنين من الاضطراب والاعوجاج، لا سيما والشهور الخراجيّة قد وافقت في هذه الشهور الشهور الهلالية، وألقى الله في أيامنا الوفاق بين الأيّام، كما ألقى باعتلائنا الوفاق بين الأنام، وأسكن بنظرنا ما في الأوقات من اضطراب وفي القلوب من اضطرام.
فليستأنف التاريخ في الدواوين المعمورة، لاستقبال السنة المذكورة، بأن توسم بالهلاليّة الخراجيّة لإزالة الالتباس، ولإقامة القسطاس، وإيضاحا لمن أمره عليه غمّة من الناس وعلى
__________
(1) الكهف / 25.(13/77)
هذا التقرير، تكتب سجلّات التحضير، وتنتظم الحسبانات المرفوعة، والمشارع الموضوعة، وتطّرد القوانين المشروعة، وتثبّت المكلّفات المقطوعة ولو لم يكن بين دواعي نقلها، وعوارض زللها وزوالها، إلا أنّ الأجناد إذا قبضوا واجباتهم عن منشور إلى سنة خمس في أواخر سنة سبع وسقط ساقطهم بالوفاة، وجرى بحكم السمع لا بالشّرع إلى أن يرث وارثه دون بيت المال مستغلّ السنة الخراجية التي يلتقي فيها تاريخ وفاته من السنة الهلالية وفي ذلك ما فيه، مما يباين الإنصاف وينافيه [لكفى] (1)
وإذا كان العدل وضع الأشياء في مواضعها فلسنا نحرم أيّامنا المحرّمة بذمامنا، ما رزقته أبناؤها من عدل أحكامنا، بل نخلع عن جديدها (2) المس كل المس، و [نمنع] (3) تبعة الضّلال أن تسند مهادنته إلى نور الشمس، ولا نجعل أيامنا معمورة بالأسقاط التي تجمعها، بل مغمورة بالأقساط التي تنفعها فليبن التاريخ على بنيانه وليحسم الخلف الواقع في السنين، بهذا الحقّ الصادع المبين، ولينسخ المشهود به في جميع الدواوين، وليكاتب بحكمه من الخراج إلى من يمكنه من المستخدمين ومنها أن المستجدّ من الأجناد لو حمل على السنة الخراجية في استغلاله، وعلى الهلاليّة في استقباله، لكان محالا على ما يكون محالا، وكان يتعجّل استقبالا، ويباطن استغلالا وفي ذلك ما ينافر أوصاف الإنصاف ويصون الفلاح إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني (ما يكتب به في زماننا)
وقد جرت العادة أن يكتب في قطع الثّلث وأنه يفتتح بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» ثم يقال: وبعد فإنا لما اختصّنا الله تعالى به من النظر في أمر الناس
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية وهي لازمة للسياق.
(2) الجديد: وجه الأرض.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية وهي لازمة للسياق.(13/78)
ومصالحهم، ويذكر ما سنح له من ذلك ثم يقال: ولمّا كان، ويذكر قصة السنين:
الشمسية والقمريّة، وما يطرأ بينهما من التباعد الموجب لنقل الشمسية إلى القمرية، ثم يقال: اقتضى الرأي الشريف أن يحوّل مغلّ سنة كذا إلى سنة كذا وتذكر نسخة ذلك، ثم يقال: فرسم بالأمر الشريف الفلاني لا زال
أن تحوّل سنة كذا إلى سنة كذا.
وهذه نسخة مرسوم بتحويل السنة القبطية إلى العربية وهي:
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار آيتين، وصيّر الشهور والأعوام لابتداء المدد وانتهائها غايتين، ليعلم خلقه عدد السنين والحساب، وتعمل بريّته على توفية الأوقات حقّها من الأفعال التي يحصل بها الاعتداد ويحسن بها الاحتساب.
نحمده على ما خصّ أيامنا الزاهرة من إنعام النظر في مصالح خلقه، وإمعان الفكر في تشييد ما بسط لهم من رزقه، وإزالة الضّرر في تيسير القيام بما أوجب عليهم من حقّه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عاصمة من الزيغ ذا هوى، معتصمة من التوفيق بأقوى أسباب التوثيق وأوثق أسباب القوى، شافعة حسن العمل في مصالح العباد بحسن النية، فإنّ الأعمال بالنيات وإنّما لكلّ امريء ما نوى، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وحجة على العاملين، ونشر دعوته في الآفاق فأيّده لإقامتها بنصره وبالمؤمنين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين أمروا فأطاعوا، ونهوا فاجتنبوا ما نهوا عنه ما استطاعوا، صلاة تنمي نماء البدور، وتبقى بقاء الدّهور، وتطوى بنشرها مراحل الأيام إلى يوم النّشور.
وبعد، فإنّا لما اختصّنا الله تعالى به من التوفّر على مصالح الإسلام، والتناول لما تنشرح به في مواقف الجهاد، صدور السيوف وتنطق به في مصالح العباد، ألسنة الأقلام، نتبع كلّ أمر فنسدّ خلله، ونثقّف ميله، ونقيم أوده، وننظر ليومه بما يصلح به يومه ولغده بما يصلح غده، إصلاحا لكل حال بحسبه، وتقريبا لكل شيء على ما هو أليق بشأنه وإقرارا لكلّ أمر على ما هو الأحسن به.
ولما كان الزمن مقسوما بين سنين شمسية يتّفق فيها ما أخرج الله تعالى من الرّزق لعباده، ويحصل بها ميقات القوت الذي قال الله تعالى فيه: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذََا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصََادِهِ} (1) وقمريّة لا يعوّل في أحكام الدّين إلا عليها، ولا يرجع في تواريخ الإسلام إلّا إليها، ولا تعتبر العبادة الزمانيّة إلا بأهلّتها، ولا يهتدى إلى يوم الحجّ الأكبر إلا بأدلّتها، ولا يعتدّ في العدد التي تحفظ بها الأنساب إلا بأحكامها، ولا تعلم الأشهر الحرم إلا بوجودها في الأوقات المخصوصة من عامها، وكان قد حصل بينهما من تفاوت الأيام في المدد، واختلاف الشّهور الهلالية في العدد، ما يلزم منه تداخل مغلّ في مغل، ونسبة شيء راح وانقضى إلى ما أدرك الآن وحصل، ويؤدّي ذلك إلى إبقاء سنة بغير خراج، وهدر ما يجب تركه فليس الوقت إليه محتاج، وإلغاء ما يتعيّن إلغاؤه، وإسقاط ما تلتفت إليه الأذهان وهو لا يمكن رجاؤه، وإن كان ذلك الإسقاط لا ضرر فيه على العباد والبلاد، ولا نقص ينتج منه للأمراء والأجناد، ولا حقيقة له ولا معنى، ولا إهمال شيء أفقر تركه ولا إبقاؤه أغنى، ولكن صار ذلك من عوائد الزّمن القديمة، ومصطلحا لا تزال العقول بالاحتياج إلى فعله عليمة، وأمرا لا بدّ للملك منه، وحالا لا مندوحة للدّول عنه، لتغدو التصرّفات على الاستقامة ماشية، والمعاملات من الحق ناشية، ويعفى رسم ما لم يكن في الحقيقة رابط، ويزال اسم مالو توسّمه الفضل لأضحى كأنه يغالط اقتضى حسن الرأي الشريف أن تحوّل هذه السنة التي يحصل بها الكبس، وأن يدحضها يقين النفس، وأن يرفع ما بها من أشكال الإشكال، ويزال هذا السبب الذي نشأ عنه دخول الأكثر باستدراج الأقلّ فلا يكون للأذهان عليه اتّكال نظرا بذلك في مصالح الأمّة، ودفعا لما يجدونه من أوهام مدلهمّة، وعملا يطابق به الدليل حكمه، ويوافق فيه اللفظ معناه والفعل اسمه، وتخفيفا عن الرعية من لزوم ما لا يلزم في الحقيقة عملا بقوله تعالى: {ذََلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (2)(13/79)
وبعد، فإنّا لما اختصّنا الله تعالى به من التوفّر على مصالح الإسلام، والتناول لما تنشرح به في مواقف الجهاد، صدور السيوف وتنطق به في مصالح العباد، ألسنة الأقلام، نتبع كلّ أمر فنسدّ خلله، ونثقّف ميله، ونقيم أوده، وننظر ليومه بما يصلح به يومه ولغده بما يصلح غده، إصلاحا لكل حال بحسبه، وتقريبا لكل شيء على ما هو أليق بشأنه وإقرارا لكلّ أمر على ما هو الأحسن به.
ولما كان الزمن مقسوما بين سنين شمسية يتّفق فيها ما أخرج الله تعالى من الرّزق لعباده، ويحصل بها ميقات القوت الذي قال الله تعالى فيه: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذََا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصََادِهِ} (1) وقمريّة لا يعوّل في أحكام الدّين إلا عليها، ولا يرجع في تواريخ الإسلام إلّا إليها، ولا تعتبر العبادة الزمانيّة إلا بأهلّتها، ولا يهتدى إلى يوم الحجّ الأكبر إلا بأدلّتها، ولا يعتدّ في العدد التي تحفظ بها الأنساب إلا بأحكامها، ولا تعلم الأشهر الحرم إلا بوجودها في الأوقات المخصوصة من عامها، وكان قد حصل بينهما من تفاوت الأيام في المدد، واختلاف الشّهور الهلالية في العدد، ما يلزم منه تداخل مغلّ في مغل، ونسبة شيء راح وانقضى إلى ما أدرك الآن وحصل، ويؤدّي ذلك إلى إبقاء سنة بغير خراج، وهدر ما يجب تركه فليس الوقت إليه محتاج، وإلغاء ما يتعيّن إلغاؤه، وإسقاط ما تلتفت إليه الأذهان وهو لا يمكن رجاؤه، وإن كان ذلك الإسقاط لا ضرر فيه على العباد والبلاد، ولا نقص ينتج منه للأمراء والأجناد، ولا حقيقة له ولا معنى، ولا إهمال شيء أفقر تركه ولا إبقاؤه أغنى، ولكن صار ذلك من عوائد الزّمن القديمة، ومصطلحا لا تزال العقول بالاحتياج إلى فعله عليمة، وأمرا لا بدّ للملك منه، وحالا لا مندوحة للدّول عنه، لتغدو التصرّفات على الاستقامة ماشية، والمعاملات من الحق ناشية، ويعفى رسم ما لم يكن في الحقيقة رابط، ويزال اسم مالو توسّمه الفضل لأضحى كأنه يغالط اقتضى حسن الرأي الشريف أن تحوّل هذه السنة التي يحصل بها الكبس، وأن يدحضها يقين النفس، وأن يرفع ما بها من أشكال الإشكال، ويزال هذا السبب الذي نشأ عنه دخول الأكثر باستدراج الأقلّ فلا يكون للأذهان عليه اتّكال نظرا بذلك في مصالح الأمّة، ودفعا لما يجدونه من أوهام مدلهمّة، وعملا يطابق به الدليل حكمه، ويوافق فيه اللفظ معناه والفعل اسمه، وتخفيفا عن الرعية من لزوم ما لا يلزم في الحقيقة عملا بقوله تعالى: {ذََلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (2)
__________
(1) الأنعام / 141.
(2) البقرة / 178.(13/80)
فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زال عدله سائرا في الأيّام والأنام، وفضله [سائدا] (1) بالرّفق الذي تغدو به العقول والعيون كأنها من الأمن في منام أن يحوّل مغلّ سنة تسع وأربعين وسبعمائة بالديار المصرية المحروسة، لمغلّ سنة خمسين وسبعمائة، ويلغى اسم مغل السنة المذكورة، من الدّواوين المعمورة، ولا ينسب إليها مغلّ بل يكون مغلّ سنة خمسين وسبعمائة تاليا لمغل سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وتستقرّ السنة حينئذ هلاليّة خراجيّة بحكم دوران السنين، واستحقاق هذا التحويل من مدّة خمس عشرة سنة، حيث اتفاق مبدإ السنين الشمسية والقمريّة، ووقوع الإغفال عن هذا المبهم في الدول الماضية، لتكون هذه الدولة الشريفة قائمة بما قعد عنه من مضى من الدول، مقوّمة بعون الله لكل متأوّد من الزّيغ والخلل، لما في ذلك من المصالحة العامّة، والمنحة التامّة، والحقّ الواضح، والقصد الناجح، والمنهج القويم، والصّراط المستقيم، والاعتماد على الشهور القمريّة قال الله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنََاهُ مَنََازِلَ حَتََّى عََادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (2)
فليعتمد حكم ما قرّرناه، وليمتثل أمر ما أمرناه، وليثبّت ذلك في الدّواوين، وليشهر نبؤه المبين، وليسقط ما تخلّل بين هاتين السنتين من المغلّ الذي لا حقيقة له، وليترك ما بينهما من التفاوت الذي لا تعرف الحسبانات معدّله، وليمح اسم هذه الأيام من الدفاتر، ولينس حكمها فإنها أولى بذلك في الزمن الآتي والغابر فليس المغلّ سوى للعام الذي وجد فيه سببه، وظهر فيه حصوله وتعيّن طلبه، وأدرك في إبّانه، وجاء في زمانه، وأينع به ثمر غرسه، واستحقّ في وقته لا كما يلزم أن يكون اليوم في أمسه وفي ذلك من الأسباب الباعثة على ما رسمنا به، والدّواعي اللازمة لذهابه، والبراهين القاطعة بقطعه، والدلائل الواضحة على دفعه، ما قدّمناه: من المصالح المعيّنة، والطّرق المبيّنة، وإزالة الأوهام، وتأكيد
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) يس / 39.(13/81)
الأفهام، وإراحة الخواطر، وإزاحة ما تتشوّق إليه الظّنون في الظاهر وليبطل ذلك من الارتفاعات (1) بالكلّيّة، ويسقط من الجرائد لتغدو الحسبانات منه خليّة، ولا يذكر مغلّ السنة المدحوضة في سجلّ ولا مشروح، ولا مشهود يغدو حكمه ويروح، ولا مكلّفات تودعها الأقلام شيئا على المجاز وهو في الحقيقة مطروح، لتثبت الحسنات لأيامنا الزاهرة في هذا المحو، ويكشف ما ينتج بسماء العقل من غيم الجهالة بما وضح من هذا الصّحو، ويتمسّك في صحة العبادات والمعاملات بالسنين العربية من غير خروج عن ذلك النحو والله تعالى يبيّن بنا طرق الصواب، ويحسن ببقاء ملكنا الشريف المآل والمآب، ويجعل دولتنا توضّح الأحكام على اختلاف الجديدين (2): {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ لَآيََاتٍ لِأُولِي الْأَلْبََابِ} (3)
والاعتماد فيه على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه، إن شاء الله تعالى.
حادي عشرين (4) جمادى الأولى سنة خمسين وسبعمائة.
حسب المرسوم الشريف بالإشارة الكافلية السيفيّة، كافل الممالك الشريفة الإسلامية، أعزّ الله تعالى نصرته ثم الحمدلة والتصلية والحسبلة.
قلت: وهذه النسخة صدرها إلى قوله: والشهور الهلالية أجنبيّ عما بعد ذلك من تتمة الكلام. وذلك أني ظفرت بعجز النسخة، وهو المكتتب في تحويل سنة تسع وأربعين في نفس المرسوم الشريف الذي شملته العلامة الشريفة، وقد قطع أوّله فركّبتها على هذا الصدر.
ومن عجيب ما يذكر في ذلك أن سنة تسع وأربعين التي حوّلت إلى سنة
__________
(1) أي ما يرفع إلى المراتب السلطانية من الكتب بهذا الشأن.
(2) الجديدان: الليل والنهار.
(3) البقرة / 164.
(4) كذا في الأصل بإثبات النون وهو لحن.(13/82)
خمسين هي السنة التي وقع فيها الطاعون الجارف الذي عمّ الأقطار خلا المدينة النبويّة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام التي أخبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه لا يدخلها الطاعون، وكثر فيها الموت حتى انتهى إلى عشرين ألفا في اليوم الواحد وكان يقال في هذه السنة لما حوّلت: [مات كلّ شيء حتى السنة] (1) لإلغائها وجعل مغلّ سنة خمسين تاليا لمغل سنة ثمان وأربعين كما تقدّم.
__________
(1) الزيادة مما تقدّم.(13/83)
الفصل الثاني من الباب الرابع من المقالة السادسة
(فيما يكتب في التذاكر [وفيه ثلاثة أضرب] (1)) والتّذاكر جمع تذكرة.
قال «في موادّ البيان»: وقد جرت العادة أن تضمّن جمل الأموال التي يسافر بها الرسول ليعود إليها إن أغفل شيئا منها أو نسيه، أو تكون حجة له فيما يورده ويصدره، قال: ولا غنى بالكاتب عن العلم بعنواناتها وترتيبها.
فأما عنوان التذكرة فيكون في صدرها تلو البسملة فإن كانت للرسول يعمل عليها، قيل: تذكرة منجحة صدرت على يد فلان عند وصوله إلى فلان بن فلان، وينتهي بمشيئة الله تعالى إلى ما نصّ فيها، وإن كانت حجة له يعرضها لتشهد بصدق ما يورده، قيل: تذكرة منجحة صدرت على يد فلان بن فلان بما يحتاج إلى عرضه على فلان.
وأما الترتيب فيختلف أيضا بحسب اختلاف العنوان: فإن كانت على الرسم الأوّل، كان بصدرها «قد استخرنا الله عزّو جل وندبناك، أو عوّلنا عليك، أو نفّذناك، أو وجّهناك إلى فلان: لإيصال ما أودعناك وشافهناك به من كذا وكذا» ويقصّ جميع الأغراض التي ألقيت إليه مجملة. وإن كانت محمولة على يده كالحجة له فيما يعرضه، قيل: «قد استخرنا الله عزّ وجل وعوّلنا عليك في تحمّل تذكرتنا هذه والشّخوص بها إلى فلان، أو النّفوذ، أو التّوجّه، أو المصير، أو القصد
__________
(1) الزيادة من المقام، ولم يذكر الضرب الأول. والضربان الثاني والثالث ص 96وما بعدها.(13/84)
بها وإيصالها إليه، وعرض ما تضمّنته عليه، من كذا وكذا» ويقصّ جميع أغراضها.
ثم قال: وهذه التذاكر أحكامها أحكام الكتب في النّفوذ عن الأعلى إلى الأدنى، وعن الأدنى إلى الأعلى، فينبغي أن تبتنى على ما يحفظ رتب الكاتب والمكتوب إليه: فإن كانت صادرة عن الوزير إلى الخليفة مثلا فتصدّر بما مثاله «قد استخرت الله تعالى، وعوّلت عليك في الشّخوص إلى حضرة أمير المؤمنين صلوات الله عليه متحمّلا هذه التّذكرة فإذا مثلت بالمواقف المطهّرة، فوفّها حقّها من الإعظام والإكبار، والإجلال والوقار، وقدّم تقبيل الأرض والمطالعة بما أشاء مواصلته من شكر نعم أمير المؤمنين الضافية عليّ، المتتابعة لديّ، وإخلاصي لطاعته، وانتصابي في خدمته، وتوفيري على الدعاء بثبات دولته، وخلود مملكته، وطالع بكذا وكذا» وعلى هذا النظام إلى آخر المراتب، يعني مراتب المكاتبات.
قلت: والذي جرى عليه اصطلاح كتّاب الزمان في التذاكر أنّ التذكرة تكتب في قطع الشاميّ، تكسر فيها الفرخة الكاملة نصفين، وتجعل دفترا وورقة إلى جنب أخرى لا كرّاسة بعضها داخل بعض، وتكون كتابتها بقلم الرّقاع، وتكون البسملة في أعلى باطن الورقة الأولى ببياض قليل من أعلاها وهامش عن يمينها ثم يكتب السطر التالي من التذكرة على سمت البسملة ملاصقا لها، ثم يخلّى قدر عرض إصبعين بياضا ويكتب السطر التالي، ثم يخلّى قدر إصبع بياضا ويكتب السطر التالي ويجري في باقي الأسطر على ذلك حتى يأتي على آخر الورقة، ثم يكتب باطن الورقة التي تليها كذلك، ثم ظاهرها كذلك، ثم الورقة الثانية فما بعدها على هذا الترتيب إلى آخر التذكرة، ثم يكتب «إن شاء الله تعالى» ثم التاريخ، ثم الحمدلة والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم الحسبلة، على نحو ما تقدّم في المكاتبات والولايات وغيرها على ما تقدّم بيانه في المقالة الثالثة في الكلام على الخواتم.
وهذه نسخة تذكرة أنشأها القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين
يوسف بن أيّوب، سيّرها صحبة الأمير شمس الدين الخطيب: أحد أمراء الدولة الصلاحية إلى أبواب الخلافة ببغداد في خلافة الناصر لدين الله، وهي:(13/85)
وهذه نسخة تذكرة أنشأها القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين
يوسف بن أيّوب، سيّرها صحبة الأمير شمس الدين الخطيب: أحد أمراء الدولة الصلاحية إلى أبواب الخلافة ببغداد في خلافة الناصر لدين الله، وهي:
تذكرة مباركة، ولم تزل الذّكرى للمؤمنين نافعة، ولعوارض الشكّ دافعة، ضمّنت أغراضا يقيّدها الكتاب، إلى أن يطلقها الخطاب. على أن السائر سيّار البيان، والرسول يمضي على رسل التبيان والله سبحانه يسدّده قائلا وفاعلا، ويحفظه بادئا وعائدا ومقيما وراحلا.
الأمير الفقيه شمس الدين خطيب الخطباء أدام الله نعمته، وكتب سلامته، وأحسن صحابته يتوجّه بعد الاستخارة ويقصد دار السلام، والخطّة التي هي عشّ بيضة الإسلام، ومجتمع رجاء الرّجال، ومتّسع رحاب الرّحال فإذا نظر تلك الدار الدارّ سحابها، وشافه بالنظر معالم ذلك الحرم المحرّم على الخطوب خطابها، ووقف أمام تلك المواقف التي تحسد الأرجل عليها الرّؤوس، وقام بتلك المنازل التي تنافس الأجسام فيها النّفوس فلو استطاعت لزارت الأرواح محرمة من أجسادها، وطافت بكعبتها متجرّدة من أغمادها فليمطر الأرض هناك عنّا قبلا تخضّلها، بأعداد لا نحصّلها وليسلّم عليها سلاما نعتدّه من شعائر الدين اللازمة، وسنن الإسلام القائمة، وليورد عنا تحيّة يستنزلها من عند الله تحية مباركة طيّبة، وصلاة تخترق أنوارها الأستار المحجّبة، وليصافح عنّا بوجهه صفحة الثّرى، وليستشرف عنّا بنظره فقد ظفر بصباح السّرى، وليستلم الأركان الشريفة، فإن الدّين إليها مستند، وليستدم الملاحظات اللّطيفة، فإنّ النّور منها مستمدّ وإذا قضى التسليم وحقّ اللقاء، واستدعى الإخلاص جهد الدعاء، فليعد وليعد حوادث ما كانت حديثا يفترى، وجواري أمور إن قال منها كثيرا فأكثر منه ما جرى، وليشرح صدرا منها لعلّه يشرح منا صدرا، وليوضّح الأحوال المستسرة فإنّ الله لا يعبد سرّا:
ومن الغرائب أن تسير غرائب ... في الأرض لم يعلم بها المأمول
كالعيس أقتل ما يكون لها الظّما (1) ... والماء فوق ظهورها محمول
__________
(1) في روايات أخرى.: كالعيس في البيداء يقتلها الظما الخ.(13/86)
فإنّا كنا نقتبس النار بأيدينا، وغيرنا يستنير، ونستنبط الماء بأيدنا، وغيرنا يستمير، ونلقى السّهام بنحورنا، وغيرنا يغيّر التصوير، ونصافح الصّفاح بصدورنا، وغيرنا (1) يدّعي التصدير، ولا بدّ أن نستردّ بضاعتنا، بموقف العدل الذي تردّ به الغصوب، ونظهر طاعتنا، فنأخذ بحظّ الألسنة كما أخذنا بحظ القلوب وما كان العائق إلا أنّا كنا ننظر ابتداء من الجانب الشريف بالنعمة، يضاهي ابتداءنا بالخدمة، وإيجابا للحق، يشاكل إيجابنا للسّبق، إلى أن يكون سحابها بغير يد مستنزلا، وروضها بغير غرس مطفلا.
كان أوّل أمرنا أنا كنّا في الشام نفتح الفتوحات مباشرين بأنفسنا ونجاهد الكفّار متقدّمين لعساكره نحن ووالدنا وعمّنا فأيّ مدينة فتحت، أو معقل ملك، أو عسكر للعدوّ كسر، أو مصافّ للإسلام معه ضرب، فما يجهل أحد، ولا يجحد عدوّ، أنّا نصطلي الجمرة، ونملك الكسرة، ونتقدّم الجماعة، ونرتّب المقاتلة، وندبّر التعبئة، إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها، ولا يضرّنا أن يكون لغيرنا ذكرها.
وكانت أخبار مصر تتّصل بنا بما الأحوال عليه فيها من سوء التدبير، ومما دولتها عليه من غلبة صغير على كبير، وأن النّظام قد فسد، والإسلام بها قد ضعف عن إقامته كلّ قائم بها وقعد، والفرنج قد احتاج من يدبّرها إلى أن يقاطعهم بأموال كثيرة، لها مقادير خطيرة، وأنّ كلمة السّنة بها وإن كانت مجموعة، فإنها مقموعة، وأحكام الشريعة وإن كانت مسمّاة، فإنّها متحاماة، وتلك البدع بها على ما يعلم، وتلك الضّلالات فيها على ما يفتى منها بفراق الإسلام ويحكم، وذلك المذهب قد خالط من أهله اللّحم والدّم، وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة تتّخذ من دون الله تعظّم وتفخّم، فتعالى الله عن شبه العباد، وويل لمن غرّه تقلّب الذين كفروا في البلاد.
__________
(1) الإشارة هنا إلى الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود. وقد كان صلاح الدين يطمح إلى أن يجمع تحت سلطانه بلاد مصر والشام ليواجه بهما مجتمعين الفرنج. (انظر القلقشندي وكتابه صبح الأعشى: ص 157).(13/87)
فسمت هممنا دون همم ملوك الأرض إلى أن نستفتح مقفلها ونسترجع للإسلام شاردها ونعيد على الدّين ضالّته منها فسرنا إليها بعساكر ضخمة، وجموع جمّة، وبأموال انتهكت الموجود، وبلغت منّا المجهود، وأنفقناها من خالص ذممنا وكسب أيدينا، ومن أسارى الفرنج الواقعين في قبضتنا، فعرضت عوارض منعت، وتوجّهت للمصريين حيل باستنجاد الفرنج (1) تمّت: ولكلّ أجل كتاب، ولكلّ أمل باب.
وكان في تقدير الله سبحانه أنّا نملكها على الوجه الأحسن، وناخذها بالحكم الأقوى الأمكن، فغدر الفرنج بالمصريين غدرة في هدنة عظم خطبها وخبطها، وعلم أنّ استئصال كلمة الإسلام محطّها، وكاتبنا المسلمون من مصر في ذلك الزمان، كما كاتبنا المسلمون من الشام في هذا الأوان، بأنّا إن لم ندرك الأمر وإلا خرج من اليد، وإن لم ندفع غريم اليوم لم يمهل إلى الغد فسرنا بالعساكر الموجودة والأمراء الأهل المعروفة إلى بلاد قد تمهّد لنا بها أمران، وتقرّر لنا فيها في القلوب ودّان: الأوّل لما علموه من إيثارنا المذهب الأقوم (2)، وإحياء الحقّ الأقدم، والآخر لما يرجونه من فكّ إسارهم، وإقالة عثارهم ففعل الله ما هو أهله، وجاء الخبر إلى العدوّ فانقطع حبله، وضاقت به سبله، وأفرج عن الديار بعد أن كانت ضياعها ورساتيقها وبلادها وإقليمها قد نفذت فيها أوامره، وخفقت عليها صلبانه، وأمن من أن يسترجع ما كان بأيديهم حاصلا، وأن يستنقذ ما صار في
__________
(1) يشير هنا إلى استنجاد الوزير الفاطمي شاور بن مجير السعدي بملك الإفرنج «أموري» حاكم بيت المقدس اللاتيني ليعينه على أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح اللذين أرسلهما نور الدين محمود لحصار القاهرة وانتزاعها من شاور. وعلى الرغم من أن القلقشندي لم يحدد تاريخ إرسال هذه التذكرة، إلا أنه من المحتمل حسب تسلسل الأحداث أن تكون بعد سنة 569هـ بقليل، وهي السنة التي مات فيها السلطان نور الدين محمود وخلفه في الحكم ابنه الصالح إسماعيل. (الخطط التوفيقية الجديدة: 1/ 6261والقلقشندي وكتابه صبح الأعشى: ص 157).
(2) يقصد بذلك مذهب السنّة مقابل مذهب الفاطميين. وقد تسنّى لصلاح الدين بعد موت العاضد القضاء على الدولة الفاطمية ومذهبها وإقامة الدولة الكردية والدعاء للخلافة العباسية ببغداد، وتبنّي المذهب الشافعي بشكل أساسي.(13/88)
ملكهم داخلا، ووصلنا البلاد وبها أجناد عددهم كثير، وسوادهم كبير، وأموالهم واسعة، وكلمتهم جامعة، وهم على حرب الإسلام أقدر منهم على حرب الكفر، والحيلة في السّرّ منهم أنفذ من العزيمة في الجهر. وبها راجل من السّودان (1) يزيد على مائة ألف رجل كلهم أغتام (2) أعجام، إن هم إلا كالأنعام، لا يعرفون ربّا إلا ساكن قصره، ولا قبلة إلا ما يتوجّهون إليه من ركنه. وبها عسكر من الأرمن باقون على النّصرانية موضوعة عنهم الجزية كانت لهم شوكة وشكّة، وحميّة وحمة، ولهم حواش لقصرهم من بين داع تلطف في الضّلال مداخله، وتصيب العقول مخاتله، ومن بين كتّاب أقلامهم تفعل أفعال الأسل، وخدّام يجمعون إلى سواد الوجوه سواد النّحل، ودولة قد كبر عليها الصغير، ولم يعرف غيرها الكبير، ومهابة تمنع خطرات الضمير، فكيف لحظات التدبير.
هذا إلى إستباحة للمحارم ظاهرة، وتعطيل للفرائض على عادة جارية، وتحريف للشّريعة بالتأويل، وعدول إلى غير مراد الله في التنزيل، وكفر سمّي بغير اسمه، وشرع يتستّر به ويحكم بغير حكمه.
فما زلنا نسحتهم سحت المبارد للشّفار، ونتحيّفهم تحيّف الليل والنهار للأعمار، بعجائب تدبير، لا تحتملها المساطير، وغرائب تقرير، لا تحملها الأساطير، ولطف توصّل ما كان في حيلة البشر ولا قدرتهم إلا إعانة المقادير، وفي أثناء ذلك استنجدوا علينا الفرنج دفعة إلى بلبيس، ودفعة إلى دمياط، في كل منهما وصلوا بالعدوّ المجهر، والحشد الأوفر، وخصوصا في نوبة دمياط فإنهم نازلوها بحرا في ألف مركب مقاتل وحامل، وبرّا في مائتي ألف فارس وراجل، وحصروها شهرين يباكرونها ويراوحونها، ويماسونها ويصابحونها، القتال الذي يصليه
__________
(1) وكان يقال لهم العبيد. وسوف تكون وقعة كبيرة بين هؤلاء العبيد السودان وبين الغزّ أنصار صلاح الدين فتكون الغلبة للغزّ وبها ينتهي حكم الفاطميين. (انظر الخطط التوفيقية: 1/ 6463).
(2) غتم غتما وغتمة: لم يفصح لعجمة في منطقه فهو أغتم. جمع غتم وأغتام.(13/89)
الصّليب، والقراع الذي ينادى به من مكان قريب، ونحن نقاتل العدوّين (1):
الباطن والظاهر، ونصابر الضّدّين: المنافق والكافر، حتّى أتى الله بأمره، وأيّدنا بنصره، وخابت المطامع من المصريّين ومن الفرنج ومن ملك الرّوم ومن الجنويّين وأجناس الرّوم لأن أنفارهم تنافرت، ونصاراهم تناصرت، وأناجيل طواغيتهم رفعت، وصلب صلبوتهم أخرجت، وشرعنا في تلك الطوائف من الأجناد والسّودان والأرمن فأخرجناهم من القاهرة تارة بالأوامر المرهقة لهم، وبالذّنوب الفاضحة منهم، وبالسّيوف المجرّدة وبالنار المحرقة، حتّى بقي القصر ومن به من خدمه قد تفرّقت شيعه، وتمزّقت بدعه، وخفتت دعوته، وخفيت ضلالته فهنالك تمّت لنا إقامة الكلمة والجهر بالخطبة والرفع للواء السّواد الأعظم، والجمع لكلمة السّواد الأعظم، وعاجل الله الطاغية الأكبر بفنائه، وبرّأنا من عهدة يمين كان حنثها أيسر من إثم إبقائه، إلا أنه عوجل لفرط روعته، ووافق هلاك شخصه هلاك دولته.
ولما خلا ذرعنا، ورحب وسعنا، نظرنا في الغزوات إلى بلاد الكفّار، فلم تخرج سنة إلا عن سنّة أقيمت فيها برّا وبحرا، ومركبا وظهرا، إلى أن أوسعناهم قتلا وأسرا، وملكنا رقابهم قهرا وقسرا، وفتحنا لهم معاقل ما خطر أهل الإسلام فيها منذ أخذت من أيديهم، وما أوجفت فيها خيلهم ولا ركابهم مذ ملكها أعاديهم فمنها ما حكمت فيه يد الخراب، ومنها ما استولت عليه يد الاكتساب، ومنها قلعة بثغر أيلة (2) كان العدوّ قد بناها في بحر الهند، وهو المسلوك منه إلى
__________
(1) بعد موت شيركوه خلفه في الوزارة صلاح الدين. ولكنّ الجوّ لم يخل له إذ قامت عدة حركات داخلية بهدف إحياء الدولة الفاطمية وقد تمثل هذا في ثورة مؤتمن الخلافة سنة 564هـ حيث قدم الفرنج لمساعدة الثائرين فهاجموا دمياط في صفر 565هـ، وثورة عمارة اليمني سنة 569هـ التي أعقبها هجوم الفرنج على الإسكندرية في ذي الحجة 569هـ. وقد تمكن صلاح الدين من القضاء على المؤامرتين وصد غزوتي الفرنج على كل من دمياط والإسكندرية، والتي أسهم فيهما الجنويّون والبيازنة بنصيب ملموس. ويمكننا الاستنتاج أن العدوّين اللذين أشار إليهما صلاح الدين في كتابه هما: إفرنج الشام وبقايا الفاطميين بمصر. (القلقشندي وكتابه صبح الأعشى: ص 173172 وشذرات الذهب: 4/ 214وخطط المقريزي: 1/ 53).
(2) أيلة: مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام. (معجم البلدان: 1/ 293).(13/90)
الحرمين واليمن، وغزا ساحل الحرم فسبى منه خلقا، وخرق الكفر في هذا الجانب خرقا، فكادت القبلة أن يستولى على أصلها، ومساجد الله أن يسكنها غير أهلها، ومقام الخليل صلوات الله عليه أن يقوم به من ناره غير برد وسلام، ومضجع الرسول شرّفه الله أن يتطرّقه من لا يدين بما جاء به من الإسلام، ففتح الله هذه القلعة وصارت معقلا للجهاد، وموئلا لسفّار البلاد، وغيرهم من عبّاد العباد فلو شرح ما تمّ بها للمسلمين من الأثر الجليل، وما استدّ من خلّاتهم، وأحرق من زروع المشركين ورعي من غلّاتهم، إلى أن ضعفت ثغورهم، واختلّت أمورهم، لاحتيج فيه إلى زمن يشغل عن المهمات الشريفة لسماع مورده، وإيضاح مقصده.
وكان باليمن ما علم من ابن مهديّ (1) الضالّ وله آثار في الإسلام، وثار طالبه النبيّ عليه الصلاة والسلام، لأنه سبى الشرائف الصالحات وباعهنّ بالثمن البخس، واستباح منهن كلّ ما لا تقرّ عليه نفس، وكان ببدعه دعا إلى قبر أبيه وسمّاه كعبة، وأخذ أموال الرعايا المعصومة وأجاحها، وأحلّ الفروج المحرّمة وأباحها، فأنهضنا إليه أخانا بعسكرنا بعد أن تكلّفنا له نفقات واسعة، وأسلحة رائعة، وسار فأخذناه ولله الحمد، وأنجح الله فيه القصد، ووردتنا كتب عساكرنا وأمرائنا بما نفذ في ابن مهديّ وبلاده المفتتحة ومعاقله المستضافة والكلمة هنالك بمشيئة الله إلى الهند سارية، وإلى ما لم يفتضّ الإسلام عذرته مذ أقام الله كلمته متمادية.
__________
(1) هو عبد النبي بن علي بن مهدي الحميري: صاحب زبيد. وليها استقلالا بعد موت أخيه مهدي سنة 559هـ. اجتمع له ملك الجبال والتهائم، وانتقلت إليه جميع أموال اليمن وذخائرها.
وفي «مفرّج الكروب»: 243238أن عبد النبي بعد استيلائه على زبيد، قطع الخطبة العباسية وخطب لنفسه، فسار الملك المعظم توران شاه، أخو صلاح الدين، من مصر فدخل زبيدا وأسر ابن مهدي واستخرج ما عنده من الأموال وأخذه معه إلى عدن، ثم عاد وهو معه إلى زبيد، فمات في أسره. وفي «مرآة الجنان» أن أباه كان قد استولى على اليمن فظلم وغشم وذبح الأطفال وكان باطنيا من دعاة المصريين بني عبيد، وهلك سنة 566هـ فقام بعده ولده المذكور فاستباح الحرائر وتمرد على الله فقتله شمس الدولة، أول من ملك اليمن من بني أيوب. وفي الأعلام أن وفاته كانت سنة 570هـ. (انظر الأعلام: 4/ 171وحاشية نفس الصفحة).(13/91)
ولنا في المغرب، أثر أغرب، وفي أعماله أعمال دون مطلبها كما يكون المهلك دون المطلب وذلك أن بني عبد المؤمن قد اشتهر أنّ أمرهم أمر، وملكهم قد عمر، وجيوشهم لا تطاق، وأوامرهم لا تشاقّ، ونحن والحمد لله قد ملكنا مما يجاورنا منه بلادا تزيد مسافتها على شهر، وسيّرنا عسكرا بعد عسكر رجع بنصر بعد نصر، ومن البلاد المشاهير، والأقاليم الجماهير لكّ برقة قفصة قسطيلية توزر كلّ هذه تقام فيها الخطبة لمولانا الإمام المستضيء بالله سلام الله عليه، ولا عهد للإسلام بإقامتها، وتنفّذ فيها الأحكام بعلمها المنصور وعلامتها. وفي هذه السنة كان عندنا وفد قد شاهده وفود الأمصار، مقداره سبعون راكبا كلّهم يطلب لسلطان بلده تقليدا، ويرجو منّا وعدا ويخاف وعيدا.
وقد صدرت عنا بحمد الله تقاليدها، وألقيت إلينا مقاليدها، وسيّرنا الخلع والألوية، والمناشير بما فيها من الأوامر والأقضية.
وأما الأعداء الذين يحدقون بهذه البلاد، والكفّار الذين يقاتلونها بالممالك العظام والعزائم الشّداد، فمنهم صاحب قسطنطينيّة وهو الطاغية الأكبر، والجبّار الأكفر، وصاحب المملكة التي أكلت على الدّهر وشربت، وقائم النّصرانية التي حكمت دولته على ممالكها وغلبت، وجرت لنا معه غزوات بحريّة، ومناقلات ظاهريّة وسرّية، وكانت له في البلاد مطامع منها أن يجبي خراجا، ومنها أن يملك منها فجاجا، وكانت غصّة لا يسيغها الماء، وداهية لا ترجى لها الأرض بل السّماء، فأخذنا ولله الحمد بكظمه، وأقمناه على قدمه، ولم نخرج من مصر، إلى أن وصلتنا رسله في جمعة واحدة في نوبتين بكتابين كلّ واحد منهما يظهر فيه خفض الجناح، وإلقاء السّلاح، والانتقال من معاداة، إلى مهاداة، ومن مناضحة، إلى مناصحة، حتّى إنه أنذر بصاحب صقلّية وأساطيله التي يرد ذكرها، وعساكره التي لم يخف أمرها.
ومن هؤلاء الكفّار صاحب صقلّيّة هذا كان حين علم أن صاحب الشام
وصاحب قسطنطينيّة قد اجتمعا في نوبة دمياط فغلبا وهزما وكسرا، أراد أن يظهر قوّته المستقلّة بمفردها، وعزمته القائمة بمجرّدها، فعمر أسطولا استوعب فيه ماله وزمانه: فإنه إلى الآن منذ خمس سنين يكثّر عدّته، وينتخب عدّته، ويجتلب مقاتلته إلى أن وصل منها في السنة الخالية إلى إسكندريّة أمر رائع، وخطب هائل، ما أثقل ظهر البحر مثل حمله، ولا ملأ صدره مثل خيله ورجله ما هو إقليم بل أقاليم نقله، وجيش ما احتفل ملك قطّ بنظيره لولا أنّ الله خذله ولو ذهبنا نصف ما ذهب، فيه من ذهب، وما أخذ منه من سلاح وخيل وعدد ومجانيق، ومن أسر منه من خيّالة كبار، ومقدّمين ذوي أقدار، وملوك يقاطعون بالجمل التي لها مقدار، وكيف أخذه وهو في العدد الأكثر بالعدد الأقلّ من رجالنا، وكيف نصر الله عليه مع الأصعب من قتاله بالأسهل من قتالنا، لعلم أنّ عناية الله بالإسلام تغنيه عن السلاح، وكفاية الله لهذا الدّين تكفيه مؤونة الكفاح ومن هؤلاء الجنويّين الذين يسرّبون الجيوش البنادقة البياشنة (1) الجنوية كلّ هؤلاء تارة لا تطاق ضراوة ضرّهم، ولا تطفأ شرارة شرّهم، وتارة يجهّزون سفّارا يحتكمون على الإسلام في الأموال المجلوبة، وتقصر عنهم يد الأحكام المرهوبة وما منهم الآن إلا من يجلب إلى بلدنا آلة قتاله وجهاده، ويتقرّب إليها بإهداء طرائف أعماله وبلاده وكلّهم قد قرّرت معه المواصفة، وانتظمت معه المسالمة، على ما نريد ويكرهون، ونؤثر ولا يؤثرون (2)(13/92)
ومن هؤلاء الكفّار صاحب صقلّيّة هذا كان حين علم أن صاحب الشام
وصاحب قسطنطينيّة قد اجتمعا في نوبة دمياط فغلبا وهزما وكسرا، أراد أن يظهر قوّته المستقلّة بمفردها، وعزمته القائمة بمجرّدها، فعمر أسطولا استوعب فيه ماله وزمانه: فإنه إلى الآن منذ خمس سنين يكثّر عدّته، وينتخب عدّته، ويجتلب مقاتلته إلى أن وصل منها في السنة الخالية إلى إسكندريّة أمر رائع، وخطب هائل، ما أثقل ظهر البحر مثل حمله، ولا ملأ صدره مثل خيله ورجله ما هو إقليم بل أقاليم نقله، وجيش ما احتفل ملك قطّ بنظيره لولا أنّ الله خذله ولو ذهبنا نصف ما ذهب، فيه من ذهب، وما أخذ منه من سلاح وخيل وعدد ومجانيق، ومن أسر منه من خيّالة كبار، ومقدّمين ذوي أقدار، وملوك يقاطعون بالجمل التي لها مقدار، وكيف أخذه وهو في العدد الأكثر بالعدد الأقلّ من رجالنا، وكيف نصر الله عليه مع الأصعب من قتاله بالأسهل من قتالنا، لعلم أنّ عناية الله بالإسلام تغنيه عن السلاح، وكفاية الله لهذا الدّين تكفيه مؤونة الكفاح ومن هؤلاء الجنويّين الذين يسرّبون الجيوش البنادقة البياشنة (1) الجنوية كلّ هؤلاء تارة لا تطاق ضراوة ضرّهم، ولا تطفأ شرارة شرّهم، وتارة يجهّزون سفّارا يحتكمون على الإسلام في الأموال المجلوبة، وتقصر عنهم يد الأحكام المرهوبة وما منهم الآن إلا من يجلب إلى بلدنا آلة قتاله وجهاده، ويتقرّب إليها بإهداء طرائف أعماله وبلاده وكلّهم قد قرّرت معه المواصفة، وانتظمت معه المسالمة، على ما نريد ويكرهون، ونؤثر ولا يؤثرون (2)
__________
(1) ويسميهم أيضا «البيازنة»، نسبة إلى «بيزة» في إيطاليا.
(2) كان للجنويّة والبيازنة والبنادقة سياسة ذات وجهين متناقضين تجاه مصر والدولة الأيوبية: فهم من جهة يساعدون الصليبيين ضد المصريين وغيرهم من مسلمي الشرق الأدنى باعتبارهم مسيحيين مثلهم، فضلا عن الامتيازات العديدة التي يحصلون عليها من وراء نقل المغامرين الغربيين بسفنهم وأساطيلهم. أما الوجه الثاني فيستلزم منهم الحرص قدر الإستطاعة على العلاقات الطيبة مع مصر حتى لا تضار مصالحهم التجارية والامتيازات والتسهيلات التي كانوا يحصلون عليها منذ وقت بعيد. وكانت هذه السياسة المزدوجة مصدر متاعب لمؤسس الأسرة الأيوبية في وقت كان يستعد فيه لتوحيد القوى في المنطقة توطئة لتوجيه ضربة حاسمة إلى الصليبيين في الشام. ولعل إحساس أولئك التجار بأن الامتيازات التي كانوا قد حصلوا عليها في عهد الفواطم باتت مهددة بعد تغيّر نظام الحكم في مصر، دفعهم إلى دعم الحملات الصليبية. وامتدادا لتلك السياسة نجد أن جنوة توافق في أواسط القرن السابع الهجري على تأجير عدد من السفن إلى الملك الفرنسي لويس التاسع ليتسنى له نقل الجند والعتاد عبر البحر إلى مصر حتى يضمن لحملته الصليبية النجاح، وعقدت معه اتفاقية بهذا الشأن. وقد استصدر الملك الفرنسي في اكتوبر 1246م مرسوما يتعلق باستئجار ست عشرة سفينة جنوية ما بين صغيرة وكبيرة من أجل الحملة على مصر. على أن المحرّك الأساسي لأولئك الجنوية والبيازنة كان المصلحة التجارية لذلك نراهم يتخلّون عن لويس التاسع ويحاولون الفرار بعد أن علموا بوقوعه في الأسر. وقد أشار جوانفيل إلى ذلك في كتابه عن سيرة القديس لويس وحملاته على مصر والشام. (القلقشندي وكتابه صبح الأعشى: 174172ومذكرات جوانفيل: القديس لويس حياته وحملاته. ص: 182).(13/93)
ولما قضى الله بالوفاة النّورية، وكنّا في تلك السنة على نيّة الغزو، والعساكر قد ظهرت، والمضارب قد برزت، ونزل الفرنج بانياس وأشرفوا على احتيازها، ورأوها فرصة مدّوا إليها يد انتهازها، استصرخ بنا صاحبها للممانعة، واستنهضنا لتفريج الكرب الواقعة، فسرنا مراحل اتّصل بالعدوّ أمرها، وعوجل بالهدنة الدّمشقيّة التي لولا مسيرنا ما انتظم حكمها ولا قبل كثيرها ولا قليلها ثم عدنا إلى البلاد فتوافت إلينا الأخبار بما الدولة النّوريّة عليه من تشعّب الآراء وتوزّعها، وتشتّت الأمور وتقطّعها، وأن كلّ قلعة قد حصل فيها صاحب، وكلّ جانب قد طمح إليه طالب والفرنج قد بنوا بلادا يتحيّفون بها الأطراف الإسلامية، ويضايقون بها البلاد الشاميّة، وأمراء الدولة قد سجن أكابرهم وعوقبوا وصودروا، والمماليك الذين للمتوفّى أغرار خلقوا للأطراف لا للصّدور، وجعلوا للقيام لا للجلوس في المحفل المحصور، وقد مدّوا الأعين والأيدي والسّيوف، وساءت سيرتهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وكلّ واحد يتّخذ عند الفرنج يدا، ويجعلهم لظهره سندا، ويرفع عنهم ذخيرة كانت للإسلام، ويفرّج لهم عن أسير من أكابر الكفّار كان مقامه مما يدفع شرّا، ولا يزيد نار الكفر جمرا، وإطلاقه يجلب قطيعة تقوّي إسلاما وتضعف كفرا، فكثرت إلينا مكاتبات أهل الآراء الصائبة، ونظرنا للإسلام ولنا ولبلاد الإسلام في العاقبة، وعرفنا أن البيت المقدّس إن لم تتيسّر الأسباب لفتحه، وأمر الكفر إن لم يجرّد العزم في قلعه، وإلا ثبتت عروقه،
واتسعت على أهل الدين خروقه، وكانت الحجة لله قائمة، وهمم القادرين بالقعود آثمة وإنا لا نتمكن بمصر منه مع بعد المسافة، وانقطاع العمارة وكلال الدواب، وإذا جاورناه كانت المصلحة بادية، والمنفعة جامعة، واليد قادرة، والبلاد قريبة، والغزوة ممكنة، والميرة متسعة والخيل مستريحة، والعساكر كثيرة، والجموع متيسرة، والأوقات مساعدة وأصلحنا ما في الشام من عقائد معتلّة، وأمور مختلّة وآراء فاسدة، وأمراء متحاسدة، وأطماع غالبة، وعقول غائبة، وحفظنا الولد القائم بعد أبيه، وكفلناه كفالة من يقضي الحقّ ويوفيه فإنّا به أولى من قوم يأكلون الدنيا باسمه، ويظهرون الوفاء بخدمه وهم عاملون بظلمه، والمراد الآن هو كل ما يقوّي الدولة، ويؤكّد الدعوة، ويجمع الأمة، ويحفظ الألفة، ويضمن الزّلفة، ويفتح بقيّة البلاد، ويطبّق بالاسم العبّاسيّ كلّ ما تخطئه العهاد ونحن نقترح على الأحكام المعهودة، وننتظر أن يأتي الإنعام على الغايات المزيدة وهو تقليد جامع لمصر والمغرب واليمن والشام، وكلّ ما تشتمل عليه الولاية النّورية، وكل ما يفتحه الله للدولة بسيوفنا وسيوف عساكرنا، ولمن نقيمه من أخ وولد من بعدنا، تقليدا يضمن للنّعمة تخليدا، وللدّعوة تجديدا، مع ما ينعم به من السّمات التي يقتضيها الملك فإنّ الإمارة اليوم بحسن نيّتنا في الخدمة تصرّف بأقلامنا، وتستفاد من تحت أعلامنا، ويتبيّن أنّ أمراء الدولة النّورية يحتاج إليهم في فتح البلاد القدسية ضرورة: لأنها منازل العساكر، ومجمع الأنفار والعشائر فمتى لم يكن عليهم يد حاكمة، وفيهم كلمة نافذة، منعهم ولاة البلاد، وبغاة العناد.(13/94)
ولما قضى الله بالوفاة النّورية، وكنّا في تلك السنة على نيّة الغزو، والعساكر قد ظهرت، والمضارب قد برزت، ونزل الفرنج بانياس وأشرفوا على احتيازها، ورأوها فرصة مدّوا إليها يد انتهازها، استصرخ بنا صاحبها للممانعة، واستنهضنا لتفريج الكرب الواقعة، فسرنا مراحل اتّصل بالعدوّ أمرها، وعوجل بالهدنة الدّمشقيّة التي لولا مسيرنا ما انتظم حكمها ولا قبل كثيرها ولا قليلها ثم عدنا إلى البلاد فتوافت إلينا الأخبار بما الدولة النّوريّة عليه من تشعّب الآراء وتوزّعها، وتشتّت الأمور وتقطّعها، وأن كلّ قلعة قد حصل فيها صاحب، وكلّ جانب قد طمح إليه طالب والفرنج قد بنوا بلادا يتحيّفون بها الأطراف الإسلامية، ويضايقون بها البلاد الشاميّة، وأمراء الدولة قد سجن أكابرهم وعوقبوا وصودروا، والمماليك الذين للمتوفّى أغرار خلقوا للأطراف لا للصّدور، وجعلوا للقيام لا للجلوس في المحفل المحصور، وقد مدّوا الأعين والأيدي والسّيوف، وساءت سيرتهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وكلّ واحد يتّخذ عند الفرنج يدا، ويجعلهم لظهره سندا، ويرفع عنهم ذخيرة كانت للإسلام، ويفرّج لهم عن أسير من أكابر الكفّار كان مقامه مما يدفع شرّا، ولا يزيد نار الكفر جمرا، وإطلاقه يجلب قطيعة تقوّي إسلاما وتضعف كفرا، فكثرت إلينا مكاتبات أهل الآراء الصائبة، ونظرنا للإسلام ولنا ولبلاد الإسلام في العاقبة، وعرفنا أن البيت المقدّس إن لم تتيسّر الأسباب لفتحه، وأمر الكفر إن لم يجرّد العزم في قلعه، وإلا ثبتت عروقه،
واتسعت على أهل الدين خروقه، وكانت الحجة لله قائمة، وهمم القادرين بالقعود آثمة وإنا لا نتمكن بمصر منه مع بعد المسافة، وانقطاع العمارة وكلال الدواب، وإذا جاورناه كانت المصلحة بادية، والمنفعة جامعة، واليد قادرة، والبلاد قريبة، والغزوة ممكنة، والميرة متسعة والخيل مستريحة، والعساكر كثيرة، والجموع متيسرة، والأوقات مساعدة وأصلحنا ما في الشام من عقائد معتلّة، وأمور مختلّة وآراء فاسدة، وأمراء متحاسدة، وأطماع غالبة، وعقول غائبة، وحفظنا الولد القائم بعد أبيه، وكفلناه كفالة من يقضي الحقّ ويوفيه فإنّا به أولى من قوم يأكلون الدنيا باسمه، ويظهرون الوفاء بخدمه وهم عاملون بظلمه، والمراد الآن هو كل ما يقوّي الدولة، ويؤكّد الدعوة، ويجمع الأمة، ويحفظ الألفة، ويضمن الزّلفة، ويفتح بقيّة البلاد، ويطبّق بالاسم العبّاسيّ كلّ ما تخطئه العهاد ونحن نقترح على الأحكام المعهودة، وننتظر أن يأتي الإنعام على الغايات المزيدة وهو تقليد جامع لمصر والمغرب واليمن والشام، وكلّ ما تشتمل عليه الولاية النّورية، وكل ما يفتحه الله للدولة بسيوفنا وسيوف عساكرنا، ولمن نقيمه من أخ وولد من بعدنا، تقليدا يضمن للنّعمة تخليدا، وللدّعوة تجديدا، مع ما ينعم به من السّمات التي يقتضيها الملك فإنّ الإمارة اليوم بحسن نيّتنا في الخدمة تصرّف بأقلامنا، وتستفاد من تحت أعلامنا، ويتبيّن أنّ أمراء الدولة النّورية يحتاج إليهم في فتح البلاد القدسية ضرورة: لأنها منازل العساكر، ومجمع الأنفار والعشائر فمتى لم يكن عليهم يد حاكمة، وفيهم كلمة نافذة، منعهم ولاة البلاد، وبغاة العناد.
وبالجملة فالشام لا ينتظم أمره بمن فيه، وفتح بيت المقدس ليس له قرن يقوم به ويكفيه والفرنج فهم يعرفون منا خصما لا يملّ الشرّ حتّى يملّوا، وقرنا لا يزال يحرّم السيف حتّى يحلّوا، حتى إنا لمّا جاورناهم في هذا الأمد القريب، وعلموا أنّ المصحف قد جاء بأيدينا يخاصم الصليب، استشعروا بفراق بلادهم، وتهادوا التعازي لأرواحهم بأجسادهم وإذا سدّد رأينا حسن الرأي ضربنا بسيف يقطع في غمده، وبلغنا المنى بمشيئة الله ويد كلّ مسلم تحت برده، واستنقذنا أسيرا من المسجد الذي أسرى الله إليه بعبده.
هذا ما لاح طلبه على قدر الزمان، والأنفس تطلب على مقدار الإحسان فإنّ في استنهاض نيّات الخدّام بالإنعام ما يعود على الدولة منافعه، وتنكأ الأعداء مواقعه، وتبعث العزائم من موت منامها، وتنفض عن البصائر غبار ظلامها والله تعالى ينجد إرادتنا في الخدمة بمضاعفة الاقتدار، ومساعدة الأقدار، إن شاء الله تعالى.(13/95)
وبالجملة فالشام لا ينتظم أمره بمن فيه، وفتح بيت المقدس ليس له قرن يقوم به ويكفيه والفرنج فهم يعرفون منا خصما لا يملّ الشرّ حتّى يملّوا، وقرنا لا يزال يحرّم السيف حتّى يحلّوا، حتى إنا لمّا جاورناهم في هذا الأمد القريب، وعلموا أنّ المصحف قد جاء بأيدينا يخاصم الصليب، استشعروا بفراق بلادهم، وتهادوا التعازي لأرواحهم بأجسادهم وإذا سدّد رأينا حسن الرأي ضربنا بسيف يقطع في غمده، وبلغنا المنى بمشيئة الله ويد كلّ مسلم تحت برده، واستنقذنا أسيرا من المسجد الذي أسرى الله إليه بعبده.
هذا ما لاح طلبه على قدر الزمان، والأنفس تطلب على مقدار الإحسان فإنّ في استنهاض نيّات الخدّام بالإنعام ما يعود على الدولة منافعه، وتنكأ الأعداء مواقعه، وتبعث العزائم من موت منامها، وتنفض عن البصائر غبار ظلامها والله تعالى ينجد إرادتنا في الخدمة بمضاعفة الاقتدار، ومساعدة الأقدار، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني (ما كان يكتب لنوّاب السلطنة بالديار المصرية عند سفر السلطان عن الديار المصرية)
والعادة أن يكتب فيما يتعلق بمهمّات الديار المصرية وأحوالها ومصالحها، وما يترتّب فيها، وما يمشى على حكمه بمصر والقاهرة المحروستين، وسائر أعمال الديار المصرية، وما تبرز به المراسيم الشريفة في أمورها وقضاياها، واستخراج أموالها وحمولها، وعمل جسورها وحفائرها، وما يتجدّد في ذلك، وما يجري هذا المجرى من سائر التعلّقات، وتصدر بذلك التذكرة.
وهذه نسخة تذكرة سلطانية كتب بها عن السلطان الملك الصالح عليّ، ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي، لكافل السلطنة بالديار المصرية، الأمير زين الدين كتبغا، عند سفر السلطان الملك [المنصور] (1) إلى الشام، واستقرار كتبغا المذكور نائبا عنه في سنة تسع [وسبعين] (2) وستمائة، من إنشاء [محمد] (3) بن المكرّم بن أبي الحسن الأنصاريّ، أحد كتّاب الدرج يومئذ ومن خطّه نقلت وهي:
__________
(1) في الطبعة الأميرية: «الملك الصالح سنة تسع وتسعين وستمائة أحمد بن المكرم
الخ» وهو سياق غير مستقيم. فالملك الصالح عليّ، ابن المنصور قلاوون، توفي قبل والده وذلك سنة 687هـ يوم الجمعة رابع شعبان، كما جاء في «السلوك» ج 1قسم 3ص 746. ووفاة الملك المنصور كانت سنة 689هـ، كما جاء في «تشريف الأيام والعصور» لابن عبد الظاهر. أما الأمير زين الدين كتبغا فقد استقر نائبا عن الملك المنصور بالديار المصرية وليس نائبا عن الصالح علي، كما يشير سياق الطبعة الأميرية. هذا وقد ذكر ابن الفرات في تأريخه لفترة ما بين 3شعبان سنة 678
(2) في الطبعة الأميرية: «الملك الصالح سنة تسع وتسعين وستمائة أحمد بن المكرم
الخ» وهو سياق غير مستقيم. فالملك الصالح عليّ، ابن المنصور قلاوون، توفي قبل والده وذلك سنة 687هـ يوم الجمعة رابع شعبان، كما جاء في «السلوك» ج 1قسم 3ص 746. ووفاة الملك المنصور كانت سنة 689هـ، كما جاء في «تشريف الأيام والعصور» لابن عبد الظاهر. أما الأمير زين الدين كتبغا فقد استقر نائبا عن الملك المنصور بالديار المصرية وليس نائبا عن الصالح علي، كما يشير سياق الطبعة الأميرية. هذا وقد ذكر ابن الفرات في تأريخه لفترة ما بين 3شعبان سنة 678
(3) في الطبعة الأميرية: «الملك الصالح سنة تسع وتسعين وستمائة أحمد بن المكرم
الخ» وهو سياق غير مستقيم. فالملك الصالح عليّ، ابن المنصور قلاوون، توفي قبل والده وذلك سنة 687هـ يوم الجمعة رابع شعبان، كما جاء في «السلوك» ج 1قسم 3ص 746. ووفاة الملك المنصور كانت سنة 689هـ، كما جاء في «تشريف الأيام والعصور» لابن عبد الظاهر. أما الأمير زين الدين كتبغا فقد استقر نائبا عن الملك المنصور بالديار المصرية وليس نائبا عن الصالح علي، كما يشير سياق الطبعة الأميرية. هذا وقد ذكر ابن الفرات في تأريخه لفترة ما بين 3شعبان سنة 678 هـ و 10جمادى الآخرة من سنة 680هـ أن الملك المنصور «خرج من قلعة الجبل بمصر المحروسة في أول يوم من ذي الحجة سنة 679هـ متوجها إلى الشام المحروس بالعساكر كلها، وترك بالقلعة ولده ولي عهده الملك الصالح علاء الدين علي وقعد في القاهرة لقراءة البريد وتنفيذ الأشغال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، واستقر في نيابة السلطنة بالديار المصرية الأمير زين الدين كتبغا المنصوري، وكتب القاضي أبو عبد الله محمد (وليس أحمد كما في الطبعة المشار إليها) ابن المكرم بن أبي الحسن بن أحمد الأنصاري الكاتب للأمير زين الدين تذكرة مباركة صورتها في ذي الحجة سنة تسع وسبعين وستمائة». (انظر: تشريف الأيام والعصور:
ص 8180م وص 288276وتاريخ ابن الفرات: أحداث ما بين 678هـ و 680هـ ودائرة المعارف الإسلامية: 1/ 395وشذرات الذهب: 6/ 26والأعلام: 7/ 108).(13/96)
تذكرة نافعة، للخيرات جامعة، يعتمد عليها المجلس العاليّ، الأميريّ، الزّينيّ، كتبغا المنصوريّ، نائب السلطنة الشريفة أدام الله عزه في مهمّات الديار المصرية وأحوالها ومصالحها، وما يترتّب بها، وما يبتّ ويفصل في القاهرة ومصر المحروستين وسائر أعمال الديار المصرية، صانها الله تعالى، وما تستخرج به المراسيم الشريفة، المولوية، السلطانية، الملكية، الصالحيّة الفلانية أنفذها الله تعالى في أمورها وقضاياها، وولاياتها وولاتها، وحمولها وحفيرها وحفظها ومتجدّداتها على ما شرح فيه:
فصل الشّرع الشريف:
يشدّ من حكّامه وقضاته في تنفيذ قضاياه وتصريف أحكامه، والشّدّ منه في نقضه وإبرامه.
فصل العدل والانصاف والحق:
يعتمد ذلك في جميع المملكة الشريفة: مدنها وقراها وأعمالها وولاياتها:
بحيث يشمل الرعايا من خاصّ وعامّ، وبعيد وقريب، وغائب وحاضر، ووارد وصادر، ويستجلب الأدعية الصالحة من جميع الناس لهذه الأيّام الزاهرة، ويستنطق الألسنة بذلك فإنّ العدل حجة الله ومحجّة الخير، فيدفع كلّ ضرر ويرفع كلّ ضير.
فصل الدماء:(13/97)
فصل الدماء:
يعتمد فيها حكم الشرع الشريف. ومن وجب عليه قصاص يسلّم لغريمه ليقتصّ منه بالشرع الشريف، ومن وجب عليه القطع يقطع بالشرع الشريف.
فصل الأمور المختصّة بالقاهرة ومصر المحروستين، حرسهما الله تعالى:
لا يتجوّه (1) فيها أحد، ولا يقوى قويّ على ضعيف، ولا يتعدّى أحد على أحد جملة كافية.
فصل:
يتقدم بأن لا يمشي أحد في المدينة ولا ضواحيها في الحسينيّة والأحكار (2)
في الليل إلا لضرورة، ولا يخرج أحد من بيته لغير ضرورة ماسّة، والنساء لا ينصرفن في الليل ولا يخرجن ولا يمشين جملة كافية.
فصل الحبوس:
تحرس وتحفظ بالليل والنهار وتحلق لحى الأسارى كلّهم: من فرنج وأنطاكيّين وغيرهم، ويتعهّد ذلك فيهم كلما تنبت، ويحترز في أمر الداخل إلى الحبوس، ويحترز على الأسارى الذين يستعملون، والرجال الذي يخرجون معهم، وتقام الضّمّان الثّقات على الجانداريّة (3) الذين معهم، ولا يستخدم في
__________
(1) تجوّه فلان: تكلف الجاه.
(2) الحسينية: من حارات القاهرة. قال المقريزي: عرفت بطائفة من عبيد الشراء يقال لهم الحسينية.
وأورد عدة آراء في سبب تسميتها. أما الأحكار فهي الأراضي التي منع البناء عليها، وكانت غربي الخليج. قال المقريزي في خططه: «والتحكير هو المنع فقول أهل مصر: حكر فلان أرض فلان يعنون منع غيره من البناء عليها». ثم سمّى الأحكار التي كانت موجودة في أيامه. (أنظر خطط المقريزي: 2/ 12911420).
(3) في الصبح: 4/ 2أن الجاندارية فئة من مماليك السلطان أو الأمير، ومثلها الخاصكية. والكلمة مركبة من لفظين فارسيين أحدهما: جان، ومعناه السلاح، والثاني: دار، ومعناه ممسك. ووظيفة الجاندار أن يستأذن السلطان بدخول الأمراء للخدمة. وفي النجوم الزاهرة: 5/ 230حاشية (1) أن الكلمة فارسية مركبة من «جان» ومعناها الروح، «ودار» بمعنى حافظ. والجاندار: حافظ الروح، وهم الحرس أو العسس. والكلمة في السياق أعلاه تفيد معنى مهمة الحراسة أكثر مما تفيد الاستئذان على الأمير.(13/98)
ذلك غريب، ولا من فيه ريبة، ولا تبيت الأسارى الذين يستعملون إلا في الحبوس، ولا يخرج أحد منهم لحاجة تختص به ولا لحمّام ولا كنيسة ولا فرجة، وتتفقّد قيودهم وتوثّق في كل وقت.
ويضاعف الحرس في الليل على خزانة البنود (1) باظهار ظاهرها وعلوّها وحولها وكذلك خزانة الشمائل (2) وغيرها من الجيوش.
فصل:
يرتّب جماعة من الجند مع الطّوّاف (3) في المدينة لكشف الأزقّة وغلق الدّروب وتفقّد أصحاب الأرباع، وتأديب من يخلّ بمركزه من أصحاب الأرباع، وتكون الدّروب مغلقة. وكذلك تجرّد جماعة الحسينيّة والأحكار وجميع المراكز، ويعتمد فيها هذا الاعتماد ومن وجد في الليل قد خالف المرسوم ويمشي لغير عذر يمسك ويؤدّب.
__________
(1) كانت هذه الخزانة من منشآت الدولة الفاطمية، بناها الخليفة الظاهر بين قصر الشوك وباب العيد لخزن أنواع البنود والرايات والأعلام عدا أنواع السلاح والآلات الحربية. ثم احترقت تلك الخزانة بما فيها سنة 461هـ وجعلت بعد هذا الحريق حبسا للأمراء والوزراء والأعيان إلى أن زالت الدولة الفاطمية. وقد اتخذها ملوك بني أيوب أيضا سجنا للأمراء والمماليك ثم جعلوها منازل للأسرى من الفرنج المأسورين من البلاد الشامية واستمرت مخصصة لذلك الغرض زمن دولة المماليك إلى أن هدمها الأمير الحاج آل ملك الجوكندار نائب السلطنة بديار مصر سنة 744هـ، فاختط الناس موضعها دورا. (خطط المقريزي: 2/ 188).
(2) الصواب «خزانة شمائل» دون «أل» التعريف. وقد عرفت بالأمير علم الدين شمائل والي القاهرة في أيام الملك الكامل محمد ابن العادل أبي بكر بن أيوب. قال المقريزي: وكانت من أشنع السجون وأقبحها منظرا، يحبس فيها من وجب عليه القتل أو القطع من السرّاق وقطاع الطريق ومن يريد السلطان إهلاكه من المماليك وأصحاب الجرائم العظيمة. وما زالت هذه الخزانة على ذلك إلى أن هدمها المؤيد شيخ سنة 818هـ وبنى مكانها جامعه. (خطط المقريزي: 2/ 188ونزهة النفوس:
1/ 72).
(3) الطوّاف: هم الشرطة غير الرسمية، وهم مدنيون يحملون العصيّ. ولا يزال اللفظ يجري على ألسنة العامة في مصر حتى الآن. (مصطلحات صبح الأعشى: 234).(13/99)
فصل [الأبواب]:
يحترز على الأبواب غاية الاحتراز، ويتفقّد في الليل خارجها وباطنها وعند فتحها وغلقها.
فصل:
الأماكن التي يجتمع فيها الشّباب وأولو الدّعارة ومن يتعانى العيث والزّنطرة (1)، لا يفسح لأحد في الاجتماع بها في ليل ولا نهار، ويكفّون الأكفّ اللئام بحيث تقوم المهابة وتعظم الحرمة، وينزجر أهل الغيّ والعيث والعبث.
فصل:
يرتّب المجرّدون (2) حول المدينتين بالقاهرة ومصر المحروستين على العادة، وكذلك جهة القرافة وخلف القلعة وجهة البحر، وخارج الحسينية، ولا يهمل ذلك ليلة واحدة، ولا يفارق المجرّدون مراكزهم إلا عند السّفور وتكامل الضوء.
فصل:
يتقدّم بأن لا تجتمع الرجال والنساء في ليالي الجمع بالقرافتين (3)، ويمنع النساء من ذلك.
__________
(1) تزنتر أي تبختر. والعامة يقولون اليوم «الزنطرة» وقد قلبوا التاء المثناة طاء لتقارب مخرجي اللفظين وهذا الأمر شائع ومعروف في لغة العرب.
(2) العساكر الذين يجردّون لعمل من الأعمال. وهنا الحراسة والمراقبة. والتجريدة تكون من العساكر الخيالة.
(3) القرافة هي المقبرة عند أهل مصر. قال المقريزي: «واعلم أن لأهل مدينة مصر ولأهل القاهرة عدة مقابر وهي القرافة فما كان منها في سفح الجبل يقال له القرافة الصغرى، وما كان منها في شرقي مصر بجوار المساكن يقال له القرافة الكبرى». ثم قال: والقرافة الكبيرة حيث الجامع الذي يقال له جامع الأولياء، والقرافة الصغيرة بها قبر الإمام الشافعي. والتسمية باسم قبيلة من اليمن من المغافر بن يغفر يقال لهم بنو قرافة. وقال علي باشا مبارك في الخطط التوفيقية الجديدة: ودفن الموتى الآن في خمسة محلات خارج البلد وهي قرافة السيدة نفيسة، وقرافة الإمام الشافعي، وقرافة باب الوزير، وقرافة المجاورين وقايتباي، وقرافة باب النصر. (انظر خطط المقريزي: 2/ 442 445والخطط التوفيقية: 1/ 246ومعجم البلدان: 4/ 317).(13/100)
فصل:
مهمّات الغائبين في البيكار (1) المنصور تلحظ ويشدّ من نوّابهم في أمورهم ومصالحهم، ويستخلص حقوقهم لنوّابهم وغلمانهم ووكلائهم ومن كانت له جهة يستخلص حقّه منها ولا يتعرّض إلى جهاتهم المستقرّة فيما يستحقّونه ويقوّي أيديهم، وتؤخذ الحجج على وكلائهم بما يقبضونه حتى لا يقول مؤكّلوهم في البيكار: إنّ كتب وكلائنا وردت بأنهم لم يقبضوا لنا شيئا، فيكون ذلك سببا لردّ شكاويهم.
فصل:
خليج القاهرة ومصر المحروستين يرسم بعمله وحفره وإتقانه في وقته:
بحيث يكون عملا جيّدا متقنا من غير حيف على أحد، بل كلّ أحد يعمل ما يلزمه عملا جيّدا.
فصل:
جسور ضواحي القاهرة يسرع في إتقانها وتعريضها، ويجتهد في حسن رصفها وفتح مشاربها، وحفظها من الطارق عليها، وتبقى متقنة مكملة إلى وقت النّيل المبارك ولا يخرج في أمرها عن العادة، ولا يحتمي أحد عن العمل فيها بما يلزمه ويحمل الأمر في جراريفها ومقلقلاتها (2) على ما تقدّمت به المراسيم الشريفة في أمر الجسور القريبة والبعيدة.
فصل في الأعمال والولايات:
تتنجّز الأمثلة الشريفة السلطانية، المولوية، الملكية، الصالحية، الفلانية، شرفها الله تعالى، بإتقان عمل الجسور وتجويدها وتعريضها وتفقّد القناطر والتّراع، وعمل ما تهدّم منها وترميم ما وهى، وإصلاح ما تشعّث من أبوابها،
__________
(1) البيكار لفظ فارسي معناه الحرب عامة.
(2) الجراريف والمقلقلات: آلات تستعمل لتنظيف وحفر التراع والقنوات. (مصطلحات صبح الأعشى: 83ونزهة النفوس: 3/ 382).(13/101)
وتحصيل أصنافها التي تدعو الحاجة إليها في وقت النّيل، وتعتمد المراسيم الشريفة من أنّ أحدا لا يعمل بالجاه، ومن وجب عليه فيها العمل يعمل على العادة في الأيام الصالحيّة ويؤكّد على الولاة في مباشرتها بنفوسهم، وأن لا يتّكلوا على المشدّين (1) وأيّ جهة حصل منها نقص أو خلل كان قبالة ذلك روح والي ذلك العمل وماله ويشدّد على الولاة في ذلك غاية التشديد، ويحذّر أتمّ التحذير، وتؤخذ خطوط الولاة بأنّ الجسور قد أتقن عملها على الوضع المرسوم به، وأنها أتقنت ولم يبق فيها خلل، ولا ما يخشون عاقبته، ولا ما يخافون دركه، وأنها عملت على ما رسم.
فصل:
يتقدّم إلى الولاة ويستخرج الأمثلة الشريفة السلطانية بترتيب الخفراء على ما كان الحال رتّب عليه في الأيام الظاهريّة: أن يرتّب من البلد إلى البلد خفراء ينزلون ببيوت شعر على الطّرقات على البلدين، يخفرون الرائح والغادي وأيّ من عدم له شيء يلزمه دركه، وينادى في البلاد أن لا يسافر أحد في الليل ولا يغرّر، ولا يسافر الناس إلا من طلوع الشمس إلى غروبها، ويؤكّد في ذلك التأكيد التام.
فصل الثغور المحروسة:
يلاحظ أمورها ومهمّاتها، ويستخرج الأمثلة الشريفة السلطانية في مهمّاتها وأحوالها وحفظها، والاحتراز على المعتقلين بها، والاستهظار في حفظهم، والتيقّظ لمهمّات الثغر، واستجلاب قلوب التّجار، واستمالة خواطرهم، ومعاملتهم بالرّفق والعدل حتى تتواصل التجار وتعمر الثغور، ويؤكّد عليها في المستخرج وتحصيل الأموال، وأصناف الذّخائر، وأصناف الخزائن المعمورة والحوائح خاناه (2)، ويوعز إليهم بأنّ هذا وقت انفتاح البحر وحضور التّجار وتزجية
__________
(1) أي المفتشين. والمفتش في لغة ذلك العصر هو الشادّ.
(2) الحوائج خاناه أي بيت الحوائج. وتكون هذه الجهة عادة تحت يد الوزير منها يصرف اللحم الراتب للمطبخ السلطاني والدور السلطانية ورواتب الأمراء والمماليك السلطانية وغيرهم من أرباب الرواتب الذين تملأ أسماؤهم الدفاتر وكذلك توابل الطعام والزيت للوقود وغير ذلك من الأصناف المتعددة. (مصطلحات صبح الأعشى: 112111).(13/102)
الأموال، وصلاح الأحوال، والنهضة في تكثير الحمول، ويؤكّد عليهم في المواصلة بها، وأن تكون حمولا متوفّرة، وأنه لا يفرّط في مستخرج حقوق المراكب الواصلة، ولا يقلّل متحصّلها، ولا ينقص حملها، ويسيّر بحملها حملا إلى بيت المال المعمور على العادة، ويؤكّد عليهم في الاستعمالات، وتحصيل الأقمشة والأمتعة على اختلاف أصنافها وإزالة الأعذار فيها: بحيث لا يتوقّف أمر الاستعمالات ولا يؤخّر مهمّها عن وقته ومهما وصل من المماليك والجواري والحرير والوبر والأطلس والفضّة الحجر، وأقصاب الذهب المغزول يعتمد في تحصيله العادة.
فصل:
يؤكّد على ولاة الأعمال في استخلاص الحقوق الديوانية من جهاتها، والمواصلة بالحمول في أوقاتها، ومباشرة أحوال الأقصاب ومعاصرها في أوقاتها، واعتماد مصلحة كل عمل على ما يناسبه وتقتضيه مصلحته: من مستخرج ومستغل، ومحمول ومزدرع، ومستعمل ومنفق، ويحذّرهم عن حصول خلل، أو ظهور عجز، أو فتور عزم، أو تقصير رأي، أو ما يقتضي الإنكار ويوجب المؤاخذة، ويشدّد في ذلك ما تقتضيه فرص الأوقات التي ينبغي انتهازها على ما يطالعون به.
فصل [أموال] (1) الخراج الديوانية:
يحترز عليها وتربّى وتنمّى، ولا يطلق منها شيء إلا بمرسوم شريف منّا، ويطالع بأنّ المرسوم ورد بكذا وكذا ويعود الجواب بما يعتمد في ذلك.
فصل حقوق الأمراء والبحرية والحلقة (2) المنصورة والجند وجهاتهم:
يستخلص أموالهم ووكلاءهم، ويوجد الشهادات بما عليهم من غلّة
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) يرى في كتابه «» أن جنود الحلقة فئة مكونة من محترفي الجندية من مماليك السلاطين السابقين وأولادهم. أما كمال الصليبي، في كتابه «منطلق تاريخ لبنان» فيرى عكس ذلك، «أنهم رديف من الفرسان الأحرار (أي من غير المماليك) تنتقيهم الدولة من بين العناصر المحلية في مختلف المناطق للمحافظة عليها». إذا هم حسب رأيه أشبه ما يكون «بالمليشيا» ذات الصفة الرسمية في أيامنا. (مصطلحات صبح الأعشى:
15 - ومنطلق تاريخ لبنان: 120119).(13/103)
ودراهم، وغير ذلك، ولا يحوج الوكلاء إلى شكوى منهم تتصل بمن هو في البيكار، ويحسم هذه المادّة، ويسدّ أبواب المماطلة عنهم.
فصل:
يتقدّم إلى الولاة والنّظّار والمستخدمين بعمل أوراق بما يتحصّل للمقطعين الأصلية (1) في كل بلد، ولمقطع الجهة، ولمن أفرد له طين بجهة، ولمن جهته على الرسوم: ليعلم حال المقطعين في هذه السنة الجيشيّة والجهاتيّة وما تحصّل لكل منهم، ولا يحصل من أحد من الولاة مكاشرة ولا إهمال، ولا يطمع في الوكلاء لأجل غيبة الأمراء والمقطعين في البيكار، ولا يحوج أحد من المقطعين إلى شكوى بسبب متأخّر ولا ظليمة ولا إجحاف.
فصل:
إذا خرج جاندار (2) من مصر إلى الأعمال لا يعطى في العمل أكثر من درهمين نقرة (3)، ويوصّل الحقّ الذي جاء فيه لمستحقّه فإن حصل منه قال وقيل أو حيف أو تعنّت يرسم عليه، ويسيّر الحقّ مع صاحبه معه، ويطالع بأن فلانا الجاندار حضر وجرى منه كذا وكذا، ويشرح الصورة ليحسم الموادّ بذلك.
فصل:
إذا سيّر أحد من الولاة رسولا بسبب خلاص حقّ من بعض قرى أعماله فيكون ما يعطى الجاندار عن مسافة سفر يوم نصف نقرة، وعن يومين درهم واحد
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقّف.
(2) راجع ص 98من هذا الجزء، حاشية (3).
(3) هي الدراهم التي كانت تغلب فيها نسبة الفضة على النحاس.(13/104)
لا غير وأيّ جاندار تعدّى وأخذ غير ذلك يؤدّب ويصرف من تلك الولاية.
فصل:
تكتب الحجج على كل وكيل يقبض لمخدومه شيئا من مغلّه أو جهته: من الديوان أو الفلّاحين، ولا يسلّم له شيء إلا بشهادة بحجج مكتتبة عليه، تخلّد منها حجّة الديوان المعمور بما قبضه من جهته أو إقطاعه، وتبقى الحجج حاصلة حتى إذا شكا أحد إلينا وسيّرنا عرّفناهم بمن يشكو من تأخّر حقه، يطالعوننا بأمر وكيله وما قبض من حقه، وتسيّر الشهادة عليه طيّ مطالعته، (ويحترز من الشهادات) بما وصل لكلّ مقطع، حتّى إنا نعلم من مضمون الحجج والشهادات متحصّل المقطعين من البلاد والجهات مفصّلا وجملة ما حصل لكل منهم: من عين وغلة وما تأخّر لكل منهم، ويعمل بذلك صورة أمور البلاد والمقطعين وأحوالهم، ويزيل شكوى من تجب إزالة شكواه، وتعلم أحوالهم على الجليّة.
فصل:
تقرأ هذه التذاكر على المنابر فصلا فصلا، ليسمعها القريب والبعيد، ويبلّغها الحاضر والغائب، ويعمل بمضمونها كل أحد ومن خرج عنها أو عمل بخلافها فهو أخبر بما يلقاه من سطواتنا وشدّة بأسنا والسلام.
الضرب الثالث (ما كان يكتب لنوّاب القلاع وولاتها: إما عند استقرار النائب بها، وإما في خلال نيابته)
والعادة فيها أن يكتب فيها باعتماد الكشف عن أحوال القلعة وأسوارها وعرض حواصلها، ومقدّمي رجالها، وترتيب الرجال في مراكزهم، وكشف مظالم الرعايا، والنظر في الاحتراز على القلعة وعلى أبوابها، والاحتفاظ بمفاتيحها على العادة، وتحصيل ما يحتاج إليه فيها من الزاد والحطب والملح والفحم وغير ذلك، والمطالعة بمتجدّدات الأخبار.
وهذه نسخة تذكرة كتب بها عن السلطان الملك المنصور قلاوون بسبب قلعة صرخد من الشام، عند استقرار الأمير سيف الدين باسطي نائبا بها، والأمير عز الدين واليا بها في سنة تسع وسبعين وستمائة، من إنشاء القاضي محيي (1)
الدّين بن عبد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية وهي:(13/105)
والعادة فيها أن يكتب فيها باعتماد الكشف عن أحوال القلعة وأسوارها وعرض حواصلها، ومقدّمي رجالها، وترتيب الرجال في مراكزهم، وكشف مظالم الرعايا، والنظر في الاحتراز على القلعة وعلى أبوابها، والاحتفاظ بمفاتيحها على العادة، وتحصيل ما يحتاج إليه فيها من الزاد والحطب والملح والفحم وغير ذلك، والمطالعة بمتجدّدات الأخبار.
وهذه نسخة تذكرة كتب بها عن السلطان الملك المنصور قلاوون بسبب قلعة صرخد من الشام، عند استقرار الأمير سيف الدين باسطي نائبا بها، والأمير عز الدين واليا بها في سنة تسع وسبعين وستمائة، من إنشاء القاضي محيي (1)
الدّين بن عبد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية وهي:
تذكرة مباركة نافعة، لكثير من المصالح جامعة، يعتمد عليها الأميران: سيف الدين وعزّ الدين عند توجّههما إلى قلعة صرخد (2) المحروسة:
يعتمدان العدل في الرعية، وسلوك منهج الحق في كل قضيّة، واعتماد ما يرضي الله تعالى ويرضينا وليكن الإنصاف لهما عقيدة والتقوى دينا، ولا يتطلّع أحدهما إلى ما في يد أحد من مال ولا نشب (3)، ولا يعارض أحد أحدا بلا سبب، وليتّقوا (4) الله ويخشوه، ويتجنّبوا الباطل ولا يغشوه، ولا يظنّ أحد منهم أن قد بعد عنا فيطمح إلى الظلم أو يطمع، فإنا منهم بمرأى ومسمع، وليكونوا على المصالح متفقين، وبأذيال الحق متعلّقين، وعلى الرعيّة مشفقين.
فصل:
يتقدّمان بكشف أسوار القلعة المنصورة وأبراجها وبدناتها وأبوابها، وما
__________
(1) في مقدمة «تشريف الأيام والعصور» عن تاريخ ابن الفرات أن هذه التذكرة أملاها القاضي فتح الدين ابن القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وأن الذي كتبها بخط يده هو القاضي أبو عبد الله محمد بن المكرم. وتجدر الإشارة إلى أن الروايات تخلط بين محيي الدين الأب، وفتح الدين الابن ولعل ذلك يرجع إلى كونهما قد عملا في صحابة ديوان الإنشاء للملك المنصور في نفس الفترة تقريبا، وتوفيا في تاريخين متقاربين: فقد مات الابن سنة 691هـ أي قبل وفاة والده بسنة واحدة. (انظر تشريف الأيام والعصور مقدمة: ص 11109).
(2) قال القلقشندي في الجزء الرابع من الصبح: وصرخد بلدة صغيرة ذات بساتين وكروم وهي محدثة البناء، بدئت قبل عهد نور الدين الشهيد بقليل ولما وصلت عساكر هولاكو إلى الشام هدموا شرفاتها وبعض جدرانها فجددها الظاهر بيبرس. قال ياقوت: 3/ 401 «وهي ملاصقة لبلاد حوران من أعمال الشام».
(3) النّشب: المال، والعقار. وهنا بمعنى العقار فقط.
(4) كذا في الأصل بصيغة الجمع. أنظر ملاحظة القلقشندي في نهاية هذه التذكرة.(13/106)
يحتاج إلى إصلاح وترميم وعمارة، ويحرّران أمر ذلك تحريرا، ويجتهدان في إصلاح ما يجب إصلاحه وترميم ما يجب ترميمه، والمطالعة بما كشفاه وما اعتمداه.
فصل:
يتقدّمان بعرض حواصل القلعة المنصورة، والخزانة المعمورة، ويحقّقون ما بها من الأموال والغلال والذخائر والحواصل، ويعملون بذلك أوراقا محرّرة، ويسيّرون نسختها إلى الباب الشريف.
فصل:
يتقدّمان بعرض مقدّمي رجال القلعة، وأرباب الجامكيّات (1) والرواتب بها، ويحرّران أمر مقرراتهم: من جامكية وجراية، ويجريان في صرف ذلك على العادة الجارية المستقرّة.
فصل:
يستوضحان من الأمير عزّ الدين والأمير علم الدين المنصرفين عن المصالح المختصّة بهذه القلعة وعن أمورها، جليلها وحقيرها، فإنهما قد أحسنا في ذلك التدبير، وأجملا التأثير، وسلكا أجمل مسلك، ويهتديان بما يوضّحانه لهما من المصالح والمهمّات ليكون دخولهما في هذا الأمر على بصيرة.
فصل:
يكون أمر النيابة والحكم العامّ في القلعة المنصورة، وتنزيل الرجال واستخدامهم وصرف من يجب صرفه للأمير سيف الدّين باسطي بمشاركة الأمير عز الدين في أمر الرجال والاستخدام والصّرف، ويكون أمر النيابة راجعا للأمير سيف الدين باسطي والحكم فيها له، ويكون أمر ولاية القلعة للأمير عزّ الدين، ويجريان في ذلك على عادة
__________
(1) الجامكية: من الفارسية (جامه) بمعنى اللباس. ومعناها اللغوي كما يرى «دوزي» هو مصروفات دولاب الملابس. ويرى «باك آلين» أن معناها: بدل ملابس. والجامكية في الاصطلاح الجراية الشهرية تعطى من غلّة الوقف فهي من ناحية أجر ومن ناحية منحة. وتجمع على: جامكيات وجوامك وجماكي. (تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل: 59).(13/107)
من تقدّمهما في هذه النيابة والولاية ويكون الأمير سيف الدين في الدار التي كان يسكنها الأمير عزّ الدين وحكمه في النيابة كحكمه ويسكن الأمير عزّ الدين في الدار التي كان يسكن فيها الأمير علم الدّين، وحكمه في الولاية كحكمه. ولا يتعدّى أحد طوره، ولا يخرج عما قرّر فيه، ويرعى كلّ منهما لصاحبه حقّه فيما رتّب فيه، ويتفقان على المصالح كلّها، ويكونان كروحين في جسد واحد.
فصل:
يتقدّمان بأن يترتّب الرجال في مراكزهم ومنازلهم على العادة في الليل والنهار، والحرسيّة (1) على العادة في الليل والنهار. وإن كان ثمّ خلل في ذلك أو تفريط أو إهمال، فليستدرك الفارط ويرتّب الأمر فيه على أحسن ترتيب.
فصل:
ينتصبان في أوقات العادة في باب القلعة لكشف مظالم الرعية في القلعة والبرّ، ويعتمدان إنصافهم، وتلبية داعيهم، وسماع كلمهم، وكفّ ظالمهم وإعانة مظلومهم، واعتماد ما يجب من العدل وبسطه في الرعية، وكفّ الأيدي العادية.
فصل:
أبواب القلعة إذا أغلقت في كل ليلة تبيّت المفاتيح عند النائب في المكان المعتاد بعد ختم الوالي عليها على العادة وإذا تسلّمها يتسلّمها بختمها على العادة.
فصل:
الذّخائر والغلال يجتهد في تصحيلها بالقلعة ولا تخزن غلة جديدة على غلة عتيقة. وكلّ هري يخزن فيه غلّة يحرّر أمرها وتشال عيّنتها في كيس وتجعل في الخزانة ويختم عليها ولا يصرف من الجديد قبل نفاد العتيق، ولا يترك العتيق ويصرف من الجديد. وكذلك بقية الحواصل يسلك فيها هذا المسلك.
__________
(1) جمع الحرسيّ وهو واحد الحرس.(13/108)
فصل:
مهما جرت العادة بتثمينه على أرباب الجامكيّات والمقرّرات، فليجر الأمر فيه على العادة من غير حيف، وليدخل الديوان والمباشرون في التثمين لئلّا يسلك أمر التثمين على الرّجّالة والضّعفاء مع قلّة معلومهم (1) ويوفّر من ذلك أرباب الدّواوين مع كثرة معلومهم، بل يكونوا أوّل من يثمّن عليه ومن لا قدرة له: مثل راجل ضعيف أو ربّ معلوم قليل، فليرفق به في ذلك، نظرا في حقّ الضعفاء.
فصل:
يكثّرون من الأحطاب ومن الفحم والملح بالذخائر، وكذلك من كلّ ما تدعو الحاجة إليه، ويجتهدون في تحصيل الأموال وتوفيرها بالخزانة المعمورة:
بحيث لا يكون لهما شغل يشغلهما عن ذلك، بل يصرفان الهمّة في غالب أوقاتهما إلى الفكرة في مال يحصّلونه، أو صنف يدّخرونه، ولا يهملان ذلك.
فصل:
يطالعان الأبواب العالية في غالب أوقاتهما بما يتجدّد عندهما من المصالح، وبما يتميّز من الأموال، و [بما] حمل إلى الخزائن وإلى الأهراء من الأموال والغلال. وكذلك يطالعان نائب السلطنة بدمشق المحروسة على العادة في ذلك ولتكن مطالعتهما جامعة وعليها خطّهما. ومن لاحت له مصلحة في بعض الأوقات واختار أن يطالع بانفراده فليطالع.
فصل:
لا يمكّنان أحدا من الرجال المرتّبين بالقلعة المحروسة وأرباب النّوب أن يخلّ بنوبته ولا يفارقها، ولا يخرج من القلعة أحد من الرجال إلا بدستور (2) ويعود في يومه والله الموفق.
__________
(1) المعلوم هو قيمة الراتب أو الجراية الشهرية.
(2) الدستور هنا بمعنى الإذن. وما زال هذا اللفظ مستعملا بهذا المعنى في أيامنا هذه. وأصل اللفظ فارسي بفتح الدال وهو بمعنى القاضي والحكم وكبير الزرادشتيين. ويستعملها الترك أيضا بمعنى الإذن. وفي الطبعة الأميرية بضم الدال. (أنظر في ذلك: تأصيل الدخيل: ص 96).(13/109)
قلت: وبالجملة فالتذاكر منوطة بحال المكتوب له التذكرة، والمكتوب بسببه فيختلف الحال باختلاف الأسباب، ويؤتى لكل تذكرة بفصول تناسبها بحسب ما تدعو الحاجة إليه.
واعلم أنّ اللائق بالتذاكر الخارجة من ديوان الإنشاء أن تكون في الفصاحة والبلاغة على حدّ الرسائل، فيعلو شأن التّذكرة باعتبار اشتمالها على الفصاحة والبلاغة، وينحطّ بفواتهما وانظر إلى تذكرة القاضي الفاضل المبتدإ بها وما اشتملت عليه من الفصاحة والبلاغة، وأين هي من التذكرتين اللتين بعدها فإنه قد أهمل فيهما مراعاة الفصاحة والبلاغة جملة، بل لم تراع في الأخيرة منهما قوانين النحو، إذ يكون يتكلّم بصيغة التثنية على سياق ما عقدت له التذكرة لاشتمالها على اثنين فإذا هو قد عدل إلى لفظ الجمع، ثم يعود إلى لفظ التثنية هذا، وهي منسوبة إلى القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، صاحب ديوان الإنشاء يومئذ، وهو من بيت الكتابة والبلاغة، إلا أنه قد يريد بعدوله من التثنية إلى الجمع أن ينتقل إلى خطاب جمع المتحدثين في القلعة فيما يتعلّق بذلك الفصل الذي يكون فيه، وإلا فلا يجوز صدور مثل ذلك عنه وتكراره المرّة بعد الأخرى.(13/110)
المقالة السابعة في الإقطاعات والقطائع وفيها بابان
الباب الأوّل في ذكر مقدّمات الإقطاعات وفيه فصلان
الفصل الأوّل في ذكر مقدّمات تتعلّق بالإقطاعات وفيه ثلاثة أطراف
الطرف الأوّل (في بيان معنى الإقطاعات وأصلها في الشرع)
أما الإقطاعات فجمع إقطاع، وهو مصدر أقطع يقال: أقطعه أرض كذا يقطعه إقطاعا، واستقطعه إذا طلب منه أن يقطعه، والقطيعة الطائفة من أرض الخراج.
وأما أصلها في الشرع فما رواه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق بسنده إلى ابن سيرين عن تميم الداريّ أنه قال: «استقطعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أرضا بالشأم قبل أن تفتح فأعطانيها، ففتحها عمر بن الخطاب في زمانه فأتيته، فقلت: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أعطاني أرضا من كذا إلى كذا، فجعل عمر ثلثها لابن السبيل، وثلثا لعمارتها، وثلثا لنا».
وفي رواية: استقطعت أرضا بالشام فأقطعنيها، ففتحها عمر في زمانه فأتيته، فقلت: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أعطاني أرضا من كذا إلى كذا، فجعل عمر ثلثها لابن السبيل، وثلثها لعمارتها، وترك لنا ثلثا.
وذكر الماورديّ في «الأحكام السلطانية»: أنّ أبا ثعلبة الخشنيّ رضي الله عنه سأل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقطعه أرضا كانت بيد الروم فأعجبه ذلك، وقال ألا تسمعون ما يقول؟ فقال: والذي بعثك بالحق ليفتحنّ عليك، فكتب له بذلك كتابا (1)
وذكر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أقطع الزّبير بن العوّام ركض فرسه من موات البقيع (2) فأجراه ورمى بسوطه رغبة في الزيادة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أعطوه منتهى سوطه».(13/111)
وفي رواية: استقطعت أرضا بالشام فأقطعنيها، ففتحها عمر في زمانه فأتيته، فقلت: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أعطاني أرضا من كذا إلى كذا، فجعل عمر ثلثها لابن السبيل، وثلثها لعمارتها، وترك لنا ثلثا.
وذكر الماورديّ في «الأحكام السلطانية»: أنّ أبا ثعلبة الخشنيّ رضي الله عنه سأل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقطعه أرضا كانت بيد الروم فأعجبه ذلك، وقال ألا تسمعون ما يقول؟ فقال: والذي بعثك بالحق ليفتحنّ عليك، فكتب له بذلك كتابا (1)
وذكر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أقطع الزّبير بن العوّام ركض فرسه من موات البقيع (2) فأجراه ورمى بسوطه رغبة في الزيادة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أعطوه منتهى سوطه».
وذكر أنّ الأبيض بن حمّال استقطعه ملح مأرب فأقطعه، فأخبره الأقرع بن حابس أنه كان في الجاهلية [وهو بأرض ليس فيها غيره من ورده أخذه، وهو مثل الماء العدّ (3) بالأرض، فاستقال الأبيض في قطيعة الملح فقال قد أقلتك على أن تجعله منّي صدقة، فقال النبيّ عليه الصلاة والسلام: هو منك صدقة، وهو مثل الماء العدّ من ورده أخذه] (4)
وذكر أبو هلال العسكريّ في كتابه «الأوائل»: أنّ أوّل من أقطع القطائع بالأرضين أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه (ولا وجه له بعد ما تقدّم ذكره) (5) اللهم إلا أن يريد أن عثمان أوّل من أقطع القطائع بعد الفتح، فإنّ ما أقطعه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان قبل الفتح كما تقدّم.
قال بعد ذلك: ويروى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أقطع قطائع فاقتدى عثمان به في
__________
(1) في «الوثائق السياسية للعهد النبويّ» أورد هذه الفقرة باختلاف يسير، نقلا عن أموال زنجويه، والمصنّف لعبد الرزاق. وفي آخرها: «لم يرو أحد نصّ الكتاب». أنظر ص: 134من المرجع المذكور.
(2) رواها البخاري: عن أسماء ابنة أبي بكر (زوجة الزبير) أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أقطع الزبير أرضا من أموال بني النضير أقطعه حضر فرسه بأرض يقال لها «ثرير» فأجرى الفرس حتى قام، ثم رمى بسوطه، فقال عليه السّلام: أعطوه حتى بلغ السوط. (المرجع السابق مقدمة الطبعة الثالثة).
(3) الماء العدّ: هو الماء الجاري الذي لا ينقطع.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية عن الأحكام السلطانية للماوردي: ص 174.
(5) الملاحظة للمؤلف.(13/112)
ذلك، وأقطع خبّاب بن الأرتّ وسعد بن أبي وقّاص وسعيد بن زيد والزّبير، وأقطع طلحة أجمة الجرف (1): وهو موضع النّشاستج (2)، فكتب إلى سعيد بن العاص وهو بالكوفة أن ينفّذها له.
الطرف الثاني (في بيان أوّل من وضع ديوان الجيش، وكيفيّة ترتيب منازل الجند فيه، والمساواة والمفاضلة في الإعطاء)
ذكر أبو هلال العسكري في «الأوائل» والماورديّ في «الأحكام السلطانية» أن أوّل من وضع الديوان في الإسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. قال الماورديّ: واختلف [الناس] (3) في سبب وضعه [له] (4): فقال قوم:
سببه أن أبا هريرة قدم عليه بمال من البحرين، فقال له عمر: ما جئت به؟ قال خمسمائة ألف درهم، فاستكثره عمر، وقال: أتدري ما تقول؟ قال نعم! مائة ألف خمس مرات، فقال عمر: أطيّب هو؟ قال لا أدري. فصعد عمر المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس! قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلنا لكم كيلا، وإن شئتم عددنا لكم عدّا، فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين: رأيت الأعاجم يدوّنون ديوانا، فدوّن أنت لنا ديوانا.
وذهب آخرون إلى أن سبب وضع الديوان أنّ عمر بعث بعثا وعنده الهرمزان (5)، فقال لعمر: هذا بعث قد أعطيت أهله الأموال، فإن تخلّف منهم
__________
(1) في الأوائل «الجوف».
(2) قال في معجم البلدان: هي ضيعة أو نهر بالكوفة، كانت لطلحة بن عبيد الله التيمي أحد العشرة المبشرة. ونقل عن الواقدي أن أول من أقطع بالعراق عثمان بن عفان قطائع مما كان من صوافي آل كسرى ومما جلا عنه أهله، فاقطع لطلحة النشاستج. (معجم البلدان: 5/ 285).
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(5) في روايات أخرى «المرزبان». وقد أطلق العرب الهرمز والهارموز والهرمزان على الكبير من ملوك العجم. والمرزبان هو الرئيس من الفرس. (انظر المعجم الوسيط والنظم الإسلامية: 312).(13/113)
رجل وأخلّ بمكانه، فمن أين يعلم صاحبك به؟ فأثبت لهم ديوانا، فسأله عن الدّيوان ففسّره له.
ويروى أنّ عمر رضي الله عنه استشار المسلمين في تدوين الدواوين، فقال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه: تقسم كلّ سنة ما اجتمع إليك من المال، ولا تمسك منه شيئا. وقال عثمان: أرى مالا كثيرا يسع الناس، فإن لم يحصوا حتّى يعلم من أخذ ممن لم يأخذ، خشيت أن ينتشر الأمر فقال خالد بن الوليد (1) رضي الله عنه: قد كنت بالشام فرأيت ملوكها دوّنوا ديوانا وجنّدوا جنودا، فدوّن ديوانا وجنّد جنودا، فأخذ بقوله ودعا عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، (وكانوا من شباب (2) قريش) فقال: اكتبوا [الناس] (3) على منازلهم! فبدأوا ببني هاشم فكتبوهم، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، [ثم عمر وقومه] (4) وكتبوا القبائل ووضعوها على الخلافة، ثم رفعوه إلى عمر، فلما نظر فيه، قال: لا! وما وددت أنه هكذا، ولكن ابدأوا بقرابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: الأقرب فالأقرب حتّى تضعوا عمر حيث وضعه الله، فشكره العبّاس على ذلك، وقال: وصلتك رحم.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه (5): أن بني عديّ جاءوا إلى عمر، فقالوا:
إنك خليفة أبي بكر، وأبو بكر خليفة رسول الله، فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم الذين كتبوا؟ فقال: بخ. بخ يا بني عديّ!! إن أردتم إلّا الأكل على ظهري، وأن أذهب (6) حسناتي لكم، لا والله! حتّى تأتيكم الدعوة ولو انطبق (7)
عليكم الدفتر. يعني ولو أن تكتبوا آخر الناس. إنّ صاحبيّ سلكا طريقا، فإن خالفتهما خولف بي والله ما أدركنا الفضل في الدنيا والآخرة (8)، ولا نرجو الثواب
__________
(1) في فتوح البلدان: «فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة الخ».
(2) في المرجع السابق «لسان».
(3) الزيادة من فتوح البلدان.
(4) الزيادة من فتوح البلدان.
(5) في فتوح البلدان: «عن أبيه عن جده».
(6) في المرجع السابق «أهب».
(7) في المرجع السابق (وأن ينطبق عليكم الدفتر».
(8) ساقطة من فتوح البلدان.(13/114)
عند الله على عملنا إلا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهو أشرفنا، وقومه أشرف العرب، ثم الأقرب فالأقرب وو الله لئن جاءت الأعاجم بعمل وجئنا بعمل دونهم، لهم أولى بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم منّا يوم القيامة: فإنّ من قصّر به عمله لم يسرع به نسبه.
وروي أنّ عمر رضي الله عنه حين أراد وضع الديوان (1)، قال: بمن أبدأ؟
فقال له عبد الرحمن بن عوف: ابدأ بنفسك، فقال عمر: أذكر أنّي حضرت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يبدأ ببني هاشم وبني عبد المطّلب فبدأ بهم عمر، ثم بمن يليهم من قبائل قريش بطنا بعد بطن، حتى استوفى جميع قريش، ثم انتهى إلى الأنصار، فقال عمر: ابدأوا برهط سعد بن معاذ من الأوس (2)، ثم بالأقرب فالأقرب لسعد.
وأما المساواة والمفاضلة في العطاء فقد اختلف فيه: فكان أبو بكر رضي الله عنه يرى التسوية [بينهم] (3) في العطاء [ولا يرى التفضيل بالسابقة] (4) كما حكاه عنه الماورديّ في «الأحكام السلطانية».
قال أبو هلال العسكري في «الأوائل»: وقد روي عن عوانة أنه قال: جاء مال من البحرين إلى أبي بكر رضي الله عنه فساوى فيه بين الناس، فغضبت الأنصار، وقالوا له: فضّلنا، فقال: إن أردتم أن أفضّلكم فقد صار ما عملتموه للدّنيا، وإن شئتم كان ذلك لله، فقالوا: والله ما عملناه إلا لله! وانصرفوا فرقي أبو بكر رضي الله عنه المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر الأنصار لو شئتم [أن] (5) تقولوا: إنا آويناكم وشاركناكم أموالنا ونصرناكم بأنفسنا لقلتم، وإنّ لكم من الفضل ما لا يحصى له عدد، وإن طال الأمد، فنحن وأنتم كما قال الغنويّ:
__________
(1) وذلك في المحرم سنة عشرين. (فتوح البلدان: 550).
(2) في فتوح البلدان «سعد بن معاذ الأشهلي من الأوس».
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(5) الزيادة من الطبعة الأميرية.(13/115)
جزى الله عنّا جعفرا حين أزلقت (1) ... بنا نعلنا في الواطئين (2) فزلّت
أبوا أن يملّونا ولو أنّ أمنّا ... تلاقي الّذي لا قوه (3) منّا لملّت
هم أسكنونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأكنّت
قال الماورديّ: وإلى ما رأى أبو بكر رضي الله عنه ذهب عليّ رضي الله عنه في خلافته، وبه أخذ الشافعيّ ومالك.
وكان عمر رضي الله عنه يرى التفضيل بالسابقة في الدّين، حتّى إنه ناظر أبا بكر رضي الله عنه في ذلك، حين سوّى بين الناس، فقال: أتساوي بين من هاجر الهجرتين وصلّى إلى القبلتين وبين من أسلم عام الفتح خوف السيف؟! فقال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدّنيا [دار] (4) بلاغ [للراكب] (5)، فقال له عمر: لا أجعل [من قاتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كمن قاتل معه فلما وضع الديوان جرى] (6) على التفضيل بالسابقة ففرض لكلّ رجل شهد بدرا من المهاجرين [الأوّلين] (7) خمسة آلاف درهم كلّ سنة، ولكل من شهد بدرا من الأنصار أربعة آلاف درهم (8)، ولكلّ رجل هاجر قبل الفتح ثلاثة آلاف درهم، ولكلّ رجل هاجر بعد الفتح ألفين وفرض لغلمان أحداث من أبناء المهاجرين والأنصار أسوة من أسلم بعد الفتح وفرض للناس على منازلهم، وقراءتهم القرآن، وجهادهم بالشام والعراق وفرض لأهل اليمن وقيس: لكل رجل من ألفي درهم إلى ألف درهم، إلى خمسمائة درهم، إلى ثلاثمائة درهم (9)، ولم ينقص
__________
(1) في فتوح البلدان: ص 21 «أزلقت» للمجهول.
(2) في فتوح البلدان: «في الوطئتين».
(3) في فتوح البلدان: «يلقون» وبعد البيت الثاني:
فذو المال موفور وكلّ معصّب ... إلى حجرات أدفأت وأظلّت
ورواية البلاذري مختلفة عن رواية العسكري.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية عن الأحكام السلطانية ص: 177.
(5) الزيادة من الطبعة الأميرية عن الأحكام السلطانية ص: 177.
(6) الزيادة من الطبعة الأميرية عن الأحكام السلطانية ص: 177.
(7) الزيادة من الطبعة الأميرية عن الأحكام السلطانية ص: 177.
(8) في فتوح البلدان: «ولمن كان له إسلام كإسلام أهل بدر، ومن مهاجرة الحبشة ممن شهد أحدا، أربعة آلاف درهم لكل رجل».
(9) عبارة البلاذري: «وفرض لأهل اليمن وقيس بالشام والعراق لكل رجل ما بين ألفين إلى ألف إلى تسع مئة إلى خمس مئة إلى ثلاث مئة».(13/116)
أحدا عنها، وقال: لئن كثر المال لأفرضنّ لكلّ رجل أربعة آلاف درهم: ألفا لفرسه (1)، وألفا لسلاحه، وألفا لسفره، وألفا يخلّفها في أهله وفرض للمنفوس (2) مائة درهم، فإذا ترعرع فرض له مائتين، فإذا بلغ زاده. وكان لا يفرض للمولود شيئا حتّى يفطم، إلى أن سمع ليلة امرأة تكره ولدها على الفطام، وهو يبكي، فسألها عنه فقالت: إن عمر لا يفرض للمولود حتى يفطم فأنا أكرهه على الفطام حتى يفرض له فقال يا ويح عمر! كم احتقب (3) من وزر وهو لا يدري ثم أمر مناديا فينادي: ألا لا تعجلوا أولادكم بالفطام، فإنا نفرض لكلّ مولود في الإسلام. قال الماورديّ: ثم روعي في التفضيل عند انقراض أهل السوابق التقدّم في الشجاعة والبلاء في الجهاد.
وأما تقدير العطاء فمعتبر بالكفاية حتّى يستغني بها عن التماس مادّة تقطعه عن حماية البيضة. ثم الكفاية معتبرة من ثلاثة أوجه: أحدها عدد من يعوله من الذّراريّ والمماليك والثاني عدد ما يرتبط من الخيل والظّهر والثالث: الموضع الذي يحلّه في الغلاء والرّخص فتقدّر [كفايته في] (4) نفقته وكسوته لعامه كلّه. ثم تعتبر حاله في كل عام، فإن زادت نفقاته زيد، وإن نقصت نقص فلو تقدّر رزقه بالكفاية، فمنع الشافعيّ من زيادته على الكفاية وإن اتّسع المال، لأن أموال بيت المال لا توضع إلا في الحقوق اللازمة وأجاز أبو حنيفة زيادته حينئذ.
الطرف الثالث (في بيان من يستحق إثباته في الديوان، وكيفية ترتيبهم فيه)
فأما من يستحق إثباته في الديوان، ففيه خمسة أمور:
__________
(1) في فتوح البلدان «لفرسه ونعله».
(2) أي المولود.
(3) احتقب: جمع.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.(13/117)
أحدها البلوغ. فلا يجوز إثبات الصّبيّ في الدّيوان وهو رأي عمر رضي الله عنه، وبه أخذ الشافعيّ رضي الله عنه، بل يكون جاريا في جملة عطاء الذّراريّ.
الثاني الحرّيّة. فلا يثبت في الديوان مملوك، بل يكون تابعا لسيّده داخلا في عطائه، خلافا لأبي حنيفة فإنه جوّز إفراد المملوك بالعطاء وهو رأي أبي بكر رضي الله عنه.
الثالث الإسلام، ليدفع عن الملّة باعتقاده، حتّى لو أثبت فيهم ذمّيّ لم يجز، ولو ارتد منهم مسلم سقط.
الرابع السّلامة من الآفات المانعة من القتال. فلا يجوز أن يكون زمنا (1)
ولا أعمى ولا أقطع، ويجوز أن يكون أخرس أو أصمّ. أما الأعرج، فإن كان فارسا جاز إثباته أو راجلا فلا.
الخامس أن يكون فيه إقدام على الحرب ومعرفة بالقتال، فإن ضعفت همّته عن الإقدام، أو قلّت معرفته بالقتال لم يجز إثباته.
فإذا وجدت فيه هذه الشروط، اعتبر فيه خلوّه عن عمل وطلبه الإثبات في الديوان فإذا طلب فعلى وليّ الأمر الإجابة إذا دعت الحاجة إليه. ثم إن كان مشهور الاسم فذاك، وإلا حلّي ونعت، بذكر سنّه وقدّه ولونه وصفة وجهه، ووصف بما يتميّز به عن غيره، كي لا تتفق الأسماء، أو يدّعي في وقت العطاء، ثم يضمّ إلى نقيب عليه أو عريف يكون مأخوذا بدركه.
وأما ترتيبهم في الديوان فقد جعلهم الماورديّ في «الأحكام السلطانية» على ضربين:
__________
(1) الزّمن والزمين: من يكون فيه مرض يدوم زمانا طويلا، أو الضعيف بكبر سن أو مطاولة علّة.(13/118)
الضرب الأوّل الترتيب العامّ. وهو ترتيب القبائل والأجناس حتّى تتميّز كلّ قبيلة عن غيرها وكلّ جنس عمن يخالفه، فلا يجمع بين المختلفين، ولا يفرّق بين المؤتلفين: لتكون دعوة الديوان على نسق معروف النسب يزول فيه التنازع والتجاذب. فإن كانوا عربا روعي فيهم القرب من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما فعل عمر رضي الله عنه: فتقدّم العرب المستعربة: وهم عدنان من ولد إسماعيل عليه السّلام، على العرب العاربة: وهم بنو قحطان عرب اليمن: لأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من عدنان. ثم عدنان تجمع ربيعة ومضر فتقدّم مضر على ربيعة: لأن النّبوّة في مضر، ومضر تجمع قريشا وغير قريش، فتقدّم قريش على غيرهم: لأن النبوّة فيها، فيكون بنو هاشم هم قطب الترتيب، ثم من يليهم من أقرب الأنساب إليهم حتّى يستوعب قريشا، ثم من يليهم في النّسب حتّى يستوعب جميع مضر، ثم من يليهم حتى يستوعب جميع عدنان.
وإن كانوا عجما لا يجتمعون على نسب، فالمرجوع إليه في أمرهم: إما أجناس وإما بلاد فالمميّزون بالأجناس كالتّرك والهند ثم تتميز التّرك أجناسا، والهند أجناسا. والمميّزون بالبلاد: كالدّيلم والجبل ثم تميّز الديلم بلدانا، والجبل بلدانا. فإذا تميّزوا بالأجناس أو البلدان: فإن كانت لهم سابقة ترتّبوا عليها في الديوان، وإن لم تكن لهم سابقة ترتّبوا بالقرب من وليّ الأمر فإن تساووا فبالسّبق إلى طاعته.
الضرب الثاني الترتيب الخاصّ: وهو ترتيب الواحد بعد الواحد، فيقدّم فيه بالسابقة بالإسلام كما فعل عمر رضي الله عنه فإن تساووا ترتّبوا بالدّين فإن تقاربوا فيه رتّبوا بالسّن فإن تقاربوا بالسّن رتّبوا بالشّجاعة فإن تقاربوا فيها، كان وليّ الأمر بالخيار بين أن يرتّبهم بالقرعة أو على رأيه واجتهاده.(13/119)
الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة السابعة (في بيان حكم الإقطاع)
قال في «الأحكام السلطانية»: وإقطاع السلطان مختصّ بما جاز فيه تصرّفه، ونفذت فيه أوامره، دون ما تعيّن مالكه وتميّز مستحقّه.
ثم الإقطاع على ضربين:
الضرب الأوّل (إقطاع التّمليك)
(1)
والأرض المقطعة بالتمليك إمّا موات، وإمّا عامر، وإمّا معدن.
فأمّا الموات فإن كان لم يزل مواتا على قديم الزمان، لم تجر فيه عمارة، ولم يثبت عليه ملك، فيجوز للسلطان أن يقطعه من يحييه ويعمره. ثم مذهب أبي حنيفة أنّ إذن الإمام شرط في إحياء الموات وحينئذ فيقوم الإقطاع فيه مقام الإذن. ومذهب الشافعيّ أن الإقطاع يجعله أحقّ بإحيائه من غيره. وعلى كلا المذهبين يكون المقطع أحقّ بإحيائه من غيره.
وأما إن كان الموات عامرا فخرب وصار مواتا عاطلا، فإن كان جاهليّا:
كأرض عاد وثمود، فهي كالموات الذي لم تثبت فيه عمارة في جواز إقطاعه.
__________
(1) وهو أن يملك الأرض ويقرر عليه قطيعة تؤخذ منها لبيت المال، وتسمى هذه: المقاطعة. (مآثر الإنافة للقلقشندي: 3/ 210).(13/120)
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «عادت الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم منّي، يعني أرض عاد».
وإن كان الموات إسلاميّا جرى عليه ملك المسلمين، ثم خرب حتّى صار مواتا عاطلا، فمذهب الشافعيّ أنه لا يملك بالإحياء، عرف أربابه أم لم يعرفوا ومذهب مالك أنه يملك بالإحياء، عرف أربابه أم لم يعرفوا ومذهب أبي حنيفة أنه إن عرف أربابه لم يملك بالإحياء، وإلّا ملك. ثم إذا لم يجز أن يملك بالإحياء على مذهب الشافعي، فإن عرف أربابه لم يجز إقطاعه، وإن لم يعرفوا جاز إقطاعه وكان الإقطاع شرطا في جواز إحيائه فإذا صار الموات إقطاعا لمن خصّه الإمام به لم يستقرّ ملكه عليه حتى يحييه ويكمل إحياؤه، فإن أمسك عن إحيائه كان أحقّ به يدا وإن لم يصر له ملكا.
وأمّا العامر: فإن تعيّن مالكوه، فلا نظر للسلطان فيه إلا ما تعلّق بتلك الأرض من حقوق بيت المال إذا كانت في دار الإسلام، سواء كانت لمسلم أو ذمّيّ، وإن كانت في دار الحرب التي لم يثبت عليها للمسلمين يد جاز للإمام أن يقطعها ليملكها المقطع عند الظّفر بها، كما أقطع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم تميما وأصحابه أرضا بالشام قبل فتحه، على ما تقدّم ذكره في أوّل الباب.
وإن لم يتعيّن مالكوه: فإن كان الإمام قد اصطفاه لبيت المال من فتوح البلاد: إما بحقّ الخمس، أو باستطابة نفوس الغانمين، لم يجز إقطاع رقبته:
لأنه قد صار باصطفائه لبيت المال ملكا لكافّة المسلمين، فصار (1) على رقبته حكم الوقف المؤبّد والسلطان فيه بالخيار بين أن يستغلّه لبيت المال وبين أن يتخيّر له من ذوي المكنة والعمل من يقوم بعمارة رقبته، ويأخذ خراجه، ويكون الخراج أجرة عنه تصرف في وجوه المصالح.
وإن كان العامر أرض خراج لم يجز إقطاع رقابها تمليكا.
__________
(1) عبارة الأحكام السلطانية: «فجرى على رقبته حكمه الخ».(13/121)
وأما إقطاع خراجها فسيأتي في إقطاع الاستغلال فيما بعد، إن شاء الله تعالى.
وإن كان الموات قد مات عنه أربابه من غير وارث، صار لبيت المال ملكا لعامّة المسلمين. ثم قيل: تصير وقفا على المسلمين بمجرّد الانتقال إلى بيت المال، لا يجوز إقطاعها ولا بيعها. وقيل: لا تصير وقفا حتّى يقفها الإمام ويجوز للإمام بيعها إذا رأى فيه المصلحة ويصرف ثمنها في ذوي الحاجات. ثم قيل: يجوز إقطاعها كما يجوز بيعها، ويكون تمليك رقبتها بالإقطاع كتمليك ثمنها. وقيل: لا يجوز إقطاعها وإن جاز بيعها: لأن البيع معاوضة والإقطاع صلة.
الضرب الثاني (من الإقطاع إقطاع الاستغلال)
(1)
فأما الخراج: فإن كان من يقطعه الإمام من أهل الصّدقات لم يجز أن يقطع مال الخراج: لأن الخراج فيء لا يستحقّه أهل الصدقة كما لا يستحقّ الصدقة أهل الفيء وأجاز إقطاعه أبو حنيفة.
وإن كان من أهل المصالح ممن ليس له رزق مفروض فلا يصحّ أن يقطعه على الإطلاق، وإن جاز أن يعطى من مال الخراج: لأنهم من نفل أهل الفيء لا من فرضه، وما يعطونه إنما هو من غلّات المصالح فإن جعل لهم من مال الخراج شيء أجري عليه حكم الحوالة لا حكم الإقطاع.
وإن كان من مرتزقة أهل الفيء وهم أهل الجيش، فهم أخصّ الناس بجواز الأقطاع: لأن لهم أرزاقا مقدّرة تصرف إليهم مصرف الاستحقاق، من حيث إنها أعواض عما أرصدوا نفوسهم له من حماية البيضة والذّبّ عن الحريم.
__________
(1) وهو الذي يؤخذ فيه خراج الأرض ورقبتها باقية لبيت المال. (مآثر الإنافة: 3/ 210).(13/122)
ثم الخراج: إما جزية وهو الواجب على الجماجم، وإما أجرة وهو الواجب على رقاب الأرض. فإن كان جزية لم يجز إقطاعه أكثر من سنة، لأنه غير موثوق باستحقاقه بعدها لاحتمال أن يسلم الذمّيّ فتزول الجزية عنه. وإن كان أجرة جاز إقطاعه سنين لأنه مستقرّ الوجوب على التأييد.
ثم له ثلاث أحوال:
إحداها أن يقدّر بسنين معلومة، كما إذا أقطعه عشر سنين مثلا، فيصحّ، بشرط أن يكون رزق المقطع معلوم القدر عند الإمام، وأن يكون قدر الخراج معلوما عند الإمام وعند المقطع، حتّى لو كان مجهولا عندهما أو عند أحدهما لم يصحّ. ثم بعد صحّة الإقطاع يراعى حال المقطع في مدّة الإقطاع: فإن بقي إلى إنقضاء مدّة الإقطاع على حال السلامة فهو على استحقاق الإقطاع إلى انقضاء المدّة، وإن مات قبل انقضاء المدّة بطل الإقطاع في المدّة الباقية، ويعود الإقطاع إلى بيت المال. وإن كان له ذرّية دخلوا في عطاء الذراريّ دون أرزاق الأجناد، ويكون ما يعطونه تسبّبا لا إقطاعا. وإن حدث بالمقطع زمانة في تلك المدّة ففي بقاء الإقطاع قولان: (أحدهما) أنّ إقطاعه باق عليه إلى انقضاء المدّة (والثاني) أنه يرتجع منه.
الثانية أن يقطعه مدّة حياته ثم لعقبه وورثته بعد موته، فلا يصحّ: لأنه يخرج بذلك عن حقوق بيت المال إلى الأملاك الموروثة، فلو قبض منه شيئا بري أهل الخراج بقبضه: لأنه عقد فاسد مأذون فيه ويحاسب به من جملة رزقه:
فإن كان أكثر ردّ الزيادة، وإن كان أقلّ رجع بالباقي وعلى السلطان أن يظهر فساد الإقطاع حتّى يمتنع هو من القبض ويمتنع أهل الخراج من الدّفع ولم يبرأوا بما دفعوه إليه حينئذ.
الثالثة أن يقطعه مدّة حياته. ففي صحّة الإقطاع قولان للشافعي بالصحّة والبطلان ثم إذا صحّ الإقطاع فللسلطان استرجاعه منه بعد السنة التي هو فيها، ويعود رزقه إلى ديوان العطاء. أما السنة التي هو فيها: فإن حلّ رزقه فيها قبل حلول خراجها لم يسترجع منه في سنته لاستحقاق خراجها في رزقه، وإن حل
خراجها قبل حلول رزقه جاز استرجاعه منه: لأنّ تعجيل المؤجّل وإن كان جائزا فليس بلازم.(13/123)
الثالثة أن يقطعه مدّة حياته. ففي صحّة الإقطاع قولان للشافعي بالصحّة والبطلان ثم إذا صحّ الإقطاع فللسلطان استرجاعه منه بعد السنة التي هو فيها، ويعود رزقه إلى ديوان العطاء. أما السنة التي هو فيها: فإن حلّ رزقه فيها قبل حلول خراجها لم يسترجع منه في سنته لاستحقاق خراجها في رزقه، وإن حل
خراجها قبل حلول رزقه جاز استرجاعه منه: لأنّ تعجيل المؤجّل وإن كان جائزا فليس بلازم.
وأما العشر فلا يصحّ إقطاعه، لأنه زكاة الأصناف، فيعتبر وصف استحقاقهم عند دفعها إليهم وقد يجوز أن لا يوجد فلا تجب.
قلت: هذا حكم الإقطاع في الشريعة، وعليه كان عمل الخلفاء والملوك في الزمن السالف أما في زماننا فقد فسد الحال وتغيّرت القوانين، وخرجت الأمور عن القواعد الشرعية، وصارت الإقطاعات ترد من جهة الملوك على سائر الأموال: من خراج الأرضين، والجزية، وزكاة المواشي، والمعادن، والعشر، وغير ذلك. ثم تفاحش الأمر وزاد حتّى أقطعوا المكوس على اختلاف أصنافها، وعمّت بذلك البلوى والله المستعان في الأمور كلّها.(13/124)
الباب الثاني من المقالة السابعة (فيما يكتب في الإقطاعات في القديم والحديث وفيه فصلان)
الفصل الأوّل في أصل ذلك
والأصل فيه ما روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أقطع تميما الدّاريّ أرضا بالشأم وكتب له بها كتابا.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق فيه طرقا مختلفة، فروى بسنده إلى زياد بن فائد (1)، عن أبيه فائد، عن زياد بن أبي هند، عن أبي هند الداريّ أنه قال: قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مكّة ونحن ستّة (2) نفر:
تيم بن أوس، ونعيم بن أوس أخوه، ويزيد بن قيس، وأبو هند بن عبد الله، وهو صاحب الحديث، وأخوه الطيّب بن عبد الله [كان اسمه برا] (3) فسماه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عبد الرحمن (4)، وفاكه بن النعمان، فأسلمنا وسألنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقطعنا أرضا من أرض الشأم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «سلوا حيث شئتم». فقال
__________
(1) في مآثر الانافة: 3/ 21 «بسنده إلى أبي قائد الداريّ».
(2) في سيرة ابن هشام «ثمانية».
(3) الزيادة من سيرة ابن هشام.
(4) في سيرة ابن هشام «عبد الله» وأن الذي سماه عبد الرحمن هو عرفة بن مالك.(13/125)
تميم: أرى أن نسأله بيت المقدس وكورها، فقال أبو هند: [هذا محلّ ملك العجم] (1) وكذلك يكون فيها ملك العرب وأخاف أن لا يتمّ لنا هذا، فقال تميم:
فنسأله بيت جبرين وكورتها، فقال أبو هند: هذا أكبر وأكبر. فقال: فأين ترى أن نسأله؟ فقال: أرى أن نسأله القرى التي تقع فيها تلّ مع آثار إبراهيم، فقال تميم: أصبت ووفّقت قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لتميم: «أتحبّ أن تخبرني بما كنتم فيه أو أخبرك؟» فقال تميم: بل تخبرنا يا رسول الله نزداد إيمانا فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أردتم أمرا فأراد هذا غيره» ونعم الرأي رأى قال: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بقطعة جلد من أدم، فكتب لنا فيها كتابا نسخته:
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} *
«هذا [كتاب] (2) ذكر [فيه] (3) ما وهب محمد رسول الله للدّارييّن إذا أعطاه الله الأرض، وهب لهم بيت عينون وحبرون (4) [والمرطوم] (5) وبيت إبراهيم بمن فيهنّ لهم أبدا (6)
«شهد عبّاس بن عبد المطّلب، وجهم (7) بن قيس، وشرحبيل بن حسنة، وكتب».
قال: ثم دخل بالكتاب إلى منزله [فعالج] (8) في زاوية الرّقعة وغشّاه بشيء لا يعرف، وعقده من خارج الرّقعة بسير عقدتين، وخرج إلينا به مطويّا وهو يقول: {إِنَّ أَوْلَى النََّاسِ بِإِبْرََاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهََذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللََّهُ}
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن السيرة الحلبية وتاريخ ابن عساكر.
(2) الزيادة من «الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة» بضبطه على القسطلاني والسيرة الحلبية والتمهيد للسبكي.
(3) الزيادة من «الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة» بضبطه على القسطلاني والسيرة الحلبية والتمهيد للسبكي.
(4) في بعض الروآيات «جيرون» وفي أخرى «جبرون».
(5) في بعض الروآيات «جيرون» وفي أخرى «جبرون».
(6) في الوثائق السياسية «ومن فيهم إلى الأبد».
(7) في المرجع السابق: «وخزيمة بن قيس» وفي مآثر الإنافة: «وجهيم».
(8) بياض في الأصل قدر كلمة. والزيادة من الطبعة الأميرية عن تاريخ ابن عساكر.(13/126)
{وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (1) ثم قال: انصرفوا حتّى تسمعوا بي قد هاجرت. قال أبو هند:
فانصرفنا. فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة، قدمنا عليه فسألناه أن يجدّد لنا كتابا، فكتب لنا كتابا نسخته:
{«بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ»} *
«هذا ما أنطى (2) محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لتميم الدّاريّ وأصحابه، إنّي أنطيتكم عينون وحبرون والرطوم وبيت إبراهيم برمّتهم وجميع ما فيهم نطيّة (3)
بتّ، ونفّذت وسلّمت ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الأبد فمن آذاهم فيها آذاه الله».
«شهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، وعليّ بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب» (4)
فلما قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وولي أبو بكر وجّه الجنود إلى الشام، فكتب لنا كتابا نسخته:
{«بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ»} *
«من أبي بكر الصدّيق إلى عبيدة بن الجرّاح (5) سلام عليك، فإنّي أحمد إليك الله الّذي لا إله إلّا هو».
«أما بعد: امنع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من الفساد في قرى
__________
(1) آل عمران / 68.
(2) أنطى: أعطى. والنطية: العطية، بلغة أهل اليمن.
(3) أنطى: أعطى. والنطية: العطية، بلغة أهل اليمن.
(4) لهذا النص روايات تختلف فيما بينها بكثير أو قليل. أنظر في ذلك: الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة: 132131130وجمهرة رسائل العرب: 1/ 7372ومعجم البلدان:
2/ 213212والسيرة الحلبية: 2/ 336وتهذيب تاريخ ابن عساكر: 3/ 352.
(5) كان أبو عبيدة في ذلك الوقت أمير العسكر في الشام.(13/127)
الدّارييّن وإن كان أهلها قد جلوا عنها وأراد الدّاريّون أن يزرعوها (1)
فليزرعوها، فإذا رجع أهلها إليها فهي لهم وأحقّ بهم والسلام عليك».
وروى بسنده أيضا إلى الزّهريّ وثور بن يزيد عن راشد بن سعد، قالا:
قام تميم الداريّ وهو تميم بن أوس، رجل من لخم، فقال يا رسول الله، إنّ لي جيرة من الرّوم بفلسطين لهم قرية يقال لها حبرى، وأخرى يقال لها بيت عينون: فإن فتح الله عليك الشأم فهبهما لي، قال: هما لك، قال: فاكتب لي بذلك، فكتب له:
{«بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ»} *
«هذا كتاب من محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لتميم بن أوس الداريّ إنّ له قرية حبرى (2) وبيت عينون، قريتها (3) كلّها، سهلها وجبلها، وماءها وحرّتها، وأنباطها وبقرها، ولعقبه من بعده، لا يحاقّه فيها أحد، ولا يلجه عليهم أحد بظلم. فمن ظلمهم أو أخذ من أحد منهم شيئا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» وكتب عليّ.
فلما ولي أبو بكر، كتب لهم كتابا نسخته:
«هذا كتاب من أبي بكر، أمين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي استخلف في الأرض بعده، كتبه للدّارييّن: أن لا تفسد عليهم مأثرتهم (4) قرية حبرى وبيت عينون، فمن كان يسمع ويطيع فلا يفسد منها شيئا، وليقم عمرو بن العاص (5)
عليهما فليمنعهما من المفسدين».
__________
(1) في «الضوء الساري» للمقريزي: «وإن أراد الداريّون يزرعونها فليزرعوها» وفي الزرقاني:
«فليزرعوها بلا خراج». أنظر الوثائق السياسية. ص 133.
(2) في رواية أخرى «حبرون».
(3) من هنا إلى قوله «عليهم أحد بظلم» وردت في روايات أخرى بصيغة التثنية.
(4) في الضوء الساري للمقريزي، وفي الكتّاني: «أن لا يفسد عليهم سبدهم ولبدهم من قرية حبرون وعينون».
(5) في المرجع السابق: «وليقم عموديّ الناس عليهما، وليمنعهما».(13/128)
وروى ابن مندة بسنده إلى عمرو بن حزم رضي الله عنه أنه قال: أقطع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم تميما الداريّ، وكتب:
{«بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ»} *
«هذا كتاب من محمد رسول الله لتميم بن أوس الداريّ: إنّ له صهيون (1) قريتها كلّها، سهلها وجبلها، وماءها وكرومها، وأنباطها وورقها، ولعقبه من بعده، لا يحاقّه فيها أحد، ولا يدخل عليه بظلم فمن أراد ظلمهم أو أخذه منهم فإنّ عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
قلت: وهذه الرّقعة التي كتب بها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم موجودة بأيدي التميميّين خدّام (2) حرم الخليل عليه السّلام إلى الآن وكلّما نازعهم أحد أتوا بها إلى السلطان بالديار المصريّة ليقف عليها ويكفّ عنهم من يظلمهم. وقد أخبرني برؤيتها غير واحد والأديم التي هي فيه قد خلق لطول الأمد.
__________
(1) قال ياقوت: صهيون موضع معروف بالبيت المقدس محلة فيها كنيسة صهيون. (معجم البلدان:
3/ 436).
(2) في مآثر الإنافة: «موجودة عند التميميين ببلد الخليل إلى الآن في رقعة أدم».(13/129)
الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة السابعة
(في صورة ما يكتب في الإقطاعات وفيه طرفان)
الطرف الأوّل (فيما كان يكتب من ذلك في الزّمن القديم)
وكانت الإقطاعات في الزّمن الأوّل قليلة إنّما كانت تجبى الأموال إلى بيت المال ثم ينفق منه على الجند على ما تقدّم ذكره، وربّما أقطعوا القرية ونحوها وقرّروا على مقطعها شيئا يقوم به لبيت المال في كل سنة ويسمّون ذلك المقاطعة.
ثم ما كان يكتب في ذلك على ضربين، كلاهما مفتتح بلفظ «هذا»:
الضرب الأوّل (ما كان يكتب عن الخلفاء ولهم فيه طريقتان)
الطريقة الأولى (طريقة كتّاب الخلفاء العبّاسيّين ببغداد)
وكان طريقهم فيها أن يكتب «هذا كتاب من فلان (بلقب الخليفة) إنك ذكرت من أمر ضيعتك الفلانية كذا وكذا، وسألت أمير المؤمنين في كذا وكذا، وقد أجابك أمير المؤمنين إلى سؤالك في ذلك ونحوه».
وهذه نسخة مقاطعة كتب بها عن المطيع لله الخليفة العبّاسي، من إنشاء أبي إسحاق الصابي (1) وهي:
__________
(1) تقلّد دواوين الرسائل والمظالم والمعاون للمطيع العباسي. توفي سنة 384هـ. (الأعلام: 1/ 78).(13/130)
هذا كتاب من عبد الله الفضل، الإمام، المطيع لله، أمير المؤمنين، لفلان بن فلان.
إنّك رفعت قصّتك تذكر حال ضيعتك المعروفة بكذا وكذا، من رستاق كذا وكذا، من طسّوج كذا وكذا، وأنها أرض رقيقة قد توالى (1) عليها الخراب، وانغلق أكثرها بالسّدّ والدّغل، وأنّ مثلها لا [تتّسع يد الليالي للإنفاق عليه، وقلب بالانبله (2) واستخراج سدوده وقفل أرضه، ولا] يرغب الأكرة (3) في ازدراعه والمعاملة فيه. وإن أمير المؤمنين مقاطعك عن هذه الضّيعة على كذا وكذا من الورق المرسل في كلّ سنة، على استقبال سنة كذا وكذا الخراجيّة، مقاطعة مؤبّدة، ماضية مقرّرة نافذة، يستخرج مالها في أوّل المحرّم من كلّ سنة، ولا تتبع بنقض ولا يتأوّل فيها متأوّل، ولا تعترض في مستأنف الأيّام، [ما] (4) اجتهدت في عمارتها، وتكلّفت الإنفاق عليها واستخراج سدودها، وقفل (5) أراضيها واحتفار سواقيها، واجتلاب الأكرة إليها، وإطلاق البذور والتقاوى فيها، وإرغاب المزارعين بتخفيف طسوقها بحق الرقبة ومقاسماتها، وكان في ذلك توفير لحقّ بيت المال وصلاح ظاهر لا يختلّ.
وسألت أمير المؤمنين الأمر بذلك والتّقدّم به والإسجال لك به، وإثباته في ديوان السّواد ودواوين الحضرة وديوان الناحية، وتصييره ماضيا لك ولعقبك وأعقابهم، ومن لعلّ هذه الضّيعة أو شيئا منها ينتقل إليه ببيع أو ميراث أو صدقة أو غير ذلك من ضروب الانتقال.
وإنّ أمير المؤمنين بإيثاره الصّلاح (6)، واعتماده أسبابه، ورغبته فيما عاد
__________
(1) في مآثر الإنافة: 3/ 213 «نزل عليها».
(2) كذا في الأصل. وفي الطبعة الأميرية مع علامة توقف. ولم نهتد إلى تثقيفه. وما بين معقوفين ساقط من مآثر الإنافة.
(3) المزارعون.
(4) الزيادة من مآثر الإنافة. وفي الطبعة الأميرية زاد المحقق لفظ «إن».
(5) في مآثر الإنافة «وتنقية» وهي أوضح في المقام.
(6) في مآثر الإنافة «الفلاح».(13/131)
بالتوفير على بيت المال، والعمارة والتّرفيه للرّعية، أمرنا بالنظر فيما ذكرته، واستقصاء البحث عنه، ومعرفة وجه التدبير، وسبيل الحظّ فيه، والعمل بما يوافق الرّشد في جميعه، فرجع إلى الدّيوان في تعرّف ما حكيته من أحوال هذه الضّيعة، فأنفذ منه رجل مختار ثقة مأمون، من أهل الخبرة بأمور السّواد وأعمال الخراج: قد عرف أمير المؤمنين أمانته وعلمه ومعرفته، وأمر بالمصير إلى هذه الناحية، وجمع أهلها: من الأدلّاء والأكرة والمزارعين، وثقات الأمناء والمجاورين، والوقوف على هذه الأقرحة، وإيقاع المساحة عليها، وكشف أحوال عامرها وغامرها، والمسير على حدودها، وأخذ أقوالهم وآرائهم في وجه صلاح وعمارة قراح منها، وما يوجبه صواب التدبير فيما التمسته من المقاطعة بالمبلغ الذي بذلته. وذكرت أنه زائد على الارتفاع، والكتاب بجميع ذلك إلى الديوان، ليوقف عليه وينهى إلى أمير المؤمنين فينظر فيه: فما صحّ عنده منه أمضاه، وما رأى الاستظهار على نظر الناظر فيه استظهر فيما يرى منه، حتّى يقف على حقيقته، ويرسم [بما] (1) يعمل عليه.
فذكر ذلك الناظر أنه وقف على هذه الضّيعة، وعلى سائر أقرحتها وحدودها ونطاقها، بمشهد من أهل الخبرة بأحوالها: من ثقات الأدلّاء والمجاورين، والأكرة والمزارعين، والأمناء الذين يرجع إلى أقوالهم، ويعمل عليها، فوجد مساحة بطون الأقرحة (2) المزدرعة من جميعها، دون سواقيها وبرورها وتلالها وجنائبها ومستنقعاتها، وما لا يعتمد من أرضها، بالجريب (3)
الهاشميّ الذي تمسح به الأرض في هذه الناحية كذا وكذا جريبا: منها جميع القراح المعروف بكذا وكذا، ومنها قراح كذا وكذا، ومنها الحصن والبيوت، والساحات، والقراحات، والخزّانات، ووجد حالها في الخراب والانسداد،
__________
(1) في الطبعة الأميرية «ما». وما أثبتناه من مآثر الإنافة.
(2) القراح من الأرض: المخلّاة للزرع وليس عليها بناء. والجمع: أقرحة.
(3) الجريب: مقياس لمساحة الأرض وهو يساوي 0416و 1366مترا مربعا. (النظم الإسلامية: ص 416).(13/132)
وتعذّر (1) العمارة، والحاجة إلى عظيم المؤونة وفرط النّفقة (2)، على ما حكيته وشكوته، ونظر في مقدار أصل هذه الخزّانات من هذه الضّيعة، وما يجب عليها، وكشف (3) الحال في ذلك.
ونظر أمير المؤمنين فيما رفعه هذا المؤتمن المنفذ من الديوان، واستظهر فيه بما رآه من الاستظهار، ووجب عنده من الاحتياط، فوجد ما رفعه صحيحا صحّة عرفها أمير المؤمنين وعلمها، وقامت في نفسه، وثبتت عنده، ورأى إيقاع المقاطعة التي التمستها على حقّ بيت المال في هذه الضّيعة، فقاطعك عنه في كلّ سنة هلاليّة، على استقبال سنة كذا وكذا الخراجية، على كذا وكذا: درهما صحاحا مرسلة بغير كسر ولا كعائه (4) (؟) ولا حقّ حرب ولا جهبذة (5) ولا محاسبة ولا زيادة، ولا شيء من جميع المؤن وسابق التواقيع (6) والرّسوم، تؤدّى في أوّل المحرّم من كلّ سنة، حسب ما تؤدّى المقاطعة، مقاطعة ماضية مؤبّدة، نافذة ثابتة، على مضيّ الأيام، ولزوم (7) الأعوام، لا تنقض ولا تفسخ، ولا تتبع، ولا يتأوّل فيها، ولا تغيّر (8) على أن يكون هذا المال: وهو من الورق المرسل كذا وكذا في كل سنة مؤدّى في بيت المال، ومصحّحا عند من تورد عليه في هذه الناحية أموال خراجهم ومقاطعاتهم وجباياتهم، لا يعتلّ فيها بآفة تلحق الغلّات، سماويّة ولا أرضيّة، ولا بتعطّل أرض، ولا بقصور عمارة، ولا نقصان ريع، ولا بانحطاط سعر، ولا بتأخّر قطر، ولا بشرب غلّة (9)، ولا حرق
__________
(1) في مآثر الإنافة: «وتكدّر العمارة».
(2) في مآثر الإنافة «عظيم المعرفة ومفرط النفقة».
(3) في مآثر الإنافة «وكيفية الحال».
(4) كذا صورتها في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. والعبارة ساقطة من مآثر الإنافة.
(5) الجهبذة هي عملية نقد الذهب والفضة.
(6) في مآثر الإنافة «وسائر التوابع» وهي أوضح.
(7) في مآثر الإنافة «وكرور الأعوام».
(8) في مآثر الإنافة «ولا يعتبر».
(9) في مآثر الإنافة «ولا تشرّب علّة».(13/133)
ولا شرق (1)، ولا بغير ذلك من الآفات بوجه من الوجوه، ولا بسبب من الأسباب ولا يحتجّ في ذلك بحجّة يحتجّ بها [التّناء] (2)، والمزارعون، وأرباب الخراج في الالتواء بما عليهم، وعلى أن لا يدخل عليك في هذه المقاطعة يد ماسح ولا مخمّن، ولا حازر، ولا مقدّم، ولا أمين، ولا حاظر، ولا ناظر، ولا متتبّع، ولا متعرّف لحال زراعة وعمارة، ولا كاشف لأمر زرع وغلّة، ماضيا ذلك لك ولعقبك من بعدك، وأعقابهم، وورثتك وورثتهم (3)، أبدا ما تناسلوا، ولمن عسى أن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه بإرث، أو بيع، أو هبة، أو نحل، أو صدقة، أو وقف، أو مناقلة، أو إجارة، أو مهايأة (4)، أو تمليك، أو إقرار، أو بغير ذلك من الأسباب التي تنتقل بها الأملاك من يد إلى يد، ولا ينقض ذلك ولا شيء منه، ولا يغيّر ولا يفسخ، ولا يزال ولا يبدّل، ولا يعقّب، ولا يعترض فيه بسبب زيادة عمارة، ولا ارتفاع سعر ولا وفور غلّة، ولا زكاء ريع، ولا إحياء موات، ولا اعتمال (5) معطّل، ولا عمارة خراب، ولا استخراج غامر، ولا صلاح شرب (6)، ولا استحداث غلّات لم يجر الرسم باستحداثها وزراعتها، ولا يعدّ ولا يمسح ما عسى أن يغرس بهذه الأقرحة: من النّخل وأصناف الشّجر المعدود والكرم، ولا يتأوّل عليك فيما لعلّ أصل المساحة أن تزيد به فيما تعمّره وتستخرجه من الجبابين (7) والمستنقعات، ومواضع المشارب المستغنى عنها، إذ كان أمير المؤمنين قد عرف جميع ذلك، وجعل ما يجب على شيء منه عند وجوبه داخلا في هذه المقاطعة، وجاريا معها.
__________
(1) في مآثر الإنافة «ولا سرق».
(2) في الطبعة الأميرية «التنا» مع علامة توقف. والتصحيح من مآثر الإنافة. وقد جعلها في مآثر الإنافة مضمومة التاء المثناة المشددة. والصواب كسرها، كما جاء في اللسان. والتّناءهم سكان البلد المقيمون فيه. من تنأ في المكان: أقام فيه. (أنظر لسان العرب: 1/ 40).
(3) في مآثر الإنافة: «وذريتك وذريتهم».
(4) المهايأة: التوافق على الشيء.
(5) في مآثر الإنافة: «ولا إعمال».
(6) في مآثر الإنافة: «سرب» بالسين المهملة.
(7) في حاشية الطبعة الأميرية: الجبابين أي الصحارى.(13/134)
على أنّك إن فصّلت شيئا من مال هذه المقاطعة على بعض هذه الأقرحة من جميع الضّيعة، وأفردت باقي مال المقاطعة بباقيها عند ملك ينتقل منها عن بدل، أو فعل ذلك غيرك ممّن جعل له في هذه المقاطعة ما جعل لك من ورثتك وورثتهم، وعقبك وأعقابهم، ومن لعلّ هذه الضّيعة أو شيئا من هذه الأقرحة ينتقل إليه بضرب من ضروب الانتقال، قبل ذلك التفصيل منكم عند الرّضا والاعتراف ممّن تفصلون باسمه، وتحيلون عليه، وعوملتم على ذلك، ولم يتأوّل عليكم في شيء منه.
وعلى أنك إن التمست أو التمس من يقوم مقامك ضرب منار على هذه الضيعة، تعرف به حدودها ورسومها وطرقها، ضرب ذلك المنار أيّ وقت التمسوه، ولم يمنعوا منه وإن تأخّر ضرب المنار لم يتأوّل عليكم به، ولم يجعل علّة في هذه المقاطعة، إذ كانت شهرة هذه الضيعة وأقرحتها في أماكنها، ومعرفة مجاورها بما ذكر من تسميتها ومساحتها، تغني عن تحديدها أو تحديد شيء منها، وتقوم مقام المنار في إيضاح معالمها، والدّلالة على حدودها وحقوقها ورسومها. وقد سوّغك يا فلان بن فلان أمير المؤمنين وعقبك من بعدك وأعقابهم، وورثتك وورثتهم أبدا ما تناسلوا، ومن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه جميع الفصل بين ما كان يلزم هذه الضّيعة وأقرحتها من حقّ بيت المال وتوابعه، على الوضيعة التامة، وعلى الشروط القديمة، وبين ما يلزمها على هذه المقاطعة، وجعل ذلك خارجا عن حاصل طسّوج (1) كذا وكذا، وعما يرفعه المؤتمنون، ويوافق عليه المتضمّنون، على غابر الدهر ومرّ السنين، وتعاقب الأيّام والشهور.
فلا تقبل في ذلك سعاية ساع، ولا قدح قادح، ولا قرف قارف، ولا إغراء مغر، ولا قول معنّف، ولا يرجع عليك فيما سوّغته ونظر لك به في حال من
__________
(1) الطسّوج: جزء من الرستاق والرستاق من الضيعة. وهي أرض زراعية. قال ياقوت: والطسّوج هو الكورة.(13/135)
الأحوال، ولا يرجع في التقريرات، ولا تنقض بالمعاملات وردّها إلى قوام أصولها، ولا ضرب من ضروب الحجج والتأويلات، التي يتكلم عليها أهل العدل على سبيل الحكم والنظر، وأهل الجور على سبيل العدوان والظّلم، ولا تكلّف يا فلان بن فلان، ولا عقبك من بعدك، ولا ورثتك، ولا أعقابهم، ولا أحد ممن تخرج هذه الضّيعة أو هذه الأقرحة أو شيء منها إليه، على الوجوه والأسباب كلّها إخراج توقيع، ولا كتاب مجدّد، ولا منشور بانفاذ شيء من ذلك، ولا إحضار سجلّ به، ولا إقامة حجّة فيه في وقت من الأوقات.
وعلى أن لا يلزمك ولا أحدا ممن يقوم مقامك في هذا المقاطعة مؤونة، ولا كلفة، ولا ضريبة، ولا زيادة، ولا تقسيط كراء منه، ولا مصلحة، ولا عامل بريد، ولا نفقة، ولا مؤونة جماعة، ولا خفارة، ولا غير ذلك. ولا يلزم بوجه من الوجوه في هذه المقاطعة زيادة على المبلغ المذكور المؤدّى في بيت المال في كلّ سنة خراجية، وهو من الورق على المرسل كذا وكذا، ولا تمنع من روز جهبذ (1) أو حجّة كاتب أو عامل بما لهذه المقاطعة إذا أدّيته أو أدّيت شيئا منه أوّلا أوّلا، حتّى يتكّمل الأداء، وتحصل في يدك البراءة في كلّ سنة بالوفاء بجميع المال بهذه المقاطعة.
وعلى أن تعاونوا على أحوال العمارة، وصلاح الشّرب، وتوفّر عليكم الضّيافة والحماية، والذّبّ والرّعاية.
ولا يتعقّب ما أمر به أمير المؤمنين أحد من ولاة العهود والأمراء والوزراء وأصحاب الدواوين، والكتّاب والعمّال والمشرفين، والضّمناء والمؤتمنين، وأصحاب الخراج والمعاون (2)، وجميع طبقات المعاملين، وسائر صنوف
__________
(1) الجهبذ (بكسر الجيم وسكون الهاء وكسر الباء) هو كاتب برسم الاستخراج والقبض ويقوم بكتابة الوصلات وعمل المخازيم والختمات، ويطالب بما يقتضيه تخريج ما يرفعه من الحساب اللازم له.
وهذا اللفظ قديم الاستعمال في مصطلح الدواوين الإسلامية، وقد أبدل بلفظ الصيرفيّ أيام الدولة الفاطمية. والرّوز: التجربة والاختبار. (مصطلحات صبح الأعشى: 93وقوانين الدواوين: 9).
(2) أصحاب المعاون: هم شرطة غير رسمية يعاونون القضاة والحكام في إحضار الخصوم وأصحاب الدعاوى كما يفهم من نص القلقشندي في الجزء العاشر من هذا الكتاب: ص 150.(13/136)
المتصرّفين يبطله أو يزيله عن جهته، أو ينقضه، أو يفسخه، أو يغيّره، أو يبدّله، أو يوجب عليك أو على عقبك من بعدك وأعقابهم وورثتهم أبدا ما تناسلوا، ومن تخرج هذه الضيعة أو شيء منها [إليه] (1) حجة على سائر طرق التأويلات ولا يلزمك شيئا فيه، ولا يكلّفكم عوضا عن إمضائه، ولا ينظر في ذلك أحد منهم نظر تتبّع ولا كشف، ولا بحث، ولا فحص. فإن خالف أحد منهم ما أمر به أمير المؤمنين، أو تعرّض لكشف هذه المقاطعة أو مساحتها أو تخمينها، أو اعتبارها والزيادة في مبلغ مالها، أو ثبت في الدّواوين في وقت من الأوقات شيء يخالف ما رسمه أمير المؤمنين فيها: إما على طريق السّهو والغلط، أو العدوان والظّلم والعناد والقصد، فذلك كلّه مردود، وباطل، ومنفسخ، وغير جائز، ولا سائغ، ولا قادح في صحّة هذه المقاطعة وثبوتها ووجوبها، ولا معطّل لها، ولا مانع من تلافي السّهو واستدراك الغلط في ذلك، ولا مغيّر لشيء من شرائط هذه المقاطعة، ولا حجّة تقوم عليك يا فلان بن فلان، ولا على من يقوم في هذه المقاطعة بشيء من ذلك: إذ كان ما أمر به أمير المؤمنين من ذلك على وجه من وجوه الصلاح، وسبيل من سبله رآهما وأمضاهما، وقطع بهما كلّ اعتراض ودعوى، واحتجاج وقذف، وأزال معهما كلّ بحث وفحص، وتبعة وعلاقة وإن كان من الشرائط فيما سلف من السنين وخلا من الأزمان ما هو أوكد وأتمّ وأحكم وأحوط لك، ولعقبك وورثتك، وأعقابهم وورثتهم، ومن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه (2) مما شرط في هذا الكتاب بحال، أوجبها لك الاحتياط على اختلاف مذاهب الفقهاء والكتّاب وغيرهم مما للخلفاء أن يفعلوه وتنفّذ فيه أمورهم، وحملت وحملوا عليه، وهو مضاف إلى شروط هذا الكتاب التي قد أتى عليها الذّكر، ودخلت تحت الحصر، ولم يكلّف أحد منكم إخراج أمر به.
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) متعلق بأوكد.(13/137)
وإن التمست [أنت] (1) أو أحد من ورثتك وأعقابك، ومن عسى أن تنتقل هذه الضّيعة والأقرحة أو شيء منها إليه في وقت من الأوقات تجديد كتاب بذلك، ومكاتبة عامل أو مشرف، أو إخراج توقيع ومنشور إلى الديوان بمثل ما تضمّنه هذا الكتاب، أجبتم إليه ولم تمنعوا منه.
وأمر أمير المؤمنين بإثبات هذا الكتاب في الدّواوين، وإقراره في يدك، حجّة لك ولعقبك من بعدك وأعقابهم، وورثتك وورثتهم، ووثيقة في أيديكم، وفي يد من عسى أن تنتقل هذه الضيعة أو الأقرحة أو شيء منها إليه، بضرب من ضروب الانتقال التي ذكرت في هذا الكتاب والتي لم تذكر فيه، وأن لا تكلّفوا إيراد [حجة] (2) من بعده، ولا يتأوّل عليكم متأوّل فيه.
فمن وقف على هذا الكتاب وقرأه أو قريء عليه: من جميع الأمراء، وولاة العهود والوزراء، والعمّال، والمشرفين، والمتصرّفين، والناظرين (3) في أمور الخراج، وأصحاب السيوف على اختلاف طبقاتهم، وتباين منازلهم وأعمالهم، فليمتثل ما أمر به أمير المؤمنين ولينفّذ لفلان بن فلان وورثته وورثتهم، وعقبه وأعقابهم، ولمن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه هذه المقاطعة، من غير مراجعة فيها، ولا استثمار عليها، ولا تكليف [له] (4) ولا لأحد ممن يقوم بأمرها إيراد حجّة بعد هذا الكتاب بها. وليعمل بمثل ذلك من وقف على نسخة من نسخ هذا الكتاب في ديوان من دواوين الحضرة، وأعمالها أو الناحية، وليقرّ في يد فلان بن فلان أو يد من يورده ويحتجّ به ممن يقوم مقامه، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية. وفي مآثر الإنافة: «وأن لا يخلفوا إيرادا من بعده».
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية. وفي مآثر الإنافة: «وأن لا يخلفوا إيرادا من بعده».
(3) في مآثر الإنافة «والمباشرين الخ».
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية. وفي مآثر الإنافة: «ولا تكليف لأحد الخ».(13/138)
الطريقة الثانية (ما كان يكتب في الإقطاعات عن الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية)
وهو على نحو مما كان يكتب عن خلفاء بني العبّاس.
قال في «موادّ البيان»: والرسم فيها أن يكتب:
أمير المؤمنين بما وهبه الله تعالى: من شرف الأعراق، وكرم الأخلاق، ومنحه من علوّ الشان، وارتفاع السّلطان، يقتدي بإذن الله سبحانه في إفاضة إنعامه وبرّه، على الناهضين بحقوق شكره، ويوقع أياديه عند من يقوم بحقّها، ويتألّفها بحمدها وشكرها، ولا ينفّرها ويوحشها بكفرها وجحدها، ويتحرّى بعوارفه المغارس التي تنجب شجرتها، وتحلولي ثمرتها والله تعالى نسأله أن يوفّقه في مقاصده، ويريه مخايل الخير في مصادره وموارده، ويعينه على إحسان يفيضه ويسبغه، وامتنان يضفيه ويفرغه.
ولما كان فلان بن فلان ممن غرس أمير المؤمنين [إحسانه] (1) لديه فأثمر، وأولاه طوله فشكر، ورآه مستقلّا بالصّنيعة، حافظا للوديعة، مقابلا العارفة بالإخلاص في الطاعة، مستدرّا بالانقياد والتّباعة، أخلاف الفضل والنّعمة (ويوصف الرجل المقطع بما تقتضيه منزلته) ثم يقال: رأى أمير المؤمنين مضاعفة أياديه لديه، ومواصلة إنعامه إليه، وإجابة سؤاله، وإنالته أقاصي آماله، وتنويله ما نحت إليه أمانته، وطمحت نحوه راحته، وإسعافه بما رغب فيه من إقطاعه الناحية الفلانية، أو الدار أو الأرض، أو تسويغه ما يجب عليه من خراج ملكه، وما يجري هذا المجرى. ثم يقال: ثقة بأنّ الإحسان مغروس منه في أكرم مغرس وأزكاه، وأحقّ منزل بالتنويل وأولاه، وخرج أمره بإنشاء هذا المنشور بأنه قد أقطعه الناحية الفلانية، لاستقبال سنة كذا بحقوقها وحدودها، وأرضها العامرة ووجوه جباياتها، (وينص على كلّ حق من حقوقها، وحدّ من
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(13/139)
حدودها) فإذا استوفى القول عليه، قال: إنعاما عليه، وبسطا لأمله، وإبانة عن خطره.
فليعلم ذلك كافّة الولاة والنّظّار والمستخدمين من أمير المؤمنين ورسمه، ليعلموا عليه وبحسبه، وليحذروا من تجاوزه وتعدّيه، وليقرّ بيده بعد العمل بما نصّ فيه، إن شاء الله تعالى.
قلت: والتحقيق أنّ لهم في ذلك أساليب: منها ما يفتتح بلفظ «هذا» والمعروف أنه كان يسمّى ما يكتب في الإقطاعات عندهم سجلّات كالذي يكتب في الولايات.
وهذه نسخة منشور من مناشيرهم، من إنشاء القاضي الفاضل لولد من أولاد الخليفة اسمه حسن ولقبه حسام الدين، مفتتح بلفظ «هذا»، وهي:
هذا كتاب من أمير المؤمنين لولده الذي جلّ قدرا أن يسامى، وقرّ في ناظر الإيمان نورا وسلّته يد الله حساما، وحسن به الزمان فكان وجوده في عطفه حلية والغرّة ابتساما، وأضاءت وجوه السعادة لمنحها (1) بكريم اسمه إتّساما، وتهيّأت الأقدار لأن تجري على نقش خاتم إرادته امتثالا وارتساما الأمير فلان، جريا على عادة أمير المؤمنين التي أوضح الله فيها إشراق العوائد، واتّباعا لسنّة آبائه التي هي سنن المكارم والمراشد، وارتفادا مع ارتياح [إلى موارد] (2) كرمه التي هي موارد لا يحلّأ (3) عنها وارد، واختصاصا بفضله لمن كفاه من الشّرف أنّه له والد، وعموما بما يسوقه الله على يده من أرزاق العباد، وإنعاما جعل نجله طريقه إلى أن يفيض على كلّ حاضر وباد.
__________
(1) في الأصول هكذا «ئحها» بالإهمال الكامل. والضبط من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) حلّأه عن الشيء تحليئا وتحلئة: منعه.(13/140)
وأمير المؤمنين بحر ينتشيء من آله السّحاب المنزّل، ويمدّهم جوادّ العطاء الأجزل أمر بكتبه لما عرضت لمقامه رقعة بكذا وكذا، وخرج أمر أمير المؤمنين إلى وليّه وناصره، وأمينه على ما استأمنه الله عليه وموازره، السيد الأجلّ الذي لم تزل آراؤه ضوامن للمصالح كوافل، وشهب تدبيره من سماء التوفيق غير غاربة ولا أوافل، وخدمه لأمير المؤمنين لا تقف عند الفرائض حتّى تتخطّى إلى النّوافل، وجاد فأخلاف النّعم به حوافل، وأقبل فأحزاب الخلاف به جوافل، وأيقظ عيونا من التدبير على الأيّام لا تدّعي الأيّام أنها غوافل بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بإقطاع ناحية كذا بحدّها، والمعتاد من وصفها المعاد، وما يدلّ عليه الديوان من عبرتها (1)، ويتحصّل له من عينها وغلّتها، إلى الديوان الفلانيّ:
إقطاعا لا ينقطع حكمه، وإحسانا لا يعفو رسمه، وتسويغا لا يطيش سهمه، وتكميلا لا يمحى وسمه، وتخويلا لا يثنى عزمه، يتصرّف فيه هذا الديوان ويستبدّ به مالكا، ويفاوض فيه مشاركا، ويزرعه متعمّلا ومضمّنا، ويستثمره عادلا في أهله محسنا، لا تتعقّبه الدواوين بتأوّل ما، ولا الأحوال بتحوّل ما، ولا الأيّام بتقلّبها، ولا الأغراض بتعقّبها، ولا اختلاف الأيدي بتنقّلها، ولا تعترضه الأحكام بتأوّلها.
وقد أوجب أمير المؤمنين على كلّ وال أن يتحامى هذه الناحية بضرره، ويقصدها بجميل أثره، ويحيطها بحسن نظره، ويتّقي فيها ركوب عواقب غرره، ويجتنب فيها مطالب ورده وصدره، ونزول مستقرّه، ولا يمكّن منها مستخدما، ولا يكلّف أهلها مغرما، ويجريها مجرى ما هو من الباطل حمى، ما لم يقل فيها بميل، أو يخف من سبلها سبيل وله أن يتطلّب الجاني بعينه، ويقتضيه بأداء ما استوجب من دينه، وأخذه مسوقا بجرائم ذنبه إلى موقف حينه فمن قرأه فليعمل به.
__________
(1) عبرة الأرض: ما يتوجب عنها من المال للديوان.(13/141)
وهذه نسخة سجلّ بإقطاع، عن العاضد آخر خلفاء الفاطميين أيضا لبعض أمراء الدولة، من إنشاء القاضي الفاضل أيضا وهي:
أمير المؤمنين وإن عمّ جوده كما عمّ فضل وجوده، وسار كثير إحسانه وبرّه في سهول المعمور ونجوده، ورحم الله الخلق بما استأثره دون الخلائق من قربه في سجوده فإنه يخص بني القربى من جدّه، والضاربين معه في أنصباء مجده: من سلالته الزكيّة، وطينته المسكيّة، وأعراقه الشريفة، وأنسابه المنيفة فكل غرّاء لا تخفى أوضاحها، إلا إذا فاضت أنوارهم، وكل عذراء لا يعهد إسماحها (1)، إلا إذا راضت أخطارهم.
ولمّا عرضت بحضرته ورقة من ولده الأمير فلان الذي أقرّ الله به عين الإسلام، وأنجز به دين الأيّام، وأطلعه بدرا في سماء الحسب، وجلا بأنواره ظلام النّوب، وامتاح (2) من منبع النبوّة وارتوى، واستولى على خصائص الفضل الجليّ واحتوى، وأعدّ الله لسعد الأمّة ذا مرّة (3) شديد القوى، وأدنى الاستحقاق من الغايات حتّى تأهّب لأن يكون بالواد المقدّس طوى، وأضحت كافّة المؤمنين مؤمّنين على مكارمه، وأمست كافّة الخائفين خائفين من سيل أنفسهم على صوارمه وآراؤه أعلى أن يضاهيها [رأي] (4) وإن جلّ خطره، وأعطيته أرقى أن يدانيها عطاء وإن حسن في الأحوال أثره وإن جلّ خطره وأعطيته أرقى أن يدانيها عطاء وإن حسن في الأحوال أثره وإنما ينبع بملكه منها ما راق بعين اختياره وإيثاره، وسعد بالانتظام في سلك جوده الذي يعرّضه أبدا لانتثاره وتضمّنت هذه الرّقعة الرغبة في كذا وكذا، وذكر الديوان كذا.
خرج أمر أمير المؤمنين إلى فتاه وناصره، ووزيره ومظاهره، السيد الأجلّ الذي انتصر الله به لأمير المؤمنين من أعدائه، وحسم بحسامه ما أعضل من
__________
(1) أي انقيادها.
(2) أي استقى.
(3) المرّة: رجحان العقل وقوته وأصالته.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.(13/142)
عارض الخطب ودائه، ونطقت بفضله ألسن حسّاده فضلا عن ألسنة أودّائه، وسخت الملوك بأنفسها أن تكون فداء له إذا حوّزها المجد في فدائه، الذي ذخره الله لأمير المؤمنين من آدم ذخيرة، وجمع له في طاعته بين إيقاظ البصيرة وإخلاص السّريرة، وفضّلت أيامه على أيّام أوليائه بما حلّاها من جميل الأحدوثة وحسن السّيرة، وسهّل عليه التّقوّي في المنافع والعكوف على المصالح، وأجنى من أقلامه ورماحه ثمرات النّصائح، وفاز بما حاز من ذخائر العمل الصالح بالمتجر الرّابح، وألهمه من حراسة قانون الملك ما قضى بحفظ نظامه، ولم ينصرف له عزم إلا إلى ما صرف إليه رضا ربّه ورضا إمامه.
ونفذت أوامره بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السّجل إلى الديوان الفلانيّ بإقطاعه الناحية وما معها منسوبا إليها وداخلا فيها لاستقبال [سنة] كذا، منحة سائغة، لا يعترضها التكدير، ونعمة سابغة، لا ينقضها التّغيير، وحباء موصول الأسباب، وعطاء بغير منّ ولا حساب، يتحكّم فيه على قضايا الاختيار، وتنفذ فيه أوامره الميمونة الإيراد والإصدار.
ومنها أن يفتتح السّجلّ بلفظ: «إنّ أمير المؤمنين» ويذكر من وصفه ما سنح له، ثم يذكر حكم الإقطاع، وكيفية خروجه.
وهذه نسخة سجلّ من ذلك كتب به لبعض وزرائهم، من إنشاء القاضي الفاضل وهي:
إنّ أمير المؤمنين لما أطلق الله يد برّه من أميال تبدو على الأحوال شواهد آثارها، وتروض الآمال سحائبها بسائب مدرارها، وتتنزّه مواعدها عن إنظارها، ومواردها عن أن يؤتى بأنظارها، ويقوم بناصرها فيكون أقوى أعوانها على الشكر وأنصارها، وألهمه من مواصلة المنن التي لا تنقطع روايتها ولا تتناهى مراتبها، وموالاة المنح التي تهبّ على جناب الخير شمائلها وجنائبها، وتلتقي في مسارح المدائح غرائبها ورغائبها، وحبّبه إليه من انتهاز فرص المكارم في الأكارم، وابتداء المعروف وابتدار مغانمه التي لا تعقبها مغارم يولي آلاءه من يجزي عن
حسنتها عشرا، ويعقل عقائلها عند من يسوق إليها من استحقاقها مهرا، ويقابل بالإحسان إحسان أجلّ أوليائه قدرا، ويضاعف الامتنان عند من لم يضعف في موازرته أزرا، ويودع ودائع جوده في المغارس الجيّدة بالزّكاء والنّماء، ويزكّي أصول معروفه لمن يفتخر بالانضواء إلى موالاته والانتماء، ويستكرم مستقرّ مننه وآلائه، ويحسن إلى الإحسان ثم يبتهج بموالاته لديه وإيلائه.(13/143)
إنّ أمير المؤمنين لما أطلق الله يد برّه من أميال تبدو على الأحوال شواهد آثارها، وتروض الآمال سحائبها بسائب مدرارها، وتتنزّه مواعدها عن إنظارها، ومواردها عن أن يؤتى بأنظارها، ويقوم بناصرها فيكون أقوى أعوانها على الشكر وأنصارها، وألهمه من مواصلة المنن التي لا تنقطع روايتها ولا تتناهى مراتبها، وموالاة المنح التي تهبّ على جناب الخير شمائلها وجنائبها، وتلتقي في مسارح المدائح غرائبها ورغائبها، وحبّبه إليه من انتهاز فرص المكارم في الأكارم، وابتداء المعروف وابتدار مغانمه التي لا تعقبها مغارم يولي آلاءه من يجزي عن
حسنتها عشرا، ويعقل عقائلها عند من يسوق إليها من استحقاقها مهرا، ويقابل بالإحسان إحسان أجلّ أوليائه قدرا، ويضاعف الامتنان عند من لم يضعف في موازرته أزرا، ويودع ودائع جوده في المغارس الجيّدة بالزّكاء والنّماء، ويزكّي أصول معروفه لمن يفتخر بالانضواء إلى موالاته والانتماء، ويستكرم مستقرّ مننه وآلائه، ويحسن إلى الإحسان ثم يبتهج بموالاته لديه وإيلائه.
ولما كان السيد الأجلّ أمير الجيوش آية نصر أمير المؤمنين التي انبرت فما تبارى، ونعمة الله التي أشرقت أنوارها وأورت فما تتوارى، وسيف حقّه الذي لا تكلّ مقاطعه، وبحر جوده الذي لا تكدّر مشارعه، والمستقلّ من الدّفاع عن حوزته بما عجزت عنه الأمم، والعليّ على مقدار الأقدار إذا تفاوتت قيم الهمم، والكاشف الجلّى عن دولته وقد عظمت مظالم الظّلم، والجامع على المماراة والمواراة قلب المؤالف والمخالف ولسان العرب والعجم، والمتبوّيء من الملك ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، والمتوقّل (1) من الفخر محلّا لا يطمع النّجم فيه من بعده، والمغير على الحرب العوان بقبليّة البكر، والمنفّذ بمبتدع العزمات ما لولا وقوعه لما وقع [في] (2) الفكر، والقاضي للدّين بحدّ سيوفه مطلول حقّه وممطول دينه، والقائم لأمير المؤمنين مقاما قام به أبوه في نصرة جدّه صلى الله عليهما يوم بدره ويوم حنينه.
ولقد أظهر الله آيات نضارة نظره على الأرض فأخذت زخرفها وازّينت، وابتدت أيديه الجنى فتظاهرت أدلّتها على دولته وتبينت، واستلأمت (3) المملكة من تدبيره بجنّة تتحاماها الأقدار وهي سهام، ووثقت من عنايته إلى هجر الخطوب بما يعيد نارها وهي برد وسلام وما ضرّها مع تيقّظ جفنه أن يهجع في جفنه طرف الحسام، ولا احتاجت وقلبه يساور جسيم أمورها أن تتعب في وأدها
__________
(1) توقّل في الجبل: صعّد فيه.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.
(3) استلأمت: لبست اللامة، وهي عدة الحرب. والجنّة: الدرع الواقية.(13/144)
الأجسام فأيّ خير يولى وإن عظم يناهض استحقاقه؟ وأيّ غاية وإن جلّت تروم نيل مدى مسعاه ولحاقه؟ وأنّى لأعراض الدنيا أن تهدي لجوهره عرضا، ولا تبلغ مبالغ النعم الجلائل أن تعتدّ اليوم من مساعيه عوضا؟، وهل لأمير المؤمنين أعمال في مجازاته عن قيامه بغمد رأيه ومجرّد عضبه، ودفاعه عن حوزة عدّته وذبّه، وكرّه في مواقف كربه، وكفايته للأمة في سلمه وحربه، وإيالته التي خصّ الأرض منها فضل خصبه، إلا أن يذكره بقلبه عند ربّه، وأن يرفع الحجب عند كلّ سؤال كما يرفع الله عند دعائه مسدل حجبه؟.
وعرضت بحضرة أمير المؤمنين مطالعة منه عن خبر باسمه الكريم مقصور على الرّغبة في خروج الأمر بتمليك جهته التي تقوم عدّتها عدّة ألف، مستخرجا بها الخطّ الشريف بإمضاء التمليك وإجازته، وتسليم الملك وحيازته.
فتلقّى أمير المؤمنين هذه الرغبة بإفراز جرى فيه من الأوامر على أفضل سنن، وتقبّلها منه بقبول حسن، وتهللت عليه لسؤاله مصابيح الطّلاقة والبشر، ونفذت (1) مواقع توقيعه ما لا تبلغه مواقع ماء المزن في البلد القفر، وشمله خطّه الشريف بما نسخته: خرج أمره إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السّجلّ بتمليك الجهة المقدّم ذكرها بجميع حدودها وحقوقها، وظاهرها وباطنها، وأعاليها وأسافلها، وكلّ حقّ لها، داخل فيها وخارج عنها، وما هو معروف بها ومنسوب إليها، تمليكا مخلّدا، وإنعاما مؤبّدا، وحقّا مؤكّدا، يجري على الأصل والفرع، ويحكم أحكام الكرم والشّرع، ماضيا لا تتعقّب حدوده بفسخ، جائزا لا تتجاوز عقوده بنسخ، موصولة أسبابه فلا تتطرّق أسباب التغيير إليها، موروثا حتّى يرث الله الأرض ومن عليها.
فليعتمد كافّة ولاة الدّواوين، ومن يليهم من المتصرّفين، حمل الأمر على موجبه، والحذر من تعدّيه وتعقّبه، وامتثال ما رسمه أمير المؤمنين وحدّه،
__________
(1) لعل الصواب «وبلغت مواقع».(13/145)
والوقوف عند أمره الذي عدم من مال فردّه، وليقرّ في يد الديوان حجّة لمودعه بعد نسخه في الدواوين بالحضرة، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني (مما كان يكتب في الإقطاعات في الزمن المتقدّم ما كان يكتب عن ملوك الشرق القائمين على خلفاء بني العبّاس)
وطريقتهم فيه أن يكتب في الابتداء: «هذا كتاب» ونحو ذلك، كما كان يكتب عن خلفاء بني العبّاس في ذلك، ثم يذكر عرض أمره على الخليفة، واستكشاف خبر ما تقع عليه المقاطعة من الدواوين، وموافقة قولهم بما ذكره في رقعته، ويذكر أنّ أمير المؤمنين وذلك السّلطان أمضيا أمر تلك المقاطعة وقرّراه.
ثم ربّما وقع تسويغ ما وجب لبيت المال لصاحب المقاطعة زيادة عليها ليكون في المعنى أنّه باشرها.
وهذه نسخة مقاطعة بضيعة كتب بها عن صمصام الدولة [بن عضد الدولة] (1) بن ركن الدولة بن بويه وهي:
هذا كتاب من صمصام الدولة، وشمس الملّة، أبي كاليجار، بن عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع، بن ركن الدّولة أبي عليّ مولى أمير المؤمنين، لمحمد بن عبد الله بن شهرام.
إنك ذكرت حال ضياعك المعروفة برسدولا والبدريّة من طسّوج نهر الملك (2)، والحظائر والحصّة بنهر قلّا من طسّوج قطربّل (3)، وما لحقها: من
__________
(1) ساقطة من الطبعة الأميرية، وهي مستدركة فيما يأتي. وصمصام الدولة هو أبو كاليجار المرزبان.
قلده الخليفة العباسي الطائع جميع الأمور فيما بلغت الدولة العباسية من جميع الممالك، وذلك سنة 372هـ. وتوفي سنة 388هـ. (أنظر معجم الأنساب والاسرات الحاكمة لزامباور: ص 322 وطبقات سلاطين الإسلام: 138وتاريخ الإسلام: 3/ 5349).
(2) نهر الملك ببغداد. قال ياقوت: كورة واسعة ببغداد بعد نهر عيسى، يقال إنه يشتمل على ثلاثمائة وستين قرية. (معجم البلدان: 5/ 324وفتوح البلدان: 332325312).
(3) قال ياقوت: وقد روي أيضا بفتح أوله وطائه أما الباء فمشددة في الروايتين وهي كلمة أعجمية:
قرية بين بغداد وعكبرا. (معجم البلدان: 4/ 371).(13/146)
اختلال الحال ونقصان الارتفاع، [واندثار] (1) المشارب، واستئجام (2)
المزارع، وطمع المجاورين، وضعف الأكرة والمزارعين، وظلم العمّال والمتصرّفين، لتطاول غيباتك عنها، وانقطاعك بالأسفار المتصلة عن استيفاء حقوقها، وإقامة عماراتها، والإنفاق على مصالحها، والانتصاف من المجاورين لها والمعاملين فيها ووصفت ما تحتاج إلى تكلّفه من الجملة الوافرة: لاحتفار أنهارها، وإحياء مواتها، واعتمال متعطّلها، وإعادة رسومها، وإطلاق البذور فيها، وابتياع العوامل لها، واختلاف الأكرة إليها.
وسألت أن تقاطع عن حقّ بيت المال فيها وجميع توابعه، وسائر لزومه، على ثلاثة آلاف درهم في كلّ سنة، معونة لك على عمارتها، وتمكينا من إعادتها إلى أفضل أحوالها، وتوسعة عليك في المعيشة منها.
فأنهينا ذلك إلى أمير المؤمنين الطائع لله، وأفضنا بحضرته فيما أنت عليه من الخلائق الحميدة، والطرائق الرّشيدة، وما لك من الخدمات القديمة والحديثة، الموجبة لأن تلحق بنظرائك من الخدم المختصّين، والحواشي المستخلصين، بإجابتك إلى ما سألت، وإسعافك بما التمست، فخرج الأمر لا زال عاليا بالرجوع في ذلك إلى كتّاب الدواوين، وعمّال هذه النّواحي، وتعرّف ما عندهم فيه مما يعود بالصّلاح، ويدعو إلى الاحتياط. فرجع إليهم فيما ذكرته وحكيته، فصدّقوك في جميعه، وشهدوا لك بصحّته، وتردّد بينك وبينهم خطاب في الارتفاع الوافر القديم، وما توجبه العبر لعدّة سنين، إلى أن استقرّ الأمر على أن توقّعت على هذه الضّياع المسمّاة في هذا الكتاب خمسة آلاف درهم ورقا مرسلا بغير كسر، ولا كفاية، ولا حقّ خزن، ولا جهبذة ولا محاسبة، ولا غير ذلك من المؤن كلّها.
__________
(1) في الأصل «واندواب» ولا معنى لها. والتصحيح من حاشية الطبعة الأميرية.
(2) أي أصبحت كالأجمة، أشجارها كثيفة ملتفّة بسبب الإهمال.(13/147)
ثم أنهينا ذلك إلى أمير المؤمنين الطائع لله، فأمر زاد الله أمره علوّا بإمضاء ذلك، على أن يكون هذا المال، وهو خمسة آلاف درهم مؤدّى في الوقت الذي تفتتح فيه المقاطعات: وهو أوّل يوم من المحرّم في كلّ سنة، على استقبال السنة الجارية، سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة الخراجية، عن الخراج في الغلّات الشّتويّة والصّيفية، والمحدثة والمبكّرة الجارية على المساحة، والحاصل من الغلّات الجارية على المقاسمة والجوالي، والمراعي، والأرحاء (1)، وسائر أبواب المال، ووجوه الجبايات وتقسيط المصالح، والحماية، مع ما يلزم ذلك من التوابع كلّها: قليلها وكثيرها، والرسوم الثابتة في الدواوين بأسرها، وعن كلّ ما أحدث ويحدث بعدها على زيادة الارتفاع ونقصانه، وتصرّف جميع حالاته: مقاطعة مقرّرة مؤبّدة، ممضاة مخلّدة، على مرور الليالي والأيّام، وتعاقب السنين والأعوام، لك ولولدك، وعقبك من بعدك، ومن عسى أن تنتقل هذه الضياع إليه بميراث، أو بيع، أو هبة، أو تمليك، أو مناقلة، أو وقف، أو إجارة، أو مباذرة، أو مزارعة أو غير ذلك من جميع الوجوه التي تنتقل الأملاك عليها، وتجري بين الناس المعاملات فيها، لا يفسخ ذلك ولا يغيّر، ولا ينقض ولا يبدّل، ولا يزال عن سبيله، ولا يحال عن جهته، ولا يعترض عليك ولا على أحد من الناس فيه ولا في شيء منه، ولا يتأوّل عليك ولا على غيرك فيه، بزيادة عمارة، ولا زكاء ريع، ولا غلوّ سعر، ولا إصلاح شرب، ولا اعتمال خراب، ولا إحياء موات، ولا بغير ذلك من سائر أسباب وفور الارتفاع ودرور الاستغلال.
وحظر مولانا أمير المؤمنين الطائع لله، وحظرنا بحظره على كتّاب الدّواوين: أصولها وأزمّتها، وعمّال النواحي، والمشرفين عليها، وجميع المتصرّفين على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، الاعتراض عليك في هذه المقاطعة، أو إيقاع ثمن أو مساحة على ما كان منها جاريا على الخراج، أو تقرير
__________
(1) جمع رحى وهي الأداة التي يطحن بها. والرحى من الأرض: المستديرة المشرفة على ما حولها.(13/148)
أو حزر (1)، أو قسمة على ما كان منها جاريا على المقاسمة، أو أن تدخلها يد مع يدك لناظر أو حاظر أو مستظهر أو معتبر أو متصفّح، إذ كان ما يظهر منها من الفضل على مرور السنين مسوّغا لك، لا تطالب به، ولا بمرفق عنه، ولا على ما ظهر عليه وعلى شيء منه، ولا يلتمس منك تجديد كتاب، ولا إحضار حجّة، ولا توقيع به ولا منشور بعد هذا الكتاب: إذ قد صار ذلك لك وفي يدك بهذه المقاطعة، وصار ما يجب من الفضل بين ما توجبه المسائح والمقاسمات وسائر وجوه الجبايات، وبين مال هذه المقاطعة المحدودة المذكورة في هذا الكتاب خارجا عمّا عليه العمّال، ويرفعه منهم المؤتمنون، ويوافق عليه المتضمّنون، على مرور الأيّام والشهور، وتعاقب السنين والدّهور فلا تقبل في ذلك نصيحة ناصح، ولا توفير موفّر، ولا سعاية ساع، ولا قذف قاذف، ولا طعن طاعن.
ولا يلزم عن إمضاء هذه المقاطعة مؤونة، ولا كلفة، ولا مصانعة، ولا مصالحة، ولا ضريبة، ولا تقسيط، ولا عمل بريد، ولا مصلحة من المصالح السلطانية، ولا حقّ حماية، ولا خفارة، ولا غير ذلك من جميع الأسباب التي يتطرّق بها عليك، ولا [على من] (2) بعدك، لزيادة على مالها المحصور المذكور في هذا الكتاب، ولا حقّ خزن ولا جهبذة، ولا محاسبة ولا مؤونة ولا زيادة.
ومتى استخرج منك شيء أو من أحد من أنسبائك، أو ممّن عسى أن تنتقل إليه هذه المقاطعة بشيء زائد عليها على سبيل الظلم والتّأوّل والتعنّت لم يكن ذلك فاسخا لعقدها، ولا مزيلا لأمرها، ولا قادحا في صحّتها، وكان لك أن تطالب بردّ المأخوذ زائدا على مالها، وكان على من ينظر في الأمور إنصافك في ذلك وردّه عليك، وكانت المقاطعة المذكورة ممضاة على تصرّف الأحوال كلّها.
ثم إنّا رأينا بعد ما أمضاه مولانا أمير المؤمنين، وأمضيناه لك من ذلك وتمامه وإحكامه ووجوبه وثبوته، أن سوّغناك هذه الخمسة آلاف درهم المؤدّاة
__________
(1) الحزر: التخمين.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(13/149)
عن هذه المقاطعة على استقبال سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة الخراجية، تسويغا مؤبّدا، ماضيا على مرّ السنين: ليكون في ذلك بعض العوض عن باقي أملاكك وضياعك التي قبضت عنك، وبعض المعونة فيما أنت متصرّف عليه من خدمتنا، ومتردّد فيه من مهمّات أمورنا وأوجبنا لك في هذا التّسويغ جميع الشروط التي تشترط في مثله، مما ثبت في هذا الكتاب ومما لم يثبت فيه:
لينحسم عنك تتبّع المتتبّعين، وتعقّب المتعقبين، وتأوّل المتأوّلين على الوجوه والأسباب.
وأمرنا متى وقع على مال هذا التّسويغ (وهو خمسة آلاف درهم) ارتجاع، بحدث يحدث عليك، أو بتعويض تعوّض عنه، أو بحال من الأحوال التي توجب ارتجاعه أن يكون أصل المقاطعة ممضى لك، ورسمها باقيا عليك وعلى من تنتقل هذه الضياع إليه بعدك، على ما خرج به أمر أمير المؤمنين في ذلك، من غير نقض ولا تأوّل فيه، ولا تغيير لرسم من رسومه، ولا تجاوز لحدّ من حدوده، على كلّ وجه وسبب.
فليعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين الطائع لله وأمره، ومن امتثالنا وإمضائنا، وليعمل عليه جماعة من وقف على هذا الكتاب: من طبقات الكتّاب، والعمّال، والمشرفين، والمتصرفين في أعمال الخراج والحماية والمصالح، وغيرهم. وليحذروا من مخالفته، وليمضوا بأسرهم لمحمد بن عبد الله بن شهرام ومن بعده جميعه، وليحملوه على ما يوجبه. وليقرّ هذا الكتاب في يده وأيديهم بعده حجة له ولهم، ولينسخ في جميع الدواوين، إن شاء الله تعالى.
الطريقة الثانية (مما كان يكتب في الإقطاعات في الزمن المتقدّم ما كان يكتب عن الملوك الأيوبيّة بالديار المصرية)
وكانوا يسمّون ما يكتب فيها تواقيع ولهم فيه أساليب:(13/150)
وكانوا يسمّون ما يكتب فيها تواقيع ولهم فيه أساليب:
الأسلوب الأوّل (أن يفتتح التوقيع المكتتب بالإقطاع بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله»)
وكان من عادة خطبهم أن يؤتى فيها بعد التحميد بالصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ثم يؤتى ببعديّة، ثم يذكر ما سنح من حال السلطان، ثم يوصف صاحب الإقطاع بما تقتضيه حاله من صفات المدح، ويرتّب على ذلك استحقاقه للإقطاع. وقد كان من عادتهم أنهم يأتون بوصية على ذلك في آخره.
وهذه نسخة توقيع على هذا الأسلوب، كتب به عن السلطان صلاح الدين «يوسف بن أيوب» رحمه الله، لأخيه العادل «أبي بكر» بإقطاع بالديار المصرية، وبلاد الشام، وبلاد الجزيرة، وديار بكر، في سنة ثمانين وخمسمائة، بعد الانفصال من حرب الكفار بعكّا وعقد الهدنة معهم وهي:
الحمد لله الذي جعل أيّامنا حسانا، وأعلى لنا يدا ولسانا، وأطاب محتدنا أوراقا وأغصانا، ورفع لمجدنا لواء ولجدّنا برهانا، وحقّق فينا قوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمََا سُلْطََاناً} (1)
نحمده على سبوغ نعمته، ونسأله أن يجعلنا من الداخلين في رحمته.
ثم نصلّي على رسوله محمد الذي أيّده بحكمته، وعصمه من الناس بعصمته، وأخرج به كلّ قلب من ظلمته، وعلى آله وأصحابه الذين خلفوه فأحسنوا الخلافة في أمّته.
أما بعد، فإن فروع الشّجرة يأوي بعضها إلى بعض لمكان قربه، ويؤثر بعضها بعضا من فضل شربه ونحن أهل بيت عرف منا وفاق القلوب ودّا، وإيثار الأيدي رفدا وذلك وإن كان من الحسنات التي يكثر فيها إثبات الأقلام، فإنه من مصالح الملك التي دلّت عليها تجارب الأيّام وكلا هذين الأمرين مشكورة مذاهبه، محمودة عواقبه، مرفوعة على رؤوس الأشهاد مناقبه وما من أحد من
__________
(1) القصص / 35.(13/151)
أدانينا إلا وقد وسمناه بعوارف يختال في ملابسها، ويسرّ في كلّ حين بزفاف عرائسها، ولم نرض في بلّ أرحامهم بمواصلة سلامها دون مواصلة برّها وإدناء مجالسها ولإخوتنا من ذلك أوفر الأقسام، كما أنّ لهم منّا رحما هو أقرب الأرحام وقد أمرنا بتجديد العارفة لأخينا الملك العادل، الأجلّ، السيد، الكبير، سيف الدين، ناصر الإسلام «أبي بكر» أبقاه الله. ولو لم نفعل ذلك قضاء لحقّ إخائه الذي ترفّ عليه حواني الأضالع، لفعلناه جزاء لذائع خدمه التي هي نعم الذّرائع فهو في لزوم آداب الخدمة بعيد وقف منها على قدم الاجتهاد وفي لحمة شوابك النّسب قريب وصل حرمة نسبه بحرمة الوداد وعنده من الغناء ما يحكم لآماله ببسطة الخيار، ويرفع مكانته عن مكانة الأشباه والأنظار، ويجعله شريكا في الملك، والشريك مساو في النقض والإمرار فكم من موقف وقفه في خدمتنا فجعل وعره سهلا، وفاز فيه بإرضائنا وبفضيلة التقدّم فانقلب بالمحبّذين إرضاء وفضلا ويكفي من ذلك ما أبلاه في لقاء العدوّ الكافر الذي استشرى في هياجه، وتمادى في لجاجه، ونزل على ساحل البحر فأطلّ عليه بمثل أمواجه، وقال: لا براح، دون استفتاح الأمر الذي عسرت معالجة رتاجه، وتلك وقائع استضأنا فيها برأيه الذي ينوب مناب الكمين في مضمره، وسيفه الذي ينسب من الاسم إلى أبيضه ومن اللّون إلى أخضره ولقد استغنينا عنهما بنضرة لقبه الذي تولّت يد الله طبع فضله، وعنيت يد السّيادة برونق صقله فهو يفري قلوب الأعداء قبل الأجساد، ويسري إليهم من غير حامل لمناط النّجاد، ويستقصي في استلابهم حتّى ينتزع من عيونهم لذّة الرقاد وليس للحديد جوهر معدنه المستخرج من زكاء الحسب، وإذا استنجد قيل له: يا ذا المعالي! كما يقال لسميّه: يا ذا الشّطب ولو أخذنا في شرح مناقبه لظلّ القلم واقفا على أعواد منبره، وامتدّ شأو القول فيه فلم ينته مورده إلى مصدره فمهما خوّلناه من العطايا فإنه يسير في جنب غنائه، ومهما أثنينا عليه فإنّه سطر في كتاب ثنائه.
وقد جعلنا له من البلاد ما هو مقتسم من الديار المصرية والشاميّة، وبلاد
الجزيرة وديار بكر: ليكون له من كلّ منها حظّ تفيض يده في أمواله، ويركب في حشد من رجاله، ويصبح وهو في كلّ جانب من جوانب ملكنا كالطّليعة في تقدّم مكانها، وكالرّبيئة (1) في إسهار أجفانها.(13/152)
وقد جعلنا له من البلاد ما هو مقتسم من الديار المصرية والشاميّة، وبلاد
الجزيرة وديار بكر: ليكون له من كلّ منها حظّ تفيض يده في أمواله، ويركب في حشد من رجاله، ويصبح وهو في كلّ جانب من جوانب ملكنا كالطّليعة في تقدّم مكانها، وكالرّبيئة (1) في إسهار أجفانها.
فليتسلّم ذلك بيد معظّم قدرا، ولا يستكثر كثرا، ويحمل منها رفدها غيثا أو بحرا وكذلك فليعدل في الرعيّة الذين هم عنده ودائع، وليجاوز بهم درجة العدل إلى إحسان الصنائع فإذا أسند هذا الأمر إلى ولاته فليكونوا تقاة لا يجد الهوى عليهم سبيلا، ولا يحمد الشيطان عندهم مقيلا، وإذا حمّلوا ثقلا لا يجدون حمله ثقيلا.
وقد فشا في هذا الزمن أخذ الرّشوة وهي سحت أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنبذه، ونهى عن أخذه، وعن الرغبة في تداوله وهو كأخذ الرّبا الذي قرنت اللّعنة بمؤكله وآكله.
وأما القضاة الذين هم للشريعة أوتاد، ولإمضاء أحكامها أجناد، ولحفظ علومها كنوز لا يتطرّق إليها النّفاد، فينبغي أن يعوّل فيهم على الواحد دون الاثنين، وأن يستعان منهم في الفصل بذي الأيدي وفي اليقظة بذي اليدين ومن رام هذا المنصب سائلا فليلمه وليغلظ القول في تجريع ملامه، وليعرف أنه ممّن رام أمرا فأخطأ الطّريق في استجلاب مرامه وأمر الحكّام لا يتولّاه من سأله، وإنما يتولّاه من غفل عنه وأغفله.
وإذا قضينا حقّ الله في هذه الوصايا فلنعطفها على ما يكون لها تابعا، ولقواعد الملك رافعا وذاك أنّ البلاد التي أضفناها إليك: فيها مدن ذات أعمال واسعة، ومعاقل [ذات] حصانة مانعة، وكلّها يفتقر إلى استخدام الفكر في تدبيره، وتصريف الزمان في تعميره فولّ وجهك إليها غير وان في تكثير قليلها، وترويض مخيلها، وبثّ الأمنة على أوساطها، وإهداء الغبطة إلى أفئدة
__________
(1) الربيئة والربيء: الطليعة الذي يرقب العدو من مكان عال لئلا يدهم قومه.(13/153)
أهلها حتّى تسمع باغتباطها وعند ذلك يتحدّث كلّ منهم بلسان الشّكور، ويتمثل بقوله تعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (1)
واعلم أنه قد يجاورك في بعضها جيران ذو بلاد وعساكر، وأسرّة ومنابر، وأوائل للمجد وأواخر وما منهم إلا من يتمسّك منّا بودّ سليم، وعهد قديم، وله مساعدة نعرف له حقّها (والحقّ يعرفه الكريم).
فكن لهؤلاء جارا يودّون جواره، ويحمدون آثاره وإن سألوك عهدا فابذله لهم بذل وفيّ واقف على السّنن، مساو بين السرّ والعلن ولا يكن وفاؤك لخوف تتّقي مراصده، ولا لرجاء ترقب فوائده فالله قد أغناك أن تكون إلى المعاهدة لاجيا، وجعلك بنا مخوفا ومرجوّا لا خائفا ولا راجيا وقد زدناك فضلة في محلك تكون بها على غيرك مفضّلا، وقد كنت من قبلها أغرّ فأوفت بك أغرّ محجّلا وذاك أنّا جعلناك على آية الخيل تقودها إلى خوض الغمار، وتصرّفها في منازل الأسفار، وترتّب قلوبها وأجنحتها على اختلاف مراتب الأطوار فنحن لا نلقى عدوّا ولا ننهد إلى بلد إلا وأنت كوكبنا الذي نهتدي بمطلعه، ومفتاحنا الذي نستفتح المغلق بيمن موقعه، ونوقن بالنصر في ذهابه وبالغنيمة في مرجعه والله يشرح لك صدرا، وييسّر لك منّا أمرا، ويشدّ أزرنا بك كما شدّ لموسى بأخيه أزرا، والسلام.
الأسلوب الثاني (أن يفتتح التوقيع بالإقطاع بلفظ: «أما بعد فإنّ كذا»)
ويذكر ما سنح له من أمر السلطان أو الإقطاع أو صاحبه، ثم يتعرّض إلى أمر الإقطاع وهو دون الأسلوب الذي قبله في الرتبة.
وهذه نسخة توقيع بإقطاع من هذا الأسلوب، كتب بها لأمير قدم على الدولة فاستخدمته وهي:
__________
(1) سبأ / 15.(13/154)
أما بعد، فإنّ لكلّ وسيلة جزاء على نسبة مكانها، وهي تتفاوت في أوقات وجوبها ومثاقيل ميزانها ومن أوجبها حقّا وسيلة الهجرة التي طوى لها الأمل من شقّته ما طوى، وبعث بها على صدق النّية «ولكلّ امريء ما نوى» فالأوطان إليها مودعة، والخطوات موسّعة، والوجوه من برد الليل وحرّ النهار ملفّعة، وقد توخّاها قوم في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحظوا في الدّنيا باعتلاء المنار، وفي الآخرة بعقبى الدار، وقدّموا على من آوى ونصر فقال تعالى: {وَالسََّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهََاجِرِينَ وَالْأَنْصََارِ} (1) ثم صارت هذه سنّة فيمن هاجر من أقوام إلى أقوام، واستبدل بأنام عن أنام وكذلك فعلت أيّها الأمير فلان وفقك الله وقد تلقّيت هجرتك هذه بالكرامة، وزخرفت لها دار الإقامة فما ابتغيت بها بغية إلا سهّلت لك فجاجها، أو عاج عليك معاجها، وحمد لديك تأويبها وإدلاجها، وأصبحت وقد وجدت خفضا غبّ السّرى، وخيطت منك الجفون على أمن الكرى، وتبوّأت كنف الدولة التي هي أمّ الدّول إذ صرت إلى القرية التي هي أمّ القرى.
ونحن قد أدنيناك منّا إدناء الخليط والعشير، ورفعناك إلى محلّ الاختصاص الذي هو المحلّ الأثير، وآخينا بينك وبين عطايانا كما ووخي بين الصّحابة النّبويّة يوم الغدير.
هذا ولك وسيلة أخرى تعدّ من حسان المناقب، وتوصف بالصّفات الأطايب وما يقال إلا أنها من الأطواد الرّواس، وأنها تبرز في اللباس الأحمر وغيرها لا يبرز في ذلك اللّباس وهي التي تجعلك بوحدتها في كثرة، وتتأمّر بها من غير إمرة وطالما أطالت يدك بمناط البيض الحداد، وفرّجت لك ضيق الكرّ وقد غصّ بهوادي الجياد، وحسّنتك العيون وقد رميت منك بشرق القذا ونبوة السّهاد ومن شرف الإقدام أن العدوّ يحبّ العدوّ من أجله، ويضطرّه إلى أن يقرّ بفضله ومذ وصلت إلينا وصلناك بأمرائنا الذين سلفت أيّامهم، وثبتت في
__________
(1) التوبة / 100.(13/155)
مقامات الغناء أقدامهم، وتوسّمنا أنك الرجل الذي يزكو لديك الصّنيع، وأنك ستشفعه بحقوق خدمتك التي هي نعم الشفيع.
وقد عجّلنا لك من الإقطاع ما لا نرضى أن تكون عليه شاكرا، وجعلناه لك أوّلا وإن كان لغيرك آخرا وهو مثبت في هذا التّوقيع بقلم الديوان الذي أقيم لفرض الجند كتابا، ولمعرفة أرزاقهم حسابا وهو كذا وكذا.
فتناول هذا التّخويل الذي خوّلته باليمين، واستمسك به استمساك الضّنين.
واعلم أنه قد كثر الحواسد لما مددناه من صنعك، وبسطناه من ذرعك فأشج حلوقهم بالسّعي لاستحقاق المزيد، وارق في درجات الصّعود وألزمهم صفحة الصّعيد.
والذي نأمرك به أن [تعدّ] (1) نفسك للخدمة التي جعلت لها قرنا وأنت بها أغنى، وأن تنتهي فيها إلى الأمد الأقصى دون الأدنى فلا تضمم جناحك إلّا على قوادم من الرجال لا على خواف، وإذا استنفرت فانفر بثقال من الخيل وخفاف، وكن مذخورا لواحدة يقال فيها: يا عزائم اغضبي، ويا خيل النّصر اركبي وتلك هي التي تتظلّم بها الجماجم من الضّراب، وتلاقى فيها عصب الغربان والذّباب ولا تحتاج مع هذه إلى منقبة تتجمّل بتفويفها، وتتكثّر بتعريفها، وتنتمي إلى تليدها باستحداث طريفها.
والله تعالى يشدّ بك أزرا، ويملأ بك عينا وصدرا، ويجعل الفلج مقرونا برأيك ورايتك حتّى يقال: «ومكروا مكرا» وجرّدنا بيضا وسمرا والسلام إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.(13/156)
الأسلوب الثالث (أن يفتتح التوقيع المكتتب بالإقطاع بما فيه معنى الشجاعة والقتال وما في معنى ذلك، وهو أدنى من الذي قبله رتبة)
وهذه نسخة توقيع بإقطاع من هذا النّمط، كتب به لبعض الأمراء الصّغار وهي:
القلم والرّمح قلمان كلاهما أسمر، وكما تشابها في المنظر فكذلك تشابها في المخبر غير أنّ هذا يركب في عسكر من القول وهذا يحمل في عسكر وقد نطق أحدهما بالثناء على أخيه فأحسن في نطقه، وأقرّ له بالفضيلة ومن الإنصاف أن يقرّ لذي الحق بحقّه غير أنّ هذه الفضيلة تعزى إلى من يقيم أود الساعي بتقويم أوده، ولا يرى لها سبيلا قصدا إلا بالوطء على قصده وهو أنت أيّها الأمير فلان، أيّدك الله!.
وقد اخترناك لخدمتنا على بصيرة، وأجريناك من اعتنائنا على أكرم وتيرة، ورفعنا درجتك فوق درجة المعلّي لمن سبقك وإنها لكبيرة.
ولم يكن هذا الاختيار إلا بعد اختبار لا يحتاج معه إلى شهادة، ولو كشف الغطاء لم يجد اليقين من زيادة (1) فطالما عجمت نبعتك، وتيمّنت طلعتك، ولم تعرض سلعة الغناء إلا نفقت سلعتك ومثلك من تباهي الرجال بمكانه، وتخلّي له فضلة عنانه، ويتّسع ميدان القول في وصفه إذا ضاق بغيره سعة ميدانه وما يقال إلا أنّك الرجل الذي تقذف الجانب المهمّ بعزمك، وترمي برأيك قبل رماء سهمك، وبك يحسر دجى الحرب الذي أعوزه الصّباح، ويحمى عقابها أن يحصّ (2) له جناح فأسباب الاعتضاد بك إذن كثيرة الأعداد، وأنت الواحد المشار إليه ولا تكثر إلا مناقب الآحاد.
__________
(1) مأخوذ من قول الإمام علي: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت إيمانا».
(2) أي يقصّ له جناح.(13/157)
وقد بدأناك من العطاء بما يكون ببسم الله في صدر الكتاب، وجعلناه كالغمامة التي تأتي أوّلا بالقطار ثم تأخذ في الانسكاب وخير العطاء ما ربّ بعد ميلاده، وأينع ثمره بعد جداده وإن صادف ذلك وسائل خدم مستأنفة كان لها قرانا، وصادف الإحسان منه إحسانا وقد ضمن الله تعالى للشّاكر من عباده مزيدا، ولم يرض له بأن يكون مبدئا حتّى يكون معيدا وكذلك دأبه فيمن عرف مواقع نعمه، وعلم أن صحّتها لا تفارقه ما لم يعدها بسقمه.
ونحن أولى من أخذ بهذا الأدب الكريم، وألزم نفسه أن تتحلّى بخلقه وإنه للخلق العظيم وعطاؤنا المنعم به عليك لم يذكر في هذا التوقيع على حكم الامتنان، بل إثباتا لحساب الجند الذين هم أعوان الدّولة ولا بدّ من إحصاء الأعوان وهو كذا وكذا.
فامدد له يدا تجمع [مع] (1) الشّكر مواظبة، [ومع] (2) الطّاعة مراقبة، وكن في التّأهّب للخدمة كالسّهم الموضوع في وتره، وأصخ بسمعك وبصرك إلى ما تؤمر به فلا ائتمار لمن لم يصخ بسمعه وبصره.
وملاك ذلك كلّه أن تتكثر من فرسان الغوار، وحماة الذّمار، والذين هم زينة سلّم ومفزع حذار ومثل هؤلاء لا يضمّهم جيش إلا تقدّمه جيش من الرّعب، ودارت منه الحرب على قطبها ولا تدور رحّى إلا على قطب وإذا ساروا خلف رايتك نشرت ذوائبها على غابة من الآساد، وخفقت على بحر من الحديد يسير به طود من الجياد.
ومن أهمّ الوصايا إليك أن تضيف إلى غنائهم غنى يبرزهم في زهرة من اللّباس، ويعينهم على إعداد القوّة ليوم الباس، ويقصّر لديهم شقّة الأسفار التي تذهب بنزقات الشّماس، وينقطع دون قطعها طول الأنفاس وأيّ فائدة في عسكر يأخذ بعد المسرى في حوره، ولا يزيد صبره بزيادة سفره، ويكون حافره وخفّه سواء في انتساب كلّ منهما إلى شدّة حجره.
__________
(1) في الأصل «من» في الموضعين.
(2) في الأصل «من» في الموضعين.(13/158)
فانظر إلى هذه الوصية نظر من طال على صحبه بالكفّ الأوسع، وعلم ما يضرّ فيهم وما ينفع والله يمنحك من لدنه توفيقا، ويسلك بك إلى الحسنى طريقا، ويجعلك خليقا بما يصلحك وليس كلّ أحد بصلاحه خليقا، والسلام.
الطرف الثاني (ما يكتب في الإقطاعات في زماننا)
وهو على ضربين:
الضرب الأوّل (ما يكتب قبل أن ينقل إلى ديوان الإنشاء)
وفيه جملتان:
الجملة الأولى في ابتداء ما يكتب في ذلك من ديوان الجيش.
اعلم أنّ مظنّة الإقطاعات هو ديوان الجيش دون ديوان الإنشاء وما يكتب فيه من ديوان الإنشاء هو فرع ما يكتب من ديوان الجيش.
ثم أوّل ما يكتب من ديوان الجيش في أمر الإقطاع إما مثال، وإما قصّة، وإما نزول (1)
فأما المثال، فإنه يكتب ناظر الجيش في نصف قائمة شاميّ، بعد ترك الثلثين من أعلاها بياضا، في الجدول الأيمن من القائمة ما صورته:
«خبز فلان المتوفّى إلى رحمة الله تعالى» أو «المرسوم ارتجاعه» أو «المنتقل لغيره» ونحو ذلك. ويكون «خبز» سطرا، وباقي الكلام تحته سطرا.
وتحت ذلك ما صورته: «عبرة كذا وكذا دينارا» بالقلم القبطي. وفي الجدول الأيسر ما صورته:
«باسم فلان الفلانيّ» وإن كان زيادة عيّن ثم يشمله الخط الشريف
__________
(1) أي إشهاد بنزول، كما يؤخذ من التفصيل الآتي.(13/159)
السلطاني بما مثاله: «يكتب» ثم يكتب تحته ناظر الجيش ما مثاله: «يمتثل المرسوم الشريف» ويعيّنه على من يختاره من كتّاب الجيش، ثم يترك بعد ذلك بديوان النظر ويكتب تاريخه بخطّ كاتب ناظر الجيش بذيل المثال، ويخلّده الكاتب المعيّن عليه، ويكتب بذلك مربّعة (1) على ما سيأتي ذكره.
وأما القصص فتختلف بحسب الحال: فتارة ينهى فيها وفاة من كان بيده الإقطاع، وتارة انتقاله عنه، وتارة ارتجاعه، وتارة طلب إعادة ما خرج عنه، وتارة طلب تجديد، ونحو ذلك.
ويكتب ناظر الجيش على حاشيتها بالكشف. ويكتب الكشف بذيل ظاهرها من ديوان الجيش بما مثاله:
«رافعها فلان أنهى ما هو كذا وكذا، وسأل كذا وكذا» ويذكر حال الإقطاع. ثم يشملها الخطّ الشريف السلطاني بما مثاله: «يكتب». وباقي الأمر على ما تقدّم في ذكر المثال.
وأما الإشهادات فتكون تارة بالنزول، وتارة بالمقايضة وربّما وقع ذلك بالشركة، ثم يكتب ناظر الجيش على ظاهر الإشهاد بالكشف، ويعمل فيه على ما تقدّم في القصّة.
الجملة الثانية في صورة ما يكتب في المربّعة الجيشية.
قد جرت عادة ديوان الجيش أنه إذا عيّن ناظر الجيش المثال أو القصة أو الإشهاد على أحد من كتّاب ديوان الجيش، يخلّد الكاتب ذلك عنده، ثم تكتب به مربّعة من ديوان الجيش وتكمّل بالخطوط على ما تقدّم، وتجهّز إلى ديوان الإنشاء، فيعيّنها كاتب السّرّ على من يكتب بها منشورا على ما سيأتي.
وصورة المربّعة أن يكتب في ورقة مربّعة، يجعل أعلى ظاهر الورقة الأولى
__________
(1) سمّيت بذلك لأنها مربعة الشكل.(13/160)
منها بياضا، ويكتب في ذيلها معترضا: آخذا من جهة أسفل المربعة إلى أعلاها أسطرا قصيرة على قدر عرض ثلاثة أصابع ما صورته:
«مثال شريف شرّفه الله تعالى وعظمه بما رسم به الآن: من الإقطاع» باسم من عين فيه من الأمراء أو من المماليك السلطانية بالديار المصرية، أو بالمملكة الفلانية، أو من الحلقة المصرية أو الشامية، أو نحو ذلك «على ما شرح فيه حسب الأمر الشريف شرّفه الله تعالى وعظمه».
وتحت ذلك كلّه ما صورته:
«يحتاج [إلى الخط] (1) الشريف أعلاه الله تعالى».
ثم يكتب داخل تلك الورقة بعد إخلاء هامش عرض إصبعين البسملة، وتحتها في سطر ملاصق لها: «المرسوم بالأمر الشريف العاليّ، المولوي، السلطانيّ» ثم ينزل إلى قدر ثلثي الصفحة، ويكتب في السّطر الثاني بعد البياض الذي تركه على مسامتة السّطر الأول: «الملكيّ الفلانيّ الفلانيّ» بلقب السلطنة: كالناصريّ، ولقب السلطان الخاص كالزّينيّ «أعلاه الله تعالى وشرّفه، وأنفذه وصرّفه، أن يقطع من يذكر: من رجال الحلقة بالدّيار المصرية أو المملكة الشامية أو نحو ذلك، ما رسم له به الآن في الإقطاع، حسب الأمر الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه».
ثم يكتب في الصفحة الثانية مقابل البسملة: «فلان الدّين فلان الفلانيّ، المرسوم إثباته في جملة رجال الحلقة المنصورة بالديار المصرية أو الشامية، بمقتضى المثال الشّريف أو المربّعة الشريفة المشمولة بالخط الشريف». ثم يكتب تحت السّطر الأخير في الوسط ما صورته: «في السنة كربستا» إن كان جميع البلد أو البلاد المقطعة لا يستثنى منها شيء، أو يكتب: «خارجا عن الملك والوقف» أو نحو ذلك «على ما يقتضيه الحقّ».
__________
(1) بياض في الأصل. والزيادة من المقام.(13/161)
ثم يكتب تحت ذلك على حيال السّطور ممتدّا من أوّل السّطر إلى آخره:
«خبز».
ثم يكتب تحته: «فلان بن فلان الفلانيّ، بحكم وفاته، أو بحكم نزوله برضاه» ونحو ذلك على عادته ناحية كذا. ناحية كذا. ناحية كذا.
وإن كان فيه نقد ونحوه ذكره، ويستوفي ذلك إلى آخر: «بعد الخط الشريف شرفه الله تعالى إن شاء الله تعالى».
ثم يؤرّخ في سطرين قصيرين ويحضر إلى صاحب ديوان الإنشاء، فيعيّنه على من يكتبه من كتّاب الإنشاء، على ما سيأتي بيانه.
الضرب الثاني (فيما يكتب في الإقطاعات من ديوان الإنشاء وفيه خمس جمل)
الجملة الأولى (في ذكر اسم ما يكتب في الإقطاعات من ديوان الإنشاء)
قد اصطلح كتّاب الزمان على تسمية جميع ما يكتب في الإقطاعات: من عاليها ودانيها، للأمراء والجند والعربان والتّركمان وغيرهم مناشير جمع منشور. والمنشور في أصل اللّغة خلاف المطويّ. ومنه قوله تعالى: {وَكِتََابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} (1)
واعلم أن تخصيص ما يكتب في الإقطاعات باسم المناشير مما حدث الاصطلاح عليه في الدولة التّركية.
أما في الزّمن المتقدّم فقد كانوا يطلقون اسم المناشير على ما هو أعمّ من ذلك: مما لا يحتاج إلى ختم: كالمكتوب بالإقطاع على ما تقدّم، والمكتوب
__________
(1) الطور / 2.(13/162)
بالولاية، والمكتوب بالحماية، وما يجري مجرى ذلك. وربّما سمّي ما يكتب في الإقطاع مقاطعة، وربما سمّي سجلّا وغير ذلك.
أما الآن فإذا أطلقت المناشير لا يفهم منها إلا ما يكتب في الإقطاعات خاصّة وخصّوا كلّ واحد مما عداها باسمه، على ما هو مذكور في مواضعه دون ما عداها ولا مشاحّة في الاصطلاح بعد فهم المعنى.
قلت: ومن خاصّة المناشير أنّها لا تكتب إلا عن السلطان مشمولة بخطّه، وليس لغيره الآن فيها تصرّف، إلّا ما يكتب فيه النائب الكافل (1) ابتداء.
الجملة الثانية (في بيان أصناف المناشير
، وما يخصّ كلّ صنف منها: من مقادير قطع الورق، وما يختصّ بكلّ صنف منها من طبقات الأمراء والجند) اعلم أنّ المناشير المصطلح عليها في زماننا على أربعة أصناف: يختصّ بكلّ صنف منها مقدار من مقادير قطع الورق.
الصّنف الأوّل ما يكتب في قطع الثّلثين وهو لأعلى المراتب من الأمراء.
قال في «التعريف» (2): ومن كان مؤهّلا لأن يكتب له تقليد كان منشوره من نوعه ومن دون ذلك إلى أدنى الرّتب.
قال في «التثقيف» (3): وفي قطع الثّلثين يكتب لمقدّمي الألوف بالديار المصرية، سواء كان من أولاد السلطان أو الخاصكية (4) أو غيرهم، وكذلك جميع
__________
(1) عرّفه القلقشندي بأنه «سلطان مختصر، بل هو السلطان الثاني».
(2) «التعريف بالمصطلح الشريف» لابن فضل الله العمري.
(3) «تثقيف التعريف» لابن ناظر الجيش.
(4) هم الذين يلازمون السلطان في خلواته ويجهزون في المهمات الشريفة. (مصطلحات صبح الأعشى: 114).(13/163)
النوّاب الأكابر بالممالك الإسلامية، والمقدّمون بدمشق. وكلّ من له تقليد في قطع الثلثين يكون منشوره في قطع الثلثين.
الصنف الثاني ما يكتب في قطع النّصف.
قال في «التثقيف»: وفيه يكتب لأمراء الطّبلخانات (1) بمصر والشام، سواء في ذلك الخاصكيّة وغيرهم. وكذلك الأمراء المقدّمون من نوّاب القلاع الشامية.
وفي معناهم المقدّمون بحلب وغيرها: من نوّاب القلاع وغيرهم.
الصنف الثالث ما يكتب في قطع الثلث.
قال في «التثقيف»: وفيه يكتب لأمراء العشرات مطلقا بسائر الممالك، يعني مصر والممالك الشامية بجملتها. قال: وكذلك الطّبلخانات من التّركمان والأكراد بالممالك الإسلامية.
الصنف الرابع ما يكتب في قطع العادة المنصوريّ.
قال في «التثقيف»: وفيه يكتب للمماليك السّلطانية، ومقدّمي الحلقة، ورجال الحلقة. إلا أنه يختلف الحال بين المماليك السلطانية، ومقدّمي الحلقة، وبين رجال الحلقة بزيادة أوصال الطّرّة، والإتيان بالدّعاء المناسب: يعني أنه يترك في طرّة مناشير المماليك السلطانية ثلاثة أوصال بياضا، وفي مناشير رجال الحلقة وصلان.
قلت: ولا فرق في ذلك بين حلقة مصر وغيرها من المماليك الشاميّة.
الجملة الثالثة (في بيان صورة ما يكتب في المناشير في الطّرّة والمتن)
قال في «التثقيف»: إن كان المنشور في قطع الثّلثين، كتب في طرّته من يمين الورق بغير هامش ما صورته:
__________
(1) أي أمراء الأربعين.(13/164)
«منشور شريف بأن يجري في إقطاعات المقرّ الكريم» أو «الجناب الكريم العاليّ الأميريّ الكبيريّ» وإن كان نائبا زيد بعدها: «الكافليّ الفلانيّ» يعني بلقبه الخاصّ «فلان الفلانيّ» بلقب الإضافة إلى لقب السلطان: كالناصريّ ونحوه. ثم الدعاء بما جرت به عادته دعوة واحدة «ما رسم له به الآن من الإقطاع» ويشرح ما تضمّنته المربّعة إلى آخره، فمن ذلك جميعه سطران بقلم الثلث.
قال: والأحسن أن يكون آخر السطر الثاني الدعاء، والتتمة بالقلم الرّقاع أسطرا قصارا بهامش من الجانبين، ثم يكتب في الوسط سطرا واحدا بالقلم الغليظ: «والعدّة» وتحته بالقلم الدقيق «خاصته، ومائة طواشيّ (1) أو تسعون طواشيّا أو ثمانون طواشيّا أو سبعون طواشيّا» حسب ما يكون في المربّعة. ويترك ثلاثة أوصال بياضا بما فيه من وصل الطّرّة ثم تكتب البسملة في أوّل الوصل الرابع، وبعدها خطبة مفتتحة بالحمد، ويكمّل بما يناسبه، ثم يقال: «أما بعد» ويذكر ما ينبغي ذكره على نحو ما تقدّم في التقاليد.
قال في «التعريف»: إلا أن المناشير أخصر، ولا وصايا فيها.
قال في «التثقيف»: ثم يذكر بعد ذلك اسمه بأن يقول: «ولمّا كان الجناب» وبقية الألقاب والنعوت والدّعاء ولا يزاد على دعوة واحدة «هو المراد بهذه المدح، والمخصوص بهذه المنح» أو نحو ذلك «اقتضى حسن الرّأي الشريف أن نخوّله بمزيد النعم».
وإن كان المنشور في قطع النّصف كتب على ما تقدّم، إلا أنه لا يقال: «أن يجرى في إقطاعات». بل إن كان مقدّما بحلب أو غيرها أو طبلخاناه خاصكيّا، أو كان من أولاد السّلطان، كتب: «أن يجري في إقطاع المجلس العاليّ أو
__________
(1) الطواشيّ: الخصي. والجمع طواشية. وهو من المصطلحات التي دخلت العربية عن التركية الشرقية، وشاعت إبان حكم الأتراك العثمانيين. أما اصطلاح الطواشية فلم يشع إلا في عصر السلاطين المماليك مع أن الخصاء واستخدام الخصيان في القصور كان معروفا وشائعا في جميع العصور. (الأعلاق الخطيرة 3/ 927حاشية).(13/165)
الساميّ». وإن كان طبلخاناه ممّن عدا هؤلاء كتب «منشور شريف بما رسم به من الإقطاع للمجلس السامي» والتّتمة على حكم ما تقدّم من غير فرق.
وأما ما يكتب في قطع الثلث فيكتب: «منشور شريف بما رسم به من الإقطاع لمجلس الأمير».
وأما التجديدات فيكتب في طرّتها: «منشور شريف رسم بتجديده باسم فلان بن فلان الفلاني، بما هو مستقرّ بيده من الإقطاع الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت» ويشرح حسب ما تضمنته المربّعة، ثم يقال: «على ما شرح فيه».
وأما الزيادات والتّعويضات، فقال في «التعريف»: إذا رسم للأمير بزيادة أو تعويض: فإن كان من ذوي الألوف: كالنّوّاب الأكابر، ومقدّمي الألوف بمصر والشام، كتب له في قطع الطّرّة على العادة، وبعد البسملة: «خرج الأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ، الفلانيّ، ويدعى له بما يناسب الحال «أن يجرى في إقطاعات المقرّ الفلانيّ أو الجناب الفلانيّ».
وفي التّتمة نظير ما تقدّم في المناشير المفتتحة بالخطبة، على ما تقدّم بيانه.
والذي ذكره في «التعريف»: أنه يكتب في ذلك لمقدمي الألوف أو من قاربهم: «أما بعد حمد الله».
وإن كان من أمراء الطبلخاناه الصغار فمن دونهم حتّى جند الحلقة، كتب له في قطع العادة: «خرج الأمر الشريف».
قال في «التثقيف»: وكذلك الزيادات والتعاويض، سواء في ذلك كبيرهم وصغيرهم. قال: ويمكن أن يميّز أمير آل فضل فيكتب له ذلك في قطع الثلث. قال في «التعريف»: أما إذا انتقل الأمير من إقطاع إلى غيره، فإنه يكتب له كأنّه مبتدأ على ما تقدّم أوّلا.
واعلم أنه لم تجر العادة بأن تكتب في أعلى الطرّة إشارة إلى العلامة السلطانية، كما يكتب في الولايات الاسم الشريف في أعلى الطّرّة. قال في «التثقيف»: والسبب فيه أنّ العلامة لا تخرج عن أحد ثلاثة أمور: إما الاسم
الشريف مفردا، كما في الأمثلة السلطانية إلى من جرت العادة أن تكون العلامة له الاسم الشريف، وما (1) يتعلّق بالتقاليد والتواقيع والمراسيم الشريفة، وأوراق الطريق، أو يضاف إلى الاسم الشريف والده، أو أخوه، وذلك ممّا يتعلق بالأمثلة الشريفة خاصة إلى من جرت عادته بأن تكون العلامة إليه كذلك، وذلك بخلاف المناشير: فإنّ العلامة فيها على ما جرت به العوائد، أن يكتب السلطان: «الله أملي» أو «الله وليّي» أو «الله حسبي» أو «الملك لله» أو «المنّة لله وحده» لا يختلف في ذلك أعلى ولا أدنى فلا يحتاج إلى إشارة بسببها ينبه عليها، لأن ترك الإشارة إليها دليل عليها، وإشارة إليها، كما ذكر النحاة علامات الاسم والفعل ولم يذكروا للحرف علامة، فصار ترك العلامة إليها علامة، بخلاف الأمثلة: فإنها تختلف: فتكون العلامة فيها تارة «الاسم»، وتارة «أخوه»، وتارة «والده».(13/166)
واعلم أنه لم تجر العادة بأن تكتب في أعلى الطرّة إشارة إلى العلامة السلطانية، كما يكتب في الولايات الاسم الشريف في أعلى الطّرّة. قال في «التثقيف»: والسبب فيه أنّ العلامة لا تخرج عن أحد ثلاثة أمور: إما الاسم
الشريف مفردا، كما في الأمثلة السلطانية إلى من جرت العادة أن تكون العلامة له الاسم الشريف، وما (1) يتعلّق بالتقاليد والتواقيع والمراسيم الشريفة، وأوراق الطريق، أو يضاف إلى الاسم الشريف والده، أو أخوه، وذلك ممّا يتعلق بالأمثلة الشريفة خاصة إلى من جرت عادته بأن تكون العلامة إليه كذلك، وذلك بخلاف المناشير: فإنّ العلامة فيها على ما جرت به العوائد، أن يكتب السلطان: «الله أملي» أو «الله وليّي» أو «الله حسبي» أو «الملك لله» أو «المنّة لله وحده» لا يختلف في ذلك أعلى ولا أدنى فلا يحتاج إلى إشارة بسببها ينبه عليها، لأن ترك الإشارة إليها دليل عليها، وإشارة إليها، كما ذكر النحاة علامات الاسم والفعل ولم يذكروا للحرف علامة، فصار ترك العلامة إليها علامة، بخلاف الأمثلة: فإنها تختلف: فتكون العلامة فيها تارة «الاسم»، وتارة «أخوه»، وتارة «والده».
الجملة الرابعة (في الطّغرى (2) التي تكون بين الطّرّة المكتتبة في أعلى المنشور وبين البسملة)
قال في «التعريف»: قد جرت العادة أن تكتب للمناشير الكبار كمقدّمي الألوف والطبلخانات طغرى بالألقاب السلطانية ولها رجل مفرد بعملها وتحصيلها بالدّيوان. فإذا كتب الكاتب منشورا أخذ من تلك الطّغراوات واحدا، وألصقها فيما كتب به. قال في «التعريف»: وتكون فوق وصل بياض فوق البسملة.
قال في «التثقيف»: فبعد وصلين أو ثلاثة من الطّرّة.
قلت: ولم تزل هذه الطّغرى مستعملة في المناشير إلى آخر الدولة الأشرفيّة «شعبان بن حسين» (3) ثم تركت بعد ذلك ورفض استعمالها وأهملت. ولا يخفى أنه يرد عليها السّؤال الوارد على الطّغرى المكتتبة في أوّل المكاتبات إلى سائر ملوك الكفر من تقديم اسم السلطان على البسملة، على ما تقدّم بيانه في موضعه.
__________
(1) لعله «وذلك مما يتعلق» على نحو ما سيأتي.
(2) الطغرى والطغراة: كلمة أعجمية استعملها العرب. وتجمع على طغراوات.
(3) قتل سنة 878هـ.(13/167)
وقد تقدّم الاحتجاج لذلك بقوله تعالى في قصّة بلقيس: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتََابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمََانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} (1) وأنه يحتمل أن يكون قوله: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمََانَ} حكاية عن قول بلقيس، ويكون {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} هو أوّل الكتاب، فلا يكون في ذلك حجة على تقدّم الاسم على البسملة. وأنه إنما يتّجه الاحتجاج بذلك على القول بأنّ قوله: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمََانَ} من كلام سليمان عليه السّلام، وأنه إنما قدّم اسمه على البسملة وقاية لاسم الله تعالى، من حيث إنه كان عادة ملوك الكفر أنهم إذا لم يرضوا كتابا مزّقوه أو تفلوا فيه، فجعل اسمه حالّا محلّ الوقاية. ولا شكّ أنّ مثل ذلك لا يجيء هنا، لأن المحذور فيه مفقود، من حيث إنّ هذه المناشير إنما تلقى إلى المسلمين القائمين بتعظيم البسملة والموفين لها حقّها. وحينئذ فيكون لترك استعمالها وجه ظاهر من جهة الشرع، بخلاف ما في المكاتبات إلى ملوك الكفر.
واعلم أن هذه الطّغراوات تختلف تركيباتها باعتبار كثرة منتصباتها من الحروف وقلّتها، باعتبار كثرة آباء ذلك السلطان وقلّتهم ويحتاج واضعها إلى مراعاة ذلك باعتبار قلّة منتصبات الكلام وكثرتها. فإن كانت قليلة أتي بالمنتصبات كما سيأتي بيانه بقلم جليل مبسوط، كمختصر الطّومار ونحوه، لتملأ على قلّتها فضاء الورق من قطع الثلثين أو النّصف. وإن كانت كثيرة أتي بالمنتصبات بقلم أدقّ من ذلك، كجليل الثّلث ونحوه اكتفاء بكثرة المنتصبات عن بسطها.
ثم تختلف الحال في طول المنتصبات وقصرها باعتبار قطع الورق: فتكون منتصباتها في قطع النّصف دون منتصباتها في قطع الثلثين.
ثم قد اصطلح واضعوها على أن يجعلوا لها هامشا أبيض من كلّ من الجانبين بقدر إصبعين مطبوقين، وطرّة من أعلى الوصل قدر ثلاثة أصابع مطبوقة.
ثم إن كانت في قطع النصف جعلت منتصباتها مع تصوير الحروف بأسفلها
__________
(1) النمل / 3029.(13/168)
في الطول بقدر (1) ذراع، وفي العرض بقدر (2). ذراع.
وإن كانت في قطع الثلثين جعل طولها مقدار (3). ذراع، وعرضها مقدار (4). ذراع. ثم تارة تكون منتصبات محضة يقتصر فيها من اسم السلطان على ما هو مذكور من اسمه واسم أبيه، وتارة يجعل اسم السلطان واسم أبيه بأعالي المنتصبات في الوسط بقلم الطّومار قاطعا ومقطوعا، بحيث يكون ما بين أعلى الاسم وآخر أعلى المنتصبات قدر أربعة أصابع أو خمسة أصابع مطبوقة.
ثم إذا ألصق الكاتب الطّغرى، كتب بأسفلها في بقية وصلها في الوسط، بعد إخلاء قدر إبهام بياضا ما صورته: «خلّد الله سلطانه».
وهذه صورة طغرى منشور بألقاب السلطان الملك الناصر «محمد بن قلاوون» مضمونها:
«السلطان الملك الناصر، ناصر الدّنيا والدّين، محمد ابن السلطان الشهيد الملك المنصور، سيف الدين قلاوون».
وعدد منتصباتها من الألف وما في معناها خمسة وثلاثون منتصبا بقلم النّصف، وهو بقدر قلم الثلث الثقيل وقدر نصفه.
وترتيب منتصباتها [منتصبان] (5) متقاربان بينهما بياض لطيف بقدر مرود دقيق، ثم منتصب يحفّه بياضان، كلّ منهما أعرض من المنتصب الأسود بيسير.
وبعد ذلك منتصبان متقاربان بينهما على ما تقدّم. وكذلك إلى آخر المنتصبات، فتختتم بمنتصبين مزدوجين، كما افتتحت بمنتصبين مزدوجين، على ما اقتضاه تحرير التقسيم، وهي في طول نصف ذراع بذراع القماش القاهريّ مع زيادة نحو نصف قيراط، وعرض مثل ذلك. وتحتها في الوسط بقلم الثلث الجليل بعد خلوّ عرض إصبع بياضا ما صورته: «خلّد الله سلطانه» وهي هذه:
__________
(1) بياض في الأصل.
(2) بياض في الأصل.
(3) بياض في الأصل.
(4) بياض في الأصل.
(5) الزيادة يقتضيها السياق.(13/169)
وهذه نسخة طغرى منشور أيضا بألقاب السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن قلاوون، مضمونها:
«السلطان الملك الأشرف ناصر الدنيا والدين ابن الملك الأمجد ابن السلطان الملك الناصر ابن الملك المنصور قلاوون».
وعدد منتصباتها من الألفات وما في معناها خمسة وأربعون منتصبا، بقلم جليل الثّلث، بين كلّ منتصبين قدر منتصب مرّتين بياضا، وطولها ثلث ذراع وربع ذراع بالذراع المقدّم ذكره، وعرضها كذلك واسم السلطان بأعاليها بقلم الطّومار بالحبر قاطع ومقطوع كما أشار إليه في «التعريف».
مثاله: شعبان بن حسين الشين والعين والباء والألف سطر، والنون من شعبان وابن سطر مركب فوق الشين والعين، وحسين سطر مركب فوق ذلك وطول ألف شعبان تقدير سدس ذراع، وقد قطعت النون الألف وخرجت عنها بقدر
يسير، وأوّل الاسم بعد المنتصب السادس عشر من المنتصبات، وآخر النون من حسين البارزة عن ألف شعبان إلى جهة اليسار بعدها أحد عشر منتصبا من جهة اليسار وهي هكذا:(13/170)
مثاله: شعبان بن حسين الشين والعين والباء والألف سطر، والنون من شعبان وابن سطر مركب فوق الشين والعين، وحسين سطر مركب فوق ذلك وطول ألف شعبان تقدير سدس ذراع، وقد قطعت النون الألف وخرجت عنها بقدر
يسير، وأوّل الاسم بعد المنتصب السادس عشر من المنتصبات، وآخر النون من حسين البارزة عن ألف شعبان إلى جهة اليسار بعدها أحد عشر منتصبا من جهة اليسار وهي هكذا:
الجملة الخامسة (في ذكر طرف من نسخ المناشير التي تكتب في الإقطاعات في زماننا)
قد تقدّم الكلام في الجملة الثالثة على صورة ما يكتب في المناشير وما تفتتح به وذكر ترتيبها، واختلاف حالها باختلاف حال مراتب أصحابها صعودا وهبوطا، فأغنى عن ذكر إعادته هنا.
واعلم أن الأحسن بالمناشير أن تكون مبتكرة الإنشاء، ليراعى فيها حال المكتوب له في براعة الاستهلال وغيرها من المناسبات والمطابقات فإن تعذّر ذلك فالأحسن أن تكون براعة الاستهلال منقولة في الإسم والكنية واللّقب ونحوها
ليكون ذلك أقرب إلى الغرض المطلوب فإن تعذّر ذلك فينبغي أن تكون براعة الاستهلال قاصرة على معنى الإقطاع وما ينجرّ إليه من ذكر كرم السلطان ومنّه وإحسانه إلى أخصّائه، وما ينخرط في هذا السّلك.(13/171)
واعلم أن الأحسن بالمناشير أن تكون مبتكرة الإنشاء، ليراعى فيها حال المكتوب له في براعة الاستهلال وغيرها من المناسبات والمطابقات فإن تعذّر ذلك فالأحسن أن تكون براعة الاستهلال منقولة في الإسم والكنية واللّقب ونحوها
ليكون ذلك أقرب إلى الغرض المطلوب فإن تعذّر ذلك فينبغي أن تكون براعة الاستهلال قاصرة على معنى الإقطاع وما ينجرّ إليه من ذكر كرم السلطان ومنّه وإحسانه إلى أخصّائه، وما ينخرط في هذا السّلك.
ثم نسخ المناشير على ثلاثة أنواع:
النوع الأوّل (ما يفتتح ب «الحمد لله»، وهو على ثلاثة أضرب)
الضرب الأوّل (مناشير أولاد الملوك)
وهذه نسخ مناشير من ذلك:
نسخة منشور، كتب به عن الملك المنصور قلاوون لابنه الناصر محمد في سلطنة أبيه المذكور، من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر وهي:
الحمد لله الذي زيّن سماء الملك بأنور كوكب بزغ، وأعزّ ملك نبغ، وأشرف سلطان بلغ إلى ما بلغ ذوو الاكتهال من اختيار شرف الخلال وما بلغ.
نحمده حمدا تزيد به النعماء وتنمي، وتهمل به الآلاء وتهمي، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة من كلّ ريب، واقصة (1) كلّ عيب، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي بعثه الله تعالى بمكارم الأخلاق، ومعاداة ذوي النّفاق، وساوى بين الصّغير والكبير من أولي الاستحقاق، في الإرفاد والإرفاق، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما رقّ نسيم وراق، وما خصفت أوراق.
وبعد، فإن الهواتف أبين ما تشدو، إذا حفّت الرياض بها من كلّ جانب، والسماء أحسن ما تبدو، إذا تزيّنت بالكواكب السيّارة والشّهب الثّواقب، والسعادة
__________
(1) وقص الشيء: كسره.(13/172)
أحمد ما تحدو، إذا خصّصت بمن إليه، وإلّا ما تشدّ الركائب، وعليه، وإلا ما تثني الحقائق والحقائب ومن هو للملك فلذة كبده، ونور مقلته وساعد يده، ومن تتيمّن السلطنة بملاحظة جبينه الوضي، وتستنير بالأنور المضي، ومن تغضب الدنيا لغضبه وتزهى إذا رضي، ومن نشأ في روض الملك من خير أصل زكيّ، وفاحت أزاهره بأعطر أرج وأطيب نشر ذكيّ، وطلع في سماء السّلطنة نجما ما للنيّرين ما له من الإضاءة، ويزيد عليهما بحسن الوضاءة، ومن تشوّف النصر له من مهده، وتشوّق الظّفر إلى أنه يكون من جنده، واستبشرت السلطنة بأن صار لها منه فرع باسق، وعقد متناسق، وزند وار وجناح وارف، وفخار تليد وعزّ طارف، وطرفان معلمان تنشر فيهما المطارف.
ولهذه المحاسن التي تشرئبّ إلى قصدها آمال الخلائق المنتجعة اقتضى حسن البرّ الوصول، وشرف الإقبال والقبول، أن خرج الأمر العاليّ لا برحت مراسمه متزينة زينة السماء بكواكبها، ومزاحمة سمك السّماك بمناكبها أن يجرى في ديوان الجناب العاليّ المولويّ، الملكيّ، الناصريّ
قلت: كما أنّ هذا المنشور منشور سلطان فهو في البلاغة لحسن إنشائه سلطان المناشير.
الضرب الثاني (من نسخ المناشير المفتتحة بالحمد مناشير الأمراء مقدّمي الألوف)
وهذه نسخ مناشير منها:
نسخة منشور، كتب به للأمير بدر الدين بيدرا (1)، أستادار الملك المنصور قلاوون، من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله وهي:
__________
(1) هو بيدرا بن عبد الله التركي المنصوري. قتله الأمير زين الدين كتبغا والأمراء. والأستادار من أمراء المئين يشرف على الواردات الخاصة بالسلطان المملوكي ويشرف على كل من بالقصر من خدم المطبخ والشرابخاناه والغلمان. (تشريف الأيام والعصور: 270وتأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي: 1413).(13/173)
الحمد لله الذي جعل بدر الدين تماما على الّذي أحسن، وإماما تقتدي النجوم منه بالضّياء الأبين والنّور الأزين، ونظاما يجمع من شمل الذّرى ما يغدو به حماه الأحمى وجنابه الأصون.
نحمده حمد من أعلى صوته وصيته أعلن، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تغدو وتبدو عند الذّبّ وفي القلب مكانها الأمكن، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ونبيّه الذي أوهى الله به بناء الشّرك وأوهن، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ورضي عمّن آمن به وعمّن أمّن.
وبعد، فإنّ خير النّعماء ما أتي به على التّدريج، وأتى كما يأتي الغيث بالقطر والقطر لإنبات كل زوج بهيج، وأقبل كما تقبل الزيادة بعد الزيادة فبينا يقال: هذا خليج يمدّه البحر إذ يقال: هذا بحر يستمدّ منه كلّ خليج، وبينا يقال: هذا الأمير، إذ يقال: هذا الممير، وبينا يقال: هذا الهلال، إذ يقال: هذا هو البدر المنير.
ولمّا كان فلان من هذه الدّولة بموضع الغرّة من الجبين، وسكان الرّاحة من اليمين، وله سوابق خدمة لا يزاحمه أحد في طرق طروقها، ولا تستكثر له زيادة بالنسبة إلى موجبات حقوقها وهو من التّقوى بالمحلّ الأسمى، على غيره من الطّرّاق، والمكان الأحمى، الذي مكانه منه وإن كان أمير مجلس (1) صدر الرّواق، وله الكرامات التي ترى الخدود لها صعر، وكم سقت من سمّ العداة دافة الذّعر، وكم قابل نوره نارا فصارت بردا وسلاما، وتكلّم على خاطر فشاهد الناس منه شيخا من حيث الشبيبة أجلّ الله قدره غلاما فهو المجاهد للكفّار، وهو المتهجّد في الأسحار، وهو حاكم الفقراء وإن كان سلطانه جعله أستاذ الدّار وهو صاحب العصا التي أصبح بحملها مضافة إلى السّيف يتشرّف، ومعجزها لا يستكثر له أنها لكلّ حيّة تتلقّف، وهو الذي تحمد الكشوف والسّيوف فتوحه وفتحه، والذي يشكر يده عنان كلّ سابح وزمام كلّ سبحة وكم أسال بيديه من دماء الأعداء ماء
__________
(1) من عمله أن يتولى أمر مجلس السلطان.(13/174)
جرى، وعمل بين يديه للفقراء ما جرى، وكم وليّ لله خفي شخصه فأظهر محضه فقال الوليّ: وما أدري درا لولا بيدرا اقتضى حسن الرأي الشريف أن يجمّل إحسان الدولة القاهرة له عملا، وأن يحسن له علّا ونهلا، وأن يختار له إذ هو صاحب العصا كما اختار موسى قومه سبعين رجلا.
وخرج الأمر العاليّ لا زال ظلّه ظليلا، بامتداد الفيء بعد الفيء، وعطاؤه جزيلا، بتنويل الشيء بعد الشيء وهو ذو الكرم والكرامات، وصاحب العصا بالأستادارية، ولا يستكثر لصاحبها سحر الحيّات.
وهذه نسخة منشور من ذلك لمن لقبه سيف الدّين، من إنشاء المقرّ الشهابيّ بن فضل الله (1) وهي:
الحمد لله الذي جرّد في دولتنا القاهرة سيفا ماضيا، ووفّق من جعل فعله لمزيد النّعم متقاضيا، وأسعد بإقبالنا الشريف من أصبح به سلطانه مرضيّا وعيشه راضيا.
نحمده على نعمه التي تسرّ مواليا وتسوء معاديا، وتقدّم من أوليائنا من يقوم مقامنا إذا سمع مناديا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة كم أروت في موارد الوريد من الرّماح صاديا، وأورت هاديا، ورفعت من أعيان الأعلام هاديا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أنزل القرآن بصفاته حاليا، وأحلّنا ببركة المشاركة في اسمه المحمّديّ مكانا عاليا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا يبرح كلّ لسان لها تاليا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ صدقاتنا الشريفة لم تزل تجدّد إنعاما، وتزيد إكراما، وتضاعف لكلّ من أضحى ناصرنا بحقيقة ولائه إجلالا وإعظاما، ليترقّى إلى أعلى الدّرج،
__________
(1) صاحب «التعريف بالمصطلح الشريف» و «مسالك الأبصار» المتوفى سنة 748هـ. (الألقاب الإسلامية: 44).(13/175)
ويعلم أنه قد ورد البحر فيحدّث عن كرمه ولا حرج، ومن رأى التقرّب إلى الله تعالى بمراضينا الشريفة فتقرّب إليها، وأقبل بقلب مخلص عليها، وأشبه البدور في مواقفه توسّما، وحكى السّيف بارق ثغره لمّا أومض في حومة الحرب متقسّما، وأقدم حين لم يجد بدّا أن يكون مقدّما، ووصفت الطّعنات التي أطلعت أسنّتها الكواكب بها درّيّة، والحملات التي تقرّ العدا لفعلاتها أنها بهادريّة كم له من محاسن، وكم عرفت له من مكامن، وكم له من صفات كالعقود يصدق بها من قال: الرجال معادن كم له من همّة تترقّى به إلى المعالي، كم له من عزمة يروى حديثها المسند عن العوالي كم به أمور تناط، وكم جمهور يحاط كم له من احتفاء واحتفال، وكم له من قبول وإقبال، وكم له من وثبات وثبات، وكم له من صفات وصفات، وكم له إماتة كماة كم له من مناقب تصبح وتمسي، وكم له من معارف لمّا علم بها ملكه خلّد الله ملكه {قََالَ الْمَلِكُ: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} (1)
فلذلك لا تزال آراؤنا العالية تعقد له في كلّ وقت راية، وتسعى به إلى أبعد غاية، وتتبع له عناية بعد عناية، حتى لا تخلو دولتنا الشريفة من سيف مشهور، وعلم منشور، وبطل لا يردّ عن الصّميم تصميما، ولا تعدّ أكابر الأمراء إلا ويكون على العساكر مقدّما وعلى الجيوش زعيما: ليعلم كلّ مأمور وأمير، وكلّ مماثل ونظير، أنّ حسن نظرنا الشريف يضاعف لمن تقرّب إلينا بالطاعة إحسانا، ويوجب على من وجد الميسور بهذا المنشور امتنانا: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ وَيَزْدََادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمََاناً} (2)
ولمّا كان فلان هو المعنيّ بهذه المقاصد، والمخصوص بهذه الممادح والمحامد، والواحد الذي ما قدّم على الألف إلّا وكالألف ذلك الواحد.
__________
(1) يوسف / 54.
(2) المدثر / 31وهي جزء من الآية المذكورة.(13/176)
فلذلك خرج الأمر الشريف لا زالت أيّامه موصولة الخلود، موسومة بمزايا الجود أن يجرى في إقطاعه
وهذه نسخة منشور من ذلك لمن لقبه «شمس الدين» كتب به في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» وهي:
الحمد لله الذي جعل دولتنا القاهرة مطلع كلّ قمر منير، ومجمع كلّ مأمور وأمير، وموقع كلّ سحاب يظهر به البرق في وجه السّحاب المطير، الذي شرّف بنا الأقدار، وزاد الاقتدار، وجعل ممالكنا الشريفة سماء تشرق فيها الشّموس والأقمار.
نحمده على نعمه التي تختال أولياؤنا بها في ملابسها، وتختصّ بنفائسها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نجرّد سيف الدّين لإقامتها، ونحافظ بوقائعه في الحرب على إدامتها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي خصّه بمزيّة التقريب، وشرفه على الأنبياء بالمكان القريب، صلّى الله عليه وعلى آله الذين عظّمهم بقربه، وكرّمهم بحبّه، وقدّمهم في السّلف الصّالح إذا جاء كلّ ملك بأتباعه وكلّ ملك بصحبه، وسلّم.
وبعد، فإن أولى الأولياء أن تشمله صدقاتنا الشريفة بحسن نظرنا الشريف، وبرفعة قدره المنيف، ليتمّ له إحسانها، ويزيد إمكانها، حتّى ينتقل هلاله إلى أكمل مراتب البدور، ويمتدّ بحصنه المستظلّ به كثير من الجمهور، ويتقدّم في أيّامنا الشريفة إلى الغاية التي يرجوها، ويقدّم قدمه إلى مكانة أمثاله التي حلّوها، وتتكمّل بنا نعمة الله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللََّهِ لََا تُحْصُوهََا} (1) الناصريّ بحقيقة ولائه، البهادريّ (2) شجاعة في لقائه، من تكفّلت صدقاتنا العميمة له بما لم يكن
__________
(1) النحل / 18.
(2) نسبة إلى «بهادر» وهي كلمة تركية مغولية الأصل مأخوذة من «بخاتر» ويقابلها «باتور» في اللغة الجغتائية. والمعنى الأصلي لبهادر هو الشجاع أو المقدام، ثم أصبحت لقبا يطلق للتشريف في بلاط المغول. (دائرة المعارف الإسلامية: 8/ 219).(13/177)
في أمله، وجمّلت حمايتنا الشريفة معاطفه بأبهى مما ينسجه الربيع من حلله، وتوسّمنا فيه من معرفة تقرّب إلى مراضينا الشريفة بها دريّا، وهمّة جرّدنا بها منه سيفا بهادريّا، وطلعة أطلعت منه بالبهاء كوكبا درّيّا، مع ما تخوّل فيه من نعمنا الشريفة، وقام به في أبوابنا العالية من أحسن القيام في كلّ وظيفة.
ولما كان فلان هو الذي أشرنا إليه، ونبّهنا مقل النجوم عليه، فاقتضت آراؤنا الشريفة أن نبلّغه أقصى رتب السعادة، ونعجّل له بحظّ الذين أحسنوا الحسنى وزيادة، ليعدّ في أكابر أمراء دولتنا الشريفة إذا ذكروا، والمقدّمين على جيوشنا المنصورة إذا بادروا إلى مهمّ شريف أو ابتدروا، ليعلم كلّ أحد كيف يجازى كلّ شكور، وكيف يتحلّى بنعمنا الشريفة كلّ سيف مشهور، وكيف نذكر واحدا منهم فيغدو في زعماء العساكر المؤيّدة وهو مذكور، ليبذلوا في خدمة أبوابنا الشريفة جهدهم، ويتوكّلوا على الله تعالى ثم على صدقاتنا العميمة التي تحقّق قصدهم.
فلذلك خرج الأمر الشريف
وهذه نسخة منشور من ذلك، كتب به في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» لمن لقبه «بدر الدين» وهي:
الحمد لله الذي زيّن أفق هذه الدّولة القاهرة ببدرها، وسيّرة في درج أوجها ونصرها، ونقّله في بروج إشراقها ومنازل فخرها.
نحمده على نعمه المنهلّة ببرّها، المتهلّلة ببشرها، المتزيّدة كلّما زدنا في حمدها وشكرها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنطق بها القلوب في سرّها وجهرها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى الأمم
بأسرها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تملأ الوجود بأجرها، وتضمن لأمّتها النّجاة يوم حشرها.(13/178)
نحمده على نعمه المنهلّة ببرّها، المتهلّلة ببشرها، المتزيّدة كلّما زدنا في حمدها وشكرها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنطق بها القلوب في سرّها وجهرها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى الأمم
بأسرها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تملأ الوجود بأجرها، وتضمن لأمّتها النّجاة يوم حشرها.
وبعد، فإنّ أولى من تنعّمت النّعمى بتواليها عليه ومرّها، وخير من استقرّت الخيرات عنده في مستقرّها، وأعلى من عمّمته ألسنة الأقلام ببدائع نظمها ونثرها، وخصّصته بمحامد تتأرّج المناشير بنشرها من كان للدولة القاهرة يشرح صدرها، بتيسير أمرها، ويشدّ أزرها، بحمل وزرها، ويتكفّل بأداء فرائض إتمامها ونصرها، ويوصّل حمل ما يفتحه من الحصون الضّيّقة إلى مصرها.
ولما كان فلان هو بدر هذه السماء ومنير زهرها، ونيّر نجوم هذه المقاصد ومبتدأ فخرها، وفريدة عقد هذه القلائد ويتيمة درّها، وصاحب هذه الألغاز ومفتاح سرّها اقتضت الآراء الشريفة أن تزفّ إليه عرائس العوارف، ما بين عوانها وبكرها، وترفّ عليه نفائس اللّطائف، ما بين شفعها ووترها، وتتهادى إليه الهدايا ما بين صفرها وحمرها، وتتوالى عليه الآلاء ما بين ثمرها وزهرها، وأن تزاد عدّته المباركة في كمّيّتها وقدرها، وأن تكمّل عشراته التّسع بعشرها، ليعلم أنه لا يبرح في خلدها وسرّها، وأنها لا تخليه ساعة من سعيد فكرها.
فلذلك خرج الأمر العاليّ لا زالت الأقدار تخصّ دولته القاهرة بإطابة ذكرها، وإطالة عمرها، ولا برحت الأملاك كفيلة بنصرها، بمضاء بيضها وإعمال سمرها أن يجري
وهذه نسخة منشور من ذلك كتب به في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» لمن لقبه «صلاح الدين»، وهي:
الحمد لله الذي أتحف الممالك الشريفة من سعيد تدبيرنا، بصلاحها، وصرف حميد تأثيرنا، بإنجاب الأولياء وإنجاحها، وأسعف طوامح أمانيّهم: من اقترابهم من خواطرنا الشريفة في بعدهم وتدانيهم بإجابة سؤالها وإصابة اقتراحها.
نحمده على أن جعل نصر دولتنا الشريفة قريبا من نصّاحها، ونشكره على أن
وصل أراجيّهم بإرباحها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تحسن المآل والعاقبة لذوي الإخلاص كما أحسنت في ابتدائها وافتتاحها، ويؤذن حسن اعتنائها لأحوال أولي الاختصاص بإصلاحها، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي عمّت مواهبه، بإبراق سمائها وإغداق سماحها، وسمت مناقبه، بائتلاق غررها وإشراق أوضاحها، وأمّت مواكبه، ديار العدا فشدّت عليهم مشهور قراعها ومنصور كفاحها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين أصابت أكفّهم في السّلم بمسعفات أقلامها وصالت أيديهم في الحرب بمرهفات رماحها، ما جرت الأقدار بمتاحها، وسرت المبارّ لممتاحها، وظهرت آثار الإقبال التامّ على من له بخدمتنا اهتمام واحتفال فلاح على مقاصده معهود فلاحها، وسلّم تسليما كثيرا.(13/179)
نحمده على أن جعل نصر دولتنا الشريفة قريبا من نصّاحها، ونشكره على أن
وصل أراجيّهم بإرباحها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تحسن المآل والعاقبة لذوي الإخلاص كما أحسنت في ابتدائها وافتتاحها، ويؤذن حسن اعتنائها لأحوال أولي الاختصاص بإصلاحها، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي عمّت مواهبه، بإبراق سمائها وإغداق سماحها، وسمت مناقبه، بائتلاق غررها وإشراق أوضاحها، وأمّت مواكبه، ديار العدا فشدّت عليهم مشهور قراعها ومنصور كفاحها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين أصابت أكفّهم في السّلم بمسعفات أقلامها وصالت أيديهم في الحرب بمرهفات رماحها، ما جرت الأقدار بمتاحها، وسرت المبارّ لممتاحها، وظهرت آثار الإقبال التامّ على من له بخدمتنا اهتمام واحتفال فلاح على مقاصده معهود فلاحها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من لمحه نظرنا الشريف حيث كان، ورجّحه فكرنا الحسن الجميل فمنحه الإجمال والإحسان، من لم يزل شكره أرجا بكلّ مكان، وذكره بهجا تسري به الركائب وتسير به الرّكبان، وصدره الرحيب مستودع الأسرار فلا تصاب إذ كانت فيه تصان، وقدره عندنا المحفوظ المكانة، فإن بعد فهو قريب دان، وأمره منّا الملحوظ بالإعانة، فلا نزال نوليه البرّ ونعلي له الشّان.
ولما كان فلان
وهذه نسخة منشور، كتب به للأمير سعد الدين مسعود بن الخطيري، من إنشاء الشريف شهاب الدين كاتب الإنشاء وهو:
الحمد لله على نعمه التي زادت سعودا، وضاعفت صعودا، وكرّمت في أيّامنا من لا حاجب له عن أن نمنحه من إنعامنا مزيدا، وقدّمت بين أيدينا الشريفة من أوليائنا من غدا قدره عندنا خطيرا وحظّه لدينا مسعودا.
نحمده على أن أنجز لأصفيائنا من وفائنا وعودا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تحمد لمخلصها صدورا وورودا، وتلقى مؤمنها بالبشر إذا جمع الموقف وفودا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي شرّف بإنجاده مطرودا،
وأردف بالملائكة جنودا، وأوصل به حقوقا وأقام حدودا، وحجب ببركاته وفتكاته الأسواء فغدا العدل موجودا، وأضحى الحكم مقصودا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ما منهم إلا من كان بالمؤمنين رحيما وعلى المشركين شديدا.(13/180)
نحمده على أن أنجز لأصفيائنا من وفائنا وعودا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تحمد لمخلصها صدورا وورودا، وتلقى مؤمنها بالبشر إذا جمع الموقف وفودا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي شرّف بإنجاده مطرودا،
وأردف بالملائكة جنودا، وأوصل به حقوقا وأقام حدودا، وحجب ببركاته وفتكاته الأسواء فغدا العدل موجودا، وأضحى الحكم مقصودا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ما منهم إلا من كان بالمؤمنين رحيما وعلى المشركين شديدا.
أما بعد، فنعمنا إذا أولت وليّا، منحها والت، وإذا قدّمت صفيّا، وهبته مزيدها وأنالت، وإذا أقبلت بوجه إقبالها على مخلص تتابعت إليه المسرّات وانثالت، لا سيّما من أطابت الألسنة الثناء عليه وأطالت، وجبلت سجاياه على العدل والمعرفة فما حافت ولا مالت، وأوصلت رأفته منّا المستضعفين وعلى المجرمين سطوته صالت فبيمن مقاصده هانت الخطوب وإن كانت فتكاته في الحروب كم هالت، وهممه في السّلم قد جلّت ويوم الرّوع كم جالت، وعزائمه كم غارت فأغارت وللمعتدين كم غالت، وكم سبق إلى خدمتنا صاحب الشمس وكيف لا وهو البدر ولكنه لم يزل وإن هي زالت.
وكان فلان هو الذي نقّلناه في درجات التّقديم حتّى كمل بدره، ووقّلناه في مراتب التّكريم حتّى أصبح وهو المسعود حظّه المحمود ذكره، وخوّلناه مواهب جودنا العميمة فاستدّ (1) باعه واشتدّ أزره.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برح إنعامه يجلّ عن الحصر، ودولته يخدمها العزّ والنّصر، وإكرامه يقضي بمسرّات الأولياء بالجمع ويفضي إلى أعمار الأعداء بالقصر
وهذه نسخة منشور، كتب به لعلاء الدين إيدغمش أمير آخور (2) الناصريّ
__________
(1) استدّ: استقام وانتظم.
(2) من الفارسية «آخور» بمعنى المعلف أو المذود ثم أطلقت على الإسطبل. وقد عرف صاحب هذه الوظيفة عند سلاجقة الروم باسمين: «أمير آخور» و «كند إصطبل» وأمير الآخور عند المماليك هو الناظر في أمور الإسطبلات والمناخات السلطانية ورئيس العاملين بها. وأهم هؤلاء العاملين هو المسؤول عن الأعلاف والمسمى «السلاخور». (تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي: 11).(13/181)
[كتب به في الدولة الناصرية] (1) محمد بن قلاوون، من إنشاء الشريف وهو:
الحمد لله الذي زاد علاء دولتنا الشريفة، وأفاد النّعماء التامّة من قام بين أيدينا أتمّ قيام في أتمّ وظيفة، وأجاد الآلاء المتوالية بمن أعنّة الجياد بإشارته مصرّفة ومنّة الجود بسفارته مصروفة، وأراد الاصطفاء لأعزّ همام: في قلوب الأولياء له محبّة وفي قلوب الأعداء منه خيفة، وأباد أولي العناد بفتكاته التي بها الغوائل مكفيّة والطّوائل مكفوفة، وشاد الملك الأعزّ بإرفاد وليّ له الشجاعة المشكورة والطاعة المعروفة.
نحمده على أن جعل اختياراتنا بالتّسديد محفوظة وبالتأييد محفوفة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة السّرائر لإخلاصها ألوفة، والضّمائر على اختصاصها معطوفة، ونشهد أنّ سيدّنا محمدا عبده ورسوله الذي نسله من النّبعة المنيفة وأرسله بالشّرعة الحنيفة، وفضّله بالرّفعة على ظهر البراق إلى السّبع الطّباق وجنود الأملاك به مطيفة، صلّى الله عليه وعلى آله ذوي الهمم العليّة والشّيم العفيفة، ورضي الله عن أصحابه الذين لو أنفق أحد مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه، صلاة تبيّض بالأجور الصّحيفة وتعوّض بالوفور من مبرّاتنا الجليلة بفكرتنا الجميلة اللطيفة، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فكرمنا يسبغ المواهب والمنائح، ونعمنا تبلّغ المآرب والمناجح، فلا نبرح ننقل في درجات الصّعود من هو في خدمتنا لا يبارح، ويتكفّل صالح نظرنا الشريف صلاح حال من أجمل النصائح وأثّل المصالح، فكم راض لنا من جامح، وخاض بحر الوغى على ظهر سابح، وحمى رواق الإسلام من رعبه بذبّ ورمى أعناق الكفّار من عضبه بذابح، وأصمى المقاتل بكل نابل يستجنّ في الجوانح، وانتمى إلى سعادة سلطاننا الناصر الفاتح، وسما عزم إعلائه بتقريبه وإدنائه إلى السّماك الرامح. طالما مسّ الكفّار الضّرّ إذ مسّاهم بالعاديات الضّوابح (2)، وأحسّ
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) كناية عن الخيل. وضبحت الخيل في عدوها: أسمعت من أفواهها صوتا ليس بصهيل ولا حمحمة.
وفي التنزيل العزيز: {وَالْعََادِيََاتِ ضَبْحاً، فَالْمُورِيََاتِ قَدْحاً}: العاديات / 1.(13/182)
كلّ منهم بالدّمار لما ظنّ أنه لحربه يكابد ولحزبه يكافح، وصبّحهم بإغاراته على الموريات قدحا (1) فأغرى بهم الخطوب الفوادح، وطرحهم بالفتكات إلى الهلكات فصافحت [رقابهم] (2) رقاب الصّفائح، وأخلى من أهل الشّرك المسارب والمسارح، وأجلى أهل الإفك عن المطارد والمطارح.
ولمّا كان فلان هو الذي استثار إليه شأن هذه المدائح، وسار بذكره وشكره كلّ غاد ورائح.
خرج الأمر الشريف لا برح سبيل هداه الواضح، وجزيل نداه يغدو كالغوادي بالعائد والبادي من فضله وهو الناصح،
وهذه نسخة منشور، كتب به للأمير شمس الدين سنقر البكتوتي الشهير بالمسّاح وهي:
الحمد لله الذي أجزل المواهب، وجدّد من النّعم ما لا تزال الألسنة تتحدّث عن بحرها بالعجائب، وأطلع في أفق الدولة الشريفة شمسا تستمدّ من أنوارها الكواكب.
نحمده على نعم يتوالى درّها توالي السحائب، ويغالى درّها عن أن تطوّق (3) به الأذنان والتّرائب، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تختصّ قائلها من درجات القبول والإقبال بأسمى الدّرجات وأسنى المراتب، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي اصطفاه من لؤيّ بن غالب، وصان ببعثته الشريفة رداء النّسك عن كلّ جاذب، وخصّه بأشرف المواهب، وصيّر الإيمان بنور
__________
(1) الموريات قدحا: الخيول التي توري النار بحوافرها عند ما تضرب بها حجارة الأرض والإيراء هو إخراج النار.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.
(3) في حاشية الطبعة الأميرية: «المراد بالتطويق هنا مطلق التحلية. وكان الأولى: أن تقرط به الأذنان وتطوق به الأعناق وتحلّى به الترائب».(13/183)
هدايته واضح السّبل والمذاهب، صلى الله عليه وعلى آله وصخبه صلاة لا يمضي جزء من الدّهر إلا ووجودها فيه وجود الفرض الرّاتب، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أحقّ من حلّي من النّعماء بأفضل العقود، وخصّ بأضفى ملابس الإقبال وأصفى مناهل الإفضال: فاستعذب من هذه الورود، واختال من هذه في أجمل البرود، ومنح من الإقبال بكلّ غادية تخجل السحاب إذ يجود، وإن رقمت بها الأقلام سطورا في طروس أزرت بالزّهر اليانع والرّوض المجود، ونقل قدره من منزل عزّ إلى منزل أعزّ فكان كالشّمس تنتقّل في منازل الشّرف والسّعود من ظهرت مكارم سماته، واشتهرت محاسن صفاته، وطلعت في سماء العجاج نجوم خرصانه ولمعت في دجى النّقع بروق ظباته (1)، وقدّم على الجيوش والجحافل فظهرت نتائج التأييد والتّسديد من تقدّمه وتقدماته، وهزم جيوش الأعداء، في مواقف الهيجاء بثبات أقدامه في إقدامه ووثباته، وتجرّد في المهمّات والملمّات تجرّد الماضيين: من سيوفه وعزماته.
ولما كان فلان هو الموصوف بهذه الأوصاف الجليلة، والمنعوت بهذه المحاسن الجميلة، والمشار إليه بهذه المحامد والممادح التي تزهو على زهر الكواكب، وتسمو بما له من جميل المآثر والمناقب أوجب له الاختيار المزيد، وقضى له الامتنان بتخويله نعما وتنويله مننا: تضحي هذه عقدا في كلّ جيد، وتمسي هذه مقرّبة له من الآمال كلّ بعيد واقتضى حسن الرّأي الشريف أن يمنح بهذا المنشور، ليخصّ من الأولياء بالسعد الجديد والجدّ السعيد.
فلذلك خرج الأمر الشريف
__________
(1) الظبات: جمع ظبة وهو حدّ السيف والسنان والخنجر وما أشبه. والخرصان: الرماح.(13/184)
وهذه نسخة منشور، كتب به للأمير خاص (1) ترك في الرّوك (2) الناصريّ وهي:
الحمد لله على نعمه التي سرت إلى الأولياء ركائبها، وهمت على رياض الأصفياء سحائبها، وتوالت إلى من أخلص في الطاعة بغرائب الاحسان رغائبها، وتكفّلت لمن خصّ بأسنى رتب البرّ الحسان مكارمها العميمة ومواهبها، وغمرت بحار كرمها الزاخرة من يحدّث عن شجاعته ولا حرج كما يحدّث عن البحور التي لا تفنى عجائبها.
نحمده على نعمه التي إذا أغبّتنا سحائب النّدى أعقبت سحائب، وخصّت الخواصّ من درج الامتنان بمراتب تزاحمها الكواكب على نهر المجرّة بالمناكب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا يزال الجهاد يرفع ألويتها، والجلاد يعمر بوفود الإخلاص أنديتها، والإيمان يشيّد في الآفاق أركانها الموطّدة وأبنيتها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أيده الله بنصره، وخصّه بمزيّة التّقدّم على الأنبياء مع تأخّر عصره، وآتاه من المعجزات ما تكلّ ألسنة الأقلام عن إحصائه وحصره، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حاطوا دينه بالمحافظة على جهاد أعدائه، وأيّدوا ملّته بإعادة حكم الجلاد في سبيل الله وإبدائه، صلاة لا يزال الإيمان يقيم فرضها، والإيقان يملأ طول البسيطة وعرضها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى من ضوعفت له النّعم، ووطّدت له الرّتب التي لا تدرك غاياتها إلا بسوابق الخدم، وأشرقت به مطالع السّعود، وحقّقت له مطالب الاعتلاء والصّعود، ورفعته مواقع الإحسان إلى أسنى المراتب التي هو مليّ بارتقائها، وتولّت له هوامع البرّ والامتنان انتقاء فرائد النّعم التي هو حقيق باختيارها
__________
(1) أي من الأمراء الخاصكية وقد تقدّم التعريف بهم ص 163حاشية (4).
(2) الرّوك: مسح أرض الزراعة في بلد من البلدان لتقدير قيمة الخراج المستحق عليها لبيت المال. (مصطلحات صبح الأعشى: 165والمقريزي: 1/ 8887).(13/185)
وانتقائها، وبلّغته العناية بأجلّ مما مضى قدرا، واستقبلته الرعاية من أفق الإقبال بما إذا حقّق التأمّل وجد هلاله بدرا من ربّي في ظلّ خدمتنا التي هي منشأ الآساد، ومربى فرسان الجهاد، وعرين ليوث الوغى التي آجامها عوالي الصّعاد، وبراثنها مواضي السّيوف الحداد، وفرائسها كماة أهل الكفر وحماة أرباب العناد فكم له في الجهاد من مواقف أعزّت الدّين، وأذلّت المعتدين، وزلزلت أقدام الأبطال، وزحزحت ذوي الإقدام عن مواقف المجال، وحكّمت صفاته (1) في القمم، وأنبتت صفاحه في منابت الهمم، وفرّقت ما لأهل الكفر من صفوف، وأرتهم كيف تعدّ ألوف الرجال بالآحاد وآحادها بالألوف.
ولما كان فلان هو الذي أشير إلى مناقبه، ونبّه على شهرة إقدامه في كل موقف يمن عواقبه، وأوميء إلى خصائص أوصافه التي ما زال النصر يلحظها في مشاهد الجهاد بعين ملاحظه ومراقبه اقتضت آراؤنا الشريفة أن نجدّد اعتلاء مجده، ونزيد في أفق الارتقاء إضاءة إقباله وإنارة سعده.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا زال الخ.
وهذه نسخة منشور كتب به في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون لجمال الدّين أقوش الأشرفي (2)، المعروف بنائب الكرك عند خروجه من الجبّ وهي:
الحمد لله مفرّح القلوب، ومفرّج الكروب، ومبهج النفوس بذهاب غياهب الخطوب، ومبلّغ من تقادم عهده في حفظ ولائنا نهاية المرغوب، وغاية المطلوب، الذي أعاد إلى المخلصين في طاعتنا النعمة بعد شرودها، وعوّضهم عن تقطيب الأيّام بابتسامها وعن خمولها بسعودها، وألقى على الأول منهم جمالا لا يسع الأذهان أن تّتصف بإنكار حقوقه وجحودها.
__________
(1) الصفاة: الحجر العريض الأملس.
(2) هو أقوش (أو أقش) بن عبد الله الأشرفي المتوفى سنة 736هـ. (الجوهر الثمين: 2/ 123).(13/186)
نحمده على ما وهبنا من الأناة والحلم، وخصّ به دولتنا من المهابة التي تخشى يوم الحرب والمواهب التي ترجى يوم السّلم، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تكفّلت بالنجاة لقائلها، وأغنت من حافظ عليها عن ضراعات النّفوس ووسائلها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث برعاية الذّمم، والمنعوت بحسن الرأفة التي هي شعار أهل الوفاء والكرم، [صلى الله عليه] وعلى آله وصحبه ما تلافت الأقدار نفوسا من العدم، وتوافت الأمانيّ والمناجح فأظفرت من أخلص نيّته الجميلة بردّ ضالّة النّعم، صلاة تضفي على الأولياء حلل القبول والرضا، وتصفي من الأكدار مناهل سرورهم فكأنّ الخطب أبرق وأومض فمضى، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من انتظمت بعد الشّتات عقود مسارّه، وابتسمت بعد القطوب ثغور مبارّه، واشتملت عواطفنا عليه فجلبت أسباب منافعه وسلبت جلباب مضارّه، واحتفلت عوارفنا بالملاحظة لعهده الوثيق العرا، والمحافظة على سالف خدمته التي ما كان صدق ولائها حديثا يفترى، وسبق له من الاختصاص في الإخلاص ما يرفعه من خاطرنا مكانة عالية الذّرا من أضحى من السابقين الأوّلين في الطاعة، والباذلين في أداء الخدمة والنّصيحة لدولتنا جهد الاستطاعة، والمالكين للمماليك بحسن الخلّة وجميل الاعتزام، والمحافظين على تشييد قواعد الملك بآرائه وراياته التي لا تسامى ولا تسام، وأمسى هو الوليّ الذي لا يشاركه أحد في إخلاص الضمير في موالاتنا وصفاء النّيّة، ولا يساهمه وليّ فيما اشتمل عليه من صدق التعبّد وجميل الطّويّة، المخلص الذي انفرد بخصائص الحقوق السابقة والآنفة، وامتاز بموجبات خدم لا تجحد محافظتها التالدة والطارفة، وطلعت شمس سعادته في سماء مملكتنا فلم يشبها الغروب، وأضاء بدره في أفق عزّه فكان سراره (1) مذهبا لأعين الخطوب.
ولما كان فلان الخ.
__________
(1) سرار الشهر: آخر ليلة فيه.(13/187)
الضرب الثالث مما يفتتح بالحمد مناشير أمراء الطبلخاناه.
وقد تقدّم أنّها كمناشير مقدّمي الألوف في الترتيب إلا أنها أخصر منها.
وهذه نسخ مناشير من ذلك:
نسخة منشور كتب به لبعض الأمراء وهي:
الحمد لله رافع الأقدار، ومجزل المبارّ، وجاعل يمين كرمنا مبسوطة باليسار.
نحمده على غيث فضله الدّارّ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة سرّت الأسرار، وأذهب نورها ما كان للشرك من سرار، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أنجد له في نصر الحق وأغار، وأرهف من سيف النّصر الغرار، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من كان ثاني اثنين في الغار، ومنهم من سبقت له دعوة سيد المرسلين من سالف الأقدار، ومنهم من كرّم الله وجهه فكان له من أعظم الأنصار.
وبعد، فإنّ العطايا أيسر ما يكون تنويلها، وأسرّ ما يلفى تخويلها، إذا وجدت من هو لرايتها متلقّيا، وفي ذرا الطاعة مترقّيا، ومن إذا صدحت حمائم التأييد كانت رماحه الأغصان، وألويته الأفنان، ومن تردّى ثياب الموت حمرا فما يأتي لها الليل إلا وهي بالشهادة مخضرّة من سندس الجنان، وإذا شهر عضبه، أرضى ربّه، وإذا هزّ رمحه، حمى سرحه، وإذا أطلق سهما، قتل شهما، وإذا جرّد حساما، كان حسّاما، وإذا سافرت عزائمه لتطلب نصرا، حلّت سيوفه فجاءت بالأوجال جمعا وبالآجال قصرا.
ولما كان فلان هو الذي جمع هذه المناقب الجمّة، وامتاز بالصّرامة وعلوّ الهمّة، استحقّ أن ينظر إليه بعين العناية، وأن يجعل ابتداؤه في الإمرة دالّا على أسعد نهاية.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا زال يرفع الأقدار، ويجزل المبارّ، أن يجرى في إقطاع الخ.(13/188)
ولما كان فلان هو الذي جمع هذه المناقب الجمّة، وامتاز بالصّرامة وعلوّ الهمّة، استحقّ أن ينظر إليه بعين العناية، وأن يجعل ابتداؤه في الإمرة دالّا على أسعد نهاية.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا زال يرفع الأقدار، ويجزل المبارّ، أن يجرى في إقطاع الخ.
وهذه نسخة منشور لمن لقبه زين الدين وهي:
الحمد لله الذي وهب هذه الدولة من أوليائها أحسن زين، ومنحها منهم من يشكر السيف والعنان منه اليدين، ومن يملأ ولاؤه القلب وثناؤه السّمع وبهاؤه العين.
نحمده على نعمه التي نفت عن نور الملك كلّ شيء من شين، وأبقت له من كماته وحماته من لا في إخلاصه ريب ولا في محافظته مين (1)، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة متبرّي من اتخاذ إلهين اثنين، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله شهادة متمسّك من هذه وهذه بعروتين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة دائمة ما جمع المسافر من الصلوات بين الأختين، وما جلس خطيب بين خطبتين، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ خير من رقى خطيبه إلى أرفع رتبة، وأنجح في تخويل النّعم على كل طلبة ورغبة، لا بل أهديت إليه عرائس النّعماء وقد ابتدأت هي بالخطبة، وكثّر له في معروف أصبح ببذله معروفا، وأعين على جود أمسى به موصوفا، وذلّلت له قطوف إحسان كم ذلّل الأولياء [من أجله] (2) في مراضي الدولة ومحابّها قطوفا فقطوفا من خلف الملك أحسن الخلف، ومن له بفعل الخير أعظم كلف، ومن يشهد له بالشّجاعة الخيل واللّيل والبيداء، والسيف والرمح والأعداء فلا غزوة إلا له فيها تأثير وأثر، ولا ندوة إلا وبها من وصفه بالذكر الجميل سمر، تتشوّف إلى ملاحظة غرّته كلّ عين ويتبيّن لحياطته في الوجود كلّ أثر، ما أنار وجهه في نهار سلم إلا وقيل الشمس ولا بدا في ليل خطب إلّا وقيل القمر.
__________
(1) المين: الكذب.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(13/189)
ولما كان فلان هو بدر هذه الهالة، وجلّ هذه الجلالة، ونور هذه المقلة، ولابس هذه الحلّة اقتضى حسن الرأي الشريف أن تكثّر لديه النّعم وأن يجري بتنمية الإحسان هذا القلم.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برح يجود، وبالخيرات يعود أن يجري في إقطاعه الخ.
وهذه نسخة منشور من ذلك وهي:
الحمد لله الذي أيّد دولتنا القاهرة بكل راية تعقد، وأمير يؤمّر وجنود تجنّد، وكلّ بطل إذا جرّد عزمه سلّم إليه المهنّد، واشتبه الرمح بمعاطفه فلم يدر أيّهما تأوّد.
نحمده كما يجب أن يحمد، ونمدحه بما لا يماثله الدّرّ المنضّد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أفضل ما به نشهد، ونصلّي على نبيّه وعبده سيدنا محمد، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه في كل مقال يتجدّد، صلاة فيها الأقلام لا تتردّد فيما تتردّد، ورضي الله عن أصحابه وسلّم وكرّم ومجّد، ما غرب فرقد وطلعت شمس ثم ما غربت شمس وطلع فرقد.
وبعد، فإنّ لآرائنا العالية المزيد في كل ما تقتضيه، وفي كل من ترتضيه، من جميع أوليائها، لجميل آلائها، ممن فاق أبناء جنسه، وكان في أمثاله وحيدا لأنه لا يوجد له نظير وهو كثير بنفسه، وتسابقت الخيل إلى ارتقائه على صهواتها، والتطمت بحار الوغى لما ألقى له كلّ سابح في غمراتها، وافتخرت القسيّ بمدّه الذي لا تخرج به الأقمار عن هالاتها، والسيوف لأنه إذا اشتركت معه في لقب كان أسمى مسمّياتها، والرماح لأنه كم له عليها من منّة لما أطلقها في الحروب من اعتقال راياتها، وتجدّدت الألسنّة فيما يتلوه من سورات الفرسان لأنه أكبر آياتها وهو الذي انتظمت به المعالي والعوالي قصدها الذي به يرى غمرات الموت
ثم يزروها على ما هي عليه من إهالاتها (1)، مع ماله في خدمتنا الشريفة من سوابق لا تجارى في سبيل، ولا يلحق لها شأوا أشهب الصبح ولا أدهم الليل ولا أشقر البرق ولا أصفر الأصيل: فاقتضت صدقاتنا الشريفة له الإحسان، وتقاضت عوارفنا الحسان، فرفعت له رتبة لا يبلغها كثير من الناس إلا باللسان وكان فلان هو الذي حسن وصفا، وشكرت مساعيه سجاياه وهو أوفر وأوفى.(13/190)
وبعد، فإنّ لآرائنا العالية المزيد في كل ما تقتضيه، وفي كل من ترتضيه، من جميع أوليائها، لجميل آلائها، ممن فاق أبناء جنسه، وكان في أمثاله وحيدا لأنه لا يوجد له نظير وهو كثير بنفسه، وتسابقت الخيل إلى ارتقائه على صهواتها، والتطمت بحار الوغى لما ألقى له كلّ سابح في غمراتها، وافتخرت القسيّ بمدّه الذي لا تخرج به الأقمار عن هالاتها، والسيوف لأنه إذا اشتركت معه في لقب كان أسمى مسمّياتها، والرماح لأنه كم له عليها من منّة لما أطلقها في الحروب من اعتقال راياتها، وتجدّدت الألسنّة فيما يتلوه من سورات الفرسان لأنه أكبر آياتها وهو الذي انتظمت به المعالي والعوالي قصدها الذي به يرى غمرات الموت
ثم يزروها على ما هي عليه من إهالاتها (1)، مع ماله في خدمتنا الشريفة من سوابق لا تجارى في سبيل، ولا يلحق لها شأوا أشهب الصبح ولا أدهم الليل ولا أشقر البرق ولا أصفر الأصيل: فاقتضت صدقاتنا الشريفة له الإحسان، وتقاضت عوارفنا الحسان، فرفعت له رتبة لا يبلغها كثير من الناس إلا باللسان وكان فلان هو الذي حسن وصفا، وشكرت مساعيه سجاياه وهو أوفر وأوفى.
فلذلك خرج الأمر الشريف الخ.
وهذه نسخة منشور وهي:
الحمد لله على نعمه التي أسنت المواهب، وأغنت الأولياء بآلائها عن دوم الدّيم وسحّ السحائب.
نحمده على غرائب الرّغائب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تتكفّل لقائلها ببلوغ المآرب، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي افتخرت باسمه المناقب، وانتصرت بعزمه المقانب (2)، وقهر بباسه كلّ جان وعمر بناسه كلّ جانب، وكشف الله ببركته اللّأؤاء (3)، وغلب بفتكاته الأعداء وكيف لا وهو سيّد لؤيّ بن غالب، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين أذلّ بجهادهم المحارب، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من أعذبنا نهله، وأنجحنا أمله، وأجزلنا [له] (4) من هبات جودنا [وأغدقنا عليه من منن عطائنا ورفدنا من نازل الأعداء يوم الوغى فراح] (5)
__________
(1) في حاشية الطبعة الأميرية: «يريد من هولها ولكن السجع اضطره إلى أن يجاري العوام في لغتهم».
(2) جمع مقنب وهي جماعة الفرسان والخيل تجتمع للغارة.
(3) اللأواء: ضيق المعيشة.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(5) الزيادة من الطبعة الأميرية.(13/191)
إلى أعلامهم فنكّسها وإلى أعناقهم فوقصها (1)، وحكّم سيفه في أشلائهم وأرواحهم: فهذه اقتناها وهذه اقتنصها ما فوّق يوم الرّوع سهمه إلا أصاب المقاتل، ولا شهر سيفه إلا قهر ببأسه كلّ باسل، ولا سارت عقبان راياته إلى معترك الحرب ضحى إلا ظلّل بعقبان طير في الدماء نواهل.
ولما كان فلان هو الذي يشير إليه بنان هذا المدح، ويسير إليه إحسان هذا المنح فلذلك خرج الأمر الشريف: لا برحت ظلال كرمه وارفة، وسحائب نعمه واكفة أن يجرى في إقطاعه الخ.
وهذه نسخة منشور تصلح لمن مات أبوه وهي:
الحمد لله الذي جعل سماء كرمنا، على الأولياء هامية السّحاب، وعوارف نعمنا، جميلة العقبى للأعقاب، وعواطف أيامنا الشريفة تجزل العطاء وتجبر المصاب.
نحمده على نعمه التي ما سخنت (2) العيون إلا أقرّتها، ولا اكتأبت النّفوس بملمّة إلا سرّتها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا يزال ربع الأنس بها معمورا، وصدع النّفس بها مجبورا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أصبح شعث الإيمان به ملموما، وحزب الطّغيان به مهزوما، وداء البهتان بحسامه محسوما، صلّى الله عليه وعلى آله الذين كان هو بدر السيادة وكانوا نجوما، صلاة لا يبرح ذكرها في صحائف القبول مرقوما، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من درّت أخلاف جودنا لخلفه، ورعى كرمنا خدم سلفه، ونقّلنا هلاله من تقريبنا إلى منازل شرفه، وأجراه إحساننا على جميل عوائده، وسوّغه نوالنا أعذب موارده، جمع له إنعامنا بين طارفه وتالده، من أستمسك من
__________
(1) في الأصل «فنكصها» والتصويب من الطبعة الأميرية.
(2) أسخن الله عينه: أنزل به ما يبكيه، لأن دموع العين تكون ساخنة. وعكسه قولهم: أقرّ الله عينه.(13/192)
سبب إخلاصنا بآكده، وحذا في ولائنا أحسن حذو ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده، واشتهر بالشّهامة التي أغنت بمفردها عن الألوف، وعرف بالإقدام الذي طالما فرّق الجموع واخترق الصّفوف، ما دنا من الأعداء إلا دنت منهم الحتوف، ولا أظلم ليل النقع إلا جلته أنجم الصّعاد وأهلّة السّيوف.
ولما كان فلان هو الممدوح بجميل هذه الشّيم، والممنوح جزيل هذه النّعم، والشبيه في موالاتنا بأبيه ومن أشبه أباه فما ظلم.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برحت سحب كرمه هاطلة الأنواء، شاملة الآباء والأبناء أن يجرى في إقطاعه الخ.
النوع الثاني
(من المناشير ما يفتتح ب «أما بعد» ويختصّ بأمراء العشرات ومن في معناهم:
كأمراء العشرينات ونحوهم ممّن لم يبلغ شأو الطّبلخانات) وهي على ضربين:
الضرب الأوّل (في مناشير العشرات، كائنا ذلك الأمير من كان)
وهذه نسخ مناشير من ذلك:
نسخة منشور من ذلك وهي:
أما بعد حمد الله على نعمه التي يبديها ويعيدها، ويفيئها ويفيدها، ويديمها على من شكر ويزيدها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي نزلت لنصره ملائكة السماء وجنودها، وأخذت على الإقرار بنبوته مواثيق الأملاك وعهودها، وعلى آله وصحبه الذين هم أمناء الأمّة وشهودها فإنّ أحقّ من تقلّب في إنعامنا، وتقدّم في أيّامنا، وتوالت إليه آلاؤنا تترى، وتكرّرت عليه نعماؤنا مرّة بعد أخرى، من ظهرت آثار خدمته، وصحتّ أخبار نجدته، وشكرت مساعيه الجليلة،
وحمدت دواعيه الجميلة، وكان له من صفاته الحسنى، ما ينيله من الدّرجات الأعلى ومن المطالب الأسنى.(13/193)
أما بعد حمد الله على نعمه التي يبديها ويعيدها، ويفيئها ويفيدها، ويديمها على من شكر ويزيدها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي نزلت لنصره ملائكة السماء وجنودها، وأخذت على الإقرار بنبوته مواثيق الأملاك وعهودها، وعلى آله وصحبه الذين هم أمناء الأمّة وشهودها فإنّ أحقّ من تقلّب في إنعامنا، وتقدّم في أيّامنا، وتوالت إليه آلاؤنا تترى، وتكرّرت عليه نعماؤنا مرّة بعد أخرى، من ظهرت آثار خدمته، وصحتّ أخبار نجدته، وشكرت مساعيه الجليلة،
وحمدت دواعيه الجميلة، وكان له من صفاته الحسنى، ما ينيله من الدّرجات الأعلى ومن المطالب الأسنى.
ولما كان فلان ممّن زانته طاعته، وقدّمه إقدامه وشجاعته، وشهدت له مواقف الحروب، أنه مجلي الكروب، وأقرّ له يوم الوغى، بإبادة من بغى، وكان له مع الشهامة الرأي الثاقب، والسّهم الصائب، يصيب ولا يصاب، جذع القريحة، رابط الجأش عند تغيّر الأذهان الصحيحة اقتضى حسن الرأي الشريف أن ترفع درجته، وتعلى رتبته، وينظم في عقود الأمراء، ويسلك به جادّة الكبراء، لترقّيه في درج السعادة، وتبلغ به رتبة السيادة.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برحت هامية غوادي آلائه، سابغة ملابس نعمائه أن يجرى في إقطاعه الخ.
وهذه نسخة منشور من ذلك وهي:
أما بعد حمد الله على نعمه التي فسّحت في كرمها مجال المطالب، وفتّحت لخدمها أبواب نجح المآرب، وحقّقت في عوارفها آمال من تقرّب إليها من الخدمة والطاعة بأنجح ما تقرّب الراغب إلى الرغائب، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي زوى (1) الله له [الأرض] (2) ليرى ما تنتهي إليه الكواكب، وعلى آله وصحبه الذين استسهلوا في جهاد أعدائه المصاعب، ورمى الله من ألحد في دينه من سطواتهم بعذاب واصب (3)، فإنّ أولى من تلقّته وجوه النّعم السوافر، واستقبلته نعم العوارف التي هي من غير الأكفاء نوافر، وأتته السّعود المقبلة، وواتته الآلاء المقيمة والمستقبلة، من صحّت شجاعته في مواقف الجهاد المدلهمّة، وسمحت شهامته في الوغى بمجال السّيوف المرهفة لدفع الخطوب الملمّة، وأقرّت له أقرانه بأنه فارس
__________
(1) أي طواها له وجمعها.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) أي عذاب دائم.(13/194)
هيجائها الذي كم كشف بأسنّته عن قلوب العدا للمؤمنين غمّ غمّة.
ولما كان فلان هو المشهود له بهذه المواقف، المشهور بالوقوف في المواطن التي يثبت بها وما بالحتف شكّ لواقف (1) اقتضى حسن الرأي الشريف الخ.
وهذه نسخة منشور من ذلك وهي:
أما بعد حمد الله على جيوش كثّرها، وجيوب للعدا بالأسنّة زرّرها، وجنوب بالنوم على فرش الأمن الوثيرة آثرها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أيّد الله به الأمة وظفّرها، وثبّت مواقفه ونضّرها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تستمدّ الأيّام والأنام من رقيّها آصالها وبكرها فإنّ من ورد البحر أغناه بمدّه، ومن تعرّض لسقيا السّحاب جاد له برفده، ومن جاور كوكب السعد فاض عليه من سعده، ومن تيمّم نادي النّدى كان أدنى إلى نيل قصده، ومن يمتّ بخدمة كان من حقّه رعاية عهده.
ولما كان فلان هو الذي قدّم خدما شهدت بها غرر الأيّام، ولسان كلّ ذابل وحسام، وكلّ كميّ لوت إلى فؤاده من يده طيور سهام، وجرّبناه فحمدناه بالتجريب، ودرّبناه حتّى تأهل للتأمير بالتّدريب، واستحقّ المكافأة على ما آثره، وكانت له خدمة عندنا كالحسنة له عنها عشرة.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا زال يمدّ أولياءه ويسعدهم، ويقرّب أخصّاءه ولا يبعدهم، أن يجرى في إقطاعه الخ.
وهذه نسخة منشور من ذلك وهي:
__________
(1) من قول المتنبي:
وقفت وما بالموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم(13/195)
أما بعد حمد الله على نعم منحها، وأبواب فضل فتحها، وآمال للأولياء أنجحها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي هدى الله به الأمة الإسلامية وأصلحها فإن أولى من همت عليه سحائب الإحسان، وافتتحته أيامنا الشريفة بمقدّمة كرم تميّزه بين الأقران من جعل الولاء له خير ذخيرة، وأجمل فيما أسرّه وأبداه من حسن السّيرة والسّريرة، وكانت له الطاعة التي يحسن فيها الاعتقاد، والشجاعة التي ظهرت في مواقف الحروب والجهاد، والخدمة التي لم يزل فيها مشكور المساعي، والموالاة التي لم يبرح عليها موفّر الدّواعي.
ولما كان فلان ممن له الخدمة التي تقضي بالتقديم، وتوجب له على إحسان دولتنا الشريفة رفعة القدر ومزيد التكريم اقتضى حسن الرأي الشريف أن نحلّه مراتب ذوي الأمر والإمرة، وننظمه في سلك من سرّه بإنعامه ورفع قدره.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برح الخ.
الضرب الثاني (في مناشير أولاد الأمراء
وهي كالتي قبلها إلا أنه يقع التعرّض فيها إلى الإشادة بآبائهم، وربما أطيل فيها مراعاة لهم) وهذه نسخة مناشير من ذلك:
وهذه نسخة منشور وهي:
أما بعد حمد الله الذي جعل سيف دولتنا للدين المحمّديّ ناصرا، وجمع شمل أعزّ الأولياء والأبناء في خدمتنا على إنعامنا الذي أضحى بين الأنام مثلا سائرا، وأقرّ الأعين من ذراريّ أصفيائنا بما يفوق الدّراريّ التي غدا نورها في أفقها زاهيا زاهرا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أيّده الله من أوليائه بعشيرته الأقربين، وشدّ أزره من أصحابه بالأبناء والبنين، وعلى آله وصحبه صلاة لا نزال بها في درج النصر مرتقين، ولا يبرح لنا بها حسن العاقبة بالظّفر على الأعداء والعاقبة للمتّقين فإنّ أنمى الغروس من كان أصله في درج الولاء ثابتا، وأزهى الثمر ما كان في أغصان الوفاء نابتا، وأبهى الأهلّة ما بزغ في سماء الإخلاص،
وطلع آمنا من السّرار والانتقاص، وأعزّ الأولياء من نشأ في ظلّ القرب والاختصاص، وتلقّى ولاءنا عن أبوّة كريمة جمعت له من العلياء شمل طارفه وتالده، وحذا في عبوديتنا حذو والده، ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده، وتحلّى بطريقته المثلى في الموالاة التي عدم له فيها المضاهي والمماثل، ولاحت على أعطافه مخايل الإخلاص فيعرف فيه من تلك المخايل.(13/196)
أما بعد حمد الله الذي جعل سيف دولتنا للدين المحمّديّ ناصرا، وجمع شمل أعزّ الأولياء والأبناء في خدمتنا على إنعامنا الذي أضحى بين الأنام مثلا سائرا، وأقرّ الأعين من ذراريّ أصفيائنا بما يفوق الدّراريّ التي غدا نورها في أفقها زاهيا زاهرا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أيّده الله من أوليائه بعشيرته الأقربين، وشدّ أزره من أصحابه بالأبناء والبنين، وعلى آله وصحبه صلاة لا نزال بها في درج النصر مرتقين، ولا يبرح لنا بها حسن العاقبة بالظّفر على الأعداء والعاقبة للمتّقين فإنّ أنمى الغروس من كان أصله في درج الولاء ثابتا، وأزهى الثمر ما كان في أغصان الوفاء نابتا، وأبهى الأهلّة ما بزغ في سماء الإخلاص،
وطلع آمنا من السّرار والانتقاص، وأعزّ الأولياء من نشأ في ظلّ القرب والاختصاص، وتلقّى ولاءنا عن أبوّة كريمة جمعت له من العلياء شمل طارفه وتالده، وحذا في عبوديتنا حذو والده، ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده، وتحلّى بطريقته المثلى في الموالاة التي عدم له فيها المضاهي والمماثل، ولاحت على أعطافه مخايل الإخلاص فيعرف فيه من تلك المخايل.
ولما كان فلان هو جوهر ذلك السيف المشكور بالمضاء، عند الانتضاء، ونور ذلك البدر المشهور في أفق العلياء، بالغناء والسّناء كم لأبيه في خدمتنا عند تزلزل الأقدام من مواقف، وكم أسلف في طاعتنا من مخالصة عند الاختلاف وهو عليها عاكف ما تقدّم في كتيبة الإقدام إلا والنّصر له معاضد، ولا جرّد في مهمّ إلا أغنى عما سواه واستحقّ أن ينشد «ولكنّ سيف الدّولة اليوم واحد».
اقتضى حسن الرأي الشريف أن ننضّد لسعادتهما عقدا منضّدا، وأن نخصّ كلّا منهما بإمرة حتى يغدو لنا من هذا والدا من أعز الأنصار ومن هذا ولدا.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برح [يوفّر] (1) لأوليائه، من الإحسان المدد، ويكثّر لأصفيائه، من الأعوان على الطاعة العدد، ويشمل برّه ومعروفه الوالد والولد الخ.
وهذه نسخة منشور وهي:
أما بعد حمد الله الذي زيّن سماء دولتنا من ذراريّ أوليائنا بمن يفوق الدّراريّ إشراقا، وأنار مطالع مواكبنا المنصورة من كواكب أصفيائنا بمن يبهر العيون ائتلاقا واتّساقا، وجمع شمل السعادة لأهل بيت اتّسقت عقود ولائهم في طاعتنا فحسنت في جيد الدّهر انتظاما وانتساقا، جاعل سيوف دولتنا في مراضينا مرهفة الغرار، مرتقبة الأعداء فما جرّدت عليهم إلا أرتهم مصارع الاغترار، والشهادة له بالوحدانية التي نطق بها لسان التوحيد والإقرار، وجعلت وسيلة إلى الخلود بدار
__________
(1) في الطبعة الأميرية «يفر» ولا معنى لها.(13/197)
القرار، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أنجده الله من خاصّته بالأعوان والأنصار، ورفع لواء نبوّته حتّى صار منشور الأعلام في الأمصار، وعلى آله وصحبه الذين ميّزهم الله بشرف قربه، وجعل للآباء منهم فضل المزيّة من قلبه، ورفع أقدارهم بأن جعل منهم حبّه وابن حبّه فإن أولى من جمع شمل السعادة في إزاره، ورفعت رأية الإمارة لفخاره، [من نشأ على إخلاص الولاء] (1) الذي أشبه فيه أباه، [ولمعت] (2) بروق أسنّته التي [كم أغمدها في رقاب عداه] (3)، كم جرّد النصر لنا من أبيه سيفا في مواقف التأييد وأمضاه كم زكا فرعه السامي في رياض الإخلاص، وأبدر هلاله المشرق في مطالع الاختصاص.
ولما كان فلان هو الذي نشأ في خدمتنا وليدا، وغذّي بلبان طاعتنا فأمسى حظّه سعيدا، وأضحى رأيه حميدا، ولم يزل لأبيه أعزّه الله حقوق ولاء تأكدت أسبابها، ومدّت في ساحة الاعتداد أطنابها، وحسن في وصف محافظتها إسهاب الألسنة وإطنابها اقتضى حسن الرأي الشريف أن نرقّي هلاله إلى منازل البدور، وأن نطلعه في سماء عزّ بادية الإنارة واضحة السّفور، وأن نعلي من ذلك قدره إلى محلّ الإمارة، وأن نتوّجه منها بما يكون أعظم دليل على إقبالنا وأظهر أمارة.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا زال الخ.
وهذه نسخة منشور وهي:
أما بعد حمد الله على آلائه التي أقرّت عيون أصفيائنا بما خصّت به آباءهم من عموم النّعم، وسرّت قلوبنا بما جدّدت لذراريّهم من حسن الترقّي إلى ما يناسبهم من شريف الخدم، وأنشأت في دولتنا الشريفة من أولاد خواصّنا كلّ شبل له من الظّفر ظفر ومن مسبل الذوائب أجم، وإذا شاهدت الأسود الكواسر شدّة وثباته وثباته، شهدت بأنه أشبه في افتراس الفوارس أباه ومن أشبه أباه فما ظلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي ما زال دين الله بمجاهدة أعدائه مرفوع
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية وهي لازمة لانتظام سياق الكلام.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية وهي لازمة لانتظام سياق الكلام.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية وهي لازمة لانتظام سياق الكلام.(13/198)
العلم، ونصر الله باقيا في أمّته يتناقله من الأبناء من كان ثابت القدم من القدم، وعلى آله الذين جلوا بأسنّتهم وسنّتهم غياهب الظّلم فإن أولى من وطّدت له درج (1) السعود ليتوقّل في هضبها، ويتنقّل في رتبها، ويتلقّى بوادر إقبالها، ويترقّى إلى أسنى منازل السعد منها وأيّام شبيبته في اقتبالها، ويرفل في حلل جدّتها المعلمة الملابس، ويرتاد في رياض يمنها النامية المنابت الزاكية المغارس من نشأ في ظلّ آلائنا، وغذّي بلبان ولائنا، ولقّي فروض طاعتنا ناشئا فهو يتعبّد بحفظها، ويدين بالمحافظة على معناها ولفظها، وينقل عن أبيه قواعدها وأحكامها فهو الشّبل ابن اللّيث، والنّدى الصادر عن الغيث، والفرند (2)
المنتسب إلى معدن ولائنا عنصره، والهلال الذي سيضيء بإشراق جودنا عليه نيّره.
ولما كان فلان هو الذي توشّح عقد هذا الثناء بثمينه، ورشّح لتناول راية الإمارة بيمينه، وقابل إقبال طلعتنا فأكسبه اشراقنا إنارة جبينه اقتضى حسن الرأي الشريف أن ننضّد عقود الإحسان بتحلية نحره، وأن نضفي عليه ملابس جودنا وبرّه.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برح الخ.
وهذه نسخة منشور وهي:
أمّا بعد حمد الله منوّر الأهلّة في آفاقها، ومنوّل عوارفه بإرفاقها، ومكمّل عطاياه بإطلاقها، ومنشيء ذراريّ الأولياء كالدّراريّ في إشراقها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي جمع القلوب بعد افتراقها، وشفع في الخليفة إلى خلّاقها، وعلى آله وصحبه البحور في اندفاقها، والبدور في ائتلاقها، فإن أبناء الأولياء أشبال الأسود، وعليهم عاطفتنا تجود، قد أنشأت نعمنا آباءهم فأصبحوا
__________
(1) تجمع الدرجة على درجات ودرج.
(2) الفرند: السيف.(13/199)
للدولة أنصارا، وألحقناهم بهم في التقديم فأقرّوا أبصارا، وكان ممّن ترعرع ناشيا، وغدا فرعا زاكيا، وتدرّب على الصّهوات يمتطيها، وتأهّل لحلول النعم برضا مفضيها، ودلّت حركاته على أنّ الشجاعة سجيّة طباعه، وأنه تروّى بلبان الطاعة من وقت رضاعه، وأنّ أباه، أجلّه الله أحسن مرباه، فأشبهه بجميل اتّباعه، وهو فلان المنتخب في الدولة الناضرة، المشبه في الإضاءة النجوم السافرة.
فلذلك خرج الأمر الشريف الخ.
النوع الثالث (من المناشير ما يفتتح بخرج الأمر الشريف)
وحكمها حكم أواخر المناشير المفتتحة بالحمد لله، وبأما بعد حمد الله، يقتصر فيها على هذا الافتتاح الذي هو آخر المناشير، ويدعى له بما يناسب.
وهذه نسخة منشور ينسج على منوالها وهي:
خرج الأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ، الفلانيّ، (بلقب السلطنة واللقب الخاص) أعلاه الله تعالى وشرّفه، وأنفذه في الآفاق وصرّفه، أن يقطع باسم فلان ثم يذكر ما اشتملت عليه المربّعة الجيشية.
قلت: وقد تقدّم أن مناشير العربان منها ما يفتتح بالحمد لله، ومنها ما يفتتح بأما بعد حمد الله، ومنها ما يفتتح بخرج الأمر الشريف، ومناشير التّركمان والأكراد منها ما يفتتح بأما بعد حمد الله ومنها ما يفتتح بخرج الأمر الشريف، على ما تقدّم بيانه ولا يخفى أنّ الترتيب في مناشيرهم على ما تقدّم ذكره في جميع المراتب، إلا أنه قد تمتاز هذه الطوائف بألفاظ تخصّهم، لا سيّما مناشير العرب فإنهم يمتازون بألفاظ وألقاب تخصّهم.
وهذه نسخة منشور لأمير عرب مفتتحة بالحمد لله ينسج على منوالها، وهي:
الحمد لله الذي أرسل ديم كرمنا دائمة الإمداد، وشمل بجودنا كلّ حاضر وباد، وجعل أيّامنا الشريفة تخصّ بطولها كلّ طيّب النّجار طويل النّجاد.
نحمده حمدا بحلاه يزدان ومن جداه يزاد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تمهد لقائلها خير مهاد، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الكريم الأجداد الرحيب الناد، أرسله لإصلاح الفساد، وإرباح الكساد، وكشف العناء وإزالة العناد، صلّى الله عليه وعلى آله الذين أرهفوا في جهاد أعداء الله البيض الحداد، وأرعفوا السّمر الصّعاد (1)، وعلى أصحابه الذين كانوا يوم الفخار السادات ويوم النّزال الآساد، وسلّم تسليما كثيرا.(13/200)
الحمد لله الذي أرسل ديم كرمنا دائمة الإمداد، وشمل بجودنا كلّ حاضر وباد، وجعل أيّامنا الشريفة تخصّ بطولها كلّ طيّب النّجار طويل النّجاد.
نحمده حمدا بحلاه يزدان ومن جداه يزاد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تمهد لقائلها خير مهاد، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الكريم الأجداد الرحيب الناد، أرسله لإصلاح الفساد، وإرباح الكساد، وكشف العناء وإزالة العناد، صلّى الله عليه وعلى آله الذين أرهفوا في جهاد أعداء الله البيض الحداد، وأرعفوا السّمر الصّعاد (1)، وعلى أصحابه الذين كانوا يوم الفخار السادات ويوم النّزال الآساد، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من عمرنا بكرمنا مربعه وناديه، وأمطرنا ثرى أمله بغادية مغادية، وسفر له وجه إحساننا عن واضح أسرّته، وقابله إقباله فقدّمه على قبيلته وميّزه على أسرته، من أخلص في طاعتنا ضميرا، واتّبع جادّة موالاتنا فأصبح بتجديد نعمنا جديرا، وحذا في خدمتنا أحسن حذو، وعرف بجميل المخالصة في الحضر والبدو، واشتهر بالشّجاعة التي طالما فرّقت جموعا، وأقفرت من الأعداء ربوعا، واتصف بالإقدام الذي ما ألف عن محارب رجوعا: كم أنهل مثقّفاته في دماء النّحور، وأشرع صعاده فأوردها الأوردة وأصدرها في الصّدور، ورفع من أسنتها في ليل النّقع نارا قراها لحوم العدا وأضيافها الآساد والنّسور.
ولما كان فلان هو الممنوح هذا الإنعام الغمر، والممدوح في مواقف الحروب بإقدام عمرو.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برحت شاملة مواهبه، هاملة سحائبه أن يجرى في إقطاع الخ.
أما الزيادات والتعويضات فإنها ان افتتحت «بأما بعد» فعلى ما تقدّم في أمراء العشرات إلا أنه يقال «أن يجرى في إقطاعات» على الجمع، وإن افتتحت «بخرج الأمر الشريف»، فعلى ما تقدّم في إقطاعات الأجناد، إلا أنه يقال «أن يجرى» ولا يقال «أن يقطع».
__________
(1) الرماح المستقيمة.(13/201)
المقالة الثامنة [في الأيمان] (1)، وفيها بابان
الباب الأوّل في أصول يتعيّن على الكاتب معرفتها قبل الخوض في الأيمان وفيه فصلان
الفصل الأوّل فيما يقع به القسم وفيه طرفان
الطرف الأوّل (في الأقسام التي أقسم بها الله تعالى في كتابه العزيز)
اعلم أنه قد ورد في القرآن الكريم أقسام أقسم الله تعالى بها إقامة للحجّة على المخالف بزيادة التّأكيد بالقسم وهي على ضربين:
الضرب الأوّل ما أقسم الله تعالى فيه بذاته أو صفاته والمقصود منه مجرّد التأكيد.
وقد ورد ذلك في مواضع يسيرة من القرآن:
منها قوله تعالى: {فَوَ رَبِّ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مََا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (2)، وقوله: {فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمََّا كََانُوا يَعْمَلُونَ} (3)،
__________
(1) الزيادة من المقام.
(2) الذاريات / 23.
(3) الحجر / 93.(13/202)
وقوله: {فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيََاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} (1)، وقوله: {فَلََا وَرَبِّكَ لََا يُؤْمِنُونَ حَتََّى يُحَكِّمُوكَ فِيمََا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (2)
ومنها قوله تعالى: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} (3)، وقوله: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (4)، وقوله: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (5)، وقوله: {حم وَالْكِتََابِ الْمُبِينِ} * (6)
الضرب الثاني ما أقسم الله تعالى فيه بشيء من مخلوقاته ومصنوعاته.
والمقصود منه مع التأكيد التّنبيه على عظيم قدرته وجلاله عظمته، من حيث إبداعها، تعظيما له لا لها.
وقد ورد ذلك في مواضع كثيرة من القرآن، لا سيّما في أوائل السّور: فأقسم تعالى بالسّماء والأرض، والشّمس والقمر، والنّجوم والرّياح، والجبال والبحار، والثّمار واللّيل والنهار، وما تفرّع عنهما من الأوقات المخصوصة، وبالملائكة الكرام المسخّرين في تدبير خلقه، إلى غير ذلك من الحيوان والثّمار وغيرها. وقيل المراد في القسم بها وقت كذا.
فأمّا ما في أوائل السّور فقال تعالى: {وَالصَّافََّاتِ صَفًّا فَالزََّاجِرََاتِ زَجْراً فَالتََّالِيََاتِ ذِكْراً} (7)، وقال جلّ وعزّ: {وَالذََّارِيََاتِ ذَرْواً فَالْحََامِلََاتِ وِقْراً فَالْجََارِيََاتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّمََاتِ أَمْراً} (8)، وقال جلّت عظمته: {وَالطُّورِ وَكِتََابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ}
__________
(1) مريم / 68.
(2) النساء / 65.
(3) يس / 21.
(4) ص / 1.
(5) ق / 1.
(6) الزخرف / 21.
(7) الصافات / 321.
(8) الذاريات / من واحد إلى 4.(13/203)
{مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} (1)، وقال:
{وَالنَّجْمِ إِذََا هَوى ََ} (2)، وقال: {لََا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيََامَةِ وَلََا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوََّامَةِ} (3)، وقال: {وَالْمُرْسَلََاتِ عُرْفاً فَالْعََاصِفََاتِ عَصْفاً وَالنََّاشِرََاتِ نَشْراً فَالْفََارِقََاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيََاتِ ذِكْراً} (4)، وقال: {وَالنََّازِعََاتِ غَرْقاً وَالنََّاشِطََاتِ نَشْطاً وَالسََّابِحََاتِ سَبْحاً فَالسََّابِقََاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرََاتِ أَمْراً} (5)، وقال: {وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} (6)، وقال: {وَالسَّمََاءِ وَالطََّارِقِ} (7)، وقال:
{وَالْفَجْرِ وَلَيََالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذََا يَسْرِ} (8)، وقال: {لََا أُقْسِمُ بِهََذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهََذَا الْبَلَدِ وَوََالِدٍ وَمََا وَلَدَ} (9)، وقال: {وَاللَّيْلِ إِذََا يَغْشى ََ وَالنَّهََارِ إِذََا تَجَلََّى وَمََا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ََ} (10)، وقال: {وَالضُّحى ََ وَاللَّيْلِ إِذََا سَجى ََ} (11)، وقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهََذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} (12)، وقال: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسََانَ لَفِي خُسْرٍ} (13)
وأقسم بالملائكة القائمين في عبادته، والمسخّرين في تدبير مخلوقاته في قوله: {وَالصَّافََّاتِ صَفًّا فَالزََّاجِرََاتِ زَجْراً} (14). قيل المراد بالصّافّات: الصّافّون
__________
(1) الطور / من واحد إلى 6.
(2) النجم / 1.
(3) القيامة / 21.
(4) المرسلات / من واحد إلى 5.
(5) النازعات / من واحد إلى 5.
(6) البروج / 21.
(7) الطارق / 1.
(8) الفجر / من واحد إلى 4.
(9) البلدا / 321.
(10) الليل / 321.
(11) الضحى / 21.
(12) التين / 321.
(13) العصر / 21.
(14) الصافات / 21.(13/204)
صفوفا، وبالزّاجرات الملائكة التي تزجر السّحاب. وفي قوله: {فَالْمُقَسِّمََاتِ أَمْراً} (1) قيل: المراد الملائكة التي تقسّم الأرزاق على الخلق. وفي قوله:
{وَالنََّازِعََاتِ غَرْقاً وَالنََّاشِطََاتِ نَشْطاً} (2) قيل: النازعات الملائكة تنزع روح الكافر عند الموت، والناشطات تنشط روح المؤمن كما ينشط العقال من يد البعير. وقوله تعالى: {وَالْمُرْسَلََاتِ عُرْفاً فَالْعََاصِفََاتِ عَصْفاً وَالنََّاشِرََاتِ نَشْراً فَالْفََارِقََاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيََاتِ ذِكْراً} (3)، وقوله تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيََالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذََا يَسْرِ} (4)، وقوله تعالى: {لََا أُقْسِمُ بِهََذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهََذَا الْبَلَدِ وَوََالِدٍ وَمََا وَلَدَ} (5)، وقوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحََاهََا وَالْقَمَرِ إِذََا تَلََاهََا وَالنَّهََارِ إِذََا جَلََّاهََا وَاللَّيْلِ إِذََا يَغْشََاهََا وَالسَّمََاءِ وَمََا بَنََاهََا وَالْأَرْضِ وَمََا طَحََاهََا وَنَفْسٍ وَمََا سَوََّاهََا} (6)، وقوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهََذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} (7)، وقوله تعالى: {وَالْعََادِيََاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِيََاتِ قَدْحاً فَالْمُغِيرََاتِ صُبْحاً} (8) وقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسََانَ لَفِي خُسْرٍ} (9). أقسم بالعصر وهو الدهر (10).
وأما في أثناء السور فمنه قوله تعالى: {فَلََا أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ} (11)
__________
(1) الذاريات / 4.
(2) النازعات / 21.
(3) المرسلات / من واحد إلى 5.
(4) الفجر / من واحد إلى 4.
(5) البلد / 321.
(6) الشمس / من واحد إلى 7.
(7) التين / 321.
(8) العاديات / 321.
(9) العصر / 21.
(10) من أول قوله تعالى: والفجر، إلى قوله تعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر، ليس من القسم بالملائكة وقد تقدم بعضه قبل أسطر، فإعادته هنا سهو.
(11) الواقعة / 75.(13/205)
وقوله: {فَلََا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشََارِقِ وَالْمَغََارِبِ} (1)، وقوله: {فَلََا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمََا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} (2)
الطرف الثاني (في الأقسام التي تقسم بها الخلق وهي على ضربين)
الضّرب الأوّل (ما كان يقسم به في الجاهليّة)
اعلم أنّ مبنى الأيمان على الحلف بما يعظّمه الحالف ويتّحرّز من الحنث عند الحلف به. فأهل كلّ ملّة يحلفون بما هو عظيم لديهم في حكم ديانتهم. ولا خفاء في أنّ كلّ معترف لله تعالى بالرّبوبيّة من أهل الديانات يحلف به، سواء كان من أهل الكتاب أو مشركا، ضرورة اعترافهم بألوهيّته تعالى، والانقياد إلى ربوبيّته.
وقد حكى الله تعالى عن الكفّار في القرآن الكريم رعاية القسم بالله فقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللََّهِ جَهْدَ أَيْمََانِهِمْ لَئِنْ جََاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهََا} (3) وقال جلّ وعزّ: {وَأَقْسَمُوا بِاللََّهِ جَهْدَ أَيْمََانِهِمْ لَئِنْ جََاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى ََ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} (4)، وقال جلّ من قائل: {وَأَقْسَمُوا بِاللََّهِ جَهْدَ أَيْمََانِهِمْ لََا يَبْعَثُ اللََّهُ مَنْ يَمُوتُ} (5)
ثم اليهود يحلفون بالتّوراة، والنّصارى يحلفون بالإنجيل، وعبدة الأوثان من العرب كانوا يحلفون بأوثانهم وكان أكثر حلف عرب الحجاز باللّات والعزّى.
__________
(1) المعارج / 40.
(2) الانشقاق / 181716.
(3) الأنعام / 109.
(4) فاطر / 42.
(5) النحل / 38.(13/206)
وربما جنحوا عن صورة القسم إلى ضرب من التّعليق، مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعليّ كذا، أو فأنا كذا، أو فأكون مخالفا لكذا أو خارجا عن كذا أو داخلا في كذا، وما أشبه ذلك.
وقد كانت العرب تأتي في نظمها ونثرها [عند] (1) حلفها بالتّعليق بإضافة المكروه إلى مواقعة ما يحذرونه: من هلاك الأنفس والأموال، وفساد الأحوال، وما يجري مجرى ذلك.
قال الجاحظ: قال الهيثم: يمين لا يحلف بها أعرابيّ أبدا، وهي أن يقول:
لا أورد الله لك صافيا (2)، ولا أصدر لك واردا، ولا حططت رحلك، ولا خلعت نعلك، يعني إن فعلت كذا.
وقال النّابغة الذّبيانيّ:
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه ... إذا فلا رفعت سوطي إليّ يدي
وقال الأشتر النّخعيّ:
بقّيت وفري وانحرفت عن العلى، ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس!
إن لم أشنّ على ابن حرب غارة ... لم تخل يوما من نهاب نفوس!
وقال معد [ان] (3) بن جوّاس الكنديّ:
إن كان ما بلّغت عنّي، فلا منى ... صديقي وشلّت من يديّ الأنامل!
وكفّنت وحدي منذرا بردائه ... وصادف حوطا من أعاديّ قاتل!
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) كذا في الأصل. وفي حاشية الطبعة الأميرية: «لعل الصواب: صادرا».
(3) زيادة الألف والنون من شرح ديوان الحماسة. ومعدان هذا شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام.
كان نصرانيا وأسلم في أيام عمر بن الخطاب. توفي سنة 30هـ. قال في شرح ديوان الحماسة:
ويروى البيت أيضا لحجية بن المضرب السكوني (المرزباني: 407والأعلام: 7/ 266وشرح ديوان الحماسة: 1/ 77).(13/207)
وقال عديّ بن زيد (1):
فإن لم تهلكوا فثكلت عمرا ... وجانبت المروّق والسّماعا!
ولا ملكت يداي عنان طرف ... ولا أبصرت من شمس شعاعا!
ولا وضعت إليّ على خلاء ... حصان يوم خلوتها قناعا!
وقال عمرو بن قميئة (2):
فإن كان حقّا كما خبّروا ... فلا وصلت لي يمين شمالا.
وقال العلويّ البصريّ:
ويقول للّطرف اصطبر لشبا القنا ... فهدمت ركن المجد إن لم تعقر!
وإذا تأمّل شخص ضيف طارقا ... متسربلا سربال ليل أغبر!
أوما إلى الكوماء (3) هذا طارق ... عزّتني الأعداء إن لم تنحري!
وقال محمد بن الحصين الأنباريّ:
ثكلتني التي تؤمّل إدرا ... ك المنى بي وعاجلتني المنون!
إن تولّى بظلمنا عبد عمرو ... ثم لم تلفظ السّيوف الجفون!
الضرب الثاني (الأقسام الشرعية)
والمرجوع فيه إلى صيغة الحلف وما يحلف به.
فأما صيغة الحلف ففيه صريح وكناية: فالصريح يكون مع الإتيان بلفظ
__________
(1) هو عديّ بن زيد العبادي. شاعر جاهلي توفي سنة 35ق. هـ. قال ابن قتيبة: كان يسكن الحيرة ويدخل الأرياف وثقل لسانه. وعلماء العربية لا يرون شعره حجة. (المرزباني: 249والشعر والشعراء: 97، والأغاني: 2/ 95وما بعدها).
(2) هو من قيس بن ثعلبة من بني سعد بن مالك رهط طرفة بن العبد. وهو قديم جاهلي. خرج مع امريء القيس إلى بلاد الروم، وإياه عنى امرؤ القيس بقوله: «بكى صاحبي الخ». (الشعر والشعراء:
179).
(3) الكوماء: الناقة العظيمة السنام.(13/208)
الحلف، كقوله: أحلف بالله لأفعلنّ كذا، وأقسم بالله لأفعلنّ كذا، مع الإتيان بحرف من حروف القسم: وهي الواو كقوله: والله، والباء الموحدة كقوله:
بالله لأفعلنّ كذا، والتاء المثناة فوق كقوله: تالله لأفعلنّ كذا. وقد ورد القسم في القرآن الكريم بالواو، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلََّا أَنْ قََالُوا وَاللََّهِ رَبِّنََا مََا كُنََّا مُشْرِكِينَ} (1)
وبالتاء المثناة: كما في قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السّلام:
{وَتَاللََّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنََامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} (2)، وقوله حكاية عن إخوة يوسف عليه السّلام خطابا لأبيهم: {قََالُوا تَاللََّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ} (3)، وقوله حكاية عنهم في خطاب يوسف عليه السّلام: {قََالُوا تَاللََّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللََّهُ عَلَيْنََا} (4) فإذا أتى باليمين بصيغة من هذه الصّيغ انعقدت يمينه، نوى اليمين أو لم ينو.
والكناية كقوله بلّا بحرف القسم وبالّه ولعمر الله، وايم الله، وأشهد بالله، وأعزم بالله. فإذا أتى بصيغة من هذه الصّيغ ونوى اليمين انعقدت، وإلا فلا. وفي معنى ذلك تعليق التزام فعل أو تركه، بشرط أن يكون ذلك قربة، كقوله:
إن فعلت كذا فعليّ نذر كذا، أو يكون كفّارة يمين، مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعليّ كفّارة يمين.
وأما ما يحلف به فهو على أربعة أصناف:
الصنف الأوّل اسم الله تعالى الذي لا يشاركه فيه غيره
، وهو الله والرّحمن. ولا نزاع في انعقاد اليمين به بكلّ حال إذ لا ينصرف بالنّية إلى غيره، قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبََادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (5): أي هل تعلم أحدا
__________
(1) الأنعام / 23.
(2) الأنبياء / 57.
(3) يوسف / 85.
(4) يوسف / 91.
(5) مريم / 65.(13/209)
تسمّى الله غيره، وقال جلّ وعزّ: {قُلِ ادْعُوا اللََّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمََنَ أَيًّا مََا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمََاءُ الْحُسْنى ََ} (1)، فجعل اسمه الرحمن قرينا لاسمه الله. ولا عبرة بتسمية مسيلمة الكذّاب لعنه الله نفسه رحمن اليمامة تجهرما (2)، إذ لم يتسمّ به إلا مقيّدا بإضافته إلى اليمامة. وكذلك الأزل (3) الذي ليس قبله شيء.
الصنف الثاني اسم الله تعالى الذي يسمّى به غيره على سبيل المجاز،
وعند الإطلاق ينصرف إلى الله تعالى: كالرّحيم، والعليم والحليم، والحكيم، والخالق، والرّازق، والجبّار، والحقّ، والرّبّ. فإن قصد به الله تعالى انعقدت اليمين، وإن قصد به غيره فلا تنعقد، ويديّن (4) الحالف.
الصنف الثالث ما يستعمل في أسماء الله تعالى مع مشاركة غيره له فيه
: كالموجود، والحيّ، والنّاطق ولا تنعقد به اليمين، قصد الله تعالى أو لم يقصد:
لأن اليمين إنّما تنعقد بحرمة الاسم، وإنما يكون ذلك في الخاصّ دون المشترك.
الصنف الرابع صفات الله تعالى
. فإن كانت الصّفة المحلوف بها صفة لذاته كقوله: وعظمة الله، وجلال الله، وقدرة الله، وعزّة الله، وكبرياء الله، وعلم الله، ومشيئة الله، انعقدت اليمين وإلّا فلا. ولو قال: وحقّ الله، انعقدت اليمين عند الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله. وذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تنعقد: لأنّ حقوق الله تعالى هي الطاعات، وهي مخلوقة، فلا يكون الحلف بها يمينا. ولو قال: والقرآن انعقدت اليمين عند الشافعيّ رضي الله عنه خلافا لأبي حنيفة.
وكان كان أكثر حلف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «والذي نفسي بيده» وأيمان الصحابة
__________
(1) الإسراء / 110.
(2) لم نعثر في معاجم اللغة التي بين أيدينا على فعل «جهرم». ولعل الكلمة هنا منحوتة من كلمتين: من الجرم وهو الجسد ومن الجره وهو الارتفاع، أو من الجهر وهو البروز والارتفاع وبذلك يكون المعنى المراد: استعلاء وتكبرا وتعظيما لنفسه، وهو معنى يناسب السياق أعلاه. (انظر مقاييس اللغة لابن فارس: 1/ 507).
(3) في حاشية الطبعة الأميرية «لعل الأولى: الأزليّ».
(4) ديّنه: تركه وما يعتقد وصدّقه.(13/210)
في الغالب: وربّ محمد، وربّ إبراهيم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يحلف: «لا ومقلّب القلوب».
ثم اليمين الشّرعية التي يحلّف بها الحكّام: إن كان مسلما «أحلف بالله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشّهادة، الذي أنزل القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم»، وإن كان يهوديّا «أحلف بالله الذي أنزل التّوراة على موسى ونجّاه من الغرق»، وإن كان نصرانيّا «أحلف بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى بن مريم».(13/211)
الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة الثامنة
(في بيان معنى اليمين الغموس، ولغو اليمين، والتّحذير من الحنث والوقوع في اليمين الغموس وفيه طرفان)
الطرف الأوّل (في بيان معنى اليمين الغموس، ولغو اليمين)
أما معناها (1)، فقال الشافعيّ رضي الله عنه: هي أن يكون الحالف في خبره كاذبا. وقال غيره: هي أن يحلف على ماض وإن لم يكن (2)، وهما متقاربان.
وإنما سمّيت الغموس لأنّها تغمس صاحبها في الإثم.
وقد اختلف في وجوب الكفّارة فيها: فذهب الشافعيّ رضي الله عنه إلى وجوب الكفّارة فيها تغليظا على الحالف، كما أوجب الكفّارة في قتل العمد، وهو مذهب عطاء والزّهريّ وابن عيينة وغيرهم. وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد رضي الله عنهم إلى أنه لا كفّارة فيها، احتجاجا بأنها أعظم من أن تكفّر: لأنها من الكبائر العظام، وهو مذهب الثّوريّ واللّيث وإسحاق، وحكي عن سعيد بن المسيّب.
__________
(1) أي اليمين الغموس.
(2) في «التعريفات» للجرجاني: هو الحلف على فعل أو ترك ماض كاذبا. وفي حاشية الطبعة الأميرية أن عبارة الخطيب الشربيني في تفسيره هي «على أمر ماض أنه كان ولم يكن». قال في اللسان:
وسمّيت غموسا لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار.(13/212)
وأما لغو اليمين فقد اختلف فيه أيضا: فذهب الشافعي إلى أنه ما وقع من غير قصد: ماضيا كان أو مستقبلا كقوله: لا والله، وبلى والله (1)، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وذهب أبو حنيفة إلى أنه الحلف على الماضي من غير قصد الكذب في يمينه مثل أن يظنّ شيئا فيحلف عليه وهو الرواية الثانية عن أحمد وحكي عن مالك أن هذه هي اليمين الغموس.
الطرف الثاني (في التّحذير من الوقوع في اليمين الغموس)
أما اليمين الغموس فإنّها من أعظم الكبائر، وناهيك أنها تغمس صاحبها في الإثم. وقد قال تعالى: {لََا يُؤََاخِذُكُمُ اللََّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمََانِكُمْ وَلََكِنْ يُؤََاخِذُكُمْ بِمََا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمََانَ} (2)، وقال جلّ وعزّ: {وَلََا تَنْقُضُوا الْأَيْمََانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهََا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللََّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} (3) وفي الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امريء مسلم لقي الله عزّ وجلّ وهو عليه غضبان». وقد قيل إن التوحيد (وهو: الذي لا إله إلا هو) إنما أوصل في اليمين رفقا بالحالف كي لا يهلك لوقته فقد روي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «إذا حلف الحالف بالله الذي لا إله إلا هو، لم يعاجل لأنه قد وحد الله تعالى».
ويروى أن جعفر بن محمد عليه السّلام، ادّعى عليه مدّع عند قاض، فأحلفه جعفر بالله، لم يزد على ذلك، فهلك ذلك الحالف لوقته، فقال القاضي ومن حضر: ما هذا؟ فقال: إن يمينه بما فيه ثناء على الله ومدح يؤخّر العقوبة كرما منه عزّ وجلّ وتفضّلا. وقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:
__________
(1) قال الجرجاني: «اليمين اللغو ما يحلف ظانا أنه كذا، وهو خلافه. وقال الشافعي: ما لا يعقد الرجل قلبه عليه، كقوله: لا والله، وبلى والله». (التعريفات: 259).
(2) المائدة / 89.
(3) النحل / 91.(13/213)
«أحلفوا الظّالم إذا أردتّم يمينه بأنه بريء من حول الله وقوّته، فإنه إذا حلف بها كاذبا عوجل».
ومن غريب ما يحكى في ذلك أن عبد الله بن مصعب الزّبيريّ سعى بيحيى ابن عبد الله بن الحسن إلى الرشيد، بعد قيام يحيى بطلب الخلافة فجمع بينهما وتواقفا، ونسب يحيى إلى الزّبيريّ شعرا يقول منه:
قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتها ... إنّ الخلافة فيكم يا بني حسن
فأنكر الزبيريّ الشّعر، فأحلفه يحيى، فقال: قل قد برئت من حول الله وقوّته، واعتصمت بحولي وقوّتي، وتقلّدت الحول والقوّة من دون الله استكبارا على الله، واستغناء عنه، واستعلاء عليه، فامتنع فغضب الرشيد وقال: إن كان صادقا فليحلف وكان للفضل بن الربيع فيه هوى، فرفسه برجله، وقال: ويحك احلف! فحلف ووجهه متغيّر وهو يرعد، فما برح من موضعه حتّى أصابه الجذام فتقطّع ومات بعد ثلاثة أيام ولما حمل إلى قبره ليوضع فيه انخسف به حتّى غاب عن أعين الناس، وخرجت منه غبرة عظيمة، وجعلوا كلّما هالوا عليه التّراب انخسف، فسقّفوه وانصرفوا.(13/214)
الباب الثاني من المقالة الثامنة (في نسخ الأيمان الملوكيّة وفيه فصلان)
الفصل الأوّل في نسخ الأيمان المتعلّقة بالخلفاء وهي على نوعين
النوع الأوّل (في الأيمان التي يحلّف بها على بيعة الخليفة عند مبايعته وهي الأصل في الأيمان الملوكية بأسرها)
وأوّل من رتّبها الحجّاج بن يوسف حين أخذه البيعة لعبد الملك بن مروان على أهل العراق، ثم زيد فيها بعد ذلك، وتنقّحت في الدولة العبّاسية وتنضدت.
وكان عادتهم فيها أن يجري القول فيها بكاف الخطاب، كما في مكاتباتهم يومئذ، وربّما أتي فيها بلفظ المتكلم.
وهذه نسخة يمين أوردها أبو الحسين الصّابي (1) في كتابه «غرر البلاغة» وهي:
تبايع عبد الله أمير المؤمنين فلانا: بيعة طوع واختيار، وتبرّع وإيثار، وإعلان وإسرار، وإظهار وإضمار، وصحّة من غير نغل، وسلامة من غير دغل، وثبات من غير تبديل، ووفاء من غير تأويل، واعتراف بما فيها من اجتماع الشّمل، واتّصال الحبل، وانتظام الأمور، وصلاح الجمهور، وحقن الدّماء، وسكون الدّهماء، وسعادة الخاصّة والعامّة، وحسن العائدة على أهل الملّة والذّمّة على
__________
(1) هو هلال بن المحسّن بن إبراهيم بن هلال الصابيء، أبو الحسين أو أبو الحسن. ولي ديوان الإنشاء ببغداد وتوفي سنة 448هـ. (وفيات الأعيان: 6/ 101والأعلام: 8/ 92).(13/215)
أن عبد الله فلانا أمير المؤمنين عبد الله الذي اصطفاه، وأمينه الذي ارتضاه، وخليفته الذي جعل طاعته جارية بالحقّ، وموجبة على الخلق، وموردة لهم مورد الأمن، وعاقدة لهم معاقد اليمن، وولايته مؤذنة بجميل الصّنع، ومؤدّية لهم إلى جزيل النّفع، وإمامته التي اقترن بها الخير والبركة، والمصلحة العامّة المشتركة، وأمّل فيها قمع الملحد الجاحد، وردّ الجائر الحائد، ووقم (1) العاصي الخالع، وعطف الغاوي المنازع، وعلى أنك وليّ أوليائه، وعدوّ أعدائه: من كلّ داخل في الجملة، وخارج عن الملّة، وعائذ بالحوزة، وحائد عن الدّعوة، ومتمسّك بما بذلته عن إخلاص من آرائك، وحقيقة من وفائك، لا تنقض ولا تنكث، ولا تخلف ولا تواري ولا تخادع، ولا تداجي ولا تخاتل، علانيتك مثل نيّتك، وقولك مثل طويّتك، وعلى أن لا ترجع عن شيء من حقوق هذه البيعة وشرائطها على ممرّ الأيام وتطاولها، وتغيّر الأحوال وتنقّلها، واختلاف الأوقات وتقلّبها، وعلى أنك في كلّ ذلك من أهل الملّة الإسلامية ودعاتها، وأعوان المملكة العباسيّة ورعاتها، لا يتداخل قولك مواربة ولا مداهنة، ولا يعترضه مغالطة ولا يتعقّبه مخالفة، ولا تحبس به أمانة، ولا تقلّه خيانة، حتّى تلقى الله تعالى مقيما على أمرك، ووفيّا بعهدك، إذ كان مبايعو ولاة الأمر وخلفاء الله في الأرض {إِنَّمََا يُبََايِعُونَ اللََّهَ يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمََا يَنْكُثُ عَلى ََ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى ََ بِمََا عََاهَدَ عَلَيْهُ اللََّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (2)
عليك بهذه البيعة التي أعطيت بها صفقة يدك، وأصفيت فيها سريرة قلبك، والتزمت القيام بها ما طال عمرك، وامتدّ أجلك عهد الله إنّ عهد الله كان مسؤولا وما أخذه على أنبيائه ورسله، وملائكته وحملة عرشه، من أيمان مغلّظة وعهود مؤكّدة، ومواثيق مشدّدة: على أنك تسمع وتصغي، وتطيع ولا تعصي، وتعتدل ولا تميد، وتستقيم ولا تميل، وتفي ولا تغدر، وتثبت ولا تتغيّر فمتى زلت عن هذه المحجّة خافرا لأمانتك، ورافعا لديانتك، فجحدت الله تعالى ربوبيّته، وأنكرت
__________
(1) أي إكراهه وقسره.
(2) الفتح / 10.(13/216)
وحدانيّته، وقطعت عصمة محمد صلّى الله عليه وسلّم منك وجذذتها، ورميت طاعته وراء ظهرك ونبذتها، ولقيت الله يوم الحشر إليه، والعرض عليه، مخالفا لأمره، وناقضا لعهده، ومقيما على الإنكار له، ومصرّا على الإشراك به، وكلّ ما حلّله الله لك محرّم عليك، وكلّ ما تملكه يوم رجوعك عن بذلك، وارتجاعك ما أعطيته في قولك: من مال موجود ومذخور، ومصنوع ومضروب، وسارح ومربوط، وسائم ومعقول، وأرض وضيعة، وعقار وعقدة، ومملوك وأمة، صدقة على المساكين، محرّمة على مرّ السنين وكلّ امرأة لك تملك شعرها وبشرها، وأخرى تتزوّجها من بعدها طالق ثلاثا بتاتا، طلاق الحرج والسنة، لا رجعة فيها ولا مثنويّة وعليك الحجّ إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين دفعة حاسرا حافيا، وراجلا ماشيا، نذرا لازما، ووعدا صادقا، لا يبرئك منها إلا القضاء لها، والوفاء بها، ولا قبل منك توبة ولا رجعة، ولا أقالك عثرة ولا صرعة، وخذلك يوم الاستنصار بحوله، وأسلمك عند الاعتصام بحبله وهذه اليمين قولك قلتها قولا فصيحا، وسردتها سردا صريحا، وأخلصت فيها سرّك إخلاصا مبينا، وصدقت بها عزمك صدقا يقينا والنّيّة فيها نيّة فلان أمير المؤمنين دون نيّتك، والطّويّة دون طويّتك وأشهدت الله على نفسك بذلك {وَكَفى ََ بِاللََّهِ شَهِيداً} * (1) يوم تجد كلّ نفس عليها حافظا ورقيبا.
وهذه نسخة يمين بيعة أوردها ابن حمدون في «تذكرته» وأبو الحسن بن سعد في «ترسّله» تواردت مع البيعة السابقة وأيمانها في بعض الألفاظ، وخالفت في أكثرها وهي:
تبايع الإمام أمير المؤمنين بيعة طوع وإيثار، ورضا واختيار، واعتقاد وإضمار، وإعلان وإسرار، وإخلاص من طويّتك، وصدق من نيّتك، وانشراح
__________
(1) النساء / 79.(13/217)
صدرك وصحّة عزيمتك، طائعا غير مكره، ومنقادا غير مجبر، مقرّا بفضلها، مذعنا بحقّها، معترفا ببركتها، ومعتدّا بحسن عائدتها، وعالما بما فيها وفي توكيدها من صلاح الكافّة، واجتماع الكلمة الخاصّة والعامّة، ولمّ الشّعث، وأمن العواقب، وسكون الدّهماء، وعزّ الأولياء، وقمع الأعداء على أن فلانا عبد الله وخليفته، والمفترض عليك طاعته، والواجب على الأمة إقامته وولايته، اللّازم لهم القيام بحقّه، والوفاء بعهده، لا تشكّ فيه، ولا ترتاب به، ولا تداهن في أمره ولا تميل وأنك وليّ وليّه، وعدوّ عدوّه: من خاصّ وعام، وقريب وبعيد، وحاضر وغائب، متمسك في بيعته بوفاء العهد، وذمّة العقد، سريرتك مثل علانيتك، وظاهرك فيه مثل باطنك، وباطنك فيه وفق ظاهرك على أنّ إعطاءك الله هذه البيعة من نفسك، وتوكيدك إيّاها في عنقك، لفلان أمير المؤمنين عن سلامة من قلبك، واستقامة من عزمك، واستمرار من هواك ورأيك، على أن لا تتأوّل عليه فيها، ولا تسعى في نقض شيء منها، ولا تقعد عن نصرته في الرّخاء والشّدّة، ولا تدع النّصر له في كلّ حال راهنة وحادثة، حتّى تلقى الله تعالى موفيا بها، مؤدّيا للأمانة فيها، إذ كان الذين يبايعون ولاة الأمر وخلفاء الله في الأرض {إِنَّمََا يُبََايِعُونَ اللََّهَ يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمََا يَنْكُثُ عَلى ََ نَفْسِهِ}.
عليك بهذه البيعة التي طوّقتها عنقك، وبسطت لها يدك، وأعطيت بها صفقتك وما شرط فيها من وفاء وموالاة، ونصح ومشايعة، وطاعة وموافقة، واجتهاد ومبالغة عهد الله إنّ عهد الله كان مسؤولا، وما أخذ الله على أنبيائه ورسله عليهم السلام وأخذ على عباده من وكيدات مواثيقه، ومحكمات عهوده، وعلى أن تتمسّك بها ولا تبدّل، وتستقيم ولا تميل.
وإن نكثت هذه البيعة، أو بدّلت شرطا من شروطها، أو عفّيت رسما من رسومها، أو غيّرت حكما من أحكامها، معلنا أو مسرّا، أو محتالا أو متأوّلا، أو زغت عن السبيل التي يسلكها من لا يخفر الأمانة، ولا يستحلّ الغدر والخيانة، ولا يستجيز حلّ العقود فكلّ ما تملكه من عين أو ورق أو آنية أو عقار أو زرع أو ضرع
أو غير ذلك من صنوف الأملاك المعتقدة (1)، والأمور المدّخرة، صدقة على المساكين، محرّمة عليك أن ترجع من ذلك، إلى شيء من مالك، بحيلة من الحيل، على وجه من الوجوه وسبب من الأسباب، أو مخرج من مخارج الأيمان وكلّ ما تفيده في بقيّة عمرك: من مال يقلّ خطره أو يجلّ، فتلك سبيله إلى أن تتوفّاك منيّتك، ويأتيك أجلك.(13/218)
وإن نكثت هذه البيعة، أو بدّلت شرطا من شروطها، أو عفّيت رسما من رسومها، أو غيّرت حكما من أحكامها، معلنا أو مسرّا، أو محتالا أو متأوّلا، أو زغت عن السبيل التي يسلكها من لا يخفر الأمانة، ولا يستحلّ الغدر والخيانة، ولا يستجيز حلّ العقود فكلّ ما تملكه من عين أو ورق أو آنية أو عقار أو زرع أو ضرع
أو غير ذلك من صنوف الأملاك المعتقدة (1)، والأمور المدّخرة، صدقة على المساكين، محرّمة عليك أن ترجع من ذلك، إلى شيء من مالك، بحيلة من الحيل، على وجه من الوجوه وسبب من الأسباب، أو مخرج من مخارج الأيمان وكلّ ما تفيده في بقيّة عمرك: من مال يقلّ خطره أو يجلّ، فتلك سبيله إلى أن تتوفّاك منيّتك، ويأتيك أجلك.
وكلّ مملوك لك اليوم أو تملكه إلى آخر أيامك أحرار سائبون لوجه الله تعالى، ونساؤك يوم يلزمك الحنث (2)، ومن تتزوّج بعدهنّ مدّة بقائك طوالق ثلاثا بتاتا، طلاق الحرج والسّنّة (3)، لا مثنويّة فيها ولا رجعة، وعليك المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجّة حافيا حاسرا راجلا، لا يرضى الله منك إلا بالوفاء بها، ولا يقبل الله منك صرفا ولا عدلا، وخذلك يوم تحتاج إليه، وبرّأك الله من حوله وقوّته، وألجأك إلى حولك وقوّتك، والله تعالى بذلك شهيد {وَكَفى ََ بِاللََّهِ شَهِيداً} *.
النوع
الضرب الثاني (4)
(الأيمان التي يحلّف بها الخلفاء)
وقلّ من تعرّض لها لقلّة وقوعها، إذ الخليفة قلّما يحلّف: لعلوّ رتبته، وارتفاع محله ومدار تحليف الخلفاء بعد القسم بالله على التّعليق بوقوع المحذور عليهم، ولزومه لهم، مثل البراءة من الخلافة والانخلاع منها، وما يجري مجرى ذلك. ولم أقف على ذلك إلا في ترسل الصّابي، وذلك حين كان الأمر معدوقا (5)
بالخلفاء.
__________
(1) أي التي اعتقدها صاحبها ملكا.
(2) الحنث: الذنب، والشّرك.
(3) طلاق السنّة هو أن يطلقها الرجل ثلاثا في ثلاثة أطهار. ويقال: أحرج امرأته بطلقة أي حرّمها. (انظر التعريفات: 141ولسان العرب: 2/ 234).
(4) كذا بالأصل. وصوابه «النوع الثاني».
(5) أي منوطا بهم.(13/219)
الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الثامنة: (في نسخ الأيمان المتعلقة بالملوك وفيه خمسة مهايع (1))
المهيع الأوّل (في بيان الأيمان التي يحلّف بها المسلمون وهي على نوعين)
النوع الأوّل (من الأيمان التي يحلّف بها المسلمون: أيمان أهل السّنّة)
وهي اليمين العامة التي يحلّف بها أهل الدولة: من الأمراء والوزراء والنوّاب، ومن يجري مجراهم.
وهذه نسخة يمين أوردها في «التعريف» وهي:
أقول وأنا فلان: والله والله والله، وبالله وبالله وبالله، وتالله وتالله وتالله، والله العظيم الذي لا إله إلا هو، الباريء الرحمن الرحيم، عالم الغيب والشهادة، والسّر والعلانية، وما تخفي الصّدور، القائم على كلّ نفس بما كسبت، والمجازي لها بما عملت، وحقّ جلال الله، وقدرة الله، وعظمة الله، وكبرياء الله، وسائر أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا إنّني من وقتي هذا، وما مدّ الله في عمري، قد أخلصت نيّتي، ولا أزال مجتهدا في إخلاصها، وأصفيت طويّتي، ولا أزال مجتهدا في إصفائها، في طاعة مولانا السلطان فلان الفلاني خلّد الله ملكه وخدمته ومحبّته، وامتثال مراسيمه، والعمل بأوامره، وإنني والله العظيم [حرب
__________
(1) لم يذكر المهيع الخامس.(13/220)
لمن حاربه، سلم لمن سالمه، عدوّ لمن عاداه، وليّ لمن والاه من سائر الناس أجمعين، وإنني والله العظيم] (1) لا أضمر لمولانا السلطان فلان سوءا ولا غدرا، ولا خديعة ولا مكرا، ولا خيانة في نفس ولا مال، ولا سلطنة، ولا قلاع ولا حصون، [ولا بلاد ولا غير ذلك] (2) ولا أسعى في تفريق كلمة أحد من أمرائه، ولا مماليكه، ولا عساكره، ولا أجناده، ولا عربانه ولا تركمانه ولا أكراده، ولا استمالة طائفة منهم لغيره، ولا أوافق على ذلك بقول ولا فعل ولا نيّة ولا بمكاتبة [ولا مراسلة] (3)، ولا إشارة ولا رمز، ولا كناية ولا تصريح وإن جاءني كتاب من أحد من خلق الله تعالى بما فيه مضرّة على مولانا السلطان أو أهل دولته لا أعمل به، ولا أصغى إليه، وأحمل الكتاب إلى ما بين يديه الشريفتين، هو ومن أحضره إن قدرت على إمساكه.
وإنني والله العظيم أفي لمولانا السلطان بهذه اليمين من أوّلها إلى آخرها، لا أنقضها ولا شيئا منها، ولا أستثني فيها ولا في شيء منها، ولا أخالف شرطا من شروطها، ومتى خالفتها أو شيئا منها، أو نقضتها أو شيئا منها، أو استثنيت فيها أو في شيء منها طلبا لنقضها، فكلّ ما أملكه: من صامت وناطق صدقة على الفقراء والمساكين، وكلّ زوجة في عقد نكاحه أو يتزوّجها في المستقبل فهي طالق [ثلاثا بتاتا على سائر المذاهب] (4)، وكلّ عبيدي وإمائي أحرار لوجه الله وعليه الحجّ إلى بيت الله الحرام بمكّة المعظّمة، والوقوف بعرفة ثلاثين حجّة متواليات متتابعات كوامل، حافيا ماشيا، وعليه صوم الدّهر كلّه إلا المنهيّ عنه، وعليه أن يفكّ ألف رقبة مؤمنة من أسر الكفّار، ويكون بريئا من الله تعالى ومن رسوله صلّى الله عليه وسلم ومن دين الإسلام إن خالفت هذه اليمين أو شرطا من شروطها.
وهذه اليمين يميني وأنا فلان، والنّيّة فيها بأسرها نيّة مولانا السلطان فلان، ونيّة مستحلفيّ له بها، لا نيّة لي في باطني وظاهري [سواها] (5) أشهد الله عليّ بذلك، وكفى بالله شهيدا والله على ما أقول وكيل.
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 147.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 147.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 147.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 147.
(5) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 147.(13/221)
قلت: عجيب من المقرّ الشّهابي رحمه الله ما أتى به في نسخة هذه اليمين، فإنه أتى بها بلفظ التكلم إلى قوله: «وكلّ زوجة» فعدل عن التكلم إلى الغيبة، وقال في نكاحه، وكذلك ما بعده إلى قوله «من أسر الكفار ويكون بريئا من الله ومن رسوله صلّى الله عليه وسلّم إن خالفت هذه اليمين» وأتى بصيغة التكلم إلى آخر الكلام. فإن كان فرّ في قوله: «وكل زوجة في نكاحه» خوفا من أن يقول «في نكاحي» فتطلق زوجته هو، فلا وجه له: لأن الحاكي لا يقع عليه الطّلاق، وكذا ما بعده من العتق وغيره.
وأعجب من ذلك كلّه قوله: ويكون بريئا من الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ومن دين الإسلام إن خالفت فجمع بين الغيبة والتّكلّم في حالة واحدة!!. على أن ما ذكره بلفظ الغيبة إنما هو فيما سطّره في النّسخة. أما إذا كتبت اليمين التي يحلّف بها، فإنها لا تكون في الجميع إلا بلفظ التكلّم فما المعنى في أنّه خاف من الوقوع في المحذور عند حكاية القول، ولم يخف مثل ذلك فيما يكتبه في نفس اليمين؟.
وقد ذكر صاحب «التثقيف» جميع ذلك بلفظ التكلم، مع المخالفة في بعض الألفاظ وزيادة ونقص فيها.
وهذه نسختها وهي:
أقول وأنا فلان بن فلان: والله والله والله، وبالله وبالله وبالله، وتالله وتالله وتالله، والله الذي لا إله إلا هو، الباريء الرحمن الرحيم، عالم الغيب والشّهادة، والسّر والعلانية، وما تخفي الصّدور، القائم على كلّ نفس بما كسبت، والمجازي لها بما احتقبت، وحقّ جلال الله، وعظمة الله، وقدرة الله، وكبرياء الله، وسائر أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، وحقّ هذا القرآن الكريم ومن أنزله، ومن أنزل عليه إنني من وقتي هذا، ومن ساعتي هذه، وما مدّ الله في عمري قد أخلصت نيّتي، ولا أزال مجتهدا في إخلاصها، وأصفيت طويّتي، ولا أزال مجتهدا في إصفائها في طاعة السلطان الملك الفلانيّ، فلان الدنيا والدّين فلان خلّد الله ملكه وفي خدمته ومحبّته ونصحه، وأكون وليّا لمن والاه، عدوّا
لمن عاداه، سلما لمن سالمه، حربا لمن حاربه: من سائر الناس أجمعين لا أضمر له سوءا ولا مكرا، ولا خديعة ولا خيانة في نفس، ولا مال، ولا ملك ولا سلطنة، ولا عساكر، ولا أجناد، ولا عربان، ولا تركمان، ولا أكراد، ولا غير ذلك، ولا أسعى في تفريق كلمة أحد منهم عن طاعته الشريفة، وإنّني والله العظيم أبذل جهدي وطاقتي في طاعة مولانا السلطان الملك الفلانيّ، فلان الدنيا والدين المشار إليه وإن كاتبني أحد من سائر الناس أجمعين بما فيه مضرّة على ملكه لا أوافق على ذلك بقول ولا فعل ولا نيّة وإن قدرت على إمساك الذي جاءني بالكتاب أمسكته، وأحضرته لمولانا السلطان الملك الفلانيّ المشار إليه، أو النائب القريب منّي. وإنّني والله العظيم أفي لمولانا السّلطان المشار إليه بهذه اليمين من أوّلها إلى آخرها، لا أستثني فيها ولا في شيء منها، ولا استفتي فيها ولا في شيء منها. وإن خالفتها أو شيئا منها، أو استثنيت منها، أو استفتيت طلبا لنقضها أو نقض شيء منها، فيكون كلّ ما أملكه من صامت وناطق صدقة على الفقراء والمساكين من المسلمين، وتكون كلّ زوجة في عقد نكاحي أو أتزوّجها في المستقبل طالقا ثلاثا بتاتا على سائر المذاهب، وتكون كلّ أمة أو مملوك في ملكي الآن أو أملكه في المستقبل أحرارا لوجه الله تعالى، ويلزمني ثلاثون حجّة متواليات متتابعات، حافيا حاسرا، وعليّ صوم الدّهر بجملته إلا الأيام المنهيّ عن صومها.(13/222)
أقول وأنا فلان بن فلان: والله والله والله، وبالله وبالله وبالله، وتالله وتالله وتالله، والله الذي لا إله إلا هو، الباريء الرحمن الرحيم، عالم الغيب والشّهادة، والسّر والعلانية، وما تخفي الصّدور، القائم على كلّ نفس بما كسبت، والمجازي لها بما احتقبت، وحقّ جلال الله، وعظمة الله، وقدرة الله، وكبرياء الله، وسائر أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، وحقّ هذا القرآن الكريم ومن أنزله، ومن أنزل عليه إنني من وقتي هذا، ومن ساعتي هذه، وما مدّ الله في عمري قد أخلصت نيّتي، ولا أزال مجتهدا في إخلاصها، وأصفيت طويّتي، ولا أزال مجتهدا في إصفائها في طاعة السلطان الملك الفلانيّ، فلان الدنيا والدّين فلان خلّد الله ملكه وفي خدمته ومحبّته ونصحه، وأكون وليّا لمن والاه، عدوّا
لمن عاداه، سلما لمن سالمه، حربا لمن حاربه: من سائر الناس أجمعين لا أضمر له سوءا ولا مكرا، ولا خديعة ولا خيانة في نفس، ولا مال، ولا ملك ولا سلطنة، ولا عساكر، ولا أجناد، ولا عربان، ولا تركمان، ولا أكراد، ولا غير ذلك، ولا أسعى في تفريق كلمة أحد منهم عن طاعته الشريفة، وإنّني والله العظيم أبذل جهدي وطاقتي في طاعة مولانا السلطان الملك الفلانيّ، فلان الدنيا والدين المشار إليه وإن كاتبني أحد من سائر الناس أجمعين بما فيه مضرّة على ملكه لا أوافق على ذلك بقول ولا فعل ولا نيّة وإن قدرت على إمساك الذي جاءني بالكتاب أمسكته، وأحضرته لمولانا السلطان الملك الفلانيّ المشار إليه، أو النائب القريب منّي. وإنّني والله العظيم أفي لمولانا السّلطان المشار إليه بهذه اليمين من أوّلها إلى آخرها، لا أستثني فيها ولا في شيء منها، ولا استفتي فيها ولا في شيء منها. وإن خالفتها أو شيئا منها، أو استثنيت منها، أو استفتيت طلبا لنقضها أو نقض شيء منها، فيكون كلّ ما أملكه من صامت وناطق صدقة على الفقراء والمساكين من المسلمين، وتكون كلّ زوجة في عقد نكاحي أو أتزوّجها في المستقبل طالقا ثلاثا بتاتا على سائر المذاهب، وتكون كلّ أمة أو مملوك في ملكي الآن أو أملكه في المستقبل أحرارا لوجه الله تعالى، ويلزمني ثلاثون حجّة متواليات متتابعات، حافيا حاسرا، وعليّ صوم الدّهر بجملته إلا الأيام المنهيّ عن صومها.
وهذه اليمين يميني، وأنا فلان بن فلان، والنّيّة في هذه اليمين بأسرها نيّة مولانا السلطان الملك الفلانيّ المشار إليه، ونيّة مستحلفيّ له بها، لا نيّة لي في غيرها، ولا قصد لي في باطني وظاهري سواها. أشهد الله عليّ بذلك، وكفى بالله شهيدا، والله على ما أقول وكيل.
قلت: وربّما كان للسلطان وليّ عهد بالسّلطنة فيقع التّحليف للسّلطان ولولده جميعا، وهي على نحو ما تقدّم، لا يتغير فيها إلا نقل الضمير من الإفراد إلى التّثنية.
وهذه نسخة يمين حلّف عليها العساكر للسلطان الملك المنصور «قلاوون» في سنة ثمان وسبعين وستمائة له ولولده وليّ عهده الملك الصالح علاء الدين «عليّ» أوردها ابن المكرّم في تذكرته وهي:(13/223)
قلت: وربّما كان للسلطان وليّ عهد بالسّلطنة فيقع التّحليف للسّلطان ولولده جميعا، وهي على نحو ما تقدّم، لا يتغير فيها إلا نقل الضمير من الإفراد إلى التّثنية.
وهذه نسخة يمين حلّف عليها العساكر للسلطان الملك المنصور «قلاوون» في سنة ثمان وسبعين وستمائة له ولولده وليّ عهده الملك الصالح علاء الدين «عليّ» أوردها ابن المكرّم في تذكرته وهي:
والله والله والله، وبالله وبالله وبالله، وتالله وتالله وتالله، والله العظيم الذي لا إله إلا هو، الرحمن الرحيم، الطّالب الغالب، المدرك المهلك، الضارّ النافع، عالم الغيب والشّهادة، والسّرّ والعلانية وما تخفي الصدور، القائم على كلّ نفس بما كسبت، والمجازي لها بما احتقبت، وحقّ جلال الله، وعزّة الله، وعظمة الله، وسائر أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا إنّني من وقتي هذا، ومن ساعتي هذه، وما مدّ الله في عمري قد أخلصت النّيّة، ولا أزال مجتهدا في إخلاصها، وأصفيت طويّتي ولا أزال مجتهدا في إصفائها، في طاعة السّلطان فلان، وطاعة ولده وليّ عهده فلان، وخدمتهما وموالاتهما، وامتثال مراسيمهما، والعمل بأوامرهما. وإنّني والله العظيم حرب لمن حاربهما، سلم لمن سالمهما، عدوّ لمن عاداهما، وليّ لمن والاهما. وإنّني والله العظيم لا أسعى في أمر فيه مضرّة على مولانا السلطان، ولا في مضرّة ولده، في نفس ولا سلطنة، ولا إستمالة لغيرهما، ولا أوافق أحدا على ذلك بقول ولا فعل، ولا مكاتبة ولا مشافهة، ولا مراسلة، ولا تصريح. وإنّني والله العظيم لا أدّخر عن السّلطان ولا عن ولده نصيحة في أمر من أمور ملكهما الشريف، ولا أخفيها عن أحدهما، وأن أعلمه بها في أقرب وقت يمكنني الإعلام له بها، أو أعلم من يعلمه بها، وأن الخ (1)
__________
(1) كذا في الأصل. وقد ترك الباقي لأنه معلوم مما سبق.(13/224)
النوع الثاني (من الأيمان التي يحلّف بها المسلمون أيمان أهل البدع والذين منهم بهذه المملكة ثلاث طوائف)
الطائفة الأولى (الخوارج)
وهم قوم ممن كانوا مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، حملوه على أن رضي بالتّحكيم بينه وبين معاوية، وأشاروا بإقامة أبي موسى الأشعريّ حكما عن عليّ، وإقامة عمرو بن العاص حكما عن معاوية، فخدع عمرو أبا موسى: بأن اتّفق معه على أن يخلعا عليّا ومعاوية جميعا، ويقيم المسلمون لهم خليفة يختارونه فتقدّم أبو موسى وأشهد من حضر أنّه خلعهما، فوافق عمرو على خلع عليّ، ولم يخلع معاوية وبقي الأمر لمعاوية فأنكروا ذلك حينئذ، ورفضوا التّحكيم، ومنعوا حكمه، وكفّروا عليّا ومعاوية ومن كان معهما بصفّين، وقالوا: لا حكم إلا لله ورسوله، وخرجوا على عليّ، فسمّوا الخوارج، ثم فارقوه وذهبوا إلى النّهروان فأقاموا هناك، وكانوا أربعة آلاف غوغاء لا رأس لهم فذهب إليهم عليّ رضي الله عنه فقاتلهم، فلم يفلت سوى تسعة أنفس:
ذهب منهم اثنان إلى عمان، واثنان إلى كرمان، واثنان إلى سجستان، واثنان إلى الجزيرة، وواحد إلى اليمن فظهرت بدعتهم بتلك البلاد وبقيت بها.
ثم من مذهبهم منع التّحكيم على ما تقدّم، وتخطئة عليّ وأصحابه، ومعاوية وأصحابه بصفّين في اعتمادهم إيّاه، بل تكفيرهم على ما تقدّم ومنها امتناع ذلك عن رضا أصلا (1) وأنهم يمنعون التأويل في كتاب الله تعالى. ومنهم من يقول: إن سورة يوسف عليه السّلام ليست من القرآن، وإنما هي قصّة من
__________
(1) كذا في الأصل. وفي الطبعة الأميرية مع علامة توقف. ولعل في العبارة سقطا تقديره «مع أنهم قبلوه عن رضا الخ».(13/225)
القصص، ومن أدخلها في القرآن فقد زاد فيه ما ليس منه، على ما سيأتي ذكره.
ويقولون: إن إمارة بني أميّة كانت ظلما، وإنّ قضاءهم الذي رتّبوه على التحكيم باطل. ويذهبون إلى تخطئة عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعريّ فيما اتفقا عليه عند تحكيمهما ويشنّعون على معاوية وأصحابه، ويقولون: استباحوا الفروج والأموال بغير حقّ.
ثم منهم من يكفّر بالكبائر، ومنهم من يكفّر بالإصرار على الصّغائر بخلاف الكبائر من غير إصرار على ما يأتي ذكره. ويصوّبون فعلة عبد الرحمن بن ملجم في قتله عليّا رضي الله عنه، وينكرون على من ينكر ذلك عليه، لا سيما من ذهب من الشّيعة إلى أن ذلك كفر. وفي ذلك يقول شاعرهم:
يا ضربة من وليّ (1) ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إنّي لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى الخليقة عند الله ميزانا
وكذلك يصوّبون فعل عمرو بن بكر الخارجيّ في قتل خارجة بن أبي حبيبة (2) صاحب شرطة عمرو بن العاص بمصر، حين قتله على ظنّ أنه عمرو بن العاص، لما لهم عنده من الإحن والضّغائن، وأنهم يصوّبون فعل قطام زوج عبد الرحمن بن ملجم في [اشتراطها على ابن ملجم حين خطبها ثلاثة آلاف وعبدا وقينة وقتل عليّ] (3)، وأنهم يستعظمون خلع طاعة رؤوسهم، وأنهم يجوّزون كون الإمام غير قرشيّ، بل هم يجوّزون إمامة الحرّ والعبد جميعا، وينسبون من خالفهم إلى الخطإ، ويستبيحون دماءهم بمقتضى ذلك.
واعلم أن ما تقدّم ذكره من معتقدات الخوارج هو مقتضى ما رتّبه من يمينهم في «التعريف» على ما سيأتي ذكره. على أن بعض هذه المعتقدات يختصّ بها
__________
(1) في «الملل والنحل» ص 69: «من منيب». وفي كامل ابن الأثير ج 3/ 171: «من شقيّ» (الطبعة الأميرية: 13/ 223).
(2) في الأصل «حنيفة» والتصحيح من الطبعة الأميرية عن الكامل لابن الأثير. وفي تاريخ الطبري:
3/ 159 «خارجة بن حذافة».
(3) بياض في الأصل. والزيادة من تاريخ الطبري.(13/226)
بعض فرق الخوارج دون بعض على ما سيأتي بيانه، ولكلّ منهم معتقدات أخرى تزيد على ما تقدّم ذكره.
وهأنا أذكر بعض فرقهم، وبعض ما اختصّت به كلّ فرقة منهم، ليبني على ذلك من أراد ترتيب يمين لفرقة منهم:
فمنهم المحكّمة وهم الذين يمنعون التّحكيم.
ومنهم الأزارقة وهم أتباع نافع بن الأزرق، وهم الذين خرجوا بفارس وكرمان أيّام ابن الزّبير، وقاتلهم المهلّب بن أبي صفرة، وهم الذين يكفّرون عليّا مع جمع من الصحابة، ويصوّبون فعل ابن ملجم، ويكفّرون القعدة عن القتال مع الإمام وإن قاتل أهل دينه، ويبيحون قتل أطفال المخالفين ونسائهم، ويسقطون الرّجم عن الزّاني المحصن، وحدّ القذف عن قاذف الرّجل المحصن دون قاذف المرأة المحصنة، ويخرجون أصحاب الكبائر عن الإسلام، ويقولون: التّقيّة غير جائزة.
ومنهم النّجدات وهم أصحاب نجدة بن عامر، يكفّرون بالإصرار على الصغائر دون فعل الكبائر من غير إصرار، ويستحلّون دماء أهل العهد والذّمّة وأموالهم في دار التّقيّة، ويتبرّأون ممن حرّمها.
ومنهم البيهسيّة وهم أصحاب أبي بيهس بن [جابر] (1)، يرون أنه لا حرام إلا ما وقع عليه النّصّ بقوله تعالى: {قُلْ لََا أَجِدُ فِي مََا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} (2) الآية. ويكفّرون الرّعيّة بكفر الإمام.
ومنهم العجاردة (3) وهم الذين ينكرون كون سورة يوسف من القرآن،
__________
(1) في الأصل «خالد» والتصحيح من دائرة المعارف الإسلامية: 1/ 435والطبعة الأميرية عن الملل والنحل. واسم أبي بيهس هو الهيصم بن جابر. قتله عامل الحجاج على المدينة سنة 94هـ.
(2) الأنعام / 45.
(3) في اللسان عن الجوهري: العجاردة صنف من الخوارج أصحاب عبد الكريم بن العجرد.(13/227)
ويقولون: إنما هي قصّة من القصص، ويوجبون التّبرّي من الطّفل، فإذا بلغ دعي إلى الإسلام.
ومنهم الميمونية (1) وهم فرقة يقولون: إن الله تعالى يريد الخير دون الشّر، ويجوّزون نكاح بنات البنات وبنات أولاد الإخوة والأخوات.
ومنهم الإباضيّة (2) يرون أنّ مرتكب الكبيرة كافر للنعمة لا مشرك، ويرون أنّ دار مخالفيهم من المسلمين دار توحيد، ودار السلطان منهم دار بغي.
ومنهم الثّعالبة (3) يرون ولاية الطّفل حتّى يظهر عليه إنكار الحقّ فيتبرّأون منه.
ومنهم الصّفريّة (4) يرون أنّ ما كان من الكبائر فيه حدّ كالزّنا لا يكفّر به، وما كان منها ليس فيه حدّ: كترك الصّلاة يكفّر به.
وكأن الذي أورده في «التعريف» متّفق عليه عندهم، أو هو قول أكثرهم فاكتفى به.
__________
(1) ينتسبون إلى ميمون بن عمران. انفصل عن العجاردة. قال الشهرستاني: «انفرد ميمون عن العجاردة بإثبات القدر خيره وشره من العبد، وإثبات الفعل للعبد خلقا وإبداعا، وإثبات الاستطاعة قبل الفعل، والقول بأن الله تعالى يريد الخير دون الشر، وليس له مشيئة في معاصي العباد». وأشار المقريزي في خططه إلى أن الأزارقة كانوا يستحلون أموال المخالفين لهم وقال: ولم تستحل الميمونية مال أحد خالفهم ما لم يقتل، فإذا قتل صار ماله فيئا. (خطط المقريزي: 2/ 354 والأعلام: 7/ 341).
(2) ويسمون عادة «أباضية» بفتح الهمزة في شمالي أفريقيا. وهم أتباع عبد الله بن إباض المقاعسي المري التميمي. كان معاصرا لمعاوية، وعاش إلى أواخر أيام عبد الملك بن مروان. (الأعلام:
4/ 61ودائرة المعارف الإسلامية: 1/ 127وخطط المقريزي: 2/ 355وشذرات الذهب:
1/ 177).
(3) أتباع ثعلبة بن عامر. وكان ثعلبة هذا مع عبد الكريم بن عجرد ثم اختلفا في الأطفال، فقال عبد الكريم: نتبرأ منهم قبل البلوغ، وقال ثعلبة بل نتولاهم. (المقريزي: 2/ 355).
(4) أتباع زياد بن الأصفر، ويقال أتباع النعمان بن صفر، وقيل بل نسبوا إلى عبد الله بن صفار. ويقال للصفرية أيضا الزيادية والنكار. (المرجع السابق).(13/228)
وقد رتب في «التعريف» تحليفهم على مقتضى ما ذكره من اعتقادهم فقال:
وأيمانهم أيمان أهل السّنّة، ويزاد فيها: وإلا أجزت التّحكيم، وصوّبت قول الفريقين في صفّين، وأطعت بالرّضا منّي حكم أهل الجور، وقلت في كتاب الله بالتأويل، وأدخلت في القرآن ما ليس منه، وقلت: إن إمارة بني أميّة عدل، وإن قضاءهم حقّ، وإن عمرو بن العاص أصاب، وإنّ أبا موسى ما أخطأ، واستبحت الأموال والفروج بغير حقّ، واجترحت الكبائر والصّغائر، ولقيت الله مثقلا بالأوزار، وقلت: إن فعلة عبد الرحمن بن ملجم كفر، [وإن قاتل خارجة آثم، وبرئت من فعلة قطام] (1)، وخلعت طاعة الرّؤوس، وأنكرت أن تكون الخلافة إلّا في قريش، وإلّا فلا روّيت سيفي ورمحي من دماء المخطئين.
الطائفة الثانية (الشّيعة)
وهم الذين شايعوا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وقالوا بإمامته وخلافته: نصّا ووصاية، جليّا أو خفيّا، وإن الإمامة لا تخرج عنه وعن بنيه إلا بظلم من غير ذلك الإمام (2)، أو بتقيّة منه لغيره.
قال الشّهرستانيّ في «النّحل والملل»: ويجمعهم القول بوجوب التّعيين للإمام والتنصيص عليه ممّن قبله، وثبوت عصمة الأئمّة وجوبا عن الكبائر والصغائر، والقول بالتّولّي للأئمّة والتّبرّي من غيرهم.
وقال في «التعريف» يجمعهم حبّ عليّ رضي الله عنه، وتختلف فرقهم فيمن سواه.
فأما مع إجماعهم على حبّه فهم مختلفون في اعتقادهم فيه، فمنهم أهل غلوّ مفرط وعتوّ زائد: ففيهم من أدّى به الغلوّ إلى أن اتّخذ عليّا إلها وهم النّصيريّة
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 162.
(2) يريد: بظلم يكون من غيره، كما هي عبارة «الملل والنحل».(13/229)
قال: ومنهم من قال: إنّه النبيّ المرسل وإنّ جبريل غلط، ومنهم من قال: إنه شريك في النّبوّة والرسالة، ومنهم من قال: إنه وصيّ النّبوّة بالنّصّ الجليّ، ثم تخالفوا في الإمامة بعده وأجمعوا بعده على الحسن ثم الحسين وقالت فرقة منهم: وبعدهما محمد بن الحنفيّة.
ثم قد ذكر في «التعريف» أن الموجود من الشيعة في هذه المملكة خمس فرق:
الفرقة الأولى (الزّيديّة)
وهم القائلون بإمامة زيد بن عليّ بن الحسين السّبط، ابن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الذي رأسه مدفون بالمشهد الذي بين كيمان مصر، جنوبيّ الجامع الطّولونيّ، المعروف بمشهد الرّأس، فيما ذكره القاضي محيي الدّين بن عبد الظاهر في خطط القاهرة. قال في «التعريف»: وهم أقرب القوم إلى القصد الأمم. قال: ولهم إمام باق باليمن إلى الآن، وصنعاء داره، وأمراء مكّة المعظّمة منهم. ثم قال: وحدّثني مبارك بن عطيفة بن أبي نميّ:
أنهم لا يدينون إلا بطاعة ذلك الإمام، ولا يرون إلا أنّهم نوّابه، وإنما يتّقون صاحب مصر لخوفهم منه وللإقطاع، وصاحب اليمن لمداراته لواصل الكارم (1)
ورسوم الأنعام. ومن ثمّ عدّهم من جملة من بهذه المملكة من طوائف البدع.
وكان من مذهب زيد هذا جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل، ويقول: إنّ عليّا رضي الله عنه كان أفضل الصّحابة رضوان الله عليهم، إلا أنّ الإمامة فوّضت إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لمصلحة رأوها، وقاعدة دينيّة راعوها: من
__________
(1) المراد به البهار من فلفل وقرنفل ونحوهما مما كان يجلب من الهند عن طريق ثغور اليمن. وقد عرفت تجارة هذه المواد باسم فئة من التجار كان معظمهم من بلاد «الكانم» الإسلامية التي تقع بين بحر الغزال وبحيرة تشاد بالسودان الغربي، فنسبوا إلى أصلهم الجغرافي بعد تحريفه إلى «الكارم» ثم أطلق ذلك اللفظ على جميع من مارس تلك التجارة بمصر. (مصطلحات صبح الأعشى: 73).(13/230)
تسكين نائرة الفتنة، وتطييب قلوب العامّة، مع تفضيل عليّ على الشّيخين عندهم في أوانهم. وأتباعه يعتقدون أنّ هذا هو المعتقد الحقّ، ومن خالفه خرج عن طريق الحقّ، وضل عن سواء السّبيل.
وهم يقولون: إن نصّ الأذان بدل الحيعلتين: «حيّ على خير العمل» يقولونها في أذانهم مرّتين بدل الحيعلتين، وربّما قالوا قبل ذلك: «محمد وعليّ خير البشر، وعترتهما خير العتر» ومن رأى أن هذا بدعة فقد حاد عن الجادّة.
وهم يسوقون الإمامة في أولاد عليّ كرّم الله وجهه من فاطمة رضي الله عنها، ولا يجوّزون ثبوت الإمامة في غير بنيهما إلا أنّهم جوّزوا أن يكون كلّ فاطميّ عالم زاهد شجاع خرج لطلب الإمامة إماما معصوما واجب الطاعة، سواء كان من ولد الحسن أو الحسين عليهما السلام، ومن خلع طاعته فقد ضلّ. وهم يرون أن الإمام المهديّ المنتظر من ولد الحسين رضي الله عنه دون ولد الحسن، ومن خالف في ذلك فقد أخطأ. ومن قال: إنّ الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أفضل من عليّ وبنيه فقد أخطأ عندهم وخالف زيدا في معتقده. ويقولون: إن تسليم الحسن الأمر لمعاوية كان لمصلحة اقتضاها الحال، وإن كان الحقّ له.
قال في «التعريف»: وأيمانهم أيمان أهل السّنّة، يعني فيحلّفون كما تقدّم، ويزاد فيها: وإلّا برئت من معتقد زيد بن عليّ، ورأيت أنّ قولي في الأذان: «حيّ على خير العمل» بدعة، وخلعت طاعة الإمام المعصوم الواجب الطّاعة، وادّعيت أن المهديّ المنتظر ليس من ولد الحسين بن عليّ، وقلت بتفضيل الشيخين على أمير المؤمنين عليّ وبنيه، وطعنت في رأي ابنه الحسن لما اقتضته المصلحة، وطعنت عليه فيه.
الفرقة الثانية (من الشّيعة: الإمامية)
وهم القائلون بإمامة اثني عشر إماما: أوّلهم أمير المؤمنين عليّ المرتضى، ثم ابنه الحسن المجتبى، ثم أخوه الحسين شهيد كربلاء، ثم ابنه عليّ السّجّاد
زين العابدين، ثم ابنه محمد الباقر، ثم ابنه جعفر الصّادق، ثم ابنه موسى الكاظم، ثم ابنه عليّ الرّضا وهو الذي عهد إليه المأمون بالخلافة ومات قبل أن يموت المأمون، ثم ابنه محمد التّقي، ثم ابنه عليّ النقي، ثم ابنه الحسن الزّكيّ المعروف بالعسكريّ، ثم ابنه محمد الحجّة، وهو المهديّ المنتظر عندهم، يقولون إنه دخل مع أمّه صغيرا سردابا بالحلّة على القرب من بغداد ففقد ولم يعد، فهم ينتظرونه إلى الآن، ويقال: إنهم في كلّ ليلة يقفون عند باب السّرداب ببغلة مشدودة ملجمة من الغروب إلى مغيب الشّفق ينادون: أيّها الإمام! قد كثر الظّلم! وظهر الجور فاخرج إلينا! ثم يرجعون إلى اللّيلة الأخرى، وتلقّب هذه الفرقة بالأثني عشريّة أيضا، لقولهم بإمامة اثني عشر إماما، وبالموسويّة لقولهم بانتقال الخلافة بعد جعفر الصادق إلى ابنه موسى الكاظم المقدّم ذكره دون أخيه إسماعيل إمام الإسماعيليّة الآتي ذكره، وبالقطعيّة لقولهم بموت إسماعيل المذكور في حياة أبيه الصادق والقطع بانتقال الإمامة إلى موسى (1)
قال في «التعريف»: وهم مسلمون، إلا أنهم أهل بدعة كبيرة سبّابة.(13/231)
وهم القائلون بإمامة اثني عشر إماما: أوّلهم أمير المؤمنين عليّ المرتضى، ثم ابنه الحسن المجتبى، ثم أخوه الحسين شهيد كربلاء، ثم ابنه عليّ السّجّاد
زين العابدين، ثم ابنه محمد الباقر، ثم ابنه جعفر الصّادق، ثم ابنه موسى الكاظم، ثم ابنه عليّ الرّضا وهو الذي عهد إليه المأمون بالخلافة ومات قبل أن يموت المأمون، ثم ابنه محمد التّقي، ثم ابنه عليّ النقي، ثم ابنه الحسن الزّكيّ المعروف بالعسكريّ، ثم ابنه محمد الحجّة، وهو المهديّ المنتظر عندهم، يقولون إنه دخل مع أمّه صغيرا سردابا بالحلّة على القرب من بغداد ففقد ولم يعد، فهم ينتظرونه إلى الآن، ويقال: إنهم في كلّ ليلة يقفون عند باب السّرداب ببغلة مشدودة ملجمة من الغروب إلى مغيب الشّفق ينادون: أيّها الإمام! قد كثر الظّلم! وظهر الجور فاخرج إلينا! ثم يرجعون إلى اللّيلة الأخرى، وتلقّب هذه الفرقة بالأثني عشريّة أيضا، لقولهم بإمامة اثني عشر إماما، وبالموسويّة لقولهم بانتقال الخلافة بعد جعفر الصادق إلى ابنه موسى الكاظم المقدّم ذكره دون أخيه إسماعيل إمام الإسماعيليّة الآتي ذكره، وبالقطعيّة لقولهم بموت إسماعيل المذكور في حياة أبيه الصادق والقطع بانتقال الإمامة إلى موسى (1)
قال في «التعريف»: وهم مسلمون، إلا أنهم أهل بدعة كبيرة سبّابة.
وهم يقولون: بإمامة عليّ رضي الله عنه نصّا ظاهرا، وتعيينا صادقا، احتجاجا بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من يبايعني على ماله، فبايعه جماعة، ثم قال: من يبايعني على روحه وهو وصيّي ووليّ هذا الأمر من بعدي، فلم يبايعه أحد، حتّى مدّ أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام يده إليه فبايعه على روحه ووفى بذلك».
قال في «العبر» (2): وهذه الوصيّة لا تعرف عن أحد من أهل الأثر، بل هي من موضوعاتهم ويخصّونه بوراثة علم النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
ويروون أنه صلّى الله عليه وسلّم قال يوم غدير خمّ: «من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأدر الحقّ على لسانه كيفما دار» ويرون أنّ بيعة الصّدّيق رضي الله عنه يوم السّقيفة غير صحيحة: حين اجتمع
__________
(1) ويعرفون أيضا بالجعفرية، نسبة إلى جعفر الصادق الذي يعتبرونه واضع ومنظم أسس مذهبهم الفقهي.
(2) يعني تاريخ ابن خلدون.(13/232)
الأنصار بعد موت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ليبايعوه، وذهب إليهم أبو بكر رضي الله عنه ومعه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة، وروى لهم أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يصلح هذا الأمر إلّا لهذا الحيّ من قريش» فرجعوا إلى قوله وبايعه عمر، ثم بايعه الناس على ما تقدّم ذكره في الكلام على مبايعات الخلفاء في المقالة الخامسة، وأنّ القائم فيها مجترم لا سيّما أوّل باد بذلك. ويقولون: إن الحقّ كان في ذلك لعليّ بالوصيّة. ويقولون: إن القيام على أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وحصره في الدار كان واجبا لاعتقادهم عدم صحّة خلافته مع وجود عليّ رضي الله عنه، وإن المتأخّر عن حصره كان مخطئا. ويرون جواز التّقيّة خوفا على النّفس، وأنّ عليّا رضي الله عنه إنما تأخّر عن طلب الإمامة عند قيام من كان قبله بها تقيّة على نفسه (1) ويرون أنّ من أعان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الخلافة كان مخطئا: لبطلان خلافته بترتّبها على خلافة أبي بكر ووجود عليّ الذي هو أحقّ بها. ويزعمون أنّ الصّدّيق رضي الله عنه منع فاطمة رضي الله عنها حقّها من إرثها (2) من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعدّيا، وأنّ من ساعد في تقديم تيم بخلافة أبي بكر، أو تقديم عديّ بخلافة عمر، أو تقديم أميّة بخلافة عثمان كان مخطئا. ويزعمون أنّ عمر رضي الله عنه لم يصب في جعل الأمر شورى بين بقيّة العشرة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لاستحقاق تقدّم عليّ على الجميع.
__________
(1) الكلام هنا غير دقيق. فالإمامية الاثنا عشرية يرون أن عليا لم يتأخر عن طلب الإمامة والمجاهرة بحقه، وأنه إنما بايع الخلفاء الثلاثة قبله حفاظا على وحدة المسلمين وتقديرا لحداثة الإسلام في نفوس المسلمين، ولم تكن التقية هي السبب في ذلك. أما التقيّة فإنها وسيلتهم في الدفاع عن الذات في وقت يكونون فيه ضعفاء وفي زمن حاكم جائر. وهم لا ينعتون الخلفاء الراشدين الثلاثة بالجور، وبالتالي فإن الإمام علي بن أبي طالب لم يكن مضطرا للتحصن بالتقية، خاصة إذا علمنا أنه كان يشارك الخلفاء قبله برأيه وتوجيهاته التي طالما أشار إليها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب.
(2) الإشارة هنا إلى «أرض فدك» التي استرجعها أبو بكر الصديق إلى بيت المال بحجة أن الأنبياء لا يورّثون. وفي أرض فدك روايات متعددة مختلفة. انظر في ذلك فتوح البلدان: 353433 383736.(13/233)
ويصوّبون قول حسان بن ثابت رضي الله عنه فيما كان من موافقته في حديث الإفك (1) في حقّ عائشة رضي الله عنها، ولا يرون تكذيبه في ذلك. ويرون أنّ عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها كانت مخطئة في قيامها على عليّ يوم الجمل، وأنّ من قام معها كان مخطئا للموافقة على الخطإ.
ويقولون إنّ من قام مع معاوية على عليّ بصفّين وشهر السّيف معه عليه فقد ارتكب محظورا، وينكرون ما وقع من زياد بن أبيه من الدّعوى الباطلة وذلك أنه بعد قتل الحسين عليه السّلام جهّز جيشا إلى المدينة النبوية مع مسلم ابن عبد الله فقتلوا وسبوا وبايعوا من تبعهم على أنّهم خول ليزيد.
ويقولون ببطلان حكم ابن مرجانة، ويعدّون من العظائم قيام عمر بن سعد في قتال الحسين وحقيق أن ينكروا عليه ذلك ويستعظموه! فقد قيل: إنه بعد قتله أمر جماعة فوطئوا صدر الحسين وظهره بالخيل، وكان يزيد قاتله الله قد أمره بذلك.
ويرون أن الأمر صار بعد الحسن عليه السّلام إلى أخيه الحسين، ويقولون:
إنّ الإمامة عند الحسن مستودعة لا مستقرّة، ولذلك لم تثبت في بنيه. ويعدّون من العظائم فعل شمر بن [ذي] (2) الجوشن: وهو الذي احتزّ رأس الحسين، وأنّ من ساعده على ذلك مرتكب أعظم محظورات بأشدّ بليّة، وحقيق ذلك أن يستعظموه! فأيّ جريمة أعظم من قتل سبط رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟.
وقد ذكر صاحب «نظم السّمط في خبر السّبط»: أنه وجد في حجر مكتوب قبل البعثة بألف سنة ما صورته:
أترجو أمّة قتلت حسينا ... شفاعة جدّه يوم الحساب؟
ويقال: إنّ الذي احتزّ رأس الحسين إنما هو سنان بن أنس النّخعي.
__________
(1) ليس في كتب الشيعة الإمامية المعتمدة ما يشير إلى موافقتهم على حديث الإفك واتهام عائشة.
(2) ساقطة من الأصل.(13/234)
ويعدّون من العظائم أيضا سبي معاوية أهل البيت عند غلبة عليّ رضي الله عنه بصفّين وسوقهم معه إلى دمشق سوقا بالعصيّ، ويرون أنّ خلافة يزيد بن معاوية كانت من أعظم البلايا، وأن المغيرة بن شعبة أخطأ حيث أشار على معاوية بها، ويقولون بالتّبرّي من عمرو بن العاص رضي الله عنه لانتمائه إلى معاوية، وخديعته أبا موسى الأشعريّ يوم الحكمين حتى خلع عليّا، وإنّ من ظاهره أو عاضده كان مخطئا.
وكذلك يتبرّؤون من بسر بن [أبي] (1) أرطاة: لأنّ معاوية بعثه إلى الحجاز في عسكر فدخل المدينة وسفك بها الدّماء، واستكره الناس على البيعة لمعاوية، وتوجه إلى اليمن بعد ذلك فوجد صبيّين لعبيد الله بن عبّاس [عامل عليّ] (2) على اليمن فقتلهما.
ويرون تخطئة عقبة بن عبد الله المرّي، ويقدحون في رأي الخوارج: وهم الذين خرجوا على عليّ رضي الله عنه بعد حرب صفّين، على ما تقدّم ذكره [في الكلام] (3) على أيمان الخوارج: وهو مفارقتهم عليّا رضي الله عنه، وتخطئتهم له في الغنائم.
ويقولون: إنّ الامامة انتقلت بعد الحسين السّبط عليه السّلام في أبنائه إلى تمام الأثني عشر فانتقلت بعد الحسين إلى ابنه زين العابدين، ثم إلى ابنه محمد الباقر، ثم إلى ابنه جعفر الصّادق، ثم إلى ابنه موسى الكاظم، ثم إلى ابنه عليّ الرّضا، ثم إلى ابنه محمد التّقيّ (4)، ثم إلى ابنه علي النّقي، ثم إلى ابنه الحسن الزّكيّ، ثم إلى ابنه محمد الحجّة، وهو المهديّ المنتظر عندهم، على ما تقدّم ذكره في أوّل الكلام على هذه الفرقة، وإنّ من خالف ذلك فقد خالف الصّواب.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل «عاملين» وهو خطأ. والصبيان هما قثم وعبد الرحمن ابنا عبيد الله بن عباس. أنظر الكامل لابن الأثير: 3/ 166.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) محمد التقيّ أو محمد الجواد ثم علي النقيّ أو علي الهادي.(13/235)
ويستعظمون دلالة من دلّ بني أميّة وبني العبّاس على مقاتل أهل البيت. أما دلالة بني أميّة، فبعد غلبة معاوية بصفّين. وأما دلالة بني العبّاس، فعند تنازع بني العبّاس وأهل البيت في طلب الخلافة، زمن أبي جعفر المنصور وما بعده.
ويقولون: ببقاء حكم المتعة: وهي النكاح المؤقّت الذي كان في صدر الإسلام. ويشنّعون على نجدة بن عامر الحنفي (1) الخارجيّ حيث زاد في حدّ الخمر، وغلّظ فيه تغليظا شديدا، كما حكاه الشّهرستانيّ عنهم.
ويستعظمون البراءة من شيعة أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه، واتبّاع أهوية أهل الشام من متابعي بني أميّة والغوغاء القائمين بالنّهروان: وهم الخوارج الذين خالفوا عليّا بعد قضيّة التحكيم بصفّين، وأقاموا بالنّهروان من العراق لقتال عليّ، ورئيسهم يومئذ عبد الله بن وهب، فسار إليهم عليّ وكانوا أربعة آلاف فقتلوا عن آخرهم (2)، ولم يقتل من أصحاب عليّ سوى سبعة أنفس.
ويرون أنّ أبا موسى الأشعريّ رضي الله عنه أخطأ في موافقته عمرو بن العاص رضي الله عنه: حيث حكم بخلع عليّ ولم يخلع عمرو معاوية.
ويعتمدون في القرآن الكريم على مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، دون المصحف الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم، فلا يثبتون ما لم يثبت فيه قرآنا (3)
__________
(1) وهو رأس الفرقة «النجدية» من الخوارج أو الحرورية. ويعرف أصحابها بالنجدات. قتل سنة 69 هـ. (الأعلام: 8/ 10).
(2) المراد لم يبق منهم سوى تسعة تفرقوا في الجهات، كما تقدم. وكانت وقعة النهروان سنة 38هـ.
(تاريخ الطبري: 3/ 124).
(3) الكلام هنا أيضا يدخل في باب المبالغات والافتراءات السابقة إذ المعروف الذي جدال فيه أن جميع المسلمين مجمعون على اعتماد القرآن العثماني الذي أقرّه الخليفة الثالث عثمان بن عفان وأرسل بنسخه إلى جميع الأمصار. وعبارة القلقشندي في آخر كلامه عن هذه الفرقة من الشيعة تشير بشكل واضح إلى جهله بأمورهم على حقيقتها، الأمر الذي لا يجعلنا نستغرب جهل غيره بهذا الخصوص.(13/236)
ويتبرّأون من فعل ابن ملجم في قتله أمير المؤمنين رضي الله عنه، وحقّ لهم التّبرّي من ذلك.
ويرون أنّ موالاة ابن ملجم وإسعافه في صداق زوجته قطام جريرة.
ويرون محبة قبيلة همدان من المحبوب المطلوب: لمشايعتهم عليّا رضي الله عنه ومحبّتهم أهل البيت كما هو المشهور عنهم حتّى يحكى أنّ أمير المؤمنين عليّا رضي الله عنه صعد يوما المنبر وقال: ألا لا ينكحنّ أحد منكم الحسن بن عليّ فإنه مطلاق، فنهض رجل من همدان وقال: والله لننكحنّه ثم لننكحنّه! إن أمهر أمهر كثيفا، وإن أولد أولد شريفا!. فقال عليّ رضي الله عنه حينئذ:
لو كنت بوّابا على باب جنّة ... لقلت لهمدان ادخلي بسلام!
ويقولون باشتراط العصمة في الأئمّة، فلا يكون من ليس بمعصوم عندهم إماما.
وقد رتّب في «التعريف» يمينهم على هذه العقائد، فقال: وهؤلاء يمينهم هي:
إنّني والله والله والله العظيم، الرّبّ الواحد الأحد، الفرد الصّمد، وما أعتقده من صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم ونصّه على إمامة ابن عمّه ووارث علمه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يوم غدير خمّ، وقوله: «من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهمّ وال من والاه! وعاد من عاداه! وأدر الحقّ على لسانه كيفما دار!» وإلّا كنت مع أوّل قائم يوم السّقيفة، وآخر متأخّر يوم الدّار، ولم أقل بجواز التّقيّة خوفا على النّفس، وأعنت ابن الخطّاب، واضطهدت فاطمة، ومنعتها حقّها من الإرث، وساعدت في تقديم تيم وعديّ وأميّة، ورضيت بحكم الشّورى، وكذّبت حسّان بن ثابت يوم عائشة، وقمت معها يوم الجمل، وشهرت السّيف مع معاوية يوم صفّين، وصدّقت دعوى زياد، ونزلت على حكم ابن مرجانة (1)، وكنت مع عمر بن سعد في قتال الحسين،
__________
(1) هو عبيد الله بن زياد بن أبيه.(13/237)
وقلت: إنّ الأمر لم يصر بعد الحسن إلى الحسين، وساعدت شمر بن [ذي] (1)
الجوشن على فعل تلك البليّة، وسبيت أهل البيت وسقتهم بالعصيّ إلى دمشق، ورضيت بإمارة يزيد، وأطعت المغيرة بن شعبة، وكنت ظهيرا لعمرو بن العاص، ثم لبسر بن [أبي] (2) أرطاة، وفعلت فعل عقبة بن عبد الله [المرّي] (3) وصدّقت رأي الخوارج، وقلت: إن الأمر لم ينتقل بعد الحسين بن عليّ في أبنائه إلى تمام الأئمّة، إلى الإمام المهديّ المنتظر، ودللت على مقاتل أهل البيت بني أميّة وبني العبّاس، وأبطلت حكم التّمتّع، وزدت في حدّ الخمر ما لم يكن، وحرّمت بيع أمّهات الأولاد، وقلت برأيي في الدّين، وبرئت من شيعة أمير المؤمنين، وكنت مع هوى أهل الشّام والغوغاء القائمة بالنّهروان، واتّبعت خطأ أبي موسى وأدخلت في القرآن ما لم يثبته ابن مسعود، وشركت ابن ملجم وأسعدته في صداق قطام، وبرئت من محبّة همدان، ولم أقل باشتراط العصمة في الإمام، ودخلت مع أهل النصب الظّلّام.
قلت: قد ذكر في «التعريف» فرقة الإمامية هذه من الشّيعة الذين بهذه المملكة، ولم أعلم أين مكانهم منها.
الفرقة الثالثة (من الشّيعة: الإسماعيلية)
وهم القائلون بإمامة إسماعيل بن جعفر الصّادق، وأنّ الأمامة انتقلت إليه بعد أبيه دون أخيه موسى الكاظم المقدّم ذكره في الكلام على فرقة الإماميّة، وهم يوافقون الإماميّة المقدّم ذكرهم في سوق الإمامة من أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى جعفر الصّادق، ثم يعدلون بها عن موسى الكاظم الذي هو الإمام عند الإماميّة إلى إسماعيل هذا، ثم يسوقونها في بنيه، فيقولون: إنّ الإمامة انتقلت بعد أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه إلى ابنه الحسن، ثم إلى أخيه
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف».
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف».
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف».(13/238)
الحسين، ثم إلى ابنه عليّ زين العابدين، ثم إلى ابنه محمد الباقر، ثم إلى ابنه جعفر الصّادق، ثم إلى ابنه إسماعيل الذي تنسب إليه هذه الفرقة بالنّصّ من أبيه. فمن قائل: إن أباه مات قبله، وانتقلت الإمامة إليه بموته. ومن قائل: إنه مات قبل أبيه. وفائدة النّصّ ثبوتها في بنيه بعده. ثم يقولون: إنها انتقلت من إسماعيل المذكور إلى ابنه محمد المكتوم، ثم إلى ابنه جعفر الصدق (1)، ثم إلى ابنه محمد الحبيب، ثم إلى ابنه عبيد الله المهديّ أوّل خلفاء الفاطميين ببلاد المغرب، وهو جدّ الخلفاء الفاطميّين بمصر، ثم إلى ابنه القائم بأمر الله أبي القاسم محمد: ثاني خلفاء الفاطميّين ببلاد المغرب، ثم إلى ابنه المنصور بالله أبي الطاهر إسماعيل: ثالث خلفاء الفاطميّين ببلاد المغرب، ثم إلى ابنه المعزّ لدين الله أبي تميم معدّ: أوّل خلفاء الفاطميّين بمصر بعد قيامه ببلاد المغرب (وهو باني القاهرة)، ثم إلى ابنه العزيز بالله أبي المنصور نزار: ثاني خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الحاكم بأمر الله أبي عليّ المنصور: ثالث خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن عليّ: رابع خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه المستنصر بالله أبي تميم معدّ: خامس خلفائهم بمصر.
ثم من هاهنا افترقت الإسماعيلية إلى فرقتين: مستعلويّة ونزاريّة.
فأمّا المستعلويّة فيقولون: إن الإمامة انتقلت بعد المستنصر بالله المقدّم ذكره إلى ابنه المستعلي بالله، أبي القاسم أحمد: سادس خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الآمر بأحكام الله أبي عليّ المنصور: سابع خلفائهم بمصر ثم إلى ابنه (2)
__________
(1) كذا في الأصول. وفي العبر «الصادق» وكلاهما خطأ. والصواب: «المصدق» كما جاء في «الأعلام» عن «اتعاظ الحنفا» للمقريزي. أما أسماء الأئمة الذين خلفوا محمد بن إسماعيل وترتيبهم فمختلف فيه. والرواية الفاطمية تذكرهم كما يأتي: عبد الله، وأحمد، وحسين. والرواية الفارسية النزارية:
أحمد، ومحمد، وأحمد. والرواية الهندية النزارية: أحمد، ومحمد، وعبد الله. والرواية الدرزية:
إسماعيل الثاني، محمد، أحمد، عبد الله، محمد، حسين، وأحمد أي سبعة بدلا من ثلاثة.
(دائرة المعارف الإسلامية: 3/ 384وما بعدها).
(2) لعل هذا اللفظ زائد من قلم الناسخ. والصواب «ثم إلى الحافظ» وفي المقريزي: 1/ 357 «ومن بعده الحافظ ابن الأمير أبي القاسم محمد الخ». وفي ماثر الإنافة للقلقشندي: 2/ 250: «وولى بعد وفاة الآمر ابن عمه الحافظ لدين الله، أبو الميمون عبد المجيد بن أبي القاسم محمد».(13/239)
الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن أبي القاسم: ثامن خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الظافر بأمر الله أبي المنصور إسماعيل، تاسع خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الفائز بنصر الله أبي القاسم عيسى بن الظّافر: عاشر خلفائهم بمصر، ثم إلى العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ: حادي عشر خلفائهم بمصر، وهو آخرهم حتّى مات (1)
وأما النّزاريّة فإنهم يقولون: إن الإمامة انتقلت بعد المستنصر إلى ابنه نزار بالنّصّ من أبيه دون ابنه المستعلي ويستندون في ذلك إلى أنّ الحسن بن الصّبّاح كان من تلامذة أحمد بن عطاش (2) صاحب قلعة أصبهان وألموت، وكان شهما عالما بالتّعاليم والنّجوم والسّحر، فاتّهمه ابن عطاش بالدّعوة للفاطميّين خلفاء مصر، فخاف وهرب منه إلى مصر في خلافة المستنصر المقدّم ذكره، فأكرمه وأمره بدعاية الناس إلى إمامته، فقال له ابن الصّباح: من الإمام بعدك؟ فقال له:
ابني نزار، فعاد ابن الصّباح من مصر إلى الشّام والجزيرة وديار بكر وبلاد الرّوم، ودخل خراسان، وعبر إلى ماوراء النّهر، وهو يدعو إلى إمامة المستنصر وابنه نزار بعده. قال الشّهرستانيّ في «الملل والنحل» (3): وصعد قلعة ألموت في شعبان سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة واستظهر وتحصّن.
ثم النّزاريّة يزعمون أنّ نزارا المذكور خرج من الإسكندرية حملا في بطن جارية، تقيّة على نفسه، وخاض بلاد الأعداء حتّى صار إلى ألموت. ورأيت في «المغرب» لابن سعيد أنه إنّما صار من عقبه من وصل إلى تلك البلاد، وصارت الإمامة في بنيه هناك.
__________
(1) كان موته سنة 564هـ يوم عاشوراء بعد أن قطع صلاح الدين يوسف بن أيوب الخطبة له، وخطب للخلفاء العباسيين ببغداد. (مآثر الإنافة: 2/ 251).
(2) في الطبعة الأميرية بالغين المعجمة، وهو خطأ.
(3) في الطبعة الأميرية «النحل والملل».(13/240)
والمستعلوية ينكرون ذلك إنكارا، ويقولون: إنه قتل (1) بالإسكندرية: سار إليه الأفضل بن أمير الجيوش وزير المستعلي وحاصره بالإسكندرية، ثم ظفر به وأتى به إلى المستعلي، فبنى عليه حائطين فمات، ثم فرّ بعض بني نزار إلى بلاد [مشارق أفريقية] (2) وأقام بالمغرب، والقائمون بها الآن من ولده، وهو الذي تشهد به كتب التواريخ: كمغرب ابن سعيد (3) وغيره.
ثم الإسماعيليّة في الجملة: من المستعلويّة والنّزاريّة يسمّون أنفسهم أصحاب الدّعوة الهادية، تبعا لإمامهم إسماعيل المذكور، فإنه كان يسمّى صاحب الدّعوة الهادية.
قال في «التعريف»: وهم وإن أظهروا الإسلام وقالوا بقول الإمامية، ثم خالفوهم في موسى الكاظم وقالوا: إنّ الإمامة لم تصر إلى أخيه إسماعيل فإنّهم طائفة كافرة يعتقدون التّناسخ والحلول.
وذكر في «مسالك الأبصار»: أن ملخّص معتقدهم التّناسخ. ثم قال: ولقد سألت المقدّم عليهم والمشار إليه فيهم: (وهو مبارك بن علوان) عن معتقدهم
__________
(1) لعل الصواب «فرّ إلى الإسكندرية» ليستقيم الكلام بعد. وقد ذكر خبره المقريزي:
1/ 423، وكان معه الأمير نصر الدولة أفتكين، أحد مماليك أمير الجيوش بدر الجمالي، الذي قتله الأفضل بعد قدومه إلى القاهرة.
(2) في الأصل «بلاد المشارق» والتصحيح مما سيأتي.
(3) «المغرب في حلى المغرب» لابن سعيد المغربي، وهو ثلاثة أقسام: أولها خاص بالأندلس، والثاني بالمغرب والثالث بمصر. وقد ألّف هذا الكتاب بالموارثة في مائة وخمسة عشر عاما ستة من أدباء الأندلس تداولوه بالتنقيح والتكميل واحدا بعد واحد، وهم: أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الحجاري، وعبد الملك بن سعيد صاحب قلعة بني سعيد بالقرب من غرناطة، ثم ابناه: أبو جعفر بن عبد الملك ومحمد بن عبد الملك، ثم موسى بن محمد بن عبد الملك ثم ابنه علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك، الذي أخرجه للناس في صورته النهائية وتسميته المعروفة. ونجد لكل من هؤلاء المؤلفين الستّة ترجمة خاصة في كتاب «المغرب» الذي حققه الدكتور شوقي ضيف ونشرته دار المعارف بمصر في طبعة أولى سنة 1953م.(13/241)
وجاذبته الحديث في ذلك مرارا، فظهر لي منه أنّهم يرون أنّ الأرواح مسجونة في هذه الأجسام المكلّفة بطاعة الإمام المطهّر على زعمهم فإذا انتقلت على الطاعة كانت قد تخلّصت وانتقلت للأنوار العلويّة، وإن انتقلت على العصيان هوت في الظّلمات السّفلية.
وذكر في «العبر»: أنّ منهم من يدّعي ألوهيّة الإمام بنوع الحلول، ومنهم من يدّعي رجعة من مات من الأئمّة بنوع التناسخ والرّجعة، ومنهم من ينتظر مجيء من يقطع بموته، ومنهم من ينتظر عود الأمر إلى أهل البيت.
ثم المستعلويّة والنّزاريّة يتّفقون في بعض المعتقدات ويختلفون في بعضها.
فأمّا ما يتفقون عليه من الاعتقاد، فهم يتّفقون على أنه لا بدّ من إمام معصوم: ظاهر أو مستور. فالأئمّة الظاهرون هم الذين يظهرون أنفسهم ويدعون الناس إلى إمامتهم، والمستورون هم الذين يستترون ويظهرون دعاتهم. وآخر الظّاهرين عندهم إسماعيل الذي ينسبون إليه، وأوّل المستورين ابنه المكتوم.
ومن معتقدهم أنّ من مات ولم يعرف إمام زمانه أو لم يكن في عنقه بيعة إمام، مات ميتة جاهليّة، ويرون أن العلم لا يكون إلا بالتعليم من الأئمّة خاصّة، وأنّ الأئمّة هم هداة الناس ويقولون: إن للأئمّة أدوارا في كلّ دور منها سبعة أئمّة:
ظاهرين أو مستورين. فإن كان أهل الدّور ظاهرين يسمّى ذلك الدّور دور الكشف، وإن كانوا مستورين يسمّى دور السّتر. ويقولون بوجوب موالاة أهل البيت، ويتبرّأون ممن خالفهم، وينسبونهم إلى الأخذ بالباطل، والوقوع في الضّلال، لا سيما النّواصب، وهم الطائفة المعروفة بالناصبيّة أتباع (1)، ويرمونهم
__________
(1) بياض في الأصل. قال في اللسان: 1/ 762 «والنواصب قوم يتدينون ببغضة علي، عليه السّلام».
قال الكفوي في معجمه «الكليات»: «والنّصب بالفتح يقال لمذهب هو بغض علي بن أبي طالب وهو طرف النقيض من الرفض، ويقال لهم: الطائفة النواصب وهم مثل الخوارج. وفيه حكاية لطيفة وهي أن الشريف الرضي أحضر إلى ابن السيرافي النحوي وهو طفل لم يبلغ عشر سنين فلقنه النحو. قال الإستاذ يوما له: إذا قلنا (رأيت عمرا) فما علامة النصب في (عمرو) فقال: بغض عليّ. فعجبوا من حدّة خاطره. وأراد بعمرو عمرو بن العاص المشهور بعداوة عليّ وخلعه عن الخلافة لما صار حكما مع أبي موسى الأشعري في أيام صفين». (أنظر الكليات: 4/ 363).(13/242)
بالعظائم، وينسبونهم إلى اعتماد المحال والأخذ به. ومن خرج عندهم عن القول بانتقال الإمامة بعد الحسن السّبط عليه السّلام، ثم أخيه الحسين، ثم في أئمّتهم المتقدّم ذكرهم، إلى إمامهم إسماعيل الذي ينسبون إليه بالنّصّ الجليّ، فقد حاد عن الحقّ. وهم يعظمون (1) ويستعظمون القدح فيه، وأن من وقع في ذلك فقد ارتكتب خطأ كبيرا.
ولدعاة الأئمّة المستورين عندهم من المكانة وعلوّ الرّتبة الرّتبة العظمى، لا سيما الداعي القائم بذلك أوّلا: وهو الداعي إلى محمد المكتوم أوّل أئمتهم المستورين على ما تقدّم ذكره، فإن له من الرّتبة عندهم فوق ما لغيره من الدّعاة القائمين بعده.
ومما اشتهر من أمر الدّعاة لأئمتهم المستورين أنه كان ممّن ينسب إلى التّشيّع رجل اسمه رمضان، ويقال: إنه صاحب كتاب «الميزان» في نصرة الزندقة، فولد له ولد يقال له: ميمون، نشأ على أهبة في التّشيع والعلم بأسرار الدّعاء لأهل البيت، ثم نشأ لميمون ولد يقال له: عبد الله، وكان يعالج العيون ويقدحها، فسمّي القدّاح (2)، واطّلع على أسرار الدّعوة من أبيه، وسار من نواحي كرخ وأصبهان إلى الأهواز والبصرة وسلمية من أرض الشام يدعو الناس إلى أهل البيت، ثم مات ونشأ له ولد يسمّى أحمد فقام مقام أبيه عبد الله القدّاح في الدّعوة، وصحبه رجل يقال له رستم بن الحسين بن حوشب النّجّار من أهل الكوفة، فأرسله أحمد إلى اليمن، فدعا الشّيعة باليمن إلى عبد الله المهديّ فأجابوه، وكان أبو عبد الله الشّيعيّ من أهل صنعاء من اليمن، وقيل من أهل
__________
(1) بياض في الأصل. ولعله «إمامهم إسماعيل».
(2) في الأعلام «عرف بالقداح، وهي صناعته وكان يبري القداح، وهي السهام». وفي نسبه يقول: هو عبد الله بن ميمون بن داود المخزومي بالولاء. توفي سنة 180هـ. (الأعلام: 4/ 141).(13/243)
الكوفة، يصحب ابن حوشب، فحظي عنده وبعثه إلى المغرب. ومن نسب أحدا من هذه الدعاة إلى ارتكاب محظور أو احتقاب إثم فقد ضلّ وخرج عن جادّة الصواب عندهم. ويرون تخطئة من مالأ على الإمام عبيد الله المهديّ: أوّل أئمتهم القائمين ببلاد الغرب على ما تقدّم، وارتكابه المحظور وضلاله عن طريق الحقّ وكذلك من خذل الناس عن اتّباع القائم بأمر الله بن عبيد الله المهديّ، ثاني خلفائهم ببلاد المغرب، أو نقض الدولة على المعزّ لدين الله: أوّل خلفائهم بمصر ويرون ذلك من أعظم العظائم، وأكبر الكبائر.
ومن أعيادهم العظيمة الخطر عندهم يوم غدير خمّ (بفتح الغين المعجمة وكسر الدال المهملة وسكون المثناة تحت وراء مهملة في الآخر، ثم خاء معجمة مضمومة بعدها ميم): وهو غيضة بين مكّة والمدينة على ثلاثة أيام من الجحفة.
وسبب جعلهم له عيدا أنهم يذكرون أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نزل فيه ذات يوم فقال لعليّ رضي الله عنه: «اللهم من كنت مولاه فعليّ مولاه، أللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار» على ما تقدّم نحوه في الكلام على يمين الإمامية.
وقد كان للخلفاء الفاطميّين بمصر بهذا العيد اهتمام عظيم، ويكتبون بالبشارة به إلى أعمالهم، كما يكتبون بالبشارة بعيد الفطر وعيد النّحر ونحوهما.
ويعتقدون في أئمّتهم أنهم يعلمون ما يكون من الأمور الحادثة.
وقد ذكر المؤرّخون عن عبيد الله المهديّ جدّ الخلفاء الفاطميّين بمصر أنه حين بنى المهديّة بمشارق أفريقية من بلاد المغرب طلع على سورها ورمى بسهم وقال: إلى حدّ هذه الرمية ينتهي صاحب الحمار فخرج بالمغرب خارجيّ يعرف بأبي يزيد صاحب الحمار، وقصد المهديّة حتّى انتهى إلى حدّ تلك الرمية، فرجع ولم يصل المهديّة.
وكان الحاكم بأمر الله أحد خلفاء مصر من عقب المهديّ المذكور يدّعي
علم الغيب على المنبر بالجامع المعروف به على القرب من باب الفتوح بالقاهرة، فكتبوا له بطاقة فيها:(13/244)
وكان الحاكم بأمر الله أحد خلفاء مصر من عقب المهديّ المذكور يدّعي
علم الغيب على المنبر بالجامع المعروف به على القرب من باب الفتوح بالقاهرة، فكتبوا له بطاقة فيها:
بالظّلم والجور قد رضينا ... وليس بالكفر والحماقه
إن كنت أوتيت علم غيب ... بيّن لنا كاتب البطاقه
فترك ما كان يقوله ولم يعد إليه {قُلْ لََا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللََّهُ وَمََا يَشْعُرُونَ أَيََّانَ يُبْعَثُونَ} (1)
وهم يقدحون في عيّاش (2) بن أبي الفتوح الصّنهاجيّ، وزير الظّافر: أحد الخلفاء الفاطميّين بمصر. وذلك أنّه كان له ولد حسن الصّورة اسمه نصر، فأحبّه الظافر المذكور حتّى كان يأتي إليه ليلا إلى بيته، فرمى عيّاش الظافر بابنه، وأمره أن يستدعيه فاستدعاه، فأتى إليه ليلة على العادة، فاجتمع عيّاش بن (3) السلار هو وابنه نصر على الظافر وقتلاه، وهربا إلى الشام، فأسرهما الفرنج، ثم فدي ابنه وصلب على باب زويلة (4)
__________
(1) النمل / 65.
(2) كذا في الأصل بالمثناة التحتية والشين العجمة وفي المقريزي بالموحدة والسين المهملة. انظر أيضا: الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي: 312: وقد ورد اسمه: عباس بن باديس الصنهاجي.
تولى الوزارة للظافر ثم للفائز وذلك من 12المحرم 548هـ حتى 19ربيع الأول 548هـ. وفي ابن خلكان: 3/ 417 «عباس بن أبي الفتوح بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس».
(3) هذه النسبة خطأ. وسيأتي التنبيه عليها بعد أسطر.
(4) في هامش الطبعة الأميرية أن عبارة ابن الأثير (11/ 79) باختصار: فقتل الفرنج عباسا وأسروا ابنه، ثم فداه الملك الصالح طلائع بن رزيك منهم وصلبه على باب زويلة. ويورد ابن فضل الله العمري أن الوزير عباس «جلس للمنادمة، فلما أخذت الكأس منه قال: تبّا لمن يعتقد إمامة هؤلاء ويقول إنه لا يكون إمام إلا بوصية. والله لقد قتلت الظافر ولا علم عنده بذلك حتى يوصي»: وفي المقريزي: خطط: 2/ 30تفصيل حادثة مقتل الظافر وفيها أن الذي قتله هو نصر بن عباس، بتحريض مباشر من أسامة بن منقذ. وأسامة كان مقربا من عباس، وهو الذي حرّضه قبل ذلك على قتل ابن السلار.(13/245)
وهم يقدحون في عيّاش المذكور ويرمونه بالنّفاق بسبب ما وقع منه في حقّ الظافر من رميه بابنه وقتله إياه.
قلت: وعيّاش هذا هو الذي أشار إليه في «التعريف» في صورة يمين الإسماعيلية بابن السلار. وهو وهم منه، إذ ليس عياش بابن السلار، وإنما ابن السلار هو زوج أمّ عيّاش المذكور، وكان قد وزّر للظّافر المذكور قبل ربيبه عيّاش وتلقّب بالعادل، واستولى على الأمر حتّى لم يكن للظافر معه كلام، ثم دسّ عليه ربيبه عيّاش من قتله، ووزّر للظّافر بعده. فابن السلار هو العادل وزير الظافر أوّلا لا عيّاش ربيبه.
ومن أكبر الكبائر عندهم وأعظم العظائم أن يرمى أحد من آل بيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لا سيّما الأئمّة بكبيرة، أو ينسبها [أحد] إليهم، أو يوالي لهم عدوّا أو يعادي وليّا.
وأما ما يختص به المستعلوية، فإنهم ينكرون إمامة نزار بن المستنصر المقدّم ذكره، ويكذّبون النّزاريّة في قولهم: إن نزارا خرج حملا في بطن جارية حتّى صار إلى بلاد الشّرق. ويقولون: إنه مات بالإسكندرية ميتة ظاهرة.
ويقولون: إنه نازع الحقّ أهله وجاذب [الخلافة ربّها] (1) من حيث إن الحقّ في الإمامة والخلافة كان لإمامهم المستعلي بالله فادّعاه لنفسه. ويقولون: إن شيعته على الباطل، وموافقتهم في اعتقادهم إمامته خطأ. ويرون من الضّلال اتباع الحسن بن الصّبّاح (2) داعية نزار والنّاقل عن المستنصر النّصّ على إمامته، ويرون
__________
(1) بياض في الأصل. والزيادة من هامش الطبعة الأميرية.
(2) يرى بعض الدارسين للعصر الفاطمي أن بدرا الجمالي وزير المستنصر ارتكب خطأ كانت له نتائجه البعيدة فيما بعد، وهي انقسام الإسماعيلية إلى نزارية ومستعلوية، وذلك عداؤه للحسن بن الصباح الذي وصل مصر سنة 471هـ والذي يعد من أكبر دعاة المذهب. وقد ضاق بدر بوجود الحسن وأخذ يضيق عليه حتى اضطر إلى ترك البلاد عائدا إلى بلاد العجم. ولم ينس الحسن لبدر ذلك، فما أن مات المستنصر وأقام الأفضل بن بدر، الذي ولي الوزارة، المستعلي خليفة بعد أبيه حتى حمل الحسن لواء المعارضة مناديا بأن الإمامة حق لنزار بن المستنصر، وبذلك ظهر أول انشقاق خطير في المذهب الإسماعيلي. وقد استطاع الأفضل بنفوذه وسلطانه أن يضم إلى جانبه رجال الدولة وينجح في تولية المستعلي الخلافة لأنه صغير السن يمكن السيطرة عليه ولأنه زوج أخته. وهرب نزار إلى الإسكندرية حيث انضم إليه واليها ناصر الدولة أفتكين، وبايع أهل الإسكندرية نزارا وتلقب بالمصطفى لدين الله. ولقد استطاع الأفضل أن يقضي على قوة نزار، بعد عدة محاولات، وقبض عليه وعلى والي الإسكندرية حيث كان آخر عهد الناس بهما. ويشير ابن الصيرفي إلى قيام نزار في الإسكندرية بتسمية ذلك «نوبة الإسكندرية». (انظر: الإشارة إلى من نال الوزارة. ص 51 545352والوزارة والوزراء في العصر الفاطمي: 137136).(13/246)
الكون في جملة النّزاريّة من أعظم الأضاليل، لا سيّما من كان فيهم آخر أدوار الأئمّة التي هي في كلّ دور سبعة أئمّة، على ما تقدّم ذكره في صدر الكلام على أصل معتقد هذه الفرقة.
ثم هم يعظّمون راشد الدين سنان (1): وهو رجل كان بقلاع الدّعوة بأعمال طرابلس من البلاد الشامية في زمن السلطان صلاح الدّين يوسف بن أيّوب، انتهت رياستهم إليه. قال في «مسالك الأبصار»: وكان رجلا صاحب سيميا، فأراهم بها ما أضلّ به عقولهم: من تخييل أشخاص من مات منهم على طاعة أئمتهم في جنّات النعيم، وأشخاص من مات منهم على عصيان أئمّتهم في النار والجحيم فثبت ذلك عندهم واعتقدوه حقّا. ومن قدح في ذلك فقد دخل في أهل الضلال. ويقدحون في ابن السلار المقدّم ذكره ويسفّهون رأيه (2) فيما كان منه: من إزالة الخطبة للفاطميّين وحطّ رايتهم الصّفراء والخطبة لبني العبّاس ورفع
__________
(1) هو سنان بن سلمان بن محمد بن راشد البصري، المتوفى سنة 588هـ. وقد قال عنه ابن جبير في رحلته، وقد مرّ بالقرب من ديار الإسماعيلية: «قيض لهم شيطان من الإنس يعرف بسنان، خدعهم بأباطيل وخيالات موّه عليهم باستعمالها وسحرهم بمحالها، فاتخذوه إلها يعبدونه ويبذلون الأنفس دونه الخ». (انظر الأعلام: 3/ 141وشذرات الذهب: 4/ 294).
(2) لعل الصواب «ويسفهون رأي صلاح الدين» فإنه هو الذي أزال الخطبة للفاطميين واستولى على أموالهم، كما يأتي بعد هذا. أما ابن السلار فلم يكن ليتسنى له فعل ذلك مع أنه لم يكن على مذهب الإسماعيلية بل كان سنيا شافعيا. (انظر ابن خلكان: 3/ 416والوزارة والوزراء في العصر الفاطمي: 284).(13/247)
رايتهم السّوداء، وما كان منه من الفعلة التي استولى بها على قصر الفاطميّين ومن فيه، وأخذ أموالهم بعد موت العاضد.
وأما ما يختص به النّزاريّة، فإنهم يقولون: إنّ الأمر صار إلى نزار بعد أبيه المستنصر على ما تقدّم ذكره، وإن من جحد إمامته فقد أخطأ، ويزعمون أنه خرج من الإسكندريّة حملا في بطن أمة وخاض بلاد أعدائه الذين هم المستعلويّة بمصر حتّى صار إلى بلاد الشرق. ويقولون: إن الاسم يغير الصورة بمعنى ويرون أن الطّعن على الحسن بن الصّباح المقدّم ذكره فيما نقله عن المستنصر من قوله:
الإمامة بعدي في ولدي نزار، من أعظم الآثام، ويعظّمون علاء الدّين صاحب قلعة ألموت وهي قلعة بالطّالقان بناها السلطان ملكشاه السّلجوقيّ وذلك أنه أرسل عقابا فبرّز في مكانها فلمّا وافى مكانها بنى فيه هذه القلعة وسماها ألموت، ومعناه تعليم العقاب (1)
وعلاء الدّين هذا هو ابن جلال الدّين الحسن (2) الملقّب بإلكيا، وهو من عقب الحسن بن الصّبّاح المقدّم ذكره، وكان أبوه جلال الدّين قد أظهر شعائر الإسلام، وكتب بذلك إلى سائر بلاد الإسماعيليّة بالعجم والشّام فأقيمت فيها، ثم توفّي بقلعة ألموت المذكورة في سنة ثمان عشرة وستمائة، فاستولى ابنه علاء
__________
(1) جاء في دائرة المعارف الإسلامية: 4/ 372371أن معنى اللفظ هو: وكر النسر أو إرشاد النسر.
وقد شيدها حسن الداعي إلى الحق العلوي عام 246هـ. وظلت قائمة إلى ما بعد غزوة المغول.
واللفظ مأخوذ من لغة الديلم: «آله» أي النسر، و «آمو خ ت» أي إرشاد.
(2) في دائرة المعارف الإسلامية: 4/ 374: توفي حسن الصباح سنة 518هـ تاركا الزعامة لقائد من قواده هو «بزرك أميد» داعي ديلمان. وبعد «بزرك» خلفه ابنه محمد سنة 532هـ. وبعد محمد بن بزرك جاء «حسن الثاني» سنة 557هـ والذي اغتيل سنة 561هـ ولكن ابنه محمدا الثاني قبض على ناصية الأمور ومضى في سياسة أبيه ومن يومها أصبح صاحب «ألموت» يعد إماما علويا ينحدر من صلب نزار. وفي عهد محمد الثاني خضع إسماعيلية الشام لسيطرة رشيد الدين سنان الذي تصرف في استقلال ظاهر عن ألموت في مشاحناته وتقربه من حلب وصلاح الدين. فلما توفي سنة 589هـ أصبح سلطان ألموت لا ينازع.(13/248)
الدّين هذا على قلعة ألموت المذكورة، وخالف رأي أبيه المذكور إلى مذهب النّزاريّة، وصار رأسا من رؤوسهم والتّبرّي منه عندهم من أشدّ الخطإ.
واعلم أنّ أصل هذه الفرقة كانت بالبحرين في المائة الثانية وما بعدها، ومنهم كانت القرامطة الذين خرجوا من البحرين حينئذ، نسبة إلى رجل منهم اسمه قرمط، خرج فيهم وادّعى النّبوّة وأنّه أنزل عليه كتاب ثم ظهروا بالمشرق «بأصبهان»: في أيام السلطان ملكشاه السّلجوقيّ، واشتهروا هناك بالباطنية:
لأنهم يبطنون خلاف ما يظهرون (1)، وبالملاحدة: لأن مذهبهم كلّه إلحاد ثم صاروا إلى الشّام، ونزلوا فيما حول طرابلس، وأظهروا دعوتهم هناك، وإليهم تنسب قلاع الإسماعيلية المعروفة بقلاع الدّعوة، فيما حول طرابلس، كمصياف، والخوابي، والقدموس، وغيرها.
ولمّا افترقوا إلى مستعلويّة ونزاريّة كما تقدّم، أخذ من منهم ببلاد المشرق بمذهب النّزاريّة، عملا بدعوة ابن الصّباح المقدّم ذكره، وأخذ من منهم بالشّام بقلاع الإسماعيلية بمذهب المستعلويّة، وصاروا شيعة لمن بعد المستعلي من خلفاء الفاطميّين بمصر، واشتهروا باسم الفداويّة، ووثبوا على السّلطان صلاح الدّين يوسف بن أيّوب بالشام مرّات وهو راكب ليقتلوه فلم يتمكّنوا منه. ثم صالحهم بعد ذلك على قلاعهم بأعمال طرابلس في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة ثم انتموا إلى ملوك مصر في أيام الظاهر بيبرس، واشتهروا باسم الفداويّة لمفاداتهم بالمال على من يقتلونه.
وقد ذكر في «مسالك الأبصار» نقلا عن مقدّمهم: مبارك بن علوان: أن كلّ من ملك مصر كان مظهرا لهم. ولذلك يرون إتلاف نفوسهم في طاعته: لما ينتقلون إليه من النعيم الأكبر في زعمهم. ورأيت نحو ذلك في «أساس السّياسة» لابن ظافر (2) وذكر أنّهم يرون أن ملوك مصر كالنوّاب لأئمّتهم: لقيامهم مقامهم.
__________
(1) سمّوا بالباطنية لأنهم يأخذون بالمعنى الباطن للكتاب ويجعلون لكل تنزيل تأويلا. (دائرة المعارف الإسلامية: 6/ 86).
(2) هو الوزير الفقيه جمال الدين أبو الحسن، علي بن ظافر الأزدي المتوفى سنة 623هـ. (كشف الظنون: 1/ 74).(13/249)
أما أيمانهم التي يحلّفون بها فقد قال في «التعريف» جريا على معتقدهم المتقدّم: إن اليمين الجامعة لهم أن يقول: «إنّني والله والله الواحد الأحد، الفرد الصّمد، القادر القاهر، الذي لا إله إلا هو، وحقّ أئمّة الحقّ، وهداة الخلق، عليّ وبنيه أئمة الظّهور والخفاء، وإلّا برئت من صحيح الولاء، وصدّقت أهل الأباطيل، وقمت مع فرقة الضّلال، وانتصبت مع النّواصب في تقرير المحال، ولم أقل بانتقال الإمامة إلى السّيد الحسين، ثم إلى بنيه بالنّصّ الجليّ، موصولة إلى جعفر الصادق، ثم إلى إبنه إسماعيل صاحب الدّعوة الهادية، والأثرة الباقية، وإلّا قدحت في القّدّاح، وأثّمت الدّاعي الأوّل، وسعيت في اختلاف الناس عليه، ومالأت على السّيّد المهديّ، وخذلت الناس عن القائم، ونقضت الدّولة على المعزّ، وأنكرت أن يوم غدير خمّ لا يعدّ في الأعياد، وقلت: أن لا علم للأئمّة بما يكون، وخالفت من ادّعى لهم العلم بالحدثان، ورميت آل بيت محمد بالعظائم، وقلت فيهم بالكبائر، وواليت أعداءهم، وعاديت أولياءهم».
قال: ثم من هنا تزاد النّزاريّة: «وإلّا فجحدت أن يكون الأمر صار إلى نزار وأنه أتى حملا في بطن جارية لخوفه خوض بلاد الأعداء، وأن الاسم لم يغيّر الصورة، وإلا طعنت على الحسن بن الصّبّاح، وبرئت من المولى علاء الدّين صاحب الألموت، ومن ناصر الدّين سنان الملقّب براشد الدّين، وكنت أوّل المعتدين وقلت: أنّ ما رووه كان من الأباطيل، ودخلت في أهل الفرية والأضاليل».
قال: وأمّا من سواهم من الإسماعيلية المنكرين لإمامة نزار، فيقال لهم عوض هذا: وإلا قلت: «إن الأمر صار إلى نزار، وصدّقت القائلين أنّه خرج حملا في بطن جارية، وأنكرت ميتته الظاهرة بالإسكندرية، وادّعيت أنّه لم ينازع الحقّ أهله، ويجاذب الخلافة ربّها، ووافقت شيعته، وتبعت الحسن بن صبّاح، وكنت في النّزاريّة آخر الأدوار».
قال: ثم يجمعهم آخر اليمين أن يقال: وإلّا قلت مقالة ابن السّلار في النّفاق وسدّدت رأي ابن أيّوب، وألقيت بيدي الرّاية الصّفراء، ورفعت السّوداء، وفعلت في أهل القصر تلك الفعال، وتمحّلت مثل ذلك المحال.(13/250)
قال: ثم يجمعهم آخر اليمين أن يقال: وإلّا قلت مقالة ابن السّلار في النّفاق وسدّدت رأي ابن أيّوب، وألقيت بيدي الرّاية الصّفراء، ورفعت السّوداء، وفعلت في أهل القصر تلك الفعال، وتمحّلت مثل ذلك المحال.
قلت: ما ذكره في «التعريف» فيما تزاده النّزارية: «ومن ناصر الدّين سنان الملقّب براشد الدّين» وهم: فإنّ المذكور إنّما هو من إسماعيلية الشّام الذين هم شيعة المستعلويّة لا من الإسماعيلية النّزاريّة الذين هم ببلاد المشرق، على ما تقدّم بيانه. فكان من حقّه أن يلحق ذلك بيمين من سواهم من الإسماعيلية الذين هم المستعلوية. وكذلك قوله: ثم يجمعهم آخر اليمين أن يقال: «وإلّا قلت مقالة ابن السّلار في النّفاق، وسدّدت رأي ابن أيّوب» إلى آخره، فإنّ ذلك مما يختص بالمستعلويّة، لأن ابن السّلار كان وزير الظافر كما تقدّم، والظافر من جملة الخلفاء القائمين بمصر بعد المستعلي، الذين خالفت النّزاريّة في إمامتهم. وكذلك قضية ابن أيّوب إنما كانت مع العاضد آخر خلفائهم بمصر وكلّ ذلك مختصّ بإسماعيلية الشّام الذين هم شيعة المستعلوية دون النّزاريّة، وحينئذ فكان من حقّه أن يقتصر في زيادة يمين النزارية على آخر «وبرئت من المولى علاء الدّين صاحب ألموت» ويزيد في يمين من سواهم من الإسماعيلية بعد قوله آخر الأدوار: «وإلّا برئت من ناصر الدّين سنان الملقّب براشد الدّين، وكنت أوّل المعتدين، وقلت: إنّ مارآه كان من الأباطيل، ودخلت في أهل الفرية والأضاليل» ثم يقول بعد ذلك: «وإلّا قلت مقالة ابن السّلار في النّفاق، وسدّدت رأي ابن أيّوب، وألقيت بيدي الرّاية الصّفراء، ورفعت السّوداء، وفعلت في أهل القصر تلك الفعال، وتمحّلت مثل ذلك المحال».
الفرقة الرابعة (من الشّيعة: الدّرزيّة)
قال في «التعريف»: وهم أتباع أبي محمد الدّرزيّ. قال في «التعريف»:
وكان من أهل موالاة الحاكم أبي عليّ المنصور بن العزيز خليفة مصر. قال:(13/251)
قال في «التعريف»: وهم أتباع أبي محمد الدّرزيّ. قال في «التعريف»:
وكان من أهل موالاة الحاكم أبي عليّ المنصور بن العزيز خليفة مصر. قال:
وكانوا أوّلا من الإسماعيليّة، ثم خرجوا عن كلّ ما تمحّلوه، وهدموا كلّ ما أثّلوه، وهم يقولون برجعة الحاكم، وأن الألوهية انتهت إليه وتديرت ناسوته، وهو يغيب ويظهر بهيئته ويقتل أعداءه قتل إبادة لا معاد بعده، بل ينكرون المعاد من حيث هو، ويقولون نحو قول الطبائعية: إن الطبائع هي المولّدة، والموت بفناء الحرارة الغريزية، كانطفاء السراج بفناء الزّيت إلا من اعتبط، ويقولون: دهر دائم، وعالم قائم أرحام تدفع، وأرض تبلع بعد أن ذكر أنهم يستبيحون فروج المحارم وسائر الفروج المحرّمة، وأنهم أشدّ كفرا ونفاقا من النّصيريّة الآتي ذكرهم، وأبعد من كلّ خير وأقرب إلى كلّ شرّ.
ثم قال: وأصل هذه الطائفة هم الذين زادوا في البسملة أيّام الحاكم، فكتبوا: «باسم الحاكم الله الرحمن الرحيم»، فلما أنكر عليهم كتبوا: «باسم الله الحاكم الرحمن الرحيم»، فجعلوا في الأوّل الله صفة للحاكم، وفي الثاني العكس. وذكر أن منهم أهل كسروان (1) ومن جاورهم. ثم قال: وكان شيخنا ابن تيمية رحمه الله تعالى يرى أنّ قتالهم وقتال النّصيريّة أولى من قتال الأرمن: لأنهم عدوّ في دار الإسلام وشرّ بقائهم أضرّ.
وقد رتّب على هذا المعتقد أيمانهم في «التعريف» فقال: وهؤلاء أيمانهم:
«إنّني والله وحقّ الحاكم، وما أعتقده في مولاي الحاكم، وما اعتقده أبو محمد الدّرزيّ الحجة الواضحة، ورآه الدّرزيّ مثل الشّمس اللّائحة، وإلا قلت:
إن مولاي الحاكم مات وبلي، وتفرّقت أوصاله وفني، واعتقدت تبديل الأرض والسماء، وعود الرّمم بعد الفناء، وتبعت كلّ جاهل، وحظرت على نفسي ما أبيح لي، وعملت بيدي على ما فيه فساد بدني، وكفرت بالبيعة المأخوذة، وألقيتها ورائي منبوذة».
__________
(1) من جبال لبنان.(13/252)
الفرقة الخامسة (من الشّيعة: النّصيريّة بضم النون وفتح الصاد المهملة)
قال في «إرشاد القاصد» (1): وهم أتباع «نصير» غلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم يدّعون ألوهية عليّ رضي الله عنه مغالاة فيه. قال الشّهرستانيّ: [ولهم جماعة ينصرون مذهبهم وينوبون عن أصحاب مقالاتهم] (2) قال: وبينهم خلاف في كيفية إطلاق الألوهيّة على الأئمة [من أهل البيت] (3) واختلافهم راجع (4)
ويزعمون أن مسكن عليّ السّحاب، وإذا مرّ بهم السّحاب قالوا: السلام عليك يا أبا الحسن، ويقولون: إنّ الرّعد صوته، والبرق ضحكه وهم من أجل ذلك يعظّمون السّحاب، ويقولون: إن سلمان الفارسيّ رسوله، وإن كشف الحجاب عمّا يقوله من أيّ كتاب بغير إذن ضلال، ويحبّون ابن ملجم قاتل عليّ رضي الله عنه، ويقولون: إنه خلّص اللّاهوت من النّاسوت، ويخطّئون من يلعنه.
قال في «التعريف»: ولهم خطاب بينهم، من خاطبوه به لا يعود يرجع عنهم ولا يذيعه ولو ضرب عنقه. قال: وقد جرّب هذا كثيرا، وهم ينكرون إنكاره.
قال في «إرشاد القاصد»: وهم يخفون مقالتهم، ومن أذاعها فقد أخطأ عندهم، ويرون أنهم على الحقّ، وأنّ مقالتهم مقالة أهل التّحقيق، ومن أنكر ذلك فقد أخطأ.
__________
(1) «إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد» للشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري الأكفاني المتوفى سنة 794هـ. (كشف الظنون: 1/ 66).
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «الملل والنحل» للشهرستاني ص 109.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «الملل والنحل» للشهرستاني ص 109.
(4) بياض في الأصول مقدار ثلاثة أسطر.(13/253)
قال في «التعريف»: ولهم [اعتقاد] (1) في تعظيم الخمر، ويرون أنها من النّور. ولزمهم من ذلك أن عظّموا شجرة العنب التي هي أصل الخمر حتّى استعظموا قلعها. ويزعمون أن الصّدّيق وأمير المؤمنين عمر وأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنهم تعدّوا عليه (2) ومنعوه حقّه من الخلافة، كما تعدّى قابيل بن آدم عليه السّلام على أخيه هابيل، وكما اعتدى النّمرود على الخليل عليه السّلام، وكما يقوم كلّ فرعون من الفراعنة على نبيّ من الأنبياء عليهم السلام.
قال في «التعريف»: وهي طائفة ملعونة مرذولة مجوسيّة المعتقد، لا تحرّم البنات ولا الأخوات ولا الأمّهات. قال: ويحكى عنهم في هذا حكايات.
وقد رتّب في «التعريف» حلفهم على مقتضى هذا المعتقد، فقال:
وأيمانهم: إنّني وحقّ العليّ الأعلى، وما اعتقده في المظهر الأسنى، وحقّ النّور وما نشأ منه، والسّحاب وساكنه، وإلّا برئت من مولاي عليّ العليّ العظيم، وولائي له، ومظاهر الحقّ، وكشفت حجاب سلمان بغير إذن، وبرئت من دعوة الحجّة نصير، وخضت مع الخائضين في لعنة ابن ملجم، وكفرت بالخطاب، وأذعت السّرّ المصون، وأنكرت دعوى أهل التّحقيق، وإلّا قلعت أصل شجرة العنب من الأرض بيدي حتّى أجتثّ أصولها وأمنع سبيلها، وكنت مع قابيل على هابيل، ومع النّمرود على إبراهيم، وهكذا مع كل فرعون قام على صاحبه، إلى أن ألقى العليّ العظيم وهو عليّ ساخط، وأبرأ من قول قنبر (3)، وأقول: إنه بالنار ما تطهّر.
الطائفة الثالثة (من أهل البدع: القدريّة)
وهم القائلون بأن لا قدر سابق، وأن الأمر أنف: يعني مستأنفا ولكنهم لما سمعوا قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلم «القدريّة مجوس هذه الأمّة» قلبوا الدليل وقالوا بموجب
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الضمير راجع إلى «علي بن أبي طالب».
(3) هو خادم الإمام علي بن أبي طالب.(13/254)
الحديث، وقالوا: القدريّة اسم لمن يقول بسبق القدر. ثم غلب عليهم اسم المعتزلة بواسطة أن واصل بن عطاء أحد أئمّتهم كان يقرأ على الحسن البصريّ فاعتزله بمسألة خالفه فيها. وهم يسمّون أنفسهم أهل التّوحيد [وأهل العدل] (1)
ويعنون بالتوحيد نفي الصفات القديمة عن الله تعالى: كالحياة والعلم والإرادة والقدرة وأنه تعالى حيّ بذاته، [عالم بذاته] (2) مريد بذاته، قادر بذاته، لا بحياة وعلم وإرادة وقدرة ويعنون بالعدل أنّهم يقولون: إنّ العبد إنما يستحقّ الثّواب والعقاب بفعله الطاعة والعصيان، وباعتبار أنّه الخالق لأفعال نفسه دون الله تعالى، تنزيها له تعالى عن أن يضاف إليه خلق الشّرّ: من كفر ومعصية. وإذا كان العبد هو الخالق لأفعال نفسه الموجد لها فليس قدر سابق.
ولهم أئمّة كثيرة، لهم مصنّفات في الأصول والفروع: منهم واصل بن عطاء، وأبو الهذيل العلّاف، وإبراهيم النّظّام، وبشر بن المعتمر، ومعمر بن عبّاد، وأبو عثمان الجاحظ، [وأبو عليّ الجبّائي] (3) وابنه أبو هاشم، وغيرهم.
وعندهم أنّه لا قدر سابق بل الأمر أنف، وأن الله تعالى إنما يخلق الأفعال والمشيئة، وأن العبد هو المكتسب لأفعاله كما تقدّم.
وممّن علت رتبته فيهم الجعد بن درهم، اجتمع على مروان بن محمد آخر خلفاء بني أميّة، وأخذ عنه مروان مذهبه في القول بالقدر وخلق القرآن، وعلت رتبته عنده، وبه سمّي مروان المذكور الجعديّ (4) وكانت له واقعة مع هشام بن عبد الملك بن مروان. ويستعظمون الإيمان بالقدر: خيره وشرّه، ويتبرؤون منه، وينكرون القول بأنّ ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ويقولون: إذا كان أمر مفروغ منه ففيم يسدّد الإنسان ويقارب؟. ويطعنون في رواة حديث: «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له». ويتأوّلون قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ}
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.
(3) الزيادة من المقريزي: 2/ 348.
(4) ومن المشاهير الذين اتبعوا مذهبهم الخليفة العباسي المأمون وفي عهده كانت المحنة المعروفة بمحنة «خلق القرآن» أيام الإمام أحمد بن حنبل.(13/255)
{الْكِتََابِ لَدَيْنََا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (1) ويستعظمون البراءة من اعتقادهم، ولقاء الله تعالى على القول بأن الأمر غير أنف.
وقد رتّب في «التعريف» أيمانهم على هذا المعتقد، فقال:
ويمينهم: «والله والله والله العظيم ذي الأمر الأنف، خالق الأفعال والمشيئة، وإلّا قلت: بأن العبد غير مكتسب، وأنّ الجعد بن درهم محتقب (2)، وقلت: إن هشام بن عبد الملك أصاب دما حلالا منه، وإن مروان بن محمد كان ضالّا في اتّباعه، وآمنت بالقدر خيره وشرّه، وقلت: إن ما أصابني لم يكن ليخطئني وما أخطأني لم يكن ليصيبني، ولم أقل: إنه إذا كان أمر قد فرغ منه ففيم أسدّد وأقارب، ولم أطعن في رواة حديث «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له» ولم أتأوّل معنى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتََابِ لَدَيْنََا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}. وبرئت مما اعتقد، ولقيت الله وأنا أقول: إنّ الأمر غير أنف. وبالله التوفيق والعصمة».
المهيع الثاني (في الأيمان التي يحلّف بها أهل الكفر ممّن قد يحتاج إلى تحليفه وهم على ضربين)
الضرب الأوّل (من زعم منهم التّمسّك بشريعة نبيّ من الأنبياء عليهم السلام وهم أصحاب ثلاث ملل)
الملّة الأولى (اليهود)
واشتقاقها من قولهم: هاد إذا رجع. ولزمها هذا الاسم من قول موسى عليه
__________
(1) الزخرف / 4.
(2) أي مرتكب للإثم.(13/256)
السلام: {إِنََّا هُدْنََا إِلَيْكَ} (1) أي رجعنا وتضرّعنا. ومنتحلها اليهود المتمسّكون بشريعة موسى عليه السّلام. قال السلطان عماد الدّين صاحب حماة في تاريخه (2): وهم أعمّ من بني إسرائيل: لأن كثيرا من أجناس العرب والرّوم وغيرهم قد دخلوا في اليهوديّة وليسوا من بني إسرائيل. وكتابهم الذي يتمسّكون به «التّوراة» وهو الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السّلام.
قال أبو جعفر النّحّاس، في «صناعة الكتّاب»: وهي (3) مشتقّة من قولهم:
ورت ناري ووريت، وأوريتها إذا استخرجت ضوءها: لأنه قد استخرج بها أحكام شرعة موسى عليه السّلام، وكان النّحّاس بجنح إلى أن لفظ التّوراة عربيّ والذي يظهر أنه عبرانيّ معرّب (4): لأن لغة موسى عليه السّلام كانت العبرانية، فناسب أن تكون من لغته التي يفهمها قومه، قال الشّهرستانيّ في «النّحل والملل»: وهي أوّل منزل على بني إسرائيل سمّي كتابا، إذ ما قبلها من المنزّل إنما كان مواعظ ونحوها. قال صاحب حماة: وليس فيها ذكر القيامة ولا الدّار الآخرة ولا بعث ولا جنّة ولا نار، وكلّ وعيد يقع فيها إنما هو بمجازاة دنيويّة، فيوعدون على مجازاة الطّاعة بالنّصر على الأعداء، وطول العمر، وسعة الرّزق ونحو ذلك ويوعدون على الكفر والمعصية بالموت ومنع القطر والحميّات والحرب، وأن ينزل عليهم بدل المطر الغبار والظّلمة ونحو ذلك، يشهد لما قاله قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هََادُوا حَرَّمْنََا عَلَيْهِمْ طَيِّبََاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (5)، الآية، فجعل الظّلم سببا للتحريم. قال: وليس فيها أيضا ذمّ الدنيا، ولا طلب الزّهد فيها، ولا وظيفة صلوات معلومة، بل في التوراة الموجودة بأيديهم الآن نسبة أمور إلى الأنبياء عليهم السلام من الأسباط وغيرهم لا تحلّ حكايتها.
__________
(1) الأعراف / 156.
(2) وهو «المختصر في أخبار البشر» ويعرف بتاريخ أبي الفداء. وصاحب حماة هو الملك المؤيد إسماعيل بن علي المتوفي سنة 732هـ.
(3) أي التوراة.
(4) في دائرة المعارف الإسلامية: اللفظ من العبرانية «تورا».
(5) النساء / 160.(13/257)
واعلم أنّ التوراة على خمسة أسفار:
أوّلها يشتمل على بدء الخليقة والتاريخ من آدم إلى يوسف عليه السّلام.
وثانيها فيه استخدام المصريّين بني إسرائيل، وظهور موسى عليه السّلام عليهم، وهلاك فرعون، ونصب قبّة الزمان وهي قبّة [كان ينزل على موسى فيها الوحي] (1) وأحوال التّيه، وإمامة هارون عليه السّلام، ونزول العشر كلمات في الألواح على موسى عليه السّلام، وهي شبه مختصر ممّا في التوراة يشتمل على أوامر ونواه وسماع القوم كلام الله تعالى. وقد أخبر الله تعالى عنها بقوله: {وَكَتَبْنََا لَهُ فِي الْأَلْوََاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2) قال مجاهد: وكانت الألواح من زمرّدة خضراء، وقال ابن جبير: من ياقوتة حمراء، وقال أبو العالية: من زبرجد، وقال الحسن: من خشب نزلت من السماء، ويقال: إنها كانت لوحين.
وإنما جاءت بلفظ الجمع: لأن الجمع قد يقع على الاثنين، كما في قوله تعالى:
{فَإِنْ كََانَ لَهُ إِخْوَةٌ} والمراد اثنان.
وثالثها فيه كيفية تقريب القرابين على سبيل الإجمال.
ورابعها فيه عدد القوم، وتقسيم الأرض بينهم، وأحوال الرّسل الذين بعثهم موسى عليه السّلام من الشام، وأخبار المنّ والسّلوى والغمام.
وخامسها فيه أحكام التّوراة بتفصيل المجمل، وذكر وفاة هارون ثم موسى عليهما السلام، وخلافة يوشع بن نون عليه السّلام بعدهما.
ثم قد ذكر الشّهرستانيّ وغيره أن في التّوراة البشارة بالمسيح عليه السّلام، ثم بنيّنا محمد صلّى الله عليه وسلم، إذ قد ورد ذكر «المشيحا» في غير موضع، وأنه يخرج واحد في آخر الزمان، هو الكوكب المضيء الذي تشرق الأرض بنوره. وغير خاف على ذي لبّ أنّ المراد بالمشيحا المسيح عليه السّلام، وأنّ المراد بالذي يخرج في آخر
__________
(1) بياض في الأصل. والزيادة مما سيأتي بعد صفحات.
(2) الأعراف / 145.(13/258)
الزمان نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلم بل ربّما وقعت البشارة بهما جميعا في موضع واحد، كما في قوله: إن الله تعالى جاء من طور سيناء وظهر (1) من ساعير وعلن بفاران.
وساعير هي جبال بيت المقدس حيث مظهر المسيح عليه السّلام، وفاران جبال مكّة حيث ظهر النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
قال الشّهرستانيّ: ولما كانت الأسرار الإلهيّة، والأنوار الرّبانيّة، في الوحي والتنزيل، [والمناجاة والتّأويل] (2) على ثلاث مراتب: مبدإ ووسط وكمال، وكان المجيء أشبه شيء بالمبدإ، والظهور أشبه بالوسط، والعلن أشبه بالكمال، عبّر في التوراة عن ظهور صبح الشريعة [والتّنزيل] (3) بالمجيء [على طور سيناء] (4)، وعن طلوع شمسها بالظهور [على ساعير] (5)، وعن بلوغ درجة الكمال [والاستواء] (6)، بالعلن [على فاران] (7) وقد عرفوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بوصفه في التّوراة حقّ المعرفة: {فَلَمََّا جََاءَهُمْ مََا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللََّهِ عَلَى الْكََافِرِينَ} (8) وقد ذكر المفسّرون عن ابن عبّاس رضي الله عنه أن موسى عليه السلام لما ألقى الألواح عند رجوعه إلى قومه، تكسّرت فلم يبق منها إلا سدسها.
ويروى أن التّوراة كانت سبعين وسق بعير (9) وأنها رفع منها ستّة أسباعها وبقي السّبع ففي الذي بقي الهدى والرحمة، وفي الذي رفع تفصيل كلّ شيء.
وليعلم أنّ اليهود قد افترقوا على طوائف كثيرة، المشهور منها طائفتان:
__________
(1) في معجم البلدان: 3/ 171 «جاء من سينا، يريد مناجاته لموسى على طور سينا، وأشرق من ساعير إشارة إلى ظهور عيسى ابن مريم عليه السّلام من الناصرة، واستعلن من جبال فاران، وهي جبال الحجاز، يريد النبي عليه الصلاة والسلام» قال: وهذا في الجزء العاشر من السفر الخامس من التوراة.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية، عن «الملل والنحل» ص 125.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية، عن «الملل والنحل» ص 125.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية، عن «الملل والنحل» ص 125.
(5) الزيادة من الطبعة الأميرية، عن «الملل والنحل» ص 125.
(6) الزيادة من الطبعة الأميرية، عن «الملل والنحل» ص 125.
(7) الزيادة من الطبعة الأميرية، عن «الملل والنحل» ص 125.
(8) البقرة / 89.
(9) بياض بالأصل.(13/259)
الطائفة الأولى (المتّفق على يهوديّتهم وهم القرّاؤون)
وهم وإن كانوا فرقتين (1)، فإنّهم كالفرقة الواحدة، إذ توراتهم واحدة، ولا خلاف في أصل اليهوديّة بينهم. وقد اتفق الجميع على استخراج ستمائة وثلاث عشرة فريضة من التّوراة يتعبّدون بها. ثم كلّهم متفقون على نبوّة موسى وهارون ويوشع عليهم السلام، وعلى نبوّة إبراهيم وإسحاق ويعقوب: وهو إسرائيل، والأسباط: وهم بنوه الاثنا عشر الآتي ذكرهم آخرا (2) وهم ينفردون عن الطائفة الثانية الآتي ذكرها: وهي السّامرة بنبوّة أنبياء غير موسى وهارون ويوشع عليهم السلام، وينقلون عن يوشع تسعة عشر كتابا زيادة على التّوراة يعبّرون عنها بالنّبوّات تعرف بالأول.
ثم الرّبّانيّون ينفردون عن القرّائين بشروح موضوعة لفرائض التّوراة المتقدّمة الذّكر، وضعها أحبارهم، وتفريعات على التّوراة ينقلونها عن موسى عليه السلام.
ويتّفق الرّبّانيّون والقرّاؤون على أنّهم يستقبلون صخرة بيت المقدس في صلاتهم، ويوجّهون لها موتاهم، وعلى أن الله تعالى كلّم موسى عليه السّلام على طور سيناء: وهو جبل في رأس بحر القلزم في جهة الشّمال على رأس جزيرة في آخره، داخل بين ذراعين يكتنفانه.
وهم مختلفون في أمرين:
أحدهما القول بالظّاهر والجنوح إلى التأويل. فالقرّاؤون يقفون مع ظواهر نصوص التّوراة، فيحملون ما وقع فيها منسوبا إلى الله تعالى: من ذكر الصّورة، والتكلّم، والاستواء على العرش، والنّزول على طور سيناء، ونحو ذلك على
__________
(1) أي قرائين وربانيين، كما سيأتي.
(2) أنظر ص 267من هذا الجزء.(13/260)
ظواهره، كما تقوله الظاهرية من المسلمين، وينجرّون من ذلك إلى القول بالتّشبيه، والقول بالجهة. والرّبّانيّون يذهبون إلى تأويل ما وقع في التّوراة من ذلك كلّه كما تفعل الأشعريّة من المسلمين.
الثاني القول بالقدر. فالرّبّانيّون يقولون بأن لا قدر سابق وأن الأمر أنف كما تقوله القدريّة من المسلمين. والقرّاؤون يقولون بسابق القدر كما تقوله الأشعريّة.
أما ما عدا ذلك فكلا الفريقين يقولون: إن الله تعالى قديم أزليّ واحد قادر، وإنه تعالى بعث موسى بالحقّ، وشدّ أزره بأخيه هارون. ويعظّمون التوراة التي هي كتابهم أتمّ التعظيم، حتّى إنهم يقسمون بها كما يقسم المسلمون بالقرآن، وكذلك العشر كلمات التي أنزلت على موسى عليه السّلام في الألواح الجوهر وقد تقدّم أنها مختصر ما في التوراة، مشتملة على أوامر ونواه وسماع كلام الله تعالى، وهم يحلفون بها كما يحلفون بالتّوراة، ويعظّمون قبّة الزّمان وما حوته: وهي القبة التي كان ينزل على موسى فيها الوحي.
ومن أعظم أنواع الكفر عندهم تعبّد فرعون وهامان لعنهما الله. (وكان اسم فرعون موسى فيما ذكره المفسرون الوليد بن مصعب، وقيل: مصعب بن الرّيّان.
واختلف فيه: فقيل كان من العمالقة، وقيل من النّبط. وقال مجاهد: كان فارسيّا وهامان وزيره) والتّبرّي من إسرائيل (وهو يعقوب عليه السّلام) ومعنى إسرائيل فيما ذكره المفسرون «عبد الله» كأنّ «إسرا» عبد، و «إيل» اسم الله تعالى بالعبرانية.
وقيل: إسراء من السّرّ، وكأّنّ إسرائيل هو الذي شدّده الله وأتقن خلقه.
ومن أعظم العظائم عندهم الأخذ بدين النّصرانية، وتصديق مريم عليها السلام في دعواها أنها حملت من غير أن يمسّها بشر ويرمونها بأنها حملت من يوسف النّجّار، وهو رجل من أقاربها كان يخدم البيت المقدّس معها، ويرون تبرئتها من ذلك جريرة تقترف.
ويستعظمون الوقوع في أمور:
منها: القول بإنكار خطاب الله تعالى لموسى عليه السّلام وسماعه له.(13/261)
ويستعظمون الوقوع في أمور:
منها: القول بإنكار خطاب الله تعالى لموسى عليه السّلام وسماعه له.
ومنها: تعمّد طور سيناء الذي كلّم الله تعالى موسى عليه بالقاذورات، ورمي صخرة بيت المقدس التي هي قبلتهم بالنّجاسة، ومشاركة بختنصّر في هدم بيت المقدس وقتل بني إسرائيل، وإلقاء العذرة (1) على مظانّ أسفار التّوراة.
ومنها: الشّرب من النّهر الذي ابتلي به قوم طالوت ملك بني إسرائيل، والميل إلى جالوت ملك الكنعانيّين: وهو الذي قتله داود عليه السّلام، ومفارقة شيعة طالوت الذين قاموا معه على جالوت. وذلك أنّه لمّا رفعت التّوراة وتسلّط على بني إسرائيل عدوّهم من الكنعانيّين الذين ملكهم جالوت، كانت النّبوّة حينئذ فيهم في شمعون، وقيل في شمويل، وقيل في يوشع بن نون، فقالوا له: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، فقال لهم ما أخبر الله تعالى به: {إِنَّ اللََّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طََالُوتَ مَلِكاً} (2) ولم يكن من سبط الملك، إذ كان الملك من سبط معروف عندهم، فقيل: كان سقّاء، وقيل: كان دبّاغا، فأنكروا ملكه عليهم، وقالوا كما أخبر الله تعالى: {أَنََّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنََا} (3) الآية فلما فصل طالوت بالجنود أراد الله تعالى أن يريه من يطيعه في القتال ممّن يعصيه، فسلّط عليهم العطش وابتلاهم بنهر من حولهم، قيل: هو نهر فلسطين، وقيل: نهر بين الأردنّ وفلسطين، فقال لهم طالوت: {إِنَّ اللََّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} (4) إلى قوله: {وَقَتَلَ دََاوُدُ جََالُوتَ}.
ومنها: إنكار الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى إليهم: وهم موسى وهارون ويوشع ومن بعدهم: من أنبيائهم عليهم السلام، ومن قبلهم: من إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله عليهم، والأسباط الاثني عشر الآتي ذكرهم، والدّلالة على
__________
(1) العذرة: الغائط.
(2) البقرة / 247.
(3) البقرة / 247.
(4) البقرة / 249.(13/262)
دانيال النّبيّ عليه السّلام حتّى قتل، وإخبار فرعون مصر بمكان إرمياء النّبيّ عليه السلام عند اختفائه بها، والقيام مع البغي والفواجر يوم يحيى بن زكريّا عليهما السلام في المساعدة عليه.
ومنها: القول بأن النار التي أضاءت لموسى عليه السّلام من شجرة العوسج بالطّريق عند مسيره من مدين حتّى قصدها وكانت وسيلة إلى كلام الله تعالى له نار إفك لا وجود لها وكذلك أخذ الطّرق على موسى عليه السّلام عند توجّهه إلى مدين فارّا من فرعون، والقول في بنات شعيب اللّاتي سقى لهنّ موسى عليه السلام بالعظائم ورميهنّ بالقبيح.
ومنها: الإجلاب مع سحرة فرعون على موسى عليه السّلام والقيام معهم في غلبته، والتّبرّي ممن آمن منهم بموسى عليه السّلام.
ومنها: قول من قال من آل فرعون: اللّحاق اللّحاق: لندرك من فرّ: من موسى وقومه عند خروجهم، كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمََّا تَرََاءَا الْجَمْعََانِ قََالَ أَصْحََابُ مُوسى ََ إِنََّا لَمُدْرَكُونَ} (1)
ومنها: الإشارة بتخليف تابوت يوسف عليه السّلام بمصر حين أراد موسى عليه السّلام نقله إلى الشّام ليدفنه عند آبائه: إبراهيم وإسحاق ويعقوب: وذلك أنّهم جعلوا تابوته في أحد شقّي النّيل فأخصب وأجدب الجانب الآخر، فحوّلوه إلى الجانب الآخر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الأوّل، فجعلوه وسط النّيل فأخصب جانباه جميعا، إلى أن كان زمن موسى عليه السّلام وضرب النّيل بعصاه فانفلق عن التّابوت، فأخذ في نقله إلى الشام ليدفنه عند آبائه كما تقدّم، فأشار بعضهم ببقائه بمصر فوقع في محظور لمخالفة موسى عليه السّلام فيما يريده.
__________
(1) الشعراء / 60.(13/263)
ومنها: التّسليم للسّامريّ وتصديقه على الحوادث التي أحدثها في اليهوديّة على ما سيأتي ذكره في الكلام على السّامرة في الطائفة الثانية من اليهود.
ومنها: نزول أريحا: مدينة الجبّارين من بلاد فلسطين.
ومنها: الرّضا بفعل سكنة سدوم من بلاد فلسطين أيضا وهم قوم لوط.
ومنها: مخالفة أحكام التّوراة التي ورد [الحثّ] (1) فيها عليها.
ومنها: استباحة السّبت بالعمل فيه والعدو فيه: إذ استباحته عندهم توجب هدر دم مستبيحه من حيث إنه مسخ من مسخ باستباحته قردة وخنازير، والله تعالى يقول: {وَقُلْنََا لَهُمْ لََا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنََا مِنْهُمْ مِيثََاقاً غَلِيظاً} (2)
ومنها: إنكار عيد المظلّة وهو [سبعة أيام أوّلها الخامس عشر من تشرى] (3) وعيد الحنكة وهو [ثمانية أيام يوقدون في الليلة الأولى من لياليه على كل باب من أبوابهم سراجا وفي الليلة الثانية سراجين وهكذا حتى يكون في الليلة الثامنة ثمانية سرج] (4) وهما من أعظم أعيادهم.
ومنها: القول بالبداء على الله في الأحكام، وهو أن يخطر له غير الخاطر الأوّل، وهو تعالى منزّه عن ذلك، ورتّبوا عليه منع نسخ الشرائع، ويزعمون أن النّسخ يستلزم البداء، وهو مما اتّفق كافّة اليهود على منعه، على ما تقدّم أوّلا.
ومنها: اعتقاد أنّ المسيح عليه السّلام هو الموعود به على لسان موسى عليه السلام، المذكور بلفظ المشيحا وغير ذلك، على ما تقدّمت الإشارة إليه.
ومنها: الانتقال من دين اليهودية إلى ما سواها من الأديان، إذ عندهم أنّ شريعة موسى عليه السّلام هي التي وقع بها الابتداء، وبها وقع الاختتام.
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) النساء / 154.
(3) بياض في الأصل. والزيادة من الجزء الثاني ص 426و 428من الصبح.
(4) بياض في الأصل. والزيادة من الجزء الثاني ص 426و 428من الصبح.(13/264)
ومنها: الانتقال من اليهوديّة إلى ما عداها من الأديان: كالإسلام والنّصرانية وغيرهما، فإنه يكون بمثابة المرتدّ عند المسلمين. (1)
ومنها: استباحة لحم الجمل: فإنه محرّم عندهم، ومن استباحه فقد ارتكب محظورا عظيما عندهم وقد دخل ذلك في عموم قوله تعالى إخبارا بما حرّم عليهم: {وَعَلَى الَّذِينَ هََادُوا حَرَّمْنََا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} (2)، يعني ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل وما في معناها.
ومنها: استباحة أكل الشّحم خلا شحم الظّهر، وهو ما علا فإنه مباح لهم وعن ذلك أخبر الله تعالى بقوله: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنََا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمََا إِلََّا مََا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمََا} (3)
ومنها: استباحة أكل الحوايا. قال ابن عباس وغيره: هي المباعر. وقال أبو عبيدة: هي ما تحوّى من البطن أي استدار، والمراد شحم الثّرب. وكذلك استباحة ما اختلط من الشّحم بعظم وهو شحم الألية، وعنه أخبر تعالى بقوله:
{أَوِ الْحَوََايََا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} (4) عطفا على الشّحوم المحرّمة. على أن بعض المفسّرين قد عطف قوله تعالى: {أَوِ الْحَوََايََا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} على المستثنى في قوله: {إِلََّا مََا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمََا}، فحمله على الاستباحة والموافق لما يدّعونه الأوّل، ويرون أن سبب نزول هذه الآية أنّ اليهود قالوا لم يحرّم علينا شيء إنما حرّم إسرائيل على نفسه الثّرب وشحم الألية فنحن نحرّمه، فنزلت. على أنّ اليهود القرّائين والرّبّانييّن يجملونها فيبيعونها ويأكلون ثمنها، ويتأوّلون أن آكل ثمنها غير آكل منها، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلم: «قاتل الله
__________
(1) هذه الفقرة تحمل نفس معنى التي قبلها، وزيادتها من قبيل التكرار.
(2) الأنعام / 146.
(3) الأنعام / 146.
(4) الأنعام / 146.(13/265)
اليهود! حرّمت عليهم الشّحوم فباعوها وأكلوا ثمنها» والسامرة مخالفون في ذلك، ويقولون بتحريم الثّمن أيضا، على ما سيأتي ذكره.
وليعلم أن القرّائين والرّبّانيين يحرّمون من الذّبيحة كلّ ما كانت رئته ملتصقة بقلبه أو بضلعه، والسّامرة لا يحرّمون ذلك.
ومنها: مقالة أهل بابل في إبراهيم عليه السّلام، وهي قولهم [إنه لمن الظالمين في تكسير أصنامهم] (1)
ومنها: أن يحرّم الأحبار الذين هم علماؤهم على الواحد منهم، بمعنى أنهم يمنعونه من مباحاتهم في المآكل والمشارب والنّكاح وغير ذلك حرمة يجمعون عليها، وتتأكّد بقلب حصر الكنائس عليها إذ من عادتهم أنهم إذا حرّموا على شخص وأرادوا التّشديد عليه قلبوا حصر الكنائس عند ذلك التّحريم تغليظا على المحرّم عليه.
ومنها: الرّجوع إلى التّيه بعد الخروج منه فإنهم إنما خرجوا إليه عند سخط الله تعالى عليهم بمخالفة موسى عليه السّلام عند امتناعهم عما أمروا به من قتال الجبّارين، كما أخبر تعالى عن ذلك بقوله: {قََالَ فَإِنَّهََا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلََا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفََاسِقِينَ} (2) قال المفسّرون: وكان يتيهون ستّة فراسخ في أربعة فراسخ، يمشون كلّ يوم ويبيتون حيث يصبحون فأمر الله تعالى موسى عليه السّلام فضرب الحجر بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وكانوا اثني عشر سبطا لكلّ سبط عين فإذا أخذوا حاجتهم من الماء احتبس وحملوا الحجر معهم، وكانت ثيابهم فيما يروى لا تخرّق ولا تتدنّس، وتطول كلّما طال الصّبيان.
ومنها: تحريم المنّ والسّلوى الذي امتنّ الله تعالى عليهم به كما أخبر بذلك
__________
(1) بياض في الأصل. والزيادة من حاشية الطبعة الأميرية.
(2) المائدة / 26.(13/266)
بقوله تعالى: {وَظَلَّلْنََا عَلَيْكُمُ الْغَمََامَ وَأَنْزَلْنََا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ََ}
(1) ويقال إنه التّرنجبين. وقال ابن عبّاس: والمراد بالمنّ الذي يسقط على الشّجر وهو معروف. قال قتادة: كان المنّ يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس كسقوط الثّلج، فيأخذ الرجل منهم ما يكفيه ليومه، فإن أخذ أكثر من ذلك فسد.
وأما السّلوى، فقيل: هي طائر كالسّمانى، وقال الضّحّاك: هي السّمانى نفسها، وقال قتادة: هو طائر إلى الحمرة كانت تحشره عليهم الجنوب.
ومنها: التّبرّؤ من الأسباط: وهم أولاد يعقوب عليهم السلام، وعددهم اثنا عشر سبطا: وهم يوسف، وبنيامين، ونفتالي (2)، وروبيل (3)، ويهوذا، وشمعون، ولاوي، ودان، وربولي (4)، ويشجر (5)، وجاد، وأشر (6) ومنهم تفرّع جميع بني إسرائيل ولد كلّ منهم أمّة من الناس. وسمّوا أسباطا أخذا من السّبط وهو التتابع، إذ هم جماعة متتابعون. وقيل: من السّبط وهو الشّجر، فالسّبط الجماعة الراجعون إلى أصل واحد.
ومنها: القعود عن حرب الجبّارين مع القدرة على حربهم: وذلك أنهم أمروا بدخول الأرض المقدّسة: وهي بيت المقدس فيما قاله ابن عباس والسّدّيّ وغيرهما، والشام فيما قاله قتادة، ودمشق وفلسطين وبعض الأردنّ فيما قاله الزّجّاج، وأرض الطّور فيما قاله مجاهد وكان فيها قوم جبّارون من العمالقة كما أخبر الله تعالى والجبّار هو المتعظّم الممتنع من الذّلّ والقهر أخذا من الإجبار:
وهو الإكراه كأنّه يجبر غيره على ما يريده.
__________
(1) البقرة / 57.
(2) في الأصل «نفتاي» والتصحيح من تفسير الطبري 3/ 113112، حاشية، عن سفر التكوين، إصحاح: 29، 30، 35. والتصحيح في الأسماء الآتية عن نفس المصدر.
(3) رأوبين.
(4) زبولون.
(5) يسّاكر.
(6) أشير.(13/267)
قال ابن عبّاس: لما بعث موسى عليه السّلام من قومه اثني عشر نقيبا ليخبروه خبرهم، رآهم رجل من الجبّارين فأخذهم في كمّه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وجاء بهم إلى الملك فنثرهم بين يديه، وقال: إن هؤلاء يريدون قتالنا وكان من أمرهم ما قصّه الله تعالى في كتابه بقوله: {وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ} {يََا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللََّهُ لَكُمْ وَلََا تَرْتَدُّوا عَلى ََ أَدْبََارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خََاسِرِينَ قََالُوا يََا مُوسى ََ إِنَّ فِيهََا قَوْماً جَبََّارِينَ وَإِنََّا لَنْ نَدْخُلَهََا حَتََّى يَخْرُجُوا مِنْهََا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهََا فَإِنََّا دََاخِلُونَ قََالَ رَجُلََانِ مِنَ الَّذِينَ يَخََافُونَ أَنْعَمَ اللََّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبََابَ فَإِذََا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غََالِبُونَ وَعَلَى اللََّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قََالُوا يََا مُوسى ََ إِنََّا لَنْ نَدْخُلَهََا أَبَداً مََا دََامُوا فِيهََا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقََاتِلََا إِنََّا هََاهُنََا قََاعِدُونَ قََالَ رَبِّ إِنِّي لََا أَمْلِكُ إِلََّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنََا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفََاسِقِينَ} (1) فكان في قعودهم عن حرب الجبارين مع القدرة والنّشاط مخالفة لما أمروا به.
وقد رتّب في «التعريف» أيمان اليهود على هذا المقتضى، فقال: ويمينهم:
«إنني والله والله والله العظيم، القديم الأزليّ الفرد الصّمد الواحد الأحد المدرك المهلك، باعث موسى بالحقّ، وشادّ أزره بأخيه هارون، وحقّ التوراة المكرّمة وما فيها وما تضمّنته، وحقّ العشر كلمات التي أنزلت على موسى في الصّحف الجوهر، وما حوته قبّة الزّمان، وإلّا تعبّدت فرعون وهامان، وبرئت من بني إسرائيل، ودنت بدين النّصرانية، وصدّقت مريم في دعواها، وبرّأت يوسف النّجّار، وأنكرت الخطاب، وتعمدت الطّور بالقاذورات، ورميت الصّخرة بالنّجاسة، وشركت بختنصّر في هدم بيت المقدس وقتل بني إسرائيل، وألقيت العذرة على مظانّ الأسفار، وكنت ممّن شرب من النّهر ومال إلى جالوت، وفارقت شيعة طالوت، وأنكرت الأنبياء، ودللت على دانيال، وأعلمت جبّار مصر بمكان
__________
(1) المائدة / من 20إلى 25. وفي الآية الأولى سقط. ونصها الصحيح: {إِذْ قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ يََا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيََاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتََاكُمْ مََا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعََالَمِينَ}.(13/268)
إرمياء، وكنت مع البغيّ والفواجر يوم يحيى، وقلت: إن النّار المضيئة من شجرة العوسج نار إفك، وأخذت الطّرق على مدين، وقلت بالعظائم في بنات شعيب، وأجلبت مع السّحرة على موسى، ثم برئت ممن آمن منهم، وكنت مع من قال:
اللّحاق اللّحاق لندرك من فرّ، وأشرت بتخليف تابوت يوسف في مصر، وسلّمت إلى السّامريّ، ونزلت أريحا مدينة الجبّارين، ورضيت بفعل سكنة سذوم، وخالفت أحكام التّوراة، واستبحت السّبت وعدوت فيه، وقلت إن المظلّة ضلال، وإن الحنكة محال، وقلت بالبداء على الله تعالى في الأحكام، وأجزت نسخ الشرائع، واعتقدت أنّ عيسى بن مريم المسيح الموعود به على لسان موسى بن عمران، وانتقلت عن اليهودية إلى سواها من الأديان، واستبحت لحم الجمل والشّحم والحوايا أو ما اختلط بعظم، وتأوّلت أنّ آكل ثمنه غير آكله، وقلت مقالة أهل بابل في إبراهيم، وإلّا أكون محرّما حرمة تجمع عليها الأحبار، وتقلب عليها حصر الكنائس، ورددت إلى التّيه، وحرمت المنّ والسّلوى، وبرئت من كلّ الأسباط، وقعدت عن حرب الجبّارين مع القدرة والنّشاط».
قلت: قوله في هذه اليمين في حرمة الشّحم وما في معناه: وتأوّلت أن آكل ثمنه غير آكله، بمعنى أنه يستعظم الوقوع في تأوّل ذلك، وهو خلاف معتقدهم:
لأنهم يتأوّلون أن آكل ثمنه غير آكله كما تقدّم عنهم، وإنما تمنع ذلك السّامرة، فكان من حقّه أن يورد ذلك في يمين السّامرة وأن يقول هنا: ولم أتأوّل أن آكل ثمنه غير آكله فتنبه لذلك.
واعلم أنّ أوّل ما استحدثت هذه الأيمان لأهل دين اليهوديّة فيما ذكره محمد بن عمر المدائنيّ في كتاب «القلم والدّواة» في زمن الفضل بن الرّبيع وزير الرّشيد، أحدثها كاتب له قال له: كيف تحلّف اليهوديّ قال: أقول له: وإلّا برئت من إلهك الذي لا تعبد غيره ولا تدين إلّا له، ورغبت عن دينك الذي ارتضيته، وجحدت التّوراة وقلت: إنّ حمار العزيز راكب جمل موسى، ولعنك ثمانمائة حبر على لسان داود وعيسى بن مريم، ومسخك الله كما مسخ أصحاب السّبت فجعل منهم القردة والخنازير، وخالفت ما دوّنه دانيال وأشلوما ويوحنّا، ولقيت الله بدم
يحيى بن زكريا، وهدمت الطّور صخرة صخرة، وضربت بالنّاقوس في بيت المقدس، وتبرأ منك الأسباط وآباؤهم: إسرائيل، وإسحاق، وإبراهيم، وغمست لحية الجاثليق في معموديّة النّصارى، وانقلبت عن السّبت إلى الأحد، وإلّا قدّر الله لك أن تلقى الذي يخرج من الماء ليلة السّبت، وصيّر الله طعامك لحم الخنزير وكروش الجمال ومعد الخنازير، وسلّط الله عليك وعلى أهلك بختنصّر ثانية يقتل المقاتلة ويسبي الذّرّيّة ويخرّب المدائن، وأراك الله الأيدي التي تنال الرّكب من قبيل الأسباط، وآخذك الله بكلّ لسان جحدته وبكلّ آية حرّفتها، وقلت في موسى الزّور، وإنّه في محلّ ثبور، وفي دار غرور، وجحدت إهيا أشر إهيا (1) أصبئوت آل شدّاء. وهذه اليمين لازمة لك ولبنيك إلى يوم القيامة.(13/269)
واعلم أنّ أوّل ما استحدثت هذه الأيمان لأهل دين اليهوديّة فيما ذكره محمد بن عمر المدائنيّ في كتاب «القلم والدّواة» في زمن الفضل بن الرّبيع وزير الرّشيد، أحدثها كاتب له قال له: كيف تحلّف اليهوديّ قال: أقول له: وإلّا برئت من إلهك الذي لا تعبد غيره ولا تدين إلّا له، ورغبت عن دينك الذي ارتضيته، وجحدت التّوراة وقلت: إنّ حمار العزيز راكب جمل موسى، ولعنك ثمانمائة حبر على لسان داود وعيسى بن مريم، ومسخك الله كما مسخ أصحاب السّبت فجعل منهم القردة والخنازير، وخالفت ما دوّنه دانيال وأشلوما ويوحنّا، ولقيت الله بدم
يحيى بن زكريا، وهدمت الطّور صخرة صخرة، وضربت بالنّاقوس في بيت المقدس، وتبرأ منك الأسباط وآباؤهم: إسرائيل، وإسحاق، وإبراهيم، وغمست لحية الجاثليق في معموديّة النّصارى، وانقلبت عن السّبت إلى الأحد، وإلّا قدّر الله لك أن تلقى الذي يخرج من الماء ليلة السّبت، وصيّر الله طعامك لحم الخنزير وكروش الجمال ومعد الخنازير، وسلّط الله عليك وعلى أهلك بختنصّر ثانية يقتل المقاتلة ويسبي الذّرّيّة ويخرّب المدائن، وأراك الله الأيدي التي تنال الرّكب من قبيل الأسباط، وآخذك الله بكلّ لسان جحدته وبكلّ آية حرّفتها، وقلت في موسى الزّور، وإنّه في محلّ ثبور، وفي دار غرور، وجحدت إهيا أشر إهيا (1) أصبئوت آل شدّاء. وهذه اليمين لازمة لك ولبنيك إلى يوم القيامة.
قلت: هذه اليمين في غاية الإتقان والتّشديد، إلا أنّ قوله: وآخذك الله بكلّ لسان جحدته وبكلّ آية حرّفتها غير مناسب لتحليفهم: لأنهم يرون أن لا إثم عليهم في الجحد ولا يعترفون بالتّحريف بل ينكرونه. على أن أكثرها غير متوارد على اليمين التي أوردها في «التعريف»: فلو ألحقها بها ملحق في آخرها على صيغة اليمين الأولى من إيرادها بصيغة التكلم، مثل أن يقول: وإلا برئت من إلهي الذي لا أعبد غيره ولا أدين إلّا له، وألا رغبت عن ديني الذي ارتضيته، وعلى ذلك في الباقي، لكان حسنا.
الطائفة الثانية (من اليهود: السّامرة)
وهم أتباع السّامريّ الذي أخبر الله تعالى عنه بقوله في سورة الأعراف (2):
__________
(1) هكذا ضبطها صاحب القاموس، ثم قال: ويقولون: «إهيا شراهيا» وهو خطأ، على ما يزعمه أحبار اليهود.
(2) لم ترد الآية التالية في سورة الأعراف، وإنما في سورة «طه» الآية: 85. وقد أشار سبحانه وتعالى في سورة الأعراف إلى هذا الأمر بقوله: «واتخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنّه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتّخذوه وكانوا ظالمين» الآية: 148.(13/270)
{وَأَضَلَّهُمُ السََّامِرِيُّ}. قال بعض المفسّرين: واسمه موسى بن ظفر، وكان أصله من قوم يعبدون البقر فرأى جبريل عليه السّلام مرّة وقد جاء إلى موسى راكبا على فرس الحياة، فأخذ قبضة من تراب من تحت حافر فرسه. وكان بنو إسرائيل قد خرجوا معهم حليّ [استعاروه] (1) من القبط، فأمرهم هارون أن يحفروا حفرة ويلقوا فيها ذلك الحليّ حتّى يأتي موسى فيرى فيه رأيه، فجمعوا ذلك الحليّ كلّه وألقوه في تلك الحفرة، فجاء السّامريّ فألقى ذلك التراب عليه، وقال له: كن عجلا جسدا له خوار، فصار كذلك. قال الحسن: صار حيوانا لحما ودما. وقيل:
بل صار يخور ولم تنقلب عينه. فقال لهم السّامريّ: هذا إلهكم وإله موسى، فعكفوا على عبادته، ونهاهم هارون فلم ينتهوا [فجاء موسى] (2) وحرّق العجل وذرّاه في اليمّ كما أخبر الله تعالى عنه بقوله: {وَانْظُرْ إِلى ََ إِلََهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عََاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} (3) فأمروا بقتل أنفسهم كما أخبر تعالى بقوله: {فَتُوبُوا إِلى ََ بََارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (4) الآية. فقتل منهم سبعون ألفا ثم رفع عنهم القتل بعد ذلك.
وقد اختلف في السّامرة: هل هم من اليهود أم لا؟ والقرّاؤون والرّبّانيّون ينكرون كون السّامرة من اليهود. وقد قال أصحابنا الشافعية رحمهم الله: إنهم إن وافقت أصولهم أصول اليهود فهم منهم حتّى يقرّوا بالجزية وإلا فلا.
ثم السّامرة لهم توراة تختصّهم غير التوراة التي بيد القرّائين والرّبّانيين، والتّوراة التي بيد النّصارى وهم ينفردون عن القرائين والربانيين بإنكار نبوّة من بعد موسى ما عدا هارون ويوشع عليهما السلام، ويخالفونهم أيضا في استقبال صخرة بيت المقدس، ويستقبلون طور نابلس ويوجّهون إليه موتاهم، زاعمين أنّه
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) بياض في الأصل.
(3) طه / 97.
(4) البقرة / 54.(13/271)
الذي كلّم الله تعالى موسى عليه، ويزعمون أنّ الله تعالى أمر داود عليه السّلام ببناء بيت المقدس عليه، فخالف وبناه بالقدس: قاتلهم الله أنّى يؤفكون. وهم قائلون أيضا: إن الله تعالى هو خالق الخلق الباريء لهم، وإنه قادر قديم أزليّ. ويوافقون على نبوّة موسى وهارون عليهما السلام، وأن الله تعالى أنزل عليه التّوراة، إلا أنّ لهم توراة تخصّهم تخالف توراة القرّائين والرّبانيّين المتقدّمة الذّكر، وأنه أنزل عليه أيضا الألواح الجوهر المتضمّنة للعشر كلمات المتقدّمة الذّكر، ويقرّون أنّ الله تعالى هو الذي أنقذ بني إسرائيل من فرعون ونجّاهم من الغرق، ويقولون: إنه نصب طور نابلس المقدّم ذكره قبلة للمتعبّد.
ويستعظمون الكفر بالتّوراة التي هم يعترفون بها، والتّبرّي من موسى عليه السلام دون غيره من بني إسرائيل، ويعظّمون طورهم طور نابلس المقدّم ذكره، ويستعظمون دكّه وقلع آثار البيت الذي عمر به، ويستعظمون استباحة السّبت كغيرهم من اليهود، ويوافقون القرّائين في الوقت مع ظواهر نصوص التّوراة، ويمنعون القول بالتأويل الذاهب إليه الرّبانيّون من اليهود، وينكرون صحّة توراة القرّائين والرّبانيّين، ويجعلون الاعتماد على توراتهم، ويقولون: لا مساس:
بمعنى أنه لا يمسّ أحدا ولا يمسّه. قال في «الكشاف»: كان إذا مسّ أحدا أو مسّه أحد حصلت الحمّى للماسّ والممسوس وقد أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السّلام للسّامريّ {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيََاةِ أَنْ تَقُولَ لََا مِسََاسَ} (1) ويحرّمون من الذّبائح (2)، ويحرّمون أكل اللحم مختلطا بلبن، زاعمين أنّ في توراتهم النّهي عن أكل لحم الجدي بلبن أمّه ويستعظمون السّعي إلى الخروج إلى الأرض التي حرّم عليهم سكناها وهي مدينة أريحا.
ومن أكبر الكبائر عندهم وطء المرأة الحائض، والنّوم معها في مضجع
__________
(1) طه / 97.
(2) بياض في الأصل.(13/272)
واحد، لا سيما إذا فعل ذلك مستبيحا له. ومن أعظم العظائم عندهم إنكار خلافة هارون عليه السّلام، والأنفة من كونها.
وقد رتّب في «التعريف» يمينهم على مقتضى ذلك، فذكر أنّ يمينهم:
«إنني والله والله والله العظيم، الباريء، القادر، القاهر، القديم، الأزليّ، ربّ موسى وهارون، منزل التوراة والألواح الجوهر، منقذ بني إسرائيل، وناصب الطّور قبلة للمتعبّدين، وإلّا كفرت بما في التوراة، وبرئت من نبوّة موسى، وقلت:
إنّ الإمامة في غير بني هارون، ودكّيت الطّور، وقلعت بيدي أثر البيت المعمور، واستبحت حرمة السّبت، وقلت بالتأويل في الدّين، وأقررت بصحّة توراة اليهود، وأنكرت القول بأن لا مساس، ولم أتجنّب شيئا من الذّبائح، وأكلت الجدي بلبن أمّه، وسعيت في الخروج إلى الأرض المحظور عليّ سكنها، وأتيت النّساء الحيّض زمان الطّمث مستبيحا لهنّ، وبتّ معهنّ في المضاجع، وكنت أوّل كافر بخلافة هارون، وأنفت منها أن تكون.
الملة الثانية
الفرقة الثالثة (1)
(ممّن تدعو الضرورة إلى تحليفه النّصرانيّة)
وقد اختلف في اشتقاقها، فقيل: أخذا من قول المسيح للحواريّين: {مَنْ أَنْصََارِي إِلَى اللََّهِ} * (2) وقول الحواريّين: {نَحْنُ أَنْصََارُ اللََّهِ} * (3) وقيل: من نزوله هو وأمّه بعد عودها به من مصر بالنّاصرة: وهي قرية من بلاد فلسطين من الشام: وقيل غير ذلك.
والنّصارى هم أمّة عيسى عليه السّلام، وكتابهم الإنجيل. وقد اختلف في اشتقاقه (4) على ثلاثة مذاهب حكاها أبو جعفر النّحّاس (5) في «صناعة الكتّاب»:
__________
(1) كذا بالأصل، وصوابه «الملّة الثانية».
(2) آل عمران / 52.
(3) آل عمران / 52.
(4) أنظر تعليقات الأستاذ أحمد محمد شاكر على مادة «إنجيل» في دائرة المعارف الإسلامية: 4/ 584 وما بعدها.
(5) أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي، النحوي المصري المتوفى سنة 338هـ.(13/273)
أحدها أنه مأخوذ من قولهم: نجلت الشّيء إذا أخرجته، بمعنى أنه خرج به دارس من الحقّ.
والثاني أنه مأخوذ من قولهم: تناجل القوم إذا تنازعوا، لأنه لم يقع في كتاب من الكتب المنزّلة مثل التنازع الواقع فيه. قاله أبو عمرو الشّيبانيّ.
والثالث أنه مأخوذ من النّجل بمعنى الأصل: لأنه أصل العلم الذي أطلع الله تعالى فيه خليقته عليه، ومنه قيل للوالد نجل: لأنه أصل لولده.
ثم ذكر هذه الاشتقاقات جنوح من قائلها إلى أنّ لفظ الإنجيل عربيّ، والذي يظهر أنه عبرانيّ: لأنّ لغة عيسى عليه السّلام كانت العبرانيّة وقد قال صاحب «إرشاد القاصد»: إن معنى الإنجيل عندهم البشارة.
واعلم أنّ النّصارى بجملتهم مجمعون على أن مريم حملت بالمسيح عليه السلام، وولدته ببيت لحم من بلاد القدس من الشّام، وتكلّم في المهد، وأنّ اليهود حين أنكروا على مريم عليها السلام ذلك فرّت بالمسيح عليه السّلام إلى مصر، ثم عادت به إلى الشام، وعمره اثنتا عشرة سنة، فنزلت به القرية المسمّاة ناصرة المقدّم ذكرها، وأنه في آخر أمره قبض عليه اليهود وسعوا به إلى عامل قيصر ملك الرّوم على الشام، فقتله وصلبه يوم الجمعة، وأقام على الخشبة ثلاث ساعات، ثم استوهبه رجل من أقارب مريم اسمه يوسف النّجّار من عامل قيصر، ودفنه في قبر كان أعدّه لنفسه في مكان الكنيسة المعروفة الآن بالقمامة (1)
بالقدس، وأنّه مكث في قبره ليلة السّبت ونهار السّبت وليلة الأحد، ثم قام من صبيحة يوم الأحد، ثم رآه بطرس الحواريّ وأوصى إليه وأنّ أمّه جمعت له الحواريّين فبعثهم رسلا إلى الأقطار للدّعاية إلى دينه، وهم في الأصل اثنا عشر حواريّا: بطرس (ويقال له: سمعان، وشمعون الصّفا أيضا) (2)، وأندراوس وهو
__________
(1) هي نفسها كنيسة القيامة.
(2) كذا في الطبعة الأميرية. وفي المقريزي: 2/ 483أن بطرس وشمعون الصفا اثنان.(13/274)
أخو بطرس المقدّم ذكره، ويعقوب بن زيدي، ويوحنّا الإنجيليّ، وهو أخو (1)
أندراوس، وفيلبس، وبرتلوماوس، وتوما: ويعرف بتوما الرسول، ومتّى ويعرف بمتّى العشّار، ويعقوب بن حلفا، وسمعان القناني (ويقال له شمعون أيضا)، وبولس (2) (ويقال له تداوس)، وكان اسمه في اليهودية شاول، ويهوذا الأسخر يوطي (وهو الذي دلّ يهود على المسيح حتّى قبضوا عليه بزعمهم) وقام مقامه بنيامين، ويقولون: إنه بعد أن بعث من بعث من الحواريّين صعد إلى السّماء. وهم متّفقون على أن أربعة من الحواريّين تصدّوا لكتابة الإنجيل: وهم بطرس، ومتّى، ولوقا (3)، ويوحنّا، فكتبوا فيه سيرة المسيح من حين ولادته إلى حين رفعه، وكتب كلّ منهم نسخة على ترتيب خاصّ بلغة من اللّغات.
فكتب بطرس إنجيله باللّغة الرّوميّة في مدينة رومية قاعدة بلاد الرّوم، ونسبه إلى تلميذه مرقس أوّل بطاركة الإسكندرية، ولذلك يعرف بمرقس الإنجيليّ، وقيل: إن الذي كتبه مرقس نفسه. وكتب متّى إنجيله بالعبرانيّة في بيت المقدس، ونقله بعد ذلك يوحنّا بن زيدي إلى اللّغة الرومية. وكتب لوقا إنجيله بالرّومية وبعث به إلى بعض أكابر الرّوم، وقيل: بل كتبه باليونانّية بمدينة الإسكندرية. وكتب يوحنّا إنجيله باليونانية بمدينة أفسس، وقيل مدينة رومية.
قال الشّهرستانيّ: وخاتمة إنجيل متّى: «إني أرسلكم إلى الأمم كما أرسلني أبي إليكم، فاذهبوا وادعوا الأمم باسم الأب والابن وروح القدس» ثم اجتمع برومية من توجّه إليها من الحواريّين ودوّنوا قوانين دين النصرانية على يد أقليمش (4) تلميذ بطرس الحواريّ، وكتبوا عدد الكتب التي يجب قبولها والعمل بمقتضاها، وهي عدّة كتب: منها الأناجيل الأربعة المتقدمة الذّكر، والتّوراة التي
__________
(1) في المقريزي والعبر أن يوحنا الإنجيلي أخو يعقوب بن زيدي.
(2) كان بولس معاصرا للسيد المسيح ولكنه لم يره ولم يكن من تلاميذه. (انظر الموسوعة الفلسطينية: 1/ 435434).
(3) لم يذكره سابقا من بين الحواريين وقد ذكره المقريزي من بين سبعين من الرسل تفرقوا في البلاد فآمن بهم كثير من الخلائق.
(4) في المقريزي «قليموس» وفي مقدمة ابن خلدون «أقليمنطس».(13/275)
بأيديهم، وجملة كتب من كتب الأنبياء الذين قبل المسيح عليه السّلام، كيوشع بن نون، وأيّوب، وداود، وسليمان عليهم السلام، وغيرهم (1)
ثم لما مات الحواريّون أقام النّصارى لهم خلائف، عبّر عنهم بالبطاركة جمع بطرك، وهي كلمة يونانية مركّبة من لفظين، أحدهما «بطر» ومعناه (2)، والثانية «يرك» ومعناه (3)، ورأيت في ترسّل العلاء بن موصلايا (4): كاتب القائم بأمر الله العبّاسيّ «فطرك» بإبدال الباء فاء، والعامة يقولون: «بترك» بابدال الطاء تاء، وهو عندهم خليفة المسيح، والقائم بالدّين فيهم.
وقد كان لبطاركتهم في القديم خمسة (5) كراسيّ، لكلّ كرسيّ منها بطرك.
الأوّل منها بمدينة رومية، والقائم به خليفة بطرس الحواريّ المتوجه إليها بالبشارة
__________
(1) قال المقريزي، «وكتبوا فيها (أي في رومية) عدد الكتب التي يجب قبولها من العتيقة والجديدة. فأما العتيقة: فالتوراة، وكتاب يوشع بن نون، وكتاب القضاة، وكتاب راغون، وكتاب يهوديت، وسير الملوك، وسفر بنيامين، وكتب المقانين، وكتاب عزرة، وكتاب أستير، وقصة هامان، وكتاب أيوب، وكتاب مزامير داوود، وكتب سليمان بن داوود، وكتب الأنبياء وهي ستة عشر كتابا، وكتاب يوشع بن شيراخ. وأما الكتب الحديثة: فالأناجيل الأربعة، وكتاب القليتليقون (وفي مقدمة ابن خلدون القتاليقون)، وكتاب بولص، وكتاب الأبركسيس وهو قصص الحواريين، وكتاب قليموس وفيه ما أمر به الحواريون وما نهوا عنه». (انظر الخطط: 2/ 483).
(2) بياض في الأصل.
(3) بياض في الأصل.
(4) من أكابر الكتاب في العهد العباسي. خدم الخلفاء خمسا وستين سنة، ابتداؤها في أيام القائم بأمر الله سنة 432هـ. وكان نصرانيا فأسلم سنة 484هـ على يد المقتدي، لما ألزمت الذميّة بلبس الغيار. (وفيات الأعيان: 3/ 480والأعلام: 4/ 245).
(5) تقدم في الجزء الخامس من الصبح ص 473الطبعة الأميرية، أنها أربعة كراسي، ولم يذكر كرسي بيزنطية، وفي الموسوعة العربية الميسّرة: ص 378أن البطريركيات في الأصل ثلاث: الغربية، وعلى رأسها أسقف روما وانطاكية والإسكندرية. وفي القرنين الرابع والخامس أضيف إليها القسطنطينية وأورشليم وكانت البطريركية الغربية تشمل جميع بلاد أوروبا غربي البلقان. ثم بطريركية القسطنطينية، وتشمل الأمبراطورية البيزنطية، ثم بطريركية أنطاكية، وتشمل سوريا والعراق. وعندما انتصرت المونوفيزية في مصر وسوريا في القرنين الخامس والسادس، نشأت كنائس جديدة، وقامت إلى جانب البطريركيات الخمس القديمة بطريركيات أخرى.(13/276)
والثاني بمدينة الإسكندريّة، والقائم به خليفة مرقس تلميذ بطرس الحواريّ المقدّم ذكره وخليفته بها والثالث بمدينة بزنطية: وهي القسطنطينيّة والرابع بمدينة أنطاكية من العواصم التي هي في مقابلة حلب الآن والخامس بالقدس. وكان أكبر هذه الكراسيّ الخمسة كرسيّ رومية لكونه محلّ خلافة بطرس الحواريّ، ثم كرسيّ الإسكندرية، لكونه كرسيّ مرقس خليفته.
ثم اصطلحوا بعد ذلك على أسماء وضعوها على أرباب وظائف دياناتهم، فعبروا عن صاحب المذهب بالبطريق، وعن نائب البطرك بالأسقفّ، وقيل الأسقفّ عندهم بمنزلة المفتي، وعن القاضي بالمطران، وعن القاريء بالقسّيس، وعن صاحب الصلاة وهو الإمام بالجاثليق (1)، وعن قيّم الكنيسة بالشّمّاس، وعن المنقطع إلى المولى للعبادة بالرّاهب.
وكانت الأساقفة يسمّون البطرك أبا، والقسوس يسمون الأسقفّ أبا، فوقع الاشتراك عندهم في اسم الأب، فوقع اللّبس عليهم، فاخترعوا لبطرك الإسكندرية اسم الباب، ويقال فيه البابا (2) بزيادة ألف، والبابه بإبدال الألف هاء، ومعناه عندهم أبو الآباء: لتمييز البطرك عن الأسقفّ، فاشتهر بهذا الاسم، ثم نقل اسم الباب إلى بطرك رومية لكونه خليفة بطرس الحواريّ وبقي اسم البطرك على بطرك الإسكندرية وغيره من أصحاب الكراسيّ.
واعلم أن النّصارى مجمعون على أن الله تعالى واحد بالجوهر ثلاثة بالأقنوميّة ويفسّرون الجوهر بالذّات والأقنوميّة بالصّفات: كالوجود والعلم والحياة ويعبرون عن الذّات مع الوجود بالأب، وعن الذّات مع العلم بالابن ويعبرون عن الذّات مع الحياة بروح القدس ويعبّرون عن الإله باللّاهوت، وعن
__________
(1) في مقدمة ابن خلدون: ص 413 «ويسمون الإمام الذي يقيم الصلوات ويفتيهم في الدين بالقسيس».
(2) قال ابن خلدون في مقدمته ص 415 «وضبط هذه اللفظة ببائين موحدتين من أسفل والنطق بها مفخمة والثانية مشددة».(13/277)
الإنسان بالنّاسوت ويطلقون العلم على الكلمة التي ألقيت إلى مريم عليها السلام فحملت منها بالمسيح عليه السّلام ويخصّونه بالاتّحاد دون غيره من الأقانيم.
واجتمع منهم ثلاثمائة وثمانية عشر، وقيل وسبعة عشر (1) أسقفّا من أساقفتهم بمدينة نيقية (2) من بلاد الرّوم بحضرة قسطنطين ملك الرّوم عند ظهور أريوش الأسقفّ وقوله: إن المسيح مخلوق، وإنّ القديم هو الله تعالى، وألّفوا عقيدة استخرجوها من أناجيلهم لقّبوها بالأمانة (3)، من خرج عنها خرج عن دين النّصرانية ونصّها على ما ذكره الشّهرستانيّ في «النّحل والملل» وابن العميد مؤرّخ النّصارى في تاريخه ما صورته:
«نؤمن بالله الواحد الأب، مالك كلّ شيء، وصانع ما يرى وما لا يرى، وبالابن الواحد أيشوع المسيح ابن الله، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من [إله حق من] (4) جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وكلّ شيء، الذي من أجلنا و [من] (5) أجل خلاصنا نزل من السّماء، وتجسّد بروح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيام فيلاطوس، ودفن ثم قام في اليوم الثالث وصعد إلى السّماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن بروح القدس الواحد الحيّ الذي يخرج من أبيه،
__________
(1) في الملل والنحل للشهرستاني «وثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا» وفي العبر لابن خلدون أنهم كانوا ألفين وأربعين أسقفا واتفقوا منهم على ثلاثمائة وثمانية عشر. (انظر الطبعة الأميرية من الصبح:
13/ 275).
(2) انعقد هذا المجمع سنة 325م وهو أول مجمع مسكوني. وقد حضر أريوس (أريوش) هذا المجمع. وقد صدر عن هذا المجمع «قانون إيمان» سمي باسمه، نص على أن الابن مساو للأب في الجوهر وحكم المجمع أيضا بتجريد أريوس من ألقابه الكهنوتية. (الموسوعة العربية الميسرة:
1867).
(3) في مقدمة ابن خلدون «الإمام».
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «العبر».
(5) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «العبر».(13/278)
وبمعموديّة واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة [واحدة] (1) قدسيّة مسيحيّة جاثليقيّة، وبقيام أبداننا، وبالحياة الدّائمة أبد الآبدين.
ووضعوا معها قوانين لشرائعهم سمّوها الهيمانوت (2) ثم اجتمع منهم جمع بقسطنطينيّة عند دعوى مقدونيوس المعروف بعدوّ روح القدس، وقوله: إن روح القدس مخلوق، وزادوا في الأمانة المتقدّمة الذّكر ما نصه: «ونؤمن بروح القدس المحيي المنبثق من الأب» ولعنوا من يزيد بعد ذلك على كلام الأمانة أو ينقص منها.
وافترق النّصارى بعد ذلك إلى فرق كثيرة، المشهور منها ثلاث فرق:
الفرقة الأولى (الملكانيّة)
قال الشّهرستانيّ: وهم أتباع ملكان الذي ظهر ببلاد الرّوم ومقتضى ذلك أنّهم منسوبون إلى ملكان صاحب مذهبهم. ورأيت في بعض المصنّفات أنّهم منسوبون إلى مركان قيصر أحد قياصرة الرّوم، من حيث إنّه كان يقوم بنصرة مذهبهم، فقيل لهم مركانيّة، ثم عرّب ملكانيّة (3) ومعتقدهم أن جزءا من اللّاهوت حلّ في النّاسوت، ذاهبين إلى أن الكلمة، وهي أقنوم العلم عندهم، اتّحدت بجسد المسيح وتدرّعت بناسوته ومازجته ممازجة الخمر [اللبن] (4) أو الماء اللّبن لا يسمّون العلم قبل تدرّعه ابنا، بل المسيح وما تدرّع به هو الابن ويقولون: إن الجوهر غير الأقانيم كما في الموصوف والصّفة، مصرّحين بالتثليث،
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن العبر.
(2) في العبر «الهيمايون».
(3) «ملكان» أو «مركان» المشار إليه هو الملك «مرقيانوس» الذي كان يعاضد مجمع خلقيدونية سنة 451 م. وقد اتخذ هذا المجمع قرارا ضد بدعة أو طيخا المونوفيزية القائلة بطبيعة واحدة للمسيح. وقد لقبهم مخالفوهم بالملكيين ازدراء لهم لوقوفهم في صف الملك مرقيانوس. (الموسوعة العربية الميسرة: 1742).
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية عن العبر.(13/279)
قائلين بأن كلّا من الأب والابن وروح القدس إله، وإليهم وقعت الإشارة بقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قََالُوا إِنَّ اللََّهَ ثََالِثُ ثَلََاثَةٍ} (1) وهم يقولون: إن المسيح قديم أزليّ من قديم أزليّ، وإن مريم ولدت إلها أزليّا، فيطلقون الأبوّة والبنوّة على الله تعالى وعلى المسيح حقيقة، متمسّكين بظاهر ما يزعمون أنه وقع في الإنجيل من ذكر الأب والابن: {تَكََادُ السَّمََاوََاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبََالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمََنِ وَلَداً وَمََا يَنْبَغِي لِلرَّحْمََنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ إِلََّا آتِي الرَّحْمََنِ عَبْداً} (2)
ثم هم يقولون: إن المسيح ناسوت كليّ لا جزئيّ، وإن القتل والصّلب وقعا على الناسوت واللّاهوت معا كما نقله الشّهرستانيّ في «النّحل والملل» وإن كان الشيخ شمس الدّين بن الأكفاني في كتابه «إرشاد القاصد» قد وهم فنقل عنهم القول بأن الصّلب وقع على النّاسوت دون اللّاهوت.
ومن معتقدهم أيضا أنّ المعاد والحشر يكون بالأبدان والأرواح جميعا، كما تضمّنته الأمانة المتقدّمة، وأنّ في الآخرة التّلذّذات الجسمانيّة بالأكل والشّرب والنّكاح وغير ذلك كما يقوله المسلمون.
ومن فروعهم أنهم لا يختتنون، وربّما أكل بعضهم الميتة. وممّن تمذهب بمذهب الملكانيّة الرّوم والفرنجة ومن والاهم.
والملكانية يدينون بطاعة الباب: وهو بطرك رومية المقدّم ذكره، قال في «الروض المعطار»: من قاعدة الباب أنه إذا اجتمع به ملك من ملوك النّصارى ينبطح على بطنه بين يديه، ولا يزال يقبّل رجليه حتّى يكون هو الذي يأمره بالقيام (3)
__________
(1) المائدة / 73.
(2) مريم / 93929190.
(3) النصّ منقول ببعض التصرف عن الروض المعطار. وفي النسخة التي بين يدينا من الروض المعطار ورد «البابه» بدلا من «الباب». (الروض المعطار للحميري: ص 275ترجمة مدينة رومة).(13/280)
الفرقة الثانية (اليعقوبيّة)
وهم أتباع ديسقرس بطرك الإسكندريّة في القديم: وهو الثامن من بطاركتها من حين بطركيّة مرقس الإنجيلّي نائب بطرس الحواريّ بها. قال ابن العميد في تاريخه: وسمّي أهل مذهبه يعقوبية: لأن اسمه كان في الغلمانية يعقوب. وقيل:
بل كان له تلميذ اسمه يعقوب فنسبوا إليه. وقيل: بل كان شاويرش بطرك أنطاكية على رأي ديسقرس، وكان له غلام اسمه يعقوب فكان يبعثه إلى أصحابه: أن اثبتوا على أمانة ديسقرس فنسبوا إليه. وقيل: بل نسبوا إلى يعقوب البردغاني تلميذ سويرس بطرك أنطاكية، وكان راهبا بالقسطنطينيّة فكان يطوف في البلاد ويدعو إلى مذهب ديسقرس. قال ابن العميد: وليس ذلك فإنّ اليعاقبة ينسبون إلى ديسقرس قبل ذلك بكثير، ومعتقدهم أن الكلمة انقلبت لحما ودما فصار الإله هو المسيح.
ثم منهم من قال إن المسيح هو الله تعالى. قال المؤيّد صاحب حماة:
ويقولون مع ذلك إنه قتل وصلب ومات وبقي العالم ثلاثة أيّام بلا مدبّر.
ومنهم من يقول: ظهر اللاهوت بالنّاسوت، فصار ناسوت المسيح مظهر الحقّ لا على طريق حلول جزء فيه، ولا على سبيل اتّحاد الكلمة التي هي في حكم الصّفة، بل صار هو هو، كما يقال: ظهر الملك بصورة إنسان، وظهر الشّيطان بصورة حيوان، وكما أخبر التّنزيل عن جبريل عليه السّلام بقوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهََا بَشَراً سَوِيًّا} (1)
وأكثرهم يقول: إن المسيح جوهر واحد إلا أنّه من جوهرين، وربّما قالوا:
طبيعة واحدة من طبيعتين. فجوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركّبا تركّب النّفس والبدن فصارا جوهرا واحدا أقنوما واحدا، وهو إنسان كلّه وإله كلّه،
__________
(1) مريم / 22.(13/281)
فيقال: الإنسان صار إلها ولا ينعكس، فلا يقال: الإله صار إنسانا، كالفحمة تطرح في النار فيقال: صارت الفحمة نارا، ولا يقال: صارت النار فحمة وهي في الحقيقة لا نار مطلقة ولا فحمة مطلقة، بل هي جمرة.
ويقولون: إنّ الكلمة اتحدت بالإنسان الجزئيّ لا الكلّيّ، وربّما عبّروا عن الاتحاد بالامتزاج والادّراع والحلول، كحلول صورة الإنسان في المرآة.
ومنهم من يقول: إن الكلمة لم تأخذ من مريم شيئا لكنّها مرّت بها كمرور الماء بالميزاب، وإنّ ما ظهر من شخص المسيح عليه السّلام في الأعين هو كالخيال والصّورة في المرآة، وإن القتل والصّلب إنما وقعا على الخيال.
وزعم آخرون منهم أنّ الكلمة كانت تداخل جسد المسيح أحيانا فتصدر عنه الآيات: من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص وتفارقه في بعض الأوقات فترد عليه الآلام والأوجاع. ثم هم يقولون: إن المعاد إنما هو روحانيّ فيه لذّة وراحة وسرور، ولا أكل ولا شرب ولا نكاح.
ومن فروعهم أنهم يختتنون، ولا يأكلون الحيوان إلا بعد التّذكية. وقد حكى ابن العميد مؤرّخ النّصارى أن ديسقرس صاحب مذهب اليعقوبية حين ذهب إلى ما ذهب: من مذهبه المقدّم ذكره، رفع أمره إلى مركان قيصر ملك الروم يومئذ، فطلبه إلى مدينة خلقدونية (1) من بلاد الرّوم، وجمع له ستّمائة وأربعة وثلاثين أسقفّا، وناظروه بحضرة الملك فسقط في المناظرة، فكلمته زوجة الملك فأساء الرّدّ فلطمته بيدها، وتناوله الحاضرون بالضرب، وأمر بإخراجه فسار إلى القدس، فأقام به واتبعه أهل القدس وفلسطين ومصر والإسكندرية وقد اتّبعه على ذلك أيضا النّوبة والحبشة، وهم على ذلك إلى الآن.
__________
(1) كذا في «العبر» أيضا بإثبات مثناة تحتية. وفي بعض المراجع الحديثة «خلقيدونية». وفي معجم ياقوت: 2/ 384 «خلقدونة» قال: وهو الصقع الذي منه المصيصة وطرسوس. وفي خلقيدونية كان المجمع المسكوني الرابع الذي كرّس الصيغة الكاثوليكية لتعريف طبيعة.
المسيح. وترد في بعض النصوص باسم «غذقذونة» كما جاء في شعر ليزيد بن معاوية.
(انظر الأغاني: 17/ 210وياقوت: 4/ 188).(13/282)
الفرقة الثالثة (النّسطوريّة)
ومقتضى كلام ابن العميد أنهم أتباع نسطوريوس بطرك القسطنطينيّة.
ويحكى عنه أن من مذهبه أن مريم عليها السلام لم تلد إلها، وإنما ولدت إنسانا، وإنّما اتّحد في المشيئة لا في الذّات، وأنه ليس إلها حقيقة بل بالموهبة والكرامة.
ويقولون بجوهرين وأقنومين، وإن كرلس بطرك الإسكندرية وبطرك رومية خالفاه في ذلك، فجمعا له مائتي أسقفّ بمدينة أفسس (1)، وأبطلوا مقالة نسطوريوس وصرّحوا بكفره، فنفي إلى إخميم من صعيد مصر ومات بها، فظهر مذهبه في نصارى المشرق: من الجزيرة الفراتيّة والموصل والعراق وفارس (2)
والذي ذكره الشّهرستانيّ في «النّحل والملل» أنهم منسوبون إلى نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون، وتصرّف في الأناجيل بحكم رأيه، وقال: إن الله تعالى واحد ذو أقانيم ثلاثة: الوجود والعلم والحياة وإن هذه الأقانيم ليست بزائدة على الذّات ولا هي هي، وإن الكلمة اتّحدت بجسد المسيح عليه السّلام لا على طريق الامتزاج، كما ذهبت إليه الملكانيّة، ولا على طريق الظّهور كما قالته اليعقوبيّة، ولكن كإشراق الشّمس في كوّة، أو كظهور النّقش في الخاتم قال الشّهرستانيّ: ويعني بقوله إنه واحد بالجوهر أنه ليس مركّبا من جنس بل هو بسيط واحد. ويعني بالحياة والعلم أقنومين جوهرين أي أصلين مبدأين للعالم. قال:
ومنهم من يثبت لله تعالى صفات زائدة على الوجود والحياة والعلم: كالقدرة والإرادة ونحوهما. ومنهم من يطلق القول بأن كلّ واحد من الأقانيم الثلاثة حيّ ناطق إله. ومنهم من يقول: إن الإله واحد، وإن المسيح ابتدأ من مريم عليها السلام،
__________
(1) في معجم البلدان «أفسوس»: بلد بثغور طرسوس.
(2) انعقد بسبب مشكلة نسطوريوس ثلاثة مجامع دينية متلاحقة وهي: مجمع أفسوس 431م، ومجمع خلقيدونية 450م، ومجمع القسطنطينية 553م وقررت كلها أن للمسيح طبيعتين: إلهية وإنسانية، متّحدتين في أقنوم واحد وقوام إلهي واحد. ولم يبق مع نسطوريوس في النهاية إلا كنيسة فارس.
وتدعى أحيانا بالكنيسة الآشورية. (الموسوعة العربية الميسرة: 1832).(13/283)
وإنه عبد صالح مخلوق، خلقه الله تعالى وسماه ابنا على التّبنّي لا على الولادة والاتّحاد. ثم هم يخالفون في القتل والصّلب مذهب الملكانية واليعقوبية جميعا، فيقولون: القتل والصّلب وقعا على المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لا هوته: لأن الإله لا تحله الآلام. قال صاحب حماة (1): وهم عند النصارى كالمعتزلة عندنا.
وليعلم أن للنّصارى أشياء يعظّمونها و [أشياء] (2) يستعظمون الوقوع فيها.
فأما التي يعظّمونها فإنهم يعظمون المسيح عليه السّلام حتّى انتهوا فيه إلى ما انتهوا: من دعوى الألوهيّة والبنوّة لله سبحانه، تعالى الله عما يشركون، واسمه عندهم أيشوع فعرّب عيسى، وإنّما سمي المسيح لكونه ممسوح القدمين لا أخمص له (3)
ويعظّمون مريم عليها السلام لولادتها المسيح عليه السّلام، ويعبّرون عنها بالسّيّدة، وبالبتول، وبالعذراء.
ويعظمون مريحنّا (4) المعمدان، وهم عندهم يحيى بن زكريّا عليه السّلام، ومعنى «مر» السّيّد، و «يحنّا» يعني يحيى ويسمّونه المعمدان لأنهم يزعمون أنّ مريم عليها السلام حين عودها من مصر إلى الشأم ومعها السّيد المسيح تلقّاه يحيى عليه السّلام فعمّده في نهر الأردنّ من بلاد فلسطين، يعني غمسه فيه، ويجعلون ذلك أصلا للمعموديّة: وهو الماء الذي يغمسون فيه عند تنصّرهم، ويقولون: إنه لا يصح تنصّر نصرانيّ دون تعمّد. ولماء المعمودية بذلك عندهم من التّعظيم ما
__________
(1) أي الملك المؤيد، صاحب حماة، في تاريخه المعروف بتاريخ أبي الفداء.
(2) الزيادة يقتضيها التمييز بين الصنفين من الأشياء، كما ورد في السياق بعد هذا.
(3) في الموسوعة العربية الميسرة: تفيد الكلمة ما يمسح بقصد التقديس.
(4) أي «مار يحنا». وبالأجنبية «سان» .. ويوحنا المعمدان هو أحد أنبياء بني إسرائيل. بشر بالمسيح وهيأ له داعيا إلى الصلاح والتقوى. لام هيرودوس على زواجه بهرودياد أخت امرأته، فنقمت عليه وحثت ابنتها سالومي على طلب رأسه، وحصلت عليها. (الموسوعة العربية الميسرة:
1989).(13/284)
لا فوقه. وبعضهم يقول: إن المراد بمر يحنّا المعمدان غير يحيى بن زكريّا عليهما السلام.
ويعظمون الحواريّين: وهم أصحاب المسيح عليه السّلام. وقد تقدّم أن عدّتهم اثنا عشر حواريّا، ومعنى الحواريّ الخاصّ، ومنه قيل للدّقيق النّاصع البياض دقيق حوّارى، سمّوا بذلك لأن المسيح عليه السّلام استخلصهم لنفسه.
ويعظّمون البطاركة لأنهم خلفاء الدّين عندهم، ويرون لهم من الحرمة ما لدين النّصرانية عندهم من الحرمة، بل يجعلون أمر التّحليل والتّحريم منوطا بهم، حتّى لو حرّم البطرك على أحدهم زوجته لم يقربها حتّى يحلّها له.
وسيأتي (1) ما لبطرك اليعقوبية عند صاحب الحبشة من الحرمة عند ذكر المكاتبة إليه فيما بعد، إن شاء الله تعالى. وكذلك يعظّمون أرباب الوظائف الدّينية عندهم: من البطريق، والأسقفّ، والمطران، والقسّيس، والشّمّاس، والراهب وقد تقدّم تفسيرهم فيما مرّ.
ويعظّمون يوسف النّجّار: وهو قريب لمريم عليها السلام، يقال: إنه ابن عمّها، كان معها في خدمة بيت المقدس، وهو الذي استوهب المسيح بعد الصّلب بزعمهم حتّى دفنه. واليهود يرمون مريم عليها السلام معه بالفجور على ما تقدّم.
ويعظّمون مريم المجد لانيّة المقدّم ذكرها، ويزعمون أنها (2) أخرج منها سبعة شياطين، وأنها أوّل من رأى المسيح حين قام من قبره.
ومن عادتهم أنه إذا مات منهم أحد ممن يعتقدون صلاحه صوّروا صورته في حيطان كنائسهم ودياراتهم يتبركون بها.
ويعظّمون قسطنطين بن قسطنطين ملك الرّوم، وذلك أنّه أوّل من أخذ بدين
__________
(1) سبق الكلام على المكاتبة إليه في الجزء الثامن من الصبح، فهذا الوعد سهو عما سبق.
(2) بياض في الأصل.(13/285)
النصرانية من الملوك وحمل على الأخذ به. وقد اختلف في سبب ذلك فقيل: إنه كان يحارب أمّة البرجان بجواره وقد أعجزه أمرهم، فرأى في المنام كأنّ ملائكة نزلت من السماء ومعها أعلام عليها صلبان، فعمل أعلاما على مثالها وحاربهم بها فظهر عليهم. وقيل: بل رأى صورة صليب في السماء. وقيل: بل حملته أمّه هيلاني على ذلك.
ويعظمون هيلاني أم قسطنطين المقدّم ذكره، ويقولون: إنها رحلت من قسطنطينيّة إلى القدس، وأتت إلى محلّ الصّلب بزعمهم، فوقفت وبكت، ثم سألت عن خشبة الصّلب، فأخبرت أن اليهود دفنوها وجعلوا فوقها القمامات والنّجاسات، فاستعظمت ذلك، واستخرجتها وغسلتها وطيّبتها وغشّتها بالذّهب، وألبستها الحرير، وحملتها معها إلى القسطنطينيّة للتّبرّك، وبنت مكانها كنيسة، وهي المسمّاة الآن بالقمامة، أخذا من اسم القمامة التي كانت موضوعة هناك.
ويعظّمون من الأمكنة بيت لحم حيث مولد المسيح عليه السّلام، وكنيسة قمامة حيث قبره، وموضع خشبة الصّلب التي استخرجتها هيلاني أم قسطنطين بزعمهم.
وكذلك يعظّمون سائر الكنائس: وهي أمكنة عباداتهم كالمساجد للمسلمين. وأصلها في اللّغة مأخوذ من قولهم: كناس الظّبي: وهو المكان الذي يستتر فيه، سمّيت بذلك لاستتار هم فيها حال عبادتهم عن أعين الناس. وكذلك يعظّمون الدّيارات: وهي أمكنة التّخلّي والاعتزال كالزّوايا للمسلمين.
ويعظّمون المذبح: وهو مكان يكون في الكنيسة يقرّبون عنده القرابين ويذبحون الذّبائح، ويعتقدون أنّ كلّ ما ذبح عليه من القربان صار لحمه ودمه هو لحم المسيح ودمه حقيقة.
ويعظمون من الأزمنة أعيادهم الاتي ذكرها عند ذكر أعياد الأمم: كعيد
الغطاس من أعيادهم الكبار، وموقعه في الحادي عشر من طوبه (1) من شهور القبط، وعيد السّيدة من أعيادهم الصّغار، وموقعه في الحادي والعشرين من بؤونه منها، وعيد الصّليب، وموقعه عندهم في السابع عشر من توت، إلى غير ذلك من الأعياد الآتي (2) ذكرها مع أعياد الأمم، في الكلام على الأزمنة من هذه المقالة، إن شاء الله تعالى.(13/286)
ويعظمون من الأزمنة أعيادهم الاتي ذكرها عند ذكر أعياد الأمم: كعيد
الغطاس من أعيادهم الكبار، وموقعه في الحادي عشر من طوبه (1) من شهور القبط، وعيد السّيدة من أعيادهم الصّغار، وموقعه في الحادي والعشرين من بؤونه منها، وعيد الصّليب، وموقعه عندهم في السابع عشر من توت، إلى غير ذلك من الأعياد الآتي (2) ذكرها مع أعياد الأمم، في الكلام على الأزمنة من هذه المقالة، إن شاء الله تعالى.
وأما الأشياء التي [يتعبّدون] (3) بها، فإنهم يصلّون سبع صلوات في اليوم واللّيلة وهي: الفجر، والضّحى، والظّهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ونصف اللّيل ويقرأون في صلاتهم بمزامير داود عليه السّلام كما تفعل اليهود.
والسّجود في صلاتهم غير محدود العدد، بل قد يسجدون في الرّكعة الواحدة خمسين سجدة. وهم يتوضّأون للصلاة، ولا يغتسلون من الجنابة، وينكرون الطّهر للصّلاة على المسلمين وعلى اليهود، ويقولون: الأصل طهارة القلب. وإذا أرادوا الصّلاة ضربوا بالنّاقوس، وهو خشبة مستطيلة نحو الذراع يضرب عليها بخشبة لطيفة فيجتمعون. وهم يستقبلون في صلاتهم المشرق، وكذلك يوجّهون إليه موتاهم. قال الزّمخشريّ: ولعلّ ذهابهم إلى ذلك لأخذ مريم عليها السلام عنهم مكانا شرقيّا كما أخبر تعالى بقوله: {إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهََا مَكََاناً شَرْقِيًّا}
(4)
ولهم صيامات في أوقات متفرّقة.
منها: صومهم الكبير: وهو ستّون (5) يوما أوّلها يوم الاثنين. وموقع أوّله في
__________
(1) هو الشهر الخامس في التقويم القبطي. وشهور القبط هي: توت، بابه، هاتور، كيهك، طوبه أمشير، برمهات، برموده، بشنس، بؤونة، أبيب، مسرى.
(2) لم يذكر شيئا من الأعياد في هذه المقالة، وإنما سبق له ذكر ذلك في المقالة الأولى، الفصل الثالث فما هنا سهو.
(3) الزيادة من المقام.
(4) مريم / 16.
(5) في الموسوعة العربية الميسرة: وهو خمسة وخمسون يوما قبل عيد القيامة.
شباط أو أذار من شهور السّريان، بحسب ما يقتضيه حسابهم، يفطرون في خلالها يوم الأحد، تبقى مدّة صيامهم منها تسعة وأربعون يوما.(13/287)
__________
شباط أو أذار من شهور السّريان، بحسب ما يقتضيه حسابهم، يفطرون في خلالها يوم الأحد، تبقى مدّة صيامهم منها تسعة وأربعون يوما.
ومنها: [صومهم الصّغير] (1): وهو ستّة (2) وأربعون يوما يصومونها بعد الفصح الكبير بخمسين يوما، أوّلها يوم الاثنين أيضا وعندهم فيه خلاف.
ومنها: صوم العذارى: وهو ثلاثة أيام، أوّلها يوم الاثنين الكائن بعد كانون الثاني، في صيامات أخرى يطول ذكرها، ولكثرة صيامهم قيل: إذا حدّثت أن نصرانيّا مات من الجوع فصدّق.
وأمّا ما يحرّمونه، فإنهم يقولون بتحريم لحم الجمل ولبنه كما يقوله اليهود، ويقولون: بحلّ لحم الخنزير خلافا لليهود، وهو مما ينكره اليهود عليهم من مخالفة أحكام التوراة.
ويحرّمون صوم يوم الفصح الأكبر، وهو يوم فطرهم من صومهم الأكبر.
ويحرّمون على الرجل أن يتزوّج امرأتين في قرن واحد.
ويحرّمون طلاق الزوجة بل إذا تزوّج أحدهم امرأة لا يكون له منها فراق إلا بالموت.
وأما الأشياء التي يستعظمون الوقوع فيها:
فمنها: جحود كون المسيح هو المبشّر به على لسان موسى عليه السّلام.
ومنها: إنكار قتل المسيح عليه السّلام وصلبه فإنهم يعتقدون أن ذلك كان سببا لخلاص اللاهوت من النّاسوت، فمن أنكر عندهم وقوع القتل والصّلب على المسيح خرج عن دين النصرانية، بل إنكار رؤيته مصلوبا عندهم ارتكاب محظور.
على أنّهم ينكرون على اليهود ارتكابهم ذلك، ويستعظمون مشاركتهم في ذلك، فيالها من عقول أضلّها بارئها!.
(1) الزيادة من المقام.
(2) في المصدر السابق: الصوم الصغير، أو صوم الميلاد، وهو عند المسيحيين أربعون يوما قبل عيد الميلاد. يبدأ عند المسيحيين الغربيين في 16من نوفمبر، وعند الشرقيين في 26منه.(13/288)
ومنها: كسر صليب الصّلبوت، وهو الخشبة التي يزعمون أن المسيح عليه السلام صلب عليها. وقد تقدّم أن هيلاني أمّ قسطنطين استخرجتها من القمامة وغسلتها وطيّبتها وغشّتها بالذّهب وألبستها الحرير وحملتها معها للتّبرك.
ومنها: الرّجوع عن متابعة الحواريّين الذين هم أصحاب المسيح عليه السلام.
ومنها: الخروج عن دين النّصرانية أو التّبري منه، والقول بدين التوحيد أو دين اليهودية.
ومنها: الوقوع في حقّ قسطنطين وأمّه هيلاني: لقيامهما في إقامة دين النّصرانية أوّلا على ما تقدّم ذكره. وكذلك الاستهانة بالبطاركة أو أحد من أرباب الديانات عندهم: كالأساقفة ونحوهم ممن تقدّم ذكره.
ومنها: القعود عن أهل الشّعانين: وهم أهل التّسبيح الذين كانوا حول المسيح عليه السّلام حين ركب الحمار بالقدس ودخل صهيون يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهم حوله يسّبحون الله تعالى ويقدّسونه.
ومنها: صوم يوم الفصح الأكبر، وصرف الوجه في الصلاة عن الشّرق، واستقبال صخرة بيت المقدس موافقة لليهود.
ومنها: هدم كنيسة قمامة: لكونها عندهم في محلّ القبر بزعمهم. وكذلك غيرها من الكنائس والدّيرة.
ومنها: تكذيب أحد من نقلة الإنجيل الأربعة الذين كتبوه كمتّى وغيره، أو تكذيب أحد من القسوس: وهم الذين يقرأون الإنجيل والمزامير، وتكذيب مريم المجد لانية فيما أخبرت به عن المسيح من قيامه من قبره الذي كان دفن فيه بزعمهم فإنهم يزعمون أنّها أوّل من رآه عند قيامه.
ومنها: القول بنجاسة ماء المعمودية: وهو الماء الذي ينغمسون فيه عند تنصّرهم.
ومنها: عدم اعتقاد أن القربان الذي يذبح في المذبح لا يصير لحمه ودمه هو لحم المسيح ودمه ولعمري إن هذه لعقول ذاهبة.(13/289)
ومنها: القول بنجاسة ماء المعمودية: وهو الماء الذي ينغمسون فيه عند تنصّرهم.
ومنها: عدم اعتقاد أن القربان الذي يذبح في المذبح لا يصير لحمه ودمه هو لحم المسيح ودمه ولعمري إن هذه لعقول ذاهبة.
ومنها: استباحة دماء أهل الديارات، والمشاركة في قتل الشّمامسة الذين هم خدّام الكنائس.
ومنها: خيانة المسيح في وديعته. وذلك أنّهم يزعمون أن كلّ ما خالفت فيه فرقة من الفرق الثلاث الفرقة الأخرى كقول الملكانية بأنّ المعاد جسمانيّ، وقول اليعقوبية: إن المعاد روحانيّ، فإنّ الفرقة الأخرى يستعظمون الوقوع فيما ذهب إليه مخالفها وكذلك كلّ ما جرى هذا المجرى.
وقد رتّب الكتّاب أيمان النّصارى على هذه المعتقدات. قال محمد بن عمر المدائني في كتاب «القلم والدّواة»: وقد يذهب على كثير من الكتّاب ما يستحلف به اليهود والنصارى عند الحاجة إلى ذلك منهم، فيستحلفون بأيمان الإسلام وهم مستحلّون للحرام، ومجترئون على الآثام، ويتأثّمون من أيمانهم، والاستقسام بأديانهم. ثم أشار إلى أنّ أوّل ما رتّبت الأيمان التي يحلّف بها النصارى على هذه الطريقة في زمن الفضل بن الرّبيع، فحكى عن بعض كتّاب العراق أنه قال: أراد الفضل بن الربيع: يعني وزير الرّشيد أن يستحلف كاتبه «عونا النصراني» فلم يدر كيف يستحلفه، فقلت: ولّني استحلافه، قال: دونك، فقلت له: إحلف بالهك الذي لا تعبد غيره، ولا تدين إلّا له، وإلا فخلعت النّصرانيّة، وبرئت من المعمودية، وطرحت على المذبح خرقة حيضة يهوديّة، وقلت في المسيح ما يقوله المسلمون {إِنَّ مَثَلَ عِيسى ََ عِنْدَ اللََّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرََابٍ} (1)، وإلا فلعنك البطريك الأكبر، والمطارنة، والشّمامسة، والقمامسة، والدّيرانيّون، وأصحاب الصوامع عند مجتمع الخنازير وتقريب القربان، وبما استغاثت به النّصارى ليسوع، وإلّا فعليك جرم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفّا الذين
__________
(1) آل عمران / 59.(13/290)
خرجوا من نيقية حتى أقاموا عمود النصرانية، وإلّا فشققت الناقوس وطبخت به لحم جمل وأكلته يوم الاثنين مدخل الصّوم (واتحمت من كل بركه يوما) (1) ورميت الشاهد بعشرين حجرا جاحدا بها، وهدمت كنيسة لدّ، وبنيت بها كنيسة اليهود، وخرقت غفارة مريم وكهنونة داود، وأنت حنيف مسلم وهذه اليمين لازمة لك ولعقبك من بعدك. وقال فقال عون: أنا لا أستحلّ أن أسمع هذه فكيف أقولها! وخرج من جميع ما طالبه به الفضل، فأمر بها الفضل فكتبت نسخا وفرّقت على الكتّاب وأمرهم بحفظها وتحليف النصارى [بها] (2)
قلت: وقد أكثر الناس من ترتيب نسخ الأيمان لتحليف النّصارى، فمن مطنب ومن موجز، على اختلاف مقاصدهم فيما يقع به التّحليف ويوافق آراءهم فيه. وقد رتّب المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في «التعريف» لهم أيمانا على مقتضى آراء فرقهم الثّلاث المتقدّمة الذّكر: من الملكانيّة، واليعقوبية، والنّساطرة.
فأما الملكانيّة، فقال: إنّ يمينهم: «والله والله والله العظيم، وحقّ المسيح عيسى ابن مريم، وأمّه السّيدة مريم، وما أعتقده من دين النّصرانيّة، والملّة المسيحية وإلّا أبرأ من المعمودية، وأقول: إن ماءها نجس، وإن القرابين رجس، وبرئت من مريحنّا المعمدان والأناجيل الأربعة، وقلت: إن متّى كذوب، وإن مريم المجد لانية باطلة الدّعوى في إخبارها عن السّيد اليسوع المسيح، وقلت في السيدة مريم قول اليهود، ودنت بدينهم في الجحود، وأنكرت اتّحاد اللّاهوت بالنّاسوت، وبرئت من الأب والابن وروح القدس، وكذّبت القسوس، وشاركت في ذبح الشّمامس، وهدمت الديارات والكنائس، وكنت ممّن مال على قسطنطين ابن هيلاني، وتعمّد أمّه بالعظائم، وخالفت المجامع التي أجمعت الأساقفة بروميّة والقسطنطينيّة، ووافقت البرذعانيّ بأنطاكية، وجحدت مذهب الملكانيّة، وسفّهت
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. ولم نهتد إلى تثقيفه.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(13/291)
رأي الرّهبان، وأنكرت وقوع الصّلب على السّيّد اليسوع، وكنت مع اليهود حين صلبوه، وحدت عن الحواريّين، واستبحت دماء الدّيرانيّين، وجذبت رداء الكبرياء عن البطريرك، وخرجت عن طاعة الباب، وصمت يوم الفصح الأكبر، وقعدت عن أهل الشّعانين، وأبيت عيد الصّليب والغطاس، ولم أحفل بعيد السّيدة، وأكلت لحم الجمل، ودنت بدين اليهود، وأبحت حرمة الطّلاق، وخنت المسيح في وديعته، وتزوّجت في قرن بامرأتين، وهدمت بيدي كنيسة قمامة، وكسرت صليب الصّلبوت، وقلت في البنوّة مقال نسطورس، ووجّهت إلى الصّخرة وجهي، وصدّيت عن الشّرق المنير حيث كان المظهر الكريم، وإلّا برئت من النورانيين والشعشعانيين، ودنت غير دين النّصارى، وأنكرت أنّ السّيد اليسوع أحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، وقلت بأنّه مربوب، وأنّه ما رؤي وهو مصلوب، وأنكرت أن القربان المقدّس على المذبح ما صار لحم المسيح ودمه حقيقة، وخرجت في النصرانية عن لا حب الطريقة، وإلّا قلت بدين التّوحيد، وتعبدت غير الأرباب، وقصدت بالمظانيات غير طريق الإخلاص، وقلت: إنّ المعاد غير روحانيّ (1)، وإن بني المعمودية لا تسيح في فسيح السماء، وأثبتّ وجود الحور العين في المعاد، وأن في الدار الآخرة التّلذّذات الجسمانية (2)، وخرجت خروج الشّعرة من العجين من دين النّصرانية، وأكون من ديني محروما، وقلت إن جرجس لم يقتل مظلوما.
وأما اليعاقبة، فقال: إنه يبدل قوله: اتحاد اللّاهوت بالنّاسوت بقوله:
مماسّة اللّاهوت للنّاسوت. ويبطل قوله: ووافقت البرذعانيّ بأنطاكية، وجحدت مذهب الملكانيّة. ويبدّل بقوله: وكذّبت يعقوب البرذعانيّ، وقلت: إنه غير نصراني، وجحدت اليعقوبية، وقلت إن الحق مع الملكانية. ويبطل قوله:
وخرجت عن طاعة الباب، ويبدل بقوله: وقاتلت بيدي عمدشيون، وخرّبت كنيسة قمامة وكنت أوّل مفتون.
__________
(1) سبق له القول بأن الملكانية تؤمن بالمعاد الروحاني والجسماني معا. (راجع ص 280من هذا الجزء).
(2) سبق له القول بأن الملكانية تؤمن بالمعاد الروحاني والجسماني معا. (راجع ص 280من هذا الجزء).(13/292)
وإن كان من النساطرة أبدل القولين وأبقى ما سواهما، وقال عوض مماسة اللّاهوت للنّاسوت: إشراق اللّاهوت على النّاسوت، ويزاد بعد ما يحذف: وقلت بالبراءة من نسطورس وما تضمّنه الإنجيل المقدّس.
وهذه نسخة يمين حلّف عليها ملك النّوبة للسلطان الملك المنصور «قلاوون» عند استقراره نائبا عنه في بلاد النّوبة وهي:
والله والله والله، وحقّ الثّالوث المقدّس، والإنجيل الطّاهر، والسيدة الطّاهرة العذراء أمّ النّور، والمعمودية، والأنبياء، والرّسل، والحواريّين، والقدّيسين، والشّهداء الأبرار، وإلّا أجحد المسيح كما جحده بودس، وأقول فيه ما يقول اليهود، وأعتقد ما يعتقدونه، وإلّا أكون بودس الذي طعن المسيح بالحربة إنّني أخلصت نيّتي وطويّتي من وقتي هذا وساعتي هذه للسّلطان الملك فلان، وإني أبذل جهدي وطاقتي في تحصيل مرضاته، وإنني ما دمت نائبه لا أقطع المقرّر عليّ في كلّ سنة تمضي: وهو ما يفضل من مشاطرة البلاد على ما كان يتحصّل لمن تقدّم من ملوك النّوبة، وأن يكون النّصف من المتحصّل للسلطان مخلّصا من كلّ حقّ، والنّصف الآخر مرصدا لعمارة البلاد وحفظها من عدوّ يطرقها، وأن يكون عليّ في كلّ سنة كذا وكذا. وإنّني أقرّر على كلّ نفر من الرّعية الذين تحت يدي في البلاد من العقلاء البالغين دينارا عينا، وإنّني لا أترك شيئا من السّلاح ولا أخفيه، ولا أمكّن أحدا من إخفائه ومتى خرجت عن جميع ما قرّرته أو عن شيء من هذا المذكور أعلاه كلّه، كنت بريئا من الله تعالى ومن المسيح ومن السّيدة الطاهرة، وأخسر دين النّصرانية، وأصلّي إلى غير الشّرق، وأكسر الصّليب، وأعتقد ما يعتقده اليهود. وإنّني مهما سمعت من الأخبار الضّارّة والنافعة طالعت به السّلطان في وقته وساعته، ولا أنفرد بشيء من الأشياء إذا لم يكن مصلحة، وإنّني وليّ من والى السلطان وعدوّ من عاداه والله على ما نقول وكيل.
قلت: وسيأتي ذكر أيمان الفرنج على الهدنة عند ذكر ما أهمله في «التعريف»: من نسخ الأيمان في آخر الباب، إن شاء الله تعالى.(13/293)
الملة الثالثة (المجوسيّة
: وهي الملّة التي كان عليها الفرس ومن دان بدينهم) وهم ثلاث فرق:
الفرقة الأولى الكيومرتيّة
نسبة إلى كيومرث، ويقال: جيومرت بالجيم بدل الكاف. وهو مبدأ النّسل عندهم كآدم عليه السّلام عند غيرهم، وربّما قيل:
إن كيومرث هو آدم عليه السّلام. وهؤلاء أثبتوا إليها قديما وسمّوه يزدان، ومعناه النّور، يعنون به الله تعالى، وإلها مخلوقا سمّوه أهرمن، ومعناه الظّلمة، يعنون به إبليس. ويزعمون أن سبب وجود أهرمن أنّ يزدان فكّر في نفسه أنه لو كان له منازع كيف يكون، فحدث من هذه الفكرة الرّدية أهرمن، مطبوعا على الشّرّ والفتنة والفساد والضّرر والإضرار، فخرج على يزدان وخالف طبيعته، فجرت بينهما محاربة كان آخر الأمر فيها على أن اصطلحا أن يكون العالم السّفليّ لأهرمن سبعة آلاف سنة، ثم يخلّي العالم ويسلّمه ليزدان. ثم إنه أباد الذين كانوا في الدّنيا قبل الصّلح وأهلكهم، وبدأ برجل يقال له كيومرت، وحيوان يقال له الثّور، فكان من كيومرت البشر ومن الثّور البقر وسائر الحيوان.
وقاعدة مذهبهم تعظيم النور، والتّحرّز من الظّلمة، ومن هنا انجرّوا إلى النار فعبدوها: لما اشتملت عليه من النور. ولمّا كان الثّور هو أصل الحيوان عندهم المصادف لوجود كيومرت، عظّموا البقر حتّى تعبّدوا بأبوالها.
الفرقة الثانية الثّنويّة
وهم على رأي الكيومرتيّة في تفضيل النّور والتحرّز من الظّلمة، إلا أنهم يقولون: إن الاثنين اللذين هما النور والظلمة قديمان.
الفرقة الثالثة الزّرادشتية
الدائنون بدين المجوسيّة وهم أتباع زرادشت الذي ظهر في زمن كيستاسف (1) السّابع من ملوك
__________
(1) في الموسوعة العربية الميسرة: «معاصر في الأغلب لداريوس» وقد عاش زرادشت في نهاية القرن السابع وبداية القرن السادس قبل الميلاد.(13/294)
الكيانية، وهم الطّبقة الثانية من ملوك الفرس، وادّعى النبوّة وقال بوحدانيّة الله تعالى، وأنّه واحد لا شريك له ولا ضدّ ولا ندّ، وأنه خالق النّور والظّلمة ومبدعهما، وأن الخير والشّرّ والصّلاح والفساد إنما حصل من امتزاجهما، وأن الله تعالى هو الذي مزجهما لحكمة [رآها] في التركيب، وأنهما لو لم يمتزجا لما كان وجود للعالم، وأنّه لا يزال الامتزاج حتّى يغلب النّور الظّلمة، ثم يخلص الخير في عالمه وينحطّ الشّر إلى عالمه، وحينئذ تكون القيامة. وقال باستقبال المشرق حيث مطلع الأنوار، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، واجتناب الخبائث. وأتى بكتاب قيل صنّفه، وقيل أنزل عليه.
قال الشّهرستاني: اسمه «زندوستا» (1) وقال المسعوديّ في «التنبيه والإشراف»: واسم هذا الكتاب «الإيستا» وإذا عرّب أثبتت فيه قاف فقيل:
«الإيستاق» وعدد سوره إحدى وعشرون سورة، تقع كلّ سورة في مائتي ورقة وعدد حروفه ستّون حرفا، لكلّ حرف سورة مفردة، فيها حروف تتكرر وفيها حروف تسقط. قال: وزرادشت هو الذي أحدث هذا الخطّ والمجوس تسمّيه: دين تبره، أي كتاب الدين.
وذكر أنه كتب باللغة الفارسيّة الأولى في اثني عشر ألف جلد ثور بقضبان الذّهب حفرا، وأن أحدا اليوم لا يعرف معنى تلك اللغة، وإنما نقل لهم إلى هذه الفارسية شيء من السّور في أيديهم يقرؤونها في صلواتهم: في بعضها الخبر عن مبتدإ العالم ومنتهاه، وفي بعضها مواعظ. قال: وعمل زرادشت لكتاب «الإيستا» شرحا سماه «الزند» ومعناه عندهم: ترجمة كلام الرّب، ثم عمل لكتاب «الزند» شرحا سماه: «بادزنده» وعملت علماؤهم لذلك الشّرح شرحا سموه: «يازده».
ومن حيث اختلاف الناس في كتاب زرادشت المقدّم ذكره هذا: نزّل عليه أو صنّفه قال الفقهاء: إن للمجوس شبهة كتاب: لأنه غير مقطوع بكونه كتابا منزّلا.
__________
(1) هو كتاب «الأفيستا» أو «الزند أفيستا». و «زند» معناها تفسير، و «أفيستا» معناها قانون (انظر الموسوعة العربية الميسرة: مادة «زرادشتية»).(13/295)
وأتى زرادشت كيستاسف الملك بمعجزات.
منها: أنه أتى بدائرة صحيحة بغير آلة، وهو ممتنع عند أهل الهندسة.
ومنها: أنه مرّ على أعمى، فأمرهم أن يأخذوا حشيشة سمّاها ويعصروها في عينيه، فأبصر. قال الشّهرستانيّ: وليس ذلك من المعجزة في شيء، إذ يحتمل أنه كان يعرف خاصّة الحشيشة.
وهم يقولون: إن الله تعالى خلق في الأوّل خلقا روحانيّا، فلما مضت ثلاثة آلاف سنة أنفذ الله تعالى مشيئته في صورة من نور متلأليء على [تركيب] (1) صورة الإنسان، وخلق الشّمس والقمر والكواكب والأرض (وبنو آدم حينئذ غير متحرّكين) في ثلاثة آلاف سنة.
ثم المجوس يفضّلون الفرس على العرب وسائر الأمم، ويفضّلون مالهم:
من مدن وأبنية على غيرها من الأبنية فيفضّلون إقليم بابل على غيره من الأقاليم، ومدينته على سائر المدن، من حيث إنّ أو شهنج أوّل طبقة الكيانية (2) من ملوك الفرس هو الذي بناها ويقولون: إنه أوّل من جلس على السّرير، ولبس التّاج، ورفع الأعمال، ورتّب الخراج وكان ملكه بعد الطّوفان بمائتي سنة، وقيل: بل كان قبل الطوفان.
ويفضّلون الكتابة الفهلوية وهي الفارسية الأولى على غيرها من الخطوط، ويزعمون أن أوّل من وضعها طهمورث: وهو الذي ملك بعد أو شهنج المقدّم ذكره.
ويجحدون سياسة بني ساسان، وهم الطّبقة الثالثة (3) من ملوك الفرس منسوبون إلى ساسان، ويسخطون [على] (4) الروم، لغزوهم الفرس وتسلّطهم
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) في مقدمة ابن خلدون: ص 257 «الكينية».
(3) في «العبر» أنها الرابعة.
(4) الزيادة يقتضيها السياق.(13/296)
عليهم ببلاد بابل، ويعبدون النّار، ويرون أنّ الأفلاك فاعلة بنفسها، ويستبيحون فروج المحارم من البنات والأمّهات، ويرون جواز الجمع بين الأختين إلى غير ذلك من عقائدهم.
ويعظّمون النّيروز: وهو أوّل يوم من سنتهم وعيدهم الأكبر. وأوّل من رتّبه جمشيد أخو طهمورث. ويعظّمون أيضا المهرجان: وهو عيد مشهور من أعيادهم.
ويسخطون [على] بيوراسب وهو رابع ملوكهم: وهو الضحاك، يقال له بالفارسية: الدهاش، ومعناه عشر آفات. وكان ظلوما غشوما، سار فيهم بالجور والعسف، وبسط يده بالقتل، وسنّ العشور والمكوس واتّخذ المغنّين والملاهي، وكان على كتفه سلعتان مستورتان بثيابه يحرّكهما إذا شاء، فكان يدّعي أنهما حيّتان، تهويلا على ضعفاء العقول، ويزعم أن ما يأخذه من الرّعية يطعمه لهما ليكفّهما عن الناس، وأنهما لا يشبعان إلا بأدمغة بني آدم فكان يقتل في كلّ يوم عددا كثيرا من الخلق بهذه الحجة. ويقال: إن إبراهيم الخليل عليه السّلام كان في آخر أيامه.
وكان من شأنه أنه لما كثر جوره وظلمه على الناس، ظهر بأصبهان رجل اسمه كابي، ويقال: كابيان من سفلة الناس، قيل حدّاد، كان الضّحّاك قد قتل له ابنين فأخذ كابي المذكور درفسا، وهو الحربة، وعلّق بأعلاها قطعة نطع كان يتّقي بها النّار، ونادى في الناس بمحاربة الضّحّاك، فأجابه خلق كثير، واستفحل أمره، وقصد الضّحاك بمن معه، فهرب الضّحاك منه، فسأله الناس أن يتملّك عليهم فامتنع لكونه من غير بيت الملك، وأشار بتولية إفريدون من عقب جمشيد المقدّم ذكره، فولّوه، فتبع الضّحاك فقبض عليه وقتله، وسار فيهم بسيرة العدل وردّ ما اغتصبه الضحّاك إلى أهله، فصار لكابي المذكور عندهم المقام الأعلى، وعظّموا درفسه الذي علق به تلك القطعة من النّطع، وكللوه بالجواهر، ورصّعوه باليواقيت، ولم يزل عند ملوكهم يستفتحون به في الحروب العظيمة حتّى كان
معهم أيام يزدجرد آخر ملوكهم عند محاربة المسلمين لهم في زمن عثمان، فغلبهم المسلمون واقتلعوه منهم.(13/297)
وكان من شأنه أنه لما كثر جوره وظلمه على الناس، ظهر بأصبهان رجل اسمه كابي، ويقال: كابيان من سفلة الناس، قيل حدّاد، كان الضّحّاك قد قتل له ابنين فأخذ كابي المذكور درفسا، وهو الحربة، وعلّق بأعلاها قطعة نطع كان يتّقي بها النّار، ونادى في الناس بمحاربة الضّحّاك، فأجابه خلق كثير، واستفحل أمره، وقصد الضّحاك بمن معه، فهرب الضّحاك منه، فسأله الناس أن يتملّك عليهم فامتنع لكونه من غير بيت الملك، وأشار بتولية إفريدون من عقب جمشيد المقدّم ذكره، فولّوه، فتبع الضّحاك فقبض عليه وقتله، وسار فيهم بسيرة العدل وردّ ما اغتصبه الضحّاك إلى أهله، فصار لكابي المذكور عندهم المقام الأعلى، وعظّموا درفسه الذي علق به تلك القطعة من النّطع، وكللوه بالجواهر، ورصّعوه باليواقيت، ولم يزل عند ملوكهم يستفتحون به في الحروب العظيمة حتّى كان
معهم أيام يزدجرد آخر ملوكهم عند محاربة المسلمين لهم في زمن عثمان، فغلبهم المسلمون واقتلعوه منهم.
وهم يعظمون أفريدون ملكهم المقدّم ذكره، لقيامه في هلاك الضّحاك وقتله. وفي أوّل ملك أفريدون هذا كان إبراهيم الخليل عليه السّلام. ويقال: إنه ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم.
وهم يعظمون أيضا من ملوكهم سابور الملقّب بذي الأكتاف، لأخذه بثار العجم من العرب. وذلك أنه كان يتبع العرب بالجزيرة الفراتيّة وما جاورها، وسار في طلبهم حتّى بلغ البحرين، ليهلكهم قتلا، لا يقبل من أحد منهم فداء ثم أخذ في خلع أكتافهم، فلذلك سمّي ذا الأكتاف.
ويعظمون ماني بن فاتن (1): وهو رجل ظهر في زمن سابور بن أردشير بعد عيسى عليه السّلام، وادّعى النبوّة وأحدث دينا بين المجوسية والنّصرانية. وكان يقول: بنبوة المسيح عليه السّلام، ولا يقول بنبوّة موسى عليه السلام، وقال: إنّ العالم مصنوع من النّور والظّلمة، وأنهما لم يزالا قديمين حسّاسين سميعين بصيرين. وله أتباع يعرفون بالمانويّة.
ويتبرؤون من مزدك: وهو رجل مشهور منسوب عندهم إلى الزندقة أيضا، ظهر في زمن قباذ أحد ملوك الفرس من الأكاسرة، وادّعى النبوّة ونهى عن المخالفة والمباغضة، وزعم أنّ ذلك إنما يحصل بسبب النساء والمال، فأمر بالاشتراك والمساواة فيهما، وتبعه قباذ على ذلك، فتوصّلت سفلة الرجال إلى أشراف النّساء، وحصل بذلك مفسدة عظيمة. وكان يقول: إن النّور عالم حساس، والظلام جاهل أعمى، والنّور يفعل بالقصد والاختيار، والظّلمة تفعل على الخبط والاتفاق، وإنّ امتزاج النّور والظّلمة كان بالاتفاق والخبط دون القصد والاختيار، وكذلك الخلاص. وله أتباع يقال لهم المزدكيّة، ولم يزل على ذلك حتّى قتله
__________
(1) في الملل والنحل «ماني بن فاتك» وفي فهرست ابن النديم: «ماني بن فتّق بابك بن أبي برزام».
والمانوية مذهب تأثر بالبوذية والغنوصية، كما أخذ من الزرادشتية. قضت النصرانية على هذا المذهب حوالي 500م.(13/298)
شروان بن قباذ هو وأتباعه، وقتل معهم المانويّة أتباع ماني المقدّم ذكره، وعادت الفرس إلى المجوسيّة القديمة.
وقد رتّب في «التعريف» للمجوس يمينا على مقتضى ما عليه عقيدة المجوس أتباع زرادشت المقدّم ذكره وهي:
«إنّني والله الرّبّ العظيم، القديم، النّور، الأوّل، ربّ الأرباب، وإله الآلهة، ماحي آية الظّلم، والموجد من العدم، مقدّر الأفلاك ومسيّرها، ومنوّر الشّهب ومصوّرها، خالق الشّمس والقمر، ومنبت النجوم والشّجر، والنّار والنّور، والظّلّ والحرور، وحقّ جيومرت وما أولد من كرائم النّسل، وزرادشت وما جاء به من القول الفصل، والزّند وما تضمنه، والخطّ المستدير وما بيّن، وإلّا أنكرت أنّ زرادشت لم يأت بالدائرة الصحيحة بغير آلة، وأن مملكة إفريدون كانت ضلالة، وأكون قد شاركت بيوراسب فيما سفك طعما لحيّتيه، وقلت إن كابيان لم يسلّط عليه، وحرقت بيدي الدّرفس، وأنكرت ما عليه من الوضع الذي أشرقت عليه أجرام الكواكب، وتمازجت فيه القوى الأرضية بالقوى السّماوية، وكذّبت ماني وصدّقت مزدك، واستبحت فضول الفروج والأموال، وقلت بإنكار الترتيب في طبقات العالم، وأنه لا مرجع في الأبوّة إلّا إلى آدم، وفضّلت العرب على العجم، وجعلت الفرس كسائر الأمم، ومسحت بيدي خطوط الفهلويّة، وجحدت السّياسة السّاسانيّة، وكنت ممّن غزا الفرس مع الرّوم، وممن خطّأ سابور في خلع أكتاف العرب، وجلبت البلاء إلى بابل، ودنت بغير دين الأوائل، وإلّا أطفأت النار، وأنكرت فعل الفلك الدّوّار، ومالأت فاعل الليل على فاعل النّهار، وأبطلت حكم النّيروز والمهرجان، وأطفأت ليلة الصّدق مصابيح النّيران، وإلّا أكون ممّن حرّم فروج الأمهات، وقال بأنّه لا يجوز الجمع بين الأخوات، وأكون ممّن أنكر صواب فعل أردشير، وكنت لقومي بئس المولى وبئس العشير.
المهيع الثالث (في الأيمان التي يحلّف بها الحكماء)
وهم المعبّر عنهم بالفلاسفة، جمع فيلسوف: ومعناه باليونانيّة محبّ
الحكمة. وأصله «فيلاسوف» ففيلا معناه محبّ، وسوف معناه الحكمة وهم أصحاب الحكم الغريزيّة والأحكام السماوية، فمنهم من وقف عند هذا الحدّ، ومنهم من عرف الله تعالى وعبده بأدب النّفس.(13/299)
وهم المعبّر عنهم بالفلاسفة، جمع فيلسوف: ومعناه باليونانيّة محبّ
الحكمة. وأصله «فيلاسوف» ففيلا معناه محبّ، وسوف معناه الحكمة وهم أصحاب الحكم الغريزيّة والأحكام السماوية، فمنهم من وقف عند هذا الحدّ، ومنهم من عرف الله تعالى وعبده بأدب النّفس.
قال الشّهرستانيّ: وهم على ثلاثة أصناف:
الصنف الأوّل البراهمة
، وهم لا يقرّون بالنّبوّات أصلا، ولا يقولون بها.
الصّنف الثاني حكماء العرب
(1) وهم شرذمة قليلة، وأكثر حكمتهم فلتات الطّبع، وخطرات الفكر، وهؤلاء ربما قالوا بالنبوّات.
الصّنف الثالث حكماء الروم
(2) وهم على ضربين:
الضرب الأوّل (القدماء منهم الذين هم أساطين الحكمة)
وهم سبعة حكماء: ثاليس (3) الملطي، وانكساغورس، وانكسمانس، وانباديقلس (4)، وفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون، ومذاهبهم مختلفة، وبعضهم عاصر بعض الأنبياء عليهم السلام، وتلقّف منه، كانباديقلس: كان في زمن داود عليه السّلام، ومضى إليه وتلقّى عنه، واختلف إلى لقمان واقتبس منه الحكمة، وكذلك فيثاغورس: كان في زمن سليمان عليه السّلام، وأخذ الحكمة من معدن النبوّة.
الضرب الثاني (المتأخرون منهم وهم أصحاب أرسطاطاليس وهم ثلاث طوائف)
طائفة منهم تعرف بالمشّائين: وهم الذين كانوا يمشون في ركابه يقرأون
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن الشهرستاني بالمعنى.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن الشهرستاني بالمعنى.
(3) وهو طاليس الملطي، نسبة إلى ملطية: 546636ق. م.
(4) في الملل والنحل «أنبذقلس».(13/300)
عليه الحكمة في الطريق وهو راكب. وطائفة تعرف بالرّواقيين: وهم الذين كان يجلس لتعليمهم بالرّواق. والطائفة الثالثة فلاسفة الإسلام: وهم حكماء العجم (1) أما قبل الإسلام فإنه لم ينقل عن العجم مقالة في الفلسفة، بل حكمهم كلّها كانت مستفادة من النّبوّات: إما من الملّة القديمة، وإما من غيرها من الملل.
ومعتقدهم أن الله تعالى واجب الوجود لذاته، وأنه ليس بجوهر ولا عرض، وأن ما سواه صادر عنه على ترتيب، وأنه تعالى واحد فرد، ليس له شريك ولا نظير، باق أبديّ سرمديّ، وأنه الذي أوجد الأشياء وكوّنها، ويعبّرون عنه بعلّة العلل، وأنه قادر، يفعل إن شاء ولا يفعل إن لم يشأ، فاعل بالذات ليس له صفة زائدة على ذاته، مريد، له إرادة وعناية لا تزيد على ذاته، وأنه أوّل لا بداية له، آخر لا نهاية له، وأنه يستحيل أن يتغيّر، منزّه عن أن يكون حادثا أو عرضا للحوادث، حيّ متّصف بصفات البقاء السّر مديّة، وأنه حكيم بمعنى أنه جامع لكلّ كمال وجلال، وأنه خالق الأفلاك بقدرته، ومدبّرها بحكمته، ويقولون: إن الأرض ثابتة لا تتحرّك، والماء محيط بها من سائر جهاتها على ما اقتضته الحكمة الإلهية، وكشف بعض أعلاها لسكنى الخلق فيه، فهي كبطّيخة ملقاة في بركة ماء، ويحيط بالماء الهواء، ويحيط بالهواء النّار، ويحيط بالنار فلك القمر وهو الأوّل، ويحيط بفلك القمر فلك عطارد وهو الثاني، ويحيط بفلك عطارد فلك الزّهرة وهو الثالث، ويحيط بفلك الزّهرة فلك الشّمس وهو الرابع، ويحيط بفلك الشّمس فلك المرّيخ وهو الخامس، ويحيط بفلك المرّيخ فلك المشتري وهو السادس، ويحيط بفلك المشتري فلك زحل وهو السابع، ويحيط بفلك زحل فلك الكواكب وهو الثامن، وهو الذي فيه الكواكب الثابتة بأسرها، وهي ما عدا الكواكب السّبعة التي في الأفلاك السّبعة المقدّم ذكرها: من البروج الاثني عشر ومنازل القمر الثمانية والعشرين وغيرها. ويحيط بالكواكب الفلك الأطلس وهو الفلك التاسع والأفلاك التسعة دائرة بما فيها من المشرق إلى المغرب، بحيث تقطع في اليوم والليلة دورة
__________
(1) أطلق عليهم هذه التسمية لأن أكثرهم كان فارسيا، وإن لم يكونوا جميعا كذلك. فالكندي وابن طفيل وابن رشد وغيرهم كانوا عربا.(13/301)
كاملة، والكواكب السبعة التي في الأفلاك السبعة الأوّلة، وهي: زحل، والمشتري، والمرّيخ، والشّمس، والزّهرة، وعطارد، والقمر، متحركة بالسّير إلى جهات مخصوصة: الشّمس والقمر يسيران بين المشرق والمغرب وبقيّة الكواكب يختلف سيرها استقامة ورجوعا والكواكب التي في الفلك الثامن ثابتة لا تتحرّك والله تعالى هو الذي يسيّر هذه الأفلاك والكواكب ويفيض القوى عليها.
ويقولون: إن الشمس إذا سخّنت الأرض بواسطة الضّوء صعد من الرّطب منها بخار، ومن البارد اليابس دخان. ثم بعضه يخرج من مسامّ الأرض فيرتفع إلى الجوّ، وبعضه يحتبس في الأرض بوجود ما يمنعه من الخروج منها: من جبل ونحوه.
فأما ما يخرج من مسامّ الأرض، فإن كان من البخار، فما تصاعد منه في الهواء يكون منه المطر والثّلج والبرد وقوس قزح والهالة ثم ما ارتفع من الطبقة الحارّة من الهواء إلى الباردة تكاثف بالبرد وانعقد غيما، وإن كان ضعيفا أثّرت فيه حرارة الشمس فاستحال هواء، ومهما انتهى إلى الطّبقة الباردة تكاثف وعاد وتقاطر وهو المطر. فإن أدركها برد شديد قبل أن تجتمع، جمدت ونزلت كالقطن المندوف وهو الثّلج، وإن لم تدركها برودة حتى اجتمعت قطرات من الجوانب أذهبت برودتها، انعقدت بردا وإذا صار الهواء رطبا بالمطر مع أدنى صقالة، صار كالمرآة فيتولد من ضوء الشمس الواقع في قفاه قوس قزح، فإن كان قبل الزّوال رؤي في المغرب، وإن كان بعد الزوال رؤي في المشرق، وإن كانت الشمس في وسط السماء لم يمكن أن يرى إلا قوسا صغيرا إن اتّفق. وفي معنى ذلك الهالة المحيطة بالقمر إلا أنّ الهالة إنما تحصل من مجرّد برودة الهواء وإن لم يكن مطر.
وإن كان ما يخرج من مسامّ الأرض دخانا: فإن تصاعد وارتفع في وسط البخار وضربه الرّيح في ارتفاعه، ثقل وانتكس فحرّكه الهواء فحصل الرّيح. وإن لم يضربه الرّيح، تصاعد إلى عنصر النار واشتعلت النار فيه فصار منه نار تشاهد،
وربما استطال بحسب طول الدّخان فيسمّى كوكبا منقضّا. وإن كان الدّخان كثيفا واشتعل بالنار ولكنه لم يستحل على القرب، بل بقي زمانا، رؤي كأنّه كوكب ذو ذنب. وإن بقي شيء من الدخان في تضاعيف الغيم وبرد، صار ريحا في وسط الغيم فيتحرّك فيه بشدّة فيحصل منه صوت وهو الرّعد، فإن قويت حركته اشتعل من حرارة الحركة الهواء والدّخان فصار نارا مضيئة وهو البرق. وإن كان المشتعل كثيفا ثقيلا محرقا، اندفع بمصادفة الغيم إلى جهة الأرض وهي الصاعقة: {صُنْعَ اللََّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (1)
ويقرّون أن الله تعالى مكوّن الأكوان، ومنمّي المعادن والنّبات والحيوان.(13/302)
وإن كان ما يخرج من مسامّ الأرض دخانا: فإن تصاعد وارتفع في وسط البخار وضربه الرّيح في ارتفاعه، ثقل وانتكس فحرّكه الهواء فحصل الرّيح. وإن لم يضربه الرّيح، تصاعد إلى عنصر النار واشتعلت النار فيه فصار منه نار تشاهد،
وربما استطال بحسب طول الدّخان فيسمّى كوكبا منقضّا. وإن كان الدّخان كثيفا واشتعل بالنار ولكنه لم يستحل على القرب، بل بقي زمانا، رؤي كأنّه كوكب ذو ذنب. وإن بقي شيء من الدخان في تضاعيف الغيم وبرد، صار ريحا في وسط الغيم فيتحرّك فيه بشدّة فيحصل منه صوت وهو الرّعد، فإن قويت حركته اشتعل من حرارة الحركة الهواء والدّخان فصار نارا مضيئة وهو البرق. وإن كان المشتعل كثيفا ثقيلا محرقا، اندفع بمصادفة الغيم إلى جهة الأرض وهي الصاعقة: {صُنْعَ اللََّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (1)
ويقرّون أن الله تعالى مكوّن الأكوان، ومنمّي المعادن والنّبات والحيوان.
فأما المعادن فهي التي تتكوّن فيها جواهر الأرض: من الذّهب والفضّة وغيرهما. وذلك أن البخار والدّخان في الأرض فإنها [إن] (2) تجتمع وتمتزج، فإن غلب الدخان كان الحاصل منه مثل النّوشادر (3) والكبريت. وربّما تغلّب البخار في بعضه فيصير كالماء الصّافي المنعقد المتحجّر، فيكون منه الياقوت والبلّور ونحوه ممّا لا يتطرّق تحت المطارق. وإن استحكم امتزاج الدخان منه بالبخار وقلّت الحرارة المحققة في جواهرها، انعقد منه الذّهب والفضّة والنّحاس والرّصاص ونحوها مما يتطرّق بالمطرقة.
وأما النبات فإنهم يقولون: إن العناصر قد يقع بها امتزاج واختلاط أتمّ من امتزاج البخار والدّخان المقدّم ذكره، وأحسن وأقرب إلى الاعتدال، فيحصل من ذلك النّموّ الذي لا يكون في الجمادات.
وينشأ عن ذلك ثلاثة أمور:
أحدها التّغذية بقوّة مغذّية: وهي قوّة محيلة للغذاء تنخلع عنها صورتها
__________
(1) النمل / 88.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) أو النشادر وهو غاز مركب من الهيدر وجين والنيتروجين بنسبة 3إلى واحد. قيل إنه اكتشف قرب معبد الإله آمون بمصر ولذلك سمي «أمونيا» وهو غاز لا لون له. (الموسوعة العربية الميسرة:
1834).(13/303)
وتكسوها صورة المتغذّي، فتنتشر في أجزائه وتلتصق به وتسدّ مسدّ ما تحلّل من أجزائه.
وثانيها التّنمية بقوّة منمّية، بأن يزيد الجسم بالغذاء في أقطاره على التناسب اللائق بالنامي حتّى ينتهي إلى منتهى ذلك الشيء.
وثالثها التّوليد بقوّة مولّدة: وهي التي تفصل جسما من جسم شبيه به.
وأما الحيوان فإنهم يقولون إن تكوّنه من مزاج أقرب إلى الاعتدال وأحسن من الذي قبله، من حيث إن فيه قوّة النباتية وزيادة قوّتين، وهما المدركة والمتحرّكة ومهما حصل من الإدراك انبعثت الشّهوة والنّزوع، وهو إما لطلب ما يحتاج إليه في طلب الملائم الذي به بقاء الشّخص (1): كالغذاء، أو بقاء النّوع:
كالجماع، ويسمّى قوّة شهوانية، وإما للهرب ودفع المنافي، وهي قوّة غضبيّة فإن ضعفت القوّة الشّهوانية فهو الكراهة، وإن ضعفت القوّة الغضبيّة فهو الخوف.
والقوّة المدركة تنقسم إلى باطنة: كالخيالية والمتوهّمة والذّاكرة والمفكّرة، وإلى ظاهرة: كالسّمع والبصر والذّوق والشّمّ واللّمس، فاللّمس قوّة منبثّة في جميع البشرة، تدرك الحرارة والبرودة والرّطوبة واليبوسة والصّلابة واللّين والخشونة والملاسة والخفّة والثّقل. والشّمّ في زائدتي الدّماغ الشبيهتين بحلمتي الثّدي.
والسّمع في عصبة في أقصى الصّماخ، والذّوق في عصبة مفروشة على ظاهر اللّسان بواسطة الرّطوبة العذبة التي لا طعم لها، المنبسطة على ظاهر اللّسان.
والابصار يحصل عن انطباع مثل صورة المدرك في الرّطوبة الجليديّة التي تشبه البرد والجمد فإنّها كالمرآة، فإذا قابلها يكون انطبع فيها مثل صورته فتحصل الرّؤية.
ويرون أنّ النّفس محلّها العلو. ويقولون: إن النفس في أوّل الصبا تكون
__________
(1) المراد بالشخص هنا ليس الفرد الإنساني فقط وإنما الفرد من الإنسان والحيوان والنبات، أي الفرد من جنس الكائنات الحيّة. (انظر مهدي فضل الله: مدخل إلى علم المنطق التقليدي:
ص 70) ولعل الأوضح أن يقول: «بقاء الجنس».(13/304)
عالمة بالمعقولات المجرّدة والمعاني الكلّية بالقوّة، ثم تصير بعد ذلك عالمة بالفعل.
ثم إن سعدت بالاستعداد للقبول، انقطعت حاجتها عن النّظر إلى البدن ومقتضى الحواسّ إلا أن البدن لا يزال يجاذبها ويشغلها ويمنعها من تمام الاتصال بالعلويّات فإذا انحطّ عنها شغل البدن بالموت ارتفع عنها الحجاب، وزال المانع، ودام الاتصال، وكمل حالها بعد فراق البدن، والتذّت به لذّة لا يدرك الوصف كنهها. وإن كانت النفس محجوبة عن هذه السعادة فقد شقيت.
وعندهم أنه إنّما تحجب باتّباع الشهوات، وقصر الهمة على مقتضى الطّبع، وبإقامته في هذا العالم الخسيس الفاني، فترسخ في نفسه تلك العادة ويتأكّد شوقه إليها، فتفوت بالموت آلة درك ذلك الشّوق ويبقى التشوّق وهو الألم العظيم الذي لا حدّ له، وذلك مانع من الوصال والاتصال. وهذه النفس ناقصة بفقد العلم، ملطّخة باتباع الشّهوات، بخلاف النّفس السابقة.
ويقولون: إن الهيولى قابلة لتركيب الأجسام، ويخالفون أهل الطبيعة في قولهم: بإنكار المعاد وفناء الأرواح، فيذهبون إلى أنّ الأرواح باقية وأن المعاد حقّ.
ويرون أن التّحسين والتقبيح راجعان إلى العقل دون الشّرع، كما هو مذهب المعتزلة وغيرهم.
ويقولون: إن الإله تعالى فاعل بالذات ليس له صفة زائدة على ذاته، عالم بذاته وبسائر أنواع الموجودات وأجناسها، لا يعزب عن علمه شيء، وإنه يعلم الممكنات الحادثة.
ويقولون بإثبات النبوّات لأن العالم لا ينتظم إلا بقانون متبوع بين كافّة [الناس] (1) يحكمون به بالعدل، وإلّا تقاتلوا وهلك العالم، إذ النبيّ هو خليفة الله في أرضه، بواسطته تنتهي إلى الخلق الهداية إلى مصالح الدّنيا والآخرة، من
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.(13/305)
حيث إنه يتلقّى عن الملك والملك يتلقّى عن الله تعالى إلا أنهم يقولون: إن النبوّات غير متناهية وإنها مكتسبة ينالها العبد بالرياضات. وهاتان المقالتان من جملة ما كفروا به: بتجويز النّبوّة بعد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الذي أخبر تعالى أنه خاتم النبيين، وقولهم إنها تنال بالكسب.
وقد حكى الصّلاح الصّفديّ في «شرح لامية العجم» أن السلطان صلاح الدّين يوسف بن أيّوب إنما قتل عمارة اليمنيّ الشاعر، حين قام فيمن قام بإحياء الدولة الفاطميّة بعد انقراضها، على ما تقدّم ذكره في الكلام على ترتيب مملكة الديار المصرية في المقالة الثانية، مستندا في ذلك إلى بيت نسب إليه من قصيدة، وهو قوله:
وكان مبدأ هذا الدّين من رجل ... سعى فأصبح يدعى سيّد الأمم (1)
فجعل النبوّة مكتسبة، [وهم مجمعون] (2) على أن الله تعالى ليس بجسم ولا جسمانيّ، وأنه ليس في جهة ولا يدخل تحت الحدّ والماهيّة.
وهذه نسخة يمين رتبها لهم في «التعريف» وهي:
إنني والله والله والله [العظيم] (3)، الذي لا إله إلا هو، الواحد الأحد، الفرد الصّمد، الأبديّ، السّرمديّ، الأزليّ، الذي لم يزل علّة العلل، ربّ الأرباب، ومدبّر الكلّ [القدير] (4) القديم الأوّل بلا بداية، والآخر بلا نهاية، المنزّه عن أن يكون حادثا أو عرضا للحوادث، الحيّ الذي اتّصف بصفات البقاء والسرمدية والكمال، والمتردّي برداء الكبرياء، والجلال، مدبّر الأفلاك ومسيّر
__________
(1) قال ابن خلكان «ويجوز أن يكون هذا البيت معمولا عليه» وإذا صح افتراض ابن خلكان فيكون هذا البيت مزادا على قصيدته التي مطلعها.
الحمد للعيس بعد العزم والهمم ... حمدا يقوم بما أولت من النّعم.
(انظر وفيات الأعيان: 3/ 433432).
(2) بياض في الأصل. والزيادة من حاشية الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 162.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 162.(13/306)
الشّهب، مفيض القوى على الكواكب، وباثّ الأرواح في الصّور، مكوّن الكائنات، ومنمّي الحيوان والمعدن والنبات، وإلّا فلا رقيت روحي إلى مكانها، ولا اتّصلت نفسي بعالمها، وبقيت في ظلم الجهالة وحجب الضّلالة وفارقت نفسي غير مرتسمة بالمعارف ولا مكمّلة بالعلم، وبقيت في عوز النّقص وتحت إمرة الغيّ، وأخذت بنصيب من الشّرك، وأنكرت المعاد، وقلت بفناء الأرواح، ورضيت في هذا بمقالة أهل الطبيعة، ودمت في قيد المركّبات وشواغل الحس، ولم أدرك الحقائق على ما هي عليه، وإلا فقلت: إن الهيولى غير قابلة لتركيب الأجسام، وأنكرت المادّة والصّورة، وخرقت النواميس، وقلت: إن التّحسين والتّقبيح إلى غير العقل، وخلّدت مع النفوس الشّرّيرة، ولم أجد سبيلا إلى النّجاة، وقلت: إن الإله ليس فاعلا بالذات، ولا عالما بالكلّيات، ودنت بأن النبوّات متناهية وأنها غير كسبيّة، وحدت عن طرائق الحكماء، ونقضت تقرير القدماء، وخالفت الفلاسفة، ووافقت على إفساد الصّور للعبث، وحيّزت الرّبّ في جهة، وأثبتّ أنه جسم، وجعلته فيما يدخل تحت الحدّ والماهية [ورضيت بالتّقليد في الألوهية] (1)
المهيع الرابع (في بيان المحلوف عليه، وما يقع على العموم، وما يختصّ به كلّ واحد من أرباب الوظائف مما يناسب وظيفته)
اعلم أن المحلوف عليه في الأيمان الملوكيّة تارة يشترك فيه جميع من يحلّف من أهل الدولة، وتارة يختلف باختلاف ما يمتاز به بعضهم عن بعض مما لا تقع الشّركة بينهم فيه.
فأما ما يقع فيه الاشتراك، كطاعة السلطان وما في معناها: من إخلاص النّيّة وإصفاء الطّويّة، وما يجري مجرى ذلك، فذلك مما يشترك فيه كلّ حالف يحلف
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 163.(13/307)
للسلطان على اختلاف عقائدهم: من مسلم: سنّيّ أو بدعيّ، وكافر: يهوديّ أو نصرانيّ، أو غيرهما. فكلّ أحد يحلّف بما تقتضيه عقيدته في التعظيم، على ما تقدّم بيانه في أيمان الطوائف كلّها.
فإذا انتهى إلى المحلوف عليه، قال: إنّني من وقتي هذا ومن ساعتي هذه وما مدّ الله في عمري قد أخلصت نيّتي ولا أزال مجتهدا في إخلاصها، وأصفيت طويّتي ولا أزال مجتهدا في إصفائها، في طاعة مولانا السلطان المالك الملك الفلانيّ فلان الدنيا والدّين فلان، ابن السلطان السّعيد الشّهيد الملك فلان الدّنيا والذّين فلان خلد الله تعالى ملكه، وفي خدمته ومحبّته ونصحه، وأكون وليّا لمن والاه، عدوّا لمن عاداه، سلما لمن سالمه، حربا لمن حاربه من سائر الناس أجمعين، لا أضمر له سوءا ولا مكروها ولا خديعة ولا خيانة، في نفس ولا مال ولا ملك ولا سلطنة ولا عساكر ولا جند ولا عربان ولا تركمان ولا أكراد ولا غير ذلك، ولا أسعى في تفريق كلمة أحد منهم عن طاعته الشريفة. وإنّني والله العظيم أبذل جهدي وطاقتي في طاعة مولانا السلطان الملك فلان الدّنيا والدّين المشار إليه، وإن كاتبني أحد من سائر الناس أجمعين بما فيه مضرّة على ملكه لا أوافق على ذلك بقول ولا فعل ولا عمل ولا نيّة، وإن قدرت على إمساك الذي جاءني بالكتاب أمسكته وأحضرته لمولانا السلطان الملك فلان المشار إليه أو النائبه القريب منّي.
وأما ما يقع فيه الاختلاف، فما يتباين الحال فيه باختصاص ربّ كلّ وظيفة بما لا يشاركه فيه الآخر. وقد أشار في «التّعريف» إلى نبذة من ذلك فقال: وقد يزاد نوّاب القلاع ونقباؤها والوزراء وأرباب التّصرّف في الأموال والدوادارية وكتّاب السّرّ زيادات، يعني على ما تقدّم.
فأما نوّاب القلاع ونقباؤها فيزاد في تحليفهم: وإنّني أجمع رجال هذه القلعة على طاعة مولانا السلطان فلان وخدمته في حفظ هذه القلعة وحمايتها وتحصينها، والذّبّ عنها، والجهاد دونها، والمدافعة عنها بكلّ طريق، وإنّني أحفظ حواصلها
وذخائرها وسلاح خاناتها على اختلاف ما فيها من الأقوات والأسلحة، وإنّني لا أخرج شيئا منها إلا في أوقات الحاجة والضّرورة الدّاعية المتعيّن فيها تفريق الأقوات والسلاح، على قدر ما تدعو الحاجة إليه، وإنّني أكون في ذلك كواحد من رجال هذه القلعة، وكلّ واحد ممن يتبعني كواحد ممن يتبع أتباع رجال هذه القلعة، لا أتخصّص ولا أمكّن من التخصيص، وإنّني والله والله والله لا أفتح أبواب هذه القلعة إلا في الأوقات الجاري بها عادة فتح أبواب الحصون، وأغلقها في الوقت الجاري به العادة، ولا أفتحها إلا بشمس، ولا أغلقها إلا بشمس، وإنّني أطالب الحرّاس والدرّاجة وأرباب النّوب في هذه القلعة بما جرت به العوائد اللازمة لكلّ منهم مما في ذلك جميعه مصلحة مولانا السلطان فلان، وإنّني لا أسلّم هذه القلعة إلا لمولانا السلطان فلان، أو بمرسومه الشّريف وأمارته الصحيحة وأوامره الصريحة، وإنّني لا أستخدم في هذه القلعة إلا من فيه نفعها وأهليّة الخدمة، لا أعمل في ذلك بغرض نفسي، [ولا أرخّص فيه لمن يعمل بغرض نفس له] (1)، وإنّني أبذل في ذلك كلّه الجهد، وأشمّر عن ساعد الجدّ، قال: ويسمّي القلعة التي هو فيها.(13/308)
فأما نوّاب القلاع ونقباؤها فيزاد في تحليفهم: وإنّني أجمع رجال هذه القلعة على طاعة مولانا السلطان فلان وخدمته في حفظ هذه القلعة وحمايتها وتحصينها، والذّبّ عنها، والجهاد دونها، والمدافعة عنها بكلّ طريق، وإنّني أحفظ حواصلها
وذخائرها وسلاح خاناتها على اختلاف ما فيها من الأقوات والأسلحة، وإنّني لا أخرج شيئا منها إلا في أوقات الحاجة والضّرورة الدّاعية المتعيّن فيها تفريق الأقوات والسلاح، على قدر ما تدعو الحاجة إليه، وإنّني أكون في ذلك كواحد من رجال هذه القلعة، وكلّ واحد ممن يتبعني كواحد ممن يتبع أتباع رجال هذه القلعة، لا أتخصّص ولا أمكّن من التخصيص، وإنّني والله والله والله لا أفتح أبواب هذه القلعة إلا في الأوقات الجاري بها عادة فتح أبواب الحصون، وأغلقها في الوقت الجاري به العادة، ولا أفتحها إلا بشمس، ولا أغلقها إلا بشمس، وإنّني أطالب الحرّاس والدرّاجة وأرباب النّوب في هذه القلعة بما جرت به العوائد اللازمة لكلّ منهم مما في ذلك جميعه مصلحة مولانا السلطان فلان، وإنّني لا أسلّم هذه القلعة إلا لمولانا السلطان فلان، أو بمرسومه الشّريف وأمارته الصحيحة وأوامره الصريحة، وإنّني لا أستخدم في هذه القلعة إلا من فيه نفعها وأهليّة الخدمة، لا أعمل في ذلك بغرض نفسي، [ولا أرخّص فيه لمن يعمل بغرض نفس له] (1)، وإنّني أبذل في ذلك كلّه الجهد، وأشمّر عن ساعد الجدّ، قال: ويسمّي القلعة التي هو فيها.
وأما الوزراء وأرباب التّصرّف [في الأموال] (2) فمما يزاد في تحليفهم:
وإنّني أحفظ أموال مولانا السلطان فلان خلّد الله ملكه من التّبذير والضّياع، والخونة وتفريط أهل العجز، ولا أستخدم في ذلك ولا في شيء منه إلا أهل الكفاية والأمانة، ولا أضمّن جهة من الجهات الديوانية إلا من الأمناء الأتقياء القادرين، أو ممن زاد زيادة ظاهرة وأقام عليه الضّمّان الثّقات، ولا أوخّر مطالبة أحد بما يتعين عليه بوجه حقّ من حقوق الديوان المعمور والموجبات السلطانية على اختلافها. وإنّني والله العظيم لا أرخّص في تسجيل ولا قياس، ولا أسامح أحدا بموجب يجب عليه، ولا أخرج عن كلّ مصلحة تتعيّن لمولانا السلطان فلان ولدولته، ولا أخلي كلّ ديوان يرجع إليّ أمره، ويعدق بي أمر مباشرته من تصفّح
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن التعريف ص 149.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن التعريف ص 149.(13/309)
لأحواله، واجتهاد في تثمير أمواله، وكفّ أيدي الخونة عنه، وغلّ أيديهم أن تصل إلى شيء منه، ولا أدع حاضرا ولا غائبا من أمور هذه المباشرة حتّى أجدّ فيه، وأبذل الجهد الكلّيّ في إجراء أموره على السّداد وحسن الاعتماد، وإنّني لا أستجدّ على المستقرّ إطلاقه ما لم يرسم لي به إلا ما كان فيه مصلحة ظاهرة لهذه الدّولة القاهرة، ونفع بيّن لهذه الأيام الشريفة، وإنّني والله أؤدّي الأمانة في كلّ ما عدق بي وولّيت: من القبض والصّرف، والولاية والعزل، والتأخير والتقديم، والتقليل والتكثير، وفي كلّ جليل وحقير، وقليل وكثير.
وأما الدّواداريّة وكتّاب السّرّ فيزاد فيهما: وإنّني مهما اطلعت عليه من مصالح مولانا السلطان فلان خلّد الله ملكه ونصائحه، وأمر داني ملكه ونازحه، أوصّله إليه، وأعرضه عليه، ولا أخفيه شيئا منه ولو كان عليّ، ولا أكتمه ولو خفت وصول ضرره إليّ.
ويفرد الدّوادار: بأنّي لا أؤدّي عن مولانا السلطان رسالة في إطلاق مال، ولا استخدام مستخدم، ولا إقطاع إقطاع، ولا ترتيب مرتّب، ولا تجديد مستجدّ، ولا شادّ شاغر (1)، ولا فصل منازعة، ولا كتابة توقيع ولا مرسوم، ولا كتاب، صغيرا كان أو كبيرا، إلّا بعد عرضه على مولانا السلطان فلان ومشاورته، ومعاودة أمره الشريف ومراجعته.
ويفرد كاتب السر: بأنّه مهما تأخرت قراءته من الكتب الواردة على مولانا السلطان فلان من البعيد والقريب، يعاوده فيه في وقت آخر، فإن لم يعاوده فيه بمجموع لفظه، لطوله الطّول المملّ، عاوده فيه بمعناه في الملخّصات، وأنه لا يجاوبه بشيء لم ينصّ المرسوم الشريف فيه بنصّ خاصّ، وما لم تجر العادة بالنصّ فيه لا يجاوب فيه إلا بأكمل ما يرى أن فيه مصلحة مولانا السلطان فلان ومصلحة دولته بأسدّ جواب يقدر عليه، ويصل اجتهاده إليه، وأنه مهما أمكنه
__________
(1) كذا في الأصل. وفي حاشية الطبعة الأميرية عن «التعريف»: «ولا سداد ثاغر». ولعل الصواب «ولا سداد شاغر».(13/310)
المراجعة فيه لمولانا السلطان فلان راجعه فيه وعمل بنص ما يرسم له به فيه. (هذا ما انتهى إليه كلامه) (1)
قال في «التثقيف» (2): ويزاد النّوّاب مثل قوله: ولا أسعى في تفريق كلمة أحد منهم عن طاعته الشريفة، وعليّ أن أبذل جهدي وطاقتي في ذلك كلّه وفي حفظ المملكة التي استنابني فيها، وصيانتها وحمايتها، وما بها من القلاع والثّغور والسواحل. ثم يأتي بعده: وإن كاتبني أحد الخ.
قلت: والمراد أنه يؤتى باليمين العامة التي يحلف عليها كلّ أحد، ثم يزاد لكلّ واحد من أرباب الوظائف ما يناسبه مما تقدّم، ثم يؤتى على بقيّة اليمين من عند قوله: وإنّني أفي لمولانا السلطان بهذه اليمين، إلى آخرها أو ما في معنى ذلك من أيمان أهل البدع وأصحاب الملل على ما تقدّم ذكره.
ثم قال في «التثقيف»: وقد تتجدّد وقائع وأمور تحتاج إلى التّحليف، بسببها تتغيّر صيغة المحلوف عليه بالنسبة إلى ما رسم به فيها. ثم أشار إلى أنه لم ير مدّة مباشرته بديوان الإنشاء أحدا ممن ذكره في «التعريف» من أرباب الوظائف حلّف، وإنما ذكرها لاحتمال أن تدعو الحاجة إليها في وقت من الأوقات، أو أنها كانت مستعملة في المتقدّم، فيكون في تركها إهمال لبعض المصطلح.
قلت: وقد أهملا في «التعريف» و «التثقيف»: ذكر يمينين مما رتبه الكتّاب وحلّفوا به في الزمن المتقدّم مما لا غنى بالكاتب عنه.
الأولى اليمين على الهدنة التي تنعقد بين ملكين أو نائبهما، أو ملك ونائب ملك آخر، على ما سيأتي ذكره في المقالة التاسعة، إن شاء الله تعالى.
وتقع اليمين فيها على ما فيه تأكيد عقد الهدنة والتزام شروطها والبقاء عليها
__________
(1) يعني العمري في «التعريف بالمصطلح الشريف».
(2) «تثقيف التعريف» لابن ناظر الجيش.(13/311)
وعدم الخروج عنها أو عن شيء من ملتزماتها، وغير ذلك مما يدخل به التّطرق إلى النّقض والتّوصّل إلى الفسخ.
وهذه نسخة يمين حلّف عليها السلطان الملك المنصور «قلاوون» على الهدنة الواقعة بينه وبين الحكّام بمملكة عكّا وصيدا وعثليث وبلادها، من الفرنج الاستبارية (1)، في شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانين وستمائة، في مباشرة القاضي فتح الدّين بن عبد الظاهر كتابة السّر، على ما أورده ابن مكرّم في تذكرته وهي (2):
أقول وأنا فلان: والله والله والله، وبالله وبالله وبالله، وتالله وتالله وتالله، والله العظيم، الطّالب، الغالب، الضّارّ، النافع، المدرك المهلك عالم ما بدا وما خفي، عالم السّر والعلانية، الرّحمن الرحيم، وحقّ القرآن ومن أنزله ومن أنزل عليه، وهو محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلم وما يقال فيه من سورة سورة، وآية آية، وحقّ شهر رمضان، إنّني أفي بحفظ هذه الهدنة المباركة التي استقرّت بيني وبين مملكة عكّا والمقدّمين بها على عكّا وعثليث وصيدا وبلادها، التي تضمّنتها هذه الهدنة، التي مدّتها عشر سنين كوامل، وعشرة أشهر، وعشرة أيام، وعشر ساعات، أوّلها يوم الخميس خامس ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانين وستمائة (3) للهجرة من أوّلها إلى آخرها، وأحفظها وألتزم بجميع شروطها المشروحة فيها، وأجري الأمور على أحكامها إلى انقضاء مدّتها، ولا أتأوّل فيها ولا في شيء منها، ولا استفتي فيها طلبا لنقضها ما دام الحاكمون بمدينة عكّا وصيدا وعثليث وهم كافل المملكة بعكّا،
__________
(1) الصواب «الاسبتارية» بتقديم الباء الموحدة على التاء المثناة، وهم بالأجنبية::
فرق عسكرية مسيحية جاءت مع الحملات الصليبية بدافع الشحن العقائدي الديني، وهم بذلك مثل «فرسان المعبد» أو «الداوّية».
(2) سيأتي نص الهدنة في الجزء الرابع عشر من الصبح ص 51وما بعدها. وقد أورد القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر نصها في «تشريف الأيام والعصور» ص 34وما بعدها.
(3) وهو الموافق 3يونيو 1283م. (تشريف الأيام والعصور: ص 213).(13/312)
ومقدّم بيت الرّوم (1)، ومقدّم بيت الاستبار (2)، ونائب مقدّم بيت الاستبار إلى الآن (3)، ومن تولى (4) بعدهم في كفالة مملكة، أو مقدّم بيت بهذه المملكة المذكورة وافين باليمين التي يحلّفون عليها (في (5) ولدي الملك الصالح، ولأولاده، على استقرار هذه الهدنة المحرّرة الآن) عاملين بها وبشروطها المشروحة فيها إلى انقضاء مدّتها، ملتزمين أحكامها، وإن نكثت في هذه اليمين فيلزمني الحجّ إلى بيت الله الحرام بمكّة حافيا حاسرا ثلاثين حجّة، ويلزمني صوم الدّهر كلّه إلا الأيام المنهيّ عنها.
ويذكر بقية [شروط] (6) اليمين إلى آخرها، ثم يقول: والله على ما نقول وكيل.
وهذه نسخة يمين حلّف عليها الفرنج المعاقدون على هذه الهدنة أيضا، في التاريخ المقدّم ذكره على ما أورده ابن مكرّم أيضا وهي:
والله والله والله، وبالله وبالله وبالله، وتالله وتالله وتالله، وحقّ المسيح وحقّ المسيح، وحقّ الصّليب وحقّ الصّليب، وحقّ الأقانيم الثلاثة من جوهر واحد المكنّى بها عن الأب والابن وروح القدس إله واحد، وحقّ الصليب (7) المكرّم الحالّ في النّاسوت، وحقّ الإنجيل المطهّر وما فيه، وحقّ الأناجيل الأربعة التي نقلها متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وحقّ صلواتهم وتقديساتهم، وحقّ التلامذة الاثني
__________
(1) في «تشريف الأيام والعصور»: «ومقدم بيت الديويّة».
(2) في المرجع السابق «الاسبتار».
(3) في المرجع السابق: «ونايب مقدم بيت اسبتار الأمن الآن».
(4) في المرجع السابق «يتولى».
(5) في تشريف الأيام والعصور: «ولولدي الملك الصالح، ولأولادي».
(6) الزيادة من تشريف الأيام والعصور.
(7) كذا في الطبعة الأميرية. وفي تشريف الأيام والعصور: «وحق اللاهوت المكرّم» وهو الصواب.(13/313)
عشر، والاثنين وسبعين، والثلاثمائة وثمانية عشر المجتمعين للبيعة (1)، وحقّ الصّوت الذي نزل من السماء على نهر الأردنّ فزجره، وحقّ الله منزل الإنجيل على عيسى بن مريم روح الله وكلمته، وحقّ السيدة مارية أمّ النّور (ومارية مريم) (2) ويوحنّا المعمودي ومرتمان ومرتماني، وحقّ الصّوم الكبير، وحقّ ديني ومعبودي وما أعتقده من النّصرانية، وما تلقّيته عن الآباء والأقسّاء المعمودية إنّني من وقتي هذا وساعتي هذه، قد أخلصت نيّتي، وأصفيت طويّتي في الوفاء للسلطان الملك المنصور ولولده الملك الصالح ولأولادهما، بجميع ما تضمّنته هذه الهدنة المباركة التي انعقد الصّلح عليها، على مملكة عكّا وصيدا وعثليث وبلادها الداخلة في هذه الهدنة، المسماة فيها، التي مدّتها عشر سنين كوامل، وعشرة أشهر، وعشرة أيّام، وعشر ساعات، أولها يوم الخميس ثالث حزيران سنة ألف وخمسمائة وأربع وتسعين للإسكندر بن فيلبس اليوناني، وأعمل بجميع شروطها شرطا شرطا، وألتزم الوفاء بكلّ فصل في هذه الهدنة المذكورة إلى انقضاء مدّتها. وإنّني والله والله وحقّ المسيح، وحقّ الصّليب، وحقّ ديني لا أتعرّض إلى بلاد السّلطان وولده، ولا إلى من حوته وتحويه من سائر الناس أجمعين، ولا إلى من يتردّد منهم إلى البلاد الداخلة في هذه الهدنة بأذيّة ولا ضرر في نفس ولا في مال. وإنّني والله وحقّ ديني ومعبودي أسلك في المعاهدة والمهادنة والمصافاة والمصادقة وحفظ الرّعية الإسلامية، المترددين في البلاد السلطانية، والصادرين منها وإليها طريق المعاهدين المتصادقين الملتزمين كفّ الأذيّة والعدوان عن النّفوس والأموال، وألزم الوفاء بجميع شروط هذه الهدنة إلى انقضائها، ما دام الملك المنصور وافيا باليمين التي حلف بها على الهدنة، ولا أنقض هذه اليمين ولا شيئا منها، ولا أستثني فيها ولا في شيء منها طلبا لنقضها، ومتى خالفتها ونقضتها فأكون بريئا من ديني واعتقادي ومعبودي، وأكون مخالفا للكنيسة، ويكون عليّ الحجّ إلى القدس الشريف ثلاثين حجّة حافيا حاسرا،
__________
(1) في «تشريف»: بالبيعة.
(2) في «تشريف»: وحق السّت مارية أم النور مارت مريم.(13/314)
ويكون عليّ فكّ ألف أسير مسلم من أسر الفرنج وإطلاقهم، وأكون بريئا من اللاهوت الحالّ في النّاسوت، واليمين يميني وأنا فلان، والنية فيها بأسرها نيّة الملك المنصور، ونية ولده الملك الصالح، ونية مستحلفيّ لهما بها على الإنجيل الكريم، لا نيّة لي غيرها، والله والمسيح على ما نقول وكيل.
وكذلك كتبت اليمينان، من جهة السلطان الملك الظاهر بيبرس، ويمين صاحب بيروت وحصن الأكراد والمرقب من الفرنج الاسبتارية في شهر رمضان سنة خمس وستين وستمائة.
قلت: ومقتضى ما ذكره ابن المكرّم في إيراد هذه الأيمان أن نسخة اليمين تكون منفصلة عن نسخة الهدنة كما في غيرها من الأيمان التي يستحلف عليها، إلا أنّ مقتضى كلام «موادّ البيان»: أن اليمين تكون متّصلة بالهدنة. والذي يتّجه أنه إن تيسّر الحلف عقب الهدنة لوجود المتحالفين كتب في نفس الهدنة متّصلا بها، وإلّا أفرد كلّ واحد من الجانبين بنسخة يمين، كما في غيرها من الأيمان. وربّما جرّدت الهدنة عن الأيمان، كما وقع في الهدنة الجارية بين الظاهر بيبرس وبين دون حاكم الريد أرغون (1)، صاحب برشلونة من بلاد الأندلس، في شهر رمضان سنة سبع وستين وستمائة على مقتضى ما أورده ابن المكرّم في تذكرته.
واعلم أنه قد يكتفى باليمين عن الهدنة [باليمين] (2) في عقد الصّلح.
وقد ذكر القاضي تقيّ الدّين ابن ناظر الجيش في «التثقيف»: أنه رتّب يمينا حلّف عليها الفرنج بالأبواب السلطانية بالديار المصرية عند عقد الصّلح معهم، في سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، فيها زيادات على ما ذكره المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في «التعريف» وهي:
__________
(1) المقصود ملك أرغون. وهو تعريب ل:، وكانت قاعدة مملكته برشلونة. وذكره ابن عبد الظاهر باسم: «الريدراكون البرشنوني». ومملكة برشلونة مملكة واسعة كانت تشتمل على برشلونة وأرغون وشاطبة وسرقسطة وبلنسية وجزيرة دانية وميورقة. (انظر تشريف الأيام والعصور:
156 - وصفة جزيرة الأندلس: 12).
(2) الزيادة يقتضيها السياق.(13/315)
والله والله والله العظيم، إله إبراهيم، مالك الكلّ، خالق ما يرى وما لا يرى، صانع كلّ شيء ومتقنه، الربّ الذي لا يعبد سواه، وحقّ المسيح، وحقّ المسيح، وحقّ المسيح، وأمّه السيدة مريم، وحقّ الصليب، وحقّ الصليب، وحقّ الصليب، وحقّ الإنجيل، وحقّ الإنجيل، وحقّ الإنجيل، وحقّ الأب والابن وروح القدس إله واحد من جوهر واحد، وحقّ اللاهوت المكرّم، الحالّ في النّاسوت المعظّم، وحقّ الأناجيل الأربعة التي نقلها متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وحقّ اللاهوت والنّاسوت وصليب الصّلبوت، وحقّ التلاميذ الاثني عشر، والاثنين وسبعين، والثلاثمائة وثمانية عشر المجتمعين على البيعة، وحقّ الصّوت الذي نزل على نهر الأردنّ فزجره، وحقّ السيدة مارية أمّ النّور، وحقّ بيعة وقديس وثالوث، وما يقوله في صلاته كلّ معمدانيّ، وحقّ ما أعتقده من دين النصرانية، والملّة المسيحية إنّني أفعل كذا وكذا، ومتى خالفت هذه اليمين التي في عنقي، أو نقضتها أو نكثتها، أو سعيت في إبطالها بوجه من الوجوه، أو طريق من الطّرق برئت من المعمودية، وقلت: إن ماءها نجس، وإن القرابين رجس، وبرئت من مريحنّا المعمدان، والأناجيل الأربعة، وقلت: إنّ متّى كذوب، وإن مريم المجدلانية باطلة الدّعوى في إخبارها عن السّيد اليسوع المسيح، وقلت في السيدة مريم قول اليهود، ودنت بدينهم في الجحود، وبرئت من الثالوث، وجحدت الأب، وكذبت الابن، وكفرت بروح القدس، وخلعت دين النصرانية، ولزمت دين الحنيفيّة، ولطخت الهيكل بحيضة يهوديّة، ورفضت مريم، وقلت:
إنها قرنت مع الأسخر يوطي في جهنّم، وأنكرت اتحاد اللاهوت والنّاسوت، وكذّبت القسوس، وشاركت في ذبح الشّمامس، وهدمت الديارات والكنائس، وكنت ممن مال على قسطنطين بن هيلاني، وتعمدت أمّه بالعظائم، وخالفت المجامع التي اجتمعت عليها الأساقف برومية والقسطنطينيّة، وجحدت مذهب الملكانيّة، وسفّهت رأي الرّهبان، وأنكرت وقوع الصّلب على السّيد اليسوع، وكنت مع اليهود حين صلبوه، وحدت عن الحواريّين، واستبحت دماء الدّيرانيّين، وجذبت رداء الكبرياء عن البطريرك، وخرجت عن طاعة الباب، وصمت يوم
الفصح الأكبر، وقعدت عن أهل الشّعانين، وأبيت عيد الصليب والغطاس، ولم أحفل بعيد السّيّدة، وأكلت لحم الجمل، ودنت بدين اليهود، وأبحت حرمة الطّلاق، وهدمت بيدي كنيسة قمامة، وخنت المسيح في وديعته، وتزوّجت في قرن بامرأتين، وقلت: إن المسيح كآدم خلقه الله من تراب، وكفرت بإحياء العيازرة، ومجيء الفارقليط الآخر، وبرئت من التلامذة الاثني عشر، وحرّم عليّ الثلاثمائة وثمانية عشر، وكسرت الصّلبان، ودست برجلي القربان، وبصقت في وجوه الرّهبان عند قولهم: كير اليصون (1)، واعتقدت أن (بعسه كفر الجون) (2)، وأنّ يوسف النّجّار زنى بأم اليسوع وعهر، وعطّلت النّاقوس، وملت إلى ملّة المجوس، وكسرت صليب الصّلبوت، وطبخت به لحم الجمل، وأكلته في أوّل يوم من الصّوم الكبير، تحت الهيكل بحضرة الآباء، وقلت في البنوّة مقال نسطورس، ووجّهت إلى الصّخرة وجهي، وصدّيت عن الشّرق المنير حيث كان المظهر الكريم، وإلّا برئت من النّورانيين والشّعشانيين، وأنكرت أنّ السّيد اليسوع أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، وقلت: إنّه مربوب، وإنه ما رؤي وهو مصلوب، وأنكرت أن القربان المقدّس على المذبح ما صار لحم المسيح ودمه حقيقة، وخرجت في النّصرانية عن لا حب الطريقة، وإلّا قلت بدين التوحيد، وتعبّدت غير الأرباب، وقصدت بالمظانيات غير طريق الإخلاص، وقلت: إن المعاد غير روحانيّ (3)، وإن بني المعمودية لا تسيح في فسيح السماء، وأثبتّ وجود الحور العين في المعاد، وأنّ في الدار الآخرة التلذذات الجسمانية، وخرجت خروج الشّعرة من العجين من دين النصرانية، وأكون من ديني محروما، وأقول: إن جرجيس لم يقتل مظلوما، وخرقت غفارة الرّب، وشاركت الشّرير في سلب ثيابه، وأحدثت تحت صليبه، وتجمّرت بخشبته، وصفعت الجاثليق. وهذه اليمين(13/316)
إنها قرنت مع الأسخر يوطي في جهنّم، وأنكرت اتحاد اللاهوت والنّاسوت، وكذّبت القسوس، وشاركت في ذبح الشّمامس، وهدمت الديارات والكنائس، وكنت ممن مال على قسطنطين بن هيلاني، وتعمدت أمّه بالعظائم، وخالفت المجامع التي اجتمعت عليها الأساقف برومية والقسطنطينيّة، وجحدت مذهب الملكانيّة، وسفّهت رأي الرّهبان، وأنكرت وقوع الصّلب على السّيد اليسوع، وكنت مع اليهود حين صلبوه، وحدت عن الحواريّين، واستبحت دماء الدّيرانيّين، وجذبت رداء الكبرياء عن البطريرك، وخرجت عن طاعة الباب، وصمت يوم
الفصح الأكبر، وقعدت عن أهل الشّعانين، وأبيت عيد الصليب والغطاس، ولم أحفل بعيد السّيّدة، وأكلت لحم الجمل، ودنت بدين اليهود، وأبحت حرمة الطّلاق، وهدمت بيدي كنيسة قمامة، وخنت المسيح في وديعته، وتزوّجت في قرن بامرأتين، وقلت: إن المسيح كآدم خلقه الله من تراب، وكفرت بإحياء العيازرة، ومجيء الفارقليط الآخر، وبرئت من التلامذة الاثني عشر، وحرّم عليّ الثلاثمائة وثمانية عشر، وكسرت الصّلبان، ودست برجلي القربان، وبصقت في وجوه الرّهبان عند قولهم: كير اليصون (1)، واعتقدت أن (بعسه كفر الجون) (2)، وأنّ يوسف النّجّار زنى بأم اليسوع وعهر، وعطّلت النّاقوس، وملت إلى ملّة المجوس، وكسرت صليب الصّلبوت، وطبخت به لحم الجمل، وأكلته في أوّل يوم من الصّوم الكبير، تحت الهيكل بحضرة الآباء، وقلت في البنوّة مقال نسطورس، ووجّهت إلى الصّخرة وجهي، وصدّيت عن الشّرق المنير حيث كان المظهر الكريم، وإلّا برئت من النّورانيين والشّعشانيين، وأنكرت أنّ السّيد اليسوع أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، وقلت: إنّه مربوب، وإنه ما رؤي وهو مصلوب، وأنكرت أن القربان المقدّس على المذبح ما صار لحم المسيح ودمه حقيقة، وخرجت في النّصرانية عن لا حب الطريقة، وإلّا قلت بدين التوحيد، وتعبّدت غير الأرباب، وقصدت بالمظانيات غير طريق الإخلاص، وقلت: إن المعاد غير روحانيّ (3)، وإن بني المعمودية لا تسيح في فسيح السماء، وأثبتّ وجود الحور العين في المعاد، وأنّ في الدار الآخرة التلذذات الجسمانية، وخرجت خروج الشّعرة من العجين من دين النصرانية، وأكون من ديني محروما، وأقول: إن جرجيس لم يقتل مظلوما، وخرقت غفارة الرّب، وشاركت الشّرير في سلب ثيابه، وأحدثت تحت صليبه، وتجمّرت بخشبته، وصفعت الجاثليق. وهذه اليمين
__________
(1) الصواب «كيريا ليسن» وهي عبارة سريانية ما زال يستعملها المسيحيون الشرقيون في القداس. ومعناها: إرحمنا يا رب.
(2) كذا في الأصل. وفي الطبعة الأميرية مع علامة توقف ولم نتوصل إلى تثقيفه.
(3) الفرنج ملكانيون. وقد ذكر في ص: 280أن الملكانية تؤمن بمعاد روحاني وجسماني معا.(13/317)
يميني وأنا فلان، والنّية [فيها] بأسرها نية مولانا السلطان الملك الأشرف، ناصر الدّنيا والدّين «شعبان» ونيّة مستحلفيّ، والإله والمسيح على ما أقول وكيل.
قلت: خلط في هذه اليمين بعض يمين اليعاقبة الخارجة عن معتقد الفرنج الذين حلّفهم من مذهب الملكانية يظهر ذلك من النّظر فيما تقدّم من معتقدات النصرانية قبل ترتيب أيمانهم. على أنه قد أتى فيها بأكثر ما رتّبه المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في تحليفهم على صداقته، وزاد ما زاد من اليمين المرتّبة في التّحليف على الهدنة السابقة وغيرها.
اليمين الثانية مما أهمله في «التعريف» يمين أمير مكّة.
والقاعدة فيها أن يحلّف على طاعة السلطان، والقيام في خدمة أمير الرّكب، والوصيّة بالحجّاج، والاحتفاظ بهم.
وهذه نسخة يمين حلّف بها الأمير نجم الدّين أبو نميّ أمير مكّة المشرّفة، في الدّولة المنصورية قلاوون الصالحي، في شعبان سنة إحدى وثمانين وستمائة.
ونسختها على ما ذكره ابن المكرّم (1) في تذكرته بعد استيفاء الأقسام:
إنّي أخلصت نيّتي، وأصفيت طويّتي، وساويت بين باطني وظاهري في طاعة مولانا السلطان الملك المنصور، وولده السلطان الملك الصالح، وطاعة أولادهما وارثي ملكهما، لا أضمر لهم سوءا ولا غدرا في نفس ولا ملك ولا سلطنة. وإنّني عدوّ لمن عاداهم، صديق لمن صادقهم حرب لمن حاربهم، سلم لمن سالمهم. وإنّني لا يخرجني عن طاعتهما طاعة أحد غيرهما، ولا أتلفّت في ذلك إلى جهة غير جهتهما، ولا أفعل أمرا مخالفا لما استقرّ من هذا الأمر، ولا أشرك في تحكمهما عليّ ولا على مكّة [المشرّفة] (2) وحرمها وموقف جبلها زيدا ولا عمرا. وإنّني ألتزم ما اشترطته لمولانا السلطان ولولده في أمر الكسوة الشريفة
__________
(1) ذكرها أيضا ابن الفرات في تاريخه: 7/ 247.
(2) الزيادة من تشريف الأيام والعصور: ص 212.(13/318)
المنصورية الواصلة من مصر المحروسة وتعليقها على الكعبة الشريفة في كل موسم، وأن لا يعلوها كسوة غيرها، وأن أقدّم علمه المنصور على كلّ علم في كلّ موسم، وأن لا يتقدّمه علم غيره. وإنّني أسهّل زيارة البيت الحرام أيام مواسم الحجّ وغيرها للزّائرين والطّائفين والبادين والعاكفين، والآمّين لحرمه والحاجّين والواقفين. وإنني أجتهد في حراستهم من كلّ عاد بفعله وقوله، ومتخطّف للناس من حوله. وإنّني أؤمّنهم في سربهم، وأعذب لهم مناهل شربهم وإنّني والله أستمرّ بتفرّد الخطبة والسّكّة بالاسم الشريف المنصوريّ، وأفعل في الخدمة فعل المخلص الوليّ، وإنّني والله والله أمتثل مراسيمه امتثال النائب للمستنيب، وأكون لداعي أمره أوّل سامع مجيب. وإنني ألتزم بشروط هذه اليمين من أوّلها إلى آخرها لا أنقضها.
المهيع الخامس (في صورة كتابة نسخ الأيمان التي يحلف بها)
وقد جرت العادة أنه إذا أستقرّ ملك، في الملك يحلّف له جميع الأمراء والنوّاب في المملكة، وإذا استقرّ نائب من النوّاب في نيابة حلّف ذلك النائب عند استقراره وربّما اقتضت الحال التحليف في غير هذه الأوقات.
ثم الأيمان التي يحلّف بها على ضربين:
الضرب الأوّل (الأيمان التي يحلّف بها الأمراء بالديار المصرية)
وقد جرت العادة أن كتّاب ديوان الإنشاء يجتمع من يجتمع منهم بالقلعة، ويتصدّى كلّ واحد منهم لتحليف جماعة من الأمراء والمماليك السلطانية وغيرهم، وينصب المصحف الشريف على كرسيّ أمام الحالفين، ويحلّف كلّ كاتب من كتّاب الإنشاء من يحلّفه تجاه المصحف بألفاظ اليمين المتقدّمة الذّكر على الوجه الذي يرسم تحليفهم عليه ويكتب كلّ واحد من أولئك الكتّاب أسماء الذين حلّفهم في ورقة ويؤرّخها ويحملها إلى ديوان الإنشاء فتخلّد فيه.(13/319)
الضرب الثاني (الأيمان التي يحلف بها نوّاب السلطنة والأمراء بالممالك الشامية وما انضمّ إليها)
وقد جرت العادة أنه إذا أريد تحليف نائب من نوّاب الممالك الخارجة عن الحضرة بالدّيار المصرية أو أمير من أمرائها أن تكتب نسخة يمين من ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية، وتجهّز إلى النائب أو الأمير الذي يقصد تحليفه فيحلف على حكمها متلفظا بألفاظها جميعها. قال في «التثقيف»: وصفة ما يكتب في النّسخة بعد البسملة من يمين الورق «أقول وأنا» ثم يخلي بياضا قليلا بقدر أصبعين لموضع كتابة الحالف اسمه، ثم يكتب تحته من يمين الورق بهامش دقيق جدّا «والله والله والله» وتكمّل تتمّة النسخة على ما تقدّم ذكره. وتكون سطورها متلاصقة سطرا إلى سطر إلى عند قوله «وهذه اليمين يميني وأنا» فيخلّي بعد ذلك بياضا قليلا لموضع كتابة اسم الحالف أيضا ثم يكتب من يمين الورق:
«والنّية في هذه اليمين بأسرها» إلى آخر النسخة.
قلت: وكذلك نسخ الأيمان التي تكتب ليحلّف بها في الهدن التي تفرد الأيمان فيها عن الهدن، يخلّى فيها بياض لكتابة الاسم بعد قوله «أقول وأنا» وبعد قوله «وهذه اليمين يميني وأنا» سواء في ذلك اليمين التي يحلّف بها السلطان أو الملك الذي تقع معه المهادنة: من ملوك الإسلام أو ملوك الكفر.
وقد جرت العادة أن يكون الورق الذي تكتب فيه نسخ الأيمان التي يحلّف بها النوّاب وغيرهم من الأمراء الخارجين عن الحضرة في قطع العادة. أما ما يحلّف به على الهدن فلم أقف فيه على مقدار قطع الورق. والذي يظهر أن كلّ يمين تكون في قطع الورق الذي يكاتب بها ذلك الملك الذي يحلّف.(13/320)
المقالة التاسعة في عقود الصّلح والفسوخ الوردة على ذلك، وفيها خمسة (1) أبواب
الباب الأوّل في الأمانات وفيه فصلان
الفصل الأوّل في عقد الأمان لأهل الكفر
قال في «التعريف»: وهو أقوى أمور الصّلح دلالة على اشتداد السّلطان، إذ كان يؤمّن الخائف أمنا لا عوض عنه في عاجل ولا آجل وفيه طرفان:
الطرف الأوّل (في ذكر أصله وشرطه وحكمه)
اعلم أنّ الأمان هو الأمر الأوّل من الأمور الثلاثة التي يرفع بها القتل عن الكفّار.
قال العلماء: وهو من مكايد القتال ومصالحه، وإن كان فيه ترك القتال: لأن الحاجة [داعية] (2) إليه. والأصل فيه من الكتاب قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجََارَكَ فَأَجِرْهُ حَتََّى يَسْمَعَ كَلََامَ اللََّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (3)، ومن السّنّة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويجير عليّهم أدناهم، وهم يد على من سواهم».
__________
(1) كذا أيضا في فهرست المؤلف في الجزء الأول من هذا الكتاب ولكنه سيذكر آخر المقالة التاسعة بابا سادسا في الفسوخ.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.
(3) التوبة / 6.(13/321)
وقد ذكر الفقهاء له أركانا وشرائط وأحكامها.
فأما أركانه، فثلاثة:
الأوّل العاقد للأمان من المسلمين. وليعلم أنّ الأمان على ضربين: عامّ وخاصّ فالعامّ هو عقده للعدد الذي لا يحصر كأهل ناحية ولا يصحّ عقد الأمان فيه إلا من الإمام أو نائبه كما في الهدنة. والخاصّ هو عقده للواحد أو العدد المحصور ويصحّ من كلّ مسلم مكلّف [وإن لم تكن] (1) له أهلية القتال، فيصح من العبد والمرأة والشّيخ الهرم والسّفيه والمفلس، بخلاف أمان الصّبيّ والمجنون.
الثاني المعقود له، ويصح عقده للواحد والعدد من ذكور الكفّار وإناثهم. نعم في تأمين المرأة عن الاسترقاق خلاف.
الثالث صيغة العقد. وهي كلّ لفظ يفهم الأمان كناية كان أو صريحا، وفي معنى ذلك الأشارة المفهمة. ويعتبر فيه قبول الكافر، فلا بدّ منه، حتى لو ردّ الأمان لم ينعقد، وفيما إذا سكت خلاف. نعم لو دخل للسّفارة بين المسلمين والكفّار في تبليغ رسالة ونحوها أو لسماع كلام الله تعالى لم يعتبر فيه عقد الأمان، بل يكون آمنا بمجرد ذلك أما لو دخل لقصد التجارة بغير أمان فإنه لا يكون آمنا إلّا أن يقول الإمام أو نائبه: من دخل تاجرا فهو آمن.
وأما شرطه، فأن لا يكون على المسلمين ضرر في المستأمن: بأن يكون طليعة أو جاسوسا، فإنّه يقتل ولا يبالى بأمانه، ويعتبر أن لا تزيد مدّة الأمان على سنة (2) بخلاف الهدنة، فقد تقدّم أنها تجوز عند ضعف المسلمين إلى عشر سنين.
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) في حاشية الطبعة الأميرية أن عبارة «المنهاج»: «ويجب أن لا تزيد مدته على أربعة أشهر وفي قول يجوز ما لم تبلغ سنة. قال صاحب «التحفة»: فإن بلغتها امتنع قطعا.(13/322)
وأما حكمه، فإذا عقد الأمان لزم المشروط، فلو قتله مسلم وجبت الدّية. ثم هو جائز من جهة الكفّار، فيجوز للكافر نبذه متى شاء، ولازم من جهة المسلمين، فلا يجوز النّبذ إلا أن يتوقّع من المستأمن الشّرّ، فإذا توقّع منه ذلك جاز نبذ العهد إليه ويلحق بمأمنه وبقيّة فقه الفصل مستوفى في كتب الفقه.
الطرف الثاني (في صورة ما يكتب فيه)
والأصل ما رواه ابن إسحاق أنّ رفاعة بن زيد الجذامي (1) قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هدنة الحديبية، فأهدى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم غلاما، وأسلم وحسن إسلامه وكتب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا إلى قومه فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم» «هذا كتاب من محمد رسول الله لرفاعة بن زيد: إني بعثته إلى قومه عامّة ومن دخل فيهم يدعوهم إلى الله تعالى وإلى رسوله فمن أقبل منهم ففي حزب الله [وحزب] (2) رسوله، ومن أدبر فله أمان شهرين».
فلما قدم رفاعة على قومه أجابوا وأسلموا.
ثم للكتّاب فيه مذهبان:
المذهب الأوّل أن يفتتح الأمان بلفظ
: «هذا كتاب أمان» أو «هذا أمان» وما أشبه ذلك، كما افتتح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما كتب به لرفاعة بن زيد على ما تقدّم.
وعلى ذلك كتب عمرو بن العاص رضي الله عنه الأمان الذي كتب به لأهل مصر عند فتحها ونصّه بعد البسملة:
__________
(1) في الطبعة الأميرية استبدلها المحقق بالخزاعي. وقال أنه اعتمد التصحيح عن السيرة النبوية. ولم يذكر أية سيرة. وفي «الوثائق السياسية للعهد النبوي» لمحمد حميد الله: الجذامي. نقلها عن مغازي الواقدي، والمعجم الكبير للطبراني، ومجمع الزوائد للهيثمي، وغيرهم.
(2) الزيادة من الوثائق السياسية.(13/323)
«هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملّتهم (1) وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرّهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا تساكنهم النّوبة. وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصّلح، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف. وعليه ممّن جنى نصرتهم (2)، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزى بقدر [هم وذمّتنا ممّن أبى بريّة، وإن نقص نهرهم عن غايته إذا انتهى، رفع عنهم بقدر] (3)
ذلك ومن دخل في صلحهم: من الرّوم والنّوبة فله ما لهم وعليه ما عليهم (4)
ومن أبى واختار الذّهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا. وعليهم ما عليهم أثلاثا في كلّ ثلث جباية ثلث ما عليهم. على ما في هذا الكتاب عهد الله [وذمّته] (5) وذمّة رسوله وذمّة الخليفة أمير المؤمنين [وذمم المؤمنين] (6) وعلى النّوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا، وكذا وكذا فرسا، على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة.
شهد الزّبير وعبد الله ومحمد ابناه، وكتب وردان وحضر».
وعلى ذلك كتب الحافظ لدين الله أحد خلفاء الفاطميّين الأمان لبهرام الأرمنيّ، حين صرف من وزارته وهرب عنه (7) إلى بلاد الأرمن، وكتب إلى الحافظ يظهر الطاعة ويسأل تسيير أقاربه، فكتب له بالأمان له ولأقاربه.
__________
(1) في العبر «ودمهم». وفي رواية العبر بعض التغيير من زيادة ونقص.
(2) في جمهرة رسائل العرب: 1/ 188عن تاريخ الطبري والنجوم الزاهرة: «وعليهم ما جنى لصوتهم». قال: واللصوت جمع لصت، مثلث اللام، وهو اللص. والمراد بعبارة القلقشندي:
وعلى عمرو أن ينصرهم ويعينهم على من اعتدى عليهم، مقابل دفعهم الجزية.
(3) الزيادة من جمهرة رسائل العرب.
(4) في المرجع السابق: «فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم».
(5) الزيادة من جمهرة رسائل العرب.
(6) الزيادة من جمهرة رسائل العرب.
(7) يفهم من عبارة القلقشندي أن بهرام هرب من الحافظ لدين الله. والواقع أنه هرب أمام رضوان بن الولخشي الذي كان متولي الغربية. أما الحافظ فقد كان يحبه كثيرا بدليل أنه حزن عليه لما مات سنة 535هـ وأمر بإغلاق الدواوين ثلاثة أيام. قال المقريزي: استقامت له الأحوال وراسله الملوك وزال ما كان في البلاد من الفتن، فلم ينكر عليه سوى أنه نصراني. إلا أن تطاول النصارى في أيامه على المسلمين شجع ابن الولخشي على القيام في وجهه وانتزع منه الوزارة. وقد استمرت وزارة بهرام من 11جمادى الآخرة سنة 529هـ حتى 11من جمادى الأولى سنة 531هـ (خطط المقريزي:
1/ 357والوزارة والوزراء في العصر الفاطمي: 278).(13/324)
فأما ما كتب له هو فنصّه بعد البسملة:
هذا أمان أمر بكتبه عبد الله ووليّه عبد المجيد أبو الميمون، الحافظ لدين الله أمير المؤمنين، للأمير المقدّم، المؤيّد، المنصور، عزّ الخلافة وشمسها، وتاج المملكة ونظامها، فخر الأمراء، شيخ الدولة وعمادها، ذي المجدين، مصطفى أمير المؤمنين، بهرام الحافظيّ: فإنك آمن بأمان الله تعالى، وأمان جدّنا محمد رسوله، وأبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلّى الله عليهما، وأمان أمير المؤمنين، على نفسك ومالك، وأهلك وجميع حالك، لا ينالك سوء، ولا يصل إليك مكروه، ولا تقصد باغتيال، ولا يخرج بك عن عادة الإحسان والإنعام، والتّمييز والإكرام، وحراسة النّفس، والصّون للحريم والأهل، والرّعاية في القرب والبعد، ما دمت متحيّزا إلى طاعة الدولة العلويّة، ومتصرّفا على أحكام مشايعتها، مواليا لمواليها، ومعاديا لمعاديها، ومستمرّا على مرضاة إخلاصك. فثق بهذا الأمان واسكن إليه، واطمئنّ إلى مضمونه والله بما أودعه كفيل وعليه شهيد وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله، عليه يتوكّل وإليه ينيب.
وأما الأمان الذي كتب لأقاربه فنصّه:
هذا أمان تقدّم بكتبه عبد الله ووليّه، لبسيل وزرقا، وبهرام ابن أختهما، ومن ينتمي إليهم ويتعلّق بهم، ويلتزمون أمره ممن دونهم، ومن يتمسّك بسببهم، مضمونه: إنكم معشر الجماعة بأسركم لما قصدتم الدّولة ووفدتم عليها، وتفيّأتم ظلّها وهاجرتم إليها، شملكم الصّنع الجميل، وغمركم الإنعام السّابغ والإحسان الجزيل، وكنفتم بالرّعاية التامّة، والعناية الخاصّة لا العناية العامّة، ووفّر حظّكم من الواجبات المقرّرة لكم، والإقطاعات الموسومة بكم، وكنتم مع ذلك تذكرون رغبتكم في العود إلى دياركم، والرّجوع إلى أوطانكم، والتفاتا إلى من تركتموه من ورائكم. وقد سرتم من الباب على قضيّة
المخالفة، وقد أمّنكم أمير المؤمنين، فأنتم آمنون بأمان الله تعالى وأمان جدّنا محمد رسوله وأبينا أمير المؤمنين: عليّ بن أبي طالب، صلى الله عليهما، وأمان أمير المؤمنين، على نفوسكم وأهليكم وأموالكم وما تحويه أيديكم ويحوزه ملككم، ويشتمل عليه احتياطكم، لا ينالكم في شيء من ذلك مكروه، ولا سبب مخوف، ولا يمسّكم سوء، ولا تخشون من ضيم، ولا تقصدون بأذيّة، ولا يغيّر لكم رسم، ولا تنقض لكم عادة، وأنتم مستمرّون في واجباتكم وإقطاعاتكم على ما عهدتموه، ولا تنقصون منها، ولا تبخسون فيها. هذا إذا رغبتم في الإقامة في ظلال الدّولة فإن آثرتم ما كنتم تذكرون الرّغبة فيه من العودة إلى دياركم عند انفتاح البحر، فهذا الأمان لكم إلى أن تتوجّهوا مشمولين بالرعاية، ملحوظين بالعناية، ولكم الوفاء بجميع ذلك والله لكم به وكيل وكفيل، وكفى به شهيدا.(13/325)
هذا أمان تقدّم بكتبه عبد الله ووليّه، لبسيل وزرقا، وبهرام ابن أختهما، ومن ينتمي إليهم ويتعلّق بهم، ويلتزمون أمره ممن دونهم، ومن يتمسّك بسببهم، مضمونه: إنكم معشر الجماعة بأسركم لما قصدتم الدّولة ووفدتم عليها، وتفيّأتم ظلّها وهاجرتم إليها، شملكم الصّنع الجميل، وغمركم الإنعام السّابغ والإحسان الجزيل، وكنفتم بالرّعاية التامّة، والعناية الخاصّة لا العناية العامّة، ووفّر حظّكم من الواجبات المقرّرة لكم، والإقطاعات الموسومة بكم، وكنتم مع ذلك تذكرون رغبتكم في العود إلى دياركم، والرّجوع إلى أوطانكم، والتفاتا إلى من تركتموه من ورائكم. وقد سرتم من الباب على قضيّة
المخالفة، وقد أمّنكم أمير المؤمنين، فأنتم آمنون بأمان الله تعالى وأمان جدّنا محمد رسوله وأبينا أمير المؤمنين: عليّ بن أبي طالب، صلى الله عليهما، وأمان أمير المؤمنين، على نفوسكم وأهليكم وأموالكم وما تحويه أيديكم ويحوزه ملككم، ويشتمل عليه احتياطكم، لا ينالكم في شيء من ذلك مكروه، ولا سبب مخوف، ولا يمسّكم سوء، ولا تخشون من ضيم، ولا تقصدون بأذيّة، ولا يغيّر لكم رسم، ولا تنقض لكم عادة، وأنتم مستمرّون في واجباتكم وإقطاعاتكم على ما عهدتموه، ولا تنقصون منها، ولا تبخسون فيها. هذا إذا رغبتم في الإقامة في ظلال الدّولة فإن آثرتم ما كنتم تذكرون الرّغبة فيه من العودة إلى دياركم عند انفتاح البحر، فهذا الأمان لكم إلى أن تتوجّهوا مشمولين بالرعاية، ملحوظين بالعناية، ولكم الوفاء بجميع ذلك والله لكم به وكيل وكفيل، وكفى به شهيدا.
المذهب الثاني أن يفتتح الأمان المكتتب لأهل الكفر بالتّحميد
، ثم يقال: «ولما كان كذا وكذا اقتضى حسن الرّأي الشريف كذا وكذا» ثم يقال:
«فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يكون كذا وكذا» على نحو ما يكتب في الولايات.
وعلى ذلك كتب عن السلطان الملك الناصر «محمد بن قلاوون» أمان لفراكس صاحب السّرب (1) من ملوك النصارى بالشّمال وزوجته ومن معهما من الأتباع، عند طلبهم التّمكين من زيارة القدس الشريف، وإزالة الأعراض عنهم، واستصحاب العناية بهم، إلى حين عودهم آمنين على أنفسهم وأموالهم، من إنشاء الشريف شهاب الدّين كاتب الإنشاء.
ونصّه بعد البسملة:
أمّا بعد حمد الله الذي أمّن بمهابتنا المناهج والمسالك، ومكّن لكلمتنا المطاعة في الأقطار والآفاق والممالك، وأعان على (2) لساننا بدعوة الحقّ التي
__________
(1) أي بلاد الصّرب.
(2) كذا في الأصل. ولعل الصواب: «وأعان لساننا على دعوة الخ»(13/326)
تنفي كلّ كرب حاك وتكفي كلّ كرب حالك، والشّهادة له بالوحدانية التي تنفي المشابه والمشارك، وتفي بالميعاد من الإصعاد على الأرائك، والصّلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أنجده ببعوث الملإ الأعلى من الملائك، وأيّده بالصّون الملازم والعون المتدارك، ووعده أن سيبلغ ملك أمّته ما بين المشرق والمغرب وأنجز له ذلك، وعلى آله وصحبه الذين زحزحوا عن المهالك، ونصحوا لله ورسوله وأكرم بأولئك!!! فإنّ كرمنا يرعى الوفود، وشيمنا تدعى فتجود، وذممنا بها لحظ الحقوق وحفظ العهود فبخدمنا ينجح كلّ مقصود، وبنعمنا تمنح الأمانيّ والمنى وهما أعظم نعمتين في الوجود فليس آمل عن أبواب سماحنا بمردود، ولا متوسّل إلينا بضراعة إلا ويرجع بالمرام ويعود.
ولما كانت حضرة الملك الجليل، المكرّم، المبجّل، العزيز، الموقّر، «إستيفانوس فراكس»: كبير الطائفة النّصرانية، جمال الأمّة الصّليبيّة، عماد بني المعمودية، صديق الملوك والسلاطين، صاحب السّرب أطال الله بقاءه قد شمله إقبالنا المعهود، ووصله إفضالنا الذي يحجز عن ميامنه السّوء وينجز الوعود اقتضى حسن الرّأي الشريف أن نيسّر سبيله، ونوفّر له من الإكرام جسيمه كما وفّرنا لغيره من الملوك مسوله، وأن يمكّن من الحضور هو وزوجته ومن معهما من أتباعهما إلى زيارة القدس الشريف، وإزالة الأعراض عنهم، وإكرامهم ورعايتهم، واستصحاب العناية بهم، إلى أن يعودوا إلى بلادهم، آمنين على أنفسهم وأموالهم، ويعاملوا بالوصيّة التامّة، ويواصلوا بالكرامة والرعاية إلى أن يعودوا في كنف الأمن وحريم السّلامة وسبيل كلّ واقف عليه أن يسمع كلامه، ويتبع إبرامه، ولا يمنع عنهم الخير في سير ولا إقامة، ويدفع عنهم الأذى حيث وردوا أو صدروا فلا يحذروا إلمامه والله تعالى يوفّر لكلّ مستعين من أبوابنا أقساط الأمن وأقسامه، ويظفر عزمنا المحمديّ بالنّصر السّرمديّ حتّى يطوّق الطائع والعاصي حسامه. والعلامة الشريفة أعلاه حجّة فيه والخير يكون إن شاء الله تعالى.(13/327)
الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة التاسعة (في كتابة الأمانات لأهل الإسلام وما يكتب فيها
، ومذاهب الكتّاب في ذلك في القديم والحديث، وأصله وفيه طرفان)
الطرف الأوّل (في أصله)
اعلم أنّ هذا النوع فرع ألحقه الكتّاب بالنوع السابق، وإلا فالمسلم آمن بقضيّة الشّرع بمجرّد إسلامه، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها». وإنما جرت عادة الملوك بكتابة الأمان لكلّ من خاف سطوتهم، لا سيّما من خرج عن الطّاعة، وخيف استشراء الفساد باستمرار خروجه عن الطاعة خوفا، حتّى صار ذلك هو أغلب ما يكتب من دواوين الإنشاء.
وقد ورد في السّنّة ما يدلّ لذلك (1)، وهو ما رواه أبو عبيد في «كتاب الأموال» عن أبي العلاء بن عبد الله بن الشّخّير أنه قال: كنا بالمربد ومعنا مطرّف إذ أتانا أعرابيّ ومعه قطعة أديم، فقال: أفيكم من يقرأ؟ قلنا: نعم، فأعطانا الأديم فإذا فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم» «من محمد رسول الله لبني زهير بن أقيش من عكل. إنّكم إن شهدتم أن
__________
(1) الأمان الذي سيشير إليه أدناه موجه من قبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى غير المسلمين، وبالتالي فهو ليس دليلا على مشروعية الأمان فيما بين المسلمين.(13/328)
لا إله إلا الله [وأن محمدا رسول الله] (1) وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزّكاة، وفارقتم المشركين، وأعطيتم من الغنائم الخمس، وسهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم والصّفيّ (أو قال:
وصفيّة) فأنتم آمنون بأمان الله ورسوله».
الطرف الثاني (فيما يكتب في الأمانات)
وللكتّاب في ذلك مذهبان:
المذهب الأوّل أن يفتتح الأمان بلفظ: «هذا كتاب أمان» أو «هذا أمان» ونحو ذلك، على ما تقدّم في الفصل السابق.
قال في «موادّ البيان» (2): والرسم فيه: «هذا كتاب أمان، كتبه فلان بن فلان الفلانيّ، أمير المؤمنين أو وزيره، لفلان بن فلان الفلانيّ الذي كان من حاله كذا وكذا، فإنه قد أمّنه بأمان الله تعالى وأمان رسوله صلّى الله عليه وسلّم وأمانه». فإن كان عن الوزير قال: «وأمان أمير المؤمنين فلان بن فلان وأمانه، على نفسه وماله، وشعره، وبشره، وأهله، وولده، وحرمه، وأشياعه، وأتباعه، وأصحابه، وحاله، وذات يده، وأملاكه، ورباعه، وضياعه، وجميع ما يخصّه ويخصّهم أمانا صحيحا، نافذا واجبا لازما، لا ينقض ولا يفسخ ولا يبدّل، ولا يتعقّب بمخاتلة، ولا دهان ولا مواربة، ولا حيلة، ولا غيلة، وأعطاه على ذلك عهد الله وميثاقه وصفقة يمينه، بنيّة خالصة له ولجميع من ذكر معه، وعفا له عن كلّ جريرة متقدّمة، وخطيئة سالفة، إلى يوم تاريخ هذا الأمان، وأحلّه من ذلك كلّه، واستقبله بسلامة النّفس ونقاء السريرة، وأوجب له من الرّعاية ما أوجبه لأمثاله، ممن شمله ظلّه، وكنفته رعايته، حاضرا وغائبا، وملّكه من اختياره قريبا وبعيدا، وأن لا يكرهه على ما لا يريده، ولا يلزمه بما لا يختاره».
__________
(1) الزيادة من «الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة».
(2) «مواد البيان» لعلي بن خلف الكاتب. وفي كشف الظنون «موارد البيان».(13/329)
قلت: هذا ما أصّله صاحب «مواد البيان» في كتابة الأمانات ومقتضاه افتتاح جميع الأمانات المكتتبة عن الخليفة أو الوزير أو غيرهما بلفظ «هذا».
وسيأتي أن الأمانات قد تفتتح بغير هذا الافتتاح: من الحمد وغيره، على ما سيأتي بيانه، ولعل هذا كان مصطلح زمانه فوقف عنده.
وبالجملة فالأمانات المكتتبة لأهل الإسلام على نوعين:
النوع الأوّل (ما يكتب عن الخلفاء وفيه مذهبان)
المذهب الأوّل
طريقة صاحب «مواد البيان» المتقدّمة الذّكر وهي أن يفتتح الأمان بلفظ «هذا» وحينئذ فيقال: «هذا كتاب أمان كتبه عبد الله فلان أبو فلان أمير المؤمنين الفلانيّ، أعزّ الله تعالى به الدّين، وأدام له التّمكين، لفلان الفلانيّ، فإنّه قد أمّنه بأمان الله تعالى، وأمان رسوله صلّى الله عليه وسلّم وأمانه، على نفسه، وماله، وشعره، وبشره، وأهله، وولده، وحرمه، وأشياعه، وأتباعه، وأصحابه، وحاله، وذات يده، وأملاكه، ورباعه، وضياعه، وجميع ما يخصّه ويخصّهم أمانا صحيحا، نافذا واجبا لازما، لا ينقض ولا يفسخ، ولا يبدّل، ولا يتعقّب بمخاتلة، ولا دهان ولا مواربة، ولا حيلة ولا غيلة، وأعطاه على ذلك عهد الله وميثاقه وصفقة يمينه، بنيّة خالصة له ولجميع من ذكر معه، وعفا له عن كلّ جريرة متقدّمة، وخطيئة سالفة، إلى يوم تاريخ هذا الأمان، وأحلّه من ذلك كلّه، واستقبله بسلامة النّفس ونقاء السريرة، وأوجب له من الرّعاية ما أوجبه لأمثاله: ممّن شمله ظلّه، وكنفته رعايته، حاضرا وغائبا، وملّكه من اختياره قريبا وبعيدا، وأن لا يكرهه على ما لا يريده، ولا يلزمه بما لا يختاره». وغير ذلك مما يقتضيه الحال ويدعو إليه المقام.
المذهب الثاني
أن يفتتح الأمان بخطبة مفتتحة بالحمد، والرسم فيه أن
يستفتح الأمان بخطبة يكرّر فيها الحمد مرتين أو ثلاثا فأكثر، بحسب ما يقتضيه حال النّعمة على من يصدر عنه الأمان في الاستظهار على من يؤمّنه. يحمد الله في المرّة الأولى على آلائه، وفي الثانية على إعزاز دينه، وفي الثالثة على بعثة نبيّه، وفي الرابعة على إقامة ذلك الخليفة من بيت النبوّة لإقامة الدّين ويأتي مع كلّ واحدة منها بما يناسب ذلك، ثم يذكر الأمان في الأخيرة.(13/330)
أن يفتتح الأمان بخطبة مفتتحة بالحمد، والرسم فيه أن
يستفتح الأمان بخطبة يكرّر فيها الحمد مرتين أو ثلاثا فأكثر، بحسب ما يقتضيه حال النّعمة على من يصدر عنه الأمان في الاستظهار على من يؤمّنه. يحمد الله في المرّة الأولى على آلائه، وفي الثانية على إعزاز دينه، وفي الثالثة على بعثة نبيّه، وفي الرابعة على إقامة ذلك الخليفة من بيت النبوّة لإقامة الدّين ويأتي مع كلّ واحدة منها بما يناسب ذلك، ثم يذكر الأمان في الأخيرة.
وهذه نسخة أمان من هذا النّمط، كتب به عن بعض متقدّمي خلفاء بني العبّاس ببغداد، أوردها أبو الحسين أحمد بن سعيد في «كتاب البلاغة» (1) الذي جمعه في الترسّل:
الحمد لله المرجوّ فضله، المخوف عدله، باريء النّسم، ووليّ الإحسان والنّعم، السابق في الأمور علمه، النّافذ فيها حكمه، بما أحاط به من ملك قدرته، وأنفذ من عزائم مشيئته كلّ ما سواه مدبّر مخلوق وهو أنشاه وابتداه، وقدّر غايته ومنتهاه.
والحمد لله المعزّ لدينه، الحافظ من حرماته ما تربّض المتربّضون (2) عن حياطته، المذكي من نوره ما دأب الملحدون لإطفائه حتّى أعلاه وأظهره كما وعد في منزل فرقانه بقوله جلّ ثناؤه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ََ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} * (3)
والحمد لله الذي بعث محمدا رحمة للعالمين، وحجّة على الجاحدين، فختم به النبيين والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين، وجعله الدّاعي إلى دين
__________
(1) في الذيل على كشف الظنون لاسماعيل باشا البغدادي. «كتاب البلاغة» لأبي العباس المبرد، محمد ابن يزيد بن عبد الأكبر البغدادي المتوفى سنة 285هـ.
(2) في الأصل بالصاد المهملة وهي غير مناسبة. وفي اللسان: رجل ربضة ومتربض أي عاجز.
(3) التوبة / 33.(13/331)
الحق، والشّهيد على جميع الخلق، فأدّى إليهم ما استودع من الأمانة، وبلّغهم ما حمّل من الرّسالة فلما أنقذ الله به من التّورّط في الضّلالة، والتّهوّر في العمى والجهالة، وأوضح به المعالم والآثار، ونهج به العدل والمنار، اختار له ما لديه، ونقله إلى ما أعدّ له في دار الخلود، من النّعيم الذي لا ينقطع ولا يبيد، ثم جعله في لحمته وأهله وراثة بما قلدهم من خلافته في أمّته، وقدّم لهم شواهد ما اختصّهم به من الفضيلة، وزلفة الوسيلة، في كتابه النّاطق، على لسان نبيّه الصادق، صلّى الله عليه وسلّم منها ما أخبر به من تطهيره إيّاهم: ليجعلهم لما اختاره معدنا ومحلّا، إذ يقول جلّ وعزّ: {إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (1)، ومنها ما أمر الله به رسوله صلّى الله عليه وسلّم من مسألته أمّته المودّة فقد أوضح لذوي الألباب أنهم موضع خيرته، بتطهيره إياهم، وأهل صفوته، بما افترض من مودّتهم، وولاة الأمر الذين قرن طاعتهم بطاعته.
ولم يزل الله بعظيم منّه وإنعامه يدعم أركان دينه، ويشيّد أعلام هداه، بإعزاز السلطان الذي هو ظلّه في أرضه، وقوام عدله وقسطه، والحجاز الذّائد لهم عن التّظالم والتّغاشم، والحصن الحريز عند مخوف البوائق وملمّ النّوائب فليس يكيد ولاته المستقلّين بحقّ الله فيه كائد، ولا يجحد ما يجب لهم من حقّ الطاعة جاحد، إلّا من انطوى على غشّ الأمّة، ومحاولة التّشتيت للكلمة.
والحمد لله على ما تولّى به أمير المؤمنين في البدء والعاقبة: من الإدلاء بالحجّة، والتّأييد بالغلبة، (عند نشوه من حيز وطأة الخفض) (2)، متّبعا لكتاب الله حيث سلك به حكمه، مقتفيا سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث انسابت أمامه، باذلا لله نفسه، لا يصدّه وعيد من تكبّر وعتا، ولا يوحشه خذلان من أدبر وتولّى، منتظرا لمن نكث عهده وغدر بيعته والتمس المكر به
__________
(1) الأحزاب / 33.
(2) كذا هذه العبارة في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. ولعلها: عند نشله الخ. أي انتشاله.
فتأمّل.(13/332)
في حقّه الآيات الموجبة في قوله: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللََّهُ} (1)، {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمََا يَنْكُثُ عَلى ََ نَفْسِهِ} (2)، مكتفيا بالله ممّن خذله، مستعينا به على من نصب، لا يستفزّه ما أجلب به الشيطان من خيله ورجله، وهو في أنصاره المعتصمين، لا تستهويهم الشّبه في بصائرهم، ولا تخونهم قواعد عزائمهم في ساعة العسرة من بعد ما كادت تزيغ قلوب فريق منهم فكتّبهم أمير المؤمنين، وأنهدهم لعدوّه، ينتظرون إحدى الحسنيين: من الفلج المبين، والفوز (3) بالشّهادة والسعادة فليس يلفتهم عن حقّهم ما يتلقّون به من الترغيب والترهيب، ولا يزدادون على عظيم التّهاويل والأخطار إلا تقحّما وإقداما، متمثّلين لسير إخوانهم قبلهم فيما اقتص الله عليهم من شأنهم، إذ يقول جلّ وعزّ:
{الَّذِينَ قََالَ لَهُمُ النََّاسُ إِنَّ النََّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزََادَهُمْ إِيمََاناً وَقََالُوا حَسْبُنَا اللََّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (4)
وكان بداية جند أمير المؤمنين في حربهم التّقدّم بالإعذار والإنذار، والتّخويف بالله جلّ وعزّ وأيّامه، وما هم مسؤولون عنه في مقامه: من عهوده المؤكّدة عليهم في حرمه، وبين ركن كعبته ومقام خليله، المعلّقة في بيته، الشاهد عليها وفوده.
فكان أوّل ما بصّرهم الله به حجّته التي لا يقطعها قاطع، ولا يدفعها دافع، ثم ما جعلهم الله عليه من التناصر والتّوازر الذي فتّ في أعضادهم، ورماهم به من التّخاذل والتّواكل فكلّما نجمت لهم قرون اجتثّها الله بحدّ أوليائه، وكلّما مرق منهم مارق أسال الله مهجته، وأورثهم أرضه ودياره.
ومخلوعهم المبتديء بما عادت عليهم نقمته ونكاله قد أعلق بالرّدّة، وصرّحت شياطينه بالغدر والنّكث، يرى بذلك الذّلّ في نفسه وحزبه، وتنتقص
__________
(1) الحج / 60.
(2) الفتح / 10.
(3) لعل الصواب: «أو الفوز».
(4) آل عمران / 173.(13/333)
عليه الأرض من أطرافها وأقطارها، ويؤتى بنيانه من قواعده، ويردّ الله جيوشهم مفلولة، وجنودهم مخلّاة عن مراكزها، مقموعا باطلها وليس مع ما ناله من سخط الله جلّ وعزّ نازعا عن انتهاك محارمه ومآثمه، ولا محدثا عن جائحة يحلّها به إحجاما عن التّقحّم في ملاحمه الملبسة له في عاجل ما يرديه ويوبقه، وآجل ما يرصد الله به المعاندين عن سبيله، النّاكبين عن سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وأمير المؤمنين إذ جمع الله له متباين الألفة، وضمّ له منتشر الفرقة، على معرفته بحربه وحزبه، وعدوّه ووليّه، ومن سعى له أو عليه، أو أطاع الله أو عصاه فيه: من واف ببيعة، أو خاتر بإلّ وذمّة [جدير] (1) أن يعمّ بجميل نظره كافّة رعيّته، ويتعطّف عليهم بحسن عائدته، ويشملهم بمبسوط عدله وكريم عفوه، وتقديم أهل الأفكار المحمودة، في المواطن المشهودة، بما لم تزل أنفسهم تشرئبّ إليه، وأعينهم ترنو نحوه، لتحمد عنهم عاقبة الطاعة، ويعجّل لهم الوفاء بما وعدهم من الجزاء، إلى ما ذخره لهم من حسن المثوبة ومزيد الشّكران. وأمر لفلان بكذا، ولمن قبله من أهل الغناء بكذا، وأمّن الأسود والأحمر، ما خلا الملحد ابن الربيع، فإنّه سعى في بلاد الله وعباده سعي المفسدين، والتمس نقض وثائق الدّين.
فجميع من حلّ مدينة السلام آمنون بأمان الله، غير متبعين بترة (2)، ولا مطلوبين بإحنة، فلا تدخلنّ أحدا وحشة منهم لضغينة يظنّ بأمير المؤمنين الانطواء عليها، ولا يحملنّه ما عفا له عنه من ذنبه على [خلاف] (3) ما هو مستوجب من ثواب طاعته أو نكال معصيته، فإنّ الله جلّ وعزّ يقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلََا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللََّهُ لَكُمْ} (4)
__________
(1) ساقط من الأصل. وزيادته ضروريه لأنه خبر المبتدأ أمير المؤمنين.
(2) من قولهم: وتر فلانا يتره وترا، وترة: قتل حميمه أو أدركه بمكروه.
(3) الزيادة يقتضيها المعنى.
(4) النور / 22.(13/334)
فاحمدوا الله على ما ألهم خليفتكم، من إثابة أهل السوابق منكم بأوفى سعيهم، والتطوّل على عامّة جنده بما شملهم برفقه وحسنت عليهم عائدته، وما تعطّف به على أهل التفريط: من إقالة هفواتهم وعثراتهم، حتى صرتم بنعمة الله إخوانا مترافدين، قد أذهب الله أضغانكم ونزع حسائك (1) صدوركم، وردّ ألفتكم إلى أحسن ما يكون، وصرتم بين متقدّم بغناء، ومقمع بإحسان فحافظوا على ما يرتبط به راهن النّعمة، ويستدعى به حسن المزيد، إن شاء الله تعالى.
النوع الثاني (من الأمانات التي تكتب لأهل الإسلام، ما يكتب به عن الملوك وهو على ضربين)
الضرب الأوّل (ما كان يكتب من هذا النّمط في الزمن السابق
، مما كان يصدر عن وزراء الخلفاء والملوك المتغلّبين على الأمر معهم ولهم فيه أسلوبان)
الأسلوب الأوّل (أن يصدّر بالتماس المستأمن الأمان)
وهذه نسخة أمان من هذا الأسلوب، كتب بها أبو [إسحاق بن] (2) هلال الصابي، عن صمصام الدّولة، بن عضد الدّولة، بن ركن الدّولة، بن بويه الدّيلميّ لبعض من كان متخوّفا منه وهو:
هذا كتاب من صمصام الدّولة وشمس الملّة أبي كاليجار، بن عضد الدّولة
__________
(1) جمع حساكة، وهي الحقد، والعداوة.
(2) ساقطة من الأصل. وأبو إسحاق الصابيء هو إبراهيم بن هلال المتوفى سنة 384هـ. كان نابغة كتاب جيله. قبض عليه عضد الدولة وسجنه. ولما ولي صمصام الدولة أطلقه سنة 371هـ. (وفيات الأعيان: 1/ 52ويتيمة الدهر: 2/ 241).(13/335)
وتاج الملّة أبي شجاع، بن ركن الدّولة أبي عليّ مولى أمير المؤمنين لفلان بن فلان.
إنّك ذكرت رغبتك في الانحياز إلى جملتنا، والمصير إلى حضرتنا، والسّكون إلى ظلّنا، والسّكنى في كنفنا، والتمست التّوثقة منّا بما تطيب به نفسك، ويطمئنّ إليه قلبك، فتقبّلنا ذلك منك، وأوجبنا به الحقّ والذّمام لك، وأمّنّاك بأمان الله جلّ ثناؤه، وأمان رسوله صلّى الله عليه وسلّم، [وأمان] (1) أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وأماننا على نفسك، وجوارحك، وشعرك، وبشرك، وأهلك، وولدك، ومالك، وذات يدك: أمانا صحيحا ماضيا نافذا، واجبا لازما ولك علينا بالوفاء به إذا صرت إلينا عهد الله وميثاقه، من غير نقض له ولا فسخ لشيء منه، ولا تأوّل عليك فيه على [كلّ] (2) وجه وسبب.
ثم إنّا نتناولك إذا حضرت بالإحسان والإجمال، والاصطناع والإفضال، موفين بك على أملك، ومتجاوزين حدّ ظنّك وتقديرك. فاسكن إلى ذلك وثق به، وتيقّن أنك محمول عليه، ومفض إليه. ومن وقف على كتابنا هذا: من عمّال الخراج والمعاون وسائر طبقات الأولياء والمتصرّفين في أعمالنا، فليعمل بما فيه، وليحذر من تجاوزه أو تعدّيه، إن شاء الله تعالى.
وعلى نحو من ذلك كتب أبو إسحاق الصابي، عن صمصام الدّولة المقدّم ذكره، الأمان لجماعة من عرب المنتفق (3)، بواسطة محمد بن المسيّب (4) وهو:
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن رسائل الصابيء الخطية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن رسائل الصابيء الخطية.
(3) من أهم قبائل العراق. كانت منازلهم في المناطق الواقعة بين البصرة وبغداد. وكانوا يتجولون في الجزيرة الفراتية بين دجلة والفرات. وهم بطن من عامر بن صعصعة، من العدنانية. (معجم قبائل العرب: 3/ 1144وسبائك الذهب: 179).
(4) هو أمير بني عقيل، من بني عامر بن صعصعة. أقرّه بهاء الدولة بن بويه على الموصل، واستمر فيها إلى أن مات سنة 386هـ. (الأعلام: 7/ 98).(13/336)
هذا كتاب منشور من صمصام الدّولة، وشمس الملّة، أبي كاليجار، بن عضد الدّولة وتاج الملّة أبي شجاع، بن ركن الدّولة أبي عليّ، مولى أمير المؤمنين لجماعة من العرب من المنتفق، الرّاغبين في الطاعة والداخلين فيها مع أولياء الدّولة.
إن محمد بن المسيّب سأل في أمركم، وذكر رغبتكم في الخدمة، والانحياز إلى الجملة، والتمس أمانكم على نفوسكم وأموالكم، وأهلكم وعشيرتكم، على أن تلزموا الأستقامة، وتسلكوا سبيل السّلامة، ولا تخيفوا سبيلا، ولا تسعوا في الأرض فسادا، ولا تخالفوا للسلطان وولاة أعماله أمرا، ولا تؤوا له عدوّا، ولا تعادوا له وليّا، ولا تجيروا أحدا خرج عن طاعته، ولا تذمّوا لأحد طلبه، ولا تخونوه في سرّ ولا جهر، ولا قول ولا عمل، فرأينا قبول ذلك منكم، وإجابة محمد إلى ما رغب فيه عنكم، وتضمّنته العهدة فيما عقد من هذا الأمان لكم على شرائطه المأخوذة عليكم: في الكفّ عن الرّعيّة والسّابلة، وأهل السّواد والحاضرة، وترك التّعرّض للمال والدّم، أو الانتهاك لذمّة أو محرم، أو الارتكاب لمنكر أو مأثم.
فكونوا على هذه الحدود قائمين، وللصّحّة والاستقامة معتقدين، ولأحداثكم ضابطين، وعلى أيدي سفهائكم آخذين وأنتم مع ذلك آمنون بأمان الله جلّ جلاله، وأمان رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأمان مولانا أمير المؤمنين، وأماننا: على نفوسكم وأموالكم وأحوالكم، وكلّ داخل في هذا الأمان وشرائطه معكم: من أهلكم وعشيرتكم وأتباعكم، ومن ضمّته حوزتكم.
ومن قرأ هذا الكتاب من عمّال الخراج والمعاون، والمتصرّفين في الحمّارة والسّيارة وغيرهم من جميع الأسباب، فليعمل بمتضمّنه، وليحمل جماعة هؤلاء القوم على موجبه، إن شاء الله تعالى.(13/337)
الأسلوب الثاني (أن لا يتعرّض في الأمان لالتماس المستأمن الأمان)
وهذه نسخة أمان على هذا الأسلوب، أورده أبو الحسين بن الصابي (1) في كتابه «غرر البلاغة» ونصه بعد البسملة:
هذا كتاب من فلان مولى أمير المؤمنين لفلان.
إننا أمّنّاك على نفسك ومالك وولدك وحرمك، وسائر ما تحويه يدك، ويشتمل عليه ملكك، بأمان الله جلّت أسماؤه، وعظمت كبرياؤه، وأمان محمد رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأماننا أمانا صحيحا غير معلول، وسليما غير مدخول، وصادقا غير مكذوب، وخالصا غير مشوب، لا يتداخله تأويل، ولا يتعقّبه تبديل، قد كفله القلب المحفوظ، وقام به العهد الملحوظ على أن تشملك الصّيانة فلا يلحقك اعتراض معترض، وتكنفك الحراسة فلا يطرقك اغتماض مغتمض، وتعزّك النّصرة فلا ينالك كفّ متخطّف، ولا تمتدّ إليك يد متطرّف، بل تكون في ظلّ السلامة راتعا، وفي محاماة الأمانة وادعا، وبعين المراعاة ملحوظا، ومن كلّ تعقّب وتتبّع محفوظا لك بذلك عهد الله الذي لا يخفر، ومواثيقه التي لا تنكث، وذمامه الذي لا يرفض، وعهده الذي لا ينقض.
المذهب الثاني (مما يكتب به في الأمانات لأهل الإسلام أن يفتتح الأمان بلفظ: «رسم» كما تفتتح صغار التواقيع والمراسيم وهي طريقة غريبة)
وهذه نسخة أمان على هذا النّمط، أوردها محمد بن المكرّم أحد كتّاب ديوان الإنشاء في الدولة المنصورية «قلاوون» في تذكرته التي سماها: «تذكرة اللّبيب» كتب بها عن المنصور قلاوون المقدّم ذكره، للتّجّار الذي يصلون إلى
__________
(1) هو هلال بن المحسّن بن إبراهيم بن هلال الصابيء، المتوفى سنة 448هـ. ولي ديوان الإنشاء ببغداد زمنا. (وفيات الأعيان: 6/ 101والأعلام: 8/ 92).(13/338)
مصر من الصّين والهند والسّند واليمن والعراق وبلاد الرّوم، من إنشاء المولى فتح الدّين بن عبد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية بالديار المصرية وهي:
رسم (1) أعلى الله الأمر العالي لا زال عدله يحلّ الرعايا من الأمن في حصن حصين، ويستخلص الدعاء لدولته الزاهرة [من] (2) أهل المشارق والمغارب فلا أحد إلا وهو من المخلصين، ويهيّيء برحابها للمعتفين جنّة عدن من أيّ أبوابها شاء الناس دخولا: من العراق، من العجم، من الرّوم، من الحجاز، من الهند، من الصّين أنه من أراد من الصّدور الأجلّاء الأكابر التّجّار وأرباب التّكسّب، وأهل التّسبّب، من أهل هذه الأقاليم التي عدّدت والتي لم تعدّد، ومن يؤثر الورود إلى ممالكنا إن أقام أو تردّد النّقلة إلى بلادنا الفسيحة أرجاؤها، الظّليلة أفياؤها وأفناؤها، فليعزم عزم من قدّر الله له في ذلك الخير والخيرة، ويحضر إلى بلاد لا يحتاج ساكنها إلى ميرة ولا إلى ذخيرة: لأنها في الدنيا جنّة عدن لمن قطن، ومسلاة لمن تغرّب عن الوطن ونزهة لا يملّها بصر، ولا تهجر للإفراط في الخصر (3)، والمقيم بها في ربيع دائم، وخير ملازم ويكفيها أن من بعض أوصافها أنها شامة الله في أرضه، وأن بركة الله حاصلة في رحل من جعل الإحسان فيها من قراضه والحسنة من قرضه، ومنها ما إذا أهبط إليها آمل كان له ما سأل، إذ أصبحت دار إسلام بجنود تسبق سيوفهم العذل وقد عمّر العدل أوطانها، وكثّر سكّانها، واتّسعت أبنيتها إلى أن صارت ذات المدائن، وأيسر المعسر فيها فلا يخشى سورة المداين إذ المطالب بها غير متعسّرة، والنّظرة فيها إلى ميسرة، وسائر الناس وجميع التّجار، لا يخشون فيها من يجور فان العدل قد أجار.
__________
(1) تاريخ هذا الأمان أو المثال سنة 687هـ / 1288م (تشريف الأيام والعصور: 236).
(2) الزيادة من تشريف الأيام والعصور.
(3) الخصر، بالتحريك: البرد.(13/339)
فمن وقف على مرسومنا هذا من التّجار المقيمين باليمن والهند، والصّين والسّند، وغيرهم، فليأخذ الأهبة في الارتحال إليها، والقدوم عليها، ليجد الفعال من المقال أكبر، ويرى إحسانا يقابل في الوفاء بهذه العهود بالأكثر، ويحلّ منها في بلدة طيّبة وربّ (1) غفور، وفي نعمة جزاؤها الشّكر وهل (2) يجازى إلا الشّكور وفي سلامة في النّفس والمال، وسعادة تجلّي الأحوال وتموّل الآمال ولهم منا كلّ ما يؤثرونه: من معدلة تجيب داعيها، وتحمد عيشتهم دواعيها، (وتبقي أموالهم على مخلّفيهم، وتستخلصهم لأن يكونوا متفيّئين في ظلالها وتصطفيهم) (3) ومن أحضر معه بضائع من بهار وأصناف تحضرها تجّار الكارم فلا يحاف عليه في حقّ، ولا يكلّف أمرا يشقّ، فقد أبقى لهم العدل ما شاق ورفع عنهم ما شقّ ومن أحضر معه منهم مماليك وجواري فله في قيمتهم ما يزيد على ما يريد، والمسامحة بما يتعوّضه بثمنهم على المعتاد في أمر من يجلبهم من البلد القريب فكيف من البعيد: لأن رغبتنا مصروفة إلى تكثير الجنود، ومن جلب هؤلاء فقد أوجب حقّا على الجود فليستكثر من يقدر على جلبهم، ويعلم أن تكثير جيوش الإسلام هو الحاثّ على طلبهم: لأنّ الإسلام بهم اليوم في عزّ لواؤه المنشور، وسلطانه المنصور، ومن أحضر منهم فقد أخرج من الظلمات إلى النّور، وذمّ بالكفر أمسه وحمد بالإيمان يومه، وقاتل عن الإسلام عشيرته وقومه.
هذا مرسومنا إلى كلّ واقف عليه من تجّار شأنهم الضّرب في الأرض:
{يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللََّهِ وَآخَرُونَ يُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ} (4)، ليقرأوا منه ما تيسّر لهم من حكمه، ويهتدوا (5) بنجمه، ويغتذوا (6) بعلمه، ويمتطوا (7) كاهل الأمل الذي يحملهم على الهجرة، ويبسطوا (8) أيديهم بالدّعاء لمن يستدني إلى بلاده
__________
(1) في تشريف الأيام: «ربها غفور».
(2) في المصدر السابق: «ولا يجازي الخ».
(3) ما بين هلالين ساقط من تشريف الأيام والعصور.
(4) المزمّل / 20.
(5) في الطبعة الأميرية بثبوت النون. وما أثبتناه موافق لما في «تشريف الأيام» وابن الفرات.
(6) في الطبعة الأميرية بثبوت النون. وما أثبتناه موافق لما في «تشريف الأيام» وابن الفرات.
(7) في الطبعة الأميرية بثبوت النون. وما أثبتناه موافق لما في «تشريف الأيام» وابن الفرات.
(8) في الطبعة الأميرية بثبوت النون. وما أثبتناه موافق لما في «تشريف الأيام» وابن الفرات.(13/340)
الخلائق ليفوزوا من إحسانه بكلّ نضارة وبكلّ نظرة، ويغتنموا (1) أوقات الرّبح فإنّها قد أدنت قطافها، وبعثت بهذه الوعود الصادقة إليهم تحقّق لهم حسن التّأميل، وتثبت عندهم أن الخطّ الشريف [أعلاه الله] (2) حاكم بأمر الله على ما قالته الأقلام ونعم الوكيل.
قلت: هذا المكتوب وإن لم يكن صريح أمان فإنه في معنى الأمان، كما أشار إليه ابن المكرّم وفيه غرابتان: إحداهما الافتتاح «برسم»، والثانية الكتابة به إلى الآفاق البعيدة والأقطار النائية، إشارة إلى امتداد لسان قلم هذه المملكة إليهم.
الضرب الثاني (من الأمانات التي تكتب لأهل الإسلام ما عليه مصطلح زماننا وهي صنفان)
الصنف الأوّل (ما يكتب من الأبواب السلطانية)
والنظر فيه من جهة قطع الورق، ومن جهة الطّرّة، ومن جهة ما يكتب في المتن.
فأما قطع الورق فقد قال في «التثقيف»: إنّ الأمان لا يكتب إلا في قطع العادة.
قلت: والذي يتّجه أن تكون كتابة أمان كلّ أحد في نظير قطع ورق المكاتبة إليه. فإن كان ممن تكتب المكاتبة إليه في قطع العادة، كتب له في قطع العادة.
وإن كان في قطع فوق ذلك، كتب فيه.
وأما الطّرّة فقد قال في «التثقيف»: إنه يكتب في أعلى الدّرج، في الوسط، الاسم الشّريف، كما في المكاتبات وغيرها، ثم يكتب من أوّل عرض الورق إلى آخره كما في سائر الطّرر ما صورته:
__________
(1) في الطبعة الأميرية بثبوت النون. وما أثبتناه موافق لما في «تشريف الأيام» وابن الفرات.
(2) الزيادة من «تشريف الأيام» ص 237.(13/341)
«أمان شريف لفلان بن فلان الفلانيّ بأن يحضر إلى الأبواب الشريفة، أو إلى بلده أو مكانه، أو نحو ذلك آمنا على نفسه وأهله وماله، لا يصيبه سوء، ولا يناله ضيم، ولا يمسّه أذى، على ما شرح فيه».
قلت: والعلامة في الأمان الاسم والبياض بعد الطّرّة على ما في المكاتبات إما وصلان أو ثلاثة، بحسب ما تقتضيه رتبة صاحب الأمان، وبحسب ما يقتضيه الحال: من مداراة من يكتب له الأمان: لخوف استشراء شرّه وما يخالف ذلك.
وأما متن الأمان: فإنّه تكتب البسملة في أوّل الوصل الثالث أو الرابع، بهامش من الجانب الأيمن كما في المكاتبات، ثم يكتب سطر من الأمان تحت البسملة على سمتها، ويخلّى موضع العلامة بياضا كما في المكاتبات، ثم يكتب السّطر الثاني وما يليه على نسق المكاتبات.
قال في «التعريف»: ويجمع المقاصد في ذلك أن يكتب بعد البسملة:
«هذا أمان الله تعالى وأمان نبيّه محمد [نبيّ الرحمة] (1) صلّى الله عليه وسلم وأماننا الشّريف، لفلان بن فلان الفلانيّ [ويذكر أشهر أسمائه وتعريفه] (2)، على نفسه وأهله وماله، وجميع أصحابه وأتباعه وكلّ ما يتعلق به: من قليل وكثير، وجليل وحقير أمانا لا يبقى معه خوف ولا جزع في أوّل أمره ولا آخره، ولا عاجله ولا آجله، يخصّ ويعمّ، وتصان به النّفس والأهل والولد والمال وكلّ ذات اليد.
فليحضر هو وبنوه، وأهله وذووه وأقربوه، وغلمانه وكلّ حاشيته، وجميع ما يملكه من دانيته وقاصيته، وليصل بهم إلينا، ويفد على حضرتنا في ذمام الله وكلاءته وضمانة هذا الأمان، له ذمّة الله وذمة رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن لا يناله مكروه منّا، ولا من أحد من قبلنا، ولا يتعرّض إليه بسوء ولا أذى، ولا يرنّق له مورد بقذى وله منّا
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 164، 165.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 164، 165.(13/342)
الإحسان، والصّفاء بالقلب واللّسان، والرعاية التي تؤمّن سربه [وتهنّيء شربه] (1)
ويطمئنّ [بها] (2) خاطره، وترفرف عليه كالسّحاب لا يناله إلا ماطره.
فليحضر واثقا بالله تعالى وبهذا الأمان الشريف وقد تلفّظنا له به ليزداد وثوقا، ولا يجد بعده سوء الظّنّ إلى قلبه طريقا. وسبيل كلّ واقف عليه إكرامه في حال حضوره، واجراؤه على أحسن ما عهد من أموره وليكن له ولكلّ من يحضر معه أوفر نصيب من الإكرام، وتبليغ قصارى القصد ونهاية المرام والاعتماد على الخطّ الشريف أعلاه».
وذكر في «التثقيف» بصيغة أخرى أخصر من هذه وهي:
«هذا أمان الله عزّ وجلّ، وأمان رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأماننا الشريف لفلان بن فلان الفلانيّ، بأن يحضر إلى الأبواب الشريفة آمنا على نفسه وأهله وماله، لا يصيبه سوء، ولا يناله ضيم، ولا يمسّه أذى. فليثق بالله وبهذا الأمان الشريف ويحضر إلى الأبواب الشريفة، آمنا مطمئنّا، لا يصيبه سوء، ولا يناله أذى في نفس ولا مال ولا أهل ولا ولد. والاعتماد على الخطّ الشريف أعلاه، والله الموفّق بمنه وكرمه».
وزاد فقال: ثم التاريخ والمستند والحسبلة. ولا يكتب فيه: «إن شاء الله تعالى» لأنها تقتضي الاستثناء فيما وقع من الأمان المذكور.
ثم قال: هذا هو الأمر المستقرّ من ابتداء الحال وإلى آخر وقت، لم يكتب خلاف ذلك. غير أنّ القاضي شهاب الدّين ذكر النّسخة المذكورة بزيادات حسنة لا بأس بها، لكنّني لم أر أنه كتب بها في وقت من الأوقات. ثم قال: وهي في غاية الحسن، وكان الأولى أن لا يكتب إلّا هي.
قلت: وقد رأيت عدّة نسخ أمانات فيها زيادات ونقص عمّا ذكره في «التعريف» و «التثقيف». والتحقيق ما ذكره صاحب «موادّ البيان»: وهو أن مقاصد
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف».
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف».(13/343)
الأمان تختلف باختلاف الأحوال، والذي يضبط إنّما هو صورة الأمان، أما المقاصد فإن الكاتب يدخل في كلّ أمان ما يليق به مما يناسب الحال.
وهذه نسخة أمان، كتب بها لأسد الدّين رميثة (1) أمير مكّة، في سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، من إنشاء القاضي تاج الدين بن البار نباري وهي:
هذا أمان الله سبحانه وتعالى، وأمان رسوله سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأماننا الشريف، للمجلس العالي الأسديّ رميثة ابن الشريف نجم الدّين محمد بن أبي نميّ: بأن يحضر إلى خدمة السّنجق (2) الشريف المجهّز صحبة الجناب السّيفيّ أيتمش الناصريّ، آمنا على نفسه وماله وأهله وولده وما يتعلّق به، لا يخشى حلول سطوة قاصمة، ولا يخاف مؤاخذة حاسمة، ولا يتوقّع خديعة ولا مكرا، ولا يجد سوءا ولا ضرّا، ولا يستشعر مهابة ولا وجلا، ولا يرهب بأسا وكيف يرهب من أحسن عملا؟ بل يحضر إلى خدمة السّنجق آمنا على نفسه وماله وآله، مطمئنّا واثقا بالله وبرسوله وبهذا الأمان الشريف المؤكّد الأسباب، المبيّض للوجوه الكريمة الأحساب وكلّ ما يخطر بباله أنّا نؤاخذه به فهو مغفور، ولله عاقبة الأمور وله منّا الإقبال والتّأمير والتّقديم، وقد صفحنا الصّفح الجميل: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلََّاقُ الْعَلِيمُ} (3)
فليثق بهذا الأمان الشّريف ولا تذهب به الظّنون، ولا يصغ إلى الذين لا
__________
(1) هو رميثة بن أبي نميّ. ولي مكة مشتركا مع أخيه حميضة، ثم اختلفا فاقتتلا ونشبت بينهما وقائع.
واستقبل بالأمر سنة 715هـ.، وقبض عليه سنة 718هـ فهرب وأمسك فسجن إلى سنة 720هـ.
وتجددت الحرب بينه وبين أخيه سنة 731هـ وكثر الضرر منهما، وقيل إنه أظهر مذهب الزيدية، وأنكر عليه الملك الناصر ذلك فأرسل إليه عسكرا، ثم أمّنه فرجع إلى مكة ولبس الخلعة. وانفرد بالأمر من سنة 738هـ إلى 745هـ. توفي سنة 746هـ. (الأعلام: 3/ 33وشذرات الذهب:
6/ 149).
(2) «السنجق» لفظ تركي كان يطلق أصلا على الرمح، ثم أطلق على الراية التي تربط به. وكانت السناجق تحمل بين يدي السلطان في مواكبه. (الأعلاق الخطيرة: 3/ 916حاشية).
(3) الحجر / 86.(13/344)
يعلمون، ولا يستشر في هذا الأمر غير نفسه، ولا يظنّ إلّا خيرا فيومه عندنا ناسخ لأمسه وقد قال صلّى الله عليه وسلّم [فيما يرويه عن ربه] (1): «أنا عند ظنّ عبدي بي فليظنّ بي خيرا».
فتمسّك بعروة هذا الأمان فإنها وثقى، واعمل عمل من لا يضلّ ولا يشقى ونحن قد أمّنّاك فلا تخف، ورعينا لك الطاعة والشّرف عفا الله عما سلف ومن أمّنّاه فقد فاز فطب نفسا وقرّ عينا فأنت أمير الحجاز.
قلت: هذا الأمان إنشاء مبتكر مطابق للواقع، وهكذا يجب أن يكون كلّ أمان يكتب.
وهذه نسخة أمان كتب بها عن السلطان الملك الظاهر «برقوق» عند محاصرته لدمشق بعد خروجه من الكرك بعد خلعه من السّلطنة (2): أمّن فيها أهل دمشق خلا الشيخ شهاب الدّين بن القرشيّ وجردمر (3) الطاربي، كتب في ليلة
__________
(1) الزيادة لازمة لصحة السياق.
(2) كان قد ثار عليه يلبغا الناصري نائب حلب، فانهزم الظاهر برقوق وفرّ من قلعة الجبل في الخامس من جمادى الأولى سنة 791هـ. ثم قبض يلبغا على برقوق وسجنه في الكرك. بعد ذلك حصلت معارك بين يلبغا الناصري والأمير منطاش انتهت باستلام منطاش للأمور. في هذه الأثناء تمكن برقوق من الخروج من الكرك، فخرج وانضم إليه مماليكه وكثير من العرب، وكانت له وقعات مع أهل الشام انتهت برجوعه إلى السلطنة مرة ثانية. وقد قتل منطاشا وأتى برأسه فعلقت على باب زويلة بالقاهرة.
(خطط المقريزي: 2/ 241والخطط التوفيقية: 1/ 112ونزهة النفوس والأبدان: 1/ 26).
(3) ورد في نزهة النفوس والأبدان «الأمير جنتمر أخو طاز والذي كان منطاش جعله نائب دمشق» أما الشيخ ابن القرشي فقال عنه إنه «القاضي شهاب الدين أحمد بن عمر بن القرشي قاضي القضاة بدمشق». قال: «وفي يوم الاثنين رابع شهر جمادى الأول تمثل الأمراء الذين أحضروا من الشام بين يدي السلطان وهم: ألابغا العثماني الدوادار حاجب دمشق، والأمير جنتمر أخو طاز والذي كان منطاش جعله نائب دمشق، وشهاب الدين أحمد بن عمر القرشي قاضي القضاة بدمشق
فلما تأملهم السلطان صاريوبخهم ويقرعهم ويبكتهم وطوّل معهم الحديث، وكانوا قد أفحشوا في مقاتلته لما حاصر الشام حتى إن القاضي ابن القرشي كان يصعد على أعلى سور دمشق وينادي أهلها بأعلا صوته: إن محاربة برقوق أوجب عليكم من صلاة الجمعة وآخر الأمر سلّم برقوق ابن مشكور ناظر جيش دمشق إلى شاد الدواوين فعاقبه بالعصر والضرب، فالتزم أن يحمل سبعين ألف درهم من الفضة فافرج عنه، ورسم بسجن الباقين فسجنوا». (أنظر نزهة النفوس: 1/ 324 325.).(13/345)
يسفر صباحها عن يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام، سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وهي:
هذا أمان الله سبحانه وتعالى، وأمان نبيّه سيدنا محمد نبيّ الرّحمة، وشفيع الأمّة، وكاشف الغمّة، صلّى الله عليه وسلّم، وأماننا لكلّ واقف عليه من أهل مدينة دمشق المحروسة: من القضاة، والمفتين، والفقهاء، وطالبي العلم الشّريف، والفقراء والمساكين، والأمراء، والأجناد، والتّجّار، والمتسبّبين، والشّيوخ، والكهول والشّبّان، والكبار والصّغار، والذّكور والإناث، والخاصّ والعامّ من المسلمين وأهل الذمة، إلا جردمر الطاربي، وأحمد بن القرشيّ على أنفسهم، وأموالهم، وأولادهم، وأهلهم، وحرمهم، وأصحابهم، وأتباعهم، وغلمانهم، وقبائلهم، وعشائرهم، ودوابّهم، وما يملكونه من ناطق وصامت، وكلّ ما يتعلق بهم: من كثير وقليل، وجليل وحقير، أمان لا يبقى معه خوف ولا جزع، في أوّل أمره ولا في آخره، ولا في عاجله ولا في آجله، ولا ضرّ، ولا مكر، ولا غدر، ولا خديعة، يخصّ ويعم، وتصان به النفس والمال، والولد والأهل، وكلّ ذات يد.
فليحضروا بينيهم، وأهلهم وذويهم، وأقربائهم، وغلمانهم، وحاشيتهم، وجميع ما يملكونه من ناطق وصامت، ودان وقاص، وليصلوا بهم إلينا، وليفدوا بهم على حضرتنا الشريفة في ذمام الله تعالى وكلاءته، وضمان هذا الأمان. لهم ذمّة الله تعالى وذمّة رسوله سيدنا محمد نبيّ الرّحمة، صلّى الله عليه وسلّم أن لا ينالهم مكروه منّا، ولا من أحد من قبلنا، ولا يتعرّض إليهم بسوء ولا أذى، ولا يرنّق لهم مورد بقذى ولهم منّا الإحسان، والصّفاء بالقلب واللّسان، والرعاية التي نؤمّن بها
سربهم، ونهنّيء بها شربهم، ويطمئنّ بها خاطرهم، وترفرف عليهم كالسّحاب لا ينالهم إلا ماطرهم.(13/346)
فليحضروا بينيهم، وأهلهم وذويهم، وأقربائهم، وغلمانهم، وحاشيتهم، وجميع ما يملكونه من ناطق وصامت، ودان وقاص، وليصلوا بهم إلينا، وليفدوا بهم على حضرتنا الشريفة في ذمام الله تعالى وكلاءته، وضمان هذا الأمان. لهم ذمّة الله تعالى وذمّة رسوله سيدنا محمد نبيّ الرّحمة، صلّى الله عليه وسلّم أن لا ينالهم مكروه منّا، ولا من أحد من قبلنا، ولا يتعرّض إليهم بسوء ولا أذى، ولا يرنّق لهم مورد بقذى ولهم منّا الإحسان، والصّفاء بالقلب واللّسان، والرعاية التي نؤمّن بها
سربهم، ونهنّيء بها شربهم، ويطمئنّ بها خاطرهم، وترفرف عليهم كالسّحاب لا ينالهم إلا ماطرهم.
فليحضروا واثقين بالله تعالى وبرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وبهذا الأمان الشريف. وقد تلطّفنا بهم ليزدادوا وثوقا، ولا يجد سوء الظّنّ بعد ذلك إلى قلوبهم طريقا. وسبيل كلّ واقف عليه إكرامهم في حال حضروهم، وإجراؤهم على أكمل ما عهدوه من أمورهم وليكن لهم ولكلّ من يحضر معهم وما يحضر أوفر نصيب من الإكرام، والقبول والاحترام، وتبليغ قصارى القصد ونهاية المرام، والصّفح والرّضا، والعفو عما مضى وليتمسّكوا بعروة هذا الأمان المؤكّد الأسباب، الفاتح إلى الخيرات كلّ باب، وليثقوا بعروته الوثقى، فإنّه من تمسّك بها لا يضلّ ولا يشقى، وليشرحوا بالصّفح عما مضى صدرا، ولا يخشوا ضيما ولا ضرّا، ولا يعرض كلّ منهم على نفسه شيئا مما جنى واقترف، فقد عفا الله عما سلف.
ونحن نعرّفهم أن هذا أماننا بعد صبرنا عليهم نيّفا وأربعين يوما مع قدرتنا على دوس ديارهم وتخريبها، واستئصال شأفتهم، ولكنّا منعنا من ذلك الكتاب العزيز والسنة الشريفة، فإنّنا مستمسكون بهما، وخوفنا من الله تعالى ومن نبيّه سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم واليوم الآخر {يَوْمَ لََا يَنْفَعُ مََالٌ وَلََا بَنُونَ إِلََّا مَنْ أَتَى اللََّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (1) وهم يغالطون أنفسهم ويظنون أن تأخيرنا عنهم عن عجز منّا.
فليتلقّوا هذا الأمان الشريف بقلبهم وقالبهم، وليرجعوا إلى الله تعالى، وليصونوا دماءهم وأموالهم وأولادهم، وحرمهم وديارهم، فقد رأوا ما حلّ بهم من نكثهم وبغيهم. قال الله عزّ وجلّ: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمََا يَنْكُثُ عَلى ََ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى ََ بِمََا عََاهَدَ عَلَيْهُ اللََّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (2)، وقال عزّ من قائل: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذََا عََاهَدُوا} (3) في معرض المدح لمن وفي بعهده، وقال جلّ وعلا:
__________
(1) الشعراء / 88.
(2) الفتح / 10.
(3) البقرة / 177.(13/347)
{ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللََّهُ}، و (1)، وقال تبارك وتعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنَّمََا بَغْيُكُمْ عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ} (2)، وقال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللََّهُ وَاللََّهُ خَيْرُ الْمََاكِرِينَ} (3)، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: المكر والبغي والخديعة»، وقال عليه السّلام: «المرء مجزيّ بعمله»، وقال عليه السّلام:
«الجزاء من جنس العمل»، وقال أهل التصوّف: (الطّريق تأخذ حقّها)، وقال أهل الحكمة: (الطّبيعة كافية)، وقال الشاعر:
قضى الله أنّ البغي يصرع أهله ... وأنّ على الباغي تدور الدّوائر!
ثم إنّهم يعلّلون آمالهم بعسى ولعلّ، ويقولون: العسكر المصريّ. واصل إليهم نجدة لهم وهذا والله من أكبر حسراتنا أن تكون هذه الإشاعة صحيحة، وبهذا طمعت آمالنا، وصبرنا هذه المدّة الطّويلة، وتمنّينا حضوره ورجوناه، فإنّه بأجمعه مماليك أبوابنا الشريفة، وقد صارت الممالك الشريفة الإسلامية المحروسة في حوزتنا الشريفة، ودخل أهلها تحت طاعتنا المفترضة على كلّ مسلم يؤمن بالله تعالى وبنبيّه سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وباليوم الآخر: من حاضر وباد، وعربان وأكراد وتركمان، وقاص ودان وهم يتحققون ذلك ويكابرون في المحسوس ويتعلّلون بعسى ولعلّ، ويقولون: يا ليت، فيقال لهم: هيهات.
فليستدركوا الفارط قبل أن يعضّوا أيديهم ندما، وتجري أعينهم بدل الدّموع دما وهذا منّا والله أمان ونصيحة في الدنيا والآخرة والله تعالى ربّ النّيّات، وعالم الخفيّات، يعلمون ذلك ويعتمدونه والله تعالى يوفّقهم فيما يبدئونه ويعيدونه والخطّ الشريف شرّفه الله تعالى وأعلاه، وصرّفه في الآفاق وأمضاه أعلاه، حجّة فيه.
__________
(1) الحج / 60.
(2) يونس / 23.
(3) الأنفال / 30.(13/348)
قلت: وهذا الأمان أوّله ملفّق من كلام «التعريف» وغيره، وآخر كلام سوقيّ مبتذل نازل، ليس فيه شيء من صناعة الكلام.
(تنبيه) من غرائب الأمانات ما حكاه محمد بن المكرّم في كتابه: «تذكرة اللّبيب» أن رسل صاحب اليمن وفدت على الأبواب السلطانية، في الدولة المنصورية «قلاوون» في شهر رمضان، سنة ثمانين وستمائة، وسألوا السلطان في كتب أمان لصاحب اليمن، وأن يكتب على صدره صورة أمان له ولأولاده، فكتب له ذلك وشملته علامة السلطان، وعلامة ولده وليّ عهده «الملك الصالح علي» وأعلمهم أنّ هذا ممّا لم تجربه عادة، وإنّما أجابهم إلى ذلك إكراما لمخدومهم، وموافقة لغرضه واقتراحه.
الصنف الثاني (من الأمانات الجاري عليها مصطلح كتّاب الزّمان، ما يكتب عن نوّاب الممالك الشامية)
وهو على نحو ما تقدّم ذكره مما يكتب عن الأبواب السلطانية، إلا أنه يزاد فيه: «وأمان مولانا السّلطان» وتذكر ألقابه المعروفة، ثم يؤتى على بقيّة الأمان، على الطريقة المتقدّمة، ويقال في طرّته: «أمان كريم». ويقال في آخره:
«والعلامة الكريمة» كما تقدّم في التواقيع.
وهذه نسخة أمان كتب به عن نائب السّلطنة بحلب في نيابة الأمير قشتمر (1)
المنصوريّ، في الدولة الأشرفية «شعبان بن حسين» لبعض من أراد تأمينه وهي:
هذا أمان الله سبحانه وتعالى، وأمان نبيّه سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأمان مولانا السلطان الأعظم، العالم، العادل، المجاهد، المرابط، المثاغر، المؤيّد،
__________
(1) هو قشتمر بن عبد الله المنصوري، سيف الدين، المتوفى سنة 779هـ. أما الدولة الأشرفية شعبان ابن حسين فقد استمرت من منتصف شعبان سنة 764هـ إلى سادس ذي القعدة سنة 778هـ.
(الخطط التوفيقية الجديدة: 1/ 108107والجوهر الثمين: 2/ 216).(13/349)
المالك، الملك الأشرف، ناصر الدّنيا والدّين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، قامع الكفرة والمشركين، قاهر الطّغاة والمعتدين، مؤمّن قلوب الخائفين والتائبين، ملك البحرين، صاحب القبلتين خادم الحرمين الشريفين، وارث الملك، سلطان العرب والعجم والتّرك، ملك الأرض، الحاكم في طولها والعرض، سيّد الملوك والسلاطين، قسيم أمير المؤمنين «شعبان» ابن الملك الأمجد جمال الدّنيا والدّين «حسين» ابن مولانا السلطان الشّهيد الملك الناصر، ناصر الدّنيا والدّين، سلطان الإسلام والمسلمين «محمد» ابن مولانا السلطان الشهيد الملك المنصور «قلاوون» خلّد الله ملكه، وجعل الأرض بأسرها ملكه إلى فلان بالحضور إلى الطاعة الشريفة: طيّب القلب، منبسط الأمل، آمنا على نفسه وماله وأولاده، وجماعته وأصحابه ودوابّه، لا يخاف ضررا ولا مكرا، ولا خديعة ولا غدرا وله مزيد الإكرام والاحترام، والرعاية الوافرة الأقسام، والعفو والرّضا، والصفح عمّا مضى.
فليتمسّك بعروة هذا الأمان المؤكّد الأسباب، الفاتح إلى الخيرات كلّ باب، وليثق بعروته الوثقى، فإنّه من تمسّك بها لا يضلّ ولا يشقى وليشرح بالصّفح عما مضى صدرا، ولا يخش ضيما ولا ضرّا، ولا يعرض على نفسه شيئا مما جنى واقترف، فقد عفا الله عمّا سلف والخطّ الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه حجّة فيه.
قلت: ومما ينبغي التنبيه عليه في الأمانات، أنه إن احتاج الأمر في الأمان إلى الأيمان، أتى بها بحسب ما يقتضيه حال الحالف والمحلوف له، على ما تقدّم ذكره في المقالة الثامنة.(13/350)
الباب الثاني من المقالة التاسعة (في الدّفن)
والمراد به دفن ذنوب من يكتب له حتّى لم تر بعد وفيه فصلان:
الفصل الأوّل في أصله وكونه مأخوذا عن العرب
والأصل فيه ما ذكره في «التعريف» أن العرب إذا جنى أحد منهم جناية، وأراد المجنيّ عليه العفو عما وقع، فالتّعويل في الصّفح فيها على الدّفن. قال في «التعريف»: وطريقتهم فيه أن تجتمع أكابر قبيلة الذي يدفن بحضور رجال يثق بهم المدفون له، ويقوم منهم رجل، فيقول للمجنيّ عليه: نريد منك الدّفن لفلان، وهو مقرّ بما أهاجك عليه ويعدّد ذنوبه التي أخذ بها ولا يبقي منها بقيّة ويقرّ الذي يدفن ذلك القائل على أن هذا جملة ما نقمه على المدفون له، ثم يحفر بيده حفيرة في الأرض، ويقول: قد ألقيت في هذه الحفيرة ذنوب فلان التي نقمتها عليه، ودفنتها له دفني لهذه الحفيرة ثم يردّ تراب الحفيرة إليها حتّى يدفنها بيده.
قال: وهو كثير متداول بين العرب، ولا يطمئنّ خاطر المذنب منهم إلا به إلا أنه لم تجر للعرب فيه عادة بكتابة، بل يكتفى بذلك الفعل بمحضر كبار الفريقين ثم لو كانت دماء أو قتلى عفّيت وعفت بها آثار الطلائب.(13/351)
الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة التاسعة (فيما يكتب في الدّفن عن الملوك)
قال في «التعريف»: صورته أن يكتب بعد البسملة: «هذا دفن لذنوب فلان، من الان لا تذكر ولا يطالب بها، ولا يؤاخذ بسببها، اقتضته المراحم الشّريفة السّلطانية الملكيّة الفلانية، ضاعف الله تعالى حسناتها وإحسانها: وهي ما بدا من الذنوب لفلان من الجرائم التي ارتكبها، والعظائم التي احتقبها، وحصل العفو الشّريف عن زللها، وقابل الإحسان العميم بالتغمّد سوء عملها وهي: كذا وكذا (وتذكر) دفنا لم تبق معه مؤاخذة بسبب من الأسباب، ومات به الحقد وهيل عليه التّراب، ولم يبق معه لمطالب بشيء منه مطمع، ولا في إحيائه رجاء وفي غير ما وارت الأرض فاطمع، وتصدّق بها سيّدنا ومولانا السلطان الأعظم (ويذكر ألقابه واسمه) تقبّل الله صدقته وعفا عنها، وقطع الرّجاء باليأس منها، وأبطل منها كلّ حقّ يطلب، وصفح منها عن كل ذنب كان [به] (1) يستذنب، ودفنها تحت قدمه، ونسيها في علم كرمه، وخلّاها نسيا منسيّا لا تذكر في خفارة ذممه، وجعله بها مقيما في أمن الله تعالى إلى أن يبعث الله تعالى خلقه، ويتقاضى كما يشاء حقّه، لا يتعقّب في هذا الأمان متعقّب، ولا ينتهي إلى أمد له نظر مترقّب، لا ينبش هذا الدّفين، ولا يوقف له على أثر في اليوم ولا بعد حين، ولا يخشى فيه صبر مصابر، ولا يقال فيه: إلّا وهبها كشيء لم يكن أو كنازح به الدّار أو من غيّبته المقابر. ورسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السّلطانيّ، الملكيّ
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 166.(13/352)
الفلانيّ أعلاه الله تعالى وشرّفه، وغفر به لكلّ مذنب ما أسلفه أن يكتب له هذا الكتاب بما عفي له عنه وحفر له ودفن، وأصبح بعمله غير مرتهن، ودفن له فيه دفن العرب، وقطع في التّذكّر له أرب كلّ [ذي] (1) أرب، ودرس في القبور الدّوارس، وغيّب مكانه فيما طمر في اللّيالي الدّوامس.
وسبيل كلّ واقف على هذا الكتاب وهو الحجّة على من وقف عليه، أو بلغه خبره، أو سمعه أو وضح له أثره أن يتناسى هذه الوقائع، ويتّخذها فيما تضمّنته الأرض من الودائع، ولا يذكر منها إلا ما اقتضاه حملنا الذي يؤمن معه التّلف، وعفونا الذي شمل وعفا الله عمّا سلف.
قال في «التثقيف»: ولم أكن رأيت شيئا من هذا ولا وجدته مسطورا إلا في كتابة «التعريف». قال: والذي أعتقده أنه لم يكتب به قطّ، وإنما الرجل بسعة فضله وفضيلته، أراد أن يرتّب هذه النّسخة لاحتمال أن يؤمر بكتابة شيء من هذا المعنى، فلا يهتدي الكاتب إلى ما يكتبه. ثم قال: على أنه كرّر فيها ذكر السلطان مرّتين، والثالثة قال: رسم بالأمر الشريف، فهي على غير نحو من النّظام المعهود والمصطلح المعروف، بحكم أن فيها أيضا توسّعا كثيرا في العبارة والألفاظ التي تؤدّي كلّها معنى واحدا. قال: وكان الأولى بنا اختصار ذلك وعدم كتابته، لكنّنا أرادنا التنبيه على ما أشار إليه، ليكون هذا الكتاب مستوعبا لجميع ما ذكر، ممّا يستعمل ومما لا يستعمل.
قلت: ما قاله في «التثقيف» كلام ساقط صادر عن غير تحقيق فإنّه لا يلزم من عدم اطّلاعه على شيء كتب في هذا المعنى ولا سطّر فيه أن لا يكون مسطورا لأحد في الجملة. وماذا عسى يبلغ اطّلاع المطّلع فضلا عن غيره؟ وإن كان صاحب «التعريف» هو الذي ابتكر ذلك، كما أشار إليه في «التثقيف» فنعمت السّجيّة الاتية بمثل ذلك مما لم يسبق إليه. وأما إنكاره تكرير ذكر السلطان فيها،
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.(13/353)
فلا وجه له بعد انتظام الكلام وحسن ما أتى به في «التعريف» سواء كان فيه مبتكرا أو متّبعا أو منتزعا له من الأصل السابق.
وأحسن ما يكتب في ذلك في تأمين العربان: لأنه إنما أخذ عنهم فإذا صدر إليهم شيء يعرفونه ويجري على قواعدهم التي يألفونها، تلقّوه بالقبول، واطمأنّت إليه قلوبهم، ووقع منهم أجلّ موقع وبالله المستعان.(13/354)
الباب الثالث من المقالة التاسعة (فيما يكتب في عقد الذّمّة، وما يتفرّع على ذلك وفيه فصلان)
الفصل الأوّل في الأصول التي يرجع إليها هذا العقد وفيه طرفان
الطرف الأوّل (في بيان رتبة هذا العقد، ومعناه، وأصله من الكتاب والسّنّة، وما ينخرط في سلك ذلك)
أما رتبته، فإنه دون الأمان بالنّسبة إلى الإمام وذلك أنه إنما يقرّره بعوض يأخذه منهم، بخلاف الأمان.
وأما معناه، فقد قال الغزاليّ في «الوسيط» (1): إنه عبارة عن التزام تقريرهم في ديارنا، وحمايتهم، والذّبّ عنهم ببذل الجزية أو الإسلام من جهتهم.
وأما الأصل فيه: فمن الكتاب قوله تعالى: {قََاتِلُوا الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَلََا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلََا يُحَرِّمُونَ مََا حَرَّمَ اللََّهُ وَرَسُولُهُ وَلََا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ حَتََّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صََاغِرُونَ} (2) فجعل الجزية غاية ما يطلب منهم، وهو دليل تقريرهم بها.
__________
(1) «الوسيط» في الفروع، للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي الشافعي المتوفى سنة 505هـ.
(كشف الظنون: 2/ 2008).
(2) التوبة / 29.(13/355)
ومن السّنّة ما ورد «أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين وجّه معاذ بن جبل إلى اليمن. قال:
إنّك سترد على قوم معظمهم أهل كتاب فاعرض عليهم الإسلام، فإن امتنعوا فاعرض عليهم الجزية وخذ من كلّ حالم دينارا، فإن امتنعوا فاقتلهم» (1) فجعل القتل بعد الامتناع عن أداء الجزية يدلّ على تقريرهم بها أيضا.
وقد قرّر أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه نصارى الشّام بإيالتهم على شروط اشترطوها في كتاب كتبوا به إليه، مع زيادة زادها.
قال الإمام الحافظ جمال الدّين أبو صادق محمد، ابن الحافظ رشيد الدّين أبي الحسين يحيى، بن علي، بن عبد الله القرشيّ في كتابه المرسوم «بالزّبد المجموعة، في الحكايات والأشعار والأخبار المسموعة»: أخبرنا الشيخ الفقيه أبو محمد عبد العزيز بن عبد الوهّاب بن إسماعيل الزّهريّ المالكيّ وغير واحد من شيوخنا إجازة، قالوا: أنبأنا أبو الطّاهر إسماعيل بن مكّيّ بن إسماعيل الزّهريّ، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الوليد الفهريّ الطّرطوشيّ قراءة عليه، قال: أخبرنا قاضي القضاة الدامغانيّ، أخبرنا محمد، أخبرنا أبو محمد عبد الرّحمن بن عمر بن محمد التّجيبيّ فيما قرأت عليه، أخبرنا أبو سعيد أحمد بن عمر بن زياد الأعرابي بمكّة سنة أربعين وثلاثمائة، أخبرنا محمد بن إسحاق أبو العبّاس الصّفّار، أخبرنا الرّبيع بن تغلب أبو الفضل، أخبرنا يحيى بن عقبة بن أبي العيزار عن سفيان الثّوريّ، والوليد بن روح، والسّريّ بن مصرّف، يذكرون عن طلحة بن مصرف، عن مسروق، عن عبد الرّحمن بن غنم (2)، قال: كتبت لعمر بن الخطّاب حين صالح نصارى الشّام:
__________
(1) لهذا الكتاب نصوص متعددة تختلف فيما بينها بقليل أو كثير. (انظر في ذلك: فتوح البلدان: 83 87868584والوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة: 213212، وجمهرة رسائل العرب: 1/ 66).
(2) بهذا الضبط في الطبعة الأميرية. وفي الأعلام وفتوح البلدان بالغين المعجمة المفتوحة.(13/356)
«بسم الله الرحمن الرحيم» «هذا كتاب (1) لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذراريّنا وأموالنا وأهل ملّتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها قلّيّة (2) ولا صومعة راهب، ولا نجدّد ما خرب منها: ديرا ولا كنيسة، ولا نخفي ما كان منها في خطط (3)
المسلمين، ولا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم، ولا نؤوي في منازلنا ولا كنائسنا جاسوسا، ولا نكتم غشّا للمسلمين، ولا نعلّم أولادنا القرآن، ولا نظهر شركا، ولا ندعو إليه أحدا، ولا نمنع من ذوي قرابتنا الدّخول في الإسلام إن أرادوه، وأن نوقّر المسلمين ونقوم لهم في مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، ولا نتشبّه بهم في شيء من لباسهم: في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا نتكلّم بكلامهم، ولا نتكنّى بكناهم، ولا نركب السّروج، ولا نتقلّد السّيوف، ولا نتّخذ شيئا من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا تنقش على خواتيمنا بالعربيّة، ولا نبيع الخمور وأن نجزّ مقادم رؤوسنا، وأن نلزم ديننا حيث ما كنّا، وأن نشدّ زنانيرنا (4) على أوساطنا، وأن لا نظهر الصّليب على كنائسنا، ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلّا ضربا خفيفا، ولا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا ولا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج سعانين ولا باعوثا (5)، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا،
__________
(1) نص هذا العهد هو نفس نص عهد أبي عبيدة بن الجراح لأهل دمشق لما افتتحها خالد بن الوليد.
(انظر جمهرة رسائل العرب: 1/ 151).
(2) في جمهرة رسائل العرب «قلّاية». وفي الهامش أن القلاية من بيوت عبادات النصارى كالصومعة.
وفي لسان العرب: القليّة (بكسر اللام المخففة وفتح الياء المشددة) كالصومعة. ونقل عن ابن الأثير، وفي حديث عمر لما صالح نصارى الشام، أنه قال: كذا وردت، واسمها عند النصارى القلّاية، وهي تعريب «كلاذة».
(3) الخطط جمع خطة (بالكسر): وهي الأرض التي يختطها الرجل لنفسه.
(4) وهو من قبيل لبس الغيار، أي العلامة التي تميز أهل الذمة من يهود ونصارى.
(5) الباعوث عند النصارى كالاستسقاء عندنا وهو لفظ سرياني. والسعانين: عيد لهم قبل عيدهم الكبير بأسبوع وهو سرياني أيضا. (انظر لسان العرب).(13/357)
ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتّخذ من الرّقيق ما يجري عليه سهام المسلمين، ولا نطّلع عليهم في منازلهم».
قال عبد الرحمن: فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه:
«ولا نضرب أحدا من المسلمين. شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملّتنا، وقبلنا عليه الأمان. فإن نحن خالفنا عن شيء مما شرطناه لكم وضمنّاه على أنفسنا فلا ذمّة لنا، وقد حلّ لكم منّا ما يحلّ لأهل (1) المعاندة والشّقاق».
وفي رواية له من طريق أخرى «أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلّاية ولا صومعة راهب».
وفيها: «وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد في ليل ولا نهار، وأن نوسّع أبوابها للمارّة وابن السّبيل».
وفيها: «وأن ننزل من مرّ بنا من المسلمين ثلاثة أيّام نطعمه».
وفيها: «وأن لا نظهر صليبا أو نجسا في شيء من طرف المسلمين وأسواقهم».
وفيها: «وأن نرشد المسلمين ولا نطّلع عليهم في منازلهم».
قال أبو صادق المقدّم ذكره: ومما ذكره أهل التاريخ أن الحاكم الفاطميّ أمر اليهود والنّصارى إلا الجبابرة بلبس العمائم السّود، وأن يحمل النّصارى في أعناقهم من الصّلبان ما يكون طوله ذراعا ووزنه خمسة أرطال، وأن تحمل اليهود في أعناقهم قرامي الخشب على وزن صلبان النّصارى، وأن لا يركبوا شيئا من المراكب المحلّاة، وأن تكون ركبهم من الخشب، وأن لا يستخدموا أحدا من المسلمين، ولا يركبوا حمارا لمكار مسلم، ولا سفينة نوتيّها مسلم، وأن يكون في أعناق النصارى إذا دخلوا الحمّام الصّلبان، وفي أعناق اليهود الجلاجل:
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية. وصوابه «ما يحلّ من أهل الخ».(13/358)
ليتميّزوا بها من المسلمين، وأفرد حمامات اليهود والنصارى عن حمامات المسلمين ونهوا عن الاجتماع مع المسلمين في الحمّامات، وخطّ على حمامات النّصارى صور الصّلبان، وعلى حمّامات اليهود صور القرامي (1)
قال: وذلك بعد الأربعمائة. ثم قال: ولقد أحسن فيما فعل بهم، عفا الله عنّا وعنه، ورزقنا من ينظر في أمورنا وأمورهم بالمصلحة.
الطرف الثاني (في ذكر ما يحتاج الكاتب إلى معرفته في عقد الذّمّة)
واعلم أنّ ما يحتاج الكاتب إليه من ذلك يرجع إلى ثمانية أمور:
الأمر الأوّل فيمن يجوز أن يتولّى عقد الذّمة من المسلمين
ويختصّ ذلك بالإمام أو نائبه في عقدها وفي آحاد الناس خلاف، والأرجح أنه لا يصحّ منه لأنه من الأمور الكلّية، فيحتاج إلى نظر واجتهاد.
الأمر الثاني معرفة من تعقد له الذّمة
. ويشترط في المعقود له: التّكليف والذّكورة والحرّية فلا تعقد لصبيّ ولا مجنون ولا امرأة ولا عبد، بل يكونون تبعا، حتّى لا تجب على أحد منهم الجزية، وفيمن ليس أهلا للقتال: كالشّيخ الكبير والزّمن (2) خلاف، والأصحّ صحّة عقدها له. ويعتبر في المعقود له أيضا أن يكون زاعم التّمسّك بكتاب: كاليهوديّ يزعم تمسّكه بالتّوراة، والنّصرانيّ يزعم تمسّكه بالتّوراة والإنجيل جميعا وفي المتمسّك بغير التّوراة والإنجيل: كصحف إبراهيم
__________
(1) ونقل القلقشندي مراسم سلطانية صدرت عن السلطان الملك الصالح سنة 754هـ تتعلق باليهود والنصارى مشابهة لما ورد أعلاه. قال: «بأن اليهود والنصارى لا يتحدثون في ديوان من دواوين السلطان ولا دواوين الأمراء، وأن لا يكرموا في المجالس، وأن تكون عمائمهم عشرة أذرع بغير زيادة، وأن يلبسوا الفراجي الزرق، ويكون ركوبهم عرضا، وأن يكون قيمة كل حمار من مراكبهم دون مائة درهم، وإذا مرّ أحد منهم بمسلم جالس نزل وأظهر المسكنة، وأن لا يدخل النصارى الحمام إلا بصليب وطوق في عنقه، وأن لا يدخل نساؤهم الحمامات مع المسلمات، وأن يكون خفّاها لونين، وأن يكون إزار النصرانية أزرق، وإزار اليهودية أصفر» (مآثر الإنافة: 2/ 158).
(2) أي الذي فيه مرض مزمن يقعده عن القتال ويمنعه من العمل.(13/359)
وزبور داود خلاف، والأصحّ جواز عقدها له. وكذلك المجوس، لقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب». والسّامرة إن وافقت أصولهم أصول اليهود، عقد لهم وإلّا فلا. وكذلك الصّابئة إن وافقت أصولهم أصول النّصارى، ولا يعقد لزنديق، ولا عابد وثن، ولا من يعبد الملائكة والكواكب. ثم إذا كملت فيه شروط العقد فلا بدّ من قبوله العقد. ولو قال: قرّرني بكذا فقال: قرّرتك، صحّ. ولو طلبها طالب من الإمام وجبت إجابته.
الأمر الثالث معرفة صيغة العقد
: وهي ما يدل على معنى التّقرير من الإمام أو نائبه، بأن يقول: أقررتكم أو أذنت لكم في الإقامة في دارنا على أن تبذلوا كذا وكذا وتنقادوا لحكم الإسلام.
الأمر الرابع المدّة التي يعقد عليها
. ويعتبر فيها أن تكون مطلقة بأن لا يقيّدها بانتهاء، أو بما شاء المعقود له من المدّة. ولا تجوز إضافة ذلك إلى مشيئة الإمام، لأن المقصود من عقدها الدّوام. وقوله صلّى الله عليه وسلّم «أقرّكم ما أقرّكم الله» إنما ورد في المهادنة لا في عقد الذّمّة.
الأمر الخامس معرفة المكان الذي يقرّون فيه
وهو ما عدا الحجاز، فلا يقرّون في شيء من بلاد الحجاز: وهي مكّة، والمدينة، واليمامة، ومخاليفها يعني قراها: كالطّائف بالنّسبة إلى مكّة، وخيبر بالنّسبة إلى المدينة، ونحو ذلك.
وسواء في ذلك القرى والطّرق المتخلّلة بينها. ويمنعون من الإقامة في بحر الحجاز، بخلاف ركوبه للسفر. وليس لهم دخول حرم مكّة لإقامة ولا غيرها، إذ يقول تعالى: {فَلََا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرََامَ بَعْدَ عََامِهِمْ هََذََا} (1) فلو تعدّى أحد منهم بالدخول ومات ودفن في الحرم، نبش وأخرج منه ما لم يتقطّع، فإن تقطّع ترك. وقيل: تجمع عظامه وتخرج وعليه يدلّ نصّ الشافعيّ رضي الله عنه في «الأمّ».
__________
(1) التوبة / 28.(13/360)
الأمر السادس معرفة ما يلزم الإمام لهم بعد عقد الذّمّة
. إذا عقد لهم الإمام الذّمّة فينبغي أن يكتب أسماءهم ودينهم وحلاهم، وينصب على كلّ جمع عريفا: لمعرفة من أسلم منهم، ومن مات ومن بلغ من صبيانهم، ومن قدم عليهم أو سافر منهم، وإحضارهم لأداء الجزية، أو شكوى من تعدّى الذّمّيّ عليه من المسلمين ونحو ذلك وهذا العريف هو المعبّر عنه في زماننا بالديار المصرية بالحاشر. ثم يجب الكفّ عنهم بأن لا يتعرّض متعرّض لأنفسهم ولا أموالهم، ويضمن ما أتلف منها، ولا تراق خمورهم إلا أن يظهروها، ولا تتلف خنازيرهم إذا أخفوها، ولا يمنعون التّردّد إلى كنائسهم ولا ضمان على من دخل دار أحد منهم فأراق خمره وإن كان متعدّيا بالدّخول، وأوجب أبو حنيفة عليه الضّمان. ويجب ذبّ الكفّار عنهم ما داموا في دارنا، بخلاف ما إذا دخلوا دار الحرب.
الأمر السابع معرفة ما يطلب منهم إذا عقد لهم الذّمّة
. ثم المطلوب منهم ستّة أشياء:
منها: الجزية: وهي المال الذي يبذلونه في مقابلة تقريرهم بدار الإسلام.
قال الماورديّ في «الأحكام السلطانية»: وهي مأخوذة من الجزاء: إمّا بمعنى أنها جزاء لتقريرهم في بلادنا، وإما بمعنى المقابلة لهم على كفرهم (1)
وقد اختلف الأئمة في مقدارها: فذهب الشّافعيّ رضي الله عنه إلى أنها مقدّرة الأقلّ، وأقلّها دينار أو اثنا عشر درهما نقرة (2) في كلّ سنة على كلّ حالم، ولا يجوز الاقتصار على أقلّ من الدّينار وغير مقدّرة الأكثر، فتجوز الزيادة على الأقلّ برضا المعقود له. ويستحبّ للإمام المماكسة: بأن يزيد (3) عليهم بحسب ما
__________
(1) إذا كان في الزكاة معنى تعبّدي، فإن في الجزية معنى قانونيا دوليا خاصا يدخل حاليا فيما يسمى حقوق الدولة الخاصة. وقد لا حظ القرطبي ذلك في قوله: «الجزية وزنها (فعلة)، من جزى يجزي إذا كافأ عما أسدي إليه، فكأن أهل الكتاب أعطوها لقاء ما منحوا من الأمن». (النظم الإسلامية للشيخ صبحي الصالح: ص 363).
(2) وهي الدراهم التي كانت تغلب فيها نسبة الفضة على نسبة النحاس.
(3) المعنى الأصلي للمماكسة هو الانتقاص وليس الزيادة (انظر لسان العرب والمعجم الوسيط: مادة مكس).(13/361)
يراه. ونقل ابن الرّفعة عن بعض أصحاب الشافعيّ أنه إذا قدّر على العقد غاية لم يجز أن ينقص عنها. ويستحبّ أن يفاوت فيها: فيأخذ من الفقير دينارا، ومن المتوسّط دينارين، ومن الغنيّ أربعة دنانير.
وذهب أبو حنيفة إلى تصنيفهم ثلاثة أصناف: أغنياء، يؤخذ منهم ثمانية وأربعون درهما. وأوساط يؤخذ منهم أربعة وعشرون درهما. وفقراء، يؤخذ منهم اثنا عشر درهما (1) فجعلها مقدّرة الأقل والأكثر، ومنع من اجتهاد الإمام ورأيه فيها.
وذهب مالك إلى أنه لا يتقدّر أقلّها ولا أكثرها، بل هي موكولة إلى الاجتهاد في الطّرفين.
ومنها: الضّيافة: فيجوز للإمام بل يستحبّ أن يشترط على غير الفقير منهم ضيافة من يمرّ بهم من المسلمين زيادة على الجزية، ويعتبر ذكر مدّة الإقامة، وأن لا تزيد على ثلاثة أيام، وكذلك يعتبر ذكر عدد الضّيفان من فرسان ورجّالة، وقدر طعام كلّ واحد وأدمه، وقدر العليق وجنس كلّ منهما، وجنس المنزل.
ومنها: الانقياد لأحكامنا فلو ترافعوا إلينا أمضينا الحكم بينهم برضا خصم واحد منهم، ونحكم بينهم بأحكام الإسلام.
ومنها: أن لا يركبوا الخيل. ولهم أن يركبوا الحمير بالأكف عرضا: بأن يجعل الرّاكب رجليه من جانب واحد. وفي البغال النفيسة خلاف: ذهب الغزاليّ وغيره إلى المنع منها والراجح الجواز، إلا أنهم لا يتخذون اللّجم المحلّاة بالذّهب والفضّة (2)
__________
(1) شرط أن يكون الفقراء متكسبين ذوي حرفة، غير مرضى ولا عجز. (النظم الإسلامية: 364).
(2) راجع ص: 359، هامش، رقم (1).(13/362)
ومنها: أن ينزلوا المسلمين صدر المجلس وصدر الطريق. وإن حصل في الطّريق ضيق [ألجئوا] (1) إلى أضيقه. ويمنعون من حمل السّلاح.
ومنها: التمييز عن المسلمين في اللّباس: بأن يخيطوا في ثيابهم الظاهرة ما يخالف لونها، سواء في ذلك الرجال والنّساء. والأولى باليهود الأصفر، وبالنّصارى الأزرق والأكهب (وهو المعبّر عنه بالرّماديّ) وبالمجوسيّ الأسود والأحمر. ويشدّ الرجال منهم الزّنّار من غير الحرير في وسطه، وتشدّه المرأة تحت إزارها، وقيل فوقه. ويميّزون ملابسهم عن ملابس المسلمين، وتغاير المرأة لون خفّيها: بأن يكون أحدهما أبيض والآخر أسود، ونحو ذلك. ويجعل في عنقه في الحمّام جلجلا أو خاتما من حديد. وإن كان على رأس أحدهم شعر أمر بجزّ ناصيته. ويمنعون من إرسال الضّفائر كما تفعل الأشراف. ولهم لبس الحرير والعمامة والطّيلسان. والذي عليه عرف زماننا في التّمييز أنّ اليهود مطلقا تلبس العمائم الصّفر، والنّصارى العمائم الزّرق، ويركبون الحمير على البراذع، ويثني أحدهم رجله قدّامه، وتختصّ السّامرة بالشّام بلبس العمامة الحمراء، ولا مميّز يعتادونه الآن سوى ما قدّمناه.
ومنها: أنهم لا يرفعون ما يبنونه على [بنيان] (2) جيرانهم من المسلمين، ولا يساوونه به ولو كان في غاية الانخفاض، ويمنع من ذلك وإن رضي الجار المسلم، لأن الحقّ للدين دون الجار، وله أن يرفع ما بناه بمحلّة منفصلة عن أبنية المسلمين. ولو اشترى بناء عاليا بقي على حاله، فلو انهدم فأعاده لم يكن له الرّفع على المسلم ولا المساواة.
ومنها: أنهم لا يحدثون كنيسة ولا بيعة فيما أحدثه المسلمون من البلاد:
كالبصرة، والكوفة، وبغداد، والقاهرة، ولا في بلد أسلم أهلها عليها: كالمدينة واليمن. فإن أحدثوا فيها شيئا من ذلك نقض، نعم يترك ما وجد منها ولم يعلم
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.(13/363)
حاله، لاحتمال اتصال العمارات به. وكذلك لا يجوز إحداث الكنائس والبيع فيما فتح عنوة، ولا إبقاء القديم منها لحصول الملك بالاستيلاء. أمّا ما فتح صلحا بخراج على أن تكون الرّقبة لهم، فيجوز فيها إحداث الكنائس وإبقاء القديمة منها، فإن الأرض لهم. وإن فتحت صلحا على أن تكون لنا: فإن شرط إبقاء القديمة بقيت وكأنّهم استثنوها. ويجوز لهم إعادة المتهدّمة منها، وتطيين خارجها دون توسيعها.
الأمر الثامن معرفة ما ينتقض به عهدهم
. وينتقض بأمور:
منها: قتال المسلمين بلا شبهة، ومنع الجزية، ومنع إجراء حكمنا عليهم وكذا الزّنا بمسلمة أو إصابتها باسم نكاح، والاطلاع على عورات المسلمين وإنهاؤها لأهل الحرب، وإيواء جاسوس لهم، وقطع الطّريق، والقتل الموجب للقصاص، وقذف مسلم، وسبّ نبيّ جهرا، وطعن في الإسلام أو القرآن إن شرط عليهم الانتقاض وإلا فلا. أما لو أظهر ببلد الإسلام الخمر أو الخنزير أو النّاقوس أو معتقده في عزير والمسيح عليهما السلام أو جنازة لهم أو سقى مسلما خمرا فإنه يعزّر.(13/364)
الفصل الثاني من الباب الثالث من المقالة التاسعة (ما يكتب في متعلّقات أهل الذّمة (عند خروجهم) (1) عن لوازم عقد الذّمّة)
واعلم أنه ربّما خرج أهل الذّمّة عن لوازم عقد الذّمة، وأظهروا التمييز والتّكبّر وعلوّ البناء، إلى غير ذلك مما فيه مخالفة الشروط، فيأخذ أهل العدل: من الخلفاء والملوك في قمعهم والغضّ منهم وحطّ مقاديرهم، ويكتبون بذلك كتبا ويبعثون بها إلى الآفاق ليعمل بمقتضاها، غضّا منهم وحطّا لقدرهم، ورفعة لدين الإسلام وتشريفا لقدره، إذ يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ََ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} * (2)
وهذه نسخة كتاب كتب به عن المتوكّل على الله حين حجّ، سمع رجلا يدعو عليه، فهمّ بقتله، فقال [له الرجل] (3): والله يا أمير المؤمنين ما قلت ما قلت إلّا وقد أيقنت بالقتل، فاسمع مقالي ثم مر بقتلي، فقال: قل! فشكا إليه استطالة كتّاب أهل الذّمّة على المسلمين في كلام طويل، فخرج أمره بأن تلبس النّصارى واليهود ثياب العسليّ، وأن لا يمكّنوا من لبس البياض كي لا يتشبّهوا بالمسلمين، وأن تكون ركبهم خشبا، وأن تهدم بيعهم المستجدّة، وأن تطلق عليهم الجزية، ولا يفسح لهم في دخول حمّامات خدمها من أهل الإسلام [وأن تفرد لهم حمامات خدمها من أهل الذمّة] (4)، ولا يستخدموا مسلما في حوائجهم لنفوسهم، وأفردهم
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) التوبة / 33.
(3) الزيادة من مآثر الإنافة: 3/ 228.
(4) الزيادة من مآثر الإنافة: 3/ 228.(13/365)
بمن يحتسب عليهم. وقد ذكر أبو هلال العسكريّ في كتابه «الأوائل»: أن المتوكّل أوّل من ألزمهم ذلك وهي:
أما بعد فإنّ الله [تعالى] (1) اصطفى الإسلام دينا فشرّفه وكرّمه، وأناره ونضرّه وأظهره، وفضّله وأكمله فهو الدّين الذي لا يقبل غيره قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلََامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخََاسِرِينَ} (2)، بعث به صفيّه وخيرته من خلقه، محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، فجعله خاتم النّبيّين، وإمام المتّقين، وسيّد المرسلين: {لِيُنْذِرَ مَنْ كََانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكََافِرِينَ} (3)، وأنزل كتابا [عزيزا] (4): {لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (5)، أسعد به أمّته، وجعلهم خير أمّة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتََابِ لَكََانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفََاسِقُونَ} (6)، وأهان الشّرك وأهله، ووضعهم وصغّرهم وقمعهم وخذلهم وتبرّأ منهم، وضرب عليهم الذّلّة والمسكنة، فقال: {قََاتِلُوا الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَلََا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلََا يُحَرِّمُونَ مََا حَرَّمَ اللََّهُ وَرَسُولُهُ وَلََا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ حَتََّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صََاغِرُونَ} (7)
واطّلع على قلوبهم، وخبث سرائرهم وضمائرهم، فنهى عن ائتمانهم، والثّقة بهم: لعداوتهم للمسلمين، وغشّهم وبغضائهم، فقال تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا بِطََانَةً مِنْ دُونِكُمْ لََا يَأْلُونَكُمْ خَبََالًا وَدُّوا مََا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضََاءُ مِنْ أَفْوََاهِهِمْ وَمََا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنََّا لَكُمُ الْآيََاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (8)، وقال
__________
(1) الزيادة من مآثر الإنافة.
(2) آل عمران / 85.
(3) يس / 70.
(4) الزيادة من مآثر الإنافة.
(5) فصّلت / 42.
(6) آل عمران / 110.
(7) التوبة / 29.
(8) آل عمران / 118.(13/366)
تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا الْكََافِرِينَ أَوْلِيََاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلََّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطََاناً مُبِيناً} (1)، وقال تعالى: {لََا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكََافِرِينَ أَوْلِيََاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللََّهِ فِي شَيْءٍ إِلََّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقََاةً} (2)، وقال تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصََارى ََ أَوْلِيََاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيََاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ} (3)
وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أنّ أناسا لا رأي لهم ولا رويّة يستعينون بأهل الذّمة في أفعالهم، ويتّخذونهم بطانة من دون المسلمين، ويسلّطونهم على الرّعيّة، فيعسفونهم ويبسطون أيديهم إلى ظلمهم وغشّهم والعدوان عليهم، فأعظم أمير المؤمنين ذلك، وأنكره وأكبره، وتبرّأ منه، وأحبّ التقرّب إلى الله [تعالى] بحسمه والنّهي عنه، ورأى أن يكتب إلى عمّاله على الكور والأمصار، وولاة الثّغور والأجناد، في ترك استعمالهم لأهل الذّمّة في شيء من أعمالهم وأمورهم، وإلا شراك لهم في أماناتهم (4)، وما قلّدهم أمير المؤمنين واستحفظهم إيّاه، إذ جعل في المسلمين الثّقة في الدّين، والأمانة على إخوانهم المؤمنين، وحسن الرّعاية لما استرعاهم، والكفاية لما استكفوا، والقيام بما حمّلوا بما أغنى عن الاستعانة [بأحد] (5) من المشركين بالله، المكذّبين برسله، الجاحدين لآياته، الجاعلين معه إلها آخر، ولا إله إلا هو وحده لا شريك له ورجا أمير المؤمنين بما ألهمه الله من ذلك، وقذف في قلبه جزيل الثّواب، وكريم المآب، والله يعين أمير المؤمنين على نيّته على تعزيز الإسلام وأهله، وإذلال الشّرك وحزبه.
فلتعلم هذا من رأي أمير المؤمنين، ولا تستعن بأحد من المشركين، وأنزل
__________
(1) النساء / 144.
(2) آل عمران / 28.
(3) المائدة / 51.
(4) في مآثر الإنافة «في أمورهم وأماناتهم».
(5) الزيادة من الطبعة الأميرية. وهي ساقطة أيضا من مآثر الإنافة.(13/367)
أهل الذّمّة منازلهم التي أنزلهم الله بها، [واقرأ] (1) كتاب أمير المؤمنين على أهل أعمالك وأشعه فيهم، ولا يعلم أمير المؤمنين أنّك استعنت ولا أحد من عمّا لك وأعوانك بأحد من أهل الذّمّة في عمل الإسلام.
وفي أيام المقتدر بالله، وفي سنة خمس وتسعين ومائتين، عزل كتّاب النّصارى وعمّا لهم، وأمر أن لا يستعان بأحد من أهل الذّمّة حتّى أمر بقتل ابن ياسر النّصرانيّ عامل يونس الحاجب، وكتب إلى عمّا له بما نسخته:
عوائد الله عند أمير المؤمنين توفي على غاية رضاه (2) ونهاية أمانيه، وليس أحد يظهر عصيانه. إلا جعله الله عظة للأنام، وبادره بعاجل الاصطلام (3): {وَاللََّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقََامٍ} * (4) فمن نكث وطغى وبغى، وخالف أمير المؤمنين، وخالف محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وسعى في إفساد دولة أمير المؤمنين، عاجله أمير المؤمنين بسطوته وطهّر من رجسه دولته {وَالْعََاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} * (5)
وقد أمر أمير المؤمنين بترك الاستعانة بأحد من أهل الذّمة، فليحذر العمال تجاوز أوامر أمير المؤمنين ونواهيه.
وفي أيام الآمر بأحكام الله الفاطميّ بالديار المصرية، امتدّت أيدي النّصارى، وبسطوا أيديهم بالخيانة، وتفنّنوا في أذى المسلمين وإيصال المضرة إليهم. واستعمل منهم كاتب يعرف بالرّاهب، ولقّب بالأب القدّيس، الرّوحانيّ
__________
(1) في الطبعة الأميرية «فاقرأ». والتصحيح من مآثر الإنافة.
(2) في مآثر الإنافة «تومي على عادة رضاه».
(3) اصطلمه وصلمه: قطعه واستأصله. وغلب استعماله في الأذن والأنف.
(4) آل عمران / 4.
(5) الأعراف / 128.(13/368)
النّفيس، أبي الآباء، وسيّد الرّؤساء، مقدّم دين النّصرانية، وسيّد البتركيّة (1)، صفيّ الرّبّ ومختاره، وثالث عشر الحواريّين، فصادر اللّعين عامّة من بالديار المصرية: من كاتب وحاكم وجنديّ وعامل وتاجر، وامتدّت يده إلى النّاس على اختلاف طبقاتهم، فخوّفه بعض مشايخ الكتّاب من خالقه وباعثه ومحاسبه، وحذّره من سوء عواقب أفعاله، وأشار عليه بترك ما يكون سببا لهلاكه. وكان جماعة من كتّاب مصر وقبطها في مجلسه، فقال مخاطبا له ومسمعا للجماعة:
نحن ملّاك هذه الدّيار حرثا وخراجا، ملكها المسلمون منّا، وتغلّبوا عليها وغصبوها، واستملكوها من أيدينا فنحن مهما فعلنا بالمسلمين فهو قبالة ما فعلوا بنا، ولا يكون له نسبة إلى من قتل من رؤسائنا وملوكنا في أيام الفتوح فجميع ما نأخذه من أموال المسلمين وأموال ملوكهم وخلفائهم حلّ لنا، وهو بعض ما نستحقّه عليهم فإذا حملنا لهم مالا كانت المنّة لنا عليهم، وأنشد:
بنت كرم يتّموها أمّها ... وأهانوها فديست بالقدم
ثمّ عادوا حكّموها بينهم ... ويلهم من فعل مظلوم حكم
فاستحسن الحاضرون من النّصارى والمنافقين ما سمعوه منه، واستعادوه، وعضّوا عليه بالنّواجذ، حتّى قيل: إنّ الذي احتاط عليه قلم اللّعين من أملاك المسلمين مائتا ألف واثنان وسبعون ألفا، ومائتا دار وحانوت وأرض بأعمال الدّولة، إلى أن أعادها إلى أصحابها أبو عليّ بن الأفضل (2)، ومن الأموال ما لا يحصيه إلا الله تعالى.
ثم انتبه من رقدته (3)، وأفاق من سكرته، وأدركته الحميّة الإسلامية،
__________
(1) أي البطركية.
(2) هو أبو علي أحمد بن الأفضل بن بدر الجماليّ، الملقب بكتيفات. أسندت الوزارة إليه أيام الحافظ وقد استمر فيها من 15ذي القعدة سنة 524هـ حتى 16محرم سنة 526هـ (الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي: 277).
(3) الضمير عائد للخليفة الآمر.(13/369)
والغيرة المحمّديّة، فغضب الله غضبة ناصر للدّين، وثائر للمسلمين، فألبس أهل الذّمّة الغيار، وأنزلهم بالمنزلة التي أمر الله أن ينزلوا بها من الذّل والصّغار، وأمر أن لا يولّوا شيئا من أعمال الإسلام، وأن ينشأ في ذلك كتاب يقف عليه الخاصّ والعامّ.
وهذه نسخته:
الحمد لله المعبود في أرضه وسمائه، والمجيب دعاء من يدعو (1) بأسمائه، المنفرد بالقدرة الباهرة، المتوحّد بالقوّة الظاهرة، وهو الله الّذي لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، هدى العباد بالإيمان إلى سبيل الرّشاد، ووفّقهم في الطاعات لما هو أنفع زاد في المعاد، وتفرّد بعلم الغيوب فعلم من كلّ عبد إضماره كما علم تصريحه {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافََّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلََاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} (2)، الذي شرّف دين الإسلام وعظّمه، وقضى بالسعادة الأبديّة لمن انتحاه ويمّمه، وفضّله على كلّ شرع سبقه وعلى كلّ دين تقدّمه، فنصره وخذلها، وأشاده وأخملها، ورفعه ووضعها، وأطّده وضعضعها، وأبى أن يقبل دينا سواه من لأوّلين والآخرين، فقال تعالى وهو أصدق القائلين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلََامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخََاسِرِينَ} (3)، وشهد به بنفسه، وأشهد به ملائكته وأولي العلم الذين هم خلاصة الأنام، فقال تعالى: {شَهِدَ اللََّهُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ وَالْمَلََائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قََائِماً بِالْقِسْطِ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللََّهِ الْإِسْلََامُ} (4)
ولمّا ارتضاه لعباده وأتمّ به نعمته، أكمله لهم وأظهره على الدّين كلّه
__________
(1) في مآثر الإنافة «من يدعوه».
(2) النور / 41.
(3) آل عمران / 85.
(4) آل عمران / 18.(13/370)
وأوضحه إيضاحا مبينا، فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلََامَ دِيناً} (1)
وفرق به بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الهدى والضّلال، وأهل البغي والرّشاد، فقال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلََّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمََا عَلَيْكَ الْبَلََاغُ وَاللََّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبََادِ} (2)
وأمر تعالى بالثّبات عليه إلى الممات، فقال وبقوله يهتدي المهتدون: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ حَقَّ تُقََاتِهِ وَلََا تَمُوتُنَّ إِلََّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (3) وهي وصيّة إمام الحنفاء لبنيه وإسرائيل: {يََا بَنِيَّ إِنَّ اللََّهَ اصْطَفى ََ لَكُمُ الدِّينَ فَلََا تَمُوتُنَّ إِلََّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدََاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قََالَ لِبَنِيهِ مََا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قََالُوا نَعْبُدُ إِلََهَكَ وَإِلََهَ آبََائِكَ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْمََاعِيلَ وَإِسْحََاقَ إِلََهاً وََاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (4)
وشهد على الحواريّين عبد الله ورسوله وكلمته عيسى به مريم وهو الشّاهد الأمين، قال تعالى: {فَلَمََّا أَحَسَّ عِيسى ََ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قََالَ مَنْ أَنْصََارِي إِلَى اللََّهِ قََالَ الْحَوََارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصََارُ اللََّهِ آمَنََّا بِاللََّهِ وَاشْهَدْ بِأَنََّا مُسْلِمُونَ} (5)
وأمر تعالى رسوله أن يدعو أهل الكتاب إليه، ويشهد من تولّى منهم بأنّه عليه فقال تعالى وقوله الحقّ المبين: {قُلْ يََا أَهْلَ الْكِتََابِ تَعََالَوْا إِلى ََ كَلِمَةٍ سَوََاءٍ بَيْنَنََا وَبَيْنَكُمْ أَلََّا نَعْبُدَ إِلَّا اللََّهَ وَلََا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلََا يَتَّخِذَ بَعْضُنََا بَعْضاً أَرْبََاباً مِنْ دُونِ اللََّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنََّا مُسْلِمُونَ} (6)
__________
(1) المائدة / 3.
(2) آل عمران / 20.
(3) آل عمران / 102.
(4) البقرة / 132.
(5) آل عمران / 52.
(6) آل عمران / 64.(13/371)
وصلّى الله على الذي رفعه باصطفائه إلى محلّه المنيف، وبعثه للناس كافّة بالدّين القيّم الحنيف.
أما بعد، فإن الله سبحانه ببالغ حكمته وتتابع نعمته، شرّف دين الإسلام وطهّره من الأدناس، وجعل أهله خير أمّة أخرجت للناس فالإسلام الدّين القويم الذي اصطفاه الله من الأديان لنفسه، وجعله دين أنبيائه ورسله وملائكة قدسه فارتضاه واختاره، وجعل خير عباده وخاصّتهم هم أولياءه وأنصاره، يحافظون على حدوده ويثابرون، ويدعون إليه ويذكّرون، ويخافون ربّهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون فهم بآيات ربّهم يؤمنون، وإلى مرضاته يسارعون، ولمن خرج عن دينه مجاهدون، ولعباده بجهدهم ينصحون، وعلى طاعته مثابرون، وعلى صلواتهم يحافظون، وعلى ربّهم يتوكّلون، وبالآخرة هم يوقنون: {أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} * (1)
هذا وإنّ أمّة لله هداها إلى دينه القويم، وجعلها دون الأمم الجاحدة على صراط مستقيم، توفي من الأمم سبعين، هم خيرها وأكرمها على ربّ العالمين حقيقة بأن لا نوالي من الأمم سواها، ولا نستعين بمن حادّ الله خالقه ورازقه وعبد من دونه إلها، وكذّب رسله، وعصى أمره واتّبع غير سبيله، واتّخذ الشّيطان وليّا من دون الله ومعلوم أن اليهود والنّصارى موسومون بغضب الله ولعنته، والشّرك به والجحد لوحدانيّته وقد فرض الله على عباده في جميع صلواتهم أن يسألوا هداية سبيل الذين أنعم الله عليهم: من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين، ويجنّبهم سبيل الذين أبعدهم من رحمته، وطردهم عن جنّته، فباءوا بغضبه ولعنته: من المغضوب عليهم والضالين.
فالأمة الغضبية هم اليهود بنصّ القرآن، وأمة الضّلال هم النصارى المثلّثة، عبّاد الصّلبان وقد أخبر تعالى عن اليهود بأنّهم بالذّلّة والمسكنة والغضب
__________
(1) البقرة / 5.(13/372)
موسومون، فقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مََا ثُقِفُوا إِلََّا بِحَبْلٍ مِنَ اللََّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النََّاسِ وَبََاؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللََّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ كََانُوا يَكْفُرُونَ بِآيََاتِ اللََّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيََاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذََلِكَ بِمََا عَصَوْا وَكََانُوا يَعْتَدُونَ} (1)
وأخبر بأنّهم باؤوا بغضب على غضب وذلك جزاء المفترين، فقال: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى ََ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ فَبََاؤُ بِغَضَبٍ عَلى ََ غَضَبٍ وَلِلْكََافِرِينَ عَذََابٌ مُهِينٌ} (2)
وأخبر سبحانه أنه لعنهم، ولا أصدق من الله قيلا، فقال: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ آمِنُوا بِمََا نَزَّلْنََا مُصَدِّقاً لِمََا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهََا عَلى ََ أَدْبََارِهََا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمََا لَعَنََّا أَصْحََابَ السَّبْتِ وَكََانَ أَمْرُ اللََّهِ مَفْعُولًا} (3)
وحكم سبحانه بينهم وبين المسلمين حكما ترتضيه العقول، ويتلقّاه كلّ منصف بالإذعان والقبول، فقال: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذََلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللََّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللََّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنََازِيرَ وَعَبَدَ الطََّاغُوتَ أُولََئِكَ شَرٌّ مَكََاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوََاءِ السَّبِيلِ} (4)
وأخبر عمّا أحلّ بهم من العقوبة التي صاروا بها مثلا في العالمين، فقال تعالى: {فَلَمََّا نَسُوا مََا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذََابٍ بَئِيسٍ} [5] بِمََا كََانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمََّا عَتَوْا عَنْ مََا نُهُوا عَنْهُ قُلْنََا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خََاسِئِينَ (6)
ثم حكم عليهم حكما مستمرّا عليهم في الذّراريّ والأعقاب، على ممرّ
__________
(1) آل عمران / 112.
(2) البقرة / 90.
(3) النساء / 47.
(4) المائدة / 60.
(5) أي شديد.
(6) الأعراف / 165.(13/373)
السنين والأحقاب، فقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذََابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقََابِ} (1)، فكان هذا العذاب في الدّنيا بعض الاستحقاق: {وَلَعَذََابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمََا لَهُمْ مِنَ اللََّهِ مِنْ وََاقٍ} (2)، وأنهم أنجس الأمم قلوبا وأخبثهم طويّة، وأرداهم سجيّة، وأولاهم بالعذاب الأليم، فقال: {أُولََئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيََا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (3)، وأنهم أمّة الخيانة لله ورسوله ودينه وكتابه وعباده المؤمنين، فقال: {وَلََا تَزََالُ تَطَّلِعُ عَلى ََ خََائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلََّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (4)
وأخبر عن سوء ما يسمعون ويقبلون، وخبث ما يأكلون ويحكمون، فقال تعالى: {سَمََّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكََّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جََاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (5)
وأخبر تعالى أنه لعنهم على ألسنة أنبيائه ورسله بما كانوا يكسبون، فقال:
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ عَلى ََ لِسََانِ دََاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذََلِكَ بِمََا عَصَوْا وَكََانُوا يَعْتَدُونَ كََانُوا لََا يَتَنََاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مََا كََانُوا يَفْعَلُونَ تَرى ََ كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مََا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذََابِ هُمْ خََالِدُونَ} (6)
وقطع الموالاة بين اليهود والنّصارى وبين المؤمنين، وأخبر أنّ من تولّاهم فإنه منهم في حكمه المبين، فقال تعالى وهو أصدق القائلين: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}
__________
(1) الأعراف / 167.
(2) الرعد / 34.
(3) المائدة / 41.
(4) المائدة / 13.
(5) المائدة / 41.
(6) المائدة / 78.(13/374)
{لََا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصََارى ََ أَوْلِيََاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيََاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ} (1)
وأخبر عن حال متولّيهم بما في قلبه من المرض المؤدّي إلى فساد العقل والدّين، فقال: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسََارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى ََ أَنْ تُصِيبَنََا دََائِرَةٌ فَعَسَى اللََّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ََ مََا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نََادِمِينَ} (2)
ثم أخبر عن حبوط أعمال متولّيهم ليكون المؤمن لذلك من الحذرين، فقال: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهََؤُلََاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللََّهِ جَهْدَ أَيْمََانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمََالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خََاسِرِينَ} (3)
ونهى المؤمنين عن اتّخاذ أعدائه أولياء، وقد كفروا بالحقّ الذي جاءهم من ربّهم، وإنهم لا يمتنعون من سوء ينالونهم به بأيديهم وألسنتهم إذا قدروا عليه فقال تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيََاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمََا جََاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيََّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللََّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهََاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغََاءَ مَرْضََاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمََا أَخْفَيْتُمْ وَمََا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوََاءَ السَّبِيلِ. إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدََاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} (4)
وجعل سبحانه لعباده المسلمين أسوة حسنة في إمام الحنفاء ومن معه من المؤمنين، إذ تبرّأ ممّن ليس على دينهم امتثالا لأمر الله، وإيثارا لمرضاته وما عنده، فقال تعالى: {قَدْ كََانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرََاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قََالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنََّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمََّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ كَفَرْنََا بِكُمْ وَبَدََا بَيْنَنََا}
__________
(1) المائدة / 51.
(2) المائدة / 52.
(3) المائدة / 53.
(4) الممتحنة / 21.(13/375)
{وَبَيْنَكُمُ الْعَدََاوَةُ وَالْبَغْضََاءُ أَبَداً حَتََّى تُؤْمِنُوا بِاللََّهِ وَحْدَهُ} (1)، وتبرّأ سبحانه ممن اتّخذ الكفّار أولياء من دون المؤمنين فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللََّهِ فِي شَيْءٍ إِلََّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقََاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللََّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللََّهِ الْمَصِيرُ} (2)
فمن ضروب الطاعات إهانتهم في الدّنيا قبل الآخرة التي هم إليها صائرون، ومن حقوق الله الواجبة أخذ جزية رؤوسهم التي يعطونها عن يد وهم صاغرون، ومن الأحكام الدّينية أن يعمّ جميع الأمّة إلا من لا تجب عليه باستخراجها، وأن يعتمد في ذلك سلوك سبيل السّنّة المحمّدية ومنهاجها، وأن لا يسامح بها أحد منهم ولو كان في قومه عظيما، وأن لا يقبل إرساله بها ولو كان فيهم زعيما، وأن لا يحيل بها على أحد من المسلمين، ولا يوكّل في إخراجها عنه أحدا من الموحّدين، بل تؤخذ منه على وجه الذّلّة والصّغار، إعزاز للإسلام وأهله وإذلالا لطائفة الكفّار، وأن تستوفى من جميعهم حقّ الاستيفاء وأهل خيبر وغيرهم في ذلك على السّواء.
وأمّا ما ادّعاه الجبابرة من وضع الجزية عنهم بعهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنّ ذلك زور وبهتان، وكذب ظاهر يعرفه أهل العلم والإيمان، لفّقه القوم البهت وزوّروه، ووضعوه من تلقاء أنفسهم ونمّقوه، وظنّوا أن ذلك يخفى على الناقدين، أو يروج على علماء المسلمين ويأبى الله إلّا أن يكشف محال المبطلين، وإفك المفترين وقد تظاهرت السنن وصحّ الخبر بأن خيبر فتحت عنوة، وأوجف عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون على إجلائهم عنها كما أجلى إخوانهم من أهل الكتاب فلمّا ذكروا أنهم أعرف بسقي نخلها ومصالح أرضها، أقرّهم فيها كالأجراء وجعل لهم نصف الارتفاع، وكان ذلك شرطا مبينا، وقال: «نقرّكم فيها ما شئنا» فأقرّ بذلك الجبابرة صاغرين، وأقاموا على هذا الشّرط في الأرض عاملين ولم يكن للقوم من الذّمام والحرمة، ما يوجب إسقاط الجزية عنهم دون من عداهم
__________
(1) الممتحنة / 4.
(2) آل عمران / 28.(13/376)
من أهل الذّمّة وكيف؟ وفي الكتاب المشحون بالكذب والمين، شهادة سعد بن معاذ وكان قد توفّي قبل ذلك بأكثر من سنتين، وشهادة معاوية بن أبي سفيان، وإنّما أسلم عام الفتح بعد خيبر سنة ثمان وفي الكتاب المكذوب أنه أسقط عنهم الكلف والسّخر، ولم تكن على زمان خلفائه الذين ساروا في الناس أحسن السّير.
ولما اتّسعت رقعة الإسلام، ودخل فيه الخاصّ والعام، وكان في المسلمين من يقوم بعمل الأرض وسقي النّخل، أجلى عمر بن الخطّاب اليهود من خيبر بل من جزيرة العرب حتّى [قال] (1): «لا أدع فيها إلا مسلما».
وفي شهر رجب سنة سبعمائة وصل إلى القاهرة المحروسة وزير صاحب المغرب حاجّا، فاجتمع بالملك النّاصر «محمد بن قلاوون»، ونائبه يومئذ الأمير سلار، فتحدّث الوزير معه ومع الأمير بيبرس الجاشنكير في أمر اليهود والنّصارى، وأنهم عندهم في غاية الذّلّة والهوان، وأنهم لا يمكّن أحد منهم من ركوب الخيل ولا الاستخدام في الجهات الدّيوانية، وأنكر حال نصارى الدّيار المصرية ويهودها بسبب لبسهم أفخر الملابس، وركوبهم الخيل والبغال، واستخدامهم في أجلّ المناصب، وتحكيمهم في رقاب المسلمين، وذكر أن عهد ذمّتهم انقضى من سنة ستمائة من الهجرة النّبويّة، فأثّر كلامه عند أهل الدّولة، لا سيّما الأمير بيبرس الجاشنكير، فأمر بجمع النصارى واليهود، ورسم أن لا يستخدم أحد منهم في الجهات السلطانية، ولا عند الأمراء، وأن تغيّر عمائمهم، فيلبس النّصارى العمائم الزّرق، وتشدّ في أوساطهم الزنانير، ويلبس اليهود العمائم الصّفر ويدقوا (2) في البيع في إبطال ذلك فلم يقبل منهم، وغلّقت الكنائس بمصر والقاهرة، وسمّرت أبوابها، ففعل بهم ذلك، وألزموا بأن لا يركبوا إلا الحمير، وأن
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) بياض في الأصل. وفي حاشية الطبعة الأميرية: «والكلام غير ملتئم، ولعل الأصل: العمائم الصفر فبالغوا في السعي في إبطال ذلك. الخ».(13/377)
يلفّ أحدهم إحدى رجليه إذا ركب، وأن يقصّر بنيانهم المجاور للمسلمين عن بناء المسلم. وكتب بذلك إلى جميع الأعمال ليعمل بمقتضاه، وأسلم بسبب ذلك كثير منهم وألبس أهل الذّمة بالشام: النّصارى الأزرق، واليهود الأصفر، والسامرة الأحمر.
ثم عادوا إلى المباشرات بعد ذلك، فانتدب السلطان الملك «الصالح صالح» ابن الملك الناصر في سنة خمس (1) وخمسين وسبعمائة لمنعهم من ذلك، وألزمهم بالشروط العمريّة، وكتب بذلك مرسوما شريفا وبعث بنسخته إلى الأعمال فقرئت على منابر الجوامع.
وهذه نسخته (2) صورة ما في الطّرّة:
«مرسوم شريف بأن يعتمد جميع طوائف اليهود والنّصارى والسّامرة: بالديار المصرية، والبلاد الإسلامية المحروسة وأعمالها، حكم عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، لمن مضى من أهل ملّتهم: وهو أن لا يحدثوا في البلاد الإسلامية ديرا ولا كنيسة ولا صومعة راهب، ولا يجدّدوا ما خرب منها، ولا يؤوا جاسوسا ولا من فيه ريبة لأهل الإسلام، ولا يكتموا غشّا للمسلمين، ولا يعلّموا أولادهم القرآن، ولا يظهروا شركا، ولا يمنعوا ذوي قرابة من الإسلام إن أرادوه، ولا يتشبّهوا بالمسلمين في لباسهم، ويلبسون الغيار الأزرق والأصفر، وتمنع نساؤهم من التّشبّه بنساء المسلمين، ولا يركبوا سرجا، ولا يتقلّدوا سيفا، ولا يركبوا الخيل ولا البغال، ويركبون الحمير بالأكف عرضا، ولا يبيعوا الخمور، وأن يلزموا زيّهم حيث كانوا، ويشدّوا زنانيرهم غير الحرير على أوساطهم والمرأة البارزة من النصارى تلبس الإزار الكتّان المصبوغ أزرق، واليهودية الإزار الأصفر ولا يدخل أحد منهم الحمّام إلا بعلامة تميّزه عن المسلمين في عنقه: من خاتم
__________
(1) في مآثر الإنافة: 2/ 157 «أربع وخمسين وسبعمائة».
(2) قال القلقشندي في مآثر الإنافة: 3/ 235 «وعلى ذلك جرى ملوك الديار المصرية، إلى أن كان آخر ما كتب بمثل ذلك عن الملك الصالح صالح بن الناصر محمد بن قلاوون».(13/378)
حديد أو رصاص أو غير ذلك، ولا يعلوا على المسلمين في البناء ولا يساووهم، بل يكونون أدون (1) منهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيفا، ولا يرفعوا أصواتهم في كنائسهم، ولا يخدموا في دولتنا الشريفة ثبّت الله قواعدها ولا عند أحد من أمرائها أعزّهم الله تعالى ولا يلوا وظيفة يعلو أمرهم فيها على أحد من المسلمين، وأن يحمّل الأمر في مواريث موتاهم على حكم الشريعة الشريفة المحمّديّة، وتوقع عليهم الحوطة (2) الدّيوانية أسوة موتى المسلمين، وأن لا يدخل نسوة أهل الذّمة الحمّامات مع المسلمات، ويجعل لهنّ حمّامات تخصّهنّ يدخلنها، عملا في ذلك بما رجّحه علماء الشّرع الشريف، على ما شرح فيه».
ونصّه بعد البسملة الشريفة.
الحمد لله الذي بصّر سلطاننا الصّالح، باعتماد مصالح الدّين والدّنيا، ويسّر لرأينا الراجح، توفير التّوفيق إثباتا ونفيا، وتحرير التّحقيق أمرا ونهيا، وقهر بأحكام الإسلام، من رام نكث العهد ونقض الذّمام، بتعدّي الحدود عدوانا وبغيا، وجسر على اقتحام ذنوب عظام، تحلّ به في الدّارين عذابا وخزيا، وتكفّل للأمة المحمّدية في الأولى والأخرى بالسعادة السّرمديّة التي لا تتناهى ولا تتغيّا، وجعل كلمة الذين كفروا السّفلى وكلمة الله هي العليا.
نحمده أن أصحب فكرنا رشدا وأذهب بأمرنا غيّا، ونشكره على أن جبر بأحكام العدل للإيمان وهنا وآثر لذوي البهتان بالانتقام وهيا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واحد أحد، فرد صمد، خلق ورزق وانشأ وأفنى وأمات وأحيا، وتقدّس وتمجّد عن الصّاحبة والولد، وأوجد عيسى بن مريم كما أوجد آدم ولم يكن شيئا وجعله عبدا صالحا نبيّا زكيّا، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أنزل عليه مع الرّوح الأمين قرآنا ووحيا، واستأصل به شأفة الكفّار وأنزل بهم
__________
(1) أي أدنى منهم. من «الدون».
(2) أي الحجز. وإيقاع الحوطة هو إيقاع الحجز على مال أو عقار أو محصول. وفلان تحت الحوطة:
أي هو تحت المراقبة والحجز.(13/379)
من الأخطار الداهية الدّهيا، واتّبع ملّة أبيه إبراهيم الذي أري الصّدق وصدّق الرّؤيا، وجمع الله به الشّتات فهدى قلوبا غلفا وأسماعا صمّا وأبصارا عميا، وبلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة فبشرى لمن وفّق من أمّته فرزق لحكمته وعيا، ورفع الضلالة، وردّ الضالة، وأجمل للعهد حفظا وللذّمام رعيا، ونسخت شريعته الشرائع، وسدّت الذّرائع، وشمخت على النّجوم الطوالع، فهي أسمى منها رفعة وأنمى عددا وأسنى هديا، صلّى الله عليه وعلى آله فروع الزّهراء الذين عنوا بقوله تعالى: {رَحْمَتُ اللََّهِ وَبَرَكََاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} (1) أمرع سقيا، خصوصا صدّيقه ورفيقه في الممات وفي المحيا، ومن استخلفه في الصّلاة عنه إشارة إلى أنه أحقّ لرتبة الخلافة بالرّقيا، ومن فرق منه الشّيطان ووافق الفرقان له رأيا، ويسّر الله تعالى في أيّامه المباركة من الفتوحات ما لا أتّفق لغيره ولا تهيّا، وذا النّورين الذي قطع اللّيل تسبيحا وقرآنا وأحيا، واستحيت منه ملائكة السماء لمّا من الله استحيا، وعلى الصّهر وابن العمّ المجاهد الزّاهد الذي طلّق ثلاثا الدّار الفانية التي ليس لها بقيا، وسرّه لمّا قضى على الرّضا نحبه، فوجد الأحبّة: محمدا وحزبه، وحمد اللّحاق واللّقيا، وعلى تتمّة بقيّة العشرة الأبرار، وبقيّة المهاجرين والأنصار، رحمة تديم لمضاجعهم صوبها الدّارّ السّقيا، صلاة وافرة الأقسام سافرة القسمات باهرة المحيّا، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فأحكام الشّرع الشريف أولى بوجوب الاتّباع، وذمام الدّين الحنيف يبير من عصى ويجير من أطاع، وحرمات الملّة المحمّديّة أحقّ بأن تحفظ فلا تضاع ومن المهمّات التي تصرف إليها الهمّة، ويرهف لها حدّ العزمة، وتقام على متعدّي حدودها بالانتقام الجزية، اعتبار أحوال الملّتين من أهل الذّمّة الذين حقن منهم الدّماء حكم الإسلام، وسكّن عنهم الدّهماء ما التزموه من الأحكام، مع القيام بالجزية في كلّ عام، وسلّموا لأوامر الشّريعة المطهّرة التي لولا الانقياد إليها والاستسلام، لأغمد في نحورهم حدّ الحسام فهم تحت قهر سلطان
__________
(1) هود / 73.(13/380)
الإيمان سائرون، ولأمر دين الحقّ الذي نسخ الله به الأديان صائرون، وهم المعنيّون بقوله تعالى: {قََاتِلُوا الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَلََا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلََا يُحَرِّمُونَ مََا حَرَّمَ اللََّهُ وَرَسُولُهُ وَلََا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ حَتََّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صََاغِرُونَ} (1)
ولمّا فتح الله تعالى ببركة سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما فتح من البلاد، واسترجع بأيدي المهاجرين والأنصار من أيدي الكفّار العادية كثيرا من الأمصار واستعاد وأكثر ذلك في خلافة أمير المؤمنين «عمر بن الخطّاب» رضي الله عنه، فإنها كانت للفتح مواسم، وبالمنح بواسم، وتظافرت فيها للمسلمين غرائز العزائم، التي أعادت هزاهزها الكفّار يجرّون ذيول الهزائم عقد أمراؤه الفاتحون لها بأمره رضي الله عنه وعنهم لأهل الكتاب عهدا، وحدّوا لهم من الآداب حدّا لا يجوز أن يتعدّى ولم تزل الخلفاء بعد ذلك والملوك في جميع بلاد الإسلام يجدّدونها، وبالمحافظة والملاحظة يتعهّدونها وآخر من ألزمهم أحكامها العادلة، وعصمهم بذمّتها التي هي لهم ما استقاموا بالسّلامة كافلة، والدنا السلطان الشّهيد «الملك الناصر» ناصر الدّنيا والدّين، سقى الله تعالى عهده عهاد الرّحمة، ولقّى نفسه الخير لنصحه الأمّة فإنه قدّس الله روحه جدّد لهم في سنة سبعمائة لباس الغيار، وشدّد عليهم بأس النّكال والإنكار، وعقد لهم ذمّة بها الاعتبار، وسطّر في الصحائف منها شروطا لهم بالتزامها إقرار، وبأحكامها أمكنهم في دار الإسلام الاستقرار، وخذل الفئتين المفتريتين عملا بقول الله تعالى: {وَمََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ أَنْصََارٍ} * (2)
ولمّا طال عليهم الأمد تمادوا على الاغترار، وتعادوا إلى الضرّ والإضرار، وتدرّجوا بالتكبّر والاستكبار، إلى أن أظهروا التّزيّن أعظم إظهار، وخرجوا عن المعهود في تحسين الزّنّار والشّعار، وعتوا في البلاد والأمصار، وأتوا من الفساد بأمور لا تطاق كبار.
__________
(1) التوبة / 29.
(2) البقرة / 270.(13/381)
ولما وضح عندنا منهم الاستمرار على ذلك والإصرار، أنكرنا عليهم أشدّ إنكار، ورأينا أن نتّبع فيهم ما أمر الله تعالى به في الكتاب والسّنّة، وأبينا [إلا معاملتهم] (1) بأحكام الملّة المحمّديّة التي كم لها على الملتين العيسويّة والموسويّة من منّة، وادّخر الله تعالى لنا هذه الحسنة التي هي من جملة الفتوحات التي يفتح الله تعالى بها لنا في الدّنيا أبواب السّعادة وفي الآخرة أبواب الجنّة، فاستفتينا في أمرهم المجالس العالية حكّام الشّريعة المطهّرة، واقتدينا بأقوال مذاهبهم المحرّرة، التي لنا بهديها إلى إصابة الصّواب تبصرة، وعقدنا لهم مجلسا بدار عدلنا الشريف، وألزمناهم أحكام أهل الذّمّة التي بالتزام أوائلهم لها جرى عليهم حكم هذا التّكليف، وأخذناهم بالعهد الذي نسوه، وألبسناهم ثوب الهوان الذي لبسوا [و] (2) لما طال عليهم الزمان نزعوه ولم يلبسوه، وأجرينا عليهم الآن شروطه المضبوطة، وقوانينه التي هي من التّبديل والتّغيير محوطة فمن جاوزها، فقد شاقق الشّريعة الشريفة وبارزها، ومن خالفها، فقد عاند الملّة الإسلاميّة وواقفها، ومن صدف عن سبلها وتنكّبها، فقد اقترف الكبائر وارتكبها وحظرنا عليهم أن يجعل أحد منهم له بالمسلمين شبها، وصيّرنا عليهم الذّلّة التي ضربها الله تعالى عليهم وأوجبها.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السّلطانيّ، الملكيّ، الصّالحيّ، الصّلاحيّ لا زال أمره الممتثل المطاع، وزجره به عن المآثم امتناع وارتداع، ورأيه الصالح يريد الإصلاح ما استطاع أن يعتمد جميع طوائف النّصارى واليهود والسّامرة بالديار المصرية وجميع بلاد الإسلام المحروسة وأعمالها: من سائر الأقطار والآفاق، وما أخذ على سالفيهم في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه من أكيد العهد ووثيق الميثاق:
وهو أن لا يحدثوا في البلاد الإسلامية وأعمالها ديرا ولا كنيسة ولا قلّاية ولا صومعة راهب، ولا يجدّدوا فيها ما خرب منها، ولا يمنعوا كنائسهم التي عوهدوا
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(13/382)
عليها، وثبت عهدهم لديها، أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يؤوا جاسوسا ولا من فيه ريبة لأهل الإسلام، ولا يكتموا غشّا للمسلمين، ولا يعلّموا أولادهم القرآن، ولا يظهروا شركا، ولا يمنعوا ذوي قرابة من الإسلام إن أرادوه، وإن أسلم أحد منهم لا يؤذوه ولا يساكنوه، وأن يوقّروا المسلمين، وأن يقوموا من مجالسهم إن أرادوا الجلوس، وأن لا يتشبهوا بشيء من المسلمين في لباسهم قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، بل يلبس النّصرانيّ منهم العمامة الزّرقاء عشرة أذرع غير الشعرى (1) فما دونها، واليهوديّ العمامة الصّفراء كذلك، وتمنع نساؤهم من التّشبّه بنساء المسلمين ولبس العمائم، ولا يتسمّوا بأسماء المسلمين، ولا يتكنّوا بكناهم، ولا يتلقّبوا بألقابهم، ولا يركبوا سرجا، ولا يتقلّدوا سيفا، ولا يركبوا الخيل ولا البغال، ويركبون الحمير بالأكف عرضا من غير تزيّن ولا قيمة عظيمة لها (2)، ولا يتخذوا شيئا من السّلاح، ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربيّة، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزّوا مقادم رؤوسهم، وأن يلزموا زيّهم حيث ما كانوا، ويشدّوا زنانيرهم غير الحرير على أوساطهم والمرأة البارزة من النصارى تلبس الإزار الكتّان المصبوغ أزرق، واليهوديّة الإزار المصبوغ أصفر ولا يدخل أحد منهم الحمّام إلا بعلامة تميزه عن المسلمين في عنقه: من خاتم نحاس أو رصاص أو جرس أو غير ذلك، ولا يستخدموا مسلما في أعمالهم وتلبس المرأة البارزة منهم خفّين: أحدهما أسود، والآخر أبيض، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يرفعوا بناء قبورهم، ولا يعلوا على المسلمين في البناء، ولا يساووهم، ولا يتحيّلوا على ذلك بحيلة، بل يكونون أدون من ذلك، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيفا، ولا يرفعوا أصواتهم في كنائسهم، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا أصواتهم على موتاهم، ولا يظهروا النّيران، ولا يشتروا مسلما من الرّقيق ولا مسلمة، ولا من جرت عليه سهام المسلمين، ولا من منشؤه مسلم، ولا يهوّدوا ولا ينصّروا رقيقا، ويجتنبون أوساط الطريق توسعة للمسلمين، ولا
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. وفي مآثر الإنافة «عشرة أذرع بغير زيادة».
(2) في مآثر الإنافة: «وأن يكون قيمة كل حمار من مراكبهم دون مائة درهم».(13/383)
يفتنوا مسلما عن دينه، ولا يدلّوا على عورات المسلمين، ومن زنى بمسلمة قتل ولا يضعوا أيديهم على أراض موات للمسلمين ولا غير موات ولا مزدرع، ولا ينسبوه لصومعة ولا كنيسة ولا دير ولا غير ذلك، ولا يشتروا شيئا من الجلب الرقيق ولا يوكّلوا فيه، ولا يتحيّلوا عليه بحيلة، ومتى خالفوا ذلك فقد حلّ منهم ما يحلّ من أهل النّفاق والمعاندة.
وكذلك رسمنا أنّ كلّ من مات من اليهود والنّصارى والسّامرة: الذّكور والإناث منهم يحتاط عليهم من ديوان المواريث الحشريّة (1) بالديار المصرية وأعمالها وسائر البلاد الإسلاميّة المحروسة، إلى أن تثبت ورثته ما يستحقّونه من ميراثه بمقتضى الشّرع الشريف، وإذا أثبتوا ما يستحقّونه يعطونه بمقتضاه، ويحمل ما فضل بعد ذلك لبيت المال المعمور ومن مات منهم ولا وارث له يستوعب، حمل موجوده لبيت المال المعمور، ويجرون في الحوطة على موتاهم من دواوين المواريث ووكلاء بيت المال المعمور مجرى من يموت من المسلمين:
ليتبيّن أمر مواريثهم، ويحمل الأمر فيها على حكم الشّرع الشريف، عملا بالفتاوى الشّرعية المتضمّنة إجراء مواريث موتاهم على حكم الفرائض الشّرعيا بحكم الملّة الاسلاميّة المحمّديّة: من إعطاء كلّ ذي فرض وعصبة ما يستحقّه شرعا، من غير مخالفة ولا امتناع، ولا مواقفة ولا دفاع فإنّ ذلك ممّا يتعيّن أن يكون له إلى بيت المال المعمور فيه إرجاع، ولتعلّق حقوق المؤمنين بذلك، ولأنه يعيد حيث تفيا إلى المسلمين ما يستحقّه بيت المال من مال كلّ هالك، ولأنّا المطالبون بما يؤول إلى ميراث المسلمين من تراث أولئك، لتكون هذه الحسنة في صحائفنا مسطّرة، وإن كانت الأيام قد تمادت عليها ومعرفتها نكرة، وتعادت إليها أيديهم العادية فاختلست من الذّهب والفضّة القناطير المقنطرة.
__________
(1) المواريث الحشرية هي مال من يموت وليس له وارث خاص بقرابة أو نكاح أو أولاد، أو الباقي بعد الفرض من مال من يموت وله وارث ذو فرض لا يستغرق جميع المال ولا عاصب له (انظر الجزء الثالث من الصبح: ص 460).(13/384)
ورسمنا أن لا يخدم نصرانيّ ولا سامريّ ولا يهوديّ في دولتنا الشريفة، ثبّت الله قواعدها، ولا في دواوين الممالك المحروسة والأعمال، ولا عند أحد من أمرائنا أعزّهم الله تعالى، ولا يباشر أحد منهم وكالة ولا أمانة، ولا ما فيه تأمّر على المسلمين، بحيث لا يكون لهم كلمة يستعلون بها على أحد من المسلمين في أمر من الأمور فقد حرّم الله ذلك نصّا وتأويلا، وضمّن حكمه في الحال والاستقبال قرآنا وتنزيلا، فقال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللََّهُ لِلْكََافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (1)، وأوضح في اجتنابهم للمتّقين علم اليقين، فقال تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفََّارَ أَوْلِيََاءَ وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2)
وقد نهى الله موالاتهم وأضاف بسخطه كلّ خزي إليهم، فقال تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ} (3)
وقد أذلّهم الله جلّ وعزّ لافترائهم واجترائهم من كتابه العزيز في مواضع عدّة، فقال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللََّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} (4)، فوجب أن لا يكونوا على الأعمال أمنة، ولا للأموال خزنة: لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اليهود والنصارى خونة». وقال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه:
«لا تستعملوا اليهود والنّصارى فإنّهم أهل رشا في دينهم ولا تحلّ الرّشا» فباعتزالهم واختزالهم يؤمن من مكرهم وخيانتهم ما يختشى.
ولما قدم عليه أبو موسى الأشعريّ من البصرة وكان عامله بها، دخل عليه المسجد، واستأذن لكاتبه وكان نصرانيّا، فقال له أمير المؤمنين عمر: ولّيت ذمّيّا على المسلمين، أما سمعت قول الله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا}
__________
(1) النساء / 141.
(2) النساء / 144.
(3) الممتحنة / 13.
(4) الزمر / 60.(13/385)
{الْيَهُودَ وَالنَّصََارى ََ أَوْلِيََاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيََاءُ بَعْضٍ} (1) هلّا اتخذت حنيفيّا؟ فقال يا أمير المؤمنين: لي كتابته وله دينه، فأنكر أمير المؤمنين عليه ذلك، وقال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزّهم إذ أذلّهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله.
فاتّبعنا في صرفهم الكتاب والسّنّة والأثر، ومنعنا عن المسلمين بغلّ أيديهم عن المباشرة الأذى والضّرر، ودفعنا عن أمير المؤمنين من سوء معاشرتهم ما ألموا له من الأذى مع شرّ معشر.
فليعتمد حكم هذا المرسوم، الذي هو بالعدل والإحسان موسوم، وليخلّد في صحائف المثوبات ليستقرّ ويستمرّ ويدوم، وليشع ذكره في الممالك، وليذع أمره في المسالك وعلى حكّام المسلمين أيدهم الله تعالى وقضاتهم، ومتصرّفيهم وولاتهم، أن يوقعوا بمن تعدّى هذه الحدود، من النصارى واليهود، ويردعوا بسيف الشّرع كلّ جهول من أهل الجحود، ويحلّوا العذاب بمن حمله العقوق على حلّ العقود، ويذلّوا رقاب الكافرين بالإذعان لاستخراج الحقوق وإخراج الأضغان والحقود.
وقد رسمنا بأن يحمل الأمر في هذا المرسوم الشريف على حكم ما التزم في المرسوم الشريف الشّهيديّ الناصريّ المتقدّم المكتتب في رجب سنة سبعمائة، المتضمّن للشهادة على بطركي النصارى اليعاقبة، والملكيّة، ورئيس اليهود بالتّحريم وإيقاع الكلمة على من خالف هذا الشّرط المشروط والحدّ المحدود، وأن لا يحلّوا ما انبرم من محكم العقود، فيحلّ عليهم عذاب غير مردود والله تعالى يعين سلطان الحقّ على ما يرجع بنفع الخلق ويعود، ويزين بصالح المؤمنين ملك الإسلام وممالك الوجود، ويهين ببأسه أعداء الدّين، الذين لهم عن السبيل المبين، صدوف وصدود، ويسلك به شرعة الشّرع الشريف ومنهاجه: من إماتة البدع وإحياء السّنن وإدامة الصّون
__________
(1) المائدة / 51.(13/386)
وإقامة الحدود، ويهلك بسطوته الكافرين كما هلك بدعوة صالح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثمود. والعلامة الشريفة أعلاه حجّة فيه.
تم الجزء الثالث عشر. يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع عشر وأوّله الباب الرابع من المقالة التاسعة والحمد لله رب العالمين. وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه والتابعين، وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل(13/387)
ثبت المراجع
1 - الأحكام السلطانية والولايات الدينية.
تأليف أبي الحسن الماوردي.
دار الكتب العلمية بيروت.
2 - الإشارة إلى من نال الوزارة.
تأليف ابن الصيرفي المصري.
تحقيق عبد الله مخلص.
منشورات المعهد العلمي الفرنسي القاهرة 1924.
3 - الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة.
تأليف ابن شداد.
تحقيق يحيى عبّادة.
منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق.
4 - الأعلام (قاموس تراجم).
تأليف خير الدين الزركلي.
دار العلم للملايين بيروت.
5 - الأغاني.
تأليف أبي الفرج الأصفهاني.
تحقيق مجموعة من الباحثين بإشراف محمد أبو الفضل إبراهيم.
الهيئة المصرية العامة للكتاب.
6 - الانتصار لواسطة عقد الأمصار.
تأليف ابن دقماق.
دار الافاق الجديدة بيروت.
7 - الأوائل.
تأليف أبي هلال العسكري.
تحقيق محمد المصري ووليد قصّاب.
منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق.
8 - الألقاب الإسلامية في التاريخ والوثائق والاثار.
تأليف حسن الباشا.
مكتبة النهضة المصرية 1957.
9 - بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب.
تأليف محمود شكري الالوسي.
دار الكتب العلمية بيروت.
10 - تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل.
تأليف أحمد السعيد سليمان.
دار المعارف مصر.
11 - تاريخ الإسلام.
تأليف حسن إبراهيم حسن.
مكتبة النهضة المصرية القاهرة.
12 - تاريخ الطبري (تاريخ الأمم والملوك).
تأليف أبي جعفر الطبري.(13/389)
12 - تاريخ الطبري (تاريخ الأمم والملوك).
تأليف أبي جعفر الطبري.
دار الكتب العلمية بيروت.
13 - تاريخ ابن الفرات.
تأليف محمد بن عبد الرحيم بن الفرات.
تحقيق قسطنطين زريق ونجلاء عز الدين.
المطبعة الأمريكية بيروت.
14 - تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور.
تأليف محيي الدين بن عبد الظاهر.
تحقيق مراد كامل ومحمد علي النجار.
منشورات وزارة الثقافة والإرشاد.
القومي بالجمهورية العربية المتحدة.
15 - التعريفات.
تأليف علي بن محمد الجرجاني.
دار الكتب العلمية بيروت.
16 - تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن).
تأليف أبي عبد الله القرطبي.
دار الشام للتراث بيروت.
17 - تهذيب تاريخ ابن عساكر.
تأليف عبد القادر بدران دمشق.
18 - جمهرة الأمثال.
تأليف أبي هلال العسكري.
تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش.
المؤسسة العربية الحديثة.
الطبعة الأولى 1964.
19 - جمهرة رسائل العرب في عصور العربية الزاهرة.
تأليف أحمد زكي صفوت.
المكتبة العلمية بيروت.
20 - الجوهر الثمين.
تأليف ابن دقماق.
تحقيق محمد كمال الدين عز الدين علي.
عالم الكتب بيروت.
21 - الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة.
تأليف علي باشا مبارك.
الهيئة المصرية العامة للكتاب.
22 - الخطط المقريزية (المواعظ والاعتبار).
تأليف أحمد بن علي المقريزي.
دار صادر بيروت.
23 - دائرة المعارف الإسلامية.
الطبعة العربية.
منشورات كتاب الشعب القاهرة.
24 - الذيل على كشف الظنون (إيضاح المكنون).
تأليف إسماعيل باشا البغدادي.
دار الفكر بيروت.
25 - الروض المعطار في خبر الأقطار.
تأليف محمد بن عبد المنعم الحميري.
تحقيق إحسان عباس.
مكتبة لبنان بيروت.
26 - سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب.
تأليف محمد أمين البغدادي السويدي.
دار الكتب العلمية بيروت.
27 - سفر نامه.
تأليف ناصر خسرو.
ترجمة يحيى الخشاب.
دار الكتاب الجديد بيروت.(13/390)
ترجمة يحيى الخشاب.
دار الكتاب الجديد بيروت.
28 - السيرة النبوية لابن هشام.
تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي.
منشورات البابي الحلبي.
الطبعة الأولى 1967.
29 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب.
تأليف ابن العماد الحنبلي.
مكتبة القدسي القاهرة.
30 - شرح ديوان الحماسة.
تأليف الخطيب التبريزي.
عالم الكتب بيروت.
31 - الشعر والشعراء (طبقات الشعراء).
تأليف ابن قتيبة الدينوري.
تحقيق مفيد قميحة.
دار الكتب العلمية بيروت.
32 - صبح الأعشى في صناعة الإنشا.
تأليف القلقشندي.
طبعة دارالكتب المصرية.
33 - صفة جزيرة الأندلس (منتخب من الروض المعطار).
تحقيق ليفي بروفنسال القاهرة 1937.
34 - الضوء اللامع لأهل القرن التاسع.
تأليف محمد بن عبد الرحمن السخاوي.
مكتبة الحياة بيروت.
35 - طبقات سلاطين الإسلام.
تأليف استانلي لين بول.
ترجمه عن الفارسية مكي طاهر الكعبي.
حققه علي البصري.
منشورات البصري بغداد.
36 - فتوح البلدان.
تأليف البلاذري.
تحقيق صلاح الدين المنجد.
مكتبة النهضة المصرية القاهرة.
37 - الفقه على المذاهب الخمسة.
تأليف محمد جواد مغنية.
دار الجواد بيروت.
38 - فوات الوفيات.
تأليف محمد بن شاكر الكتبي.
تحقيق إحسان عباس.
دار صادر بيروت.
39 - الفهرست.
تأليف ابن النديم.
دار المعرفة بيروت.
40 - القاموس المحيط.
تأليف الفيروز ابادي.
المؤسسة العربية للطباعة والنشر بيروت.
41 - القرآن الكريم.
42 - القلقشندي وكتابه صبح الأعشى.
مجموعة من الباحثين في الجمعية المصرية للدراسات التاريخية.
الهيئة المصرية العامة للكتاب.
43 - قوانين الدواوين.
تأليف ابن مماتي.
تحقيق عزيز سوريال عطية.
مطبعة مصر 1943.
44 - الكامل في التاريخ.
تأليف ابن الأثير.
دار صادر بيروت.
45 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون.
تأليف حاجي خليفة.(13/391)
45 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون.
تأليف حاجي خليفة.
دار الفكر بيروت.
46 - الكليات (معجم في المصطلحات والفروق اللغوية).
تأليف أبي البقاء الكفوي.
تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري.
ووزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق.
47 - لسان العرب تأليف ابن منظور.
دار صادر بيروت.
48 - مآثر الإنافة في معالم الخلافة.
تأليف القلقشندي.
تحقيق عبد الستار أحمد فراج.
عالم الكتب بيروت.
49 - المتعة ومشروعيتها في الإسلام.
تحقيق الشيخ عبد الله نعمة.
دار الزهراء بيروت.
50 - محيط المحيط.
تأليف بطرس البستاني.
مكتبة لبنان بيروت.
51 - مذكرات جوانفيل (القديس لويس:
حياته وحملاته على مصر والشام).
ترجمة وتعليق حسن حبشي.
دار المعارف بمصر.
الطبعة الأولى 1968.
52 - مصطلحات صبح الأعشى.
تأليف محمد قنديل البقلي.
الهيئة المصرية العامة للكتاب.
53 - معجم الألفاظ والأعلام القرآنية.
تأليف محمد إسماعيل إبراهيم.
دار الفكر العربي القاهرة.
54 - معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي.
تأليف المستشرق زامباور. أخرجه زكي محمد حسن بك وحسن أحمد محمود.
مطبعة جامعة فؤاد الأول 1951.
55 - معجم البلدان.
تأليف ياقوت الحموي.
دار الكتاب العربي بيروت.
56 - معجم الشعراء.
تأليف المرزباني.
دار الكتب العلمية بيروت.
57 - معجم عبد النور المفصل.
تأليف جبّور عبد النور.
دار العلم للملايين بيروت.
58 - معجم قبائل العرب القديمة والحديثة.
تأليف عمر رضا كحالة.
مؤسسة الرسالة بيروت.
59 - معجم مقاييس اللغة.
تأليف أحمد بن فارس.
تحقيق عبد السلام محمد هارون.
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت.
60 - المعجم الوسيط.
مجمع اللغة العربية القاهرة.
61 - المغرب في حلى المغرب.
تأليف ابن سعيد المغربي.
تحقيق شوقي ضيف.
دار المعارف بمصر.
62 - مقدمة ابن خلدون تأليف عبد الرحمن بن خلدون.
دار الكتاب اللبناني بيروت.
63 - منطلق تاريخ لبنان.(13/392)
دار الكتاب اللبناني بيروت.
63 - منطلق تاريخ لبنان.
تأليف كمال سليمان الصليبي.
منشورات كارافان نيويورك.
64 - الموسوعة العربية الميسرة بإشراف محمد شفيق غربال.
دار الشعب ومؤسسة فرنكلين القاهرة.
65 - الموسوعة الفلسطينية. القسم العام:
أربعة مجلدات.
هيئة الموسوعة الفلسطينية دمشق.
66 - الميزان في تفسير القرآن.
تأليف محمد حسين الطباطبائي.
مؤسسة الأعلمي للطباعة بيروت.
67 - نزهة النفوس والأبدان في تواريخ الزمان.
تأليف الخطيب الصيرفي.
تحقيق حسن حبشي.
منشورات وزارة الثقافة بالجمهورية العربية المتحدة 1970مطبعة دار الكتب.
68 - النظم الإسلامية.
تأليف الشيخ صبحي الصالح.
دار العلم للملايين بيروت.
69 - الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة. جمعها محمد حميد الله.
دار النفائس بيروت.
70 - الوزارة والوزراء العصر الفاطمي.
تأليف محمد حمدي المناوي.
دار المعارف بمصر.
71 - وفيات الأعيان.
تأليف ابن خلكان.
تحقيق إحسان عباس.
دار الثقافة بيروت.
72 - ولاة مصر.
تأليف محمد بن يوسف الكندي.
تحقيق حسين نصار.
دار بيروت ودار صادر 1959.
73 - يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر.
تأليف أبي منصور الثعالبي.
دار الباز للنشر والتوزيع مكة المكرمة.(13/393)
فهرس
الموضوع الصفحة المقالة السادسة فيما يكتب في الوصايا الدينية، والمسامحات، والاطلاقات السلطانية والطّرخانيات وتحويل السنين والتذاكر، وفيها أربعة أبواب 3 الباب الأوّل في الوصايا الدينية، وفيه فصلان 3 الفصل الأوّل فيما لقدماء الكتاب من ذلك 3 الفصل الثاني فيما يكتب من ذلك في زماننا، وهو على ضربين 13 الضرب الأوّل ما يكتب عن الأبواب السلطانية 13 الضرب الثاني ما يكتب عن نوّاب السلطنة بالممالك 14 الباب الثاني فيما يكتب في المسامحات والاطلاقات، وفيه فصلان 24 الفصل الأوّل فيما يكتب في المسامحات، وهي على ضربين 24 الضرب الأوّل ما يكتب من الأبواب السلطانية، وهو على مرتبتين 24 المرتبة الأولى المسامحات العظام 24 المرتبة الثانية من المسامحات أن تكتب في قطع العادة الخ 39 الضرب الثاني ما يكتب عن نوّاب السلطنة بالممالك الشامية 41 الفصل الثاني فيما يكتب من الاطلاقات، وفيه طرفان 43 الطرف الأوّل فيما يكتب عن الأبواب السلطانية، وهو على ثلاث مراتب 43 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع الثلث مفتتحا ب «الحمد لله» 43 المرتبة الثانية ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 46 المرتبة الثالثة مما يكتب به في الاطلاقات أن يكتب في قطع العادة
مفتتحا ب «رسم بالأمر الشريف» 48 الباب الثالث في الطّرخانيات، وفيه فصلان 51 الفصل الأوّل في طرخانيات أرباب السيوف، وهي على ثلاث مراتب (لم يذكر إلا مرتبتين) 51 المرتبة الأولى أن يفتتح المرسوم المكتتب في ذلك ب «الحمد لله». 51(13/395)
الموضوع الصفحة المقالة السادسة فيما يكتب في الوصايا الدينية، والمسامحات، والاطلاقات السلطانية والطّرخانيات وتحويل السنين والتذاكر، وفيها أربعة أبواب 3 الباب الأوّل في الوصايا الدينية، وفيه فصلان 3 الفصل الأوّل فيما لقدماء الكتاب من ذلك 3 الفصل الثاني فيما يكتب من ذلك في زماننا، وهو على ضربين 13 الضرب الأوّل ما يكتب عن الأبواب السلطانية 13 الضرب الثاني ما يكتب عن نوّاب السلطنة بالممالك 14 الباب الثاني فيما يكتب في المسامحات والاطلاقات، وفيه فصلان 24 الفصل الأوّل فيما يكتب في المسامحات، وهي على ضربين 24 الضرب الأوّل ما يكتب من الأبواب السلطانية، وهو على مرتبتين 24 المرتبة الأولى المسامحات العظام 24 المرتبة الثانية من المسامحات أن تكتب في قطع العادة الخ 39 الضرب الثاني ما يكتب عن نوّاب السلطنة بالممالك الشامية 41 الفصل الثاني فيما يكتب من الاطلاقات، وفيه طرفان 43 الطرف الأوّل فيما يكتب عن الأبواب السلطانية، وهو على ثلاث مراتب 43 المرتبة الأولى ما يكتب في قطع الثلث مفتتحا ب «الحمد لله» 43 المرتبة الثانية ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 46 المرتبة الثالثة مما يكتب به في الاطلاقات أن يكتب في قطع العادة
مفتتحا ب «رسم بالأمر الشريف» 48 الباب الثالث في الطّرخانيات، وفيه فصلان 51 الفصل الأوّل في طرخانيات أرباب السيوف، وهي على ثلاث مراتب (لم يذكر إلا مرتبتين) 51 المرتبة الأولى أن يفتتح المرسوم المكتتب في ذلك ب «الحمد لله». 51
المرتبة الثانية أن يفتتح مرسوم الطرخانيات ب «أما بعد» 54 الفصل الثاني فيما يكتب في طرخانيات أرباب الأقلام 56 الباب الرابع فيما يكتب في التوفيق بين السنين الشمسية والقمرية المعبر عنه في زماننا بتحويل السنين وما يكتب في التذاكر، وفيه فصلان 58 الفصل الأوّل فيما يكتب في التوفيق بين السنين، وفيه طرفان 58 الطرف الأوّل في بيان أصل ذلك 58 الطرف الثاني في صورة ما يكتب في تحويل السنين، وهو على نوعين (لم يذكر إلا نوعا واحدا) 67 النوع الأوّل ما كان يكتب في ذلك عن الخلفاء، وفيه مذهبان 67 المذهب الأوّل أن يفتتح ما يكتب ب «أما بعد» 67 المذهب الثاني مما كان يكتب عن الخلفاء في تحويل السنين أن يفتتح ما يكتب بلفظ «من فلان أمير المؤمنين إلى أهل الدولة» ونحو ذلك، وفيه ضربان 75 الضرب الأوّل ما كان يكتب في الدولة الأيوبية 75 الضرب الثاني ما يكتب به في زماننا 78 الفصل الثاني فيما يكتب في التذاكر [وفيه ثلاثة أضرب] (ولم يذكر الضرب الأوّل) 84 الضرب الثاني ما كان يكتب لنوّاب السلطنة بالديار المصرية عند سفر السلطان عن الديار المصرية 96 الضرب الثالث ما كان يكتب لنوّاب القلاع وولاتها: إما عند
استقرار النائب بها وإما في خلال نيابته 105 المقالة السابعة في الاقطاعات والقطائع، وفيها بابان 111 الباب الأوّل في ذكر مقدّمات الاقطاعات، وفيه فصلان 111 الفصل الأوّل في ذكر مقدّمات تتعلق بالاقطاعات، وفيه ثلاثة أطراف 111 الطرف الأوّل في بيان معنى الاقطاعات وأصلها في الشرع 111 الطرف الثاني في بيان أوّل من وضع ديوان الجيش وكيفية ترتيب منازل الجند فيه والمساواة والمفاضلة في الاعطاء 113 الطرف الثالث في بيان من يستحق إثباته في الديوان وكيفية ترتيبهم فيه 117 الفصل الثاني في بيان حكم الاقطاع، وهو على ضربين 120 الضرب الأوّل إقطاع التمليك 120 الضرب الثاني إقطاع الاستغلال 122 الباب الثاني فيما يكتب في الاقطاعات في القديم والحديث، وفيه فصلان 125 الفصل الأوّل في أصل ذلك 125 الفصل الثاني في صورة ما يكتب في الاقطاعات، وفيه طرفان 130 الطرف الأوّل فيما كان يكتب من ذلك في الزمن القديم، وهو على ضربين 130 الضرب الأوّل ما كان يكتب عن الخلفاء، ولهم فيه طريقتان 130 الطريقة الأولى طريقة كتاب الخلفاء العباسيين ببغداد 130 الطريقة الثانية ما كان يكتب في الاقطاعات عن الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية 139
الضرب الثاني مما كان يكتب في الاقطاعات في الزمن المتقدم ما كان يكتب عن ملوك الشرق القائمين على خلفاء بني العباس، وفيه طريقتان 146 الطريقة الأولى أن يكتب في الابتداء «هذا كتاب» كما كان يكتب عن خلفاء بني العباس في ذلك 146 الطريقة الثانية ما كان يكتب عن الملوك الأيوبية بالديار المصرية، ولهم فيه أساليب 150 الأسلوب الأوّل أن يفتتح التوقيع المكتتب بالاقطاع بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» 151 الأسلوب الثاني أن يفتتح التوقيع بلفظ «أما بعد فإنّ كذا» 154 الأسلوب الثالث أن يفتتح التوقيع بما فيه معنى الشجاعة والقتال، وما في معنى ذلك 157 الطرف الثاني ما يكتب في الاقطاعات في زماننا، وهو على ضربين 159 الضرب الأوّل ما يكتب قبل أن ينقل إلى ديوان الإنشاء، وفيه جملتان 159 الجملة الأولى في ابتداء ما يكتب في ذلك من ديوان الجيش 159 الجملة الثانية في صورة ما يكتب في المربعة الجيشية 160 الضرب الثاني فيما يكتب في الاقطاعات من ديوان الإنشاء، وفيه خمس جمل 162 الجملة الأولى في ذكر اسم ما يكتب في الاقطاعات من ديوان الإنشاء 162 الجملة الثانية في بيان أصناف المناشير، وما يخص كل صنف منها من مقادير قطع الورق 163 الجملة الثالثة في بيان صورة ما يكتب في المناشير في الطرّة والمتن. 164(13/396)
المرتبة الثانية أن يفتتح مرسوم الطرخانيات ب «أما بعد» 54 الفصل الثاني فيما يكتب في طرخانيات أرباب الأقلام 56 الباب الرابع فيما يكتب في التوفيق بين السنين الشمسية والقمرية المعبر عنه في زماننا بتحويل السنين وما يكتب في التذاكر، وفيه فصلان 58 الفصل الأوّل فيما يكتب في التوفيق بين السنين، وفيه طرفان 58 الطرف الأوّل في بيان أصل ذلك 58 الطرف الثاني في صورة ما يكتب في تحويل السنين، وهو على نوعين (لم يذكر إلا نوعا واحدا) 67 النوع الأوّل ما كان يكتب في ذلك عن الخلفاء، وفيه مذهبان 67 المذهب الأوّل أن يفتتح ما يكتب ب «أما بعد» 67 المذهب الثاني مما كان يكتب عن الخلفاء في تحويل السنين أن يفتتح ما يكتب بلفظ «من فلان أمير المؤمنين إلى أهل الدولة» ونحو ذلك، وفيه ضربان 75 الضرب الأوّل ما كان يكتب في الدولة الأيوبية 75 الضرب الثاني ما يكتب به في زماننا 78 الفصل الثاني فيما يكتب في التذاكر [وفيه ثلاثة أضرب] (ولم يذكر الضرب الأوّل) 84 الضرب الثاني ما كان يكتب لنوّاب السلطنة بالديار المصرية عند سفر السلطان عن الديار المصرية 96 الضرب الثالث ما كان يكتب لنوّاب القلاع وولاتها: إما عند
استقرار النائب بها وإما في خلال نيابته 105 المقالة السابعة في الاقطاعات والقطائع، وفيها بابان 111 الباب الأوّل في ذكر مقدّمات الاقطاعات، وفيه فصلان 111 الفصل الأوّل في ذكر مقدّمات تتعلق بالاقطاعات، وفيه ثلاثة أطراف 111 الطرف الأوّل في بيان معنى الاقطاعات وأصلها في الشرع 111 الطرف الثاني في بيان أوّل من وضع ديوان الجيش وكيفية ترتيب منازل الجند فيه والمساواة والمفاضلة في الاعطاء 113 الطرف الثالث في بيان من يستحق إثباته في الديوان وكيفية ترتيبهم فيه 117 الفصل الثاني في بيان حكم الاقطاع، وهو على ضربين 120 الضرب الأوّل إقطاع التمليك 120 الضرب الثاني إقطاع الاستغلال 122 الباب الثاني فيما يكتب في الاقطاعات في القديم والحديث، وفيه فصلان 125 الفصل الأوّل في أصل ذلك 125 الفصل الثاني في صورة ما يكتب في الاقطاعات، وفيه طرفان 130 الطرف الأوّل فيما كان يكتب من ذلك في الزمن القديم، وهو على ضربين 130 الضرب الأوّل ما كان يكتب عن الخلفاء، ولهم فيه طريقتان 130 الطريقة الأولى طريقة كتاب الخلفاء العباسيين ببغداد 130 الطريقة الثانية ما كان يكتب في الاقطاعات عن الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية 139
الضرب الثاني مما كان يكتب في الاقطاعات في الزمن المتقدم ما كان يكتب عن ملوك الشرق القائمين على خلفاء بني العباس، وفيه طريقتان 146 الطريقة الأولى أن يكتب في الابتداء «هذا كتاب» كما كان يكتب عن خلفاء بني العباس في ذلك 146 الطريقة الثانية ما كان يكتب عن الملوك الأيوبية بالديار المصرية، ولهم فيه أساليب 150 الأسلوب الأوّل أن يفتتح التوقيع المكتتب بالاقطاع بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» 151 الأسلوب الثاني أن يفتتح التوقيع بلفظ «أما بعد فإنّ كذا» 154 الأسلوب الثالث أن يفتتح التوقيع بما فيه معنى الشجاعة والقتال، وما في معنى ذلك 157 الطرف الثاني ما يكتب في الاقطاعات في زماننا، وهو على ضربين 159 الضرب الأوّل ما يكتب قبل أن ينقل إلى ديوان الإنشاء، وفيه جملتان 159 الجملة الأولى في ابتداء ما يكتب في ذلك من ديوان الجيش 159 الجملة الثانية في صورة ما يكتب في المربعة الجيشية 160 الضرب الثاني فيما يكتب في الاقطاعات من ديوان الإنشاء، وفيه خمس جمل 162 الجملة الأولى في ذكر اسم ما يكتب في الاقطاعات من ديوان الإنشاء 162 الجملة الثانية في بيان أصناف المناشير، وما يخص كل صنف منها من مقادير قطع الورق 163 الجملة الثالثة في بيان صورة ما يكتب في المناشير في الطرّة والمتن. 164(13/397)
المرتبة الثانية أن يفتتح مرسوم الطرخانيات ب «أما بعد» 54 الفصل الثاني فيما يكتب في طرخانيات أرباب الأقلام 56 الباب الرابع فيما يكتب في التوفيق بين السنين الشمسية والقمرية المعبر عنه في زماننا بتحويل السنين وما يكتب في التذاكر، وفيه فصلان 58 الفصل الأوّل فيما يكتب في التوفيق بين السنين، وفيه طرفان 58 الطرف الأوّل في بيان أصل ذلك 58 الطرف الثاني في صورة ما يكتب في تحويل السنين، وهو على نوعين (لم يذكر إلا نوعا واحدا) 67 النوع الأوّل ما كان يكتب في ذلك عن الخلفاء، وفيه مذهبان 67 المذهب الأوّل أن يفتتح ما يكتب ب «أما بعد» 67 المذهب الثاني مما كان يكتب عن الخلفاء في تحويل السنين أن يفتتح ما يكتب بلفظ «من فلان أمير المؤمنين إلى أهل الدولة» ونحو ذلك، وفيه ضربان 75 الضرب الأوّل ما كان يكتب في الدولة الأيوبية 75 الضرب الثاني ما يكتب به في زماننا 78 الفصل الثاني فيما يكتب في التذاكر [وفيه ثلاثة أضرب] (ولم يذكر الضرب الأوّل) 84 الضرب الثاني ما كان يكتب لنوّاب السلطنة بالديار المصرية عند سفر السلطان عن الديار المصرية 96 الضرب الثالث ما كان يكتب لنوّاب القلاع وولاتها: إما عند
استقرار النائب بها وإما في خلال نيابته 105 المقالة السابعة في الاقطاعات والقطائع، وفيها بابان 111 الباب الأوّل في ذكر مقدّمات الاقطاعات، وفيه فصلان 111 الفصل الأوّل في ذكر مقدّمات تتعلق بالاقطاعات، وفيه ثلاثة أطراف 111 الطرف الأوّل في بيان معنى الاقطاعات وأصلها في الشرع 111 الطرف الثاني في بيان أوّل من وضع ديوان الجيش وكيفية ترتيب منازل الجند فيه والمساواة والمفاضلة في الاعطاء 113 الطرف الثالث في بيان من يستحق إثباته في الديوان وكيفية ترتيبهم فيه 117 الفصل الثاني في بيان حكم الاقطاع، وهو على ضربين 120 الضرب الأوّل إقطاع التمليك 120 الضرب الثاني إقطاع الاستغلال 122 الباب الثاني فيما يكتب في الاقطاعات في القديم والحديث، وفيه فصلان 125 الفصل الأوّل في أصل ذلك 125 الفصل الثاني في صورة ما يكتب في الاقطاعات، وفيه طرفان 130 الطرف الأوّل فيما كان يكتب من ذلك في الزمن القديم، وهو على ضربين 130 الضرب الأوّل ما كان يكتب عن الخلفاء، ولهم فيه طريقتان 130 الطريقة الأولى طريقة كتاب الخلفاء العباسيين ببغداد 130 الطريقة الثانية ما كان يكتب في الاقطاعات عن الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية 139
الضرب الثاني مما كان يكتب في الاقطاعات في الزمن المتقدم ما كان يكتب عن ملوك الشرق القائمين على خلفاء بني العباس، وفيه طريقتان 146 الطريقة الأولى أن يكتب في الابتداء «هذا كتاب» كما كان يكتب عن خلفاء بني العباس في ذلك 146 الطريقة الثانية ما كان يكتب عن الملوك الأيوبية بالديار المصرية، ولهم فيه أساليب 150 الأسلوب الأوّل أن يفتتح التوقيع المكتتب بالاقطاع بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» 151 الأسلوب الثاني أن يفتتح التوقيع بلفظ «أما بعد فإنّ كذا» 154 الأسلوب الثالث أن يفتتح التوقيع بما فيه معنى الشجاعة والقتال، وما في معنى ذلك 157 الطرف الثاني ما يكتب في الاقطاعات في زماننا، وهو على ضربين 159 الضرب الأوّل ما يكتب قبل أن ينقل إلى ديوان الإنشاء، وفيه جملتان 159 الجملة الأولى في ابتداء ما يكتب في ذلك من ديوان الجيش 159 الجملة الثانية في صورة ما يكتب في المربعة الجيشية 160 الضرب الثاني فيما يكتب في الاقطاعات من ديوان الإنشاء، وفيه خمس جمل 162 الجملة الأولى في ذكر اسم ما يكتب في الاقطاعات من ديوان الإنشاء 162 الجملة الثانية في بيان أصناف المناشير، وما يخص كل صنف منها من مقادير قطع الورق 163 الجملة الثالثة في بيان صورة ما يكتب في المناشير في الطرّة والمتن. 164
الجملة الرابعة في الطّغرى التي تكون بين الطرّة المكتتبة في أعلى
المنشور وبين البسملة 167 الجملة الخامسة في ذكر طرف من نسخ المناشير التي تكتب في الاقطاعات في زماننا، وهي على ثلاثة أنواع 171 النوع الأوّل ما يفتتح ب «الحمد لله» وهو على ثلاثة أضرب 172 الضرب الأوّل مناشير أولاد الملوك 172 الضرب الثاني مناشير الأمراء مقدّمي الألوف 173 الضرب الثالث مناشير أمراء الطبلخاناه 188 النوع الثاني من المناشير ما يفتتح ب «أما بعد» وهو على ضربين 193 الضرب الأوّل في مناشير العشرات كائنا ذلك الأمير من كان 193 الضرب الثاني في مناشير أولاد الأمراء 196 النوع الثالث من المناشير ما يفتتح ب «خرج الأمر الشريف» 200 المقالة الثامنة في الأيمان، وفيها بابان 202 الباب الأوّل في أصول يتعين على الكاتب معرفتها قبل الخوض في الأيمان، وفيه فصلان 202 الفصل الأوّل فيما يقع به القسم، وفيه طرفان 202 الطرف الأوّل في الأقسام التي أقسم بها الله تعالى في كتابه العزيز 202 الطرف الثاني في الأقسام التي تقسم بها الخلق، وهي على ضربين 206 الضرب الأوّل ما كان يقسم به في الجاهلية 206 الضرب الثاني الأقسام الشرعية 208 الفصل الثاني في بيان معنى اليمين الغموس ولغو اليمين والتحذير من الحنث والوقوع في اليمين الغموس، وفيه طرفان 212 الطرف الأوّل في بيان معنى اليمين الغموس ولغو اليمين 212 الطرف الثاني في التحذير من الوقوع في اليمين الغموس 213 الباب الثاني في نسخ الأيمان الملوكية، وفيه فصلان 215
الفصل الأوّل في نسخ الأيمان المتعلقة بالخلفاء، وهي على نوعين 215 النوع الأوّل في الأيمان التي يحلف بها على بيعة الخليفة عند مبايعته 215 [النوع] الثاني الأيمان التي يحلف بها الخلفاء (ووقع سهوا:(13/398)
الجملة الرابعة في الطّغرى التي تكون بين الطرّة المكتتبة في أعلى
المنشور وبين البسملة 167 الجملة الخامسة في ذكر طرف من نسخ المناشير التي تكتب في الاقطاعات في زماننا، وهي على ثلاثة أنواع 171 النوع الأوّل ما يفتتح ب «الحمد لله» وهو على ثلاثة أضرب 172 الضرب الأوّل مناشير أولاد الملوك 172 الضرب الثاني مناشير الأمراء مقدّمي الألوف 173 الضرب الثالث مناشير أمراء الطبلخاناه 188 النوع الثاني من المناشير ما يفتتح ب «أما بعد» وهو على ضربين 193 الضرب الأوّل في مناشير العشرات كائنا ذلك الأمير من كان 193 الضرب الثاني في مناشير أولاد الأمراء 196 النوع الثالث من المناشير ما يفتتح ب «خرج الأمر الشريف» 200 المقالة الثامنة في الأيمان، وفيها بابان 202 الباب الأوّل في أصول يتعين على الكاتب معرفتها قبل الخوض في الأيمان، وفيه فصلان 202 الفصل الأوّل فيما يقع به القسم، وفيه طرفان 202 الطرف الأوّل في الأقسام التي أقسم بها الله تعالى في كتابه العزيز 202 الطرف الثاني في الأقسام التي تقسم بها الخلق، وهي على ضربين 206 الضرب الأوّل ما كان يقسم به في الجاهلية 206 الضرب الثاني الأقسام الشرعية 208 الفصل الثاني في بيان معنى اليمين الغموس ولغو اليمين والتحذير من الحنث والوقوع في اليمين الغموس، وفيه طرفان 212 الطرف الأوّل في بيان معنى اليمين الغموس ولغو اليمين 212 الطرف الثاني في التحذير من الوقوع في اليمين الغموس 213 الباب الثاني في نسخ الأيمان الملوكية، وفيه فصلان 215
الفصل الأوّل في نسخ الأيمان المتعلقة بالخلفاء، وهي على نوعين 215 النوع الأوّل في الأيمان التي يحلف بها على بيعة الخليفة عند مبايعته 215 [النوع] الثاني الأيمان التي يحلف بها الخلفاء (ووقع سهوا:(13/399)
الجملة الرابعة في الطّغرى التي تكون بين الطرّة المكتتبة في أعلى
المنشور وبين البسملة 167 الجملة الخامسة في ذكر طرف من نسخ المناشير التي تكتب في الاقطاعات في زماننا، وهي على ثلاثة أنواع 171 النوع الأوّل ما يفتتح ب «الحمد لله» وهو على ثلاثة أضرب 172 الضرب الأوّل مناشير أولاد الملوك 172 الضرب الثاني مناشير الأمراء مقدّمي الألوف 173 الضرب الثالث مناشير أمراء الطبلخاناه 188 النوع الثاني من المناشير ما يفتتح ب «أما بعد» وهو على ضربين 193 الضرب الأوّل في مناشير العشرات كائنا ذلك الأمير من كان 193 الضرب الثاني في مناشير أولاد الأمراء 196 النوع الثالث من المناشير ما يفتتح ب «خرج الأمر الشريف» 200 المقالة الثامنة في الأيمان، وفيها بابان 202 الباب الأوّل في أصول يتعين على الكاتب معرفتها قبل الخوض في الأيمان، وفيه فصلان 202 الفصل الأوّل فيما يقع به القسم، وفيه طرفان 202 الطرف الأوّل في الأقسام التي أقسم بها الله تعالى في كتابه العزيز 202 الطرف الثاني في الأقسام التي تقسم بها الخلق، وهي على ضربين 206 الضرب الأوّل ما كان يقسم به في الجاهلية 206 الضرب الثاني الأقسام الشرعية 208 الفصل الثاني في بيان معنى اليمين الغموس ولغو اليمين والتحذير من الحنث والوقوع في اليمين الغموس، وفيه طرفان 212 الطرف الأوّل في بيان معنى اليمين الغموس ولغو اليمين 212 الطرف الثاني في التحذير من الوقوع في اليمين الغموس 213 الباب الثاني في نسخ الأيمان الملوكية، وفيه فصلان 215
الفصل الأوّل في نسخ الأيمان المتعلقة بالخلفاء، وهي على نوعين 215 النوع الأوّل في الأيمان التي يحلف بها على بيعة الخليفة عند مبايعته 215 [النوع] الثاني الأيمان التي يحلف بها الخلفاء (ووقع سهوا:
الضرب الثاني الخ) 219 الفصل الثاني في نسخ الأيمان المتعلقة بالملوك، وفيه خمسة مهايع (لم يذكر المهيع الخامس) 220 المهيع الأوّل في بيان الأيمان التي يحلّف بها المسلمون، وهي على نوعين 220 النوع الأوّل أيمان أهل السنة 220 النوع الثاني أيمان أهل البدع، وهم ثلاث طوائف 225 الطائفة الأولى الخوارج 225 الطائفة الثانية الشيعة، وهم خمس فرق 229 الفرقة الأولى الزيدية 230 الفرقة الثانية الإمامية 231 الفرقة الثالثة الاسماعيلية 238 الفرقة الرابعة الدّرزية 251 الفرقة الخامسة النّصيرية 253 الطائفة الثالثة القدرية 254 المهيع الثاني في الأيمان التي يحلّف بها أهل الكفر، وهم على ضربين 256 الضرب الأوّل من زعم منهم التمسك بشريعة نبيّ من الأنبياء، وهم أصحاب ثلاث ملل 256 الملة الأولى اليهود، وهم طائفتان 256 الطائفة الأولى المتفق على يهوديتهم، وهم القرّاؤون 260 الطائفة الثانية من اليهود السامرة 270 [الملّة الثانية] النصرانية (ووقع سهوا: الفرقة الثالثة الخ) وهم
ثلاث فرق 273 الفرقة الأولى الملكانية 279 الفرقة الثانية اليعقوبية 281 الفرقة الثالثة النسطورية 283 الملة الثالثة المجوسية، وهم ثلاث فرق 294 الفرقة الأولى الكيومرتية 294 الفرقة الثانية الثنوية 294 الفرقة الثالثة الزرادشتية 294 المهيع الثالث في الأيمان التي يحلّف بها الحكماء، وهم على ثلاثة أصناف 299 الصنف الأوّل البراهمة 300 الصنف الثاني حكماء العرب 300 الصنف الثالث حكماء الروم، وهم على ضربين 300 الضرب الأوّل القدماء منهم 300 الضرب الثاني المتأخرون منهم، وهم أصحاب أرسطاطاليس 300 المهيع الرابع في بيان المحلوف عليه، وما يقع على العموم، وما يختص به كل واحد من أرباب الوظائف مما يناسب وظيفته 307 المهيع الخامس في صورة كتابة نسخ الأيمان التي يحلّف بها، وهي على ضربين 319 الضرب الأوّل الأيمان التي يحلّف بها الأمراء في الديار المصرية 319 الضرب الثاني الأيمان التي يحلّف بها نوّاب السلطنة والأمراء بالممالك الشامية، وما انضم إليها 320 المقالة التاسعة في عقود الصلح والفسوخ الواردة على ذلك، وفيها خمسة أبواب 321 الباب الأوّل في الأمانات، وفيه فصلان 321
الفصل الأوّل في عقد الأمان لأهل الكفر، وفيه طرفان 321 الطرف الأوّل في ذكر أصله وشرطه وحكمه 321 الطرف الثاني في صورة ما يكتب فيه 323 الفصل الثاني في كتابة الأمانات لأهل الإسلام، وفيه طرفان 328 الطرف الأوّل في أصله 328 الطرف الثاني فيما يكتب في الأمانات، وفيه مذهبان 329 المذهب الأوّل أن يفتتح الأمان بلفظ: «هذا كتاب أمان الخ» وهو على نوعين 329 النوع الأوّل ما يكتب عن الخلفاء، وفيه مذهبان 330 المذهب الأوّل أن يفتتح الأمان بلفظ: «هذا» 330 المذهب الثاني أن يفتتح الأمان بخطبة مفتتحة بالحمد 330 النوع الثاني ما يكتب به عن الملوك، وهو على ضربين 335 الضرب الأوّل ما يكتب من هذا النمط مما كان يصدر عن وزراء الخلفاء والملوك المتغلبين على الأمر معهم، ولهم فيه أسلوبان 335 الأسلوب الأوّل أن يصدر بالتماس المستأمن الأمان 335 الأسلوب الثاني ألا يتعرّض في الأمان لالتماس المستأمن الأمان 338 المذهب الثاني مما يكتب به في الأمانات لأهل الإسلام أن يفتتح الأمان بلفظ: «رسم» 338 الضرب الثاني من الأمانات التي تكتب لأهل الإسلام ما عليه مصطلح زماننا، وهي صنفان 341 الصنف الأوّل ما يكتب من الأبواب السلطانية 341 الصنف الثاني من الأمانات الجاري عليها مصطلح كتاب الزمان ما يكتب عن نوّاب الممالك الشامية 349 الباب الثاني من المقالة التاسعة في الدفن (دفن الذنوب) وفيه فصلان 351
الفصل الأوّل في أصله وكونه مأخوذا عن العرب 351 الفصل الثاني فيما يكتب في الدفن عن الملوك 352 الباب الثالث فيما يكتب في عقد الذمة، وفيه فصلان 355 الفصل الأوّل في الأصول التي يرجع إليها هذا العقد، وفيه طرفان 355 الطرف الأوّل في بيان رتبة هذا العقد، ومعناه وأصله من الكتاب والسنة 355 الطرف الثاني في ذكر ما يحتاج الكاتب إلى معرفته في عقد الذمة 359 الفصل الثاني ما يكتب في متعلقات أهل الذمة عند خروجهم عن لوازم عقد الذمة 365 (تم فهرس الجزء الثالث عشر من كتاب صبح الأعشى)(13/400)
الضرب الثاني الخ) 219 الفصل الثاني في نسخ الأيمان المتعلقة بالملوك، وفيه خمسة مهايع (لم يذكر المهيع الخامس) 220 المهيع الأوّل في بيان الأيمان التي يحلّف بها المسلمون، وهي على نوعين 220 النوع الأوّل أيمان أهل السنة 220 النوع الثاني أيمان أهل البدع، وهم ثلاث طوائف 225 الطائفة الأولى الخوارج 225 الطائفة الثانية الشيعة، وهم خمس فرق 229 الفرقة الأولى الزيدية 230 الفرقة الثانية الإمامية 231 الفرقة الثالثة الاسماعيلية 238 الفرقة الرابعة الدّرزية 251 الفرقة الخامسة النّصيرية 253 الطائفة الثالثة القدرية 254 المهيع الثاني في الأيمان التي يحلّف بها أهل الكفر، وهم على ضربين 256 الضرب الأوّل من زعم منهم التمسك بشريعة نبيّ من الأنبياء، وهم أصحاب ثلاث ملل 256 الملة الأولى اليهود، وهم طائفتان 256 الطائفة الأولى المتفق على يهوديتهم، وهم القرّاؤون 260 الطائفة الثانية من اليهود السامرة 270 [الملّة الثانية] النصرانية (ووقع سهوا: الفرقة الثالثة الخ) وهم
ثلاث فرق 273 الفرقة الأولى الملكانية 279 الفرقة الثانية اليعقوبية 281 الفرقة الثالثة النسطورية 283 الملة الثالثة المجوسية، وهم ثلاث فرق 294 الفرقة الأولى الكيومرتية 294 الفرقة الثانية الثنوية 294 الفرقة الثالثة الزرادشتية 294 المهيع الثالث في الأيمان التي يحلّف بها الحكماء، وهم على ثلاثة أصناف 299 الصنف الأوّل البراهمة 300 الصنف الثاني حكماء العرب 300 الصنف الثالث حكماء الروم، وهم على ضربين 300 الضرب الأوّل القدماء منهم 300 الضرب الثاني المتأخرون منهم، وهم أصحاب أرسطاطاليس 300 المهيع الرابع في بيان المحلوف عليه، وما يقع على العموم، وما يختص به كل واحد من أرباب الوظائف مما يناسب وظيفته 307 المهيع الخامس في صورة كتابة نسخ الأيمان التي يحلّف بها، وهي على ضربين 319 الضرب الأوّل الأيمان التي يحلّف بها الأمراء في الديار المصرية 319 الضرب الثاني الأيمان التي يحلّف بها نوّاب السلطنة والأمراء بالممالك الشامية، وما انضم إليها 320 المقالة التاسعة في عقود الصلح والفسوخ الواردة على ذلك، وفيها خمسة أبواب 321 الباب الأوّل في الأمانات، وفيه فصلان 321
الفصل الأوّل في عقد الأمان لأهل الكفر، وفيه طرفان 321 الطرف الأوّل في ذكر أصله وشرطه وحكمه 321 الطرف الثاني في صورة ما يكتب فيه 323 الفصل الثاني في كتابة الأمانات لأهل الإسلام، وفيه طرفان 328 الطرف الأوّل في أصله 328 الطرف الثاني فيما يكتب في الأمانات، وفيه مذهبان 329 المذهب الأوّل أن يفتتح الأمان بلفظ: «هذا كتاب أمان الخ» وهو على نوعين 329 النوع الأوّل ما يكتب عن الخلفاء، وفيه مذهبان 330 المذهب الأوّل أن يفتتح الأمان بلفظ: «هذا» 330 المذهب الثاني أن يفتتح الأمان بخطبة مفتتحة بالحمد 330 النوع الثاني ما يكتب به عن الملوك، وهو على ضربين 335 الضرب الأوّل ما يكتب من هذا النمط مما كان يصدر عن وزراء الخلفاء والملوك المتغلبين على الأمر معهم، ولهم فيه أسلوبان 335 الأسلوب الأوّل أن يصدر بالتماس المستأمن الأمان 335 الأسلوب الثاني ألا يتعرّض في الأمان لالتماس المستأمن الأمان 338 المذهب الثاني مما يكتب به في الأمانات لأهل الإسلام أن يفتتح الأمان بلفظ: «رسم» 338 الضرب الثاني من الأمانات التي تكتب لأهل الإسلام ما عليه مصطلح زماننا، وهي صنفان 341 الصنف الأوّل ما يكتب من الأبواب السلطانية 341 الصنف الثاني من الأمانات الجاري عليها مصطلح كتاب الزمان ما يكتب عن نوّاب الممالك الشامية 349 الباب الثاني من المقالة التاسعة في الدفن (دفن الذنوب) وفيه فصلان 351
الفصل الأوّل في أصله وكونه مأخوذا عن العرب 351 الفصل الثاني فيما يكتب في الدفن عن الملوك 352 الباب الثالث فيما يكتب في عقد الذمة، وفيه فصلان 355 الفصل الأوّل في الأصول التي يرجع إليها هذا العقد، وفيه طرفان 355 الطرف الأوّل في بيان رتبة هذا العقد، ومعناه وأصله من الكتاب والسنة 355 الطرف الثاني في ذكر ما يحتاج الكاتب إلى معرفته في عقد الذمة 359 الفصل الثاني ما يكتب في متعلقات أهل الذمة عند خروجهم عن لوازم عقد الذمة 365 (تم فهرس الجزء الثالث عشر من كتاب صبح الأعشى)(13/401)
الضرب الثاني الخ) 219 الفصل الثاني في نسخ الأيمان المتعلقة بالملوك، وفيه خمسة مهايع (لم يذكر المهيع الخامس) 220 المهيع الأوّل في بيان الأيمان التي يحلّف بها المسلمون، وهي على نوعين 220 النوع الأوّل أيمان أهل السنة 220 النوع الثاني أيمان أهل البدع، وهم ثلاث طوائف 225 الطائفة الأولى الخوارج 225 الطائفة الثانية الشيعة، وهم خمس فرق 229 الفرقة الأولى الزيدية 230 الفرقة الثانية الإمامية 231 الفرقة الثالثة الاسماعيلية 238 الفرقة الرابعة الدّرزية 251 الفرقة الخامسة النّصيرية 253 الطائفة الثالثة القدرية 254 المهيع الثاني في الأيمان التي يحلّف بها أهل الكفر، وهم على ضربين 256 الضرب الأوّل من زعم منهم التمسك بشريعة نبيّ من الأنبياء، وهم أصحاب ثلاث ملل 256 الملة الأولى اليهود، وهم طائفتان 256 الطائفة الأولى المتفق على يهوديتهم، وهم القرّاؤون 260 الطائفة الثانية من اليهود السامرة 270 [الملّة الثانية] النصرانية (ووقع سهوا: الفرقة الثالثة الخ) وهم
ثلاث فرق 273 الفرقة الأولى الملكانية 279 الفرقة الثانية اليعقوبية 281 الفرقة الثالثة النسطورية 283 الملة الثالثة المجوسية، وهم ثلاث فرق 294 الفرقة الأولى الكيومرتية 294 الفرقة الثانية الثنوية 294 الفرقة الثالثة الزرادشتية 294 المهيع الثالث في الأيمان التي يحلّف بها الحكماء، وهم على ثلاثة أصناف 299 الصنف الأوّل البراهمة 300 الصنف الثاني حكماء العرب 300 الصنف الثالث حكماء الروم، وهم على ضربين 300 الضرب الأوّل القدماء منهم 300 الضرب الثاني المتأخرون منهم، وهم أصحاب أرسطاطاليس 300 المهيع الرابع في بيان المحلوف عليه، وما يقع على العموم، وما يختص به كل واحد من أرباب الوظائف مما يناسب وظيفته 307 المهيع الخامس في صورة كتابة نسخ الأيمان التي يحلّف بها، وهي على ضربين 319 الضرب الأوّل الأيمان التي يحلّف بها الأمراء في الديار المصرية 319 الضرب الثاني الأيمان التي يحلّف بها نوّاب السلطنة والأمراء بالممالك الشامية، وما انضم إليها 320 المقالة التاسعة في عقود الصلح والفسوخ الواردة على ذلك، وفيها خمسة أبواب 321 الباب الأوّل في الأمانات، وفيه فصلان 321
الفصل الأوّل في عقد الأمان لأهل الكفر، وفيه طرفان 321 الطرف الأوّل في ذكر أصله وشرطه وحكمه 321 الطرف الثاني في صورة ما يكتب فيه 323 الفصل الثاني في كتابة الأمانات لأهل الإسلام، وفيه طرفان 328 الطرف الأوّل في أصله 328 الطرف الثاني فيما يكتب في الأمانات، وفيه مذهبان 329 المذهب الأوّل أن يفتتح الأمان بلفظ: «هذا كتاب أمان الخ» وهو على نوعين 329 النوع الأوّل ما يكتب عن الخلفاء، وفيه مذهبان 330 المذهب الأوّل أن يفتتح الأمان بلفظ: «هذا» 330 المذهب الثاني أن يفتتح الأمان بخطبة مفتتحة بالحمد 330 النوع الثاني ما يكتب به عن الملوك، وهو على ضربين 335 الضرب الأوّل ما يكتب من هذا النمط مما كان يصدر عن وزراء الخلفاء والملوك المتغلبين على الأمر معهم، ولهم فيه أسلوبان 335 الأسلوب الأوّل أن يصدر بالتماس المستأمن الأمان 335 الأسلوب الثاني ألا يتعرّض في الأمان لالتماس المستأمن الأمان 338 المذهب الثاني مما يكتب به في الأمانات لأهل الإسلام أن يفتتح الأمان بلفظ: «رسم» 338 الضرب الثاني من الأمانات التي تكتب لأهل الإسلام ما عليه مصطلح زماننا، وهي صنفان 341 الصنف الأوّل ما يكتب من الأبواب السلطانية 341 الصنف الثاني من الأمانات الجاري عليها مصطلح كتاب الزمان ما يكتب عن نوّاب الممالك الشامية 349 الباب الثاني من المقالة التاسعة في الدفن (دفن الذنوب) وفيه فصلان 351
الفصل الأوّل في أصله وكونه مأخوذا عن العرب 351 الفصل الثاني فيما يكتب في الدفن عن الملوك 352 الباب الثالث فيما يكتب في عقد الذمة، وفيه فصلان 355 الفصل الأوّل في الأصول التي يرجع إليها هذا العقد، وفيه طرفان 355 الطرف الأوّل في بيان رتبة هذا العقد، ومعناه وأصله من الكتاب والسنة 355 الطرف الثاني في ذكر ما يحتاج الكاتب إلى معرفته في عقد الذمة 359 الفصل الثاني ما يكتب في متعلقات أهل الذمة عند خروجهم عن لوازم عقد الذمة 365 (تم فهرس الجزء الثالث عشر من كتاب صبح الأعشى)(13/402)
الضرب الثاني الخ) 219 الفصل الثاني في نسخ الأيمان المتعلقة بالملوك، وفيه خمسة مهايع (لم يذكر المهيع الخامس) 220 المهيع الأوّل في بيان الأيمان التي يحلّف بها المسلمون، وهي على نوعين 220 النوع الأوّل أيمان أهل السنة 220 النوع الثاني أيمان أهل البدع، وهم ثلاث طوائف 225 الطائفة الأولى الخوارج 225 الطائفة الثانية الشيعة، وهم خمس فرق 229 الفرقة الأولى الزيدية 230 الفرقة الثانية الإمامية 231 الفرقة الثالثة الاسماعيلية 238 الفرقة الرابعة الدّرزية 251 الفرقة الخامسة النّصيرية 253 الطائفة الثالثة القدرية 254 المهيع الثاني في الأيمان التي يحلّف بها أهل الكفر، وهم على ضربين 256 الضرب الأوّل من زعم منهم التمسك بشريعة نبيّ من الأنبياء، وهم أصحاب ثلاث ملل 256 الملة الأولى اليهود، وهم طائفتان 256 الطائفة الأولى المتفق على يهوديتهم، وهم القرّاؤون 260 الطائفة الثانية من اليهود السامرة 270 [الملّة الثانية] النصرانية (ووقع سهوا: الفرقة الثالثة الخ) وهم
ثلاث فرق 273 الفرقة الأولى الملكانية 279 الفرقة الثانية اليعقوبية 281 الفرقة الثالثة النسطورية 283 الملة الثالثة المجوسية، وهم ثلاث فرق 294 الفرقة الأولى الكيومرتية 294 الفرقة الثانية الثنوية 294 الفرقة الثالثة الزرادشتية 294 المهيع الثالث في الأيمان التي يحلّف بها الحكماء، وهم على ثلاثة أصناف 299 الصنف الأوّل البراهمة 300 الصنف الثاني حكماء العرب 300 الصنف الثالث حكماء الروم، وهم على ضربين 300 الضرب الأوّل القدماء منهم 300 الضرب الثاني المتأخرون منهم، وهم أصحاب أرسطاطاليس 300 المهيع الرابع في بيان المحلوف عليه، وما يقع على العموم، وما يختص به كل واحد من أرباب الوظائف مما يناسب وظيفته 307 المهيع الخامس في صورة كتابة نسخ الأيمان التي يحلّف بها، وهي على ضربين 319 الضرب الأوّل الأيمان التي يحلّف بها الأمراء في الديار المصرية 319 الضرب الثاني الأيمان التي يحلّف بها نوّاب السلطنة والأمراء بالممالك الشامية، وما انضم إليها 320 المقالة التاسعة في عقود الصلح والفسوخ الواردة على ذلك، وفيها خمسة أبواب 321 الباب الأوّل في الأمانات، وفيه فصلان 321
الفصل الأوّل في عقد الأمان لأهل الكفر، وفيه طرفان 321 الطرف الأوّل في ذكر أصله وشرطه وحكمه 321 الطرف الثاني في صورة ما يكتب فيه 323 الفصل الثاني في كتابة الأمانات لأهل الإسلام، وفيه طرفان 328 الطرف الأوّل في أصله 328 الطرف الثاني فيما يكتب في الأمانات، وفيه مذهبان 329 المذهب الأوّل أن يفتتح الأمان بلفظ: «هذا كتاب أمان الخ» وهو على نوعين 329 النوع الأوّل ما يكتب عن الخلفاء، وفيه مذهبان 330 المذهب الأوّل أن يفتتح الأمان بلفظ: «هذا» 330 المذهب الثاني أن يفتتح الأمان بخطبة مفتتحة بالحمد 330 النوع الثاني ما يكتب به عن الملوك، وهو على ضربين 335 الضرب الأوّل ما يكتب من هذا النمط مما كان يصدر عن وزراء الخلفاء والملوك المتغلبين على الأمر معهم، ولهم فيه أسلوبان 335 الأسلوب الأوّل أن يصدر بالتماس المستأمن الأمان 335 الأسلوب الثاني ألا يتعرّض في الأمان لالتماس المستأمن الأمان 338 المذهب الثاني مما يكتب به في الأمانات لأهل الإسلام أن يفتتح الأمان بلفظ: «رسم» 338 الضرب الثاني من الأمانات التي تكتب لأهل الإسلام ما عليه مصطلح زماننا، وهي صنفان 341 الصنف الأوّل ما يكتب من الأبواب السلطانية 341 الصنف الثاني من الأمانات الجاري عليها مصطلح كتاب الزمان ما يكتب عن نوّاب الممالك الشامية 349 الباب الثاني من المقالة التاسعة في الدفن (دفن الذنوب) وفيه فصلان 351
الفصل الأوّل في أصله وكونه مأخوذا عن العرب 351 الفصل الثاني فيما يكتب في الدفن عن الملوك 352 الباب الثالث فيما يكتب في عقد الذمة، وفيه فصلان 355 الفصل الأوّل في الأصول التي يرجع إليها هذا العقد، وفيه طرفان 355 الطرف الأوّل في بيان رتبة هذا العقد، ومعناه وأصله من الكتاب والسنة 355 الطرف الثاني في ذكر ما يحتاج الكاتب إلى معرفته في عقد الذمة 359 الفصل الثاني ما يكتب في متعلقات أهل الذمة عند خروجهم عن لوازم عقد الذمة 365 (تم فهرس الجزء الثالث عشر من كتاب صبح الأعشى)(13/403)
المجلد الرابع عشر
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله وصحبه
تتمة المقالة التاسعة
الباب الرابع من المقالة التاسعة (في الهدن الواقعة بين ملوك الإسلام وملوك الكفر وفيه فصلان)
الفصل الأوّل في أصول تتعيّن على الكاتب معرفتها وفيه ثلاثة أطراف
الطرف الأوّل (في بيان رتبتها ومعناها، وذكر ما يرادفها من الألفاظ)
أما رتبتها فإنها متأخرة عند قوّة السلطان عن عقد الجزية: لأن في الجزية ما يدلّ على ضعف المعقود له، وفي الهدنة ما يدلّ على قوّته.
وأما معناها فالمهادنة في اللّغة المصالحة يقال: هادنه يهادنه مهادنة إذا صالحه والاسم الهدنة. وهي إما من هدن بفتح الدال يهدن بضمّها (1)
__________
(1) في هامش الطبعة الأميرية أنه كذا في المصباح وفي نسخة خطية من الصحاح، أي من باب «قتل». أما في القاموس المحيط واللسان فقد ضبطه بما يفيد أنه من باب «ضرب». وفي الهدون معنيان: الأول السكون، والثاني البطء والترييث.(14/3)
هدونا إذا سكن، ومنه قولهم: «هدنة على دخن». أي سكون على غلّ (1)، أو تكون قد سميت بذلك لما يوجد من تأخير الحرب بسببها.
ويرادفها ألفاظ أخرى:
أحدها الموادعة، ومعناها المصالحة أيضا، أخذا من قولهم: عليك بالمودوع: يريدون بالسّكينة والوقار، فتكون راجعة إلى معنى السّكون.
وإما أخذا من توديع الثّوب ونحوه: وهو جعله في صوان يصونه، لأنه بها تحصل الصيّانة عن القتال. وإما أخذا من الدّعة: وهي الخفض والهناء، لأن بسببها تحصل الراحة من تعب الحرب وكلفه.
الثاني المسالمة ومعناها ظاهر: لأن بوقوعها يسلم كلّ من أهل الجانبين من الآخر.
الثالث المقاضاة، ومعناها [المحاكمة مفاعلة من القضاء بمعنى الفصل والحكم] (2).
الرابع المواصفة، سمّيت بذلك لأن الكاتب يصف ما وقع عليه الصّلح من الجانبين. على أن الكتّاب يخصّون لفظ المواصفة بما إذا كانت المهادنة من الجانبين، ولا شكّ أن ذلك جار في لفظ الموادعة والمسالمة والمقاضاة أيضا: لأن المفاعلة لا تكون إلا بين اثنين إلا في ألفاظ قليلة محفوظة، على ما هو مقرّر في علم العربية.
أما لفظ الهدنة فإنّه يصدق أن يكون من جانب واحد، بأن يعقد الأعلى الهدنة لمن هو دونه. على أنها عند التّحقيق ترجع إلى معنى المفاعلة، إذ لا تتصوّر إلا من آثنين.
__________
(1) في الحديث: «هدنة على. دخن وجماعة على أقذاء». وفي اللسان: أي سكون لعلّة لا للصلح. وعن ابن الأثير: شبهها بدخان الحطب الرطب لما بينهم من الفساد الباطن تحت الصلاح الظاهر.
(2) بيّض لها بالأصل. والزيادة من الطبعة الأميرية.(14/4)
وأما في الشّرع فعبارة عن صلح يقع بين زعيمين في زمن معلوم بشروط مخصوصة، على ما سيأتي بيانه فيما بعد، إن شاء الله تعالى.
والأصل فيها أن تكون بين ملكين مسلم وكافر، أو بين نائبيهما، أو بين أحدهما ونائب الآخر. وعلى ذلك رتّب الفقهاء رحمهم الله باب الهدنة في كتبهم. قال صاحب «موادّ البيان» (1): وقد يتعاقد عظماء أهل الإسلام على التّوادع والتّسالم واعتقاد المودّة والتّصافي، والتّوازر والتّعاون، والتّعاضد والتّناصر، ويشترط الأضعف منهم للأقوى تسليم بعض ما في يده والتّفادي عنه بمعاطفته والانقياد إلى اتّباعه، والطاعة والاحترام في المخاطبة، والمجاملة في المعاملة، أو الإمداد بجيش، أو امتثال الأوامر والنواهي وغيرها مما لا يحصى.
قلت: وقد يكون الملكان متساويين في الرّتبة أو متقاربين، فيقع التّعاقد بينهما على المسالمة والمصافاة، والموازرة والمعاونة، وكفّ الأذيّة والإضرار وما في معنى ذلك، دون أن يلتزم أحدهما للآخر شيئا يقوم به أو إتاوة يحملها إليه ولكلّ مقام مقال، والكاتب الماهر يوفّي كلّ مقام حقّه، ويعطي كلّ فصل من الفصول مستحقّه.
الطرف الثاني (في أصل وضعها)
أمّا مهادنة أهل الكفر فالأصل فيها قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (2) الآية، وقوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهََا} (3).
وما ثبت في صحيح البخاريّ من حديث عروة بن الزّبير رضي الله عنه،
__________
(1) وهو علي بن خلف. وقد مر ذكره في الأجزاء السابقة.
(2) التوبة / 2.
(3) الأنفال / 61.(14/5)
أنّ قريشا وجّهت إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو بالحديبية (1) حين صدّه قريش عن البيت سهيل بن عمرو، فقال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هات [اكتب] (2) بيننا وبينك كتابا (3)، فدعا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الكاتب (4)، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال سهيل: «أما الرّحمن فو الله ما أدري ما هو؟ ولكن اكتب:
باسمك اللهمّ، كما كنت تكتب (5)، فقال المسلمون: «والله لا نكتب إلّا:
بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اكتب: باسمك اللهم» ثم قال: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله» فقال سهيل: «والله لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب:
محمد بن عبد الله»، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «والله إني لرسول الله وإن كذّبتموني، اكتب محمد بن عبد الله»: ثم قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «على أن تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف به» فقال سهيل: «والله لا تتحدّث العرب أنّا قد أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب قال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منّا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا قال المسلمون:
سبحان الله! كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء مسلما! فبينما هم كذلك، إذ جاء أبو جندل يرسف في قيوده، وقد خرج من مكّة حتّى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل: هذا يا محمد أوّل ما أقاضيك عليه أن تردّه إليّ
__________
(1) الحديبية بئر بقرب مكة على طريق جدّة، ثم أطلق على الموضع. وكان عليه الصلاة والسّلام قد نزل بها حين قصد إلى مكة لزيارة البيت سنة ست هجرية.
(2) ساقطة في الأصل.
(3) ساقطة في الأصل.
(4) في أكثر الروايات «دعا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه».
(5) كانت قريش قبل البعثة تكتب في أول كتبها: «باسمك اللهم». وجاء في السيرة الحلبية أنه عليه الصلاة والسّلام كتبها في أربعة كتب. وفي طبقات ابن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يكتب كما تكتب قريش: «باسمك اللهم» حتى نزل عليه: {وَقََالَ ارْكَبُوا فِيهََا بِسْمِ اللََّهِ مَجْرََاهََا وَمُرْسََاهََا} هود / 14فكتب: «بسم الله»، حتى نزل: {قُلِ ادْعُوا اللََّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمََنَ} الإسراء / 110فكتب «بسم الله الرحمن»، حتى نزل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمََانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} النمل / 30فكتب «بسم الله الرحمن الرحيم». (انظر جمهرة رسائل العرب: 1/ 36).(14/6)
فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنا لم نقض الكتاب بعد» قال: فو الله [إذا] (1) لا أصالحك على شيء أبدا قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «فأجزه لي» قال: ما أنا بمجيزه لك قال: «بلى فافعل» قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز بن حفص: بلى قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين: أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذّب عذابا شديدا في الله تعالى. قال عمر بن الخطّاب: فأتيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقلت:
ألست نبيّ الله حقّا؟ قال بلى! قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟
قال بلى! قلت: فلم نعطي الدّنيّة في ديننا إذا؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري».
قلت: هذا ما أورده البخاريّ في حديث طويل. والذي أورده أصحاب السّير أن الكاتب كان عليّ بن أبي طالب، وأن نسخة الكتاب:
«هذا ما قاضى (2) عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، [اصطلحا] على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، وأنه من أحبّ أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه».
وأشهد في الكتاب على الصّلح رجالا من المسلمين والمشركين (3).
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية، عن رواية القسطلاني في «إرشاد الساري».
(2) في بعض الروايات «هذا ما صالح عليه الخ».
(3) الذين أشهدوا على الصلح هم: أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص وهو يومئذ مشرك وعلي بن أبي طالب. وقد ورد هذا الكتاب أكثر تفصيلا مما هو عليه هنا في كثير من المصادر أوردها صاحب جمهرة رسائل العرب على النحو التالي: سيرة ابن هشام: 2/ 216، تاريخ الطبري: 3/ 79، السيرة الحلبية: 2/ 144، الكامل لابن الأثير: 2/ 77، كتاب الخراج لأبي يوسف: 250، صحيح البخاري: 2/ 79، إعجاز القرآن: 114، الجامع الصحيح للإمام مسلم: 175انظر جمهرة رسائل العرب:
1/ 3736.(14/7)
الطرف الثالث (فيما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة الهدن)
قال في «موادّ البيان»: وهذا الفنّ من المكاتبات له من الدّولة محلّ خطير، ومن المملكة موضع كبير ويتعين على الكاتب أن يخلّى له فكره، ويعمل فيه نظره، ويتوفّر عليه توفّرا يحكم مبانيه، ويهذّب معانيه.
والذي يلزم الكاتب في ذلك نوعان:
النوع الأوّل (ما يختص بكتابة الهدنة بين أهل الإسلام وأهل الكفر)
وهي الشروط الشرعية المعتبرة في صحّة العقد بحيث لا يصحّ عقد الهدنة مع إهمال شيء منها. وهي أربعة شروط:
الأوّل في العاقد. ويختلف الحال فيه باختلاف المعقود عليه: فإن كان المعقود عليه إقليما: كالهند والرّوم ونحوهما، أو مهادنة الكفّار مطلقا، فلا يصحّ العقد فيه إلا من الإمام الأعظم أو من نائبه العامّ المفوّض إليه التّحدّث في جميع أمور المملكة. وإن كان على بعض القرى والأطراف، فلآحاد الولاة المجاورين لهم عقد الصّلح معهم.
الثاني أن يكون في ذلك مصلحة للمسلمين: بأن يكون في المسلمين ضعف أو في المال قلّة، أو توقّع إسلامهم بسبب اختلاطهم بالمسلمين، أو طمع في قبولهم الجزية من غير قتال وإنفاق مال. فإن لم تكن مصلحة فلا يهادنون بل يقاتلون حتّى يسلموا أو يؤدّوا الجزية إن كانوا من أهلها.
الثالث أن لا يكون في العقد شرط يأباه الإسلام: كما لو شرط أن يترك بأيديهم مال مسلم، أو أن يردّ عليهم أسير مسلم انفلت منهم، أو شرط لهم على المسلمين مال من غير خوف على المسلمين، أو شرط ردّ مسلمة إليهم، فلا يصحّ العقد مع شيء من ذلك، بخلاف ما لو شرط ردّ الرجل المسلم أو
المرأة الكافرة فإنه لا يمنع الصّحّة. قال الغزالي: وقد جرت العادة أن يقول:(14/8)
الثالث أن لا يكون في العقد شرط يأباه الإسلام: كما لو شرط أن يترك بأيديهم مال مسلم، أو أن يردّ عليهم أسير مسلم انفلت منهم، أو شرط لهم على المسلمين مال من غير خوف على المسلمين، أو شرط ردّ مسلمة إليهم، فلا يصحّ العقد مع شيء من ذلك، بخلاف ما لو شرط ردّ الرجل المسلم أو
المرأة الكافرة فإنه لا يمنع الصّحّة. قال الغزالي: وقد جرت العادة أن يقول:
[نهادنكم] (1) على أنّ من جاءكم من المسلمين رددتموه، ومن جاءنا مسلما رددناه. فإن كان في المسلمين ضعف وخيف عليهم، جاز التزام المال لهم دفعا للشّرّ، كما يجوز فكّ الأسير المسلم إذا عجزنا عن انتزاعه.
الرابع أن لا تزيد مدّة الهدنة عن أربعة أشهر عند قوّة المسلمين وأمنهم، ولا يجوز أن تبلغ سنة بحال وفيما دون سنة وفوق أربعة أشهر قولان للشافعيّ رضي الله عنه، أصحّهما أنه لا يجوز، أما إذا كان في المسلمين ضعف وهناك خوف، فإنه تجوز المهادنة إلى عشر سنين فقد هادن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل مكّة عشر سنين كما رواه أبو داود في سننه. ولا تجوز الزيادة عليها على الصحيح وفي وجه تجوز الزيادة على ذلك للمصلحة.
فلو أطلق المدّة فالصحيح من مذهب الشافعيّ أنّها فاسدة وقيل: إن كانت في حال ضعف المسلمين حملت على عشر سنين، وإن كانت في حال القدرة: فقد قيل تحمل على الأقل: وهو أربعة أشهر، وقيل على الأكثر: وهو ما يقارب السنّة. ولو صرّح بالزيادة على ما يجوز عقد الهدنة عليه: فإن زاد على أربعة أشهر في حال القوّة أو على عشر سنين في حال الضّعف صح في المدّة المعتبرة وبطل في الزائد فإن احتيج إلى الزيادة على العشر، عقد على عشر ثم عشر ثم عشر قبل تقضّي الأولى قاله الفورانيّ (2) وغيره من أصحابنا الشافعية. وذهب أصحاب مالك رحمهم الله إلى أن مدّتها غير محدودة، بل يكون موكولا إلى اجتهاد الإمام ورأيه.
__________
(1) بياض في الأصل. والزيادة من المقام.
(2) هو عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران المتوفى سنة 461هـ. انظر ترجمته في وفيات الأعيان: 3/ 132، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 280، وشذرات الذهب: 3/ 309، والأعلام: 3/ 326، وطبقات الشافعية: 162.(14/9)
النوع الثاني (ما تشترك فيه الهدن الواقعة بين أهل الكفر والإسلام، وعقود الصّلح الجارية بين زعماء المسلمين وهي ضربان)
الضرب الأوّل (الشروط العادية التي جرت العادة أن يقع الاتّفاق عليها بين الملوك في كتابة الهدن خلا ما تقدّم)
وليس لها حدّ يحصرها، ولا ضابط يضبطها، بل بحسب ما تدعو الضرورة إليه في تلك الهدنة بحسب الحال الواقع.
فمن ذلك أن يشترط عليه أن يكون لوليّه مواليا، ولعدوّه معاديا، ولمسالمه مسالما، ولمحاربه محاربا، ولا يواطيء عليه عدوّا، ولا يوقع عليه صلحا، ولا يوافق على ما يقدح في أمره، ولا يقبل سؤال سائل، ولا بذل باذل، ولا رسالة مراسل مما يخالف الاتّفاق الجاري، والأخذ على يد من سعى في نقض الصّلح ونكث العهد إن كان من أهل طاعته، والمقاتلة إن كان من المخالفين له، وأنّه إذا جنى من أهل مملكتهم جان كان عليه إحضاره أو الأخذ منه بالجناية.
ومن ذلك أن يشترط عليه أن يكفّ عن بلاده وأعماله، ومتطرّف ثغوره، وشاسع نواحيه أيدي الداخلين في جماعته، والمنضمّين إلى حوزته، ولا يجهّز لها جيشا، ولا يحاول لها غزوا، ولا يبدأ أهلها بمنازعة، ولا يشرع لهم في مقارعة، ولا يتناوبهم بمكيدة ظاهرة ولا باطنة، ولا يعاملهم بأذيّة جليّة ولا خفيّة، ولا يطلق لأحد ممّن ينوب عنه في إمارة جيشه، ومن ينسب إلى جملته، ويتصرّف على إرادته عنانا إلى شيء من ذلك بوجه من الوجوه، ولا سبب من الأسباب، وأن لا يجاوز حدود مملكته إلى المملكة الأخرى بنفسه ولا بعسكر من عساكره.
ومن ذلك أن يشترط عليه أن يفرج عمّن هو في حوزته ممّن أحاطت به
ربقة الأسر، ويمكّنهم من المسير إلى بلادهم: بأنفسهم وخدمهم وعيالهم وأتباعهم، وأصناف أموالهم، في أتمّ حراسة، وأكمل خفارة، دون كلفة ولا مؤونة تلحقهم على إطلاقهم، ونحو ذلك.(14/10)
ومن ذلك أن يشترط عليه أن يفرج عمّن هو في حوزته ممّن أحاطت به
ربقة الأسر، ويمكّنهم من المسير إلى بلادهم: بأنفسهم وخدمهم وعيالهم وأتباعهم، وأصناف أموالهم، في أتمّ حراسة، وأكمل خفارة، دون كلفة ولا مؤونة تلحقهم على إطلاقهم، ونحو ذلك.
ومن ذلك أن يشترط عليه مالا يحمله إليه في كلّ سنة، أو أن يسلّم إليه ما يختاره: من حصون وقلاع وأطراف وسواحل مما وقع الاستيلاء عليه من بلاد المسلمين، أو أحبّ انتزاعه أو استضافته من بلاد من يهادنه من ملوك الكفر، وأن يبقي من بها من أهلها، ويقرّرهم فيها بحرمهم وأولادهم ومواشيهم وأزوادهم وسلاحهم وآلاتهم، دون أن يلتمس عن ذلك أو عن شيء منه مالا، أو يطلب عنه بدلا، وما ينخرط في هذا السّلك.
ومن ذلك أن يشترط عليه عدم التّعرّض لتجّار مملكته، والمسافرين من رعيّته، برّا وبحرا بنوع من أنواع الأذيّة والإضرار، في أنفسهم ولا في أموالهم، وللمجاورين للبحر عدم ركوب المراكب الحربيّة التي لا يعتاد التّجّار ركوب مثلها.
ومن ذلك أن يشترط عليه إمضاء ما وقعت عليه المعاقدة، وأن لا يرجع عن ذلك ولا عن شيء منه، ولا يؤخّر شيئا عن الوقت الذي [اتفق عليه] (1).
ومن ذلك أن يشترط عليه أنه إذا بقي من مدّة الهدنة مدّة قريبة مما يحتاج إلى التّعبيء فيه، أن يعلمه بما يريده من مهادنة أو غيرها.
ومن ذلك أن يشترط عليه أنه إذا انقضى أمد الهدنة على أحد من الطائفتين وهو في بلاد الآخرين، أن يكون له الأمن حتّى يلحق مأمنه.
ومن ذلك أن يشترط مالا يحمله إليه في الحال أو في كلّ سنة، أو حصونا، أو بلادا يسلّما من بلاده، أو مما يغلب عليه من بلاد مهادنه، إلى غير ذلك من الأمور التي يجري عليها الاتّفاق مما لا تحصى كثرة.
__________
(1) بياض في الأصل والزيادة من هامش الطبعة الأميرية.(14/11)
الضرب الثاني (مما يلزم الكاتب في كتابة الهدنة تحرير أوضاعها، وترتيب قوانينها، وإحكام معاقدها)
وذلك باعتماد أمور:
منها أن يكتب الهدنة فيما يناسب الملك الذي تجري الهدنة بينه وبين ملكه ولم أرمن تعرّض في الهدن لمقدار قطع الورق، وإن كثرت كتابتها في الزّمن المتقدّم بين ملوك الديار المصرية وبين ملوك الفرنج، كما سيأتي ذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى. والذي ينبغي أن يراعى في ذلك مقدار قطع الورق الذي يكاتب فيه الملك الذي تقع الهدنة معه: من قطع العادة أو الثّلث أو النّصف.
ومنها أن يأتي في ابتدائها ببراعة الاستهلال: إما بذكر تحسين موقع الصّلح والنّدب إليه ويمن عاقبته، أو بذكر السلطان الذي تصدر عنه الهدنة، أو السّلطانين المتهادنين، أو الأمر الذي ترتّب عليه الصّلح، وما يجري هذا المجرى مما يقتضيه الحال ويستوجبه المقام.
ومنها أن يأتي بعد التّصدير بمقدّمة يذكر فيها السّبب الذي أوجب الهدنة ودعا إلى قبول الموادعة.
فإن كانت الهدنة مع أهل الكفر، احتجّ للإجابة إليها بالائتمار بأمر القرآن والانقياد إليه، حيث أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالمطاوعة على الصّلح والإجابة إلى السّلم بقوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهََا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ} (1)، وما وردت به السّنّة، من مصالحته صلّى الله عليه وسلّم قريشا عام الحديبية، وذكر ما سنح له من آيات الصّلح وأحاديثه، وما جرى عليه الخلفاء الراشدون من بعده، وكفّهم عن القتال وقوفا عند ما حدّ لهم، وأنّه لولا ذلك لشرعوا الأسنّة
__________
(1) الأنفال / 61.(14/12)
إلى مخالفيهم في الدّين، وركضوا الجياد إلى جهاد من يليهم من الملحدين.
وإن كان الصّلح بين مسلمين احتجّ بنحو قوله تعالى: {وَإِنْ طََائِفَتََانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمََا} (1)، وبأحاديث التّحذير من تقاتل المسلمين كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النّار» وما يجري هذا المجرى.
ومنها أن يراعي المقام في تبجيل المتهادنين أو أحدهما بحسب ما يقتضيه الحال، ووصف كلّ واحد منهما بما يليق به: من التعظيم، أو التّوسّط، أو انحطاط الرّتبة بحسب المقام، ويجري على حسب ذلك في الشدّة واللين.
فإن كانت الهدنة بين متكافئين سوّى بينهما في التعظيم، وجرى بهما في الشّدّة واللّين على حدّ واحد، إلا أن يكون أحدهما أسنّ من الآخر، فيراعي للأسنّ ما يجب له على الحدث من التّأدّب معه، ويراعي للحدث ما يجب له على الكبير من الحنوّ والشّفقة.
وإن كانت الهدنة من قويّ لضعيف، أخذ في الاشتداد، آتيا بما يدلّ على علوّ الكلمة، وانبساط القدرة، وحصول النّصرة، واستكمال العدد، وظهور الأيد، ووفور الجند، وقصور الملوك عن المطاولة، وعجزهم عن المحاولة، ونحو ذلك مما ينخرط في هذا السّلك، لا سيّما إذا كان القويّ مسلما والضعيف كافرا، فإنه يجب الازدياد من ذلك، وذكر ما للإسلام من العزّة، وما توالى له من النّصرة، وذكر الوقائع التي كانت فيها نصرة المسلمين على الكفّار في المواطن المشهورة، والأماكن المعروفة، وما في معنى ذلك.
وإن كانت الهدنة من ضعيف لقويّ، أخذ في الملاينة بحسب ما يقتضيه الحال، مع إظهار الجلادة، وتماسك القوّة، خصوصا إذا كان القويّ
__________
(1) الحجرات / 9.(14/13)
المعقود معه الهدنة كافرا. وإن شرط له مالا عند ضعف المسلمين للضرّورة أتى في كلامه بما يقتضي أنّ ذلك رغبة في الصّلح المأمور به، لا عن خور طباع وضعف قوّة إذ الله تعالى يقول: {فَلََا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللََّهُ مَعَكُمْ} (1).
ومنها أن يتحفظ من سقط يدخل على الشريعة نقيصة، إن كانت المهادنة مع أهل الكفر، أو يجرّ إلى سلطانه وهيصة (2)، إن كانت بين مسلمين ويتحذّر كلّ الحذر من خلل يتطرّق إليه: من إهمال شيء من الشروط، أو ذكر شرط فيه خلل على الإسلام أو ضرر على السلطان، أو ذكر لفظ مشترك أو معنى ملتبس يوقع شبهة توجب السبيل إلى التأوّل، وأن يأخذ المأخذ الواضح الذي لا تتوجّه عليه معارضة، ولا تتطرّق إليه مناقضة، ولا يدخله تأويل.
ومنها أن يبيّن أن الهدنة وقعت بعد استخارة الله تعالى وتروية النّظر في ذلك وظهور الخير فيه، ومشاورة ذوي الرّأي وأهل الحجى، وموافقتهم على ذلك.
ومنها أن يبيّن مدّة الهدنة. فقد تقدّم أن الصّحيح من مذهب الشافعي أنه إذا لم تبيّن المدّة في مهادنة أهل الكفر فسدت الهدنة.
قال في «التعريف»: وقد جرت العادة أن يحسبوها مدّة سنين شمسيّة فيحرّر حسابها بالقمريّة. ويذكر سنين وأشهرا وأيّاما وساعات حتّى يستوفي السنين الشّمسية المهادن عليها. أما في عقد الصّلح بين مسلمين فإنه لا يشترط ذلك، بل ربّما قالوا: إن ذلك صار لازما للأبد، حتّى في الولد وولد الولد.
__________
(1) محمد / 35.
(2) أي ما يغمز منه ويحطّ من قدره. يقال: من تواضع رفع الله حكمته ومن تكبّر وعدا طوره، وهصه الله إلى الأرض. (انظر اللسان: مادة وهـ ص).(14/14)
ومنها أن يبيّن أن الهدنة وقعت بين الملكين أنفسهما، أو بين نائبيهما، أو بين أحدهما ونائب الآخر، ويستوفي ما يجب لكلّ قسم منها.
فإن كانت بين الملكين أنفسهما بغير واسطة بين ذلك، ذكر ما أخذ عليهما من العهود والمواثيق، والأيمان الصادرة من كلّ منهما، وذكر ما وقع من الإشهاد بذلك عليهما، وما جرى من ثبوت حكمه إن جرى فيه ثبوت ونحو ذلك.
وإن كانت بين المكتوب عنه ونائب الآخر، بيّن ذلك، وتعرّض إلى المستند في ذلك: من حضور كتاب من الملك الغائب، بتفويض الأمر في ذلك إلى نائبه، وأنه وصل على يده أو يد غيره، والإشارة إلى أنّه معنون بعنوانه، مختوم بختمه المتعارف عنه أو وكالة عنه. ويتعرّض إلى قيام البيّنة بها وثبوتها بمجلس الحكم ونحو ذلك من المستندات.
وإن كانت بين نائبين، بيّن ذلك وذكر مستند كلّ نائب منهما على ما تقدّم ذكره. ويتعرّض إلى أن النائب في ذلك قام فيه باختياره وطواعيته، لا عن إكراه ولا إجبار، ولا قسر ولا غلبة، بل لما رأى لنفسه ولمستنيبه في ذلك من المصلحة والحظّ، وأنّ كتاب الهدنة قريء عليه وبيّن له فصلا فصلا، وترجم له بموثوق به، إن كان لا يعرف العربيّة ونحو ذلك.
ومنها أن يتعرّض إلى ما يجري من التّحليف في آخرها: على الوفاء، وعدم النّكث والإخلال بشيء من الشروط، أو الخروج عن شيء من الالتزامات، أو محاولة التأويل في شيء من ذلك، أو السّعي في نقضه أو في شيء منه، وما في معنى ذلك:
فإن كانت بين ملكين، تعرّض إلى تحليف كلّ منهما على التّوفية بذلك.
وإن كانت بين أحدهما ونائب الآخر، حلّف الملك كما تقدّم وستأتي
صورة الحلف الذي يقع في الهدن في الكلام على الأيمان (1) فيما بعد، إن شاء الله تعالى.(14/15)
وإن كانت بين أحدهما ونائب الآخر، حلّف الملك كما تقدّم وستأتي
صورة الحلف الذي يقع في الهدن في الكلام على الأيمان (1) فيما بعد، إن شاء الله تعالى.
ومنها أن يحرّر أمر التّاريخ بالعربيّ وما يؤرّخ به في مملكة الملك المهادن: من السّريانيّ والرّوميّ وغيرهما. قال في «التعريف»: ولهم عادة أن يحسبوها مدّة سنين شمسيّة فيحرّر حسابها بالقمريّة، ويذكر سنين وأشهرا وأيّاما وساعات حتّى يستكمل السنين الشمسية المهادن عليها. وقد تقدّم في الكلام على التّاريخ من المقالة الثالثة كيفية معرفة التواريخ واستخراجها.
ومنها أن يقع الإشهاد على كلّ من المتعاقدين بذلك، ولا بأس بإثبات ذلك. وقد جرت العادة أنه يشهد على كلّ ملك جماعة من أهل دولته ليقضى على ملكهم بقولهم وإن كان مخالفا في الدّين. وقد ثبت في الصّحيح أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أشهد على مصالحته مع قريش رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين». وربّما طلب النائب عن الملك الغائب إحضار نسخة مهادنة من جهة مستنيبه على ما وقع به العقد، مشمولة بخطّ الكتّاب، مشهودا عليه فيها بأهل مملكته، أو تجهّز إليه نسخة يكتب عليها خطّه، ويشهد عليه فيها أهل مملكته. والغالب الاكتفاء بالرّسل في ذلك.
__________
(1) أي الأيمان الواقعة في عقود الصلح، وإلا فالأيمان بأنواعها تقدمت في الجزء الثالث عشر من هذا الكتاب.(14/16)
الفصل الثاني في صورة ما يكتب في المهادنات والسّجلّات (1)، ومذاهب الكتّاب في ذلك وفيه طرفان.
الطرف الأوّل (فيما يستبدّ ملوك الإسلام فيه بالكتابة عنهم وتخلّد منه نسخ بالأبواب السلطانية، وتدفع منه نسخ إلى ملوك الكفر)
ثم ما يكتب في ذلك على نمطين:
النّمط الأوّل (ما يكتب في طرّة الهدنة من أعلى الدّرج)
وقد جرت العادة أن يفتتح بلفظ «هذا» أو لفظ «هذه» وما في معنى ذلك، مثل أن يكتب: «هذا عقد صلح» أو «هذا كتاب هدنة» أو «هذه موادعة» أو «هذه مواصفة» وما أشبه ذلك. وربّما حذف المبتدأ وهو «هذا» واكتفي بالخبر عنه، مثل أن يقال: «كتاب هدنة» أو «كتاب موادعة» أو «عقد مصالحة» وما أشبه ذلك.
__________
(1) السجل هو الكتاب يدوّن فيه ما يراد حفظه، والجمع: سجلات وهي عبارة عن الأرشيف القضائي. وكان إنشاء السجلات يقتضي صيغ خاصة مأخوذة من الفقه وطرق الإنشاء، وقد عرفت في العصر المملوكي بعلم الشروط والسجلات. وعرفت السجلات أيضا في العصر الفاطمي وكانت تكتب في ديوان الإنشاء. (نظم دولة سلاطين المماليك: 1/ 103).(14/17)
وهذه نسخة بعقد صلح أنشأتها لينسج على منوالها وهي:
هذا عقد صلح انتظمت به عقود المصالح، وانتسقت بواسطته سبل المناجح، وتحدّث بحسن مقدّمته الغادي وترنّم بيمن نتيجته الرّائح عاقد عليه السلطان فلان فلانا القائم في عقد هذا الصّلح عن مرسله فلان، حسب ما فوّض إليه الأمر في ذلك في كتابه الواصل على يده، المؤرّخ بكذا وكذا، المعنون بعنوانه، المختوم بطابعه المتعارف عنه على أن يكون الأمر كذا وكذا. ويشرح ملخّص ما يقع من الشروط التي يقع عليها الاتفاق بينهما في الصّلح إلى آخرها ثم يقال: على ما شرح فيه.
النّمط الثاني (ما يكتب في متن الهدنة، وهو على نوعين)
النوع الأوّل (ما تكون الهدنة فيه من جانب واحد)
بأن يكون الملكان متكافئين، [فيتعاقدان إما على حصن] (1) وإما على مال يعطيه الملك المعقودة له الهدنة لعاقدها، كما كان يكتب عن صاحب الديار المصرية.
وللكتّاب فيه مذهبان:
المذهب الأوّل (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «هذا ما هادن عليه»
أو «هذه هدنة أو موادعة أو مواصفة أو سلّم أو صلح» أو نحو ذلك، على نحو ما تقدّم في الكلام على الطرّة) وعلى ذلك كتب كتاب القضيّة بين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبين قريش عام
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية ليستقيم الكلام.(14/18)
الحديبية، على ما تقدّم ذكره في الكلام على أصل مشروعيّتها.
وهذه نسخة هدنة كتب بها عن سلطان قويّ، لملك مضعوف، باشتراط مال يقوم به المضعوف للقويّ في كلّ سنة أو حصون يسلّمها له أو نحو ذلك وهي:
هذا ما هادن عليه، وأجّل إليه، مولانا السلطان فلان خلّد الله سلطانه وشرّف به زمانه الملك فلانا الفلانيّ: هادنه حين تردّدت إليه رسله، وتوالت عليه كتبه، وأمّله، ليمهله، وسأله، ليكفّ عنه أسله، حين أبت صفاحه أن تصفح، وسماء عجاجه بالدّماء إلا أن تسفح فرأى سدّد الله آراءه أن الصّلح أصلح، وأن معاملة الله أربح، وهادن هذا الملك (ويسميه) على نفسه وأهله، وولده ونسله، وجميع بلاده، وكلّ طارفه وتلاده، وماله من ملك ومال، وجهات وأعمال، وعسكر وجنود، وجموع وحشود، ورعايا في مملكته من المقيم والطّاريء، والسّائر بها والساري هدنة مدّتها أوّل تاريخ هذه الساعة الراهنة وما يتلوها، مدّة كذا وكذا من سنين وأشهر وساعات، يحمل فيها هذا الملك فلان إلى بيت مال المسلمين، وإلى تحت يد مولانا السلطان فلان قسيم أمير المؤمنين، في هذه المدّة كذا وكذا يقوم به هذا الملك من ماله، ومما يتكفّل بجبايته من جزية أهل بلاده وخراج أعماله، على أقساط كذا وكذا قياما لا يحوج معه إلى تكلّف مطالبة، ولا إلى تناوله بيد مغالبة.
على أن يكفّ مولانا السلطان عنه بأس بأسائه، وخيله المطلّة عليه في صباحه ومسائه، ويضمّ عن بلاده أطراف جنوده وعساكره وأتباعهم، ويؤمّنه من بطائهم وسراعهم، ويمنع عن بلاد هذا الملك المتاخمة لبلاده، والمزاحمة لدوافق أمداده، ويردّ عنها وعمّن جاورها من بقيّة ما في مملكته، وهي كذا وكذا أيدي النّهب، ويكفّ الغارات ويمنع الأذى، ويردّ من نزح من رعايا هذا الملك إليه، ما لم يدخل في دين الإسلام ويشهد الشّهادتين،
ويقرّ بالكلمتين المعتادتين، ويؤمّن جلّابة هذا الملك وتجّاره المتردّدين من بلاده إلى بلاد الإسلام في عوارض الأشغال، ولا يحصل عليهم ضرر في نفس ولا مال وإن أخذت المتجرّمة منهم مالا أو قتلت أحدا، أمر بإنصافهم من ذلك المتجرّم، وأن يؤخذ بحقّهم من ذلك المجرم. وعليه مثل ذلك فيمن يدخل إليه من بلاد الإسلام، وأن لا يفسح لنفسه ولا لأحد من جميع أهل بلاده في إيواء مسلم متنصّر، ولا يرخّص لذي عمّى منهم ولا متبصّر.(14/19)
على أن يكفّ مولانا السلطان عنه بأس بأسائه، وخيله المطلّة عليه في صباحه ومسائه، ويضمّ عن بلاده أطراف جنوده وعساكره وأتباعهم، ويؤمّنه من بطائهم وسراعهم، ويمنع عن بلاد هذا الملك المتاخمة لبلاده، والمزاحمة لدوافق أمداده، ويردّ عنها وعمّن جاورها من بقيّة ما في مملكته، وهي كذا وكذا أيدي النّهب، ويكفّ الغارات ويمنع الأذى، ويردّ من نزح من رعايا هذا الملك إليه، ما لم يدخل في دين الإسلام ويشهد الشّهادتين،
ويقرّ بالكلمتين المعتادتين، ويؤمّن جلّابة هذا الملك وتجّاره المتردّدين من بلاده إلى بلاد الإسلام في عوارض الأشغال، ولا يحصل عليهم ضرر في نفس ولا مال وإن أخذت المتجرّمة منهم مالا أو قتلت أحدا، أمر بإنصافهم من ذلك المتجرّم، وأن يؤخذ بحقّهم من ذلك المجرم. وعليه مثل ذلك فيمن يدخل إليه من بلاد الإسلام، وأن لا يفسح لنفسه ولا لأحد من جميع أهل بلاده في إيواء مسلم متنصّر، ولا يرخّص لذي عمّى منهم ولا متبصّر.
وأنه كلما وردت إليه كتب مولانا السّلطان فلان أو كتب نوّابه، أو أحد [من المتعلّقين] (1) بأسبابه، يسارع إلى امتثاله والعمل به في وقته الحاضر ولا يؤخّره ولا يمهله، ولا يطرحه ولا يهمله.
وعليه أن لا يكون عينا للكفّار، على بلاد الإسلام وإن دنت به أو بعدت الدّار، ولا يواطيء على مولانا السّلطان فلان أعداءه [وأوّلهم التّتار] (2)، وأن يلتزم ما يلزمه من المسكة بالمسكنة، ويفعل ما تسكت عنه به الأسنّة وما أشبهها من الألسنة، وعليه أن ينهي ما يتجدّد عنده من أخبار الأعداء ولو كانوا أهل ملّته، وينبّه على سوء مقاصدهم، ويعرّف ما يهمّ سماعه من أحوال ما هم عليه.
هذه هدنة تمّ عليها الصّلح إلى منتهى الأجل المعيّن فيه ما استمسك بشروطها، وقام بحقوقها، ووقف عند [حدّها الملتزم به] (3)، وصرف إليها عنان اجتهاده وبنى عليها قواعد وفائه، وصان من التكدير فيها سرائر صفائه، سأل هو في هذه الهدنة المقرّرة، وأجابه مولانا السلطان إليها على شروطها المحرّرة، وشهد به الحضور بالمملكتين وتضمّنته هذه الهدنة المسطّرة وبالله التوفيق.
قلت: الظاهر أنه كان يكتب بهذه النّسخة عن صاحب الديار المصرية
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 169168.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» ص 169168.
(3) بياض بالأصل. والزيادة من «التعريف».(14/20)
والممالك الشامية، لمتملّك سيس (1) فإنّ في خلال كلام المقرّ الشّهابيّ بعد قوله: ولا يواطيء على مولانا السلطان فلان أعداءه: «وأوّلهم التّتار»، وقد تقدّم في الكلام على الممالك أن متملك سيس كان يماليء التّتار ويميل إليهم، ويساعدهم في حرب المسلمين ويكثّر في سوادهم.
وعلى مثل ذلك يكتب لكلّ ملك مضعوف في مهادنة الملك القويّ له.
وهذه نسخة هدنة من هذا النّمط، كتب بها أبو إسحاق الصّابي، عن صمصام الدّولة، بن عضد الدّولة، بن ركن الدّولة، بن بويه الدّيلميّ بأمر أمير المؤمنين الطّائع لله، الخليفة العبّاسيّ ببغداد يومئذ، لوردس (2) المعروف بسفلاروس ملك الرّوم، حين حيل بينه وبين بلاده، والتمس أن يفرج له طريقه إلى بلاده، على شروط التزمها، وحصون يسلّمها، على ما سيأتي ذكره، وهي:
هذا كتاب من صمصام الدّولة، وشمس الملّة، أبي كاليجار، بن عضد الدّولة وتاج الملّة أبي شجاع، بن ركن الدّولة أبي عليّ، مولى أمير المؤمنين، كتبه لوردس بن بينير المعروف بسفلاروس ملك الروم.
__________
(1) في معجم البلدان «سيسية» وهي حصن من أكبر حصون بلاد الأرمن، بين أنطاكية وطرسوس على عين زرية. وللأرمن بها دير عظيم يقيم به بطريركهم. وسيس هي أرمينية الصغرى. (معجم البلدان: 3/ 297، وتشريف الأيام والعصور: 1حاشية).
(2) في «تاريخ الزمان» لابن العبري: ص 69أنه «وردوس» ويلقب بالعاتي. قال: «وكان الملكان الشقيقان: باسيل وقسطنطين ابنا الملك رومانوس قد أقاما وردوس دمستقا، فانتفض عليهما وأراد أن يستبد بالبلاد التي أخذها الروم من العرب، ووجه أخاه سفيرا إلى عضد الدولة أمير بغداد لينجده ويسعى لتأييده في بلاد الروم الشرقية ووعده بالطاعة طول حياته. ووجه الملكان كذلك سفراء إلى العرب يحرضانهم أن يرفضوا اقتراح وردوس العاتي، فأعمل عضد الدولة الروية وقضى بوجوب مساعدة الملكين وتظاهر بعطفه على وردوس ومساعدته في كل شيء ثم إن عضد الدولة أشار إلى زعماء العرب فقبضوا على وردوس وأخيه ومضوا بهما إلى بغداد وحبسوهم هناك زمنا مديدا».(14/21)
إنك سألت بسفارة أخينا وعدّتنا، وصاحب جيشنا (أبي حرب ربار بن شهر اكويه) تأمّل حالك في تطاول حبسك، واعتياقك عن مراجعة بلدك، وبذلت متى أفرج عنك، وخلّي طريقك، وأذن لك في الخروج إلى وطنك، والعود إلى مقرّ سلطانك أن تكون لوليّنا وليّا، ولعدوّنا عدوّا، ولسلمنا سلما، ولحربنا حربا: من جميع الناس كلّهم، على اختلاف أحوالهم وأديانهم، وأجناسهم وأجيالهم، ومقارّهم وأوطانهم فلا تصالح لنا ضدّا مباينا، ولا تواطيء علينا عدوّا مخالفا، وأن تكفّ عن تطرّق الثغور والأعمال التي في أيدينا وأيدي الدّاخلين في طاعتنا: فلا تجهّز إليها جيشا، ولا تحاول لها غزوا، ولا تبدأ أهلها بمنازعة، ولا تشرع لهم في مقارعة، ولا تتناولهم بمكيدة ظاهرة ولا باطنة، ولا تقابلهم بأذيّة جليّة ولا خفيّة، ولا تطلق لأحد ممن ينوب عنك في قيادة جيوشك، ومن ينسب إلى جملتك، ويتصرّف على إرادتك الاجتراء على شيء من ذلك على الوجوه والأسباب كلّها، وأن تفرج عن جميع المسلمين وأهل ذمّتهم الحاصلين في محابس الرّوم، ممّن أحاطت بعنقه ربقة الأسر، واشتملت عليه قبضة الحصر والقسر، في قديم الأيّام وحديثها، وبعيد الأوقات وقريبها، المقيمين على أديانهم، والمختارين للعود إلى أوطانهم وتنهضهم بما ينهض به أمثالهم، وتمكّنهم من البروز والمسير بنفوسهم وحرمهم وأولادهم وعيالاتهم وأتباعهم، وأصناف أموالهم، موفورين مضمونين، متبذرقين (1) محروسين، غير ممنوعين، ولا معوّقين، ولا مطالبين بمؤونة ولا كلفة صغيرة ولا كبيرة.
وأن تسلّم تتمّة سبعة من الحصون، وهي: حصن أرحكاه المعروف بحصن الهندرس، وحصن السناسنة، وحصن حويب، وحصن أكل، وحصن أنديب، وحصن حالي، وحصن تل حرم، برساتيقها ومزارعها إلى من نكاتبك
__________
(1) البذرقة هي الخفارة ومنه قول المتنبي حين سئل أن يتخذ خفراء في سفره: «أبذرق ومعي سيفي؟».(14/22)
بتسليمها إليه، مع من بها من طبقات أهلها أجمعين، المختارين لسكناها والاستقرار فيها، بحرمهم وأولادهم وأسبابهم ومواشيهم وأصناف أموالهم وغلّاتهم وأزوادهم وسلاحهم وآلاتهم، ليكون جميعها حاصلا في أيدينا وأيدي المسلمين، على غابر الأيام والسّنين، من غير أن تلتمس عنها أو عن شيء منها مالا، ولا بدلا، ولا عوضا من الأعواض كلّها.
وعلى أنك تمضي ما عقدته على نفسك من ذلك كلّه بابا بابا، وتفي به أوّلا أوّلا، منذ وقت وصولك إلى أوائل أعمالك، وإلى غاية استيلائك عليها، ونفاذ أمرك فيها، ولا ترجع عن ذلك ولا عن بعضه، ولا تؤخّر شيئا من الوقت الذي تقدر فيه عليه، ولا ترخّص لنفسك في تجاوز له ولا عدول عنه.
ومتى سعت طائفة من الطّوائف التي تنسب إلى الروم والأرمن وغيرهم في أمر يخالف شرائط هذا الكتاب، كان عليك منعهم من ذلك إن كانوا من أهل الطاعة والقبول منك، أو مجاهدتهم وممانعتهم إن كانوا من أهل العنود عنك، والخلاف عليهم حتّى تصرفهم عما يرومونه، وتحول بينهم وبين ما يحاولونه، بمشيئة الله وإذنه، وتوفيقه وعونه.
واشترطت علينا بعد الذي شرطته لنا من ذلك التّخلية عن طريقك وطريق من تضمّنته جملتك، واشتملت عليه رفقتك: من طبقات الأصحاب والأتباع، في جميع أعمالنا حتّى تنفذ عنها إلى ما وراءها، غير معوّق، ولا معتقل، ولا مؤذى، ولا معارض، ولا مطالب بمؤونة ولا كلفة، ولا ممنوع من ابتياع زاد ولا آلة، ولا نؤثر عليك أحدا ناوأك في أعمالك، ونازعك سلطان بلادك، ودافعك عنه وناصبك العداوة فيه: ممّن ينتسب إلى الرّوم والأرمن والخزرية وسائر الأمم المضادّة لك، ولا نوقّع معه صلحا عليك، ولا موافقة على ما يعود بثلمك أو قدح في أمرك، ولا نقبل سؤال سائل، ولا بذل باذل، ولا رسالة مراسل فيما خالف شرائط هذا الكتاب أو عاد بإعلاله، أو إعلال وثيقة من وثائقه.
ومتى وفد إلينا رسول من جهة أحد من أضدادك، راغبا إلينا في شيء يخالف ما انعقد بيننا وبينك امتنعنا من إجابته إلى ملتمسه، ورددناه خائبا خاليا من طلبته. وإذا سلّمت الحصون المقدّم ذكرها إلى من نكاتبك بالتّسليم إليه، كان لك علينا أن نقرّ من فيها وفي رساتيقها على نعمهم ومنازلهم وضياعهم وأملاكهم، وأن لا نزيلهم عنها ولا عن شيء منها، ولا نحول بينهم وبين ما تحويه أيديهم من جميع أموالهم، وأن نجريهم في المعاملات والجبايات على رسومهم الجارية الماضية التي عوملوا عليها، على مرّ السنين، وإلى الوقت الذي يقع فيه التّسليم، من غير فسخ ولا تغيير ولا نقض ولا تبديل.(14/23)
واشترطت علينا بعد الذي شرطته لنا من ذلك التّخلية عن طريقك وطريق من تضمّنته جملتك، واشتملت عليه رفقتك: من طبقات الأصحاب والأتباع، في جميع أعمالنا حتّى تنفذ عنها إلى ما وراءها، غير معوّق، ولا معتقل، ولا مؤذى، ولا معارض، ولا مطالب بمؤونة ولا كلفة، ولا ممنوع من ابتياع زاد ولا آلة، ولا نؤثر عليك أحدا ناوأك في أعمالك، ونازعك سلطان بلادك، ودافعك عنه وناصبك العداوة فيه: ممّن ينتسب إلى الرّوم والأرمن والخزرية وسائر الأمم المضادّة لك، ولا نوقّع معه صلحا عليك، ولا موافقة على ما يعود بثلمك أو قدح في أمرك، ولا نقبل سؤال سائل، ولا بذل باذل، ولا رسالة مراسل فيما خالف شرائط هذا الكتاب أو عاد بإعلاله، أو إعلال وثيقة من وثائقه.
ومتى وفد إلينا رسول من جهة أحد من أضدادك، راغبا إلينا في شيء يخالف ما انعقد بيننا وبينك امتنعنا من إجابته إلى ملتمسه، ورددناه خائبا خاليا من طلبته. وإذا سلّمت الحصون المقدّم ذكرها إلى من نكاتبك بالتّسليم إليه، كان لك علينا أن نقرّ من فيها وفي رساتيقها على نعمهم ومنازلهم وضياعهم وأملاكهم، وأن لا نزيلهم عنها ولا عن شيء منها، ولا نحول بينهم وبين ما تحويه أيديهم من جميع أموالهم، وأن نجريهم في المعاملات والجبايات على رسومهم الجارية الماضية التي عوملوا عليها، على مرّ السنين، وإلى الوقت الذي يقع فيه التّسليم، من غير فسخ ولا تغيير ولا نقض ولا تبديل.
فأنهينا إلى مولانا أمير المؤمنين الطائع لله ما سألت والتمست، وضمنت وشرطت واشترطت من ذلك كله، واستأذنّاه في قبوله منك، وإيقاع المعاهدة عليه معك فأذن أدام الله تمكينه لنا فيه، وأمرنا بأن نحكمه ونمضيه، لما فيه من انتظام الأمور، وحياطة الثّغور، وصلاح المسلمين، والتّنفيس عن المأسورين.
فأمضيناه على شرائط، وتراضينا جميعا به، وعاقدناك عليه، وحلفت لنا باليمين المؤكّدة التي يحلف أهل شريعتك بها، ويتحرّجون من الحنث فيها على الوفاء به، وأشهدنا على نفوسنا، وأشهدت على نفسك الله جلّ ثناؤه، وملائكته المقرّبين، وأنبياءه المرسلين، وأخانا وعدّتنا أبا حرب ربار بن شهر اكويه مولى أمير المؤمنين، ومن حضر المجلس الذي جرى فيه ذلك، باستقرار جميعه بيننا وبينك، ولزومه لنا ولك.
ثم حضر بعد تمام هذه الموافقة واستمرارها، وثبوتها واستقرارها، قسطنطين بن بينير أخو وردس بن بينير، وأرمانوس بن وردس بن بينير، فوقّعا على هذا الكتاب، وأحاطا به علما، واستوعباه معرفة، وشهدا على وردس ابن بينير ملك الرّوم بإقراره به، والتزامه إياه. ثم تبرّع كلّ واحد منهما بأن
أوجب على نفسه التّمسّك به والمقام عليه متى قام وردس بن بينير فيما هو موسوم به من ملك الرّوم، وجعل جميع الشرائط الثابتة في هذا الكتاب المعقود بعضها ببعض أمانة في ذمّته، وطوقا في عنقه، وعهدا يسأل عنه، وحقّا يطالب في الدّنيا والآخرة به وصار هذا العقد جامعا لهم ولنا، ولأولادنا وأولادهم، وعقبنا وعقبهم، ما عشنا وعاشوا، يلزمنا وإيّاهم الوفاء بما فيه علينا وعليهم، ولنا ولهم، على مرور اللّيالي والأيام، واختلاف الأدوار والأعوام.(14/24)
ثم حضر بعد تمام هذه الموافقة واستمرارها، وثبوتها واستقرارها، قسطنطين بن بينير أخو وردس بن بينير، وأرمانوس بن وردس بن بينير، فوقّعا على هذا الكتاب، وأحاطا به علما، واستوعباه معرفة، وشهدا على وردس ابن بينير ملك الرّوم بإقراره به، والتزامه إياه. ثم تبرّع كلّ واحد منهما بأن
أوجب على نفسه التّمسّك به والمقام عليه متى قام وردس بن بينير فيما هو موسوم به من ملك الرّوم، وجعل جميع الشرائط الثابتة في هذا الكتاب المعقود بعضها ببعض أمانة في ذمّته، وطوقا في عنقه، وعهدا يسأل عنه، وحقّا يطالب في الدّنيا والآخرة به وصار هذا العقد جامعا لهم ولنا، ولأولادنا وأولادهم، وعقبنا وعقبهم، ما عشنا وعاشوا، يلزمنا وإيّاهم الوفاء بما فيه علينا وعليهم، ولنا ولهم، على مرور اللّيالي والأيام، واختلاف الأدوار والأعوام.
أمضى وأنفذ صمصام الدّولة وشمس الملّة أبو كاليجار ذلك كلّه على شرائطه وحدوده، والتزمه وردس بن بينير المعروف بسفلاروس ملك الرّوم، وأخوه قسطنطين، وابنه أرمانوس بن وردس بن بينير، وضمنوا الوفاء به، وأشهدوا كلّ واحد منهم على نفوسهم بالرّضا به، طائعين غير مكرهين ولا مجبرين، ولا علّة بهم من مرض ولا غيره، بعد أن قرأه عليهم، وفسّره لهم وخاطبهم باللغة الرّومية من وثق به، وفهموا عنه، وفقهوا معنى لفظه، وأحاطوا علما ومعرفة به، بعد أن ملكوا نفوسهم، وتصرّفوا على اختيارهم، وتمكّنوا من إيثارهم، ورأوا أن في ذلك حظّا لهم، وصلاحا لشأنهم، وذلك في شعبان سنة ست وسبعين وثلاثمائة.
وقد كتب هذا الكتاب على ثلاث نسخ متساويات، خلّدت اثنتان منها بدواوين مدينة السّلام، وسلمت الثالثة إلى وردس بن بينير ملك الرّوم وأخيه وابنه المذكورين معه فيه.
وهذه نسخة هدنة من ملك مضعوف لملك قويّ، كتب بها الفقيه أبو عبد الله بن (1) أحد كتّاب الأندلس، عن بعض ملوك الأندلس من المسلمين، من أتباع «المهديّ بن تومرت» القائم بدعوة الموحّدين، مع «دون
__________
(1) بياض في الأصل.(14/25)
فرّانده» (1) صاحب قشتالة من ملوك الفرنج بعقد الصّلح على مرسية من بلاد الأندلس، وهي:
هذا عقدنا بعد استخارة الله تعالى واسترشاده، واستعانته واستنجاده، نيابة عن الإمارة العليّة بحكم استنادنا إلى أوامرها العالية، وآرائها الهادية، عقدناه والله الموفّق لقشتالة مع فلان النائب في عقده معنا عن مرسله إلينا، الملك الأجلّ الأسنى المبجّل «دون فرّانده» ملك قشتالة، وطليطلة، وقرطبة، وليون، وبلنسية أدام الله كرامته وميزته بتقواه حين وصلنا من قبله كتاب مختوم بطابعه المعلوم له والمتعارف عنه، تفويضا منه إليه، في كل ما يعقد له وعليه، وعاقدنا على أن يكون السّلم بيننا وبين مرسله المذكور لعامين اثنين، أوّلهما شهر المحرّم الذي هو أوّل سنة تاريخ هذا الكتاب، الموافق من الأشهر العجميّة شهر كذا، على جميع ما تحت نظرنا الآن من البلاد الراجعة إلى الدّعوة المهديّة أسماها الله تعالى حواضرها وثغورها، مواسطها وأطرافها، من جزيرة شقر (2) إلى بيرة (3) والمنصورة (4) وما يليها
__________
(1) لعل المقصود فرناندو الأول ملك ليون الذي وحدّ قشتالة وليون بعد حروب طويلة أعقبت موت أبيه سانشو (شانجه) الملقب بالكبير. وكان فرناندو الأول من أكبر الملوك الذين ساروا بالحرب مع المسلمين المعروفة بالريكو نكيستا، ولهذا يوصف بالعظيم. وخلف فرناندو هذا أبناؤه الثلاثة: سانشو الثاني ملكا على قشتالة، والفونسو (ألفنش) على ليون، وغارسيه على غليسية. ثم دارت حروب طويلة بين الإخوة انتهت بانتصار سانشو الثاني وأسره لأخويه. ثم هرب ألفونسو ولجأ إلى المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة. (انظر الحلة السيراء: 2/ 142وكتاب أعمال الأعلام: 330).
(2) كذا ضبطت في الطبعة الأميرية. والصواب بضم الشين المثلثة وتسكين القاف. وكانت من مدائن بلنسية في التقسيم الإداري الأندلسي. وهي مدينة على جزيرة في مصب نهر شقر. وتسمى اليوم. (انظر الروض المعطار: 349، وصفة جزيرة الأندلس:
102، والحلة السيراء: 2/ 267، حاشية).
(3) لم يرد ذكرها في الروض المعطار. وقد أوردها ياقوت بهذا الضبط. ونقل عن الحميدي أنها بليدة قريبة من ساحل البحر بالأندلس. ونقل عن ابن الفقيه أنها جزيرة فيها اثنتا عشرة مدينة، ومنها يتوجه إلى القيروان. (معجم البلدان: 1/ 526).
(4) لم نعثر على المنصورة من بلاد الأندلس، وفي معجم البلدان والروض المعطار أن المنصورة اسم لعدة مواضع. ولعل المقصود بالمنصورة هنا مدينة بالقرب من القيروان، وهي «صبرة» كما في الروض المعطار. (انظر الروض المعطار: 354ومعجم البلدان: 5/ 211).(14/26)
حرس الله جميعها سلما محافظا عليها من الجهتين، محفوظا عهدها عند أهل الملّتين، لا غدر فيها، ولا إخلال في معنى من معانيها، ولا تشنّ في مدنها غارة، ولا تذعر سيّارة ومهما وقع إغوار، أو حدث إقدار، على جهة المجاهرة، إذا اتّصلت والمساترة فإن كان من جهة النصارى، فعلى ملك قشتالة تسريح الأسارى، وردّ الغنائم والنّهب، والإنصاف من الغنيمة إن عدمت العين، وأعوز الطّلب، وعلينا مثل ذلك سواء، ليقابل بالوفاء هذا بعد أن يتّبع الأمر ويعلم من أين كان.
ومن هذه المهادنة أن لا يتسبّب إلى الحصون بالغدر ولا بالشّرّ، ولا يتجاوز النصارى حدود بلادهم وأرضهم بشيء من البناء، ولا يصل من بلد قشتالة مدد لمخالفنا، ولا معونة لمفاتننا. وكل ما يرجع إلى هذه الدّعوة، ويدخل في الطّاعة من البلاد بعد هذا العقد فداخل في السّلم، بزيادة نسبته من المال الذي هو شرط في صحّة هذا الحكم، وإذا بقي من مدّة هذه المسالمة شهران اثنان، فعلى ملك قشتالة أن يعلمنا بغرضه في المهادنة أو سواها، إعلاما من مذاهب الوفاء أوفاها.
وقد التزم رسول المذكور لنا هذه الشّروط، وأحكم معنا نيابة عنه فيها العقود والرّبوط، على كلّ ما ذكرناه. والتزمنا في هذا السلم لملك قشتالة المذكورة مكافأة عن وفاء عهده، وصحّة عقده مائة ألف دينار واحدة، وأربعين ألف دينار في كلّ عام من عامي هذا الصّلح المقدّم الوصف، مقسّما ذلك على ثلاثة أنجم في العام، ليتقاضاها ثقاته، ويوفّى عينها على التمام والكمال، قبض منها كذا ليوصّلها إلى مرسله، والتزم له تخليص باقي كذا عند انقضاء كذا على أوفى وجه وأكمله فإن وفّي له بذلك بعد الأربعين
يوما المؤقّتة، فالسّلم باقية وحكمها ثابت، وإلا فالسّلم مفسوخة ولا حكم لها إن عجز عن الوفاء له، بحصول ما بقي من الشّروط في استصحاب الحكم واتّصال العمل، إن شاء الله تعالى.(14/27)
وقد التزم رسول المذكور لنا هذه الشّروط، وأحكم معنا نيابة عنه فيها العقود والرّبوط، على كلّ ما ذكرناه. والتزمنا في هذا السلم لملك قشتالة المذكورة مكافأة عن وفاء عهده، وصحّة عقده مائة ألف دينار واحدة، وأربعين ألف دينار في كلّ عام من عامي هذا الصّلح المقدّم الوصف، مقسّما ذلك على ثلاثة أنجم في العام، ليتقاضاها ثقاته، ويوفّى عينها على التمام والكمال، قبض منها كذا ليوصّلها إلى مرسله، والتزم له تخليص باقي كذا عند انقضاء كذا على أوفى وجه وأكمله فإن وفّي له بذلك بعد الأربعين
يوما المؤقّتة، فالسّلم باقية وحكمها ثابت، وإلا فالسّلم مفسوخة ولا حكم لها إن عجز عن الوفاء له، بحصول ما بقي من الشّروط في استصحاب الحكم واتّصال العمل، إن شاء الله تعالى.
وعلى ما تضمّنه هذا الكتاب أمضى فلان أعزّه الله بحكم النيابة، عن الأمر العالي أسماه الله هذا العقد الصّلحيّ، وأشهد بما فيه على نفسه وحضره (المعسل طور) (1) المذكور، فترجم له الكتاب وبيّنت له معانيه، وقرّر على مضامينه، فالتزم ذلك كلّه عن مرسله ملك قشتالة حسب ما فوّض إليه فيه، وأشهد بذلك على نفسه، في صحّته وجواز أمره في كذا والله الموفّق لما يرضاه، ومقدّم الخير والخيرة فيما قضاه، بمنّه والسّلام.
المذهب الثاني (أن تفتتح المهادنة قبل لفظ «هذا» ببعديّة)
وهذه نسخة هدنة بين ملكين متكافئين دون تقرير شيء من الجانبين، كتب بها الفقيه المحدّث أبو الرّبيع بن سالم (2) من كتّاب الأندلس، في عقد صلح على بلنسية وغيرها من شرق الأندلس وهي:
وبعد، فهذا كتاب موادعة أمضى عقدها والتزمه، وأبرم عهدها وتممه، فلان لملك أرغون، وقومط برجلونة (3)، (ويرنسب مقت بشلى، حافظة) (4) بن
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. ولم نهتد إلى تثقيفه وضبطه.
(2) هو أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي: أكبر أهل الفقه والرواية في شرق الأندلس خلال القرن السادس الهجري وهو أستاذ ابن الأبّار، وقد ترجم له ترجمة واسعة في التكملة. توفي في معركة بين الموحدين والنصارى سنة 634هـ. (الحلة السيراء:
2/ 102).
(3) أي برشلونة. وقد ضبطها بروفنسال بكسر الجيم وهو أقرب إلى لفظها الأجنبي الأصلي. (انظر كتاب أعمال الأعلام: 87).
(4) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. وبالعودة إلى كتاب «أعمال الأعلام» لابن الخطيب في كلامه على ملوك أرغون وبرجلونة وجدنا السياق التالي: «ولما هلك دون رميره) (ملكت بعده ابنته وصيّرت الملك إلى زوجها ريمونده، فملك أرغون. ثم هلك فملك بعده دون ألفنش (ألفونسو) قمز برجلونة (قومط برشلونه) وملك بعده ابنه دون بطره (بترو أو بدرو) بن دون ألفنش. ثم ولي بعده دون جايمش، وهو الذي ملك مدينة بلنسية من يدي أبي جميل زيّان بن مردنيش وغيرها من الجهات» ولعل المراد بالكلام غير الواضح الذي وضعناه بين هلالين هو جايمش المذكور في سياق كلام ابن الخطيب. (كتاب أعمال الأعلام: ص 337).(14/28)
بطرة (1)، بن أدفونش (2)، بن ريموند، أدام الله كرامته بتقواه له خاتما وعنوانا، المعهود صدوره في أمثالها من المراوضات الصّلحيّة تضرّعا وإعلانا، متضمّنا من الإحالة في عقد المسالمة عليه، والتّفويض في إبرام أسبابها والتزام فصولها وأبوابها إليه، ما أوجب صحيح النّظر، وصريح الرّأي المعتبر، مقاربة فيه، وموافقة منه على ما يحفظ حقّ المسلمين ويوفّيه، جنوحا منه إلى ما جنح إليه من ذلك متقاضيه، وتحرّيا للعمل على شاكلة الصّواب والإيثار لما يقتضيه، بعد محاولات بلغ منها النّظر غايته من الاجتهاد، وإراغات قرن بها من استخارة الله تعالى واستنجاده ما رضي فيه من فضله العميم معهود التّسديد والإنجاد، فأجلى ذلك عن إمضاء عهد السّلم لملك ارغون (3) على بلنسية وكافّة جهاتها أطرافا ومواسط، وثغورا وبسائط، وكذلك شاطبة ودانية، وما ينتظم معهما من أحوازهما ويرجع إلى حكم بلنسية، وحالها من الجهة النّائية والدانية، لمدّة عامين اثنين، ويحقّق عدده، أن نفتتحه، بيوم الأحد الرابع والعشرين لشهر نوبر (4)، الموافق لعاشر ذي القعدة المؤرّخ به
__________
(1) بهذا الضبط في الطبعة الأميرية. وصوابه: بطره، كما ورد في ضبط بروفنسال في المرجع السابق.
(2) في أكثر المصادر العربية: «أذفونش» بالذال المعجمة وهو في جميع الأحوال تعريب لاسم «ألفونسو».
(3) كذا في الطبعة الأميرية. وضبطها الصحيح بالراء المهملة المفتوحة وهي. وبلنسية هي، وشاطبة هي ودانية هي.
(4) أي شهر نوفمبر.(14/29)
هذا الكتاب، الذي هو من عام أحد وعشرين وستّمائة بتاريخ الهجرة مسالمة تضع بها الحرب بين الجانبين أوزارها، وتمهّد للهدنة بين الطائفتين آثارها، وترفع (اللبنة) (1) عمن ذكر من الملّتين أذيّتها وأضرارها، البرّ والبحر في ذلك سيّان، والمساترة فيها بالأذى والمجاهرة ممنوعان، وحقيقة اللّازم من ذلك غنيّ ببيانه ووضوحه عن الإيضاح والتّبيان لا التباس ولا إشكال، ولا غائلة ولا احتيال ليس إلّا الأمن الكافل لكافّة من تشتمل عليه كافّة المواضع المذكورة من المسلمين، ومن تحويه بلاد ملك أرغون من الطّوائف أجمعين. وكلّ منتم إلى خدمة هذه المملكة الأرغونيّة بما كان من وجوه الانتماء، أو ناظر في جزء منها كائنا ما كان من الأجزاء، فهو في هذا الحكم داخل، وتحت هذا الرّبط الصّلحيّ واصل، ولا حجّة لمن كان له منهم حصن ينفرد به عن هذه المملكة، على ما لهم في ذلك من العوائد المتعارفة.
فإن نقض بجزء منه وذهب إلى أن يكون في حصنه منفردا فهو وما اختار، إذا تنكّب الإضرار فإن رام التّطرّق بشيء إلى أحد الجانبين كان على المسلمين وعلى أهل أرغون التظافر على استنزاله، والتظاهر على قتاله، حتّى يكفّوا ضرره، ويعفّوا أثره.
والحدود الفاصلة بين الجزأين هي أوساط المسافات، على ما عرف من متقدّم المسالمات، ويد كلّ فريق منهم مطلقة فيما وراء حدّه بما شاء، من انتشاء برسم الإصلاح والإنشاء وكلّ من قصد المسلمين من رجال المملكة الأرغونيّة بريئا من تبعة الفساد فقبول قصده مباح، وليس في استخدامه والإحسان إليه جناح والطريق للتّجّار المعهود وصولهم من بلاد أرغون إلى بلنسية في البرّ والبحر مباحة الانتياب، محفوفة بالأمنة التامّة في الجيئة والذّهاب على تجّار البحر منهم أن يتجنّبوا ركوب الأجفان (2) الحربيّة التي
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف.
(2) لعل المراد بها السفن أو المراكب الحربية.(14/30)
يمكن بها الإضرار، ويستغني عن [ركوبها] (1) التّجّار والاسترهاب مرفوع عن هؤلاء الواصلين برسم التّجارة على اختلافهم، وتباين أصنافهم، فيما لم تجنه أيديهم، ولا كان منسوبا إلى تعدّيهم، وكلّ معتقل من الطائفتين بأدنى شيء يطرّق إلى حكم هذه السّلم خلافا، أو يلحق بعهدها إخلافا، فعلى أهل موضعه الإنصاف ممن جناه، وصرف ما سلبته يداه، وإحضاره مع ذلك ليعاقب بما أتاه. وليس لأحد من الطائفتين أن يتسبّب باسترسال، إلى الإنصاف من جناية حال، بل يقوم بدفع ذلك حيث يحبّ، ويطلبه في الموضع الذي ينبغي فيه الطّلب، حتّى يخاطب الناظر على المملكة التي نسبت إليها هذه الإذاية، وصدرت عن أهلها [تلك] (2) الجناية، بطلب الإنصاف من عدوانها، وتعاد عليه الأعذار في شانها، وعليه ولا بدّ التّخليص منها عملا بالوفاء الذي يجب العمل به، وقياما بحقّ العهد الذي أكّد الاعتلاق بسببه، ومتى غادر مغادر من أحد الملّتين حصنا من حصون الأخرى فله الأمن على الكمال، والرّعي الحافظ للنّفس والمال، حتى يلحق بمأمنه، ويعود سالما إلى وطنه.
فعلى هذه الشروط المحقّقة، والرّبوط الموثّقة، انعقد هذا السّلم، وعلى من ذكر من المسلمين وأهل أرغون الحكم وهذا الكتاب ينطق في ذلك بالحقّ اللازم للطائفتين، ويعرب عن حقيقة ما انعقد بين من سمّي من أهل الملّتين، والتزم كلّة عن ملك أرغون النائب عنه بتفويضه إليه، واستنابته إيّاه عليه، الزعيم بطره ابن (فدانف بكدريش) (3) على أتم وجوه الالتزام، وأبرم ذلك ملك أرغون بأوثق علائق الإبرام، وكلّ ذلك بعد أن بيّنت له الفصول المتقدّمة غاية التّبيين وأفهمها حقّ الإفهام، وألزم نفسه مع ذلك وصول كتاب هذا الملك الذي تولّى النّيابة عنه في هذا العقد، مصرّحا
__________
(1) بياض بالأصل.
(2) الزيادة للسياق.
(3) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف.(14/31)
بالتزامه وإمضائه فيه عمله، وفق ما تضمّنه كتابه الذي أرسله، وأشهد مع ذلك زعماء دولته وكبراء القائمين عليه، تحقيقا لمعناه، وتوثيقا لمبناه، إن شاء الله تعالى.
النوع الثاني (من الهدن الواقعة بين ملك مسلم وملك كافر أن تكون الهدنة من الجانبين جميعا)
وفيها للكتّاب ثلاثة مذاهب:
المذهب الأوّل (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «هذه هدنة» ونحو ذلك)
قال في «التعريف»: وسبيل الكتابة فيها أن يكتب بعد البسملة: هذه هدنة استقرّت بين السّلطان فلان والسّلطان فلان، هادن كلّ واحد منهما الآخر على الوفاء عليه، وأجّل له أجلا ينتهي إليه، لما اقتضته المصلحة الجامعة، وحسمت به موادّ الآمال الطّامعة، تأكّدت بينهما أسبابها، وفتحت بهما أبوابها، وعليهما عهد الله على الوفاء بشرطها، والانتهاء إلى أمدها، ومدّ حبل الموادعة إلى آخر مددها، ضربا لها أجلا أوّله ساعة تاريخه وإلى نهاية المدّة، وهي مدّة كذا وكذا على أنّ كلّ واحد منهما يغمد بينه وبين صاحبه سيف الحرب، ويكفّ ما بينهما من السّهام الراشقة، وتعقل الرّماح الخطّارة (1)، وتقرّ على مرابطها الخيل المغيرة. وبلاد السلطان فلان كذا وكذا، وبلاد السلطان فلان كذا وكذا، وما في بلاد كلّ منهما من الثّغور، والأطراف والمواني والرّساتيق (2) والجهات والأعمال: برّا وبحرا، وسهلا
__________
(1) رمح خطّار: ذو اهتزاز شديد. ويقال: خطران الرمح ارتفاعه وانخفاضه للطعن. (انظر لسان العرب: 4/ 251).
(2) الرستاق هو كل موضع فيه مزدرع وقرى ولا يقال ذلك للمدن. ويقال أيضا: الرزداق.(14/32)
وجبلا، ونائيا ودانيا، ومن فيها: من ملكها المسمّى وبنيه، وأهله وأمواله، وجنده وعساكره وخاصّ من يتعلّق به وسائره، ورعاياه على اختلاف أنواعهم، وعلى انفرادهم واجتماعهم، البادي والحاضر، والمقيم والسّائر، والتّجّار والسّفّارة، وجميع المتردّدين من [سائر] (1) الناس أجمعين. على أن يكون على فلان كذا و [على فلان] (2) كذا [ويعين ما يعين] (3): من مال، أو بلاد، أو مساعدة في حرب، أو غير ذلك، يقوم بذلك لصاحبه، وينهض من حقّه المقرّر بواجبه، وعليهما الوفاء المؤكّد المواثيق، والمحافظة على العهد والتّمسّك بسببه الوثيق هدنة صحيحة، نطقا بها، وتصادقا عليها، وعلى ما تضمّنته المواصفة [المستوعبة بينهما فيها، وأشهدا الله عليهما بمضمونها، وتواثقا على ديونها، وشهد من حضر مقام كلّ منهما على هذه الهدنة وما تضمّنته من المواصفة] (4)، وجرت بينهما على حكم المناصفة، رأيا فيها سكون الجماع، وغضّ طرف الطّماح.
وعلى أنّ على كلّ منهما رعاية ما جاوره من البلاد والرّعيّة، وحملهم في قضاياهم على الوجوه الشّرعيّة ومن نزح من إحدى المملكتين إلى الأخرى أعيد، وما أخذ منها باليد الغاصبة استعيد وبهذا تم الإشهاد، وقريء على المسامع على رؤوس الأشهاد.
المذهب الثاني (أن تفتتح الهدنة بلفظ: «استقرّت الهدنة بين فلان وفلان» ويقدّم فيه ذكر الملك المسلم)
وعلى ذلك كانت الهدن تكتب بين ملوك الدّيار المصرية، وبين ملوك الفرنج، المتغلّبين على بعض البلاد الشامية.
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف بالمصطلح الشريف» لابن فضل الله العمري. ص 170.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف بالمصطلح الشريف» لابن فضل الله العمري. ص 170.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف بالمصطلح الشريف» لابن فضل الله العمري. ص 170.(14/33)
وهذه نسخة هدنة على هذا النّمط، دون تقرير من الجانبين، كتبت بين الملك الظّاهر «بيبرس البندقداري» صاحب الدّيار المصرية، وبين الاسبتار (1) بحصن الأكراد والمرقب (2)، في رابع شهر رمضان سنة خمس وستين وستّمائة وهي:
استقرّت الهدنة المباركة الميمونة بين مولانا السلطان الملك الظّاهر ركن الدّين أبي الفتح «بيبرس» الصّالحيّ النّجميّ، وبين المقدّم الكبير الهمام فلان مقدّم بيت الاسبتار الفلانيّ بعكّا، والبلاد السّاحليّة، وبين فلان مقدّم حصن الأكراد، وبين فلان مقدّم حصن المرقب، وجميع الإخوة الاسبتار، لمدّة عشر سنين متوالية وعشرة أشهر وعشرة أيّام وعشر ساعات:
أوّلها يوم الاثنين رابع رمضان سنة خمس وستّين وستّمائة من الهجرة النّبويّة على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام، الموافق لليوم الثّلاثين من أيّام (3) سنة ألف وخمسمائة وتسعة وسبعين للإسكندر (4) بن فيلبّس اليونانيّ على أن جميع المملكة الحمصيّة والشّيزريّة (5) والحمويّة وبلاد الدّعوة المباركة، واقع عليها الاتفاق المبارك، ومستقرّة لها هذه الهدنة الميمونة بجميع حدود هذه الممالك المعروفة، وبلادها الموصوفة، وقراها وضياعها، وسهلها وجبلها، وعامرها وغامرها، ومزروعها ومعطّلها
__________
(1) وهو رئيس الطائفة الدينية العسكرية المعروفة في المصادر العربية بالاسبتارية أو الإخوة الاسبتارية ويطلق عليهم أيضا «منظمة فرسان القديس يوحنا» أو فرسان بيت المقدس. وتميز أتباعها بالثوب الأسود والصليب الأبيض على الصدر. ومثلها طائفة أخرى عرفت باسم «الداويّة» أو الإخوة الداويّة أو «فرسان المعبد». (انظر الموسوعة الفلسطينية: 1/ 205).
(2) حصن الأكراد مقابل حمص. وحصن المرقب يشرف على مدينة بلنياس. انظر معجم البلدان، وتشريف الأيام والعصور: 85.
(3) بياض بالأصل.
(4) أي سنة 1266ميلادية.
(5) شيزر: مدينة من جند حمص غربي حلب.(14/34)
وطرقاتها ومياهها، وقلاعها وحصونها على ما يفصّل في كلّ مملكة، ويشرح في هذه الهدنة المباركة للمدّة المعيّنة إلى آخرها.
وعلى أن المستقرّ بمملكة حمص المحروسة أنّ جميع المواضع والقرى والأراضي التي من نهر العاصي، وتغرّب إلى الحدّ المعروف من الغرب لبلد المناصفات: عامرا وداثرا، وبما فيها من الغلّات صيفيّا وشتويّا، والعداد (1) وغيرها من الفوائد جميعها تقرّر أن يكون النّصف من ذلك للسّلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدّين أبي الفتح «بيبرس»، والنّصف لبيت الاسبتار.
وعلى أن كلّا من الجهتين يجتهد ويحرص في عمارة بلد المناصفات المذكورة بجهده وطاقته، ومن دخل إليها من الفلّاحين بدوابّ، أو من التّركمان، أو من العرب، أو من الأكراد، أو من غيرهم، أو الفناة كان عليهم العداد كجاري العادة، ويكون النّصف للسلطان، والنّصف لبيت الاسبتار.
وعلى أن الملك الظاهر يحمي بلد المناصفات المقدّم ذكرها من جميع عسكره وأتباعه، وممّن هو في حكمه وطاعته، ومن جميع المسلمين الدّاخلين في طاعته كافّة. وكذلك مقدّم بيت الاسبتار وأصحابه يحمون بلاد مولانا السلطان الدّاخلة في هذه الهدنة.
وعلى أنّ جميع من يتعدّى نهر العاصي مغرّبا لرعي دوابّه: سواء أقام أو لم يقم، كان عليه العداد سوى قناة (2) البلد ودوابّه، ومن يخرج من مدينة حمص ويعود إليها، ومن غرّب منهم ومات كان عليه العداد.
__________
(1) العداد (بكسر العين) هو زكاة مفروضة للسلطان سنويا على قطعان القبائل العربية والتركمانية. (الأعلاق الخطيرة: 3/ 928، حاشية عن السلوك للمقريزي).
(2) أي ما يقتنى لغير التجارة.(14/35)
وعلى أن يكون أمر فلّاحي بلد المناصفات في الحبس والإطلاق والجباية راجعا إلى نائب مولانا السلطان، باتّفاق من نائب بيت الاسبتار، على أن يحكم فيه بشريعة الإسلام إن كان مسلما، وان كان نصرانيّا يحكم فيه بمقتضى دولة حصن الأكراد. وأن يكون الفلاحون الساكنون في بلاد المناصفات جميعها مطلقين من السّخر من الجانبين.
وعلى أن الملك الظاهر لا يأخذ في بلد المناصفات المذكورة: من تركمان ولا عرب ولا أكراد ولا غيرهم عدادا ولا حقّا من حقوق بلد المناصفات، إلا ويكون النّصف منه للملك الظاهر، والنّصف الآخر لبيت الاسبتار.
وعلى أن الملك الظاهر لا يتقدّم بمنع أحد من الفلّاحين المعروفين بسكنى بلاد المناصفات من الرّجوع إليها، والسّكن فيها إذا اختاروا العود، وكذلك بيت الاسبتار لا يمنعون أحدا من الفلّاحين المعروفين بسكنى بلاد المناصفات من الرّجوع إليها والسّكن فيها إذا اختاروا العود.
وعلى أن الملك الظاهر لا يمنع أحدا من العربان والتّركمان وغيرهم:
ممّن يؤدّي العداد، من الدّخول إلى بلد المناصفات، إلّا أن يكون محاربا لبعض الفرنج الداخلين في هذه الهدنة، فله المنع من ذلك. وأن تكون خشارات الملك الظاهر وخشارات عساكره وغلمانهم وأهل بلده ترعى في بلد المناصفات آمنة من الفرنج والنّصارى كافّة. وكذلك خشارات بيت الاسبتار وخشارات عسكرهم وغلمانهم وأهل بلدهم ترعى آمنة من المسلمين كافّة في بلد المناصفات. وعند خروج الخشارات من المراعي وتسليمها لأصحابها، لا يؤخذ فيها حقّ ولا عداد ولا تعارض من الجهتين.
وعلى أن تكون مصيدة السّمك الرّوميّة مهما تحصّل منها، يكون النّصف منه للملك الظاهر والنّصف لبيت الاسبتار، وكذلك المصايد التي في الشّطّ الغربيّ من العاصي يكون النّصف منه للملك الظاهر والنصف لبيت
الاسبتار، ويكون لبيت الاسبتار في كلّ سنة خمسون دينارا صوريّة عن القشّ، ويكون القشّ جميعه للملك الظاهر يتصرّف نوّابه فيه على حسب اختيارهم، ويكون اللّينوفر مناصفة: النّصف منه للملك الظاهر والنّصف لبيت الاسبتار. وتقرّر أن الطاحون المستجدّ المعروف بإنشاء بيت الاسبتار، الذي كان حصل الحرب فيه، والبستان الذي هناك المعروف بإنشاء بيت الاسبتار أيضا يكون مناصفة، وأن يكون متولّي أمرهما نائب من جهة نوّاب السلطان ونائب من جهة بيت الاسبتار، يتوليان أمرهما والتّصرّف فيهما وقبض متحصّلهما. وتقرّر أنّ مهما يجدّده بيت الاسبتار على الماء الذي تدور به الطاحون ويسقي البستان من الطواحين والأبنية وغير ذلك، يكون مناصفة بين الملك الظاهر وبين بيت الاسبتار.(14/36)
وعلى أن تكون مصيدة السّمك الرّوميّة مهما تحصّل منها، يكون النّصف منه للملك الظاهر والنّصف لبيت الاسبتار، وكذلك المصايد التي في الشّطّ الغربيّ من العاصي يكون النّصف منه للملك الظاهر والنصف لبيت
الاسبتار، ويكون لبيت الاسبتار في كلّ سنة خمسون دينارا صوريّة عن القشّ، ويكون القشّ جميعه للملك الظاهر يتصرّف نوّابه فيه على حسب اختيارهم، ويكون اللّينوفر مناصفة: النّصف منه للملك الظاهر والنّصف لبيت الاسبتار. وتقرّر أن الطاحون المستجدّ المعروف بإنشاء بيت الاسبتار، الذي كان حصل الحرب فيه، والبستان الذي هناك المعروف بإنشاء بيت الاسبتار أيضا يكون مناصفة، وأن يكون متولّي أمرهما نائب من جهة نوّاب السلطان ونائب من جهة بيت الاسبتار، يتوليان أمرهما والتّصرّف فيهما وقبض متحصّلهما. وتقرّر أنّ مهما يجدّده بيت الاسبتار على الماء الذي تدور به الطاحون ويسقي البستان من الطواحين والأبنية وغير ذلك، يكون مناصفة بين الملك الظاهر وبين بيت الاسبتار.
وأما المستقرّ بمملكة شيزر المحروسة، فهي شيزر، وأبو قبيس وأعماله، وعينتاب وأعمالها، ونصف زاوية بغراس المعروفة بحماية بيت الاسبتار وأعمالها، وجميع أعمال المملكة الكسروية والبلاد المذكورة بحدودها المعروفة بها، وقراها المستقرّة بها، وسهلها وجبلها وعامرها وغامرها.
وما استقرّ بمملكة الملك المنصور، ناصر الدّين «محمد» بن الملك المظفّر أبي الفتح «محمود» بن الملك المنصور «محمد» بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب فهي: حماة المحروسة وقلاعها ومدنها، والمعرّة وقراها وسهلها وجبلها وأنهارها، ومنافعها وثمارها وعامرها وغامرها وبلاد رقيبة وبلاد بارين (1). بحدودها وتخومها وعامرها وداثرها وجميع من فيها وما فيها على أن الملك المنصور لا يرخّص للتّركمان ولا للعرب أن ينزلوا بلد رقيبة وبارين سوى
__________
(1) قال في معجم البلدان: «والعامة تقول: بعرين، وهي مدينة حسنة بين حلب وحماة من جهة الغرب».(14/37)
ثلاثين بيتا يحملون الغلّة لقلعة بارين، وإن أرادوا الزيادة يكون بمراجعة الإخوة الاسبتارية والاتفاق معهم على ذلك.
وعلى أنّه إن تعدّى أحد من أصحابه بأذيّة، أو تعدّى أحد من الفرنجة في بلاده بأذيّة، كانت المهلة في ذلك خمسة عشر يوما فإن انكشفت الأخيذة (1)، أعيدت، وإلا تحلّف الجهة المدّعى عليها أنها ما علمت وما أحسّت، وكما لهم، كذلك عليهم.
والمستقرّ لمملكة الصاحبين: نجم الدّين وجمال الدّين، والأمير صارم الدّين نائبي الدّعوة المباركة، وولد الصاحب رضيّ الدّين، وهي:
مصياف والرّصافة وجميع قلاع الدّعوة (2) وحصونها وسهلها ووعرها وعامرها وداثرها، ومدنها وبلادها، وضياعها وطرقاتها، ومياهها ومنابعها، وجميع بلاد الإسماعيلية بجبلي بهرا واللّكّام، وكلّ ما تشتمل عليه حدود بلاد الدّعوة وتخومها أن يكون الجميع آمنين من على الرّصيف الذي بشيزر إلى نهاية الأراضي التي بحصون الدّعوة وبلادها. وحماية القرية المعروفة (بعرطمار) (3) يكون له أسوة الإسماعيلية. وإن علم الأصحاب أن أحدا من الإسماعيلية قد عبر إلى بيت الاسبتار لأذيّة، أعلموا بيت الاسبتار قبل أن تجري أذيّة، وما لم يعلموا به عليهم اليمين أنّهم ما علموا به، وإن لم يحلفوا يردّوا الأذيّة التي تجري.
وتقرّر أن يكون فلّاحو بيت الاسبتار رائحين وغادين ومتصرّفين في بيعهم وشرائهم، مطمئنّين لا يتعدّى أحد عليهم. وكذلك جميع فلّاحي بلاد الإسماعيلية لا يتعدّى أحد عليهم، وأن يكونوا آمنين مطمئنّين في جميع بلاد
__________
(1) الأخيذ: الأسير. يقال: هو أخيذ في يد العدو وهو أخيذ فتنة، وأخيذ محنة. والأخيذة:
المرأة تسبى في الحرب وما اغتصب من شيء فأخذ. والمعنى الأخير هو المراد هنا.
(2) أي قلاع الإسماعيلية.
(3) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. ولم نهتد إلى تثقيفها وضبطها.(14/38)
الاسبتارية وإن تعدّى أحد من الجهتين في سوق أو طريق، في ليل أو نهار، تكون المهلة خمسة عشر يوما فإن ردّت الشّكوى كلّها فما يكون إلا الخير بينهم ومن توجّهت عليه اليمين حلف، ومن لم يفعل يحلّف وإلا يردّ الأذيّة. وتكون الضّيعة التي رهنها عبد المسيح رئيس المرقب الاسبتار، وهي «المشيرقة» تكون آمنة إن كان الحال استقرّ عليها إلى آخر وقت عند كتابة هذه الهدنة المباركة بين الأصحاب وأصحابهم. ويحمل الأمر في الحقوق.
ويبطل ما هو على بلاد الدّعوة المباركة من جميع ما لبيت الاسبتار على حماية مصياف والرّصافة، وهو في كلّ سنة ألف ومائتا دينار قومصيّة، وخمسون مدّا حنطة، وخمسون مدّا شعيرا، ولا تبقى قطيعة على بلاد الدّعوة جميعها، ولا يتعرّض بيت الاسبتار ولا نوّابهم ولا غلمانهم إلى طلب قديم من ذلك ولا جديد، ولا منكسر ولا ماض، ولا حاضر ولا مستقبل على اختلافه.
وتقرّر أن تكون جميع المباحات من الجهتين مطلقة مما يختصّ بالمملكة الحمصيّة، يسترزق بها الصّعاليك، وأنّ نوّاب الملك الظاهر يحمونهم من أذيّة المسلمين من بلاده المذكورة، وأن نوّاب بيت الاسبتار يصونونهم ويحرسونهم ويحمونهم من النّصارى والفرنج من جميع هذه البلاد الداخلة في هذه] (1) الهدنة. ولا يتعرّض أحد من المسلمين كافّة من هذه البلاد الدّاخلة في [هذه] (2) الهدنة [إلى بلاد الاسبتارية] (3) بأذيّة ولا إغارة، ولا يتعرّض أحد من جميع الفرنجة من هذه البلاد الداخلة في هذه الهدنة بحدودها الجارية في يد نوّاب الاسبتار وفي أيديهم، إلى بلاد الملك الظاهر بأذيّة ولا إغارة.
وعلى أنه متى دخل في بلاد المناصفات أحد ممن يجب عليه العداد
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(14/39)
وامتنع من ذلك، وكان عداد إحدى الجهتين حاضرا: إمّا عداد ديوان الملك الظاهر، وإمّا عداد بيت الاسبتار، فلنائب العداد الحاضر من إحدى الجهتين أن يأخذ من ذلك الشّخص الممتنع عن العداد أو الخارج من بلد المناصفات رهنا بمقدار ما يجب عليه من العداد، بحضور رئيس من رؤساء بلد المناصفات، ويترك الرّهن عند الرّئيس وديعة إلى أن يحضر النائب الآخر من الجهة الأخرى، ويوصّل إلى كلّ من الجهتين حقّه من العداد.
وإن خرج أحد ممن يجب عليه العداد، وعجز النائب الحاضر عن أخذ رهنه: فإن دخل بلدا من بلاد الملك الظاهر، كان على النوّاب إيصال بيت الاسبتار إلى حقّهم مما يجب على الخارج من العداد، وكذلك إن دخل الخارج المذكور إلى بيت الاسبتار، كان عليهم أن يوصّلوا إلى نوّاب الملك الظاهر حقّهم مما يجب على الخارج من العداد. وكذلك يعتمد ذلك في المملكة الحمويّة وبلاد الدّعوة المحروسة.
وعلى أن التّجّار والسّفّار والمتردّدين من جميع هذه الجهات المذكورة يكونون آمنين من الجهتين: الجهة الإسلامية، والجهة الفرنجية والنّصرانيّة، في البلاد التي وقعت هذه الهدنة عليها على النّفوس والأموال والدّوابّ وما يتعلق بهم، يحميهم السّلطان ونوّابه، ويتعاهدون البلاد الداخلة في هذه الهدنة المباركة الواقع عليها الصّلح وفي بلد المناصفات من جميع المسلمين، ويحميهم بيت الاسبتار في بلادهم الواقع عليها الصّلح وفي بلد المناصفات من الفرنج والنصارى كافّة.
وعلى أن يتردّد التّجّار والمسافرون من جميع المتردّدين على أيّ طريق اختاروه من الطّرق الداخلة في عقد هذه البلاد الداخلة في هذه الهدنة المباركة المختصّة بالملك الظاهر، وبلاد معاهديه، وبلاد المناصفات، وخاصّ بيت الاسبتار والمناصفات، يكون الساكنون والمتردّدون في الجهتين آمنين مطمئنّين على النّفوس والأموال، تحمي كلّ جهة الجهة الأخرى.
وعلى أنّ ما يختص بكلّ جهة من هذه الجهات: الإسلامية، والفرنجية الاسبتارية، لا يكون عداد على مالها في المناصفات: من الدّوابّ والغنم والبقر والجمال وغيرها، على العادة المقرّرة في ذلك.(14/40)
وعلى أن يتردّد التّجّار والمسافرون من جميع المتردّدين على أيّ طريق اختاروه من الطّرق الداخلة في عقد هذه البلاد الداخلة في هذه الهدنة المباركة المختصّة بالملك الظاهر، وبلاد معاهديه، وبلاد المناصفات، وخاصّ بيت الاسبتار والمناصفات، يكون الساكنون والمتردّدون في الجهتين آمنين مطمئنّين على النّفوس والأموال، تحمي كلّ جهة الجهة الأخرى.
وعلى أنّ ما يختص بكلّ جهة من هذه الجهات: الإسلامية، والفرنجية الاسبتارية، لا يكون عداد على مالها في المناصفات: من الدّوابّ والغنم والبقر والجمال وغيرها، على العادة المقرّرة في ذلك.
وعلى أنّ إطلاق الرّؤساء يكون باتفاق من الجهتين: الإسلامية، والفرنجية الاسبتارية. ومتى وقعت دعوى على الجهة الأخرى، وقف أمرها في الكشف عنها أربعين يوما فإن ظهرت أعيدت على صاحبها، وإن لم تظهر حلف ثلاثة نفر ممّن يختارهم صاحب الدّعوى على ما يعلمونه في تلك الدّعوى، وإن ظهرت بعد اليمين أعيدت إلى صاحبها، وإن كان قد تعوّض عنها أعيد العوض.
وعلى أن يكشفوا عن الأخيذة بجهدهم وطاقتهم. ومتى تحققت أعيدت إلى صاحبها، فإن حلفوا يبرؤون من الدعوى، وإن ظهرت بعد اليمين أعيدت على صاحبها، وإن امتنع المدّعى عليه من اليمين حلف المدّعي، ولا يستحق (1) عوض ما عدم من كل شيء مثله. وكذلك يجري الأمر في القتل:
عوض الفارس فارس، وعوض الرّاجل راجل، وعوض البركيل بركيل (2)، وعوض التّاجر تاجر، وعوض الفلّاح فلّاح. وإذا انقضت الأربعون يوما المذكورة لكشف الدعوى ولم يحلف المدّعى عليه للمدّعي وجب عليه العوض حتّى يردّ، وإن ردّ اليمين على المدّعي ومضى على ذلك عشرة أيّام، ولم يحلف صاحب الدعوى بطلت دعواه وحكمها، وإن حلف أخذ العوض.
ومتى هرب من إحدى الجهتين إلى الأخرى أحد، ومعه مال لغيره أعيد جميع ما معه، وكان الهارب مخيّرا بين المقام والعود. وإن هرب عبد وخرج عن دينه، أعيد ثمنه، وإن كان باقيا على دينه أعيد.
__________
(1) كذا بالأصل. وفي حاشية الطبعة الأميرية: لعل الصواب «ويستحق» كما هو ظاهر.
(2) في محيط المحيط: مادة «بركل»: البركيل هو مرتاد البحار من التجار والمغامرين.(14/41)
وعلى أن لا يدخل أحد من القاطنين في بلد المناصفات: من الفلّاحين والعرب والتركمان وغيرهم، إلى بلاد الفرنج والنّصارى كافّة لإغارة ولا أذيّة بعلم الملك الظاهر وبلاد معاهديه، [ولا يدخل أحد] (1) بلاد المسلمين لإغارة ولا أذيّة بعلم بيت الاسبتار ولا رضاهم ولا إذنهم.
وعلى أنّ الدعاوى المتقدّمة على هذا الصّلح يحمل أمرها على شرط المواصفة التي بين الملك الظاهر وبين معاهديه وبين بيت الاسبتار.
وعلى أن هذه الهدنة تكون ثابتة مستقرّة، لا تنقض بموت أحد من الجهتين، ولا وفاة ملك ولا مقدّم، إلى آخر المدّة المذكورة، وهي: عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيّام وعشر ساعات، أوّلها يوم تاريخه.
وعلى أن نوّاب الملك الظاهر ومعاهديه لا يتركون أحدا من التّركمان، ولا من العربان، ولا من الأكراد، يدخل بلاد المناصفات بغير اتّفاق من بيت الاسبتار أو رضاه، إلا أن يكفلوه على نفوسهم في هذه الطوائف المذكورة، ويعلموا حاله، لئلّا تبدو منهم أذيّة أو ضرر أو فساد ببلد المناصفات وببلد النصارى. ولنوّاب مولانا السلطان أن تتركهم على شرط أنهم يعلم بهم بيت الاسبتار في غد نزولهم المكان، إن كان المكان قريبا. وإن ظهر منهم فساد كان النوّاب يجاوبون بيت الاسبتار.
وعلى أن المهادنة بحدودها يكون الحكم فيها كما في المناصفات، والحدود في هذه البلاد جميعها تكون على ما تشهد به نسخ الهدن، وما استقرّ الحال عليه إلى آخر وقت.
وعلى أن تخلّى أمور المملكة الحمصيّة على ما كان مستقرّا في الأيام الأشرفيّة، على ما قرّره الأمير علم الدّين «سنجر».
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(14/42)
هذا ما وقع الاتّفاق والتّراضي عليه من الجهتين، وبذلك جرى القلم الشريف السلطانيّ الملكيّ الظاهريّ: حجّة بمقتضاه، وتأكيدا لما شرح أعلاه. كتب في تاريخ كذا وكذا.
وهذه نسخة هدنة من هذا النّمط، عقدت بين السلطان الملك الظاهر «بيبرس» أيضا، وبين ملكة بيروت (1) من البلاد الشامية، في شهور سنة سبع وستين وستمائة حين كانت بيدها، وهي:
استقرّت الهدنة المباركة بين السّلطان الملك الظاهر ركن الدين
__________
(1) هي الملكة «إيزابيلا» الإبنة الكبرى للملك «جان دي إبلن» الثاني. وقد خلفته بعد وفاته وأصبحت ملكة بيروت من 662إلى 680هـ (12821264م). وكان يساعدها في حكم مدينة بيروت نفسها «همفري دي مونتفرت» زوج أختها «آشيف»، والذي عرف ب «صاحب بيروت». وبعض المراجع العربية تطلق على هذه الملكة اسم «الدبونة» وهو تعريب لاسم البيت الحاكم في بيروت آنذاك «دي إبلن». ويسميها ابن عبد الظاهر: الملكة «زابين». وبعد ثلاث سنوات من عقد الهدنة تزوجت ملكة بيروت «إيزابيلا» من «هامو الغريب»، سنة 670هـ / 1272م والذي أوصى قبل وفاته بوضع زوجته ومملكة بيروت تحت حماية السلطان الظاهر بيبرس، وذلك خشية مطامع «هيو الثالث» ملك قبرص. وصارت ملكة بيروت كلما سافرت إلى قبرص تذهب إلى لقاء السلطان بيبرس وتترك مملكتها وديعة بين يديه إلى حين عودتها. وأقدم «هيو الثالث» على خطف إيزابيلا بعد وفاة زوجها سنة 671هـ كي يزوجها في قبرص من الشخص الذي يختاره لها، ليستغلها كوريثة لعرش قبرص في مشاريعه الصليبية في الشرق (ذلك أن إيزابيلا تزوجت وهي طفلة من ملك قبرص هيو الثاني الذي مات قبل أن يعقد عليها) ولكن السلطان بيبرس احتج على هذا العمل، وهدد بضرورة تنفيذ وصية هامو زوج إيزابيلا، فاضطر الملك هيو الثالث أن يعيد إيزابيلا إلى بيروت حيث اتخذت لنفسها حرسا من المماليك. وهذا الأمر يؤكد سلطة المماليك التي أخذت تقوى شيئا فشيئا على الصليبيين المحتلين للسواحل الإسلامية، وخاصة في بيروت التي استمرت الملكة إيزابيلا تحكمها حتى وفاتها سنة 680هـ تاركة حكمها لأختها «آشيف». (انظر تاريخ بيروت لعصام محمد شبارو: ص 91908887وتاريخ بيروت أيضا لصالح بن يحيى: ص 73 والروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر لمحيي الدين بن عبد الظاهر: ص 358).(14/43)
«بيبرس» وبين الملكة الجليلة المصونة الفاخرة، فلانة ابنة فلان، مالكة بيروت وجميع جبالها وبلادها التّحتية مدّة عشر سنين متوالية، أوّلها يوم الخميس سادس رمضان سنة سبع وستين وستمائة الموافق لتاسع أيار سنة ألف وخمسمائة وثمانين يونانية على بيروت وأعمالها المضافة إليها، الجاري عادتهم في التّصرّف فيها في أيام الملك العادل، أبي بكر بن أيّوب، وأيام ولده الملك المعظّم عيسى، وأيّام الملك الناصر صلاح الدّين يوسف بن الملك العزيز، والقاعدة المستقرّة في زمنهم إلى آخر الأيام الظاهرية، بمقتضى الهدنة الظاهريّة، وذلك مدينة بيروت وأماكنها المضافة إليها: من حدّ جبيل إلى حدّ صيدا، وهي المواضع الآتي ذكرها: جونية بحدودها، والعذب (1) بحدودها، والعصفورية بحدودها، والراووق بحدودها، وسنّ الفيل بحدودها، والرح والشّويف (2) بحدودها، وأنطلياس بحدودها، والجديدة (3) بحدودها، وحسوس (4) بحدودها، والبشرية (5)
بحدودها، والدكوانة وبرج قراجار بحدودها، وقرينة بحدودها، والنصرانية بحدودها، وجلدا (6) بحدودها، والناعمة بحدودها، ورأس الفيقة، والوطاء المعروف بمدينة بيروت، وجميع ما في هذه الأماكن من الرّعايا والتّجّار، ومن سائر أصناف الناس أجمعين، والصّادرين منها والواردين إليها من جميع أجناس النّاس، والمتردّدين إلى بلاد السلطان فلان، وهي: الحميرة (7)
__________
(1) لعله «الغرب» وهو جبل بيروت.
(2) ويعرف اليوم باسم «الشويفات»: حدود مدينة بيروت، الجنوبية الشرقية.
(3) في الطبعة الأميرية بالحاء المهملة، وهو خطأ.
(4) لعلها «بسوس».
(5) لعلها «البوشرية».
(6) كذا في الطبعة الأميرية، وصوابه «خلدا» أو «خلدة» وهي حدود مدينة بيروت إلى الجنوب.
(7) ذكرها صالح بن يحيى باسم «الحميرا» من البقاع اللبناني، وليس في البقاع اللبناني بلدة بهذا الاسم اليوم، إنما هناك قرية باسم «الحميرة» في الجنوب اللبناني.(14/44)
وأعمالها وقلاعها وبلادها وكلّ ما هو مختصّ بها، والمملكة الأنطاكية وقلاعها وبلادها، وجبلة واللّاذقيّة وقلاعها وبلادها، وحمص المحروسة وقلاعها وبلادها، وما هو مختصّ بها، ومملكة حصن عكّا وما هو منسوب إليه، والمملكة الحمويّة وقلاعها وبلادها وما هو مختصّ بها، والمملكة الرّحبيّة (1) وما هو مختصّ بها: من قلاعها وبلادها، والمملكة البعلبكّيّة وما هو مختصّ بها: من قلاعها وبلادها، والمملكة الدّمشقية وما هو مختصّ بها: من قلاعها وبلادها ورعاياها وممالكها، والمملكة الشّقيفية وما يختصّ بها من قلاعها وبلادها ورعاياها، والمملكة القدسيّة وما يختصّ بها، والمملكة الحلبيّة وما يختصّ بها، والمملكة الكركيّة والشّوبكيّة وما يختص بها من القلاع والبلاد والرّعايا، والمملكة النّابلسيّة، والمملكة الصّرخديّة، ومملكة الدّيار المصريّة جميعها: بثغورها، وحصونها، وممالكها، وبلادها، وسواحلها، وبرّها، وبحرها، ورعاياها، وما يختصّ بها، والسّاكنين في جميع هذه الممالك: المذكورة وما لم يذكر من ممالك السّلطان وبلاده، وما سيفتحه الله تعالى على يده ويد نوّابه وغلمانه يكون داخلا في هذه الهدنة المباركة، ومنتظما في جملة شروطها، ويكون جميع المتردّدين من هذه البلاد وإليها آمنين مطمئنّين على نفوسهم وأموالهم وبضائعهم، من الملكة فلانة وغلمانها، وجميع من هو في حكمها وطاعتها: برّا وبحرا، ليلا ونهارا، ومن مراكبها وشوانيها (2). وكذلك رعيّة الملكة فلانة وغلمانها يكونون آمنين على أنفسهم وأموالهم وبضائعهم من السّلطان ومن جميع نوّابه وغلمانه ومن هو تحت حكمه وطاعته: برّا وبحرا، ليلا ونهارا: في جبلة، واللّاذقيّة، وجميع بلاد السلطان، ومن مراكبه وشوانيه.
__________
(1) هي رحبة مالك بن طوق، تقع على الفرات بين الرقّة وعانة. ولا تزال آثار قلعتها الخربة بادية للعيان إلى اليوم على مسافة بضعة كيلو مترات إلى الجنوب الغربي من مدينة «الميادين» السورية. (مراصد الإطلاع: 2/ 608).
(2) الشواني: هي السفن الحربية الكبيرة.(14/45)
وعلى أن لا يجدّد على أحد من التّجّار المتردّدين رسم لم تجر به عادة، بل يجرون على العوائد المستمرّة، والقواعد المستقرّة من الجهتين. وإن عدم لأحد من الجانبين مال، أو أخذت أخيذة، وصحت في الجهة الأخرى ردّت إن كانت موجودة، أو قيمتها إن كانت مفقودة. وإن خفي أمرها كانت المدّة للكشف أربعين يوما، فإن وجدت ردّت، وإن لم توجد حلّف والي تلك الولاية المدّعى عليه، وحلّف ثلاثة نفر ممّن يختارهم المدّعي، وبرئت جهته من تلك الدّعوى. فإن أبى المدّعى عليه من اليمين حلّف الوالي المدّعي، وأخذ ما يدّعيه. وإن قتل أحد من الجانبين خطأ كان أو عمدا، كان على القاتل في جهته العوض عنه نظيره: فارس بفارس، وبركيل ببركيل، وراجل براجل، وفلّاح بفلّاح. وإن هرب أحد من الجانبين إلى الجانب الآخر بمال لغيره، ردّ من الجهتين هو والمال، ولا يعتذر بعذر.
وعلى أنه إن تاجر فرنجي صدر من بيروت إلى بلاد السّلطان يكون داخلا في هذه الهدنة، وإن عاد إلى غيرها لا يكون داخلا في هذه الهدنة.
وعلى أنه إن تاجر فرنجي صدر من بيروت إلى بلاد السّلطان يكون داخلا في هذه الهدنة، وإن عاد إلى غيرها لا يكون داخلا في هذه الهدنة.
وعلى أنّ الملكة فلانة لا تمكّن أحدا من الفرنج على اختلافهم من قصد بلاد السّلطان من جهة بيروت وبلادها، وتمنع من ذلك وتدفع كلّ متطرّق بسوء، وتكون البلاد من الجهتين محفوظة من المتجرّمين المفسدين.
وبذلك انعقدت الهدنة للسلطان، وتقرّر العمل بهذه الهدنة والالتزام بعهودها والوفاء بها إلى آخر مدّتها من الجهتين: لا ينقضها مرور زمان، ولا يغيّر شروطها حين ولا أوان، ولا تنقض بموت أحد من الجانبين. وعند انقضاء الهدنة تكون التّجّار آمنين من الجهتين مدّة أربعين يوما، ولا يمنع أحد منهم من العود إلى مستقره وبذلك شمل هذه الهدنة المباركة الخطّ الشريف حجّة فيها، والله الموفّق، في تاريخ كذا وكذا.
وهذه نسخة هدنة عقدت بين السلطان الملك الظاهر «بيبرس» وولده
الملك السّعيد، وبين الفرنج الاسبتارية، على قلعة لدّ بالشام، في سنة تسع وستين وستمائة وهي:(14/46)
وهذه نسخة هدنة عقدت بين السلطان الملك الظاهر «بيبرس» وولده
الملك السّعيد، وبين الفرنج الاسبتارية، على قلعة لدّ بالشام، في سنة تسع وستين وستمائة وهي:
استقرّت الهدنة المباركة بين السّلطان الملك الظّاهر ركن الدّين «بيبرس الصّالحيّ» قسيم أمير المؤمنين وولده الملك السّعيد ناصر الدّين «محمد بركه خاقان» (1) خليل أمير المؤمنين، وبين المباشر المقدّم الجليل افريز (2) أولد كال مقدّم جميع بيت اسبتار سرجوان بالبلاد السّاحليّة، وبين جميع الإخوة الاسبتارية، لمدّة عشر سنين كوامل متواليات متتابعات، وعشرة أشهر، أوّلها مستهلّ رمضان سنة تسع وستين وستمائة للهجرة النبويّة المحمّديّة، الموافق للثامن عشر من نيسان سنة ألف وخمسمائة واثنتين وثمانين للإسكندر بن فيلبّس اليونانيّ على أن تكون قلعة لدّ (3) بكمالها وربضها وأعمالها، وما هو منسوب إليها ومحسوب منها، بحدودها المعروفة بها من تقادم الزمان، وما استقرّ لها الآن، وما يتعلّق بذلك: من المواضع، والمصايد، والملّاحات، والبساتين، والمعاصر، والطّواحين، والجزائر:
سهلها وجبلها، وعامرها، وداثرها، وما يجري بها من أنهار، وينبع بها من عيون، وما هو مبنيّ بها من عمائر، وما استجدّ بها من القراح (4) وغير ذلك،
__________
(1) أو محمد بركة خان الذي خلف والده في السلطنة من سنة 676هـ إلى سنة 678هـ / 1277 1279م. أمّا سلطنة الظاهر بيبرس فقد استمرت من سنة 658هـ إلى سنة 676هـ / 1260 1277م.
(2) كذا في الطبعة الأميرية وصوابه «إفرير» بالراء المهملة، وهو تعريب لكلمة الفرنسية ومعناها الأخ، وكانت لقبا يتقدم أسماء الاسبتار والداويّة. وقد تقدّم أنه كان يقال لهم الإخوة الداويّة والإخوة الاسبتارية. ولعل المراد بلفظ «أولد»: أودو. (انظر تشريف الأيام والعصور: 3534).
(3) هكذا ضبطها ياقوت في معجم البلدان. وهي قرب بيت المقدس، على أقل من خمسة كيلومترات من مدينة الرملة. والشائع في اسمها إضافة «أل» التعريف وكسر اللام. وقد احتلها الصليبيون سنة 493هـ واحتفظوا بها إلى أن حرّرها الملك الظاهر بيبرس.
(الموسوعة الفلسطينية: 4/ 39).
(4) القراح من الأرض: المخلّدة للزرع وليس عليها بناء.(14/47)
وكلّ ما عمّر في أراضي المناصفات على دورها وأنهارها، وما بحدود ذلك من نهر «بدرة» (1) إلى جهة الشّمال، وما استقرّ «لبلدة» (2) من هذه الجهات إلى آخر الأيام النّاصريّة من الحدود المعروفة بها والمستقرّة لها، وحصن برغين (3) وما ينسب إلى ذلك من البلاد والضّياع والقرى التي كانت مناصفة تكون جميع «بلدة» وهذه الجهات خاصّا إلى آخر الزائد للملك الظّاهر، ولا يكون لبيت الاسبتار ولا للمرقب فيها حقّ ولا طلب بوجه ولا سبب إلى حين انقضاء مدّة الهدنة وما بعدها إلى آخر الزائد، ولا لأحد من جميع الفرنجة فيها تعلّق ولا طلب بوجه ولا سبب.
وكذلك مهما كان مناصفة كقلعة «العليقة» (4) في بلادها لبيت الاسبتار، يكون ذلك جميعه للدّيوان المعمور والخاصّ الشريف، ولا يكون للمرقب فيها شيء ولا لبيت الاسبتار.
وكذلك كلّ ما هو في بلاد الدّعوة المباركة جميعها وقلاعها من القرى لا تكون فيها مناصفة لبيت الاسبتار ولا للمرقب، ولا حقّ، ولا رسم، ولا شرط، ولا طلب في جميع بلاد الدّعوة: مصياف المحروسة، والكهف، والمنيقة، والقدموس، والخوابي، والرّصافة، والعليقة، وكلّ ما هو في هذه
__________
(1) لم نتمكن من تحديد موقع هذا النهر.
(2) بلدة: مدينة على فرسخين من جبلة بسوريا، وقد خربت. (فتوح البلدان: 695158).
(3) لم نعثر على حصن بهذا الاسم. وفي فلسطين بلدة باسم «برقين» بكسر الباء والقاف المثناة. وهي على مسافة خمسة كيلومترات إلى الغرب من جنين. ونرجح أن المراد بذلك حصن «القرين» قال ابن عبد الظاهر: «وكان هذا حصن القرين لاسبتار الأرمن، ولم يكن لهم بالساحل غيره، وكان من أمنع الحصون وأضرها بصفد. وقد افتتحه السلطان بعد حصن الأكراد». (انظر الموسوعة الفلسطينية: 1/ 378والروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر:
385).
(4) كانت هذه القلعة مختصة بالإسماعيلية، وهي من أمنع حصون الجبل انتزعها السلطان الظاهر بيبرس من متملكها صارم الدين بن الرضي يوم السبت حادي عشر شوال سنة 669هـ. (سيرة الملك الظاهر لابن عبد الظاهر: ص 384).(14/48)
القلاع وفي بلادها من مناصفة، يكون ذلك خاصّا للملك الظاهر، وليس لبيت الاسبتار ولا الفرنجة فيه حديث ولا طلب.
وعلى أن تكون بلاد المرقب وحدودها من نهر لدّ ومقبّلا ومغرّبا إلى حدود بلاد مرقبة المعروفة بها، الدّاخل جميعها في الفتوح الشريف، واستقرارها بحكم ذلك في الخاصّ المبارك الشّريف، وحدّ البيوت المحاذية لسور الرّبض، تستقرّ جميعها مناصفة بين السّلطان وبين بيت الاسبتار نصفين بالسّويّة، وما في جميع هذه البلاد: من بساتين، وطواحين، وعمائر، ومصايد، وملّاحات، ووجوه العين، والمستغلّات الصّيفيّة والشّتويّة، والقطاني، والحقوق المستخرجة، وما هو مزروع من الفدن لأهل الرّبض وبيادرها: يكون ذلك مناصفة بين السلطان وبين بيت الاسبتار سرجوان بالسّويّة نصفين.
وما هو داخل الرّبض وداخل المرقب، فإنه مطلق من الملك الظاهر للمقدّم الكبير «افريز أولد كال» (1) مقدّم بيت الاسبتار سرجوان وخيّالته، ورجاله وحمّالته ورجّالته ورعيّته، برسم إقامتهم وسكناهم من داخل الأسوار، وعن سور الرّبض المحاذية للسّور تكون مناصفة جميعها، بما فيه من حقوق طرقات وأحكار، ومراعي المواشي على اختلاف أصوافها وأوبارها، وجميع السخريات، وكلّ أرض مزروعة أو غير مزروعة مهما أخذ منه من حقّ أو عداد يكون مناصفة.
وكلّ ما هو من المواني والمراسي البحريّة المعروفة جميعها بحصن المرقب: من مينا بلدة إلى مينا القنطرة المجاورة لحدود مرقبة تكون هي وما يتحصّل منها من الحقوق المستخرجة من الصادرين والواردين والتّجّار، وما ينعقد عليه ارتفاعها، وتشهد به الحسبانات جميعه مناصفة. وما يدخل في
__________
(1) راجع ص 47الحاشية (2).(14/49)
ذلك من أجناس البضائع على اختلافها يؤخذ الحقّ [منه] (1) مناصفة على العادة الجارية من غير تغيير لقاعدة من حين أخذ بيت الاسبتار المرقب إلى تاريخ هذه الهدنة المباركة مناصفة على العادة الجارية، بل تجري التّجّار في الحقوق على عادتهم في البضائع التي يحضرونها والمتجر كائنا من كان.
يعتمد ذلك في كلّ ما يصل للمتردّدين والمقيمين بالقلعة والرّبض: من عامّة وغير عامّة، وخيّالة وغير خيّالة، على اختلاف أجناسهم، خلا ما يصل للإخوة ولغلمانهم المعروفين بالإخوة الاسبتارية من الحبوب والمؤونة والكسوة والخيل التي هي برسم ركوبهم خاصّة، لا يكون عليها حقّ، بشرط أنه لا يكون فيها للتّجّار شيء من ذلك، وما خلا ذلك جميعه يؤخذ الحقّ منه مناصفة على ما شرحناه.
وعلى أنه لا يحمي أحد من الإخوة الخيّالة، والوزراء، والكتّاب، والنّوّاب، والمستخدمين شيئا على اسم بيت الاسبتار، ليستطلق الحقّ ويمنع من استيدائه، ولو أنّه أقرب أخ إلى المقدّم أو ولد المقدّم، إذا ظهر منه خلاف ما وقع عليه الشّرط، أخذ جميع ماله مستهلكا للجهتين: للدّيوان السّلطانيّ المعمور، ولبيت الاسبتار، إن كان خارجا من البحر أو نازلا إلى البحر، صادرا وواردا، وكذلك في البرّ صادرا وواردا بعد المحاققة على ذلك وصحّته.
وعلى أنّ نوّاب المباشر المقدّم الكبير لبيت الاسبتار، وولاته وكتّابه ومستخدميه وغلمانه، يكونون آمنين مطمئنّين على نفوسهم وأموالهم وجميع ما يتعلّق بهم. وكذلك غلماننا وولاتنا ونوّابنا ومستخدمونا وكتّابنا ورعايا بلادنا يكونون آمنين مطمئنّين على نفوسهم وأموالهم، متّفقين على مصالح البلاد وأخذ الحقوق، وسائر المقاسمات والطّرقات والبساتين والطّواحين،
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(14/50)
والحقوق المقرّرة على الفدن على اختلاف أجناسها. وكذلك الرّآسة واستخراج وجوه العين، والحبوب، والتصاريف الجاري بها العادة المقرّرة على الفدن، من جميع ما يتعلّق بها.
وعلى أن جميع الضمانات يكون نوّاب السلطان ونوّاب بيت الاسبتار متّفقين جملة على ذلك، لا ينفرد أحد منهم بشيء إلا باتفاق وتنزيل في دفاتر الديوان المعمور وديوان بيت الاسبتار، ولا يطلق ولا يحبس إلا باتّفاق من الجهتين، ولا ينفرد واحد دون آخر.
وعلى أنّ أيّ مسلم تصدر منه أذيّة يحكم فيه بما يقتضيه الشرع الشريف في تأديبه، يعتمد ذلك فيه نائبنا: من شنق يجب عليه، أو قطع، أو أدّب بحكم الشّرع الشريف: من شنق، وقطع، وكحل أعين، بحيث لا يعمل ذلك إلا بحضور نائب من جهة بيت الاسبتار، حاضر يعاين ذلك بعينه، ويكون قد عرف الذّنب وتحقّقه. وإن كان ذنبه يستوجب جناية أو غرامة دراهم أو ذهب أو مواش أو غير ذلك على اختلاف أجناسه، يكون ما يستأدى مناصفة للدّيوان المعمور ولبيت الاسبتار وصاحب المرقب. فإن كان فيها (1) قماش وبضائع على اختلاف أجناسه، وصاحبه مسلم، يأخذ بضاعته من غير اعتراض من الجهتين بعد أداء الحقّ للدّيوان المعمور ولبيت الاسبتار. وإن لم يعرف صاحب البضاعة وكانت لمسلم، أعيدت للخزانة السّلطانية، ولا يكون لبيت الاسبتار فيها تعلّق. وإن كان صاحب البضاعة نصرانيّا على اختلاف أجناس النّصارى، تؤخذ بضاعته، من غير اعتراض من جهتنا، بعد أداء الحقّ، وإن لم يعرف صاحب البضاعة، وكانت لنصرانيّ، تبقى تحت يد بيت الاسبتار، خلا من كان من بلاد مملكة السّلطان على
__________
(1) لعله سقط هنا شيء يعود عليه الضمير. والظاهر أن الكلام يجري على بضائع المراكب التجارية الواردة إلى البلاد. ويستفاد مما سيأتي أن الكلام يجري تحديدا على حال المراكب التي تتعرض للكسر أو الغرق أو ما شابه ذلك.(14/51)
اختلاف دينه: إن كان نصرانيّا أو ذميّا، على اختلاف جنس دينه، ليس لبيت الاسبتار عليهم اعتراض، ويحمل ذلك جميعه على اختلاف أجناس البضائع للدّيوان المعمور.
وعلى أنه متى انكسر مركب، وظهر إلى برّ المواني بضاعة، وقصد صاحبه شيله إلى جهة يختارها في البرّ والبحر، ولا يتبع، فيؤخذ الحقّ منه:
إن باع يؤخذ الحقّ، وإن حمل يؤخذ الحقّ، ويكون الحقّ للجهتين: وهو الحقّ المعروف الجاري به العادة.
وعلى أن التّجّار السّفّارة والمتردّدين بالبضائع من بلاد المسلمين والنّصارى متى ما خرجوا من المواني المحدودة أعلاه يتوجّهون بخفارة (1)
الجهتين من غير حقّ: لا يتناول من الخفارة شيء منسوب إلى نفوسهم إلى أن يخرجهم ويحضرهم إلى برّ حدود المرقب آمنين مطمئنّين تحت حفظ الجهتين.
ومتى وصل التّجّار من مملكة السّلطان إلى بلاد المرقب وموانيها، فالتّرتيب على الخفارة من الجهتين، مع تدرّك الرّؤساء الحفظ للطرقات صادرا وواردا، بحيث إنّهم يحضرون إلى بلاد المرقب، وإلى المواني بالمرقب المحدودة أعلاه، طيّبين آمنين على أرواحهم وأموالهم بالخفارة من الجهتين، على ما شرحناه.
وعلى أنّ غلمان المباشر المقدّم لبيت الاسبتار والإخوة والخيّالة والرّعيّة المقيمين بقلعة المرقب والرّبض، يكونون آمنين مطمئنّين على أنفسهم وأموالهم ومن يلوذ بهم ويتعلّق، في حال صدورهم وورودهم إلى بلادنا الجارية في مملكتنا في البرّ، منّا ومن نوّابنا بالمملكة والبلاد الجارية في حكمنا، ومن ولدنا الملك السّعيد، ومن أمرائنا وعساكرنا المنصورة. وإن قتل قتيل أو أخذت أخيذة في حدود المناصف ببلاد المرقب، فيقع الكشف
__________
(1) أي الحراسة.(14/52)
عن ذلك عشرين يوما: فإن وجد فاعل ذلك، يؤخذ الفاعل بذنبه، وإن لم يظهر فاعل ذلك مدّة عشرين يوما فيمسك رؤساء مكان قطع الطّريق وأخذ الأخيذة، وقتل القتيل، إن كان أخذ وقتل مكان من قتل القتيل أو أخذ الأخيذة أقرب القرباء إلى الذي قطع عليه الطريق أو قتل قتيلا، فإن خفي الفاعل لذلك، وعجز عن إحضاره بعد عشرين يوما، يلزم أهل نوّاب الجهتين من القرباء الأقرب لذلك المكان بألف دينار صوريّة: للدّيوان السلطانيّ النّصف، ولنقيب الاسبتار النّصف، ولا تتكاسل الولاة في طلب ذلك، ويكون طلبه يدا واحدة، ولا يختص الواحد دون الآخر، ولا يحابي أحد منهم لأخذ الفلّاح في هذا أو غيره في مصلحة عمارة البلاد، واستخراج الحقوق، ومقاسمة الغلال، وطلب المفسدين ليلا ونهارا.
وعلى أن لا تغيّر الهدنة المباركة بأمر من الأمور، لا من جهتنا ولا من جهة ولدنا الملك السّعيد، إلى انقضاء مدّتها المعيّنة أعلاه وفروعها، ولا تتغيّر بتغيّر المقدّم المباشر لبيت الاسبتار الحاكم على المرقب وغيره. وإذا جرت قضيّة في أمر من الأمور يعرّفهم نوّابنا، ويحقّق الكشف إلى مدّة أربعين يوما فمن يكون للبداية يخرج منها على من يثبت (1) ويكون قد عرف دينه الذي بدا من جهة كلّ واحد. وإذا تغيّر النّواب بالمرقب وحضر نائب مستجدّ يعتمد ما تضمّنته هذه الهدنة، ولا يخرج عن هذه المواصفة. وإذا تسحّب من المسلمين أحد على اختلاف أجناسه، إن كان مملوكا أو غير مملوك، أو معتوقا أو غير معتوق، أو كائنا من كان من المسلمين على اختلاف منازلهم، وإن كان غلاما أو غير غلام يردّ بجميع ما يوجد معه، إن كان قليلا أو كثيرا يردّ. ولو أنّ المتسحّب دخل الكنيسة وجلس فيها يمسك بيده ويخرج ويسلّم لنوّابنا بجميع ما معه وإن كان خيلا أو قماشا أو دراهم أو ذهبا وما يتعامل الناس به، يسلّم بما معه إلى نوّابنا على ما شرحناه. وكذلك إذا تسحّب أحد
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. والعبارة غير مستقيمة.(14/53)
من جهتهم من الفرنج أو النّصارى إلى أبوابنا الشريفة، أو وصل إلى جهة نوّابنا يمسك ويسلّم بما يحضر معه: من الخيل والأقمشة والعدّة وجميع ما يصل إن كان قليلا أو كثيرا، يمسكه نوّابنا ويسلّمون ذلك بما معه لنائب المقدّم الماستر (1) المقيم بالمرقب، وأخذوا (2) الخطوط بذلك بتسليمه بما حضر معه.
وعلى أنهم لا يكون لهم حديث مع قلعة العليقة، ولا الرّعيّة الذين فيها، ولا مع نوّاب ابن الرديني المقيمين فيها: لا بكتاب، ولا بمشافهة، ولا برسالة، ولا بقول، ولا يطلع أحد من جهتهم إليهم، ولا يمكّن أحد من الحضور إليهم، [والوصول] (3) إلى جهتهم من القلعة المذكورة، ولا تسيّر إليهم مؤونة ولا تجارة ولا جلب على اختلاف أجناسه، ولا تكون بينهم معاملة. وإن حضر من جهة قلعة العليقة إليهم يمسكون ويسلّمون لنوّابنا ويأخذوا (4) بذلك خطوطهم.
وعلى أنهم لا يجدّدون عمارة قلعة، ولا في القلعة عمارة، ولا في البدنة (5) ولا في أبراجها، ولا [يعتمدون] (6) إصلاح شيء منها إلا إذا عاينه نوّابنا أو أبصروا أنه يحتاج إلى الضّرورة في ترميم يرمّمونه بعد أن يعاينه نوّابنا من هذا التاريخ، ولا يجدّدون عمارة في ربضها (7)، ولا في سورها، ولا في
__________
(1) أي السيّد.
(2) الصواب: «ويأخذون».
(3) الزيادة للسياق وهي من الطبعة الأميرية.
(4) إذا كان الشرط ماضيا، والجواب مضارعا، جاز جزم المضارع ورفعه. وقد أخذ هنا بالجواز الأول.
(5) البدنة هي جدار الحصن بين برجين. وقيل في البدنة إنها ستائر في التحصينات. والجمع بدنات. ويطلق عليها «السجف» أيضا. (الأعلاق الخطيرة: 3/ 884حاشية: عن معجم المصطلحات الأثرية وتاريخ ابن القلاقسي).
(6) الزيادة للسياق وهي من الطبعة الأميرية.
(7) والجمع أرباض. والأرباض كثيرة، قل ما تخلو مدينة من موضع فيها يقال له الربض.
والربض في الأصل حريم الشيء. يقال: الرّبض بالضم وتسكين الباء أساس المدينة، والربض بالفتح والتحريك ما حوله من خارج. وقيل هما لغتان. (المشترك وضعا والمفترق صقعا: ص 200).(14/54)
أبراجها، ولا يجدّدون حفر خندق، وعمارة خندق، أو تجدّد بناية خندق أو قطع جبل، أو تحصّن عمارة، أو تحصّن بقطع جبل، منسوبا لتحصين يمنع أو يدفع. ولم نأذن لهم بسوى البناية [على] أثر الدّور التي أحرقت عند دخول العساكر صحبة الملك السّعيد. وقد أذنّا لهم في عمارة باطن الرّبض على أثر الأساس القديم.
وعلى أنّ صهيون (1) وأعمالها، وبرومه (2) وأعمالها، والقليعة وأعمالها، وعيدوب (3) وأعمالها، الجارية تحت نظر الأمير سيف الدّين محمد ابن عثمان صاحب صهيون يجري حكم هذه البلاد المختصة به حكم بلادنا في المهادنة، بحكم أنّ بلاده المذكورة جارية في ممالكنا الشّريفة.
وعلى أنه لا يمكّن بيت الاسبتار من دخول رجل غريبة في البرّ ولا في البحر إلى بلادنا، بأذيّة ولا ضرر يعود على الدّولة، وعلى بلادنا وحصوننا ورعيّتنا، إلا أن يكونوا يدا غالبة، صحبة ملك متوّج.
وعلى أنّ البرج الداخل في المناصفة، وهو برج معاوية الذي عند المحاصّة الداخلة في مناصف المرقب الآن، يخرّب ما يخصّنا منه، وهو النّصف من البرج المذكور أعلاه وأن الجسر المعروف بجسر بلدة لم يكن لبيت الاسبتار فيه شيء من البرّين، وأنه خالص للديوان المعمور دون بيت الاسبتار وأن الدّار المستجدّة عمارتها بقلعة المرقب برسم الماستر المقدّم الكبير، الذي هو عايز (4) تكميل عمارة سقف القبو بالحجارة والكلس، لا
__________
(1) حصن من أعمال سواحل بحر الشام من أعمال حمص، ولكنه ليس بمشرف على البحر.
(معجم البلدان: 3/ 436).
(2) كذا في الأصل بالإهمال.
(3) لم نعثر على هذا الاسم في معاجم البلدان التي بأيدينا.
(4) كذا بالأصل: وهو لفظ عاميّ بمعنى: بحاجة.(14/55)
تكمّل عمارتها، ويبقى على حاله، وهو في وسط القلعة الظاهر منه قليل إلى البرّ الشّرقيّ وهو المذكور أعلاه.
وعلى أن نوّاب الاسبتار بالمرقب لا يخفون شيئا من مقاسمات البلاد ولا شيئا من حقوقها الجارية بها العادة أن بيت الاسبتار يستخرجونه ولا يخفون منه شيئا وكلّ ما كان يستأدى من البلاد في أيدي الاسبتار قبل هذه الهدنة يطلعون نوّابنا عليه ولا يخفون منه شيئا قليلا ولا كثيرا من ذلك.
وعلى أنّ السلطان يأمر نوّابه بحفظ مناصفات بلاد المرقب الداخلة في هذه الهدنة، من المفسدين والمتلصّصين والحراميّة ممن هو في حكمه وطاعته. وكذلك الماستر المقدّم افريز أولد كال يلزم ذلك من الجهة الأخرى. ومتى وقع والعياذ بالله فسخ بسبب من الأسباب، كان التّجّار والسّفّار آمنين من الجهتين إلى أن يعودوا بأموالهم، ولا يمنعون من السّفر إلى أماكنهم من الجهتين، وتكون النهاية لهم أربعين يوما. وتكون هذه الهدنة منعقدة بشروطها المذكورة، مستقرّة بقواعدها المسطورة للمدّة المعيّنة، وهي: عشر سنين وعشرة أشهر كوامل، أوّلها مستهلّ رمضان سنة تسع وستّين وستمائة إلى آخرها، متتابعة متوالية، لا تفسخ بموت أحد من الجهتين، ولا بعزل وال وقيام غيره موضعه، ولا زوال رجل غريبة، ولا حضور يد غالبة، بل يلزم كلّا من الجهتين حفظها إلى آخرها، ومن تولّى بعد الآخر حفظها إلى آخرها، بالشّروط المشروطة فيها أوّلا وآخرا. والخطّ أعلاه، حجّة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى. في تاريخ كذا وكذا.
وهذه نسخة هدنة عقدت بين السلطان الملك المنصور «قلاوون» الصالحيّ صاحب الدّيار المصريّة والبلاد الشاميّة وولده الملك الصالح «عليّ» وليّ عهده، وبين حكّام الفرنج بعكّا وما معها من بلاد سواحل
الشّام، في شهور سنة آثنتين وثمانين وستمائة، وهي يومئذ بأيديهم وصورتها (1):(14/56)
وهذه نسخة هدنة عقدت بين السلطان الملك المنصور «قلاوون» الصالحيّ صاحب الدّيار المصريّة والبلاد الشاميّة وولده الملك الصالح «عليّ» وليّ عهده، وبين حكّام الفرنج بعكّا وما معها من بلاد سواحل
الشّام، في شهور سنة آثنتين وثمانين وستمائة، وهي يومئذ بأيديهم وصورتها (1):
استقرّت الهدنة بين مولانا السّلطان الملك المنصور سيف الدّين أبي الفتح «قلاوون» الملكيّ الصّالحيّ وولده السلطان الملك الصالح علاء الدّين «عليّ» خلّد الله تعالى سلطنتهما (2) وبين الحكّام بمملكة عكّا، وصيدا، وعثليث، وبلادها التي انعقدت عليها هذه الهدنة، وهم: (الشيخان أو دهيل المملكة بعكّا) (3)، وحضرة المقدّم الجليل (افريز كاسام ديبا حول) (4) مقدّم بيت الديويّة، وحضرة المقدّم الجليل (افريز سكفل للورن) (5)
مقدّم بيت الاسبتارية، والمرشان الأجلّ (افريز) (6) كورات نائب مقدّم بيت الاسبتار الآمن (7) لمدّة عشر سنين كوامل، وعشرة أشهر، وعشرة أيّام، وعشر ساعات: أوّلها يوم الخميس خامس ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانين وستمائة للهجرة النّبويّة، صلوات الله على صاحبها وسلامه، الموافق للثالث
__________
(1) قال ابن عبد الظاهر: «ولما كان صفر من هذه السنة حضرت رسلهم وأكابرهم وعقدوا الهدنة، وحلف مولانا السلطان عليها بحضور رسل الفرنجية وهم نفران من بيت الديوية إخوة، ونفران من بيت الاسبتار إخوة، ومن الملوكية فارسان: كليام والي الولاة، والوزير فهد وهي:». (تشريف الأيام والعصور: 34).
(2) في المرجع السابق «سلطانهما».
(3) كذا في الطبعة الأميرية عن الأصل. وصوابه: «وهم: السنجال أود، كفيل المملكة بعكا» كما ورد في تشريف الأيام والعصور لابن عبد الظاهر. والسنجال ترجمة حرفية للكلمة الفرنسية المأخوذ من اللفظ اللاتيني والجرماني. ومعناها هنا النائب أو الكفيل، على حد التعبير العربي في ذلك العصر. والمقصود به: أودو بوليشيان) (نائب المملكة بعكا. (تشريف الأيام والعصور: 34).
(4) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقّف. وصوابه: «إفرير كليام ديباجوك» المرجع السابق.
(5) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. وصوابه: «إفرير نيكول للورن» والمقصود بهذا الاسم:.
(6) صوابه بالراء المهملة.
(7) في تشريف الأيام والعصور «الأمن». ولعل الصواب: «الأرمن».(14/57)
من حزيران سنة ألف وخمسمائة وأربع وتسعين لغلبة الإسكندر بن فيلبّس اليونانيّ على جميع بلاد السّلطان وولده (1)، وهي التي في مملكتهما وتحت حكمهما وطاعتهما وما تحويه أيديهما يومئذ: من جميع الأقاليم والممالك، والقلاع، والحصون الإسلامية، وثغر دمياط (2)، وثغر الإسكندريّة المحروستين، ونسترو (3)، وسنتريّة (4) وما ينسب إليها من المواني والسواحل، وثغر فوّة (5)، وثغر رشيد، والبلاد الحجازية، وثغر غزّة المحروس، وما معها من المواني والبلاد، والمملكة الكركيّة (6)، والشّوبكيّة وأعمالها، والصّلت وأعمالها، وبصرى (7) وأعمالها، ومملكة بلاد الخليل صلوات الله عليه وسلامه، ومملكة القدس الشّريف وأعمالها، وبيت لحم (8) وأعماله
__________
(1) في تشريف الأيام والعصور: «على جميع بلاد مولانا السلطان الملك المنصور وولده السلطان الملك الصالح، علاء الدنيا والدين، عليّ» ثم يلي ذلك باختلاف بسيط.
(2) من الثغور المشهورة بمصر على نهاية الفرع الشرقي من النيل. وكانت بلدة بحرية مهمة جدا:
فمن كان يريد الإغارة على مصر من الروم والإفرنج يسعى إلى احتلالها أولا. وقد خربت سنة 467هـ أيام الملك الأشرف باتفاق المماليك البحرية لمنع الإفرنج عن محاربتهم فيها. وردم الظاهر بيبرس فم البحر ليمنع السفن الكبيرة من العبور. (تشريف الأيام والعصور: 35 حاشية والانتصار: 5/ 7978).
(3) كذا رسمها وضبطها في معجم البلدان أيضا. وفي «الانتصار» و «نزهة النفوس»:
«نستراوة». وفي تشريف الأيام والعصور: «نستروة». وهي جزيرة بين دمياط والإسكندرية.
(4) في صحراء الواحات. مدينة قديمة بنيت في عهد الملك العاشر من ملوك مصر بعد الطوفان.
ثم خربت تلك المدينة وبني مكانها حصن عرف باسمها. (الانتصار: 5/ 14).
(5) كانت «فوّة» من القرى المصرية القديمة في دلتا مصر، وتقع على شاطيء النيل قرب رشيد.
سميت بهذا الاسم نسبة إلى الفوّة وهي العروق الحمراء التي تصبغ بها الثياب كما عرفها ياقوت في معجمه وقد ذكرها أميليو في جغرافيته باسم «بوي». أما رشيد القريبة منها، فقد كان لها أهمية كبرى قبل أن تتصل الإسكندرية بالنيل من جراء فتح الترعة المحمودية. (معجم البلدان: 4/ 280، ونزهة النفوس والأبدان: 3/ 188).
(6) وقاعدتها الكرك، وتعرف بكرك الشوبك لمقاربتها لها. وهي من البلقاء. والشوبك. من جبل الشراة. والصلت تقع جنوبي عجلون. وجميع هذه المناطق هي اليوم من الأردن.
(7) من أعمال دمشق. وهي قصبة كورة حوران (معجم البلدان: 1/ 441، والمشترك: 57).
(8) في فلسطين، ولد فيها سيدنا عيسى عليه السّلام. وكانت تسمى قديما: ولذلك يقال لها: «بيت لحم أفراته» تمييزا لها عن قرية أخرى تسمى «بيت لحم زبولون» في جنوبي الشام بين الناصرة وعكا وغزة. (تشريف الأيام والعصور: 36حاشية عن قاموس الجغرافية القديمة).(14/58)
وبلاده، وجميع ما هو داخل فيها ومحسوب منها، وبيت جبريل (1)، ومملكة نابلس (2) وأعمالها، ومملكة الأطرون (3) وأعمالها، وعسقلان (4) وأعمالها وموانيها وسواحلها، ومملكة يافا والرّملة وميناها، وقيساريّة وميناها وسواحلها وأعمالها، وأرسوف (5) وأعمالها، وقلعة قاقون (6) وأعمالها وبلادها، وأعمال العوجاء (7) وما معها من الملاحة، والفتوح السّعيد وأعمالها ومزارعها، وبيسان وأعمالها وبلادها، والطّور وأعماله، واللّجون (8)
وأعماله، وجينين (9) وأعمالها، وعين جالوت وأعمالها، والقيمون (10)
__________
(1) بين القدس وغزة. وهي لغة في «جبرين».
(2) في فلسطين. كانت تسمى. واسمها القديم الأشهر «شكيم».
(3) قال في معجم البلدان: «بلد من نواحي فلسطين ثم من نواحي الرملة» وفي الموسوعة الفلسطينية: 2/ 474 «اللطرون» على مسافة 16كلم من الرملة على طريق القدس.
(4) مدينة مشهورة بالشام. وتسمى في التوراة: عسقلون. وكذلك عند الإفرنج. وعند المصريين والاشوريين «عسكالونا».
(5) بين قيسارية ويافا.
(6) حصن قرب الرملة.
(7) نهر بين أرسوف والرملة. وفي «تشريف الأيام والعصور» والموسوعة الفلسطينية:
«العوجا» دون همزة متطرفة. ويذكره ياقوت في مادة «نهر أبي فطرس». ويعتقد أن «أبا فطرس» محرّف من اسم مدينة «أنتيباتريس» الرومانية التي نسب النهر إليها. (الموسوعة الفلسطينية: 3/ 356).
(8) قرية اللجون على بعد 18كلم شمالي غرب مدينة جنين. ومن أعمال اللجون: بيت قار، واليامون، وزرعين، والعفولة، وتعنّك. (الموسوعة الفلسطينية: 4/ 36).
(9) هي نفسها «جنين».
(10) يقترن اسم «القيمون» أو «القامون» عادة باسم «قيرة». وهما موضعان في الطرف الشمالي الشرقي لجبل الكرمل. وفي القرون الوسطى أقام الإفرنج هناك قلعة «سيمونتس». وفي عام 597هـ هزم المعظم عيسى بن العادل الأيوبي الإفرنج عند هذا التل. وفي سنة 615هـ هزم المعظم الإفرنج ثانية في نفس المكان ولم ينج منهم سوى مائة فارس من الداويّة تمّ أسرهم وسيقوا إلى بيت المقدس. (الموسوعة الفلسطينية:
3/ 617).(14/59)
وأعماله وما ينسب إليه، وطبريّة وبحيرتها وأعمالها وما معها، والمملكة الصّفدية وما ينسب إليها، وتبنين وهونين (1) وما معهما من البلاد والأعمال، والشّقيف المحروس المعروف بشقيف أرنون (2) وما معه من البلاد والأعمال وما هو منسوب إليه، وبلاد الفرن (3) وما معه خارجا عما عيّن في هذه الهدنة المباركة، ونصف مدينة إسكندرونة، ونصف ضيعة مأرب (4) بفدنهما وكرومهما وبساتينهما وحقوقهما وما عدا ذلك من حقوق (5) إسكندرونة المذكورة، يكون جميعه بحدوده وبلاده للسلطان الملك المنصور ولولده النّصف، والنّصف الآخر لمملكة عكّا. والبقاع العزيزي (6) وأعماله، وشعرا (7) وأعمالها، وشقيف تيرون (8) وأعماله، والعامر جميعها (ولا با
__________
(1) تبنين قرية هي اليوم في جنوبي لبنان من قضاء بنت جبيل، وفيها قلعة شهيرة. وهونين شمالي مدينة صفد، على مسافة نصف كيلومتر من الحدود الفلسطينية اللبنانية. وكانت هونين تتبع لبنان حتى عام 1923م ثم ضمت إلى فلسطين إثر تعيين خط الحدود السياسية بين لبنان وفلسطين.
(2) وهو قلعة حصينة يعرف باسم قلعة «بوفور». وموقعه إلى الشرق من مدينة النبطية في جنوبي لبنان. وهناك قلعة أخرى تعرف باسم «شقيف تيرون» أو قلعة «نيحا» إلى الشمال من شقيف أرنون. وكان الفرنج يسمونه:. (منطلق تاريخ لبنان:
13299).
(3) في تشريف الأيام والعصور «القزن». ونرجح أن المراد هنا هو «بلاد القرن» في الشمال اللبناني. وهي بلاد جبّة بشرّي التي تمتد من قرية «حردين» في الجنوب إلى قرية «أيطو» في الشمال. وتشرف على كل من القريتين قمة جبلية على شكل القرن. والتشابه بين القرنين أي قرن حردين وقرن أيطو يلفت النظر في تلك المنطقة، أو لعل المراد «القرين» وهي في نفس المنطقة بالقرب من حصن الأكراد وحصن عكار. (انظر منطلق تاريخ لبنان: ص 160وتاريخ بيروت لصالح بن يحيى: ص 22).
(4) في تشريف الأيام والعصور: «ونصف ضيعة مارن بقراهما» وفي الحاشية: هي.
(5) في المصدر السابق «من أعمال إسكندرونة».
(6) كان البقاع العزيزي يشكل نيابة من نيابات الصفقة الشمالية في العصر المملوكي. وكانت قاعدته «كرك نوح» وهي اليوم «الكرك». والنيابة الثانية هي نيابة البقاع البعلبكي وقاعدتها مدينة بعلبك. (منطلق تاريخ لبنان: 131).
(7) كذا في الطبعة الأميرية. وفي تشريف الأيام والعصور: «ومشغرا» وهو الصواب.
«ومشغرا» تقع في البقاع الغربي من لبنان.
(8) راجع الحاشية (2) من هذه الصفحة.(14/60)
وغيرها) (1)، وبانياس وأعمالها (2) وقلعة الصّبيبة وأعمالها وما معها من البحيرات والأعمال، وكوكب وأعمالها وما معها، وقلعة عجلون وأعمالها، ودمشق والمملكة الدّمشقيّة حرسها الله تعالى وما لها من القلاع والبلاد والممالك والأعمال، وقلعة بعلبكّ المحروسة وما معها وأعمالها، ومملكة حمص وما لها من الأعمال والحدود، ومملكة حماة المحروسة ومدينتها وقلعتها وبلادها وحدودها، وبلاطنس وأعمالها، وصهيون وأعمالها، وبرزية (3) وأعمالها، وفتوحات حصن الأكراد المحروس وأعماله، وصافيثا وأعمالها، و [ميعار و] (4) أعمالها، والعريمة وأعمالها، وقدقيا (5)
وأعمالها، وحلبا (6) وأعمالها، والقليعة (7) وأعمالها، وحصن عكّار (8)
وأعماله وبلاده، وقلعة شيزر (9) وأعمالها، وأفامية (10) وأعمالها، وجبلة (11)
وأعمالها، وأبو قبيس (12) وأعماله، والمملكة الحلبيّة وما هو مضاف إليها من القلاع والمدن والبلاد والحصون، وأنطاكية وأعمالها وما دخل في الفتوح
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. وفي تشريف الأيام والعصور «والعامر جميعها في لايا وغيرها». ولعل الصواب: «زلّايا» وهي من البقاع الغربي في لبنان.
(2) ساقطة من تشريف الأيام والعصور.
(3) في معجم البلدان: «برزويه». قال: والعامة تقول: «برزيه».
(4) بياض في الأصل. والزيادة من تشريف الأيام والعصور.
(5) في تشريف الأيام والعصور «قدفيا» بالفاء الموحدة.
(6) في تشريف الأيام والعصور «حلب» وهو خطأ. و «حلبا» قرية لبنانية في شمالي لبنان قريبة من الحدود السورية.
(7) لعلها «القليعات». والقليعات وصافيتا والمجدل قلاع حصن الأكراد. (تشريف الأيام والعصور حاشية ص 38).
(8) شمالي طرابلس الشام، مبني على جبل بنفس الاسم.
(9) من جند حمص، غربي حلب.
(10) من كور حمص. ويسميها البعض «فامية» بغير همز (معجم البلدان).
(11) اسم لعدة مواضع. والمراد هنا حصن من أعمال اللاذقية. (المشترك لياقوت: ص 95).
(12) هو اسم الجبل المشرف على مكة (معجم البلدان).(14/61)
المبارك، وبغراس (1) وأعمالها، والدّربساك (2) وأعمالها، والرّاوندان وأعمالها، وعينتاب وأعمالها، وحارم (3) وأعمالها، ويبرين (4) وأعمالها، وسيح (5) الحديد وأعماله، وقلعة نجم وأعمالها، وشقيف دركوش (6)
وأعماله، والشّغر وأعماله، وبكاس (7) وأعماله، والسّويداء وأعمالها، والباب وبزاعا وأعمالهما، والبيرة وأعمالها، والرّحبة وأعمالها، وسلمية وأعمالها، وشميمس (8) وأعمالها، وتدمر وأعمالها، وما هو منسوب إليها، وجميع ما هو منسوب لمولانا السلطان ولولده من البلاد التي عيّنت في هذه الهدنة المباركة، والتي لم تعيّن.
وعلى جميع العساكر، وعلى جميع الرّعايا من سائر الناس أجمعين:
على اختلافهم، وتغيّر أنفارهم وأجناسهم وأديانهم، للقاطنين فيها، والمتردّدين في البرّ والبحر، والسّهل والجبل، في اللّيل والنهار، يكونون آمنين مطمئنّين في حالتي صدورهم وورودهم على أنفسهم، وأموالهم، وأولادهم، وحريمهم، وبضائعهم، وغلمانهم، وأتباعهم، ومواشيهم، ودوابّهم، وعلى جميع ما يتعلّق بهم، وكلّ ما تحوي أيديهم من سائر الأشياء على اختلافها، من الحكّام بمملكة عكّا: وهم كفيل المملكة بها، والمقدّم
__________
(1) مدينة خلف جبل اللكام، بينها وبين أنطاكية أربعة فراسخ. (معجم البلدان).
(2) قلعة من جند قنّسرين. (راجع الصبح: 4/ 122).
(3) في تشريف الأيام والعصور «وجازم» بالإعجام. وهو خطأ. وحارم بلدة صغيرة في الشمال الغربي من الجمهورية العربية السورية في محافظة إدلب على مقربة من الحدود التركية. (الأعلاق الخطيرة: 3/ 780حاشية).
(4) في تشريف الأيام والعصور «تيزين» وهو خطأ. قال ياقوت: ويبرين لغة في أبرين. وهو اسم لمواضع عدة. والمراد هنا قرية من قرى حلب. (معجم البلدان: 5/ 427).
(5) في تشريف الأيام والعصور: «سيخ» بالخاء المعجمة. ولم نهتد إلى تحديده.
(6) في تشريف الأيام والعصور «شقيف ديركوش» ولعله لغة في «دركوش». وفي معجم البلدان: حصن قرب أنطاكية من أعمال العواصم.
(7) الشّغر وبكاس: قلعتان حصينتان متقابلتان قرب أنطاكية. (معجم البلدان).
(8) في حاشية الصفحة 39من تشريف الأيام والعصور: «الصواب شميميس».(14/62)
(افريز كليام ديبا حول) (1) مقدّم بيت الديوية، والمقدّم (افريز بيكوك للورن) (2) [مقدّم بيت الاسبتار] (3)، وافريز اهداب (4) نائب مقدّم بيت الاسبتار الامن، ومن جميع الفرنج والإخوة، والفرسان الدّاخلين في طاعتهم وتحويه مملكتهم السّاحليّة، ومن جميع الفرنج على اختلافهم، الذين يستوطنون عكّا والبلاد الساحليّة الداخلة في هذه الهدنة من كلّ واصل إليها في برّ أو بحر على اختلاف أجناسهم وأنفارهم، لا ينال بلاد السّلطان وولده، ولا حصونهما، ولا قلاعهما، ولا بلادهما، ولا ضياعهما، ولا عساكرهما، ولا جيوشهما، ولا عربهما، ولا تركمانهما، ولا أكرادهما، ولا رعاياهما، على اختلاف الأجناس والأنفار، ولا ما تحويه أيديهم من المواشي والأموال والغلال وسائر الأشياء منهم غدر (5) ولا سوء، ولا يخشون من جميعهم أمرا مكروها ولا إغارة، ولا تعرّضا ولا أذيّة.
وكذلك ما يستفتحه ويضيفه السلطان وولده على يديهما، وعلى يد نوّابهما وعساكرهما: من بلاد، وحصون، وقلاع، وملك، وأعمال، وولايات، برّا وبحرا، سهلا ووعرا.
وكذلك جميع بلاد الفرنج التي استقرّت الآن عليها هذه الهدنة [من البلاد الساحلية] (6) وهي مدينة عكّا وبساتينها، وأراضيها وطواحينها، وما يختصّ بها من كرومها، وما لها من حقوق حولها، وما تقرّر لها من بلاد في هذه الهدنة [وعدتها بما فيها من مزارع ثلاثة وسبعون ناحية خاصّا
__________
(1) الصواب «إفرير كليام ديباجوك» كما سبقت الإشارة.
(2) الصواب «إفرير نيكول للورن».
(3) الزيادة مما سبق ومن تشريف الأيام.
(4) الصواب «إفرير كورات» كما تقدم وكما هو في تشريف الأيام.
(5) في تشريف الأيام والعصور «ضرر ولا سوء».
(6) الزيادة من تشريف الأيام والعصور.
للفرنج] (1) وهي: البصة (2) ومزرعتها، مجدل (3)، حمصين، رأس عبده (4)، المنواث (5) ومزرعتها، الكابرة (6) ومزرعتها، نصف وفيه جمعون (7)، كفر بردى ومزرعتها، كوكب (8) عمقا ومزرعتها، المونية، كفر ياسيف (9) ومزرعتها، توسيان، مكر حرسين ومزرعتها، الحديدة (10)، الغياضة، العطوانية، مرتوقا الحارثية (11) ثمرا الطرة، الرنب (12)، البابوحيه (13) ومزرعتها، العرج ومزرعتها، المزرعة السّميرية البيضاء، دعوق والطاحون، كردانه (14) والطاحون، حدرول (15)، تل النحل، الغار، الرخ والمجدل، تلّ كيسان، البروة (16)، الرامون، ساسا السياسية، الشبيكة، المشيرقة، العطرانية، المنيير، اكليل، هرياسيف(14/63)
للفرنج] (1) وهي: البصة (2) ومزرعتها، مجدل (3)، حمصين، رأس عبده (4)، المنواث (5) ومزرعتها، الكابرة (6) ومزرعتها، نصف وفيه جمعون (7)، كفر بردى ومزرعتها، كوكب (8) عمقا ومزرعتها، المونية، كفر ياسيف (9) ومزرعتها، توسيان، مكر حرسين ومزرعتها، الحديدة (10)، الغياضة، العطوانية، مرتوقا الحارثية (11) ثمرا الطرة، الرنب (12)، البابوحيه (13) ومزرعتها، العرج ومزرعتها، المزرعة السّميرية البيضاء، دعوق والطاحون، كردانه (14) والطاحون، حدرول (15)، تل النحل، الغار، الرخ والمجدل، تلّ كيسان، البروة (16)، الرامون، ساسا السياسية، الشبيكة، المشيرقة، العطرانية، المنيير، اكليل، هرياسيف
__________
(1) الزيادة من تشريف الأيام والعصور. وأسماء المواضع بعد هذا ساقطة من المصدر المذكور.
وقد وردت في الطبعة الأميرية دون ضبط وتثقيف. وقد اعتمدنا في تصحيح وضبط ما أمكن منها، وكذلك التعريف به، على الموسوعة الفلسطينية. هذا مع العلم أن أكثر هذه المواضع لم يرد في معجم البلدان أو تقويم البلدان. وما لم نتمكن من ضبطه وتحديده أثبتناه كما جاء في الطبعة الأميرية.
(2) بالصاد المهملة المشددة المفتوحة. وهي قرية من فلسطين ملاصقة للحدود اللبنانية جنوبي رأس الناقورة.
(3) المجدل. وفي فلسطين أماكن كثيرة تسمى المجدل. ولعل المقصود هنا التي تقع في الشمال الغربي لمدينة طبرية.
(4) لعل المقصود بها «خربة عبدة» في الجليل الأعلى. وهناك أيضا قرية «عبدة» وسط مثلث النقب.
(5) بهذا الضبط في الطبعة الأميرية. والصواب «المنوات» بالتحريك وبالتاء المثناة في آخره.
وهي شمالي شرق عكا.
(6) الصواب «الكابري». قرية شمالي شرق عكا.
(7) كذا في الطبعة الأميرية. ولعل المراد بها «الجاعونة» إلى الشرق من صفد في فلسطين.
(8) وجدنا «كوكب الهوا» في فلسطين، شمالي مدينة بيسان.
(9) شمالي شرق عكا. وذكرها مؤرخو الفرنجة في العصور الوسطى باسم كافيرسن وكافريزي.
(10) لعل الصواب «الحديثة» على بعد عشرة كيلومترات إلى الشمال الشرقي من مدينة الرملة.
(11) في سهل مرج ابن عامر، وهي من القرى العربية التي اندثرت قبل عام 1948بفعل حركة الاستيطان الصهيوني.
(12) كذا في الطبعة الأميرية. ولعلها بلدة «الرّينة» على بعد خمسة كيلومترات شرقي الناصرة.
(13) كذا في الطبعة الأميرية بالإهمال. ولم نتمكن من تثقيفها وتحديدها.
(14) كذا في الطبعة الأميرية بالإهمال. ولم نتمكن من تثقيفها وتحديدها.
(15) كذا في الطبعة الأميرية بالإهمال. ولم نتمكن من تثقيفها وتحديدها.
(16) على مسيرة 9كلم شرقي مدينة عكا. وكان الصليبيون يسمونها «بروت».(14/64)
العربية، هوشة (1)، الزراعة (2) الجديدة الشمالية، الرحاحيه، قسطه، كفرنبتل، الدويرات (3)، ماصوب (4)، متماس (5)، العباسية، سيعانه (6)، عين الملك، المنصورة (7)، الرصيفة، حبابا (8)، سرطا (9)، كفرتا (10)، أرض الزراعة، رولس (11)، صغد عدي، سفرعم (12)، هذه البلاد المذكورة [تكون] خاصّا للفرنج. حيفا والكروم والبساتين التي لها جميعها، والقصر وهو الحوش وكفر توثا، وهي: الكنيسة (13)، والطيرة (14)، والسعبة،
__________
(1) قرية في فلسطين تبعد عن شرقي حيفا 14كلم. وهوشة تحريف «أوشا» اسم القرية التي كانت تقوم في مكانها في العهد الروماني.
(2) بتشديد الزاي المعجمة والراء المهملة وفتحهما. من قرى قضاء بيسان. كانت تقع في الغور (وادي الأردن) الغربي داخل غور بيسان.
(3) لعله «الدّوير» في منتصف الطريق بين القدس وغزة.
(4) لعله «الماصيون» بالقرب من رام الله.
(5) كذا في الطبعة الأميرية وصوابه: «جنداس». وهي متصلة بقرية العباسية التي تقع على بعد 13كلم إلى الشرق من مدينة يافا، ويقع إلى الجنوب منها مباشرة مطار اللد الكبير.
(6) لعل الصواب «كفرعانة». وهي وجنداس تحيطان بالعباسية.
(7) في فلسطين أماكن عديدة تسمى المنصورة منها: المنصورة قضاء الرملة، والمنصورة قضاء طبرية، والمنصورة قضاء عكا.
(8) كذا بالإهمال في الطبعة الأميرية. والمراد «جباتا» وهي قرية فلسطينية جنوبي غرب الناصرة محيت من الوجود إبان الحكم البريطاني لفلسطين. ويرجح أن بناءها يعود إلى العهد الروماني.
(9) لعلها «شطّه» غربي بيسان.
(10) هي «كفرتّا» بالتاء المشددة المفتوحة، أو «كفريتا» إلى الشرق من مدينة حيفا. وفي عام 1925أقام الصهيونيون مكانها مستعمرة باسم «كفار آتا» واندثرت القرية العربية.
(11) لعلها قرية «الرّويس» من أصغر قرى قضاء عكا.
(12) لعلها «كفر برعم» من قرى الجليل الأعلى.
(13) الكنيسة، إلى الجنوب الشرقي من مدينة الرملة.
(14) الطّيرة وهي عدة قرى بهذا الاسم منها: طيرة بيسان، وطيرة حيفا وطيرة دندن شمالي شرق الرملة. ولعل الأخيرة هي المقصودة.(14/65)
والسعادة، والمعر (1)، والباجور (2)، وسومرا. تكون حيفا وهذه البلاد المذكورة بحدودها وأراضيها خاصّة للفرنج. وكذلك قرية (مارنياباره) (3)
بها، المعروفة بها وكرومها وغروسها يكون خاصّا للفرنج. ودير السياح (4)، ودير مارلياس (5) بأراضيهما المعروفة بهما وكرومهما وبساتينهما يكون خاصّا للفرنج.
وعلى أن يكون للسّلطان الملك المنصور ولولده الصّالح، من بلاد الكرمل وهي: الدالية (6)، ودونه، وضريبة الريح، والكرك، ومعليا، والرامون (7)، ولوبيه (8)، وبسور، وخربة يونس، وخربة خميس، ورشميا، ودوابه (9)، يكون خاصّا للفرنج في بلاد أخرى ذكرها. وما عدا ذلك من البلاد الجبلية جميعها للسلطان ولولده بكمالها.
(10) وتكون جميع هذه البلاد العكّاويّة وما عيّن في هذه الهدنة المباركة من البلاد السّاحليّة آمنة من السّلطان الملك المنصور وولده الملك الصّالح،
__________
(1) لعلها قرية «مغر الخيط» شمالي شرق مدينة صفد.
(2) هي «ياجور» بالياء المثناة: إلى الشرق من الكرمل.
(3) كذا بالإهمال في الطبعة الأميرية. وعبارة تشريف الأيام والعصور: «وكذلك ما رسا بأرضها المعروفة بها تكون للفرنج»، وهي الصواب.
(4) بالحاء المهملة في الطبعة الأميرية. وفي تشريف الأيام والعصور: «دير السّياج» بالجيم المعجمة. وفي الحاشية: نقلا عن «كاترمير».
(5) في الطبعة الأميرية بالباء الموحدة، وهو خطأ. والمراد:.
(6) هي بلدة «دالية الكرمل».
(7) هي «خربة الدامون» بالدال المهملة.
(8) كذا في الطبعة الأميرية بالإهمال. وهي قرية «لوبيا» أو «لوبية»، على الطريق الواصلة بين طبرية والناصرة.
(9) كذا بالإهمال في الطبعة الأميرية. ولم نتمكن من ضبطها وتحديدها.
(10) قبل هذا جاء في تشريف الأيام والعصور من هذه الهدنة ما نصّه: «ويكون لمولانا السلطان من بلاد الكرمل خاصا: عفا، والمنصورة، وباقي بلاد الكرمل، وهي ثلاث عشرة ناحية للفرنج، وعثليث القلعة والمدينة، والبساتين التي قطعت والكروم وفلاحتها وأراضيها تكون لها. ويكون لها من البلاد ست عشرة ناحية تكون خاصا لمولانا السلطان ما يذكر وهو: قرية الهراميس بكمالها وحقوقها ومزارعها، وبقية بلاد عثليث تكون مناصفة خارجا عما للخاص الشريف، وعما لخاص عثليث يكون مناصفة، وهي ثمان نواح. وفلاحة الإسبتار بعمل قيسارية يكون خاصا للفرنج بما فيها. ونصف مدينة اسكندرونة ونصف قرية مارن بما فيها للفرنج، وما عدا ذلك يكون خاصا لمولانا السلطان. ومهما كان في إسكندرونة وقرية مارن من الحقوق والغلة يكون مناصفة. وصيدا القلعة والمدينة والكروم وضواحيها وجميع ما ينسب إليها يكون خاصا للفرنج، ويكون لها من البلاد خاصا خمس عشرة ناحية وما في الوطأة من أنهار ومياه وعيون وبساتين وطواحين وقنيّ ومياه جارية وسكور لهم بها عادة قديمة تسقي أراضيهم يكون خاصا لهم. وما عدا ذلك من البلاد الجبلية جميعها تكون لمولانا السلطان ولولده بكمالها».(14/66)
وآمنة من عساكرهما وجنودهما ومن خدمهما، وتكون هذه البلاد المشروحة أعلاه، الداخلة في هذه الهدنة المباركة: الخاصّ بها (1)، وما هو مناصفة مطمئنّة هي ورعاياها، وسائر أجناس الناس فيها، والقاطنين بها، والمتردّدين إليها على اختلاف أجناسهم وأديانهم، والمتردّدين إليها من جميع بلاد الفرنجة والسّفّار، والمتردّدين منها وإليها في برّ وبحر، في ليل أو نهار، سهل وجبل، آمنين على النّفوس والأموال والأولاد، والمراكب والدّوابّ، وجميع ما يتعلّق بهم، وكلّ ما تحويه أيديهم من الأشياء على اختلافها، من السّلطان وولده، وجميع من هو تحت طاعتهما، لا ينالهم ولا ينال هذه البلاد المذكورة التي انعقدت عليها الهدنة سوء ولا ضرر ولا إغارة، ولا ينال إحدى الجهتين المذكورتين: الإسلاميّة والفرنجية من الأخرى ضرر ولا أذيّة، ويكون ما تقرّر أنه يكون خاصّا للفرنج حسب ما بيّن أعلاه لهم، وما تقرّر أن يكون للسّلطان ولولده خاصّا لهما، والمناصفات تكون كما شرح. ولا يكون للفرنج من البلاد والمناصفات إلا ما شرح في هذه الهدنة وعيّن فيها من البلاد.
وعلى أنّ الفرنج لا يجدّدون في غير عكّا وعثليث وصيدا: ممّا هو خارج عن
__________
(1) في تشريف الأيام «ما هو خاص» وهي أوضح.(14/67)
أسوار هذه الجهات الثّلاث المذكورات، لا قلعة، ولا برجا، ولا حصنا، ولا مستجدّا.
وعلى أنه متى هرب أحد كائنا من كان من بلاد السّلطان وولده إلى عكّا والبلاد السّاحلية المعيّنة في هذه الهدنة، وقصد الدّخول في دين النّصرانيّة وتنصّر بإرادته، يردّ جميع ما يروح معه ويبقى عريانا، وإن كان ما يقصد الدّخول في دين النصرانية ولا يتنصّر، ردّ إلى أبوابهما العالية بجميع ما يروح معه، بشفاعة ثقة بعد أن يعطى الأمان. وكذلك إذا حضر أحد من عكّا والبلاد السّاحليّة الداخلة في هذه الهدنة، وقصد الدّخول في دين الإسلام وأسلم بإرادته، يردّ جميع ما معه ويبقى عريانا، وإن كان ما يقصد الدّخول في دين الإسلام ولا يسلم، يردّ إلى الحكّام بعكّا، والمقدّمين بجميع ما يروح معه بشفاعة بعد أن يعطى له الأمان.
وعلى أنّ الممنوعات المعروف منعها قديما تستقرّ على قاعدة المنع من الجهتين. ومتى وجد مع أحد من تجّار بلاد السّلطان وولده من المسلمين وغيرهم على اختلاف أديانهم وأجناسهم شيء من الممنوعات بعكّا والبلاد السّاحليّة الداخلة في هذه الهدنة، مثل عدّة السّلاح وغيره، يعاد على صاحبه الذي اشتراه منه، ويعاد إليه ثمنه، ويردّ ولا يؤخذ ماله استهلاكا، ولا يؤذى.
وللسّلطان ولولده أن يفتصلا (1) في من يخرج من بلادهما من رعيّتهما، على اختلاف أديانهم وأجناسهم، بشيء من الممنوعات. وكذلك كفيل المملكة بعكّا والمقدّمون لهم أن يفتصلوا في رعيّتهم الذين يخرجون بالممنوعات من بلادهم الدّاخلة في هذه الهدنة.
ومتى أخذت أخيذة من الجانبين، أو قتل قتيل من الجانبين، على أيّ وجه كان والعياذ بالله ردّت الأخيذة بعينها إن كانت موجودة أو قيمتها إن
__________
(1) أي يفصلا في الأمر ويحكما فيه.(14/68)
كانت مفقودة، والقتيل يكون العوض عنه بنظيره من جنسه: فارس بفارس، وبركيل (1) ببركيل، وتاجر بتاجر، وراجل براجل، وفلّاح بفلّاح، فإن خفي أمر القتيل والأخيذة، كانت المهلة في الكشف أربعين يوما فإن ظهرت الأخيذة أو تعيّن أمر المقتول، ردّت الأخيذة بعينها ويكون العوض عن القتيل بنظيره، وإن لم تظهر كانت اليمين على والي المكان المدّعى عليه، وثلاثة نفر يقع اختيار المدّعي عليهم، من تلك الولاية. وإن امتنع الوالي عن اليمين حلّف من الجهة المدّعية ثلاثة نفر تختارهم الجهة الأخرى وأخذ قيمتها. وإن لم ينصف الوالي ولا ردّ المال، أنهى المدّعي أمره إلى الحكّام من الجهتين، وتكون المهلة بعد الإنهاء أربعين يوما، ويلزم الولاة من الجهتين بالوفاء بهذا الشّرط.
ومتى أخفوا قتيلا أو أخيذة، أو قدروا على أخذ حقّ ولم يأخذه كلّ واحد في ولايته، يتعيّن على الذي يوليه من ملوك الجهتين إقامة السّياسة (2)
فيه: من أخذ الرّوح والمال والشّنق، والإنكار التامّ على من يتعيّن عليه الإنكار إذا فعل ذلك في ولايته وأرضه.
وإن هرب أحد بمال واعترف ببعضه وأنكر بعض ما يدّعى به عليه، لزمه أن يحلف أنه لم يأخذ سوى ما ردّه فإن لم يقنع المدّعي بيمين الهارب، حلف والي تلك الولاية أنه لم يطّلع على أنه وصل معه غير ما ردّه وإن أنكر أنّه لم يصل معه شيء أصلا، استحلف الهارب أنه لم يصل معه للمدّعي شيء.
وعلى أنه إذا انكسر مركب من مراكب تجّار السّلطان وولده التي انعقدت عليها الهدنة، ورعيّتهما من المسلمين وغيرهم: على اختلاف أجناسهم وأديانهم، في مينا عكّا وسواحلها، والبلاد السّاحليّة التي انعقدت
__________
(1) راجع ص 41حاشية (2).
(2) أي الاقتصاص منه.(14/69)
عليها الهدنة، كان كلّ من فيها آمنا على الأنفس والأموال والأتباع والمتاجر فإن وجد أصحاب هذه المراكب التي تنكسر تسلّم مراكبهم وأموالهم [إليهم] (1) وإن عدموا بموت أو غرق أو غيبة، فيحتفظ بموجودهم ويسلّم لنوّاب السّلطان وولده. وكذلك المراكب المتوجّهة من هذه البلاد السّاحلية المنعقد عليها الهدنة للفرنج، يجري لها مثل ذلك في بلاد السّلطان وولده، ويحفظ بموجودها إن لم يكن صاحبها حاضرا إلى أن يسلّم لكفيل المملكة بعكّا أو المقدّم.
ومتى توفّي أحد من التّجّار الصادرين والواردين، على اختلاف أجناسهم وأديانهم، من بلاد السّلطان وولده، في عكّا وصيدا وعثليث، والبلاد السّاحلية الداخلة في هذه الهدنة على اختلاف أجناسهم وأديانهم [فيحتفظ على ماله حتى يسلم لنواب السلطان وولده] (2)، وإذا توفّي أحد في البلاد الإسلامية الداخلة في هذه الهدنة، يحتفظ على ماله إلى حين يسلّم إلى كفيل المملكة بعكّا والمقدّمين.
وعلى أنّ شواني (3) السّلطان وولده إذا عمّرت وخرجت لا تتعرّض بأذيّة إلى البلاد الساحليّة التي انعقدت عليها هذه الهدنة ومتى قصدت الشّواني المذكورة جهة غير هذه الجهات، وكان صاحب تلك الجهة معاهدا للحكّام بمملكة عكّا، فلا تدخل إلى البلاد التي انعقدت عليها هذه الهدنة ولا تتزوّد منها وإن لم يكن صاحب تلك الجهة التي تقصدها الشّواني المنصورة معاهدا للحكّام بمملكة عكّا والبلاد التي انعقدت عليها الهدنة، فلها أن تدخل إلى بلادها وتتزوّد منها. وإن انكسر شيء من هذه الشّواني والعياذ بالله في مينا من مواني البلاد التي انعقدت عليها الهدنة وسواحلها: فإن
__________
(1) الزيادة للسياق.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) هي السفن الحربية الكبيرة.(14/70)
كانت قاصدة [إلى] من له مع مملكة عكّا ومقدّمي بيوتها عهد، فيلزم كفيل المملكة بعكّا ومقدّمي البيوت بحفظها، وتمكين رجالها من الزّوادة وإصلاح ما انكسر منها، والعود إلى البلاد الإسلامية، [ويبطل حركة ما ينكسر] (1) منها والعياذ بالله أو يرميه البحر. هذا إذا كانت قاصدة من له مع مملكة عكّا ومقدّميها عهد، فإن [قصدت من] (2) لم يكن لها معهم عهد، فلها أن تتزوّد وتعمر رجالها من البلاد المنعقد عليها هذه الهدنة، وتتوجّه إلى البلاد المرسوم لها بقصدها، ويعتمد هذا الفضل من الجهتين.
وعلى أنّه متى تحرك أحد من ملوك [البحر] (3) الفرنجة وغيرهم من جوّا البحر لقصد الحضور لمضرّة السّلطان وولده في بلادهما المتّفقة (4) عليها هذه الهدنة، فليلزم (5) نائب المملكة والمقدّمين بعكّا، أن يعرّفوا السلطان وولده بحركتهم قبل وصولهم إلى البلاد الإسلاميّة الداخلة في هذه الهدنة بمدّة شهرين، وإن وصلوا بعد انقضاء مدّة شهرين، فيكون كفيل المملكة بعكّا، والمقدّمون بريئين (6) من عهدة اليمين في هذا الفصل. ومتى تحرّك عدوّ من جهة البرّ من التّتار وغيرهم، فأيّ من سبق الخبر إليه من الجهتين يعرّف الجهة الأخرى بما سبق الخبر إليه من أمرهم.
وعلى أنه إن قصد البلاد الشّاميّة والعياذ بالله عدوّ من التّتار وغيرهم في البرّ، وانحازت العساكر الإسلامية من قدّام العدوّ، ووصل العدوّ إلى
__________
(1) في الطبعة الأميرية «و [لا] يبطل حركة ما تنكّر منها» والتصحيح من تشريف الأيام والعصور.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية، وهو يوافق ما جاء في «تشريف الأيام» مع اختلاف بسيط في صياغة العبارة.
(3) الزيادة من «تشريف الأيام».
(4) في المصدر السابق «المنعقدة».
(5) في المصدر السابق «فليلتزم».
(6) في المصدر السابق «برآء».(14/71)
القرب من البلاد السّاحليّة الداخلة في هذه الهدنة وقصدوها بمضرّة، فيكتب (1) إلى [كفيل] المملكة بعكّا، والمقدّمين بها أن يدرؤوا عن بيوتهم ورعيّتهم وبلادهم بما تصل قدرتهم إليه. وإن حصل والعياذ بالله جفل (2)
من البلاد الإسلاميّة إلى السّاحليّة الداخلة في هذه الهدنة، فيلزم كفيل المملكة بعكّا، والمقدّمين بها حفظهم والدّفع عنهم ومنع من يقصدهم بضرر، ويكونون آمنين مطمئنّين بما معهم.
وعلى أنّ النّائب بمملكة عكّا (3) والمقدّمين بها يوصون في سائر البلاد الساحلية التي وقعت الهدنة عليها، أنّهم لا يمكّنون حراميّة البحر من الزوادة من عندهم ولا من حمل ماء، وإن ظفروا بأحد منهم يمسكونه، وإن كانوا يبيعون عندهم بضائع فيمسكها كفيل المملكة بعكّا والمقدّمون حتّى يظهر صاحبها وتسلّم إليه. وكذلك يعتمد السلطان وولده [في أمر الحراميّة هذا الاعتماد] (4).
وعلى أن الرّهائن بعكّا والبلاد السّاحلية الدّاخلة في هذه الهدنة، كلّ من عليه منهم مبلغ أو غلّة، فيحلف والي ذلك المكان الذي منه الرّهينة، ويحلف المباشر والكاتب في وقت أخذ هذا الشّخص رهينة أنه عليه كذا وكذا: من دراهم أو غلّة أو بقر أو غيره، فإذا حلف الوالي والمباشر والكاتب قدّام نائب السلطان وولده على ذلك يقوم أهل الرّهينة عنه بما للفرنج عليه ويطلقونه. وأما الرّهائن الذين أخذوا منسوبين إلى الجفل والاختشاء أنهم لا يهربون إلى بلاد الإسلام ويمتنع الولاة والمباشرون من اليمين عليهم، فأولئك يطلقون.
__________
(1) في المصدر السابق «فلكفيل المملكة بعكا الخ».
(2) أي انتقال.
(3) في «تشريف الأيام»: «وعلى أن نائب المملكة بعكا».
(4) الزيادة من المصدر السابق.(14/72)
وعلى أن لا يجدّد على التّجّار المسافرين: الصادرين والواردين من الجهتين حقّ لم تجر به عادة، ويجروا على عوائدهم المستمرّة إلى آخر وقت، وتؤخذ منهم الحقوق على العادة المستمرّة، ولا يجدّد عليهم رسم ولا حقّ لم تجر به عادة. وكلّ مكان عرف باستخراج الحقّ فيه يستخرج بذلك المكان من غير زيادة من الجهتين، في حالتي سفرهم وإقامتهم، ويكون التّجّار والسّفّار والمتردّدون آمنين مطمئنّين مخفّرين من الجهتين في حالتي سفرهم وإقامتهم، وصدورهم وورودهم بما صحبتهم من الأصناف والبضائع التي هي غير ممنوعة.
وعلى أنه ينادى في البلاد الإسلامية والبلاد الفرنجية الدّاخلة في هذه الهدنة: أنه من كان من فلّاحي بلاد المسلمين يعود إلى بلاد المسلمين مسلما كان أو نصرانيّا، وكذلك من كان من فلّاحي بلاد الفرنج مسلما كان أو نصرانيّا، معروفا قراريّا من الجهتين، ومن لم يعد بعد المناداة يطرد من الجهتين. ولا يمكّن فلّاحو بلاد المسلمين من المقام في بلاد الفرنج المنعقد عليها هذه الهدنة، ولا فلّاحو بلاد المسلمين من المقام في بلاد المسلمين التي انعقدت عليها هذه الهدنة ويكون عود الفلّاح من الجهة إلى الجهة الأخرى بأمان.
وعلى أن تكون كنيسة النّاصرة وأربع بيوت من أقرب البيوت إليها لزيارة الحجّاج وغيرهم من دين الصّليب: كبيرهم وصغيرهم على اختلاف أجناسهم وأنفارهم: من عكّا والبلاد الساحليّة الداخلة في هذه الهدنة، ويصلّي بالكنيسة الاقسّاء (1) والرّهبان، وتكون البيوت المذكورة لزوّار كنيسة النّاصرة خاصّة، ويكونون آمنين مطمئنّين في توجّههم وحضورهم إلى حدود البلاد الداخلة في هذه الهدنة. وإذا نقبت الحجارة التي بالكنيسة المذكورة ترمى برّا، ولا يحطّ حجر منها على حجر لأجل بنايته (2)، ولا يتعرّض إلى
__________
(1) الجمع المعروف: قسيسون وقسوس.
(2) في تشريف الأيام: «لأجل بناء».(14/73)
الأقسّاء والرّهبان، وذلك على وجه الهبة لأجل زوّار دين الصّليب بغير حقّ.
ويلزم السلطان وولده حفظ هذه البلاد المشروحة التي انعقدت عليها الهدنة من نفسهما وعساكرهما وجنودهما، ومن جميع المتجرّمة والمتلصّصين والمفسدين: ممّن هو داخل تحت حكمهما وطاعتهما. ويلزم كفيل المملكة بعكّا والمقدّمين بها حفظ هذه البلاد الإسلامية المشروحة التي انعقدت عليها الهدنة، من نفسهم وعساكرهم وجنودهم، وجميع المتجرّمة والمتلصّصين والمفسدين: ممن هو داخل تحت حكمهم وطاعتهم بالمملكة السّاحليّة الداخلة في هذه الهدنة. ويلزم كفيل المملكة بعكّا، ومقدّمي البيوت بها الحكّام بعكّا والبلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة القيام بما تضمّنته هذه الهدنة من الشّروط جميعها، شرطا شرطا، وفصلا فصلا، والعمل بأحكامها، والوقوف مع شروطها إلى انقضاء مدّتها. ويفي كلّ منهم بما حلف به من الأيمان المؤكّدة: من أنّه يفي بجميع ما في هذه الهدنة على ما حلفوا به.
تستمرّ هذه الهدنة المباركة بين السّلطان وولده وأولادهما وأولاد أولادهم، وبين الحكّام بمملكة عكّا، وصيدا، وعثليث وهم الشيخان (أودرا) (1) المقدّمون المذكورون فلان وفلان إلى آخرها، لا تتغيّر بموت ملوك أحد الجهتين، ولا بتغيّر مقدّم وتولية غيره، بل تستمرّ على حالها إلى آخرها وانقضائها، بشروطها المحدودة، وقواعدها المقرّرة، كاملة تامّة، ومتى انقضت هذه الهدنة المباركة، أو وقع والعياذ بالله فسخ، كانت المهلة في ذلك أربعين من الجهتين. وينادى برجوع كلّ أحد إلى وطنه بعد الإشهاد، ليعود الناس إلى مواطنهم آمنين مطمئنّين، ولا يمنعون من السّفر من الجهتين، ولا تبطل بعزل أحد من الجهتين، وتشيّد أحكامها متتابعة
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. وقد تقدم ذكرهما وتصحيح رسمهما في هامش الصفحة 57من هذا الجزء.(14/74)
متوالية، بالسنين والشّهور والأيّام إلى انقضائها، ويلزم المتولي حفظها والعمل بشروطها وفصولها، وفروعها وأصولها، ويجري الحال فيها على أجمل الحالات إلى آخرها. وعلى جميع ذلك وقع الرّضا والصّفح والاتّفاق، وحلف عليها من الجهتين، والله الموفّق (1).
وهذه نسخة هدنة، عقدت بين الملك الأشرف، صلاح الدّين «خليل» ابن الملك المنصور سيف الدّين «قلاوون» صاحب الديار المصريّة والبلاد الشّامية، وبين دون حاكم الريد أرغون (2)، صاحب برشلونة من بلاد الأندلس، على يد رسله: أخويه وصهريه الآتي ذكرهم، في صفر سنة اثنتين وتسعين وستّمائة وهي:
استقرّت الموّدّة والمصادقة بين الملك الأشرف، وبين حضرة الملك الجليل، المكرّم، الخطير، الباسل، الأسد، الضرّغام، المفخّم، المبجّل «دون» حاكم الريد أرغون، وأخويه دون ولذريك (3)، ودون بيدرو، وبين صهريه اللّذين طلب الرّسولان الواصلان إلى الأبواب الشريفة عن مرسلهما الملك دون حاكم أن يكونا داخلين في الهدنة والمصادقة،
__________
(1) أضاف ابن عبد الظاهر: «ولما حلف مولانا السلطان على هذه الهدنة، توجّه الأمير فخر الدين أياز أمير حاجب، والقاضي بدر الدين بن رزين لتحليف الفرنج، فحلفوا واستقر ذلك» انظر نسخة اليمين التي حلف عليها السلطان المنصور وكذلك نسخة يمين الفرنج في تاريخ ابن الفرات: ج 7ص 270، 271.
(2) أي وهو حينذاك خايمي الثاني. وقد حكم من سنة 1291إلى سنة 1327م. وقد أورد ابن عبد الظاهر نسخة هدنة عقدت بين الملك المنصور قلاوون الصالحي وولده الأشرف وبين الريدراغون وإخوته بتاريخ يوم الثلاثاء 13ربيع الآخر سنة 689هـ أي قبل حوالي ثلاث سنوات من هذه، ونصّها يكاد يكون مطابقا لنص هذه الهدنة هنا. ولعل هذه تجديد لتلك بسبب انتقال الحكم إلى خايمي الثاني من سلفه. (انظر تشريف الأيام والعصور: ص 157وما بعدها والقلقشندي وكتابه صبح الأعشى: ص 160).
(3) في تشريف الأيام: «دون فلذريك ودون بيدروا».(14/75)
وأن يلتزم الملك دون حاكم عنهما بكلّ ما التزم به عن نفسه، ويتدرّك أمرهما، وهما الملك الجليل، المكرّم، الخطير، الباسل، الأسد، الضّرغام، دون شانجه (1)، ملك قشتالة، وطليطلة، وليون، وبلنسية، وأشبيلية، وقرطبة، ومرسية، وجيّان، والغرب، الكفيل بمملكة أرغون وبرتقال (2) والملك الجليل دون أتفونش (3) ملك برتقال، من تاريخ يوم الخميس تاسع عشر صفر سنة اثنتين وتسعين وستّمائة، الموافق لثلاث بقين من جنير (4) سنة ألف ومائتين واثنتين وتسعين لمولانا السّيّد المسيح عليه السّلام، وذلك بحضور رسولي الملك دون حاكم، وهما: المحتشم الكبير «روصوديمار موند» الحاكم، عن الملك دون حاكم في بلنسية، ورفيقه المحتشم العمدة «ديمون المان قراري» برجلونة، الواصلين بكتاب الملك دون حاكم، المختوم بختم الملك المذكور، المقتضي معناه أنّه حمّلهما جميعا أحوالهم ومطلوبهم، وسأل أن يقوما فيما يقولانه عنه، فكان مضمون مشافهتهما وسؤالهما تقرير قواعد الصّلح والمودّة والصّداقة، والشّروط التي يشترطها الملك الأشرف على الملك دون حاكم، وأنّه يلتزم بجميع هذه الشّروط الآتي ذكرها، ويحلف الملك المذكور عليها هو وأخواه وصهراه المذكورون، ووضع الرسولان المذكوران خطوطهما بجميع الفصول الآتي ذكرها، بأمره ومرسومه، وأن الملك دون حاكم وأخويه وصهريه يلتزمون بها وهي: استقرار المودّة والمصادقة من التّاريخ المقدّم ذكره، على ممرّ السنين والأعوام، وتعاقب اللّيالي والأيّام: برّا وبحرا، سهلا ووعرا، قربا وبعدا.
وعلى أن تكون بلاد السلطان الملك الأشرف، وقلاعه، وحصونه،
__________
(1) أي «سانشو».
(2) أي البرتغال.
(3) الصواب «أذفونش» أو «ألفنش» وهو «ألفونسو».
(4) المراد: كانون الثاني أو يناير.(14/76)
وثغوره، وممالكه، ومواني بلاده وسواحلها، وبرورها، وجميع أقاليمها ومدنها، وكلّ ما هو داخل في مملكته، ومحسوب منها، ومنسوب إليها: من سائر الاقاليم الرّوميّة، والعراقيّة، والمشرقيّة، والشّاميّة، والحلبية، والفراتيّة، واليمنية، والحجازيّة، والدّيار المصرية، والغرب.
وحدّ هذه البلاد والأقاليم وموانيها وسواحلها من البرّ الشّاميّ من القسطنطينيّة والبلاد الرّومية السّاحليّة، وهي: من طرابلس الغرب، وسواحل برقة، والإسكندريّة، ودمياط، والطّينة، وقطيا، وغزّة، وعسقلان، ويافا، وأرسوف، وقيساريّة، وعثليث، وحيفا، وعكّا، وصور، وصيدا، وبيروت، وجبيل، والبيرون (1)، وأنفة طرابلس الشّام، وأنطرسوس، ومرقيّة، والمرقب، وساحل المرقب: بانياس وغيرها، وجبلة، واللّاذقيّة، والسّويديّة وجميع المواني والبرور إلى ثغر دمياط وبحيرة تنّيس.
وحدّها من البرّ الغربيّ: من تونس وإقليم إفريقية وبلادها وموانيها، وطرابلس الغرب وثغورها، وبلادها وموانيها، وبرقة وثغورها وبلادها وموانيها، إلى ثغر الإسكندريّة ورشيد وبحيرة تنّيس وسواحلها وبلادها وموانيها.
وما تحويه هذه البلاد والممالك المذكورة والّتي لم تذكر، والمدائن والثّغور والسّواحل والمواني والطّرقات في البرّ والبحر، والصّدور والورود، والمقام والسّفر، من عساكر وجنود، وتركمان، وأكراد، وعربان، ورعايا، وتجّار، وشواني، ومراكب، وسفن، وأموال، ومواش، على اختلاف الأديان والأنفار والأجناس، وما تحويه الأيدي، من سائر أصناف الأموال والأسلحة والأمتعة والبضائع والمتاجر، قليلا كان أو كثيرا، قريبا كان أو بعيدا، برّا كان أو بحرا آمنة (2) على الأنفس، والأرواح، والأموال
__________
(1) الصواب «البترون» على الساحل اللبناني.
(2) خبر قوله: «أن تكون بلاد السلطان» الوارد في الصفحة قبل.(14/77)
والحريم، والأولاد من الملك دون حاكم ومن أخويه وصهريه المذكورين، ومن أولادهم، وفرسانهم، وخيّالتهم، ومعاهديهم، وعمائرهم، ورجالهم، وكلّ من يتعلّق بهم. وكذلك كلّ ما سيفتحه الله تعالى على يد الملك الأشرف، وعلى يد أولاده وعساكره وجيوشه، من القلاع والحصون، والبلاد والأقاليم، فإنه يجري عليه هذا الحكم.
وعلى أن تكون بلاد الملك دون حاكم وبلاد أخويه وصهريه وممالكه المذكورة في هذه الهدنة، وهي: أرغون وأعمالها وبلادها: صقلّية (1) وجزيرتها وبلادها وأعمالها، برّبولية (2) وأعمالها وبلادها، جزيرة مالقة، وقوصرة وبلادها وأعمالها، ميورقة ويابسة (3) وبلادها، وأرسويار (4) وأعمالها، وما سيفتحه الملك دون حاكم من بلاد أعدائه الفرنج المجاورين له بتلك الأقاليم آمنين من الملك الأشرف وأولاده، وعساكره وجيوشه، وشوانيه وعمائره، هي ومن فيها من فرسان وخيّالة ورعايا، وأهل بلاده آمنين مطمئنّين على الأنفس والأموال، والحريم والأولاد، في البرّ والبحر، والصّدور والورود.
وعلى أنّ الملك دون حاكم هو وأخواه وصهراه أصدقاء من يصادق الملك الأشرف وأولاده، وأعداء من يعاديهم من سائر الملوك الفرنجية وغير الملوك الفرنجية. وإن قصد الباب (5) برومية، أو ملك من ملوك الفرنج:
متوّجا كان أو غير متوّج، كبيرا كان أو صغيرا، أو من الجنويّة، أو من البنادقة أو من سائر الأجناس على اختلاف الفرنج والرّوم، والبيوت: بيت الإخوة
__________
(1) ضبطها بروفنسال في «صفة جزيرة الأندلس» بالصاد المهملة المكسورة. والقاف المثناة المكسورة.
(2) كذا في الطبعة الأميرية. وفي تشريف الأيام والعصور: «بربولية» من صقلية في إيطاليا.
(3) في تشريف الأيام «ومانسة وبلادها».
(4) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. وفي تشريف الأيام: «وأربسويات وأعمالها».
(5) المقصود بابا رومة، رأس الجهاز الكنسي البابوي في الغرب الأوروبي.(14/78)
الديويّة، والاسبتارية، والرّوم، وسائر أجناس النّصارى مضرّة بلاد الملك الأشرف، بمحاربة أو أذيّة، يمنعهم الملك دون حاكم هو وأخواه وصهراه ويردّونهم، ويعمرون شوانيهم ومراكبهم، ويقصدون بلادهم، ويشغلونهم بنفوسهم عن قصد بلاد الملك الأشرف وموانيه وسواحله وثغوره المذكورة، وغير المذكورة، ويقاتلونهم في البرّ والبحر بشوانيهم وعمائرهم، وفرسانهم وخيّالتهم ورجّالتهم.
وعلى أنّه متى خرج أحد من معاهدي الملك الأشرف من الفرنج عن شروط الهدنة المستقرّة بينه وبينهم، ووقع ما يوجب فسخ الهدنة، لا يعينهم الملك دون حاكم ولا أحد من أخويه ولا صهريه، ولا خيّالتهم، ولا فرسانهم، ولا أهل بلادهم، بخيل ولا خيّالة، ولا سلاح ولا رجّالة، ولا مال ولا نجدة، ولا ميرة، ولا مراكب ولا شواني ولا غير ذلك.
وعلى أنّه متى طلب الباب برومية، وملوك الفرنج، والرّوم، والتّتار، وغيرهم من الملك دون حاكم أو من أخويه أو من صهريه أو من بلادهم، إنجادا، أو معاونة: بخيّالة، أو رجّالة، أو مال، أو مراكب، أو شواني، أو سلاح لا يوافقهم على شيء من ذلك، لا في سرّ ولا جهر، ولا يعين أحدا منهم ولا يوافقه على ذلك. ومتى اطّلعوا على أنّ أحدا منهم يقصد بلاد الملك الأشرف لمحاربته أو لمضرّته بشيء، يعرّف الملك الأشرف بخبرهم، وبالجهة التي اتّفقوا على قصدها في أقرب وقت، قبل [حركتهم] (1) من بلادهم، ولا يخفيه شيئا من ذلك.
وعلى أنّه متى انكسر مركب من المراكب الإسلاميّة في بلاد الملك دون حاكم، أو بلاد أخويه أو بلاد صهريه، [فعليهم] (2) أن يخفروهم، ويحفظوا
__________
(1) في الطبعة الأميرية «حوطتهم» والتصحيح من تشريف الأيام.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(14/79)
مراكبهم وأموالهم، ويساعدوهم على عمارة مراكبهم، ويجهّزوهم وأموالهم وبضائعهم إلى بلاد الملك الأشرف. وكذلك إذا انكسرت مركب من بلاد دون حاكم، وبلاد أخويه وصهريه، ومعاهديه في بلاد الملك الأشرف، يكون لهم هذا الحكم المذكور أعلاه.
وعلى أنّه متى مات أحد من تجّار المسلمين ومن نصارى بلاد الملك الأشرف، أو ذمّة أهل بلاده، في بلاد الملك دون حاكم وبلاد أخويه وصهريه وأولاده ومعاهديه، لا يعارضوهم في أموالهم ولا في بضائعهم، ويحمل مالهم وموجودهم إلى بلاد الملك الأشرف ليفعل فيه ما يختار.
وكذلك من يموت في بلاد الملك الأشرف من أهل مملكة الملك دون حاكم وبلاد أخويه وصهريه ومعاهديهم، فلهم هذا الحكم المذكور أعلاه.
وعلى أنّه متى عبر على بلاد الملك دون حاكم أو بلاد أخويه أو صهريه أو معاهديه رسل من بلاد الملك الأشرف قاصدين جهة من الجهات القريبة أو البعيدة، صادرين أو واردين، أو رماهم الرّيح في [بلاده] (1)، تكون الرّسل وغلمانهم وأتباعهم، ومن يصل معهم من رسل الملوك أو غيرهم آمنين محفوظين في الأنفس والأموال، ويجهّزهم إلى بلاد الملك الأشرف.
وعلى أنّ الملك دون حاكم وأخويه وصهريه متى جرى من أحد من بلادهم قضيّة توجب فسخ المهادنة، كان على كلّ من الملك دون حاكم وأخويه وصهريه طلب من يفعل ذلك وفعل الواجب فيه.
وعلى أنّ الملك دون حاكم وأخويه وصهريه يفسح كلّ منهم لأهل بلاده وغيرهم من الفرنج، أنّهم يجلبون إلى الثّغور الإسلامية، الحديد والبياض والخشب وغير ذلك.
وعلى أنّه متى أسر أحد من المسلمين في البرّ أو البحر، من مبدإ تاريخ
__________
(1) في الطبعة الأميرية «بلادهم».(14/80)
هذه المهادنة من سائر البلاد: شرقها وغربها، أقصاها وأدناها، ووصلوا به إلى بلاد الملك دون حاكم وبلاد أخويه وصهريه ليبيعوه بها، فيلزم الملك دون حاكم وأخويه وصهريه فكّ أسره وحمله إلى بلاد الملك الأشرف.
وعلى أنّه متى كان بين تجّار المسلمين، وبين تجّار بلاد الملك دون حاكم وأخويه وصهريه معاملة في بضائعهم، وهم في بلاد الملك الأشرف، كان أمرهم محمولا على موجب الشّرع الشريف.
وعلى أنّه متى ركب أحد من المسلمين في مراكب بلاد الملك دون حاكم وأخويه وصهريه، وحمل بضاعته معهم وعدمت البضاعة، كان على الملك دون حاكم وعلى أخويه وصهريه ردّها إن كانت موجودة، أو قيمتها إن كانت مفقودة.
وعلى أنّه متى هرب أحد من بلاد الملك الأشرف الدّاخلة في هذه المهادنة إلى بلاد الملك دون حاكم وأخويه وصهريه، أو توجّه ببضاعة لغيره وأقام بتلك البلاد، كان على الملك دون حاكم وعلى أخويه وصهريه ردّ الهارب أو المقيم ببضاعة غيره، والمال معه إلى بلاد الملك الأشرف ما دام [المذكور] مسلما وإن تنصّر، يردّ المال الذي معه خاصّة. ولمملكة الملك دون حاكم وأخويه وصهريه فيمن يهرب من بلادهم إلى بلاد الملك الأشرف هذا الحكم المذكور أعلاه.
وعلى أنّه إذا وصل من بلاد الملك دون حاكم وبلاد أخويه وصهريه ومعاهديه من الفرنج من يقصد زيارة القدس الشّريف، وعلى يده كتاب الملك دون حاكم وختمه إلى نائب الملك الأشرف بالقدس الشّريف، يفسح له في الزّيارة مسموحا بالحقّ ليقضي زيارته ويعود إلى بلاده آمنا مطمئنّا في نفسه وماله، رجلا كان أو امرأة، بحيث إن الملك دون حاكم لا يكتب لأحد من أعدائه ولا من أعداء الملك الأشرف في أمر الزيارة بشيء.
وعلى أنّ الملك دون حاكم يحرس جميع بلاد الملك الأشرف هو
وأخواه وصهراه من كل مضرّة، ويجتهد كلّ منهم في أنّ أحدا من أعداء الملك الأشرف لا يصل إلى بلاد الملك الأشرف، ولا ينجدهم على مضرّة بلاد الملك الأشرف ولا رعاياه، وأنه يساعد الملك الأشرف في البرّ والبحر بكلّ ما يشتهيه ويختاره.(14/81)
وعلى أنّ الملك دون حاكم يحرس جميع بلاد الملك الأشرف هو
وأخواه وصهراه من كل مضرّة، ويجتهد كلّ منهم في أنّ أحدا من أعداء الملك الأشرف لا يصل إلى بلاد الملك الأشرف، ولا ينجدهم على مضرّة بلاد الملك الأشرف ولا رعاياه، وأنه يساعد الملك الأشرف في البرّ والبحر بكلّ ما يشتهيه ويختاره.
وعلى أنّ الحقوق الواجبة على من يصدر ويرد ويتردّد من بلاد الملك دون حاكم وأخويه وصهريه، إلى ثغري الإسكندريّة ودمياط، والثّغور الإسلامية، والممالك السّلطانية، بسائر أصناف البضائع والمتاجر على اختلافها، تستمرّ على حكم الضرائب المستقرّة في الدّيوان المعمور إلى آخر وقت، ولا يحدث عليهم فيها حادث. وكذلك يجري الحكم على من يتردّد من البلاد السلطانية إلى بلاد الملك دون حاكم وأخويه وصهريه.
تستمرّ هذه المودّة والمصادقة على حكم هذه الشّروط المشروحة أعلاه بين الجهات على الدّوام والاستمرار، وتجري أحكامها وقواعدها على أجمل الاستقرار فإن الممالك بها قد صارت مملكة واحدة وشيئا واحدا لا تنتقض بموت أحد من الجانبين، ولا بعزل وال وتوليه غيره، بل تؤيّد أحكامها، وتدوم أيّامها، وشهورها وأعوامها. وعلى ذلك انتظمت واستقرّت في التاريخ المذكور أعلاه، وهو كذا وكذا، والله الموفّق بكرمه إن شاء الله تعالى.
قلت: وهذه النّسخ الخمس المتقدّمة الذّكر نقلتها من تذكرة محمد بن المكرّم (1)، أحد كتّاب الإنشاء بالدّولة المنصورية «قلاوون» المسّماة:
«تذكرة اللّبيب، ونزهة الأديب» من نسخة بخطّه، ذكر فيها أن النّسخة الأولى منها كتبها بخطّه على مدينة صفد. وليس منها ما هو حسن التّرتيب، رائق الألفاظ، بهج المعاني، بليغ المقاصد، غير النّسخة الأخيرة المعقودة بين
__________
(1) هو ابن منظور، صاحب لسان العرب. توفي سنة 711هـ.(14/82)
الملك الأشرف وبين الملك دون حاكم. أما سائر النّسخ المتقدّمة فإنها مبتذلة الألفاظ، غير رائقة التّرتيب، لا يصدر مثلها من كاتب عنده أدنى ممارسة لصناعة الكلام. والعجب من صدور ذلك في زمن «الظّاهر بيبرس» و «المنصور قلاوون» وهما من هما من عظماء الملوك!!! وكتابة الإنشاء يومئذ بيد بني عبد الظّاهر الذين هم بيت الفصاحة ورؤوس أرباب البلاغة!!! ولعلّ ذلك إنما وقع، لأن الفرنج كانوا مجاورين للمسلمين يومئذ ببلاد الشّام، فيقع الاتّفاق والتراضي بين الجهتين على فصل فصل، فيكتبه كاتب من كلّ جهة من جهتي المسلمين والفرنج بألفاظ مبتذلة غير رائقة، طلبا للسّرعة، إلى أن ينتهي بهم الحال في الاتّفاق والتراضي، إلى آخر فصول الهدنة، فيكتبها كاتب الملك المسلم على صورة ما جرى في المسودّة، ليطابق ما كتب به كاتب الفرنج إذ لو عدل فيها كاتب السلطان إلى الترتيب، وتحسين الألفاظ وبلاغة التّركيب، لاختلّ الحال فيها عما وافق عليه كاتب الفرنج أوّلا، فينكرونه حينئذ، ويرون أنه غير ما وقع عليه الاتّفاق، لقصورهم في اللّغة العربيّة، فيحتاج الكاتب إلى إبقاء الحال على ما توافق عليه الكاتبان في المسودّة. وبالجملة فإنما ذكرت النّسخ المذكورة على سخافة لفظها، وعدم انسجام ترتيبها لا شتمالها على الفصول التي جرى فيها الاتّفاق فيما تقدّم من الزّمان، ليستمدّ منها الكاتب ما لعلّه لا يحضر بباله من مقاصد المهادنات، أغنانا الله تعالى عن الحاجة إليها.
واعلم أنه قد جرت العادة، إنه إذا كتبت الهدنة، كتب قرينها يمين يحلف بها السلطان أو نائبه القائم بعقد الهدنة، على التّوفية بفصولها وشروطها، ويمين يحلف عليها القائم عن الملك الكافر بعقد الهدنة، ممّن يأذن له في عقدها عنه، بكتاب يصدر عنه بذلك، أو تجهّز نسختها إلى الملك الكافر ليحلف عليها، ويكتب خطّه بذلك، وتعاد إلى الأبواب السلطانية.(14/83)
المذهب الثالث (أن تفتتح المهادنة بخطبة مبتدأة ب «الحمد لله»)
وعلى هذا بنى صاحب «موادّ البيان» (1) أمره في كتابة الهدنة، حيث قال: والرسم فيها أن تفتتح بحمد الله تعالى على الهداية إلى دين الإسلام الذي أذلّ كلّ دين وأعزّه، وخذل كلّ شرع ونصره، وأخفى كلّ مذهب وأظهره، والتّوغّل في توحيده، وتقديسه وتمجيده، والثّناء عليه بآلائه، والصلاة على خير أنبيائه، محمد صلّى الله عليه وسلّم.
قلت: ولم يأت بصورة هدنة منتظمة على هذا الترتيب، بل أشار إلى كيفيّة عملها. ثم قال: والبليغ يكتفي بقريحته في ترتيب هذه المعاني إذا دفع إلى الإنشاء فيها، إن شاء الله تعالى. ولم أقف لغيره على صورة هدنة مفتتحة بالتحميد، ولا يخفى أن الابتداء به في كلّ مهمّ من العهود وجلائل الولايات ونحو ذلك هو المعمول عليه في زماننا.
الطرف الثاني (فيما يشارك فيه ملوك الكفر ملوك الإسلام في كتابة نسخ من دواوينهم)
اعلم أنّ الغالب في الهدن الواقعة بين ملوك الديار المصرية وبين ملوك الكفر أن تكتب نسخة تخلّد بديوان الإنشاء بالدّيار المصرية، ونسخة تجهّز إلى الملك المهادن. وربّما كتبت نسخة من ديوانه مفتتحة بيمين.
وهذه نسخة هدنة (2) وردت من جهة الأشكري، صاحب القسطنطينيّة في شهر رمضان سنة ثمانين وستمائة مؤرّخة بتاريخ موافق لأواخر المحرّم من السّنة المذكورة، فعرّبت فكانت نسختها على ما ذكره ابن مكرّم في «تذكرته»:
__________
(1) هو علي بن خلف الكاتب. وفي كشف الظنون «موارد البيان».
(2) لعل الصحيح «نسخة حلف» كما يأتي من مضمونها، وكما ورد في تشريف الأيام والعصور.(14/84)
إذ قد أراد السلطان العظيم، النّسيب، العالي، العزيز، الكبير الجنس، الملك، المنصور، سيف الدّين «قلاوون» صاحب الديار المصرية ودمشق وحلب، أن يكون بينه وبين مملكتي محبّة فمملكتي تؤثر ذلك، وتختار أن يكون بينها وبين عزّ سلطانه محبّة. ولهذا وجب أن يتوسّط هذا الأمر يمين واتّفاق: لتدوم المحبّة التي بهذه الصّورة فيما بين مملكتي وعزّ سلطانه ثابتة بلا تشويش. فمملكتي [من] (1) هذا اليوم، وهو يوم الخميس الثامن من شهر أيار من التاريخ [الرومي] التابع (2) لسنة ستة آلاف وسبعمائة وتسع وثمانين لآدم تحلف بأناجيل الله المقدّسة، والصّليب المكرّم المحيّى، أنّ مملكتي تكون حافظة للسّلطان العظيم، النّسيب، العالي، العزيز، الكبير الجنس، سيف الدّين «قلاوون» صاحب الدّيار المصرية ودمشق وحلب، ولولده (3) ولوارث ملك عزّ سلطانه: محبّة مستقيمة، وصداقة كاملة نقيّة، ولا يحرّك ملكي أبدا على عزّ سلطانه حربا، ولا على بلاده ولا على قلاعها، ولا على عساكره، ولا يتحرّك ملكي أبدا على حربه (4)، بحيث إنّ هذا السّلطان العظيم، النّسيب، العالي، العزيز، الكبير الجنس، الملك المنصور سيف الدّين «قلاوون» صاحب الدّيار المصرية ودمشق وحلب، يحفظ مثل ذلك لمملكتي ولولد مملكتي الحبيب (الكمينوس، الانجالوس، الدوقس، البالا ولوغس، الملك ايرلنك) (5)، ولا يحرّك عزّ سلطانه على مملكتنا حربا قطّ، ولا على بلادنا، ولا على قلاعنا، ولا على عساكرنا، ولا يحرّك أحدا آخر أيضا على حرب مملكتنا، وأن تكون الرّسل
__________
(1) الزيادة من تشريف الأيام.
(2) في تشريف الأيام «التاسع» ولفظ «الرومي» من زيادة الطبعة الأميرية.
(3) في «تشريف الأيام» عن ابن الفرات: «ولأولاده ولوارثي الخ»
(4) في المصدر السابق: «ولا يحرك ملكي أحدا على حربه».
(5) في المصدر السابق: «الكمنينوس، الأنجالس، الدوقس، البالا ولوغس، لبراندرو نيقوس، ولوارثي مملكتنا محبة مستقيمة وصداقة كاملة نقية.(14/85)
المتردّدون عن عزّ سلطانه أيضا مطلقا [آمنين، لهم] (1) أن يعبروا في بلاد مملكتي بلا مانع ولا عائق، ويتوجّهوا إلى حيث يسيرون من عزّ سلطانه، وكذلك يعودون إلى عزّ سلطانه، وأن لا يحصل للتّجّار الواردين من بلاد عزّ سلطانه [ضرر] (2) من بلاد مملكتي، ولا يحذرون من أحد جورا ولا ظلما، بل يكون لهم مباحا أن يعملوا متاجرهم. (ونظير هذا التّجّار الواردون إلى بلاد عزّ سلطانه من أهل بلاد ملكي، يقومون بالحقّ الواجب على بضائعهم، وليقم) (3) كذلك التّجّار الواردون من بلاد عزّ سلطانه إلى بلاد ملكي بالحقّ الواجب على بضائعهم. وإن حضر من بلاد «سوداق» تجّار وأرادوا السّفر إلى بلاد عزّ سلطانه، فلا ينال هؤلاء تعويق في بلاد ملكي، بل في عبورهم وعودهم يكونون بلا مانع ولا عائق بعد القيام بالحقّ الواجب. وهؤلاء التّجّار الذين من بلاد عزّ سلطانه والذين من أهل سوداق إن حضر صحبتهم مماليك وتجّار (4)، فليعودوا بهم إلى بلاد عزّ سلطانه بلا عائق ولا مانع، ما خلا إن كانوا نصارى، لأنّ شرعنا وترتيب مذهبنا (5) لا يسمح لنا في أمر النّصارى بهذا.
وأمّا إن كان في بلاد عزّ سلطانه مماليك نصارى: روم وغيرهم من أجناس النّصارى، متمسّكون بدين النصارى، ويحصل لقوم منهم العتق، فليكن للذين معهم عتائق مباح ومطلق من عزّ سلطانه، أن يفدوا في البحر إلى بلاد مملكتي. وكذلك إن أراد أحد من أهل بلاد عزّ سلطانه أن يبيع مملوكا نصرانيّا هذه صورته لأحد من رسل مملكتي، أو لتجّار وأناس بلاد
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية. والعبارة ركيكة كما هو ظاهر، وهي أيضا كذلك في ابن الفرات.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) عبارة تشريف الأيام: «وكما أن التجار المزمعين أن يردوا إلى بلاد عز سلطانه من أهل بلاد ملكي يقومون بالحق الواجب على بضائعهم، فليقم كذلك الخ».
(4) في المصدر السابق «وجوار».
(5) في تشريف الأيام «وترتيب ديننا».(14/86)
مملكتي، أن لا يجد في هذا تعويقا، بل يشتروا المذكور ويفدوا به في البحر إلى بلاد مملكتي بلا عائق. وأيضا إن أراد هذا السلطان العظيم النّسيب، أن يرسل إلى بلاد ملكي بضائع متجرا، وأرادت مملكتي أن ترسل إلى بلاد عزّ سلطانه بضائع متجرا، فليكن هكذا: وهو إن أراد عزّ سلطانه أن تكون بضائع متاجره في بلاد ملكي منجّاة من القيام بكلّ الحقوق، فلتكن أيضا بضائع متاجر مملكتي في بلاد عزّ سلطانه منجّاة مثل ذلك من كلّ الحقوق، وإن أراد أن تقوم متاجر ملكي في بلاده بالحقوق الواجبة [يقوم] بمثل ذلك. وأيضا أن يطلق عزّ سلطانه لملكي أن يرسل أناسا من بلاد مملكتي إلى بلاد عزّ سلطانه، فيشترون (1) لي خيلا جيادا ويحملونها إلى بلاد ملكي. وكذلك إن أراد عزّ سلطانه شيئا من خيرات بلاد ملكي، فمملكتي أيضا تطلق لعزّ سلطانه أن يرسل أناسه ليشتروه ويحملوه إلى عزّ سلطانه.
ولمّا كان في البحر «كرسالية» (2) من بلاد غريبة، وقد يتّفق في بعض الأوقات أن يعملوا خسارة في بلاد ملكي، وكذلك يجدون هؤلاء «الكرسالية» قوما من بلاد عزّ سلطانه فيعملون لهم خسارة، ثم إنّ هؤلاء «الكرسالية» يفعلون هذا في الآفاق في تخوم بلاد ملكي، لأجل هذا صار: إذا حضر قوم من بلاد مملكتي إلى بلاد عزّ سلطانه بمتجر يمسكون من أهل بلاد عزّ سلطانه ويغرّمون. ولهذا فليصر مرسوم من عزّ سلطانه في كلّ بلاده أن أحدا من أهل بلاد مملكتي لا يغرّم بهذا السّبب ولا يمسك، وإن عرض أن يقول أحد من أهل بلاد عزّ سلطانه: إن غرّم أو ظلم من أهل بلاد ملكي فليعرّف ملكي بذلك. وإذا كان الذي وضع الغرامة من أهل بلاد ملكي، فملكي يأمر، وتعاد تلك الخسارة إلى بلاد عزّ سلطانه. وكذلك إن قال أحد من أهل بلاد مملكتي: إنه ظلم أو غرّم من أحد من بلاد عزّ سلطانه، يأمر عزّ سلطانه، وتعاد
__________
(1) في المصدر السابق «فيسيرون».
(2) هم القراصنة الذين يعتدون على السفن التجارية في البحار. وهو تعريب لكلمة(14/87)
الغرامة إلى بلاد ملكي. وأيضا إذ قد أزمعت المحبّة أن نصير بهذه الصّورة، وتكون الصّداقة بين مملكتي وعزّ سلطانه خالصة، حتّى إنه أرسل يقول لملكي على معونة ونجدة ملكي في البحر لمضرّة العدوّ المشترك، فمملكتي تفوّض هذا الأمر إلى اختيار عزّ سلطانه، أن يرتب في نسخة اليمين مع بقيّة الفصول المعيّنة فيه، وتأتي الصورة كيف تعين وتنجد مملكتي في البحر. وإن كان لا يريد نجدة ومعونة مملكتي، فمملكتي تسمح بهذا الفصل أن لا يضعه عزّ سلطانه في نسخة يمينه، وهذه اليمين منا بحفظ ملكي لعزّ سلطانه ثابتة غير متزعزعة إن كان هذا السلطان العظيم يحلف لي يمينا بمثلها، وأنه يحفظ المحبّة لمملكتنا، ثابتة غير متزعزعة، والسّلام.
وهذه نسخة اتّفاق، كتبت من الأبواب السلطانية عن الملك المنصور «قلاوون» عن نظير الهدنة المتقدّمة، الواردة من قبل صاحب القسطنطينيّة، مفتتحة بيمين موافقة لها، وهي:
أقول وأنا فلان: إنه لما رغب حضرة الملك الجليل، كرميخائيل، الدوقس، الأنجالوس، الكمينيوس، البالا ولوغس، ضابط مملكة الرّوم والقسطنطينيّة العظمى، أكبر ملوك المسيحيّة، أبقاء الله أن يكون بين مملكته وبين عزّ سلطاني، محبة وصداقة ومودّة لا تتغيّر بتغيّر الأيام، ولا تزول بزوال السّنين والأعوام، وأكّد ذلك بيمين حلف عليها، تاريخها يوم الخميس ثامن شهر أيار سنة ستة آلاف وسبعمائة وتسع وثمانين لآدم، صلوات الله عليه، بحضور رسول عزّ سلطاني، الأمير ناصر الدّين بن الجزريّ، والبطرك الجليل «أنباسيوس» بطرك الاسكندرية، وحضر رسولاه فلان وفلان إلى عزّ سلطاني بنسخة اليمين، ملتمسين أن يتوسّط هذا الأمر أيضا يمين واتفاق من عزّ سلطاني، لتدوم المحبّة فيما بين مملكته وعزّ سلطاني، وتكون ثابتة مستمرّة على الدّوام والاستمرار.
فعزّ سلطاني من هذا اليوم، وهو يوم الاثنين مستهلّ رمضان المعظم،
سنة ثمانين وستّمائة للهجرة النّبويّة المحمّديّة، على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام، يحلف بالله العظيم، الرّحمن الرّحيم، عالم الغيب والشّهادة، والسّرّ والعلانية وما تخفي الصّدور، وبالقرآن العظيم، وبمن أنزله، وبمن أنزل عليه، وهو النّبيّ الكريم، محمد صلّى الله عليه وسلّم على استمرار الصّداقة، واستقرار المودّة النّقيّة، للملك الجليل كريمخائيل، ضابط مملكة الرّوم والقسطنطينيّة العظمى، ولولد مملكته الحبيب الكمينيوس الانجالوس، الدّوقس، البلا ولوغس، الملك إير إندرو بنفوس (1) ولوارثي مملكة ملكه، ولا يحرّك عزّ سلطاني أبدا على مملكته حربا، ولا على بلاده، ولا على قلاعه، ولا على عساكره، في برّ ولا بحر، ولا يحرّك عزّ سلطاني أحدا آخر على حربه، بحيث إن الملك الجليل «كرميخائيل» يحفظ مثل ذلك لعزّ سلطاني، ولملكي، ولبلادي، ولقلاعي، ولعساكري، ولولدي، السّلطان الملك الصالح علاء الدين «عليّ» ولوارثي ملكي من أولادي، ويستمرّ على هذه الصداقة والمودّة النّقيّة، ولا يحرّك ملكه على عزّ سلطاني حربا قطّ، ولا على بلادي، ولا على قلاعي، ولا على عساكري، ولا على مملكتي، ولا يحرّك أحدا آخر على حرب مملكة عزّ سلطاني في البرّ ولا في البحر، ولا يساعد أحدا من أضداد عزّ سلطاني، ولا أعدائي من سائر الأديان والأجناس، ولا يوافقه على ذلك، ولا يفسح لهم في العبور إلى مملكة عزّ سلطاني لمضرّة شيء فيها بجهده وطاقته.(14/88)
فعزّ سلطاني من هذا اليوم، وهو يوم الاثنين مستهلّ رمضان المعظم،
سنة ثمانين وستّمائة للهجرة النّبويّة المحمّديّة، على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام، يحلف بالله العظيم، الرّحمن الرّحيم، عالم الغيب والشّهادة، والسّرّ والعلانية وما تخفي الصّدور، وبالقرآن العظيم، وبمن أنزله، وبمن أنزل عليه، وهو النّبيّ الكريم، محمد صلّى الله عليه وسلّم على استمرار الصّداقة، واستقرار المودّة النّقيّة، للملك الجليل كريمخائيل، ضابط مملكة الرّوم والقسطنطينيّة العظمى، ولولد مملكته الحبيب الكمينيوس الانجالوس، الدّوقس، البلا ولوغس، الملك إير إندرو بنفوس (1) ولوارثي مملكة ملكه، ولا يحرّك عزّ سلطاني أبدا على مملكته حربا، ولا على بلاده، ولا على قلاعه، ولا على عساكره، في برّ ولا بحر، ولا يحرّك عزّ سلطاني أحدا آخر على حربه، بحيث إن الملك الجليل «كرميخائيل» يحفظ مثل ذلك لعزّ سلطاني، ولملكي، ولبلادي، ولقلاعي، ولعساكري، ولولدي، السّلطان الملك الصالح علاء الدين «عليّ» ولوارثي ملكي من أولادي، ويستمرّ على هذه الصداقة والمودّة النّقيّة، ولا يحرّك ملكه على عزّ سلطاني حربا قطّ، ولا على بلادي، ولا على قلاعي، ولا على عساكري، ولا على مملكتي، ولا يحرّك أحدا آخر على حرب مملكة عزّ سلطاني في البرّ ولا في البحر، ولا يساعد أحدا من أضداد عزّ سلطاني، ولا أعدائي من سائر الأديان والأجناس، ولا يوافقه على ذلك، ولا يفسح لهم في العبور إلى مملكة عزّ سلطاني لمضرّة شيء فيها بجهده وطاقته.
وأن الرسل المسيّرين من مملكة عزّ سلطاني إلى برّ «بركة» وأولاده وبلادهم وتلك الجهات، وبحر «سوداق» وبرّه، يكونون آمنين مطمئنّين مطلقا: لهم أن يعبروا في بلاد مملكة الملك الجليل، كرميخائيل من أوّلها إلى آخرها، بلا مانع ولا عائق: أرسلوا في برّ أو بحر، على ما تقتضيه مصلحة ذلك الوقت لمملكة عزّ سلطاني، آمنين مطمئنّين، غير ممنوعين
__________
(1) في تشريف الأيام: «الملك الأندرو نيقوس».(14/89)
بجميع من يصل معهم من رسل تلك الجهات وغيرها، وكلّ من معهم من مماليك وجوار وغير ذلك. وأن لا يحصل للتّجّار الواردين من مملكة الملك الجليل كرميخائيل إلى بلاد عزّ سلطاني جور ولا ظلم، ويترددون آمنين مطمئنّين يعملون متاجرهم، ولهم الرّعاية في الصّدور والورود، والمقام والسّفر، بحيث يكون لتجّار مملكة عزّ سلطاني في بلاد مملكة الملك الجليل كرميخائيل مثل ذلك، ويكونون مرعيّين، لا يجدون من أحد في بلاد مملكة الملك الجليل كرميخائيل جورا ولا ظلما. ومن عليه حقّ واجب في الجهتين على ما استقرّ عليه الحال، يقوم به من غير حيف ولا ظلم.
وأنّ من حضر من التّجّار: من سوداق وغيرها بمماليك وجوار تمكّنهم مملكة الملك الجليل كرميخائيل من الحضور بهم إلى مملكة عزّ سلطاني ولا تمنعهم. وأن الكرسالية متى تعرّضوا إلى أخذ أحد من التّجار المسلمين في البحر، ونسبت الكرسالية إلى رعيّة مملكة الملك الجليل كرميخائيل، يسيّر عزّ سلطاني إليه في طلبهم، ولا يتعرض أحد من نوّاب مملكة عزّ سلطاني إلى هذا الجنس بسببهم، إلا أن يتحقّق أنهم آخذون، أو تظهر عين المال معهم، على ما تضمّنته نسخة يمين الملك الجليل كرميخائيل ولمملكة الملك الجليل كرميخائيل من بلاد عزّ سلطاني مثل ذلك.
وعلى أنّ الرسل المتردّدين من الجهتين: من مملكة عزّ سلطاني، ومن مملكة الملك الجليل كرميخائيل، يكونون آمنين مطمئنّين في سفرهم ومقامهم: برّا وبحرا، وتكون رعيّة بلاد عزّ سلطاني، ورعية بلاد الملك الجليل كرميخائيل، في الجهتين من المسلمين وغيرهم آمنين مطمئنّين، صادرين واردين، محترمين مرعيّين. وهذه اليمين لا تزال محفوظة ملحوظة، مستمرّة مستقرّة، على الدّوام والاستمرار.
قلت: وهذه النّسخة الواردة من صاحب القسطنطينيّة المتقدّمة عليها، وإن عبّر عنهما في خلالهما بلفظ اليمين، فإنهما بعقد الصّلح أشبه، واليمين جزء من أجزاء ذلك، ولذلك أوردتها في عقود الصّلح دون الأيمان.(14/90)
الباب الخامس من المقالة التاسعة (في عقود الصّلح الواقعة بين ملكين مسلمين وفيه فصلان)
الفصل الأوّل (في أصول تعتمد في ذلك)
اعلم أنّ الأصل في ذلك ما ذكره أصحاب السّير وأهل التّاريخ، أنه لمّا وقع الحرب بين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وبين معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه، في صفّين، في سنة سبع وثلاثين من الهجرة توافقا على أن يقيما حكمين بينهما، ويعملا بما يتّفقان عليه. فأقام أمير المؤمنين عليّ أبا موسى الأشعريّ حكما عنه، وأقام معاوية عمرو بن العاص حكما عنه فاتّفق الحكمان على أن يكتب بينهما كتاب بعقد الصّلح، واجتمعا عند عليّ رضي الله عنه، وكتب كتاب القضيّة بينهما بحضرته، فكتب فيه بعد البسملة:
هذا ما تقاضى أمير المؤمنين عليّ، فقال عمرو: هو أميركم، أما أميرنا فلا. فقال [الأحنف: لا تمح اسم أمير المؤمنين فإني أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليك أبدا. لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضا، فأبى ذلك عليّ مليّا من النّهار. ثم إن الأشعث] (1) بن قيس قال: أمح اسم أمير المؤمنين فأجاب عليّ ومحاه. ثم قال عليّ: الله أكبر! سنّة بسنّة [ومثل بمثل] (2). والله
__________
(1) بياض في الأصل. والزيادة من تاريخ الطبري: 3/ 103.
(2) بياض في الأصل. والزيادة من تاريخ الطبري: 3/ 103.(14/91)
إني لكاتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الحديبية، فكتبت: محمد رسول الله، فقالوا:
لست برسول الله، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمحوه، فقلت: لا أستطيع أفعل! فقال إذن أرنيه فأريته فمحاه بيده، وقال: «إنّك ستدعى إلى مثلها فتجيب».
وهذه نسخة كتاب القضيّة بين أمير المؤمنين عليّ وبين معاوية، فيما رواه أبو عبد الله الحسين بن نصر بن مزاحم المنقريّ، في «كتاب صفّين والحكمين» بسنده إلى محمد بن عليّ الشّعبيّ وهو (1): [بسم الله الرحمن الرحيم].
هذا ما تقاضى عليه عليّ بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما، فيما تراضيا من الحكم بكتاب الله وسنّة نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم، قضيّة عليّ على أهل العراق ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب، وقضيّة معاوية على أهل الشّام ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب، إنا رضينا أن ننزل عند حكم كتاب الله بيننا حكما فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا، ونميت ما أمات. على ذلك تقاضينا، وبه تراضينا. وإنّ عليّا وشيعته رضوا أن يبعثوا عبد الله بن قيس (2) ناظرا ومحاكما، ورضي معاوية وشيعته أن يبعثوا عمرو بن العاص ناظرا ومحاكما، على أنهم أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه، وأعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه، ليتّخذان الكتاب إماما فيما بعثاله، لا يعدوانه إلى غيره في الحكم بما وجدا فيه مسطورا، وما لم يجداه
__________
(1) لهذا الكتاب نصوص كثيرة مختلفة فيما بينها بقليل أو كثير. انظر في ذلك: تاريخ الطبري:
3/ 103، والكامل لابن الأثير: 3/ 127، والإمامة والسياسة: 1/ 185وشرح ابن أبي الحديد: 1/ 191، وانظر أيضا نصوص الكتاب لكل من الجاحظ والبلاذري واسماعيل التيمي في: «مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة» لمحمد حميد الله ص:
542، 543، 544.
(2) هو اسم أبي موسى الأشعري.(14/92)
مسمّى في الكتاب ردّاه إلى سنّة رسول الله الجامعة، لا يتعمّدان لها خلافا، ولا يتّبعان في ذلك لهما هوى، ولا يدخلان في شبهة.
وأخذ عبد الله بن قيس، وعمرو بن العاص على عليّ ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرّضا بما حكما به من كتاب الله وسنّة نبيّه، ليس لهما أن ينقضا ذلك [ولا يخالفا] (1) إلى غيره، وأنهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأهليهما، ما لم يعدوا الحقّ، رضي بذلك راض أو أنكر منكر، وأنّ الأمة انصار لهما على ما قضيا به من العدل.
فإن توفّي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة، فأمير شيعته وأصحابه يختارون رجلا، [يألون] (2) عن أهل المعدلة والإقساط، على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق والحكم بكتاب الله وسنّة رسوله، وله مثل شرط صاحبه.
وإن مات واحد من الأميرين قبل القضاء، فلشيعته أن يولّوا مكانه رجلا يرضون عدله.
وقد وقعت [هذه] (3) القضيّة بيننا و [معها] (4) الأمن والتّفاوض، ووضع السّلاح، وعلى الحكمين عهد الله وميثاقه: ليحكمان بكتاب الله وسنّة نبيّه، لا يدخلان في شبهة ولا يألوان اجتهادا، ولا يتعمّدان جورا، ولا يتّبعان هوى، ولا يعدوان ما في كتاب الله تعالى وسنّة رسوله، فإن لم يفعلا برئت الأمّة من حكمهما، ولا عهد لهما ولا ذمّة. وقد وجبت القضيّة على ما سمّينا في هذا الكتاب من موقع الشّرط على الأميرين والحكمين والفريقين، والله أقرب شهيدا وأدنى حفيظا، والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم إلى انقضاء مدّة الأجل، والسّلاح موضوع، والسّبيل
__________
(1) في الطبعة الأميرية: «تخالفا إلى غيره» والتصحيح من جمهرة رسائل العرب.
(2) في الطبعة الأميرية «لا يألوان».
(3) الزيادة من جمهرة رسائل العرب.
(4) الزيادة من جمهرة رسائل العرب.(14/93)
مخلّى، والشاهد والغائب من الفريقين سواء في الأمر. وللحكمين أن ينزلا منزلا عدلا بين أهل العراق وأهل الشّام، ولا يحضرهما فيه إلا من أحبّا عن ملإ (1) منهما وتراض. وأجّل القاضيين المسلمون إلى رمضان: فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة فيما وجّها له، عجّلاها، وإن أرادا تأخيرها بعد رمضان إلى انقضاء الموسم، فإن ذلك إليهما. فإن هما لم يحكما بكتاب الله وسنّة نبيّه إلى انقضاء الموسم، فالمسلمون على أمرهم الأوّل في الحرب، ولا شرط بين واحد (2) من الفريقين. وعلى الأمّة عهد الله وميثاقه على التّمام (3) على ما في هذا الكتاب. وهم يد على من أراد في هذا الكتاب إلحادا أو ظلما، أو أراد له نقضا.
شهد على ما في هذا الكتاب من أصحاب عليّ: الأشعث بن قيس [الكنديّ] (4)، وعبد الله بن عبّاس، والأشتر بن الحارث (5)، وسعيد بن قيس الهمدانيّ، والحصين والطّفيل ابنا الحارث بن المطّلب، وأبو أسيد بن ربيعة الأنصاريّ، وخبّاب بن الأرتّ، وسهل بن حنيف الأنصاريّ، وأبو اليسر بن عمرو الأنصاريّ، ورفاعة بن رافع بن مالك الأنصاريّ، وعوف بن الحارث بن المطّلب القرشيّ، وبريدة الأسلميّ، وعقبة بن عامر الجهنيّ، ورافع بن خديج الأنصاريّ، وعمرو بن الحمق الخزاعيّ، والحسن والحسين ابنا عليّ، وعبد الله بن جعفر الهاشميّ، واليعمر بن عجلان
__________
(1) أي عن تشاور.
(2) لعل هذا اللفظ زائد.
(3) أي الاستمرار عليه.
(4) الزيادة من الطبري.
(5) ذكر الطبري في تاريخه أن الأشتر بن الحارث قد تمنّع عن الشهادة والتوقيع على هذا الكتاب. ونقل عن أبي مخنف، عن أبي جناب الكلبيّ، عن عمارة بن ربيعة الجرميّ، قال:
«لما كتبت الصحيفة دعي لها الأشتر فقال: لا صحبتني يميني، ولا نفعتني بعدها شمالي إن خطّ لي في هذه الصحيفة اسم على صلح ولا موادعة» وكذلك لم ترد شهادة الحسن والحسين ابنا عليّ في أيّ من نصوص الطبري أو الجاحظ أو البلاذري أو التيميّ.(14/94)
الأنصاريّ، وحجر بن عديّ الكنديّ، وورقاء (1) بن سميّ البجليّ، وعبد الله ابن الطّفيل الأنصاريّ (2)، ويزيد بن حجيّة الدكريّ (3)، ومالك بن كعب الهمدانيّ، وربيعة بن شرحبيل، وأبو صفرة، والحارث بن مالك، وحجر بن يزيد، وعقبة بن حجيّة.
ومن أصحاب معاوية: حبيب بن مسلمة الفهميّ (4)، و [أبو] الأعور السّلميّ (5)، وبسر بن أرطاة القرشيّ، ومعاوية بن حديج الكنديّ، والمخارق بن الحارث الحميريّ، وزميل (6) بن عمرو السّكسكيّ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد (7) المخزوميّ، وحمزة بن مالك الهمدانيّ، وسبع بن زيد الحميريّ (8)، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعلقمة بن مرثد الكلبيّ، وخالد بن الحصين السّكسكيّ، وعلقمة بن يزيد الحضرميّ، ويزيد ابن الحرّ (9) العبسيّ، ومسروق بن حملة العكّيّ، ونمير بن يزيد الحميريّ، وعبد الله بن عامر القرشيّ، ومروان بن الحكم، والوليد بن عقبة القرشيّ، وعقبة (10) بن أبي سفيان، ومحمد بن أبي سفيان، ومحمد بن عمرو بن العاص، ويزيد بن عمرو الجذاميّ، وعمّار بن الأخوص الكلبيّ، ومسعدة ابن عمر القينيّ، وعاصم بن المستنير الجذاميّ، وعبد الرحمن بن ذي كلاع
__________
(1) قال البلاذري: «وقاء أصحّ» و «ورقاء» من أسماء الرجال والنساء عند العرب.
(2) في الطبري «عبد الله بن الطفيل العامريّ».
(3) في الطبري وأنساب الأشراف للبلاذري: «يزيد بن حجيّة التيميّ» وفي ابن الأثير «التميميّ».
(4) في الطبري والبلاذري «الفهريّ».
(5) الزيادة من الطبري والبلاذري. وفيهما «أبو الأعور السّلمي عمرو بن سفيان.
(6) في الطبري والبلاذري «زمل بن عمرو العذريّ».
(7) في البلاذري «عبد الرحمن بن خالد بن يزيد المخزوميّ».
(8) في الطبري وابن الأثير «سبيع بن يزيد الأنصاريّ» وفي البلاذري «سبيع بن يزيد الحضرميّ».
(9) في البلاذري «بن الجزء».
(10) في الطبري والبلاذري «عتبة».(14/95)
الحميريّ، والصباح بن جلهمة الحميريّ، وثمامة بن حوشب، وعلقمة بن حكيم، وحمزة بن مالك [الهمداني] (1).
وإنّ بيننا على ما في هذه الصّحيفة عهد الله وميثاقه. وكتب عمير يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين.
وأخرج أيضا بسنده إلى أبي إسحاق الشّيبانيّ أن عقد الصّلح كان عند سعيد بن أبي بردة في صحيفة صفراء عليها خاتمان: خاتم في أسفلها، وخاتم في أعلاها. في خاتم عليّ «محمد رسول الله» وفي خاتم معاوية «محمد رسول الله».
قلت: وذكر روايات أخرى فيها زيادة ونقص أضربنا عن ذكرها خوف الإطالة، إذ فيما ذكرنا مقنع. على أن المؤرّخين لم يذكروا من ذلك إلا طرفا يسيرا.
__________
(1) الزيادة من الطبري والبلاذري.(14/96)
الفصل الثاني من الباب الخامس من المقالة التاسعة (فيما جرت العادة بكتابته بين الخلفاء وملوك المسلمين على تعاقب الدول ممّا يكتب في الطّرّة والمتن)
أما الطّرّة: فليعلم أنّ الذي ينبغي أن يكتب في الطّرّة هنا: «هذا عقد صلح» ويكمل على ما تقدّم في الهدنة، ولا يكتب فيه: «هذه هدنة» لما يسبق إلى الأذهان من أن المراد من الهدنة ما يجري بين المسلمين والكفّار.
وأما المتن فعلى نوعين:
النوع الأوّل (ما يكون العقد فيه من الجانبين)
ولم أر فيه للكتّاب إلا الاستفتاح بلفظ: «هذا»، وعليه كتب كتاب القضيّة بين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، على ما تقدّم ذكره.
وعلى ذلك استكتب هارون الرّشيد ولديه: محمدا الأمين، وعبد الله المأمون: العهدين اللّذين عهد فيهما بالخلافة بعده لابنه الأمين، وولّى خراسان ابنه المأمون، ثم عهد بالخلافة من بعد الأمين للمأمون، وأشهد فيهما، وبعث بهما إلى مكّة فعلّقا في بطن الكعبة، في جملة المعلّقات التي
كانت تعلّق فيها، على عادة العرب السّابقة: من تعليق القصائد ونحوها.(14/97)
وعلى ذلك استكتب هارون الرّشيد ولديه: محمدا الأمين، وعبد الله المأمون: العهدين اللّذين عهد فيهما بالخلافة بعده لابنه الأمين، وولّى خراسان ابنه المأمون، ثم عهد بالخلافة من بعد الأمين للمأمون، وأشهد فيهما، وبعث بهما إلى مكّة فعلّقا في بطن الكعبة، في جملة المعلّقات التي
كانت تعلّق فيها، على عادة العرب السّابقة: من تعليق القصائد ونحوها.
وبذلك سمّيت القصائد السبع المشهورة: بالمعلّقات لتعليقهم إيّاها في جوف الكعبة.
أما عهد الأمين، فنسخته بعد البسملة على ما ذكره الأزرقيّ (1) في أخبار مكّة ما صورته:
هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه محمد ابن أمير المؤمنين في صحّة من بدنه وعقله، وجواز من أمره، طائعا غير مكره.
إنّ أمير المؤمنين هارون ولّاني العهد من بعده، وجعل لي البيعة في رقاب المسلمين جميعا، وولّى أخي عبد الله ابن أمير المؤمنين هارون العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين من بعدي، برضا منّي وتسليم، طائعا غير مكره، وولّاه خراسان بثغورها، وكورها، وجنودها، وخراجها، وطرازها (2)، وبريدها، وبيوت أموالها، وصدقاتها، وعشرها وعشورها، وجميع أعمالها، في حياته وبعد وفاته، فشرطت لعبد الله ابن (3) أمير المؤمنين عليّ الوفاء بما جعله له أمير المؤمنين هارون: من البيعة والعهد، وولاية الخلافة وأمور المسلمين بعدي، وتسليم ذلك له، وما جعل له من ولاية خراسان وأعمالها، وما أقطعه أمير المؤمنين هارون من قطيعة، أو جعل له من عقدة (4) أو ضيعة من ضياعه وعقده، أو ابتاع له من الضّياع والعقد،
__________
(1) هو محمد بن عبد الله بن أحمد، أبو الوليد الأزرقيّ المتوفى سنة 250هـ. (الأعلام:
6/ 222. وانظر حاشية نفس الصفحة بصدد الاختلاف في تحديد سنة وفاته).
(2) الطراز: ما ينسج من الثياب للسلطان والموضع الذي تنسج فيه الثياب الجياد. وقد جاء في تاريخ الطبري أنه كان للطراز دور كدور ضرب النقود.
(3) في تاريخ الطبري: 4/ 654، «وشرطت لعبد الله هارون أمير المؤمنين برضا مني، وطيب نفسي، أنّ لأخي عبد الله بن هارون عليّ الوفاء بما عقد له أمير المؤمنين من العهد والولاية».
(4) العقدة: الضيعة والعقار الذي اعتقده صاحبه ملكا. واعتقد الضيعة والمال: اقتناهما.(14/98)
وما أعطاه في حياته وصحّته: من مال، أو حليّ، أو جوهر، أو متاع، أو كسوة، أو رقيق، أو منزل، أو دوابّ، قليلا أو كثيرا، فهو لعبد الله ابن أمير المؤمنين موفّرا عليه، مسلّما له. وقد عرفت ذلك كلّه شيئا فشيئا باسمه وأصنافه ومواضعه، أنا وعبد الله ابن هارون أمير المؤمنين. فإن اختلفنا في شيء منه فالقول فيه قول عبد الله بن هارون أمير المؤمنين، لا أتبعه بشيء من ذلك، ولا آخذه منه، ولا أنتقصه، صغيرا ولا كبيرا [من ماله] (1) ولا من ولاية خراسان ولا غيرها مما ولّاه أمير المؤمنين من الأعمال، ولا أعزله عن شيء منها، ولا أخلعه، ولا أستبدل به غيره، ولا أقدّم عليه في العهد والخلافة أحدا من الناس جميعا، ولا أدخل عليه مكروها في نفسه ولا دمه، ولا شعره ولا بشره، ولا خاصّ ولا عامّ من أموره وولايته، ولا أمواله، ولا قطائعه، ولا عقده، ولا أغيّر عليه شيئا لسبب من الأسباب، ولا آخذه ولا أحدا من عمّاله وكتّابه وولاة أمره ممن صحبه وأقام معه بمحاسبة، ولا أتتبّع شيئا جرى على يديه وأيديهم في ولاية خراسان وأعمالها وغيرها مما ولاه أمير المؤمنين في حياته وصحّته: من الجباية، والأموال، والطّراز، والبريد، والصّدقات، والعشر والعشور، وغير ذلك، ولا آمر بذلك أحدا من الناس، ولا أرخّص فيه لغيري، ولا أحدّث نفسي فيه بشيء أمضيه عليه، ولا ألتمس قطيعة له، ولا أنقص شيئا مما جعله له هارون أمير المؤمنين وأعطاه في حياته وخلافته وسلطانه من جميع ما سمّيت في كتابي هذا. (2) وآخذ له عليّ وعلى جميع الناس البيعة، ولا أرخّص لأحد من جميع الناس كلّهم في جميع ما ولّاه في خلعه ولا مخالفته، ولا أسمع من أحد من البريّة في ذلك قولا، ولا أرضى بذلك في سرّ ولا علانية، ولا أغمض عليه، ولا أتغافل عنه، ولا أقبل من برّ من العباد ولا فاجر، ولا صادق ولا كاذب، ولا ناصح ولا غاشّ، ولا قريب
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) من هنا إلى آخر العهد، أورده الطبري باختلاف غير يسير. (انظر تاريخ الطبري: 4/ 652وما بعدها).(14/99)
ولا بعيد، ولا أحد من ولد آدم عليه السّلام: من ذكر ولا أنثى مشورة، ولا حيلة، ولا مكيدة في شيء من الأمور: سرّها وعلانيتها، وحقّها وباطلها، وظاهرها وباطنها، ولا سبب من الأسباب، أريد بذلك إفساد شيء مما أعطيت عبد الله بن هارون أمير المؤمنين من نفسي، وأوجبت له عليّ، وشرطت وسمّيت في كتابي هذا.
وإن أراد به أحد من الناس أجمعين سوءا أو مكروها، أو أراد خلعه أو محاربته، أو الوصول إلى نفسه ودمه، أو حرمه، أو ماله، أو سلطانه أو ولايته: جميعا أو فرادى، مسرّين أو مظهرين له فإنّي انصره وأحوطه، وأدفع عنه، كما أدفع عن نفسي، ومهجتي، ودمي، وشعري، وبشري، وحرمي، وسلطاني، وأجهّز الجنود إليه، وأعينه على كلّ من غشّه وخالفه، ولا أسلمه [ولا أخذله] (1) ولا أتخلّى عنه، ويكون أمري وأمره في ذلك واحدا [أبدا] (2) ما كنت حيّا.
وإن حدث بأمير المؤمنين هارون حدث الموت، وأنا وعبد الله ابن أمير المؤمنين بحضرة أمير المؤمنين، أو أحدنا، أو كنّا غائبين عنه جميعا:
مجتمعين كنّا أو متفرّقين، وليس عبد الله بن هارون أمير المؤمنين في ولايته بخراسان [فعليّ لعبد الله ابن أمير المؤمنين أن أمضيه إلى خراسان] (3) وأن أسلّم له ولايتها بأعمالها كلّها وجنودها، ولا أعوقه عنها، ولا أحبسه قبلي، ولا في شيء من البلدان دون خراسان، وأعجّل إشخاصه إلى خراسان واليا عليها مفردا بها، مفوّضا إليه جميع أعمالها كلّها، وأشخص معه من ضمّ إليه أمير المؤمنين: من قوّاده، وجنوده، وأصحابه، وكتّابه، وعمّاله، ومواليه، وخدمه، ومن تبعه من صنوف الناس بأهليهم وأموالهم، ولا أحبس عنه
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.(14/100)
أحدا، ولا أشرك معه في شيء منها أحدا، ولا أرسل أمينا ولا كاتبا ولا بندارا (1)، ولا أضرب على يديه في قليل ولا كثير.
وأعطيت هارون أمير المؤمنين وعبد الله بن هارون على ما شرطت لهما على نفسي، من جميع ما سمّيت وكتبت في كتابي هذا عهد الله وميثاقه، وذمّة أمير المؤمنين وذمّتي، وذمة آبائي وذمم المؤمنين، وأشدّ ما أخذ الله تعالى على النّبيّين والمرسلين وخلقه أجمعين: من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكّدة التي أمر الله عزّ وجلّ بالوفاء بها، ونهى عن نقضها وتبديلها.
فإن أنا نقضت شيئا مما شرطت لهارون أمير المؤمنين ولعبد الله بن هارون أمير المؤمنين وسمّيت في كتابي هذا، أو حدّثت نفسي أن أنقض شيئا ممّا أنا عليه، أو غيّرت أو بدّلت، أو حلت أو حلت أو غدرت، أو قبلت [ذلك] من أحد من الناس: صغيرا أو كبيرا، برّا أو فاجرا، ذكرا أو أنثى، وجماعة أو فرادى فبرئت (2)
من الله عزّ وجلّ، ومن ولايته، ومن دينه، ومن محمد صلّى الله عليه وسلم، ولقيت الله عزّ وجلّ يوم القيامة كافرا مشركا وكلّ امرأة هي اليوم لي أو أتزوّجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثا، البتّة، طلاق الحرج (3)، وعليّ المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجّة:
نذرا واجبا لله تعالى في عنقي، حافيا راجلا، لا يقبل الله منّي إلا الوفاء بذلك، وكلّ مال هو لي اليوم، أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي (4) بالغ الكعبة الحرام، وكلّ مملوك هو لي اليوم، أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله عزّ وجلّ.
وكلّ ما جعلت لأمير المؤمنين ولعبد الله بن هارون أمير المؤمنين،
__________
(1) البندار: التاجر الذي يخزن البضائع للغلاء. وجمعه: بنادرة. وهو لفظ دخيل. (المعجم الوسيط).
(2) لعل الفاء زائدة.
(3) أي طلاق التحريم.
(4) الهدي: ما يهدى إلى البيت الحرام.(14/101)
وكتبته وشرطته لهما، وحلفت عليه، وسمّيت في كتابي هذا لازم لي الوفاء به، ولا أضمر غيره، ولا أنوي إلّا إيّاه فإن أضمرت أو نويت غيره فهذه العقود والمواثيق والأيمان كلّها لازمة، واجبة عليّ، وقوّاد أمير المؤمنين وجنوده وأهل الآفاق والأمصار في حلّ من خلعي وإخراجي من ولايتي عليهم، حتّى أكون سوقة من السّوق، وكرجل من عرض (1) المسلمين، لا حقّ لي عليهم، ولا ولاية، ولا تبعة لي قبلهم، ولا بيعة لي في أعناقهم، وهم في حلّ من الأيمان التي أعطوني، براء من تبعتها ووزرها في الدّنيا والآخرة.
شهد سليمان ابن أمير المؤمنين المنصور، وعيسى بن جعفر، وجعفر بن جعفر، وعبد الله بن المهديّ، وجعفر بن موسى أمير المؤمنين، وإسحاق بن موسى أمير المؤمنين، وإسحاق بن عيسى بن عليّ، وأحمد بن إسماعيل بن عليّ، وسليمان بن جعفر بن سليمان، وعيسى بن صالح بن عليّ، وداود بن عيسى بن موسى، ويحيى بن عيسى بن موسى، وداود بن سليمان بن جعفر، وخزيمة بن حازم، وهرثمة بن أعين، ويحيى بن خالد، والفضل بن يحيى، وجعفر بن يحيى، والفضل بن الرّبيع مولى أمير المؤمنين، والقاسم بن الرّبيع مولى أمير المؤمنين، ودماثة بن عبد العزيز العبسيّ، وسليمان بن عبد الله بن الأصمّ، والربيع بن عبد الله الحارثيّ، وعبد الرحمن بن أبي الشّمر الغسّانيّ، ومحمد بن عبد الرحمن قاضي مكّة، وعبد الكريم بن شعيب الحجبيّ، وإبراهيم بن عبد الله الحجبيّ، وعبد الله بن شعيب الحجبيّ، ومحمد بن عبد الله بن عثمان الحجبيّ، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن نبيه الحجبيّ، وعبد الواحد بن عبد الله الحجبيّ، وإسماعيل بن عبد الرحمن بن نبيه الحجبيّ، وأبان مولى أمير المؤمنين، ومحمد بن منصور، وإسماعيل بن صبيح، والحارث مولى أمير المؤمنين، وخالد مولى أمير المؤمنين.
__________
(1) عرض الشيء، بالضم: وسطه وناحيته.(14/102)
وكتب في ذي الحجة سنة ستّ وثمانين ومائة:
وأما ما كتبه المأمون، فنصّه بعد البسملة (1):
هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه له عبد الله بن هارون أمير المؤمنين، في صحّة من عقله، وجواز من أمره، وصدق نيّة فيما كتب من كتابه، ومعرفة ما فيه من الفضل والصّلاح له ولأهل بيته ولجماعة المسلمين.
إنّ أمير المؤمنين هارون ولّاني العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين في سلطانه بعد أخي محمد بن هارون أمير المؤمنين، وولّاني في حياته وبعده خراسان وكورها، وجميع أعمالها: من الصّدقات والعشر والبريد والطّراز وغير ذلك، واشترط لي على محمد ابن أمير المؤمنين الوفاء بما عقد لي من الخلافة والولاية للعباد والبلاد بعده، [وولاية] (2) خراسان وجميع أعمالها، ولا يعرض لي في شيء ممّا أقطعني أمير المؤمنين أو ابتاع لي من الضّياع والعقد والدّور والرّباع، أو ابتعت منه [لنفسي] (3) من ذلك، وما أعطاني أمير المؤمنين هارون من الأموال والجوهر والكسا والمتاع والدّواب [والرقيق وغير ذلك، ولا يعرض لي ولا لأحد من عمالي وكتّابي بسبب محاسبة] (4)، ولا يتتبّع لي في ذلك ولا لأحد منهم أثرا، ولا يدخل عليّ ولا على أحد ممن كان معي ومنّي، ولا عمّالي ولا كتّابي، ومن استعنت به من جميع الناس مكروها: في دم، ولا نفس، ولا شعر، ولا بشر، ولا مال، ولا صغير، ولا كبير [من الأمور] (5) فأجابه إلى ذلك وأقرّ به، وكتب له به
__________
(1) يتفق هذا النص مع ما أورده الطبري، بخلاف النص السابق.
(2) في الطبعة الأميرية «وولايتي». والتصحيح من الطبري.
(3) الزيادة من الطبري.
(4) في الطبعة الأميرية العبارة غير مستقيمة وهي: «والمتاع والدوابّ في سبب محاسنته لأصحابي». والتصحيح من الطبري.
(5) الزيادة من الطبري.(14/103)
كتابا كتبه على نفسه ورضي به أمير المؤمنين [هارون وقبله وعرف صدق نيّته فيه، فشرطت لعبد الله هارون أمير المؤمنين] (1) وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد ابن أمير المؤمنين وأطيعه ولا أعصيه، وأنصحه ولا أغشّه، وأوفّي ببيعته وولايته، ولا أغدر ولا أغدر ولا أنكث، وأنفّذ كتبه وأموره، وأحسن مؤازرته ومكانفته (2)، وأجاهد عدوّه في ناحيتي بأحسن جهاد ما وفى لي بما شرط لي ولعبد الله هارون أمير المؤمنين، وسمّاه في الكتاب الذي كتبه لأمير المؤمنين ورضي به أمير المؤمنين، ولم ينقص شيئا من ذلك، ولم ينقض أمرا من الأمور التي اشترطها لي عليه هارون أمير المؤمنين.
وإن احتاج محمد بن هارون أمير المؤمنين إلى جند وكتب إليّ يأمرني بإشخاصهم إليه، أو إلى ناحية من النّواحي، أو إلى عدوّ من أعدائه خالفه أو أراد نقص شيء من سلطانه وسلطاني الذي أسنده هارون أمير المؤمنين إلينا وولّاناه [فعليّ] (3) أن أنفّذ أمره ولا أخالفه، ولا أقصّر في شيء كتب به إليّ.
وإن أراد محمد بن أمير المؤمنين هارون أن يولّي رجلا من ولده العهد والخلافة من بعدي، فذلك له، ما وفّى لي بما جعل لي أمير المؤمنين هارون واشترط لي عليه، وشرطه على نفسه في أمري، وعليّ إنفاذ ذلك والوفاء له بذلك، ولا أنقض ذلك ولا أغيّره، ولا أبدّله، ولا أقدّم [قبله] (4) أحدا من ولدي، ولا قريبا ولا بعيدا من الناس أجمعين، إلّا أن يولّي هارون أمير المؤمنين أحدا من ولده العهد من بعدي، فيلزمني [ومحمدا] (5) الوفاء بذلك.
وجعلت لأمير المؤمنين ومحمد بن أمير المؤمنين عليّ الوفاء بما اشترطت وسمّيت في كتابي هذا، ما وفّى لي محمد ابن أمير المؤمنين هارون
__________
(1) الزيادة من الطبري.
(2) المكانفة: الموازرة والمعاونة.
(3) الزيادة من الطبري.
(4) الزيادة من الطبري.
(5) الزيادة من الطبري.(14/104)
بجميع ما اشترط لي هارون أمير المؤمنين عليه في نفسي، وما أعطاني أمير المؤمنين هارون من جميع الأشياء المسمّاة في الكتاب الذي كتبه له، [وعليّ] (1) عهد الله تعالى وميثاقه، وذمّة أمير المؤمنين، وذمّتي، وذمّة آبائي، وذمم المؤمنين، وأشدّ ما أخذ الله عزّ وجلّ على النبيّين والمرسلين من خلقه أجمعين من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكّدة التي أمر الله عزّ وجلّ بالوفاء بها [ونهى عن نقضها وتبديلها] (2) فإن أنا نقضت شيئا مما اشترطت وسمّيت في كتابي هذا له، أو غيّرت، أو بدّلت، أو نكثت، أو غدرت فبرئت من الله عزّ وجلّ ومن ولايته ومن دينه، ومن محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولقيت الله سبحانه وتعالى يوم القيامة كافرا مشركا، وكلّ امرأة لي اليوم أو أتزوّجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثا البتّة [طلاق] (3) الحرج، وكلّ مملوك لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله تعالى، وعليّ المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكّة ثلاثين حجّة، نذرا واجبا عليّ وفي عنقي، حافيا راجلا، لا يقبل الله منّي إلا الوفاء به، وكلّ مال هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة، وكل ما جعلت لعبد الله هارون أمير المؤمنين أو شرطت في كتابي هذا لازم لي، لا أضمر غيره ولا أنوي سواه.
شهد فلان وفلان، بأسماء الشهود المقدّم ذكرهم في كتاب الأمين المبتدإ بذكره.
قال الأزرقيّ: ولم يزل هذان الشرطان معلقين في جوف الكعبة حتّى مات هارون الرّشيد وبعد ما مات بسنتين، في خلافة الأمين [كلّم] (4)
الفضل بن الربيع محمد بن عبد الله الحجبيّ في إتيانه بهما، فنزعهما من الكعبة وذهب بهما إلى بغداد، فأخذهما الفضل فخرّقهما وحرّقهما بالنّار.
قلت: وعلى نحو من ذلك كتب أبو إسحاق الصّابي مواصفة بالصّلح بين شرف الدّولة وزين الملّة أبي الفوارس، وصمصام الدّولة وشمس
__________
(1) الزيادة من الطبري.
(2) الزيادة من الطبري.
(3) الزيادة من الطبري.
(4) في الطبعة الأميرية «فكلّم».(14/105)
الملّة أبي كاليجار، ابني عضد الدّولة بن ركن، الدّولة بن بويه، في النّصف من صفر سنة ستّ وسبعين وثلاثماية.
ونصّها بعد البسملة الشّريفة:
هذا ما اتّفق واصطلح وتعاهد وتعاقد عليه شرف الدّولة وزين الملّة أبو الفوارس، وصمصام الدّولة أبو كاليجار، ابنا عضد الدّولة وتاج الملّة أبي شجاع بن ركن الدّولة أبي عليّ، موليا أمير المؤمنين الطائع لله أطال الله بقاءه، وأدام عزّه وتأييده، ونصره وعلوّه وإذنه.
اتّفقا وتصالحا، وعاهدا وتعاقدا، على تقوى الله تعالى وإيثار طاعته، والاعتصام بحبله وقوّته، والالتجاء إلى حسن توفيقه ومعونته، والإقرار بانفراده ووحدانيّته، لا شريك له ولا مثل، ولا ضدّ ولا ندّ، والصلاة على محمد رسوله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم تسليما، والطّاعة لأمير المؤمنين الطّائع لله، والالتزام بوثائق بيعته، وعلائق دعوته، والتّوازر على موالاة وليّه، ومعاداة عدوّه، وعلى أن يمسكا [ذات] (1) بينهما بالسّير الحميدة، والسّنن الرشيدة، التي سنّها لهما السّلف الصالح من آبائهما وأجدادهما في التآلف والتّوازر، والتّعاضد والتّظافر، وتعظيم الأصغر للأكبر، وإشبال (2)
الأكبر على الأصغر، والاشتراك في النّعم، والتّفاوض في الحظوظ والقسم، والاتّحاد بخلوص الطّوايا والخفايا، وسلامة الخواطر، وطهارة الضّمائر، ورفع ما خالف ذلك من أسباب المنافسة، وجرائر المضاغنة، وجوالب النّبوة، ودواعي الفرقة، والإقران لأعداء الدّولة، والإرصاد لهم، والاجتماع على دفع كلّ ناجم، وقمع كلّ مقاوم، وإرغام أنف كلّ ضار متجبّر، وإضراع خدّ كلّ متطاول مستكبر، حتّى يكون الموالي لأحدهم منصورا من جماعتهم، والمعادي له مقصودا من سائر جوانبهم، فلا يجد
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(2) الإشبال: العطف والمعونة.(14/106)
المنابذ على أحدهم مفزعا عند أحد من الباقين ولا اعتصاما له، ولا التجاء إليه، لكن يكون مرميّا بجميع سهامهم، ومضروبا بأسياف نقمتهم، ومأخوذا بكلّيّة بأسهم وقوّتهم، ومقصودا بغالب نجدتهم وشدّتهم إذ كانت هذه الآداب القويمة، والطّرائق السّليمة، جارية للدّول مجرى الجنن (1) الدّافعة عنها، والمعاقل المانعة لها، وبمثلها تطمئنّ النعم وتسكن، كما أنّ بأضدادها تشمئزّ وتنفر.
ولما وفّق الله تعالى شرف الدّولة وزين الملّة أبا الفوارس، وصمصام الدّولة وشمس الملّة أبا كاليجار اعتقاد هذه الفضائل وإيثارها، والتّظاهر بها واستشعارها، ودعاهما مولاهما الطائع لله أمير المؤمنين إلى ما دعاهما إليه من التّعاطف والتآلف، والتّصافي والتّخالص، وأمر صمصام الدّولة أبا كاليجار بمراسلة شرف الدّولة أبي الفوارس في إحكام معاقد الأخوّة، وإبرام وثائق الألفة امتثل ذلك وأصغى إليه شرف الدّولة وزين الملّة أبو الفوارس: أصغى إليه شرف الدّولة إصغاء المستوثق المستصيب، وتقبّله تقبّل العالم اللّبيب، وأنفذ إلى باب أمير المؤمنين رسوله أبا نصر «خرشيد بن ديار بن مأفنة» بالمعروف من كفايته، والمشهور من اصطناع الملك السّعيد عضد الدّولة وتاج الملّة رضوان الله عليه له، وإيداعه إيّاه وديعة الإحسان التي يحقّ عليه أن يساوي في حفظها بين الجهتين، ويوازي في رعايتها بين كلا الفريقين.
فجرت بين صمصام الدّولة وشمس الملة أبي كاليجار وبينه مخاطبات استقرّت على أمور أتت المفاوضة عليها، وأثبت منها في هذه المواصفة ما احتيج إلى إثباته منها [أمر] (2) عامّ للفريقين، وقسمان يختصّ كلّ واحد منهما بواحد منهما.
__________
(1) أي الدروع.
(2) الزيادة يقتضيها السياق.(14/107)
فأما الأمر الذي يجمعهما عمومه، ويكتنفهما شموله، فهو: أن يتخالص شرف الدّولة وزين الملّة أبو الفوارس، وصمصام الدّولة وشمس الملّة أبو كاليجار في ذات بينهما، ويتصافيا في سرائر قلوبهما، ويرفضا ما كان جرّه عليهما سفهاء الأتباع: من ترك التّواصل، واستعمال التّقاطع، ويرجعا عن وحشة الفرقة، إلى أنس الألفة، وعن منقصة التّنافر والتّهاجر، إلى منقبة التّبارّ والتّلاطف، فيكون كلّ واحد منهما مريدا لصاحبه من الصّلاح مثل الذي يريده لنفسه، ومعتقدا في الذّبّ عن بلاده وحدوده مثل الذي يعتقده في الذّبّ عما يختصّ به، ومسرّا مثل ما يظهر: من موالاة وليّه، ومعاداة عدوّه، والمراماة لمن راماه، والمصافاة لمن صافاه فإن نجم على أحدهما ناجم، أو راغمه مراغم، أو همّ به حاسد، أو دلف إليه معاند، اتّفقا جميعا على مقارعته: قريبا كان أو بعيدا، وترافدا على مدافعته: دانيا كان أو قاصيا، وسمح كلّ منهما لصاحبه عند الحاجة إلى المواساة في ذلك في سائر أحداث الزّمان ونوبه، وتصاريفه وغيره، بما يتّسع ويشتمل عليه طوقه من مال وعدّة، ورجال ونجدة، واجتهاد وقدرة، لا يغفل أخ منهما عن أخيه، ولا يخذله ولا يسلمه، ولا يترك نصرته، ولا ينصرف عن مؤازرته ومظاهرته بحال من الأحوال التي تستحيل بها النّيّات: من إرغاب مرغب، وحيلة محتال، ومحاولة محاول، ولا يقبل أحدهما مستأمنا إليه من جهة صاحبه: من جنديّ، ولا عامل، ولا كاتب، ولا صاحب، ولا متصرّف في وجه من وجوه التصرفات كلّها، ولا يجير عليه هاربا، ولا يعصم منه مواربا، ولا يتطرّف له حسدا، ولا يتحيّفه حقّا، ولا يهتك له حريما، ولا يتناول منه طوفا (1)، ولا يخيف له سبيلا، ولا يتسبّب إلى ذلك بسبب باطن، ولا باعتلال ظاهر، ولا يدع موافقته، وملاءمته، ومعاونته ومظافرته في كلّ قول وفعل، وسرّ وجهر، على سائر الجهات، وتصرّف الحالات، ووجوه التّأويلات. يلتزم كلّ
__________
(1) الطّوف: الجدار ونحوه يقام حول قطعة من الأرض لحمايتها.(14/108)
واحد منهما ذلك لصاحبه التزاما على التماثل والتّعادل، والتّوازي والتّقابل.
وأما الأمر الذي يختصّ شرف الدّولة وزين الملّة به، ويلتزمه صمصام الدّولة وشمس الملّة له، فهو أن يقدّمه صمصام الدّولة وشمس الملّة على نفسه، ويعطيه ما أعطاه الله له من فضل سنّه، ويطيعه في كلّ ما أفاد الدّولة الجامعة لهما صلاحا، وهاض من عدوّهما جناحا، وعاد على وليّهما بعزّ، وعلى عدوّهما بذلّ، وأن يقيم صمصام الدّولة الدّعوة على منابر ما في يده من مدينة السّلام وسائر البلدان والأمصار، التي أحاطت بهما حقوقه، وضربت عليهما حدوده، لأمير المؤمنين ثم لشرف الدّولة وزين الملّة أبي الفوارس، ثم لنفسه، ويجري الأمر في نقش سكك دور الضّرب التي يطبع بها الدّينار والدّرهم في جميع هذه البلاد على المثال، ويوفّي صمصام الدّولة وشمس الملّة أبو كاليجار شرف الدّولة وزين الملّة أبا الفوارس في المكاتبات والمخاطبات حقّ التّعظيم، وشعار التّفخيم، على التّقرير بينه وبين خرشيد بن ديار بن مأفنة في ذلك.
وأما الأمر الذي يختصّ صمصام الدّولة وشمس الملة أبو كاليجار به، ويلتزمه شرف الدولة وزين الملّة أبو الفوارس له، فهو ترك التّعرّض لسائر ممالكه، وما يتّصل بها من حدودها الجارية معها، والإفراج منها عما يودّه ويسرع إليه أصحاب شرف الدولة وزين الملّة، وتجنّب التّحيّف لها أو لشيء من الحقوق الواجبة فيها، ومراعاته في الأمور التي يحتاج فيها إلى نظره وطوله، وإجماله وفضله، وما يجب على الأخ الأكبر مراعاة أخيه وتاليه فيه، ممّا ثبتت في هذه المواصفة جملته، واشتملت المفاوضة مع خورشيد بن ديار ابن مأفنة على تفصيله.
اتّفق شرف الدّولة وزين الملّة أبو الفوارس، وصمصام الدّولة وشمس الملّة أبو كاليجار، بأمر أمير المؤمنين الطائع لله، وعلى الاختيار منهما، والانشراح من صدورهما من غير إكراه ولا إجبار، ولا اصطبار ولا
اضطرار على الرّضا بذلك كلّه، والالتزام له، ويصير جميعه عهدا مرجوعا إليه، وعقدا معمولا عليه، وحلف كلّ منهما على ما يلتزمه من ذلك يمينا عقدها بأن يحلف صاحبها بمثلها، على ما يلتزمه منه. فقال صمصام الدّولة:(14/109)
اتّفق شرف الدّولة وزين الملّة أبو الفوارس، وصمصام الدّولة وشمس الملّة أبو كاليجار، بأمر أمير المؤمنين الطائع لله، وعلى الاختيار منهما، والانشراح من صدورهما من غير إكراه ولا إجبار، ولا اصطبار ولا
اضطرار على الرّضا بذلك كلّه، والالتزام له، ويصير جميعه عهدا مرجوعا إليه، وعقدا معمولا عليه، وحلف كلّ منهما على ما يلتزمه من ذلك يمينا عقدها بأن يحلف صاحبها بمثلها، على ما يلتزمه منه. فقال صمصام الدّولة:
والله الذي لا إله إلا هو (ويستتم اليمين).
النوع الثاني (ممّا يجري عقد الصّلح فيه بين ملكين مسلمين ما يكون العقد فيه من جانب واحد)
وللكتّاب فيه مذهبان:
المذهب الأوّل (أن يفتتح عقد الصّلح بلفظ: «هذا» كما في النوع السابق)
وهذه نسخة عقد صلح من ذلك، كتب بها أبو إسحاق الصّابي، بين الوزير أبي نصر سابور بن أزدشير (1)، والشّريفين: أبي أحمد الحسين بن موسى، وأبي الحسن محمد ابنه الرّضيّ، بما انعقد من الصّلح والصّهر بين الوزير المذكور، وبين النّقيب أبي أحمد الحسين وولده محمد، حين تزوّج ابنه محمد المذكور بنت سابور المذكور، وجعله على نسختين، لكلّ جانب نسخة، بعد البسملة ما صورته:
هذا كتاب لسابور بن أزدشير، كتبه له الحسين بن موسى الموسويّ، وولده محمد بن الحسين الموسويّ.
إنّا وإيّاك عندما وصله الله بيننا من الصّهر والخلطة، ووشجه من
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية بالزاي المعجمة وضبطه ابن خلكان بالراء المهملة. قال: وبعضهم يقول بالزاي. وسابور هذا كان وزير بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة بن بويه الديلمي.
توفي ببغداد سنة 416هـ. وكان قد تولى الوزارة سنة 380هـ. (وفيات الأعيان: 2/ 355، ومعجم الأنساب والأسرات الحاكمة: ص 325، ويتيمة الدهر: 3/ 124).(14/110)
الحال والمودّة آثرنا أن ينعقد بيننا وبينك ميثاق مؤكّد، وعهد مجدّد، تسكن النفوس إليهما، وتطمئنّ القلوب معهما، وتزداد الألفة بهما على مرّ الأيّام، وتعاقب الأعوام، ويكون ذلك أصلا مستقرّا نرجع جميعا إليه، ونعوّل ونعتمد عليه، وتتوارثه أعقابنا، وتتبعنا فيه أخلافنا.
فأعطيناك عهد الله وميثاقه، وما أخذه على على أنبيائه المرسلين، وملائكته المقرّبين، صلّى الله عليهم أجمعين، عن صدور منشرحة، وآمال في الصّلاح منفسحة أنّا نخلص لك جميعا وكلّ واحد منّا إخلاصا صحيحا يشاكل ظاهره باطنه، ويوافق خافيه عالنه، وأنّا نوالي أولياءك، ونعادي أعداءك، ونصل من وصلك، ونقطع من قطعك، ونكون معك في نوائب الزمان وشدائده، وفي فوائده وعوائده، وضمنّا لك ضمانا شهد الله بلزومه لنا، ووجوبه علينا، وأنا نصون الكريمة علينا، الأثيرة عندنا، فلانة بنت فلان أدام الله عزّها المنتقلة إلينا، كما تصان العيون بجفونها، والقلوب بشغافها، ونجريها مجرى كرائم حرمنا، ونفائس بناتنا، ومن تضمّه منازلنا وأوطاننا، ونتناهى في إجلالها وإعظامها، والتّوسعة عليها في مراغد عيشها وعوارض أوطارها، وسائر مؤنها ومؤن أسبابها، والنّهوض والوفاء بالحقّ الذي أوجبه الله علينا لها ولك فيها، فلا نعدم شيئا ألفته: من إشبال عليها، وإحسان إليها، وذبّ عنها، ومحاماة دونها، وتعهّد لمسارّها، وتوخّ لمحابّها، ونكون جميعا وكلّ واحد منا مقيمين لك ولها على جميع ما اشتمل عليه هذا الكتاب في حياتك أطالها الله وبعد الوفاة إن تقدّمتنا، وحوشيت من السّوء في أمورك كلّها، وأحوالك أجمعها.
ثم إنا نقول وكلّ واحد منا، طائعين مختارين، غير مكرهين ولا مجبرين، بعد تمام هذا العقد بيننا وبينك، ولزومه لنا ولك: والله الذي لا إله إلّا هو الطّالب الغالب، المدرك المهلك، الضّارّ النّافع، المطّلع على السّرائر، المحيط بما في الضمائر، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور، وحقّ محمد النّبيّ، وعليّ الرضيّ صلى الله عليهما وسلّم وشرّف
ذكرهما، وسادتنا الأئمّة الطيبين، الطاهرين، رحمة الله عليهم أجمعين، وحقّ القرآن العظيم، وما أنزل فيه من تحليل وتحريم، ووعد ووعيد، وترغيب وترهيب، لنفينّ لك يا سابور بن أزدشير، والكريمة الأثيرة ابنتك فلانة أحسن الله رعايتها بجميع ما تضمّنه هذا الكتاب، وفاء صحيحا، ولنلتزمنّ لك ولها شرائطه ووثائقه، فلا نفسخها، ولا ننقضها، ولا نتتبّعها، ولا نتعقّبها، ولا نتأوّل فيها، ولا نزول عنها، ولا نلتمس مخرجا ولا مخلصا منها، حتّى يجمعنا الموقف بين يدي الله، والمقدم على رحمة الله، ونحن يومئذ ثابتان عليها، ومؤدّيان للأمانة فيها، أداء يشهد الله تعالى به وملائكته يوم يقوم الأشهاد، ويحاسب العباد فإن نحن أخللنا بذلك أو بشيء منه، أو تأوّلنا فيه أو في شيء منه، أو أضمرنا خلاف ما نظهر، أو أسررنا ضدّ ما نعلن، أو التمسنا طريقا إلى نقضه، أو سبيلا إلى فسخه، أو ألممنا بإخفار ذمّة من ذممه، أو انتهاك حرمة من حرمه، أو حلّ عصمة من عصمه، أو إبطال شرط من شروطه، أو تجاوز حدّ من حدوده فالذي يفعل ذلك منّا يوم يفعله أو يعتقده، وحين يدخل فيه ويستجيزه بريء من الله جلّ ثناؤه، ومن نبوّة رسوله محمد، ومن ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلّى الله عليهما وسلّم، ومن القرآن الحكيم العظيم، ومن دين الله الصحيح القويم، ولقي الله يوم العرض عليه، والوقوف بين يديه، وهو به سبحانه مشرك، ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم مخالف، ولأهل بيته معاد، ولأعدائهم موال، وعليه الحجّ إلى بيت الله الحرام العتيق الذي بمكّة: راجلا، حافيا، حاسرا، وإماؤه عواتق، ونساؤه طوالق، طلاق الحرج والسّنّة، لا رجعة فيه ولا مثنويّة، وأمواله على اختلاف أصنافها محرّمة عليه، وخارجة عن يديه، وحبيسة في سبيل الله، وبرّأه الله من حوله وقوّته، وألجأه إلى حوله وقوّته.(14/111)
ثم إنا نقول وكلّ واحد منا، طائعين مختارين، غير مكرهين ولا مجبرين، بعد تمام هذا العقد بيننا وبينك، ولزومه لنا ولك: والله الذي لا إله إلّا هو الطّالب الغالب، المدرك المهلك، الضّارّ النّافع، المطّلع على السّرائر، المحيط بما في الضمائر، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور، وحقّ محمد النّبيّ، وعليّ الرضيّ صلى الله عليهما وسلّم وشرّف
ذكرهما، وسادتنا الأئمّة الطيبين، الطاهرين، رحمة الله عليهم أجمعين، وحقّ القرآن العظيم، وما أنزل فيه من تحليل وتحريم، ووعد ووعيد، وترغيب وترهيب، لنفينّ لك يا سابور بن أزدشير، والكريمة الأثيرة ابنتك فلانة أحسن الله رعايتها بجميع ما تضمّنه هذا الكتاب، وفاء صحيحا، ولنلتزمنّ لك ولها شرائطه ووثائقه، فلا نفسخها، ولا ننقضها، ولا نتتبّعها، ولا نتعقّبها، ولا نتأوّل فيها، ولا نزول عنها، ولا نلتمس مخرجا ولا مخلصا منها، حتّى يجمعنا الموقف بين يدي الله، والمقدم على رحمة الله، ونحن يومئذ ثابتان عليها، ومؤدّيان للأمانة فيها، أداء يشهد الله تعالى به وملائكته يوم يقوم الأشهاد، ويحاسب العباد فإن نحن أخللنا بذلك أو بشيء منه، أو تأوّلنا فيه أو في شيء منه، أو أضمرنا خلاف ما نظهر، أو أسررنا ضدّ ما نعلن، أو التمسنا طريقا إلى نقضه، أو سبيلا إلى فسخه، أو ألممنا بإخفار ذمّة من ذممه، أو انتهاك حرمة من حرمه، أو حلّ عصمة من عصمه، أو إبطال شرط من شروطه، أو تجاوز حدّ من حدوده فالذي يفعل ذلك منّا يوم يفعله أو يعتقده، وحين يدخل فيه ويستجيزه بريء من الله جلّ ثناؤه، ومن نبوّة رسوله محمد، ومن ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلّى الله عليهما وسلّم، ومن القرآن الحكيم العظيم، ومن دين الله الصحيح القويم، ولقي الله يوم العرض عليه، والوقوف بين يديه، وهو به سبحانه مشرك، ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم مخالف، ولأهل بيته معاد، ولأعدائهم موال، وعليه الحجّ إلى بيت الله الحرام العتيق الذي بمكّة: راجلا، حافيا، حاسرا، وإماؤه عواتق، ونساؤه طوالق، طلاق الحرج والسّنّة، لا رجعة فيه ولا مثنويّة، وأمواله على اختلاف أصنافها محرّمة عليه، وخارجة عن يديه، وحبيسة في سبيل الله، وبرّأه الله من حوله وقوّته، وألجأه إلى حوله وقوّته.
وهذه اليمين لازمة لنا، وقد أطلق كلّ واحد منا بها لسانه، وعقد عليها ضميره والنّية في جميعها نيّة فلان بن فلان، لا يقبل الله من كلّ واحد منّا إلا الوفاء بها، والثّبات عليها، والالتزام بشروطها، والوقوف على حدودها،
وكفى بالله شهيدا، وجازيا لعباده ومثيبا. وذلك في يوم كذا، من شهر كذا، من سنة كذا.(14/112)
وهذه اليمين لازمة لنا، وقد أطلق كلّ واحد منا بها لسانه، وعقد عليها ضميره والنّية في جميعها نيّة فلان بن فلان، لا يقبل الله من كلّ واحد منّا إلا الوفاء بها، والثّبات عليها، والالتزام بشروطها، والوقوف على حدودها،
وكفى بالله شهيدا، وجازيا لعباده ومثيبا. وذلك في يوم كذا، من شهر كذا، من سنة كذا.
المذهب الثاني (أن يفتتح عقد الصّلح بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» وربّما كرّر فيها التحميد إعلاما بعظيم موقع النّعمة)
وهذه نسخة عقد صلح كتب بها أبو الحسين أحمد بن سعد عن بعض الأمراء لمن كان (1)
ونصّها على ما ذكره في «كتاب البلاغة» (2) في الترسل، بعد البسملة:
الحمد لله الذي خلق العباد بقدرته، وكوّن الأمور بحكمته، وصرّفها على إرادته. لم يلطف عنه خفيّ، ولا امتنع عنه قويّ ابتدع الخلائق على اختلاف فطرها، وتباين صورها، من غير مثال احتذاه، ولا رسم اقتفاه، وأيّدهم بنعمته، فيما ركبه فيهم من الأدوات الدّالّة على ربوبيّته، الناطقة بوحدانيّته، واكتفوا بالمعرفة به جلّ جلاله بخبر العقول، وشهادة الأفهام، ثم استظهر لهم في التّبصرة، وغلبهم في الحجّة، برسل أرسلها، وآيات بيّنها، ومعالم أوضحها، ومنارات لمسالك الحقّ رفعها، وشرع لهم الإسلام دينا وارتضاه واصطفاه، وفضّله واجتباه، وشرّفه وأعلاه، وجعله مهيمنا على الدّين كلّه، وقدّر العزّ لحزبه وأهله، فقال جلّ جلاله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ََ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} * (3)
وأيّده بأنبيائه الدّاعين إليه، والنّاهجين لطرقه، والهادين لفرائضه، والمخبرين عن شرائعه، قرنا بعد قرن، وأمّة بعد أمّة، في فترة بعد فترة (4)،
__________
(1) بياض بالأصل.
(2) لعله «كتاب البلاغة» لأبي العباس المبرّد، الأديب اللغوي المتوفى سنة 285هـ. (الذليل على كشف الظنون: 279).
(3) التوبة / 33.
(4) الفترة هي المدّة من الزمن تفصل بين نبيّين.(14/113)
وبيّنة بعد بيّنة، حتّى انتهى تقديره جلّ جلاله أن بعث النّبيّ الأمّيّ، الفاضل الزّكيّ، الذي قفّى به على الرّسل، ونسخ بشريعته شرائع الملل، وبدينه أديان الأمم، على حين تراخي فترة، وترامي حيرة فأباخ (1) به نيران الفتن بعد اضطرامها، وأضاء به سبل الرّشاد بعد إظلامها، على علم منه تعالى ذكره بما وجده عنده من النّهوض بأعباء الرّسالة، والقيام بأداء الأمانة، فأزاح بذلك العلّة، وقطع المعذرة، ولم يبق للشّاكّ موضع شبهة، ولا للمعاند دعوى مموّهة، حتى مضى حميدا تشهد له آثاره، وتقوم بتأييد سنّته أخباره، قد خلّف في أمّته، ما أصارهم به إلى عطف الله ورحمته، والنّجاة من عقابه وسخطه، إلّا من شقي بسوء اختياره، وحرم الرّشاد بخذلانه، صلّى الله عليه وعلى آله الطيبين أفضل صلاة وأتمّها، وأوفاها وأعمّها.
والحمد لله الذي خصّ سيدنا الأمير بالتّوفيق، وتوحّده بالإرشاد والتّسديد، في جميع أنحائه، ومواقع آرائه، وجعل همّته (إذ كانت الهمم منصرفة إلى هشيم الدّنيا وزخارفها، التي يتحلّى بها الأبناء وتدعوها إلى نفسها) مقصورة على ما يجمع له رضا ربّه، وسلامة دينه، واستقامة أمور مملكته، وصلاح أحوال رعيّته، وأيّده في هذه الحال المعارضة، والشّبهة الواقعة، التي تحار في مثلها الآراء، وتضطرب الأهواء، وتتنازع خواطر النفوس، وتفتلج وساوس الصّدور، ويخفى موقع الصّواب، ويشكل منهج الصّلاح بما اختار له من السّلم والموادعة، والصّلح والموافقة، الذي أخبر الله تعالى في كتابه على فضله، والخير الذي في ضمنه، بقوله جلّ وعزّ:
{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (2) وقوله جلّ ذكره: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهََا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ} (3) حتّى أصبح السّيف مغمودا، ورواق الأمن ممدودا، والأهواء
__________
(1) أي أسكنها وأطفأها.
(2) النساء / 128.
(3) الأنفال / 61.(14/114)
متّفقة، والقلوب مؤتلفة، والكلمة مجتمعة، ونيران الفتن والضّلالة خامدة، وظنون بغاتها والسّاعين لها كاذبة، وطبقات الأولياء والرّعيّة بما أعيد إليهم من الأمنة تعقب الخيفة، والأنسة من بعد الوحشة مستبشرة، وإلى الله عزّ وجلّ في إطالة بقاء الأمير وإدامة دولته، وحراسة نعمته وتثبيت وطأته راغبين، وفي مسالمته مخلصين. ولو لم يكن السّلم في كتاب الله مأمورا به، والصّلح مخبرا عن الخير الذي فيه، لكان فيما ينتظم به: من حقن الدّماء، وسكون الدّهماء، ويجمع من الخلال المحمودة، والفضائل الممدودة، المقدّم ذكرها ما حدا عليه، ومثّل للعقول السّليمة والآراء الصّحيحة موضع الخير فيه، وحسن العائدة على الخاصّ والعامّ به، فيما يتجلّى للعيون، من مشتبهات الظّنون، إذ الدّين واقع، والشّكّ جانح بين المحقّ والمبطل، والجائر والمقسط. وقد قال الله جلّ ثناؤه: {وَلَوْلََا رِجََالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسََاءٌ مُؤْمِنََاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) ناظرا للمسلمين من معرّة أو مضرّة تلحق بعضهم بغير علم، ومؤثرا تطهيرهم من ظنّ العدوان، مع رفعه عنهم فرطات النّسيان، وكافّا أيدي المسلمين عن المشركين، كما كفّ أيديهم عن المسلمين، تحنّنا على بريّته، وإبقاء على أهل معصيته، إلى أن يتمّ لهم الميقات الذي أدناه، والأمر الذي أمضاه، وموقع الحمد في عاقبته، والسّلامة في خاتمته، وبلّغهم من غاية البقاء أمدها، ومن مرافق العيش أرغدها، مقصورة أيدي النّوائب عما خوّله، ومعصومة أعين الحوادث عما نوّله، إنه جواد ماجد.
قلت: وعلى هذا المذهب كتب عقد الصّلح بين السّلطان الملك النّاصر أبي السّعادات «فرج» بن السّلطان الملك الظّاهر «برقوق»، وبين المقام الشّريف القطبيّ تيمور كوركان (2) صاحب ماوراء النّهر، بعد طروقه
__________
(1) الفتح / 25.
(2) هو تيمور لنك، أو تيمور كوخان، قطب الدين. استولى على بلاد ماوراء النهر سنة 771هـ.
(معجم الأنساب والأسرات الحاكمة لزامباور: ص 401).(14/115)
الشّام وفتحه دمشق وتحريقها وتخريبها، وإرسال كتابه في معنى طلب الصّلح، وإرسال الأمير أطلمش لزمه، المأسور (1) في الدّولة الظاهريّة «برقوق» صحبة الخواجا نظام الدين مسعود الكججاني. جهّز ذلك إليه قرين كتاب من الأبواب السلطانية صحبة الخواجا مسعود المذكور، والأمير شهاب الدين بن أغلبك، والأمير قانبيه، في جمادى الأولى (2) سنة خمس وثمانمائة، بإشارة المقرّ الفتحيّ صاحب ديوان الإنشاء الشريف، من إنشاء الشيخ زين الدّين طاهر، ابن الشيخ بدر الدين حبيب الحلبيّ، أحد كتّاب الدّست الشّريف بالأبواب السلطانية، وهو مكتوب في قطع (3)
بقلم (4) وفي طرّته ما صورته:
«مرقوم (5) شريف جليل عظيم، مبجّل مكرّم جميل نظيم، مشتمل على عقد صلح افتتحه المقام الشريف، العاليّ، القطبيّ، نصرة الدّين، تيمور كوركان، زيدت عظمته، يكون بينه وبين المقام الشريف، السّلطان، المالك، الملك النّاصر أبي السّعادات «فرج» بن السلطان الشّهيد، الملك الظّاهر أبي سعيد «برقوق» خادم الحرمين الشريفين، خلّد الله تعالى
__________
(1) قال الخطيب الصيرفي في نزهة النفوس، في أحداث سنة 805هـ: «وفي يوم الخميس ثالث جمادى الاخرة، سافر الأمير أطلمش الذي كان محبوسا في قلعة مصر مدة عشر سنين من أيام الظاهر وكان تمرلنك كلما يبعث رسلا إلى الديار المصرية يطلب هذا الرجل فلما وقع له ما وقع، استولى على البلاد أعني بلاد الروم وكسر ابن عثمان، وبعث رسلا كبيرهم يدعى الخواجا مسعود إلى الديار المصرية وطلب أطلمش المذكور، وذكر أنه متى وصل إليه يخلي هذه البلاد ويذهب إلى بلاده، وحلف على ذلك. فقدمت رسله في أول جمادى الأول منها، وجهّز أطلمش بعد ما أنعم عليه بجملة قماش ونفقات مستكثرة، فخرج مع الرسل في التاريخ المذكور وكان رحيلهم من الريدانية يوم الخميس المذكور وخروجهم من القاهرة يوم الثلاثاء مستهل جمادى الآخرة منها». (نزهة النفوس والأبدان: 2/ 159158).
(2) في نزهة النفوس «جمادى الآخرة». انظر الحاشية السابقة.
(3) بياض في الأصل.
(4) بياض في الأصل.
(5) أي كتاب.(14/116)
ملكه، انعقد بمباشرة السّفير عن المقام الشريف القطبيّ، المشار إليه ووكيله في ذلك، الخواجا نظام الدّين مسعود الكججاني، بشهادة من حضر صحبته من العدول بالتوكيل المذكور، على حكم إشارة مرسله إليه ومضمون مكاتبته، وقصده تجهيز الأمير أطلمش لزمه، وحلف المقام القطبيّ على الموافاة والمصافاة، واتّحاد المملكتين، وإجراء الأمور على السّداد، وعمل مصالح العباد والبلاد».
والبياض ثلاثة أوصال بوصل الطّرّة، والبسملة في أوّل الوصل الرابع بهامش عن يمينها، وتحت البسملة سطر، ثم بيت العلامة، والسّطر الثاني بعد بيت العلامة. والعلامة بجليل الثّلث بالذّهب ما صورته: «الله أملي».
ونسخة المكتوب بعد البسملة ما صورته:
الحمد لله الذي جعل الصّلح خير ما انعقدت عليه المصالح، والإصلاح بين النّاس أولى ما اتّصلت به أسباب المناجح، وأحقّ ما نطقت به ألسن المحامد وأثنت عليه أفواه المدائح.
نحمده على نعمه التي جمعت أشتات القلوب الطوائح، وأضافت إلى ضياء الشّمس نور القمر فاهتدى بهما كلّ غاد ورائح، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبلّغ قائلها أهنى المنائح، وتتعطّر مجالس الذّكر بعرف روائحها الرّوائح، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من آخى بين المتحاكمين فنصح لله ورأى الصّلح من أعظم النّصائح، وأكمل رسول انقادت لأخلاقه الرّضيّة، وصفاته المرضيّة، جوانح النّفوس الجوانح، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى ما اجتمعت عليه آراء أولي الألباب، وركنت إليه قلوب ذوي المعرفة من أهل المودّة والأحباب ائتلاف القلوب بعد اختلافها، واتصافها بالتّلبّس بأحسن أوصافها، والعمل على الصّلح الذي هو أصلح للناس، وأربح متاجر الدّنيا والآخرة وأدفع لليأس والباس، إذ هو مفتاح أبواب الخيرات الشّاملة، ومصباح مناهج الفكر الصّحيحة الكاملة،
والدّاعي إلى كلّ فعل جميل، والسّاعي بكلّ قول هو شفاء صدى الغليل ونجاة من داء العليل.(14/117)
وبعد، فإنّ أولى ما اجتمعت عليه آراء أولي الألباب، وركنت إليه قلوب ذوي المعرفة من أهل المودّة والأحباب ائتلاف القلوب بعد اختلافها، واتصافها بالتّلبّس بأحسن أوصافها، والعمل على الصّلح الذي هو أصلح للناس، وأربح متاجر الدّنيا والآخرة وأدفع لليأس والباس، إذ هو مفتاح أبواب الخيرات الشّاملة، ومصباح مناهج الفكر الصّحيحة الكاملة،
والدّاعي إلى كلّ فعل جميل، والسّاعي بكلّ قول هو شفاء صدى الغليل ونجاة من داء العليل.
ولمّا كان المقام الشّريف، العاليّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، المؤيديّ، المظفّريّ، الملجئيّ، الملاذيّ، الوالديّ، القطبيّ، نصرة الدّين، ملجأ القاصدين، ملاذ العابدين، قطب الإسلام والمسلمين، تيمور كوركان، زيدت عظمته هو الباديء بإحياء هذه السّنّة الحسنة، والحادي إلى العمل بمقتضى مفاوضته الشريفة التي هي لذلك متضمّنة، الواردة إلى حضرة عبد الله ووليّه، السّلطان المالك، الملك النّاصر، زين الدّنيا والدّين، أبي السّعادات «فرج» بن السّلطان الشّهيد الملك الظّاهر، أبي سعيد «برقوق» خادم الحرمين الشّريفين خلّد الله تعالى ملكه على يد سفير حضرته، المجلس السّاميّ، الشّيخيّ، النّظاميّ، مسعود الكججانيّ، المؤرّخة بمستهلّ شهر ربيع الأوّل سنة تاريخه.
وجلّ مضمونها، وسرّ مكنونها قصد إيقاع الصّلح الشريف بين المشار إليهما، ونسج المودّة والمحبّة والمصادقة بينهما، وإسبال رداء محاسنها عليهما، بمقتضى تفويض المقام الشّريف القطبيّ المشار إليه الأمر في الصّلح المذكور إلى الشّيخ نظام الدّين مسعود المذكور، وتوكيله إيّاه فيه، وإقامته مقام نفسه الشّريفة، وجعل قوله من قوله، وأنّه عظّم الله تعالى شأنه أشهد الله العظيم عليه بذلك، وأشهد عليه من يضع خطّه من جماعته المجهّزين صحبة الشّيخ نظام الدّين مسعود المذكور، وهما: الشّيخ بدر الدّين أحمد بن الشّيخ الإمام العالم شمس الدين محمد بن الجزريّ الشّافعي، والصّدر الأجلّ كمال الدّين كمال أغا (1)، وأنّ ذلك صدر عن المقام الشريف القطبيّ المشار إليه، لموافقته على الصّلح الشريف، وإجابة
__________
(1) الأغا: من التركية «أغمق» ومعناه: الكبر وتقدم السن: وقيل إنها من الفارسية «أقا».
تطلق في التركية على الرئيس والقائد وشيخ القبيلة، وعلى الخادم والخصيّ الذي يؤذن له بدخول غرف النساء. (تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل: ص 17).(14/118)
القصد فيه بإطلاق الأمير أطلمش لزم المقام القطبيّ المشار إليه، وتجهيزه إلى حضرته العالية، وأنّه عاهد الله عزّ وجلّ بحضور جمّ غفير من أمراء دولته وأكابرها، ومن حضر مجلسه، باليمين الشّرعية الجامعة لأشتات الحلف:
بالله الذي لا إله إلا هو ربّ البريّة وباريء النّسم، على ذلك جميعه، وعلى أنه لا يدخل إلى البلاد الداخلة في مملكة مولانا السّلطان الملك النّاصر المشار إليه، وأنّه مهما عاهد وصالح وعاقد عليه الشّيخ نظام الدّين مسعود الوكيل المذكور يقضي به المقام القطبيّ المشار إليه، ويمضيه ويرتضيه، وانفصل الأمر على ذلك.
فعند ما وقف مولانا السّلطان الملك النّاصر المشار إليه خلّد الله تعالى ملكه على المكاتبة الشّريفة المشار إليها، وتفهّم مضمونها، ورأى أن المصلحة في الصّلح: تبرّكا بما ورد في كتاب الله عزّ وجلّ، وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم استخار الله عزّ وجلّ، وأمر بتجهيز الأمير أطلمش المذكور، وتسليمه للشّيخ نظام الدّين مسعود المذكور، وأذن لهما في التّوجّه إلى حضرة المقام الشريف القطبيّ المشار إليه: بموافقة مولانا أمير المؤمنين المتوكّل على الله أدام الله تعالى أيّامه على ذلك، وحضور الشّيخ الإمام الفرد الأوحد، شيخ الإسلام، سراج الدّين، عمر البلقينيّ أعاد الله تعالى على المسلمين من بركاته وقضاة القضاة الحكّام أعزّ الله تعالى أحكامهم ومشايخ العلم الشّريف والصّلاح، وأركان الدّولة الشّريفة، ومن يضع خطّه في هذا الصّلح الشّريف بالشهادة بمضمونه.
وعقد الصّلح الشريف بين مولانا السّلطان الملك الناصر المشار إليه خلّد الله تعالى ملكه وبين الشّيخ نظام الدّين مسعود الوكيل المذكور عن المقام الشّريف القطبيّ المشار إليه زيدت عظمته على حكم مضمون مفاوضته الشريفة المقدّم ذكرها، وما قامت به البيّنة الشّرعية، بشهادة العدلين المذكورين الواصلين صحبة الوكيل المذكور بالتّوكيل المشروح فيه، فكان صلحا صحيحا شرعيّا، تامّا كاملا معتبرا مرضيّا، على أحسن الأمور وأجملها، وأفضل الأحوال وأكملها.
وحلف مولانا السّلطان الملك النّاصر المشار إليه خلّد الله ملكه وعاهد الله عزّ وجلّ نظير ما حلف وعاهد عليه المقام الشّريف القطبيّ المشار وإليه من القول والعمل، واستقرّت بمشيئة الله تعالى الخواطر، وسرّت القلوب وقرّت النّواظر، لما في ذلك من حفظ ذمام العهود الشريفة، وإقامة منار الشّرع الشريف وامتداد ظلال أعلامه الوريفة، وإجراء كلمة الصّدق، على لسان أهل الحقّ، وصون أمانة الله تعالى وشعار دينه بين الخلق، فلا يتغيّر عقد هذا الصّلح الشريف على مدى الليالي والأيام، ولا ينقضي حكمه ولا ينحلّ إبرامه على توالي السّنين والأعوام.(14/119)
وعقد الصّلح الشريف بين مولانا السّلطان الملك الناصر المشار إليه خلّد الله تعالى ملكه وبين الشّيخ نظام الدّين مسعود الوكيل المذكور عن المقام الشّريف القطبيّ المشار إليه زيدت عظمته على حكم مضمون مفاوضته الشريفة المقدّم ذكرها، وما قامت به البيّنة الشّرعية، بشهادة العدلين المذكورين الواصلين صحبة الوكيل المذكور بالتّوكيل المشروح فيه، فكان صلحا صحيحا شرعيّا، تامّا كاملا معتبرا مرضيّا، على أحسن الأمور وأجملها، وأفضل الأحوال وأكملها.
وحلف مولانا السّلطان الملك النّاصر المشار إليه خلّد الله ملكه وعاهد الله عزّ وجلّ نظير ما حلف وعاهد عليه المقام الشّريف القطبيّ المشار وإليه من القول والعمل، واستقرّت بمشيئة الله تعالى الخواطر، وسرّت القلوب وقرّت النّواظر، لما في ذلك من حفظ ذمام العهود الشريفة، وإقامة منار الشّرع الشريف وامتداد ظلال أعلامه الوريفة، وإجراء كلمة الصّدق، على لسان أهل الحقّ، وصون أمانة الله تعالى وشعار دينه بين الخلق، فلا يتغيّر عقد هذا الصّلح الشريف على مدى الليالي والأيام، ولا ينقضي حكمه ولا ينحلّ إبرامه على توالي السّنين والأعوام.
هذا: على أن لا يدخل أحد من عساكرهما وجندهما ومماليكهما إلى حدود مملكة الآخر، ولا يتعرّض إلى ما يتعلّق به من ممالك وقلاع، وحصون وسواحل وموان وغير ذلك من سائر الأنواع، ورعاياهما من جميع الطوائف والأجناس، وما هو مختصّ ببلاد كلّ منهما ومعروف به بين الناس: حاضرها وباديها، وقاصيها ودانيها، وعامرها وغامرها، وباطنها وظاهرها، ولا إلى من فيها من الرّعيّة والتّجّار والمسافرين، وسائر الغادين والرّائحين في السّبل والطّرق: متفرّقين ومجتمعين.
هذا على أن يكون كلّ من المقامين الشّريفين المشار إليهما مع الآخر على أكمل ما يكون في السّرّاء والضّرّاء: من حسن الوفاء، وجميل المودّة والصّفاء، ويكونا في الاتحاد كالوالد والولد، وعلى المبالغة في الامتزاج والاختلاط كروحين في جسد، مع ما يضاف إلى ذلك من مصادقة الأصدقاء، ومعاداة الأعداء، ومسالمة المسالمين، ومحاربة المحاربين، في السّرّ والإعلان، والظّهور والكتمان وبالله التّوفيق، وهو العالم بما تبدي الأعين وما تخفي الصّدور، وعليه التّكلان (1) في كلّ الأمور، في الغيبة والحضور، والورود والصّدور.
__________
(1) التّكلان: التوكل والاعتماد: والتاء فيه أصلها واو. (المعجم الوسيط ولسان العرب: مادة وكل).(14/120)
الباب السادس من المقالة التاسعة (في الفسوخ الواردة على العقود السابقة وفيه فصلان)
الفصل الأوّل (الفسخ وهو ما وقع من أحد الجانبين دون الآخر)
قال في «التعريف»: وقلّ أن يكون فيه إلا ما يبعث به على ألسنة الرّسل. قال: وقد كتب عمّي الصاحب شرف الدّين [أبو محمد] (1) عبد الوهّاب رحمه الله، سنة دخول العساكر الإسلامية ملطية (2)، سنة أربع عشرة وسبعمائة فسخا على «التكفور» متملك سيس (3)، كان سببا لأن زاد قطيعته.
ولم يذكر صورة ما كتبه في ذلك.
وقد جرت العادة أنه إذا كان الفسخ من الجانب الواحد أن يذكر الكاتب فيه موجب الفسخ الصادر عن المفسوخ عليه: من ظهور ما يوجب نقض العهد، ونكث العقد، وإقامة الحجّة على المفسوخ عليه من كل وجه.
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية عن «التعريف» لابن فضل الله العمري.
(2) مدينة في تركية. سمّاها الروم «ميليتين». وكانت من أجلّ الثغور الإسلامية أمام الروم.
وهي إلى الجنوب من سيواس. (الأعلاق الخطيرة: 3/ 836حاشية).
(3) سيس أو سيسيّة: مدينة في تركية في إيالة «أطنة» وهي بلدة كبيرة ذات قلعة بأسوار ثلاثة على جبل مستطيل. (المصدر السابق).(14/121)
قال في «التعريف»: والذي أقول فيه: إنه إن كتب فيه، كتب بعد البسملة:
هذا ما استخار الله تعالى فيه فلان، استخارة تبيّن له فيها غدر الغادر، وأظهر له بها سرّ الباطن ما حقّقه الظّاهر فسخ فيها على فلان ما كان بينه وبينه من المهادنة التي كان آخر الوقت الفلانيّ آخر مدّتها، وطهّر السيوف الذّكور (1)
فيها من الدّماء إلى انقضاء عدّتها، وذلك حين بدا منه من موجبات النّقض، وحلّ المعاقدة التي كانت يشدّ بعضها ببعض (وهي كذا وكذا، وتذكر وتعدّ) مما يوجب كلّ ذلك إخفار الذّمّة، ونقض العهود المرعيّة الحرمة، وهدّ قواعد الهدنة، وتخلية ما كان قد أمسك من الأعنّة كتب إنذارا، وقدّم حذارا وممن يشهد بوجوب هذا الفسخ، ودخول ملّة تلك الهدنة في حكم هذا النّسخ، ما تشهد به الأيّام، ويحكم به عليه النّصر المكتتب للإسلام وكتب هذا الفسخ عن فلان لفلان وقد نبذ إليه عهده، وأنجز وعده، وأنفذ إليه سهمه بعد أن صبر مليّا على ممالاته، وأقام مدّة يداري مرض وفائه ولا ينجح فيه شيء من مداواته، ولينصرنّ الله من ينصره، ويحذر من يأمن مكره من يحذره وأمر فلان بأن يقرأ هذا الكتاب على رؤوس الأشهاد، لينقل مضمونه إلى البلاد، أنفة من أمر لا يتأدّى به الإعلان، وينصب به هذا الغادر لواء لا يقال إذا يقال: هذا اللّواء لغدرة فلان بن فلان.
__________
(1) سيف ذكر: قوي قاطع.(14/122)
الفصل الثاني المفاسخة وهي ما يكون من الجانبين جميعا
قال في «التعريف»: وصورة ما يكتب فيها: هذا ما اختاره فلان وفلان من فسخ ما كان بينهما من المهادنة التي هي إلى آخر مدّة كذا. اختارا فسخ بنائها، ونسخ أنبائها، ونقض ما أبرم من عقودها، وأكّد من عهودها، جرت بينهما على رضا من كلّ منهما بإيقاد نار الحرب التي كانت أطفئت، وإثارة تلك الثّوائر التي كانت كفيت، نبذاه على سواء بينهما، واعتقاد من كلّ منهما، أن المصلحة في هذا لجهته، وأسقط ما كان يحمله للآخر من ربقته، ورضي فيه بقضاء السّيوف، وإمضاء أمر القدر والقضاء في مساقات الحتوف، وقد أشهدا عليهما بذلك الله وخلقه ومن حضر، ومن سمع ونظر، وكان ذلك في تاريخ كذا وكذا.(14/123)
المقالة العاشرة في فنون من الكتابة يتداولها الكتّاب وتتنافس في عملها، ليس لها تعلّق بكتابة الدّواوين السلطانية ولا غيرها وفيها بابان
الباب الأوّل في الجدّيّات وفيه [ستة] (1) فصول.
الفصل الأوّل في المقامات
وهي جمع مقامة بفتح الميم وهي في أصل اللّغة اسم للمجلس والجماعة من الناس. وسمّيت الأحدوثة من الكلام مقامة، كأنها تذكر في مجلس واحد يجتمع فيه الجماعة من الناس لسماعها. أما المقامة بالضّم، فبمعنى الإقامة، ومنه قوله تعالى حكاية عن أهل الجنّة: {الَّذِي أَحَلَّنََا دََارَ الْمُقََامَةِ مِنْ فَضْلِهِ} (2).
واعلم أن أوّل من فتح باب عمل المقامات، علّامة الدّهر، وإمام الأدب، البديع الهمذانيّ (3): فعمل مقاماته المشهورة المنسوبة إليه، وهي
__________
(1) في الأصل «خمسة» والتصحيح بما يناسب المعدود.
(2) فاطر / 35.
(3) هو أحمد بن الحسين بن يحيى الهمذاني، أبو الفضل، الشهير ببديع الزمان. توفي سنة 398 هـ. (انظر ترجمته في وفيات الأعيان، ودائرة المعارف الإسلامية ويتيمة الدهر ومعجم الأدباء).(14/124)
في غاية من البلاغة، وعلوّ الرّتبة في الصّنعة. ثم تلاه الإمام أبو محمد القاسم الحريريّ (1)، فعمل مقاماته الخمسين المشهورة، فجاءت نهاية في الحسن، وأتت على الجزء الوافر من الحظّ، وأقبل عليها الخاصّ والعامّ، حتّى أنست مقامات البديع وصيرّتها كالمرفوضة. على أن الوزير ضياء الدّين بن الأثير في «المثل السّائر» لم يوفّه حقّه، ولا عامله بالإنصاف، ولا أجمل معه القول، فإنه قد ذكر أنه ليس له يد في غير المقامات، حتّى ذكر عن الشيخ أبي محمد أحمد بن الخشّاب أنه كان يقول: إن الحريريّ رجل مقامات، أي إنّه لم يحسن من الكلام المنثور سواها، فإن أتى بغيرها فلا يقول شيئا. وذكر أنه لما حضر بغداد، ووقف على مقاماته، قيل: هذا يستصلح لكتابة الإنشاء في ديوان الخلافة، ويحسن أثره فيه، فأحضر وكلّف كتابة كتاب فأفحم، ولم يجر لسانه في طويله ولا قصيره، حتّى قال فيه بعضهم:
شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان وفي ... بغداد أضحى الملجوم بالخرس (2)!
__________
(1) هو القاسم بن علي بن محمد بن الحريري المتوفى سنة 516هـ. (انظر ترجمته في وفيات الأعيان وخزانة البغدادي ومعاهد التنصيص ودائرة المعارف الإسلامية).
(2) نسب ابن خلكان هذين البيتين إلى الشاعر البغدادي أبي القاسم علي بن أفلح. ثم استدرك قائلا: وقيل هما لأبي محمد بن أحمد المعروف بابن جكينا الحريمي البغدادي الشاعر المشهور. وروى البيت الثاني على النحو التالي:
أنطقه الله بالمشان كما ... رماه وسط الديوان بالخرس
وكان الحريريّ يزعم أنه من «ربيعة الفرس»، وكان مولعا بنتف لحيته عند الفكرة، وكان يسكن في مشان (بليدة فوق البصرة). وإذا كان بعض المتقدمين لم ينصفوا الحريري لأسباب مختلفة، فإن البعض الآخر عرفوا قدره ولم يبخسوه حقه. وقد قال عنه ابن خلكان:
«ومن عرف مقاماته حق معرفتها استدلّ بها على فضل هذا الرجل وكثرة اطلاعه وغزارة مادته» كما أن المتأخرين احتفلوا بآثاره احتفالا كبيرا، وخاصة المقامات، فقال عنه «دي ساسى»: «ولما نشر الحريري مقاماته اتّهم بالانتحال والسرقة غير أن هذه الشبهة لم تلازمه طويلا. وقليلة هي المؤلفات التي عرفت ذلك القدر الكبير من الشروحات والتعليقات كما عرفت مقامات الحريري». (انظر وفيات الأعيان: 4/ 6665ومقدمة دي ساسي لطبعته الأولى من مقامات الحريري (بالفرنسية) ودائرة المعارف الإسلامية: 4/ 181).(14/125)
واعتذر عنه بأن المقامات مدارها جميعها على حكاية تخرج إلى مخلص، بخلاف المكاتبات فإنها بحر لا ساحل له، من حيث أن المعاني تتجدّد فيها بتجدّد حوادث الأيام، وهي متجدّدة على عدد الأنفاس.
وهذه المقامة التي قدّمت الإشارة إليها في خطبة هذا الكتاب، إلى أنّي كنت أنشأتها في حدود سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، عند استقراري في ديوان الإنشاء بالأبواب الشريفة، وأنها اشتملت مع الاختصار على جملة جمّة من صناعة الإنشاء، ووسمتها ب «الكواكب الدّرّيّة، في المناقب البدريّة» ووجّهت القول فيها لتقريظ المقرّ البدريّ، بن المقرّ العلائيّ، بن المقرّ المحيويّ، بن فضل الله، صاحب ديوان الإنشاء (1) بالأبواب السلطانية بالدّيار المصرية يومئذ، جعلت مبناها على أنه لا بدّ للإنسان من حرفة يتعلّق بها، ومعيشة يتمسّك بسببها، وأن الكتابة هي الحرفة التي لا يليق بطالب العلم سواها، ولا يجوز له العدول عنها إلى ما عداها، مع الجنوح فيها إلى تفضيل كتابة الإنشاء وترجيحها، وتقديمها على كتابة الدّيونة (2) وترشيحها.
__________
(1) كان ذلك في أيام سلطنة الظاهر برقوق بن آنص، أول سلاطين المماليك الجراكسة. وقد توفي القاضي بدر الدين يوم الثلاثاء، العشرين من شوال سنة 796هـ بمدينة دمشق. وفيه يقول الخطيب الصيرفي: «وكان له النظم الرائق، واللفظ الفائق، والإنشاء البديع، والسيرة الحسنة مع القريب والبعيد، والتصانيف الجليلة المفيدة لا سيما في الإنشاء، وانفرد بالكلمة المقبولة، وتعصّب لجماعة فأفلحوا، وحط على جماعة فما نتجوا». وفي قوله «تعصّب لجماعة فأفلحوا» ما يشير ربما إلى مساعدته لكاتبنا القلقشندي والأخذ بيده، الأمر الذي أشار إليه القلقشندي نفسه، والمقامة المذكورة هي من باب عرفان الجميل من قبل صاحب الصبح لاستاذه القاضي بدر الدين راجع مقدمتنا لهذا الكتاب في الجزء الأول. (انظر أيضا: نزهة النفوس والأبدان: 1/ 394390344والنجوم الزاهرة: 12/ 141140).
(2) أي الكتابة الديوانية، وهو استعمال كان شائعا في ذلك العصر. والمراد بكتابة الديونة: كتابة الأموال.(14/126)
وقد اشتملت على بيان ما يحتاج إليه كاتب الإنشاء من الموادّ، وما ينبغي أن يسلكه من الجوادّ، مع التّنبيه على جملة من المصطلح بيّنت مقاصده، ومهّدت قواعده، على ما ستقف عليه في خلال مطاويها إن شاء الله تعالى وهي:
حكى النّاثر ابن نظّام، قال: لم أزل من قبل أن يبلغ بريد عمري مركز التّكليف، ويتفرّق جمع خاطري بالكلف بعد التّأليف أنصب لاقتناص العلم أشراك التّحصيل، وأنزّه توحيد الاشتغال عن إشراك التّعطيل، مشمّرا عن ساق الجدّ ذيل الاجتهاد، مستمرّا على الوحدة وملازمة الانفراد، أنتهز فرصة الشّباب قبل تولّيها، وأغتنم حالة الصّحّة قبل تجافيها قد حالف جفني السّهاد، وخالف طيب الرّقاد، أمرّن النّفس على الاشتغال كي لا تملّ فتنفر عن الطّلب وتجمح، مميلا جانب قصدها عن ركوب الأهواء والميل إليها، صارفا وجه غايتها عن المطالب الدّنيويّة والرّكون إليها، متخيّرا أليق الأماكن وأوفق الأوقات، قانعا بأدنى العيش راضيا بأيسر الأقوات، أونس من شوارد العقول وحشيّها، وأشرّد عن روابض المنقول حوشيّها، وألتقط ضالّة الحكمة حيث وجدتها، وأقيّد نادرة العلم حيث أصبتها، مقدّما من العلوم أشرفها، ومؤثرا من الفنون ألطفها، معتمدا من ذلك ما تألفه النفس ويقبله الطّبع، مقبلا منه على ما يستجلي حسنه النّظر ويستحلي ذكره السّمع، منتقيا من الكتب أمتعها تصنيفا، وأتمّها تحريرا وأحسنها تأليفا، منتخبا من أشياخ الإفادة أوسعهم علما وأكثرهم تحقيقا، ومن أقران المذاكرة أروضهم بحثا وألطفهم تدقيقا، عارفا لكلّ عالم حقّه، وموفّيا لكلّ علم مستحقّه قد استغنيت بكتابي عن خلّي ورفيقي، وآثرت بيت خلوتي على شفيقي وشقيقي أجوب فيافي الفنون لتظهر لي طلائع الفوائد فأشهدها عيانا، وأجول في ميدان الأفكار لتلوح لي كمائن المعاني فلا أثني عنها عنانا، وأشنّ غارات المطالعة على كتائب الكتب فأرجع بالغنيمة، وأهجم على حصون الدّفاتر ثم لا أولّي عن هزيمة، بل كلّما لاحت لي فئة من البحث تحيّزت إليها، أو ظهرت لي
كتيبة من المعاني حملت عليها، إلى أن أتيح لي من الفتح ما أفاضته النّعمة، وحصلت من الغنيمة على ما اقتضته القسمة.(14/127)
حكى النّاثر ابن نظّام، قال: لم أزل من قبل أن يبلغ بريد عمري مركز التّكليف، ويتفرّق جمع خاطري بالكلف بعد التّأليف أنصب لاقتناص العلم أشراك التّحصيل، وأنزّه توحيد الاشتغال عن إشراك التّعطيل، مشمّرا عن ساق الجدّ ذيل الاجتهاد، مستمرّا على الوحدة وملازمة الانفراد، أنتهز فرصة الشّباب قبل تولّيها، وأغتنم حالة الصّحّة قبل تجافيها قد حالف جفني السّهاد، وخالف طيب الرّقاد، أمرّن النّفس على الاشتغال كي لا تملّ فتنفر عن الطّلب وتجمح، مميلا جانب قصدها عن ركوب الأهواء والميل إليها، صارفا وجه غايتها عن المطالب الدّنيويّة والرّكون إليها، متخيّرا أليق الأماكن وأوفق الأوقات، قانعا بأدنى العيش راضيا بأيسر الأقوات، أونس من شوارد العقول وحشيّها، وأشرّد عن روابض المنقول حوشيّها، وألتقط ضالّة الحكمة حيث وجدتها، وأقيّد نادرة العلم حيث أصبتها، مقدّما من العلوم أشرفها، ومؤثرا من الفنون ألطفها، معتمدا من ذلك ما تألفه النفس ويقبله الطّبع، مقبلا منه على ما يستجلي حسنه النّظر ويستحلي ذكره السّمع، منتقيا من الكتب أمتعها تصنيفا، وأتمّها تحريرا وأحسنها تأليفا، منتخبا من أشياخ الإفادة أوسعهم علما وأكثرهم تحقيقا، ومن أقران المذاكرة أروضهم بحثا وألطفهم تدقيقا، عارفا لكلّ عالم حقّه، وموفّيا لكلّ علم مستحقّه قد استغنيت بكتابي عن خلّي ورفيقي، وآثرت بيت خلوتي على شفيقي وشقيقي أجوب فيافي الفنون لتظهر لي طلائع الفوائد فأشهدها عيانا، وأجول في ميدان الأفكار لتلوح لي كمائن المعاني فلا أثني عنها عنانا، وأشنّ غارات المطالعة على كتائب الكتب فأرجع بالغنيمة، وأهجم على حصون الدّفاتر ثم لا أولّي عن هزيمة، بل كلّما لاحت لي فئة من البحث تحيّزت إليها، أو ظهرت لي
كتيبة من المعاني حملت عليها، إلى أن أتيح لي من الفتح ما أفاضته النّعمة، وحصلت من الغنيمة على ما اقتضته القسمة.
فبينا أنا أرتع في رياض ما نفّلت، وأجتني ثمار ما خوّلت، إذ طلع عليّ جيش التّكليف فحصرني، وخرج عليّ كمين التّكليف فأسرني، فأمسيت في أضيق خناق، وأشدّ وثاق، قد عاقني قيد الاكتساب عن الاشتغال، وصدّني كلّ الكدّ عن الاهتمام بالطّلب والاحتفال، فغشيني من القبض ما غشيني، وأخذني من الوحشة ما أخذني، وتعارض فيّ حكم العقل بين الكسب وطلب العلم، وتساويا في التّرجيح فلم تجنح واحدة منهما إلى السّلم، فصرت مدهوشا لا أحسن صنعا، وبقيت متحيّرا لا أدري أيّ الأمرين أقرب إليّ نفعا:
إن طلبت العلم للكسب فقد أفحشت رجوعا، وإن تركت الكسب للعلم هلكت ضيعة ومتّ جوعا.
فلما علمت أنّ كلّا منهما لا يقوم إلا بصاحبه، ولا يتمّ الواجب في أحدهما ما لم يقم في الآخر بواجبه، التمست كسبا يكون للعلم موافقا، وبحملته لائقا، ليكون ذلك الكسب للعلم موضوعا والعلم عليه محمولا، والجمع ولو بوجه أولى، فجعلت أسبر المعايش سبر متقصّد وأسير في فلوات الصّنائع سير متعهّد، لكي أجد حرفة تطابق أربي، أو صنعة تجانس طلبي.
فبينما أنا أسير في معاهدها، وأردّد طرفي في مشاهدها، إذ رفع لي صوت قرع سمعي برنّته، وأخذ قلبي بحنّته، فقفوت أثره متّبعا، وملت إليه مستمعا، فإذا رجل من أحسن الناس شكلا، وأرجحهم عقلا، وهو يترنّم وينشد:
إن كنت تقصدني بظلمك عامدا ... فحرمت نفع صداقة الكتّاب
السّائقين إلى الصّديق ثرى الغنى ... والنّاعشين لعثرة الأصحاب
والنّاهضين بكلّ عبء مثقل ... والنّاطقين بفصل كلّ خطاب
والعاطفين على الصّديق بفضلهم ... والطّيّبين روائح الأثواب
ولئن جحدتهم الثّناء فطالما ... جحد العبيد تفضّل الأرباب!
فلما سمعت منه ذلك، وأعجبني من الوصف ما هنالك، دنوت منه دنوّ الواجل، وجلست بين يديه جلوس السّائل، وقلت: هذه وأبيك صفات الملوك بل ملوك الصّفات، وأكرم الفضائل بل أفضل المكرمات ولم أك أظنّ أنّ للكتابة هذا الخطر الجسيم، وللكتّاب هذا الحظّ العظيم فأعرض مغضبا، ثم فوّق بصره إليّ معجبا، وقال: هيهات فاتك الحزم، وأخطأك العزم إنها لمن أعظم الصّنائع قدرا، وأرفعها ذكرا نطق القرآن الكريم بفضلها، وجاءت السّنّة الغرّاء بتقديم أهلها، فقال تعالى جلّ ثناؤه، وتباركت أسماؤه: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسََانَ مََا لَمْ يَعْلَمْ} (1)
فأخبر تعالى أنه علّم بالقلم، حيث وصف نفسه بالكرم، إشارة إلى أن تعليمها من جزيل نعمه، وإيذانا بأن منحها من فائض ديمه وقال جلّت قدرته: {ن وَالْقَلَمِ وَمََا يَسْطُرُونَ مََا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (2) فأقسم بالقلم وما سطّرته الأقلام، وأتى بذلك في آكد قسم فكان من أعظم الأقسام. وقال تقدّست عظمته: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحََافِظِينَ كِرََاماً كََاتِبِينَ} (3) فجعل الكتابة من وصف الكرام، كما قد جاء فعلها عن جماعة من الأنبياء عليهم السّلام وإنما منعها النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، معجزة قد بيّن تعالى سببها، حيث ذكر إلحادهم بقوله: {وَقََالُوا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهََا} (4).(14/128)
إن كنت تقصدني بظلمك عامدا ... فحرمت نفع صداقة الكتّاب
السّائقين إلى الصّديق ثرى الغنى ... والنّاعشين لعثرة الأصحاب
والنّاهضين بكلّ عبء مثقل ... والنّاطقين بفصل كلّ خطاب
والعاطفين على الصّديق بفضلهم ... والطّيّبين روائح الأثواب
ولئن جحدتهم الثّناء فطالما ... جحد العبيد تفضّل الأرباب!
فلما سمعت منه ذلك، وأعجبني من الوصف ما هنالك، دنوت منه دنوّ الواجل، وجلست بين يديه جلوس السّائل، وقلت: هذه وأبيك صفات الملوك بل ملوك الصّفات، وأكرم الفضائل بل أفضل المكرمات ولم أك أظنّ أنّ للكتابة هذا الخطر الجسيم، وللكتّاب هذا الحظّ العظيم فأعرض مغضبا، ثم فوّق بصره إليّ معجبا، وقال: هيهات فاتك الحزم، وأخطأك العزم إنها لمن أعظم الصّنائع قدرا، وأرفعها ذكرا نطق القرآن الكريم بفضلها، وجاءت السّنّة الغرّاء بتقديم أهلها، فقال تعالى جلّ ثناؤه، وتباركت أسماؤه: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسََانَ مََا لَمْ يَعْلَمْ} (1)
فأخبر تعالى أنه علّم بالقلم، حيث وصف نفسه بالكرم، إشارة إلى أن تعليمها من جزيل نعمه، وإيذانا بأن منحها من فائض ديمه وقال جلّت قدرته: {ن وَالْقَلَمِ وَمََا يَسْطُرُونَ مََا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (2) فأقسم بالقلم وما سطّرته الأقلام، وأتى بذلك في آكد قسم فكان من أعظم الأقسام. وقال تقدّست عظمته: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحََافِظِينَ كِرََاماً كََاتِبِينَ} (3) فجعل الكتابة من وصف الكرام، كما قد جاء فعلها عن جماعة من الأنبياء عليهم السّلام وإنما منعها النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، معجزة قد بيّن تعالى سببها، حيث ذكر إلحادهم بقوله: {وَقََالُوا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهََا} (4).
هذا: وقد كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في كثرة الكتّاب راغبا فقد روي أنه كان له عليه أفضل الصّلاة والسّلام نيّف وثلاثون كاتبا، هم نخبة أصحابه، وخلاصة
__________
(1) العلق / 543.
(2) القلم / 21.
(3) الانفطار / 10.
(4) الأنعام / 25.(14/129)
أترابه ومن ائتمنهم على أسرار الوحي والتّنزيل، وخاطب بألسنة أقلامهم ملوك الأرض فأجابوا بالإذعان على البعد والمدى الطّويل وكتب الملوك أيضا إليه ابتداء وجوابا، وكاتب أصحابه وكاتبوه فأحسن استماعا وأفحم خطابا، وبذلك جرت سنّة الخلفاء الراشدين فمن تلاهم، وعلى نهجه مشت ملوك الإسلام ومن ضاهاهم.
فالكتابة قانون السّياسة، ورتبتها غاية رتب الرّياسة عندها تقف الإنافة، وإليها تنتهي مناصب الدّنيا بعد الخلافة والكتّاب عيون الملوك المبصرة وآذانهم الواعية، وألسنتهم النّاطقة وعقولهم الحاوية، بل محض الحقّ الذي لا تدخله الشّكوك وإن الملوك إلى الكتّاب أحوج من الكتّاب إلى الملوك وناهيك بالكتابة شرفا، وأعل بذلك رتبة وكفى، أنّ صاحب السّيف والعلم يزاحم الكاتب في قلمه، ولا يزاحم الكاتب صاحب السّيف والعلم في سيفه وعلمه.
وعلى الجملة فهم الحاوون لكلّ وصف جميل، وشأن نبيل الكرم شعارهم، والحلم دثارهم، والجود جادّتهم، والخير عادتهم، والأدب مركبهم، واللّطف مذهبهم ولله القائل:
وشمول كأنّما اعتصروها ... من معاني شمائل الكتّاب!
فلما انقضى قيله، وبانت سبيله، قلت: لقد ذكرت قوما راقني وصفهم، وشاقني لطفهم، ودعاني طيب حديثهم، وحسن أوصافهم، وجميل نعوتهم، إلى أن أحلّ بناديهم وأنزل بواديهم، فأجعل حرفتهم كسبي، وصنعتهم دأبي، ليجتمع بالعلم شملي، ويتّصل بالاشتغال حبلي، فأكون قد ظفرت بمنيتي، وفزت ببغيتي، فأي قبيل من الكتّاب أردت؟ وإلى أيّ نوع من الكتابة أشرت؟ أكتابة الأموال؟ أم كتابة الإنشاء والخطابة؟، أم غيرهما من أنواع الكتابة؟ فنظر إليّ متبسّما، وأنشد مترنّما:
قوم إذا أخذوا الأقلام من غضب ... ثم استمدّوا بها ماء المنيّات
نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ... ما لم ينالوا بحدّ المشرفيّات!
فقلت: كأنّك تريد كتابة الإنشاء دون سائر الكتابات، وهي التي تقصدها بالتّصريح وتشير إليها بالكنايات فقال: وهل في أنواع الكتابة جملة نوع يساويها، أو في سائر الصّنائع على الإطلاق صنعة تضاهيها؟ إنّ لها للقدح المعلّى، والجيد المحلّى، والذّروة المنيفة، والرّتبة الشّريفة كتّابها أسّ الملك وعماده، وأركان الملك وأطواده، ولسان المملكة النّاطق، وسهمها المفوّق الرّاشق ولله حبيب بن أوس الطّائيّ (1) حيث يقول:(14/130)
قوم إذا أخذوا الأقلام من غضب ... ثم استمدّوا بها ماء المنيّات
نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ... ما لم ينالوا بحدّ المشرفيّات!
فقلت: كأنّك تريد كتابة الإنشاء دون سائر الكتابات، وهي التي تقصدها بالتّصريح وتشير إليها بالكنايات فقال: وهل في أنواع الكتابة جملة نوع يساويها، أو في سائر الصّنائع على الإطلاق صنعة تضاهيها؟ إنّ لها للقدح المعلّى، والجيد المحلّى، والذّروة المنيفة، والرّتبة الشّريفة كتّابها أسّ الملك وعماده، وأركان الملك وأطواده، ولسان المملكة النّاطق، وسهمها المفوّق الرّاشق ولله حبيب بن أوس الطّائيّ (1) حيث يقول:
ولضربة من كاتب ببنانه ... أمضى وأقطع من رقيق حسام!
قوم إذا عزموا عداوة حاسد ... سفكوا الدّما بأسنّة الأقلام!
قلمها يبلّغ الأمل، ويغني عن البيض والأسل به تصان المعاقل، وتفرّق الجحافل:
فلكم يفلّ الجيش وهو عرمرم ... والبيض ما سلّت من الأغماد!
فقلت: إن كتّاب الأموال يزعمون أن لهم في ذلك المقام الأعلى، والطّريقة المثلى، ويستشهدون لفضلها، وتقدّم أهلها، بقول الإمام أبي محمد القاسم الحريريّ، رحمه الله، في مقاماته (2):
«إنّ صناعة الحساب مبنيّة (3) على التّحقيق، وصناعة الإنشاء مبنيّة على التّلفيق، وقلم الحاسب ضابط، وقلم المنشيء خابط (4) وبين إتاوة توظيف المعاملات، وتلاوة طوامير السّجلّات، بون لا يدركه قياس، ولا يعتوره التباس إذ الإتاوة تملأ الأكياس، والتّلاوة تفرّغ الرّاس، وخراج
__________
(1) هو أبو تمام، الشاعر الأشهر وأحد أمراء البيان. توفي سنة 231هـ.
(2) في المقامة الثانية والعشرين المعروفة ب «الفرانيّة».
(3) في طبعة «دي ساسي»: موضوعة على التحقيق.
(4) من خبط: إذا مشى على غير هداية. ويقال: خبط عشواء، كما جاء في معلقة زهير.(14/131)
الأوارج (1)، يغني النّاظر، واستخراج المدارج، يعنّي الخاطر والحسبة (2)
حفظة الأموال، وحملة الأثقال والنّقلة الأثبات، والسفرة الثّقات وأعلام الإنصاف والانتصاف، والشّهود المقانع في الاختلاف (3) ومنهم المستوفي الذي هو يد السّلطان، وقطب الدّيوان وقسطاس الأعمال، والمهيمن على العمّال وإليه المآب في السّلم والهرج، وعليه المدار في الدّخل والخرج وبه مناط الضّرّ والنّفع، وفي يده رباط الإعطاء والمنع ولولا قلم الحسّاب، لأودت ثمرة الاكتساب، ولاتّصل التّغابن إلى يوم الحساب ولكان نظام المعاملات محلولا، وجرح الظّلامات مطلولا، [وجيد التّناصف مغلولا] (4)، وسيف التّظالم مسلولا على أنّ يراع الإنشاء متقوّل، ويراع الحساب متأوّل، والمحاسب مناقش، والمنشيء أبو براقش» (5).
فوصف كتابة الأموال بأتمّ الصّفات، ونبّه من شيم أهلها وشياتهم على أكرم الشّيم وأحسن الشّيات.
فقال: هذه الحجّة معارضة بمثلها، بل باطلة من أصلها وأين ذلك من قوله في صدر كلامه؟:
__________
(1) في شرح دي ساسي: خراج الأوراج يغني الناظر أي العامل وهو ناظر الديوان. والأوارج تعريب «أواره» بالفارسية. قال قدامة بن جعفر: تفسيرها الناقل، لأنه ينقل إليها «الأنجيذج» الذي يثبت فيه ما على كل إنسان ثم ينقل ذلك إلى جريدة الاستخراج، وهي عدة أوارجات. قال صاحب «البرهان القاطع»: أواره هو دفتر الحساب الذي يكتبون فيه ما كان مشتتا من حسابات الديوان. واليوم يقال لهذا الدفتر «أوارجه». وأنجيذج هو تعريب «أنجيده» بالفارسية، ومعناه ما تفتّت حتى صار قطعا. (مقامات الحريري: طبعة دي ساسي ص: 254).
(2) في المصدر السابق: «ثم إنّ الحسبة حفظة الأموال».
(3) في المصدر السابق: «في الأخلاف». والشهود المقانع هم الشهود العدول.
(4) الزيادة من المقامة الثانية والعشرين.
(5) أبو براقش: طائر يتلوّن ألوانا مختلفة في اليوم الواحد حتى قيل: «أحول من أبي براقش»، جعل مثلا في كل متلوّن ذي وجهين واسمه مشتق من البرقشة، وهي النقش والبرقش.(14/132)
«اعلموا أن صناعة الإنشاء أرفع، وصناعة الحساب أنفع وقلم المكاتبة خاطب، وقلم المحاسبة حاطب (1) وأساطير البلاغات تنسخ لتدرس، ودساتير الحسبانات تنسخ وتدرس (2) والمنشيء جهينة الأخبار (3)، وحقيبة الأسرار، ونجيّ العظماء، وكبير النّدماء وقلمه لسان أسرار (4)
الدّولة، وفارس الجولة، ولقمان الحكمة، وترجمان الهمّة وهو البشير والنّذير، والشّفيع والسّفير، به تستخلص الصّياصي (5)، وتملك النّواصي، ويقتاد العاصي، ويستدنى القاصي وصاحبه بريء من التّبعات، آمن كيد السّعاة، مقرّظ بين الجماعات، غير معرّض لنظم الجماعات» (6).
فهذه أرفع المراتب، وأشرف المناقب، التي لا يعتورها شين، ولا يشوبها مين وصدر الكلام يقتضي التّرجيح، ويؤذن بالتّرشيح والرّفع، أبلغ في الوصف من النّفع فقد ينتفع بالنّزر اليسير، ولا يرتفع إلا بالأمر الكبير، على أنّه لو اعتبر نفع كتابة الإنشاء لكان أبلغ، وإقامة الدّليل عليه أسوغ وأنّى لكتّاب الأموال، من التأثير في فلّ الجيوش من غير قتال، وفتح الحصون من غير نزال فهذه هي الخصّيصى (7) التي لا تساوى، والمنقبة التي لا تناوى:
__________
(1) أي يجمع بين الجيّد والرديء. من قولهم: «المكثار كحاطب الليل».
(2) أراد بنسخها هنا: محوها واستبدالها بسواها.
(3) ويروى أيضا «جفينة الأخبار». وهو المشار إليه في قولهم: «وعند جهينة الخبر اليقين».
(انظر جمهرة الأمثال للعسكري: 2/ 44ومجمع الأمثال للميداني: 2/ 3).
(4) هذا اللفظ ساقط من المقامات.
(5) الصياصي: الحصون.
(6) لنظم الجماعات: يعني جماعة مراسم أهل الأجناد وما تشتت من وجوه الدخل والخرج في البلاد. والمراد بنظمها عقد حسابها وإثباتها في كتابها. قال قدامة في كتاب الخراج:
الجماعات دفاتر الرسوم والمعاملات، منها جماعة القسمة، وجماعة أصناف الخراج، وجماعة العدد، وجماعة الاستخراج، وهي تنقل الى الدستور. (شرح دي ساسي لمقامات الحريري: 1/ 253).
(7) يقال: خصّ فلانا خصّا، وخصوصا، وخصوصيّة، وخصّيصى.(14/133)
تلك المكارم لا قعبان (1) من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا!
فقلت: الآن قد انقطعت الحجّة، وبانت المحجّة، فما الذي يحتاج كاتب الإنشاء إلى ممارسته؟ فقال: إذا قد تعلّقت من الصّنعة بأسبابها، وأتيت البيوت من أبوابها.
اعلم أن كاتب الإنشاء لا تظهر فصاحته، وتبين بلاغته، وتقوى يراعته، وتجلّ براعته، إلا بعد تحصيل جملة من العلوم، ومعرفة الاصطلاح والإحاطة بالرّسوم ثم أهمّ ما يبدأ بتحصيله، ويعتمد عليه في جملة الأمر وتفصيله، حفظ كتاب الله العزيز الذي هو معدن الفصاحة، وعنصر البلاغة، وإدامة قراءته وتكرير مثانيه، مع العلم بتفسيره وتدبّر معانيه، حتّى لا يزال دائرا على لسانه حاضرا في ذكره، ولا يبرح معناه ممثّلا في قلبه مصوّرا في فكره، ليكون مستحضرا له في الوقائع التي يحتاج إلى الاستشهاد به فيها، ويضطرّ إلى إقامة الأدلّة القاطعة عليها، فلله الحجّة البالغة، ولآياته الأجوبة الدّامغة خصوصا السّير والأحكام، وما يتعلّق بذلك من مهمّات الدّين وقواعد الإسلام، وما اشتمل عليه كلام النّبوّة من الألفاظ البديعة التي أبكمت الفصحاء، والمعاني الدّقيقة التي أعيت البلغاء مع النّظر في معانيها ومعرفة غريبها، والاطّلاع على ما للعلماء في ذلك من الأقوال بعيدها وقريبها، لتكون أبدا حجّته ظاهرة، وأدلّته قويّة متظاهرة فإنّ الدّليل إذا استند إلى النّصّ انقطع النّزاع وسلّم المدّعى ولزم والفصاحة والبلاغة غايتهما بعد كتاب الله تعالى في كلام من أوتي جوامع الكلم والعلم بالأحكام السّلطانيّة وفروعها، وخصوصها وشيوعها، والتّوغّل في أشعار العرب والمولّدين، وأهل الصّناعة من المحدثين، وما ورد عن كلّ فريق منهم من الأمثال نثرا ونظما، وما جرى بينهم من المحاورات والمناقضات حربا وسلما والتّعويل من ذلك على الأشعار البديعة التي اختارها العلماء بها،
__________
(1) القعب: القدح الضخم.(14/134)
فتمسّكوا بأوتادها وتعلّقوا بسببها، والأمثال الغريبة التي انتقوها، ودوّنوها ورووها، واستيضاح القسمين واستكشاف غوامضهما، واستظهار النّوعين واستمطار عوارضهما، والاطّلاع على خطب البلغاء، ورسائل الفصحاء، وما وقع لهم في مخاطباتهم، ومكاتباتهم، والعلم بأيّام العرب وحروبهم، وما كان من الوقائع بين قبائلهم وشعوبهم، والنّظر في التّواريخ وأخبار الدّول الماضية، والقرون الخالية، وسير الملوك وأحوال الممالك، ومعرفة مكايدهم في الحرب المنقذة من المهاوي والمنجية من المهالك، مع سعة الباع في اللّغة التي هي رأس ماله، وأسّ مقاله، وكنزه المعدّ للإنفاق، ومعينه بل مغيثه وقت الضّرورة على الإطلاق، والنّحو الذي هو ملح كلامه، ومسك ختامه، والتّصريف الذي تعرف به أصول أبنية الكلمة وأحوالها، وكيفيّة التّصرّف في أسمائها وأفعالها، وعلوم المعاني والبيان والبديع التي هي حلية لسانه، وآية بيانه، ومعرفة أبوابها وفصولها، وتحقيق فروعها وأصولها: من الفصاحة وطرائقها، والبلاغة ودقائقها، واختيار المعاني وترتيبها، ونظم الألفاظ وتركيبها، والفصل والوصل ومواقعهما، والتّقديم والتّأخير ومواضعهما ومواطن الحذف والإضمار، وحكم الرّوابط والأخبار، وغير ذلك من الحقيقة والمجاز، والبسط والإيجاز، والحلّ والعقد، وتمييز الكلام جيّده من رديّه بصحّة النّقد، مع معرفة أنواع البديع وطرائقها، والاطّلاع على غوامض أسرارها وفرائد دقائقها.
على أن آكد شيء يجب تحصيله قبل كلّ حاصل، ويستوي في الاحتياج إلى معرفته المفضول من الكتّاب والفاضل، العلم بالخطّ وقوانينه: من الهجاء والنّقط والشّكل، والفرق بين الضّاد والطّاء المتخالفين في الصّورة والشّكل، مع المعرفة بآلات الكتابة وصفاتها، وتباين أنواعها واختلاف صفاتها.
هذه أصوله التي يبنى عليها، وقواعده التي يرجع إليها فإذا أحاط بهذه الفنون علما، وأتقنها فهما، غزرت عنده الموادّ، واتّضحت له الجوادّ،
فأخذ في الاستعداد، وسهل عليه الاستشهاد فقال عن علم وتصرّف عن معرفة واستحسن ببرهان، وانتقد بحجّة وتخيّر بدليل وصاغ بترتيب وبنى على أركان، واتّسع في العبارة مجاله، وفتح له من باب الأوصاف أقفاله، وتلقّى كلّ واقعة بما يماثلها، وقابل كلّ قضيّة بما يشاكلها، وعلم المجيد فنسج على منواله، وظهر له القاصر فأعرض عن أقواله، وحصل له القوّة على فهم الخطاب، وأنشأ الجواب بحسب الوقائع والأعراض، على طبق المقاصد والأغراض ومتى أخلّ بشيء من ذلك فاتته الفضائل، وعلقت به الرذائل، وقلّت بضاعته، ونقصت صناعته، وساءت آثاره، وقبحت أخباره وخلط الغرر بالعرر، ولم يميّز بين الصّدف والدّرر، فأخرج الصّنعة عن أماكنها، وطمس من الكتابة وجوه محاسنها، فجرّ اللّوم إلى نفسه، وأمسى مهزأة لأبناء جنسه.(14/135)
هذه أصوله التي يبنى عليها، وقواعده التي يرجع إليها فإذا أحاط بهذه الفنون علما، وأتقنها فهما، غزرت عنده الموادّ، واتّضحت له الجوادّ،
فأخذ في الاستعداد، وسهل عليه الاستشهاد فقال عن علم وتصرّف عن معرفة واستحسن ببرهان، وانتقد بحجّة وتخيّر بدليل وصاغ بترتيب وبنى على أركان، واتّسع في العبارة مجاله، وفتح له من باب الأوصاف أقفاله، وتلقّى كلّ واقعة بما يماثلها، وقابل كلّ قضيّة بما يشاكلها، وعلم المجيد فنسج على منواله، وظهر له القاصر فأعرض عن أقواله، وحصل له القوّة على فهم الخطاب، وأنشأ الجواب بحسب الوقائع والأعراض، على طبق المقاصد والأغراض ومتى أخلّ بشيء من ذلك فاتته الفضائل، وعلقت به الرذائل، وقلّت بضاعته، ونقصت صناعته، وساءت آثاره، وقبحت أخباره وخلط الغرر بالعرر، ولم يميّز بين الصّدف والدّرر، فأخرج الصّنعة عن أماكنها، وطمس من الكتابة وجوه محاسنها، فجرّ اللّوم إلى نفسه، وأمسى مهزأة لأبناء جنسه.
ووراء ذلك علوم هي كالنافلة للكاتب، والزّيادة للرّاغب:
منها ما تكمل به صناعته، وتعظم به مكانته: كعلم الكلام، وأصول الفقه وسائر الأحكام، والمنطق والجدل، وأحوال الفرق والنّحل والملل، وعلم العروض والميزان المحكم، وعلم القوافي وحلّ المترجم والحساب المفتوح وما يترتّب عليه من المعاملة، وما تستخرج به المجهولات: من حساب الخطأين والدّرهم والدّينار والجبر والمقابلة، وحساب الدّور والوصايا، والتّخت والميل وما لأعماله على غيرها من المزايا، والعلم بالفلاحة، وأحوال المساحة، وعلم عقود الأبنية والمناظر المحقّقة، ومراكز الأثقال والمرايا المحرقة، وعلم جرّ الأثقال الأبيّة، والعلم بالآلات الحربيّة، وعلم المواقيت والبنكامات (1)، والتّقاويم
__________
(1) لفظ «بنكام» فارسي معرّب، أصله «بنكان» وهو الفنجان أو القدح عموما، وخصّه صاحب الصحاح بزجاج الساعات الرملية. وعلم البنكامات هو العلم الذي يدرس الآلات التي تعرف بواسطتها المواقيت، دون النظر إلى حركات الكواكب. والبنكامات منها الرملية، ومنها المائية، ومنها الدورية المعمولة بالدواليب يدير بعضها بعضا. وفي أيامنا هو علم صناعة «الساعات» التي تحدد المواقيت. (انظر كشف الظنون: 1/ 255، وتأصيل الدخيل:
160 - والأعلاق الخطيرة: 3/ 866حاشية عن الألفاظ الفارسية المعربة).(14/136)
والزّيجات، وعلم تسطيح الكرة والتّوصّل بها إلى استخراج المطالب الفلكيّة، وكيفية الأرصاد وأحكام النّجوم والآلات الظّلّيّة، وعلم الطّبّ والبيطرة، وأحوال سائر الحيوان وعلم البيزرة (1).
ومنها ما تكمل به ذاته، وتتمّ به أدواته، كعلم التّعبير وعلم الأخلاق وعلم السّياسة، وعلم تدبير المنزل وعلم الفراسة، وغير ذلك من العلوم التي أضربنا عن ذكرها خشية الإطالة، وأعرضنا عن إيرادها خوف الملالة فهذه علوم فضلة يعظم بعلمها أمره، وفضيلة يرتفع بتحصيلها ذكره بل لا يستغني عن العلم برؤوس مسائلها، وإشارات أربابها الآخذة من بحارها بأطراف سواحلها على أنّه قد ترد عليه أوقات لا يسعه جهل ذلك فيها، وتمرّ عليه أزمان يودّ لو تشترى فيشتريها.
قلت: قد بانت لي علومها، فما رسومها؟ قال: إن أعباءها لباهظة حملا، وإنها لكبيرة إلّا (2) ولكن سأحدث لك مما سألت ذكرا، وأنبّئك بما لم تحط به خبرا.
فمن ذلك: المعرفة بالولايات ولواحقها، على اختلاف مقاصدها وتباين طرائقها، من البيعات وأحكامها، والعهود وأقسامها، والتّقاليد وصفاتها، والتّفاويض ومضاهاتها، والمراسيم وأوضاعها، والتّواقيع
__________
(1) علم البيزرة هو علم يبحث فيه عن أحوال الجوارح من حيث حفظ صحتها وإزالة مرضها ومعرفة العلامات الدالة على قوتها في الصيد وضعفها فيه. واللفظ أساسا وضع للطائر المعروف بالبازيّ، ثم عمم على جميع الجوارح. (انظر كشف الظنون: 1/ 265).
(2) الإلّ: العهد.(14/137)
وأنواعها، والخطب ومناسباتها، والوصايا ومطابقاتها، ثم العلم بالمناشير ومراتبها، والمربّعات الجيشيّة (1) ومعايبها، ومعرفة رتب المكاتبات وطبقاتها، ومن يستحقّ من الرّتب أدناها أو يستوجب الرّفع إلى أعلى درجاتها: من المكاتبات الصادرة عن الأبواب الشريفة الخليفتيّة، والمكاتبات الواردة عليها وعلى أرباب المناصب من سائر الآل والعترة النّبويّة، وملوك المسلمين والقانات، وملوك الكفر وأرباب الدّيانات، وأهل المملكة من النّوّاب والكشّاف والولاة، والأمراء والوزراء والعربان والقضاة، وسائر حملة الأقلام، وأهل الصّلاح وبقيّة الأعلام، ونساء الملوك والخوندات (2)، ومكاتبات التّجّار وما عساه يطرأ من المكاتبات المستجدّات، وكتب البشرى بوفاء النّيل والقدوم من الغزو والسّفر، واسترهاف العزائم، والبطائق المحمولة على أجنحة الحمائم، والملطّفات التي يضطرّ إليها، ويعوّل في الأمور الباطنة عليها، وأوراق الجواز في الطّرقات، والإطلاقات في التّسفير والمثالات المطلقات، ومعرفة الأوصاف التي يكثر في المكاتبات تكرارها، ويتّسق في جيد المراسلات إيرادها وإصدارها: كوصف الأنواء والكواكب، والأفلاك العليّة المراتب، والآلات الملوكية الجليلة المقدار، والسّلاح وآلات الحصار، والخيل المسوّمة، والجوارح المعلّمة، وجليل الوحش وسباعه، وطير الواجب (3) وأتباعه، والأمكنة والرّياض، والمياه والغياض، وغير ذلك مما يعزّ ويغلو، ويرتفع ويعلو وإخوانيّات المكاتبات وطبقاتها، وتميز كلّ طبقة منها عن أخواتها، وما تشتمل عليه من الابتداء والجواب، والتّشوّق والعتاب، والتّرفّق والاعتذار، والشّفاعة وطلب
__________
(1) هي مراسيم ومثالات تتعلق بالجيش تكتب في أوراق مربعة الشكل. (راجع الجزء 13من الصبح ص 155154).
(2) الخوند، بضم الخاء المعجمة وفتحها، لفظ فارسي معناه السيّد العظيم والأمير. استعملت في العربية لقبا بمعنى السيّد والسيّدة. (تأصيل الدخيل: 91).
(3) وهو حمام رسائلي. وسيأتي الكلام عليه في حديثه عن البريد.(14/138)
الصّفح والعفو عند الاقتدار، والتّهاني والتّعازي، وما يكتب مع الهديّة ويجاب عنها من المجازيّ وغير المجازي.
وغير ذلك من مقاصد المكاتبات التي يتعذّر حصرها، ويمتنع على المستقصي ذكرها ومعرفة الطّغراة (1) والطّرّة والعنوان والتّعريف، والعلامة في الكتب على أماكنها الفارقة بين انحطاط القدر والتّشريف، وتتريب الكتاب وطيّه وختمه، وتعمية ما في الكتب بضرب من الحيلة وإخفاء ذلك وكتمه، ونسخ الأيمان التي يستحلف بها، ويتمسّك للوفاء بسببها، كيمين البيعة العامّة للموافق والمخالف، وما يختصّ من ذلك بالنّوّاب وأرباب الوظائف، وأيمان أصحاب البدع والأهواء، وأهل الملل والحكماء، وكتابة الهدن والمواصفات، والأمانات والدّفن والمفاسخات، ومعرفة الأسماء والكنى والألقاب، وبيان المستندات ومحلّها المصطلح عليه بين الكتّاب وكتابة التّاريخ وما أخذت به كلّ طائفة وثابت إليه تمسّكا، وما يفتتح به في الكتابة تيمّنا ويختتم به تبرّكا ومعرفة قطع الورق: من كامل البغداديّ والشّاميّ والثّلثين والنّصف والثّلث والمنصوريّ والعادة، ومن يستحقّ من هذه المقادير أعلاها أو يوقف به مع أدنى رتبها من غير زيادة والأقلام المناسبة لهذه الأقدار، من الرّقاع والتّواقيع والثّلث ومختصر الطّومار والعلم بالأوضاع وكيفية الترتيب، ومقادير البياض ومباعدة ما بين السّطور والتقريب ومعرفة الرّزاديق (2) وقطّانها، والنّواحي والبلدان وسكّانها،
__________
(1) الطغراة عبارة عن وصل كان يوضع في مناشير الإقطاعات بين وصل الطرّة والبسملة، وترد فيه ألقاب السلطان. والطغراة والطغرى كلمة أعجمية استعملها العرب. أما الطرّة فهي الهامش الذي يترك في أعلى الكتاب، ولها قواعد وأصول. وتجدر الإشارة إلى أن جميع الموضوعات التي يوردها القلقشندي في مقامته هذه قد بسط القول فيها في كتابنا هذا على امتداد المقالات العشر، ذلك أن كتاب «الصبح» ما هو إلا توسيع وبسط لما جاء في هذه المقامة، على ما أشار إليه القلقشندي نفسه في مقدمته. لذلك لن نثقل هذا الجزء بالحواشي المتعلقة بما سبقت الاشارة إليه في الأجزاء السابقة.
(2) الرزاديق والرساتيق بمعنى واحد، وهي جمع رزداق ورستاق.(14/139)
والأمم وممالكها، وطرق الأقاليم ومسالكها، ومراكز البريد ومسافاتها، وأبراج الحمام ومطاراتها، وهجن الثّلج والسّفن المعدّة لنقله، والمحرقات المؤدّية إلى اجتياح العدوّ وتفريق شمله، والمناور وأماكنها، والقصّاد ومكامنها.
هذه رسومها على سبيل الإجمال، والإشارة إلى مصطلحاتها بأخصر الأقوال.
واعلم أنّ حسن الخطّ من الكتابة واسطة عقدها، وقوّة الملكة على السّجع والازدواج ملاك حلّها وعقدها، على أنّ خير الخطّ ما قري، وأحسن السّجع ما سلّم من التّكلّف وبري وللكتّاب في بحر الكتابة سبح طويل، وتفنّن يسفر عن كلّ وجه جميل.
قلت: فهل لهذه الرّتبة الرّئيسة، والمنقبة النّفيسة، سمط يلمّها، أو سلك يضمّها؟ فقال: سبحان الله: إن بيتها لأشهر من «قفانبك» (1)، وأظهر للعيان من شامخات جبال النّبك (2) أيخفى من البدر ضوءه الباهر، ونوره الزّاهر؟ إن ذلك لقاصر على «آل فضل الله» (3) حقّا، ومنحصر في المقرّ
__________
(1) مطلع قصيدة امرىء القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللّوى بين الدخول فحومل
(2) بين حمص ودمشق.
(3) تولت أسرة «فضل الله العمري» لأكثر من قرن من الزمان وظيفة صاحب ديوان الإنشاء، أو كاتب السر في دولتي المماليك البحرية والبرجية. وإلى أحد أفرادها، وهو شهاب الدين، يرجع الفضل في وضع المصطلح الشريف الخاص بأصول المكاتبات والمراسلات والألقاب وغيرها من أعمال ديوان الإنشاء. وقد تولى رئاسة ديوان الإنشاء من بين أفراد هذه الأسرة خمسة أشخاص هم على التوالي: القاضي شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله، والقاضي محيي الدين بن فضل الله ومعه ابنه القاضي شهاب الدين أحمد، ثم القاضي محيي الدين بن فضل الله ومعه ابنه القاضي علاء الدين، ثم القاضي علاء الدين بن محيي الدين بن فضل الله استقلالا، ثم القاضي بدر الدين محمد بن محيي الدين بن فضل الله (انظر: القلقشندي وكتابه صبح الأعشى: ص 107والألقاب الإسلامية: ص 4645).(14/140)
البدريّ صدقا فهو قطبها الذي تدور عليه، وابن بجدتها التي ترجع في علومها ورسومها وسائر أمورها إليه، فلو رآه «الفاضل عبد الرحيم» (1) لم ير لنفسه فضلا ولا رضي لفيه مقالا، أو عاينه «عبد الحميد الكاتب» لقال: هكذا هكذا وإلّا فلا لا، أو عاصره «قدامة» (2) لجلس قدّامه، أو أدركه «ابن قتيبة» لاتّخذه في «أدب الكاتب» شيخه وإمامه، أو بصر به «الصّابيّ» (3) لصبا إليه ومال، أو قارن زمانه «الحسن بن سهل» بل «الفضل» أخوه لأقام ببابه وما زال، أو جنح «ابن العديم» (4) إلى مناوأته لأدركه العدم، أو جرى «الصاحب ابن عبّاد» في مضمار فضله لكبا وزلّت به القدم، أو اطّلع «ابن مقلة» (5) على حسن خطّه لقال: هذا هو الجوهر الثّمين، أو نظر «ابن هلال» (6) إلى بهجة رونقه لقال: إنّ هذا لهو الفضل المبين إن تكلّم نفث سحرا، أو كتب خلت زهرا أو تخيّلت درّا.
يؤلّف اللّؤلؤ المنثور منطقه ... وينظم الدّرّ بالأقلام في الكتب!
قد علا نسبا، وفاق حسبا، وورث الفضل لا عن كلالة، واستحقّ الرّتبة بنفسه وإن كانت له بالأصالة:
فحيّهلا بالمكرمات وبالعلى ... وحيّهلا بالفضل والسّؤدد المحض!
__________
(1) هو القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، أحد أئمة الكتابة والإنشاء. توفي سنة 596هـ.
(2) هو قدامة بن جعفر: أحد الكتاب البلغاء الفصحاء المتقدمين في علم المنطق والفلسفة.
يضرب به المثل في البلاغة. توفي سنة 337هـ.
(3) هو أبو إسحاق الصابي، أحد أئمة الإنشاء والترسّل، توفي سنة 384هـ.
(4) لعل المقصود هو محمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله، المعروف بابن أبي جرادة، المتوفى سنة 628هـ. وكان من فضلاء النسّاخ. أو هو عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة، ويعرف أيضا بابن العديم، المتوفى سنة 660هـ. وكان من جلّة الكتاب. (انظر الأعلام).
(5) هو محمد بن علي المتوفى سنة 328هـ. وزير من الشعراء الأدباء، يضرب بحسن خطه المثل.
(6) هو نفسه ابن البوّاب، علي بن هلال المتوفى سنة 423هـ. كان خطاطا مشهورا،؟؟؟
طريقة ابن مقلة وكساها رونقا وبهجة.(14/141)
فلما سمعت ذلك زال عنّي الإلباس، وقلت: ذلك من فضل الله علينا وعلى النّاس. ثم قلت: أقسمت عليك بالذي تشير إليه، إلا تدلّني عليه، فقال: إنّه صفيّ الملك ونجيّه، وكاتب سرّه ووليّه، والقريب منه إذا بعدوا، والمخصوص بالمقام إذا طردوا، والموجّه إليه الخطاب إذا حضروا، والمستأثر بالورود إذا صدروا، والمتكلّم بلسان الملك إذا سكتوا، والناطق بفصل الخطاب إذا بهتوا، والصّائل بحسام لسانه وخطّيّ (1) قلمه، والحامي الممالك بجيوش سطوره وجند كلمه، والمشتّت شمل العدوّ ببديع ألفاظه ودقيق حكمه، والحائز قصب السّبق بكرم فضله وفضل كرمه، والمروي ظمأ الوافدين إليه بواكف وبله وفائض ديمه، والمجلي غياهب الظّلم بنيّر بدره ومضيء أنجمه:
فما زال بدرا في سماء سيادة ... يشار إليه في الورى بالأنامل
بسيط مساعي المجد يركب نجدة ... من الشّرف الأعلى وبذل الفواضل
إذا سال أعيى السّامعين جوابه ... وإن قال لم يترك مقالا لقائل
قلت: حسبك! قد دلّني عليه عرفه، وأرشدني إليه وصفه، وبان لي محتده الفاخر وحسبه الصّميم، وعرفت أصله الزّاكي وفرعه الكريم، {ذََلِكَ فَضْلُ اللََّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشََاءُ وَاللََّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} * (2).
ثم عرّجت إلى حماه، وملت إلى حيّه كي أراه، فإذا به قد برز تتلألأ أنواره، وتشرق بالجلالة أقماره قد علته الهيبة وغشيته السّكينة وحفّته الرياسة وجلّلته السعادة، وحكمت بعزّ منال قدره الأقدار كما اقتضته الإرادة.
__________
(1) الخطّيّ: الرمح المنسوب إلى الخطّ، وهو موضع ببلاد البحرين تنسب إليه الرماح الخطية لأنها تباع به.
(2) الحديد / 21.(14/142)
فلما رأيته استصغرت الرّتبة مع شرفها الباذخ في جانبه، وعلمت أن ما تقدّم من المدح لم يوفّ حقّه ولم يقم ببعض واجبه فغلبت هيبته إقدامي، وحالت حرمته بيني وبين مرامي، فقلت: إنا لله! قد فاتتني مآربي، ورجعت من فوري إلى صاحبي، فأظهرت له الأسف، وقصصت عليه القصّة قال: لا تخف إنها لمنقبة عمريّة، وأثرة عدويّة فالفاروق جدّه، وبنو عديّ قبيله وجنده (1).
هذا وإنّه لألطف وأرقّ من النّسيم السّاري، والماء الجاري، وأحيى من العذراء في خدرها، وأشفق من الوالدة إذا ضمّت ولدها إلى صدرها، وأحلم من «معن بن زائدة»، وإن كان أفصح من «قسّ بن ساعدة».
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فلا يكلّم إلا حين يبتسم!
بالعزائم الفاروقيّة فتحت الأمصار، وبالهيبة العمريّة أقرّ المهاجرون والأنصار ويشهد لذلك قصّة «ابن عبّاس» في العول (2) وسكوته في خلافة عمر وصمته، وجوابه بعد ذلك للقائل له: هلّا قلت ذلك في زمن عمر؟
بقوله: إنّه كان مهيبا فهبته كيف؟ وما سلك فجّا إلا وسلك الشّيطان فجّا غير فجّه وضاقت عليه الفجاج، ولم تماثل هيبته بهيبة غيره وإن عظمت سطوته حتى قال الشّعبيّ: إن درّة (3) عمر لأهيب من سيف الحجّاج وهو مع ذلك يلطف بالأرامل والمساكين، ويعين الفقراء والمحتاجين فقد اتضحت لك القضيّة، وتحقّقت أنها سمات إرثيّة.
__________
(1) ذكر ابن تغري بردي نسب ابن فضل الله العمري على النحو التالي: بدر الدين محمد ابن القاضي علاء الدين علي ابن القاضي محيي الدين يحيى بن فضل الله بن مجلّي بن دعجان بن خلف بن نصر بن منصور بن عبد الله بن علي بن محمد بن أبي بكر عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدويّ القرشيّ العمري المصري الشافعي. (النجوم الزاهرة:
12/ 140).
(2) العول في الحكم: الجور.
(3) الدّرّة: السوط يضرب به.(14/143)
فعند ذلك ذهب روعي، وقوي روعي (1) وقلت: فهل له أتباع من الكتّاب فأتعلق بحبالهم، وأتأسّى بهم في أقوالهم وأفعالهم؟ لكي أتّسم بسمة الكتّاب، وأثبت في جملة غلمان الباب، قال: أجل! رأس الدّست الشريف صنوه الكريم، وقسيمه في حسبه الصّميم به شدّ عضده، وقوي كتده (2)، فاجتمع الفضل له ولأخيه، وورثا سرّ أبيهما «والولد سرّ أبيه» ثم كتّاب ديوان الإنشاء جنده وأتباعه، وأولياؤه وأشياعه وكتّاب الدّست منهم أرفع في المقام (3)، وكتّاب الدّرج أجدر بالكتابة وصنعة الكلام.
قلت: القسم الثاني أليق بمقداري، وأقرب إلى أوطاري ثم ودّعت صاحبي شاكرا له على صنيعه وحامدا له على أدبه، وتركته ومضيت وكان ذلك آخر العهد به ثم عدت إليه هو فرفعت إليه قصّتي، وسألته الإسعاف بإجابة دعوتي، فقابلها بالقبول، وأنعم بالمسؤول، وقرّرني في كتابة الدّرج الشّريف، واكتفى بالعرف عن التّعريف وطابق الخبر الخبر، واستغنيت بالعيان عن الأثر ثم قمت عجلا، وأنشدت مرتجلا:
إذا ما بنو الفاروق في المجد أعرقوا، ... ونالوا بفضل الله ما لا كمثله
وجلّت دجى الظّلماء أنوار بدرهم، ... وعمّت بقاع الأرض أنواء فضله
تعالت ذرى العلياء فيهم وأنشدت: ... أبى الفضل إلّا أن يكون لمثله!
ثم تشرفت بتقبيل يده، ومضيت إلى ما أنا بصدده قد منعتني هيبتي من اللّياذ به والقرب إليه، وصيّرت عاطر مدحي وخالص أدعيتي وقفا عليه
__________
(1) أي قلبي.
(2) الكتد: مجتمع الكتفين من الإنسان والفرس أو الكاهل.
(3) ذلك أن كاتب الدّست يوقع على القصص التي يكتبها كاتب الدّرج، وليس لكاتب الدّرج إذن بالتوقيع.(14/144)
وصرت إلى الدّيوان، فوجدت قوما قد حفّهم الحسن وزانهم الإحسان فقلت: الحمد لله! هؤلاء فتية ذاك الكهف بلا امتراء، وأشبال ذاك الأسد من غير افتراء فجلست جلوس الغريب، وأطرقت إطراق الكئيب إذ كنت في هذه الصّنعة عصاميّا لا عظاميّا (1)، ومتهما لا تهاميّا غير أني تعلقت منها بحبال القمر، واستوقدت نارها من أصغر الشّرر فتلقّوني بالرّحب، وأحلّوني من ديوانهم بالمكان الرّحب، وقابلوني بالجميل قبل المعرفة، وعاملوني بالإحسان والنّصفة.
فلما رأيت ذلك منهم حمدت مسراي، وشكرت مسعاي، ودعوت لصاحبي أوّلا إذ حبّب صنعتهم إليّ وشاقني، ودلّني عليهم وساقني.
ولما تحققت أني قد أثبتّ في ديوانه، وكتبت من جملة غلمانه، رجعت القهقرى عن طلب الكسب، واستوى عندي المحل والخصب، واكتفيت بنظري إليه عن الطّعام والشّراب، وتيقّنت أن نظرة منه إليّ ترقّيني إلى السّحاب، وتلوت بلسان الصّدق على الملإ وهم يسمعون: {قُلْ بِفَضْلِ اللََّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذََلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمََّا يَجْمَعُونَ} (2).
وفيما تضمّنته هذه المقامة من فضل الكتابة وشرف الكتّاب مقنع من غيرها، ومغن عن سواها، والحمد لله والمنّة.
وهذه نسخة مقامة أنشأها أبو القاسم الخوارزميّ في لقائه لأديب يعرف بالهيتيّ، وانقطاعه في البحث، وغلبة الخوارزميّ له. أوردها ابن حمدون في «تذكرته» وهي:
وصيّة لكلّ لبيب، متيقّظ أريب، عالم أديب، يكره مواقف السّقطات،
__________
(1) العصاميّ من ساد بشرف نفسه، ويقابله العظاميّ وهو من ساد بشرف آبائه.
(2) يونس / 58.(14/145)
ويتحفّظ من مصادف الغلطات، ويتلطّف من مخزيات الفرطات، أن يدّعي دون مقامه، ويقتصر من تمامه، ويغضّ من سهامه، ويظهر بعض شكيمته، ويساوم بأيسر قيمته، ويستر كثيرا من بضاعته، ويكتم دقيق صناعته، ولا يبلغ دقيق غاية استطاعته، وأن يعاشر الناس بصدق المناصحة، وجميل المسامحة، وأن لا يحمله الإعجال بما يحسنه، على الازدراء بمن يستقرنه، والافتراء على من يعترضه ويلسنه، ليكون خبره أكثر من خبره، ونظرته أروع من منظره، ويكون أقرب من الاعتذار، وأبعد من الخجلة والانكسار.
فليس الفتى من قال: إنّي أنا الفتى ... ولكنّه من قيل: أنت كذلكا
وكم مدّع ملكا بغير شهادة ... له خجلة إن قيل: أن لست مالكا!
ولقد نصرت بالاتّضاع، على ذي نباهة وارتفاع وذلك أني أصعدت في بعض الأعوام، مع جماعة من العوام بين تاجر وزائر، إلى العزل والحائر (1)، حتّى انتهينا إلى قرية شارعة، آهلة زارعة، وما منّا إلا من أملّته السّمريّة (2) فاعترضته، وأسقمته وأمرضته، وفتّرته فقبضته، وكثر منا الجؤار، واستولى علينا الدّوار، فخرجنا منها خروج المسجون، وقد تقوّسنا تقوّس العرجون، فاسترحنا بالصّعود، من طول القعود:
كأنّنا الطّير من الأقفاص ... ناجية من أحبل القنّاص
طيّبة الأنفس بالخلاص ... منفضات الرّيش والنّواصي!
فما استتمّت الرّاحة، ولا استقرّت بنا الرّاحة، حتى وقف علينا واقف، وهتف بنا هاتف: أيّكم الخوارزميّ؟ فقالوا له: ذلك الغلام المنفرد، والشّابّ المستند فأقبل إليّ، وسلّم عليّ، وقال: إن النّاظر يستزيرك، فليعجّل إليه مصيرك فقمت معه، يتقدّمني وأتبعه، حتّى انتهى بي إلى جلّة من
__________
(1) العزل: ماء بين البصرة واليمامة. والحائر باليمامة. قال ياقوت: وهو حائر ملهم. قال:
وقلهم وقرّان قريتان من قرى اليمامة. (معجم البلدان: 2/ 208، 4/ 119، 5/ 195).
(2) لعلها «السّمرة» وهي ضرب من شجر الطلح.(14/146)
الرجال، ذوي بهاء وجلال، وزينة وجمال، من أشراف الأمصار، وأعيان ذوي الأخطار من أهل واسط وبغداد، والبصرة والسّواد.
ترى كلّ مرهوب العمامة لاثما ... على وجه بدر تحته قلب ضيغم!
فقام إليّ ذو المعرفة لإكرامه، وساعده الباقون على قيامه، وأطال في سؤاله وسلامه وجذبوني إلى صدر المجلس فأبيت، ولزمت ذناباه واحتبيت وأخذوا يستخبروني عن الحال، والمعيشة والمال، وداعية الارتجال، وعن النّيّة والمقصد، والأهل والولد، والجيران والبلد.
وما منهم إلا حفيّ مسائل ... وواصف أشواق ومثن بصالح
ومستشفع في أن أقيم لياليا ... أروح وأغدو عنده غير بارح
ثم قال قائلهم: هل لقيت عين الزّمان وقلبه، ومالك الفضل وربّه، وقليب الأدب وغربه، إمام العراق، وشمس الآفاق؟. فقلت: ومن صاحب هذه الصّفة المهولة، والكناية المجهولة، فقالوا: أو ما سمعت بكامل هيت، ذي الصّوت والصّيت؟:
ذاك الذي لو عاش [دهرا] (1) إلى ... زمانه ذا وابن صوحان
وابن دريد وأبو حاتم ... وسيبويه وابن سعدان
وعامر الشّعبيّ وابن العلا ... وابن كريز وابن صفوان
قالوا مجاب كلّهم: إنّه ... سيّدنا، أو قال: غلماني.
فقلت لهم: قد قلّدتّم المنّة، وهيّجتم الجنّة، إلى لقاء العالم المذكور، والسّيّد المشهور، وقد كانت الرياح تأتيني بنفحات هذا الطّيب، وهدر هذا
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية.(14/147)
الخطيب فالآن لا أثر بعد عين، سأصبّح لأجله عن سرى القين، اغتناما للفائدة، والنّعم الباردة، ووجدانا للضّالّة الشّاردة.
أين أمضي وما الذي أنا أبغي ... بعد إدراكي المنى والطّلابا؟
فإذا ما وجدت عندكم العلم ... قريبا فما أريد الثّوابا
اذهبوا أنتم فزوروا عليّا: ... لأزور الهنيتيّ (1) والآدابا
لن أبالي إن قيل الخوارز ... ميّ أخطا فعله أو أصابا!
فقالت الجماعة: بل أصبت، ووجدت ما طلبت وقديما كنا ننشر أعلاقك، ونتمنّى اتّفاقك، ونتداول أوصافك، ونحب مضافك ونكبر لديه ذكرك، ونعظّم لديه قدرك، فيتحرّك منك ساكنه، وتتقلقل بك أماكنه، ونسأل الله سبحانه أن يجمع بينك وبينه بمحضرنا، وتلامح عينك عينه بمنظرنا، ويلتفّ غبارك بغباره، ويمتزج تيّارك بتيّاره، ويختلط مضمارك بمضماره، فيعرف منكما السّابق والسّكيت، والسّوذانق والكعيت (2)، ويتبيّن من الذي يحوي القصب فإنكما كما قال الشاعر:
هما رمحان خطّيّان كانا ... من السّمر المثقّفة الصّعاد
تهال الأرض أن يطا عليها ... بمثلهما نسالم أو نعادي!
فقال [بعض الجماعة] (3) لقد تنكّبتم الإنصاف، وأخطأتم الاعتراف، وأبعدتم القياس، وأوقعتم الالتباس أين ابن ثلاثين، إلى ابن ثمانين؟ وابن اللّبون، من البازل الأمون (4)؟ والرّمح الرّازح، من الجواد القارح، والكودن المبروض (5)، من المجرّب المروض.
__________
(1) نسبة إلى «هيت» من قرى حوران بسوريا.
(2) السّوذانق والسّودق هو الصقر أو الشاهين. والكعيت: طائر من جنس البلبل صغير الحجم.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) البازل هو البعير طلع نابه، وذلك في السنة الثامنة أو التاسعة. والأمون هو المأمون لا يعثر ولا يفتر.
(5) الكودن هو الفرس الهجين، والبرذون البارض: أول ما يبدو من النبات قبل أن تعرف أنواعه.
والبرض: القليل. ورجل مبروض: إذا نفد ما عنده. والمراد هنا على سبيل الاستعارة: الفرس الصغير غير المروض وغير المجرّب. (أنظر لسان العرب: مادة: برض وكدن).(14/148)
وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس (1)! كم لديهم بطائح وسباخ، وساكن صرائف وأكواخ، بين يديه سوادية أنباط، وعلوج أشراط، ورعاع أخلاط، وسفل سقّاط، في بلدة إن رأيت سورها، وعبرت جسورها، صحت: واغربتاه، وإن رأيت وجها غريبا ناديت: واأبتاه لا أعرف غير النّبطيّة كلاما، ولا ألقى سوى والدي إماما، في معشر ما عرفوا التّرحال، ولا ركبوا السّروج والرّحال، ولا فارقوا الجدار والطّلال.
أولئك معشر كبنات نعش (2) ... خوالف لا تغور مع النّجوم!
[فأنّى له] (3) بمصاولة رجل جوّال، رحّال حلّال، بهيت وضع، وبالكوفة أرضع، وببغداد أثغر، وبواسط أحفر، وبالحجاز وتهامة فطامه، وبمصر والمغرب كان احتلامه، وبنجد والشّام بقل عارضه، وباليمن وعمان قويت نواهضه، وبخراسان بلغ أشدّه، وببخارى وسمرقند تناهى جدّه، وبغزنة والهند شاب واكتهل، ومن سيحون وجيحون علّ ونهل، وبميسان والبصرة عوّد وقرح، وبالجبال جله وجلح (4) فهو يعدّ «المازنيّ» إمامه، وابن «جنّيّ» غلامه، و «المتنبّي» من رواته، و «المعرّي» حامل دواته، و «الصّابي» باري قلمه، و «الصّاحب» رافع علمه، و «ابن مقلة» من ناقلي غاشيته، «وبني أبي حفصة» بعض حاشيته، وقد قرأ الكتب وتلاها، وحفظ العلوم ورواها، ودرس الآداب ووعاها، ودوّن الدّواوين وألّفها، وأنشأ
__________
(1) ناقة قنعاس: طويلة عظيمة سنمة، وكذلك الجمل. ورجل قنعاس: شديد منيع.
(2) بنات نعش: سبعة كواكب تشاهد جهة القطب الشمالي، شبهت بحملة النعش.
(3) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(4) جله: ضخمت جبهته، وتأخرت منابت شعر رأسه. وجلح: انحسر شعره عن جانبي رأسه.(14/149)
الحكم وصنّفها، وفصّل المشكلات وشرحها، وارتجل الخطب ونقّحها فهو البحر المورود، والإمام المقصود، والعلم المصمود، هذا بون ومرتقى شديد.
أتلقون بالأعزل الرّامحا ... وبالأكشف الحاسر الدّارعا
وبالكودن السّابق السّابحا ... وبالمنجل الصّارم القاطعا؟
فما استتم كلامه حتى أقبل: فإذا نحن به قد طلع مهرولا، وأقبل مستعجلا، فرأيت رجلا أجلح، أهتم أفلح، أفلح أردح، طويلا عنطنط، يحكي ذئبا أمعط، أجمع أحبط (1)، فتلقّوه معظّمين، وله مفخّمين، فقصد في المجلس صدره، وأسند إلى المخدّة ظهره فما استقرّ به المكان، حتى قيل له: هذا فلان فقبض من أنفه، ونظر إليّ بشطر من طرفه، وقال ببعض فيه هلمّوا ما كنتم فيه، تعسا للشّوهاء وجالبيها، والقرعاء وحالبيها:
جاء زيد مجرّرا رسنه ... فحل لا يمنعه سننه (2) (؟)
أحبّه قومه على شوق ... إن القرنبى في عين أمّها حسنة (3)! كان لنا شيخ بالأنبار، كثير الأخبار، قد بلغ من العمر أملاه، ومن السّنّ أعلاه، قرأت عليه جميع الكتاب، وعلم الأنساب، و «مسائل ابن السّرّاج»، و «ديوان ابن العجّاج»، و «كتاب الإصلاح»، و «مشروح الإيضاح»، وشعر الطّرمّاح، و «العين» للفرهودي، و «الجمهرة» للأزدي وأكثر من المصنّفات، المجهولات والمعروفات ينفخ في شقاشقه، ويزبد في بقابقه،
__________
(1) الأهتم: من تكسّرت ثناياه من أصلها الأفلح: من انشقّت شفته، الأفطح: من كان عريض الرأس، الأردح: من كان ضخم الردفين سمين الوركين العنطنط والنطنط: الطويل المديد الأمعط: من ليس على جسده شعر الأحبط: من انتفخ بطنه من كثرة الأكل.
(2) كذا. ولعل في العبارة تصحيفا.
(3) القرنبى: دويبة مثل الخنفس منقطعة الظهر طويلة القوائم. وهو من الأمثال (انظر الميداني:
2/ 97).(14/150)
ويتعاظم في مخارقه وجعل القوم يقسمون بيننا الألحاظ، ويحسبون الألفاظ وما منهم إلا من اغتاظ لسكوتي وكلامه، وتأخّري وإقدامه.
ثم هذى الشيخ إذ وصف له رجل على الغيب ثم رآه، فاحتقره وازدراه وأنشد متمثّلا:
لعمر أبيك تسمع بالمعيدي (1) ... بعيد الدّار خير أن تراه
فقال: هذا المعيديّ هو ضمرة، بن ضمرة بن جابر، بن قطن، بن نهشل، بن دارم، بن مالك، بن حنظلة، بن مالك، بن زيد مناة، بن تميم، ابن مرّة، بن أدّ، بن طابخة، بن اليأس، بن مضر، بن نزار، بن معدّ، بن عدنان. والمعيديّ تصغير معديّ وهو الذي قالت فيه نادبته:
أنعى الكريم النّهشليّ المصطفى ... أكرم من خامر أو تخندفا!
فقلت: ما بعد هذا المقال، وجه للاحتمال، وما يجب لي بعد هذه المواقحة، غير المكافحة، ولم يبق لي بعد المغالبة، من مراقبة:
ما علّتي وأنا جلد نابل (2) ... والقوس فيه وتر عنابل
تزل عن صفحته المعابل!
ما علتي وأنا [رجل] جلد ... والقوس فيه وتر عردّ
__________
(1) في المثل: «تسمع بالمعيديّ لا أن تراه» ويروى أيضا: «أن تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه» والمثل للنعمان بن المنذر. (جمهرة الأمثال: 1/ 266، وأمثال العرب للصبيّ:
55).
(2) كذا أورده في اللسان في مادة «علل». وفي مادة «عنبل»: خبّ خاتل. والعنابل، بالضم: الصلب المتين. والمعابل: جمع معبلة، وهي النصل الطويل العريض، والشعر منسوب في اللسان إلى عاصم بن ثابت.(14/151)
مثل ذراع البكر أو أشدّ (1)
فعطفت عليه عطف الثّائر العاسف، والتفتّ إليه التفات الطّائر الخاطف، فقلت له: يا أخاهيت، قد قلت ما شيت، فأجب الآن إذا دعيت، والزم مكانك، وغضّ عنانك، وقصّر لسانك إنّ نادبة ضمرة خندفته، لمّا وصفته، وما سمعت في نسبتك إياه لخندف ذكرا، فأبن عن ذلك عذرا فقال: إن خندف هي امرأة اليأس بن مضر، غلبت على بنيها فنسبوا إليها، كطهيّة ومزينة، وبلعدويّة وعرينة، والسّلكة وجهينة، وندبة وأذينة، وكشبيب ابن البرصاء وابن الدّعماء. فقلت له: سئلت، فأجبت وأصبت فأخبرني عن خندف هل هو اسم موضوع، أو لقب مصنوع؟ فوقف عند ذلك حماره، وخمدت ناره، وركد جريانه، وسكن هذيانه، وفتر غليانه، وظهر حرانه، وذلّ وانقمع، وانطوى واجتمع، فاضطّرّه الحياء، وألجأه الاستجداء، إلى أن قال وهو يخفي لفظه، ويطرق لحظه: أظنّه لقبا. فقلت: هو كما ظننت فما معناه وما سببه؟ وكيف كان موجبه؟ فلم يجد بدّا من أن يقول: لا أدري، فقال وقد أذقته مرّ الإماتة، وأحسّ من القوم بتظاهر الشّماتة:
وودّ بجدع الأنف لو أنّ صحبه ... تنادوا وقالوا في المناخ له: نم!
ثم أقبلوا إليّ، وعكفوا عليّ، بأوجه متهلّلة، وألسنة متوسّلة في شرح الحال، والقيام بجواب السّؤال، فقلت: هذا بديع عجيب، أنا أسأل وأنا أجيب إن اليأس بن مضر تزوّج ليلى بنت ثعلبة (2)، بن حلوان، بن إلحاف (3)، بن قضاعة، بن معدّ، (في بعض النّسب)، فولد له منها: عمرو وعامر وعمير ففقدتهم ذات يوم، فألحى على ليلى باللّوم، فقال: اخرجي
__________
(1) ويروى: «مثل جران الفيل أو أشدّ». والعردّ: الشديد من كل شيء. وورد في اللسان:
«والقوس فيها وتر عردّ».
(2) في نهاية الأرب للقلقشندي: «نبت حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة».
(3) في نهاية الأرب للقلقشندي: «نبت حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة».(14/152)
في أثرهم، وأتيني بخبرهم فمعنت في طلبهم، وعادت بهم، فقالت: ما زلت أخندف في اتّباعهم، حتى ظفرت بلقائهم، فقال لها اليأس: أنت خندف.
والخندفة في الاتّباع، تقارب الخطو في إسراع وقال عمرو: يا أبتي أنا أدركت الصّيد فلويته، فقال له: أنت مدركة إذ حويته. وقال عامر أنا طبحته وشويته. فقال له: أنت طابخة إذ شويته. فقال عمير: أنا انقمعت في الخباء، فقال له: أنت قمعة للاختباء فلصقت بها وبهم هذه الألقاب، وجرت بها إليهم الأنساب.
فقال حينئذ: هذا علم استفدته، وفضل استزدته وقد قال الحكيم:
مذاكرة ذوي الألباب نماء في الآداب فقلت له متمثّلا.
أقول له والرّمح يأطر متنه ... تأمّل خفافا: إنّني أنا ذلكا!
ثم لم يحتبس إلا قليلا، ولم يمسك طويلا، حتى عاد إلى هديره، وأخذ في تهذيره، طمعا بأن يأخذ بالثّار، ويعود الفيض له في القمار، فعدل عن العلوم النّسبيّة، وجال في ميدان العربيّة، ولم يحسّ أن باعه فيها أقصر، وطرفه دون حقائقها أحسر، فقال: حضرت يوما حلبة من حلبات العلوم، وموسما من مواسم المنثور والمنظوم، وقد غصّ بكلّ خطيب مصقع، وحكم مقنّع، وعالم مصدع، ومليء من كلّ عتيق صهّال، وفتيق صوّال، ومنطيق جوّال فأخذوا في فنون المعارضات، وصنوف المناقضات، وسلكوا في معاني القريض، كلّ طويل عريض، حتّى أخذ السّائل منهم بالمخنّق، ببيت [الفرزدق] (1).
وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلّا مسحتا أو مجلّف (2)!
فكثر فيه الجدال، وطال المقال وما منهم إلا من أجاد القياس،
__________
(1) الزيادة من لسان العرب.
(2) المسحت: المهلك. والمجلّف: الذي بقيت منه بقية. قال في لسان العرب: يريد إلا مسحتا أو هو مجلّف.(14/153)
وأصاب القرطاس، ووقع على الطّريق، وأتى بالتّحقيق فلمّا رأيتهم في غمرتهم ساهون، وفي ضلالتهم يعمهون، (1) فناديتهم: إليّ فسارعوا، ومنّي فاسمعوا فإنّي أنا ابن بجدتها، وعالم ما تحت جلدتها ثم إنّي أبديت لهم سراره، وأبقيت ناره، وحللت عقده، ومخضت زبده، وأطرت لبده، وبجست حجره، وأبثثتهم عجره وبجره، فقالوا: لله أبوك! فإنّك أسبقنا إلى غاية، وأكشفنا لغياية، وأجلانا لشبهة، وأضوأنا في بدهة وما أعلم اليوم على ظهرها من يقوم بعلم ما فيه، ويطّلع على خافيه.
فأدركني الامتعاض، وأخذني الانتفاض، فأنشدته:
من ظنّ أنّ عقول النّاس ناقصة ... وعقله زائد أزرى به الطّمع!
وقلت له: ادّعيت، فوق ما وعيت فأخبرني عن أوّل هذ البيت، يا مجري الكميت، وكيف ننشده: وعضّ بالفتح أو وعضّ بالضم؟ فقال:
كلاهما مرويّ، فقلت: نبتديء بالفعل ثم نعود إلى الاسم ياذا الإعجاب، تهيّأ للسّائل في الجواب، وأخبرني لم فتحت آخر الماضي؟ فأسرع من غير التغاضي، وقال: لأنّه مبنيّ عليه، لا يضاف سواه إليه. فقلت: هذا جواب نعلمه، ومن صبيان المكتب لا نعدمه وإنما ألتمس منك الفائدة فيها، وأطلب كشف خافيها. فقال: ما جاء عن أمّة النّحاة، وسائر الرّواة، في هذا غير ما شرحته، ولا زاد على ما أوضحته. فقلت: دع عنك هذا وأخبرني عن هذا البناء، ألعلّة أم لغيرها؟ فأقبل يتردّد ويتزحزح، ويتثاءب تارة ويتنحنح.
فلما سدّ عليه من طريقه، وحصل في مضيقه، وغصّ بريقه، قال: لا أعلم!.
فقالت الجماعة: أعذر إليك من ألقى سلاحه، وغضّ جماحه، ومن أدبر بعد إقباله، عدل عن قتاله:
والحقّ أبلج لا يحدّ سبيله ... والحقّ يعرفه ذوو الألباب!
__________
(1) لعل الفاء زائدة.(14/154)
والآن فقد فازت قداحك، وبانت غررك وأوضاحك، وأجدت النّضال، وأدركت الخصال، فأوضح لنا عمّا سألت، وأرشدنا إلى ما دللت، لئلّا يقال: هذا بهت، ومحال بحت فقلت حبّا وكرامة، اسمع أنت يا طغامة (1) إنّ الفعل من فاعله، كالولد من ناجله، لا يخلو الفعل من علامة الفاعل، في لفظ كلّ قائل، وهي الفتحة من ماضيه وواقعه، والزّوائد في مستقبله ومضارعه. وبيان ذلك: أن الفتحة لا تكون مع التاء والنون (2) فتثبت الفتحة، ثم تقول: أخرجت وأخرجنا، فتسقط ما ذكرنا، وعلامتان لمعنى محال، لا يوجبهما الحال فإن كانت النون التي مع الألف ضمير المفعول عادت الفتحة، فتقول: أخرجنا الأمير، فهذا بيّن فصفّقت الجماعة وسمحت، وحسنت وبحبحت وجعل الأديب يضطرب اضطّراب العصفور، ويتقلّب تقلّب الصّقور، متيقّنا أن أسده صار جرذا، وبازيه عاد صردا (3) ودوره انقلبت مخشلبا (4)، وزيتونه تحوّل عربا، وقناه تغيّر قصبا، وأن مستقيمه تعوّج وجيّده تبهرج، وصحيحه تدحرج، وجديده تكرّج فقال منشدهم:
ترى الرّجل النّحيف فتزدريه ... وتحت ثيابه أسد مزير،
ويعجبك الطّرير فتبتليه ... فيخلف ظنّك الرجل الطّرير.
فما عظم الرّجال لهم بفخر ... ولكن فخرهم كرم وخير! (5)
فأخذه الإبلاس (6)، وضاقت به الأنفاس، وسكنت منه الحواسّ،
__________
(1) الطّغام: أرذال الناس وأوغادهم، واحدته: طغامّة، بتشديد الميم (المعجم الوسيط).
(2) بياض في الأصل.
(3) الصّرد: طائر أكبر من العصفور ضخم الرأس والمنقار يصيد صغار الحشرات، وكانوا يتشاءمون به.
(4) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف: ولعله: «خشبا» وهي جمع خشبة.
(5) الشعر منسوب للعباس بن مرداس. وقيل للمتلمّس. والمزير: الشديد القلب القويّ ورجل طرير: ذو طرّة وهيئة حسنة. (انظر لسان العرب: مادة مزر وطرر).
(6) أبلس: سكت لحيرة أو انقطاع حجّة.(14/155)
ورفضه الناس، وجعل ينكت الأرض، ويواصل بكفّه العضّ، ويتشاءم بيومه، ويعود على نفسه بلومه يمسح جبينه، ويكثر أنينه فقمت فقامت معي الجماعة وتركته، واستهانت به وفركته فلما بقي وحده، تمنّى لحده، وأسبل دمعته، وودّ أنّ الأرض بلعته.
وكان كمثل البوّ (1) ما بين روّم ... تلوذ بحقويه السّراة الأكابر
فأصبح مثل الأجرب الجلد مفردا ... طريدا فما تدنو إليه الأباعر!
فقام فتبعني، ووقف وودّعني، وأطال الاعتذار، وأظهر التّوبة والاستغفار، وقال: مثلك من ستر الخلل، وأقال العثرة والزّلل فقد اغتررت من سنّك بالحداثة، ومن أخلاقك بالدّماثة فقلت: كلّ ذلك مفهوم معلوم، وأنت فيه معذور لا ملوم وما جرى بيننا فهو منسيّ غير مذكور، ومطويّ غير منشور، ومخفيّ غير مشهور:
و [جدال] (2) أهل العلم ليس بقادح ... ما بين غالبهم إلى المغلوب!
ثم سكت فما أعاد، ونزلت وعاد، وكان ذلك أوّل عهد به وآخره، وباطن لقاء وظاهره، وكلّ اجتماع وسائره.
__________
(1) البوّ: جلد يحشى تبنا أو حشيشا لتعطف عليه الناقة إذا مات ولدها، ثم يقرّب إلى أم الفصيل فتدرّ عليه.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.(14/156)
الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة العاشرة (في الرّسائل)
وهي جمع رسالة، والمراد فيها أمور يرتّبها الكاتب: من حكاية حال من عدوّ أو صيد، أو مدح وتقريض، أو مفاخرة بين شيئين، أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى. وسمّيت رسائل من حيث إنّ الأديب المنشيء لها ربّما كتب بها إلى غيره مخبرا فيها بصورة الحال، مفتتحة بما تفتتح به المكاتبات، ثم توسّع فيها فافتتحت بالخطب وغيرها.
ثم الرّسائل على أصناف:
الصنف الأوّل (منها الرّسائل الملوكيّة وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (رسائل الغزو وهي أعظمها وأجلّها)
وهذه نسخة رسالة أنشأها القاضي محيي الدّين بن عبد الظّاهر، رحمه الله بفتح [الملك الظّاهر] (1) لقيساريّة من بلاد الروم، واقتلاعها من أيدي
__________
(1) الزيادة من الطبعة الأميرية. وهي ساقطة أيضا في «الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر» للقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: ص 453.(14/157)
التّتار، واستيلائه على ملكها، وجلوسه على تخت بني سلجوق، ثم العود منها إلى مملكة الدّيار المصرية كتب بها إلى الصّاحب بهاء الدّين بن حنّا، وزير السلطان الملك الظاهر، ومعرفة ما كان في تلك الغزوة، وما اشتملت عليه حال تلك السّفرة وهي:
يقبّل الأرض بساحات الأبواب الشريفة السّيّديّة، الصّاحبية البهائيّة لا زالت ركائب السّير تحثّ إلى أرجائها السّير، وصروف الزّمن تسالم خدّامها وتحلّ الغير بالغير، ولا برحت موطن البرّ ومعدن الجود وبحر الكرم وعكاظ الخير وينهي بعد رفع أدعيته التي لا تزال من الإجابة محوطة، ولا تبرح يداه بها مبسوطة، أنّ العبيد من شأنهم إتحاف مواليهم بما يشاهدونه في سفراتهم من عجائب، وإطلاعهم على ما يرونه في غزواتهم من غرائب ليقضوا بذلك حقوق الاسترقاق، وتكون نعم ساداتهم قد أحسنت لأفواههم الاستنطاق، ويتعرّضوا لما عساه يعنّ من مراحمهم التي ما عندهم غيرها ينفد وما عندها باق.
ولمّا كان المملوك قد انتظم في سلك الخدم والعبيد، وأصبح كم له قصيد في مدح هذا البيت الشّريف كلّ بيت منها بقصيد بيت القصيد، وأنّ في مآثره الرّسائل التي قد شاعت، وضاعت نفحاتها في الوجود وكم رسالة غيرها في غيره ضاعت رأى أن يتحف الخواطر الشّريفة من هذه الغزوة بلمح يختار منها من يؤلّف، ويسند إليها من يؤرّخ أو يصنّف وإنّما قصد أن يتحف بها أبواب مولانا مع بسط القول واتّساع كلماته، لأن الله قد شرّف المملوك بعبوديّة مولانا: و {اللََّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسََالَتَهُ} (1). فإن كان المملوك قد طوّل في المطارحة، فمولانا يتطوّل في المسامحة وإن قال أحد: هذا هذى، فما زال شرح الوقائع مطوّلا كذا وتالله ما ورّخ مثلها في التواريخ
__________
(1) الأنعام / 124.(14/158)
الأوّل، ولعمري إنّ خيرا من سيرة ذلك البطّال سيرة هذا البطل، والأمر أعلى في قراءتها واستماعها، والتّمهّل في حجلها حتّى تسفر حسن نقابها وترفع مسدول قناعها، (1)
قد أحاطت العلوم الشريفة بالعزمات الشّريفة السّلطانية، وأنها استصحبت ذلك، حتى تصفّحت المهالك وسرنا لا يستقرّ بنا في شيء منها قرار، ولا يقتدح من غير سنابك الخيل نار، ولا نمرّ على مدينة إلا مرور الرّياح على الخمائل في الأصائل والأبكار، ولا نقيم إلا بمقدار ما يتزيّد الزّائر من الأهبة، أو يتزوّد الطائر من النّغبة نسبق وفد الرّيح من حيث ننتحي، وتكاد مواطيء خيلنا بما تسحبه أذيال الصّوافن تمتحي، تحمل همنا الخيل العتاق، ويكبو البرق خلفنا إذا حاول بنا اللّحاق، وكلّ يقول لسلطاننا نصره الله:
أين أزمعت أيّهذا الهمام؟ ... نحن نبت الرّبا وأنت الغمام!
ومرّ لا يفعل السّيف أفعاله، ولا يسير في مهمه إلا عمّه ولا جبل إلا طاله: تسايره السّواري والغوادي، ولا ينفكّ الغيث من انسكاب في كلّ ناد ووادي:
فباشر وجها طالما باشر القنا ... وبلّ ثيابا طالما بلّها الدّمّ!
وكان مولانا السّلطان من حلب قد أمر جميع عساكره بادّراع لامات حربهم، وحمل آلات طعنهم وضربهم:
فجاز له حتّى على الشّمس حكمه ... وبان له حتّى على البدر ميسم
يمدّ يديه في المفاضة ضيغم ... وعينيه من تحت التّريكة أرقم!
ورحلوا من حلب في يوم الخميس ثاني ذي القعدة جرائد على الأمر
__________
(1) بياض في الأصل.(14/159)
المعهود، قد خففوا كلّ شيء حتّى البنود والعمود، فسرنا في جبال نشتهي به سلوك الأرض، وأودية تهلك الأشواط فيها إذا ملئت الفروج من الرّكض.
نزور ديارا ما نحبّ مغناها، ولا نعرف أقصاها من أدناها، واستقبلنا الدّرب فكان كما قال المتنبّي:
رمى الدّرب بالخيل العتاق (1) إلى العدا ... وما علموا أنّ السّهام خيول
شوائل تشوال العقارب بالقنا ... لها مرح من تحته وصهيل
فلمّا تجلّى من دلوك وصنجة ... علت كلّ طود راية ورعيل
على طرق فيها على الطّرق رفعة ... وفي ذكرها عند الأنيس خمول!
ومررنا على مدينة دلوك، وهي رسوم سكّانها، ضاحكة عن تبسّم أزهارها وقهقهة غدرانها، ذات بروج مشيّدة، وأركان موطّدة، ونيران تزاويق موقدة، في عمد من كنائسها ممدّدة وسرنا منها إلى مرج الدّيباج نتعادى، وذلك في ليلة ذات أندية وإن لم تكن من جمادى ظلماتها مدلهمّة، وطرقاتها قد أصبح أمرها علينا غمّة لا يثبت تربها تحت قدم المارّ، وكأنّما سالكها يمشي على شفا جرف هار فبتنا هنالك ليلة نستحقر بالنّسبة إلى شدّتها ليلة الملسوع، وتتمنّى العين بها هجعة (2) هجوع وأخذنا في اختراق غابات أشجار تخفي الرّفيق عن رفيقه، وتشغله عن اقتفاء طريقه، ينبري منها كلّ غصن يرسله المتقدّم إلى وجه رفيقه، كما يخرج السّهم بقوّة من منجنيقه حولها معاثر أحجار كأنّها قبور بعثرت، أو جبال تفطّرت، بينها مخائض، لا بل مغائض، كأنّها بحار فجّرت ما خرجنا منها إلا إلى جبال قد تمنطقت بالجداول وتعمّمت بالثّلوج، وعمّيت مسالكها فلا أحد إلا وهو قائل: {فَهَلْ إِلى ََ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} (3) أو إلى سبيل من خروج تضيق مناهجها بمشي
__________
(1) في ديوان المتنبي: «بالجرد الجياد».
(2) في الطبعة الأميرية «هجمة» والتصحيح من «الروض الزاهر».
(3) غافر / 11.(14/160)
الواحد، وتلتفّ شجراتها التفاف الأكمام على السّاعد ذات أوعار زلقة، وصدور شرقة، وأودية بالمزدحمين مختنقة بينما يقول منتحيها: قد نلت السّماء بسلّم من هذه الشّواهق، إذا هو متضائل (1) قد هبط في مأزق متضايق لم تزل هذه الجبال تأخذنا وترمينا، وتلك المسارب تضمّنا وتلك المشارب تظمينا:
تسوّد الشّمس منّا بيض أوجهنا ... و [لا] (2) تسوّد بيض العذر واللّمم
ونترك الماء لا ينفكّ من سفر ... ما سار في الغيم منه سار في الأدم!
حتى وصلنا الحدث الحمراء المسمّاة الآن بكينوك، ومعناها المحرقة، (كان الملك قسطنطين والد صاحب سيس قد أخذها من أصحاب الرّوم وأحرقها، وتملّكها وعمرها، بقصد الضّرر لبلاد الإسلام والتّجّار، فلما كان في سنة اثنتين وسبعين (3) وسبعمائة سيّر مولانا السلطان إليها عسكر حلب فافتتحها بالسّيف وقتل من كان بها من الرّجال وسبى الحريم والذّرّيّة، وخربت من ذلك الحين، وما بقي بها من يكاد يبين، فشاهدنا ما بنى سيف الدّولة بن حمدان منها والقنا تقرع القنا وموج المنايا حولها متلاطم، وقيل حقيقة هناك: على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وهي التي عناها أبو الطّيّب بقوله:
غصب الدّهر والملوك عليها ... فبناها في وجنة الدّهر خالا
فهي تمشي مشي العروس اختيالا ... وتثنّى على الزّمان دلالا!) (4)
__________
(1) ساقطة من «الروض الزاهر».
(2) الزيادة من ديوان المتنبي. والشعر ساقط من نص «الروض الزاهر».
(3) هذا خطأ تاريخي، لأن سلطنة الظاهر بيبرس ابتدأت سنة 658هـ وانتهت سنة 676هـ. وقد جاء في «التذكرة الصفدية» مخطوط، دار الكتب، رقم 9796أدب أنه فتحها سنة 672 هـ، وهو أضبط. (انظر «القلقشندي وكتابه صبح الأعشى: ص 144، دراسة عن وثائق صبح الأعشى للدكتور عبد القادر طليمات).
(4) ما بين هلالين ساقط من «الروض الزاهر».(14/161)
فبتنا بها [وانثنينا] (1) وخيلنا مبثوثة فوق «الأحيدب» كما نثرت الدّراهم فوق العروس، [وحوافرها على الوكور في أعلى القنن تدوس] (2) إذا زلقت [تمشي على صلد الصفا] (3) كالأراقم على البطون، وإن تكاسلت جرّ بعضها بعضا بالصّهيل: «والحديث شجون» وخضنا في أثناء ذلك مخائض سوافح، كأنّها لأجل عوم الخيل بها سمّي كلّ منها لأجل ذلك سابح (4) كلّما قلنا: هذا بحر قد قطعناه اعترض لنا جبل، وكلّما قلنا:
هذا جبل طلعناه بان لنا واد يستهان دون الهويّ فيه نفاد الأجل لم نزل كذلك حتّى وصلنا كوكصوا (5) وهو النّهر الأزرق، وهو الذي ردّ الملك الكامل منه سنة الدّربندات لما قصد التّوجّه إلى الرّوم، وهذا النّهر بين [جبال هو] (6) مهوى رجامها، ومثوى غمامها، وملوى زمامها، ومأوى قتامها، فللوقت عبرناه ركضا، وأعجلت الخيل فما درت هل خاضت لجّة أم قطعت أرضا [وسارت العساكر متسلّلة في تلك الجبال الشّم] (7) ووقع السّنابك يسمع من تلك الجبال الصّم حتّى وصلوا إلى أقجا دربند (8) فما ثبتت يد فرس لمصافحة صفاها، ولا نعله لمكافحة رحاها، ولا رجله لمطارحة قواها وتمرّنت الخيل على الاقتحام والازدحام في التّطرّق، وتعوّدت ما تعوّدته الأوعال من التّسرّب والتّسلّق، فصارت تنحطّ انحطاط الهيدب، وترتفع
__________
(1) في الطبعة الأميرية «وابتنينا» والتصحيح من الروض الزاهر.
(2) في الطبعة الأميرية «وجيادنا على الركوب في أعلى العين تدوس» والعبارة غير مستقيمة.
والتصحيح من الروض الزاهر. ص 457.
(3) الزيادة من الروض الزاهر.
(4) في المصدر السابق: «كأنما لعموم الخيل سمّي كل جواد سابح».
(5) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. وفي الروض الزاهر «كوكصو» وفي «تاريخ الزمان» لابن العبري «كوكسو» وعنده قلعة «قرا حصار» بين الحصن وحصن منصور.
(6) في الطبعة الأميرية «بين الجبال مهوى الخ» وما أثبتناه من الروض الزاهر.
(7) في الطبعة الأميرية «وبات الناس من برّ هذا النهر الآخر وأصبحوا متسلّلين في تلك الشّم» والتصويب من الروض الزاهر.
(8) في الروض الزاهر «أقجى دربند» وفي «تاريخ الزمان» لابن العبري: «أقشا دربند».(14/162)
ارتفاع الكوكب، وتسري سريان الخيال، وتمكّن حوافرها الجياد فتزول منها الجبال حتّى حصل الخروج من منتهى أقجا دربند، وهو خناق ذلك المأزق الذي كم أمسك على طارق، وفم ذلك الدّرب الذي كم عضّت أنيابه على مساوق ومسابق، وذلك في يوم الأربعاء ثامن ذي القعدة، وبات السلطان والناس في وطأة هناك، وسمحت السّحب بما شاءت من برد وبرد، وجاءت الرّياح بما آلمت الجلد واستنفدت الجلد وانتشرت العساكر في وطأة هناك حتّى ملأت المفاوز، وملكت الطّرق على المارّ وأخذتها على الجائز، وقدّم مولانا السلطان الأمير شمس الدّين سنقرا الأشقر في الجاليش (1) في جماعة من العساكر، فوقع على ثلاثة آلاف فارس من التّتار مقدّمهم كراي، فانهزموا من بين يديه، وأخذ منهم من قدّم للسّيف السلطانيّ فأكل نهمته وأسأر (2)، واستمرّت تلك سنّة فيمن يؤخذ من التّتار ويؤسر وذلك في يوم الخميس تاسع ذي القعدة.
وبات التّتار على أجمل ترتيب لأنفسهم وأجمل منظر، وبات المسلمون على أتمّ تيقّظ وأعظم حذر (3)، ولم يتحقّقوا قدوم مولانا السلطان في جيوش الإسلام، ولا أنّه حضر بنفسه النّفيسة ليقوم في نصرة دين الله (4)
هذا المقام. فلمّا كان يوم الجمعة عاشر ذي القعدة تتابع الخبر بعد الخبر بأن القوم قد قربوا، وأنهم ثابوا وثبوا:
وقد تمنّوا غداة الدّرب (5) في لجب ... أن يبصروه فلمّا أبصروه عموا!
(وشرع مولانا السلطان فوصّى جنوده بالتّثبّت عند المصدمة،
__________
(1) الجاليش: علم كبير في أعلاه خصلة من شعر الخيل.
(2) أسأر من الطعام والشراب: أبقى بقية.
(3) في الروض الزاهر: «وبات الناس على أجمل ترتيب، والتتار على كتمان لا يعلم كثير عددهم أو قليل، وبعيد مكانهم أم قريب».
(4) في المصدر السابق «الدين المحمديّ».
(5) في المصدر السابق «غداة الروع».(14/163)
والاجتماع عند المصادمة) (1) ورتّب جيش الإسلام اللّجب، على ما يجب، وأراهم من نور رأيه ما لا على بصر ولا بصيرة يحتجب، فطلعت العساكر مشرفة على صخرات (2) هوني من بلد أبلستين، وكان العدوّ ليلته تلك بائتا على نهر زمان، وهو أصل نهر جهان (3)، وهو نهر جيحان المذكور في الحديث النّبويّ، وإنّما الأرمن لا تنطق بالهاء (4).
فلما أقبل الناس (5) من علو الجبل شاهدوا المغل قد ترتّبوا أحد عشر طلبا كلّ طلب يزيد على ألف فارس حقيقة، وعزلوا عسكر الرّوم عنهم خيفة منهم، وجعلوا عسكر الكرج (6) طلبا واحدا بمفرده، ولمّا شاهدوا سناجق مولانا السلطان المنصورة ومن حولها من المماليك الظاهرية، وعليهم الخود الصّفر المقترحة (7)، وكأنّها في شعاع الشّمس نيران مقتدحة، رجعوا إلى ما كانوا عقدوا من العزائم فحلّوا، وسقط في أيديهم ورأوا أنّهم قد ضلّوا، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ يَتَسََاءَلُونَ} * (8) وعلى الموت يتراسلون فانصبّت الخيل إليهم من أعلى الجبل انصباب السّيل، وبطلت الحيلة منهم ونفي الحيل فشمّروا عن السّواعد، ووقفوا وقفة رجل واحد وهؤلاء المغل كان طاغية التّتار آبغا أهلكه الله قد اختارهم من كلّ ألف مائة، ومن كل مائة عشرة، ومن كلّ عشرة واحدا لأجل هذا اليوم، وعرفهم بسيما الشّجاعة وعرضهم لهذا السّوم وكان فيهم من المقدّمين الكبار «تدلون» ومعنى هذا الاسم النفّاذ يعني أنه ما كان في عسكر قطّ إلا نفّذة، والمقدّم الآخر
__________
(1) ما بين قوسين ساقط من الروض الزاهر.
(2) في الروض الزاهر «على صحراء هوني».
(3) في الروض الزاهر: «على نهر جهان، وهو نهر جيحان» وهو أضبط.
(4) صوابه «الأرمن لا تنطق بالحاء».
(5) في الروض الزاهر «أقبل المسلمون».
(6) في الروض الزاهر «الروم».
(7) في الروض الزاهر «الخود الصفر المذهبة» والجملة بعدها ساقطة من المصدر المذكور.
(8) الصافات / 27، والطور / 25.(14/164)
(نفوا) (1) وإليه أمر بلاد الروم وعساكر المغل بها، وأرختوا أخو تدلون، وبهادر بخشى، ومن مقدّمي الألوف دنرك، وصهر آبغا، وقرالق وخواصّه:
بيض العوارض طعّانون من لحقوا ... من الفوارس شلّالون للنّعم!
قد بلّغوا بفناهم فوق طاقته ... وليس يبلغ ما فيهم من الهمم
في الجاهليّة إلّا أنّ أنفسهم ... من طيبهنّ به في الأشهر الحرم!
فعندما شاهدوا نجد الملائكة، وتحقّقوا أن نفوسهم هالكة، أخلدت فرقة منهم إلى الأرض فقاتلت، وعاجت المنايا على نفوسهم وعاجلت، وباعت نفوس المسلمين لهم وتاجرت، وكسرت وما كاسرت، وجاء الموت للعدوّ من كلّ مكان، وأصبح ما هناك (2) منهم وقد هان وللوقت خذلوا وجدّلوا، ولبطون السّباع وحواصل الطّيور حصّلوا، وصاروا مع عدم ذكر الله بأفواههم وقلوبهم، يقاتلون قياما وقعودا وعلى جنوبهم، فكم من شجاع ألصق ظهره إلى ظهر صاحبه وحامى، وناضل ورامى، وكم فيهم من شهم، ما سلّم قوسه حتّى لم يبق في كنانته سهم، وذي سنّ طارح به فما طرحه حتّى تثلّم، وذي سيف حادثه بالصّقال فما جلى محادثة حتى تكلّم وأبانوا عن نفوس في الحرب أبيّة، وقلوب كافرة ونخوة عربيّة، واشتدّت فرقة من العدوّ من جهة الميسرة معرّجين على السناجق الشريفة من خلفها، منقلبين بصفوفهم على صفّها:
فلزّهم الطّراد إلى قتال ... أحدّ سلاحهم فيه الفرار!
فثاب مولانا إليهم، ووثب عليهم، فضحّى كلّ منهم بكلّ أشمط (3)
وأفرى الأجساد فأفرط ولحق مولانا السلطان منهم من قصد التّحصين
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية بالإهمال مع علامة توقف. ولم نتوصل إلى تثقيفه وضبطه.
(2) في الروض الزاهر «ما هال منهم».
(3) في الروض الزاهر «وضحى منهم بكل أشمط».(14/165)
بالجبال فأخذهم الأخذة الرّابية، وقتلهم {فَهَلْ تَرى ََ لَهُمْ مِنْ بََاقِيَةٍ} (1).
وما الفرار إلى الأجبال (2) من أسد ... تمشي النّعام به في معقل الوعل؟
وانهزمت جماعة يسيرة طمع فيها من العوامّ من كان لا يدفع عن نفسه، وأخذتهم المهاوي فما نجا منهم إلا آيس من حياة غده في أمسه.
مضوا متسابقي الأعضاء فيه ... لأرؤسهم بأرجلهم عثار (3)
إذا فاتوا الرّماح تناولتهم ... بأرماح من العطش القفار!
وقصدت ميمنة عسكرنا جماعة من المغل ذوو بأس شديد، فقاتلهم المسلمون حتّى ضجر الحديد من الحديد (وكان مولانا الصاحب زين الدّين حرس الله جلاله لما دعيت نزال أوّل مسابق، وأسرع راشق، وأقرب مطاعن، وأعظم معاون فذكر من شاهده أنه أحسن في معركته، وأجمل في كرّته، وأجاد في طعنته، وزأر زئير اللّيث، وسابق حتّى لم يبق حيث، ووقف دريئة للرّماح من عن يمينه وشماله، وخضّب بما تحدّر من دم عدوّه أكناف سرجه وعنان لجامه، وكانت عليه من الله باقية واقية في تقدّمه وإقدامه، وشاهدناه وقد خرج من وسط المعركة وهو شاكي السّلاح، وقد أخذ نصيبه ونصيب فرسه من سالم الجراح وأراد الله أن لا يخليه من إسالة دم يعظّم الله الأجر بسائله فجعله والمنّة لله من بعض أطراف أنامله.
ولقد ذكر الأمير عزّ الدّين أيدمر الدّوادار الظّاهريّ، قال: لقيتني وقد تكسّر رمحي، وعاد لولا لطف الله إلى الخسارة ربحي، فأعطاني المولى الصاحب زين الدّين رمحه فإذا فيه نصول، وبسنّه من قراع الدّارعين فلول ورأيت دبّوس المولى الصاحب زين الدّين وقد تثلّم، وكان الخوف
__________
(1) الحاقة / 8.
(2) الأجبال: جمع جبل. وفي الروض الزاهر «الأحباب» وهو تصحيف.
(3) لعلها «لأرجلهم بأرؤسهم».(14/166)
عليه في ذلك اليوم شديدا ولكنّ الله سلّم ولقد بلغ مولانا السلطان خبره فسأله فما أجابه بغير أن قال: سيف مولانا السلطان هو الذي سفك، وعزمه هو الذي فتك.
ومن يك محفوظا من الله فلتكن ... سلامته ممّن يحاذر هكذا
ويخرج من بين الصّفوف مسلّما ... ولا منّ يبديه ولا ناله أذى!!) (1)
وأما العدوّ فتقاسمت الأيدي ما يمتطونه من الصّواهل والصّوافن، وما يصولون به من سيوف وقسيّ وكنائن، وما يلبسونه من خود ودروع وجواشن، وما يتموّلونه من جميع أصناف المعادن فغنم ما هنالك، وتسلّم من استشهد من المسلمين رضوان وتسلّم من قتل من الكفّار مالك.
وكان الذين استشهدوا في هذه الوقعة من المقدّمين: شرف الدّين قيران العلائيّ [أحد مقدّمي الحلقة] (2) وعزّ الدّين أخو الأمير جمال الدّين المحمّديّ، ومن المماليك السلطانية: شرف الدّين (فلحق) (3) الجاشنكير الظّاهريّ، وأيبك الشّقيفيّ الذي كان وزير الشّقيف. وكان المجروحون عدّة لطيفة لم يعلم عددها لقلّتها، بل لخفّتها وأورث الله المسلمين منازلهم فنزلوها، ووطاقاتهم وخركاواتهم (4) فتموّلوها، وكان مولانا السلطان وكان أعداؤه كما قيل:
فمسّاهم وبسطهم حرير ... وصبّحهم وبسطهم تراب!!
__________
(1) ما بين قوسين ساقط من «الروض الزاهر».
(2) الزيادة من الروض الزاهر.
(3) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف.
(4) وطاق: لفظ تركي أصله «أوجاق» بمعنى الخيمة. والخركاوات جمع «خركاه» وهي كالبيت تصنع من الخشب على هيئة مخصوصة، تغشى بالجوخ ونحوه وتحمل في السفر.
(مصطلحات صبح الأعشى: 117، وتأصيل الدخيل: 6).(14/167)
(وأصبح الأعداء لا ترى إلا أشلاؤهم، ولا تبصر إلا أعياؤهم كأنّما جزر أجسادهم جزائر يتخلّلها من الدّماء السّيل، وكأنّما رؤوسهم المجموعة لدى الدّهليز المنصور أكر تلعب بها صوالجة من الأيدي والأرجل من الخيل) (1):
ألقت إلينا دماء المغل طاعتها ... فلو دعونا بلا حرب أجاب دم (2)!
فكم شاهد مولانا السلطان منهم مهيب الهامة، حسن الوسامة، تتفرّس في جهامة وجهه الفخامة، قد فضّ الرّمح فاه فقرع السّنّ على الحقيقة ندامة:
ووجوها أخافها منك وجه ... تركت حسنها له والجمالا!
أو كما قيل:
لا رحم (3) الله أرؤسا لهم ... أطرن عن هامهنّ أقحافا!
وأقبل بعض الأحياء من الأسارى على الأموات يتعارفون، ولأخبار شجاعتهم يتواصفون فكم من قائل: هذا فلان وهذا فلان، وهذا كان وهذا كان وهذا كان يحدّث نفسه بأنه يهزم الألوف، وهذا يقرّر في ذهنه أنه لا تقف بين يديه الصّفوف وكثرت الأسارى من المغل فاختار السلطان من كبرائهم البعض، وعمل فيهم بقول الله عزّ وجلّ: {مََا كََانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ََ حَتََّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} (4). فجعلهم للسّيوف طعمة، وأحضرت الأسارى من الرّوم فترقّب مولانا السّلطان فيهم الإلّ والذّمّة:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحرّ الذي يحفظ اليدا!
__________
(1) ما بين قوسين ساقط من «التذكرة الصفدية» وفي الروض الزاهر باختلاف غير يسير.
(2) في الروض الزاهر:
ألقت إلينا دماء الروم طاعتها ... فلو دعونا بلا ضرب أجاب دم
(3) في ديوان المتنبي: «لا يرحم الله».
(4) الأنفال / 67.(14/168)
وكان في جملة الأسارى الرّوميّين مهذّب الدين بكلارنكي (1)، يعني أمير الأمراء ولد البرواناه، ونور الدّين جاجا (2) أكبر الأمراء، وجماعة كثيرة من أمراء الرّوم ومقدّمي عساكره (3)، فكان البرواناه أحقّ بقول أبي الطّيّب:
نجوت بإحدى مقلتيك جريحة ... وخلّفت إحدى مهجتيك تسيل!
أتسلم للخطّيّة ابنك هاربا ... ويسكن في الدّنيا إليك خليل؟
لأنه شمّر الذّيل، وامتطى هربا أشهب الصّبح وأحمر الشّفق وأصفر الأصيل وأدهم اللّيل وثمّ يخبر من خلفه بما تمّ، وهمّ قلبه رفيقه حين همّ (4):
فنحن في جذل والرّوم في وجل ... والبرّ في شغل والبحر في خجل
ودخل البرواناه مدينة قيصريّة (5) في تاريخ يوم الأحد ثاني عشر الشّهر
__________
(1) في «الملك الظاهر بيبرس» لابن شداد مخطوطة أدرنة، رقم 2306 «مهذب الدين بن معين الدين البروانا وبيغت بكلاربكي، يعني أمير الأمراء». (الروض الزاهر ص 461 حاشية).
(2) في الروض الزاهر «ونور الدين بن جاجا».
(3) أضاف ابن عبد الظاهر في «الروض الزاهر»: «وسيف الدين سنقر الزوباشي، ونصرة الدين صاحب سويس [أي سيواس]، والأمير كمال الدين عارض الجيش بالروم، وحسام الدين نولناول [وفي ابن شداد: كياواك] قريب البرواناه، وسيف الدين بن علي شير التركماني، ومن أمراء المغل مقدمي الألوف: يربزك [وفي ابن شداد: زيرك] صهر أبغا، وسرطق قرابته، وجركر [في ابن شداد: حبركر]، وسردلد [في ابن شداد: سركده]، وتماديه. والذين حضروا في الإحسان: الأمير سيف الدين جاليش، النائب بالروم، وهو ذو نباهة، وهو أمير دار يعني أمير للعدل عن المظالم، وظهير الدين متوّج مشرف الممالك ومرتبته دون الوزارة، والأمير نظام الدين أوحد ابن الأمير شرف الدين بن الخطير، وإخوته، وقاضي القضاة بالروم حسام الدين، ومظفر الدين جحاف، وأولاد الأمير ضياء الدين بن الخطير، وجماعة من أصحابهم، وسيف الدين كحلماء [وفي ابن شداد: بكحكا] الجاشنكير، ونور الدين المنجنيقي، وأولاد رشيد الدين، وصاحب ملطية كمال الدين وإخوته، وأمير علي، وصاحب كركر، وأكثر هؤلاء أحضروا بيوتهم وعائلاتهم»
(4) في الروض الزاهر: «ولم يخبر من خلفه بما تمّ، وهمّ لما داخله الهمّ».
(5) في المصدر السابق: «قيساريّة» وهي مدينة ببلاد الروم، كانت كرسي مملكة آل سلجوق وهي بولاية أنقرة بآسيا الصغرى. وقيسارية أيضا بلد على ساحل بحر الشام، بينها وبين طبرية ثلاثة أيام. والمقصودة في النص هي الأولى. (معجم البلدان: 4/ 421).(14/169)
المذكور، فأفهم غياث الدّين سلطانها، والصاحب فخر الدّين [وزيرها] (1)، والأتابك مجد الدّين، والأمير جلال الدّين المستوفي، والأمير بدر الدّين ميكائيل النّائب، والأمير فلان الدين الطّغرائي، وهو ولد عزّ الدّين أخي البرواناه، وهو الذي يكتب طرر المناشير أنّ المسلمين [أسروا] (2) بعض المغل وبقيتهم منهزمون، ويخشى منهم دخول قيصريّة وإتلاف ما يكون بها في طرائقهم حنقا على الإسلام فأخذهم جرائد، وأخذ زوجته كرجي خاتون بنت غياث الدّين صاحب أرزن الرّوم، فاستصحبت معها أربعمائة جارية لها، وكان لها مالا كان لصاحب الرّوم من البخاتيّ (3) والخيام والآلات، وتوجهوا كلهم إلى حرنه (4) توقات، وهو مكان حصين مسيرة أربعة أيام من قيصريّة، ولما خرجوا من قيصرية حملهم على سرعة الهرب، وأنذرهم عذابا قد اقترب، وهوّل على بقيّة أمراء الرّوم فاتّبعوه إلا قليلا منهم، وأخفى البرواناه أمره وأمر من معه حتّى ولا مخبر يخبر عنهم.
وكان مولانا السلطان قد جرّد الأمير شمس الدّين سنقرا الأشقر في عدد مستظهرا به لإدراك من فات من المغل [والتوجّه لقيسارية، وأمّن أهلها] (5)، فمرّوا في طريقهم بفرقة [من التتار] (6) معها بيوتهم فأخذ منها جانبا، ودخل عليهم اللّيل فمرّ كلّ في سربه ذاهلا ذاهبا. ورحل مولانا السلطان في بكرة السّبت حادي عشر ذي القعدة من مكان المعركة، فنزل
__________
(1) في الطبعة الأميرية «والصاحب فخر الدين بن نملا» كذا بالإهمال مع علامة توقف، والتصحيح من الروض الزاهر.
(2) في الطبعة الأميرية «كسروا» والتصويب من الروض الزاهر.
(3) البخاتي: هي الإبل الخراسانية، وهي جمال ضخمة ذات سنامين ووبر أسود، وتستعمل في أسفار الشتاء.
(4) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. ولعله «خربة توقات» إذ كان في مكان توقات قلعة حصينة تسمى «دازيمون». وكان لها شأن في الحروب التي نشبت على تخوم دولة الروم. وفي الروض الزاهر «إلى توقات» (دائرة المعارف الإسلامية: 10/ 161).
(5) الزيادة من الروض الزاهر.
(6) الزيادة من الروض الزاهر.(14/170)
قريب القرية المعروفة بريّان (1)، وهذه القرية قريب الكهف والرّقيم حقيقة، لا ما يقال: إنه قريب حسبان من بلاد البلقاء، وقريبا منه صلد من الصّفا عليه كتابة بالرّوميّة أو غيرها من الخطّ القديم، وأما القرية المذكورة المسماة بريّان فإنّ بيوتها بنيت حول سنّ جبل قائم كالهرم إلا أنّه ملموم، وعمّرت البيوت في سفحه حوله بيتا فوق بيت فبدت كأنّها مجرّة النّجوم، وما من بيت منها إلا وبه مقاعد ذوات درابزينات منجورة، ورواشن (2) قد بدت في أكمل صورة، يختمها من أعلاها أحسن بنيان، ويعلوها من رأسها منزل مسنّم الرأس كما يعلو الصّعدة السّنان، وتطوف بهذه القرية جبال كأنّها أسوار بل سوار، وكأنّها في وسطها إناء فيه جذوة نار ويتفرّع منها أنهار، هي في تلك الأودية كأنّها بهبوطها كثيب قد انهار ذوات قناطر لا تسع غير راكب، ومضايق لا يلفى عبرها لناكب قدّر الله أنّ العساكر خلصت منها ولكن بعد مقاساة الجهد، وخرجت وقد رقّ لها قلب كلّ وهد ونزلنا قريبا منها حتّى تخلّص من تخلّص، وحضر من كان في المضايق قد تربّص، وقال: كلّ الأرض حصحص (3).
ورحلنا من هناك في يوم الأحد ثاني عشر شهر ذي القعدة وكانت السماء قد حيّت الأرض بتيجان أمطارها، وأغرقت الهوامّ في أحجارها، والفتخ (4)
في أوكارها وأصبحت الأرض لا تتماسك حتّى ولا لمرور الأراقم، والجبال لا تتماسك أن تكون للعصم عواصم تضع بها من الدّواب كلّ [ذات] (5)
حمل، وتزلق في صقيلها أرجل النّمل وسرنا على هذه الحالة نهارنا كلّه إلى
__________
(1) في الروض الزاهر: «رمّان» والصواب ما جاء في الطبعة الأميرية. وفي «المشترك» لياقوت أنه اسم لعشرة مواضع. (المشترك وضعا والمفترق صقعا: ص 227).
(2) جمع «روشن» وهو لفظ فارسي، بضم الراء وفتح الشين، بمعنى الكوّة والنافذة، وتكون أيضا بمعنى الشرفة. (انظر «تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل»: ص 118).
(3) يقال: حصحص البعير بصدره الأرض أي فحص الحصى حتى يلين ما تحته ليبرك.
وحصحص: مشى مشي المقيّد.
(4) جمع فتخاء وهي العقاب اللّينة الجناحين. وفي الروض الزاهر: «الطيور في أوكارها».
(5) الزيادة من الروض الزاهر.(14/171)
قريب الغروب، وقطعناه بتسلّمنا أيدي الدّروب من أيدي الدّؤوب، ونزلنا عشاء في منتقع أرض تطوف بها جبال شاهقة، ومياه دافقة، تعرف قاعة تلك الأرض بوطأة (قشلا وسار) (1) من أعمال أصاروس العتيق ويقرب من تلك الجهة معدن الفضّة.
وبينما نحن قد شرعنا في أهبة المبيت، ولم نقض الشّمل الشّتيت (2)
وإذا بالصّادح قد صدح، والنّذير قد سنح، رافعا عقيرته بأن فوجا من التّتار في فجوة هنالك قد استتروا، وفي نجوة لغرّة قد انتظروا فركب مولانا السلطان وركب الناس في السّلاح، وعزموا على المطار فعاقهم تتابع الغيث وكيف يطير مبلول الجناح؟ ثم لطف الله وعاد مولانا السلطان وهو يقول للناس:
لا بأس فنمنا نومة السّليم (3)، وصدرت أفكارنا شاغرة في كلّ واد تهيم، وأصبحنا فسلكنا جبالا لا يحيط بها الوصف، وتنبسط عذراء الطّرف فيها حين يكبو فيها الطّرف ننحطّ منها إلى جنادل، يضعف عن الهويّ إليها قويّ الأجادل بينا نقول: قد أحسن الله لها نفادا ومنها نفاذا وإذا بعد الأودية أودية وبعد الجبال جبال نشكر عند ذاك هذه وذاك عند هذا ومررنا على قرية «أوتراك»، وتحتها قناطر وخان من حجر منحوت، ثم خان آخر للسّبيل على رأس رابية هناك تعرف باشيبدي (4)، قريبا من حصن سمندو، التي عرّض بها أبو الطّيّب في قوله:
فإن يقدم فقد زرنا سمندو ... وإن يحجم فموعده الخليج!
وكان مولانا السلطان قد سيّر إليها خواصّه بكتاب إلى نائبها فقبله
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف. وهي ساقطة من الروض الزاهر. وفيه: «بوطأة من أعمال صاروس».
(2) في المصدر السابق: «ولمّ بعض الشمل الشتيت».
(3) السّليم: الملدوغ.
(4) كذا في الطبعة الأميرية وهي ساقطة من الروض الزاهر.(14/172)
وقبّله، وأذعن لتسليم حصنها المنيع وللنّزول لأمر السلطان عنها إن استنزله فشكر مولانا السلطان له تلك الإجابة، ووفّاه من الشّكر حسابه. وكذلك [والي] (1) قلعة دوندا [ووالي] (2) دوالوا، فكلّهم أجابوا وأطاعوا ولكلمة الإذعان قالوا ونزلنا في وطأة قريب قرية تعرف بحمرها، وكان الناس قد فرغت علوفات خيلهم أو كادت، والخيل قد باتت ليالي بلا عليق فما استفادت، وشاركتها خيول الكسوب (؟) في عليقها، وما ساعدتها في طروقها ولا في طريقها، فضعفت عن حمل نفوسها فما ظنّك براكبيها وكاد الفارط لولا لطف الله عزّ وجلّ أن يفرط فيها فصادفنا في هذه اللّيلة بعض أتبان أمسكت أرماقها، وأحسنت إرفادها وإرفاقها.
وأصبحنا في يوم الثلاثاء رابع عشر ذي القعدة راحلين في جبال كأنها تلك الأول، وهابطين في أودية يتمنّى سالكها من شدّة مضايقها أن لو عاد إلى ترقّي أعلى جبل وما زلنا كذلك حتّى أشرفنا على خان هناك يعرف بقرطاي يدلّ على شرف همّة بانيه (3)، وطلب ثواب الله فيه وذلك أنه من أكبر الأبنية سعة وارتفاعا، وأحسنها شكلا وأوضاعا كلّه مبنيّ بالحجر المنحوت المصقول الأحمر الذي كأنّه رخام، ومن ظاهر أسواره وأركانه نقوش لا يتمكن أن يرسم مثلها بالأقلام وله خارج بابه مثل الرّبض ببابين بأسوار حصينة، مبلّط الأرض، فيه حوانيت. وأبواب الخان حديد من أحسن ما يمكن استعماله، وداخله أواوين صيفيّة، وأمكنة شتويّة، وإصطبلات على هذه الصورة لا يحسن الإنسان أن يعبّر عنها بكيف، وما منها إلا ما يجده الإنسان رحلة للشّتاء والصّيف وفيه الحمّام والبيمارستان والأدوية والفرش والأواني والضّيافة لكلّ طارق على قدره، حمل لمولانا السلطان من ضيافته
__________
(1) في الطبعة الأميرية «وكذلك إلى قلعة دوندا وإلى دوالو» وهو خطأ. والتصحيح من الروض الزاهر.
(2) في الطبعة الأميرية «وكذلك إلى قلعة دوندا وإلى دوالو» وهو خطأ. والتصحيح من الروض الزاهر.
(3) في الروض الزاهر «نائبة» وهو تصحيف.(14/173)
لمّا مرّ عليه، وكثر الناس فما وصل أحد إليها ولا إليه وعليه أوقاف عظيمة، وضياع كثيرة حوله وفي غيره من البلاد، وله دواوين وكتّاب ومباشرون يتولّون استخراج أمواله والإنفاق فيه ولم يتعرّض التّتار إلى إبطال شيء من رسومه، وأبقوه على عوائد تكريمه وأهل الرّوم يبالغون في تبجيل بانيه رحمه الله وتعظيمه ونزلنا تلك اللّيلة قريب قرية تقرب من قيصريّة من حقوق وادي صلعومة شرقيّ الجبل المعروف بعسيب، وفيه قبر امريء القيس الشاعر، [وهو الذي يقول فيه]:
أجارتنا (1) إن الخطوب تنوب ... وإنّي مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنّا غريبان ها هنا ... وكلّ غريب للغريب نسيب!!
وهذا الجبل يعلوه جبل «أرجاس»، وهو الذي يضرب الرّوم الأمثال بتساميه، وتتضاءل الجبال في جميع الدّنيا لتعاليه لا تسحب ذيول السّحائب إلا دون سفحه، ولا يعرف من ثلوجه شتاء وصيفا ومن مثال الأبخرة المتصعّدة منه عشاؤه من صبحه.
ولما كان يوم الأربعاء منتصف ذي القعدة، وهو يوم شرف الزّهرة ركبت العساكر المنصورة مترتبة، وملأت الفضاء متسرّبة وركب مولانا السلطان في زمرته، وذوي أمره وإمرته، يختال جواده في أفسح ميدان، ويصيح به فرحا ومرحا كأنّه نشوان درى أنه سلطان:
تظلّ ملوك الأرض خاشعة (2) له ... تفارقه هلكى وتلقاه سجّدا!
وخرج أهل قيصرية وأكابرها، وعلماؤها وزهّادها وتجّارها، ورعاياه ونساؤها وصغارها، فأكرم مولانا السلطان ممشاهم، وشكر مسعاهم، وتلقّى قضاتهم وعلماءهم ركبانا، وحادثهم إنسانا فإنسانا وحصلت لجماعة من
__________
(1) كذا أيضا في أكثر المصادر. وفي الروض الزاهر: «أجيرتنا».
(2) في بعض الروايات «خاضعة».(14/174)
الفقراء والناس حالات وجد مطربة، وصدحات ذكر معجبة. وكان دهليز السلطان غياث الدّين صاحب الرّوم وخيامه وشعار سلطنة الرّوم قد بني جميع ذلك في وطأة قريب الجوسق والبستان المعروف بكيخسرو، وترجّل النّاس على اختلاف طبقاتهم في الرّكاب الشّريف من ملك وأمة ومأمور وأمير، وارتفعت الأصوات بالتّهليل والتّكبير:
رجا الرّوم من ترجى النّوافل كلّها ... لديه ولا ترجى لديه الطّوائل!
ونزل مولانا السلطان في تلك المضارب المعدّة لكرم الوفادة، وضربت نوبة سلجوق على باب دهليزه على العادة وأذن مولانا السلطان للناس في التقرّب إلى شريف فسطاطه، وشملهم بنظره واحتياطه وحضر أصحاب الملاهي، فما ظفروا بغير النّواهي، وقيل لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا، واذهبوا إلى واد غير هذا الوادي فاقتبسوا فهذه الهناة لا تنفق هنا، وما هذا موضع الغناء بل هذا موضع الغنى وشرع مولانا السلطان في إنفاق اللهى (1)، وعيّن لكلّ جهة شخصا وقال: أنت لها وحكم وحكّم، وعلم وعلّم واعتمد على الأمير سيف الدّين جاليش في النّيابة، وأعطى كلّا بيمينه كتابه، [وكتب إلى أولاد قرمان، أمراء التركمان، وهم ألوف، وما فيهم للتتار ألوف، وأكّد عليهم في الحضور] (2)، وأقام الحجّة على من انتزح بالاستعطاف، وتأمين من خاف، فما خرج كبيرهم (3) عن المخاتلة، ولا زعيمهم عن المطاولة فلمّا علم مولانا السلطان أنهم لا يفلحون، ولغير التّتار لا يصلحون، وأنّهم إن أصبحوا على الطاعة لا يمسون وإن أمسوا لا يصبحون، عاد عن تلك الوعود، واختار أن ما بدأ إليه يعود، وأن يبعث نفسه إلى ما بعثه الله إليه من المقام المحمود، فركب يوم الجمعة سابع عشر ذي
__________
(1) بالألف المقصورة والممدودة. وهي جمع «لهوة» وهي العطية.
(2) الزيادة من «الروض الزاهر» ص 466.
(3) في المصدر السابق «فما خرج البرواناه عن المخاتلة»(14/175)
القعدة مستقبلا من الله كلّ الخير، ونصب «جتر» (1) بني سلجوق على رأسه فشاهد الناس منه صاحب القبّة والسّبع وصاحب القبّة والطّير ودخل قيصريّة في بكرة هذا اليوم وكانت دار السلطنة قد فرشت لنزوله، وتخت بني سلجوق وقد هيّيء لحلوله وهي دار تزهو، ومنازل من يتعبّد أو منازه من يلهو، أنيقة المبتنى، تحفّ بها بساتين عذبة الجنى جدارنها بأحسن أصناف القاشانيّ مصفّحة، وبأجمل نقوشه مصرّحة فجلس مولانا السلطان في مرتبة الملك في أسعد وقت، ونال التّخت بحلوله أسعد البخت:
وما كان هذا التّخت من حين نصبه ... لغير المليك الظّاهر النّدب يصلح
مليك على اسم الله ما فتحت له ... صوارمه البيض المواضي وتفتح
أتته وفود الرّوم والكلّ قائل ... «رأيناك تعفو عن كثير وتصفح»
فأوسعهم حلما وجاد لهم ندى ... وأمسوا على منّ وأمن وأصبحوا
ولو أنّهم لم يجنحوا لمنكّب ... عن الحقّ والنهج القويم لأفلحوا
ولكنّهم أعطوا يدا فوقها يد ... تصافح كفّا زندها النار يقدح!! (2)
وأقبل الناس على مولانا السلطان يهنّؤّونه، وعلى كفّه الشريف يقبّلونه (3) وبعد ذلك حضرت القضاة والفقهاء والعلماء والصّوفيّة وذوو المراتب من أصحاب العمائم على عادة بني سلجوق في كلّ جمعة، ووقف أمير المحفل وهو كبير المقدار عندهم، له وسامة وفخامة، وله أكبر كمّ وأوسع عمامة، وأخذ في ترتيب المحفل على قدر الأقدار، وانتصب قائما بين يدي مولانا
__________
(1) الجتر هو الغاشية. وأصل الغاشية السرج أو الغطاء المزركش الذي يوضع على ظهر الفرس فوق البرذعة. وكان سلاطين الأيوبيين، ومن بعدهم المماليك، يخرجون في المواكب وبين أيديهم غاشية. وكان يحملها الركابدارية، يلفتها يمينا وشمالا. (مصطلحات صبح الأعشى:
254 - والصبح: 4/ 7، 47).
(2) هذا البيت الأخير ساقط من الروض الزاهر.
(3) في الروض الزاهر «وعلى بساطه يقبلونه». وبعدها شعرا:
تقبّل أفواه الملوك بساطه ... ويكبر عنها كمّه وبراجمه.(14/176)
السلطان منتظرا ما إليه به يشار وشرع القرّاء يقرأون جميعا وفرادى بأحسن تلحين، وأجمل تحسين، فأتت أصواتهم بكلّ عجيب، وعدلوا عن التّرتيل إلى الترتيب. ولما فرغوا شرع أمير المحفل صارخا، وبكور فمه نافخا، فأنشد وأورد بالفارسيّة (1) ما يعجب مدلوله، ويهول مقوله وأطال وما أطاب، واستصوب من يعرف مقاله قوله، والله أعلم بالصواب.
ولما (2) انقضى ذلك مدّ سماط ليس يناسب همم الملوك، فأكل الناس منه للشّرف لا للسّرف، ثم عاد كلّ منهم إلى مقامه فوقف وقام مولانا السلطان إلى مكان الاستراحة فأقام ساعة أو ساعتين، ثم خرج إلى مخيّمه قرير العين وكان بدار الملك حرم السّلجوقية قد أصبحوا لا ترى إلا مسكنتهم ومساكنهم، قد نبت بهم مواطئهم ومواطنهم على أبوابهم أسمال ستور من حرير، ومشايخ خدّام يستحقّ كلّ منهم لكبر سنّه أن يدعى بالكبير عليهم ذلّة الانكسار، وأماير الأفتقار فجبرهم مولانا السلطان وآنسهم، وأحسن إليهم وتوجّه من توجّه إلى صلاة الجمعة في قيصريّة وبها سبع جمع تقام، وبها خطباء إن هم إلا كالأنعام فصلّينا في جامع السّلطان وهو جامع عليّ يدلّ على احتفال ملوكها ببيوت عباداتهم، ورأينا فيه من دلائل الخير ما يقضي بحسن إراداتهم فحضر أهل المدينة وأكابرها، وجلسوا حلقا لا صفوفا، وأجروا من البحث بالعجميّة صنوفا، واجتمعت جماعة من حفظة الكتاب العزيز فتخارجوا القراءة آية آية، وهي قراءة بعيدة عن الدّراية بل إنها تبرزها أصوات مترنّمة، وألحان لتفريق الكلمات مقسّمة، ينطقون بالحروف كيف اتّفقت، ولا يتوقّفون على مخارج الحروف أنها بها نطقت أو لا نطقت.
فلما آن وقت الأذان قام صبيّ عليه قباء من وسط جماعة عليهم أقبية قعود على دكّة المؤذّنين، فابتدأ بالتّكبير أوّلا وثانيا بمفرده من غير إعانة ولا
__________
(1) في الروض الزاهر «أنشد أمير المحفل بالعربية والعجمية مدائح في السلطان، ومدّ السماط».
(2) من هنا إلى آخر الشّعر الآتي ساقط من الروض الزاهر.(14/177)
إبانة. ولما تشهّد ساعدوه جميعهم بأصوات محمحمة ملعلعة، ونغمات متنوّعة يمسكون له النّغم بأحسن تلحين، ويترنّمون بالأصوات إلى آخر التّأذين وفرغ الأذان وكلّهم قعود ما منهم أحد غير الصّبيّ وقف، وما منّا أحد لكلمة من الأذان عرف ولما فرغ الأذان طلع شيخ كبير السّنّ يعرف بأمير محفل المنبر، وشرع في دعاء لا نعرفه، وادعاء لا نألفه: كأنّه مخاصم، أو وكيل شرع أحضره لمشادّة خصمه محاكم بين يدي حاكم وطلع الخطيب بعد ذلك فخطب ودعا لمولانا السلطان بغير مشاركة، ودعا الناس بما تلقّته من الأفواه الملائكة وانقضت الجمعة على هذه الصّورة المسطورة وضربت السّكّة باسم مولانا السلطان، وأحضرت الدّراهم إليه في هذا اليوم، فشاهدها فرأى أوجهها باسمة باسمه الميمون، وأقرّت الألسنة بهذه النعمة وقرّت العيون وشاهدت بقيساريّة مدارس وخوانق وربطا تدلّ على اهتمام بانيها، ورغبتهم في العلوم الشّرعية والدّينية، مشيدة بأحسن الحجار الحمر المصقولة المنقوشة، وأراضيها بأجمل تلك مفروشة، وأواوينها وصففها مؤزّرة بالقاشانيّ الأجمل صورة، وجميعها مفروشة بالبسط الكرجيّة والعالية، وفيها المياه الجارية، ولها الشّبابيك على البساتين الحسنة، وسوق قيصريّة طائف بها من حولها، وليس داخل المدينة دكّان ولا سوق.
والوزير في بلاد الرّوم جميعها يعرف بالصّاحب «فخر الدّين خواجا عليّ» ولا يحسن الكتابة ولا الخطّ، وخلعته من مماليكه خاصّة مائتا مملوك، ودخله في كلّ يوم غير دخل أولاده وغير الإقطاعات التي له ولأولاده وخواصّه سبعة آلاف درهم سلطانية. ولقد شاهدت في مدرسته من خيامه وخركاواته شيئا لا يكون لأكبر الملوك، وله برّ ومعروف، وهو بالخير موصوف:
والمسمّون بالوزير كثير ... والوزير الذي لنا المأمول!
وعليّ هذا وذاك عليّ ... وعليّ هذا له التّفضيل!
الذي زلت عنه شرقا وغربا ... ونداه مقابلي لا يزول!
ومعي أينما سلكت كأنّي ... كلّ وجه له بوجهي كفيل!
وأمّا معين الدّين سليمان البرواناه وزوجته كرجي خاتون، فظهر لهما بن الموجود البادي للعيون كلّ نفيس، وبحمد الله استولى مولانا السلطان مماليكه من موجوده ودار زوجته المذكورة على ملك سليمان وصرح لقيس.(14/178)
والمسمّون بالوزير كثير ... والوزير الذي لنا المأمول!
وعليّ هذا وذاك عليّ ... وعليّ هذا له التّفضيل!
الذي زلت عنه شرقا وغربا ... ونداه مقابلي لا يزول!
ومعي أينما سلكت كأنّي ... كلّ وجه له بوجهي كفيل!
وأمّا معين الدّين سليمان البرواناه وزوجته كرجي خاتون، فظهر لهما بن الموجود البادي للعيون كلّ نفيس، وبحمد الله استولى مولانا السلطان مماليكه من موجوده ودار زوجته المذكورة على ملك سليمان وصرح لقيس.
ولما أقام مولانا السلطان بقيصريّة هذه المدّة، فكّر في أمر عساكره مصالحه بما لا يعرفه سواه، ونظر في حالهم بما أراه الله، وذلك لأن لأقوات قلّت، [وقيسارية ألقت ما فيها من المؤن وتخلّت] (1) والسّيوف من لمصارعة ملّت، والسّواعد من المصادمة كلّت، وأنّه ما بقي في الرّوم من الكفّار من يغزى، ولا بجزاء السّوء يجزى ولا بقي في البلاد غير رعايا كالسّوائم الهاملة، ولا دية للكفر منهم على عاقل وعاقلة وأنّه إن أقام فالبلاد لا تحمله، وموادّ بلاده لا تصله، وأعشاب الرّوم بالدّوس قد اضمحلّت، وعلوفاتها قد قلّت، وزروعها لا ترتجى لكفاية، ولا ترضى خيول العساكر المنصورة بما ترضى به خيول الرّوم من الرّعي والرّعاية، وأن الحسام الصّقيل الذي قتل التّتار به في يد القاتل، وأنّهم إن كان أعجبهم عامهم فيعودون إلى الرّوم في قابل.
ورحل في يوم الاثنين عشرين (2) من ذي القعدة بعد أن أعطى أمراءه وخواصّه كلّ ما أحضر إليه من الأعنّة والأزمّة، وكلّ ما يطلق على تولّيه اسم النّعمة فنزل بمنزلة تعرف بعترلوا (3) وفي هذه المنزلة ورد إلى السلطان رسول من جهة غياث الدّين سلطان الرّوم، ومن جهة البرواناه والكبراء الذين
__________
(1) الزيادة من الروض الزاهر.
(2) في المصدر السابق: «فرحل الثاني والعشرين من ذي القعدة»
(3) لعل الألف زائدة(14/179)
معه، يسمّى ظهير الدّين التّرجمان وفي الحقيقة هو من عند البرواناه يستوقف مولانا السلطان عن الحركة وما علموا إلى أين، بل كان الأمر شائعا بين الناس أن الحركة إلى جهة سيواس فعدّد مولانا السلطان عليه حسن وفائه بعهده، وأنه أجاب دعاءهم مرّة بعد مرّة من أقصى ملكه مع بعده، وأنهم ما وقفوا عند الشّروط المقرّرة، ولا وفوا بمضمون الرّسائل المسيّرة، وأنهم لما جاء الحقّ وزهق الباطل طلبوا نظرة إلى ميسرة، وأن أعنّتهم للكفر مسلّمة، وأنّهم منذ استيلاء التّتار [على الروم] (1) هم أصحاب المشأمة وعلم مولانا السلطان أن بلاد الرّوم ما بها عسكر يستخلصه لنفسه، ولا من يقابل المغل في غده خوفا ممّا شاهده كلّ منهم في أمسه، وأنهم أهل التذاذ، لا أهل نفاذ، وأهل طرب، لا أهل حرب [وغلب] (2) وأهل طيبة عيش، لا قوّاد جيش فردّ السلطان إلى سليمان البرواناه مدّيده (3)، وقال: قل له: إنّني قد عرفت الروم وطرقاتها، وأخذت أمّه أسيرة وابن بنته وولده، ويكفينا ما جرى من النّصر الوجيز، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللََّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللََّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (4)
وما كلّ من قضى فريضة الحجّ يجب عليه المجاورة، ولا بعد هذه المناصرة مناصرة، ولا بعد هذه المحاورة محاورة، ونحن فقد ابتغينا فيما آتانا الله:
من حقن دماء أهل الرّوم وعدم نهب أموالهم الدّار الآخرة، وتنزّهنا عن أموال كنتم للتّتار تستحبّونها، ومغارم كثيرة هي لهم من الجنّات مغانم يأخذونها حين يأخذونها وما كان جلوسنا في تخت سلطنتكم لزيادة بتخت آل سلجوق (5)، [بل] (6) لنعلمكم أنّه لا عائق لنا عن أمر من الأمور يعوق
__________
(1) الزيادة من الروض الزاهر.
(2) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(3) في الروض الزاهر: «فردّ هديته».
(4) الحج / 40.
(5) في الروض الزاهر: «وما كان جلوسنا في تخت آل سلجوق لزيادة تبجّح».
(6) في الطبعة الأميرية «إلا».(14/180)
وأنّ أحدا لا ينبغي له أن يأمن لنا سطوة، وليتحقّق كلّ أنّ كلّ مسافة جمعة لنا خطوة، وسروجنا بحمد الله أعظم من ذلك التّخت جلالا، وأرفع منالا، وكم في ممالكنا كراسيّ ملك نحن آية ذلك الكرسيّ، وكم لنا فتح كلّه والحمد لله في الإنافة الفتح القدسيّ.
من كان فوق محلّ الشّمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع (1)!
واستصحب السلطان معه تحت الرّضا والعفو من أكابر الرّوميين الأمير سيف الدّين جاليش النّائب بالرّوم، وهو رجل شيخ نبيه له اشتغال بعلم وكان له في الرّوم صورة، وهو أمير دار يعني أمير المظالم. واستصحب ظهير الدّين [متوّج] مشرّف الممالك، ومرتبته دون الوزارة وفيه فضل، ونسخ كثيرا من العلوم بخطّه، مثل الصّحاح في مجلّد واحد، وغير ذلك.
واستصحب الأمير نظام الدّين أوحد بن شرف الدّين بن الخطير، وإخوته وجماعته وجماعة والده، وأولاد عمّه ضياء الدّين بن الخطير المستشهد رحمه الله.
واستصحب من الأمراء: الأمير مظفّر الدّين محاف (2) (؟) والأمير سيف الدّين كجكيا (3) الجاشنكير، والأمير نور الدّين المنجنيقيّ، وأصحاب ملطية أولاد رشيد الدّين أمير عارض، وهم: كمال الدّين وإخوته، وأمير عليّ صاحب كركر.
واستصحب قاضي القضاة بملطية، وهو القاضي حسام الدّين ابن قاضي العسكر، ووالده الذي كان يترسّل عن السلطان علاء الدّين إلى الملوك، وهو رجل عالم فاضل. وأكثر هؤلاء حضروا ببيوتهم ونسائهم وغلمانهم وحفدتهم.
__________
(1) في الروض الزاهر «يضعه».
(2) كذا في الطبعة الأميرية. وصوابه «جحاف» كما في الروض الزاهر.
(3) كذا في الطبعة الأميرية. وفي الروض الزاهر «كحلماء». وفي ابن شداد «بكحكا».(14/181)
والذين حضروا تحت الغضب ولد البرواناه المذكور، وولد خواجا يونس، وهو ابن بنت البرواناه، ووالدة البرواناه، والأمير نور الدّين جاجا (1)، وهو أكبر أمراء الرّوم أصحاب النّعمة والنّعم، والأمير قطب الدّين أحمد أخو الأتابك، والأمير سيف الدّين سنقر حاه الروناسيّ (2)، والأمير سراج الدّين إسماعيل بن جاجا، والأمير نصرة الدّين صاحب سيواس، والأمير كمال الدّين عارض الجيش، والأمير حسام الدّين ركاوك (3) قريب البرواناه، والأمير سيف الدّين الجاويش (4)، والأمير سراج الدّين أخو حسام الدّين، والأمير شهاب الدين غازي بن علي شير التّركمانيّ (5).
ومن المغل: مقدّمي الألوف والمئات زيرك (6) وسرطلق (7)، وحنوكه (8)، وسركده (9)، وتماديه (10).
ثمّ رحل السلطان في اليوم الثاني ونزل بمنزلة قريب خان السلطان علاء الدّين كيقباذ، ويعرف بكرواني صراي، وهذا الخان بنية عظيمة من نسبة خان قرطاي، وله أوقاف عظيمة. ومن جملة ما وجد قريبا منه أذواد كثيرة من الأغنام عبثت فيها العساكر المنصورة، سألت عنها فقيل: إنها وقف على هذا الخان يذبح نتاجها للواردين على هذا الخان، وهذه الأغنام له من جملة
__________
(1) في الروض الزاهر «بن جاجا».
(2) كذا في الطبعة الأميرية. وفي الروض الزاهر «سنقر جاه الزوباشي»
(3) في الروض الزاهر «نولناول» وفي ابن شداد «كياواك»
(4) في الروض الزاهر «سيف الدين جاليش»
(5) في الروض الزاهر «سيف الدين بن علي شير التركماني».
(6) في الروض الزاهر «يربزرك».
(7) في الروض الزاهر «سرطق».
(8) في الروض الزاهر «جركر» وفي ابن شداد «حبركر».
(9) كذا أيضا في ابن شداد. وفي الروض الزاهر «سردلر».
(10) كذا أيضا في الروض الزاهر وابن شداد. وفي الطبعة الأميرية مع علامة توقف.(14/182)
الوقوف، قدّر الله استيفادها جملة لمّا كثرت على هذا الخان من الجيوش المنصورة الضّيوف.
ورحلنا في اليوم الثالث وهو يوم الأربعاء ثاني عشرين من الشّهر، ونزلنا في وطأة عادة التّتار ينزلون بها تسمّى روران (1) كودلوا، وكودلوا اسم جبال تلك الوطأة.
ورحلنا في يوم الخميس ثالث عشرين من ذي القعدة، فعارضنا بها في وطأة خلف حصن «سمندو» من طريق غير الطريق التي كنّا توجّهنا منها نهر يعرف بنهر قزل صو، قريب كودلوا الصغير. ومعنى قزل صو النّهر الأحمر وهذا النّهر صعب المخاض، واسع الاعتراض، عالي المهبط، زلق المسقط، مرتفع المرتقى، بعيد المستقى، لا يجد السّالك من أو حال حافتيه إلا صعيدا زلقا فوقف مولانا السلطان بنفسه، وجرّد سيفه بيده، وباشر العمل بنفسه هو وجميع خواصّه، حتّى تهيّأ المكان جميعه، ووقف راجلا يعبّر الناس أوّلا فأوّلا: من كبير وصغير وغلام، وهو في أثناء ذلك يكرّ على من يزدحم، يكرّر التّأديب لمن يطلب بأذيّة رفيقه ويقتحم وما زال من رابعة هذا النهار لى الساعة الثامنة حتّى عبرت الناس سالمين. ولمّا خفّت البرور، ولم يبق لا المرور، ركب فرسه وعبر الماء والألسنة له داعية، وعليه من الله واقية باقية، فنزل في واد هناك به «مرعى ولا كالسّعدان»، «ومرأى ولا كشعب وّان» (2).
ثم رحل في يوم الجمعة فنزل عند صحرات قراجار (3) حصار، وهي قرية
__________
(1) كذا برائين مهملتين في الطبعة الأميرية. وفي الروض الزاهر «زوزان كودلو».
(2) مثلان يضربان للشيئين لهما فضل، ولكن أحدهما أفضل. ومثل ذلك قولهم «ماء ولا كصدّاء». (انظر جمهرة الأمثال: 2/ 241والضبّي: 73، 127، والميداني: 2/ 277276 والمستقصى: 2/ 311).
(3) كذا في الطبعة الأميرية. وفي الروض الزاهر. «صحراء قراجا». والصواب «قراحصار» كما في معجم البلدان. قال ياقوت: وهو اسم لأماكن كثيرة غالبها ببلاد الروم، منها: قراحصار على يوم من أنطاكية، ومنها قرا حصار ببلاد عثمان، ومنها قرا حصار قرب قيساريّة. (معجم البلدان: 4/ 315).(14/183)
كانت عامرة فيما مضى، قريبة من «هدر رجال» (1) قبالة بازار بلّو، وهذا البازار هو الذي كانت الخلائق تجتمع إليه من أقطار الأرض، ويباع فيه كلّ شيء يجلب من الأقاليم، ويقرب من كودلوا الكبير.
وسرنا في يوم السّبت سوقا طول النّهار، حتّى نزلنا في وطأة الأبلستين، وفي هذا النهار عبر مولانا السلطان نصره الله على مكان المعركة لمشاهدة أمم التّتار، وكيف تعاقبت عليهم من العقبان كواسرها، وكفّ بأسهم من النّسور مناسرها (2)، وكيف أصبحوا لا يندبهم إلا البوم، وتحقّقوا أن الّتي أهلكتهم زرق الأسنّة لا زرق الرّوم، فرآهم لمن بقي عبرة، وعرضوا على ربّهم صفّا وجاؤوه كما خلقوا أوّل مرّة، وأبصر الرّياح لأشلائهم متخطّفة، والهوامّ في أجسادهم متصرّفة، وشاهدهم وقد هذأهم (3) كلّ شيء حتّى الوحوش والرّياح: فهذه من صديدهم متكرّعة وهذه عليهم متقصّفة.
قد سوّدت شجر الجبال شعورهم ... فكأنّ فيه مسفّة الغربان!
ولمّا عاينهم مولانا السلطان وعاينهم الناس، أكثروا شكر الله على هذه النّعم التي أمست لكافّة الكفر كافّة وشالّة ودارزة، وأثنوا على مننه التي سنّت (4) إليهم خيار العساكر المنصورة حتّى أصبحت تلك الأرض بهم بارزة، وحضرت من أهل الأبلستين هنالك جماعة من أهل التّقى والدّين، واستخبرهم مولانا السلطان عن عدّة قتلى المغل فقالوا: {فَسْئَلِ}
__________
(1) كذا في الطبعة الأميرية مع علامة توقف.
(2) في الروض الزاهر «وكيف نهشتهم من النسور مياسرها» وعبارة «الروض» أقرب إلى الصواب، شرط استبدال «مياسرها» ب «مناسرها»، فهي غير مستقيمة.
(3) هذأ فلان العدوّ: أفناهم. وفي الروض: «هزأ بهم كل شيء» وفيه تحريف.
(4) أي ساقت إليهم.(14/184)
{الْعََادِّينَ} (1)، فاستفهم من كبيرهم عن عدّة المغل كم من قتيل، فقال: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مََا يَعْلَمُهُمْ إِلََّا قَلِيلٌ} (2) وقال بعضهم ممن عدّهم وممّن عنده علم من الكتاب (3): أنا عددت ستّة آلاف وسبعمائة وسبعين نفرا وضاع الحساب هذا: غير من آوى إلى جبل يعصمه من ماء السّيوف فما عصمه، وغير من اعتقد أن فرسه تسلّمه (4) فأسلمه:
[فلقد غدوا خلل الرماح كأنما ... غضبت رؤوسهم على الأجسام
أحجار ناس فوق أرض من دم ... ونجوم بيض في سماء قتام] (5)
فتركهم مولانا السلطان ومضى والفلوات مزرعة لجسومهم، والدّود لأنّها مؤمنة وهم كفّار وقد أثّرت كالنواسر في لحومهم، فرسم مولانا السلطان بتقدّم الأثقال والحرّاس والدّهليز (6) المنصور صحبة الأمير بدر الدّين الخزندار، والدّخول في «أقجه دربند»، وأقام مولانا السلطان في ساقة العسكر المنصور بقيّة يوم السّبت ويوم الأحد:
فهو يوم الطّراد أوّل سابق ... وهو يوم القفول آخر سائق!
وانتظر في هذين اليومين صيدا من العدوّ يعنّ، وما من دماءهم إلى السّيف يحنّ فلمّا لم يجد أحدا رحل في يوم الاثنين فنزل قريبا من الخان الذي في الدّربند، وركب يوم الاثنين من طريق غير التي حضر منها، فسلك طريقا من الأوعار يبسا، وسلك من قلل الجبال في هضاب كأنّ كلّا منها ألف حملت من الأنجم قبسا فقاسى العالم في هذا اليوم من الشّدّة ما لا يدخل في
__________
(1) المؤمنون / 113.
(2) الكهف / 23.
(3) العبارة مقتبسة من القرآن الكريم: النمل / 40.
(4) لعله «يسلّمه».
(5) الزيادة من الروض الزاهر: ص 470.
(6) الدهليز هو الخيمة التي ترافق السلطان في الحرب. (مصطلحات صبح الأعشى: 138).(14/185)
قياس، وكادوا يهلكون لولا أن الله عزّ وجلّ تدارك النّاس، فتسابقوا ولكن على مثل حدّ السّيف، وتسلّلوا ولكن سلّ حوافر الخيل كيف؟ وهبطوا من جبال يستصعبها كلّ شيء حتّى طارق الطّيف يستصعب الحجر المحلّق من شاهق وقوعه في عقابها، ويستهول النّجم الثّاقب ترفّع شعابها، بالقرب منها جبل شاهق يعرف «بسقر» وما أدراك ما سقر، لا يبقي على شيء من الدّوابّ ولا يذر له عقبة لوّاحة للبشر (1)، أعان الله على الهبوط منها، وفاز بمشيئة الله وبسعادة مولانا السلطان من زحزح عنها وعدّينا كوكصوا وهو النّهر الأزرق، وبات مولانا السلطان هناك، وكان قضيم البغال تلك اللّيلة ورق البلّوط، إلا من أمست عناية الله أن تيسّر في شعير بخمسة عشر درهما كلّ مدّ يحوط.
ورحل مولانا السلطان في يوم الأربعاء تاسع عشرين من ذي القعدة فنزل قريب كسول (؟) المقدّم ذكرها، وعدل إلى طريق مرعش فزال بحمد الله (2) الداعي، وقالوا للشّعير: ما فينا لك مخاطب ولا منّا فيك بماله مخاطر، وللخيول قد حصل لك في مصر الرّبيع الأوّل في شعبان وفي الشّام في ذي
__________
(1) هذه العبارات مقتبسة من القرآن الكريم: المدثر / 2927.
(2) ذكر الدكتور عبد القادر طليمات أن صاحب «التذكرة الصفدية» مخطوط بدار الكتب، رقم:
9796 - أدب أورد هنا مقطعا يتعلق بوصف جزء من الرحلة أثناء عودة بيبرس، وهذا المقطع أسقطه القلقشندي، وهو: «فزال بحمد الله عقاب تلك العقاب، وقالت الأنهار والملتقبة (؟) لكل منا اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ونزلنا يوم الخميس مستهل ذي الحجة قرب قلعة خراب من بلاد مرعش تعرف بالأشكركين إلى جانب نهر يعرف بأنجان، وأقام مولانا السلطان يوما هناك بغير رحيل. ورحل يوم السبت فنزل قرب بركلوحا (؟) من بلاد مرعش.
ورحل يوم الأحد رابع الشهر فنزل قريب عقبة مري أو دربندات سيس إلى جانب النهر الأسود، ورحل يوم الاثنين فنزل قبالة الدربساك، ورحل يوم الثلاثاء سادس الشهر فنزل قريب حارم، وركب وقته وساق إلى منزلته التي كان بها نازلا في سنة ثلاث وسبعين وستمائة نوبة سيس، فضرب قريب أنطاكية دهليز الإقامة، وقالت تلك الخمائل المونقة وتلك الحدائق المحدقة لأطناب خيامه مسلّمة: هنئت بالسلامة. وألقى عصا التسيار وقال لأهل الخيام: هذه الدار وأنا الجار، فأساموا خيولهم في مراعي لا يحيط بكنهها المراعي، ووفروها على أعشاب لتباعد ما بين الرفيق ورفيقه لا يسمعه» انتهى نص التذكرة الصفدية. (انظر القلقشندي وكتابه صبح الأعشى: 143).(14/186)
الحجّة الرّبيع الآخر، فأرتعت لا يروعها أصحاب الموازين في تلك المساجد، واستمرّت في مروج يتأسف عليها ابن المساجد (؟) وقسّم مولانا السلطان تلك الأعشاب كما تقسّمت في آفاق السماء النّجوم، وأوقف كلّ أحد في مقام حتّى قال: {وَمََا مِنََّا إِلََّا لَهُ مَقََامٌ مَعْلُومٌ} (1) فكم هنالك من مروج أعشبت فأعجبت، وانجابت السماء عنها فأنجبت، وأربت على زهر النّجوم فاهتزّت وربت:
يصدّ الشّمس أنّى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنّسيم (2)!
يتخلّلها هنالك أترع الحياض، ويلهو بها كلّ شيء فكم قصف العاصي بها في تلك الرّياض.
هذا كلّه: وخير من أرزنجان، حارة برجوان وخير من أراضي توريز، قطعة من إيليز، وكوم من كيمان سفط ميدوم، خير من قصر في قيصريّة الرّوم ونظرة إلى المقياس، خير من سيواس ومناظر اللّوق، خير من كيقباذ آل سلجوق وتربة من ترب القرافة، خير من مروج العرافة وشبر من شبرا، خير من سطا ومرا:
وجلوس في باب دارك خير ... من جلوس في [باب] (3) إيوان كسرى
والتماحي لنور وجهك خير ... لي من أنّني أشاهد بدرا!
يا وليّا يولي الأيادي سرّا ... ووزيرا فليس يكسب وزرا
ما رأينا والله فيمن رأينا ... لك مثلا من البريّة طرّا
كم خبرنا الرّجال في كلّ أرض ... فإذا أنت أعظم الخلق قدرا!
__________
(1) الصافات / 64.
(2) في الروض الزاهر:
تصدّ الشمس أنّى واجهتها ... فتحجبها وتأذن للنسيم.
وهنا ينتهي نص الروض الزاهر.
(3) الزيادة لاستقامة الوزن.(14/187)
كم فلان قالوا وقالوا فلانا ... فإذا النّاس دون علياك حسرى
لك مدح قد طبّق الأرض سبحا ... ن إله به إلى النّاس أسرى!
ما رأينا مصرا كمصر ولا مثلك فينا، والحمد لله شكرا!
الضرب الثاني (من الرسائل الملوكية رسائل الصّيد)
وهذه نسخة رسالة في صيد السّلطان الشّهيد الملك الناصر بن السّلطان الشّهيد الملك المنصور «قلاوون» من إنشاء القاضي تاج الدين البارنباريّ (1) وهي:
الحمد لله الذي نعّم النّفوس الشّريفة بإدراك الظّفر، وأنعم على هذه الأمّة بمحمّدها الذي أنار كوكب نصره وسفر، وشرع لها على لسان نبيّها صلّى الله عليه وسلّم الغنيمة في السّفر، وأسعف هذه الدّولة الشريفة بدوام سلطانها الذي حفّت أيّامه بالعزّ والتّأييد والظّفر.
نحمده على أن أقرّ العيون بفضله بما أقر، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة ألانت قلب من نفر، وكرمت أسبابها فلا يتمسّك بها إلّا أعزّ فريق ونفر، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أعزّ من آمن وأذلّ من كفر، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تجاوز الله عن ذنوبهم وغفر، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ في ابتغاء النّصر ملاذا تدركها كلّ ذات شرفت، وتملكها السّجايا التي تعارفت بالفخار وائتلفت، وتنالها النّفوس التي مالت إلى العزّ
__________
(1) هو محمد بن محمد بن عبد المنعم المعروف بابن البارنباري. كان ناظما ناثرا صاحب خط بهيج، على علم كبير بمصطلح الديوان. كتب الإنشاء في الدولة الناصرية من سنة 713هـ إلى سنة 734هـ حيث نقل إلى طرابلس. وفي سنة 747هـ عزل من كتابة سر طرابلس فعاد إلى دمشق. وتولى في دمشق كتابة الدست سنة 751هـ. وتوفي سنة 756هـ. (الوافي بالوفيات: 1/ 163162).(14/188)
وإلى تلقائه صرفت ومنشؤها من حالتين: إمّا في موقف عزّ عندما تلمع بروق الصّفاح، وتشيب من هول الحرب رؤوس الرّماح، وتسرح جوارح النّبال لتحلّ في الجوارح وتصيد في الأرواح وإمّا في موطن سلّم عندما تنبسط النفوس إلى امتطاء صهوات الجياد في الأمن والدّعة، وتنشرح الصّدور إلى معاطاة الصّيود والمسرّات مجتمعة، وتطلق البزاة فتصيد، وتتصرّف بأمر الملوك الصّيد، وترسل الحوامي الممسكة، وتلقى على ما سنح من الوحش فلا ترى إلا مدركة وتفاض النّعم السّلطانية وتجزل مواهبها، وتلوح العصابة الشّريفة وتنبعث مواكبها.
وكان الله تعالى قد جمع للمواقف الشّريفة، المعظّمة، السّلطانية، الملكيّة، النّاصريّة، خلّد الله سلطانها سعادة الحالتين حربا وسلما، وآتاه فيهما النّصر الأرفع والعزّ الأسمى، ووسم بصدقاته وعزماته الأمرين وسما، ونصره نعتا وعظّمه سمعة وشرّفه اسما، فأيّام حروبه كلّها رفعة وانتصار، واستيلاء واستظهار، وقوة تحيا بها المؤمنون وتفنى الكفّار وأيّام سلمه كلّها عدل وهبة، وصدقات منجية منجبة، ورفع ظلامات متشعبة، وقمع نفوس متوثّبة، وحسم خطوب مستدّة، وحفظ الحوزة الإسلامية من كلّ بأس ووقايتها من كلّ شدّة، وفي خلال كلّ عام تصرف عزائمه الشريفة إلى ابتغاء صيد الوحش والطّير: لما في ذلك من تمرين النّفوس على اكتساب التّأييد، وحصول المسرّة بكلّ ظفر جديد فيرسم خلد الله سلطانه في الوقت الذي يرسم به من مشتى كلّ عام بإخراج الدّهليز المنصور فينصب في برّ الجيزة بسفح الهرم، في ساعة مباركة آخذة في إقبال الجود والكرم فتمدّ بالتّأييد أطنابه، وترفع على عمد النّصر قبابه، ويحاط بحراسة الملائكة الكرام رحابه، وتضرب خيام الأمراء حوله وطاقا، وتحفّ به [مثل] (1) النّجوم بالبدر إشراقا ويستقلّ الرّكاب الشريف شرّفه الله بعد ذلك بقصد عبور النّيل المبارك فيظهر من القلعة المحروسة والسّلامة تحجبه من المخافة، والحراسة
__________
(1) الزيادة يقتضيها السياق.(14/189)
تصحبه فيما قرب ونأى من المسافة، ولسان السّعد قد خاطبه بالتّحيّة وشافه، ومماليكه الأمراء قد حفّوا به أطلابا (1)، وسنيّ موكبه قد بعث أمامه من الإضاءة نجّابا (2) ولم يزل حتّى يأتي النّيل المبارك ويستوي على الكرسيّ في الفلك المشحون، محوطا بالنّصر الميمون والجيش المأمون، وقد استبشر باعتلائه البحر والنّون (3)، وأضحى لظهر الفلك من الفخار [بحضرته] (4) المكرّمة، ما لصهوات أجياده العتاق المسوّمة، فلهذا نشر أعلام بشراها، {وَقََالَ ارْكَبُوا فِيهََا بِسْمِ اللََّهِ مَجْرََاهََا وَمُرْسََاهََا} (5)، فسارت به في اليمّ، ونصر الله قد تمّ، وصعد من فلكه، على ما يسرّ نفوس المؤمنين في كمال سلطانه وعزّة ملكه، واستقرّ على جواد شرفت صهوته، وقرنت بالأناة والسّكون خطوته، عربيّ النّجار، يختال في سيره كأنّما انتشى من العقار:
ويختال بك الطّرف ... كأنّ الطّرف نشوان
ترى الطّرف درى أو ... ليس يدري أنّك سلطان!
وسار في زروع مخضرّة، وثغور نبات مفترّة وقد طلعت للظّفر شموسه وبدوره، وأعدّت للصّيد بزاته وصقوره، من كلّ متوقّد اللّحظ من الشّهامة، محمول على الرّاحات من فرط الكرامة، يتوسّم فيه النّجاح، قبل خفق الجناح، ويخرج من جوّ السّماء ولا حرج ولا جناح وبازها الأشهب،
__________
(1) الأطلاب: جمع طلب بضم أوله وهي وحدات صغيرة قد تبلغ أربعمائة يرأسها أمراء يعملون في وظائف البلاط أو الدولة. وكان للسلطان نفسه أطلاب من الفرسان في عدد صغير. ويقول ابن إياس إن هذا اللفظ ظهر في أيام صلاح الدين الأيوبي. ويذكر المقريزي أن الطلب في لغة الغزّ هو أمير له لواء وبوق ومائتا فارس إلى مائة إلى سبعين. (مصطلحات صبح الأعشى: 36).
(2) النّجاب هو الرسول يبعث بالرسالة. (نزهة النفوس: 3/ 259237119).
(3) النّون هو الحوت.
(4) الزيادة من الطبعة الأميرية.
(5) هود / 21.(14/190)
يجيء بالظفر ويذهب بصدر مفضّض وناظر مذهب، له منسر أقنى، طالما أغنى، كأنّما هو شبا السّنان وقد حباه الكماة طعنا:
وصارم في يديك منصلت ... إن كان للسّيف في الوغى روح
متّقد اللّحظ من شهامته ... فالجوّ من ناظريه مجروح!
قد راش النّجح جناحه، وقرن الله باليمن غدوّه ورواحه، ونصره في حربه حيث جعل منسره رمحه ومخلبه صفاحه، في قوادمه السّعد قادم، وفي خوافيه النّصر ظاهر المعالم، كأنّما ألهم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بورك لأمّتي في بكورها»، فيسرح والطّير جاثمة في وكورها، ويخرج في إغباش السّحر وعليه سواد، فيهابه الصّادح في الجوّ والباغم في الواد، ويأمر خلّد الله سلطانه أمراءه فيضربون على الطّير حلقة وهي لاهية في التقاط حبّها، غافلة عمّا يراد بها، فيذعرونها بخفق الطّبول وضربها، ومولانا السلطان خلّد الله ملكه لنافرها مترقّب، ولطائرها بالجارح معقّب، فما يدنو الكركيّ مقرورا حتّى يؤوب مقهورا، ساقطا من سمائه إلى أرضه، ومن سعته إلى قبضه، فسبحان من خلق كلّ جنس وقهر بعضه ببعضه هذا: والجارح قد أنشب فيه مخالبه، وسدّ عليه سبله في جوّ السّماء ومذاهبه ولم يزل خلّد الله تعالى سلطانه عامّة يومه متوغّلا في التّمتّع بلذّات صيوده، وأوقات سعوده، وحصول أربه ومقصوده، وجنود الملائكة حافّون به وبجنوده، حتّى ينسخ النهار الليل بظلمائه، ويلمع الطّارق بأضوائه، فيعود عند ذلك الرّكاب الشريف إلى المخيّم المنصور والجوارح كاسبة، والأقدار واهبة، والجوارح مسرورة، والطّيور مأسورة، والنّفوس ممتّعة، والمواهب منوّعة، والأرجاء مضوّعة، والله تعالى مع سلطانه بكلاءته: «ومن كان مع الله كان الله معه»، فيرفع أمامه فانوسان توءمان، كأنهما كوكبان بينهما اقتران، أو فرقدان رفعتهما يدان، فيدنو إلى مخيّمه المنصور في سرادق العزّ الحفيل، وعصابة النّصر الأثيل، وتترجّل الأنصار قبل فسطاطه المعظّم على قدر ميل، ويسعى بالشّموع لتلقّيه، ويسوّى تخت الملك لترقّيه، فعند ذلك
يطوف بالدهليز أمراء الحرس بالشّموع المرفوعة، والمزاهر المسموعة، فإذا طلع الفجر مستطيلا، وجاء الصّبح شيئا قليلا، عرضت عليه النّعم فأعطاها، والمهمّات الإسلامية فقضاها، وقدّمت له الجياد المسوّمة فامتطاها، ويسرح إلى الصّيد والجوارح التي صادت بالأمس قد استأسدت، وبسعادته إلى ظفرها قد أرشدت فإذا سار ركابه الشّريف فرّقت على أثره عساكر الإسلام، وقوّضت تلك الخيام كأنها الأيّام.(14/191)
وصارم في يديك منصلت ... إن كان للسّيف في الوغى روح
متّقد اللّحظ من شهامته ... فالجوّ من ناظريه مجروح!
قد راش النّجح جناحه، وقرن الله باليمن غدوّه ورواحه، ونصره في حربه حيث جعل منسره رمحه ومخلبه صفاحه، في قوادمه السّعد قادم، وفي خوافيه النّصر ظاهر المعالم، كأنّما ألهم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بورك لأمّتي في بكورها»، فيسرح والطّير جاثمة في وكورها، ويخرج في إغباش السّحر وعليه سواد، فيهابه الصّادح في الجوّ والباغم في الواد، ويأمر خلّد الله سلطانه أمراءه فيضربون على الطّير حلقة وهي لاهية في التقاط حبّها، غافلة عمّا يراد بها، فيذعرونها بخفق الطّبول وضربها، ومولانا السلطان خلّد الله ملكه لنافرها مترقّب، ولطائرها بالجارح معقّب، فما يدنو الكركيّ مقرورا حتّى يؤوب مقهورا، ساقطا من سمائه إلى أرضه، ومن سعته إلى قبضه، فسبحان من خلق كلّ جنس وقهر بعضه ببعضه هذا: والجارح قد أنشب فيه مخالبه، وسدّ عليه سبله في جوّ السّماء ومذاهبه ولم يزل خلّد الله تعالى سلطانه عامّة يومه متوغّلا في التّمتّع بلذّات صيوده، وأوقات سعوده، وحصول أربه ومقصوده، وجنود الملائكة حافّون به وبجنوده، حتّى ينسخ النهار الليل بظلمائه، ويلمع الطّارق بأضوائه، فيعود عند ذلك الرّكاب الشريف إلى المخيّم المنصور والجوارح كاسبة، والأقدار واهبة، والجوارح مسرورة، والطّيور مأسورة، والنّفوس ممتّعة، والمواهب منوّعة، والأرجاء مضوّعة، والله تعالى مع سلطانه بكلاءته: «ومن كان مع الله كان الله معه»، فيرفع أمامه فانوسان توءمان، كأنهما كوكبان بينهما اقتران، أو فرقدان رفعتهما يدان، فيدنو إلى مخيّمه المنصور في سرادق العزّ الحفيل، وعصابة النّصر الأثيل، وتترجّل الأنصار قبل فسطاطه المعظّم على قدر ميل، ويسعى بالشّموع لتلقّيه، ويسوّى تخت الملك لترقّيه، فعند ذلك
يطوف بالدهليز أمراء الحرس بالشّموع المرفوعة، والمزاهر المسموعة، فإذا طلع الفجر مستطيلا، وجاء الصّبح شيئا قليلا، عرضت عليه النّعم فأعطاها، والمهمّات الإسلامية فقضاها، وقدّمت له الجياد المسوّمة فامتطاها، ويسرح إلى الصّيد والجوارح التي صادت بالأمس قد استأسدت، وبسعادته إلى ظفرها قد أرشدت فإذا سار ركابه الشّريف فرّقت على أثره عساكر الإسلام، وقوّضت تلك الخيام كأنها الأيّام.
ولم يبرح ذلك دأبه في كلّ يوم من أيّام حركته حتّى يأخذ حظّه من صيد الطّير، فعند ذلك يثني عنان السّير، إلى اقتناص الوحش فيعدّ لإمساكها كلّ هيكل قيد الأوابد (1) قد عقد الخير بناصيته فأصبح حسن المعاقد.
فمن أشهب: كريم المغار، ذي إهاب من النّهار، وأديم كأنّه صحيفة الأبرار، أبيض مثل الهدى، له في الصّبح إثارة النّصر وإغارة على العدا علا قدرا وغلا قيمة، وله إلى آل أعوج (2) نسبة مستقيمة، إذا استنّ في مضمار يسبق البروق الخاطفة، ويخلّف الرّيح حسرى وهي واقفة، يجده الفارس بحرا، وله عند مجرى العوالي مع السّوابق مجرى.
ومن أحمر: كأنّما صبغ بدم الأعداء أديمه، وكأنّما هو شقيق الشّقيق وقسيمه كرمت غرره وحجوله، وحسنت أعراقه وذيوله، مكرّ مفرّ كجلمود صخر حطّته من عليّ سيوله (3) حكى لونه محمرّ الرّحيق، وله كلّ يوم ظفر جديد مع أنه عتيق.
__________
(1) أي الفرس الضخم السريع الذي يقيد الأوابد. وهو من قول امريء القيس في معلقته:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل.
(2) أعوج: اسم حصان لبني هلال، تنسب إليه جياد الخيل، ويقال: الأعوجيات. (الحلبة في أسماء الخيل، للصاحبي التاجي. ص 23).
(3) مأخوذ من قول امريء القيس في معلقته:
مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطّه السّيل من عل(14/192)
ومن أدهم: مدرك كاللّيل، منصبّ كالسّيل، كريم النّاصية، جوّاب قاصية، كأنّ غرّته صبح تنفّس في الدّجى الحالك، وكأنّه من اللّيل باق بين عينيه كوكب يضيء المسالك، وكأنّ حجوله بروق تفرّقت في جوانب الغسق فحسن منظرا لذلك سنابكه يوري قدحها (1)، وغرّته ينير صبحها، وجوارحه مسودّ جنحها، وصهوته كمن فيها العزّ فلا يزال ظاهرا نجحها.
وممّا سوى ذلك من الجياد المختبرة، والصّافنات المعتبرة:
إذا ما صرفت اللّحظ نحو شياتها ... وألوانها فالحسن عنك مغيّب (2)!
وإنما هي بصبرها على الظّما، وشدّة عدوها في النّور والظّلما، وسبقها إلى غايات رهانها، وثباتها تحت رايات فرسانها.
وتليها الفهود الحسن منظرها، الجميل ظفرها، الكاسب نابها وظفرها تفرّق اللّيل في أهبها المجتمعة، وأدركت العواصم في هضابها المرتفعة، وجوهها كوجوه اللّيوث الخادرة، ووثباتها على الطّريدة وثبات الفئة المؤمنة على الفئة الكافرة، مقلّصة الخواصر، عزماتها على الوحش حواصر ما أطلقت على صيد إلا قنصته سريعا، ولا بصرت بعانة من حمر إلا أخذتها جميعا.
ثم الحوامي المعلّمة، والضّواري التي أضحت بالنّجح متوسّمة، ما منها إلّا طاوي الخاصرة، وثباته طائلة غير قاصرة، بنيوب كالأسنّة،
__________
(1) أي أن حوافره توري النار عندما تضرب بها حجارة الأرض. وهو من الآية الكريمة:
«فالموريات قدحا»: العاديات / 2.
(2) الذي في ديوان المتنبي.
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيّب(14/193)
وساعدين مفتولين تسبق بهما ذوات الأعنّة، لو رآه عديّ بن حاتم رضي الله عنه لضمّه إلى ما لديه، وأكل مما أمسك عليه.
وتضرب العساكر حلقة ما يلتقي طرفاها إلا إلى اللّيل في اتّساعها، تحوي سائر الأوابد على اختلاف أنواعها.
فمن نعام: خضّب ظليمها (1) لمّا أكل ربيعا، وأحمرّت أطراف ريشه فكأنّها سهام أصابت نجيعا، طالت أعناقها النّاحلة فكأنّها خطّيّة، واشتدّت قوائمها الحاملة فكأنّها مطيّة، شاركت الطّير في وجود الجناح، وفارقتها في كثافة الاشباح، وأشبهت الوحش في مسكن القفار، وشدّة النّفار، قد اجتمع في ظاهرها اللّونان من الوحش والطّير وائتلف في باطنها الضّدّان من ماء ونار.
ومن ظباء: مسودّة الأحداق، حكت الحبائب في كحل المقل وحسن سوالف الأعناق ابيضّت بطونها، واحمرّت متونها، وراقت أوراقها، وحلكت آماقها نافرة في صحرائها، طيّب مرعاها فالمسك من دمائها.
ومن بقر وحشية: عفر الإهاب، ساكنة الهضاب لها في حقاف الرّمل مرابض، حذرا من قانص قابض كم في (2) من لوّى يتهادى، كأنّ إبرة روقه قلم أصاب من الدّواة مدادا.
ومن حمر إهابها أقمر منسوبة إلى أحد (3) ولم تركّب متونها، وقد حكى الجزع (4) الذي لم يثقّب في دجى اللّيل عيونها.
__________
(1) الظليم: ذكر النعام.
(2) بياض في الأصل.
(3) كذا. ولعل فيه تصحيفا.
(4) الجزع: ضرب من العقيق.(14/194)
وعندما تلتقي حلقة العساكر يلحقها خلّد الله سلطانه ومعه الجوارح الصائدة، والحوامي الصائلة، والأسهم النّافذة، والفهود الآخذة، فتموج الوحش ذعرا، وترى مسالكها قد سدّت عليها سهلا ووعرا، وضرب دون نجاتها بسور من الجياد والفرسان، وحيل بينها وبين خلاصها بنبال وخرصان فحينئذ تفرّ النّعام عن رمالها، والظّباء عن ظلالها، والبقر عن جآذرها، والحمر عن بولها ويقبض خلّد الله سلطانه من جنس الوحش كلّ نوع، ولو يمسكها بجارح لأمسكها كما تمسك عداة الإسلام بالرّوع وتجزل منها المكاسب، وتملأ منها الحقائب فإذا أخذ حظّه من القبض ولذّة اكتسابه، رسم لأمرائه بالصّيد عند صدور ركابه فيصيدون ويقنصون، زادهم الله من فضله فإنهم في طاعته مخلصون فيكثر عند ذلك كلّ قنص ذبيح، ويأتي كلّ بما اقتنصه ليظهر التّرجيح فإذا استكمل أوقات الصّيد من الطّير والوحش ثنى ركابه الشّريف إلى جهة القلعة المحروسة والقفار قد شرفت بمرور مواكبه، والوحش والطّير قد افتخرت بكونها أصبحت من مكاسبه.
هذا كلّه وإن كانت النفس تراه لهوا، وتبلغ به كلّ ما تهوى، ففي طيّه من تمرين الجنود على الحرب ما تشدّ به العزمات وتقوى فيؤمّ الركاب الشّريف عائدا إلى سرير ملكه بالقلعة المحروسة، والسّلامة قد قضت ما يجب عليها من حراسته، والأقدار قد وفت ما ينبغي من كلاءته فلم يك إلا وهو صاعد إلى القلعة المحروسة وألسنة السّعادة تخاطبه، وسريره قد اهتزت فرحا بمقدمه جوانبه، والصّيد المبارك قد سعدت مباديه وحمدت عواقبه فيلقي أهبة السّفر، ويأخذ فيما بطن من المصالح الإسلامية وظهر، وتنشده ألسنة السلامة ما أملى عليها العزّ والتّأييد والظّفر:
ملك البسيطة آب من سفره ... والنّصر والتّأييد في أثره
فكأنّه في عزّ موكبه ... بدر تألّق في سنا خفره
ما في البريّة مثله ملك ... أوتي الذي أوتيه من ظفره!
يسري إلى أعدائه رهب ... ممّا يبث الناس من خبره
فالله ربّ النّاس فاطرنا ... يؤتيه ما يربي على وطره!!(14/195)
ملك البسيطة آب من سفره ... والنّصر والتّأييد في أثره
فكأنّه في عزّ موكبه ... بدر تألّق في سنا خفره
ما في البريّة مثله ملك ... أوتي الذي أوتيه من ظفره!
يسري إلى أعدائه رهب ... ممّا يبث الناس من خبره
فالله ربّ النّاس فاطرنا ... يؤتيه ما يربي على وطره!!
الصنف الثاني (من الرسائل ما يرد منها مورد المدح والتّقريض)
إما بأن يجعل المدح مورد الرّسالة ويصدّر بمدح ذلك الشّخص المراد، وإما بأن يصدّر بما جرية (1) يحكيها المنشيء ويتخلّص منها إلى مدح من يقصد مدحه وتقريضه، وما يجري مجرى ذلك. وللكتّاب وأهل الصّناعة في ذلك أفانين مختلفة المقاصد، وطرق متباينة الموارد.
وهذه نسخة رسالة أنشأها أبو عمرو عثمان بن بحر الجاحظ سمّاها «رسالة الشّكر» قصد بها تقريض وزير المتوكّل وشكر نعمه لديه، مصدّرا لها بذكر حقيقة الشّكر وبيان مقاصده وهي:
جعلت فداك، أيّدك الله وأكرمك وأعزّك، وأتمّ نعمته عليك وعندك.
ليس يكون الشّكر أبقاك الله تامّا، ومن حدّ النّقصان خارجا، حتّى يستصحب أربع خلال، ويشتمل على أربع خصال:
الخصلة الاولى
أوّلها: العلم بموقع النّعمة من المنعم عليه
، وبقدر انتفاعه بما يصل إليه من ذلك: من سدّ خلّة، أو مبلغ لذّة وعلوّ في درجة، مع المعرفة بمقدار احتمال المنعم للمشقّة، والذي حاول من المعاناة والكلفة في بذل جاه مصون، أو مفارقة علق ثمين. وكيف لا يكون كذلك؟ وقد خوّل من نعمه بعض ما كان حبيسا على حوادث عدّة، فزاد في نعم غيره بما انتقص من نعم نفسه وولده. فكلّما تذكّر الشاكر ما احتمل من مؤونة البذل، سهل عليه احتمال ما نهض به من ثقل الشّكر.
والخصلة الثانية: الحرّيّة الباعثة على حبّ المكافأة
واستحسان
__________
(1) وتجمع على «ما جريات»، أي الحادثة والواقعة.(14/196)